المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌69 - كتاب النفقات وَفَضْلِ النَّفّقَةِ عَلَى الأَهْلِ   ‌ ‌1 - التوضيح لشرح الجامع الصحيح - جـ ٢٦

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌69 - كتاب النفقات

وَفَضْلِ النَّفّقَةِ عَلَى الأَهْلِ

‌1 - باب فَضْلِ النَّفَقَةِ عَلَى الأَهْلِ

.

{وَيَسْئلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} إلى قوله: {وَالآخِرَةِ} [البقرة: 219 - 220] وَقَالَ الْحَسَنُ: العَفْوُ: الْفَضْلُ.

5351 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ الأَنْصَارِيَّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ -فَقُلْتُ: عَنِ النَّبِيِّ؟ فَقَالَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ نَفَقَةً على أَهْلِهِ وَهْوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً» [انظر: 55 - مسلم: 1002 - فتح: 9/ 497]

5352 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قَالَ اللهُ: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» . [انظر: 4684 - مسلم: 993 - فتح: 9/ 497]

5353 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ

ص: 9

اللهِ، أَوِ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ». [6006، 6007 - مسلم: 2982 - فتح: 9/ 497]

5354 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: لِي مَالٌ، أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ:«لَا» . قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: «لَا» . قُلْتُ: فَالثُّلُثُ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً، يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ، وَلَعَلَّ اللهَ يَرْفَعُكَ، يَنْتَفِعُ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ» . [انظر: 56 - مسلم: 1628 - فتح: 9/ 497].

الشرح:

النفقات: جمع نفقة، من الإنفاق، وهو الإخراج. واختلف السلف في تأويل هذِه الآية، فروي عن أكثر السلف، كما قاله ابن بطال أن المراد بذلك صدقة التطوع، روي ذَلِكَ عن القاسم وسالم، وقالا: العفو: فضل المال، ما تصدق به عن ظهر غنى.

وقال الحسن: لا تنفق حَتَّى تجهد مالك، فتبقى تسأل الناس. وفي البخاري عنه: أنه الفضل

(1)

. قال ابن التين: يريد ما سهل، ومنه:"أفضل الصدقة ما تصدق به عن ظهر غنى".

وقال مجاهد: هو الصدقة المفروضة

(2)

، وهو غير ممتنع. كما قاله إسماعيل؛ لأن الذي يؤخذ في الزكاة قليل من كثير؛ ولأن ظاهر التفسير ومقصد الكلام يدل أنه في غير الزكاة

(3)

.

قال ابن التين: والأول أبين. يعني قول الحسن.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 528.

(2)

"تفسير مجاهد" 10/ 106.

(3)

انظر "شرح ابن بطال" 7/ 528.

ص: 10

وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [البقرة: 219، 220]، أي: تتفكرون فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا. وقيل: هو على التقديم والتأخير، أي: كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون، قال بعضهم: كل إنفاق في القرآن هو صدقة.

وقال الزجاج: أمر الناس أن ينفقوا الفَضْلَ إلى أن فُرِضت الزكاة، فكان أهل المكاسب يأخذ الرجل من كسبه كل يوم ما يكفيه ويتصدق بباقيه، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما ينفقدنه في عامهم وينفقون باقيه. روي هذا في التفسير.

وذكر البخاري -كما حكاه عنه ابن بطال- أن الآية عامة في النفقة على الأهل وغيرهم؛ لأن الرجل لا تلزمه النفقة على أهله إلا بعد ما يُعيّش به نفسه، وكان ذَلِكَ عن فضل قوته.

وقد جاء في الحديث عن الشارع في أحاديث الباب -كما ستعلمها- أن نفقة الرجل على أهله صدقة، فلذلك ترجم بالآية في النفقة على الأهل

(1)

.

ثم ساق في الباب أربعة أحاديث:

أحدها:

حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَنْفَقَ المُسْلِمُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهْوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً".

ثانيها:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللهُ تعالى: أَنْفِقْ يَا ابن آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ". وهو من أفراده.

(1)

المصدر السابق.

ص: 11

ثالثها:

حديثه أيضًا قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوِ كالْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ". أخرجه في الأدب ومسلم والأربعة

(1)

.

رابعها: حديث سعد كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ بِمَكَّةَ .. الحديث وقد سلف وفي آخره: "وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ فَهْوَ لَكَ صَدَقَة حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا فِي فِيّ امْرَأَتِكَ، وَلَعَلَّ اللهَ يَرْفَعُكَ، يَنْتَفِعُ بِكَ أُنَاس وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ".

وفي مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "دينار أعطيته مسكينًا، ودينار أعطيته في رقبة، ودينار أعطيته في سبيل الله، ودينار أنفقته على أهلك - قال: والدينار الذي أنفقته على أهلك أعظم أجرًا"

(2)

.

ومن حديث ثوبان رضي الله عنه: "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله"

(3)

.

وفي البيهقي بإسناد جيد من حديث أنس: "إن كان الرجل يسعى على عياله يكفيهم فهو في سبيل الله تعالى"

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (6006)، (6007)، ورواه مسلم (2982)، والترمذي (1969)، النسائي 5/ 86 - 87، وابن ماجه (2140) وليس عند أبي داود، ولم يشر إليه المزي كما في "التحفة"(12914).

(2)

مسلم (995) كتاب الزكاة، باب: فضل النفقة على العيال.

(3)

مسلم (994) كتاب الزكاة، باب: فضل النفقة على العيال.

(4)

"السنن الكبرى" 7/ 479.

ص: 12

ووجه حديث أبي مسعود وسعد - وكيف يكون إطعام أهله صدقة وهو فرض عليه؟! أن الله تعالى جعل من الصدقة فرضًا وتطوعًا، ومعلوم أن أداء الفرض أفضل من التطوع، فإذا كان عند الرجل قدر قوته ولا فضل فيه عن قوت نفسه، وبه إليه حاجة، وهو خائف بإيثاره غيره به على نفسه هلاكًا كائنًا من كان غيره الذي حاجته إليه مثل حاجته، والدًا كان أو ولدًا أو زوجة أو خادمًا، فالواجب عليه أن يحيي به نفسه، وإن كان فيه فضل كان عليه صرفه إلى غيره ممن فرض الله نفقته عليه، فإن كان فيه فضل عما يحيي به نفسه ونفوسهم وحضره ممن لم يوجب الله عليه نفقة، وهو متخوف عليه الهلاك إن لم يصرف ذَلِكَ إليه، كان له صرفه إليه بثمن أو قيمة، وإن كان في سعة وكفاية لم يخف على نفسه ولا على أحد ممن يلزمه نفقته، فالواجب عليه أن يبدأ بحق من أوجب الله حقه في ماله، ثم الأمر إليه في الفضل من ماله إن شاء تطوع بالصدقة به وإنْ شاء ادّخره، وإذا كان المنفق على أهله إنما يؤدي فرضًا لله واجبًا، له فيه جزيل الأجر، فذلك -إن شاء الله- معنى قوله: " (فيما)

(1)

أنفقت" إلى آخره؛ لأن بفعله ذَلِكَ يؤدي فرضًا لله هو أفضل من صدقة التطوع الذي يتصدق بها على غريب منه لا حق له في ماله. نبه عليه الطبري.

(1)

كذا بالأصل ولعلها: (مهما) كما في الحديث.

ص: 13

‌2 - باب وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الأَهْلِ وَالْعِيَالِ

5355 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» .

تَقُولُ الْمَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي. وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي. وَيَقُولُ الاِبْنُ: أَطْعِمْنِي، إِلَى مَنْ تَدَعُنِي؟ فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَا، هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ. [انظر: 1426 - فتح: 9/ 500].

5356 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . [انظر: 1426 - فتح: 9/ 500]

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى، وَالْيَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ".

تَقُولُ المَرْأَةُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي. وَيَقُولُ العَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي. وَيقُولُ الابْنُ: أَطْعِمْنِي، إِلَى مَنْ تَدَعُنِي؟ فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هذا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سمعت؟ قَالَ: لَا، هذا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وحديثه أيضًا: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ".

ص: 14

الشرح:

قد سلف في العليا والسفلى أقوال، وأن أصحها: العليا: المعطية، والسفلى: السائلة، وليس كل مسئول يكون أفضل من سائل؛ فقد سأل موسى والخضر أهل قرية أن يطعموهما، وقال عليه السلام:"هو لها صدقة ولنا هدية".

وقوله: (هذا من كيس أبي هريرة). أي: من قوله، يعني: تقول المرأة إلى آخره. وفي رواية للنسائي: فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال: "امرأتك تقول: أطعمني وإلا فارقني". الحديث

(1)

.

واحتج به من يرى الفسخ بالإعسار، وهو مالك والشافعي، خلافًا لأبي حنيفة

(2)

.

واختلف في الأجل في مقداره عند المالكية، هل هو شهر أو ثلاثة أيام ونحوها، إلا أن تكون تزوجته فقيرًا تعلم حاله، فلا فسخ إذًا

(3)

.

وقد قال تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، وفي إمساكها، والحالة هذِه ضرر، ولا شك أن النفقة في مقابلة الاستمتاع، بدليل النشوز، وكما أن لها مفارقته بالإيلاء والعنة، فكذا هنا.

وقوله: ("ما كان عن ظهر غنى") قيل: المعنى: ما ساق إلى المعطى غنى، وفيه نظر، بل المراد ما لم يجحف بالمعطي، أي: ما سهل عليه، يؤيده الحديث السالف:"أفضل الصدقة ما تَرَكَ غنى".

(1)

"السنن الكبرى" 5/ 385 (9211).

(2)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص (223)، "الموطأ" ص (364)، "الأم" 5/ 96، "الهداية" 2/ 322.

(3)

انظر: "المنتقى" 4/ 131.

ص: 15

فصل:

ادعى المهلب الإجماع على أن نفقة الأهل والعيال واجبة، والحديث ظاهر فيه، وكذا قوله:"وابدأ بمن تعول" ولم يذكر إلا الصدقة، دل على أن نفقته على من يعول من أهلٍ وولدٍ محسوب له في الصدقة، وإنما أمرهم الله ببداءة الأهل، خشية أن يظنوا أن النفقة على الأهل لا أجر لهم فيها، فعرفهم أنها لهم صدقة، حَتَّى لا يخرجوها إلى غيرها إلا بعد أن يقوتوهم

(1)

.

فصل:

وقوله: ("ابدأ بمن تعول") إنما قاله؛ لأن حق نفس المرء عليه أعظم من حق كل أحد بعد الله. إذا صح ذَلِكَ، فلا وجه لصرف ما هو مضطر إليه إلى غيره، إذا كان ليس لأحد إحياء غيره بإتلاف نفسه وأهله، وإنما له إحياء غيره بغير إهلاك نفسه وولده وأهله، إذا فرض عليه النفقة عليهم وليست النفقة على غيرهم فرضًا عليه، ولا شك أن الفرض أولى لكل أحد من إيثار التطوع عليه.

فصل:

وفيه: أن النفقة على الولد ما داموا صغارًا فرض عليه؛ لقوله (إلى من تدعني). وكذلك نفقة العبد والخادم (للمرأة)

(2)

واجبة عليه قلت: وكذا يدل له "ابدأ بمن تعول" أيضًا، بل أولى في الدلالة؛ لأنه من عياله.

(1)

انظر "شرح ابن بطال" 7/ 530.

(2)

كذا بالأصل وفي "شرح ابن بطال" 7/ 530 (للمرء) ولعله الصواب.

ص: 16

فصل:

نفقة الزوجة ثابتة بالنصوص والإجماع، ومن النص: قوله عليه السلام يوم عرفة: "لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"

(1)

وقوله لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"

(2)

.

فصل:

وقام الإجماع أيضًا على أنه يجب عليه نفقة أولاده الأطفال لا مال لهم ولا كسب.

واختلفوا -كما قال ابن المنذر- في نفقة من بلغ منهم ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولد صلبه الذكور حَتَّى يحتلموا، والنساء حَتَّى يزوجهنّ ويُدخَل بهنّ، فإنْ طلقها بعد البناء أو مات عنها، فلا نفقة لها على أبيها، وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها، ولا نفقة لولد الولد على الجد عند مالك

(3)

.

وقالت طائفة: ينفق على ولده حَتَّى يبلغ الحلم والمحيض، ثم لا نفقة عليه إلا أن (يكونوا)

(4)

زمناء وسواء في ذَلِكَ الذكور والإناث؛ ما لم يكن لهم أموال، وسواء في ذَلِكَ ولده أو ولد ولده وإن سفلوا، ما لم يكن لهم أب دونه يقدر على النفقة عليهم، وهو قول الشافعي، وقال الثوري: يجبر الرجل على نفقة ولده الصغائر والرجال، غلامًا كان أو جارية، فإن كانوا كبارًا أجبر على نفقة النساء، ولا يجبر على نفقة الرجال إلا أن يكونوا زمناء وأوجب

(1)

رواه مسلم (1218) كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

سبق برقم (2211).

(3)

"المدونة" 2/ 252.

(4)

في الأصل: (يكون) والمثبت موافق للسياق كما في "شرح ابن بطال" 7/ 531.

ص: 17

طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد، على ظاهر حديث هند، ولم يستثن ولدًا بالغًا دون طفل

(1)

.

قلت: هذِه واقعة عين لا عموم لها، والعموم في الأفعال غير لازم. وقوله:(يقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني). يدل على أنه إنما يقول ذَلِكَ من لا طاقة له على الكسب والتحرف، ومن بلغ سن الحلم فلا يقول ذَلِكَ؛ لأنه قد بلغ حد السعي على نفسه والكسب لها؛ بدليل قوله تعالى:[حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ] الآية [النساء: 6]، فجعل بلوغ النكاح حدًّا في ذَلِكَ.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إسقاط النفقة على أهل اليسار منهم، سقط بذلك نفقتهم، وكل مختلف فيه فمردود إلى قول الشارع

(2)

.

وقال ابن حزم: يجبر على النفقة على ذوي رحمه المحرمة، إن كانوا فقراء، ولا عمل بأيديهم تقوم مؤنتهم منه، وهم الأعمام والعمّات وإن علو، والخالات والأخوال وإن علوا، وبنوا الإخوة وإن سفلوا، إلا الأبوين والأجداد والجدات والزوجات، فإنه يكلف أن يصونهم عن خسيس الكسب إن قدر على ذَلِكَ، ويباع عليه في كل ما ذكرناه ما بهْ عنه غنى من عقار وعرض وحيوان، ولا يباع من ذَلِكَ ما إنْ بِيع عليه هلك وضاع، قال: وقالت طائفة: لا يجبر أحد على نفقة أحد.

(1)

"الإشراف" 1/ 129 - 130.

(2)

"الإشراف" 1/ 130.

ص: 18

وقال الشعبي: ما رأيت أحدًا أجبر أحدًا على أحد. يعني: نفقته وقالت طائفة: لا ينفق أحدٌ إلا على الوالد الأدنى، والأم التي ولدته من بطنها، ويجبر الرجل دون المرأة على النفقة على الولد الأدنى الذكر، حَتَّى يبلغ فقط، وعلى الابنة الدنيا وإن بلغت، حَتَّى يزوجها فقط، ولا تجبر الأم على نفقة ولدها وإن مات جوعًا، وهي في غاية الغنى، وليس على الولد أن ينفق على زوجة أبيه ولا على أم ولده؛ إذ لم يوجب ذَلِكَ قرآن ولا سنة، إن عليه أن يقوم بمطعم أبيه وملبسه ومؤنة خدمته فقط

(1)

.

فصل:

اختلف في المعسر، هل يفرق بينه وبين امرأته بعدم النفقة؟ فقال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لزوجته الخيار بين أن تقيم عنده -ولا يكون لها شيء في ذمته أصلاً- وبين أن تطلب الفراق، يفرق الحاكم بينهما

(2)

.

قلت: عندنا أنها إذا صبرت صارت دينًا عليه.

ونقله ابن التين عن عمر وعليًّ وأبي هريرة من الصحابة، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وقال: إن ذَلِكَ سنة.

قال ابن حزم: أما قول عمر فلا حجة لهم فيه؛ لأنه لم يخاطب بذلك إلا أغنياء قادرين على النفقة، وذلك أنه كتب إلى أمراء الأجناد: ادعو فلانًا وفلانًا أناسًا قد انقطعوا عن المدينة ورحلوا

(1)

"المحلى" 10/ 100، 101، بتصرف.

(2)

انظر "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 366، "الاستذكار" 18/ 168 - 169، "الإشراف" 1/ 124.

ص: 19

عنها، إما أن يرجعوا إلى نسائهم، وإما أن يبعثوا بنفقة إليهن، وإما أن يطلقوا ويبعثوا بنفقة ما مضى. رويناه من طريق عبد (الرزاق)

(1)

، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره

(2)

.

ورواه الشافعي فيما ذكره الحاكم في "فضائله" بلفظ: فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن (طلقوا)

(3)

بعثوا بنفقة ما حبسوا. رواه عن مسلم

(4)

، عن عبيد الله، عن نافع

(5)

، وليس فيه حكم المعسر، بل قد صح عنه إسقاط المرأة للنفقة إذا أعسر بها الزوج.

وعن ابن المسيب قولان: أحدهما: يجبر على مفارقتها، والثاني: يفرق بينهما، وهما مختلفان، فأيهما السنة؟ وأيهما كان السنة فالآخر خلافها؟ ولم يقل سعيد: إنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحتى لو قاله لكان مرسلًا

(6)

لا حجة فيه، فكيف وإنما أراد بلا شك أنه سنة من دونه عليه السلام، لعله أراد بما تقدم عن عمر

(7)

. وقال الشافعي، فيما ذكره الحاكم في "فضائله": الذي يشبه أن يكون سنة النبي صلى الله عليه وسلم

(8)

.

وقالت طائفة: لا يفرق بينهما، وتلزم الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم. هذا قول عطاء والزهري، وإليه ذهب الكوفيون.

(1)

في الأصول: عبد الوارث، وهو خطأ والمثبت من "المحلى".

(2)

"المحلى"10/ 93، 94، وأثر عمر في "المصنف" 7/ 93 - 94 (12346).

(3)

في الأصل: (لم يطلقوا) والمثبت من "معرفة السنن والآثار"

(4)

هو مسلم بن خالد، الزنجي، شيخ الشافعي.

(5)

انظر: "معرفة السنن والآثار" 11/ 284.

(6)

ورد في هامش الأصل: موقوف وهو الذي صححه النووي في "شرح المهذب" وفي "هدي" ابن قيم الجوزية أنه مرسل.

(7)

انظر: "المحلى" 10/ 95.

(8)

انظر: "معرفة السنن والآثار" 11/ 284.

ص: 20

وعبارة ابن حزم: وقالت طائفة: يطلقها عليه الحاكم. ثم اختلفوا، فقال مالك: يؤجل في عدم النفقة شهرًا أو نحوه، فإن انقضى وهي حائض أُخّر حَتَّى تطهير، وفي الصداق عامين، ثم يطلقها عليه الحاكم طلقة رجعية، فإن أيسر في العدة فله ارتجاعها

(1)

. وفي "الإشراف"، عن حماد بن أبي سليمان: يؤجل سنة. وعن عمر بن عبد العزيز: شهرًا أو شهرين. وقال الشافعي: لا يؤجل أكثر من ثلاث

(2)

.

وقالت طائفة: لا يؤجل إلا يومًا واحداً، ثم يطلقها الحاكم عليه، وممن روينا نحو هذا عنه: سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ويحيى بن سعيد، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، قال: وأما الرواية عن سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز في تأجيل شهر أو شهرين فساقطة جدًّا؛ لأنها من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الجبار بن عمر، وكلاهما لا شيء

(3)

.

واحتج الشافعيون على أصحاب مالك بقولهم: إذا كلفتموها صبر شهر؛ ولا سبيل إلى صبر شهر بلا أكل، فأي فرق بين ذَلِكَ وبين تكليفها الصبر أبدًا؟

قال ابن حزم: يقال له: إذا طلقتموها عليه وكلفتموها العدة -وربما كانت أشهرًا- فقد كلفتموها الصبر بلا نفقة مُدة لا حياة معها بلا أكل.

وقالوا للحنفي: قد اتفقنا على التفريق بين من (عُنّ)

(4)

عن امرأته وبينها بضرر فقد الجماع، فضرر فقد النفقة أشد. أجاب الحنفيون بأنّا اتفقنا

(1)

"المحلى"10/ 94.

(2)

" الإشراف" 1/ 125.

(3)

انظر: "المحلى" 10/ 94 - 96 بتصرف.

(4)

في الأصول: عسر، والمثبت هو الموافق للسياق.

ص: 21

نحن وأنتم على أنه إذا وطئها مرة فأكثر ثم أعسر بنفقتها، فيلزمكم ألا تفرقوا بينهما.

وقالت طائفة كقولنا، كما روينا من طريق مسلم، عن جابر رضي الله عنه قال: دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال:"هن حولي يسألنني النفقة" فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة يجأ عنقها، وكلاهما يقول: ويحكنّ تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده! فقلن: والله لا نسأله شيئًا أبدًا ما ليس عنده

(1)

.

قال ابن حزم: إنما أوردنا هذا لما فيه عن أبي بكر وعمر وابنتيهما، ومن المحال المتيقن أن يضربا طالبة حق بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عطاء، وسئل عمن لم يجد ما يصلح امرأته من النفقة: ليس لها إلا ما وجدت، وليس لها أن يطلقها.

وقال الحسن: تواسيه، وتتقي الله، وتصبر، وينفق عليها ما استطاع.

وسئل ابن شهاب عن رجل لا يجد ما ينفق على امرأته يفرق بينهما؟ قال: تستأنى، ولا يفرق بينهما، وتلا {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7].

قال معمر: وبلغني عن عمر بن عبد العزيز مثل قول الزهري سواء، ومن طريق عبد الرزاق، عن سفيان بن سعيد، في المرأة يعسر زوجها بنفقتها، قال: هي امرأته

(2)

ابتليت فلتصبر، ولا نأخذ بقول من فرق

(1)

مسلم (1478) كتاب الطلاق باب، بيان أن تخيير أمرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية.

(2)

ورد في هامش الأصل: كذا أحفظه: امرأة.

ص: 22

بينهما

(1)

، وهو قول ابن شبرمة، وأبي حنيفة، قال: تتعلق النفقة بذمته إذا حكم بينهما حاكم، وأبي سليمان وأصحابهم.

بيان صحة قولنا قول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية [الطلاق: 7]، وقوله:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

(2)

[البقرة: 286].

فمن قَدَر على بعض النفقة والكسوة، سواءُ قَلّ ما يقدر عليه أوكَثُر، فالواجب أن يقضى عليه بما قدر، وأُسْقط عنه ما لا يقدر، فإن لم يقدر على شيء من ذَلِكَ سقط عنه، ولم يجب أن يقضى عليه بشيء، فإن أيسر بعد ذَلِكَ قضي عليه من حين يوسر، ولا يقضي عليه بشيء بما أنفقته على نفسها مدة عسره، وهذا بخلاف ما وجب لها من نفقة أو كسوة يمنعها إياها وهو قادر عليهما، فهذا يؤخذ به أبدًا، أعسر بعد ذَلِكَ أو لم يعسر؛ لأنه قد كلفه الله إياه وهو واجب عليه فلا يسقط عنه إعساره،

لكن الإعسار يوجب أن ينظره إلى الميسرة فقط، ولو أن الزوج يمنعها النفقة والكسوة أو الصداق ظلمًا، أو لأنه فقير لا يقدر، لم يجز لها منع نفسها منه من أصل ذَلِكَ، فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه وامرأته غنية كلفت النفقة عليه، ولا يرجع عليه بشيء من ذَلِكَ إن أيسر، إلا أن يكون عبدًا، فنفقته على سيده؛ لأن الزوجة وارثة، فعليها نفقته بنص القرآن.

وقال عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة: إذا لم يقدر الزوج على النفقة يسجن، ولا يطلق، ولا آمره بطلاقها، إذا عجز يحبس أبدًا

(3)

.

(1)

"المصنف" 7/ 95 - 96 (12355)، (12356).

(2)

"المحلى"10/ 94، 95، 96، 97.

(3)

انظر: "المحلى" 10/ 91، 92.

ص: 23

فصل:

قال ابن حزم: ولا يلزمه لها حلي ولا طيب، فإن منعها النفقة والكسوة وهو قادر عليهما، سواء أكان حاضرًا أو غائبًا، هو دين في ذمته، يؤخذ منه أبدًا، ويقضى لها به في حياته، وبعد موته من رأس ماله، يضرب به مع الغرماء، وليس عليه أن ينفق على خادمها، ولو أنه ابن الخليفة وهي بنت الخليفة، إنما عليه أن يقوم لها بمن يأتيها بالطعام والماء غدوة وعشية، وبمن يكفيها جميع العمل من الكنس والفرش، وإنما تجب لها النفقة مياومة، فإن أخرها أدب، وإن عجلها ثم طلقها بائنًا وعندها فطر يوم أو غداء أو عشاء قضي عليها برده إليه، وإن ماتت كان مأخوذًا من رأس مالها

(1)

.

فصل:

من حجج من قال: لا تفريق، الآية السالفة {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] فوجب أن يُنْظر إلى أن يوسر. وبقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] إلى قوله {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح، واحتج عليهم من قال بالتفريق بحديث الباب، وهو نص قاطع في موضع الخلاف، وهو قولها:(إما أن تطعمني، وإما أن تطلقني). وقالوا أيضًا: المراد بالآية الثانية الفقير التي حالته منحطة عن حالة الغنى، لا الفقير الذي لا شيء معه أصلاً، بدليل أنه ندبه إلى النكاح، وأجمعوا أنه من لا يقدر على نفقة الزوجة غير مندوب إلى النكاح، وأما الآية الأولى

(1)

"المحلى"10/ 90، 91.

ص: 24

فإنما وردت في المداينات التي تتعلق بالذمم، واحتجوا بقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وإذا لم ينفق عليها فهو مضر بها، فوجب عليه الفراق إن طلبته. قال الكوفيون: لو كان ذَلِكَ هنا واجبًا لم يجب الإمساك وإن رضيته. فيقال لهم: قامت دلالة الإجماع على جواز إمساكهن إذا رضين بذلك، وأما الإعسار فلو أعسر بنفقة خادم أو حيوان له فإن ذَلِكَ يزيل ملكه عنه ويباع عليه، فكذلك الزوجة، وأيضًا فالعنين يجبر على طلاق زوجته إذا لم يطأ، والوطء لمدة يمكن الصبر على فقدها، ويقوم بدنها بعدمها، بخلاف القوت كما سلف، فكانت الفرقة عند عدم النفقة.

فصل:

اختلفوا -كما قال ابن المنذر- في السائل يتزوج وهي تعلم أن مثله لا يجزئ النفقة، فقال مالك: لا أرى لها قولًا بعد ذَلِكَ وقال الشافعي: يفرق بينهما إذا سألت ذَلِكَ - فإن فرق الإِمام بينهما تكون تطليقة، وهو أحق بها إن أيسر ما دامت في العدة. قال الشافعي: تكون فرقة بلا طلاق، ولا يملك رجعتها. قال ابن المنذر: تكون انقطاعًا للعصمة من غير طلاق، وتكون فيه الرجعة

(1)

.

فروع:

قال مالك والشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد: تباع العروض في نفقة الزوجة.

قال أبو حنيفة: النفقة في ماله في الدنانير والدراهم، ولا يباع من عروضه شيء إلا برضاه.

(1)

"الإشراف" 1/ 125.

ص: 25

وعن الشعبي أنه فرض لامرأة (في قوتها)

(1)

خمسة عشر صاعًا بالحجازي، ودرهمين لدهنها وحاجتها في كل شهر

(2)

.

وقال أصحاب الرأي: يفرض لامرأة المعسر في كل شهر بكذا. قال أبو بكر: لو جاز أن يفرض لشهر تقبضه في أول الشهر لجاز أن يفرض لسنة وتقبضه في أول السنة.

والصحيح من ذَلِكَ ما ذهب إليه الشافعي أن ينفق عليها يومًا بيوم، فإن مرضت مرضا شديدًا لا يقدر معه على إتيانها كانت عليه نفقتها -هذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي- فإذا قالت امرأة الرجل: هو موسر، (فأفرضوا)

(3)

على قدر ذَلِكَ. فقال هو: أنا معسر. فالقول قوله مع يمينه، فإذا قامت البينة على ما يدعي أخذ بما قال، هذا قول الحنفيين والشافعي وأبي ثور.

فإذا كان للرجل على المرأة دين فقال: (احسبوا من مالي عليها)

(4)

. وجب ذَلِكَ، وقاضها به في قول أصحاب الرأي، وقال أبو ثور فيها قولان: الأول: ما أسلفناه، والثاني: يترك إلى أن يوسر. وإذا كان على الزوج صداق ونفقة فدفع شيئًا، فاختلفا فيما دفع، فقال الزوج: من المهر. وقالت: من النفقة. فالقول قول الزوج مع يمينه، في قول الشافعي وأصحاب الرأي وأبي ثور، فإن اختلفا في النفقة، فقال الزوج: دفعتها إليها. وأنكرت، قال الشافعي وأبو ثور: القول قولها مع يمينها.

(1)

في الأصول: من قومها، والمثبت من "الإشراف".

(2)

رواه ابن أبي شيبة 4/ 185 (19103) ..

(3)

في الأصول: أوصوا، والمثبت من "الإشراف".

(4)

كذا بالأصل وفي "الإشراف" 1/ 126: (احبسوا نفقتها مما لي عليها).

ص: 26

وقال أصحاب الرأي: إذا قال الزوج: قضى عليَّ القاضي منذ شهر وإنما لك نفقة شهر. فقالت: قضى لي بنفقة ثلاثة أشهر. فالقول في ذَلِكَ قوله مع يمينه، وعليها البينة. وقال مالك: القول قوله إذا كان مقيمًا، فإن كان غائبًا فالقول قولها من يوم رفعت أمرها إلى السلطان، فإن بعث لها الزوج بقوت فقال: هو من الكسوة. وقالت: بل هو هبة. فالقول قوله مع يمينه، في قول الشافعي وأصحاب الرأي وأبي ثور

(1)

، وكان أبو حنيفة والشافعي يوجبان على الذمي نفقة زوجته الذمية إذا أسلمت وهي حامل، حَتَّى تضع وأجر الرضاع

(2)

.

(1)

"الإشراف" 1/ 125 - 128.

(2)

"الإشراف" 1/ 131.

ص: 27

‌3 - باب حَبسِ الرَّجُلِ قُوتَ سَنَةٍ عَلَى أهله، وَكيفَ نَفَقَاتُ العِيَالِ

؟

5357 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَالَ لِي مَعْمَرٌ: قَالَ لِي الثَّوْرِيُّ: هَلْ سَمِعْتَ فِي الرَّجُلِ يَجْمَعُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ أَوْ بَعْضِ السَّنَةِ؟ قَالَ مَعْمَرٌ: فَلَمْ يَحْضُرْنِي، ثُمَّ ذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنَاهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَحْبِسُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ. [انظر:2904 - مسلم: 1757 - فتح: 9/ 501]

5358 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ على مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ على عُمَرَ، إِذْ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَذِنَ لَهُمْ قَالَ: فَدَخَلُوا وَسَلَّمُوا فَجَلَسُوا، ثُمَّ لَبِثَ يَرْفَا قَلِيلاً، فَقَالَ لِعُمَرَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَذِنَ لَهُمَا، فَلَمَّا دَخَلَا سَلَّمَا وَجَلَسَا، فَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا. فَقَالَ الرَّهْطُ -عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ-: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الآخَرِ. فَقَالَ عُمَرُ: اتَّئِدُوا، أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟» . يُرِيدُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ. قَالَ الرَّهْطُ قَدْ قَالَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عُمَرُ على عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ؟ قَالا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ، إِنَّ اللهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَالِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، قَالَ اللهُ:{وَمَا أَفَاءَ اللهُ على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ} إِلَى قَوْلِهِ: (قَدِيرٌ)[الحشر: 6]. فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ

ص: 28

- صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ على أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللهِ، فَعَمِلَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ. ثُمَّ تَوَفَّى اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ يَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ -وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ- تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَذَا وَكَذَا، وَاللهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللهُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ، جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَأَتَى هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهُ إِلَيْكُمَا على أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِمَا عَمِلَ بِهِ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِمَا عَمِلْتُ بِهِ فِيهَا، مُنْذُ وُلِّيتُهَا، وَإِلاَّ فَلَا تُكَلِّمَانِي فِيهَا، فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ. فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ، أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ فَقَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَقْبَلَ على عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ. قَالَ أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَالَّذِى بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا. [انظر: 2904 - مسلم: 1757 - فتح: 9/ 502]

ذكر فيه حديث محمد -هو ابن سلام- عن وكيع، عن ابن عيينة قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ لِي الثَّوْرِيُّ: هَلْ سَمِعْتَ فِي الرَّجُلِ يَجْمَعُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ أَوْ بَعْضِ السَّنَةِ؟ قَالَ مَعْمَرٌ: فَلَمْ يَحْضُرْنِي

ثم ذكرت حَدِيثاً ثنَاهُ ابن شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أنه عليه السلام كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَحْبِسُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ

ص: 29

ثم ذكر حديث عقيل، عن ابن شهاب، عن مالك، عن عمر رضي الله عنه مطولًا.

وفيه: ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، وقد سلف في الخمس والمغازي

(1)

.

وفيه: دليل -كما ترجم له- أدخار القوت للأهل والعيال، وأنه ليس بحكرة، وأن ما ضمه الإنسان من أرضه أو جَدَّهُ من نخله وثمره وحبسه لقوته، لا يسمى حكرة، ولا خلاف في هذا بين الفقهاء، كما قاله المهلب.

قال الطبري: وفيه رد على الصوفية في قولهم: إنه ليس لأحد ادخار شيء في يومه لغده، وأن فاعل ذَلِكَ قد أساء الظن بربه، ولم يتوكل عليه حق توكله. ولا خفاء بفساد هذا القول؛ لثبوت الخبر عن الشارع أنه كان يدخر لأهله قوت السنة.

وفيه أكبر الأسوة؛ لأمر الله تعالى عباده اتباع سنته، فهو الحجة على جميع خلقه،

(2)

وقد سلف ذَلِكَ في الخمس واضحًا.

فصل:

قوله فيه: ("لا نورث ما تركناه صدقة") أخطأ فيه الشيعة وطعنوا فيه، وقالوا: إنه مردود بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية [النساء: 11]، وهو من العجائب، وأعجب منه استدلالهم بمطالبة فاطمة وعليّ والعباس أبا بكر بالميراث.

(1)

برقم (2904، 3094).

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 533 - 534.

ص: 30

قال القاضي أبو بكر الباقلاني: الآية وإن كانت عامة فإنما توجب أن يورث عنه ما يملكه دون ما لا يملكه، فيقال لهم: دلوا على أنه كان يملك ذَلِكَ سلمناه، لكن ليست عندنا وعند منكر العموم؛ لاستغراق الجنس في المالكين وكل متوفى، فإنما بنى على أقل الجمع، وما فوقه محتمل يوجب التوقف فيه.

وعند كثير من القائلين بالعموم خص منه الشارع كما بينه، وبه احتج الصديق، وكذا حديث "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة"

(1)

وغيره، فإن قيل: هذِه الأموال صدقة في المصالح، فقد ساغ لعليّ والعباس الأكل منها إن وقع، والصدقة محرمة عليهما.

قلت: لا، فإنما حرم عليهم الفرض فقط، أو أكلوا بحق العمل، وقد سلف كل ذَلِكَ.

وقوله: (تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا) إما أن يريد ما كانت بنو هاشم تطلب من خمس الخمس ويأبى الصديق إلا ما يكفيهم، أو غير ذَلِكَ، لا يريد من جهة الميراث.

(1)

سلف برقم (2776).

ص: 31

‌4 - باب

قول الله تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {بَصِيرٌ} وَقَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]، وَقَالَ تعالى:{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} الآية [الطلاق: 6]، وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: نَهَى اللهُ أَنْ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا، وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ الوَالِدَةُ: لَسْتُ مُرْضِعَتَهُ. وَهْيَ أَمْثَلُ لَهُ غِذَاءً، وَأَشفَقُ عَلَيْهِ، وَأَرْفَقُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَأبَى بَعْدَ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ نَفْسِهِ مَا جَعَلَ اللهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلُودِ لَهُ أَنْ يُضَارَّ بِوَلَدِهِ وَالِدَتَهُ، فَيَمْنَعَهَا أَنْ تُرْضِعَهُ ضِرَارا لَهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَسْتَرْضِعَا عَنْ طِيبِ نَفْسِ الوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُما وَتَشَاوُرٍ، {وَفِصَالُهُ} [الأحقاف: 15]: فِطَامُهُ.

الشرح:

الآية الأولى لفظها خبر ومعناه الأمر؛ لما فيه من الإلزام. أي: لترضع الوالدات أولادهن، يعني: اللواتي بِنَّ من أزواجهن، وهن أحق، وليس ذَلِكَ بإيجابٍ إذا كان المولود له حيَّا موسرًا؛ بقوله في سورة النساء القصرى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] أي: إن تعاسرا في الأجرة فأخرى ترضعه.

وذكر الحولين؛ لأنه غاية الرضاع عند الشارع.

ص: 32

وأكثر المفسرين على أن المراد بالوالدات هنا المبتوتات فقط.

وقام الإجماع على أن أجر الرضاع على الزوج إذا خرجت المطلقة من العدة، قال مالك: الرضاع على المرأة إن طلقها طلاقًا رجعيًّا، ما لم تنقضِ العدة، فإن انقضت فعلى الأب أجرة الرضاع، وكذلك إذا كان الطلاق بائنًا فعليه أجرة الرضاع، وإن لم تنقضِ العدة، والأم أولى بذلك، إلا أن يجد الأب بدون ما سألت، فذلك له إلا أن لا يقبل الولد غيرها، ويخاف على الولد الموت، فلها رضاعه بأجر مثلها، وتجبر على ذَلِكَ

(1)

، وهذا في غير اللِّبَأ

(2)

، أما اللِّبَأ وهو ما لا يعيش الولد إلا به غالبًا فتجبر عليه.

واختلفوا في ذات الزوج، هل تجبر على رضاع ولدها؟

قال ابن أبي ليلى: نعم، ما كانت امرأته. وهو قول مالك وأبي ثور، وقال الثوري: والكوفيون والشافعي: لا يلزمها رضاعه، وهو على الزوج على كل حال

(3)

وقال ابن القاسم: وتجبر على رضاعه إلا أن يكون مثلها لا ترضع، فذلك على الزوج

(4)

.

حجة من جعل الإرضاع على الأم الآية الأولى إلى قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} فأمر الوالدات الزوجات بإرضاع أولادهنّ، فأوجب لهنّ على الأزواج النفقة والكسوة، والزوجية قائمة، فلم يجمع لها النفقة والأجرة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكر من

(1)

"المدونة" 2/ 295.

(2)

اللبأ: هو أول اللبن عند الولادة، قال أبو زيد: وأكثر ما يكون ثلاث حلبات وأقله حلبة. انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3224، "المصباح المنير" ص (548).

(3)

انظر: "الإشراف" 1/ 131.

(4)

انظر: "المدونة" 2/ 295.

ص: 33

رزقهنّ وكسوتهنّ، ولم يوجب ذَلِكَ على الوالدات، ولا يراد بالآية الوالدات اللاتي بِنَّ من أزواجهنّ.

وحجة من قال إنه على الأب أنه لا يخلو أن تجبر على رضاعة بحرمة الولد أو بحرمة الزوج، والأول باطل؛ لأنها لا تجب إذا كانت مطلقة ثلاثًا بالإجماع، وحرمة الولد موجودة، وكذا الثاني؛ لأنه لو أراد أن يستخدمها في حق نفسه لم يكن له ذَلِكَ، ولأن لا يكون له ذَلِكَ في حق غيره أولى، مع أنها لا تجبر عليه أصلاً، ومن رد الأمر في ذَلِكَ إلى العادة والعرف؛ فلأنّ ذَلِكَ أصل محكوم به في نفقته عليها وخدمتها له، فكذلك الرضاع إذا كانت ممن ترضع أو لا ترضع.

فصل:

روي عن بعجة الجهني قال: تزوج رجل ما امرأة فولدت لستة أشهر، فأتى عثمان، فأمر برجمها، فأتاه علي فقال: إن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}

(1)

وقال ابن عباس: إذا ذهبت رضاعه فإنما الحمل ستة أشهر

(2)

.

فصل:

الفائدة في {كَامِلَيْنِ} أي: لرضاعه كقوله تعالى: {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} أي أن لا يضار. قاله ابن عباس

(3)

.

وروي عن عمر والحسن بن صالح وابن شبرمة مثل ذَلِكَ أي: الكسوة والرضاع.

(1)

رواه الطبري في "التفسير" 11/ 216.

(2)

رواه عبد الرزاق 7/ 351 (13446).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 4/ 189 (19150).

ص: 34

وقال أبو حنيفة وأصحابه: أي: الرضاع والكسوة والرزق، إذا كان ذا رحم محرم، وقال:{الْوَارِثِ} : المولود

(1)

.

ومعنى: {مِثْلُ ذَلِكَ} : أي: مثل الذي كان على والده من رزق والدته (وكسوتها)

(2)

بالمعروف إن كانت من أهل الحاجة وهي ذات زمانة، ولا احتراف لها ولا زوج، وإن (كان)

(3)

من أهل الغنى والصحة فمثل الذي كان على والده لها من الرضاعة، وهذا اختيار ابن جرير، وقال: إنه الظاهر ولا يكون غيره إلا بحجة

(4)

.

وقول أبي حنيفة في تفسيره ليس في القرآن، ولا قاله أحد من المتقدمين.

ونقل ابن عبد الملك عن مالك أن هذِه الآية منسوخة

(5)

، وفسرها الشافعي بالكسوة والنفقة على الزوج، وتشتغل بولدها لئلا يظن الظان أنها تشتغل به عن الزوج.

وقال الداودي: في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} أي: أن يعطيها أجرة مثلها وأبت على أن تأخذ أجرة مثلها، ودعا كل واحد إلى أكثر

(1)

انظر "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 405 - 407 بتصرف.

(2)

في الأصل: وكسوته.

(3)

كذا بالأصل وفي "تفسير الطبري" 2/ 519: (كانت).

(4)

"تفسير الطبري" 2/ 518 - 519.

(5)

نقله ابن العربي في "أحكام القرآن" 1/ 205 عن ابن القاسم عن مالك، ثم قال: وهذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين، وتحار فيه ألباب الشادين والأمر فيه قريب؛ لأنا نقول: لو ثبتت ما نسخها إلا ما كان في مرتبتها، ولكن وجهه أن علماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمون التخصيص نسخا، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم ومسامحة، وجرى ذلك في ألسنتهم حتى أشكل على من بعدهم، وهذا يظهر عند من ارْتاض بكلام المتقدمين كثيراً. اهـ.

ص: 35

من ذَلِكَ استرضع غيرها، وإن دعي أحدهما إلى القصد وأباه الآخر، حمل عليه الذي أباه، وما ذكره ليس مذهب مالك، إذا أبت المرأة منه فإنها لا تجبر كما مر.

فصل:

قوله: {وَفِصَالُهُ} : فطامه، كما قال، وأصل الفصل في اللغة: التفريق، معنى الآية السالفة: عن تراضٍ من الأبوين ومشاورة؛ ليكون ذَلِكَ من غير إضرار منهما بالولد.

ص: 36

‌5 - باب نَفَقَةِ المَرْأَةِ إِذَا غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَنَفَقَةِ الوَلَدِ

5359 -

حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ:«لَا، إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ» . [انظر: 2211 - مسلم: 1714 - فتح: 9/ 504]

5360 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ» . [انظر: 2066 - مسلم: 1026 - فتح: 9/ 504]

ذكر فيه حديث هند السالف وليس مطابقًا لما ترجم له إلا في نفقة الولد فقط؛ لأنه كان حاضرًا في المدينة فلا ينبغي أن يستدل على القضاء على الغائب، وإن استدل به ابن بطال وغيره

(1)

.

وحديث أبي هريرة السالف في البيوع وغيره:

"إِذَا أَنْفَقَتِ المَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا مِن غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ".

وهو في صدقة التطوع، وحديث هند في الانتصاف من حق لها مُنِعته.

فإن المعنى الجامع بينهما أنه كما جاز للمرأة أن تتصدق من مال زوجها من غير أمره بما يشبه وتعلم أنه يسمح الزوج بمثله -وذلك غير واجب عليه ولا عليها أن تتصدق عنه بماله- كان أخذها من مال الزوج بغير علمه، ما يجب عليه ويلزمه غرمه أولى أن تأخذه ويقضى لها به.

والحديث دال على وجوب نفقة الأهل والولد، وإلزام ذَلِكَ الزوج وإن كان غائبا أي: عن مجلس الحاكم، إذا كان له مال حاضر.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 537.

ص: 37

واختلف العلماء في ذَلِكَ، فقالت طائفة: نفقتها ثابتة عليه في غيبته. روي ذَلِكَ عن عمر والحسن البصري، وهو قول الأربعة، خلا أبا حنيفة؛ فإنه قال: ليس لها نفقة عليه، إلا أن يفرضها السلطان، ولو استدانت عليه وهو غائب لم يفرض لها شيئًا. ووافق الأئمة: إسحاق وأبو ثور

(1)

.

وقال ابن المنذر: نفقة الزوجة فرض على زوجها، وقد وجب عليه فرض فلا يسقط عنه لغيبته إلا في حال واحد، وهي أن تعصي المرأة وتنشز عليه وتمتنع منه

(2)

، فتلك حال قد قام الإجماع على سقوطها فيها عنه إلا من شذ عنهم، وهو الحكم بن عتيبة وابن القاسم صاحب مالك، ولا التفات إلى من شذ عن الجماعة ولا يزيل وقوف الحاكم عن إنفاذ الحكم بما يجب فرضًا أوجبه الله، والسنة لا حاجة لها إلى حكم الحاكم تأكيدًا، والفرائض والديون التي يجب أداؤها، والوفاء بالنذور، وما يجب في الأموال من الجناية على الأبدان مئل ما يجب في الحج من الصوم، من كفارة وفدية، لا يزيله وقوف الحاكم عن الحكم به

(3)

.

فصل:

وفيه: أن المرأة تقبض نفقة العيال، وأن من بخس حقه له أن يغتاب من بخسه.

وقوله: ("إلا بالمعروف"): أي: لا حرج عليك ولا تنفقي إلا بالمعروف، وقيل: لا تسرف، وليكن بالمعروف.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 370 "الإشراف" 1/ 123 - 124.

(2)

"الإشراف" 1/ 124.

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 7/ 537 - 538.

ص: 38

‌6 - باب عَمَلِ المَرْأَةِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا

5361 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَكَمُ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، أَنَّ فَاطِمَةَ عليهما السلام أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى -وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ- فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ:«على مَكَانِكُمَا» . فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ على بَطْنِي، فَقَالَ:«أَلَا أَدُلُّكُمَا على خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا -أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا- فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» . [انظر: 3113 - مسلم: 2727 - فتح:9/ 506]

ذكر فيه حديث فاطمة

(1)

أنها أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ .. الحديث. ثم ترجم عليه أيضًا:

(1)

ورد في هامش الأصل: صوابه: علي.

ص: 39

‌7 - باب خَادِمِ المَرْأَةِ

5362 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، سَمِعَ مُجَاهِدًا: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ فَاطِمَةَ عليها السلام أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَقَالَ:«أَلَا أُخْبِرُكِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْهُ، تُسَبِّحِينَ اللهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدِينَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ اللهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ» . -ثُمَّ قَالَ سُفْيَانُ: إِحْدَاهُنَّ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ- فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ قِيلَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ. [انظر: 3113 - فتح: 9/ 506]

وفي آخره قال علي: فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ. قِيلَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ.

الشرح:

هذا الحديث سلف في الخمس

(1)

، وفي فضل علي رضي الله عنه

(2)

ويأتي في الدعوات

(3)

، وأخرجه مسلم أيضًا والنسائي

(4)

، وهو ظاهر فيما ترجم له، ولم يذكر فيه أنه استأذن، فإما أن يكون قبل نزوله أو سكت عنه؛ لعلم السامع.

وفيه: أنه آثر نساء المؤمنات على ابنته؛ لعلو شأنها.

قال ابن حبيب: إذا كان الزوج معسرًا وكانت الزوجة ذات قدر وشرف، فإن عليها الخدمة الباطنة كالعجن والطبخ والكنس وما شاكله، وكذا قاله ابن الماجشون وأصبغ

(5)

.

(1)

سلف برقم (3113).

(2)

سلف برقم (3705).

(3)

سيأتي برقم (6318)، باب: التكبير والتسبيح عند المنام.

(4)

مسلم (2727)، كتاب الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم، والنسائي 6/ 203.

(5)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 611.

ص: 40

قال ابن حبيب: وكذلك حكم عليه السلام على فاطمة بالخدمة الباطنة من خدمة البيت، وحكم على علي بالخدمة الظاهرة، وقال بعض شيوخي: لا يعرف في شيء من الأخبار الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى على فاطمة بالخدمة الباطنة، وإنما كان نكاحهن على المتعارف من الإجمال وحسن العشرة، وأما أن تجبر المرأة على شيء من الخدمة فليس له أصل في السنة، بل الإجماع منعقد على أن على الزوج مؤنة الزوجة كلها

(1)

.

وقال الطحاوي: لم يختلفوا أن المرأة ليس عليها أن تخدم نفسها، وأن على الزوج أن يكفيها ذَلِكَ، وأنه لو كان معها خادم لم يكن للزوج إخراج الخادم من بيته، فوجب أن تلزمه نفقة الخادم على حسب حاجتها إليه

(2)

.

وذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه ليس على المرأة خدمة زوجها

(3)

.

وقال الطبري: في هذا الحديث: الإبانة على أن كل من كانت به طاقة من النساء على خدمة نفسها في خبز أو طحين وغير ذَلِكَ مما تعانيه المرأة في بيتها ولا تحتاج فيه إلى الخروج أن ذَلِكَ موضوع عن زوجها إذا كان معروفًا لها أن مثلها تلي ذَلِكَ بنفسها، وأن زوجها غير مأخوذ بأن يكفيها ذلك كما هو مأخوذ في حال عجزها عنه، إما بمرض أو زمانة أو شبه ذَلِكَ، وذلك أن فاطمة لما شكت ما تلقى في يدها من الطحن والعجين إلى أبيها عليه السلام، وسألته خادمًا؛ ليعينها على ذَلِكَ، لم يأمر زوجها عليًّا بأن يكفيها ذَلِكَ، ولا ألزمه وضع مؤنة

(1)

انظر تمام كلام ابن حبيب في "شرح ابن بطال" 7/ 539.

(2)

"مختصر اختلاف العلماء" 2/ 371.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 611.

ص: 41

ذَلِكَ عنها إما بإخدامها أو استئجار من يقوم بذلك، بل قد روي أنه قال:"يا بنية، اصبري؛ فإن خير النساء التي نفعت أهلها"

(1)

وفيه مِنْهُ

(2)

عليه السلام: دليل على أن فاطمة مع قيامها بخدمة نفسها كانت تكفي عليًّا بعض مؤنه من الخدمة، ولو كانت كفاية ذَلِكَ على عليّ لكان قد تقدم إلى عليّ في كفائها ذَلِكَ كما تقدم إليه إذ أراد الابتناء بها أن يسوق إليها صداقها حين قال له:"أين درعك الحطمية؟ "

(3)

وغير ذَلِكَ أنْ يُعَلَّمَ الشارعُ أمته الجميل من محاسن الأخلاق ويترك تعليمهم الفروض التي ألزمهم الله، ولا شك أن سوق الصداق إلى المرأة في حال إرادته الابتناء بها غير فرض إذا رضيت بتأخيره عن زوجها.

فإن قلت: يلزم الرجل إذا كان ذا سعة كفاية زوجته الخدمة إذا كانت المرأة ممن يخدم مثلها، قيل: حكم من كان كذلك من النساء حكم ذوات الزمانة، والعاهة منهن اللواتي لا يقدرن على خدمة.

ولا خلاف بين أهل العلم أن على الرجل كفاية من كان منهن، فكذلك ألزمنا الرجل كفاية التي لا تخدم نفسها مؤنة الخدمة التي لا تصلح لها، وألزمناه مؤنة خادم إذا كان في سعة.

وبنحو الذي قلنا نزل القرآن، وذلك قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} وعليه علماء الأمة مجمعة.

وشذ أهل الظاهر عن الجماعة فقالوا: ليس عليه أن يخدمها إذا كان موسرًا أو كانت ممن لا يخدم مثلها.

(1)

رواه بنحوه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 300 (20594).

(2)

أي من قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.

(3)

رواه أبو داود (2125)، النسائي 6/ 129 - 130.

ص: 42

وحجة الجماعة قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وإذا احتاجت إلى من يخدمها فلم يفعل لم يعاشرها بالمعروف، وقال مالك والليث ومحمد بن الحسن: يفرض لها ولخادمين إذا كانت خطيرة

(1)

.

وقال الكوفيون والشافعي: يفرض لها ولخادمها النفقة

(2)

وقد سلف شيء من معنى هذا الباب في النكاح في باب: الغيرة في حديث أسماء.

فصل:

وترجمته عليه خادم المرأة ظاهرة كما سلف، وعامة الفقهاء متفقون أن الرجل إذا أعسر عن نفقة الخادم أنه لا يفرق بينه وبين امرأته، وإن كانت ذات قدر؛ لأن عليًّا لم يلزمه الشارع إخدام فاطمة رضي الله عنها في عسرته، ولا أمره أن يكفيها ما شكت من الرحا.

قال المهلب: وفيه من الفقه: أن المرأة الرفيعة القدر يجمل بها الامتهان الشاق من خدمة زوجها مثل: الطحن وشبهه؛ لأنه لا أرفع منزلة من بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كانوا يؤثرون الآخرة ولا يترفهون عن خدمتهم؛ إحسانًا لله؛ وتواضعًا في عبادته.

وفيه: إيثار التقلل من الدنيا والزهد فيها؛ رغبة في ثواب الآخرة، ألا ترى إلى قوله:"ألا أدلكما على خير مما سألتما"، فدلهما على التسبيح والتحميد والتكبير

(3)

.

(1)

قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" ص (304): الخاء والطاء والراء أصلان: أحدهما: القدر والمكانة، ومنه قولهم: لفلان خطر، أي منزلة ومكانة تناظره وتصلح لمثله والثاني: اضطراب وحركة ومنه: خطر البعير بذنبه خطرانا. اهـ.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 2/ 371، "الإشراف" 1/ 122.

(3)

انظر: "ابن بطال" 7/ 541.

ص: 43

‌8 - باب خِدمَةِ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ

5363 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ،7/ 85 عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَتْ: كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الأَذَانَ خَرَجَ. [انظر: 676 - فتح: 9/ 507]

ذكر فيه حديث الأسود بن يزيد قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يصْنَعُ فِي البَيْتِ؟ قَالَتْ: كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا سَمِعَ الأَذَانَ خَرَجَ.

هذا الحديث سلف في الصلاة

(1)

، ويأتي في الأدب

(2)

. والمِهَنْةَ: بكسر الميم، وحُكي الفتح قال الهروي المهنة: الخدمة بفتح الميم، وخفضها خطأ، قاله شمر عن مشايخه.

قال المهلب: هذا من فعله على سبيل التواضع، وليُسِنَّ لأمته ذَلِكَ؛ فمن السنة أن يمتهن الإنسان نفسه في بيته فيما يحتاج إليه من أمر دنياه وما يعينه على دينه، وليس الترفه في هذا بمحمود ولا من سبيل الصالحين، وإنما ذَلِكَ من سير الأعاجم.

وفيه: أن شهود صلاة الجماعة من (آكد السنن)

(3)

؛ لأنه لا يتخلف عن ذَلِكَ إلا في مرضه، وكان شديد المحافظة عليها

(4)

.

(1)

سلف برقم (676).

(2)

سيأتي برقم (6039)، باب: كيف يكون الرجل في أهله.

(3)

في الأصول: أكيد النفس، والمثبت هو الصواب كما في "شرح ابن بطال" 7/ 542.

(4)

انظر: "ابن بطال" 7/ 542.

ص: 44

‌9 - باب إِذَا لَمْ يُنفِقِ الرَّجُلُ فَلِلْمَرأَةِ أَنْ تَأخذَ بِغَيِر عِلْمِهِ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ

5364 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِى مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهْوَ لَا يَعْلَمُ. فَقَالَ:«خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» . [انظر:2211 - مسلم: 1714 - فتح: 9/ 507]

ذكر فيه حديث هند

(1)

السالف.

وهو ظاهر فيما ترجم له، وهو حجة لمن قال: تلزمه نفقة ولده وإن كان كبيرًا، وخالف فيه مالك؛ لأنها واقعة عين، ولا عموم في الأفعال، ولعله كان صغيرًا أو كبيرًا زَمِنًا، وبعض المالكية قال: تلزمه إذا كان زَمِنًا مطلقًا. وبعضهم قال بسقوطها إذا بلغ مطلقا، ومذهبه: إن بلغ زَمِنًا بقيت نفقته.

وفيه: أيضًا مسألة الظفر السالفة، وهي جواز الأخذ لمن منع من حقه بقدر ماله عنده ولا إثم عليه فيه؛ لأنه عليه السلام أجاز لهند ما أخذت من مال زوجها بالمعروف.

وأصل هذا الحديث في التنزيل في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقد سلف في المظالم اختلافهم في جاحد الوديعة ثم يوجد له مال هل يأخذ عوض حقه أم لا؟

(1)

ورد في هامش الأصل: فيه تجوز وإنما هو حديث عائشة، لكن فيه هند وهذا مثل قولهم: حديث هرقل، وحديث زيد بن عمرو بن نفيل، وحديث أبرص وأقرع وأعمى وأشباه ذَلِكَ.

ص: 45

وفيه: أن وصف الإنسان بما فيه من النقص على سبيل التظلم منه والضرورة إلى طلب الانتصاف من حق عليه أنه جائز وليس بغيبة؛ لأنه عليه السلام لم ينكر عليها قولها. واختلف العلماء في مقدار ما يفرض السلطان للزوجة على زوجها: فقال مالك: يفرض لها بقدر كفايتها في اليسر والعسر، ويعتبر حالها من حاله

(1)

. وبه قال أبو حنيفة، وليست مقدرة.

وقال الشافعي: هي مقدرة باجتهاد الحاكم فيها، وهي معتبر بحاله دونها، فإن كان موسرًا فمدان لكل يوم، فإن كان متوسطًا فمد ونصف، وإن كان معسرًا فمد، فيجب لبنت الخليفة ما يجب لبنت الحارس

(2)

. حجة مالك والكوفيين في قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية [الطلاق: 7] ولم يذكر لها تقديرًا وقال لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" فلم يُقَدِّر لها ما تأخذه لولدها وبنتها، فثبت أنها غير مقدرة وأنها على قدر كفايتها، وإنما يجب ذَلِكَ كله بالعقد والتمكين، وهو عوض عن الاستمتاع عند العلماء.

(1)

"المدونة" 2/ 192.

(2)

"مختصر المزني" 5/ 69 - 72 بتصرف.

ص: 46

‌10 - باب حِفظِ المَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي ذَاتِ يَدِهِ وَالنَّفَقَةِ

5365 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ -وَقَالَ الآخَرُ: صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ- أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ» . وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 3434 - مسلَم: 2527 - فتح: 9/ 511]

ذكر فيه حديث ابن طاوس عَنْ أَبِيهِ، وَأَبي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ نِسَاءُ قرَيْشٍ -وَقَالَ الآخَرُ: صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ- أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ في صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ". وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

هذا الحديث سلف في أوائل النكاح من حديث أبي الزناد، وأخرجه مسلم عنهما قال أحدهما:"صالح نساء قريش". وقال الآخر: "نساء قريش أحناه على يتيم في صغره". وفي حديث ابن المسيب عنه، وفي آخره يقول أبو هريرة على إثر ذَلِكَ ولم تركب ابنة عمران بعيرًا قط والنبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير نساءٍ ركبن الإبل"

(1)

.

وذكر صاحب "النجم الثاقب فيما ورد في قريش من المناقب"

(2)

من

(1)

مسلم (2527) كتاب "فضائل الصحابة" باب: من فضائل نساء قريش.

(2)

صنفه بدر الدين، حسن بن عمر بن حبيب الحلبي أبو محمد، الشافعي دمشقي الأصل، حلبي المولد والدار، وتوفي سنة تسع وسبعين وسبعمائة له من التصانيف:"أخبار الدول وتذكار الأول"، "إرشاد السامع والقاري"، "المنتقى من صحيح البخاري"، و"تذكرة النبيه في أيام المنصور وبنيه"، "شنف السامع في وصف الجامع"، "النجم الثاقب في أشرف المناقب".

انظر ترجمته في: "هداية العارفين" ص 152.

ص: 47

حديث ابن سيرين وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، وكأنّ أبا هريرة فهم أن البعير من الإبل فقط، وليس كذلك بل تكون أيضًا حمارًا قال تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] قال ابن خالويه: لم يكن إخوة يوسف ركبانًا إلا على أحمرة، لم يكن عندهم إبل تحملهم في أسفارهم وشبهها على الأحمرة. وكذا قال مجاهد: البعير هنا الحمار

(1)

، وهي لغة، حكاه الكواشي

(2)

.

ومراد أبي هريرة أن هذا الحديث لا يؤخذ منه أن القريشات أفضل من مريم؛ لأنها لم تركب بعيرًا قط، والشارع قال:"خير نساء ركبن الإبل" ذكره ابن التين.

وفي هذا الحديث تفضيل نساء قريش على سائر العرب لمعنيين: أحدهما: الحنو على الولد والتهمم بأمره وحسن تربيته واللطافة به.

ثانيهما: حفظ ذات اليد وعون الزوج على دهره، وبهما تفضل المرأة عند الله وعند رسوله. وكذلك يروى عن عمر أنه مدح المرأة التي تعين على الدهر ولا تعين الدهر عليك

(3)

وقال الحسن في تفسير هذا الحديث: الحانية: التي لا تتزوج ولها ولد، وهو من الحنو والعطف والشفقة.

(1)

"تفسير مجاهد" 1/ 318.

(2)

هو أحمد بن يوسف بن الحسين بن الحسن بن رافع الكواشي، أبو العباس موفق الدين الضرير الموصلي الشافعي توفي سنة ثمانين وستمائة من تصانيفه:"تبصرة المتذكر وتذكرة المتبصر في تفسير القرآن"، "تلخيص التفسير"، "روضة الناضر وجنة المناظر"، "كتاب الوقوف".

انظر ترجمته في: "هداية العارفين" ص 51.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 554 (17141).

ص: 48

وعند أهل اللغة كما قال ابن التين: هي التي تقيم على ولدها، فلا تتزوج، يقال: حَنَت تحنو، وأحنى يحني، وحنى يحنى إذا أشفق، فإن تزوجت فليست بحانية "وأرعاه" من الرعاية.

ص: 49

‌11 - باب كِسْوَةِ المَرْأَةِ بِالْمَعْرُوفِ

5366 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: آتَى إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي. [انظر: 2614 - مسلم 2071 - فتح: 9/ 512].

ذكر فيه حديث علي رضي الله عنه قال: آتى إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا، فَرَأَيْتُ الغَضبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي خمرًا.

هذا الحديث سلف في الهبة، وهو مطابق لما ترجم له، وقام الإجماع أن للمرأة نفقتها وكسوتها بالمعروف، وأنه واجبٌ عليه، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه يلزمه أن يكسو ثياب بلد كذا، والصحيح ألا يحمل أهل البلدان على كسوة واحدة، وأن يؤمر أهل كل بلد من الكسوة بما يجري في عرف بلدتهم بقدر ما يطيقه المأمور على قدر الكفاية لهم، أو ما يصلح لمثلها، وعلى قدر عسره ويسره، ألا ترى أن عليًّا رضي الله عنه شق الحلة بين نسائه حين لم يقدر على أن يكسو كل واحدة منهن حلة حلة. قلت: لم يكن له إذ ذاك غير فاطمة، وإن كان ظاهر قوله:(بين نسائي). يقتضي خلافه، وكذا قوله: شققتها خُمرًا بين الفواطم، ولذلك قال- عليه السلام:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" ولو كان في ذَلِكَ حد معلوم لأمرها به، فينبغي للحاكم أن يجتهد في ذَلِكَ بقدر ما يراه.

قال ابن التين: وسيرا بالقصر

(1)

.

(1)

ورد في هامش الأصل: لعله الألف. أما أنا فلا أعرف في السيراء إلا المد، غير أن الحلة السيراء تقال بالإضافة وبالصفة وقد ذكر شيخنا المؤلف السيراء في الجمعة، فذكره البخاري واستوعب الكلام عليه، ولم يذكر إلا المد فاعلمه.

ص: 50

ومعنى: آتاه

(1)

جاءه أو أرسل إليه، ولأبي الحسن: أهدى إليَّ قال: وأبين منه أتاني النبي بحلة. وسقطت الياء فتعدى الفعل فقط، قال الداودي: والسيراء منتقلة كالشعرى. قال أبو عبيد: لا تسمى حلة حتَّى تكون من ثوبين.

(1)

ورد في هامش الأصل: الحديث آتى إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن قرقول: آتى هذا ممدود لأنه بمعنى أعطى، وإليَّ مشددة الياء وبقية الحديث يدل عليه. وفي رواية النسفي قال بعضهم: بَعث إليّ، وقال بعضهم: هو ردّ. قال ابن قرقول: بل له وجه في العربية. وفي كتاب ابن عبدوس: أهدى إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 51

‌12 - باب عَوْنِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي وَلَدِهِ

5367 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما -قَالَ: هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ -أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ- فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً ثَيِّبًا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ؟» . فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا» . قُلْتُ: بَلْ ثَيِّبًا. قَالَ: «فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ، وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ!» . قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ اللهِ هَلَكَ وَتَرَكَ بَنَاتٍ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ. فَقَالَ:«بَارَكَ اللهُ [لَكَ]» . أَوْ [قَالَ] خَيْرًا. [انظر: 443 - مسلم: 751 - فتح: 9/ 513]

ذكر فيه حديث جابر: رضي الله عنه أن عبد الله هَلَكَ وَتَرَكَ سَبْعَ بَنَاتٍ -أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ- وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ. فَقَالَ:"بَارَكَ اللهُ لَكَ". أَوْ قَالَ "خَيْرًا".

وقد سلف، وعون المرأة زوجها في (ولده من غيرها)

(1)

ليس بواجب عليها، وإنما هو من حسن الصحبة وجميل المعاشرة، ومن سير صالحات النساء وذوي الفضل منهن مع أزواجهن، وقد سلف هل تلزم المرأة خدمة زوجها قبل، فراجعه.

(1)

في الأصل: (ولدها من غيره) والمثبت من (غ).

ص: 52

‌13 - باب نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى أَهْلِهِ

5368 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: هَلَكْتُ. قَالَ: «وَلِمَ؟» . قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: «فَأَعْتِقْ رَقَبَةً» . قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي. قَالَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» . قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» . قَالَ: لَا أَجِدُ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ:«أَيْنَ السَّائِلُ؟» . قَالَ: هَا أَنَا ذَا. قَالَ: «تَصَدَّقْ بِهَذَا» . قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللهِ؟!، فَوَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ قَالَ:«فَأَنْتُمْ إِذًا» . [انظر: 1936 - مسلم: 1111 - فتح: 9/ 513].

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المجامع في رمضان.

وقد سلف أخذًا من قوله لما أمره بالتصدق بالعرق. وقوله: (على أحوج منا).

وقوله: ("فأنتم إذًا"). وجاء في موضع آخر: "فأطعمه أهلك " وأراد البخاري به إثبات نفقة المعسر على أهله، ووجوبها عليه، وذلك أنه عليه السلام أباح له إطعام أهله بوجود العرق من التمر، ولم يقل له أن ذَلِكَ يجزئك عن الكفارة؛ لأنه قد تعين عليه فرض النفقة على أهله بوجود العرق وهو ألزم من الكفارة.

وزعم الطبري أن قياس قول أبي حنيفة والثوري أن الكفارة دين عليه لا يسقطها عنه عسره، وهو قول مالك وعامة العلماء، وأصلهم أن كل ما لزم أداؤه في اليسار لزم الذمة إلى الميسرة. واحتج بعضهم بقوله: هلكت. على أنه كان متعمدًا؛ لأنه لو كان ناسيًا لم يقل: هلكت، وقيل: إنه لما دفع إليه العرق كان محتاجًا لم يجز له أن يتصدق به؛

ص: 53

لأن أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، فلما أكل منه قوت يومه فنقص فلم يُجْزِه فأكله. وثبتت الكفارة عليه. واختلف فيمن أتى أهله ناسيًا فقال مالك والشافعي: لا كفارة عليه

(1)

وقال عنه ابن نافع وابن الماجشون عليه كفارة

(2)

واحتج بالحديث؛ إذ لم يتبين هل هو عمد أو نسيان.

وقوله: ("فأعتق رقبة" قال: ليس عندي. قال: "فصم شهرين متتابعين") ظاهره أنه على الترتيب، وهو مذهب الشافعي

(3)

، وبه قال ابن حبيب، وقال مالك على التخيير واستحب الإطعام

(4)

.

وقوله: ("فأطعم ستين مسكينًا") هو عند مالك لكل واحد مد

(5)

ككفارة اليمين، وعند أبي حنيفة نصف صاع من بر

(6)

.

والعرَق بفتح الراء على الأشهر هو الزنبيل يسع خمسة عشر صاعًا إلى عشرين. وقد فسره في الحديث بالمكتل وهو نحو منه، والمكتل كالقفة والزَّنبيل، وضبطه بعضهم بالسكون وصحح وأنكر، والأشهر الأول جمع عرقه، وهي الضفيرة التي يماط منها القفة، وأما بالسكون فهو العظم عليه بقية اللحم، يقال: عرقته مجتمعًا. واعترقته وتعرقته: إذا أكلت ما عليه بأسنانك، وقال ابن فارس: هو المضفور بالخوص قبل أن يصير زنبيلًا.

(1)

"المدونة" 1/ 185 "الأم" 2/ 85.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 49.

(3)

انظر "البيان" 3/ 520.

(4)

انظر: "التفريع" 1/ 307.

(5)

انظر: "المدونة" 1/ 191.

(6)

انظر: "المبسوط" 7/ 16.

ص: 54

وقوله: (فيه تمر) قد سلف أنه خمسة عشر صاعًا إلى عشرين، وهو ما في "الموطأ"

(1)

ورواه ابن حبيب عن مالك، وروت عائشة: عشرون صاعًا

(2)

. وقيل: إنه كلمة حزر وتقدير، والظاهر أنه خمسة عشر صاعًا فقط.

وقوله: (فضحك حَتَّى بدت أنيابه). أي: ظهرت، ولعل سببه أنه وجبت عليه الكفارة ليخرجها فأخذها فحملها، وهو مع ذَلِكَ غير آثم، وهذا من تطول

(3)

ربِّنَا وامتنانه.

وهل يكون أكله له يجزئ عن كفارته؟ قال الزهري: إنه خصوص له، وقيل: لا.

وإنما يتبلغ به من الحاجة وتبقى في ذمته، وهو الأظهر عندنا، وقيل: لما دفعه إليه كان محتاجًا فلم يجز له أن يتصدق به؛ لأن أفضل الصدقة ما كان على ظهر غنى، فلما أكل منه قوت يومه نقص كما سلف فلم يُجْزه فأكله وثبتت في الذمة، وهذا كله سلف فلا بأس بإعادته؛ لبعد العهد به.

(1)

"الموطأ" ص 198.

(2)

رواه أبو داود (2395).

(3)

الطّوْل: المَنُّ، وقيل: الفضل والعلو على الأعداء.

انظر: "مجمل اللغة" 1/ 590، "النهاية في غريب الحديث" 3/ 145.

ص: 55

‌14 - باب {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]

وهلْ عَلَى المَرْأَةِ مِنْهُ شَيء؟ {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} الآية

5369 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا، إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ؟ قَالَ:«نَعَمْ، لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ» . [انظر:1467 - مسلم: 1001 - فتح: 9/ 514]

5370 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: قَالَتْ هِنْدُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِينِي وَبَنِيَّ؟ قَالَ:«خُذِي بِالْمَعْرُوفِ» . [انظر: 2211 - مسلم: 1714 - فتح: 9/ 514]

ثم ساق حديث أم سلمة رضي الله عنهما: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا، إِنَّمَا هُمْ بَنِيَّ؟ قَالَ:"نَعَمْ، لَكِ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ".

وقد سلف في الزكاة، وحديث هند

(1)

السالف.

اختلف العلماء في تأويل قوله تعالى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فعن ابن عباس عليه أن لايضار، وهو قول الشعبي ومجاهد والضحاك ومالك، قالوا: عليه أن لا يضار، ولا غرم عليه

(2)

.

وقالت طائفة: ما كان عَلَى الوارث من أجرة الرضاع إذا كان الولد لا مال له. ثم اختلفت هذِه الطائفة في مَن الوارث الذي عناه الله تعالى

(1)

ورد بهامش الأصل: تقدم في حاشية الورقة التي قبل هذِه أن فيه تجوزًا.

(2)

انظر هذِه الآثار في ابن أبي شيبة 4/ 189، 190، وانظر:"المدونة" 2/ 252.

ص: 56

في الآية عَلَى أقوال: فقالت طائفة: هو كل وارث للأب، أخًا كان أو عمًّا أو ابن عمًّ أو ابن أخ، روي هذا عن الحسن البصري قال:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} على الرجال دون النساء

(1)

. وقال آخرون: هو مِن ورثته مَن كان ذا رحم محرم للمولود، فأما مَن كان ذا رحم وليس بمحرم كابن العم والمولى فليس ممن عناه الله بالآية، هذا قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال آخرون: هو المولود نفسه.

روي عن قبيصة بن ذؤيب والضحاك وتأولوا: {وَعَلَى الْوَارِثِ} : المولود، ما كان على المولود له.

(2)

وقال آخرون: الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما، وهذا يوجب أن تدخل الأم في الورثة الذين عليهم أجر الرضاع، فيكون عليها رضاع ولدها واجبًا إن لم يترك أبوه مالاً، روي هذا عن زيد بن ثابت قال: إذا خلف أُمًّا أو عمًّا فعلى كل واحد منهما رضاعة بقدر ميراثه. وهو قول الثوري

(3)

، وإلى رد هذا القول أشار البخاري بقوله: وهل على المرأة منه شيء؟

وتلا الآية الكريمة يعني: من رضاع الصبي ومؤنته، فذكر قوله تعالى:{وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ، وشبه منزلة المرأة من الوارث بمنزلة الأبكم الذي لا يقدر عَلَى النطق من المتكلم وجعلها كلا على من يعولها.

وذكر حديث أم سلمة، والمعنى فيه أن أم سلمة كانت لها أبناء من أبي سلمة ولم يكن لهم نفقة، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان لها أجر في

(1)

رواه ابن أبي شيبة 4/ 190 (19153).

(2)

رواه عنهما ابن جرير في "تفسيره" 2/ 515 (5010 - 5011).

(3)

رواه ابن جرير 2/ 515 - 516.

ص: 57

الإنفاق عليهم بما يعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرها أن لها أجراً فى ذلك، فدل أن نفقة بنيها لا تجب عليها، ولو وجبت عليها لم تقل له: ولست بتاركتهم، لبَيّن لها أن نفقتهم واجبة عليها سواء تركتهم أو لم تتركهم.

وأما حديث هند فإنه عليه السلام أطلقها على أخذ نفقة بنيها من مال الأب، ولم يوجبها كما أوجبها على الأب. فاستدل البخاري أنه لم يلزم الأمهات نفقة الأبناء في حياة الآباء، فكذلك لا يلزمهن بموت الآباء.

وحجة أخرى: وذلك أن قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} بين أكل ورضاع الأبناء، فكيف يعطين بأول الآية وتجب عليهن نفقة الأبناء في آخرها.

وأما من قال {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} هو الولد فيقال له: لو أريد بذلك الولد لقال تعالى: وعلى المولود مثل ذلك، فلما قال {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} وكان الوارث اسمًا عامًّا يقع على جماعة غير الولد لم يجز أن يخص به الولد ويقتصر عليه دون غيره إلا بدلالة بينة وحجة واضحة.

وأما قول أبي حنيفة في إيجابه رضاع الصبي ونفقته على كل ذي رحم مَحْرم مثل أن يكون له ابن أخت صغير محتاج، وابن عم كذلك، وهو وارثه، فإن النفقة تجب على الخال لابن أخته الذي لا يرثه، ويسقط عن ابن العم لابن عمه الذي يرثه.

قال إسماعيل بن إسحاق: فقالوا قولًا ليس في كتاب الله، ولا يعلم أحد قاله، وإنما أوجب بعضهم الرضاعة على الوارث؛ لما تأول من القرآن، وأسقط بعضهم ذلك عنه لما تأول أيضًا، وهم الذين قالوا: على الوارث ألا يضار ولا غرم عليه، فأخذ النفقة على كل رحم

ص: 58

محرم، فليس في قولهم تأويل للقرآن، ولا اتباع الحديث، ولا قياس على أجل يرجع إليه، ومذهب مالك في هذا الباب: أنه لا تجب نفقة الصغير إلا على الأب خاصة، وهو المذكور في قوله:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} وقوله: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فلما وجب على الأب الإنفاق على من يرضع أنه وجب عليه النفقة على ولده إذا خرج من الرضاع ما دام صغيرًا، ووجب أن يغذى بالطعام كما كان يغذى بالرضاع، ولم تجب النفقة على الوارث لما في تأويل الآية من الاختلاف، وليس مجراهم في النظر مجرى الأب؛ لأن الأب وجب عليه رضاع ولده حين وُلِدَ، ولم يجب على غيره من ورثته، فلا يرجع ذَلِكَ عليهم بعد، إن لم يكن واجبًا في الأصل إلا بحجة، وكان يجب على قولهم: إذا مات الرجل عن امرأته وهي حامل ولم يخلف مالاً أن يلزموا العصب النفقة على المرأة من أجل ما في بطنها، وكان يجب على مذهب أبي حنيفة أن يُلْزِموا كل ذي رحم مَحْرم النفقة على هذِه الأم؛ من أجل ما في بطنها كما يُلزمون أجر رضاعه إذا وضعته أمه؛ لأنهم إنما كانوا يلزمون الرحم النفقة على الأم التي ترضع المولود؛ من أجل المولود

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 7/ 548 - 549.

ص: 59

‌15 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَرَكَ كَلاًّ أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ»

5371 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلاً؟» . فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى، وَإِلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ:«صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» . فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ» . [انظر: 2298 - مسلم: 1619 - فتح: 9/ 515]

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، .. الحديث. وفي آخره:(فمن توفي من المؤمنين وترك دينًا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته).

هذا الحديث سلف في الكفالة.

والكَلُّ في اللغة: بفتح الكاف: العيال والثقل، قاله ابن فارس

(1)

، والضَياع: بفتح الضاد مصدر ضاع الشيء يضيع ضياعًا إذا ذهب

(2)

.

(1)

"المجمل" 2/ 765.

(2)

"المجمل" 1/ 570.

ص: 60

‌16 - باب الْمَرَاضِعِ مِنَ الْمَوَالِيَاتِ وَغَيْرِهِنَّ

5372 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، انْكِحْ أُخْتِي ابْنَةَ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ:«وَتُحِبِّينَ ذَلِكَ؟» . قُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي الْخَيْرِ أُخْتِي. فَقَالَ:«إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَوَاللهِ إِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ دُرَّةَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ. فَقَالَ:«ابْنَةَ أُمِّ سَلَمَةَ؟» . فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "فَوَاللهِ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ ".

وَقَالَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَالَ عُرْوَةُ: ثُوَيْبَةُ أَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ. [انظر: 5101 - مسلم: 1449 - فتح: 9/ 516].

ذكر فيه حديث عُقَيْلٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عن عُرْوَةَ، عن زينَبَ ابنةِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ، عن أُمَّ حَبِيبَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، انْكِحْ أُخْتِي ابنةَ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ:"وَتُحِبِّينَ ذَلِكَ؟ " الحديث السالف.

وَقَالَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: قَالَ عُرْوَةُ: ثُوَيْبَةُ أَعْتَقَهَا أَبُو لَهَبٍ.

والترجمة مطابقة، وكانت العرب في أول أمرها تكره رضاع الإماء وتقتصر على العربيات من الضرر به؛ طلبًا لنجابة الولد، فأنبأهم الشارع أن قد رضع في غير العرب وأن رضاع الإماء لا يهجن.

وثويبة: كانت جارية لأبي لهب كما سلف. أعتقها حين بشرته بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تزل العرب تنتفي من إرضاع الإماء. قال القَتّال الكلابي -واسمه عبيد بن المضرحي كذا أسماه المبرد

(1)

،

(1)

"الكامل" 1/ 52.

ص: 61

وسماه الزمخشري عبادة بن مجيب، وسماه ابن ماكولا: عبد الله

(1)

، وعن الأصمعي: عقيل بن العرندس

(2)

-:

لا أرضع الدهر إلا ثدي واضحة

لواضح الخد يحمي حوزة الجار

وفيه: أن الأخوة بالرضاع حرمتها كحرمة الأخوة بالنسب.

فصل:

قوله عليه السلام: "بنت أم سلمة" إنما هو على وجه التقرير على تصحيح المسألة؛ لأنه قد كان يجوز له عليه السلام أن ينكح بنات أبي سلمة من غير أم سلمة أم المؤمنين؛ لأن الجمع بين امرأة الرجل وابنته من غيرها حلال عند جماعة الفقهاء، إذ لا نسب بينهما كما سلف.

فصل:

المواليات: قال ابن بطال: كان الأقرب أن يقول: الموليات: جمع مولاة، والمواليات: جمع مولى جمع التكسير (ثم)

(3)

جمع موالي جمع السلامة بالألف والتاء فصار مواليات جمع الجمع

(4)

وقال ابن التين: ضبط بضم الميم وفتحها، والوجه الضم أنه اسم فاعل من والت موالٍ.

آخر النكاح

(5)

والحمد لله وحده.

(1)

"الإكمال" 7/ 97.

(2)

من الشعراء المخضرمين أدرك أواخر الجاهلية وعاش في الإسلام إلى زمن عبد الملك بن مروان وتوفي سنة 70 هـ.

(3)

من (غ).

(4)

"ابن بطال" 7/ 551.

(5)

أي أن النفقات جزء من النكاح.

ص: 62

70

كتاب الأطعمة

ص: 63

بسم الله الرحمن الرحيم

‌70 - كتاب الأطعمة

وَ‌

‌قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . وَقَوْلِهِ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ و {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . [المؤمنون: 51]

.

5373 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» . قَالَ سُفْيَانُ: وَالْعَانِي: الأَسِيرُ. [انظر: 3046 - فتح: 9/ 517].

5374 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ. [مسلَم: 2976 - فتح: 9/ 517].

5375 -

وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَاسْتَقْرَأْتُهُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَدَخَلَ دَارَهُ وَفَتَحَهَا عَلَيَّ، فَمَشَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَخَرَرْتُ لِوَجْهِي مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي فَقَالَ:«يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» . فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. فَأَخَذَ بِيَدِى فَأَقَامَنِي، وَعَرَفَ الَّذِي بِي

ص: 65

فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَحْلِهِ، فَأَمَرَ لِي بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ:«عُدْ يَا أَبَا هِرٍّ» . فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ، ثُمَّ قَالَ:«عُدْ» . فَعُدْتُ فَشَرِبْتُ حَتَّى اسْتَوَى بَطْنِي فَصَارَ كَالْقِدْحِ. قَالَ: فَلَقِيتُ عُمَرَ وَذَكَرْتُ لَهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِي وَقُلْتُ لَهُ: تَوَلَّى اللهُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْكَ يَا عُمَرُ، وَاللهِ لَقَدِ اسْتَقْرَأْتُكَ الآيَةَ وَلأَنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْكَ. قَالَ عُمَرُ: وَاللهِ لأَنْ أَكُونَ أَدْخَلْتُكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ حُمْرِ النَّعَمِ. [انظر: 6246 - مسلم: 6452 - فتح: 9/ 517]

ذكر ابن بطال هذا الباب بعد الطب وقبل التعبير، ولا أدري لم ذكره هناك، وذكر عقب النفقات الشهادات، وهي مقدمة كما سلف، وكذا ساق الآية الثانية بلفظ (كلو من طيبات ما كسبتم) والتلاوة:{أَنْفِقُوا} بدل {كُلُوا}

(1)

.

وسئل الفضيل بن عياض عمن يترك الطيبات من الجواري واللحم والخبيص للزهد؟ فقال: وما أكل الخبيص بأس، ليتك تتقي الله وتأكل؛ إن الله لا يكره أن تأكل الحلال إذا اتقيت الحرام. والمراد بالطيبات الحلال، وقيل: جيده وطيبه، يؤيده حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما: كانوا يتصدقون بالرديء من ثمرتهم وطعامهم فنزلت الآية الثالثة لهذِه

(2)

.

ولم يختلف أهل التأويل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} أنها نزلت فيمن حرم على نفسه لذيذ

(1)

ورد في هامش الأصل: قوله: وكذا ساق الآية الثانية، صريح في أن ابن بطال صنع (

) كذلك بل هي كذلك في أصلنا ( .... )، وكذا ساقها شيخنا في أول ( .... ) في كلامه كان ساقها أنفقوا.

(2)

قلت: قول المصنف هنا: نزلت في الآية الثالثة ليس بصحيح، والصواب أنها الآية الثانية كما في حديث البراء عند الترمذي (2987) والبيهقي في "سننه" 4/ 136، وقال الترمذي: حسن غريب.

ص: 66

الطعام واللذائذ المباحة. قال عكرمة: إنها نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه حين هموا بترك النساء واللحم، والخصي، وأرادوا التخلي من الدنيا والترهب

(1)

، منهم: علي وعثمان بن مظعون، وقد سلف شيء من هذا في باب: ما يكره من التبتل والخصاء.

ثم ذكر البخاري حديث أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ". قَالَ سُفْيَانُ: وَالْعَانِي: الأَسِيرُ.

هذا الحديث سلف قريبًا في الوليمة بلفظ: "فكوا العاني وأجيبوا الداعي وعودوا المريض"

(2)

.

وأبو وائل اسمه شقيق بن سلمة، وأبو موسى اسمه عبد الله بن قيس بن سليم.

وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا يعنو وهو عان، والمرأة عانية، جمعها عوان، ومنه الحديث:"اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم" كالأسرى

(3)

.

وفيه حديث المقدام: "الخال وارث من لا وارث له؛ يفك عانه"

(4)

(1)

"تفسير الطبري" 5/ 10.

(2)

سلف برقم (5174) كتاب النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة.

(3)

رواه الترمذي (1163)، وابن ماجه (1851) والنسائي في "الكبرى" 5/ 372 من حديث عمرو بن الأحوص وقال الترمذي: حسن صحيح وله شواهد من رواية أبي حرة الرقاشي وعلى بن أبي طالب وغيرهم وحسنه الألباني في "الإرواء"(2030).

(4)

رواه أبو داود (2899) وابن ماجه (2738)، والطيالسي في "مسنده" 2/ 466 - 467 (1246) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 397 - 398، وابن الجارود (965) وغيرهم من طرق عن المقدام، وفي الباب عن عمر وعائشة رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في "إرواء الغليل"(1700) فراجعه فإنه مفيد.

ص: 67

أي: عانيه، فحذف الياء، وفي رواية "يفك عينه". عني يعنو عنوا - وعينًا.

ومعنى الأسر في حديث الخال: ما يلزمه، ويتعلق به بسبب الجنايات التي سبيلها أن تتحملها العاقلة، هذا عند من يورث الخال ومن لا يورثه يقول: معناه طعمة أطعمها الخال لا أن يكون وارثًا، كما قاله ابن الأثير

(1)

.

وفي هذا الحديث الأمر بالمواساة وإطعام الجائع، وذلك من فروض الكفاية. قال الداودي: إلا أن يحتاج الرجل ولا يجد ما يقيمه يحق على من علم ذَلِكَ منه أن يعطيه ما يقيم به شأنه، وله أن يأخذ ذَلِكَ منه كرهًا وأن يختفي به إن لم يقدر عليه إلا بذلك، ومنه إعطاء السائل إن صادف شيئًا موضوعًا كان حقًّا على المسئول أن ينيله منه، وإن لم يجد شيئًا حاضرًا، وعلم المسئول أنه ليس له شيء يقيمه، وجب عليه أن يعينه، وإن لم يعلم حاله فليقل له قولًا رقيقًا. وقد سلف شيء من هذا المعنى في باب: فكاك الأسير من الجهاد.

ثم ساق البخاري حديث محمد بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ واسمه سلمان، مولى عزة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ.

وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، فَاسْتَقْرَأْتُهُ آية مِنْ كِتَابِ اللهِ .. الحديث. وفيه: حَتَّى اسْتَوى بَطْنِي فَصارَ كَالْقِدْحِ .. إلى آخره.

والسند الثاني معطوف على الأول من غير شك، وعند مسلم:

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 314 - 315.

ص: 68

ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله ثلاثًا تباعًا من خبز البر حَتَّى فارق الدنيا

(1)

.

روى المقدام بن معدي كرب مرفوعًا فيما أخرجه الزمخشري في "ربيعه": "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطن، بحسب الرجل من طعامه ما أقام صلبه"

(2)

.

وأخرج من حديث حذيفة مرفوعًا: "من أقل طعمه صح بطنه وصفا قلبه، ومن كثر طعمه سقم بطنه وقسا قلبه"

(3)

. وفي لفظ: "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب؛ فإن القلب ثمرة كالزرع إن كثر عليه الماء انتهى"

(4)

.

فيحتمل أن تركه عليه السلام الشبع لهذا لا للعدم، وأجمعت العرب كما قال فضيل بن عياض على أن الشبع من الطعام لوم، بل نص الشافعي على أن الجوع يدلي. والجهد فيه بضم الجيم وفتحها لغتان، وقال نفطويه: الضم الوسع والطاقة، والفتح المبالغة والغاية.

وقال الشعبي: الضم للمشقة، والفتح القل، وقوله:(فأمر لي بعس من لبن) هو القدح الضخم وجمعه عساس

(5)

.

(1)

مسلم (2976) كتاب: الزهد والرقائق.

(2)

قلت: كذا ذكره الزمخشري في "ربيعه" باب: الطعام وألوانه، والحديث رواه الترمذي في "جامعه"(2380)، وابن ماجه في "سننه"(3349) والنسائي في "الكبرى" 4/ 177، وأحمد 4/ 132 وغيرهم من طرق عن المقدام به مطولًا ومختصرًا، وقال الترمذي: حسن صحيح وحسنه الحافظ في "الفتح" 9/ 528 وصححه الألباني في "الإرواء"(1983).

(3)

كذا ذكره الزمخشري في "ربيعه" باب الطعام وألوانه ولم أقف على من أخرجه.

(4)

قلت: لم أقف على من أخرجه وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" 3/ 71: لم أقف له على أصل وقال الألباني في "الضعيفة"(721): لا أصل له.

(5)

في هامش الأصل و (غ): وأعساس أيضًا.

ص: 69

وقوله: (فشربت حَتَّى استوى بطني فصار كالقدح). هو السهم إذا قوم، وذلك أن السهم أول ما يقطع قطعًا، ثم يبرى يسمى بريًا، ثم يقوم، فيقال: القدح، وهو السهم إذا قوم، وذلك أن السهم يراش ثم يركب نصله، فهو حينئذٍ سهم. والمراد: إن بطنه استوى فامتلأ فصار كالسهم.

وقوله: (قال عمر: والله لأن أكون أدخلتك أحب إلى من أن يكون لي حمر النعم). هذا حث منه، وحرص على فعل الخير والمواساة.

والحمر: لون محمود في الإبل، يريد يملكها ويضعها في سبل الخير، فهي أحسنها وأطهرها جلدًا قال حُنَيْفُ الحناتِم.

الرمكاء

(1)

نهيا والحمراء صُبْرى

والخوَّارة غُزرى والصهباء سرعى

وقالت بنو عبس: ما صبر معنا في حربنا من النساء إلا بنات العم، ومن الإبل إلا الحمر، ومن الخيل إلا الكميت.

وفي حديث أبي هريرة هذا التعريض بالمسألة والاستحياء وذكر الرجل ما كان أصابه من الجهد.

وفي هذا الحديث إباحة الشبع عند الجوع؛ لقوله: (فشربت حَتَّى استوى بطني وصار كالقدح). يعني: السهم في استوائه؛ لأنه لما روي من اللبن استقام بطنه وصار كأنه سهم؛ لأنه كان بالجوع ملتصقًا مثنيًّا.

وفيه: ما كان السلف عليه من الصبر على التقلل وشظف

(2)

العيش والرضا باليسير في الدنيا؛ ألا ترى أن أبا هريرة لم يكن له هم إلا أن يسد

(1)

كذا في (غ) وفي الأصل: (إن مكانتها).

(2)

في هامش الأصل: الضيق والشدة بالشين والظاء المعجمتين والفاء.

ص: 70

عمر جوعه فقط، فلما سقاه الشارع حَتَّى روي أقنعه ذَلِكَ ولم يطلب سواه.

وذلك دال على إيثارهم البلغة من الدنيا وطلبهم الكفاية، ألا ترى قول أبي هريرة:(ما شبع آل محمد من طعامٍ ثلاثًا حَتَّى قبض). ستأتي معاني هذا الحديث وما عارضه في باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكلون.

وفيه: سد الرجل خلة أخيه المؤمن إذا علم منه حاجة من غير أن يسأله ذَلِكَ.

وفيه: أنه كان من عادتهم إذا استقرأ أحدهم صاحبه القرآن أن يحمله إلى بيته، ويطعمه ما تيسر عنده، والله أعلم لِمَ لمْ يحمل عمر أبا هريرة حين استقرأه أبو هريرة لشغل كان به، أو أنه لم يتيسر حينئذٍ ما يطعمه، وقد روي عن أبي هريرة أنه قال: (والله لقد استقرأت عمر الآية، وأنا أقرأ

(1)

منه إلا طمعًا في أن يذهب بي ويطعمني). وهو زائد على ما في البخاري من قوله: (والله لقد استقرأتك الآية وأنا أقرأ لها منك).

وفيه: الحرص على أفعال البر، بأسف عمر على ما فاته من حمل أبي هريرة إلى بيته وإطعامه أن كان محتاجًا إلى الأكل، وأن ذَلِكَ كان أحب إليه من حمر النعم.

(1)

في (غ): (أقرأها) والمثبت من الأصل.

ص: 71

‌2 - باب التَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ وَالأَكْلِ بِالْيَمِينِ

5376 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ: أَخْبَرَنِي أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِى تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا غُلَامُ، سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» . فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.

ذكر فيه حديث عُمَرَ بْنَ أَبِي سلَمَةَ رضي الله عنه: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَمِّ اللهَ (يا غلام)

(1)

، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ". فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ.

هذا الحديث أخرجه بعد بلفظ: فجعلت آكل من نواحي الصحفة

(2)

. وأخرجه مسلم والأربعة

(3)

.

ولأبي داود أنه: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه طعام فقال: "ادن يا بني، وسم الله، وكل بيمينك"

(4)

.

وحديث حذيفة في مسلم يبين له أن الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، ثم ذكر اسم الله وأكل

(5)

.

(1)

من (غ).

(2)

سيأتي في الباب التالي برقم (5377).

(3)

مسلم (2022) كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، وأبو داود (3777)، والترمذي (1857)، وابن ماجه (3267)، والنسائي في "السنن الكبرى" 4/ 174.

(4)

"سنن أبي داود"(3777).

(5)

مسلم (2017) كتاب الأشربة، باب أدب الطعام والشراب وأحكامهما.

ص: 72

وللترمذي مصححًا عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "إذا أكل أحدكم طعامًا فليقل: بسم الله، فإن نسي في الأول فليقل في الآخر: بسم الله في أوله وآخره"

(1)

.

ولمسلم عن جابر مرفوعًا: "إذا دخل الرجل منزله فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء .. " الحديث

(2)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه"

(3)

.

وفي حديث أبي هريرة: "وليأخذ بيمينه وليعط بيمينه"

(4)

.

ولأبي داود عن عائشة رضي الله عنها: كان عليه السلام يأكل طعامًا في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال:"أما إنه لو سمى لكفاكم"

(5)

.

وفي حديث عكراش بن ذؤيب قال: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبطت بيدي في نواحي الصحفة، فقال: "يا عكراش كل من موضع

(1)

"سنن الترمذي"(1858)، وأبو داود (3767).

(2)

مسلم (2018) كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب.

(3)

المصدر السابق (2020).

(4)

رواه ابن ماجه في "سننه"(3266)، وقال البوصيري في "زوائده" ص 423: إسناده صحيح، رجاله ثقات.

وصححه الألباني في "الصحيحة"(1236).

(5)

قلت: هذا لفظ الترمذي (1858) وعزاه المزي في "تحفة الأشراف" 7/ 344 (10016) للترمذي وابن ماجه.

وإنما رواية أبي داود بلفظ "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله .. " الحديث. سبق تخريجه قريبًا.

ص: 73

واحد، فإنه طعام واحد" قال: وأتينا بطبق فيه ألوان الثمر فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق، فقال:"يا عكراش، كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد" أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب تفرد به العلاء بن الفضل

(1)

(2)

.

ولأبي بكر بن أبي عاصم في كتاب "الأطعمة" من حديث أبي سعيد الخدري: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فقال لأصحابه: "اذكروا اسم الله وكلوا" قالوا: فأكلنا فلم تضر أحدًا منا

(3)

.

(1)

في هامش الأصل و (غ) تعليق على هذِه القطعة نصه: قد ذكر شيخنا في الباب الذي بعد هذا الباب: قد أسلفنا حديث عكراش إلى آخر كلام الترمذي، وكتب شيخنا المؤلف بخطه في الهامش تجاه هذا الكلام أي المضروب عليه يدل هذا أن الضرب غير صحيح، والله أعلم، والحديث المشار إليه أخرجه ابن ماجه أيضًا في الأطعمة عن محمد بن بشار وبعضه في الترمذي، وفي تعليق الأصل زاد في بداية العبارة: في النسخة التي نقلت منها مكتوب عليها (لا .... إلى).

(2)

"سنن الترمذي"(1848) ورواه ابن ماجه (3274)، والعقيلي في "الضعفاء" 3/ 125، وابن حبان في "المجروحين" 2/ 183 - 184 كلهم من طريق العلاء بن الفضل، عن عبيد الله بن عكراش، عنه به، وقال ابن حبان في ترجمة العلاء: كان ممن ينفرد بأشياء مناكير عن أقوام مشاهير لا يعجبني الاحتجاج بأخباره التي آنفرد بها، فأما ما وافق فيها فإن اعتبر بذلك معتبر لم أر بذلك بأسًا ثم ساق حديثه، وقال في ترجمة عبيد الله بن عكراش 2/ 62: روى عنه العلاء بن الفضل، منكر الحديث جدًّا، فلا أدري المناكير في حديثه وقع من جهته أو من العلاء بن الفضل، ومن أيهما كان فهو غير محتج به على الأحوال. والحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة"(5098).

(3)

لم أقف على كتاب "الأطعمة" لابن أبي عاصم، والحديث رواه البراز كما في "كشف الأستار"(2424)، والحاكم في "المستدرك" 4/ 109 وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجه. وقال الهيثمي في "المجمع" 8/ 295: رواه البزار، ورجاله ثقات.

ص: 74

ومن حديث أنس: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ويشرب بيمينه"

(1)

. ومن حديث جابر رضي الله عنه: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل أحدنا بشماله

(2)

.

ومن حديث حفصة وسلمة بن الأكوع نحوه

(3)

، ومن حديث سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يأكل "ضع ما في يدك ثم سم الله وكل من أدناها تشبع"

(4)

.

ومن حديث واثلة فذكر حديثًا فيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا وسموا الله". ولابن طاهر في "صفة التصوف" من حديث عبيد الله بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه" الحديث

(5)

.

وللطبري من حديث أبي قتادة بإسناد جيد: نهى صلى الله عليه وسلم أن يعطي الرجل بشماله شيئًا، أو يأخذ بها شيئًا.

(1)

رواه أحمد 3/ 202، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 131، وأبو يعلى في "مسنده" 7/ 260 - 261 والطبراني في "الأوسط" 2/ 62 (1253) واللفظ لأبي يعلى.

(2)

رواه مسلم (2019) كتاب الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما.

(3)

رواه مسلم (2021) كتاب الأشربة، باب: آداب الطعام .. من طريقه زيد بن الحباب عن عكرمة بن عمار، عن إياس عنه.

(4)

رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 6/ 203 - 204 (3434)، والطبراني 24/ 300، وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 22 - 23: رواه الطبراني ورجاله ثقات.

(5)

رواه ابن ماجه في "سننه"(3276)، وأحمد 3/ 490 دون ذكر البسملة، والطبراني 22/ 90 - 91، والحاكم في "المستدرك" 4/ 116 - 117 بمثل حديث ابن ماجه، وضعف البوصيري في "الزوائد" ص 424 إسناد واثلة عند ابن ماجه وذكر له شواهد عن ابن عباس وعبد الله بن بشر وصححه الألباني في "الصحيحة"(2030) بالمتابعات والشواهد.

ص: 75

إذا تقرر ذَلِكَ فالحاصل مسألتان: التسمية على الطعام: وهو سنة مؤكدة في الابتداء بالإجماع، ويستحب الجهر بها للتنبيه، ويستحب ختمه بالحمد جهرًا، ويعقبه بالصلاة على نبيه، فإن ترك التسمية عامدًا أو ناسيًا أو جاهلاً أو مكرهًا أو عاجزًا لعارض ثم تمكن في أثناء أكله تدارك استحبابًا، وليقل باسم الله أولاً وآخرًا، كما روي في الحديث.

وتحصل التسمية بقوله: بسم الله، فإن أتبعها بالرحمن الرحيم كان حسنًا، ويسمي كل واحد من الآكلين، فإن سمى واحد منهم حصلت التسمية.

وعند أهل الظاهر أن التسمية على الآكل فرض كما ستعلمه

(1)

.

الثانية: الأكل باليمين، وقد جاء أن الشيطان يأكل بشماله. وفي "المصنف" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأكل بالشمال يورث النسيان

(2)

، وهو محمول على الندب؛ لأنه من باب تشريفها، وأقوى في الأعمال وأسبق وأمكن، ولأنها مشتقة من اليمن والبركة وشرف الله أهل الجنة بأن نسبهم إليها، فمن الأدب اختصاصها بالأعمال الشريفة كما جاء في حديث أبي داود: يجعل يمينه لطعامه وشرابه وشماله لما سوى ذَلِكَ

(3)

، ونهى عن الاستنجاء بها كما أخرجه مسلم من حديث سلمان الفارسي

(4)

.

(1)

انظر: "المحلى" 7/ 424.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 131.

(3)

رواه أبو داود في "سننه"(32) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(25).

(4)

مسلم (262) كتاب الطهارة، باب الاستطابة.

ص: 76

فإن احتيج إلى الاستعانة بالشمال فبحكم التبعية فروي عنه عليه السلام أنه أكل الرطب بالبطيخ أحدهما في يد والآخر في اليد الأخرى

(1)

.

وذكر الطبري عن أبي الجنوب أن عليًّا رضي الله عنه أخذ كبدًا مشوية بيده ورغيفًا بيده الأخرى فأكل.

فصل:

معنى: (تطيش في الصحفة) تجول في سائرها وتتناول من كل جانب، وأصل الطيش: الحفة.

وقوله: (فما زالت تلك طعمتي). هو بكسر الطاء أي: لزمت ذَلِكَ وصار دأبي.

فائدة:

عمر هذا هو ابن أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي ابن أم سلمة، ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله أحاديث توجب له فضل الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطال عمره

(2)

.

(1)

رواه الطبراني في "الأوسط" 8/ 44، والحاكم في "المستدرك" 4/ 120 - 121 والبيهقي في "الشعب " 5/ 111 من طريق يوسف بن عطية، عن مطر الوراق، عن قتادة، عن أنس به، وقال الحاكم: تفرد به يوسف بن عطية ولم يحتجا به وإنما يعرف هذا المتن بغير هذا اللفظ من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الذهبي في "التلخيص": يوسف واه، وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 38: فيه يوسف بن عطية الصفار وهو متروك. وقال العراقي في "تخريج الإحياء" 2/ 368، والعجلوني في "كشف الخفاء" 1/ 174 (517): في سنده يوسف بن عطية الصفار مجمع على ضعفه.

(2)

ورد بهامش الأصل: ولد بالحبشة وتوفي سنة 83.

ص: 77

‌3 - [باب] الأَكْلِ مِمَّا يَلِيهِ

وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ» . [انظر: 5163].

5377 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ الدِّيلِيِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ -وَهْوَ: ابْنُ أُمِّ سَلَمَةَ- زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَكَلْتُ يَوْمًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا، فَجَعَلْتُ آكُلُ مِنْ نَوَاحِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«كُلْ مِمَّا يَلِيكَ» . [انظر: 5376 - مسلم: 2022 - فتح: 9/ 523].

5378 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ وَمَعَهُ رَبِيبُهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالَ:«سَمِّ اللهَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» . [انظر: 5376 - مسلم: 2022 - فتح: 9/ 523]

هذا أخرجه ابن أبي عاصم في "الأطعمة" له حَدَّثنَا هدبة: ثَنَا مبارك ثنا بكر و (ابن ثابت)

(1)

، عن أنس به وأصله في الصحيحين.

ثم ساق حديث عمر بن أبي سلمة، وهو ابن أم سلمة وقد سلف، وفي لفظ: أُتِيَ بِطَعَامٍ وَمَعَهُ رَبِيبُهُ عُمَرُ بْنُ أَبِي سلَمَةَ، فَقَالَ:"سَمِّ اللهَ، وكل بيمينك وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ".

(الشرح)

(2)

:

وقد أسلفنا حديث عكراش

(3)

في الباب قبله من عند الترمذي وقال:

(1)

في (غ): ثابت.

(2)

من (غ).

(3)

في هامش الأصل: وتقدم في كلامي في الهامش أن (

) في ابن ماجه أيضًا.

أخرجه غير محمد بن بشار (

).

ص: 78

غريب. تفرد به العلاء بن فضل

(1)

.

ثم ترجم البخاري بعده: باب مَنْ تَتَبَّعَ حَوَالَيِ القَصعَةِ مَعَ صَاحِبِهِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ كَرَاهِيَةً.

ثم ساق حديث أنس رضي الله عنه في الخياط وأنه عليه السلام تتبع الدباء من حوالي القصعة.

وقد سلف في أوائل البيوع

(2)

.

وحمل ابن التين الأول على ما إذا أكل مع غير خدمه وعياله، والثاني إذا أكل مع خدمه وهو أنس، والخياط كان أيضًا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي في باب الدباء

(3)

.

وقد أجاز مالك أن يأكل الرجل في أهله وتجول يده في القصعة، وهذا إذا كان الذي في الإناء شيئًا واحداً، فإن كانت أنواعًا فلا بأس أن يأكل مما يلي غيره.

وعبارة ابن بطال فيه أن الأكل مما يليه من أدب الطعام إلا أن يكون ألوانًا مختلفة فلا بأس أن يأكل من أيهما شاء؛ لقوله لعكراش لما أتوا بطبق من تمر (ورطب)

(4)

: "كل من حيث شئت؛ فإنه غير لون واحد".

ذكره ابن المنذر في كتاب "الأطعمة".

وذكره الترمذي كما سلف.

(1)

سبق تخريجه قريبًا وبينا ضعفه.

(2)

سلف برقم (2092) باب: ذكر الخياط.

(3)

سيأتي برقم (5433).

(4)

من (غ).

ص: 79

وقال: لا نعرف لعكراش عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواه

(1)

.

وذكر القرطبي أن الأكل بما يليه سنة متفق عليها، وخلافها مكروه شديد الاستقباح إذا كان الطعام واحداً

(2)

كما في الحديث.

لكن نص الشافعي في "الأم" و"الرسالة" والبويطي على تحريم الأكل من غير ما يليه، ومن رأس الطعام إذا كان عالمًا بالنهي

(3)

.

والدباء- ممدود- جمع دباءة، وحكي القصر.

فصل:

أذكر فيه آدابًا للطعام في فصول متفرقة: قال ابن حزم: التسمية على الأكل فرض

(4)

.

واعلموا أن الآدمي مخلوق على جبلة الأكل موظف عليه وظائف من حين أوله إلى حين تناوله، وأمره الله بعبادته، وأذن له في التمتع بطيباته فقال:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ، وقال:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} .

روى ابن أبي عاصم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا أكلت اللحم انتشرت إلى النساء فحرمه علي، فنزلت هذِه الآية

(5)

.

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

انظر "المفهم" 5/ 298.

(3)

"الأم" 7/ 266.

(4)

"المحلى" 7/ 424.

(5)

رواه الترمذي في "سننه"(3054)، والطبراني 11/ 350 وابن عدي في "الكامل" 6/ 290 وغيرهم من أهل التفسير كابن جرير وابن مردويه وآخرون.

ص: 80

فإذا حصل الطعام في حد التناول فعلى الآكل آداب تنقسم إلى حالات الطعام فيما يتقدم على الأكل: وهو أن يتناول شراءه بنفسه، وأن يعمله بنفسه، وأن يكون حلالًا طلقًا.

ومن جهة كسبه؛ احترازًا من البيع الفاسد وشبهه، وفي "الأطعمة" للدارمي

(1)

أنه عليه السلام قال: "أيما رجل كسب مالاً من حلال فأطعمه نفسه أو كساها، ممن رأيتم من خلق الله، فإنه له زكاة"

(2)

.

قال: وألا يكون رشوة، ولا عوضًا عن فاسد، ولا بيد مبتدع، ولا ظالم، ولا ربوي، ولا تاجر، ولا من يغلب على مكسبه الحرام. فإن قدمه له صالح فلا يسأل عنه، وأن يرى النعمة في حصوله من الله، وأن يأكله بنية التقوي على الطاعة.

فإن نوى اللذة أجزأه، وجاز له أن يري للمنعم الشكر؛ فإنه يقال: إن الطعام الواصل كان على يد ثلاثمائة وستين صانعًا أولهم ميكائيل.

فصل:

وأن يغسل يديه في أوله للنظافة والمروءة، وإن كان الحديث فيه ضعف:"غسل اليد قبل الطعام يتقي الفقر وبعده يتقي اللمم"

(3)

، وقد ضعفه ابن الجوزي.

نعم لابن أبي عاصم: "بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده"،

(1)

هو عثمان بن سعيد الدارمي وستأتى ترجمته 26/ 491.

(2)

لم أقف على من أخرجه من طريقه، وقد رواه ابن حبان في "صحيحه" 10/ 48 (4236)، والحاكم في "المستدرك" 4/ 129 - 130 والبيهقي في "الشعب" 2/ 86 مطولًا ومختصرًا وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2239).

(3)

لم أقف عليه.

ص: 81

وأصله في "جامع الترمذي"

(1)

: فإن لمح بعضهم فيه الوجوب قيل له: ليس كما زعمت؛ لأنه صح عند مسلم أنه عليه السلام خرج من الخلاء فأُتِيَ بطعامٍ فقيل: ألا تتوضأ؟ فقال: "أأصلي فأتوضأ"

(2)

. وينوي بغسلها العبادة؛ لأنه إذا نوى كالأكل التقوي على الطاعة كان التأهب بالغسل له غناء، ويغسل يديه أيضًا بعد الأكل وغسلها (بعد الأكل وغسلها)

(3)

مالك أول القوم وآخرهم قال: هو الأولى.

فصل:

وأن يجعل طعامه على الأرض دون خوان. كما جاء في الحديث: لم يأكل عليه السلام على خوان. فإن لم تطمئن بذلك نفسه وضعه على سفرة، وإن وضعه على مائدة جاز، وإن كانت بدعة ولا كراهة، ولا يباشر به الأرض؛ لئلا يتعلق به شيء -والعياذ بالله- يتأذى منه، وكان عليه السلام لا يأكل إلا على السُّفَر.

فصل:

وأن يجلس على الأرض وينصب رجله اليمنى ويعتمد على اليسرى، ولا يضطجع.

(1)

"سنن الترمذي"(1846)، ورواه أبو داود (3761)، وأحمد 5/ 441 والحاكم في "المستدرك" 4/ 106 - 107 وقال أبو داود: وهو ضعيف، وقال الترمذي غريب. وقال الحاكم: تفرد به قيس بن الربيع عن أبي هاشم الرماني وانفراده على علو كله أكثر من أن يمكن تركه في هذا الكتاب وتعقبه الذهبي بقوله: مع ضعف قيس فيه إرسال، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(168).

(2)

مسلم برقم (374/ 119) كتاب: الحيض، باب: جواز أكل المحدث الطعام وأنه لا كراهة في ذلك.

(3)

كذا في الأصول، ولعلها مكررة.

ص: 82

فصل:

وأن يبدأ بالملح ونحوه، ذكره ابن طاهر في "صفة التصوف" من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا علي، ابدأ بالملح واختم به فإن فيه شفاء من سبعين داءٍ"

(1)

ثم قال: وسنده ضعيف.

فصل:

ولا يديم أكل اللحم؛ لأن عمر وعائشة رضي الله عنهما نهيا عن ذَلِكَ

(2)

.

فصل:

ولا يأكل وذو عينين ينظر إليه، وقد ورد مرفوعًا:"من فعل ذَلِكَ ابتلي بداء لا دواء له".

فصل:

ولا يأكل حَتَّى يجوع، لا كما يزعم بعض الجهلة أنهم يأكلون بالعادة، ولهذا قيل لبعضهم: أي طعام أطيب؛ قال: الجوع أعلم.

فصل:

وأن يرضى بما تيسر ولا يتكلف ولا يأكل وحده؛ إذا أكل مع عياله كان أدفع للكبر

(3)

، كما جاء في حديث عند ابن أبي عاصم.

(1)

رواه أيضًا الحارث بن أبي أسامة كما في "بغية الباحث" ص 151 - 152 (468) والحديث كما نقل المصنف: سنده ضعيف.

(2)

رواهما ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 140 (24520)، (24521).

(3)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان" موقوفاً على جابر بن عبد الله 5/ 153.

ص: 83

وأن تكثر الأيدي على الصحفة وأكثرهم ثمانية

(1)

. ذكره ابن أبي عاصم في حديث، وإن كانوا عشرة جاز، ذكره البيهقي في حديث

(2)

.

فصل:

ولا يتعود طعامًا واحداً، فإن عمله له غيره أجلسه ليأكل معه، وإلا فليناوله لقمة أو لقمتين، كما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة

(3)

.

فصل:

ولا يأكل في آنية مجوسيِّ إلا بعد غسلها؛ كما ثبت في "الصحيح"

(4)

.

فصل:

ويجوز أن يجمع على مائدته بين لونين وإدامين، لا كما يزعمه بعض الصوفية، ويذكرون فيه حديثًا غير صحيح، والصواب ما ذكرناه.

فصل:

وأن يعدد العُراق على الخادم؛ ليدفع عن نفسه سوء الظن، كذا كان يفعله سلمان.

فصل:

وأن يصغر لقمته ويطيل مضغها، ولا يمد يده إلى أخرى ما لم يبلعها

(1)

روى نحو هذا الدارمي في "سننه" 1/ 186 (43) من حديث جابر بن عبد الله.

(2)

"السنن الكبرى" 7/ 273، و"شعب الإيمان" 5/ 95.

(3)

سلف عند البخاري برقم (2557) كتاب: العتق، باب: إذا أتاه خادمه بطعامه، ومسلم (1663) كتاب: الإيمان، باب: إطعام المملوك.

(4)

قلت: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما فيه ذكر آنية أهل الكتاب وليس ذكر آنية المجوسي وإنما رواها أبو داود في "سننه"(2857) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2544).

ص: 84

وإن كان التاريخي

(1)

ذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأكل كل يوم (إحدى)

(2)

وعشرين لقمة، كل لقمة كرأس الجدي، منها سبعة بملح.

فهذا بالنسبة إلى طَول عمر، وعجلته للنظر في مصالح المسلمين، وفي "الموطأ" أنه كان يطرح له عن عشائه صاع من التمر فيأكله ويأكل معه حشفه

(3)

.

وفي "ربيع الأبرار" كان معاوية بن أبي سفيان يأكل كل يوم سبع مرات أعظمهن ثريدة في جفنة على وجهها عشرة أفنان من البصل.

فصل:

وأن يأكل بنصف بطنه وإن كان رخاء، عكس ما قال القائل: كلوا في نصف بطونكم تعيشوا فإن زمانكم زمن خميص.

وفي الحديث: "ثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس"

(4)

.

وذكر المهلب أن عمرَ همَّ سنة المجاعة أن يجعل مع أهل كل بيت مثلهم وقال: لن يهلك أحد عن نصف قوته.

(1)

هو أبو بكر محمد بن عبد الملك السراج ويعرف بالتاريخي ولقب به؛ لأنه كان يعني بالتواريخ وجمعها، حدث عن الحسن الزعفراني، وأحمد بن منصور الرمادي.

روى عنه أبو طاهر الذهلي قاضي مصر. قال الخطيب: كان فاضلًا أديبًا حسن الأخبار، كان مليح الروايات. توفي سنة 300 هـ تقريبًا وانظر:"تاريخ بغداد" 2/ 348. و"تاريخ الإسلام" 22/ 278.

(2)

في الأصل: أحدًا، والمثبت هو الصحيح الموافق للقواعد النحوية، والله أعلم.

(3)

"الموطأ" ص 580.

(4)

رواه الترمذي (2380)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 177 وأحمد 4/ 132 وابن حبان 12/ 41 (5236)، والحاكم 4/ 121 من حديث المقدام بن معدي كرب، وحسنه الحافظ في "الفتح" 9/ 528.

وصححه الألباني في "الإرواء"(1983).

ص: 85

فصل:

وأن يجيد المضغ، ولا يذم طعامًا، ويقدمه على الصلاة إذا كان صائمًا ونفسه تتوق إليه، كما في الحديث، وألا ينظر إلى غيره؛ فإنه شر وبله، ويبدأ بالأكل إذا كان رب المنزل أو من يقتدى به، وأن يقدم لطيف الطعام كالفاكهة وشبهها قبل ثقيله -نص عليه أبقراط- ثم اللحم ثم الحلاوة (يختم بها)

(1)

.

ولا يجعل على الخبز زفرًا يتقزز من أكله غيره، فإن الحاكم صحح:"أكرموا الخبز"

(2)

(3)

.

فصل:

وأن يأكل بيد واحدة إلا أن يكون طعام يدين، كان حسان بن ثابت إذا دعي إلى الطعام قال: طعام يد أو يدين؟ فإن قالوا: يدين جاء، وإلا لم يأت.

فصل:

وأن يأكل باليمين كما سلف، وأن يأكل بثلاث أصابع، وإن شاء بخمسة، ذكره ابن أبي شيبة في "مصنفه"

(4)

.

(1)

من (غ).

(2)

في هامش الأصل: (

) شيخنا العراقي "تخريج أحاديث الإحياء": البزار والطبراني وابن قانع من حديث عبد الله بن أم حرام بإسناد ضعيف جدًا وذكره ابن الجوزي في الموضوعات.

(3)

رواه في "المستدرك" 4/ 122 مطولًا من حديث عائشة رضي الله عنها وقال الذهبي في "التلخيص": المرفوع منه أكرموا الخبز، وانظر تعليق الألباني في "الضعيفة" 6/ 424.

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 134 (24455)، (2446)، (24457).

ص: 86

وأن ينهس اللحم، وإن وقعت عنه لقمة أماط ما عليها من الأذى وأكلها؛ ولا يدعها للشيطان. ولا ينفخ في الطعام، يدعه حَتَّى يبرد؛ فإن الحار لا بركة فيه.

فصل:

ويقابل بين الأطعمة يضم ثقيلًا إلى خفيف، ورطبًا إلى يابس، وحارًا إلى بارد، وأن يأكل من الخبز بيدين إن كان قفارًا

(1)

، وإن كان بإدام نقص منه بمقدار الطعام. ولا يسرف، وعلامته أن يرفع يده وهو يشتهيه، فقد ذكر أن عبد الله بن المغفل قيل له إن ابنك أكل طعامًا كاد يقتله فقال: لو مات ما صليت عليه.

وقال الحسن: إن الأرض لتضج إلى الله من الضخم، كما تضج من السكران. قال الروياني: ويكره أن يزيد على قدر الشبع.

وهو ما ذكره الرافعي في أواخر الأطعمة، وفي "الحاوي" تحريمه، وهو ما اقتضاه كلام الشيخ عزَّ الدين

(2)

قال: ولا يأكل فوق ما يقتضيه العرف في المقدار. قال: وكذا لو كان الطعام قليلاً فأكل لقمًا كبارًا مسرعًا في مضغها وابتلاعها حَتَّى يحرم أصحابه.

فصل:

قد أسلفنا أن السنة الأكل باليمين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل بشماله أو يشرب بشماله. وقال:"إن الشيطان يفعل ذَلِكَ"

(3)

وقد أسلفناه، وقد رواه مالك وعبيد الله وابن عيينة، عن الزهري، عن

(1)

في هامش الأصل، (غ): القفار بفتح القاف مخفف وآخره راء الخبز بلا أدم.

(2)

في هامش الأصل: يعني: ابن عبد السلام السُلمي الدمشقي الشافعي.

(3)

مسلم (2020) كتاب الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما. بلفظ: "فإن الشيطان يأكل بشماله".

ص: 87

سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يخرجه البخاري؛ لأنه قد رواه معمر وعقيل عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، ورواية مالك أصح، كما قاله الترمذي

(1)

.

وذكره أيضًا الطبري من حديث ابن عمر عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الطبري فيه: أنه لا يجوز الأكل والشرب باليد اليسرى، إلا لمن كانت بيمنى يديه علة مانعة من استعمالها، ومثله الأخذ والإعطاء بها والرفع والوضع والبطش، وقصة عليِّ السالفة لا تدفعه؛ لأنه إنما يدل على استعمال اليسرى في وقت شغل اليمنى بالطعام، وإذا كانت كذلك فصاحبها معذور في أعماله الأخرى فيما هو محظور عليه إعماله ما فيه في غير حالة العذر، كما لو كانت مقطوعة لكان له استعمال اليسرى في مطعمه ومشربه، وما كان محظورًا عليه استعمالها فيه، وبنحو ذَلِكَ جاء الخبر عن عمر رضي الله عنه حَدَّثَنَا سوار بن عبد الله، أنا يحيى بن سعيد، عن عمارة بن مطرف، حَدَّثَني يزيد بن أبي مريم، عن أبيه قال: رأى عمر رجلاً قد صوب يده اليسرى؛ ليأكل بها فقال: لا، إلا أن تكون يدك معتلة

(2)

. فرأى عمر أن من كانت يده معتلة إباحة اليسرى، وقد روي عن نافع مولى ابن عمر وعطاء قالا: لا تأكل بشمالك، ولا تصدق بها.

وروى ابن وهب عن عمر بن محمد بن زيد قال: كان نافع يزيد فيها ولا يأخذن بها ولا يعطين. يعني: الشمال، وعن جرير بن حازم، عن هشام بن أبي عبد الله، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة،

(1)

"سنن الترمذي" عقب حديث (1799).

(2)

لم أقف عليه في المطبوع من "تهذيب الطبري" والحديث رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 132 من طريق يحيى بن سعيد به.

ص: 88

عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يعطى الرجل بشماله شيئًا أو يأخذ شيئًا

(1)

.

فصل:

وألا ينهش النهشة ثم يردها في الصحفة، ويأكل في الملأ كأكله في الخلوة، ولا يأكل في سُكُرُّجَة

(2)

، ولا خبزًا مرققًا للاتباع، فإن فعل فلا حرج، ولا يأكل في آنية ذهب ولا فضة؛ للنص

(3)

، ولا في رفيع نوعه كالياقوت وشبهه، فإن انتهى أكله بلفظه فأسقط عن الفتات، ذكر أبو هلال العسكري في كتاب "البقايا": أن أبا حنيفة كان يسميه الرغم، وفي "ربيع الأبرار" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لقط ما حول الخوان حرم الله جسده على النار" وفي لفظ: "عوفي في ولده وولد ولده من الحمق، وعاش في سعة"

(4)

.

فصل:

ويمسح أصابعه بعد لعقها بالمنديل، وقال مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يمسحها (برحله)

(5)

. وأن يستعمل الأشنان، ويأخذه بيمينه، كما فعله بشير السلمي، وكانت له صحبة ذكره ابن طاهر وإن كان ابن العربي قال: لست أدري من أين قاله أصحابنا.

(1)

رواه ابن حبان في "صحيحه" 12/ 32 (5228).

(2)

هي إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأُدْم، وهي فارسية. انظر:"النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 384.

(3)

سيأتي برقم (5426) كتاب الأطعمة، باب: الأكل في إناء مفضض.

(4)

قلت: ورواه القضاعي في "مسنده" 1/ 316 - 317 (533) ورواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 178 - 179: لا يصح وقال الخطيب: عبد الصمد قد ضعفوه.

(5)

في (س): (برجله).

ص: 89

وأن يتمضمض مضمضة بالغة، صححه ابن حبان

(1)

.

وقال الغزالي: كيفيته أن يغسل الأصابع الثلاث من اليمنى أولاً ويضرب أصابعه على الأشنان اليابس، ويمسح به شفتيه، ولا يكره الغسل في الطست، وله أن ينخنم فيه إن كان وحده، وأن يقدم المتبوع ويكون الخادم قائمًا. ويصب صاحب المنزل الماء على يدي ضيفه

(2)

.

فصل:

ومن آدابه: حمد الله في آخر الأكل والشرب جهرًا مع الصلاة كما سلف، فيقول: الحمد لله حمدًا طيبا مباركًا فيه غير مكفي ولا مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا. كما سيأتي في الباب الذي عقده له

(3)

.

فصل:

و (قد سلف أن)

(4)

من آدابه أن يبسمل أولاً، وتكفي التسمية من واحد، وقال الغزالي: يقول مع اللقمة الأولى: بسم الله، ويزيد في الثانية: الرحمن، والثالثة: الرحيم

(5)

.

فصل:

وأن يناهدوا على الطعام وهي المخارجة وتسمى النهد بكسر النون وفتحها، كما ذكره عياض، وفسره القابسي بطعام الصلح بين القبائل، والأول أعرف

(6)

، وقال الحسن: أخرجوا نهدكم؛ فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم.

(1)

"صحيح ابن حبان" 3/ 429 (1152).

(2)

"إحياء علوم الدين" 2/ 9 - 11.

(3)

سيأتي برقم (5458)، باب: ما يقول إذا فرغ من طعامه.

(4)

من (غ).

(5)

"إحياء علوم الدين" 2/ 6.

(6)

"مشارق الأنوار" 2/ 30.

ص: 90

وأول من فعلها -كما نقله التاريخي في "مناهدته" عن ابن المدائني وابن الكلبي- حصين بن المنذر أبو ساسان الوقاشي، وقال قتادة: ما أفلس المتلازمان. يعني: المتناهدين وقد سلف الكلام عليه في الشركة.

فصل:

يقدم الخبز عند ضيفه قبل ذَلِكَ بيوم، ويقدم إليهم نزلًا يسيرًا؛ ليأتي بما أعده جملة واحدة يتفق جميعه على جميعه، فإن لم يتفق الإتيان بجميعه أعلمهم به. ولا يصف لهم طعامًا ليس عنده، ولا يدخر عنهم شيئًا، ويقدم ضيفه على عياله؛ كما فعل أبو طلحة وأم سليم بأبي هريرة، كما ذكره الطبراني في "أوسطه"

(1)

، وبعضهم كرهه ولا اعتبار به، ولا ينتظر بالخبز إذا حضر غيره، بل يبادر إلى أكله.

فصل:

ويجمع في مائدته بين فقير وغني، ويحدث الآكلين عنده، وأن تخدمهم أهله، ولا يجعل على مائدته قائما يأكل ما يشتهي، فإن تركه إيثارًا جاز.

فصل:

وكره بعضهم القِران، ولا كراهة فيه؛ لأن النهي عنه إنما كان لضرورة، وقد زالت، ذكره ابن شاهين في "منسوخه"

(2)

: إلا أن يكونا متناهدين، وذكر الرافعي والنووي في "الروضة" أنه لا بأس بالقران

(1)

"المعجم "الأوسط" 3/ 317 (3272) قلت: وهو في البخاري وسلف برقم (3798) كتاب مناقب الأنصار، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "أصلح الله الأنصار والمهاجرة".

(2)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" 1/ 438 - 439.

ص: 91

بين التمرتين

(1)

ونحوهما. وفصل في غير "الروضة" بين الطعام المشترك وغيره

(2)

.

فصل:

وأن يجتمعوا على الطست خلافًا لما يصنعه الأعاجم، قال عليه السلام فيما ذكره ابن طاهر:"أترعوا الطسوس وخالفوا المجوس"

(3)

. وأن يمسح عينه ببلل يده، ولا ينفض يده، وفي الحديث:"إذا توضأتم فأشربوا أعينكم الماء"

(4)

وأن يتخلل بعد فراغه.

وفي الحديث: "حبذا المتخللون من الطعام؛ فإنه ليس شيء أشد على الملك الذي مع العبد من أن يجد من أحدكم ريح الطعام"

(5)

وإن أكل ما يخرج من أسنانه بلسانه، فلا حرج عليه، وفيه حديث في أبي داود

(6)

.

(1)

"روضة الطالبين" 7/ 340.

(2)

"مسلم بشرح النووي" 13/ 228 - 229.

(3)

لم أقف عليه لابن طاهر والحديث رواه البيهقي في "الشعب" 5/ 71 والخطيب في "تاريخ بغداد" 5/ 9 وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1552).

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في "علله" 1/ 36، وابن حبان في "المجروحين" 1/ 203، وابن عدي في "الكامل" 2/ 238 - 239، وقال ابن أبي حاتم: حديث منكر والبختري ضعيف الحديث وأبوه مجهول. وقال ابن عدي في ترجمة البختري: عامة أحاديثه مناكير. وأورد ابن حجر في "التلخيص" 1/ 99: طريق ابن طاهر في صفة التصوف وقال: هذا إسناد مجهول ولعلي ابن أبي السري حدث به من حفظه فوهم في اسم البختري بن عبيد وقال الألباني في "الضعيفة"(903): موضوع.

(5)

رواه أحمد 5/ 416، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 1/ 20 (97)، والطبراني 4/ 177 وغيرهم، بعضهم مطولًا وبعضهم مختصرًا وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 235، 5/ 30: ورواه أحمد والطبراني وفي إسنادهما واصل بن عطاء الرقاشي وهو ضعيف. وضعفه الألباني في "الإرواء"(1975) دون قوله "حبذا المتخللون" فإنه يميل إلى تحسينها لشواهدها.

(6)

رواه أبو داود (35) وغيره وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(8).

ص: 92

ولا يكره الأكل ماشيًا؛ فعله ابن عمر والشارع أيضًا وهو يمشي إلى الصلاة. والمختار أن الشرب قائمًا بلا عذر خلاف الأولى. قال الغزالي: ويكره الأكل قائمًا، وصرح النووي به في "فتاويه" أنه لا يكره

(1)

. أعني: الشرب قائمًا، وخالف في "شرح مسلم" وقال: الصواب أن النهي محمول على الكراهة وفعله له؛ لأجل البيان، ويستحب أن يتقيأ

(2)

.

فإن أكل تمرًا فلا بأس بتنقيته. وفيه حديث في أبي داود

(3)

.

فصل:

ولا يأكل من طعام لم يُدْعَ إليه. وفي الحديث أنه دخل فاسقًا وأكل حرامًا، رواه أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما

(4)

وأن يلحس القصعة

(1)

قلت: الذي في "فتاوى الإِمام النووي" المسمى بـ "المسائل المنثورة" ص 73: كراهة الشرب قائمًا من غير حاجة، وجواز الأكل قائمًا لحاجة ولا يقال بكراهته دون عذر وإنما هو مخالف للأولى.

(2)

"مسلم بشرح النووي" 13/ 195.

(3)

رواه أبو داود (3832) عن أنس قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بتمر عتيق فجعل يفتشه يخرج السوس منه.

(4)

حديث أبو هريرة رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" 4/ 93 - 94 موقوفَّاَ مطولًا بزيادة يصح مرفوعه قال الدارقطني في "العلل" 8/ 157: ورفعه الأرغياني محمد بن المسيب عن أزهر بن جميل عن محمد بن مسور عن روح والصواب موقوف وضعفه المتقي الهندي في "تذكرة الموضوعات " ص 67.

وحديث عائشة رواه البزار كما في "كشف الأستار"(1244) والطبراني في "الأوسط" 8/ 160 (8270) والبيهقي في "سننه" 7/ 265 وقال: وقد قيل: عن بقية عن يحيى بن خالد عن روح عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة، وهو بإسناديهما لم يروه عن روح بن القاسم غير يحيى بن خالد وهو مجهول من شيوخ بقية. ولبقية فيه إسناد آخر مجهول وفي حديث ابن عمر كفاية. وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 55: رواه البزار والطبراني في "الأوسط" وفيه: يحيى بن خالد وهو مجهول، قلت: وفي الباب عن ابن عمرو الذي أشار إليه البيهقي وقال: فيه كفاية،=

ص: 93

فإنها تستغفر له، ذكره الترمذي

(1)

، وفي كتاب رزين فتقول: أعتقك الله كما أعتقتني من الشيطان.

فإن سقط في طعامه ذباب فلا يتقزز منه وليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء؛ وأنه يقدم الداء كما صرح.

فصل:

فإن أكل معه ذو عاهة فلا يتقزز منه؛ إن سهل ذَلِكَ عليه؛ ولم يخف العدوى، وليقل كما قال الشارع في كتاب أبي داود:"كُلْ ثقة بالله وتوكلًا عليه"

(2)

وفعله أيضًا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وإن خشي ذَلِكَ فلا يأكل معه، وليفر منه كفراره من الأسد.

فصل:

فإن كان الآكل ضيفًا فليتوق تسعة وعشرين عيبًا، رويناها في كتاب

"فوائد الموائد": التشوف إلى الباب لمجئ الطعام، وعد الزبادي إذا حضرت، والزحف إلى الأكل من قبل الإذن، وإذا أكل لا يجرف لقمته من جهة الزبدية إلى الجانب الآخر، ولا يجعل اللقمة في فمه يرشفها ويسمع لها حس، ولا ينفض أصابعه وهو يأكل، ولا يهتدم

= رواه أبو داود والبيهقي وتعقب ابن التركماني البيهقي فقال: كيف يكون فيه كفاية ثم نقل تضعيف الأئمة لدرست. والحديث ضعفه الألباني من طريق عائشة وابن عمر الهندي في "تذكرة الموضوعات" ص 67 والألباني في "الإرواء"(1954).

(1)

رواه الترمذي (1804)، وابن ماجه (3271، 3272) وغيرهم وقال الترمذي: ريب وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(5478)، "ضعيف ابن ماجه"(703، 704).

(2)

رواه أبو داود في "سننه"(3925)، والترمذي (1817)، وابن ماجه (3542) وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1144) و"ضعيف ابن ماجه"(776).

ص: 94

اللقمة بأسنانه ثم يضعها في الصحفة، ولا ينتهب في وجوه جلسائه؛ ليأكل ما بين أيديهم من اللحم، ولا يلت اللقمة بأصابعه قبل وضعها في الطعام، ولا يمد يده ميمنة وميسرة يأخذ الزبادي واللحم، ولا يتخلل بأظفاره، ولا يحمل معه شيئًا من المائدة. ولا يرنخ اللقمة في المرق؛ ليسهل بلعها، ولا يوسخ جاره والخبز، ولا يفتش على اللحم بأصابعه، ولا يكشف شواربه من الودك باللقمة ثم يأكلها، ولا يملأ الطعام لبابًا، ولا يسيغ الطعام بإمجاج (

)

(1)

حتى يبرد في الزبدية، ولا ينفخ فيه -أي: في الطعام الحار- ولا يحمي من يديه الزبادي عن غيره، ولا يجنح؛ ليوسع على نفسه، ولا يذكر حين الأكل أحاديث تغثى منها الأنفس.

والأدب: التحدث على الطعام بما لا إثم فيه، ولا يرفع يديه من قدامه ويضع مكانها غيرها، وإذا غسل يده لا يتحدث فيشغل الخادم عن خدمة غيره ولا يكركب في الطيب، ولا يغسل يده بالأشنان ثم يأخذ من يده فيتسوك به، ولا يشرب فضل غسل فيه.

فصل:

من أدب الضيف ألا يخرج إلا برضى صاحب المنزل وإذنه، ومن أدب المضيف أن يشيعه عند خروجه إلى باب الدار؛ فهو سنة. وينبغي للضيف ألا يجلس في مقابلة حجرة النساء وسترهن، ولا يكثر النظر إلى الموضع الذي يخرج منه الطعام كما سلف، وإذا حضر المدعوون وتأخر واحد أو اثنان عن الوقت الموعود فحق الحاضرين في التعجيل أولى من حقها في التأخير، إلا أن يكون المؤخر فقيرًا ينكسر قلبه بذلك، فلا بأس به.

(1)

كلمة غير واضحة بالأصل.

ص: 95

فصل:

ويستحب أن يكون على المائدة البقل، هاذا دخل ضيف للمبيت فليعرفه رب الدار -عند الدخول- القبلة وبيت الماء وموضع الوضوء.

فصل:

ويستحب أن ينوي بأكله وشربه التقوي على الطاعة، ويكره الأكل والشرب مضطجعًا قال الغزالي: إلا ما ينتقل من الحبوب، قال: ويأكل من استدارة الرغيف إلا إذا قل الخبز فيكره، ولا يقطع بالسكين، ولا يقطع اللحم، ولا يوضع على الخبز إلا ما يؤكل به، ولا يمسح يده فيه

(1)

.

فصل:

ولا يجمع بين التمر والنوى في طبق، ولا يترك ما استرذله من الطعام في القصعة، بل يجعله مع البقل؛ لئلا يلتبس على غيره، فيأكله، ولا يغمس اللقمة الدسمة في الخل، ولا الخل في الدسمةِ، وإذا قلل رفيقه الأكل نشَّطه، ولا يزيد في قوله: كل، على ثلاث مرات.

قال الغزالي: وأما الحلف عليه بالأكل فممنوع. ولا يقوم حَتَّى يرفع المائدة، ولا يبتدئ بالطعام ومعه من يستحق التقديم، إلا أن يكون هو المتبوع، ولا يشرب في أثناء الطعام إلا لضرورة، وورد النهي عن الشرب من ثلمة القدح، ويستحب إدارة المشروب عن يمين المبدأ بالشرب

(2)

.

(1)

"إحياء علوم الدين" 2/ 5 - 7 بتصرف.

(2)

"إحياء علوم الدين" 2/ 7 - 10.

ص: 96

فصل:

وأن يدعو لصاحب الطعام إن كان ضيفًا فيقول: أكل طعامكم الأبرار، وأفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة. وإن كان صائمًا دعا أيضًا.

وقال الغزالي: وإن أكل طعامًا قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتنزل البركات، اللهم أطعمنا طيبًا واستعملنا صالحًا، وإن كان فيه شبهة قال: الحمد لله على كل حال، اللهم لا تجعله قوة لنا على معصيتك.

قال: ويقرأ بعد الطعام: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} ، و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)} وإن كان المأكول لبنًا قال: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وزدنا منه، وإن كان غيره قال: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وارزقنا خيرًا منه

(1)

.

فصل:

ويكره أن يأكل متكئًا، وسيأتي، وأن يأكل من وسط القصعة وأعلى الثريد ونحوه. وخصه بعضهم بما إذا أكل مع غيره. ولا بأس بذلك في الفواكه، وقد أسلفنا عن نص الشافعي تحريم الأكل من رأس الطعام إذا كان عالمًا بالنهي. ويكره أن يعيب الطعام.

فصل:

ويكره أن يتنفس في الإناء، وأن ينفخ فيه.

فصل:

ويكره أن يمتخط ويبصق في حال أكلهم إلا لضرورة، وأن يقرب فمه

(1)

"المصدر السابق" 2/ 8 - 9.

ص: 97

من القصعة؛ بحيث يرجع من فمه إليه شيء، ويستحب لعق أصابعه، وأن يأكل اللقمة الساقطة، ما لم تنجس ويتعذر تطهيرها.

فصل:

والأولى ألا يأكل وحده، ولا يرتفع عن مؤاكلة الغلام ونحوه، وألا يتميز عن جلسائه بنوع إلا بحاجة كدواء ونحوه، وأن يمد الأكل مع رفقته ما دام يظن لهم حاجة إلى الأكل، وأن يؤثرهم بفاخر الطعام.

فصل:

ويستحب الترحيب بالضيف وحمد الله على حصوله ضيفًا عنده وسروره به، وثناؤه عليه يجعله أهلًا ليضيفه، ورأيت في "الخصال" لأبي بكر الخفاف

(1)

من قدماء أصحابنا أن من سنة الأكل قلة الأكل

(2)

في وجه صاحبك، والجلوس على إحدى راحتيك، والرضا والشكر.

وهذِه فصول مهمة قل أن تجتمع في مؤلف، فلا تسأم منها.

(1)

هو أبو بكر أحمد بن عمر بن يوسف الخفاف صاحب كتاب "الخصال" ذكره أبو إسحاق بعد طبقة ابن سريج ونظرائه في جماعة أكثرهم أصحاب أبي العباس. قال ابن القاضي شعبة: صاحب "الخصال" مجلد متوسط ذكر في أوله نبذة من أصول الفقه سماه "بالأقسام والخصال" ولو سماه بالبيان لكان أولى لأنه يترجم الباب بقوله: "البيان عن كذا" وقال ابن الملقن: وهذا الكتاب رأيته وانتقيت منه فوائد. وانظر: "طبقات الفقهاء" ص 122، "طبقات الشافعية" للأسنوي 1/ 464 (418) و"العقد المذهب" ص 31 (40)، "طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة 1/ 124 (73).

(2)

في هامش الأصل: لعله النظر.

ص: 98

‌4 - باب مَنْ تَتَبَّعَ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ مَعَ صَاحِبِهِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ كَرَاهِيَةً

5379 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ -قَالَ أَنَسٌ:- فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ -قَالَ:- فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. [انظر: 2092 - مسلم: 2041 - فتح: 9/ 524]

(1)

.

ذكر فيه حديث مالك إلى أنس رضي الله عنه إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا النبي صلى الله عليه وسلم -لِطَعَامٍ صَنَعَهُ قَالَ أَنَسٌ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ القَصْعَةِ -قَالَ:- فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمَئِذٍ.

قد سلف ذَلِكَ في البيوع، وتكرر في الباب

(2)

، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي

(3)

، ومن عادة البخاري رحمه الله أن يبوب أولاً على أمرٍ ثم يبوب بعد بابا آخر ينبه (به)

(4)

على المراد منه. والجمع بين مختلفه ظاهرًا، فذكر أولاً حديث الأكل مما يلي الشخص ثم أعقبه بهذا الباب؛ لبيان جوازه في حالة إذا لم يعرف من أحد كراهة لذلك فهو مفسر له في الحقيقة، ودال على أن المراد بذلك إذا كان يأكل مع غير عياله ومن يتقزز جولان يده في الطعام، وأما إذا أكل مع أهله ومن لا مؤنة عليه منهم من خالص إخوانه،

(1)

الحديث والباب تقدما قريبًا، وقد أعاد المصنف شرحه بزيادة في هذا الموضع.

(2)

سلف برقم (2092) باب ذكر الخياط وسيأتي برقم (5420، 5433).

(3)

مسلم (2041) كتاب الأشربة، باب: جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين وأبو داود (3782)، والترمذي (1850)، النسائي في "الكبرى" 4/ 155.

(4)

في (غ): فيه.

ص: 99

فلا بأس أن تجول يده فيه؛ استدلالًا بهذا الحديث، وإنما جالت يده الكريمة فيه؛ لأنه علم أن أحدًا لا ينكر ذَلِكَ، ولا يتقزز منه، بل كل مؤمن ينبغي له أن يتبرك بريقه الكريم، وما مسه بيده، ألا تراهم كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتبركون بها، فلذلك لم يتقززه مؤاكله له أن تجول يده في الصحفة.

فصل:

قال ابن عبد البر: هكذا هذا الحديث في "الموطأ" عند جميع رواته، زاد بعضهم فيه ذكر القديد -ورواه أبو نعيم عنه عن إسحاق عن أنس رضي الله عنه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمرقٍ فيه دباء وقديد .. الحديث، وذكره البخاري أيضًا كما سيأتي

(1)

- وقد أدخله مالك في باب الوليمة في العرس، ويشبه أن يكون وصل إليه من ذَلِكَ علم، وقد روي عنه نحو هذا، وليس في ظاهر الحديث ما يدل عليه

(2)

.

فصل:

قد أسلفنا من عند البخاري أن هذا الخياط مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكره في باب: الدباء، كما سيأتي

(3)

.

وذكر في باب: من أضاف رجلاً إلى طعام، وأقبل هو على عمله قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على غلام له خياط، فأتاه بقصعة فيها طعام وعليه دباء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء قال: فلما رأيت ذَلِكَ جعلت أجمعه بين يديه

(4)

. وذكره في باب القديد أيضًا كما سيأتي، وهو موافق لما ترجم له هنا أيضًا.

(1)

سيأتي برقم (4537) باب: القديد.

(2)

"التمهيد" 1/ 271 - 272.

(3)

سيأتي برقم (5433).

(4)

سيأتي برقم (4535).

ص: 100

ولمسلم: فجعلت ألقيه إليه ولا أطعمه.

وله: فَقُدم إليه خبز من شعير ومرق فيه دباء، وقديد. وله: قصعة فيها ثريد وعليه دباء

(1)

.

وفي "كتاب الأطعمة" للدارمي: قال أنس: وكان يعجبه الدباء، فجعلت آخذ الدباء فأضعه بين يديه، لما أعلم من إعجابه به.

وللترمذي من حديث حكيم بن جابر قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت عنده دباء يقطأع قلت: ما هذا؟ قال: نكثر به طعامنا

(2)

.

فصل:

قال ابن عبد البر: في هذا الحديث إجالة اليد في الصحفة، وهذا عند أهل العلم لا يحسن إلا بالرئيس ورب البيت، وأيضًا فالمرق والإدام وسائر الطعام إذا كان فيه نوعان أو أنواع فلا بأس أن تجول اليد فيه للتخيير مما وضع في المائدة من أصناف الطعام؛ لأنه قدم للأكل، وليأكل كل ما أراد، ولما كان في هذِه الصحفة أنواع اللحم والقديد والدباء والثريد أو المرق، حسن بالآكل أن تجول يده فيما اشتهى

(3)

.

وقد أسلفنا الكلام فيه قبل.

وقال ابن التين: فعله ذَلِكَ؛ لأنه كان يأكل وحده؛ لأن في الحديث أن الخياط أقبل على عمله. وقد أسلفنا عن أنس أنه قال: كنت ألقيه إليه ولا أطعمه.

(1)

مسلم (2041) كتاب: الأشربة، باب: أكل المرق واستحباب أكل.

(2)

"الشمائل المحمدية" ص 66 (162).

(3)

"التمهيد" 1/ 276 - 277 بتصرف.

ص: 101

وإقبال الخياط على عمله ليس سوء أدب منه ولا من غيره لو فعله؛ لإقراره عليه السلام على ذَلِكَ، ولم ينكره. وأكل المضيف مع الضيف ليس فيه إلا البسط لوجهه إن قدر عليه فهو أبلغ، ومن تركه فهو واسع.

فصل:

من تراجم البخاري على هذا الحديث باب: من ناول أو قدم إلى أصحابه على المائدة شيئًا.

ثم نقل عن ابن المبارك: لا بأس أن يناول بعضهم بعضًا، ولا يناول من هذِه المائدة إلى مائدة أخرى

(1)

.

قال ابن بطال: إنما جاز أن يناول بعضهم بعضًا ممن على مائدة واحدة؛ لأن ذَلِكَ الطعام إنما قدم لهم بأعيانهم ليأكلوه، فقد صار من حقوقهم وهم فيه شركاء، فمن ناول صاحبه مما بين يديه فكأنه آثره بنصيبه وما يجوز له أكله، فمباح له ذَلِكَ. وقد قال عليه السلام لابن أم سلمة:"كل مما يليك". فجعل ما يليه من المائدة حلالًا له. وأما من كان على مائدة أخرى فلا حق له في ذَلِكَ الطعام ولا شركة، فلذلك كره العلماء أن يناول رجل من كان على مائدة أخرى

(2)

.

فصل:

ومن هذا نهيه عليه السلام عن الأكل من وسط الصحفة؛ فإن البركة تنزل في وسطها. قال الخطابي: هذا في حق من يأكل مع غيره؛ لأن وجه الطعام أطيبه وألينه، فإذا قصده الإنسان بالأكل كان مستأئرًا على غيره، فإذا كان وحده فلا بأس.

(1)

سيأتي برقم (5439).

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 498.

ص: 102

فصل:

وقول أنس رضي الله عنه: (فلم أزل أحب الدباء من يومئذ). فيه الحرص على الشبه بالصالحين والاقتداء بأهل الخير في مطاعمهم واقتفاء آثارهم في جميع أحوالهم؛ تبركًا بذلك.

ص: 103

‌5 - باب التَّيَمُّنِ فِي الأَكْلِ وَغَيْرِهِ

قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ: قَالَ لِيَ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "كُلْ بِيَمينِكَ".

5380 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي طُهُورِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ. وَكَانَ قَالَ بِوَاسِطٍ قَبْلَ هَذَا: فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. [انظر: 168 - مسلم: 268 - فتح: 9/ 526]

ثم ذكر فيه حديث شعبة عن أشعث، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها السالف في الطهارة والصلاة

(1)

: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله، وكان قال بواسط قبل هذا: في شأنه كله. والظاهر أن المراد بهذا القائل شعبة فإنه واسطي وإن سكن البصرة.

قال ابن بطال: معنى هذِه الترجمة يعني: باليد اليمنى في جميع أفعاله، وكذلك في مناولة الأكل والشرب ومناولة سائر الأشياء من على اليمين، وهو قول الفقهاء

(2)

. وسيأتي بيان هذا المعنى في الأشربة.

قلت: البخاري ترجم قبل الأكل باليمين، فلا ينبغي أن يفسر تبويبه بهذا، والظاهر عندي أنه أراد الأكل من جهة اليمين.

(1)

سلف في الطهارة برقم (168) باب التيمن في الوضوء والغسل وفي الصلاة برقم (426) باب: التيمن في دخول المسجد وغيره.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 463.

ص: 104

‌6 - باب مَنْ أَكَلَ حَتَّى شَبِعَ

5381 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتِ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟» . فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «بِطَعَامٍ؟» . قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ: «قُومُوا» . فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ. فَقَالَتِ اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ أَبُو طَلْحَةَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلُمِّى يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ» . فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ، فَأَمَرَ بِهِ فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» . فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» . فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» . فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ أَذِنَ لِعَشَرَةٍ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ ثَمَانُونَ رَجُلاً. [انظر: 422 - مسلم: 2040 - فتح: 9/ 526].

5382 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَحَدَّثَ أَبُو عُثْمَانَ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما -قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ وَمِائَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟» . فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَبَيْعٌ أَمْ عَطِيَّةٌ؟ " أَوْ قَالَ: "هِبَةٌ". قَالَ: لَا، بَلْ بَيْعٌ. قَالَ: فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً فَصُنِعَتْ،

ص: 105

فَأَمَرَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوَادِ الْبَطْنِ يُشْوَى، وَايْمُ اللهِ مَا مِنَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ إِلاَّ قَدْ حَزَّ لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا، إِنْ كَانَ شَاهِدًا أَعْطَاهَا إِيَّاهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا خَبَأَهَا لَهُ، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلْنَا أَجْمَعُونَ وَشَبِعْنَا، وَفَضَلَ فِي الْقَصْعَتَيْنِ، فَحَمَلْتُهُ على الْبَعِيرِ. أَوْ كَمَا قَالَ. [انظر:2216 - مسلم: 2056 - فتح: 9/ 527]

5383 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَبِعْنَا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ، التَّمْرِ وَالْمَاءِ. [انظر: 5442 -

مسلم: 2975 - فتح: 9/ 527]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حديث أنس رضي الله عنه -قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ .. الحديث بطوله، وقد سلف في علامات النبوة

(1)

، وبعضه في الصلاة

(2)

، ويأتي في النذور

(3)

، وأخرجه مسلم

(4)

والترمذي

(5)

والنسائي

(6)

.

والكلام عليه من وجوه:

أحدها:

قوله: (أعرف فيه الجوع) فيه: أن الأنبياء عليهم السلام تذوى عنهم الدنيا حَتَّى يدركهم ألم الجوع ابتلاءً واختبارًا. وقد خير عليه السلام بين أن

(1)

سلف برقم (3578) كتاب المناقب.

(2)

سلف برقم (422) باب: من دعا لطعام في المسجد ..

(3)

سيأتي برقم (6688) باب: إذا حلف أن لا يأتدم.

(4)

مسلم (2040) كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره

(5)

"سنن الترمذي"(3630).

(6)

"السنن الكبرى" 4/ 142.

ص: 106

يكون نبيًّا عبدًا أو ملكًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا، وعرضت عليه الدنيا فردها واختار ما عند الله؛ لتتأسى به أمته في ذلك ويمتثلوا زهده في الدنيا.

وفيه: رد لقول ابن حبان أنه عليه السلام لم يَجُع قط وأن ربط الحجر على بطنه بالزاي لا بالراء، وأنه تصحيف من الحجز

(1)

.

ثانيها:

جواز الشهادة على الصوت، واستدل به بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر على جواز شهادة الأعمى على الصوت؛ لقوله: أعرف فيه الجوع. وعارضه المانع بأن أبا طلحة تغير عنده صوته مع علمه بصوته، ولولا رؤيته له لاشتبه عليه في حين سماعه منه وما عرفه

(2)

.

ثالثها:

سد الرجل خلة أخيه إذا علم منه حاجة نزلت به، من حيث لا يسأله ذَلِكَ، وهذا من مكارم الأخلاق.

رابعها:

علم الشارع من أبي طلحة أنه يسره سيره إليه مع أصحابه، ولذلك تلقاه أبو طلحة مسرورًا به وبأصحابه، وليس العمل على هذا من أجل أنه لا يحتمله كل الناس.

وكذلك قال مالك: من دعي إلى طعام وليمة أو غيرها فلا ينبغي له أن يحمل معه غيره، إذ لا يدري هل يسر بذلك صاحب الوليمة أم لا؟ إلا أن يقال له: ادع من لقيت فيباح له ذَلِكَ حينئذ.

(1)

"صحيح ابن حبان" 8/ 345.

(2)

"التمهيد" 1/ 289 - 290.

ص: 107

قلت: والضابط العلم بحال الداعي.

خامسها:

قوله عليه السلام: ("أرسلك أبو طلحة؟ " فقلت: نعم). يجوز أن يكون قاله وحيًا أو استدلالًا بقيام أبي طلحة.

وقول أبي طلحة: (قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس) هو قول مقتضى العادة.

وقول أم سليم: (الله ورسوله أعلم)، قول أخرجه النظر إلى الإمكان وخرق العادة، وجائز لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذِه منقبة عظيمة لها، ودلالة على عظم فقهها ورجحان عقلها كونها عرفت أنه عليه السلام قد عرف مقدار الطعام، ولم يكن ليدع إليه هؤلاء الثمانين رجلاً إلا وهو يكفيهم.

سادسها:

قوله: (هلمي). كذا وقع، وليست لغة أهل الحجاز؛ لأنهم يقولون للمرأة هلم وكذا للواحد والاثنين والجمع، قال تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} وقيل: هي كفعل الأمر يفترق فيه المذكر من المؤنث، والتثنية من الواحد والجمع.

سابعها:

فيه: تكنية المرأة.

والعكة الصغيرة من القرب، وجمعها عكك وعكاك، وهو بالسمن أخص من العسل كما قال ابن الأثير

(1)

: وآدمته -بمد الألف، وقصرها-: جعلت فيه إدامًا

(2)

.

(1)

"النهاية في غريب الحديث" 3/ 284.

(2)

المصدر السابق 1/ 31.

ص: 108

وقال ابن التين: أدمته طيبته، والإدام: ما يطيب فيه الطعام. قال: وأدمته مقصور؛ لأنه من أدم أدمًا ثلاثي.

قلت: وروي بتشديد الدال على التكبير. وسيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم. جعله أدمًا. وبعض الفقهاء قال: لا يحنث فيما إذا حلف أن لا يأتدم ثم أكله.

ثامنها:

فيه: الخروج إلى الطريق للضيف والزائر؛ إكرامًا له وبرًّا به، وأنه لا حرج على الصديق أن يأمر في دار صديقه مما شاء مما يعلم أنه يسره به، ألا ترى أنه اشترط عليهم أن يفتوا الخبز، وقال لأم سليم:"هات ما عندك".

وفيه: بركة الثريد وجواز الأكل حَتَّى يشبع، وهو ما عقد له الباب، وأن الشبع مباح، وكذا في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر وعائشة الآتيين جواز الشبع أيضًا وإن كان ترك الشبع في بعض الأحايين أفضل، وقد وردت في ذَلِكَ آثار عن سلمان وأبي جحيفة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أكثر الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا في الآخرة"

(1)

.

(1)

حديث سلمان رواه ابن ماجه في "سننه"(3351)، والبزار في "مسنده" 6/ 461 وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 198، والحاكم في "المستدرك" 3/ 604 والبيهقي في "الشعب" 5/ 27 من طريق سعيد بن محمد الوراق، عن موسى الجهني، عن زيد بن وهب، عن عطية بن عامر، عن سلمان به.

وقال الحاكم: غريب صحيح ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي فقال: الوراق تركه الدارقطني وغيره. قلت: وله طريق آخر عند الطبراني في "الكبير" 6/ 268 - 269 عن سعيد بن عنبسة قال فيه المزي في "أطرافه" بعد تطريقه للحديث: ضعيف.

والحديث أعله البوصيري في "زوائده" بابن الوراق ص 434 - 435. =

ص: 109

قال الطبري: غير أن الشبع، وإن كان مباحًا فإن له حدًّا ينتهى إليه، وما زاد عليه فهو سرف. فالمطلق منه ما أعان على الطاعة ولم يشغله فعله عن أداء الواجب، وذلك دون ما أثقل المعدة وثبط أكله عن خدمة ربه والأخذ بحظه من نوافل (العبادة)

(1)

، فالحق لله على عبده ألا يتعدى في مطعمه ومشربه ما سد الجوع وكسر الظمأ، فإن تعدى ذَلِكَ إلى ما فوقه ما يمنعه من القيام بالواجب لله تعالى عليه، كان قد أسرف في مطعمه ومشربه.

وبنحو هذا أورد الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن وهب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا (سددت كلب)

(2)

الجوع برغيف وكوز من الماء القراح فعلى الدنيا الدمار"

(3)

.

وروى أبو داود من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه مرفوعًا: "كل شيء فضل عن ظل بيت وجلف الخبز يعني: كسرة الخبز وثوب يستره فضل

= وحديث أبي جحيفة أخرجه ابن أبي الدنيا في "الجوع" ص 40 (19) والبزار كما في "كشف الأستار"(3669) والطبراني 22/ 132 والحاكم في "المستدرك" 4/ 121 والبيهقي في "الشعب" 5/ 26 من طرق عنه، وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وابن عمرو والحديث صححه الألباني بمجموع طرقه في "الصحيحة"(343) ولإتمام الفائدة تراجع "الصحيحة"(3372).

(1)

من (غ).

(2)

في الأصول: (سللت كبد) وفي حاشية الأصل تعليق عليها نصه: كذا أحفظه سددت كلب.

(3)

رواه ابن السني في "القناعة" ص 55، 56، ابن عدي في "الكامل" 8/ 183، البيهقي في "الشعب" 7/ 295 والديلمي في "الفردوس" 5/ 349 (8394) وقال ابن عدي في "كامله" في ترجمة ماضي بن محمد راوي الحديث: منكر الحديث وقال "المتقي الهندي" في "تذكرة الموضوعات" ص 173: ضعيف، والحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة"(489، 490).

ص: 110

ليس لابن آدم فيه حق"

(1)

فأخبر عليه السلام أن لابن آدم من الطعام ما سد به كلب جوعه، ومن الماء ما قطع ظمأه، ومن اللباس ما ستر عورته، ومن المساكن ما أظله فكنه من حر وقر، وأن لا حق له فيما عدا ذَلِكَ.

فالمتجاوز من ذَلِكَ ما حدده الشارع خاطب على نفسه متحمل ثقل وباله ولو لم يكسب المقل من الأكل إلا التخفيف عن بدنه من كظ المعدة ونتن التخمة، لكان جريانه يجري ذَلِكَ لها طلب الترويح عنها، فكيف والإكثار منه الداء العضال، وبه كان يتعاير أهل الجاهلية والإسلام.

وفي حديث أنس هذا وعبد الرحمن بن أبي بكر الآتي علم من أعلام نبوته، وهو الأكل من الطعام اليسير العدد الكثير حَتَّى شبعوا ببركته.

وروى أنس أيضًا حديث بعثه (أبا)

(2)

طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعوه. وفيه: فأخرج لهم شيئًا من بين أصابعه

(3)

، وهذا غير الأول، وهو من أعلام نبوته أيضًا.

الحديث الثاني:

حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما في المشرك المشعان الذي اشترى منه الشاة، والسالف في البيوع والهبة

(4)

.

(1)

لم أقف عليه عند أبي داود ورواه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده" 1/ 62، وعبد بن حميد (46)، وغيرهم ورواه الترمذي (2341) والحاكم في "المستدرك" 4/ 312 بنحوه وأعله الدارقطني بحريث بن السائب 3/ 29 وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 313 - 314 وقال: لا يصح وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1063) وقال: منكر.

(2)

كذا بالأصل، والجادة: أبو، ولعله أجراها مجرى من يلزم الأسماء الستة الألف مطلقًا.

(3)

رواه مسلم (2040/ 143) كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ..

(4)

سلف في البيوع برقم (2216)، باب: البيع والشراء مع المشركين.

ص: 111

ووجه إيراده هنا: أمره عليه السلام بسواد البطن فشوي وايم الله ما في الثلاثين ومائة إلا قد حز له حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاه، وإن كان غائبًا خبأها له، ثم جعل فيها قصعتين، فأكلنا أجمعون وشبعنا، وفضل في القصعتين، فحملته على البعير. أو كما قال.

والمشعان: المنتفش الشعر، الثائر الرأس، وقيل: هو شعث الرأس. يقال: شعر مشعان ورجل مشعان، ومشعان الرأس، والميم زائدة.

وفيه: استعجال شيِّ الكبد. وحز له حزة: قطع له قطعة.

وفيه: أن الغائب يترك له سهمه، ولا يهمل حقه لغيبته. والقصعة: بفتح القاف، وجمعها: قصاع.

الحديث الثالث:

حديث عائشة رضي الله عنها تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ شَبِعْنَا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ، التَّمْرِ وَالْمَاءِ.

سلف، وأخرجه مسلم أيضًا

(1)

، ويأتي في باب الرطب والتمر

(2)

.

والعرب تقول: الأسودان: التمر والماء، والأحمران: اللحم والشراب، وقيل: الذهب والزعفران، والأبيضان: الماء واللبن، والأسمران: الماء والملح. قال بعضهم: وهذِه تسمية للشيء بما قاربه وذلك أن الأسود منهما التمر خاصة، وكذلك العمران لأبي بكر وعمر فغلبوا عمر لأنه أخف. وأبعد من قال: هما عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز.

(1)

مسلم برقم (2975) كتاب الزهد والرقائق.

(2)

سيأتي برقم (5442).

ص: 112

‌7 - باب {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} إلى قَوْلِهِ: {مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]

والنهد والاجتماع على الطعام

5384 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: سَمِعْتُ بُشَيْرَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ -قَالَ يَحْيَى: وَهْيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ- دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِيَ إِلاَّ بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، فَصَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَوْدًا وَبَدْءًا. [انظر 209 - فتح: 9/ 529].

ذكر فيه حديث سويد بن النُّعْمَانِ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ -قَالَ يَحْييَ هو ابن سعيد: وَهْيَ مِنْ خَيْبَرَ عَلَى رَوْحَةٍ- دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِيَ إِلَّا بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَاهُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، فَصَلَّى بِنَا المَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

قَالَ سُفْيَانُ يعني: راويه عن يحيى بن سعيد: سَمِعْتُهُ مِنْهُ عَوْدًا وَبَدْءًا.

وقد سلف في الطهارة والجهاد والمغازي

(1)

، وترجم له باب السويق كما سيأتي

(2)

وراويه عن سويد بشير بن يسار -وهو بضم الباء- مولى بني حارثة، من الأوس.

(1)

سلف في الطهارة برقم (209) باب: من مضمض من السويق ولم يتوضأ. وفي الجهاد برقم (2981) باب: حمل الزاد في الغزو. وفي المغازي: (4175) باب: غزوة الحديبية.

(2)

سيأتي قريبًا في كتاب الأطعمة برقم (5390).

ص: 113

ووجه إدخاله هنا كما قال المهلب: أن المعنى الجامع بينهما هو قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} ، فأباح لهم تعالى الأكل مجتمعين ومفترقين من بيت ملكوا مفاتحه بائتمان أو قرابة أو صداقة، وذلك أكل بغير مشاورة.

وذكر الكلبي في هذِه الآية قال: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا عزل الأعمى على حدة والأعرج على حدة والمريض على حدة؛ ليقتصر أصحاب الآفات عن أكل الأصحاء، وكانوا يتحرجون أن يفضلوا عليهم، فنزلت هذِه الآية؛ رخصة لهم في الأكل جميعًا.

وقال عطاء بن يزيد: كان الأعمى يتحرج أن يأكل طعام غيره لجعله يده في غير موضعها، وكان الأعرج يتحرج ذَلِكَ؛ لاتساعه في موضع الأكل، والمريض؛ لرائحته، فأباح الله لهم الأكل مع غيرهم.

وذكر عن أبي العلاء المعري أنه كان لا يأكل إلا وحده ويقول: الأكل عورة وهو من الأعمى أشد.

ومعنى الآية كمعنى حديث الباب سواء، ألا ترى أنه عليه السلام حين أملقوا في السفر جعل أيديهم جميعًا فيما بقي من الأزودة سواء، ولا يمكن أن يكون أكلهم بالسواء أصلاً؛ لاختلاف أحوالهم في الأكل.

وقد سوغهم الشارع في ذَلِكَ من الزيادة والنقصان، فصار ذَلِكَ سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم والإملاق في السفر، وما تملكت مفاتحه بأمانة أو قرابة أو صداقة ملك أن يأكل مع القريب أو الصديق وحدك.

وقد أسلفنا قريبًا تفسير النهد، وسلف في الشركة أيضًا وضبطه، وعبارة ابن التين: النهد ما يخرجه الرفعاء عند المناهدة، وهي

ص: 114

استقسام النفقة بالسوية في السفر، وغيره يقول: هات نهدك. بكسر النون، ذكره الهروي.

فصل:

قوله: (وصلى بنا المغرب ولم يتوضأ). ظاهر في نفي إيجاب الوضوء فيما مست النار، وجعله ابن التين من قول سفيان، وليس كما ذكر.

ص: 115

‌8 - باب الْخُبْزِ الْمُرَقَّقِ وَالأَكْلِ على الْخِوَانِ وَالسُّفْرَةِ

5385 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ خَبَّازٌ لَهُ فَقَالَ: مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا مُرَقَّقًا وَلَا شَاةً مَسْمُوطَةً حَتَّى لَقِيَ اللهَ. [5421، 6457 - فتح: 9/ 530].

5386 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يُونُسَ -قَالَ عَلِيٌّ: هُوَ الإِسْكَافُ- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ قَطُّ، وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، وَلَا أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ. قِيلَ لِقَتَادَةَ: فَعَلَى مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: على السُّفَرِ. [5415، 6450 - فتح 9/ 530].

5387 -

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبْنِي بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأَقِطُ وَالسَّمْنُ. وَقَالَ عَمْرٌو، عَنْ أَنَسٍ: بَنَى بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ. [انظر: 371 - مسلم: 1365 - فتح: 9/ 530].

5388 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ يُعَيِّرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُونَ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ. فَقَالَتْ لَهُ أَسْمَاءُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ، هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ النِّطَاقَانِ؟ إِنَّمَا كَانَ نِطَاقِي شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ، فَأَوْكَيْتُ قِرْبَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَحَدِهِمَا، وَجَعَلْتُ فِي سُفْرَتِهِ آخَرَ. قَالَ: فَكَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ إِذَا عَيَّرُوهُ بِالنِّطَاقَيْنِ يَقُولُ: إِيهًا وَالإِلَهْ، تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا. [انظر: 2979 - فتح 9/ 530].

5389 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ -خَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ- أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا، فَدَعَا بِهِنَّ، فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ، وَتَرَكَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُنَّ، وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَمَرَ بِأَكْلِهِنَّ. [انظر

: 371 - مسلم: 1947 - فتح: 9/ 530].

ص: 116

ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَنَسٍ رضي الله عنه وَعِنْدَهُ خَبَّازٌ لَهُ فَقَالَ: مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا مُرَقَّقًا وَلَا شَاةً مَسْمُوطَةً حَتَّى لَقِيَ اللهَ عز وجل.

ويأتي في الباب والرقاق أيضًا، وأخرجه ابن ماجه

(1)

.

وعن يُونُسَ -الإِسْكَاف- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ على سُكْرُجَةٍ قَطُّ، وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ قَطُّ، وَلَا أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ. قِيلَ لِقَتَادَةَ: فَعَلام كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ.

يأتي في الباب. وأخرجه الترمذي وقال: غريب

(2)

. وأخرجه البخاري في الرقاق من حديث عبد الوارث، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة والترمذي، وقال: حسن صحيح. والنسائي وابن ماجه

(3)

.

ويونس هو ابن أبي الفرات القرشي مولاهم، ويقال: المعولي أبو الفرات البصري، من أتباع الأتباع، وعنه هشام الدستوائي في موضعين من الباب -أعني: الأطعمة- وجمع، ثقة، روى له البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه. هذا الحديث الواحد، وفي "الجرح والتعديل" للدارقطني أن البخاري خرجه

(4)

.

(1)

يأتي في الباب برقم (5421) باب: شاة مسموطة والكتف والجنب، وفي الرقاق (6457) باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ورواه ابن ماجه (3339).

(2)

سيأتي برقم (5415) باب: ما كان النبي وأصحابه يأكلون، والترمذي (1788).

(3)

سيأتي برقم (6450) باب: فضل الفقر، والترمذي (2363)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 150، وابن ماجه (3293) وفي ابن ماجه: أبو بحر عن سعيد بن أبي عروبة وليس عبد الوارث عنه.

(4)

انظر: "سؤالات الحاكم في الجرح والتعديل للدارقطني" ص 286 (521).

ص: 117

ثانيها:

حديث حميد عن أنس رضي الله عنه قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبْنِي بِصَفِيَّةَ. الحديث. وفيه: أَمَرَ بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأَقِطُ وَالسَّمْنُ.

وقد سلف في الجهاد والمغازي

(1)

. وشيخ البخاري فيه هو ابن أبي مريم، وهو سعيد بن محمد بن الحكم، ويقال: الحكم بن محمد بن أبي مريم الجمحي مولاهم المصري، ولد سنة أربع وأربعين ومائة، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين

(2)

. وقال عمرو: عن أنس: بني بها النبي صلى الله عليه وسلم ثم صنع حيسًا في نطع.

وهذا أسنده في المغازي كما سلف عن عبد الغفار بن داود عن يعقوب بن عبد الرحمن عنه، وعمرو هو ابن أبي عمرو، مولى المطلب.

ثم قال البخاري: حَدَّثنَا مُحَمَّدٌ، ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثنا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ يُعَيِّرُونَ ابن الزُّبَيْرِ يَقُولُونَ: يَا ابن ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ. فَقَالَتْ لَهُ أَسْمَاءُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ، هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ النِّطَاقَانِ؟ إِنَّمَا كَانَ نِطَاقِي شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ، فَأَوْكَيْتُ قِرْبَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَحَدِهِمَا، وَجَعَلْتُ في سُفْرَتِهِ آخَرَ. قَالَ: فَكَانَ أَهْلُ الشَّأْمِ إِذَا عَيَّرُوهُ بِالنِّطَاقَيْنِ يَقُولُ: إِيهًا وَالإِلَهِ، تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا.

وحديث أسماء سلف في الصلاة

(3)

، ومحمد هو ابن سلام كما نص

(1)

سلف في الجهاد برقم (2893) باب: من غزا بصبي للخدمة، و (4200) باب غزوة خيبر.

(2)

انظر: "تهذيب الكمال" 10/ 391 (2253).

(3)

لم أقف عليه في الصلاة في متن البخاري، وانظر "تحفة الأشراف"(5289)، (15731).

ص: 118

عليه أبو نعيم، وذكر الكلاباذي أن محمد بن سلام ومحمد بن المثنى يرويان عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير.

ثم ساق البخاري حديث ابن عباس أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ -خَالَةَ ابن عَبَّاسٍ- أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا .. الحديث.

وقد سلف في الهبة

(1)

، وشيخ البخاري فيه محمد بن النعمان، وهو أبو النعمان الملقب بعارم، عن أبي عوانة -وهو الوضاح- عن أبي بشر -وهو جعفر بن إياس- عن سعيد بن جبير عنه.

والمرقق: هو خبز السميذ، وما يصنع منه كعك وغيره، قاله ابن التين. وقال ابن الجوزي: هو الخفيف كأنه مأخوذ من الرقاق وهي الخشبة التي يرقق بها. والشاة المسموطة معروفة.

وقال ابن الأثير: الشاة السميط أي: المشوية، فعيل بمعنى مفعول

(2)

، وعبارة ابن بطال: المسموطة: المشوية بجلدها

(3)

.

قال صاحب "العين": سمطت الجمل أسمطه سمطًا نتفته من الصوف بعد إدخاله في الماء الحار

(4)

.

وقال صاحب "الأفعال": سمط الجدي وغيره: علقه من السموط، وهي معاليق من سيور تعلق من السرج. وعبارة ابن التين عن الداودي: المسموطة التي يغلى لها الماء فتدخل فيه بعد أن تذبح ويزال بطنها ورأسها، فيزول عنها الشعر أو الصوف ثم تشوى.

(1)

سلف برقم (2575) باب: قبول الهدية.

(2)

"النهاية في غريب الحديث" 2/ 400 - 401.

(3)

"شرح ابن بطال" 9/ 488.

(4)

"العين" 7/ 222.

ص: 119

قال ابن الجوزي: وهو أكل المترفهين، وإنما كانوا يأخذون الجلد لينتفعوا به.

ولا ينافي حديث أنس هذا، وحديثه الآتي باب الشاة المسموطة ولا رأى شاة سميطًا بعينه قط مع حديث جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة.

وحديث أم سلمة في الترمذي صحيحًا أنها قربت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جنبًا مشويًّا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة. قال: وفي الباب عن عبد الله بن الحارث والمغيرة وأبي رافع

(1)

.

وأما ابن بطال فأورده سواء. ثم قال: والجواب أن قول أنس يحتمل تأويلين:

أحدهما: أنه يمكن أن يكون عليه السلام لم يتفق له قط أن يسمط له شاة بكمالها؛ لأنه قد احتز من الكتف مرة ومن الجنب أخرى، وذلك لحم غير مسموط لا محالة.

والثاني: أن أنسًا قال: ما أعلم. ولم يقطع على أنه عليه السلام لم يأكل لحمًا مشويًّا، فأخبر بما علم، وأخبر عمرو بن أمية وأم سلمة وغيرهما أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من الكتف والجنب المشوي، وكل واحد أخبر بما علم، وليس قول أنس برافع قول من علم؛ لأن من علم (حجة)

(2)

على من لم يعلم؛ لأنه زاد عليه، فوجب قبولها، ولا حاجة إلى ذَلِكَ

(3)

.

(1)

"سنن الترمذي"(1829).

(2)

في الأصول: (حي) والمثبت من "شرح ابن بطال".

(3)

"شرح ابن بطال" 9/ 487 - 488.

ص: 120

وقد أوضحه ابن المنير، ووهم ما ذكره ابن بطال فقال: هذا وهم ليس في حيز الكتف ما يدل على أنها كانت مسموطة، بل إنما حزها؛ لأن عادة العرب في الغالب أنها لا تنضج اللحم والشواء المُضَهَّب يتمادحون بأكله، وهو الذي لم ينضج فلعدم نضجها احتيج إلى حزها

(1)

.

وابن بطال ظن أن مقصود البخاري بتلك الترجمة أن مقصوده تحقيق أنه أكل السميط، فأورد عليه حديث أنس أنه ما رآه قط، واعتقد أنه أراد ذَلِكَ وتلقاه من حزها بالسكين، وإنما نحره إذ شويت.

فصل:

والخوان: -بضم الخاء وكسرها- أعجمي معرب، قال الجواليقي: تكلمت به العرب قديمًا، وفيه لغتان جيدتان فذكرهما وثالثة دونهما أخوان، وكذا قال ابن فارس أنه فيما يقال اسم أعجمي

(2)

. وحكي عن ثعلب أنه قال، وقد سئل أيجوز أن الخوان إنما سمي بذلك؛ لأنه يتخون ما عليه أي: ينقص؟ فقال: ما يبعد ذلك. والصحيح أنه معرب ويجمع على أخونة وخون

قلت: ولا ينقل كراهة الضمة على الواو. وقال عياض: إنه المائدة ما لم يكن عليها طعام

(3)

.

فصل:

والسُّكُرَّجة: بضم السين والكاف وفتح الراء المشددة، ذكره ابن الجوزي عن شيخه أبي منصور اللغوي قال: وكان بعض أهل اللغة

(1)

"المتواري" ص 379.

(2)

"مجمل اللغة" 1/ 307.

(3)

"مشارق الأنوار" 1/ 248.

ص: 121

يقول: الصواب: أسكرجة بالألف وفتح الراء، وهي فارسية معربة وترجمتها: مقرب الخل، وقد تكلمت بها العرب.

قال أبو علي: فإن حقرته حذفت الجيم والراء فقلت: أسيكرة. وإن عوضت عن المحذوف قلت: أسيكيرة، وكذلك قياس التكسير إذا اضطر إليه. وزعم سيبويه أن بنات الخمسة لا تكسر إلا على استكراه، فإن جمع على غير التكسير ألحق الألف والياء وقياس ما رواه سيبويه في بريهم بريهيم وفي سكرجة سكيريجة، وما تقدم الوجه.

وذكر عياض أنه بضم السين والكاف والراء وقال: كذا قيدناه، وكذا اقتصر عليه ابن التين وصوب ابن مكي فتح الراء قال: وهي قصاع صغار تؤكل فيها، ومنها صغيرة وكبيرة، فالكبيرة تحمل قدر ست أواقي وقيل: ما بين ثلاثين أوقية إلى أوقية. ومعنى ذَلِكَ أن العجم كانت تستعملها في الكواميخ وما أشبهها من الجوارشنات حول الموائد للتشهي والهضم.

وقال الداودي: هي قصعة صغيرة مدهونة. قال صاحب "المطالع": رأيت لغيره أنها قصعة ذات قوائم من عود كمائدة صغيرة.

فصل:

قوله: (فبنى بصفية). وقال بعد: بنى بها. فيه: رد على من أنكر أن يقال: بنى بها، وإنما يقال: بنى عليها

(1)

.

فصل:

النطاق: شريط تشد به المرأة وسطها يرفع ثيابها وترسل عليه إزارها، قاله القزاز. وقال ابن فارس: هو إزار فيه تكة تلبسه

(1)

ورد في هامش الأصل: قال الجوهري: في "صحاحه": وبنى على أهله أي: زفها. والعامة تقول: بني بأهله وهو خطأ. انتهى.

ص: 122

النساء

(1)

. وقال الهروي: هو أن تأخذ المرأة ثوبًا فتلبسه ثم تشد إزارها وسطها بحبل ترسل الأعلى على الأسفل. قال: وبه سميت أسماء ذلك؛ لأنها كانت تطارق نطاقًا. قال: وقيل: كان لها نطاقان، تلبس أحدهما وتحمل في الآخر الزاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

فصل:

وقول ابن الزبير: (وتلك شكاة ظاهر عنك عارها). هو عجز بيت لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: وعيرها الواشون أني أحبها. بعده:

فإن أعتذر منها فإني مكذب

وإن تعتذر تردد عليك اعتذارها

وهو من جملة قصيدته التي يرثي بها نسيبة بنت عبس بن الحارث الهزلي وأولها:

هل الدهر إلا ليلها

(3)

ونهارها

وإلا طلوع الشمس ثم غيارها

أبى القلب إلا أم عمرو وأصبحت

تحرق ناري بالشكاة ونارها

وبعده: عندها. قال ابن قتيبة: لست أدري أخذ ابن الزبير هذا من قول أبي ذؤيب أو ابتدأه هو، وهي كلمة مقولة.

والشكاة: العيب والذم

(4)

، قال السكري: الشكاة: رفع الصوت بالقول القبيح.

وقوله: (ظاهر عنك عارها). أي: مرتفع، ولم يعلق به، وأصل الظهور: الصعود على الشيء والارتفاع فوقه، ومنه:{وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] تقول: لا تعلق بك. وإليه ينتفي عنك.

(1)

"المجمل" 2/ 172 مادة (نطق).

(2)

"غريب الحديث" 2/ 31.

(3)

في (غ): ليلة، وهو الصواب.

(4)

"غريب الحديث" لابن قتيبة 2/ 438.

ص: 123

وهذا من قولهم: ظهر فلان فوق، أي: على عليه، تقول: سو عنك عارها، قال تعالى:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي: يعلوا عليه. وقال ثعلب: أي: لا يلزمك عارها. وهذا جهل من أهل الشام كقول قوم لوط: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} الآية [النمل: 56].

وقوله (يقول: إيهًا). قال ابن التين: كذا هو في سائر الروايات إيهًا.

وذكر أبو سليمان أنه إنما هو إيهًا قال: ومعناه الاعتراف بما كانوا يقولون. والتقرير كذلك من قولهم تقول العرب في استدعاء القول من الإنسان إيها دابة. غير منون. والذي ذكره اللغويون، ثعلب فمن بعده: يقول الرجل إذا استزدته في الكلام: إيه. فإذا أمرته بقطعه: إيها، ذكره ابن فارس وغيره.

وقوله: (شكاة). هو بكسر الشين في بعض الروايات وبالفتح في بعضها، وهو الصحيح، كما قاله ابن التين؛ لأنه مصدر شكا يشكو شكاة وشكاية وشكوًا، إذا أخبرت عنه بسر، ومعناه أنه لا عار فيه عليك.

فصل:

(وأضبًّا): هو جمع ضب، مثل: فلس وأفلس، وهو بفتح الهمزة، ولا وجه لمن ضمها. قال في "العين": الضب يكنى أبا حسل. وهو دويبة يشبه الورك، تأكله الأعراب، وتقول العرب: هو قاضي الطير والبهائم

(1)

.

واحتجاج ابن عباس بيِّن، وهو حجة على من حرمه، ونقل عن مالك.

(1)

"العين" 7/ 14.

ص: 124

وقوله: (أكلن على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم). فيه إثبات المائدة.

وقول أنس: (ما أكل عليه السلام على خوان قط). فيه مخالفة له لكنه لم يعلم وغيره علم.

والمائدة مأخوذة من قولهم مادتني أي: أطعمتني. وقال أبو عبيد: هي فاعلة بمعنى مفعولة ولا تسمى مائدة إلا حَتَّى يكون عليها طعام؛ وإلا فهي خوان. وقد ذكرناه عن عياض فيما سلف أيضًا.

فصل:

لا شك في إباحة المرفق، كما ترجم له، ولم يتركه الشارع إلا من باب الزهد وترك التنعم وإيثار ما عند الرب جل جلاله، كما ترك كثيراً مما كان مباحًا له، وكذلك الأكل على الخوان مباح أيضًا، وليس نفي أنس أكله على خوان وسميط رادًّا لمن قال: إنه أكل عليه، وإنه أكل شواء كما أسلفناه آنفًا. وكلٌ أخبر بما علم.

وهذا ابن عباس يقول في الأضب: إنهن أكلن على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثبت له مائدة، وقد أنزل الله المائدة على قوم عيسى صلى الله عليه وسلم حين سألوه إياها.

وأكل المرقق والشاة المسموطة داخل في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] فجميع الطيبات حلال أكلها، إلا أن يتركها تارك زهدًا وتواضعًا وشحًّا على طيباته في الآخرة أن ينتقصها في الدنيا، كما فعل عليه أفضل الصلاة والسلام، فذلك مباح له.

فصل:

مما ترجم البخاري على حديث الضب هذا باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 125

لا يأكل حَتَّى يسمى له، فيعلم ما هو

(1)

.

وسبب سؤاله؛ لأن العرب كانت لا تعاف شيئًا من المآكل عندهم، فلذلك كان يسأل عنه قبل أكله.

فصل:

أم حفيد: - بالحاء المهملة- اسمها هزيلة بنت الحارث بن حزن بن البجير بن الهزم بن دويبة بن عبد الله بن هلال، أخي نمير وسواءة وربيعة بني كلاب وكعب ابني ربيعة بن عامر بن صعصعة، أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث لأبيها وأمها، وزوجها أعرابي من بني جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وأختها لأبويها لبابة الكبرى أم بني العباس، وأختهم لأبويهم أيضًا لبابة الصغرى أم خالد بن الوليد، وعصماء بنت الحارث، ولدت لأبي بن خلف الجمحي أبيًّا وخلفًا وعبد الرحمن.

وقال ابن سعد: لبابة الصغرى اسمها عصماء. فإن صح فيحتمل أن يكون خلف عليها أبي بعد موت الوليد بن المغيرة.

وعزة بنت الحارث كانت عند عبد الله بن مالك بن الهزم، فولدت له زيادًا وعبد الرحمن وبرزة، فولدت برزة يزيد بن الأصم عبد عمرو بن عدس بن معاوية بن عبادة بن البكاء ربيعة بن عامر بن صعصعة، قاله ابن سعد

(2)

.

وقال غيره: كانت عزة بنت الحارث عند زياد بن عبد الله بن مالك بن الهزم، فولدت له برزة. وفي رواية: أن برزة أخت عزة، وليس بشيء،

(1)

سيأتي بعد بابين من هذا الباب.

(2)

"الطبقات الكبرى" 8/ 279 - 280.

ص: 126

هؤلاء أخوات ميمونة لأبيها وأمها، وأخواتها لأمها: أسماء بنت عميس الخثعمية أم بني جعفر، وأم محمد بن أبي بكر، وأم يحيى بن علي، مات صغيرًا، وسلمى بنت عميس، ولدت أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب، زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة فتوفيا قبل أن يجتمعا.

وقال عليه السلام: "هل جزيت سلمة" حين زوجه إياها، وكان سلمة زوَّج النبيَّ أُمَّه أمَّ سلمة، ثم خلف على سلمى شداد بن أسامة بن الهادي، واسمه عمرو بن عبد الله بن جابر بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. فولدت له عبد الله وعبد الرحمن ابني شداد اتفقا على عبد الله أبي الوليد، قتل بدجيل سنة إحدى أو اثنتين وثمانين، وكان الهادي عمرو يوقد ناره ليلاً للأضياف ولمن يسلك الطريق ليلاً.

وسلامة بنت عميس، ولدت أمية بنت عبد الله بن كعب بن عبد الله بن كعب بن منبه بن الحارث بن منبه بن الأوس الخثعمي.

زوجها ابن خالتها عبد الله بن جعفر، فولدت له صالحًا وأسماء ولبابة بني عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، وأم اليسع هند بنت عوف بن زهير بن الحارث ابن حماطة الحميرية الجرشية، وقيل: الكنانية، ولعله بالحلف، وهي أكرم الناس أصهارًا، وبناتها ست أخوات لأبوين وتسع لأم.

وقال علي بن عبد العزيز الجرجاني:

التشابه أن زينب بنت خزيمة الهلالية أم المؤمنين، أخت ميمونة لأمها هند.

ص: 127

قال ابن عبد البر: لم أره لغيره

(1)

. قال الدمياطي: وكانت زينب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطفيل بن الحارث بن المطلب، فطلقها، فتزوجها أخوه عبيدة، أخو بحينة ابنا الحارث، قتل عنها شهيدًا يوم بدر.

(1)

"الاستيعاب" 4/ 409.

ص: 128

‌9 - باب السَّوِيقِ

5390 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّهْبَاءِ -وَهْيَ على رَوْحَةٍ مِنْ خَيْبَرَ- فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَلَمْ يَجِدْهُ إِلاَّ سَوِيقًا، فَلَاكَ مِنْهُ، فَلُكْنَا مَعَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَلَّى وَصَلَّيْنَا، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. [انظر: 209 - فتح 9/ 534].

ذكر فيه حديث سويد بن النعمان السالف

(1)

.

وقوله: (فلاك منه). أي: مضغ، واللوك: إدارة الشيء في الفم، ولاكه يلوكه.

(1)

سلف برقم (5384).

ص: 129

‌10 - باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ حَتَّى يُسَمَّى لَهُ فَيَعْلَمُ مَا هُوَ

5391 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الأَنْصَاريُّ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ -الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَيْفُ اللهِ- أَخْبَرَهُ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَيْمُونَةَ -وَهْيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ- فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا، قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ، فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ، فَأَهْوَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ، هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللهِ. فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» . قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إِلَيَّ. [5400، 5537 - مسلم: 1946 - فتح: 9/ 534].

ذكر فيه حديث ابن عباس في الضب السالف

(1)

.

وقد سلف التنبيه عليه، ووقع هنا: حفيدة بنت الحارث. والمحفوظ عند أهل النسب أنها أم حفيد هزيلة بنت الحارث. والمحنوذ: المشوي في حفير من الأرض، قاله الداودي ويقال لكل مشوي. وقال أبو الهيثم: أصله من حناذ الخيل، وهو أن يُظَاهر عليها جُلَّ فوق جُلَّ لتعرق تحتها. قال ابن عرفة: حنيذ: مشوي بالرصاف حَتَّى يتقطر عرقًا، يقال: حنذته الشمس والنار إذا شوياه قال ابن فارس: شواء حنيذ، أي: منضج محمر بالحجارة وتوضع عليه حَتَّى ينضج

(2)

.

(1)

قلت: هذا أول موضع للحديث ولم يسبق قبل ذلك.

(2)

"مجمل اللغة" 1/ 253 - 254.

ص: 130

وقوله: (فقالت امرأة من النسوة الحضور). جاء به على معنى النسوة فنعت عليه، كقوله:{مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ} .

ومعنى: "أعافه": أكرهه، وقيل: أتقذره. وفيه: تجنب أكل ما يعافه، ولم تجر بأكله عادته وإن كان حلالًا. وسيأتي اختلافهم في الذبائح.

ص: 131

‌11 - باب طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاِثْنَيْنِ

5392 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ. وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «طَعَامُ الاِثْنَيْنِ كَافِيِ الثَّلَاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِيِ الأَرْبَعَةِ» . [مسلم: 2058 - فتح 9/ 535].

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طَعَامُ الاثنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلَاَثةِ كَافِي الأَرْبَعَةِ".

وأخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي

(1)

. ولفظ الترجمة أخرجه الترمذي من حديث جابر مرفوعًا: "طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية".

أخرجه عن ابن بشار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر

(2)

قال الطرقي في كتابه: أظن أبا عيسى وَهِمَ في إسناده؛ لأنه كان ضرير البصر يملي حفظًا

(3)

قلت: قد أخرجه ابن سعد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، وأخرجه مسلم، عن جماعة، عن أبي معاوية [به، و]

(4)

من طريق ابن جريج والثوري عن أبي

(1)

مسلم (2058) كتاب الأشربة، باب فضيلة المواساة في الطعام القليل .. ، والترمذي (1820)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 178.

(2)

"سنن الترمذي"(1820).

(3)

قال الحافظ في "النكت الظراف" 2/ 194 - 195: رواية ابن مهدي لهذا الحديث إنما هي: عن سفيان عن أبي الزبير، عن جابر، كذلك أخرجها مسلم (2059/ 179) عن ابن المثنى عن ابن مهدي وكذلك أخرجها أحمد في "مسنده" 3/ 301.

(4)

زيادة يقتضيها السياق لزامًا وبدونها ينقلب المعنى ولا يستقيم مع الأسانيد التي روى بها مسلم الحديث.

ص: 132

الزبير عنه، وليس على شرط البخاري، وأورده ابن بطال من حديث ابن وهب عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعاً، فذكره كما سقناه

(1)

.

وأما ابن المنير فقال: قد ورد حديث بلفظها لكن لم يوافق شرط البخاري فاستقرأ معناه على الجملة من هذا الحديث، ورأى أن ما أمكنه ترك الثلث أمكنه ترك النصف؛ لتقاربهما

(2)

، وكأنه رأى أبا سفيان وأبا الزبير ليسا على شرطه، وله طريق آخر واهٍ أخرجه ابن أبي عاصم من حديث سمرة بن جندب. قال أبو حاتم في "علله": حديث باطل

(3)

. قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عمر أيضًا

(4)

.

إذا تقرر فالمراد: أن ما يشبع منه اثنان يكفي ثلاثة، وما يشبع ثلاثة يكفي أربعة، وكذا في الاثنين مع الأربعة، والأربعة مع الثمانية. والكفاية ليست بالشبع والاستبطان، كما أنها ليست بالغنى والإكثار، ألا ترى قول أبي حازم: إذا كان ما يكفيك لا يغنيك فليس بشيء يغنيك. قيل: إنما ذَلِكَ؛ لاجتماع الأيدي؛ وكثرة ما يسمى الله عليه، فتعظم بركته، وإنما هذا التقوت كما سيأتي عن عمر قيل: معنى ذَلِكَ إذا كانت المواساة عظمت البركة.

قال المهلب: والمراد بهذِه الأحاديث الحث على المكارمة في الأكل، والمواساة، والإيثار على النفس التي مدح الله تعالى به أصحاب نبيه بقوله:{وَيُؤْثِرُونَ على أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ولا يراد بها

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 471.

(2)

"المتواري" ص 378.

(3)

"علل ابن أبي حاتم" 2/ 5.

(4)

"سنن الترمذي" بعد حديث (1820).

ص: 133

معنى التساوي في الأكل والتشاح؛ لأن قوله عليه السلام: "كافي الثلاثة". دليل على الأثرة التي كانوا يمتدحون بها والتقنع بالكفاية. وقد هم عمر رضي الله عنه في سنة مجاعة، وهي عام الرمادة أن يجعل مع أهل كل بيت مثلهم، وقال: لن يهلك أحد عن نصف قوته

(1)

.

قال ابن المنذر: وحديث الباب يدل على أنه يستحب الاجتماع على الطعام، وألا يأكل المرء وحده، فإن البركة في ذَلِكَ على ما جاء في حديث وحشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

وسيأتي في باب: من أدخل الضيفان عشرة عشرة، إن شاء الله.

وقد ظهر أن المراد: الكفاية غير الشبع، فدعوى من قال: إن هذا ليس على طريق الخلاف لا يلتفت إليه، وكذا قول من قال: إنه إذا كان طعام الواحد يكفي الاثنين، صار طعام الاثنين كافيًا للأربع، وكذا هلم جرا؛ لأن المقصود إنما هو طعام يشبع الواحد، فهو كاف للاثنين، وكذا ما بعده.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 232.

ص: 134

‌12 - باب الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ

5393 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَدْخَلْتُ رَجُلاً يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَكَلَ كَثِيرًا، فَقَالَ: يَا نَافِعُ، لَا تُدْخِلْ هَذَا عَلَيَّ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . [5394، 5395 - مسلم: 2061، 2061 - فتح: 9/ 536].

5394 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَإِنَّ الْكَافِرَ -أَوِ الْمُنَافِقَ، فَلَا أَدْرِي أَيَّهُمَا قَالَ عُبَيْدُ اللهِ- يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . [انظر: 5393 - مسلم: 2060 - فتح: 9/ 536]

وَقَالَ ابن بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثلِهِ.

5395 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلاً أَكُولاً، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . فَقَالَ: فَأَنَا أُومِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ. [انظر: 5393 - مسلم: 2060، 2061 - فتح: 9/ 536].

5396 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . [انظر: 5397 - مسلم: 2062، 2063 - فتح: 9/ 536].

5397 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَأْكُلُ أَكْلاً كَثِيرًا، فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلاً قَلِيلاً، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ» . [انظر: 5396 - مسلم: 2062، 2063 - فتح: 9/ 536].

ص: 135

ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث وَاقِدِ بْنِ مُحمدٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابن عُمَرَ لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُؤْتَى بِمِسْكِينٍ يَأْكُلُ مَعَهُ، فَأَدْخَلْتُ رَجُلًا يَأْكُلُ مَعَهُ فَأَكَلَ كَثِيرًا، فَقَالَ: يَا نَافِعُ، لَا تُدْخِلْ هذا عَلَيَّ، سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ". وواقد هذا هو ابن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عمر، وأخرجه مسلم أيضًا

(1)

.

ثانيها:

عنه أيضًا: قَالَ: قال: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ المؤْمِنَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَإِنَّ الكَافِرَ -أَوِ المُنَافِقَ، فَلَا أَدْرِي أَيَّهُمَا قَالَ عُبَيْدُ اللهِ يعني الراوي عن نافع- يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ". وأخرجه مسلم أيضًا

(2)

.

ثالثها:

قال: وَقَالَ ابن بُكَيْرٍ: ثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلِهِ. ويأتي

رابعها:

حديث سفيان عن عمر -وهو ابن دينار-قَالَ: كَانَ أَبُو نَهِيكٍ رَجُلًا أَكُولاً، فَقَالَ لَهُ ابن عُمَرَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الكَافِرَ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ". فَقَالَ: فَأَنَا أُومِنُ باللهِ وَرَسُولِهِ. وهذِه الأربعة كلها راجعة إلى ابن عمر.

(1)

مسلم (2061) كتاب الأشربة، باب المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء.

(2)

مسلم (2060).

ص: 136

خامسها:

حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا، فَأَسْلَمَ فَكَانَ يَأْكُلُ أَكْلًا قَلِيلاً، فَذُكِرَ ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنَّ المُؤْمِنَ .. " الحديث. وأخرجه النسائي وابن ماجه

(1)

، وأبو حازم

(2)

: سليمان مولى عزة.

وعدي: هو ابن أبان بن ثابت، أخو يزيد، شهدا أحدًا، ابنا قيس بن الخطيم، واسمه ثابت بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر، وقيل عدي أخو الخطيم، ابنا عمرو، وأعمامه عمرو ومحمد ويزيد، أولاد ثابت بن قيس بن الخطيم، قتلوا يوم الحرة، وقيل: أخوهم أبان والد عدي بأرض الروم مع سلمة سنة مسيلمة الأولى، قتل قيس والخطيم وعدي في الجاهلية، وقتل يزيد بن قيس يوم جسر أبي عبيد. وقد روى عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده ثابت ولا ينسب إلا إليه، ومن ولده محمود ابن محمد بن محمود بن عدي بن أبان بن ثابت.

روى عنه ابن أبي الدنيا مات عدي سنة خمس عشرة ومائة

(3)

، وكان إمام مسجد الشيعة بالكوفة، وقاضيهم

(4)

بالكوفة، وقد اتفقا على الاحتجاج به.

(1)

"سنن ابن ماجه"(3256) و"السنن الكبرى" 4/ 178.

(2)

ورد في هامش الأصل: لم يذكر شيخنا أبا حازم أولاً، وكان من حقه أن يقول: حديث أبي حازم عن أبي هريرة يحسن ما ذكره، بل ينبغي أن يقول: حديث عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

(3)

ورد في هامش الأصل: في "الكاشف" و"التهذيب" سنة ست عشرة ومائة.

(4)

ورد في هامش الأصل: في كلام شيخنا: وقاضيهم، ولكن رأيته في "الكاشف" كانت وقاضيهم فأصلحت على وقاصهم. وكذا في نسختي من "التهذيب" فليحرر.

ص: 137

والتعليق عن ابن بكير قال الإسماعيلي: ذكره البخاري بلا خبر، ثم ساقه من حديث يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب، أخبرني مالك وغير واحد أن نافعًا حدثهم فذكره. وساقه أبو نعيم من حديث يحيى بن بكير، ثَنَا مالك فذكره.

ولهذا الحديث طرق: أخرجه مسلم من حديث أبي موسى وجابر بن عبد الله

(1)

، وأخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمر

(2)

، وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث الأعمش قال: أظن أبا خالد الوالبي ذكره عن ميمونة مرفوعًا. ومن حديث جهجاه الغفاري مرفوعًا

(3)

.

وأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب "الأطعمة" من حديث ابن مسعود وأبي سعيد وأبي بصرة الغفاري، وفي "مسند الإِمام أحمد" من حديث محمد بن معن بن محمد بن نضلة بن عمرو الغفاري، عن أبيه معن، عن أبيه نضلة مرفوعًا به

(4)

. وأخرجه أبو حاتم من حديث أبي الزبير عن جابر عن عمر مرفوعًا

(5)

.

(1)

مسلم (2061) من حديث جابر، (2062) من حديث أبي موسى.

(2)

"سنن الترمذي"(1818).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 142.

(4)

"مسند أحمد" 4/ 336 وفيه عن محمد بن معن بن محمد بن معن بن نضلة بن عمرو، وما ذكر المصنف سقط منه معن الجد وعليه لا يستقيم السند.

وانظر ترجمته في "التاريخ الكبير" 1/ 229، "الجرح والتعديل" 8/ 99 و"الثقات" 7/ 412 و"تعجيل المنفعة" 2/ 209 (974).

(5)

"علل ابن أبي حاتم" 2/ 21 ومن طريقه ابن عدي في "الكامل" 2/ 54 ووقع فيه عن [جابر، عن ابن عمر] بدلاً من [عن جابر عن عمر] وقال أبو زرعة في "العلل": وهم فيه أشعث -وكان كوفيًّا- شيخ صالح الحديث، والحديث حديث ابن مهدي الذي رواه سفيان عن أبي الزبير عن جابر وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 138

إذا تقرر ذَلِكَ: فاختلف في الرجل المقول فيه هذا من هو، على أقوال:

أحدها: نضلة هذا، وأخرجه الكجي في "سننه" كذلك. ثانيها: بصرة بن أبي بصرة. ثالثها: ثمامة بن أثال. رابعها: جهجاه الغفاري.

وهذان حكاهما ابن بطال

(1)

قال أبو عمر: شرب حلاب سبع شياه، فلما أسلم لم يستتم حلاب شاة واحدة

(2)

.

وقال أبو عبيد وغيره: هذا خاص في رجل واحد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنا قد نجد مسلمًا أكثر أكلًا من الكافر

(3)

.

وقيل: إئه تمثيل، فأراد عليه السلام: أن الكافر إنما همته وسعياته في ذَلِكَ ما يدخل جوفه، والمؤمن وهب الله له القناعة، وأكثر همه دينه، وهو متوكل على ربه في رزقه.

وقيل: أراد أن المؤمن يسمي فيكون فيه البركة، فيكفيه ما لا يكفي الكافر، فإن قلت: من المؤمنين من هو أكثر أكلًا من الكافر قيل: لو كان المؤمن الأكول كافرًا كان أكثر لأكله، ولو كان الكافر القليل الأكل مؤمنًا لنقص أكله بعد إيمانه.

وقال الداودي: إنه على التمثيل أو التقليل أو التكثير؛ لقوله: "إن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه" قال الخطابي: وليس وجه الحديث أن كل من كان أكولًا ناقص الإسلام، فقد ذكر عن غير واحد من أفاضل السلف الأكل الكثير فلم يكن ذَلِكَ نقصًا من إيمانهم

(4)

،

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 472.

(2)

"الاستيعاب" 1/ 333 (360).

(3)

"غريب الحديث" 1/ 387.

(4)

"أعلام الحديث" 3/ 2045.

ص: 139

وقيل: هو مثل أن المؤمن يأكل الحلال والكافر يأكل الحرام. وما قدر عليه.

فهذِه خمسة أقوال، وقيل: الناس في الأكل على ثلاث طبقات:

طائفة يأكلون كل مطعوم من حاجة أو غير حاجة، وهذا فعل الحمير؛ لقوله تعالى:{وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} وقوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)}

وطائفة يأكلون إذا جاعوا، فإذا ارتفع الجوع أمسكوا، وهذِه عادة المقتصدين

(1)

والمتناسكين في الشمائل والأخلاق.

وطائفة يتجوعون يقصدون بذلك قمع شهوة النفس، ولا يأكلون إلا عند الضرورة وقدر ما يكسر شدة الجوع، وهذِه عادة الأبرار وشمائل الصالحين والأخيار

(2)

.

والسؤال السالف، إنا نجد مؤمنًا كثير الأكل كأبي نهيك وغيره، ونجد غيره كافرًا قليل الأكل؟

أجاب ابن بطال عنه بأنه عليه السلام أراد بقوله: "المؤمن يأكل في معى واحد" المؤمن التام الإيمان، من حسن إسلامه وكمل إيمانه، تفكر في خلق الله له وفيما يصير إليه من الموت وما بعده، فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته.

وقد روي هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أمامة مرفوعًا: "عليكم بقلة الأكل؛ تعرفون في الآخرة، فمن كثر تفكره قل طُعمه، وكلَّ لسانه، ومن قل تفكره كثر طُعمه، وعظم ذنبه وقسا قلبه،

(1)

كلمة غير واضحة بالأصول، والمثبت من "أعلام الحديث" للخطابي 3/ 2047.

(2)

"أعلام الحديث" 3/ 2046 - 2047.

ص: 140

والقلب القاسي بعيد من الله"

(1)

.

فأخبر أن من تفكر فيما ينبغي له التفكر فيه من قرب أجله، وما يصير إليه في معاده قل طعمه وكل لسانه وحق له ذَلِكَ.

وفيه: الحض على التقلل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة؛ ألا ترى قوله: "إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع"

(2)

.

فدل هذا المعنى الذي وصفه الشارع أنه يأكل في مِعى واحد، وهو التام الإيمان المقتصد في مطعمه وملبسه، الذي قبل وصية نبيه وأخذ المال بسخاوة نفس، فبورك له فيه واستراح من دواء

(3)

الحرص.

فإن قلت: فكيف بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه يأكل صاع تمر حَتَّى يتبع حشفة ولا أتم من إيمانه؟

قلت: من علم سيرة عمر رضي الله عنه، وتقلله في مطعمه وملبسه لم يعترض بهذا، ولم يتوهم أن قوت عمر كان كل يوم صاع تمر؛ لأنه كان من التقلل في مطعمه وملبسه في أبعد الغايات، وكان أشد الناس اقتداءً

(1)

رواه البيهقي في "الشعب" 5/ 151، ابن الجوزي في "الموضوعات" 3/ 219 مطولًا ورواه الحاكم مختصرًا 1/ 28 وسكت عنه، وقال الذهبي في "التلخيص": ساقه من طريق ضعيف وسقط نصف السند من النسخة وقال البيهقي عقب ذكره للحديث: ويشبه أن يكون من كلام بعض الرواة فألحق بالحديث والله أعلم. وقال ابن الجوزي: لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعله بإسماعيل بن عياش.

وقال الألباني في "الضعيفة"(90): موضوع.

(2)

سلف برقم (1472) كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة من حديث حكيم ابن حزام.

(3)

كذا بالأصول ولعلها (داء).

ص: 141

برسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته، وإنما كان عمر يأكل الصاع في بعض الأوقات إذا بلغ منه الجوع وألمه، فكثيرًا كان يجوع نفسه، ولا يبلغ من الأكل نهمته.

وقد كانت العرب في الجاهلية تمتدح بقلة الأكل وتذم كثرته قال الشاعر:

يكفيه فلذة كبدٍ إن ألمَّ بها

من السواد يروي شربه الغمر

وقالت أم زرع في ابن أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة. وقال حاتم الطائي: يذم بكثرة الأكل:

فإنك إن أعطيت بطنك سؤله

وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وقد شبه الله أكل الكفار بأكل البهائم فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} أي: أنهم يأكلون بالشره والنهم كالأنعام؛ لأنهم جهال، وذلك أن الأكل ضربان: أكل نهمة، وأكل حكمة، فأكل النهمة للشهوة فقط وأكل الحكمة للشهوة والمصلحة

(1)

.

وذكر القرطبي فيه أقوالاً:

أحدها: أكل المؤمن إذا نُسب [إلى]،

(2)

كافر سُبْعًا.

ثانيها: المراد الصفات السبع، وهي: الحرص، والشره، وطول الأمل، والطمع، وسوء [الطبع]

(3)

وحب السمن، والحسد.

وقيل: شهوات الطعام سبع: شهوة الطبع، والنفس، والعين، والفم، والأذن، وأن لا يعيبوا الجوع، وهي الضرورة التي بها يأكل

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 472 - 474.

(2)

غير موجودة بالأصل، والمثبت من "المفهم".

(3)

في الأصل: الطمع، والمثبت من "المفهم".

ص: 142

المؤمن. وقيل: إنه كان في كافر مخصوص، وهو الذي شرب حلاب الشياه السبع

(1)

. وهذا سلف.

قال الطحاوي في "بيان مشكله": ولم يكن للحديث عندنا غير هذا الوجه، وأن الحديث خرج مخرج المعرفة، وما خرج مخرج المعرفة لم يبعد من قصده إليه إلى من سواه، إلا أن يكون فيه دلالة تدل على المقصد إلى ما هو أكثر من الواحد، فيصرف إلى ذَلِكَ.

ويرجع حكمه إلى حكم النكرة. وسمعت ابن أبي عمران يقول قد كان قوم حملوا هذا الحديث على الرغبة في الدنيا كما تقول: فلان يأكل الدنيا أكلاً، أي: يرغب فيها ويحرص عليها، فالمؤمن يأكل في معى واحدٍ، لزهادته في الدنيا، والكافر في سبعة أمعاء؛ لرغبته فيها

(2)

.

ولم يجعلوا ذَلِكَ على الطعام قالوا: وقد رأينا مؤمنًا أكثر طعامًا من كفار، ولو تأول ذَلِكَ على الطعام استحال معنى الحديث، قال القرطبي: وقيل: إنه قاله على سبيل التمثيل أراد أن نهمته وسعايته ما يدخله جوفه، والمؤمن وهب الله له القناعة والتوكل عليه في رزقه.

وقيل: أراد أن المؤمن يسمي الله تعالى على طعامه، فلا يشاركه الشيطان، فتكون البركة فيه، فيكفيه ما لا يكفي الكافر. وعند أهل التشريح: لكل إنسان سبعة أمعاء: المعدة، وثلاثة رقاق متصلة بها، ثم ثلاثة غلاظ، فالكافر لشرهه لا يكفيه إلا ملؤها كلها، والمؤمن لاقتصاره وتسميته يشبعه ملء أحدها.

(1)

"المفهم" 5/ 342 - 343.

(2)

"شرح مشكل الآثار" 5/ 258.

ص: 143

وقال النووي: لا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة مثل معى المؤمن قال عليه السلام: "حسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه"

(1)

وفي "ربيع الأبرار": كان علي رضي الله عنه يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند ابن جعفر، ولا يزيد على لقمتين أو ثلاث، قيل له فقال: إنما هي أيام قلائل ويأتي أمر الله. وكان يقول:

فإنك مهما تعطِ بطنك سؤله .. البيت.

فصل:

المعى: مقصور، مثل أنا، وتثنيته معيان، وذكر أبو حاتم السجستاني في كتاب "التذكير والتأنيث" أنه مذكر مقصور، وجاء به القطامي الشاعر جمعًا، كما قال تعالى:{يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} ولم يقل: أطفالاً، فقال:

كان نسوع رحلي حين ضمت

حوالب غررًا ومِعًا جياعًا.

وكان الوجه جائعًا. ولم أسمع أحدًا يؤنث المعى، وقد رواه من لا يوثق به، والهاء في سبعة تدل على التذكير في الواحد، ولم أسمع معى واحد ممن أثق به.

(1)

"مسلم بشرح النووي" 14/ 25.

ص: 144

‌13 - باب الأَكْلِ مُتَّكِئًا

5398 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ، سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا» . [5399 - فتح 9/ 540]

5399 -

حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ:«لَا آكُلُ وَأَنَا مُتَّكِئٌ» . [انظر: 5389 - فتح: 9/ 540]

حدثنا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ، قال سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا آكُلُ مُتَّكِئًا".

حدثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الأَقْمَرِ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ واسمه وهب بن عبد الله قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ:"لَا آكُلُ وَأَنَا مُتَّكِئٌ".

هذا الحديث من أفراده. وأخرجه الأربعة

(1)

، وقال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث علي بن الأقمر.

وروى محمد بن عيسى الطباع، عن أبي عوانة، عن رقية بن مصقلة، عن علي بن الأقمر، عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم فذكره

(2)

. فأدخل بين علي وأبي جحيفة عونًا، فيحمل على أنه سمعه من عون مرة ومرة من أبي جحيفة؛ لتصريحه في رواية البخاري بالسماع، فرواه مرة بعلو ومرة بنزول، وعون ثقة.

(1)

أبو داود (3769) والترمذي (1830)، ورواه النسائي في "الكبرى" 4/ 177 وابن ماجه (3252).

(2)

رواه الطبراني في "الأوسط" 4/ 88 - 89 وقال: لم يدخل في هذا الحديث بين

علي بن الأقمر وبين أبي جحيفة: عون بن أبي جحيفة إلا محمد بن عيسى الطباع.

ص: 145

وفي الباب أيضًا عن عبد الله بن عمرو أخرجه أبو داود من حديث ثابت البناني عن شعيب، بن عبد الله بن عمرو، وعن أبيه قال: ما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئًا قط

(1)

. كذا قال شعيب بن عبد الله -نسبة إلى جده- ولولا هذا لكان الحديث مرسلاً؛ لأن أباه لا صحبة له، ولما رواه ابن أبي عاصم قال أبوه عبد الله بن عمرو: فلا أدري: هل هو من قوله أو من قول الراوي عن شعيب؟

ولما ذكره ابن شاهين في كتابه قال: صحيح. وهو ناسخ للأكل متكئًا

(2)

.

وفي الباب أيضًا عن أبي الدرداء أخرجه ابن شاهين في كتابه مرفوعًا: "لا آكل متكئًا". وأخرجه عن ابن مسعود أيضًا ثم قال: هذا الحديث إن كان محفوظًا، وإلا فهو منكر. قال ابن شاهين: وقد كان أكل متكئًا ثم نهى عنه

(3)

.

وذكر عن عطاء بن يسار أن جبريل رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل متكئًا فنهاه. وعن أنس رضي الله عنه لما نهاه جبريل ما رأيته متكئًا بعد.

قال ابن شاهين: والتشديد في هذا على وجه الاختيار منه لا على وجه التحريم، وآدابه أولى أن تتبع، وما تركه فلا خير فيه. وقد رخص في الأكل متكئًا

(4)

.

وفي النسائي من حديث بقية بن الوليد، عن الزبيدي، عن الزهري، عن محمد بن عبد الله بن عباس، قال: كان ابن عباس يحدث أن الله

(1)

"سنن أبي داود"(3770).

(2)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" لابن شاهين 1/ 426.

(3)

المصدر السابق 1/ 424 - 425.

(4)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" لابن شاهين 1/ 476.

ص: 146

تعالى أرسل إلى نبيه ملكًا من الملائكة مع جبريل. قال: إن لله يخيرك بين أن تكون عبدًا نبيًّا، وبين أن تكون عبدًا ملكًا. فقال:"لا، بل أكون عبدًا نبيًّا" فما أكل بعد تلك الكلمة طعامًا متكئًا

(1)

.

كذا قال: محمد بن عبد الله -نسبة إلى جدَّه- وإنما هو محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وإن كان البخاري ذكره فيمن اسمه محمد بن عبد الله؛ لأن جماعة ذكروه كالأول. ولابن أبي شيبة من حديث مجاهد بن جبر قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا إلا مرة قال: "اللهم إني عبدك ورسولك"

(2)

.

وهذا فيه إشارة إلى ترسيخ حديث ابن عباس السالف، فإن قلت: فقد روي عن ابن عباس أنه كان يأكل متكئًا. قلت: إسناده ضعيف، أخرجه ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن أبي زياد، أخبرني من رأى ابن عباس يأكل متكئًا.

وروى ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن حصين بن عبد الرحمن أن خالد بن الوليد دعا بغدائه فتغدى، وهو متكئ.

وعن عطاء قال: إن (كنا)

(3)

لنأكل ونحن متكئون. وقال أبو هلال: رأيت ابن سيرين يأكل متكئًا. وقد سألت عبيدة عن الأكل متكئًا. (قال)

(4)

: متكئًا. وقال النخعي: كانوا يكرهون أن يأكلوا تكاة، مخافة أن تعظم بطونهم

(5)

.

(1)

"السنن الكبرى" 4/ 171.

(2)

"المصنف" 5/ 139.

(3)

من (غ).

(4)

كذا بالأصل، وفي "المصنف": فأكل.

(5)

المصدر السابق.

ص: 147

وفي "علل ابن أبي حاتم" من حديث عبد الله بن السائب بن خباب، عن أبيه، عن جده: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل قديدًا متكئًا. ثم قال عن أبيه: هذا حديث باطل

(1)

.

إذا تقرر ذَلِكَ: فإنما فعل الشارع ذَلِكَ؛ تواضعًا لله وتذللًا له، وقد بين هذا الحديث السالف، وبينه أيوب في حديثه عن الزهري أنه عليه السلام أتاه ملك لم يأته قبل تلك المرة ولا بعدها فقال: إن ربك يخيرك بين أن تكون عبدًا نبيًّا أو ملكًا نبيًّا. فنظر إلى جبريل كالمستشير فأومأ إليه أن (تواضع)

(2)

، فقال:"بل عبدًا نبيًّا" فما أكل متكئًا

(3)

.

وقال مجاهد: لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم متكئًا قط إلا مرة ففزع فجلس فقال: "اللهم إنى عبدك ورسولك". ومن أكل متكئًا فلم يأتِ حرامًا، وإنما يكره ذَلِكَ؛ لأنه خلاف التواضع الذي اختاره الله لأنبيائه، وصفوته من خلقه، وقد أجاز ابن سيرين والزهري الأكل متكئًا

(4)

.

وقال ابن التين: قيل: كره؛ لأنه فعل المكثرين. وقيل: لأنه فعل مكثر أكله فنصب الموائد ويكثر الألوان، كأنه عليه السلام قال: أنا لا أفعل ذَلِكَ، لكني آكل العُلقة وأجتزئ باليسير، فأقعد له مستوفرًا وأقوم عنه مستعجلًا. وصرح ابن حزم بكراهة الأكل متكئًا فقال: نكرهه متكئًا، ولا نكرهه منبطحًا على البطن، وليس شيء من ذَلِكَ حرامًا؛ لأنه لم يأتِ نهي عن شيء من ذلك، وما لم يتصل بنا تحريمه فهو حلال،

(1)

"علل ابن أبي حاتم" 2/ 18 - 19.

(2)

في الأصل: (تراجع)، والمثبت من مصادر التخريج.

(3)

ذكره ابن بطال في "شرحه" 9/ 474 ورواه النسائي في "الكبرى" 4/ 171، والبيهقي 7/ 49 من طريق الزبيدي عن الزهري به.

(4)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 474 - 475.

ص: 148

وقد روى أبو داود حديثًا قال فيه: إنه منكر؛ أنه عليه السلام نهى أن يأكل الرجل منبطحًا على بطنه

(1)

.

وعند ابن عدي من طريق مرسلة: زجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الأكل، قال مالك: هو نوع من الاتكاء

(2)

.

ولأبي داود أنه عليه السلام جثى على الطعام فقال له آخر: ما هذِه الجلسة؟ فقال: "إن الله جعلني عبدًا كريمًا ولم يجعلني جبارًا عنيدًا"

(3)

.

فصل:

المراد بالمتكئ في الحديث المعتمد على الوِطاءِ الذي تحته، وكل من استوى قاعدًا على وطاءٍ فهو متكئ كأنه أرخى مقعدته وشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته، معناه: إذا أكلت لم أقعد متكئًا. فعل من يريد الاستكثار منه، ولكني آكل بلغة فيكون قعودي مستوفرًا.

وفي الحديث: كان يأكل وهو مقع

(4)

، أي: كأنه يجلس على وركه غير متمكن. وهو الاحتفاز والاستنفزاز، وذكر بعضهم أن الاتكاء هو أن يتكئ على أحد جانبيه، وهو فعل المتجبرين، وإنه يمنع نزول الطعام كما ينبغي.

(1)

"المحلى" 7/ 435، والحديث عند أبي داود (3774) وقال الألباني في "الإرواء" (1982): منكر.

(2)

انظر: "المنتقى" 7/ 250.

(3)

"سنن أبي داود"(3773) وصحح الألباني إسناده في "الإرواء"(1966).

(4)

رواه أبو داود (3771) وأحمد 3/ 180، والنسائي في "الكبرى" 4/ 171 من حديث أنس بن مالك.

ص: 149

‌14 - باب الشِّوَاءِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى (جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أَيْ: مَشْوِيٍّ.

5400 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِضَبٍّ مَشْوِيٍّ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ لِيَأْكُلَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ ضَبٌّ. فَأَمْسَكَ يَدَهُ، فَقَالَ خَالِدٌ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّهُ لَا يَكُونُ بِأَرْضِ قَوْمِي، فَأَجِدُنِى أَعَافُهُ» . فَأَكَلَ خَالِدٌ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ.

قَالَ مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ. [انظر: 5391 - مسلم: 1946 - فتح: 9/ 542]

ثم ذكر حديث الضب من طريق ابن عباس عن خالد بن الوليد ففي لفظ: بضب مشوي. وفي آخر: محنوذ.

قال صاحب "العين": حنذت اللحم أحنذه حنذًا، إذا شويته بالحجارة المسخنة واللحم حنيذ ومحنوذ

(1)

، والشمس تحنذ أيضًا.

والحديث ظاهر لما ترجم له وهو جواز أكل الشواء؛ لأنه عليه السلام أهوى ليأكل منه، لو كان مما لا يتقزز أكله غير الضب.

(1)

"العين" 3/ 201.

ص: 150

‌15 - باب الْخَزِيرَةِ

وَقَالَ النَّضْرُ: الْخَزِيرَةُ مِنَ النُّخَالَةِ، وَالْحَرِيرَةُ مِنَ اللَّبَنِ.

5401 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَنْصَاريُّ، أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الأَنْصَارِ- أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي، فَإِذَا كَانَتِ الأَمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ لَهُمْ، فَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ تَأْتِي فَتُصَلِّي فِي بَيْتِي، فَأَتَّخِذُهُ مُصَلًّى. فَقَالَ:«سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ» . قَالَ عِتْبَانُ: فَغَدَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ لِي:«أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟» . فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرَ، فَصَفَفْنَا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، وَحَبَسْنَاهُ على خَزِيرٍ صَنَعْنَاهُ، فَثَابَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَوُو عَدَدٍ فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُلْ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ؟» . قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: قُلْنَا: فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ. فَقَالَ: «فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ على النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، يَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ» .

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: ثُمَّ سَأَلْتُ الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الأَنْصَارِيَّ -أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ، وَكَانَ مِنْ سَرَاتِهِمْ- عَنْ حَدِيثِ مَحْمُودٍ، فَصَدَّقَهُ. [انظر: 424 - مسلم: 33 - فتح:9/ 542].

ثم ذكر فيه حديث عتبان يا رسول الله، إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي

الحديث السالف في الصلاة والمغازي

(1)

ثم حبسناه على خزير صنعناه.

(1)

سلف في الصلاة (424) باب: إذا دخل بيتًا صلى حيث شاء .. وفي المغازي برقم (4009).

ص: 151

وذكر الطبري أن الخزيرة: شيء يتخذ كهيئة العَصِيد غير أنه أرق منها. وقول النضر: الخزيرة من النخالة، يريد بالخاء المعجمة والزاي، والثاني بالحاء والراء المهلمتين.

وقال ابن فارس: الخزيرة: دقيق يخلط بشحم، كانت العرب تعتز به

(1)

. وقال الضبي والجوهري: الخزيرة: لحم يقطع صغارًا ويصب عليه الماء، فإذا نضج ذر عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة

(2)

وقيل: هي حساء من دقيق ودسم.

وقال أبو الهيثم: إذا كان من دقيق فهي خزيرة، وإذا كان من نخالة فهي حريرة.

وقال الداودي: قول النضر: من النخالة: يعني: التي يبقى فيها بعض الحشيش. قيل: ويخرج ماؤها.

والتلبينة الآتية في بابها والتلبين: حساء يعمل من دقيق أو نخالة، وربما جعل فيها عسل، سميت تشبيهًا باللبن لبياضها ورقتها، وقيل: دقيق ولبن.

وقول الزهري: ثم سألت الحُصين بن محمد الأنصاري أحد بني سالم وكان من سراتهم عن حديث محمود فصدقه، قال ابن التين: ضبط القابسي الحضين -بضاد معجمة ونون- وقال الشيخ أبو عمران: لم يدخل البخاري في "جامعه" الحضير -بالضاء والراء- وإنما أدخله مسلم وأدخل الحصين -بصاد غير معجمة ونون- قلت: وهو الصواب هنا. ومعنى: سراتهم: أفاضلهم، وفيه ما ترجم له.

(1)

"مجمل اللغة" 1/ 288.

(2)

"الصحاح" 2/ 644.

ص: 152

وفيه من فوائده:

إمامة الأعمى إذا كان من أفضلهم، وصلاة النافلة جماعة، وقد أجازه مالك وغيره، قال ابن حبيب: وذلك إذا كان سرًّا ليس جهرًا الجماعة اليسيرة.

ص: 153

‌16 - باب الأَقِطِ

وَقَالَ حُمَيْدٌ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه: بَنَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِصَفِيَّةَ، فَأَلْقَى التَّمْرَ وَالأَقِطَ وَالسَّمْنَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ: صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيْسًا.

5402 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: أَهْدَتْ خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضِبَابًا وَأَقِطًا وَلَبَنًا، فَوُضِعَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَتِهِ، فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُوضَعْ، وَشَرِبَ اللَّبَنَ، وَأَكَلَ الأَقِطَ. [انظر: 2575 - مسلم: 1947 - فتح: 9/ 544]

ثم ساق حديث أبي بشر -جعفر- عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في الضَّبَّ.

وفيه: وَأَكَلَ الأَقِطَ.

سلفا في المغازي في غزوة خيبر

(1)

، والثاني في البيع والجهاد والهبة

(2)

.

والأقط: شيء يصنع من اللبن وذلك أن يؤخذ ماء اللبن فيطبخ، كلما طفا عليه من بياض اللبن شيء جمع في إناء، فذلك الأقط وهو من أطعمة العرب. وهذِه الخالة في حديث ابن عباس هي أم حفيد هزيلة بنت الحارث.

(1)

وصله في المغازي برقم (4213).

(2)

سلف في الهبة برقم (2575) باب: قبول الهدية، وسيأتي في "الأطعمة" برقم (5389) ولم يروه البخاري في البيوع ولا في الجهاد كما ذكر المصنف، وانظر:"تحفة الأشراف" 4/ 395 (5448).

ص: 154

‌17 - باب السِّلْقِ وَالشَّعِيرِ

5403 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إِنْ كُنَّا لَنَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ أُصُولَ السِّلْقِ، فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا، فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، إِذَا صَلَّيْنَا زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا، وَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلَا نَقِيلُ إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَاللهِ مَا فِيهِ شَحْمٌ وَلَا وَدَكٌ. [انظر: 938 - مسلم: 859 - فتح: 9/ 544].

ذكر فيه حديث أبي حازم سلمة بن دينار عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السالف في الجمعة والمزارعة، ويأتي في الاستئذان

(1)

، وفيه ما كان السلف عليه من الآقتصاد في مطعمهم وتقللهم واقتصارهم على الدون من ذَلِكَ؛ ألا ترى حرصهم على السلق والشعير، وهذا يدل أنهم كانوا لا يأكلون في ذَلِكَ كل وقت، ولم تكن همتهم اتباع شهواتهم، وإنما كانت همتهم من القرب ما يبلغهم المحل، ويدفعون سورة الجوع بما يمكن، فمن كان حريصًا أن يكون في الآخرة مع صالح سلفه فليسلك سبيلهم وليجرِ على طريقتهم وليقتدِ بهم يرشد.

وقوله: (وما كنا نتغدى ولا نقيل إلا بعد الجمعة). فيه دليل أنهم كانوا يبكرون لها، وأن التأهب لها يمنعهم أن يقيلوا قبلها، وتأوله قوم على جوازها قبل الزوال. والفقهاء أكثرهم على خلافه. ونَقِيل بفتح أوله ثلاثي قال تعالى {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4].

(1)

سلف في الجمعة برقم (938) وفي المزارعة برقم (2349) وسيأتي في الاستئذان برقم (6248).

ص: 155

‌18 - باب النَّهْسِ وَانْتِشَالِ اللَّحْمِ

5404 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: تَعَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتِفًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. [انظر: 207 - مسلم: 354 - فتح: 9/ 545].

5405 -

وَعَنْ أَيُّوبَ وَعَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْتَشَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَرْقًا مِنْ قِدْرٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. [انظر: 207 - مسلم: 354 - فتح: 9/ 545].

ذكر فيه: حدثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، ثَنَا حَمَّاد، ثنا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: تَعَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَتِفًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يتوَضَّأْ.

وَعَنْ أَيُّوبَ وَعَاصِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: انْتَشَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرْقًا مِنْ قِدْرٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

الشرح:

النهس: -بالسين المهملة- أخذ اللحم بأطراف الأسنان، وبالمعجمة الأخذ بجميعها، وقد قيده بالمهملة ابن التين، ونقل ابن بطال عن أهل اللغة: نهس الرجل والسبع اللحم نهسًا: قبض عليه ثم نتره، والنهس (والنهش)

(1)

عند الأصمعي سواء: أخذ اللحم بالفم

(2)

وبه جزم في "الصحاح" وقال: إنه الأخذ بمقدم الفم كنهس الحية

(3)

.

قلت: وقيل بالمهملة: القبض على اللحم ونشره عند أكله. فتحصلنا على ثلاثة أحوال: الأخذ بالفم بمقدمه التعرقة، وعرقت

(1)

غير موجودة بالأصول: والمثبت من "شرح ابن بطال".

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 477.

(3)

"الصحاح" 3/ 987 مادة (نهس).

ص: 156

العظم واعترقته تعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك.

والعرق بالسكون العظم إذا أخذت عنه معظم اللحم، وقال الداودي: هو النصيب من اللحم.

ومعنى: (انتشل): أخذ قبل النضج، وهو النشيل، قاله الهروي

(1)

.

ويقال للذي يرفع به المنشل. وقال ابن بطال: انتشال اللحم نتفه وقطعه، يقال: نشلت اللحم من المرق نشلاً: أخرجته منه وقال بعضهم: نشلت اللحم نشلاً، إذا أخذت بيدك عضوًا فانتشلت ما عليه

(2)

.

وقال ابن فارس: النشيل: اللحم يطبخ بلا توابل ينشل بالقدر بالمنشل

(3)

ووقع في رواية أبي الحسن: أنشل رباعيًا. وفي رواية أبي ذر وغيره: انتشل ثلاثي، وهو في اللغة ثلاثي.

فصل:

ومحمد هذا هو ابن سيرين، ولم يسمع من ابن عباس كما نص عليه غير واحد، قال يحيى بن معين: إنما روى عن عكرمة عنه

(4)

. وسمع من ابن عمر حديثًا واحداً

(5)

، ورأى زيد بن ثابت

قلت: وهذا الحديث من أفراده، وليس له في "صحيحه"

(6)

سواه. وكذا قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه أنه لم يسمع محمد منه يقول في كلها: بلغت عنه

(7)

.

(1)

انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 59، مادة (نشل).

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 477.

(3)

"مجمل اللغة" 2/ 868.

(4)

"معرفة الرجال" ليحيى بن معين برواية أحمد بن محمد بن القاسم 1/ 122 (601).

(5)

تاريخ ابن معين برواية الدوري 25/ 350، وانظر "تهذيب الكمال" 25/ 350.

(6)

ورد في هامش الأصل: ينبغي أن يقول: عنه.

(7)

"العلل ومعرفة الرجال" 2/ 534، 3/ 417.

ص: 157

وقال ابن المديني قال شعبة: أحاديث محمد عنه إنما سمعها من عكرمة، لقيه أيام المختار بن أبي عبيد، فلم يسمع محمد من ابن عباس شيئًا

(1)

.

وقد أخرج له النسائي حديثًا في الجنائز من حديث أيوب عنه، عن ابن عباس، ومن طريق منصور بن زاذان، عنه، عن ابن عباس، ومن هذا الوجه أيضًا خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين. وأخرجه الترمذي أيضًا

(2)

.

وجزم ابن بطال بأنه لا يصح له سماع منه قال: ولا من ابن عمر وإنما يسند الحديث برواية عن عكرمة عنه، وما ذكره في ابن عمر يخالفه ما ذكرناه عن يحيى بن معين

(3)

.

وحديث ابن عباس أخرجه في الطهارة من حديث عطاء عنه

(4)

.

وقوله: (وعن أيوب وعا صم) ذكر صاحب "الأطراف" أن البخاري رواه في الأطعمة عن عبد الله بن عبد الوهاب، عن حماد عنه، وعن عاصم كلاهما عن عكرمة، وهو كما قال

(5)

، كما سقناه أولاً.

فصل:

فيه ما ترجم له، وفيه أيضًا ترك الوضوء مما مست النار كما سلف في بابه.

(1)

"العلل" لابن المديني ص 122.

(2)

حديث أيوب عنه رواه النسائي في "المجتبى" 4/ 46، وفي "الكبرى" 1/ 627 وحديث منصور عنه رواه الترمذي (547)، النسائي 3/ 117.

(3)

"شرح ابن بطال" 9/ 477.

(4)

سلف برقم (207).

(5)

انظر "تحفة الأشراف" 5/ 231 (6437).

ص: 158

‌19 - باب تَعَرُّقِ الْعَضُدِ

5406 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ مَكَّةَ. [انظر: 1821 - مسلم: 354 - فتح: 9/ 545].

5407 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنْزِلٍ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَازِلٌ أَمَامَنَا، وَالْقَوْمُ مُحْرِمُونَ وَأَنَا غَيْرُ مُحْرِمٍ فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَنَا مَشْغُولٌ أَخْصِفُ نَعْلِى، فَلَمْ يُؤْذِنُونِي لَهُ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنِّي أَبْصَرْتُهُ، فَالْتَفَتُّ فَأَبْصَرْتُهُ، فَقُمْتُ إِلَى الْفَرَسِ فَأَسْرَجْتُهُ، ثُمَّ رَكِبْتُ وَنَسِيتُ السَّوْطَ وَالرُّمْحَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ. فَقَالُوا: لَا وَاللهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ. فَغَضِبْتُ فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُمَا، ثُمَّ رَكِبْتُ فَشَدَدْتُ على الْحِمَارِ فَعَقَرْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ وَقَدْ مَاتَ، فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ، فَرُحْنَا وَخَبَأْتُ الْعَضُدَ مَعِي، فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:«مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟» . فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ فَأَكَلَهَا حَتَّى تَعَرَّقَهَا، وَهْوَ مُحْرِمٌ. قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: وَحَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مِثْلَهُ. [انظر: 1821 - مسلم: 1196 - فتح: 9/ 546].

ذكر فيه حديث أبي قتادة من طريق أبي حازم سلمة بن دينار، عن عبد الله بن أبي قتادة، عنه السالف في الحج والجهاد

(1)

، وهو الحارث بن ربعي، من بني سليمة بن الخزرج وقال في آخره:(قال ابن جعفر: حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي قتادة مثله).

(1)

سلف برقم (1821) باب: وإذا صار الحلال فأهدى للمحرم فضلة، وبرقم (2854) باب: اسم الفرس والحمار.

ص: 159

وموضع الحاجة منه: (فناولته العضد فأكلها وتعرقها وهو محرم).

قال صاحب "العين": تعرقت العظم وأعرقته وعرقته أعرقه عرقًا: أكلت ما عليه، والعراق: العظم بلا لحم، فإن كان عليه لحم فهو عرق

(1)

. وهو ظاهر فيما ترجم له.

وقوله فيه: (أخصف نعلي) أي: أصلحها وأجمع قبالها، والخصف: الجمع قال تعالى: {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} أي: يجمعان الورق.

(1)

"العين" 1/ 154.

ص: 160

‌20 - باب قَطْعِ اللَّحْمِ بِالسِّكِّينِ

5408 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ أَبَاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. [انظر: 208 - مسلم: 355 - فتح: 9/ 547].

ذكر فيه حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه أَنَّهُ رَأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَى السِّكِّينَ

(1)

التِي يَحْتَزُّ بِهَا ثمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

وقد سلف في الطهارة والصلاة والجهاد

(2)

وذكره هنا رادًا بحديث أبي معشر نجيح -وهو واهٍ- عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها رفعته:"لا تقطعوا اللحم بالسكين؛ فإنه من صنع الأعاجم، وانهشوه؛ فإنه أهنأ وأمرأ"

(3)

.

قال أبو داود: وهو حديث ليس بالقوي. وحديث عثمان بن أبي سليمان، عن صفوان بن أمية ولم يسمع منه: كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخذ اللحم من العظم فقال لي: "أدن العظم من فيك؛ فإنه أهنأ وأمرأ".

(1)

ورد في هامش الأصل: السكين يؤنث ويذكر، والغالب التذكير، قاله الجوهري.

(2)

سلف في الطهارة برقم (208) باب: من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق. وفي الصلاة برقم (675) باب: إذا دعي الإِمام إلى الصلاة .. وفي الجهاد برقم (2923) باب: ما يذكر في السكين.

(3)

رواه أبو داود (3778) وقال: ليس هو بالقوي، وقال المنذري في "مختصره" 5/ 304: في إسناده أبو معشر وكان يحيى القطان لا يحدث عنه ويستضعفه جدًا ويضحك إذا ذكره. وتكلم فيه غير واحد من الأئمة، وقال الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1290): منكر.

ص: 161

وأخرجه الترمذي من حديث عبد الكريم، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بلفظ:"انهشوا اللحم نهشًا". وقال: لا نعرفه إلا من حديث عبد الكريم

(1)

.

قلت: قد أخرجه ابن أبي عاصم من حديث محمد بن زياد بن الفضل بن عباس قال: كانت فينا وليمة فسمعت صفوان بن أمية يقول، فذكره.

قال ابن حزم: وقطع اللحم بالسكين للأكل حسن، ولا يكره أيضًا قطع الخبز به؛ إذ لم يأتِ نهي صحيح عن قطع الخبز وغيره بالسكين، وهو مباح.

(1)

"سنن أبي داود"(3779) و"سنن الترمذي"(1835) وقال العراقي في "تخريج الإحياء"(2433): منقطع. وقال الألباني في "الضعيفة"(2194): ضعيف.

ص: 162

‌21 - باب مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا

5409 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ. [انظر: 3563 - مسلم: 2064 - فتح: 9/ 547].

ذكر فيه حديث أَبِي حَازِمٍ وهو سلمان مولى عزة الأشجعية، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: مَا عَابَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وإلا تَرَكَهُ.

هذا الحديث سلف في باب صفته عليه الصلاة السلام، وأخرجه مسلم وقال: وإن كرهه سكت. وأخرجه أيضًا أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح

(1)

. وهو دال على حسن أدبه مع الله تعالى؛ لأنه إذا عاب المرء ما كرهه من الطعام فقد رد على الله رزقه، وقد يكره بعض الناس من الطعام ما لا يكرهه غيره، ونعم الله لا تعاب، وإنما يجب الشكر عليها والحمد لله من أجلها؛ لأنه لا يجب لنا شيء عليه منها، بل هو متفضل في إعطائه، عدل في منعه.

(1)

سلف في المناقب برقم (3563) ومسلم (2064/ 188) كتاب الأشربة، باب لا يعيب الطعام، وأبو داود (3763) والترمذي (2031) وابن ماجه (3259).

ص: 163

‌22 - باب النَّفْخِ فِي الشَّعِيرِ

5410 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ أَنَّهُ سَأَلَ سَهْلاً: هَلْ رَأَيْتُمْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ [فَهَلْ]

(1)

كُنْتُمْ تَنْخُلُونَ الشَّعِيرَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ كُنَّا نَنْفُخُهُ. [5413 - فتح: 9/ 548].

ذكر فيه حديث أبي غسان محمد بن مطرف المدني: حَدَّثَني أبو حازم -واسمه سلمة بن دينار- أَنَّهُ سَأَلَ سَهْلاً: هَلْ رَأَيْتُمْ في زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ؟ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ: كيف كُنْتُمْ تَنْخُلُونَ الشَّعِيرَ؟ قَالَ: لَا، ولكن كُنَّا نَنْفُخُهُ.

الشرح:

النقي: الخبز الحُوَّارى وفي حديث آخر: يجيء الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي. يعني: الحُوَّارى. ونخل الدقيق بالغربال -وهو المنخل- أي: تصفيته من النخالة وغيرها.

وفيه: ما كان عليه السلف من التخشن في مأكلهم وترك الرقيق لها والتباين فيها، وكانوا في سعة من تنخيله؛ لأن ذَلِكَ مباح لهم، فآثروا التخشن وتركوا التنعم؛ ليقتديَ بهم من يأتِي بعدهم، فخالفناهم في ذَلِكَ وآثرنا الترقيق في المأكل، ولم نرض مما رضوا به من ذَلِكَ، ولا قوة إلا به.

(1)

المثبت من هامش اليونينية وعليها لا وهـ أي عند أبي ذر والكشميهني.

ص: 164

‌23 - باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ يَأْكُلُونَ

5411 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبَّاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ تَمْرًا، فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَانِي سَبْعَ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْهَا، شَدَّتْ فِي مَضَاغِى. [5441، 5441 م - فتح: 9/ 549].

5412 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُنِي سَابِعَ سَبْعَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الْحُبْلَةِ -أَوِ الْحَبَلَةِ- حَتَّى يَضَعَ أَحَدُنَا مَا تَضَعُ الشَّاةُ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلَامِ، خَسِرْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِى. [انظر: 3728 - مسلم: 2966 - فتح: 9/ 549].

5413 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ فَقُلْتُ: هَلْ أَكَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ؟ فَقَالَ سَهْلٌ: مَا رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: هَلْ كَانَتْ لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْخُلاً مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللهُ حَتَّى قَبَضَهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ قَالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مَا طَارَ، وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ. [انظر: 5410 - فتح: 9/ 549].

5414 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ، فَدَعَوْهُ فَأَبَى أَنْ يَأْكُل، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنَ الْخُبْزِ الشَّعِيرِ. [فتح 9/ 549].

5415 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِوَانٍ، وَلَا فِي سُكْرُجَةٍ، وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ. قُلْتُ لِقَتَادَةَ: عَلَى مَا يَأْكُلُونَ قَالَ: على السُّفَرِ. [انظر: 5386 - فتح: 9/ 549].

ص: 165

5416 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا، حَتَّى قُبِضَ. [6454 - مسلم: 2970 - فتح: 9/ 549].

ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث عباس الجريري، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ تَمْرًا، فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ منهم سَبْعَ تَمَرَاتٍ، وأَعْطَانِي سَبْعَ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ تَمْرَةٌ أَعْجَبَ إِلَيَّ مِنْهَا، شَدَّتْ فِي مَضَاغِي.

كذا هنا أعطاه سبعًا، وذكر بعده أنه أعطاه خمسًا. قال ابن التين: فإما أن تكون إحداهما فيها وهم، أو كان مرتين. وأخرجه أيضًا الترمذي والنسائي وابن ماجه

(1)

.

والحشفة: -بفتح الحاء المهملة والشين المعجمة- هي التمرة إذا لم تطب في النخلة وتناهى طيبها فتيبس، وهو أردأ التمر، وقيل لها: حشفة؛ ليبسها. وقيل: الضعيف الذي لا نوى له كالشيص.

ومعنى: (شدت في مضاغي): أي: دامت معي فيه، وهو بفتح الميم عند الأصيلي وكسرها. قال ابن الأثير: المضاغ -بالفتح- الطعام يمضغ، وقيل: هو المضغ نفسه، يقال: لقمة لينة المضاغ، وشديد المضاغ. أراد أنها كانت فيها قوة عند مضغها

(2)

.

(1)

"سنن الترمذي"(2474) والنسائي في "الكبرى" 4/ 168 و"سنن ابن ماجه"(4157).

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 4/ 339.

ص: 166

فائدة:

عباس الجريري هذا والد فروُّخ بصري، والجريري: جرير بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، اتفقا عليه

(1)

، وكذا على سعيد بن إياس أبي مسعود الجريري. مات سنة أربع وأربعين ومائة.

وأبو عثمان النهدي عبد الرحمن بن مل. وشيخ البخاري فيه أبو النعمان وهو محمد بن الفضل عارم.

الحديث الثاني:

حديث (قَيْسٍ بَنْ)

(2)

سَعْدٍ عن أبيه: رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَابعَ سَبْعَةٍ مَا لنَا طَعَام إِلَّا وَرَقُ الحُبْلَةِ -أَوِ الحَبَلَةِ- حَتَّى يَضَعَ أَحَدُنَا مَا تَضَعُ الشَّاةُ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلَامِ، خَبتُ إِذًا وَضَلَّ عملي.

هذا الحديث سلف في فضل سعد بن أبي وقاص، ويأتي في الرقاق

(3)

، وأخرجه أيضًا مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي

(4)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: وعباس توفي كهلًا بعد أربع وأربعين ومائة. قاله الذهبي في "تذهيبه".

(2)

ورد في هامش الأصل: هذا أخبط، قيس هذا هو ابن أبي حازم وليس بابن سعد، وسعد هو ابن أبي وقاص، أحد العشرة. وقد ذكروا هذا الحديث في مسند ابن أبي وقاص، وعنه قيس بن أبي حازم. وليس في الكتب الستة ومصنفاتهم أحد منهم يروي عن سعد بن أبي وقاص غير

وكان المؤلف توهمه قيس بن سعد بن عياض هذا حين كنى به هنا ثم إنه بينه في آخره أنه سعد بن أبي وقاص فتنبه، ولم يغير هذا المكان، واعلم أن سعد بن أبي وقاص له عدة أولاد ذكور ليس فيهم أحد يقال له: قيس. والله أعلم.

(3)

سلف برقم (3728)، كتاب فضائل الصحابة ويأتي برقم (6453) باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

مسلم (2966) كتاب الزهد. والترمذي (2365)، والنسائي في فضائل الصحابة (114) وفي "الكبرى" 5/ 61 مختصرًا، ابن ماجه (131) مختصرًا أيضًا.

ص: 167

والحبلة: -بضم الحاء وسكون الباء الموحدة- ثمر السمر يشبه اللوبياء، وقيل ثمر العضاة، والأول هو المعروف، قاله عياض. وقيل: عروقه، ووقع الحبلة هنا على الشك كما سلف، ولم يكن عند الأصيلي إلا الأول.

والحبلة -بالتحريك والفتح- ورق الكرم، قال في "الصحاح": وربما سكن. وقال في هذا الحديث مثلما قال ابن فارس: الحبلة: ثمر العضاه. وذكر هذا الحديث، وزاد فيه: إلا الحبلة وورق السمر.

وضبطناه بضم الحاء وسكون الباء قال: والعضاة: شجر له شوك كالطلح والعوسج. وقال ابن الأعرابي: الحبلة: ثمر السمر شبه اللوبياء. وقيل: هو عروق السمر

(1)

.

وقال ابن فارس: قيل ذكره لهذا المتقدم عنه: الحبلة: الكرم، وقد تفتح الباء. وقال أبو حنيفة: الزرجون حبلة، وجمعها حبلة.

قال صاحب "العين": الحبلة أيضًا ضرب من الشجر

(2)

.

ومعنى: (تعزرني): تؤذيني وقال: إنهم قالوا لعمر في حقه: لا يحسن يصلي فقال: نعم .. الحديث أي: يقوموني علمه ويعلمونيه من قولهم: عزر السلطان فلانًا إذا أدبه وقومه.

وعبارة الزاهر: يعزروني أي: يعلموني الفقه. وأصل التعزير التأديب، ولهذا سمي الضرب دون الحد تعزيرًا، وكان هذا القول عن سعد حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر رضي الله عنهما وقالوا: إنه لا يحسن الصلاة، كما ذكرناه.

(1)

انظر "مشارق الأنوار" 1/ 228. و"الصحاح" 4/ 1664. و"مقاييس اللغة" ص 276.

(2)

"العين" 3/ 238.

ص: 168

ووقع في ابن بطال هنا أن عمر بن الخطاب من بني أسد

(1)

، وهو عجب؛ لأن عدي بن كعب رهط عمر ليسوا من بني أسد في ورد ولا صدر، فإن قلت: كيف مدح نفسه ومن شأن المؤمن التواضع؟ قلت: يضطر إلى التعريف بنفسه كما قال تعالى حاكيًا عن يوسف: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} .

وفيه: أنه لا بأس أن يذكر الرجل فضائله وسوابقه في الإسلام عندما ينتقصه أهل الباطل ويضعون من قدره، ولا يكون ذكره لفضائله من باب الفخر المنهي عنه

(2)

.

الحديث الثالث:

حديث أبي حازم قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ الساعدي فَقُلْتُ: هَلْ أَكَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ؟ قَالَ سَهْلٌ: مَا رَأى النبي صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ. فَقُلْتُ: هَلْ (كَانَتْ)

(3)

لَكُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْخُلًا مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللهُ حَتَّى قَبَضَهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قَالَ: كُنَّا نَطْحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ، فَيَطِيرُ مَا طَارَ، وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ فَأَكَلْنَاهُ.

وأخرجه النسائي أيضًا

(4)

، وأهمله ابن عساكر.

ثريت السويق تثرية إذا بللته وأثريه. فثرى، أي: ثرى بالماء واللبن؛ حَتَّى يصير كالثرى: وهو التراب الندي. والمنخل: أخذ ما استثني

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 484.

(2)

المصدر السابق.

(3)

ساقطة من الأصل.

(4)

رواه النسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(4785) وتنبه لتعليق المزي عليه هناك.

ص: 169

مما أوله ميم من الأدوات مكسور إلا منخل ومدق مسعط: وهو إناء يجعل فيه السعوط.

فصل:

في إسناده ابن أبي ذئب، وهو محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب أبو الحارث العامري القرشي، مات بالكوفة راجعًا إلى المدينة والعراق سنة تسع وخمسين ومائة عن تسع وسبعين.

الحديث الرابع:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاة مَصْلِيَّةٌ، فَدَعَوْهُ فَأَبَى أَنْ يَأكُلَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنَ خُبْزِ الشَّعِيرِ.

المصلية: المشوية، وأصلها مصلوية؛ اجتمعت حرفا علة وسبق الأول بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها، يقال: صليت اللحم أصليه صليًا: شويته، والصلاء: الشواء، وصليته وأصليته: ألقيته في النار.

الحديث الخامس:

حديث يُونسَ -هو الإسكاف- عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه -قَالَ: مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِوَانٍ، وَلَا فِي سُكْرُجَةٍ، وَلَا خُبِزَ لَهُ مُرَقَّق. قُلْتُ لِقَتَادَةَ: عَلَى مَا يَأكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ.

وفيه معاذ، وهو ابن هشام الدستوائي.

الحديث السادس:

حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام البُر ثلاث ليال تباعًا حتى قبض. كذا هنا، وقال في

ص: 170

حديث أبي هريرة رضي الله عنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع من خبز الشعير. فيحتمل أن يكون وإنما يأكل دون الشبع ويحتمل أن تكون عائشة علمت ما لم يعلمه أبو هريرة. وذكر عنها البخاري بعد هذا: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز مأدوم ثلاثة أيام.

قال الطبري: إن قلت: ما وجه هذِه الأخبار -يعني: حديث عائشة هذا وشبهه وقد علم صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع مما أفاء الله عليه من بني النضر وفدك قوته وقوت عياله سنة، ثم يجعل ما فضل من ذَلِكَ في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله، وأنه قسم بين أربعة أنفس زهاء ألف بعير من نصيبه مما أفاء الله عليه من أموال هوازن، وأنه ساق في حجة الوداع مائة بعير فنحرها وأطعمها المساكين، وأنه كان يأمر للأعرابي يسلم بقطيع من الغنم مع ما يكثر تعداده من عطاياه التي لا يذكر مثلها عمن تقدم قبله من ملوك الأمم السالفة، مع كونه بعين أرباب الأموال الجسام كالصديق والفاروق وعثمان وأمثالهم في كثرة الأموال، وبذلهم مهجهم وأولادهم، وخروج أحدهم من جميع ماله؛ تقربًا إلى الله تعالى، مع إشراك الأنصار في أموالهم من قدم عليهم من المهاجرين وبذلهم نفائسها في ذات الله، فكيف بإنفاقها على سيد الأمة وبه إليها الحاجة العظمى؟

ثم أجاب بصحة الأخبار كلها وأن ذَلِكَ كان حينًا بعد حين؛ من أجل أن من كان منهم ذا مال كانت تستغرق نوائب الحقوق ماله، ومواساة الضيفان، والوفود حَتَّى يقل كثيره ويذهب جميعه وكيف لا يكون كذلك، وقد روينا عن عمر رضي الله عنه أنه عليه السلام أمرنا بالصدقة فجاء الصديق بكل ماله، فكيف نستنكر من هذا فعله أن يمكن صاحبه ثم لا يجد السبيل إلى سد جوعته وإرفاقه بما يعينه؟!

ص: 171

وعلى هذِه الخليقة كانت خلائق أصحابه كالذي ذكر عن عثمان أنه جهز جيش العسرة من ماله حَتَّى لم يفقدوا حبلًا ولا قتبًا، وكالذي روي عن ابن عوف أنه عليه السلام حث على الصدقة فجاء بأربعة آلاف دينار صدقة، فمعلوم أن من كانت هذِه أخلاقه وأفعاله لا يخطئه أن يأتي عليه التارة من الزمان والحين من الأيام مملقًا لا شيء له إلا أن يثوب ماله فبان خطأ قول القائل: كيف يجوز أن يرهن الشارع درعه عند يهودي بوسق شعير وفي أصحابه أهل الغنى والسعة ما لا يجهل موضعه؟ أم كيف يجوز أن يوصف أنه كان يطوي الأيام ذوات العدد خميصًا وأصحابه يمتهنون أموالهم لمن هو دونه من أصحابه؟ فكيف له إذ كان معلومًا جوده وكرمه وإيثاره ضيفانه القادمين عليه لما عنده من الأقوات والأموال على نفسه واحتماله المشقة والمجاعة في ذات الله؟ ومن كان كذلك هو وأصحابه فغير مستنكر لهم حال ضيق يحتاجون معها إلى الاستسلاف وإلى طي الأيام على المجاعة والشدة وأكلهم ورق الحبلة.

فأما ما روي عنه أنه لم يشبع من خبز البُر ثلاثة أيام تباعًا حَتَّى قبض، فإن البر كان قليلاً عندهم، وكان الغالب عندهم الشعير والتمر، فغير نكير أن يؤثر قوت أهله وأن يؤثر قوت أهل بلده، ويكره أن يخص نفسه مما لا سبيل للمسلمين إليه من الغذاء وهذا هو الأشبه بأخلاقه.

وأما ما روي عنه أنه خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، فإن ذَلِكَ لم يكن لعوز ولا لضيق في غالب أحواله، وكيف يكون ذَلِكَ وقد كان الله تعالى أفاء عليه قبل وفاته بلاد العرب كلها، ونقل إليه الخراج من بعض بلاد العجم كأيلة والبحرين وهجر، ولكن كان بعضهم كما وصفت من إيثار حقوق الله، وبعضه كراهية منه الشبع وكثرة الأكل فإنه كان يكرهه ويؤدب أصحابه.

ص: 172

وروي عن زيد بن وهب، عن عطية بن عامر الجهني قال: أكره سلمان على طعام يأكله، فقال: حسبي؛ فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أكثر الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا في الآخرة"

(1)

.

وروى أسد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: أكلت ثريد بر بلحم سمين فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشأُ فقال: "أكفف عليك من جشائك أبا جحيفة؛ فإن أكثر الناس شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة"

(2)

.

فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حَتَّى فارق الدنيا، كان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى، وعلى إيثار الجوع وقلة الشبع مع وجود السبيل إليه مرة وعدمه أخرى مضى الخيار من الصحابة والتابعين.

وروى وهب بن كيسان [عن جابر]

(3)

قال: لقيني عمر بن الخطاب ومعي لحم اشتريته بدرهم فقال: ما هذا؟ فقلت يا أمير المؤمنين أشتريته للصبيان والنساء؛ فقال عمر: لا يشتهي أحدكم شيئًا إلا وقع فيه. أو لا يطوي أحدكم بطنه لجاره وابن عمه، أين تذهب عنكم هذِه الآية {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}

(4)

[الأحقاف:20].

وقال هشيم: عن منصور، عن ابن سيرين: أن رجلاً قال لابن عمر: اجعل جوارشنا قال: وما هو؟ قال: شيء إذا كظَّك الطعام، فأصبت منه سهل عليك، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما شبعت منذ أربعة أشهر،

(1)

سبق تخريجه آنفًا عند شرح حديث (5381) باب: من أكل حتى شبع.

(2)

سبق تخريجه أيضًا في الموضع اليسار إليه.

(3)

ساقطة من الأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال" 9/ 483.

(4)

رواه مالك في "الموطأ" ص 582 عن يحيى بن سعيد.

ص: 173

وما ذاك إلا أكون له واجدًا، ولكني عهدت قومًا يشبعون مرة ويجوعون مرة

(1)

.

وقال الزهري: إن عبد الله بن مطيع قال لصفية تلطفت: هذا الشيخ؟ -يعني: ابن عمر- قال: قد أعياني ألا يأكل إلا ومعه آكل، فلو كلمته، [قال: فكلمته]

(2)

فقال: الآن يأمرني بالشبع ولم يبق من عمري إلا ظِمْء حمار، فما شبعت منه ثماني سنين

(3)

. وقال مجاهد: لو أكلت كل ما أشتهي ما سويت حشفة. وقال الفضيل: خصلتان يقسيان القلب: كثرة الأكل والكلام

(4)

(5)

.

(1)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" 1/ 300.

(2)

ساقطة من الأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال".

(3)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 11/ 312 - 313.

(4)

ذكره ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 48/ 415.

(5)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 483.

ص: 174

‌24 - باب التَّلْبِينَةِ

5417 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلاَّ أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ» . [انظر: 5690،5689 - مسلم: 2216 - فتح: 9/ 550].

ذكر فيه حديث عروة، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ المَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلَّا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"التَّلْبِينَةُ مَجَمَّةٌ لِفُؤَادِ المَرِيضِ، تَذْهَبُ بِبَعْضِ الحُزْنِ".

هذا الحديث ذكره في الطب أيضًا بلفظ: إنها كانت تأمر بالتلبين [للمريض وللمحزون]

(1)

على الهالك وكانت تقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ التلبين يجم فؤاد المريض ويُذهب بعض الحزن". في لفظٍ: أنها كانت تقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن التلبين يجم فؤاد المريض ويذهب بعض الحزن". وفي لفظٍ: أنها كانت تأمر بالتلبين وتقول: هو البغيض النافع

(2)

. وقد أخرجه مسلم أيضًا

(3)

.

(1)

وقع في الأصل: والمريض، والمثبت من "صحيح البخاري".

(2)

سيأتي في الطب برقم (5689)، (5690) باب التلبينة للمريض.

(3)

مسلم (2216) كتاب: السلام، باب: التلبينة مجمة لفؤاد المريض.

ص: 175

و (التَّلْبِينَةُ): حساء من دقيق ونخالة، ويقال التلبين أيضًا؛ لأنه يشبه اللبن في بياضه، فإن كانت ثخينة فهي الحريرة، وقد يجعل اللبن والعسل.

ومعنى: (مَجَمَّةٌ): مريحة وتُسرّي عنه همه، وهي بفتح الميم وكسرها مع فتح الجيم، فإن ضممت الميم كسرت الجيم لا غير. وقوله:("تجم"): أي: تريحه وقيل: تجمعه وتكمل صلاحه ونشاطه، وقيل: تفتحه. وقيل: تمسكه، وتذهب ألم الجوع.

ومن الأول، الحديث:"الحساء يسري عن فؤاد السقيم"

(1)

. وفي حديث طلحة: رمى النبي صلى الله عليه وسلم بسفرجلةً وقال: "دونكها؛ فإنها تجم فؤاد المريض"

(2)

قال ابن عائشة: أي، تريحه.

وقال ابن فارس: الجمام: الراحة. وضبطه مجمة بفتح الميم على أنه اسم فاعل

(3)

.

وقال الشيخ أبو الحسن: الذي أعرف فتح الميم، فهي على هذا مفعلة من جم يجم.

(1)

رواه الترمذي (2039)، وابن ماجه (3445) والنسائي في "الكبرى" 4/ 372 وأحمد 6/ 32 وأبو نعيم في "الحلية" 9/ 228 من حديث محمد بن السائب عن أمه عن عائشة رضي الله عنها وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(752).

(2)

رواه ابن ماجه (3369)، والبزار في "مسنده" 3/ 163 والحاكم في "المستدرك" 4/ 412 وقال المزي في "أطرافه" 4/ 215 (5004) عبد الملك الزبيري -الراوي عن طلحة- أحد المجهولين وقال: رواه عبيد الله بن محمد بن عائشة عن عبد الرحمن بن حماد الطلحي عن طلحة بن يحيى عن أبيه عن طلحة. وقال فيه أبو زرعة: منكر كما في "علل ابن أبي حاتم" 2/ 21. والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (738).

(3)

"مجمل اللغة" 1/ 174.

ص: 176

وقال القرطبي: تروى بفتح الميم والجيم وبضم الميم وكسر الجيم، فعلى الأول يكون مصدرًا، وعلى الثاني يكون اسم فاعل

(1)

.

فصل:

في الترمذي: كان إذا أخذ أهله عليه السلام الوعك أمره بالحساء فصنع ثم أمرهم فحسوا منه، وكان يقول:"إنه ليرتو فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم كما تسروا إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها"

(2)

. ولأبي نعيم: وكان إذا اشتكى أحد من أهله لم تزل البرمة على النار حَتَّى يأتي على أحد طرفيه

(3)

. ومن حديث إسحاق بن أبي طلحة مرفوعًا: "في التلبين شفاء من كل داء"

(4)

.

وعن أم سلمة رضي الله عنها: كان عليه السلام إذا اشتكى أحد من أهله وضعنا القدر على الأثافي ثم جعلنا له لب الحنطة بالسمن يعالجهم بذلك؛ حَتَّى يكون أحد الأمرين

(5)

. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خشونة في صدري ووجعًا في رأسي فقال: "عليك بالتلبين -يعني: الحساء- فإن له وجاء". قال أبو نعيم: التلبينة: دقيق بحت. وقال قوم: فيه شحم

(6)

.

(1)

"المفهم" 5/ 697.

(2)

سبق تخريجه آنفًا.

(3)

"الطب النبوي" 2/ 434 (391) والحديث رواه ابن ماجه (3446)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 372 وأحمد 6/ 79 وغيرهم وقال الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (753): ضعيف الإسناد.

(4)

"الطب النبوي" 2/ 435.

(5)

المصدر السابق.

(6)

المصدر السابق.

ص: 177

وقال الأصمعي: حساء من دقيق أو نخالة، ويجعل فيه عسل -قاله ابن قتيبة- ولا أراها سميت تلبينة إلا لشبهها باللبن؛ لبياضها ورقتها

(1)

.

وهذا سلف. وعند الهروي: وسمتها عائشة أيضًا المشنئة، وهي البغيضة

(2)

، ويقال لها بالفارسية: اليوساب.

وقال عبد اللطيف البغدادي: هو الحساء الرقيق الذي هو في قوام اللبن، وهو النافع للمرضى على الحقيقة، وهو الرقيق النضج لا الغليظ النيء.

وقال الداودي: يوجد العجين غير خمير يخرج ماؤه ويجعل حسوًا؛ لأنها لباب لا يخالطه شيء، فلذلك كثر نفعها على قلتها.

فصل:

فيه أن الجوع (يزيد)

(3)

الحزن، فإن ذهابه يذهب ببعضه، وقد سلف أن معنى: مَجَمَّة: مريحة، وتقويه أيضًا وتنشطه، وذلك لأنه غذاء فيه لطف سهل تناوله على المريض، فإذا استعمله اندفع عنه (حرارة)

(4)

الجوعة وحصلت له القوة العفافيه من غير مشقة.

فصل:

وقولها: (البغيض): فيه إشارة إلى أن المريض يبغضه كما يبغض الأدوية، وذكره ابن قرقول في باب الباء الموحدة مع الغين وقال: كذا لهم. وعند المروذي: النغيض بالنون. ولا معنى له.

(1)

انظر: "لسان العرب" 7/ 3991، مادة (لبن).

(2)

انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/ 229، مادة (لبن).

(3)

في الأصل: يذهب، والمثبت من "عمدة القاري" وهو الصواب.

(4)

في الأصل: الحرارة، ولعل ما أثبتناه مناسب للسياق.

ص: 178

قال عبد اللطيف: والفؤاد هنا: رأس المعدة وفؤاد الحزين يضعف باستيلاء اليبس على أعضائه، وعلى معدته خاصة؛ لتقليل الغذاء، وهذا الغذاء يرطبها ويقويها، ويفعل مثل ذَلِكَ بفؤاد المريض، وما أنفع هذا الحساء لمن يغلب (على)

(1)

غذائه في (صحتها)

(2)

الشعير، وأما من يغلب على غذائه الحنطة فالأولى به في مرضه حساء الشعير.

(1)

في الأصل: عن، وما أثبتناه مناسب للسياق.

(2)

كذا بالأصل، ولعل الصواب: صحته.

ص: 179

‌25 - باب الثَّرِيدِ

5418 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجَمَلِيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطَّعَامِ». [انظر: 3411 - مسلم: 2431 - فتح: 9/ 551].

5419 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي طُوَالَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَضْلُ عَائِشَةَ على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطَّعَامِ». [انظر: 3770 - مسلم: 2446 - فتح: 9/ 551].

5420 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ أَبَا حَاتِمٍ الأَشْهَلَ بْنَ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى غُلَامٍ لَهُ خَيَّاطٍ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ قَصْعَةً فِيهَا ثَرِيدٌ -قَالَ:- وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَلِهِ -قَالَ:- فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ -قَالَ:- فَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ فَأَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ -قَالَ:- فَمَا زِلْتُ بَعْدُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ. [انظر: 2092 - مسلم: 2041 - فتح: 9/ 551].

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حديث مرة الهمْداني -بإسكان الميم- عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امرَأة فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".

وقد سلف في فضلها

(1)

، ومقتضاه فضل عائشة على فاطمة، والذي

(1)

سلف برقم (3769) كتاب: فضائل الصحابة.

ص: 180

أراه أن فاطمة أفضل؛ لأنها بضعة منه ولا يعدل ببضعته

(1)

ثانيها:

حديث أبي طوالة، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -قَالَ:"فَضْلُ عَائِشَةَ .. " الحديث سلف هناك أيضًا

(2)

، وأبو طوالة: اسمه عبد الله بن عبد الرحمن، كما سماه هناك، وجدّه معمر بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، قاضي المدينة لأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في خلافة عمر بن عبد العزيز، مات في خلافة أبي العباس السفاح

(3)

، أخرجا له

(4)

.

ثالثها:

حديث ثمامة عن أنس رضي الله عنه في الدباء. وقد سلف

(5)

، وفيه الأشهل بن حاتم مولى بني جمح من أفراده، ضعفه الراويان

(6)

، وثمامة هو ابن عبد الله بن أنس بن مالك، روى له الجماعة

(7)

.

(1)

قال السبكي فيما نقله ابن حجر في "الفتح" 7/ 109: الذي ندين الله به أن فاطمة أفضل ثم خديجة ثم عاشة، والخلاف شهير ولكن الحق أحق أن يتبع. وقال ابن تيمية: جهات الفضل بين عائشة وخديجة متقاربة، وعلق الحافظ فقال: وكأنه رأى التوقف، ثم قال بعد أن ذكر كلامًا لابن القيم: وقيل انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة.

(2)

سلف برقم (3770) كتاب: فضائل الصحابة.

(3)

ورد بهامش الأصل: في "التذهيب" توفي في آخر سلطان بني أمية وفي "تاريخ الإسلام" سنة نيف وثلاثين ومائة.

(4)

انظر: "تهذيب الكمال" 15/ 217 (3385).

(5)

سلف برقم (2092) كتاب: البيوع، باب: ذكر الخياط.

(6)

انظر: "تهذيب الكمال" 3/ 299 (534).

(7)

السابق 4/ 405 (854).

ص: 181

إذا تقرر ذَلِكَ فالثريد أذكى الطعام وأكثره بركة، وهو طعام العرب، وقد شهد له الشارع بالفضل على سائر الطعام، وكفى بذلك تفضيلًا له وشرفًا له. وقد شهد الشارع بالكمال لمريم وآسية، وشهد لعائشة تفضلها على النساء، وهل تدخل (في ذَلِكَ)

(1)

مريم وآسية، ولا شك أن مريم مصطفاة بالنص، أي: مختارة ومطهرة من الكفر أو من الأدناس: الحيض والنفاس، واصطفاؤها على نساء العالمين دال على تفضيلها على جميع نساء الدنيا؛ لأن العالمين جمع عالم، وقد جعلها وابنها آية؛ كونها ولدت من (غير)

(2)

فحل؛ وجاءها جبريل ولم يأت غيرها من النساء قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} الآية [مريم: 17]، واختار جماعة نبوتها: ابن وهب وأبو إسحاق الزجاج وأبو بكر بن اللباد -فقيه المغرب- وابن أبي زيد والقابسي، وعلى هذا فأول الحديث على العموم في مريم وآسية، وآخره على الخصوص في عائشة، ويكون المعنى: فضلهما على جميع نساء كل عالم، وفضل عائشة على نساء عالمها خاصة، وأباه طائفة أخرى وقالوا: تفضل عائشة على جميع النساء. ولم يقولوا بنبوة مريم ولا أحد من النساء.

وحملوا آخر الحديث على العموم، وأوله على الخصوص وقالوا: قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ على نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] يعني: عالم زمانها، وهو قول الحسن وابن جريج

(3)

، ويكون قوله:"فضل عائشة" على نساء الدنيا كلها. ومن حجتهم: قوله تعالى لهذِه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]

(1)

من (غ).

(2)

ساقطة من الأصل والمثبت من (غ).

(3)

انظر "تفسير الطبري" 3/ 263، "زاد المسير" 1/ 387.

ص: 182

فعُلم بهذا الخطاب أن المسلمين أفضل جميع الأمم، ألا ترى قوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] والوسط: العدل عند أهل التأويل، فدل هذا كله أن من شهد له الشارع بالفضل من أمته وعيَّنه فهو أفضل ممن شهد له بالفضل من الأمم الخالية. ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] فدل عموم هذا اللفظ على فضل أزواجه على كل من قبلهن وبعدهن.

وقام الإجماع على أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع الأنبياء، فكذلك نساؤه عليه السلام لهن من الفضل على سائر نساء الدنيا ما للنبي صلى الله عليه وسلم من الفضل على سائر الأنبياء. وقد صح أن نساءه معه في الجنة، ومريم مع ابنها وأمها في الجنة، ودرجة نبينا في الجنة فوق درجة هؤلاء كلهم، والله أعلم بحقيقة الفضل في ذَلِكَ.

ص: 183

‌26 - باب الشَاةٍ المَسْمُوطَةٍ وَالْكَتِفِ وَالْجَنْبِ

5421 -

حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ: كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ. [انظر: 5385 - فتح: 9/ 551].

5422 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. [انظر: 208 - مسلم: 355 - فتح: 9/ 552].

ذكر فيه حديث أنس وعَمْرِو

(1)

بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، عن أبيه، وقد أسلفناه في باب الخبز المُرَقّق

(2)

، والكلام عليه واضحًا.

(1)

ورد بهامش الأصل: كقوله عن أبيه.

(2)

سلف برقم (5385).

ص: 184

‌27 - باب مَا كَانَ السَّلَفُ يَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ مِنَ الطَّعَامِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ رضي الله عنهما: صَنَعْنَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه سُفْرَةً.

5423 -

حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؟ قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلاَّ فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ فِيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ فَنَأْكُلُهُ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ. قِيلَ: مَا اضْطَرَّكُمْ إِلَيْهِ؟ فَضَحِكَتْ قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ بِهَذَا. [5438، 5570، 6687 - مسلم: 2970 - فتح: 9/ 552].

5424 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الْهَدْيِ على عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ. تَابَعَهُ مُحَمَّدٌ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ: حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لَا. [انظر: 1719 - مسلم: 1972 - فتح: 9/ 552].

ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها سئلت أَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ؟ .. الحديث. وَقَالَ ابن كَثِيرٍ: أنا سُفْيَانُ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ بهذا.

وحديث جابر رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الهَدْيِ على عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ. وسلف في الجهاد

(1)

، ويأتي في الأضاحي

(2)

.

(1)

سلف في الجهاد برقم (2980) باب: حمل الزاد في الغزو.

(2)

سيأتي في الأضاحي برقم (5567) باب: ما يؤكل من لحوم الأضاحي ..

ص: 185

ثم قال البخاري:

تَابَعَهُ مُحَمَّدٌ، عَنِ ابن عُيَيْنَةَ. وقال ابن جريج: قلت لعطاء قال: حتى جئنا المدينة، قال: لا.

الشرح:

التعليق الأول سلف في أوائل الصلاة مسندًا

(1)

، والثاني رواه أبو نعيم، عن سليمان بن أحمد

(2)

، ثنا معاذ المثنى، ثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان، وعباس هو ابن ربيعة النخعي، اتفقا عليه وعلى ابنه

(3)

.

ومحمد هذا هو ابن سلام، قاله أبو نعيم، ثم رواه من طريق الحميدي، ثنا سفيان بن عيينة. والبخاري رواه أولاً عن عبد الله بن محمد، عن سفيان.

وهذا الباب رد على الصوفية في قولهم: إنه لا يجوز ادخار طعام لغدٍ، وأن المؤمن الكامل الإيمان لا يستحق اسم الولاية لله؛ حَتَّى يتصدق بما يفضل عن شبعه. ولا يترك طعامًا لغد، ولا يصبح عنده شيء من عين ولا عرض، ويمسي كذلك، ومن خالف ذَلِكَ فقد أساء الظن بربه ولم يتوكل عليه حق توكله، وهذِه الآثار ثابتة بادخار الصحابة، وتزود الشارع وأصحابه في أسفارهم، وهي المقنع والحجة الكافية في رد قولهم.

وقد سلف في كتاب الخمس في حديث مالك بن أوس بن الحدثان قول عمر رضي الله عنه لعلي والعباس حين جاءا يطلبان ما أفاء الله على رسوله من

(1)

سلف برقم (476) باب: المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس.

(2)

ورد بهامش الأصل: الطبراني.

(3)

ورد بهامش الأصل: ابنه عبد الرحمن.

ص: 186

بني النضير إلى قول عمر رضي الله عنه، فكان عليه السلام ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال

(1)

. وقد صح بهذا ادخاره لأهله فوق سنتهم.

وفيه: أسوة حسنة، وفي باب: نفقة نسائه بعد وفاته في الخمس أيضًا إيضاح ذَلِكَ مع الجواب عما عارضه.

(1)

سلف برقم (3094).

ص: 187

‌28 - باب الْحَيْسِ

5425 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو -بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ- أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي طَلْحَةَ: «الْتَمِسْ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي» . فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ، يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» . فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ، وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا، فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّي وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ -أَوْ بِكِسَاءٍ- ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالاً فَأَكَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ:«هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» . فَلَمَّا أَشْرَفَ على الْمَدِينَةِ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ؛ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ» . [انظر: 371 - مسلم: 1365 - فتح: 9/ 553].

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه في بنائه بصفيه، وقد سلف

(1)

. والشاهد منه: صنع حيسًا في نطع. والحيس عند العرب: خلط الإقط بالتمر، تقول: حُسْته حيسًا وحيسة، عن صاحب "العين"

(2)

.

وقوله فيه: ("اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ") إلى آخره يريد الغم، يقال: أهمني هذا الأمر. أي: أخوفني وهو مهم، فيحتمل أن يكون من همه المرض إذا أذابه وأنحله، مأخوذ من هم الشحم، إذا أذابه، والشيء مهموم أي: مذاب، فيكون تعوذه من المرض الذي ينحل جسمه.

(1)

سلف برقم (371) كتاب: الصلاة، باب: ما يذكر في الفخذ.

(2)

"العين" 3/ 273 مادة (حيس).

ص: 188

وقال الداودي: الغم: ما شغل الضمير، وليس شيء أضر على البدن منه.

قال: ("وَالْحَزَنِ"): أن يصاب الرجل في أهله، وهما عند القزاز سواء الهم والحزن. والعجز: ذهاب القدرة -في وجه-، وهو الكسل عن الشيء مع القدرة عن الأخذ في (عمله)

(1)

، وكلاهما يجوز أن يتعوذ منه.

وقال الداودي: العجز: ترك ما يجب فعله، والكسل: فترة بالنفس فتثبط عن العمل، وضلع الدين: ثقله، يقال: أضلعني هذا الأمر أي: أثقلني وشق علي، وهو بفتح الضاد واللام قال الأصمعي: هو آحتمال الثقل والقوة

(2)

. وقيل: هو من الميل، كأنه يميل صاحبه عن قول الصدق إلى الوعد بالكذب، ومنه: كلمت فلانًا فكان ضلعك علي، أي: ميلك. فعلى هذا التأويل يختلف في فتح اللام وسكونها.

قال ابن فارس: ضَلَعْتَ ضَلَعًا: إذا مِلْتَ. وحكي عن أبي يوسف: (ضَلِعْتَ)

(3)

ضَلَعًا إذا مِلْتَ

(4)

. والضلع: الاعوجاج، أي: يثقله حَتَّى يميل صاحبه عن الاستواء والاعتدال، ويقال: ضَلِع يَضْلَع ضَلَعًا، وضلَع يَضلَع ضَلْعًا، أي: بالتسكين أي: مال

(5)

.

وقوله: (يحوي وراءه)، التحوية: أن: يدير حول سنام البعير ثم يركبه، والاسم الحوية، والجمع حوايا.

(1)

في الأصل: علمه، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(2)

"مجمل اللغة" 1/ 565 مادة: (ضلع).

(3)

في الأصل: ضلعه، والصواب ما أثبتناه.

(4)

"مجمل اللغة" 1/ 565، وكلاهما عن أبي يوسف.

(5)

انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 96، مادة (ضلع).

ص: 189

ومنه قول عمير بن وهب يوم بدر: رأيت الحوايا عليها المنايا

(1)

.

فصل:

وقوله في أحد: "هذا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ" يحتمل أن يريد أهله أو حقيقته، وقد سلف.

وقوله: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا" أي: تحريم الصيد فيها.

فصل:

راوي الحديث عن أنس عمرو بن أبي عمرو، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، وهو متكلم فيه، وحنطب بفتح الحاء

(2)

، ووقع في ابن التين أنه بضمها، وهو غريب، ولم يرو عنه مالك في الأقضية والأحكام، كما فعل في عبد الكريم بن أبي المخارق، وإنما أدخل عنهما في الرقائق.

وقد روى مالك عن عمرو بعض هذا الحديث، وقال النسائي: كل من روى عنه مالك فهو بمنزلة مالك في الثقة إلا عبد الكريم

(3)

، ومن أدخله مالك ورضيه فحسبك به.

(1)

"سيرة ابن هشام" 2/ 262.

(2)

انظر: "تهذيب الكمال" 22/ 168 (4418).

(3)

انظر: "تهذيب الكمال" 13/ 505 بلفظ: ولا نعلم أن مالكًا حدَّث عن أحدٍ يترك حديثه إلا عن عبد الكريم بن أبي المخارق.

ص: 190

‌29 - باب الأَكْلِ فِي إِنَاءٍ مُفَضَّضٍ

5426 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَاسْتَسْقَى، فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ، فَلَمَّا وَضَعَ الْقَدَحَ فِي يَدِهِ رَمَاهُ بِهِ وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ -كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ أَفْعَلْ هَذَا- وَلَكِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ» . [5632، 5633، 5831، 5837 - مسلم: 2067 - فتح: 9/ 554].

ذكر فيه حديث ابن أبي ليلى: أَنَّهُمْ كَانُوا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَاسْتَسْقَى، فَسَقَاهُ مَجُوسِيٌّ، فَلَمَّا وَضَعَ القَدَحَ فِي يَدِهِ رَمَاهُ بِهِ وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي نَهَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ -كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَمْ أَفْعَلْ هذا- وَلَكِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "لَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الآخِرَةِ".

هذا الحديث ذكره في الشرب أيضًا واللباس مكررًا

(1)

، وأخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجه

(2)

. وترجم عقبه باب: آنية الفضة وذكر معه هذا حديث أم سلمة - رضي الله

(1)

سيأتي في الأشربة برقم (5632) باب: الشراب في آنية الذهب، وفي اللباس برقم (5831) باب: لبس الحرير وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه وبرقم (5837) باب افتراش الحرير.

(2)

مسلم (2067) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء .. ، والترمذي (1878)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 195، وابن ماجه (3414).

ص: 191

عنها: "الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"

(1)

. وفي لفظ: "إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب".

وفي مسلم من حديث البراء بن عازب: "من شرب منها في الدنيا لم يشرب منها في الآخرة"

(2)

.

إذا تقرر ذَلِكَ: فالأكل والشرب في آنية الذهب والفضة حرام، وقد حكي فيه الإجماع، وإن كان حكي عن القديم أنه مكروه كراهة تنزيه.

وروى ابن القاسم عن مالك أنه كره مداهن الفضة والاستجمار في آنية الفضة

(3)

، والمرآة فيها حلقة فضة؛ لنهيه عليه السلام عن استعمال آنية الذهب والفضة وقال:"هي لهم في الدنيا". يعني: للكفار "ولكم في الآخرة"، وسيكون لنا عودة إليه في الأشربة إن شاء الله.

والترجمة: الإناء المفضض، والحديث في آنية الفضة، إلا أن يراد أن الإناء كان مضببًا، وأن الماء كان فيه. وفي موضع الشفة على الأصح عندنا أنه لا فرق بين أن يكون في موضع الاستعمال أو غيره.

فصل:

منع لباس الحرير؛ لأنه من زي النساء، قاله الأبهري، وقيل خشية أن يئول به إلى الكبر والعجب.

وأما إلباس الذهب فعلى هذا أيضًا، وأما الشرب في أواني الفضة فللسرف، واعتذار حذيفة حين رمى القدح؛ لئلا يقتدى به في إراقة الشراب.

(1)

سيأتي برقم (5633) وحديث أم سلمة برقم (5634).

(2)

مسلم (2066) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب ..

(3)

"المدونة الكبرى" 3/ 101.

ص: 192

وفيه: استخدام المجوس.

فصل:

قال ابن العربي: هذا الحديث كقوله: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة"

(1)

، وما في معناه إذا لم يتب منه، فالشارب إما يتوب أو يموت مدمنها.

فإن تاب فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإلا فالذي عليه أهل السنة أن أمره إلى الله، فإن عاقبه لم يخلد أبدًا، بل لا بد له من الخروج منها بما معه من الإيمان. فإن دخل الجنة فظاهر الحديث.

ومذهب نفر من الصحابة ومن أهل السنة أنه لا يشربها في الجنة، وكذا من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وذلك؛ لأنه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد به (لحرمة ميقاته)

(2)

كالقاتل في الإرث، وقيل: إنه لا يشتهيها فيعذب بفقدها، وقيل: لا يشربها جزاءً إنما يشربها تفضلًا بوعد آخر

(3)

.

ويحمل الحديث على ما يحمل عليه، فإن الوعيد من أن ذَلِكَ في شخص دون شخص أو حال دون حال.

(1)

البخاري (5575) كتاب: الأشربة، باب: قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة: 90] مسلم (2003/ 77) كتاب: الأشربة، باب: عقوبة من شرب الخمر.

(2)

كذا بالأصل، وعند ابن العربي: فحرمه عند ميقاته.

(3)

"عارضة الأحوذي" 8/ 51 بتصرف.

ص: 193

‌30 - باب ذِكْرِ الطَّعَامِ

5427 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ، لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ، لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ». [انظر: 5020 - مسلم: 797 - فتح: 9/ 555].

5428 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«فَضْلُ عَائِشَةَ على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطَّعَامِ» . [انظر: 3770 - مسلم: 2446 - فتح: 9/ 555].

5429 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَى، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ؛ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ وَجْهِهِ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ» . [انظر: 1804 - مسلم: 1927 - فتح: 9/ 555].

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حديث أبي موسى الأشعري: "مَثَلُ المُؤْمِنِ الذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ، .. ". الحديث، وقد سلف في فضل القرآن

(1)

.

ثانيها:

حديث أنس رضي الله عنه: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ .. ". الحديث سلف أيضًا

(2)

.

(1)

سلف برقم (5020) باب: فضل القرآن على سائر الكلام.

(2)

سلف برقم (3770) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: فضل عائشة رضي الله عنها.

ص: 194

ثالثها:

حديث أبي هريرة: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ العَذَابِ؛ .. ". سلف في آخر الحج

(1)

.

ومعنى هذِه الترجمة -والله أعلم- إباحة أكل الطعام الطيب وكراهية أكل المر، وأن الزهد ليس في خلاف ذَلِكَ؛ ألا ترى أنه عليه السلام شبه المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة التي طعمها طيب وريحها طيب، وشبه المؤمن الذي لا يقرأ بالتمرة طعمها حلو ولا ريح لها، ففي هذا ترغيب في أكل الطعام الطيب وأكل الحلو، ولو كان الزهد فيه أفضل لما شبه عليه السلام ذَلِكَ مرة بقراءة القرآن، ومرة بالإيمان، فكما فضل المؤمن بالقراءة والإيمان. فكذلك فضل الطعام الطيب سائر الطعام، وشهد لهذا فضل الثريد، وهذا تنبيه منه على أكل الثريد واستعماله لفضله، وتشبيهه المنافق بالحنظلة والريحانة اللتين طعمهما مر، وذلك غاية الذم للطعام المر، إلا أن السلف كرهوا الإكثار من أكل الطيبات وإدمانها؛ خشية أن يصير ذَلِكَ لهم عادة. فلا تصبر نفوسهم على فقدها؛ رياضة لها وتذليلًا وتواضعًا.

وأما حديث أبي هريرة فليس فيه ذكر أفضل الطعام ولا أدناه، فقيل: يحتمل أن يريد أن ابن آدم لا بد له في الدنيا من طعام يقيم به جسده ويقوى به على طاعة ربه، وأن الرب جل جلاله جبل النفوس على الأكل والشرب والنوم، وذلك قوام الحياة، والناس في ذَلِكَ بين مقل ومكثر، فالمؤمن يأخذ من ذَلِكَ قدر إيثاره للآخرة والدنيا.

(1)

سلف برقم (1804) باب: السفر قطعة من العذاب.

ص: 195

فصل:

الحديث الثالث: تفرد به مالك عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وقال: ما لأهل العراق يسألون عن هذا الحديث؟ قيل لأنك انفردت به، قال: لو علمت أني انفردت به ما حدثت به

(1)

.

فصل:

قوله فيه: (فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ). هو بفتح النون، قال ابن التين: ضبطه بالفتح وذلك في ضبط كتاب ابن فارس. وقال: هي الهمة بالشيء

(2)

يريد ما قصد إليه وسافر بسببه. والأنرجة: بالنون وبغير النون لغتان.

(1)

ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" 22/ 34 بلفظ: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما حدثت به.

(2)

"مجمل اللغة" 3/ 846 مادة (نهم).

ص: 196

‌31 - باب الأُدْمِ

5430 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ، أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَهَا فَتُعْتِقَهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا: وَلَنَا الْوَلَاءُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«لَوْ شِئْتِ شَرَطْتِيهِ لَهُمْ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . قَالَ: وَأُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي أَنْ تَقِرَّ تَحْتَ زَوْجِهَا أَوْ تُفَارِقَهُ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَيْتَ عَائِشَةَ وَعَلَى النَّارِ بُرْمَةٌ تَفُورُ، فَدَعَا بِالْغَدَاءِ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ فَقَالَ:«أَلَمْ أَرَ لَحْمًا؟» . قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَكِنَّهُ لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَأَهْدَتْهُ لَنَا. فَقَالَ: "هُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا، وَهَدِيَّةٌ لَنَا». [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 9/ 556].

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بَريرةَ وفيها: فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأُدْمٍ مِنْ أُدْمِ البَيْتِ. وفيه -كما قال الطبري- البيان: أنه عليه السلام كان يؤثر في طعامه اللحم على غيره إذا وجد إليه سبيلاً؛ وذلك أنه لما رأى اللحم في منزله قال: "ألم أرَ لحمًا؟! "، فقالوا: إنه تصدِّقُ به على بريرة، فدل هذا على إيثاره عليه السلام للحم إذا وجد إليه سبيلاً؛ لأنه قال ذَلِكَ بعد أن قرب إليه.

ولما حدثناه سعيد بن عنبسة الرازي، ثنا (أبو عبيد)

(1)

الحداد، ثنا أبو هلال، عن [ابن]

(2)

بريدة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد الإدام

(1)

كذا بالأصل والصواب أبو عبيدة وهو عبد الواحد بن واصل الحداد كما في مصادر ترجمته، ووقع في المطبوع من "الطب النبوي": عبد الواحد بن واصل قال: ثنا أبو عبيدة وأشار المحقق إلى أن جملة قال: ثنا زيادة من إحدى النسخ وهذا خطأ لأن عبد الواحد بن واصل هو أبو عبيدة الحداد.

انظر "تهذيب الكمال" 18/ 473 (3593).

(2)

ساقطة من الأصل، والمثبت من مصادر التخريج الآتي ذكرها.

ص: 197

في الدنيا والآخرة اللحم"

(1)

فإن قيل: فقد قال عمر بن الخطاب لرجل رآه يكثر الاختلاف إلى القصابين: اتقوا هذِه المجازر على أموالكم؛ فإن لها ضراوة كضراوة الخمر، وعلاه بالدرة.

وروى الحسن أن عمر رضي الله عنه دخل على ابنه عبد الله فرأى عنده لحمًا طريًّا فقال: ما هذا؟ قال: اشتهيناه. فقال: وكلما اشتهيت اللحم أكلته، كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى

(2)

.

وقال أبو أُمامة (لأني لأبغض) أهل البيت أن يكونوا لحميين قيل: وما اللحميون؟ قال: يكون لهم قوت شهر فيأكلونه في اللحم في أيام. وقد قال يزيد بن أبي حبيب: (البطينة)

(3)

: طعام الأنبياء.

وقال ابن عون: ما رأيت على خوان محمد لحمًا يشتريه إلا أن يهدى له، وكان يأكل السمن والكافخ ويقول: سأصبر على هذا حتى يأذن الله بالفرج. قال الطبري: وهذِه أخبار صحاح ليس فيها خلاف بشيء مما تقدم.

(1)

رواه من هذا الطريق الطبراني في "الأوسط" 7/ 271، وأبو نعيم في "الطب" 2/ 735 (847) وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 35: فيه سعيد بن عبيد القطان ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر. اهـ. قلت: كذا قال الهيثمي: سعيد بن عبية ولم أقف على راوٍ بهذا الاسم، ووقع في "الأوسط": سعيد بن عتبة القطان كما قال العلامة الألباني نقلاً عن المخطوط ولم أقف أيضًا على راوٍ بهذا الاسم وعلى القول بأنه سعيد بن عنبة فنجد أنه لم يلقب بالقطان فيتوقف في تحقيق اسم الراوي عن أبي عبيدة الحداد. والحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة"(3579).

(2)

رواه الإمام أحمد في "الزهد" ص 153.

(3)

كذا بالأصل، ووقع في "شرح ابن بطال" القطنية. قال ابن الأثير: واحدة القطاني، كالعدس والحمص واللوبياء ونحوها. انظر "النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/ 85، مادة [قطه].

ص: 198

قلت

(1)

: كراهة عمر فإنما كان منه؛ خوفًا عليه الإجحاف بماله؛ لكثرة شرائه له إذ كان قليلاً عندهم، وأراد أن يأخذ بحظه من ترك شهوات الدنيا وقمع نفسه، يدل عليه قوله: كفى. إلى آخره.

وأما أبو أمامة فقد أخبر بالعلة التي لها كره أن يكون أهل [البيت]

(2)

لحميين، وهو تبذيرهم وتدميرهم. وأما ابن سيرين فإنما ترك شراءه؛ لأنه لزمه الدين وفلس من أجله فلم يكن عنده لها قضاء، والحق عليه ما فعل من التقصير في عيشه وترك التوسع في مطعمه؛ حَتَّى يؤدي ما عليه لغرمائه، وكان إذا وجده من غير الشراء لم يؤثر عليه غيره.

وأما قول يزيد بن أبي حبيب فمعناه -والله أعلم- نحو معنى فعل عمر في تركه ذَلِكَ؛ إشفاقًا أن يكون بأكله ممن يدخل في جملة من أذهب طيباته في حياته الدنيا. مع أن التأسي بالشارع أولى بنا من التأسي بغيره من الأنبياء، وكان لا يؤثر على اللحم شيئًا ما وجد إليه السبيل.

ثم ساق حديث جابر رضي الله عنه قال: ذبحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم عناقًا وأصلحتها، فلما وضعتها بين يديه، نظر إلى وقال:"كأنك قد علمت حبنا اللحم"

(3)

.

وبمثل ما قلناه كان السلف يعملون، روى الأعمش، عن أبي عباد، عن أبي عمرو الشيباني قال: رأى عبد الله مع رجل دراهم فقال: ما تصنع

(1)

أي: الطبري.

(2)

ساقطة من الأصل، والسياق يقتضيها، والمثبت من "شرح ابن بطال".

(3)

قطعة من حديث رواه أحمد 3/ 303 والدارمي 1/ 189 - 193 (46) وصححه ابن حبان 2/ 264 - 265 (984) وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 136 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح خلا نبيح العنزي وهو ثقة.

ص: 199

بها؟ قال: أشتري بها سمنًا. قال: أعط امرأتك نصفها تحت فراشها ثم اشترِ كل يوم بدرهم لحمًا. وكان للحسن كل يوم لحم بنصف درهم، وقال ابن عون: إذا فاتني اللحم فما أدري مما أئتدم

(1)

.

فصل:

قول القاسم بن محمد: كان في بريرة ثلاث سنن. اعترض الداودي فقال: تشتمل على نحو ثلاثين. قلت: وصلت إلى نحو الأربعمائة، وأفردت بالتأليف.

والجواب: إن هذِه الثلاث مهمات.

وقوله عليه السلام: "لَوْ شِئْتِ شَرَطْتِ لَهُمْ، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". وفي أكثر الأحاديث: "اشترطي لهم الولاء"

(2)

.

واحتيج إلى الجواب إما بأن اللام بمعنى: على؛ لقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أو أن الشرط لم يقارن بل سبق، أو هشامًا انفرد به، فلعله نقله على المعنى، أو أنه أولاً أمر به كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ثم منعها عنه، أو أنه خاص بتلك الواقعة. وقال الأصيلي: معناه: لا يلزمه؛ لأن الولاء لمن أعتق، يؤيده رواية البخاري "ودعيهم يشترطون ما شاءوه"

(3)

.

فصل:

وقولها: (فَخُيِّرَتْ بين أَنْ تَقِرَّ تَحْتَ زَوْجِهَا، أو تفارقه) يصح أن

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 492 - 494.

(2)

سلف برقم (2168)، كتاب: البيوع، باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل.

(3)

سلف برقم (2565) كتاب: المكاتب، باب: إذا قال المكاتب: اشترني وأعتقني فاشتراه لذلك.

ص: 200

يكون أصله من وقر، فالراء مخففة، قال الأحمر في قوله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] ليس من الوقار، وإنما هو من الجلوس ويقال: وقرت أقر؛ فعلى هذا المحذوف من (يقر) فاء الفعل، وهي الواو، ويصح أن تكون القاف مفتوحة من قولهم: قررت بالمكان أقر، قيل: هو معنى الآية المذكورة، أصله: واقررن، حذفت الراء الأولى للتضعيف، وألقيت حركتها على القاف، فاستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف. ويجوز كسر القاف وتشديد الراء من قريت، ويؤول ذَلِكَ على قراءة (وقرن في بيوتكن) بكسر القاف، وأصله: واقررن حذفت الراء الأولى وألقيت حركتها على القاف. ولغة أهل الحجاز: قررت بالمكان، بكسر الراء وبالفتح أيضًا، ذكره أجمع ابن التين.

ص: 201

‌32 - باب الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ

5431 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ. [انظر: 4912 - مسلم: 1474 - فتح: 9/ 557].

5432 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَيْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الْفُدَيْكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَلْزَمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِشِبَعِ بَطْنِي حِينَ لَا آكُلُ الخَمِيرَ، وَلَا أَلْبَسُ الحَرِيرَ، وَلَا يَخْدُمُنِي فُلَانٌ وَلَا فُلَانَةُ، وَأُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصْبَاءِ، وَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الآيَةَ وَهْيَ مَعِي كَيْ يَنْقَلِبَ بِي فَيُطْعِمَنِي، وَخَيْرُ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ، حَتَّى إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ

(1)

لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، فَنَشْتَقُّهَا فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا. [انظر: 3708 - فتح: 9/ 557].

كذا ذكره البخاري بالمد، أعني: الحلواء، قال ابن ولاد: الحلوى عند الأصمعي مقصور تكتب بالياء

(2)

، وفي قول الفراء: ممدود وكل ممدود يكتب بالألف. وقيل: يمد ويقصر، وقال الليث: هو ممدود عند أكثرهم، وهو كل حلو يؤكل. وقال الخطابي: اسم الحلواء لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة

(3)

، وقال ابن سيده في "المخصص": هو كل ما عولج من الطعام بحلاوة

(4)

. وهو أيضًا الفاكهة.

وترجم على حديث عائشة الآتي باب: شرب الحلواء والعسل

(5)

.

قال الداودي: يحتمل أن يريد النقيع الحلو، ويحتمل أن يريد التمر

(1)

(العُكة) بالضم آنية السمن وجمعها (عُكَكٌ)"مختار الصحاح"(188).

(2)

"المقصور والممدود" ص 28.

(3)

"أعلام الحديث" 3/ 2053.

(4)

"المخصص" 1/ 444.

(5)

سيأتي برقم (5614)، كتاب: الأشربة.

ص: 202

ونحوه من الثمار. قلت: التمر كيف يشرب؟ إلا قول من قال: شراب ألبان وتمر وأقط، ذكره مع اللبن للمجاورة.

وذكر البخاري في الباب حديث عائشة رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ.

ذكره في الأشربة والطب وترك الحيل

(1)

.

وأخرجه مسلم والأربعة

(2)

، وحديث أبي هريرة في ذكر جعفر، وقد سلف في ترجمته

(3)

.

وشيخه هنا عبد الرحمن بن شيبة، وهو عبد الرحمن بن عبد الملك بن محمد بن شيبة، أبو بكر القرشي الحزامي، مولاهم المَدنيُّ

(4)

.

وروى النسائي عن رجل عنه

(5)

، قال ابن المنير: ومناسبة حديث أبي هريرة لما بوب له أن الحلواء المذكورة ليست المعهود الآن على وجه الإسراف واجتماع المفردات الكبيرة وإنما هي الشيء الحلو

(1)

سيأتي في الأشربة برقم (5614)، وبرقم (5599) باب: الباذق، وفي الطب برقم (5682) باب: الدواء بالعسل.

وفي ترك الحيل برقم (6972) باب: ما يكره من احتيال المرأة مع الزوج والضرائر.

(2)

مسلم (1474) كتاب: الطلاق، باب: وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق وعند أبي داود (3715)، الترمذي (1831)، وابن ماجه (3323) والنسائي في "الكبرى" 4/ 163.

(3)

سلف برقم (3708) كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب جعفر بن أبي طالب.

(4)

انظر: "تهذيب الكمال" 17/ 260 (3889).

(5)

روى النسائي عن أبي زرعة الرازي عبيد الله بن عبد الكريم عنه حديثين في "الكبرى"؛ الأول في كتاب: الصيام، باب: آداب الصائم 2/ 238 من حديث أبي هريرة: "من لم يدع قول الزور .. " الحديث. والثاني في الإعتكاف، باب: ليلة القدر أي ليلة هي 2/ 273 من حديث عبد الله بن أنيس وسؤاله للنبي عن ليلة القدر.

ص: 203

ولو نبيذ التمر

(1)

، ولما كانت العلة المذكورة فيه تكون فيها غالبًا العسل وربما جاء مصرحًا به في بعض الروايات فناسبت التبويب، ولم يكن حب الشارع للحلواء على كثرة التشهي بها، وشدة نزاع النفس إليها، وتأنق الصنعة في اتخاذها فعل (أهل)

(2)

النهم، وإنما كان ينال منها إذا قدمت إليه نيلًا صالحًا من غير تعذر، فيعلم بذلك أنها تعجبه طعمها وحلاوتها.

وفيه: دليل على اتخاذ الأطعمة من ألوان شتى، وكان بعض أهل الورع يكره ذَلِكَ ولا يرخص أن يأكل من الحلواء إلا ما كان حلوًا بطبعه من غير أن يخلط بلتٍّ أو دسم كالعسل والتمر.

ومن الأحاديث الواهية: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا قرب إلى أحدكم الحلواء فليأكل منها ولا يردها"

(3)

.

قال أبو زرعة: حديث منكر

(4)

.

(1)

"المتواري" ص 380.

(2)

من (غ) وفي الأصل: (أهم) والمثبت أشبه بالصواب.

(3)

رواه الطبراني في "الأوسط" 7/ 151، والبيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 99 من طريق إبراهيم بن عرعرة عن فضالة بن حصين، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ورواه ابن حبان في "المجروحين" 2/ 206 من طريق ابن قتيبة عن ابن السري، عن فضالة به. وقال ابن حبان: يروي عن محمد بن عمرو الذي لم يتابع عليه وعن غيره من الثقات ما ليس من أحاديثهم. وقال البيهقي بعد ما روى الحديث: تفرد به فضالة وكان متهما بهذا الحديث. وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 37: فيه فضالة بن حصين، قال أبو حاتم: مضطرب الحديث وإبراهيم بن عرعرة لم أعرفه وبقية رجاله ثقات. وقال محمد بن طاهر الهندي في "تذكرة الموضوعات" ص 150: لا يصح.

(4)

"علل الحديث" لابن أبي حاتم 2/ 14.

ص: 204

ولا شك أن الحلواء والعسل من جملة الطيبات المباحة قال تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] وقال: {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] على قول من ذهب [إلى]

(1)

أن الطيبات: المستلذ من الطعام.

ودل حديث عائشة رضي الله عنها على صحة هذا التأويل لمحبة الشارع الحلواء والعسل، وأن ذَلِكَ من طعام الصالحين الأبرار؛ اقتداء بحبه عليه السلام لهما، ودخل في معناه كل ما شاكلهما من أنواع المآكل الحلوة الطعم كالتمر والتين والزبيب والعنب والرمان، وشبه ذَلِكَ من الفواكه

(2)

.

فصل:

وقوله في العُكَّةَ: (فَنَشْتَقُّهَا فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا). قال ابن التين لأبي الحسن: بالمعجمة والفاء. وروي بالقاف، والأول أبين والثاني أظهر؛ لأن الاشتفاف إنما هو شرب ما في الإناء ولا يبقي شيئًا، وهنا قد ذكر أنه لا شيء فيها، وإنما هم سقوها ولعقوا ما فيها.

وقال ابن قرقول: فنشتفها كذا لهم، أي: نتقصى ما فيها من بقيتة كما جاء (فنلعق ما فيها). ورواه المروزي والبلخي بالقاف، وهو أوجه.

فصل:

وفي حديث أبي هريرة من الفقه: الاقتصاد في المعيشة، والأخذ منها بالبلغة الباعثة على الزهد في الدنيا.

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال".

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 494.

ص: 205

وفيه: فضل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، ووصفه بالكرم والتواضع لتعاهده للمساكين وإطعامه لهم في بيته وإكرامهم بذلك.

وفيه: جواز الإحسان بالشيء التافه؛ لأن ذَلِكَ لا يخلو أن يكون فيه مثاقيل ذرٍّ كثيرة

(1)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 495.

ص: 206

‌33 - باب الدُّبَّاءِ

5433 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى مَوْلًى لَهُ خَيَّاطًا، فَأُتِيَ بِدُبَّاءٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُهُ. [انظر: 2092 - مسلم: 2041 - فتح: 9/ 551].

ذكر فيه حديث ثمامة بن أنس، وهو ثمامة بن عبد الله بن أنس، عَنْ أَنَسٍ، أَنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى مَوْلًى لَهُ خَيَّاطًا، فَأُتِيَ بِدُبَّاءٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُهُ، فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُهُ.

هذا الحديث سلف

(1)

، وفيه روايات سلفت أنه غلام

(2)

. وهنا أنه مولى له، ولا منافاة، وفي بعضها قرَّب مرقًا

(3)

، وفي أخرى قديدًا

(4)

، وأخرى خبز شعير وقديد

(5)

، ولا منافاة أيضًا، والثقة إذا زاد قُبل، قال الداودي: ووجه ذَلِكَ أنهم كانوا لا يكتبون، فربما أغفل الراوي عند التحديث كلمة.

(1)

سلف برقم (2092) كتاب: البيوع، باب: ذكر الخياط.

(2)

سلف برقم (5420) باب: الثريد، وسيأتي برقم (5435) باب: من أضاف رجلاً إلى طعامه ..

(3)

سلف برقم (2092) وسيأتي برقم (5437) باب: القديد.

(4)

سيأتي برقم (5437).

(5)

سيأتي برقم (5436) باب: المرق، (5439) باب: من ناول أو قدم إلى صاحبه على المائدة شيئًا.

ص: 207

‌34 - باب الرَّجُلِ يَتَكَلَّفُ الطَّعَامَ لإِخْوَانِهِ

5434 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: كَانَ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شُعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعَامًا أَدْعُو رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَدَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّكَ دَعَوْتَنَا خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ» . قَالَ: بَلْ أَذِنْتُ لَهُ. [انظر:

2081 -

مسلم: 2036 - فتح: 9/ 559].

ذكر فيه حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو شعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعَامًا أَدْعُو رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ .. الحديث. وقد سلف في باب: ما قيل في اللحام والجزار

(1)

، وأخرجه مسلم والترمذي وقال حسن صحيح، والنسائي

(2)

، وهو مطابق لما ترجم له، وسلف فيه أيضًا وجه قوله:"هذا رَجُلٌ قَدْ تَبِعَنَا، فَإِنْ شِئْتَ أَذِنتَ لَهُ".

ولم يقل ذَلِكَ لأبي طلحة حين حمل جماعة أصحابه مع نفسه إلى طعامه، وسيأتي في الأدب، باب: صنع الطعام والتكلف للضيف من حديث سلمان وأبي الدرداء

(3)

.

(1)

سلف برقم (2081) كتاب: البيوع.

(2)

مسلم (2036) كتاب: الأشربة، باب: ما يفعل الضيف إذا تبعه غير من دعاه صاحب الطعام، والترمذي (1099)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 141.

(3)

سيأتي برقم (6139).

ص: 208

‌35 - باب مَنْ أَضَافَ رَجُلاً إِلَى طَعَامٍ، وَأَقْبَلَ هُوَ عَلَى عَمَلِهِ

5435 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ النَّضْرَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى غُلَامٍ لَهُ خَيَّاطٍ، فَأَتَاهُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ وَعَلَيْهِ دُبَّاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ: -قَالَ- فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَجْمَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ -قَالَ:- فَأَقْبَلَ الْغُلَامُ عَلَى عَمَلِهِ. قَالَ أَنَسٌ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مَا صَنَعَ. [انظر: 2092 - مسلم: 2041 - فتح: 9/ 562].

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه في الخياط أيضًا.

وفيه: حجة أن للمضيف أن يقدم الطعام إلى ضيفه ولا يأكل منه، ولا يكون ذَلِكَ من سوء الأدب بضيفه، ولا إخلالًا بإكرامه؛ لأن ذَلِكَ صنع بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان من دنيء الأخلاق لنهى عنه؛ لأنه بعينه معلمًا، ولا أعلم في الأكل مع الضيف وجهًا غير أنه أبسط لنفسه، وأذهب لاحتشامه.

فمن قدر على ذَلِكَ فهو أبلغ في بره، ومن تركه فواسع إن شاء الله. وسيأتي في الأدب في باب: قول الضيف لأصحابه: لا آكل حَتَّى تأكل منه. وذكر حديث الصديق حين أمر ابنه أن يطعم أضيافه، الحديث ووجهه

(1)

.

(1)

سيأتي برقم (6141).

ص: 209

‌36 - باب الْمَرَقِ

5436 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، فَذَهَبْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ يَوْمِئِذٍ. [انظر: 2092 - مسلم: 2041 - فتح: 9/ 562].

ذكر فيه حديث أنس في الخياط أيضًا:

وفيه: أن السلف كانوا يأكلون الطعام الممرق، وفي بعض الأحاديث المرق أحد اللحمين

(1)

، وفي الترمذي من حديث أبي ذر أيضًا قال عليه السلام:"لا يجدن أحدكم شيئًا من المعروف، فإن لم يجد فليلق أخاه بوجهٍ طلق، وإذا اشتريت لحمًا أو طبخت قدرًا فأكثر مرقته واغرف لجارك منه". قال الترمذي: حديث صحيح

(2)

.

وفي مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه رفعه: "إذا طبخت قدرًا فأكثر مرقها"

(3)

.

وفيه: فليطعم جيرانه.

وقوله: (يتبع الدباء من حوالي القصعة). يقال: حوله وحواله وحواليه، ويجمع: أحوالًا.

(1)

يشير المصنف إلى ما رواه الترمذي (1832)، وابن عدي في "الكامل" 7/ 369، والحاكم في "المستدرك" 4/ 130، والبيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 95 وقال الترمذي: حديث غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: محمد بن فضاء ضعفه ابن معين، وقال البيهقي: تفرد به محمد بن فضاء، وليس بالقوي. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2341).

(2)

"سنن الترمذي"(1833) وأصله عند مسلم (2625، 2626).

(3)

مسلم (2625) كتاب: البر والصلة، باب: الوصية بالجار والإحسان إليه.

ص: 210

‌37 - باب الْقَدِيدِ

5437 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمَرَقَةٍ فِيهَا دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ يَأْكُلُهَا. [انظر: 2092 - مسلم: 2041 - فتح: 9/ 563].

5438 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلاَّ فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ، أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الْغَنِيُّ الْفَقِيرَ، وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الْكُرَاعَ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَمَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلَاثًا. [انظر: 5423 - مسلم: 2970 - فتح: 9/ 563].

ذكر فيه حديث أنس أيضًا رضي الله عنه: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمَرَقَةٍ فِيهَا دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ يَأْكُلُهَا.

وحديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: مَا فَعَلَهُ إِلَّا فِي عَامٍ جَاعَ النَّاسُ، أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ الغَنِيُّ الفَقِيرَ، وَإِنْ كُنَّا لَنَرْفَعُ الكُرَاعَ بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَمَا شَبعَ آلُ مُحَمَّدٍ مَنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلَاثًا.

وفيه: أن القديد كان من طعامه عليه السلام وسلف الأمة.

وأما قوله: (ما فعله إلا في عام جاع الناس) يريد نهيه عليه السلام أن يأكلوا لحوم نسكهم فوق ثلاث من أجل الدافة التي كان بها الجهد، فأطلق لهم بعد زواله الأكل من الضحايا ما شاءوا؛ لذلك قالت:(إن كنا لنرفع الكراع بعد خمس عشرة). والكراع: الأكارع لقوائم الشاة، وهم من الناس سفلتهم، قاله الهروي

(1)

. وقال ابن فارس: الكراع من الإنسان: ما دون الركبة، ومن الدواب ما دون الكعب

(2)

.

(1)

"غريب الحديث" 2/ 422.

(2)

"مجمل اللغة" 3/ 782 مادة (كرع).

ص: 211

‌38 - باب مَنْ نَاوَلَ أَوْ قَدَّمَ إِلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْمَائِدَةِ شَيْئًا

وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا بَأْسَ أَنْ يُنَاوِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يُنَاوِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَائِدَةِ إِلَى مَائِدَةٍ أُخْرَى.

5439 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَهُ -قَالَ أَنَسٌ:- فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ -قَالَ أَنَسٌ:- فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوْلِ الصَّحْفَةِ، فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَقَالَ ثُمَامَةُ، عَنْ أَنَسٍ: فَجَعَلْتُ أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ. [انظر: 2092 - مسلم: 2041 - فتح: 9/ 563].

ذكر فيه حديث أنس في الخياط أيضًا

وقد سلف الكلام فيه، وَقَال ثُمَامَةُ، عَنْ أَنَسٍ: فَجَعَلْتُ أَجْمَعُ الدُّبَّاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ.

ص: 212

‌39 - باب الرُّطَبِ بِالْقِثَّاءِ

5440 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما -قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ. [انظر: 2047، 5449 - مسلم: 2043 - فتح 9/ 564].

ذكر فيه حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ.

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا والأربعة: النسائي في كتاب: الأخوة

(1)

. والقثاء: ممدود، وقافه تضم وتكسر لغتان، الواحدة: قثاءة. قال أبو نصر

(2)

: القثاء: الخيار

(3)

، وقرأ يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف بالضم، وقال أبو المعالي في "المنتهى": القثاء: الشُعرور عند من جعله فعلاء من قث.

وعند ابن ولاد: هو في الكسر والضم ممدود

(4)

.

وقال أبو حنيفة: ذكر بعض الرواة أنه يقال: القثا: القشعر بلغة أهل الجوف من اليمن، الواحدة: قشعرة، قال: أحسبه جوف مُراد. وفي أكله القثاء بالرطب معنيان: إيثار الرطب في مقابلة الشيء وضده، فإن القثاء بارد رطب، والرطب حار يابس فباجتماعهما يعتدلان، وإباحة التوسع في الأطعمة ونيل الملذوذ والمباح منها، قال ابن المنذر: من

(1)

رواه مسلم (2043) كتاب الأشربة، باب: أكل القثاء بالرطب، وأبو داود (3835)، والترمذي (1844)، ابن ماجه (3335)، والنسائي في كتاب: الأخوة كما في "تحفة الأشراف"(5219).

(2)

ورد بهامش الأصل: هو الجوهري في "صحاحه".

(3)

"الصحاح" 1/ 64 مادة (قثأ).

(4)

"المقصور والممدود" لابن ولاد ص 92.

ص: 213

لذيذ المطعم جمع الأكل من الحار والبارد؛ ليعتدلا، كان عليه السلام يأكل الرطب بالقثاء، وقد كان يجمع بين الرطب والبطيخ. روينا عنه أنه عليه السلام قال:"كلوا البلح بالتمر فإن الشيطان يغضب ويقول: عاش ابن آدم حَتَّى أكل الجديد بالخلق"

(1)

وذكره ابن الجوزي في "موضوعاته"

(2)

.

(1)

انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 233 - 234.

(2)

"موضوعات ابن الجوزي" 3/ 173 (1393).

ص: 214

‌40 - باب

5441 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبَّاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلَاثًا، يُصَلِّي هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنِ أَصْحَابِهِ تَمْرًا، فَأَصَابَنِي سَبْعُ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفَةٌ. [انظر: 5411 - فتح: 9/ 564].

5441 م - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَنَا تَمْرًا، فَأَصَابَنِي مِنْهُ خَمْسٌ أَرْبَعُ تَمَرَاتٍ وَحَشَفَةٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْحَشَفَةَ هِيَ أَشَدُّهُنَّ لِضِرْسِي. [انظر: 5411 - فتح: 9/ 564].

ذكر فيه حديث أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلَاثًا، يُصَلِّي هذا، ثُمَّ يُوقِظُ هذا، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَسَمِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيْنِ أَصْحَابِهِ تَمْرًا، فَأَصَابَنِي سَبْعُ تَمَرَاتٍ إِحْدَاهُنَّ حَشَفةٌ.

وعن أبي عثمان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَنَا تَمْرًا، فَأَصَابَنِي مِنْهُ خَمْسٌ أَرْبَعُ تَمَرَاتٍ وَحَشَفَةٌ، ثُمَّ رَأَيْتُ الحَشَفَةَ هِيَ أَشَدُّهُنَّ لِضِرْسِي.

هذا الحديث سلف في باب: ما كان عليه السلام وأصحابه يأكلون

(1)

.

(1)

سلف برقم (5411).

ص: 215

‌41 - باب الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} [مريم: 25].

5442 -

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورِ ابْنِ صَفِيَّةَ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَبِعْنَا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ، وَالْمَاءِ. [انظر 5383 - مسلم: 2975 - فتح: 9/ 566]

5443 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَهُودِيٌّ، وَكَانَ يُسْلِفُنِي فِي تَمْرِي إِلَى الْجِدَادِ، وَكَانَتْ لِجَابِرٍ الأَرْضُ الَّتِي بِطَرِيقِ رُومَةَ فَجَلَسَتْ، فَخَلَا عَامًا، فَجَاءَنِي الْيَهُودِيُّ عِنْدَ الْجَدَادِ، وَلَمْ أَجُدَّ مِنْهَا شَيْئًا، فَجَعَلْتُ أَسْتَنْظِرُهُ إِلَى قَابِلٍ فَيَأْبَى، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لأَصْحَابِهِ:«امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجَابِرٍ مِنَ الْيَهُودِيِّ» . فَجَاءُونِي فِي نَخْلِي، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُ الْيَهُودِيَّ، فَيَقُولُ: أَبَا الْقَاسِمِ، لَا أُنْظِرُهُ. فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَطَافَ فِي النَّخْلِ، ثُمَّ جَاءَهُ فَكَلَّمَهُ فَأَبَى، فَقُمْتُ فَجِئْتُ بِقَلِيلِ رُطَبٍ فَوَضَعْتُهُ بَيْنَ يَدَىِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَكَلَ.

ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ عَرِيشُكَ يَا جَابِرُ؟» . فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:«افْرُشْ لِي فِيهِ» . فَفَرَشْتُهُ، فَدَخَلَ فَرَقَدَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَجِئْتُهُ بِقَبْضَةٍ أُخْرَى فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَ فَكَلَّمَ الْيَهُودِيَّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَامَ فِي الرِّطَابِ فِي النَّخْلِ الثَّانِيَةَ ثُمَّ قَالَ:«يَا جَابِرُ، جُدَّ وَاقْضِ» . فَوَقَفَ فِي الْجَدَادِ، فَجَدَدْتُ مِنْهَا مَا قَضَيْتُهُ وَفَضَلَ مِنْهُ، فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَشَّرْتُهُ، فَقَالَ:«أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ» . [عُرُوشٌ وَعَرِيشٌ: بِنَاءٌ. وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: {مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141]: ما يُعَرَّش مِنَ الكُرُومِ وَغَيْر ذَلِكَ، يُقَالُ: عُرُوشُهَا: أَبْنِيَتُهَا. [فتح 9/ 566].

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورِ ابن صَفِيَّةَ: حَدَّثَتْنِي

ص: 216

أُمِّي، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَبِعْنَا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ، وَالْمَاءِ.

ثم ساق حديث جابر رضي الله عنه كَانَ بِالْمَدِينَةِ يَهُودِيٌّ، وَكَانَ يُسْلِفُنِي فِي تَمْرِي إِلَى الجِدَادِ .. الحديث. إلى أن قال: وأكل من رطبها.

الشرح:

تعليق محمد بن يوسف سلف مسندًا عن مسلم بن إبراهيم، عن وهيب، عن منصور

(1)

، وقال أبو نعيم: ثنا أبو محمد بن حبان، ثنا أبو يعلى، ثنا أبو خيثمة، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن منصور، فذكره. ومنصور: هو ابن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث بن طلحة بن أبي طلحة الجمحي.

وحديث جابر سلف أيضًا غير مرة

(2)

، والبخاري رواه عن سعيد بن أبي مريم، عن أبي غسان، عن أبي حازم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة عن جابر. وأبو غسان اسمه محمد بن مطرف، وأبو حازم سلمة بن دينار، قال الإسماعيلي في كتابي عن القاسم بن زكريا ولم أر عليه إجازة، ثنا إبراهيم بن هانئ وأحمد بن منصور قالا: ثنا سعيد بن أبي مريم فذكره، ثم قال في آخره: حدثنيه محمد بن أحمد بن القاسم: ثنا يحيى بن صاعد، ثَنَا أحمد بن منصور وسعيد بن أبي مريم به سواء.

(1)

سلف برقم (5383) باب: من أكل حتى شبع.

(2)

سلف برقم (2127) كتاب: البيوع، باب: الكيل على البائع والمعطي وبرقم (2395) كتاب: الإستقراض، باب: إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وبرقم (2396) باب إذا قاص أو جازفه في الدين تمرًا بتمر أو غيره. وفي الهبة والصلح والوصايا والمناقب وغيرها.

ص: 217

وقال: هذِه القصة رواها الثقات المعروفون فيما كان على أبي جابر والسلف إلى الجذاذ مما لا يخبره البخاري وغيره، ففي هذا الإسناد نظر.

وقوله: [قال]

(1)

جابر: (فجسلت، فخلا عامًا) قال صاحب المطالع: كذا للقابسي وأبي ذر وأكثر الرواة أي: اختلفت أي: كل ما نبت فيها. يقال: اختلست الشيء: اختطفته. ولأبي الهيثم: فخاست بحلها عامًا. وللأصيلي: فحبست.

وصوابه الثاني أي: خالفت معهود حلها، يقال: خاس العهد: إذا خانه، وخاس الشيء: إذا تغير أي: فتغير بحلها عما كان عليه، وكان أبو مروان بن سراح، يصوب الأولى إلا أنه يصلح ضبطها: فجلستُ أي: عن القضاء، فخلا يعني: السلف عامًا، لكن ذكره للأرض في أول الحديث يدل على أن الخبر عنها لا عن نفسه.

فصل:

الرطب والتمر: من طيب ما خلق الله وأباحه لعباده، وهو جل طعام أهل الحجاز وعمدة أقواتهم، وقد دعا إبراهيم عليه السلام لهم بمكة بالبركة، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة، ومثله معه. ولا تزال البركة في تمرهم وثمارهم إلى قيام الساعة.

فصل:

ظاهر هذا الحديث أن الدين كان على جابر، والذي في أكثر الأحاديث أنه على والد جابر.

وفيه: أن لا يحلون من دين عليهم، وكان عليه السلام يتعوذ من المغرم، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي، فدل أن تعوذه كان من كثير الدين.

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 218

وفيه: أكله عليه السلام عند بعض أصحابه، قال ابن التين: ولا يجوز ذَلِكَ للأمة؛ إذ ليس فيهم من قوته اليقين، ولا ممن مطعمه ما في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فصل:

قولها: (وَقَدْ شبِعْنَا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ: التَّمْرِ، وَالْمَاءِ)، وقد يراد بهما الماء والقث، أنشد ابن سيده في "محكمه":

الأسودان أبردا عظامي

الماء والقث دوا أسقامي

(1)

(1)

في الأصول: دوا سقامي والمثبت من "المحكم" لابن سيده 8/ 397 مادة (سود).

ص: 219

‌42 - باب أَكْلِ الْجُمَّارِ

5444 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما -قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ إِذْ أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ» . فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي: النَّخْلَةَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هِيَ النَّخْلَةُ» . [انظر: 61 - مسلم: 2811 - فتح: 9/ 569].

ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما السالف في العلم وغيره

(1)

.

وترجم عليه باب بركة النخل

(2)

؛ لتشبيه الله تعالى لها في كتابه بالمؤمن؛ لقوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} .

(1)

سلف برقم (61) كتاب: العلم، باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا وبرقم (62) باب: طرح الإِمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم وبرقم (2209) كتاب: البيوع، باب بيع الجمار وأكله.

وبرقم (4698) كتاب: التفسير، باب: قوله {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} ومواضع أخرى عديدة.

(2)

سيأتي برقم (5448).

ص: 220

‌43 - باب الْعَجْوَةِ

5445 -

حَدَّثَنَا جُمْعَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرُّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ» . [انظر: 5768، 5769، 5779 - مسلم: 2047 - فتح: 9/ 569].

حدثنا جُمْعَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، ثَنَا مَرْوَانُ، أنا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ أنا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَصَبَّحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ اليَوْمِ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ".

هذا الحديث يأتي في باب الطب أيضًا

(1)

، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي

(2)

وعند الحاكم وقال: صحيح الإسناد من البرني

(3)

. وللدارمي: "لم يضره شيء ذَلِكَ اليوم حَتَّى يمسي".

قيل: جمعة هذا لقب، واسمه يحيى بن زياد بن عبد الله بن شداد أبو بكر السلمي البلخي. انفرد به البخاري عن الخمسة، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين في جمادى الآخرة

(4)

.

وهاشم: هو هاشم بن هاشم قال أبو السرع: ابن عتبة بن أبي وقاص الزهري، قال مكي: سمعت منه سنة أربع، وفي رواية سنة سبع وأربعين ومائة، اتفقا عليه

(5)

.

(1)

سيأتي برقم (5768)، (5769) باب: الدواء بالعجوة للسحر.

(2)

مسلم (2047) كتاب: الأشربة، باب: فضل تمر المدينة، وأبو داود (3876)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 165.

(3)

"المستدرك" 4/ 204 وقال الذهبي في "التلخيص": حديث منكر.

(4)

انظر: "تهذيب الكمال" 5/ 120 (962).

(5)

انظر: "تهذيب الكمال" 30/ 137 (6542).

ص: 221

ولابن بطال: كانت عائشة تجعل ذَلِكَ سبع غدوات على الريق إذا وصفته كدواء

(1)

. وللدارمي في كتاب "الأطعمة": عن يحيى الحماني: ثنا سليمان بن بلال، عن شريك بن عبد الله، عن ابن أبي عتيق، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"في عجوة العالية شفاء أو ترياق أول البكر على الريق"

(2)

.

وعن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد وأبي هريرة رفعاه:"العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم"

(3)

. وعن مُشْمَعِل بن إياس، حَدَّثَني عمرو بن سليم، حَدَّثَني رافع بن عمرو المزني مرفوعًا:"العجوة والصخرة من الجنة"

(4)

.

قال الخطابي: كونها عُوذة من السحر والسم، إنما هو من طريق التبرك بدعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقت فيها، لا لأن من طبع التمر أن يصنع شيئًا من ذَلِكَ

(5)

، والعجوة من أجود تمر المدينة، ويسمونه: لينة. قال في "الصحاح"

(6)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 449.

(2)

كذا عزاه المصنف للدارمي في كتاب "الأطعمة" ولم يتثنى لي العثور عليه والحديث عند مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن شريك به (2048) كتاب: الأشربة، باب: فضل تمر المدينة وليس فيه "على الريق" وهو في "المسند" بهذا اللفظ 6/ 152.

(3)

حديث أبي سعيد رواه ابن ماجه (3453)، وأحمد 3/ 48 والنسائي في "الكبرى" 4/ 165 وحديث أبي هريرة رواه الترمذي (2068) وقال: حديث حسن، وابن ماجه (3455) وأحمد 2/ 301 وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(4126).

(4)

رواه ابن ماجه (3456)، وأحمد 5/ 31 والحاكم 3/ 588 وغيرهم وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(3852) وانظر "الإرواء"(2696).

(5)

"أعلام الحديث" 3/ 2054.

(6)

"الصحاح" 6/ 2419 وفيه أن نخلة العجوة هي التي تسمي لينة وليس العجوة.

ص: 222

وقيل: هي أكبر من الصَّيْحاني يضرب إلى السواد

(1)

.

وقيل ليس بأجوده. وقال الداودي: من وسط التمر. ولابن التين: قيل: أن العجوة مما عرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم بها، واختصاص هذِه وغيرها من الأمور بالسبع والثلاث كثير.

ولابن عدي: من حديث الطفاوي (خ د ت س) عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"يمنع من الجذام أن تأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة كل يوم يفعل ذَلِكَ سبعة أيام". ثم قال: لا أعلم رواه بهذا الإسناد غير الطفاوي وله غرائب وإفرادات، وكلها يحتمل، ولم أرَ للمتقدمين فيه كلامًا

(2)

.

قلت: قد قال ابن معين فيه: صالح، وقال أبو حاتم: صدوق

(3)

. ومعنى تصبح، أي: أكلها صباحًا، قبل أن يطعم شيئًا. والسم: سينه مثلثه.

(1)

انظر: "العين" 3/ 270 مادة [صيح]، و"النهاية في غريب الأثر" 3/ 188.

(2)

"الكامل" لابن عدي 7/ 407 - 408 في ترجمة الطفاوي.

(3)

انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" 7/ 324، و"تهذيب الكمال" 25/ 652.

ص: 223

‌44 - باب الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ

5446 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ قَالَ: أَصَابَنَا عَامُ سَنَةٍ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، رَزَقَنَا تَمْرًا، فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَمُرُّ بِنَا -وَنَحْنُ نَأْكُلُ- وَيَقُولُ: لَا تُقَارِنُوا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْقِرَانِ. ثُمَّ يَقُول: إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ. قَالَ شُعْبَةُ: الإِذْنُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. [انظر: 2455 - مسلم: 2045 - فتح: 9/ 569].

ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما السالف في المظالم والشركة

(1)

(إلا أن يستأذن الرجل أخاه) قال شعبة: الإذن من قول ابن عمر. وراجع ذَلِكَ منه، والمراد بالسنة: المجاعة قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} .

وفيه: النهي عن القِران في التمر، وما ذكره عن ابن عمر في الإذن صحيح. وقد علل مالك المنع بأنهم فيه شركاء، وروى عنه ابن نافع: إن كان المطعم هو فيأكل قرانا. وفي رواية ابن وهب أن ذلك ليس بمحتمل. وقوله: (نهى عن الإقران) المعروف القران. وكذلك في الحج والعمرة.

(1)

سلف في المظالم برقم (2455) باب: إذا أذن إنسان لآخر شيئًا جاز وفي الشركة برقم (2489) باب: القران في التمر بين الشركاء.

ص: 224

‌45 - باب القِثَّاءِ

5447 -

حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ. [انظر: 5440 - مسلم:2043 - فتح: 9/ 572].

ذكر فيه حديث عبد الله بن جعفر السالف قريبًا

(1)

.

(1)

سلف برقم (5440) باب: الرطب بالقثاء.

ص: 225

‌46 - باب بَرَكَةِ النَّخْلِ

5448 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ تَكُونُ مِثْلَ الْمُسْلِمِ، وَهْيَ النَّخْلَةُ». [انظر: 61 - مسلم: 2811 - فتح: 9/ 572].

ذكر فيه حديث ابن عمر السالف قريبًا

(1)

.

(1)

سلف برقم (5444) باب: أكل الجمار.

ص: 226

‌47 - باب جَمْعِ اللَّوْنَيْنِ أَوِ الطَّعَامَيْنِ بِمَرَّةٍ

5449 -

حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْقِثَّاءِ. [انظر: 5440 - مسلم: 2043 - فتح: 9/ 573].

ذكر فيه حديث عبد الله بن جعفر أيضًا في أكل الرطب بالقثاء.

قال المهلب: لا أعلم من نهى عن خلط الأدم إلا شيئًا يروى عن عمر رضي الله عنه، ويمكن أن يكون ذَلِكَ من باب السرف، والله أعلم؛ لأنه كان يمكن أن يأتدم بأحدهما ويرفع الآخر إلى مرة أخرى، ولم يجزم ذَلِكَ عمر؛ لأجل الاتباع في أكل الرطب بالقثاء، والقديد مع الدباء.

وقد يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبين هذا، روى عبد الله بن عمر القواريري، نا حمزة بن نجيح الرقاشي، ثنا سلمة بن حبيب، عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عليه السلام نزل قباء ذات يوم وهو صائم، فانتظره رجل يقال له: أوس بن خولي حَتَّى إذا دنا إفطاره أتاه بقدح فيه لبن وعسل، فناوله عليه السلام فذاقه ثم وضعه في الأرض، ثم قال:"يا أوس بن خولي ما شرابك هذا؟ " قال: لبن وعسل يا رسول الله. قال: "إني لا أحرمه، ولكني أدعه تواضعًا لله؛ فإنه من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر قصمه الله، ومن بذر أفقره الله، ومن اقتصد أغناه الله، ومن ذكر الله أحبه الله"

(1)

(2)

.

(1)

لم أقف عليه مسندًا من هذا الطريق. وهو في "معرفة الصحابة" لأبي نعيم (ترجمة أوس بن خولي)، و"أسد الغابة"(أوس بن خذام) من طريق آخر.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 501.

ص: 227

‌48 - باب مَنْ أَدْخَلَ الضِّيفَانَ عَشَرَةً عَشَرَةً، وَالْجُلُوسِ عَلَى الطَّعَامِ عَشَرَةً عَشَرَةً

.

5450 -

حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ. وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ. وَعَنْ سِنَانٍ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ- أُمَّهُ- عَمَدَتْ إِلَى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ، جَشَّتْهُ وَجَعَلَتْ مِنْهُ خَطِيفَةً، وَعَصَرَتْ عُكَّةً عِنْدَهَا، ثُمَّ بَعَثَتْنِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ -وَهْوَ فِي أَصْحَابِهِ- فَدَعَوْتُهُ، قَالَ:«وَمَنْ مَعِي» . فَجِئْتُ فَقُلْتُ: إِنَّهُ يَقُولُ: "وَمَنْ مَعِي"، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ صَنَعَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ. فَدَخَلَ فَجِيءَ بِهِ وَقَالَ:«أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً» . فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَالَ:«أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً» . فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَالَ:«أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً» . حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ؛ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شَيْءٌ!. [انظر: 422 - مسلم: 2040 - فتح: 9/ 574].

حدثنا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنِ الجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ. وَعَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ. وَعَنْ سِنَانٍ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ -أُمَّهُ- عَمَدَتْ إلى مُدٍّ مِنْ شَعِيرٍ، جَشَّتْهُ وَجَعَلَتْ مِنْهُ خَطِيفَةً، وَعَصَرَتْ عُكَّةً عِنْدَهَا، ثُمَّ بَعَثَتْنِي إلى رسول الله فَأَتَيْتُهُ -وَهْوَ في أَصْحَابِهِ- فَدَعَوْتُهُ، قَالَ:"وَمَن مَعِي". فَجِئْتُ فَقُلْتُ: إِنَّهُ يَقُولُ: "وَمَنْ مَعِي"، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ صنَعَتْهُ أُمُّ سُلَيْمٍ. فَدَخَلَ فَجِيءَ بِهِ وَقَالَ:"أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً". فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ قَالَ: "أَدْخِلْ عَلَيَّ

ص: 228

عَشَرَةً". فَدَخَلُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شبِعُوا، ثُمَّ قَالَ: "أَدْخِلْ عَلَيَّ عَشَرَةً". حَتَّى عَدَّ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَكَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ؛ هَلْ نَقَصَ مِنْهَا شيْء.

هذا الحديث سبق بنحوه قريبًا في باب: من أكل حَتَّى شبع

(1)

، وفي علامات النبوة أيضًا من وجه آخر عن أنس

(2)

.

والصلت بن محمد: هو ابن عبد الرحمن بن أبي المغيرة أبو همام البصري الخاركي

(3)

، وخارك: جزيرة في بحر البصرة

(4)

. وروى النسائي عن رجل عنه.

والقائل: (وعن هشام) هو ابن حسان، و (عن سنان) هو حماد بن زيد. ومحمد هو ابن سيرين، وسِنان أبو ربيعة: هو ابن ربيعة الباهلي البصري. انفرد به البخاري.

الخطيفة: -بفتح الخاء المعجمة، ثم طاء مهملة، ثم مثناة تحت، ثم فاء ثم هاء- عصيدة من دقيق ولبن، قال الخطابي: وسمعت الزاهد يقول: هي الكبولا، وإنما سميت خطيفة؛ لأنها تخطف بالملاعق والأصابع

(5)

.

وإنما أدخلهم عشرة عشرة؛ لأنها كانت قصعة واحدة فيها مد من الشعير، فلا يمكن هذِه الجماعة الكبيرة أن يقدروا على التناول منها إلا بجهد، وربما آذى بعضهم بعضًا. وليس في الحديث دلالة أنه

(1)

سلف برقم (5381).

(2)

سلف برقم (3578) كتاب المناقب.

(3)

انظر: "تهذيب الكمال" 13/ 228 (2899).

(4)

انظر: "معجم البلدان" 2/ 337.

(5)

"أعلام الحديث" 3/ 2055.

ص: 229

لا يجوز أن يجلس على مائدة أكثر من عشرة كما ظن من لم يمعن النظر في ذَلِكَ؛ لأن الصحابة قد أكلوا في الولائم مجتمعين.

وفيه: أن الاجتماع على الطعام من أسباب البركة فيه، وقد روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إنا نأكل ولا نشبع. قال:"فلعلكم تأكلون وأنتم مفترقون" قالوا: نعم. قال: "فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله تعالى؛ يبارك لكم" رواه أبو داود، عن إبراهيم بن موسى أنا الوليد بن مسلم، نا وحشي بن حرب، عن أبيه، عن جده أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا .. الحديث

(1)

.

وفيه: علم من أعلام نبوته؛ لأن الطعام كان مدًّا من شعير وأكل منه أربعون رجلاً ببركة النبوة المعصومة، ثم أكل منه بعد ذَلِكَ، وبقي الطعام على حاله، وهذا من أعظم البراهين، وأكبر المعجزات.

فصل:

معنى: جشته: جعلته جشيشًا ثم عصيدة، قال ابن فارس: يقال جششت الشيء إذا دققته، والسويق: جشيش

(2)

.

فصل:

ذكر هنا أن القوم كانوا أربعين، وفيما مضى ثمانين

(3)

، ومرة سبعين أو ثمانين

(4)

، والظاهر تعدد الواقعة.

(1)

"سنن أبي داود"(3764) وصححه ابن حبان 12/ 27، قال الألباني في "الصحيحة" (664): حسن لغيره.

(2)

"مجمل اللغة" 1/ 172.

(3)

سلف برقم (5381) باب: من أكل حتى شبع.

(4)

سلف برقم (3578) كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام.

ص: 230

فصل:

إن قلت هنا لم يذكر الاستئذان على عشرة، بخلاف قصة أبي شعيب السالفة

(1)

قلت: الجواز من أوجه:

أحدها: أنه علم أن أبا طلحة لا يكره ذَلِكَ.

ثانيها: أنه أطعمهم هنا من بركته.

ثالثها: أنه ملك ما أرسلت به أم سليم.

(1)

سلف برقم (2081) كتاب: البيوع، باب: ما قيل في اللحام والجزار.

ص: 231

‌49 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الثُّومِ وَالْبُقُولِ

فِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

5451 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قِيلَ لأَنَسٍ مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم[يَقُول] فِي الثُّومِ؟ فَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا» . [انظر: 856 - مسلم: 562 - فتح: 9/ 575].

5452 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءٌ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما زَعَمَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا"، أَوْ "لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا". [انظر: 854 - مسلم: 2050 - فتح: 9/ 575].

ثم ساق حديث أنس في الثوم: "مَنْ أَكَلَ مِنْه فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا".

وحديث عطاء: أن جابر بن عبد الله زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتزِلْنَا وليَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا".

هذِه الأحاديث تقدمت في الصلاة

(1)

، والأول مسندًا أيضًا

(2)

.

وفيه: جواز أكلها، وإن أكل ما ذكر يكون عذرًا، ولا يجب عليه الحضور. والثوم: بضم الثاء، والبصل: بفتح الباء والصاد.

(1)

حديث أنس سلف برقم (856) باب: ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكرات. وحديث جابر سلف برقم (854) باب: ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكرات.

(2)

هذا التعليق عن ابن عمر سلف مسندًا برقم (853) باب: ما جاء في الثوم النيئ والبصل والكراث.

ص: 232

‌50 - باب الْكَبَاثِ، وَهْوَ ثَمَرُ الأَرَاكِ

5453 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْنِي الْكَبَاثَ، فَقَالَ:«عَلَيْكُمْ بِالأَسْوَدِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ أَيْطَبُ» . فَقَالَ: أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ رَعَاهَا» . [انظر: 3406 - مسلم: 2050 - فتح: 9/ 575].

ذكر فيه حديث جابر رضي الله عنه كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْنِي الكَبَاثَ، فَقَالَ:"عَلَيكُمْ بِالأَسوَدِ مِنهُ، فَإِنَّهُ أَطَيبُ". فَقَيلَ: أَكُنْتَ تَرْعَى الغَنَمَ؟ قَالَ: "نَعَم، وَهَل مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا رَعَاهَا".

هذا الحديث سلف في أحاديث الأنبياء

(1)

.

والْكَبَاثُ -بفتح الكاف-: النضيج، وما لم يونع منه فهو برير ومرد، والأسود منه أشده نضجًا. وعبارة ابن بطال أنه ثمر الأراك الغض منه خاصة، والبرير: ثمر الأراك، الرطب منه واليابس

(2)

.

واعترض ابن التين على تفسير البخاري الكباث بورق الأراك، وقال: إنه ليس بصحيح، والذي قاله أهل اللغة أنه ثمر الأراك

(3)

، وهو ما رأيناه من نسخ البخاري لما قدمته. ثم قال: وقيل: هو نضيجه، وإن كان طريًّا فهو مرد، وقيل: عكسه. وقال أبو عبيد: هو تمر الأراك إذا يبس ويبس له عجمه. وقال أبو زياد: هو تمر يشبه التين، يأكله الناس والإبل والغنم. وقال أبو عمرو: وهو حار مالح كأن فيه ملحًا.

(1)

سلف برقم (3406).

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 503 - 504.

(3)

انظر: "جمهرة اللغة" 1/ 261.

ص: 233

وفيه: إباحة أكل ثمر الشجر التي لا تملك، وكان هذا في أول الإسلام عند عدم الأقوات. وقد أغنى الله عباده بالحنطة والحبوب الكثيرة وسعة الرزق، فلا حاجة بهم إلا ثمر الأراك. قال الداودي: وخص الأنبياء برعاية الغنم؛ لأنها لا تركب فتزهق أنفس راكبها.

قلت: وإن كان بعضهم يركب تيوس المعز في البلاد الكثيرة الجبال والحرارة، كما ذكره المسعودي وغيره.

فيه: أن رعيها فضيلة، وأن رعيها يورث السكينة والوقار.

وقوله: ("أطيب") في بعض النسخ: "أيطب" وهو مقلوبة مثل جذب جبذ، وهما لغتان.

ص: 234

‌51 - باب الْمَضْمَضَةِ بَعْدَ الطَّعَامِ

5454 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ دَعَا بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِيَ إِلاَّ بِسَوِيقٍ، فَأَكَلْنَا، فَقَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَتَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا. [انظر: 209 - فتح: 9/ 576].

5455 -

قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ بُشَيْرًا يَقُولُ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَلَمَّا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ -قَالَ يَحْيَى: وَهْيَ مِنْ خَيْبَرَ على رَوْحَةٍ - دَعَا بِطَعَامٍ، فَمَا أُتِيَ إِلاَّ بِسَوِيقٍ، فَلُكْنَاهُ فَأَكَلْنَا مَعَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّى بِنَا الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَقَالَ سُفْيَانُ: كَأَنَّكَ تَسْمَعُهُ مِنْ يَحْيَى. [انظر: 209 - فتح: 9/ 577].

ذكر فيه حديث سويد بن النعمان رضي الله عنه وقد سلف قريبًا

(1)

، وفي الطهارة أيضًا

(2)

. والمضمضة بعد الطعام سنة مؤكدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على فعل ذَلِكَ ويحض أمته على تنظيف أفواههم وتطيبها؛ لأنها طرق القرآن، وقد قال عليه أفضل الصلاة والسلام:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"

(3)

فالمضمضة بالماء بعد الطعام من أجل الصلاة من أجل مباشرة كلام الناس أيضًا يغني عن السواك، ولا شيء أنظف من الماء، وبه أمر الله تعالى أن يطهر كل شيء، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوء اليدين قبل الطعام وبعده.

(1)

سلف برقم (5384) باب: ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج. وبرقم (5390) باب: السويق.

(2)

سلف في الطهارة برقم (209) باب: من مضمض من السويق ولم يتوضأ.

(3)

سلف برقم (887) من حديث أبي هريرة، كتاب الجمعة، باب: السواك يوم الجمعة.

ص: 235

ذكر ابن المنذر قال: روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوضوء قبل الطعام وبعده بركة"

(1)

رواه أبو داود من حديث أبي هاشم، عن زاذان، عن سلمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

، وليس بواجب؛ لأنه عليه السلام قد أكل لما خرج من البراز قبل أن يغسل يديه.

رواه أبو داود من حديث ابن عباس

(3)

، وأنكر مالك غسل اليدين قبل الطعام، وقال: إنه من فعل الأعاجم. وبه قال الثوري، وقال الأبهري: لا نحفظ ذَلِكَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه

(4)

.

(1)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 231.

(2)

أبو داود (3761) ورواه الترمذي (1846) وغيرهم، وقال أبو داود عقب الرواية: وهو ضعيف وذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 162 - 163 وضعفه الألباني في "الضعيفة"(168).

(3)

أبو داود (3760) وأصله عند مسلم برقم (374) كتاب: الحيض، باب: جواز أكل المحدث الطعام وأنه لا كراهة في ذلك ..

(4)

انظر "شرح ابن بطال" 9/ 504 - 505.

ص: 236

‌52 - باب لَعْقِ الأَصَابِعِ وَمَصِّهَا قَبْلَ أَنْ تُمْسَحَ بِالْمِنْدِيلِ

5456 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا» . [مسلم:2031 - فتح: 9/ 577].

ذكر فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا

أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا".

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا

(1)

.

وأخرج من حديث سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بلفظ:"لا يمسح يده بالمنديل؛ حَتَّى يلعق أصابعه"

(2)

، وأخرجه ابن وهب من حديث عياض عن عبد الله القرشي، وابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر بلفظ:"لا يمسح أحدكم يده بالمنديل، حَتَّى يلعق أصابعه؛ فإنه لا يدري في أي طعام يبارك له فيه"

(3)

.

ولم يذكر ابن بطال غيره، وللنسائي:"لا ترفع الصحفة، حَتَّى تلعقها أو تُلعقها، فإن آخر الطعام فيه البركة"

(4)

.

(1)

مسلم (2031) كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة ..

(2)

مسلم (2033) كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة ..

(3)

لم أقف عليه من طريق ابن وهب عن عياض ولا عن ابن لهيعة. ورواه أحمد في "مسنده" من طريق حسن عن ابن لهيعة به مطولا 3/ 394.

ورواه مسلم من طريق سفيان عن أبي الزبير، عن جابر (2033) كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة، وأكل اللقمة الساقطة ..

(4)

"السنن الكبرى" 4/ 177.

ص: 237

وللترمذي وقال: حسن. من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه، فإنه لا يدري في أيتها البركة"

(1)

.

ولمسلم من حديث كعب بن مالك أنه عليه السلام كان يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها

(2)

، ولأبي داود:"لا يمسح يده حَتَّى يلعقها"

(3)

. وعن أنس: أنه عليه السلام كان إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث وقال: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، ولا يدعها للشيطان". وأمر أن نسلت القصعة وقال: "إنكم لا تدرون في أي طعامه البركة"

(4)

.

ولابن أبي عاصم من حديث ابن عمر: أنه كان يلعق أصابعه إذا أكل، ويقول: قال عليه السلام: "إنه لا يدري في أي طعامه البركة"

(5)

ولابن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة، عن أبي عمرة الأنصاري أنه عليه السلام قال:"إذا أكل أحدكم فليلعق أصابعه" وذكر أن أبا زرعة قال: إنما هو ابن أبي عمرة

(6)

.

وأما ذكر المص الذي بوب له، فهو في معناه، وإن لم يره في الحديث. قال العلماء: استحباب لعق اليد، محافظة على بركة الطعام، وتنظيفًا لها، ودفعًا للكبر.

(1)

"سنن الترمذي"(1801).

(2)

مسلم (2032) كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع والقصعة ..

(3)

"سنن أبي داود"(3848).

(4)

رواه مسلم (2034) كتاب: الأشربة، باب: استحباب لعق الأصابع ..

(5)

كذا عزاه لابن أبي عاصم وكتابه "الأطعمة" ليس بين يدي ورواه أحمد عن ابن عمر به 2/ 7 والبزار كما في "كشف الأستار"(2885) وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 27: رجالهما رجال الصحيح.

(6)

"علل الحديث" لابن أبي حاتم 2/ 12.

ص: 238

وقوله: (أو يُلعقها). يريد خادمه أو ولده، ومن لا يتقزز من ذَلِكَ فلو ألعقها سواه جاز.

قال ابن المنذر: في حديث ابن عباس إباحة مسح [اليد]

(1)

بالمنديل

(2)

. وترجم له أبو داود باب: المنديل بعد الطعام

(3)

.

(1)

ساقطة من الأصل والسياق يقتضيها والمثبت من "الإشراف".

(2)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 232.

(3)

"سنن أبي داود"(3847).

ص: 239

‌53 - باب المِنْدِيلِ

5457 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، فَقَالَ: لَا، قَدْ كُنَّا زَمَانَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَجِدُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الطَّعَامِ إِلاَّ قَلِيلاً، فَإِذَا نَحْنُ وَجَدْنَاهُ لَمْ يَكُنْ لَنَا مَنَادِيلُ، إِلاَّ أَكُفَّنَا وَسَوَاعِدَنَا وَأَقْدَامَنَا، ثُمَّ نُصَلِّي وَلَا نَتَوَضَّأُ. [فتح: 9/ 579].

ذكر فيه حديث سعيد بن الحارث، عن جابر السالف في الطهارة

(1)

وفيه: لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا.

قال ابن وهب سئل مالك عن الحديث الذي جاء: "من بات في يده غمر فلا يلومن إلا نفسه". فقال: لا أعرف هذا الحديث، وقد سمعت أنه كان يقال: منديل (عمر)

(2)

بطن قدميه، وما كان هذا إلا شيئًا حدث، والحديث الذي لم يعرفه مالك أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"من نام وفي يده غمر فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه"

(3)

.

وقيل لمالك: أيغسل يده بالدقيق؟ قال: غيره أعجب إليَّ منه، ولو فعل لم أر به بأسًا، وقد تمندل عمر بباطن قدميه.

وروى ابن وهب في الجلبان: وسنة ذَلِكَ أنه لا بأس أن يتوضأ به ويتدلك به في الحمام، وقد يدهن جسده بالزيت والسمن من الشقاق. وروى أشهب أنه سئل عن الوضوء بالدقيق والنخالة من الفول قال:

(1)

لعله سلف في شرحه، وإلا فهذِه أول مرة يذكر فيها الحديث في البخاري. انظر "تحفة الأشراف"(2251).

(2)

ضبط في الأصل (غمر) والصواب ما أثبتناه، والمثبت من "شرح ابن بطال".

(3)

"سنن أبي داود"(3852).

ص: 240

لا علم لي به. ولم يتوضأ به إن أعياه شيء فليتوضأ بالتراب

(1)

(2)

.

فائدة:

سعيد الراوي عن جابر أخرج له مسلم أيضًا، وهو سعيد

(3)

بن أبي سعيد الحارث بن أوس بن المعلى بن كوذان بن حارثة بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن مالك، أخي الحارث، ابني زيد مناة بن حبيب بن عدي بن عبد حارثة بن مالك بن غضب، أخي تزيد، رهط سلمة ابني جشم بن الخزرج، قاضي المدينة، ووالده، انفرد به البخاري، وله صحبة. وبنو مالك بن زيد مناة خلفاء بني زريق بن عامر بن زريق بن عبد حارثة، وبنو الحارث بن زيد مناة خلفاء بني بياضة بن عامر بن زريق بن عبد حارثة.

(1)

"المنتقى" 7/ 247.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 506.

(3)

ورد بهامش الأصل: وفي "الأطراف" للمزي: سعيد بن الحارث بن أبي سعيد بن المعلى وكذا في "التذهيب" وفي "الكاشف" سعيد بن الحارث.

ص: 241

‌54 - باب مَا يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ

5458 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ:«الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ، رَبَّنَا» . [مسلم: 5459 - فتح: 9/ 580].

5459 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ -وَقَالَ مَرَّةً: إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ- قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا، غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مَكْفُورٍ -وَقَالَ مَرَّةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا، غَيْرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ- وَلَا مُسْتَغْنًى، رَبَّنَا» . [انظر: 5458 - فتح: 9/ 580].

ذكر فيه حديث أبي أمامة صُديّ بن عجلان رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: "الحَمْدُ لله حمدًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، غَيرَ مَكْفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنهُ، رَبَّنَا".

وعنه أيضًا: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ -وَقَالَ مَرَّةً: إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ- قَالَ: "الْحَمْدُ لله الذِي كفَانَا وَأَرْوَانَا، غَيرَ مَكفِيٍّ، وَلَا مَكفُورٍ -وَقَالَ مَرَّة: لله الحَمْدُ، رَبِّنَا، غَيْرَ مَكفِيٍّ، وَلَا مُوَدَّعٍ- وَلَا مُسْتَغْنًى، رَبَّنَا".

هذا الحديث ذكره البخاري في "التاريخ" أيضًا

(1)

، وأخرجه الأربعة

(2)

قال الترمذي: حسن صحيح.

وروى ابن أبي عاصم بإسناد جيد، قال أبو أمامة: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول عند فراغي من الطعام فقال: "قل: الحمد لله الذي أطعمتنا

(1)

"التاريخ الكبير" 5/ 48 ترجمة عبد الله بن بسر.

(2)

"سنن أبي داود"(3849)، "سنن الترمذي"(3456)، "سنن ابن ماجه"(3284)، "سنن النسائي الكبرى" 4/ 201.

ص: 242

وأسقيتنا وأرويتنا" قال: "الحمدُ لله غَيْرَ مَكْفُورٍ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ"

(1)

.

وله أيضًا عن أنس مرفوعًا: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها"

(2)

. وفي لفظ: كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي"

(3)

.

ولأبي نُعيم من حديث قطري الخشاب، عن عبد الوارث، عن أنس:"أن الرجل ليوضع طعامه فما يرفع حَتَّى يغفر له"، قيل: يا رسول الله، بما ذاك؟ قال:"يقول: بسم الله إذا وضع، والحمد لله إذا رفع"

(4)

.

ولابن أبي عاصم من حديث حجاج بن رباح بن عبيدة، عن مولى لأبي سعيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعامًا قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين".

ومن حديث ابن إدريس عن حصين، عن إسماعيل بن أبي سعد عن أبيه مثله، وأخرجه الترمذي فقال: عن حفص بن غياث، عن ابن أخي

(1)

رواه النسائي في "الكبرى" 6/ 78، والدارمي، والطبراني في "الكبير" وفي "مسند الشاميين"، والبيهقي في "الشعب".

(2)

رواه مسلم (2734) كتاب: الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب.

(3)

رواه مسلم (2715) كتاب: الذكر والدعاء، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.

(4)

رواه الطبراني في "الأوسط"، كما في "المجمع" 5/ 22، والضياء المقدسي في "المختارة" 6/ 286 (2300) قال الهيثمي: وفيه: عبد الوارث مولى أنس، وهو ضعيف، وعبيد بن إسحاق العطار، والجمهور على تضعيفه.

ص: 243

(ابن سعد)

(1)

(2)

.

ولأبي داود من حديث سفيان، عن أبي هاشم الواسطي، عن إسماعيل بن رباح، عن أبيه أو غيره، عن أبي سعيد

(3)

.

وفي "اليوم والليلة" للنسائي من رواية زكريا بن يحيى، عن عبد الله بن مطيع، عن (هاشم)

(4)

عن حصين، عن إسماعيل بن أبي إدريس، عن أبي سعيد موقوفًا

(5)

.

وفي "اليوم والليلة" لأبي نعيم عن مخلد بن جعفر، حَدَّثَنَا جعفر الفريابي، ثنا دُحيم، ثنا عبد الله بن يزيد، حَدَّثَني بكر بن عمرو، عن عبد الله بن هبيرة، عن عبد الرحمن بن جبيرة حدثه رجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثماني سنين أنه كان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرب إليه الطعام يقول "بسم الله" وإذا فرغ من طعامه قال:"اللهم أطعمت وسقيت، وأغنيت وأقنيت، وهديت وأحييت فلك الحمد على ما أعطيت"

(6)

وفي حديث عبد الرحيم بن ميمون بن أبي مرحوم، عن سهل بن معاذ [ابن أنس]

(7)

، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أكل طعامًا فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه"

(8)

.

(1)

كذا بالأصل، وعند الترمذي: أبى سعيد.

(2)

"سنن الترمذي"(3457).

(3)

"سنن أبي داود"(3850).

(4)

كذا بالأصل وفي "اليوم والليلة": هشيم.

(5)

"عمل اليوم والليلة" ص 105 (292).

(6)

رواه أحمد 4/ 62، والنسائي في "الكبرى" 4/ 202 (6898)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" ص 220 (465).

(7)

غير موجودة بالأصل، والمثبت من كتب السنة الآتي ذكرها.

(8)

رواه أبو داود (4023)، والترمذي (3458)، وابن ماجه (3285).

ص: 244

وقال الترمذي في هذا: حسن غريب، ولأبي داود زيادة:"وما تأخر"

(1)

، وله للنسائي من حديث عبيد القرشي عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أو شرب قال:"الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجًا"

(2)

.

ولابن أبي حاتم في "علله" مضعفًا من حديث ابن عباس مرفوعًا: "من أطعمه الله طعامًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيرًا منه". ومن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: كان عليه السلام إذا فرغ من طعامه قال: "الحمد لله الذي منَّ علينا وهدانا، والذي أشبعنا وأروانا، وكل الإحسان أتانا" قال أبو حاتم: رواه ابن أبي الزعيزعة عنه وهو منكر الحديث

(3)

.

إذا تقرر فالمائدة -كما قال أبو عبيد- فاعلة بمعنى مفعول، مأخوذة من الميد وهو العطاء

(4)

، وقيل: هي الخوان، وقيل: لا يقال لها مائدة، إلا إذا كان عليها طعام وإلا فهىِ خوان. وقد سلف هذا، وقيل: هي الطعام نفسه لا الخوان، ذكره أبو علي القاري في "بارعه".

زاد ابن سيده في "المحكم"(اسمًا له)

(5)

، وإن لم يكن هناك خوان مشتق من ذَلِكَ

(6)

. وعند القزاز سميت مائدة؛ لأنها تميد أصحابها بما عليها من الخير. وجيل: لأنها تميد بما عليها، أي: تتحرك من قوله

(1)

سبق تخريجه.

(2)

"سنن أبي داود"(3851)، "سنن النسائي الكبرى" 4/ 201 (6894).

(3)

"علل ابن أبي حاتم" 2/ 14 - 15.

(4)

"مجاز القرآن" لأبي عبيدة معمر بن المثني 1/ 182.

(5)

كذا بالأصل، وفي "المحكم": المائدة الطعام نفسه.

(6)

"المحكم" 10/ 117، مادة (ميد).

ص: 245

تعالى: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} المعنى: لئلا تميد بكم، وَميْدة لغة في مائدة، وقال ابن فارس: هي من ماد يميد أي: يطعم الآكلين. وقال قوم: مادني فلان يميدني فلان يميده أي: نَعَشَني، قالوا: وسميت المائدة منه

(1)

.

وأهل العلم يستحبون حمد الله تعالى عند تمام الأكل؛ أخذًا بحديث الباب وغيره، فقد روي عنه عليه السلام في ذَلِكَ أنواع من الحمد والشكر، وقد ذكرنا جملة منها، وقد روي "من سمى الله أول طعامه وحمده إذا فرغ لم يسأل عن نعمه"

(2)

.

فصل:

قوله: ("غَيْرَ مَكْفِيٍّ") هو بفتح الميم وكسر الفاء والياء المشددة، وروي بضم الميم وفتح الفاء.

وقال ابن بطال: قوله: ("غَيْرَ مَكْفِيٍّ") يحتمل أن يكون من قولهم: كفأت الإناء، إذا قلبته، فيكون معناه غير مردود عليه إنعامه وأفضاله إذا فضل الطعام على الشبع فكأنه قال: ليست تلك الفضيلة (مردودة)

(3)

ولا مهجورة، ويحتمل أن يكون معناه أن الله غير مكفى رزق عباده أي: ليس أحد يرزقهم غيره، ألا ترى أن في الرواية الأخرى:"ولا مستغنى عنه ربنا"، فيكون هو قد كفى رزقهم

(4)

. وقال الخطابي: غير محتاج (إليّ)

(5)

فيكفى؛ لكنه يطعم ويكفي

(6)

. وقال القزاز: غير مكفي، أي: غير مكتف بنقص يُعن كفايته.

(1)

"مجمل اللغة" 2/ 820، مادة (ميد).

(2)

لم نقف عليه.

(3)

في الأصل: غير مردودة، والصواب ما أثبتناه، والمثبت من "شرح ابن بطال".

(4)

"شرح ابن بطال" 9/ 507.

(5)

كذا بالأصل، وعند الخطابي: إلى الطعام.

(6)

"أعلام الحديث" 3/ 2056.

ص: 246

وقال الداودي: ("غَيْرَ مَكْفِيٍّ ") أي: (لم)

(1)

يكتف من فضل الله ونعمه، قال: وقول أبي سليمان أولاها؛ لأن مفعولًا بمعنى مفتعل فيه بعد، وخروج عن الظاهر.

وقال ابن الجوزي: غير مكفور إشارة إلى الطعام. والمعنى: رفع هذا الطعام غير مكفي، أي: مقلوب عنا، من قولك: كفأت الإناء: إذا قلبته، والمعنى غير منقطع.

"ولا مودع" يعني: الطعام الذي رفع، "ولا مستغنى عنه": عائد إليه أيضًا، وقيل:"غير مودع": بكسر الدال أي: غير تارك ما عند ربنا. وقيل: المراد به الله تعالى وأن معنى غير مكفي أي: أن تعالى يُطْعِم ولا يُطْعَم، كأنه هنا من الكفاية، أي: أنه تعالى مستغن عن معين وظهير. وقال ابن التين: "غير مودع" أي: غير متروك الطلب إليه والرغبة فيما عنده. ومنه قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 3] أي: ما تركك، وقيل: ما أخلاك من صنعه بمعنى: غير مودع وغير مستغن عنه سواء.

و"رَبَّنَا": مرفوع خبر مبتدأ محذوف، أي: هو ربنا، ويصح نصبه بإضمار أعني، وبه ضبط في بعض الكتب، أو (يا ربنا) فحذف حرف النداء، ويصح خفضه بدلاً من الضمير في (عنه)، ويصح الرفع على أن يكون مبتدأ، وخبره مقدم عليه، وهو غير مكفى.

وقوله: ("وَلَا مَكْفُورٍ") يرجع إلى الطعام، أي: لا نكفر نعمتك بهذا الطعام، ونقل ابن الجوزي عن شيخه أبي منصور أن صوابه:

(1)

رسمت في الأصل ألف، ولعلها لم تكمل من الناسخ، والمثبت من "فتح الباري" 9/ 580.

ص: 247

غير مكافأ، فيعود إلى الله؛ لأنه لا تكافأ نعمه، وقال ابن التين: أي: لست كافرًا لنعمتك وفضلك.

وقوله: ("الْحَمْدُ لله الذِي كَفَانَا") أي: لم يحفنا وأعطانا كفاية من طعامه.

وقوله: ("وَأَرْوَانَا") أي: أعطانا ريًّا من شرابنا أذهب عنا عطشًا.

ص: 248

‌55 - باب الأَكْلِ مَعَ الْخَادِمِ

5460 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ -هُوَ ابْنُ زِيَادٍ- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلَاجَهُ» . [انظر: 2557 - مسلم: 1663 - فتح: 9/ 581].

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -قَالَ: "إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَلْيُنَاوِلْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ، أَوْ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ".

الشرح:

هذا الحديث سلف في العتق

(1)

والأكل مع الخادم من التواضع والتذلل وترك التكبر، وذلك من آداب المؤمنين وأخلاق المرسلين. وقد سلف الحديث في العتق كما ذكر، والمراد بالأكلة: اللقمة، وهو بضم الهمزة، وبالفتح المرة الواحدة، وقيل: إذا أكل حَتَّى يشبع.

وقوله: "فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ" دال على أنه لا يجب على المرء أن يطعمه مما يأكل، قيل لمالك: أيأكل الرجل من طعام لا يأكله أهله وعياله ورفيقه، ويلبس غير ما يكسوهم قال: إي والله وأراه في سعة من ذَلِكَ، ولكن يحسن إليهم. قيل (فحديث أبي ذر)

(2)

(3)

؟ قال: كان الناس ليس لهم هذا القوت.

(1)

سلف برقم (2557) باب: إذا أتاه خادمه بطعام.

(2)

في الأصل: (لحديث أبي الدرداء)، والمثبت من "عمدة القاري" وهو الصواب.

(3)

لعله يشير إلى حديث البخاري الذي سلف برقم (30)، كتاب الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية ..

ص: 249

‌56 - باب الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ مِثْلُ الصَّائِمِ الصَّابِرِ

[فِيهِ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم].

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، هذِه الزيادة حذفها ابن بطال في شرحه، ووصل بالباب الآتي بعده ثم قال: لم يذكر البخاري حديثًا في الطاعم الشاكر.

وذكر ابن المنذر قال: في حديث سنان بن منبه أنه عليه السلام قال: "الطاعم الشاكر له مثل أجر الصائم الصابر"

(1)

كذا قال سنان بن منبه

(2)

وصوابه ابن سنة كما سيأتي.

ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن رجل من غفار أنه سمع سعيدًا المقبري يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله

(3)

، وهذا من عظم تفضل الله على عباده، أن جعل للطاعم إذا شكر على طعامه وشرابه ثواب الصائم الصابر.

قال: ومعنى الحديث والله أعلم: التنبيه على لزوم الشكر لله تعالى على جميع نعمه، صغيرها وكبيرها، فكما ألحق الطاعم الشاكر بالصائم الصابر في الثواب، دل على أنه تعالى كذلك يفعل في شكر سائر النعم؛ لأنها كلها من عنده لا صنع في شيء منها للمخلوقين، فهو المبتدئ بها والملهم للشكر عليها والمثيب على ذَلِكَ، فينبغي للمؤمن لزوم الشكر لربه تعالى في جميع حركاته وسكناته، وعند كل نفس وكل طرفة،

(1)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 237.

(2)

في المطبوع من "الإشراف" سنان بن سَنَّة، قال المحقق في هامشه: ما أثبته من (ب).

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 10/ 424.

ص: 250

وليعلم العبد (تحت)

(1)

ما هو من نعم الله مولاه، ولا يفتر لسانه عن شكرها، فتستديم النعم والعافية؛ لقوله تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]

وروى معمر عن قتادة والحسن قالا: عرضت على آدم ذريته فرأى فضل بعضهم على بعض، فقال: أي رب هلا سويت بينهم، فقال: إني أحب أن أُشكر

(2)

.

فإن قلت: هل يسمى الحامد لله تعالى على نعمه شاكرًا؟ قيل: نعم. روى معمر، عن قتادة، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده". وقال الحسن: ما أنعم الله على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان حمده أعظم منها، كائنة ما كانت.

وقال النخعي: شكر الطعام أن تسمي إذا أكلت وتحمد إذا فرغت

(3)

(4)

. وفي "علل ابن أبي حاتم" عن علي رضي الله عنه: شكر الطعام أن تقولوا الحمد لله

(5)

.

قلت: وخرّج ابن حبان في "صحيحه" حديث الباب من حديث معتمر بن سليمان، عن معمر عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر"

(6)

.

(1)

غير واضحة بالأصل، وعليها استشكال، والمثبت من "ابن بطال".

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 10/ 424.

(3)

السابق 10/ 424.

(4)

"شرح ابن بطال" 9/ 508 - 509.

(5)

"علل ابن أبي حاتم" 2/ 7.

(6)

"صحيح ابن حبان" 2/ 16.

ص: 251

ورواية عبد الرزاق السالف تدل أن معمرًا لم يسمعه من سعيدٍ، ورواه الترمذي عن إسحاق بن موسى، عن محمد بن معن المديني الغفاري، حَدَّثَني أبي، عن سعيد، ثم قال: حسن غريب

(1)

، ورواه ابن ماجه عن يعقوب بن حميد بن كاسب، عن محمد بن معن، عن أبيه

(2)

. وأخرجه الحاكم من حديث عمر بن علي المقدمي: سمعت معن بن محمد يحدث عن سعيد بن أبي سعيد فذكره بلفظ: "مَثلُ الصائم الصابر". ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورواه عن الأصم عن الربيع بن سليمان: ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن محمد بن عبد الله بن أبي حرة، عن حكيم بن أبي حرة، عن سلمان الأغر، عن أبي هريرة قال: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للطاعم الشاكر من الأجر مثل ما للصائم الصابر"

(3)

.

وأخرجه ابن ماجه من حديث الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن أبي حرة، عن سنان بن سنة الأسلمي أنه عليه السلام قال:"الطاعم الشاكر له مثل أجر الصائم الصابر"

(4)

.

ولما سئل أبو زرعة عن هذا وعن حديث أبي هريرة قال: الدراوردي أشبه

(5)

.

(1)

"سنن الترمذي" 2486).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1764).

(3)

"المستدرك" 4/ 136.

(4)

"سنن ابن ماجه"(1765).

(5)

"علل ابن أبي حاتم" 2/ 13 - 14.

ص: 252

ولما رواه إسحاق بن أبي إسرائيل عن الدراوردي أدخل بينه وبين محمد بن عبد الله موسى بن عقبة، وقال عن رجل من أسلم، ولم يسمِ سنانًا.

ورواه أحمد في "المسند"، عن هارون بن معروف، عن الدراوردي فقال: أخبرني محمد بن أبي حرة فذكره

(1)

، يدل أنه سمعه عن ابن أبي حرة، عن موسى بن عقبة، ثم حصل له علو فسمعه منه.

فصل:

قال أهل اللغة: رجل طاعم: حسن الحال في المطعم، ومِطْعام: كثير القِرى، ومُطِعم: كِثير الأكِل، ومطعَم: مرزوق. نقله كله ابن التين عنهم.

فصل:

الحديث سوى بين درجتي الطاعة من الغني والفقير، وقد نبه عليه ابن العربي. قال ابن حبان في "صحيحه": معناه أن يطعم ثم لا يعصي ربه بقوته ويتم شكره بإتيان طاعته بجواره؛ لأن الصائم قرن به الصبر، وهو صبر عن المحظورات، وقرن الطاعم بالشكر، فيجب أن يكون هذا الشكر الذي يقوم بإزاء ذَلِكَ الصبر يقارنه أول أكله، وهو ترك المحظورات

(2)

.

(1)

"مسند أحمد" 4/ 343.

(2)

"صحيح ابن حبان" 6/ 18 - 19.

ص: 253

‌57 - باب الرَّجُلِ يُدْعَى إِلَى طَعَامٍ فَيَقُولُ: وَهَذَا مَعِي

وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه إِذَا دَخَلْتَ على مُسْلِمٍ لَا يُتَّهَمُ، فَكُلْ مِنْ طَعَامِهِ، وَاشْرَبْ مِنْ شَرَابِهِ.

5461 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَاريُّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُكْنَى أَبَا شُعَيْبٍ، وَكَانَ لَهُ غُلَامٌ لَحَّامٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِي أَصْحَابِهِ، فَعَرَفَ الْجُوعَ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبَ إِلَى غُلَامِهِ اللَّحَّامِ فَقَالَ: اصْنَعْ لِي طَعَامًا يَكْفِي خَمْسَةً، لَعَلِّي أَدْعُو النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَامِسَ خَمْسَةٍ. فَصَنَعَ لَهُ طُعَيِّمًا، ثُمَّ أَتَاهُ فَدَعَاهُ، فَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«يَا أَبَا شُعَيْبٍ، إِنَّ رَجُلاً تَبِعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَذِنْتَ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ تَرَكْتَهُ» . قَالَ: لَا، بَلْ أَذِنْتُ لَهُ. [انظر: 2081 - مسلم: 2036 - فتح: 9/ 583].

ثم ساق حديث أبي مسعود الأنصاري في قصة اللحام. وقد سلفت بفقهها.

ص: 254

‌58 - باب إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فَلَا يَعْجَلْ عَنْ عَشَائِهِ

5462 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، أَنَّ أَبَاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي كَانَ يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. [انظر: 208 - مسلم: 355 - فتح: 9/ 584].

5463 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ» . [انظر: 672 - مسلم: 557 - فتح: 9/ 584].

وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. [انظر: 673 - مسلم: 559].

5464 -

وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَعَشَّى مَرَّةً وَهْوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ. [انظر: 673 - مسلم: 559 - فتح: 9/ 584].

5465 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَحَضَرَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ» . قَالَ وُهَيْبٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ:«إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ» . [انظر: 671 - مسلم: 558 - فتح: 9/ 584].

ذكر فيه أحاديث:

أحدها: حديث عمرو بن أمية السالف قريبًا

(1)

.

ثانيها: حديث وهيب: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا وُضِعَ العَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ".

(1)

سلف برقم (5422) باب: شاة مسموطة والكتف والجنب.

ص: 255

وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ.

وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ أَنَّهُ تَعَشَّى مَرَّةً وَهْوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ.

ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَحَضَرَ العَشَاءُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ". قَالَ وُهَيْبٌ وَيحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ بن عروة:"إِذَا وُضِعَ العَشَاءُ".

وهذِه الأحاديث سلفت في الصلاة في باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة.

أخرج حديث أنس من حديث عقيل عن الزهري عنه

(1)

، وحديث ابن عمر من حديث أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عنه

(2)

، وحديث عائشة من حديث هشام، عن أبيه، عنها

(3)

، كما أخرجه هنا بلفظ "إذا وضع".

وأخرج أيضًا حديث ابن عمر من حديث موسى بن عقبة عن نافع عنه

(4)

.

وهي محمولة على من تاقت نفسه إلى الطعام كما سلف. وفي حديث عمرو بن أمية ترك غسل اليد قبل الطعام وبعده، قال الداودي: وهو مذهب مالك. وحكي عن الليث أنه لا يغسل قبل، ويغسل بعد.

(1)

سلف برقم (672).

(2)

سلف برقم (673).

(3)

سلف برقم (671).

(4)

سلف برقم (674).

ص: 256

وذكر أبو محمد عن مالك أنه سئل عن الوضوء بالدقيق والنخالة والفول قال: لا علم لي، ولم يتوضأ به إن أعياه شيء فليتوضأ بالتراب، وقال: قال عمر رضي الله عنه: إياكم وهذا التنعم، وأمر الأعاجم، وأكره غسل اليدين قبل الطعام وأراه من فعل العجم

(1)

. وقد سلف الخوض في ذَلِكَ أيضًا.

(1)

"المنتقى" 7/ 247.

ص: 257

‌59 - باب قَوْلِ اللهِ عز وجل: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53]

5466 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَنَسًا قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْحِجَابِ، كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ، أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَرُوسًا بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ -وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِالْمَدِينَةِ- فَدَعَا النَّاسَ لِلطَّعَامِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسَ مَعَهُ رِجَالٌ بَعْدَ مَا قَامَ الْقَوْمُ، حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَشَى وَمَشَيْتُ مَعَهُ، حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ مَكَانَهُمْ، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ بَابَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ قَامُوا، فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِتْرًا، وَأُنْزِلَ الْحِجَابُ. [انظر: 4791 - مسلم: 1482 - فتح: 9/ 585].

ثم ساق حديث أنس في البناء بزينب والحجاب وقد سلف، وقد بين الله تعالى في آخر هذِه الآية معنى هذا الحديث وذلك قوله تعالى:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] وأذاه حرام على جميع أمته، وكذا أذى المؤمنين بعضهم بعضًا.

وفيه من الفقه: أن من أطال الجلوس في بيت غيره حَتَّى أضر بصاحب المنزل أنه مباح له أن يقوم عنه، ويخبره أنه له حاجة إلى قيام لكي يقوم، وليس ذَلِكَ من سوء الأدب، وسيأتي في الأدب إن شاء الله

(1)

. آخر الأطعمة.

(1)

سيأتي في الاستئذان برقم (6238) و (6239) باب: آية الحجاب، وبرقم (6271) باب: من قام من مجلسه أو بيته ولم يستأذن أصحابه، أو تهيأ للقيام ليقوم الناس.

ص: 258

71

كتاب العقيقة

ص: 259

بسم الله الرحمن الرحيم

‌71 - كِتابُ العَقِيْقَةِ

هذا الكتاب ذكره ابن بطال عقب باب الخمس، وأعقب الأطعمة بالتعبير. ويحصر الكلام على العقيقة في سبعة مواضع لا تسأم من طولها:

أولها: في اشتقاقها:

والمعروف أنه اسم للشاة التي تذبح عن المولود، سميت عقيقة؛ لأنه تعق مذابحها أي: تشق وتقطع، وقيل: أصلها الشعر الذي يحلق.

وقال ابن فارس: عق يعق إذا حلق عن ابنه عقيقة، وذبح للمساكين شاة. قال: والشاة المذبوحة والشعر كلاهما عقيقة، ولا تكون العقيقة إلا الشعر الذي يولد به، وهي العقة أيضًا

(1)

.

وقد أوضحت الكلام عليها في لغات "المنهاج". وعبارة ابن التيّاني في "موعبه": أنها الشعر والوبر الذي يولد به الصبي، فإذا حلق ونبت فقد زال عنه اسم العقيقة، وإنما يسمى الشعر عقيقة بعد الحلق على الاستعارة، سميت باسم الشعر؛ لأنه يحلق في ذَلِكَ اليوم.

(1)

"مجمل اللغة" 2/ 609، مادة (عق).

ص: 261

وعبارة القزاز في "جامعه" أصل العق: الشق، فكأنها قيل لها: عقيقة أي: معقوقة. ويسمى شعر المولود عقيقة باسم ما يعق عنه، وقيل: باسم المكان الذي أعق عنه فيه أي: الشق، وكل مولود من البهائم فشعره عقيقة، فإذا سقط وبر البعير مرةً ذهب عنه هذا الاسم.

وقال أبو عبيد: وقوله في الحديث "أميطوا عنه الأذى" يعني بالأذى: الشعر

(1)

.

وقال الأزهري في "تهذيبه": يقال لذلك الشعر عقيق بغير هاء. وقيل للذبيحة: عقيقة؛ لأنها تذبح أي: يشق حلقومها ومريئها وودجاها قطعًا

(2)

.

وقال ابن سيده: قيل: العقة في الناس والحمر خاصة، وجمعها عقق

(3)

، قال أبو زيد: ولم نسمعه في غيرها، وأعقت الحامل: نبتت عقيقة ولدها في بطنها

(4)

، وقال صاحب "المغيث": عن أحمد في قوله: "الغلام مرتهن بعقيقته". أي: يُحْرَم شفاعةَ ولده

(5)

.

وقال في "المجمل": لا تكون العقيقة إلا للشعر الذي يولد به

(6)

، وقيل للشعر الذي ينبت بعد ذَلِكَ: عقيقة على جهة الاستعارة، حكاه في "الغريبين".

وأنكر أحمد تفسير أبي عبيد العقيقة وقال: إنما العقيقة الذبح نفسه،

(1)

"غريب الحديث" 1/ 363.

(2)

"تهذيب اللغة" 3/ 2519، مادة (عق).

(3)

"المحكم" 1/ 21 مادة (عق).

(4)

انظر: "العين" 1/ 62.

(5)

"المجموع المغيث" 2/ 483، وورد بهامش الأصل: يعني: حتى يعق.

(6)

"مجمل اللغة" 2/ 609، مادة (عق).

ص: 262

حكاه عنه ابن عبد البر في "تمهيده"

(1)

.

واحتج بعضهم لقول أحمد، فإن الذي قاله معروف في اللغة؛ لأنه يقال: عق إذا قطع، ومنه يقال: عق والديه إذا قطعهما، قال أبو عمر: وقول أحمد في معناها أولى من قول أبي عبيد وأقرب وأصوب

(2)

.

فصل:

وثانيها: في حكمها:

فالجمهور على أنها سنة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق، ولا ينبغي تركها لمن قدر عليها

(3)

، قال أحمد: هو أحبُّ إليّ من التصدق بثمنها على المساكين

(4)

.

قال مالك: إنه الأمر الذي لا اختلاف فيه عندهم. وقال مرة: إنه من الأمر الذي لم يزل عليه أمر الناس عندنا

(5)

.

وقال يحيى بن سعيد: أدركت الناس وما يَدَعُونها عن الغلام والجارية. وقال ابن المنذر: وممن كان يراها ابن عباس وابن عمر وعائشة، وروي عن فاطمة

(6)

، وسئل الثوري عن العقيقة فقال: ليست بواجبة، وإن صنعت لما جاء فحسن

(7)

، وقال الأوزاعي: هي سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(8)

، ويقابله قولان:

(1)

"التمهيد" 4/ 309 - 310.

(2)

"التمهيد" 4/ 310 - 311.

(3)

"الاستذكار" 15/ 373.

(4)

"المغني" 13/ 395.

(5)

"الموطأ" ص 311.

(6)

انظر قول يحيى بن سعيد، وابن المنذر في "المجموع" 8/ 430.

(7)

انظر: "الاستذكار" 15/ 373.

(8)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 233.

ص: 263

أحدهما: أنها بدعة، حُكي عن الكوفيين وأبي حنيفة، وأنكره أصحابه ويقولون: هو خرق الإجماع وإنما قوله: أنها مباحة

(1)

، وهو خلاف ما عليه العلماء من الترغيب فيها والحض عليها.

ثانيهما: وجوبها: حكي عن الحسن وأهل الظاهر وتأولوا قوله: "مع الغلام عقيقة" على الوجوب

(2)

، وكان الليث يوجبها

(3)

.

قال البغوي في "شرح السنة": أوجبها الحسن قال: تجب على الغلام يوم سابعه، فإن لم يعق عنه عق عن نفسه

(4)

. وأبو الزناد

(5)

، وهو (رواية)

(6)

عن أحمد

(7)

، وقال أبو وائل: هي سنة في الذكر دون

(1)

في نسبة هذا القول إلى أبي حنيفة نظر، قال العيني في "عمدة القاري" 17/ 196: قلت: هذا افتراء فلا يجوز نسبته إلى أبي حنيفة، وحاشاه أن يقول مثل هذا، وإنما قال: ليست بسنة، فمراده إما ليست بسنة ثابتة، وإما ليست بسنة مؤكدة. اهـ.

وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" 15/ 373: وتحصيل مذهب أبي حنيفة وأصحابه أن العقيقة تطوع فمن شاء فعلها ومن شاء تركها. اهـ.

وانظر: "مختصر الطحاوي" ص 299، "الفتاوى الهندية" 5/ 362.

ثم اعلم أن الذي عليه العمل عند الحنفية الآن هو استحباب العقيقة، قال التهانوي كما في "إعلام السنن" 17/ 121:

وليعلم أن عمل الحنفية اليوم على استحبابها؛ عملًا بما في "شرح الطحاوي"، والأمر واسع لما فيه من الاختلاف فتدبر. اهـ.

وانظر: "المفصل في أحكام العقيقة" لحسام عفانة ص 45 - 48.

(2)

انظر: "المجموع" 8/ 430، "المحلى" 7/ 523، "المغني" 13/ 394.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 233، "الاستذكار" 15/ 375. والليث لا يوجبها مطلقًا، بل يوجبها في الأيام السبع الأول، وما بعد ذلك فليس بواجب عنده.

(4)

"شرح السنة" 11/ 264.

(5)

انظر: "المجموع" 8/ 430.

(6)

في الأصل: راويه، والمثبت هو الصواب.

(7)

اختارها أبو بكر وأبو إسحاق البرمكي، وأبو الوفاء من الحنابلة. انظر:"الفروع" 3/ 556، "المبدع" 3/ 301.

ص: 264

الأنثى

(1)

، حكاه ابن التين، وكذا ذكره في "المصنف" عن محمد والحسن

(2)

، وقال محمد بن الحسن: هي تطوع، كان الناس يفعلونها ثم نسخت بالأضحى

(3)

، وحكاه ابن بطال عن أبي وائل والحسن لما عق عليه السلام عن الحسن والحسين، فالسنة من كل مولود من الذكور كذلك.

وأما الإناث، فلم يصح عندنا [عنه]

(4)

عليه السلام أنه أمر بالعقيقة عنهن، ولا أنه فعله، إلا أن الذي مضى عليه العمل بالمدينة، والذي انتشر في بلدان المسلمين: أن يعق عنها أيضًا

(5)

.

دليل الجمهور: الأحاديث المشهورة فيه، ومنها: حديث "الموطأ": "مَن وُلد له وَلد فأحب أن ينسك عنه فليفعل"

(6)

فعلقه بمحبة فاعله، وسيأتي.

قال أبو محمد ابن حزم: هي فرض واجب، يجبر الإنسان عليها، إذا فضل له عن قوته مقدارها، وهو أن يذبح عن كل مولود يولد له حيًّا أو ميتا بعد أن (يكون)

(7)

قد وقع عليه اسم غلام أو جارية، إن كان ذكرًا فشاتين، وإن كان أنثى فشاة تذبح يوم سابعه، ولا يجزئ قبله وإلا ذبح بعده متى أمكن ويأكل منها، ويهدي ويتصدق، هذا كله مباح لا فرض، ويحلق رأس المولود في سابعه، ولا بأس أن يمس بشيء من دم العقيقة، ولا بأس بكسر عظامها.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 5/ 115 (24264) بلفظ: لا يعق عن الجارية ولا تكرم.

(2)

"المصنف" 5/ 115.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 232.

(4)

زيادة يقتضيها السياق والمثبت من "شرح ابن بطال".

(5)

"شرح ابن بطال" 5/ 376 - 377.

(6)

"الموطأ" ص 310.

(7)

"المحلى" 7/ 523.

ص: 265

كما روينا من طريق النسائي: أخبرنا محمد بن المثنى، ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أنا أيوب ابن أبي تميمة، وحبيب -هو: ابن الشهيد- ويونس -هو: ابن عبيد- وقتادة، كلهم عن محمد بن سيرين، عن سلمان بن عامر الضبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في الغلام (عقيقة)

(1)

فأهريقوا عنه دمًا وأميطوا عنه الأذى"

(2)

.

قال: ورويناه من طريق البخاري وغيره إلى حماد بن زيد وجرير بن حازم، كلاهما عن أيوب، عن ابن سيرين، عن سلمان أنه عليه السلام بنحوه، ومن طريق الرباب، عن سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه

(3)

.

قلت: البخاري رواه من طريق حماد بن زيد أولاً موقوفًا، فإنه قال بعد أن ترجم باب: إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة: حَدَّثَنَا أبو النعمان -هو محمد بن الفضل- ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن سلمان بن عامر قال: مع الغلام عقيقة.

ثم قال: وقال حجاج: ثنا حماد، أنا أيوب وقتادة وهشام وحبيب، عن ابن سيرين، عن سلمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحماد هذا: هو ابن سلمة -كما سيأتي- وقال غير واحد: عن عاصم وهشام، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال أصبغ: أخبرني ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن محمد ابن سيرين قال: ثنا سلمان بن عامر الضبي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا وأميطوا عنه الأذى"

(4)

.

(1)

في الأصل: عقيقته، والمثبت من "سنن النسائي"، و"المحلى".

(2)

"المجتبى" 7/ 164.

(3)

"المحلى" 7/ 523 - 524.

(4)

سيأتي برقم (5471)، (5472) كتاب: العقيقة، باب: إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة.

ص: 266

ورواه الإسماعيلي، عن البغوي، ثنا إسماعيل، ثنا سليمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مع الغلام عقيقة" الحديث، قال: رواه -يعني: البخاري- عن عكرمة، عن حماد بن زيد، فقال: عن سلمان من قوله. وبنحوه ذكره أبو نعيم.

وقد ظهر لك أن البخاري روى حديث جرير معلقًا، لا جرم قال أبو نعيم: ذكره البخاري بلا رواية.

واعترض الإسماعيلي فقال: لم يروِ البخاري في هذا الباب -يعني: باب إماطة الأذى- حديثًا صحيحًا على شرطه، أما حديث حماد بن زيد، فجاء به موقوفًا وليس فيه ذكر إماطة الأذى، والباب من أَجْلِه، وحديث جرير ذكره بلا خبر، وقد قال أحمد: حديث جرير بمصر، كأنه على التوهم أو كما قال

(1)

.

وأما حديث حماد بن سلمة فذكره مستشهدًا به فقال: وقال حجاج: ثنا حماد، قلت: وكان ابن حزم ظنه حماد بن زيد؛ لأنه طوى اسم والده بخلاف حماد بن زيد، فإنه صرح به أولاً

(2)

.

وطريق الرباب قد أخرجها أيضًا معلقًا ووصلها أبو داود عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق، عن هشام

(3)

، والترمذي وصل رواية عاصم عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق، عن سفيان بن عيينة، عن عاصم بن سليمان، ثم قال: صحيح

(4)

.

(1)

انظر: "الفتح" 9/ 591 - 592.

(2)

"المحلى" 7/ 524.

(3)

أبو داود (2839).

(4)

الترمذي (1515).

ص: 267

قال الإسماعيلي: وقد رواه الثوري موصولاً مجردًا فلم يذكره -يعني: البخاري- ثم ساقه عنه، عن أيوب، عن محمد، عن سلمان مرفوعًا به، والحاصل أنه أخرجه مع البخاري أصحاب السنن من ذكرناه وابن ماجه أيضًا

(1)

، وقال الترمذي: حسن صحيح، ولم يخرج مسلم عن سلمان هذا في كتابه شيئًا، وقال: لم يكن في الصحابة صبي غيره، ثم قال ابن حزم: وبالسند المذكور للنسائي حَدَّثَنَا أحمد ابن سليمان، [ثنا عفان]

(2)

ثنا حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد وطاوس، عن أم كرز الخزاعية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عن الغلام شاتان مكافئتان

(3)

، وعن الجارية شاة".

ثم قال: وحَدَّثنَا حمام

(4)

، ثنا عباس بن أصبغ، ثنا ابن أيمن، ثنا

(1)

ابن ماجه (3164).

(2)

ساقطة من الأصل، وهي مثبتة من "المجتبى"، و"المحلى".

(3)

قال أبو عبيد في "غريب الحديث" 1/ 263: أصحاب الحديث يقولون: مكافأتان، والصواب مكافئتان، وكل شئ ساوى شيئًا حتى يكون مثله فهو مكافئ له. اهـ.

وقال الخطابي: المحدثون يقولون: مكافأتان بالفتح، وأرى الفتح أولى؛ لأنه يريد شاتين قد سُوِّي بينهما أو مساوي بينهما، وأما بالكسر فمعناه أنهما متساويتان فيحتاج أن يذكر أي شيء ساويًا، وإنما لو قال متكافئتان كان الكسر أولى. اهـ.

وقال الزمخشري في "الفائق" 3/ 267.

لا فرق بين المكافئتين والمكافأتين؛ لأن كل واحدة منهما إذا كافأت أختها فقد كوفئت فهي مكافِئة ومكافَأة، وهما معادلتان لما يجب في الزكاة والأضحية من الأسنان. اهـ.

وانظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/ 181.

(4)

في الأصل: حرام، والمثبت من "المحلى" وهو الصواب، وحمام -بضم الحاء المهملة- هو ابن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أكدر انظر ترجمته في "الصلة" لابن بشكوال 1/ 155 - 156.

ص: 268

محمد بن إسماعيل الترمذي، ثنا الحميدي، ثنا سفيان، ثنا عمرو بن دينار، أنا عطاء بن رباح أن حبيبة بنت ميسرة، أخبرته أنها سمعت أم كرز قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في العقيقة: "عن الغلام شاتان" الحديث

(1)

.

قلت: فحديث أم كرز هذا أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وابن حبان، وقال الحاكم: صحيح الإسناد

(2)

.

قلت: واختلف في حديث عطاء، قال الدارقطني: روي عنه عن أم كرز بلا واسطة، وتارة عن أم عثمان بنت خيثم، عن أم كرز، وأخرى: عن ميسرة بن أبي خيثم عن أم كرز، وتارة عن عبيد، (بن)

(3)

عمير، عن أم كرز، وتارة: عن عطاء، عن ابن عباس، عن أم كرز، وتارة عن عطاء، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة عن عطاء، عن عائشة، وأخرى عطاء عن أم كرز، عن عائشة بلفظ:"شاتان مكافئتان" وتارة قال عطاء: سألت سبيعةُ بنت الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة. وأخرى: عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

زاد في كتاب أبي الشيخ: قال جابر: تقطع العقيقة أعضاء ثم تطبخ بماء وملح ويبعث منها إلى الجيران ويقال: هذِه عقيقة فلان، قيل: فإن جعل فيها خل؟ قال: ذاك أطيب. وفي حديث الوليد بن مسلم، عن

(1)

"المحلى" 7/ 524.

(2)

أبو داود (2834)، والترمذي (1516)، والنسائي 7/ 164 - 165، وابن ماجه (3162)، وابن حبان 12/ 129 (5313)، والحاكم 4/ 237 - 238.

(3)

في الأصل: عن، وهو خطأ، والمثبت من "المعجم الكبير" 25/ 165، "تحفة الأشراف" للمزي.

(4)

"علل الدارقطني" 15/ 400 - 404 بتصرف، وانظر هذِه الاختلافات في "تحفة الأشراف" 13/ 99 - 100 (18349).

ص: 269

زهير بن محمد، عن ابن المنكدر، عن جابر أنه عليه السلام ختن الحَسَنَين لسبعة أيام، وعق عنهما

(1)

، قال الوليد: فذكرته لمالك فقال: لسبعة أيام فلا أدري، ولكن الختان طهرة، وكلما قدمها كان أحب إليّ.

ثم ساقه ابن حزم من حديث ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه عن سباع بن ثابت، عن أم كرز سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة لا يضركم ذكرانًا كن أو إناثًا"

(2)

وهذا أخرجه الترمذي من حديث ابن جريج: أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد، عن سباع، [عن محمد بن ثابت بن سباع]

(3)

عن أم كرز وقال: حسن صحيح

(4)

.

وكذا أخرجه النسائي، عن قتيبة، عن سفيان، ولم يقل: عن أبيه

(5)

. قال ابن عبد البر: قول ابن عيينة: عن أبيه. خالفه حماد بن زيد، فلم يقل: عن أبيه، وذكر أن أبا داود قال: وهم فيه ابن عيينة.

قال أبو عمر: ولا أدري كيف قال أبو داود هذا، وابن عيينة حافظ

(6)

.

قلت: أدخل الترمذي بين أم كرز وسباع محمد بن ثابت بن سباع أنه أخبره أن أم كرز أخبرته بالحديث وصححه، ولأبي عمر قلت: يا رسول الله، ما المكافئتان؟ قال:"المثلان وأن الضأن أحبُّ إليّ من المعز".

(1)

رواه الطبراني في "الأوسط" 7/ 12، و"الصغير" 2/ 122، والبيهقي 8/ 324.

(2)

"المحلى" 7/ 524.

(3)

ساقطة من الأصل، ومثبتة من "جامع الترمذي" وهي هامة كما ترى، قال المزي في "التحفة" (18351): روي عن سباع بن ثابت عن أم كرز، وهو المحفوظ.

(4)

الترمذي (1516).

(5)

"المجتبى" 7/ 165.

(6)

"التمهيد" 4/ 315 - 316.

ص: 270

وذكر أنها أحب إليه من المعز، وذكر أنها أحبُّ إليه من إناثها، قال ابن جريج: كان هذا رأيًا من عطاء

(1)

.

ثم ذكر ابن حزم حديث الحسن عن سمرة مرفوعًا: "الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى" من طريق أبي داود والنسائي

(2)

.

ومن عند البخاري: حدثنا عبد الله بن أبي الأسود: ثنا قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد قال: أمرني ابن سيرين أن أسأل الحسن ابن أبي الحسن ممن سمع حديث العقيقة فقال: من سمرة بن جندب

(3)

.

ثم قال ابن حزم: لا يصح للحسن سماع من سمرة إلا حديث العقيقة وحده

(4)

.

قلت: وهذا الحديث أخرجه مع أبي داود والنسائي ابن ماجه والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، والحاكم وقال: صحيح الإسناد

(5)

.

وقد ذكر البخاري في "تاريخه الكبير": قال لي علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بحديثه:"من قتل عبده قتلناه"

(6)

.

(1)

"الاستذكار" 15/ 380.

(2)

أبو داود (2838)، "المجتبى" 7/ 166.

(3)

سيأتي برقم (5472).

(4)

"المحلى" 7/ 524 - 525.

(5)

الترمذي (1522)، ابن ماجه (3165)، الحاكم 4/ 237.

قول الحاكم: صحيح الإسناد، ذكره المصنف أيضًا في "البدر المنير" 9/ 334، وفي "الخلاصة" 2/ 390، وليس في النسخة المطبوعة من "المستدرك".

(6)

"التاريخ الكبير" 2/ 290.

ص: 271

وقال البرديجي في مراسيله: الحسن عن سمرة ليس بصحيح إلا من كتاب، ولا نحفظ عن الحسن عن سمرة حديثًا يقول فيه: سمعت سمرة، إلا حديثًا واحداً وهو حديث العقيقة ولم تثبت رواية قريش بن أنس، عن الحسن، عن سمرة، ولم يروه غيره وهو وهم.

قلت: قد رواه عنه أبو حره أيضًا عن الحسن، كما ذكره الطبراني في "أوسط معاجمه"

(1)

، وفي كتاب أبي الشيخ ابن حيان روايته له من حديث فطر عن الحسن.

ومن طريق يزيد بن السائب، عن الحسن فيها: ولا ثلاثة تابعوه، وفي سؤالات الأثرم ضعف أبو عبد الله حديث قريش -يعني: هذا- وقال: ما أراه بشيء.

ثم رواه ابن حزم من طريق أبي داود من حديث قتادة عن الحسن، عن سمرة يرفعه:"كل غلام مرتهن بعقيقته؛ حتى تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه ويدمى".

قال: فكان قتادة إذا سئل عن التدمية كيف تصنع؟ قال: إذا ذبحت العقيقة أخذت صوفة فاستقبلت بها أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي؛ حتى يسيل على رأسه مثل الخيط، ثم تغسل رأسه بعد، وتحلق. قال أبو داود: أخطأ همَّام، إنما هو يسمى

(2)

.

قال ابن حزم: بل وهم أبو داود؛ لأن همامًا ثبت، وبين أنهم سألوا قتادة عن صفة التدمية المذكورة فوصفها لهم

(3)

.

(1)

"الأوسط" 4/ 360 (4435).

(2)

أبو داود (2837).

(3)

"المحلى" 7/ 524 - 525.

ص: 272

قلت: قال البرديجي: لا يحتج بهمام، وأبان العطار أمثل منه. وقال ابن سعد: ربما غلط في الحديث

(1)

. وقال أبو حاتم: في حفظه شيء

(2)

.

وقال يزيد بن زريع كما حكاه العقيلي في "تاريخه": كتابه صالح وحفظه لا يساوي شيئًا، وكان يحيى بن سعيد لا يرضى كتابه ولا حفظه.

وقال عفان: كان لا يرجع إلى كتابه وكان يخالف فلا يرجع إلى كتابه ولا ينظر فيه، ثم رجع بعد فنظر في كتابه فقال: يا عفان كنا نخطئ كثيراً فتستغفر الله تعالى منه

(3)

.

وقال الساجي: صدوق سيئ الحفظ ما حدث من كتاب فهو صالح، وما حدث من حفظه فليس بشيء. وفي كتاب الساجي: قال أحمد: كان يحيى ينكر عليه أنه يزيد في الإسناد

(4)

.

وقال ابن المنذر: تكلموا في هذا الحديث.

وقال أبو عمر: رواية همام في التدمية: قالوا: هي وهم من همام؛ لأنه لم يقل أحد في هذا الحديث. ويدمى غيره، وإنما قالوا: ويسمى.

وكذا أخرجه النسائي وابن ماجه من طريق ابن أبي عروبة، ثنا قتادة

(5)

. وأبو الشيخ من طريق سلام بن أبي مطيع، عن قتادة والترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم، عن الحسن

(6)

.

(1)

"الطبقات الكبرى" 7/ 282.

(2)

"الجرح والتعديل" 9/ 109.

(3)

"الضعفاء" 4/ 367 - 368.

(4)

انظر: "العلل ومعرفة الرجال" 1/ 226، 525، 2/ 331.

(5)

"المجتبى" 7/ 1066، وابن ماجه (3165).

(6)

الترمذي (1522).

ص: 273

قلت: ثم هو منسوخ، كما قاله أبو داود، وكان ناسخه حديث عائشة رضي الله عنها: كانوا في الجاهلية إذا عقوا عن الصبي خضبوا قطنة بدم العقيقة، فإذا حلقوا [رأس]

(1)

الصبي وضعوها على رأسه فقال عليه السلام: "اجعلوا مكان الدم خلوقًا" أخرجه ابن حبان في "صحيحه"

(2)

. ولأبي الشيخ: فأمرهم عليه السلام أن يجعلوا مكان الدم خلوقًا، ونهى أن تمس رأس المولود بدم. ولأبي داود من حديث بريدة قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة، ولطخ رأس المولود بدمها، فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخ بزعفران

(3)

.

ولابن عدي من حديث إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة -وثقه أحمد- عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخلوق بمنزلة الدم" يعني: على العقيقة

(4)

.

ولابن ماجه بإسناد جيد، عن يزيد بن (عبدٍ)

(5)

المزني أنه عليه السلام قال: "يعق عن الغلام ولا تمس رأسه بدم"

(6)

رواه أبو الشيخ الأصبهاني والطحاوي في كتابه "ختلاف العلماء" من حديث يزيد عن أبيه

(7)

وذكر ابن أبي شيبة، عن عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن

(1)

زيادة يقتضيها السياق، وما أثبتناه من "صحيح ابن حبان".

(2)

"صحيح ابن حبان" 12/ 124، (5308).

(3)

أبو داود (2843).

(4)

"الكامل في الضعفاء" لابن عدي 1/ 381.

(5)

في الأصل: عبد الله، وهو خطأ والمثبت من "سنن ابن ماجه"، و"تهذيب الكمال" 32/ 200 (7026). قال الحافظ في "التقريب" ص 603: يزيد بن عبدٍ، بغير إضافة المزني، الحجازي، مجهول الحال، من الثالثة اهـ.

(6)

ابن ماجه (3166) قال الحافظ في "الفتح" 9/ 594: وهذا مرسل اهـ.

(7)

"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 234.

ص: 274

ومحمد: أنهما كرها أن يلطخ رأس الصبي بشيء من دم العقيقة، وقال الحسن: هو رجس

(1)

، وهذا خلاف ما نقله النووي عن الحسن: أنه استحب التدمية

(2)

، وعن الترمذي صحيحًا: لا يمس الصبي بشيء من دمها

(3)

، ثم قال ابن حزم: وهذِه الأخبار نص ما قلنا، وهو قول جماعة من السلف، روينا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج: أخبرني يوسف بن ماهك، عن حفصة قالت: كانت عمتي عائشة تقول: على الغلام شاتان، وعلى الجارية شاة

(4)

.

قلت: أخرجه الترمذي عنها مرفوعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة، ثم قال: حسن صحيح

(5)

.

زاد أبو الشيخ في كتابه "العقيقة" تأليفه من حديث عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها: يعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة، وعق عليه السلام عن حسن وحسين بشاتين وشاتين، ذبحهما يوم سابعهما وسماهما وقال:"اذبحوا على اسم الله، وقولوا: بسم الله اللهم منك وإليك هذِه عقيقة فلان". وفي رواية من حديث يوسف بن ماهك، عن حفصة، عنها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق .. الحديث.

(1)

"المصنف" 5/ 114 (24256).

(2)

"المجموع" 8/ 431.

(3)

لم أقف عليه عند الترمذي، ولعله وهم، ولم يذكر الحافظ في "الفتح" 9/ 594 الترمذي عندما أورد من الأحاديث ما يدل على نسخ تدمية رأس المولود بل قال: زاد أبو الشيخ: ونهى أن يمس رأس المولود بدمٍ. اهـ.

قوله: لا يمس الصبي بشيء من دمها. رواه ابن أبي شيبة 5/ 114 من قول الزهري.

(4)

عبد الرزاق 4/ 328 - 329 (7956)، وانظر:"المحلى" 7/ 525.

(5)

الترمذي (1513).

ص: 275

قال ابن حزم: ومن طريق أبي الطفيل، عن ابن عباس رضي الله عنه: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة

(1)

.

قلت: قد سلف رفعه، وأخرجه أبو الشيخ أيضًا من حديث يزيد بن أبي زناد، عن عطاء، عنه أنه عليه السلام قال:"يعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة"

قال ابن حزم: وهو قول عطاء بن أبي رباح، ومن طريق عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر قال: يحلق رأسه ويلطخ بالدم

(2)

.

قلت: من شأنه رد حديث عطاء؛ فلا ينبغي أن يحتج به هنا.

وكذا قوله عن مكحول أنه قال: بلغني أن ابن عمر قال: المولود مرتهن بعقيقته

(3)

. ثم قال: وعن بريدة الأسلمي: إن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة، كما يعرضون على الصلوات الخمس. ومثله عن فاطمة بنت الحسين

(4)

.

قلت: وروى أبو الشيخ في كتابه بإسناد جيد من حديث الحسن عن أنس أنه عليه السلام قال: "كل غلام مرتهن بعقيقته، تعق عنه يوم سابعه، من الإبل والبقر والغنم"

(5)

.

(1)

"المحلى" 7/ 525.

(2)

"المحلى" 7/ 525.

(3)

رواه عبد الرزاق 4/ 331 (7965).

(4)

"المحلى" 7/ 525.

(5)

رواه الطبراني في "الصغير" 1/ 150 (229) وقال: لم يروه عن حريث إلا مسعدة ابن اليسع وهو كذاب اهـ. قال الهيثمي 4/ 58: رواه الطبراني في "الصغير" وفيه مسعدة بن اليسع وهو كذاب. اهـ.

ص: 276

زاد ابن أبي شيبة: وكان (أنس)

(1)

يعق عن ولده بالجزور

(2)

، ومن حديث أبي هريرة مرفوعًا:"مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا وأميطوا عنه الأذى"

(3)

ولفظ: "إن اليهود تعق عن الغلام كبشًا ولا تعق عن الجارية، فعقوا عن الغلام كبشين وعن الجارية كبشًا"

(4)

وفي لفظ لابن أيمن

(5)

: "الغلام مرتهن بعقيقته".

قال الترمذي: وفي الباب عن علي

(6)

.

ورواه ابن أبي شيبة

(7)

وأبو الشيخ عن علي مرفوعًا، وفي الباب أيضًا عن أم عطية أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه" من حديث محمد عنها مرفوعًا:"مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا".

(1)

في الأصل: عليه السلام، والمثبت من "المصنف".

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 114 (24262).

(3)

رواه البزار كما في "كشف الأستار"(1236) وقال: لا نعلم رواه عن ابن المختار إلا إسرائيل أهـ. وقال الهيثمي 4/ 58: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح أهـ.

(4)

رواه البزار كما في "كشف الأستار"(1233) وقال: لا نعلمه عن الأعرج عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد اهـ. وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 58: رواه البزار من رواية أبي حفص الشاعر عن أبيه، ولم أجد من ترجمهما اهـ.

(5)

هو الإمام الحافظ العلامة، شيخ الأندلس ومسنِدُها في زمانه، أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج القرطبي، رفيق قاسم بن أصبغ، ولد سنة اثنتين وخمسين ومائتين، كان بصيرًا بالفقه مفتيًا بارعًا عارفًا بالحديث وطرقه صنف كتابا في السنن خرجه على "سنن أبي داود"، توفي في منتصف شوال سنة ثلاثين وثلاثمائة.

انظر: "جذوة المقتبس" ص 63، "بغية الملتمس" ص 102، "سير أعلام النبلاء" 15/ 241 - 243.

(6)

عقب حديث (1513).

(7)

"المصنف" 5/ 111.

ص: 277

وقال وهيب عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله، وأم السباع أخرجه ابن أبي شيبة من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء: أن أم السباع سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعق عن أولادي؟ قال: "نعم، عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة"

(1)

.

ولأبي الشيخ من حديث بريدة أنه عليه السلام قال: "العقيقة تذبح لسبع أو تسع أو لإحدى وعشرين"

(2)

.

ولابن أبي شيبة: قال محمد بن سيرين: لو أعلم أنه لم يعق عني لعققت عن نفسي.

وكان ابن عمر يقول: عق عن الغلام والجارية بشاة شاة.

وذكر أيضًا عن القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وأبي جعفر محمد بن علي بن حسين، ومحمد بن شهاب.

وقال محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: يؤمر بالعقيقة ولو بعصفور

(3)

.

روى أبو عمر من حديث عبد الله بن محمد بن محرر الضعيف عن قتادة، عن أنس أنه عليه السلام عق عن نفسه بعدما بعث بالنبوة

(4)

.

قال البيهقي: هذا حديث منكر

(5)

.

(1)

"المصنف" 5/ 112.

(2)

رواه الطبراني في "الأوسط" 5/ 136، و"الصغير" 2/ 29، والبيهقي 9/ 303. قال الهيثمي 4/ 59: رواه الطبراني في "الصغير" و"الأوسط" وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف لكثرة غلطه ووهمه اهـ.

(3)

انظر هذِه الآثار في "المصنف" 5/ 111 - 113.

(4)

"الاستذكار" 15/ 376.

(5)

"السنن الكبرى" 9/ 300.

ص: 278

قال عبد الرزاق: إنما تركوا حديث ابن محرر بسبب هذا الحديث

(1)

.

قال البيهقي: وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن قتادة، ومن وجه آخر عن أنس، وليس بشيء

(2)

. فهو حديث باطل

(3)

.

قلت: وأخرجه ابن حزم من حديث الهيثم بن جميل، ثنا عبد الله بن المثنى بن أنس، ثنا ثمامة عن أنس

(4)

.

وأبو الشيخ محمد (من)

(5)

حديث داود بن الحصين، والهيثم عن عبد الله بن المثنى قال أبو عمر: وقيل: عن قتادة: أنه كان يفتي به

(6)

.

فصل:

استدل من قال بعدم وجوبها بما أسلفناه في "الموطأ": عن زيد بن أسلم، عن رجل من بني ضمرة، عن أبيه أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، فقال:"لا أحب العقوق". وكأنه إنما كره الاسم، وقال:"من ولد له ولد، فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل"

(7)

.

قال ابن عبد البر: لا نعلمه يروى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، ومن حديث عمرو بن شعيب

(8)

عن أبيه عن جده، واختلف فيه على عمرو، ومن أحسن أسانيده ما رواه عبد الرزاق، أنا داود بن قيس قال: سمعت عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:

(1)

انظر: "تهذيب الكمال" 16/ 32.

(2)

"السنن الكبرى" 9/ 300.

(3)

قال النووي في "المجموع" 8/ 431: هذا حديث باطل.

(4)

"المحلى" 7/ 528.

(5)

في الأصل: محمد، فلعله تصحيف.

(6)

"الاستذكار" 15/ 377.

(7)

"الموطأ" ص 310.

(8)

ورد بهامش الأصل: ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي.

ص: 279

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، فقال:"لا أحب العقوق" قالوا: يا رسول الله، ينسك أحدنا عمن يولد له؟ فقال:"من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة"

(1)

.

رده ابن حزم وقال: هذا لا شيء؛ لأنه عن رجل لا يدرى من هو في الخلق، وكذا قال ابن الحذاء: لا أعرف هذا الضمري من هو، ولو صح لكان حجة لنا؛ لأن فيه إيجاب ذلك عن الغلام والجارية، وأن ذلك لا يلزم الأب إلا أن يشاء. هذا نص الخبر، ومقتضاه فهو كالزكاة، وزكاة الفطر ولا فرق

(2)

.

قلت: يبعده لفظة: "فمن أحب"، وزكاة الفطر خرجت بقوله:"على كل صغيرٍ وكبير وأدُّوها عمن تمونون"

(3)

.

ولما ضعف البيهقي حديث مالكٍ قال: إذا ضمَّ إلى حديث عمرو بن شعيب مع ضعفه قواه

(4)

.

(1)

"المصنف" 4/ 330، وانظر:"التمهيد" 4/ 304 - 305.

(2)

"المحلى" 7/ 530.

(3)

رواه الدارقطني 2/ 140 من طريق علي بن موسى الرضا عن أبيه، عن جده، عن آبائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر على الصغير والكبير .. الحديث. وهو مرسل كما قال الزيلعي في "نصب الراية" 2/ 413.

ورواه الدارقطني 2/ 141، والبيهقي 4/ 161 من طريق القاسم بن عبد الله عن عمير ابن عمار، عن الأبيض بن الأغر، عن الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون.

قال الدارقطني: رفعه القاسم وليس بقوي والصواب موقوف اهـ.

وقال البيهقي: إسناده غير قوي. اهـ.

وقال الذهبي في "تنقيح التحقيق" 1/ 348: إسناده لا يثبت اهـ.

وقال الحافظ في "الفتح" 3/ 369: إسناده ضعيف اهـ

(4)

"السنن الكبرى" 9/ 506.

ص: 280

ورواه أبو الشيخ في كتابه عن البزار إلى أبي سعيد الخدري قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة، فقال:"لا أحب العقوق، عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة"، وفي "المصنف" من حديث ابن عقيل، عن علي بن حسين، عن أبي رافع قال: قالت فاطمة رضي الله عنها: يا رسول الله، ألا أعق عن ابني دمًا؟ قال:"لا، آحلقي رأسه وتصدقي بوزنه على المساكين"

(1)

.

ولا يغاير هذا حديث ابن عباس وأنس أنه عليه السلام عق عن الحسن كبشًا، وعن الحسين كبشًا

(2)

.

صححهما عبد الحق وابن حزم

(3)

، وذكره ابن الجارود في "منتقاه"

(4)

، وإن كان أبو حاتم الرازي قال في "علله": حديث أنس أخطأ فيه جرير بن حازم، وحديث ابن عباس الصواب أنه مرسل عن عكرمة

(5)

.

قلت: وأخرجه أبو الشيخ بإسناد جيد من حديث البغوي عن ربيعة، عن سعيد ومحمد بن علي عنه.

وأخرجه النسائي من حديث حجاج، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: عق عن الحسن كبشين، وعن الحسين كبشين

(6)

.

(1)

"المصنف" 5/ 111.

(2)

أما حديث ابن عباس فرواه أبو داود (2841) بهذا اللفظ، والنسائي 6/ 166 بلفظ: كبشين كبشين.

وأما حديث أنس فرواه ابن حبان (5309)، وأبو يعلى (2945).

(3)

"المحلى" 7/ 530، "الأحكام الوسطي" 4/ 141 - 142.

(4)

"المنتقى" 3/ 192 (912).

(5)

"العلل" 2/ 50.

(6)

"المجتبى" 3/ 76.

ص: 281

قال ابن حزم: روينا مثله من طريق ابن جريج عن عائشة منقطعًا.

ورواه أيضًا عكرمة مرسلاً، وكذا أرسله معمر عن أيوب قال: ولا خلاف أن مولد الحسن كان عام أُحد والحسين في العام التالي، وحديث أم كرز كان في الحديبية، فصار الحكم لحديثها. لتأخره أو نقول: إن فاطمة عقت عن كل واحد بكبش، وعن الشارع بآخر

(1)

، وفيه بعد.

وقد روى أبو الشيخ حديث فاطمة من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عنها، ورواه أبو عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، ومحمد بن علي بن حسين لم يولد إلا بعد فاطمة بسنتين، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا فيما قاله جماعة

(2)

، وروى أبو الشيخ: عق عليه السلام عنهما، من حديث عائشة، وبريدة، وجابر بن عبد الله.

قال ابن حزم: واحتج من لم يرها واجبة برواية واهية عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين أنه قال: نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله. ولا حجة فيه؛ لأنه قول محمد بن علي ولا تصح دعوى النسخ إلابنص مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وقال ابن عبد البر: ليس ذبح الأضحى ناسخًا للعقيقة عند جمهور العلماء، ولا جاء في الآثار المرفوعة عنه عليه السلام، ولا عن السلف ما يدل على ذلك، وكذا قال ابن بطال: لا أصل له، ولا سلف، ولا أثر

(4)

.

(1)

"المحلى" 7/ 531.

(2)

انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم ص 256 - 257، "جامع التحصيل" ص 204 - 205، "تحفة التحصيل" لولي الدين أبي زرعة العراقي ص 165.

وأبو عبيدة اسمه عامر، وقيل: اسمه كنيته.

(3)

"المحلى" 7/ 529 - 530.

(4)

"شرح ابن بطال" 5/ 376، "الاستذكار" 15/ 373.

ص: 282

قلت: بل ورد في الدارقطني من حديث عتبة بن يقظان، عن الشعبي، عن علي مرفوعًا:"محا الأضاحي كل ذبح كان قبله". الحديث، وفي حديث عبيد المكتب، عن الشعبي، عن مسروق، عن علي مرفوعًا:"نسخ الأضحى كل ذبح". الحديث

(1)

.

وفي "الاستذكار": روى معمر عن قتادة أنه قال: من لم يعق عنه أجزأته أضحيته

(2)

.

ولابن أبي شيبة بإسناد جيد، عن محمد والحسن أنهما قالا: يجزئ عن الغلام الأضحية من العقيقة

(3)

.

فصل:

وثالثها، ورابعها، وخامسها:

جنسها وسنها وحكمها، وهي جذعة ضأن أو ثنية معز كالأضحية.

وفي "الحاوي" أنه يجزئ ما دونها، والأصح: المنع، ويشترط سلامتها من العيب المانع في الأضحية، وقيل: يسامح فيه، قال بعض أصحابنا: الغنم أفضل من الإبل والبقر، والصحيح خلافه كالأضحية، وينبغي تأدي السنة بسبُع بدنة أو بقرة.

(1)

"السنن" 4/ 278 - 280 وفي الأول: عتبة بن يقظان، قال النسائي: غير ثقة، وقال الدارقطني: متروك، وفيه أيضًا الحارث بن نبهان قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك.

وفي الثاني: المسيب بن شريك، قال الدارقطني: متروك، وقال أحمد: ترك الناس حديثه، وقال البخاري: سكتوا عنه.

انظر: "التعليق المغني على الدارقطني" 4/ 278 - 279.

(2)

"الاستذكار" 15/ 377.

(3)

"المصنف" 5/ 114.

ص: 283

وحكمها في التصدق والأكل والهدية وقدر المأكول كالأضحية

(1)

، قال ابن المنذر: روي عن أبي بكر أنه عق بالإبل، وعند المالكية أن جنسها من الغنم، قال ابن حبيب: والضأن أفضل.

قال مالك: ثم الغنم أحب إليَّ من الإبل والبقر. وقال مرة: لا يعق بإبل ولا بقر. و (قاله)

(2)

محمد هو ابن شعبان

(3)

.

وفي "الموطأ" عن إبراهيم التيمي: تستحب ولو بعصفور

(4)

.

وقال ابن حبيب: ليس يريد أنه يجزئ ولكن يريد تحقيق استحبابها.

وروى ابن عبد الحكم عن مالك: لا يعق بشيء من الطير والوحش

(5)

وسنها عندهم الجذع من الضأن والثني مما سواه كالضحايا كما هو عندنا

(6)

.

قال ابن حزم: وقد رأى بعضهم في ذلك الجزور -وقد أسلفناه نحن مرفوعًا- قال: ولا يقع اسم شاة بالإطلاق في اللغة أصلاً على غير الضأن والماعز، وأما إطلاق ذلك على الظباء وحمر الوحش وبقره، فاستعارة وإضافة وبيان، ولا يجوز الإطلاق أصلاً

(7)

.

قلت: في "المحكم" لابن سيده: الشاة تكون من الضأن والمعز والظباء والبقر والنعام وحمر الوحش، وربما كنى بالشاة عن المرأة

(8)

.

(1)

انظر ما سبق في "روضة الطالبين" 3/ 230.

(2)

في الأصل: قال، ولا يستقيم المعنى بها.

(3)

انظر: "المنتقى" 3/ 102 - 103.

(4)

"الموطأ" ص 310.

(5)

انظر: "المنتقى" 3/ 102.

(6)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 333.

(7)

"المحلى" 7/ 527.

(8)

"المحكم" 4/ 291.

ص: 284

وقال ابن التياني في "الموعب" عن قطرب: يقال للنعامة: الشاة.

وفي كتاب "الوحوش" للكرنبائي

(1)

: يقال شاة للظباء والبقر، ويسمى الظبي والظبية والثور والبقرة شاة.

وفي كتاب "التذكير والتأنيث" لأبي حاتم السجستاني: يقال شاة للواحد من الظباء، ومن بقر الوحش، ومن حمره.

وقال الجوهري: الشاة: الثور الوحشي

(2)

.

وفي "المغيث" لأبي موسى: وفي الحديث: فأمر لنا بشاة غنم. قال: وإنما عرفها بالغنم، لأنهم يسمون البقرة الوحشية والنعامة والوعل شاة

(3)

.

وفي "المنجد" للهنائي

(4)

، والشاة اسم للنعامة والثور الوحشي، ولسبق ذلك للمرأة. وفي "شرح المعلقات" لابن الأنباري الشاة: الثور الوحشي

(5)

.

وكذا ذكره أبو المعالي في "المنتهي"، وفي "الحيوان" للجاحظ: والظِّباء: شاء

(6)

.

(1)

هو هشام بن إبراهيم الكرنبائي الأنصاري كان عالمًا بأيام العرب ولغاتها. من كتبه: كتاب "الحشرات"، كتاب "الوحوش"، كتاب "النبات"، "خلق الخيل".

انظر: "الفهرست" ص 105.

(2)

"الصحاح" 6/ 2238 مادة (شوه).

(3)

"المجموع المغيث" 2/ 231.

(4)

هو أبو الحسن، علي بن الحسن بن الحسين الهُنائي الأزدي المعروف بكراع النمل.

(5)

"شرح المعلقات" ص 178.

(6)

"الحيوان" 1/ 18.

ص: 285

فصل:

وسادسها: في وقتها:

وعند المالكية: ضحى إلى الزوال

(1)

.

واختلف في يوم الولادة هل يحسب منها. وقال مالك في "المدونة": لا يحسب

(2)

. وعنه: إن ولد في أول النهار من غدوه إلى نصف النهار حسب. وقال عبد الملك: يحسب ذلك اليوم، قل ما بقي منه أو كثر.

وقال أصبغ: أحب إليّ أن يكفى ذلك اليوم، فإن احتسب به ثم عق إلى مقداره من اليوم السابع إن كان مقداره بها أجزأه

(3)

.

قال ابن حزم: فإن قيل: من أين أجزتم بعد السابع؟ قلنا: لأنه وجب يوم السابع، ولزم إخراج تلك الصفة من المال، فلا (يحل إبقاؤها)

(4)

فيه؛ فهو دين واجب إخراجه

(5)

.

قلت: قدمنا الذبح بعده من حديث (بريدة)

(6)

وأنس من حديث العرزمي أن عائشة قالت: يذبح يوم السابع، فإن لم يكن ففي أربع عشرة، فإن لم يكن، ففي إحدى وعشرين

(7)

.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 334.

(2)

"المدونة" 1/ 291.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 334.

(4)

في الأصل: يحمل إيثارها، والمثبت من "المحلى".

(5)

"المحلى" 7/ 527.

(6)

في الأصل: بريد، والمثبت هو الصواب.

(7)

رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده"(1292)، والحاكم 4/ 238 - 239 وقال: صحيح الإسناد.

ص: 286

فرع:

فإن فاته الأسبوع لم يفت، والاختيار أن لا يؤخر إلى البلوغ وقال مالك: فاتته. وعنه: يعق في الثاني وإلا فالثالث

(1)

.

وقال ابن جرير: استحب لمن لم يعق عنه أن يعق عن نفسه بعد بلوغه. وقد روي عنه أنه عليه السلام فعله، وقد سلف.

وقال مالك: إن مات قبل السابع لم يعق عنه. قال ابن عبد البر: وروي عن الحسن مثل ذلك

(2)

.

فصل:

وسابعها في عددها:

فقد سلف: للذكر شاتان وللأنثى شاة. وقال مالك: للذكر شاة

(3)

.

ووافقنا ابن حبيب والحنفية

(4)

، وقد سلفت الأحاديث في ذلك، وأجاب القاضي أبو محمد عن حديث:"عن الغلام شاتان" أنه ضعيف لا يعارض ما رويناه من قبل أنه لو كان هو الأفضل لم يعدل عنه إلى غيره؛ ولأنه ذبح مقرب به، فاستوى في عدده الذكر والأنثى كالأضحية.

وعند مالك: أنها إذا ولدت توأمين يعق عن كل واحد منهما بشاة

(5)

، وكذا قال الليث: يعق عن كل واحد منهما.

(1)

انظر: "المنتقى" 3/ 101 - 102.

(2)

"التمهيد" 4/ 313.

(3)

"الموطأ" ص 311.

(4)

انظر: "المنتقى" 3/ 102، وللحنفية "تنقيح الفتاوى الحامدية" لابن عابدين 2/ 212، لكن الكلام في "رد المحتار" 6/ 336 يوحي بأن قول الحنفية كقول الجمهور، والله أعلم.

(5)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 333.

ص: 287

قال ابن عبد البر: لا أعلم عن أحدٍ من فقهاء الأمصار خلافًا في ذلك

(1)

.

قال ابن حزم: والقول بأنها شاة، روي عن طائفة من السلف، منهم: عائشة و (أختها)

(2)

، ولا يصح ذلك (عنهما)

(3)

؛ لأنه من رواية ابن لهيعة وهو ساقط، أو عن (سلافة)

(4)

مولاة حفصة وهي مجهولة، أو عن أسامة بن زيد وهو ضعيف، أو عن مخرمة بن بكير، عن أبيه وهي صحيفة، وهو عن عبد الله بن عمر صحيح

(5)

.

فرع:

قال الشافعي: لا يعق المأذون له عن ولده، ولا يعق عن اليتيم، كما لا يصح عنه، وخالف فيه مالك

(6)

. قال أصحابنا، وإنما يعق عن المولود من تلزمه نفقته من مال العاق لا من مال المولود، فإن عق من ماله ضمن، فلو كان المنفق عاجزًا عن العقيقة فأيسر في السبعة، استحب له العق، وإن أيسر بعدها وبعد مدة النفاس فهي ساقطة عنه، وإن أيسر في مدة النفاس ففيه احتمالان للأصحاب؛ لبقاء أثر الولادة.

وأُوِّلَ الحديث السالف أنه عق عن الحسن [والحسين]

(7)

على أنه أمر أباهما بذلك، أو أعطاه ما عق أو أن (أباهما)

(8)

كان إذ ذاك معسرًا فيصيران في نفقة جدهما

(9)

.

(1)

"الاستذكار" 15/ 375.

(2)

في الأصل: أبيها، والمثبت من "المحلى".

(3)

في الأصل: عنها، والمثبت من "المحلى".

(4)

في الأصل: سلامة، والمثبت من "المحلى".

(5)

"المحلى" 7/ 530.

(6)

انظر: "الاستذكار" 15/ 374.

(7)

ساقطة من الأصول، والسياق يقتضيها لمناسبة الضمير في: أباهما.

(8)

في الأصل: أباه، والمثبت هو المناسب للسياق.

(9)

انظر: "المجموع" 8/ 412 - 413.

ص: 288

قال ابن جرير: إن لم يفعلها الأب عق عن نفسه إذا كبر، فكأنه يقول يؤديها عنه كالحمالة، فإن لم يفعل فعلها المولود.

فرع:

يطبخ عندنا بحلو وقيل بحامض ولا كراهة فيه على الأصح؛ لأنه ليس فيه نهي

(1)

، ويقطع (ولا يكسر لها عظمًا خلافًا لمالك

(2)

وابن شهاب؛ حيث قالا: لا بأس بكسر عظامها)

(3)

.

وقال ابن جريج: تطبخ بماء وملح أعضاء -أو قال آرابًا- ويُهدى إلى الجيران ولا يصّدق منها بشيء

(4)

. كذا قال.

فرع:

اختلف في طلبي رأس الصبي بدمها، فأنكره الزهري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق

(5)

، وروت عائشة أن أهل الجاهلية كانوا يفعلونه -وقد سلف- فأمرهم أن يجعلوا مكان الدم خلوقًا.

فرع:

ذكر الطحاوي في "اختلاف العلماء" أن مالكًا قال: تطبخ العقيقة ألوانًا وأكره أن يدعى لها الجيران للفخر قال: وأهل العراق يقولون: يعق عن الكبير. وهذا خطأ لا يعق إلا يوم السابع ويستقبل المولود الليالي ولا يعتد له باليوم الذي ولد فيه. وهذا سلف.

(1)

انظر: "المجموع" 8/ 410 - 411.

(2)

انظر: "المجموع" 8/ 412 - 413.

(3)

ما بين القوسين من (غ) وانظر: "الاستذكار" 15/ 385، "المجموع" 8/ 410.

(4)

رواه عبد الرزاق 4/ 331 - 332.

(5)

انظر: "الموطأ" ص 311، "المجموع" 8/ 431، "المغني" 13/ 398.

ص: 289

فرع:

يحلق رأسه بعد ذبحها خلافًا للأوزاعي

(1)

، واتباع السنة -كما سلف- أولى.

فرع:

قال ابن حزم: فإن قيل: قد رويتم عن جعفر بن محمد، عن أبيه -عند ابن أبي شيبة- أنه عليه السلام بعث من عقيقة الحسن والحسين إلى القابلة وقال:"لا تكسروا منها عظمًا"

(2)

.

قلنا: هذا مرسل، وروينا فيه عن الزهري: تكسر عظام العقيقة

(3)

، وعندنا أن كسر عظمها خلاف الأولى، وهل هو مكروه كراهة تنزيه؟ فيه وجهان: أصحهما: لا؛ لأنه لم يثبت فيه نهي

(4)

.

فرع:

في "العتبية" ليس الشأن (عندنا)

(5)

دعاء الناس إلى (طعامه)

(6)

ولكن يأكل أهل البيت والجيران، وقال محمد، عن ابن القاسم:(يفرض)

(7)

منه للجيران

(8)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 233، "التمهيد" 4/ 318، "المجموع" 8/ 413، "المغني" 13/ 397.

(2)

"المصنف" 5/ 114 - 115 (24252).

(3)

"المصنف" 5/ 115 (24254) بلفظ: "لا تكسر عظامها ورأسها". وانظر: "المحلى" 7/ 529.

(4)

انظر: "المجموع" 8/ 410.

(5)

في الأصل: عند، والمثبت هو الصواب، كما في "النوادر"، و"المنتقى".

(6)

كذا في الأصل، وفي "النوادر"، و"المنتقى": طعامها.

(7)

كذا في الأصل، وفي "المنتقى": يغرف.

(8)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 333، "المنتقى" 3/ 104.

ص: 290

وقال مالك في "المبسوط": عققت عن ولدي وذبحت ما أريد أن أدعو إليه إخواني وغيرهم وهيأت طعامهم، ثم ذبحت ضحًى شاة العقيقة فأهديت منها للجيران وأَكَلَ منها أهل البيت، وأكلوا وأكلنا.

قال مالك: من وجد سعة فأُحب له هذا، ومن لم يجد فليذبح عقيقة ثم يأكل ويطعم منها.

وهذا مخالف لما سلف من التعليل من أن المنع من ذلك للفخر، وقول مالك أن سببها أن يطعم الناس منها في مواضعهم، لأنه نسك كالهدي والأضحية

(1)

، فإن فضل منها شيء وأراد أن يدعو إليه من يخصه من جارٍ أو صديق، فلا بأس بذلك

(2)

.

وفروع الوليمة كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية، فلنعد إلى ما نحن بصدده فنقول: ترجم البخاري:

(1)

ورد بهامش الأصل: ينبغي أن يقول وإن كانت وليمة العقيقة.

(2)

نقله عن "المبسوط" الباجي في "المنتقى" 3/ 104، وأسند التعليل لابن القاسم.

ص: 291

‌1 - باب تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ غَدَاةَ يُولَدُ، لِمَنْ لَمْ يَعُقَّ وَتَحْنِيكِهِ

5467 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدٌ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: وُلِدَ لِي غُلَامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ. وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي مُوسَى. [انظر: 6198 -

مسلم: 2145 - فتح: 9/ 587].

5468 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَأَتْبَعَهُ الْمَاءَ. [انظر:222 - مسلم:

286 -

فتح: 9/ 587].

5469 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ قُبَاءً، فَوَلَدْتُ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِالتَّمْرَةِ، ثُمَّ دَعَا لَهُ فَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلَامِ، فَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا؛ لأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ سَحَرَتْكُمْ فَلَا يُولَدُ لَكُمْ. [انظر: 3909 - مسلم: 2146 - فتح: 9/ 587].

5470 -

حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ. فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارِ الصَّبِيَّ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ:«أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا» . فَوَلَدَتْ غُلَامًا، قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَأَخَذَهُ

ص: 292

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَمَعَهُ شَيْءٌ؟» . قَالُوا: نَعَمْ، تَمَرَاتٌ. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ، وَحَنَّكَهُ بِهِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ. [انظر: 1301، 1502 - مسلم: 2144 - فتح: 9/ 587].

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المثَنَّى، حَدَّثَنَا ابن أَبي عَدِيٍّ، عَنِ ابن عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ. وَسَاقَ الَحدِيثَ.

وذكر فيه أحاديث:

أحدها:

عن أبي موسى رضي الله عنه قَالَ: وُلِدَ لِي غُلَامٌ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ وَدَفَعَهُ إِلَيَّ. وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي مُوسَى.

وسيأتي في الأدب

(1)

، وأخرجه مسلم أيضًا

(2)

.

ثانيها: حديث عائشة رضي الله عنها: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَأَتْبَعَهُ المَاءَ. ويأتي في الأدب أيضًا

(3)

.

ثالثها: حديث أسماء رضي الله عنها أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، قَالَتْ: فَخَرَجتْ وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ المَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بقُبَاء، فَوَلَدْتُ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فوضعه فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِالتَّمْرَةِ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلدَ فِي الإِسْلَامِ، فَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا؛ لأَنَّهُمْ قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ اليَهُودَ قَدْ سَحَرَتْكُمْ فَلَا يُولَدُ لَكُمْ.

(1)

سيأتي برقم (6198)، باب: من سمى بأسماء الأنبياء.

(2)

مسلم (2145) كتاب: الآداب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته.

(3)

سيأتي برقم (6002)، باب: وضع الصبي في الحجر.

ص: 293

سلف في الهجرة وأخرجه مسلم أيضًا

(1)

.

رابعها: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: كَانَ ابن لأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ .. الحديث. وفيه: وَحَنَّكَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، ثَنَا ابن أَبِي عَدِيٍّ -وهو: محمد بن إبراهيم- عَنِ ابن عَوْنٍ وهو: عبد الله بن عون، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ. وَسَاقَ الحَدِيثَ.

وسلف في الجنائز

(2)

، وأخرجه مسلم في الاستئذان

(3)

.

والترجمة مشتملة على تسمية المولود وتحنيكه، فأما تسميته فمستحبة عندنا في يوم سابعه، وأما التحنيك فساعة يولد.

وتقييد البخاري أنه يسمى غداة يولد لمن لم يعق غريب، نعم حكاه ابن التين عن مذهب مالك، وحمله الخطابي على أن التسمية إنما تكون يوم السابع عند مالك، قال: وذهب كثير من الناس إلى أنه يجوز تسميته قبل ذلك

(4)

.

وقال محمد بن سيرين وقتادة والأوزاعي: إذا ولد وقد تم خلقه سمي في الوقت إن شاء.

(1)

سلف برقم (3909) كتاب: مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، ورواه مسلم (2146) كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته.

(2)

سلف برقم (1301) باب: من لم يظهر حزنه عند المصيبة.

(3)

مسلم برقم (2144) كتاب: الآداب، باب: استحباب تحنيك المولود.

(4)

"أعلام الحديث" 3/ 2058.

ص: 294

وقد يحتج له بحديث: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم"

(1)

.

قال مالك: وإن لم يستهل لم يسم

(2)

.

قال المهلب: وتسمية المولود حين يولد وبعد ذلك بليلة وليلتين وما شاء إذا لم ينو الأب العقيقة عند يوم سابعه جائز، وإن أراد أن ينسك عنه فالسنة أن يؤخر تسميته إلى يوم النسك وهو السابع؛ لحديث الحسن عن سمرة السالف.

وتحنيكه بالتمر تفاؤلًا له بالإيمان كأنها ثمرة الشجرة التي شبهها الله بالمؤمن وبحلاوتها أيضًا.

وفيه: أنه حسن أن يُقصد بالمولود أهل الفضل والعلماء والأئمة الصالحون، ويحنكونهم بالتمر وشبهه، ويتبرك بتسميتهم إياهم، غير أنه ليس لريق أحد في البركة كريقه عليه السلام، فمن وصل إلى جوفه من ريقه فقد أسعده الله وبارك فيه؛ ألا ترى بركة عبد الله بن الزبير وما حازه من الفضائل، فإنه كان قارئًا للقرآن، عفيفًا في الإسلام، وكذلك كان عبد الله بن أبي طلحة من أهل الفضل والتقدم في الخير؛ ببركة تحنيكه عليه السلام له.

وقد سلف في الجنائز الكلام في حديث أسماء

(3)

.

وأما خوفهم أن اليهود سحرتهم، فإن ذلك لصحة السحر عندهم، وخشية أن يفعل ذلك من لا يتقي الله من الكفار -كما سحر لبيد بن

(1)

رواه مسلم (2315) كتاب: الفضائل، باب: رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال.

(2)

"التمهيد" 4/ 320.

(3)

سلف برقم (1301) باب: من لم يظهر حزنه عند المصيبة.

ص: 295

الأعصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ولد عبد الله بن الزبير أمنوا ذلك وفرحوا.

وقولها: (وأنا متم). قال صاحب "الأفعال"

(1)

: أتمت كل حامل: حان أن تضع

(2)

.

وقال الداودي: أي: قرب الولادة.

وقال ابن فارس: المتم: الحبلى

(3)

. فكانت ولادته في السنة الثانية من الهجرة.

وقوله: (كان أول مولود ولد في الإسلام) يريد: بالمدينة من المهاجرين.

وظاهر حديث أبي طلحة أن التسمية كانت بعد التحنيك.

(1)

"الأفعال" ص 134.

(2)

"شرح ابن بطال" 5/ 373.

(3)

"المجمل" 1/ 144.

ص: 296

‌2 - باب إِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الصَّبِيِّ فِي الْعَقِيقَةِ

5471 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ. وَقَالَ حَجَّاجٌ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ وَقَتَادَةُ وَهِشَامٌ وَحَبِيبٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ عَاصِمٍ وَهِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنِ الرَّبَابِ، عَنْ سَلْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ قَوْلَهُ. [5472 - فتح 9/ 590].

5472 -

وَقَالَ أَصْبَغُ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، حَدَّثَنَا سَلْمَانُ بْنُ عَامِرٍ الضَّبِّيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ، فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى» . [انظر: 5471 - فتح 9/ 590].

حَدَّثَنِي عبد اللهِ بْنُ أبي الأسوَدِ، حَدَّثَنَا فرَيْشُ بْن أَنَسٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ: أَمَرَنِي ابن سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الَحسَنَ مِمَّنْ سمِعَ حَدِيثَ العَقِيقَةِ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ.

ذكر فيه حديث سلمان وقد أسلفته.

ثم ساق حديث الحسن في العقيقة وقد أسلفته.

وإماطة الأذى عن الصبي هو حلق الشعر الذي على رأسه، وقد أسلفنا أن العقيقة أصلها الشعر الذي يكون على رأس الصبي.

وتسمية الشاة بذلك؛ لأنه يحلق رأسه عند ذبحها، فسميت باسم ذلك الشعر كما سموا النجو عذرة، وإنما العذرة فناء الدار؛ لأنهم كانوا يلقون ذلك في أفنيتهم، وكما في تسمية الحدث بالغائط، وإنما هو المكان المطمئن من الأرض، كانوا يتناوبونه للحاجة، وذلك كثير في كلام العرب أن ينقلوا اسم الشيء إلى ما صاحبه إذا كثرت صحبته له.

ص: 297

ومعني "أميطوا": أزيلوا وأنقوا، قال الكسائي: مطت عنه الأذى وأمطت: نحيت، وكذلك مطت غيري وأمطته. وأنكر ذلك الأصمعي وقال: مطت أنا، وأمطت غيري.

قال المهلب: ومعنى الأمر بإماطة الأذى عنه وإراقة الدم يوم سابعه: (تنسكه)

(1)

لله تعالى؛ ليبارك فيه؛ ويطهر بذلك، وليس ذلك على الحتم لما تقدم من تسميته عليه السلام لابن أبي طلحة وابن الزبير، وتحنيكه لهما قبل الأسبوع

(2)

.

وروى مالك في "الموطأ" أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها وزنت شعر حسن وحسين وتصدقت بزنته فضه

(3)

.

قال أصحابنا

(4)

: فيستحب ذلك وإلا فبذهب. وكذا نص عليه في "شرح الرسالة".

فصل:

قوله: ("أميطوا عنه الأذى") رد لقول الحسن البصري وقتادة أن

(1)

كذا في الأصول، وفي "ابن بطال": نسيكة.

(2)

"شرح ابن بطال" 5/ 375.

(3)

"الموطأ" ص 310.

(4)

لا يقصد المؤلف بذلك السادة الشافعية، ولكن السادة المالكية، فالقول ليس من قوله، لكن نقله من شروح المالكية، ويدل عليه: نقله بعد ذلك: كذا نص عليه في "شرح الرسالة" أي: رسالة ابن أبي زيد القيرواني في المذهب المالكي، والشرح المذكور: هو شرح القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي، شرح الرسالة في نحو ألف ورقة منصوري، وبيعت أول نسخة من هذا الشرح بمائة مثقال ذهبًا.

كذلك: أن المشهور عند الشافعية أن يتصدق بوزن شعره ذهبًا. قال النووي: قال أصحابنا: ويستحب أن يتصدق بوزن شعره ذهبًا، فإن لم يفعل ففضة. انظر:"روضة الطالبين" 3/ 232، "المجموع" 8/ 413 - 414

ص: 298

الصبي تطلى رأسه بدم العقيقة؛ لأن الدم من أكبر الأذى، فغير جائز أن ينجس رأس الصبي بدم.

فصل:

عند الحسن التسمية تكون بعد الذبح، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق

(1)

، قال مالك: فإن جاوز السابع لم يعق عنه ولا يعق عن كبير.

وروى عنه ابن وهب أنه إن لم يعق يوم السابع عق عنه في السابع الثاني، وهو قول عطاء.

وعن عائشة رضي الله عنها: إن لم يعق عنه في السابع الثاني ففي الثالث، وهو قول ابن وهب وإسحاق

(2)

، وقد سلف ذلك.

فصل:

قوله عليه السلام: ("مع الغلام عقيقة") فيه حجة لقول مالك أنه لا يعق عن الكبير، وعليه أئمة الفتوى بالأمصار، كما ذكره ابن بطال

(3)

.

فصل:

روى أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام عق عن الحسن والحسين بكبش كبش عن كل واحد منهما

(4)

، وروت حفصة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة

(5)

، وبه قال مكحول، وقد سلف ذلك.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 334، "الكافي "لابن عبد البر ص 177، "المغنى" 13/ 397.

(2)

انظر: "الاستذكار" 15/ 372، 374 - 375.

(3)

"شرح ابن بطال" 5/ 375.

(4)

رواه أبو داود (2841).

(5)

رواه الترمذي (1513)، وابن ماجه (3163) وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 299

قال الطبري: وكلاهما صحيح، والعمل بأيِّ ذلك شاء العامل فعل؛ لأنه عليه السلام لما صح عنه عقه عن الحسن والحسين بشاة شاة عن كل واحد منهما، ولم يأتنا خبر أن ذلك خاص لهما، علم أن أمره بالعق عن الغلام بشاتين إنما هو أمر ندب لا إيجاب، وأن لأمته الخيار في أي ذلك شاءوا. قال: والدليل على أنها غير واجبة ترك الشارع لها بيان من يجب ذلك عليه في المولود: هل هو الأب أو المولود أو إمام المسلمين؟ ولو كان ذلك فرضًا لبين عليه السلام من يلزمه ذلك، فمن عق عنه من والدٍ أو غيره كان بذلك محسنًا؛ ألا ترى أن الشارع عق عن الحسن والحسين دون أبيهما، ولو وجب ذلك على والد المولود لما أجزأ عن عقه عليه السلام عن أبيه، كما أن عليًّا رضي الله عنه لو لزمه هدي من جزاء أو نذر لم يجزه إهداء مُهْدٍ عنه إلا بأمره.

وفي عقه عليه السلام عنهما من غير مسألة عليٍّ إياه ذلك الدليل الواضح على أنها لم تجب [على]

(1)

عليٍّ، وإذا لم تجب عليه فهي أبعد من وجوبها على فاطمة رضي الله عنها ولا نعلم أحدًا من الأئمة أوجبها إلا الحسن البصري، وقد أبطل وجوبها

(2)

بقوله: إن الأضحى تجزئ منها؛ لأن الأضحى نسك غير العقيقة، ولما أجزأت منها لكان الأضحى يجزئ من فدية حلق الرأس للمحرم، ومن هدي واجب عليه.

وفي الإجماع أن الأضحى لا يجزئ في ذلك [الدليل]

(3)

الواضح

(1)

زيادة يقتضيها السياق، والمثبت من "شرح ابن بطال".

(2)

في الأصل: وجوبها على فاطمة، وهو خطأ منشأه انتقال بصر الناسخ إلى السطر السابق لهذا السطر.

(3)

زيادة يقتضيها السياق، والمثبت من "شرح ابن بطال".

ص: 300

أنها لا تجزئ من العقيقة، وهي سنة

(1)

.

فصل:

الرباب في حديث سلمان قيل: إنه اسم امرأته، ذكره ابن التين. قال الزجاج: الرباب -بالفتح- سحاب أبيض، ويقال: إنه السحاب الذي نراه كأنه دون السحاب، قد يكون أسود، وقد يكون أبيض، الواحدة: ربابة، وبه سميت المرأة الرباب.

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 376 - 377.

ص: 301

‌3 - باب الْفَرَعِ

5473 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ» .

وَالْفَرَعُ: أَوَّلُ النِّتَاجِ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لَطِوَاغِيتِهِمْ، وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ. [انظر: 5474 - مسلم: 1976 - فتح: 9/ 596].

ذكر فيه من حديث معمر: عن الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابن المُسيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -قَالَ:"لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ".

وَالْفرع: أَوَّلُ النِّتَاجِ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ، وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ. هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح

(1)

.

(1)

أبو داود (2831)، الترمذي (1512).

ص: 302

‌4 - باب الْعَتِيرَةِ

5474 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ» . قَالَ: وَالْفَرَعَ: أَوَّلُ نِتَاجٍ كَانَ يُنْتَجُ لَهُمْ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيتِهِمْ

(1)

، وَالْعَتِيرَةُ فِي رَجَبٍ. [انظر: 5474 - مسلم: 1976 - فتح: 9/ 597].

ذكر فيه حديث سُفْيَانَ قَالَ: الزُّهْرِيُّ ثَنَا، عَنْ سعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا فَرَعَ وَلَا عَتِيرَةَ". قَالَ: وَالْفرع: أَوَّلُ نِتَاجٍ كَانَ يُنْتَجُ لَهُمْ، كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِطَوَاغِيَتِهِمْ، وَالْعَتِيرَةُ فِي رجب ..

هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه

(2)

.

واختلف في سفيان هذا: ففي مسلم هو ابن عيينة.

وقال النسائي -وذكره عنه ابن عساكر والمزي

(3)

- حدثنا ابن المثنى، عن أبي داود، عن شعبة قال: حدثت أبا إسحاق، عن معمر وسفيان بن حسين، عن الزهري قال أحدهما:"لا فرع ولا عتيرة".

وقال الآخر: نهي عن الفرع والعتيرة

(4)

. وفي كتاب الإسماعيلي: من حديث عمرو بن مرزوق عن شعبة.

كما ذكرناه من عند النسائي، وخالف ذلك الطرقي، فذكره كذلك وأبدل ابن حسين بابن عيينة، والله أعلم.

(1)

هكذا هنا الياء مفتوحة، وفي الحديث السابق: ساكنة.

(2)

مسلم (1976) كتاب: الأضاحي، باب: الفرع والعتيرة، أبو داود (2831)، النسائي 7/ 167، ابن ماجه (3168).

(3)

"تحفة الأشراف"(13127).

(4)

"السنن الكبرى"(4549).

ص: 303

وذكر أبو قرة موسى بن طارق في "سننه": أن تفسير العتيرة والفرع من كلام الزهري.

وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه ابن ماجه بإسناد جيد: "لا فرع ولا عتيرة".

قال أبو عبد الله: هذا من فرائد ابن أبي عمر العدني

(1)

.

زاد الطحاوي في "شرح الآثار": "في الإسلام"

(2)

، وقد جاء ما يشعر بالإذن فيها: روى عبد الرزاق عن ابن جريج: ثنا ابن خُثيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، عن عائشة رضي الله عنها: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرع من كل خمسين واحدة

(3)

.

رواه أبو داود من حديث حماد عن عبد الله بن عثمان بن خُثيم بلفظ: من كل خمسين شاة شاة

(4)

.

وقال ابن المنذر: حديث عائشة صحيح

(5)

.

ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرع قال: "الفرع حق، وإن تتركوه حتى يكون بكرًا أو ابن مخاض أو ابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناءك وتوله ناقتك"

(6)

.

(1)

ابن ماجه (3169).

(2)

"شرح مشكل الآثار" 3/ 86 (1062).

(3)

عبد الرزاق 4/ 340 (7997).

(4)

أبو داود (2833).

(5)

انظر: "المجموع" 8/ 426.

(6)

أبو داود (2842).

ص: 304

وللترمذي من حديث مخنف: سمع عليه السلام بعرفة يقول: "يا أيها الناس، إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة"، ثم قال: حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ابن عون

(1)

.

وقال الخطابي: هو ضعيف المخرج؛ لأن راويه عن مخنف أبا رملة، وهو مجهول

(2)

.

ورواه الطبراني من حديث عبد الرزاق عن عبد الكريم، عن حبيب بن مخنف، عن أبيه

(3)

. فَزَالَ تفرد ابن عون، وذهب أبو رملة، وللنسائي وابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي رزين لقيط بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، إنا كنا نذبح ذبائح في الجاهلية في رجب فنأكل ونطعم من جاءنا. فقال عليه السلام:"لا بأس به" قال وكيع بن عدس الراوي عنه: فلا أدعه

(4)

.

وللنسائي بإسناد جيد من حديث الحارث بن عمرو الباهلي أنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقال له رجل: يا رسول الله، الفرائع والعتائر؟ فقال:"من شاء فرع، ومن شاء لم يفرع، ومن شاء عتر، ومن شاء لم يعتر"

(5)

.

ولأبي داود عن نبيشة -وقال ابن المنذر: هو ثابت- نادى رجل: يا رسول الله، إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؟ قال:"اذبحوا لله في أي شهر كان"، قال: إنا كنا لنفرع فرعًا في

(1)

الترمذي (1518).

(2)

"معالم السنن" 2/ 195.

(3)

"المعجم الكبير" 20/ 311.

(4)

"المجتبى" 7/ 171، ابن حبان (5891).

(5)

"المجتبى" 7/ 168 - 169.

ص: 305

الجاهلية، فما تأمرنا؟ قال:"في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك، حتى إذا استحل للحجيج ذبحته فتصدقت بلحمه".

قال أبو قلابة: السائمة مائة

(1)

.

إذا تقرر ذلك:

فالفرع -كما قال أبو عمرو- وكذا الفرعة: بنصب الراء: أول ولد تلده الناقة، كانوا يذبحونه في الجاهلية لآلهتهم

(2)

.

زاد غيره: ثم يأكلوه

(3)

ويلقون جلده على الشجر، فنهوا عنها، وقال ابن فارس: هو أول النتاج من الإبل والغنم

(4)

، وقال الفراء وغيره: هو نتاج الإبل.

قال أبو عبيد: وأما العتيرة: وهي الرجبية، كان أهل الجاهلية إذا غلب أحدهم أمر، نذر إن ظفر به أن يذبح من غنمه في رجب كذا وكذا، فنسخ ذلك بعد

(5)

.

قال ابن فارس: كان الصنم المذبوح له عتيرًا

(6)

. يريد: فلذلك سميت عتيرة.

وقال الفراء: وسميت عتيرة؛ لما يُفعل من الذبح، وهو العتر، فهي فعيلة بمعنى مفعولة.

وكان ابن سيرين من بين سائر العلماء، يذبح العتيرة في رجب

(7)

،

(1)

أبو داود (2830).

(2)

انظر: "غريب الحديث" 1/ 120.

(3)

ورد بهامش الأصل: الجادة يأكلونه.

(4)

"مجمل اللغة" 2/ 717.

(5)

"غريب الحديث" 1/ 121.

(6)

"مجمل اللغة" 2/ 645. وفيه: الصنم المذبوح له عِتْرًا.

(7)

رواه عبد الرزاق 4/ 341 (7999).

ص: 306

أي: في العشر الأول منه، وكان يروي فيها شيئًا لا يصح، وأظنه حديث ابن عون، عن أبي رملة، عن مخنف بن سليم مرفوعًا، وقد سلف.

قال ابن بطال: ولا حجة فيه؛ لضعفه، ولو صح لكان حديث أبي هريرة ناسخًا، والعلماء مجمعون على القول بحديث أبي هريرة

(1)

.

قلت: قد أسلفنا أن وكيع بن عدس كان يفعلها.

وفي "الآثار" للطحاوي: وكان ابن عون يعتر

(2)

.

وقال الشافعي: الفرع شيء كان أهل الجاهلية يطلبون به البركة في أموالهم، فكان أحدهم يذبح بكر ناقته أو شاته، فلا يغذوه رجاء البركة فيما يأتي بعده، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"فرعوا إن شئتم" أي: اذبحوا إن شئتم، وكانوا يسألونه عما يصنعون في الجاهلية خوفًا أن يكره في الإسلام، فأعلمهم أن لا كراهة عليهم فيه، وأمرهم استحبابًا أن يغذوه ثم يحمل عليه في سبيل الله. قال: وقوله: "والفرع حق" معناه: ليس (بباطل)

(3)

، وهو كلام عربي خرج على جواب السائل.

وقوله: "لا فرع ولا عتيرة" أي: لا فرع واجب، ولا عتيرة واجبة. قال: والحديث الآخر يدل على هذا المعنى، فإنه أباح الفرع واختار أن يعطيه أرملة أو يحمل عليه في سبيل الله

(4)

.

والصحيح عند أصحابنا -كما قال النووي وهو نص الشافعي- استحباب الفرع والعتيرة.

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 378.

(2)

"شرح مشكل الآثار" 3/ 85.

(3)

في الأصل: بطائل، والمثبت هو الصواب كما في "المعرفة".

(4)

"معرفة السنن" 14/ 74 - 75.

ص: 307

وأجابوا عن قوله: "لا فرع ولا عتيرة" بثلاثة أجوبة:

أحدها: ما تقدم عن الشافعي.

ثانيها: المراد: نفي ما كانوا يذبحونه لأصنامهم.

ثالثها: أنهما ليسا كالأضحية في الاستحباب وفي إراقة الدم، فأما تفرقة اللحم على المساكين فبِرّ وصدقة، وقد نص الشافعي في "سنن حرملة" أنهما إن تيسرتا كل شهر كان حسنًا.

وادعى عياض أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بهما

(1)

.

قال الحازمي: ذهب قوم إلى أن هذِه الآثار منسوخة، وتمسكوا في ذلك بحديث أبي هريرة.

وقال ابن المنذر: معلوم أن النهي لا يكون إلا عن شيء قد كان يفعل، ولا نعلم أن أحدًا من أهل العلم يقول أنه عليه السلام كان نهاهم عنهما ثم أذن فيهما.

وفي إجماع عوام علماء الأمصار أن استعمالهما ذلك موقوف على الأمر بهما، مع ثبوت النهي عن ذلك بيان لما قلناه

(2)

.

وأما الفرع فذكر أبو عبيد أنه بفتح الراء، وكذلك الفرعة: هو أول ما تلده الناقة كما سلف، وقد أفرع القوم: إذا فعلت إبلهم ذلك

(3)

، وذكر شمر أن أبا مالك قال: كان الرجل إذا تمت إبله مائة قدم بكرًا فذبحه لصنمه، فذلك الفرع

(4)

.

(1)

"المجموع" 8/ 428. وانظر: "إكمال المعلم" 6/ 430.

(2)

"الاعتبار" للحازمي ص 122 - 123.

(3)

"غريب الحديث" 1/ 120 - 121.

(4)

"إكمال المعلم" 6/ 421.

ص: 308

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فرعوا إن شئتم، ولكن لا تذبحوا غراة

(1)

حتى تكبر"

(2)

.

وعند عياض: هو أول ما تنتج الناقة، يذبحونه لطواغيتهم

(3)

؛ ورجاء البركة في الأم وكثرة نسلها.

وقيل: العتيرة: نذر كانوا ينذرونه إذا بلغ ملك أحدهم كذا، أن يذبح من كل عشرة منها شاة في رجب.

وذكر الجاحظ في "حيوانه": أن منهم من يجعل عتائره من صيد الظباء

(4)

.

(1)

ورد في هامش الأصل: الغراة بالفتح والقصر: القطعة من الغِرَا، وهي لغة في الغراء، وفي الحديث:"الفرع لا تذبحها وهي صغيرة لم يصلب لحمها فيلصق بعضها ببعض كالغراء". الغراء بالمد والقصر: وهو الذي يُلصق به الأشياء ويتخذ من أطراف الجلود والسمك وهو معروف.

قلت: انظر هذا الكلام في "النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 364.

(2)

رواه عبد الرزاق 4/ 338 (7991)، وابن أبي شيبة 5/ 119 (24297) من حديث إبراهيم بن ميسرة وابن طاوس عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرع، فقال: "أفرعوا إن شئتم وإن تدعوه حتى يبلغ فيحمل عليه في سبيل الله، أو تصل به قرابة خير من أن تذبحه

". ورواه عبد الرزاق 4/ 338 (7992) والحاكم 4/ 236 من قول أبي هريرة في الفرعة: هي حق، ولا تذبحها وهي غراة من الغراء تلصق في يدك، ولكن أمكنها من اللبن

قال الحاكم: صحيح بهذا الإسناد اهـ.

ورواه عبد الرزاق أيضًا 4/ 337 (7989) عن عطاء قال: كان أهل الجاهلية يذبحون في الفرعة من كل خمسين واحدة، فلما كان الإسلام سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:"إن شئتم فافعلوا". ورواه أيضًا عبد الرزاق 4/ 339 (7994) عن مجاهد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرعة فقال: "أفرعوا إن شئتم".

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 429.

(4)

"الحيوان" 1/ 18.

ص: 309

وقال الداودي: العتيرة مباحة، وكذلك الخرس: وهو طعام المولود، والعرس: طعام النكاح، والختان: الإعذار، والنقيعة: طعام القادم من سفره، وقيل: هو الطعام الذي يصنع للقبائل إذا قدموا على قوم ليصلحوا بينهم، والوكيرة: طعام يصنع للبناء، ذكره ابن فارس

(1)

، وذكر ابن حبيب أن العتيرة: الطعام يصنع للميت، والنقيعة: طعام العرس، وقد تقدم أكثر من ذلك فراجعه

(2)

(1)

"مجمل اللغة" 2/ 935 - 936، مادة (وكر).

(2)

ورد بهامش الأصل: آخر الثالث عشر من تجزئة المؤلف.

ص: 310

72

الذبائح والصيد

ص: 311

بسم الله الرحمن الرحيم

‌72 - الذَّبَائِحُ وَالصَّيْدُ

وَالتَّسْمِيَةِ عَلَى الصيْدِ

(1)

.

وَ‌

‌قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} إلى قَوْلِهِ: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]

. وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 1 - 3] وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: العُقُودُ العُهُودُ، مَا أُحِلَّ وَحُرِّمَ {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]

(1)

وقع بأصل "اليونينية" كما هنا، وبهامشها باب التسمية على الصيد، وعليه رمز ابن عساكر الأصل.

وقال الحافظ في "الفتح" 9/ 598:

قوله (كتاب الذبائح والصيد) كذا لكريمة والأصيلي ورواية عن أبي ذر، وفي أخرى له ولأبي الوقت "باب" وسقط للنسفي، وثبتت له البسملة لاحقة، ولأبي الوقت سابقة. ثم قال: قوله (باب التسمية على الصيد) سقط (باب) لكريمة والأصيلي وأبي ذر، وثبت للباقين.

ص: 313

الخِنْزِيرُ. {يَجْرِمَنَّكُمْ} [المائدة: 2]: يَحْمِلَنَّكُمْ {شَنَآنُ} [المائدة: 2]: عَدَاوَةُ {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3]: تُخْنَقُ فَتَمُوتُ {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3]: تُضْرَبُ بِالْخَشَبِ يُوقِذُهَا أهلها فَتَمُوتُ {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3]: تَتَرَدى مِنَ الجَبَلِ {وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3]: تُنْطَحُ الشَّاةُ، فَمَا أَدْرَكْتَهُ يَتَحَرَّكُ بِذَنَبِهِ أَوْ بِعَيْنِهِ فَاذْبَحْ وَكُلْ.

5475 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، قَالَ:«مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهْوَ وَقِيذٌ» . وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْكَلْبِ، فَقَالَ:«مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ -أَوْ كِلَابِكَ- كَلْبًا غَيْرَهُ، فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ -وَقَدْ قَتَلَهُ- فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى غَيْرِهِ» . [انظر: 175 - مسلم: 1929 - فتح: 9/ 599].

ثم ساق حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ المِعْرَاضِ، قَالَ:"مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلهُ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهْوَ وَقِيذٌ". وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الكَلْبِ، فَقَالَ:"مَا أَمسَكَ عَلَيْكَ فَكُله، فَإِنَّ أَخْذَ الكَلْبِ ذَكاتُه، فإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلبِكَ -أَوْ كلَابِكَ- كَلْبًا غَيْرَهُ، فَخَشِيتَ أَنْ يَكُونَ أَخَذَهُ مَعَهُ -وَقَد قَتَلَهُ- فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تَذْكُرْ عَلَى غَيْرِهِ".

الشرح:

هذا الحديث سلف في البيوع، ويأتي في التوحيد

(1)

، وكرره هنا

(1)

سلف برقم (2054) باب: تفسير المشبهات، وسيأتي برقم (7397) باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها.

ص: 314

متنًا، وأخرجه باقي الجماعة

(1)

، ولما ذكر مالك الآية الأولى قال: كل ما تناوله الإنسان بيده أو برمحه أو بشيء من سلاحه فأنفذه وبلغ مقاتله فهو صيد

(2)

.

قال مجاهد: والذي تناله الأيدي الفراخ والبيض، والذي تناله الرماح مما كان كبيرًا

(3)

فاستُدلَّ بهذِه الآية على إباحة الصيد، وعلى منعه.

والأنعام: الإبل والبقر والغنم، وقال قابوس بن أبي ظبيان: ذبحنا بقرة، فأخذ الغلمان من بطنها ولدا ضخمًا قد أشعر فشووه ثم أتوا به أبا ظبيان فقال: أنا

(4)

ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}

(5)

. والأول أبين؛ لأن بعده {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] وليس في الأجنة ما يستثنى، وقيل لها بهيمة؛ لأنها أبهمت عن التميز.

وقوله: ({وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}) أي: محرمون، وواحد حرم: حرام، والشعائر: الهدايا، أي: معلَّمة، وشعيرة: بمعنى مشعرة، وقال مجاهد:{شَعَائِرَ اللهِ} : الصفا والمروة والحرم

(6)

.

(1)

مسلم (1929) كتاب الصيد بالكلاب المعلمة، وأبو داود (2847)، والترمذي (1465)، والنسائي 7/ 180، وابن ماجه (3215).

(2)

"الموطأ" ص 304.

(3)

"تفسير مجاهد" 1/ 203 - 204، ورواه عنه الطبري في "تفسيره" 5/ 40 (12541).

(4)

أي: أخبرنا، مختصرة.

(5)

رواه سفيان الثوري في "تفسيره" ص 99 (232)، والطبري في "تفسيره" 4/ 389 (10926) بنحوه.

(6)

"تفسير مجاهد" 1/ 183، ورواه عنه الطبري في "تفسيره" 4/ 393 (10945) وفيهما جميعًا بدون ذكر: الحرم.

ص: 315

فالمعنى على هذا: لا تحلوا الصيد في الحرم، والتقدير: لا تحلوا لأنفسكم شعائر الله، فمن قال: هي: البدن، فالآية عنده منسوخة، قال الشعبي: ليس في المائدة آية منسوخة إلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ} [المائدة: 2] وقال قتادة: نسختها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وكانوا منعوا من قتالهم في الشهر الحرام، وإذا كانوا آمين البيت الحرام

(1)

.

وقوله: ({وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}) هو رجب.

وقوله: ({وَلَا الْهَدْيَ}) واحد الهدي: هدية مثل: تمرة وتمر،

وقوله: ({وَلَا الْقَلَائِدَ}) قال الضحاك وعطاء: كانوا يأخذون من شجر الحرم، فلا يقربون إذا زوي عليهم

(2)

.

وقوله: ({يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}) قال مجاهد: الأجر والتجارة

(3)

.

وقوله: ({وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}) أمرٌ بعد حظر وليس بحتم.

وقول ابن عباس: (العقود .. ) إلى آخره. أخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي في "تفسيره" عنه، وقد فسر {يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 2] على (العداوى)

(4)

، وقرأ الأعمش بضم الياء

(5)

، وتُقرأ (شنئان) بفتح النون وسكونها، وأنكر السكون من قال: لا يكون المصدر على فعلان.

(1)

رواه عنهما الطبري 4/ 399 - 400 (10969، 10970، 10975، 10976، 10979).

(2)

رواه الطبري عن عطاء 4/ 395 (10954).

(3)

"تفسير مجاهد" 1/ 184، ورواه عنه الطبري 4/ 401 (10987).

(4)

كذا بالأصل. وفي "تفسير الطبري" 4/ 403: العدوان.

(5)

رواه الطبري 4/ 403 (10995) عنه أنه قرأ {يَجْرِمَنَّكُمْ} مرتفعة الياء من: أجرمته أجرمه، وهو يجرمني. قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من قرأ بفتح الياء.

ص: 316

وقوله: ({حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}) هو بسكون الياء، وتشديدها، قال فريق من اللغويين: هما بمعنًى.

وقيل: ({الْمَيْتَةُ}): التي ماتت و (الْمَيِّتَةُ): التي لم تمت بعد.

وروي أنهم كانوا يجعلون الدم في المباعر ثم يشوونها ويأكلونها، فحرم الله تعالى الدم المسفوح: وهو المصبوب.

وقد فسر ({وَالْمُنْخَنِقَةُ}): وكذا {وَالْمَوْقُوذَةُ} يقال: وقذه وأوقذه، و (الموقوذة) من: وقذه، وقوله:(بالخشب يوقذها). من: أوقذ.

وقوله: ({وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}) أي: افترسه فأكل بعضه، وقرأ الحسن بإسكان الباء؛ استثقالًا للضمة، وهي قراءة [المعلى]

(1)

عن عاصم.

وقوله: ({إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}) أصل التذكية في اللغة: التمام، واختلف في هذا الاستثناء فقيل: معناه إلا ما أدركتم من هذِه المسميات ذكاته فذكيتموه، وقال الشافعي: يؤكل

(2)

.

وقال القاضي إسماعيل: معنى الآية: لكن ما ذكيتم من غير هذِه المذكورات فهو حلال، وقال:(هو)

(3)

مثل قوله تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)} [طه: 1 - 3]

(4)

.

(1)

وقع بالأصل: حفص. وهو خطأ، والمثبت من "مختصر شواذ القرآن" لابن خالويه ص 37. قال: وهي لغة لأهل نجد.

(2)

انظر: "مختصر المزني" 5/ 209.

(3)

من (غ).

(4)

انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 383، وفيه أن القاضي إسماعيل استشهد بآية {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} .

ص: 317

فصل:

الاصطياد مباح لمن اصطاد للاكتساب والحاجة والانتفاع بالأكل أو الثمن، واختلف فيمن صاده للهو وتمكن من قصد تذكيته والإباحة والانتفاع، فكرهه مالك وقال: إن كان من شأنه الصيد للذة يجوز شهادته إن كان لم يضيع فريضة وشبهها

(1)

.

وأجازه الليث وابن عبد الحكم

(2)

، فإن فعله بغير نية (التذكية)

(3)

فهو حرام؛ لأنه فساد في الأرض وإتلاف نفس عبثًا، وقد نهى عليه السلام عن قتل الحيوان إلا لمأكله، ونهى أيضًا عن الإكثار من الصيد: ففي حديث ابن عباس مرفوعًا: "من سكن البادية فقد جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن لزم السلطان افتتن".

أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب

(4)

. وأعله الكرابيسي بأبي موسى

(5)

أحد رواته وقال: حديثه ليس بالقائم.

وروي أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد ضعيف

(6)

.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 341.

(2)

انظر "إكمال المعلم" 6/ 357، "المفهم" 5/ 206، وذكر في "النوادر" 4/ 341 عن ابن حبيب قال: وكره الليث الصيد للهو.

(3)

من (غ).

(4)

الترمذي (2256).

(5)

هو أبو موسى اليماني، انظر ترجمته في "الكنى" للبخاري ص 70 (649)، "الجرح والتعديل" 9/ 438، "الثقات" لابن حبان 7/ 664، وذكر الحديث ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" ثم قال: وأبو موسى هذا لا يعرف البتة.

(6)

رواه أبو داود (2860)، وأحمد 2/ 440 من طريق الحسن بن الحكم، عن عدي ثابت، عن شيخ من الأنصار عن أبي هريرة، ورواه أحمد 2/ 371 من طريق الحسن بن الحكم أيضًا عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

ص: 318

وروي أيضًا من حديث البراء بن عازب

(1)

، قال الدارقطني: تفرد به شريك

(2)

.

فصل:

حديث عدي هذا أخرجه هنا عن أبي نعيم: ثنا زكريا، عن عامر، عنه، وسلف في الطهارة، في باب الماء الذي يُغسل به شعر الإنسان، وفي أوائل البيوع في باب تفسير المشبهات من حديث شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، عنه، ثم ذكره من حديث بيان عن الشعبي بلفظ:"وإذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل"

(3)

.

واعترض ابن المنير فقال: ليس في الذي ذكره تعرض [للتسمية]

(4)

المترجم لها إلا آخر الحديث، فعده بيانًا لما أجملته الأدلة من التسمية، وكذلك أدخل الجميع تحت الترجمة، وعند أهل الأصول نظر في المجمل إذا اقترنت به قرينة لفظية مثبتة، هل يكون الدليل المجمل معها أو إياها خاصة

(5)

.

(1)

رواه أحمد 4/ 297 مختصرًا بلفظ: "من بدا جفا". من طريق الحسن بن الحكم -أيضًا- عن عدي بن ثابت عن البراء به. فمدار الحديث على الحسن بن الحكم، قال ابن حبان في "المجروحين" 1/ 233 عنه: لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد، ثم ساق له هذا الحديث.

(2)

انظر: "العلل" 8/ 240 - 241.

(3)

سيأتي برقم (5483) كتاب: الذبائح والصيد، باب: إذا أكل الكلب.

(4)

ليست في الأصل، ومثبتة من "المتواري".

(5)

"المتواري" ص 201 - 202. وانظر: "الفتح" 9/ 603 حيث اعترض على كلام ابن المنير، فقال: وليس ذلك مراد البخاري، وإنما جرى على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده، وقد أورد بعده بقليل من طريق ابن أبي السفر عن الشعبي "إذا أرسلت كلبك وسميت فكل".

ص: 319

وذكره البخاري بألفاظ أخر ستأتي.

ولمسلم: "كل ما خزق، وإذا أرسلت كلبك، فإن أمسك عليك فأدركته حيًا، فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره، وقد قتل: فلا تأكل"

(1)

.

وذكره الإسماعيلي من طرق منها: طريق يحيى بن سعيد، عن زكريابن أبي زائدة؛ ثنا عامر، ثنا عدي. ثم قال: ذكرته لقوله: ثنا عامر

(2)

، ثنا عدي. قال: سألت. الحديث.

وذكره الطحاوي في "اختلاف العلماء" من حديث سعيد بن جبير، عن عدي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا أهل صيد، يرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه الليلة والليلتين، ثم يجد أثره بعدما (وضح)

(3)

، فيجد فيه سهمًا. قال:"إذا وجدت سهمك فيه، ولم تجد به أثر سبع، وعلمت أن سهمك قتله، فكل منه"

(4)

.

ولأبي داود: "إذا رميت بسهمك، فوجدته من الغد ولم تجده في ماء ولا فيه أثر غير سهمك". وفي لفظ: "ما علَّمت من كلب أو باز فكل مما أمسكن عليك"، قلت: وإن قتله قال: "إذا [قتله و]

(5)

لم يأكل منه شيئًا فإنما أمسكه عليك".

(1)

مسلم برقم (1929) كتاب: الصيد والذبائح .. باب: الصيد بالكلاب المعلمة. و (خزق) بزاي بعد خاء معجمة.

(2)

قال في "الفتح" 9/ 600: يشير إلى أن زكريا مدلس وقد عنعنه. اهـ ثم عقب بأنه سيأتي عند البخاري تصريحه بالسماع من الشعبي.

(3)

وقع في "مختصر اختلاف العلماء": نصبح.

(4)

"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 196.

(5)

ليست في الأصول، والمثبت من مصدر التخريج.

ص: 320

وفي لفظ: أحدنا يرمي الصيد فيقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم يجده ميتًا وفيه سهمه أيأكل؟! قال: "نعم إن شاء"

(1)

.

ولابن وهب في "مسنده" -بإسناد لا بأس به- قلت: يا رسول الله، إن أحدنا يصيد الصيد ولم يكن معه شيء يذكيه به إلا مروة أو شقة عصاة، فقال:"أمر الدم بما شئت واذكر اسم الله تعالى".

ولابن منيع البغوي في "معجمه"

(2)

: من حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن عدي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رميته بسهمك وسميت فخزق فكل، وإن لم يخزق فلا تأكل، ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت، ولا يأكل من المعراض إلا ما ذكيتم"، ولابن أبي شيبة في "مصنفه": إن شرب من دمه فلا تأكل، فإنه لم يعلَّم ما علمته، ومن حديث مجالد عن عامر عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: "ما أمسك عليك فكل"

(3)

.

فصل:

اختلف العلماء في التسمية على الصيد والذبيحة: فروي عن نافع مولى ابن عمر ومحمد بن سيرين، والشعبي أنها فريضة، فمن تركها عامدًا أو ساهيًا لم تؤكل، وهو قول أبي ثور وأهل الظاهر

(4)

.

(1)

أبو داود (2849)، (2851)، (2853). بزيادة:"وذكرت اسم الله" بعد: "إذا رميت بسهمك". في الحديث الأول، وزيادة:"ثم أرسلته وذكرت اسم الله" بعد: "أو باز" في الحديث الثاني.

(2)

يقصد أبو القاسم البغوي صاحب "معجم الصحابة"، ولعله سقط (بنت) قبل منيع فهو يعرف بابن بنت منيع، نسبة إلى أحمد بن منيع صاحب "المسند" المشهور وهو جده لأمه. وسبق التعريف به. انظر "سير أعلام النبلاء" 14/ 440.

(3)

"المصنف" 4/ 244 - 245 (19634)، (19642).

(4)

انظر: "المحلى" 7/ 462، "الاستذكار" 15/ 217 - 220.

ص: 321

وذهب مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه إن تركها عامدًا لم تؤكل، وإن تركها ناسيًا أكلت، قال مالك: هو بمنزلة من ذبح ونسي، يأكل ويسمي

(1)

.

قال ابن المنذر: وهو قول ابن عباس وأبي هريرة وابن المسيب والحسن بن صالح وطاوس وعطاء والحسن البصري والنخعي وابن أبي ليلى وجعفر بن محمد والحكم وربيعة وأحمد وإسحاق.

ورواه في "المصنف" عن الزهري وقتادة

(2)

، وقال أشهب: إن لم يتركها استخفافًا أكلت

(3)

.

وقال عيسى وأصبغ: هي حرام عند العمد.

وقال الشافعي: يؤكلان عمدًا ونسيانًا.

روي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس وعطاء وقال ابن عباس: لا يضرك، إنما ذبحت بدينك.

وعن أحمد رواية -وهي المذهب كما قال في "المغني"- أنها شرط إن تركها عمدًا أو سهوًا فهو ميتة.

ورواية: إن تركها على إرسال السهم ناسيًا أكل، وإن تركها على الكلب أو العمد لم تؤكل

(4)

، وقال ابن المنذر: التسمية على الذبح والصيد واجبة؛ بدلالة الكتاب والسنة.

(1)

انظر: "المدونة" 1/ 414، "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 198، "النوادر والزيادات" 4/ 342.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 241 (19595)، (19596).

(3)

"المنتقى" 3/ 104.

(4)

"المغني" 13/ 258، 290.

ص: 322

واحتج أصحاب الشافعي بأن المجوسي لو سمى الله لم ينتفع بتسميته؛ لأن المراعى دينه، وكذا المسلم إذا تركها عامدًا لا يضره؛ لأن المراعى دينه، وبهذا قال سعيد بن المسيب وعطاء وابن أبي ليلى، كما نقله ابن بطال، وكان الأبهري وابن الجهم يقولان: إن قول مالك أن من تعمد ترك التسمية لم تؤكل كراهة وتنزيهًا، ووافقهما ابن القصار.

واستدل ابن القصار على عدم وجوبها بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] فأمر بأكل ذلك، ثم عطف على الأكل بقوله:{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] والهاء في {عَلَيْهِ} ضمير الأكل؛ لأنه أقرب مذكور، لا يقال (أن)

(1)

الهاء في {عَلَيْهِ} عائدة على الإرسال إذ لو كانت شرطًا لذكرت قبله ولم يذكرها بعده، ولما قال:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وقال: [بعد]

(2)

تقدم الأكل {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ} ، لم يَخْل أن يريد بالتسمية على الإمساك الذي قد حصل، فإذا أمسك علينا حينئذٍ سمى، أو يريد التسمية على الأكل فبطل أن يريد بالتسمية بعد الإمساك علينا من غير أكل؛ لأنه ليس بقولٍ لأحد؛ لأن الناس على قولين: إما أن تكون التسمية قبل، أو عند الأكل، وإنما أمر الله تعالى بنسخ أمر الجاهلية التي كانت تذكر اسم طواغيتها على صيدها وذبائحها

(3)

.

وقد روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله: إن ناسًا من أهل البادية يأتوننا بلُحمان، لا ندري

(1)

من (غ).

(2)

ليست بالأصل، ومثبتة من "شرح ابن بطال".

(3)

"شرح ابن بطال" 5/ 380 - 381.

ص: 323

أسموا الله عليها أم لا؟ فقال عليه السلام: "سموا الله عليها وكلوا"

(1)

، وسيأتي في البخاري من حديث أسامة بن حفص، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها

(2)

.

واحتج من أوجبها بحديث الباب، حيث علل له بأن قال: إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره، فأباح أكل الصيد الذي يجد عليه كلبه؛ لأنه ذكر الله عليه، فدليله أنه إذا لم يسم فلا يأكل.

أجاب المخالف أنا إن قلنا بدليل الخطاب فإنا نقول: إن لم يسم فلا يأكل؛ كراهية وتنزيهًا لما أسلفناه من الأدلة.

واحتج أيضًا بالآية، ومن المعنى: أنه شيء قد ورد الشرع فيه أنه فسق يوجب تحريمه أصله سائر الفسوق، وجوابه: أن المراد به {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ} [المائدة: 3]. احتج أصحاب الشافعي بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] إلى قوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فأباح المذكى ولم يذكر التسمية.

فإن قلت: لا يكون مذكى إلا بالتسمية

قلت: الذكاة في اللغة: الشق، وقد وجد.

وقال ابن حزم: احتج المالكيون والحنفيون بما روينا من جهة سعيد بن منصور: ثنا عيسى بن يونس: ثنا الأحوص بن حكيم، عن راشد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمد" وهو مرسل، والأحوص ليس بشيء، وراشد ضعيف. وبخبر آخر من جهة وكيع، ثنا ثور الشامي، عن الصلت -مولى سويد- قال

(1)

"الموطأ" ص 302.

(2)

سيأتي برقم (5507) كتاب: الذبائح والصيد، باب: ذبيحة الأعراب ونحوهم.

ص: 324

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذبيحة المسلم حلال وإن نسي أن يذكر الله"، وهذا مرسل والصلت مجهول.

واحتجوا بقوله: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] وقال عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"

(1)

.

فصل:

قال ابن المنذر: وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ذبح: "باسم الله والله أكبر" قال ابن المنذر: وكان ابن عمر يقول ذلك، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي

(2)

.

وقال الليث: لا يذكر أحدًا ولا يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنكر الشافعي ذلك وقال: لا أرى بأسًا أن يصلي

(3)

.

فصل:

سؤال عدي يحتمل أن يكون لمعرفة طلب الحكم قبل الإقدام عليه، وقد قال بعض أهل العلم: لا يجوز الإقدام على الفعل إلا بعد معرفة الحكم.

ويحتمل أن يكون علم أصل الإباحة، وسأل عن أمور اقتضت عنده الشك في بعض الصور أو قيام مانع من الإباحة التي علم أصلها.

فصل:

اختلف العلماء في ذكاة ما سلف في الآية من المتردية والنطيحة والموقوذة والمنخنقة. فذكر ابن حبيب عن ابن الماجشون وابن

(1)

"المحلى" 7/ 413.

(2)

انظر: "بدائع الصنائع" 5/ 79 - 80، "المغني" 5/ 299، 13/ 290.

(3)

"مختصر المزني" بهامش "الأم" 5/ 212.

ص: 325

عبد الحكم أن ما أصاب هذِه من نثر الدماغ والحشوة أو قرض المصران أو شق الأوداج وانقطاع النخاع فلا يؤكل وإن ذكيت، فأما كسر الرأس ولم ينثر الدماغ أو شق الجوف ولم تنتثر الحشوة ولا انشق المصران أو كسر الصلب ولم ينقطع النخاع، فهذِه تؤكل إن ذكيت إن أدرك الروح فيها ولم تزهق أنفسها، فإن لم يكن من هذِه المقاتل شيء ويئس لها من الحياة، وأشكل أمرها فذبحت فلا تؤكل وإن طرفت بعينها واستفاض نفسها عند الذبح، وقد كان أصبغ وابن القاسم يحلان أكلها ولا يريان دق العنق مقتلًا حتى ينقطع النخاع، قالا: وهو المخ الأبيض الذي في داخل العنق والظهر، وليس النخاع عندنا إلا دق العنق وإن لم ينقطع المخ. كذلك قال ابن الماجشون ومطرف عن مالك، قال ابن حبيب: وأما انكسار الصلب ففيه يحتاج إلى انقطاع المخ الذي في الفقار، فإن انقطع فهو مقتل وإن لم ينقطع فليس بمقتل؛ لأنه قد يبرأ على حدث ويعيش، وقال أبو يوسف والحسن بن حي بقول ابن الماجشون وابن عبد الحكم قالا: إذا بلغ التردي وشبهه حالاً لا تعيش من مثله لم تؤكل وإن ذكيت قبل الموت.

واحتج ابن حبيب لهذا القول فقال: تأويل قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] يعني: في الحياة القائمة فمات بتذكيتكم لا في حال اليأس منها

(1)

؛ لأن الذكاة لا تقع عليها وإن تحركت؛ لأن تلك الحركة إلى الموت من الذي قد سبق إليها؛ لأنه هو الذي أماتها، فإجراء الشفرة عليها وتلك حالها لا يحلها ولا يذكيها، كما أن

(1)

"النوادر والزيادات" 4/ 369 - 370.

ص: 326

المذبوحة التي قد قطعت الشفرة حلقومها وأوداجها إذا سقط عليها جدار قبل زهق نفسها أو أصابها غرق أو تردي لا يضرها ولا يحرمها؛ لأن الذي سبق إليها من التذكية قبل التردي أو غيره هو الذي أماتها وأحلها

(1)

.

وفيها قول آخر: روى الشعبي، عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدًا أو رجلاً فكلها

(2)

.

وعن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم مثله، وإليه ذهب النخعي والشعبي وطاوس والحسن وقتادة وأبو حنيفة والثوري وقالوا: يدرك ذكاته وفيه حياة ما كانت، فإنه ذكي إذا ذكى قبل أن يموت.

وهو قول الأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق، وعليه الجمهور

(3)

.

واحتج له القاضي إسماعيل، وذكر تأويل قتادة وأصحابه في قوله:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] قالوا: يعني: من هذِه إذا طرفت بعينها أو حركت ذنبها أو أذنها أو ركضت برجلها فذكِّ وكل

(4)

. واحتج بعض الفقهاء (لصحته)

(5)

بأن عمر رضي الله عنه كانت جراحته مثقلةً وصحت عهوده وأوامره، ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود، قال

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 382.

(2)

رواه الطبري في "تفسيره" 4/ 411 (11040).

(3)

انظر: "مصنف عبد الرزاق" 4/ 499 - 500، "الاستذكار" 15/ 227 - 228، "التمهيد" 5/ 140 - 144، "المحلى" 7/ 458 - 459، "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 203 - 204، "مختصر المزني" 5/ 209، "المغني" 13/ 314 - 315.

(4)

"المحلى" 7/ 458، وانظر "شرح ابن بطال" 5/ 383 - 384.

(5)

من (غ).

ص: 327

الطحاوي: ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المثقلة التي قد تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة أن ذكاتها الذبح، فكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية ونحوها

(1)

.

وقال إسماعيل بن إسحاق: بلغني عن بعض من يتكلم في الفقه أن قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] إنما هو على ما أكله السبع خاصة، وأحسبه توهم ذلك؛ لأن الاستثناء يلي ما أكل السوابع، وإنما وقع في الاستثناء على ما ذكر في الآية كما قال قتادة:{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي: ولكن ما ذكيتم، كما قال تعالى:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] يعني: ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم، وإنما كان أهل الجاهلية يأكلون كل ما مات وكل ما قتل، فأعلم الله تعالى المسلمين أن المقتولة لا تحل إلا بالتذكية، وأن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع حرام كله، وهي لا تسمى موقوذة حتى تموت بالذي فعل بها، وكذلك المتردية والنطيحة وما أكل السبع، ولو أن متردية تردت فلم تمت من ترديها، أو شاة عضها سبع أو أكل من لحمها ولم تمت من ذلك، لما كانت داخلة في هذا الحكم، ولما سميت أكيلة السبع؛ لأنه لم يقتلها، وإنما تسمي العرب أكيلة السبع التي قتلها فأكل منها وبقي منها، فإن العرب تقول للباقي هذِه أكيلة السبع فنهوا عن ذلك الباقي، وأعلموا أن قتل السَّبُع وغيره مما ذكر لا يقوم مقام التذكية، وإن كان ذلك كله قتلاً؛ لأن في التذكية التي أمر الله بها خصوصًا في تحليل الذبيحة.

(1)

"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 204.

ص: 328

وقال أبو عبيد: أكيلة السبع هو الذي صاده السبع فأكل منه وبقي بعضه، وإنما هو فريسة. والنصب: حجارة حول الكعبة، كان يذبح عليها أهل الجاهلية

(1)

.

فصل:

في حديث عدي فوائد:

أولها: أن قتل الكلب المعلم ذكاة.

ثانيها: أنه إذا أكل فليس بمعلم.

وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة، كما ستعلمه.

ثالثها: إذا شك في الذكاة فلا يأكل؛ لأن الأصل أنه حرام إلا بذكاة، فإذا خالط غير كلبه صار في شك من ذكاته، وهذا مذهب مالك.

رابعها: أن عدم التسمية يمنع الأكل؛ لتعليله في المنع بقوله: "فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ".

خامسها: أن محل الآية السالفة {وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] هو أن يصيب على الوجه المعتاد وهو حد الرمح.

والمعراض: (بكسر الميم)

(2)

خشبة ثقيلة في طرفها حديدة يُرمى الصيد بها، وقد يكون بغير حديدة، فما أصاب بعده فهو وجه ذكاة فيؤكل، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ. وعبارة الهروي: هو سهم لاريش فيه ولا نصل

(3)

.

(1)

من أول الفصل إلى هنا نقله من "شرح ابن بطال" 5/ 379 - 384.

(2)

من (غ).

(3)

انظر: "النهاية" لابن الأثير 3/ 215.

ص: 329

وقال ابن دريد: هو سهم طويل له أربع قُذذ رقاق، فإذا رمي به اعترض

(1)

.

وقيل: هو عود رقيق الطرفين غليظ الوسط، فإذا رمى به ذهب مستويًا.

وقال ابن الجوزي: هو نصل عريض له ثقل ورزانة.

وفي "الموطأ" أن القاسم بن محمد كان يكره ما قتل المعارض والبندقة

(2)

، لعله يريد بعرضه؛ لأنه بينه عليه السلام في حديث عدي هذا.

وقال في "المعونة": المعراض: خشبة عريضة في رأسها كالزُّج، يلقيها الفارس على الصيد، فربما أصابته الحديدة فجرحت وأسالت دمه فيؤكل؛ لأنه كالسيف والرمح، وربما أصابته الخشبة فترضه أو تشدخه، فيكون وقيذًا فلا يؤكل

(3)

، وقال أبو سليمان:(العارض)

(4)

: نصل عريض له ثقل ورزانة

(5)

، وكأن ابن الجوزي أخذ منه.

فصل:

قوله عليه السلام: ("فَإِنَّ أَخْذَ الكَلْبِ ذَكَاته") قد يؤخذ منه أن الكلب لا يشترط في صفة تعليمه ألا يأكل، وهو شرط عند أبي حنيفة والشافعي، خلافًا لمالك وبقوله قال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وعلي وابن عمر وأبو هريرة، ومن التابعين: سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن والزهري وربيعة، وهو قول مالك والليث

(1)

"جمهرة اللغة" 2/ 748.

(2)

"الموطأ" ص 304.

(3)

"المعونة" 1/ 448.

(4)

في "أعلام الحديث": المعراض على الإفراد من المعاريض.

(5)

"أعلام الحديث" 3/ 2065.

ص: 330

والأوزاعي لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، ومن القياس: ذكاة يستباح بها الصيد، فلا يفسد بأكله منه أصله إذا ذبح

(1)

.

وتعلق الأولون بقوله في الباب الآتي: "فإن أكل فلا تأكل، فإنه لم يمسك عليك إنما أمسك على نفسه" قال الأولون: هو عام، فيحمل على الذي أدركه ميتًا من الجري أو الصدمة يأكل منه، فإنه قد صار إلى صفة لا يتعلق بها الإرسال والإمساك علينا، فلذلك لم يكن ممسكًا عليه، يوضحه قوله:"مَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَكُلْه، فَإِنَّ أَخْذَ الكَلْبِ ذَكَاةٌ". والحديث واحد.

ويحتمل أن يريد بقوله: "إِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ" ألا يؤخذ منه غير مجرد الأكل دون إرسال الصيد، ويكون قوله:"فإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ". مقطوعًا مما قبله.

ومعنى: إمساكه علينا -عند القاضي أبي الحسن- أن يمسك بإرسالنا؛ لأن الكلب لا نية له ولا يصح منه ميز هذا، وإنما يتقصد بالتعليم، فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا وعلى نفسه، وكان الحكم مختلفًا بذلك وجب أن يتميز بذلك بنية من له نية وهو مُرْسِلهُ، فإذا أرسله فقد أمسك عليه، وإن لم يرسله فلم يمسكه عليه.

وقال ابن حبيب: معنى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ، أي: مما صدن لكم

(2)

.

وقال القاضي في "شرح الرسالة": في حديث عدي خلاف؛ لأن

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 201 - 202، "بدائع الصنائع" 5/ 52، "مختصر المزني" بهامش "الأم" 5/ 205، "النوادر والزيادات" 4/ 343، "بداية المجتهد" 2/ 885، "الاستذكار" 15/ 283 - 288، "المغني" 13/ 263.

(2)

"النوادر والزيادات" 4/ 342.

ص: 331

هذِه اللفظة

(1)

يقال: ذكرها الشعبي ولم يذكرها (هشام وابن أبي مطر)

(2)

على أنه معارض بما روى أبو ثعلبة الخشني أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل وإن أكل منه" أخرجه أبو داود، ولم يضعفه

(3)

، فيحمل حديث عدي على التنزيه، وحديث أبي ثعلبة على الجواز؛ قالوا: وكان عدي موسعًا عليه فأفتاه بالكف تورعًا، وأبو ثعلبة كان محتاجًا، فأفتاه بالجواز.

قال أبو الحسن: وما كان من طريق همام والشعبي أثبت مما يروى عن عدي، ولم يختلف على همام واختلف على الشعبي، وقد قال بعد:"فإني أخاف أن يكون مما أمسك على نفسه" وهذا علة فيه.

قلت: وفي إسناد أبي داود: داود بن عمرو الدمشقي، وثقه يحيى بن معين، وفي رواية الأزدي: مشهور. وقال أحمد: حديثه مقارب. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال ابن عدي: لا أرى بروايته بأسًا. وقال أبو داود: صالح. وقال أبو حاتم: شيخ. وقال العجلي: ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في "ثقاته"، وكذا ابن شاهين وابن خلفون، وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال العجلي يكتب حديثه. هذا ما نعرفه في ترجمته

(4)

.

(1)

أي: لفظة: "فإنه لم يمسك عليك إنما أمسك على نفسه".

(2)

كذا ذكره نقلا عن القاضي، ولم أقف على كتابه "شرح الرسالة" وكذا وقع في "عمدة القاري" 17/ 207. مع أن الحديث بطريقيه المشهورين إنما هو عن الشعبي وهمام بن الحارث. فكأن الجادة أن يقال: ولم يذكرها همام. ويؤيد ذلك أن ابن حجر ساقها كذلك في "الفتح" 9/ 602. فقال: وسلك بعض المالكية الترجيح فقال: هذِه اللفظة ذكرها الشعبي ولم يذكرها همام.

(3)

أبو داود (2852).

(4)

انظر ترجمته في "معرفة الثقات" 1/ 341، "سؤالات الآجري" 2/ 188 (1558)، "الجرح والتعديل" 3/ 419 - 420، "الثقات" 6/ 281 - 282، "الكامل" لابن عدي 3/ 546 - 547، "تاريخ أسماء الثقات" ص 82، "تهذيب الكمال" 8/ 431.

ص: 332

وأما ابن حزم فغلا وقال: هذا حديث لا يصح، وداود هذا ضعيف، ضعفه أحمد وقد ذكر بالكذب، ثم قال: فإن لجوا وقالوا: هو ثقة. قلنا: لا عليكم وثقتموه هنا، وأما نحن فلا نحتج به ولا نقبله.

وعند ابن حزم: من حديث الثوري، عن سماك، عن مري بن قطري عن عدي قلت: وإن أكل، قال:"نعم".

ولابن سعد عن شيخه

(1)

: ثنا محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري، عن أبي عمير الطائي عن أبي النعمان، عن أبيه

(2)

-وهو (من)

(3)

سعد هُذَيم- قلت: يا رسول الله، إنا أصحاب قنص فقال:"إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذكرت اسم الله، فقتل، فكل"، قلنا: وإن أكل نأكل؟ قال: "نعم". وصح عن ابن عمر أنه قال: "كل مما أكل منه كلبك المعلم"

(4)

.

واحتج بعض المالكية بالإجماع على أنه إذا وجد الكلب ساعة أخذ أنه يؤخذ من فيه ويؤكل، فلو كان أَكْلُهُ منه يمنع من أَكْلِهِ لَوَقَفَ؛ حتى يَنْظُرَ هل يأكل أم لا. قاله في "المعونة"

(5)

، وفي "القنية" للحنفية: لو أرسل كلبه فأخذ صيدًا كثيراً بتسمية واحدة بغير اشتغال الكلب بشيء، ولا ترك، يحل الكل

(6)

.

(1)

أي: محمد بن عمر الواقدي. وابن سعد مشهور به.

(2)

انظر هذا الإسناد في "الطبقات" 1/ 319، في ذكر وقد سعد هُذَيم في الوفود، وأبو عمير الطائي عرفه ابن سعد في موضع آخر 1/ 321 بأنه كان يتيم الزهري.

(3)

وقع في الأصل: ابن، والمثبت من "المحلى".

(4)

"المحلى" 7/ 471.

(5)

"المعونة" 1/ 450.

(6)

انظر: "تحفة الفقهاء" 3/ 67، "تبيين الحقائق" 6/ 55.

ص: 333

‌2 - باب صَيْدِ المِعْرَاضِ

وَقَالَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما فِي المَقْتُولَةِ بِالْبُنْدُقَةِ تِلْكَ المَوْقُوذَةُ: وَكَرِهَهُ سَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ، وَكَرِهَ الحَسَنُ رَمْيَ البُنْدُقَةِ فِي القُرى وَالأَمْصَارِ، وَلَا يَرى بَأْسًا فِيمَا سِوَاهُ.

5476 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ «إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، فَإِذَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ» . فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي. قَالَ «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ، فَكُلْ» . قُلْتُ فَإِنْ أَكَلَ قَالَ: «فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ عَلَيْكَ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ. قَالَ: «لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى آخَرَ» . [انظر: 175 - مسلم: 1929 - فتح: 9/ 603].

حَدَّثنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ المِعْرَاض، فَقَالَ:"إذاً أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وإِذا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ فَإِنَهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ". فَقُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي. قَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ الله فَكُلْ". قُلْتُ فَإِنْ أَكَلَ قَالَ: "فَلَا تَأكُلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يُمْسِكْ (عَلَيْكَ)

(1)

، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ". قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ. قَالَ: "لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَم تُسَمِّ عَلَى آخَرَ".

(1)

في الأصل: عليه، والمثبت هو الموافق لما في "الصحيح".

ص: 334

الشرح:

أثر ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لا يأكل ما أصابته البندقة والحجر.

والآثار بعده قال ابن أبي شيبة: حدثنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، وحدثنا حفص، عن ليث، عن مجاهد، وحدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وحدثنا عبد الأعلى عن هشام، عن الحسن، وحدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر، عن القاسم وسالم به.

ونقل كراهته أيضًا عن الشعبي وعكرمة مولى عبد الله

(1)

.

قال ابن المنذر: وممن روينا عنه أنه كره صيد البندقة ابن عمر والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وروينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: وليتق أحدكم أن يخذف الأرنب بالعصا والحجر ثم يأكل.

وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، عن عمرو بن سعيد، عن عمار: إذا [رميت]

(2)

بالحجر أو البندقة فذكرت اسم الله فكل، وإن قتل؛ ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: ما رد عليك حجرك فكل.

وفي رواية: كُلّ وحشية أصبتها بعصا أو بحجر أو بندقة وذكرت

(1)

"المصنف" 4/ 251 - 252 (19717، 19718، 19720، 19726، 19728، 19732).

(2)

مثبتة من "المصنف".

ص: 335

اسم الله عليه فكل

(1)

.

ونقله أيضًا ابن حزم عن سلمان الخير وابن عمر

(2)

، ونقله ابن المنذر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -أولى إذا أصاب بحده وخزق يؤكل ولا يؤكل ما أصاب بعرضه، وهو قول الأربعة والثوري وإسحاق وأبي ثور وقال الشعبي وابن جبير: يؤكل إذا خزق وبلغ المقاتل.

وفي "كتاب الصيد" للطحاوي: عن مالك: إذا خزق ولم يبعد المقاتل يؤكل، فإن رماه بعود أو عصا فخزق يؤكل.

وكذا إن رماه برمحه أو بمطردة أو حربته، وكان الأوزاعي يحدث أن المعراض خزق أو لم يخزق أن أبا الدرداء وفضالة ومكحولًا لا يرون به بأسًا.

وقال الحسن بن صالح: إن خزق الحجر فكل

(3)

.

وقال ابن بطال: اختلف العلماء في صيد المعراض والبندقة، فقال مالك والثوري والكوفيون والشافعي: إذا أصاب المعراض بعرضه وقتله لم يؤكل، وإن خزق جلده وبلغ المقاتل بعرضه أكل.

وذهب مكحول (والأوزاعي)

(4)

وفقهاء الشام إلى جواز أكل ما قتل المعراض خزق أم لا.

واحتج مالك بقوله تعالى {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] فكل شيء يناله الإنسان بيده أو رمحه، أو بشيء من سلاحه فأنفذه وبلغ مقاتله

(1)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة 4/ 252 (19723، 19728، 19729).

(2)

"المحلى" 7/ 460.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 196 - 197.

(4)

وقع في الأصل: (والشافعي)، والمثبت من (غ)، وهو الموافق لابن بطال.

ص: 336

فهو صيد -كما قال تعالى- ولا حجة لأهل الشام لخلافهم حديث عدي بن حاتم: أن ما أصاب بعرضه فهو وقيذ، والحجة في السنة لا فيما خالفها.

وأما البندقة والحجر: فأكثر العلماء على كراهة صيدهما، وهو عندهم وقيذ؛ لقول ابن عباس: إلا أن تدرك ذكاته. وبه قال النخعي، وذهب إليه الأربعة والثوري وإسحاق وأبو ثور، ورخص في صيد البندقة عمار بن ياسر.

وهو قول سعيد بن المسيب وابن أبي ليلى

(1)

، وبه قال (الشاميون)

(2)

والأصل فيه حديث عدي بن حاتم أنه عليه السلام أباح له أكل ما أصاب بحده ومنعه أكل ما أصاب بعرضه؛ لأنه وقيذ، ولا حجة لمن خالف السنة، وإنما كره الحسن البندقة للقرى والأمصار؛ لإمكان وجودهم للسكاكين وما تقع به الذكاة، وأجازها في (البراري)

(3)

وفي مواضع يتعذر وجود ذلك فيه.

واختلفوا فيما قتلته الجوارح ولم تدمه، فقال الشافعي: لا يؤكل حتى يخزق؛ لقوله تعالى {من الجوارح} ، وقال مرة: يؤكل

(4)

. واختلف ابن القاسم وأشهب فيها على هذين القولين: فقال ابن القاسم: لا يؤكل حتى يدميه ويجرحه. وقال أشهب: إن مات من صدمة الكلب أكل

(5)

.

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 4/ 475 (8524).

(2)

في الأصل: (الشافعيون)، والمثبت من (غ) وهو موافق لابن بطال.

(3)

في (غ): (البوادي).

(4)

"الأم" 5/ 201.

(5)

انتهى كلام ابن بطال 5/ 385 - 386، وانظر:"النوادر والزيادات" 4/ 343، "المنتقى" 3/ 125.

ص: 337

فائدة:

المعراض: سلف بيانه في الباب قبله، والوقيذ: -بالذال المعجمة.

فصل:

قد سلف حكم التسمية عمدًا ونسيانًا، واختلف فيها باللسان وبالقلب، وقيل: النهي عن الأكل إذا لم يسم نهي تنزيه واستحباب، والأمر بالأكل على الإباحة، جمعًا بين الحديثين.

فصل:

قوله: ("فإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ") قد سلف اختلاف العلماء في ذلك.

والحاصل قولان فيما إذا قتل الكلب المعلم الصيد وأكل منه: الحل وهو قول مالك، وعدمه وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: لا يؤكل مما أكل منه ولا مما صاده قبل ذلك مما لم يأكل منه

(1)

، فأما جارحة الطير إذا أكلت فهو كالكلب وغيره.

وقيل: فيه قولان أو وجهان، فإن حسا الجارح دم الصيد ولم يأكل منه شيئًا لم يحرم أكله قولًا واحداً، وعن النخعي والثوري كراهة أكله.

فصل:

المعلم هو الذي إذا أرسله على الصيد طلبه، وإذا زجره انزجر، وإذا أشلاه استشلى

(2)

، وإذا أخذ الصيد أمسكه عليه وخلى بينه وبينه، فإذا تكرر ذلك منه مرة بعد مرة صار معلمًا، ولم يقدر عدد المرات وإنما اعتبر العرف.

(1)

انظر: "المدونة" 1/ 412، "مختصر المزني" 5/ 205، "بدائع الصنائع" 5/ 53.

(2)

أي: دعاه. انظر: "القاموس المحيط" ص 1301 مادة (شلو).

ص: 338

وقال أبو حنيفة وأحمد: إذا تكرر ذلك مرتين صار معلمًا

(1)

.

وقال الحسن: مرة واحدة.

وقال أيضًا هو وأحمد: لا يجوز الاصطياد بالكلب الأسود البهيم

(2)

.

وعن مجاهد وابن عمر: لا يجوز الاصطياد إلا بالكلب المعلم، فإن عقر الصيد ولم يقتله فأدركه وفيه حياة مستقرة غير أنه مات قبل أن يتسع الزمان لذكاته، حل، وقال أبو حنيفة: لا يحل.

فرع:

فإن قتل الصيد بثقله من غير جرح فقولان: أصحهما، الحل.

ورواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة والثاني هو رواية أبي يوسف ومحمد عنه.

فرع:

أرسل مسلم كلب مجوسي، فقتل حل وعكسه لا، وبه قال أحمد والمزني، وقيل: الاعتبار بمالك الكلب دون المرسل

(3)

.

فرع:

في وجوب الغسل من موضع ظفره ونابه وشربه خلاف عندنا، والأصح: نعم

(4)

.

(1)

انظر: "المغني" 13/ 262 كذا قول أبي حنيفة في "المغني"، وفي "بدائع الصنائع" 5/ 53، و"تبيين الحقائق" 6/ 51 عن أبي حنيفة أن حده أن يقول أهل العلم بذلك.

(2)

انظر: "المنتقى" 3/ 123، و"المغني" 13/ 267، "مسائل أحمد" برواية الكوسج 2/ 361.

(3)

انظر: "المغني" 13/ 272.

(4)

انظر: "روضة الطالبين" 3/ 248، و"المجموع" 9/ 123.

ص: 339

فرع:

أرسل سهمًا في الهواء وهو لا يرى صيدًا فأصابه فهل يحل؟ وجهان، وإن رأى صيدًا فظنه حجرًا فرماه فقتله؟ حل، وإن أرسل كلبًا عليه؟ فوجهان

(1)

.

فرع:

يصح ذكاة الصبي والمجنون.

خاتمة:

قال ابن حزم: ما شرد فلم يقدر عليه من حيوان البر أو أنسيه لا يتحاشى (شيئًا)

(2)

طائرًا ولا ذا أربع يحل أكله، فإن ذكاته أن يرمي بما يعمل عمل الرمح أو السهم، أو عمل السيف أو السكين، فإن أصيب بذلك فمات قبل أن تدرك ذكاته فأكله حلال، فإن أدرك حيًّا إلا أنه في سبيل الموت السريع فإن ذبح أو نحو فحسن وإلا فلا بأس، وإن كان لا يموت سريعًا لم يحل أكله إلا بذبح، أو نحر، أو بأن يرسل عليه سبع من سباع الطير أو ذات الأربع، لا ذكاة له إلا بأحد هذين الوجهين

(3)

، وقد اختلف الناس في هذا.

(1)

انظر: "المجموع" 9/ 138.

(2)

من (غ).

(3)

"المحلى" 7/ 459 - 460.

ص: 340

‌3 - باب مَا أَصَابَ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ

5477 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ. قَالَ:«كُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ» . قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَتَلْنَ» . قُلْتُ: وَإِنَّا نَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ. قَالَ: «كُلْ مَا خَزَقَ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ» . [انظر: 175 - مسلم: 1929 - فتح: 9/ 604].

ساق فيه حديث سفيان: عَنْ مَنْصورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ الحَارِثِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نُرْسِلُ الكِلَابَ المُعَلَّمَةَ. قَالَ:"كُلْ مَا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ". قُلْتُ: وَإِنْ قَتَلْنَ؟ قَالَ: "وَإِن قَتَلْنَ". قُلْتُ: إَنَّا نَرْمِي بِالْمِعْرَاضِ. قَالَ: "كُلْ مَا خَزَقَ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ". وقد سلف.

و"خزق": بالخاء والزاي

(1)

المعجمتين، وخسق أيضًا: إذا أصاب الرمية ونفذ فيها خزق يخزق خزوقًا وبالسين في الثلاث أيضًا، وسهم خازق وخاسق أي: نافذ، قال صاحب "العين": كل شيء حاد تَرُزَّهُ في الأرض فَيَرْتَزّ تقول: خزقته.

والخزق والخسق: ينبت والخزق: ما ينفذ

(2)

. وقال ابن التين: خزق: أصابه بحده، وأصل الخزق في اللغة: الطعن.

وفقه الباب سلف في الباب قبله وغيره.

(1)

ورد بهامش الأصل: لا يُحتاج إلى تقييد الزاي بالإعجام؛ لأن كتابتها خلاف كتابة الراء.

(2)

"العين" 4/ 148. وفيه: كل شيء حاد رززته في الأرض أو غيرها فارتز فقد خزقته.

ص: 341

‌4 - باب صَيْدِ الْقَوْسِ

وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ: إِذَا ضَرَبَ صَيْدًا، فَبَانَ مِنْهُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ، لَا تَأْكُلُ الذِي بَانَ منه، وَتَأْكُلُ سَائِرَهُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِذَا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ أَوْ وَسَطَهُ فَكُلْهُ. وَقَالَ الأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدٍ: اسْتَعْصَى عَلَى رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللهِ حِمَارٌ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوهُ حَيْثُ تَيَسَّرَ، ودَعُوا مَا سَقَطَ مِنْهُ، وَكُلُوهُ.

5478 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَبِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ:«أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ» . [انظر: 4588، 5496 - مسلم:1930 - فتح: 9/ 604].

ثم ساق حديث أبي ثعلبة الخشني المخرج عند مسلم والأربعة

(1)

: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الكِتَابِ، أَفَنَاكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ وَبِأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي وَبِكَلْبِي الذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وَبِكَلْبِي المُعَلَّمِ، فَمَا يَصْلُحُ لِي؟ قَالَ: "أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِن أَهلِ الكِتَابِ فَإِن وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِن لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا

(1)

مسلم (1930، 1931) كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة، وباب: إذا غاب عنه الصيد ثم وجده، أبو داود برقم (2855)، الترمذي (1464)، النسائي 7/ 181، ابن ماجه (3207).

ص: 342

صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ المُعَلَّم فَذَكرْتَ اسْمَ اللهِ فَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ غيرَ المُعَلَّم فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ".

الشرح:

أثر الحسن أخرجه ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن يونس عنه في رجل ضرب صيدًا فإن بان منه يدًا أو رجلاً وهو حي ثم مات قال: يأكله، ولا يأكل ما بان منه إلا أن يضربه فيقطعه فيموت من ساعته، فإذا كان ذلك فليأكله كله.

وحدثنا وكيع، عن الربيع عنه وعطاء قالا: إذا ضرب الصيد فسقط منه عضو فلا يأكله -يعني العضو-.

وحدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: إذا ضرب الرجل الصيد فبان عضو منه ترك ما سقط وأكل ما بقي

(1)

.

وفي "الإشراف" عن الحسن خلاف ما سلف قال في الصيد يقطع منه عضو، قال: فأكلنا جميعًا ما بان وما بقي.

وأثر الأعمش أخرجه أبو بكر

(2)

، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن زيد بن وهب ولفظه: سئل ابن مسعود عن رَجل ضرَب رِجل حمار وحش فقطعها قال: دعوا ما سقط وكلوا ما بقي.

وحكاه أيضًا عن علي من حديث الحارث عنه وعن مجاهد

(3)

، وحكاه ابن المنذر عن قتادة قال: وقال ابن عباس وعطاء: لا تأكل العضو وَذَكِّ الصيدَ وكُلْهُ.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 249 - 250 (19694)، (19698)، (19700).

(2)

يعني: ابن أبي شيبة.

(3)

السابق (19692)، (19693)، (19696).

ص: 343

وقال عكرمة: إن عدا حيًّا بعد سقوط العضو منه فلا تأكل العضو وذكِّ الصيد وكله، وإن مات حين ضربه فكله كله

(1)

.

وبه قال قتادة

(2)

وأبو ثور والشافعي كذلك، قال: إذا كان لا يعيش بعد ضربه ساعة أو مدة أكثر منها

(3)

.

وقال مالك: إن ضربه فقطعه باثنين أكلهما، وإن أبان عضوًا فذبحه فكما قال عكرمة، وبه قال الليث وأصحاب الرأي والثوري وإسحاق بن راهويه

(4)

، وفي "التمهيد" عن مالك: إن قطع فخذه لم يؤكل الفخذ وأكل الباقي.

زاد ابن بطال: وإن قطع وسطه أو ضرب عنقه أكل كله

(5)

.

وروى محمد، عن ربيعة ومالك: إذا أبان وركيه مع فخذيه لا يؤكل ما بان منه ويؤكل باقيه

(6)

. وهذا مما لا يتوهم حياته بعده.

وعند ابن شعبان: إذا قطع الرأس هل تؤكل الرأس قولان.

وقال الشافعي: إن قطع قطعتين أكله، وإن كانت إحداهما أقل من الأخرى إذا مات من تلك الضربة، وإن قطع يدًا أو رجلاً أو شيئًا يمكن أن يعيش بعده ساعة أو أكثر، ثم قتله بعد رميه أكل ما لم يبن، ولا يأكل ما بان وفيه الحياة

(7)

.

(1)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 4/ 463 (8468).

(2)

السابق 4/ 463 (8469).

(3)

"الأم" 2/ 356.

(4)

انظر: "المدونة" 1/ 426، و"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 199 - 200.

(5)

"شرح ابن بطال" 5/ 387.

(6)

انظر: "المنتقى" 3/ 119، و"النوادر والزيادات" 4/ 346.

(7)

انظر: "مختصر المزني" 5/ 206 - 207.

ص: 344

وقال أبو حنيفة والثوري: إذا قطعه نصفين أكلا جميعًا، وإن قطع الثلث مما يلي الرأس أكلا جميعًا، إن قطع الثلث الذي يلي العجز أكل الثلثين مما يلي الرأس ولا يأكل الثلث الذي يلي العجز

(1)

.

وحجة ابن مسعود والجماعة أن ما قطع من الصيد قبل أن ينفذ مقاتله؛ فالمقطوع منه ميتة، ولا شك في ذلك.

وكذلك كان أهل الجاهلية يقطعون أسنمة الإبل وهي أحياء، ويأكلونها ثم تكبر الأسنمة وتعود على ما كانت.

قال المهلب: وقول الكوفيين: لا أعلم له وجهًا

(2)

.

فرع: - ذكره ابن التين-: إذا بقيت اليد وشبهها لم تبن معلقة بالجلد ويسير من اللحم لم تؤكل، وإن كانت تجري الروح فيها على هيئتها أكلت.

فصل:

قال الشافعي: إذا رمى رجل صيدًا فكسره، أو قطع جناحه أو بلغ به الحال التي لا يقدر الصيد أن يمتنع فيها من أن يكون مأخوذًا فرماه آخر فقتله كان حرامًا، وكان على الرامي قيمته بالحال التي رماه بها مكسورًا أو مقطوعًا؛ لأنه مستهلك لصيد قد صاده غيره، ولو رماه الأول فأصابه وكان ممتنعًا، ثم رماه الثاني فأثبته كان للثاني، ولو رماه الأول في هذِه الحال فقتله ضمن قيمته للثاني؛ لأنه قد صار له دونه

(3)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 199.

(2)

"شرح ابن بطال" 5/ 388.

(3)

"الأم" 2/ 198.

ص: 345

قال أبو بكر: وبه يقول مالك في الذي يرمي الصيد فيثخنه حتى لا يستطيع الفرار، فرماه آخر بعد ذلك فقتله لم يؤكل إلا بذكاة.

وقال أصحاب الرأي: إذا رمى الرجل صيدًا فأثخنه حتى لا يستطيع التحرك، وسقط فرماه آخر بسهم فقتله لم يؤكل، وقال يعقوب ومحمد: على الآخر قيمته مجروحًا للأول

(1)

.

قال أبو بكر: هذا كما قالوا. وإنما حرم أكله؛ لأنه عليه السلام نهى عن صبر البهائم.

قال: واختلفوا في الشبكة والأحبولة يقع فيهما الصيد فيدركه صاحبه وقد مات.

فقالت طائفة: لا يؤكل إلا أن يدرك ذكاته.

هذا قول النخعي وعطاء وعمرو بن دينار وقتادة وربيعة والشافعي وكذلك قال ابن شهاب ومالك فيما قتلت الحبالة

(2)

.

وقال الثوري: لا يعجبني إلا أن يدركه فيذكيه.

وقد روينا عن الحسن بن أبي الحسن أنه رخص في ذلك، ذكر يونس عنه أنه كان لا يرى بصيد المناجل بأسًا.

وقال: يسم إذا نصبها وذكر قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى بأسًا بما قتل المنجل (والحبل)

(3)

إذا سمى فدخل فيه وجرحه.

والصحيح من قول عطاء أنه لا يجوز أن يأكل ما قتلت الحبولة والموضحة والشبكة؛ جعل أمرها واحداً.

(1)

"المبسوط" 11/ 249.

(2)

انظر: "بداية المجتهد" 2/ 888، "مختصر المزني" 5/ 207، "المجموع" 9/ 136.

(3)

من (غ).

ص: 346

ولا يجوز أكل ما قتلت الأحبولة؛ وقع به جراح أو لم يقع. هذا قول عوام أهل العلم والسنن يدل عليه ما قالوه، وقول الحسن قول شاذ لا معنى له، وفي "القنية" للحنفية: نصب منجلًا لحمار وحش وسمى ثم وجد حمار وحش مجروحًا به ميتًا لا يحل.

فصل:

أجمع العلماء أن السهم إذا أصاب الصيد فجرحه وأدماه، وإن كان غير مقتل فجائز أكله.

وإذا رمى الطائر في الهواء فأرماه

(1)

فسقط إلى الأرض ميتًا لم يدر أتلف في الهواء أو بعد ما صار إلى الأرض؟

فإن سقط فمات فقال مالك: يؤكل إذا أنفذ السهم مقاتله، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي والشافعي وأبي ثور قالوا: وإن وقع على جبل فتردى فمات، أو وقع في ماء ولم ينفذ السهم مقاتله لم يؤكل

(2)

، وإذا رمى الصيد بسهم مسموم فأدرك ذكاته، فكان مالك يقول: لا يعجبني أن يؤكل

(3)

. وبه قال أحمد وإسحاق إذا علم أن السم قتله. وقال غيره: إذا ذكاه فأكله جاز

(4)

.

فصل:

قوله في أثر الحسن وإبراهيم: (وَتَأْكُلُ سَائِرَهُ) أي: باقيه، هذِه اللغة الفصيحة.

(1)

كذا بالأصل وعليها علامة استشكال.

(2)

"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 202 - 203، "مختصر المزني" 5/ 208.

(3)

"النوادر والزيادات" 4/ 345.

(4)

"مسائل الإمام أحمد وإسحاق" برواية الكوسج 2/ 371.

ص: 347

وقد عاب الحريري في "درته" قول من زعم أن سائر بمعنى: الجميع، من قولهم: قدم سائر الحاج واستوفى في سائر الجراح. قال: والدليل على صحة قولنا قوله عليه السلام لغيلان: "اختر أربعًا منهن" يعني من نسائه "وفارق سائرهن"

(1)

قال: ولما وقع سائر بمعنى: الأكثر، منع بعضهم من استعماله بمعنى الباقي الأقل، والصحيح أنه يستعمل في كل باق قل أو كثر؛ لإجماع أهل اللغة على أن معنى قوله في الحديث:"إذا شربتم فأسئروا"

(2)

أي: فأبقوا في الإناء بقية ماء؛ لأن المراد به أن يشرب الأقل ويبقي الأكثر.

فصل:

لما ذكر ابن التين قول الحسن وإبراهيم، وقول إبراهيم أيضًا قال: إنه مشهور مذهب مالك، ووجهه أنه إذا قطع منه ما لا يتوهم حياته بعد، فكأنه أنفذ مقاتله في ضربته تلك فكانت ذكاة لجميعه، بخلاف قطع اليد والرجل، وإن مات بضربه لم تؤكل اليد والرجل، قال: والحمار المذكور في حديث زيد المراد به حمار وحش، أما الأهلي فهو مبني على حل أكله، ولكنه لا يصاد عتيد الأهلي بما يباح به الصيد، فإن كان مذهب عبد الله الحمار الإنسي فإنه يباح أكله بما يباح به أكل الصيد.

فصل:

قوله: (إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الكِتَابِ، أفنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ). الحديث، ولأبي داود: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها قال: "اغسلها وكل فيها".

(1)

انظر: "المسند" 2/ 13 وسبق تخريجه.

(2)

لم أقف عليه مسندًا. وقال أبو عبيد في "غريب الحديث" 1/ 368 ويروى عن جرير بن عبد الله أنه قال لبنيه، فذكره، وانظر "النهاية" 2/ 327.

ص: 348

وفي رواية له من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أفتني في آنية المجوس، إذا اضطررنا إليها، قال:"اغسلها وكل فيها"

(1)

.

وللترمذي: نمر باليهود والنصارى والمجوس فلا نجد غير آنيتهم. قال: "إن لم تجدوا غيرها فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها واشربوا"

(2)

.

وما ذكره في الآنية قال الخطابي: هذا في آنية المجوس ومن يذهب مذهبهم في مس بعض النجاسات وكذا من يعتاد أكل الخنزير لا تستعمل آنيتهم إلا بعد إعواز غيرها.

وقال مالك: من استعار منهم قدرًا نصبوها وداخلها وَدَكُ خنزير يغلى الماء على النار وتغسل به

(3)

، فجعلهم مجوسًا، وقد ذكر أنهم أهل كتاب.

وكذلك بوب عليه البخاري باب: آنية المجوس كما سيأتي قريبًا

(4)

، ولعله يريد أن المجوس أهل كتاب ويريد أن أهل الذمة يتوقون النجاسات بخلافهم.

والطعام في الآية المراد بها: الذبيحة.

فصل:

وقول إبراهيم: (إذا ضربت عنقه أو وسطه فكله) هو بفتح السين من وسط.

(1)

أبو داود (2857).

(2)

الترمذي (1464).

(3)

"أعلام الحديث" 3/ 2070 - 2071.

(4)

سيأتي برقم (5496).

ص: 349

قال ابن فارس: (ضربت وسط رأسه) بالفتح، و (جلست وسط القوم) بالسكون

(1)

؛ لأنه ظرف والأول اسم، وكذا في "الصحاح" قال: وكل موضع يصلح فيه (بين)[فهو وسط]

(2)

وإلا فبالتحريك

(3)

.

(1)

"مجمل اللغة" 2/ 924.

(2)

ليست في الأصل، ومثبتة من "الصحاح".

(3)

"الصحاح" 3/ 1168.

ص: 350

‌5 - باب الْخَذْفِ وَالْبُنْدُقَةِ

5479 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ -وَاللَّفْظُ لِيَزِيدَ- عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَخْذِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْخَذْفِ -أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الْخَذْفَ- وَقَالَ:«إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلَا يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ» . ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ -أَوْ كَرِهَ الْخَذْفَ- وَأَنْتَ تَخْذِفُ! لَا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا. [انظر: 4841 - مسلم: 1954 - فتح: 9/ 607].

ذكر فيه حديث عبد الله بن مغفل -أي بالغين المعجمة-: أَنَّهُ رَأى رَجُلًا يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَخْذِفْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الخَذْفِ -أَوْ كَانَ يَكْرَهُ الخَذْفَ- وَقَالَ:"إِنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلَا يُنْكَأ بِهِ عَدُوٌّ، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ العَيْنَ". ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَخْذِفُ فَقَالَ لَهُ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ نَهَى عَنِ الخَذْفِ -أَوْ كَرِهَ الخَذْفَ- وَأَنْتَ تَخْذِفُ! لَا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا.

الشرح:

هذا الرجل جاء في رواية أخرى أنه قريب لعبد الله، ولمسلم: لا أكلمك أبدًا

(1)

. وروى البخاري في سورة الفتح من التفسير، من حديث عقبة بن صهبان عن ابن مغفل: نهى عليه السلام عن الخذف، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي

(2)

.

(1)

مسلم (1954/ 56) كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة ما يستعان به على الاصطياد ..

(2)

أبو داود (5270)، ورواه النسائي 8/ 48.

ص: 351

والخذف: بفتح الخاء المعجمة ثم ذال ساكنة معجمة أيضًا وهو عند أهل اللغة، كما نقله ابن بطال عنهم: الرمي بالحصى

(1)

أو النوى بالإبهام أو السبابة، والحذف: بالحاء المهملة بالسيف والعصا قال ابن سيده: خذف بالشيء يخذف (خذفًا: رمى)

(2)

، وخص بعضهم به الحصى، والمخذفة التي يوضع فيها الحجر وُيرمَى بها الطير

(3)

. وعن الليث: هو رميك حصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك -أو تجعل مخذفة من خشب ترمي بها بين إبهامك والسبابة

(4)

.

زاد في "الجمهرة": ثم يعتمد باليمين على اليسرى فيخذف بها، والمخذفة: التي يسميها العامة: المقلاع، وهي التي يجعل فيها الحجر ويرمى به؛ ليطرد الطير وغيرها

(5)

.

وفي "مجمع الغرائب": هو رمي الحجر بأطراف الأصابع.

وفي "الصحاح": المخذفة: المقلاع أو شيء يرمى به

(6)

.

وقال الداودي: هو الرمي على ظاهر الإصبع الوسطي وباطن الإبهام كالحصى التي يرمى بها الجمار بمنى.

وقال الليث: الخذف رميك بنواة أو حصاة تأخذها بين سبابتيك، أو تجعل مخذفة من خشب ترمي بها بين إبهامك والسبابة.

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 388.

(2)

تصحفت في الأصل إلى: فارسي. كأنه أسقط (خذ) من: خذفًا، وقرأ (رمى) رسى. والمثبت من "المحكم".

(3)

"المحكم" 5/ 99.

(4)

"تهذيب اللغة" 1/ 998.

(5)

"جمهرة اللغة" 1/ 582.

(6)

"الصحاح" 4/ 1348.

ص: 352

وقال ابن فارس: خذفت الحصى رميتها بين إصبعيك

(1)

، وقيل في حصى الخذف أن يجعلها بين السبابة والإبهام من اليسرى ثم يقذفه بالسبابة من اليمنى.

وقوله: (والبندقة): هي: طين يدور وييبس فيصير كالحصى.

وقال المهلب: أباح الله الصيد على صفة اشترطها، فقال:{تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]. فمعنى: الأيدي: الذبح، ومعنى: الرماح: كل ما رميت به الصيد بنوع من أنواع فعل اليد من الخزق لجلد الصيد وإنفاذه مقاتله. وليس البندقة والخذف بالحجر من ذلك المعنى، وإنما هو وقيذ، وقد حرم الله الموقوذة وبين رسوله (أن)

(2)

الخذف لا يصاد به صيد؛ لأنه ليس من المُجْهِزَات، فدل أن الحجر لا يقع به ذكاة.

وأئمة الفتوى بالأمصار على أنه لا يجوز أكل ما قتلته البندقة أو الحجر، واحتجوا بهذا الحديث.

وأجاز ذلك الشاميون فخالفوه، ولا حجة لمن خالف السنة، وإنما الحجة العمل بها، وقد أسلفنا ذلك قريبًا.

وفيه: أيضًا دلالة أنه لا بأس بهجران من خالف السنة وقطع الكلام عنه، وليس داخلًا تحت النهي عن الهجران فوق ثلاث، يؤيد ذلك أمره عليه السلام بذلك في كعب بن مالك وصاحبيه

(3)

.

وفيه: وجوب تغيير العالم ما خالف العلم

(4)

.

(1)

"مجمل اللغة" 1/ 281.

(2)

من (غ).

(3)

سلف برقم (4418) كتاب: المغازي، باب: حديث كعب بن مالك.

(4)

"شرح ابن بطال" 5/ 388 - 389.

ص: 353

وفيه: منع الاصطياد بالبندق إما محرما وإما كراهة، وبه قال بعض مصنفي الشافعية، وفي بعض المتأخرين جوازه، واستدل على ذلك بحديث الاصطياد بالكلب غير المعلم؛ لأن فيه وفي الاصطياد بقوس البندق تعرض الحيوان للموت من غير مأكله، ومقتضى حديث ابن مغفل جواز الاصطياد به وذكاته، أخذها من أن العلة في النهي على مقتضى الحديث أنه لا ينكأ به العدو ولا يقتل الصيد.

فمقتضى مفهوم هذا أن ما ينكأ العدو ويقتل الصيد لا نهي فيه؛ لزوال علة النهي، وهذا دليل مفهوم.

ولصيد المعراض ثلاثة أحوال: اثنان: ما يباح بهما الأكل وهما: إذا أصاب بحده ولم يدرك ذكاته، أو أصاب بعرضه وأدركت ذكاته، والثالث: لا يباح، وهو ما إذا أصاب بعرضه ولم يدرك ذكاته.

والصيد بقوس البندق ليس فيه إلا حالتان: الإباحة: وهي إدراك ذكاته، والمنع: وهو عدمها؛ إذ لا محدد فيه، ووقوع واحد من ثلاثة أقرب من وقوع واحد من اثنين، فكان صيد المعراض أولى بالجواز من الصيد بالقوس المذكور.

فائدة:

قال عياض في "مشارقه": قوله: "لا ينكأ العدو" كذا الرواية بفتح الكاف مهموز الآخر، وهي لغة، والأشهر: ينكى في هذا ومعناه المبالغة في أذاه

(1)

؛ وقال في "إكماله": رويناه مهموزًا قال: وفي بعض الروايات: ينكى. بفتح الياء وكسر الكاف غير مهموز وهو أوجه هنا؛ لأن المهموز إنما هو من نكأت القرحة، وليس هذا

(1)

"مشارق الأنوار" 2/ 12.

ص: 354

موضعَهُ إلا على تجوز، وإنما هذا من النكاية يقال: نكيت العدو أنكيه

(1)

.

قال صاحب "العين": ونكأت بالهمز لغة فيه

(2)

.

وقال ابن التين: قوله: "لا ينكى به عدو". هو غير مهموز يقال: نكيت في العدو وأنكي إذا قتلت وجرحت، ونكأت القرحة؛ بالهمز.

(1)

"إكمال المعلم" 6/ 393 - 394.

(2)

"العين" 5/ 412.

ص: 355

‌6 - باب مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ

5480 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ، نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ» . [انظر: 5481، 5481 - مسلم: 1574 - فتح: 9/ 608].

5481 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبٌ ضَارٍ لِصَيْدٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» . [انظر: 5480 - مسلم: 1574 - فتح: 9/ 608].

5482 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارٍ، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» . [انظر: 5480 - مسلم: 1574 - فتح: 9/ 608].

ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا لَيسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَارِيَةٍ، نَقَصَ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطَانِ". وهو من أفراده من هذا الوجه.

وعنه: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبٌ ضَارٍ لِصَيْدٍ أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِن أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ". وأخرجه مسلم والنسائي

(1)

.

وعنه: "مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ ضَاريًا، نَقَصَ مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ".

وأخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح. والنسائي

(2)

.

(1)

النسائي 7/ 186 - 187.

(2)

الترمذي (1487) والنسائي 7/ 188.

ص: 356

الشرح:

هذا الحديث سلف الكلام عليه، ولمسلم من حديث عمرو بن دينار، فقيل لابن عمر رضي الله عنهما: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع، فقال ابن عمر:(إن)

(1)

لأبي هريرة زرعًا. وفي حديث أبي الحكم عمران بن الحارث عنه: "من اتخذ كلبًا إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط".

وفي حديث سفيان بن أبي زهير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتنى كلبًا لا يغني عنه زرعًا ولا ضرعًا نقص عمله كل يوم قيراط" وفي حديث أبي هريرة: "قيراطين"

(2)

.

وفيه: رد لما تأوله الملاحدة على أبي هريرة، وإن لم يذكره ابن عمر مرة، وقد ذكره أيضًا عبد الله بن مغفل من حديث الحسن عنه "ما من أهل بيت يرتبطون كلبًا إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم" فهؤلاء ثلاثة تابعوه

(3)

على أنه لا يحتاج إلى متابع.

وهذا أخرجه الترمذي من حديث الحسن عنه وقال: حسن؛ وأخرجه ابن ماجه وقال: "قيراطان"

(4)

.

وكان ابن عمر يجيز اتخاذ الكلب للصيد والماشية خاصةً -على نص حديثه- ولم يبلغه ما روي عنه في ذلك، وحديث سفيان السالف أخرجه

(1)

من (غ).

(2)

مسلم (1571)، و (1574/ 56)، و (1576)، و (1575/ 57) كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، وبيان نسخه ..

(3)

ورد بهامش الأصل: يعني سفيان بن أبي زهير وابن عمر في رواية وابن مغفل.

(4)

الترمذي (1489)، وابن ماجه (3205).

ص: 357

مالك في "الموطأ" عن يزيد بن خُصيفة، عن السائب بن يزيد عنه

(1)

، ويدخل في معنى الزرع: الكرم والثمار وغير ذلك.

ولم يختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] أنه كان كرمًا ويدخل في معنى الزرع والكرم منافع البادية كلها من الطارق وغيره وقد سئل هشام بن عروة، عن اتخاذ الكلب للدار، فقال: لا بأس به إذا كانت الدار منحرفة

(2)

.

فصل:

وذكر القيراط في حديث والقيراطين في آخر، سلف التنبيه عليه.

وقال ابن بطال: ويحتمل -والله أعلم- أنه عليه السلام غلَّظ عليهم في اتخاذها؛ لأنها تروع الناس فلم ينتهوا، فزاد في التغليظ فجعل مكان القيراط قيراطين

(3)

، وكذا قال ابن التين: غلظ عليهم بقيراط ثم زيد فيه قيراطان.

وقد روى حماد بن زيد، عن واصل مولى أبي عيينة

(4)

. قال: سأل سائل الحسن فقال: يا أبا سعيد، أرأيت ما ذكر في الكلب أنه ينقص من أجر أهله كل يوم قيراط فبما ذاك؟ قال: لترويعه المسلم

(5)

.

قلت: ويحتمل أن يكون راجعًا إلى كثرة الأذى وقلته، أو يختلف باختلاف البلدان ففي المدينة قيراطان، وفي غيرها قيراط.

(1)

"الموطأ" ص 600.

(2)

انظر: "التمهيد" 14/ 220.

(3)

"شرح ابن بطال" 5/ 390.

(4)

ورد بهامش الأصل: أبو عيينة بن المهلب بن أبي صفرة.

(5)

انظر "التمهيد" 14/ 222 - 223.

ص: 358

وقال ابن عبد البر: أو يكون ذلك بذهاب أجرة الإحسان إليه؛ لأنه من المعلوم أن الإحسان إلى كل ذات كبد رطبة فيه أجر، لكن الإحسان إلى الكلاب ينقص الأجر، أو يبلغه كما يلحق مقتنيه من السباب

(1)

.

فصل:

يقال: اقتنى الشيء إذا أخذه للقنية لا للتجارة.

وقوله: (" كَلْبٌ ضَارٍ لِصَيْدٍ") أي: معلم. وقوله (ضاريًا) كذا روي، وروي: ضارٍ، وروي ضاري والأول ظاهر والأخيران مجروران، وقيل: إن لفظة "ضار" صفة للرجل الصائد صاحب الكلب؛ سمي بذلك استعارة.

فصل:

قام الإجماع على قتل الكلب العقور، ثم اختلفوا فيما لا ضرر فيه، واستقر النهي عن قتلها قاله النووي

(2)

(3)

، وقال عياض: ذهب كثير من العلماء إلى الأخذ بالحديث في قتل الكلاب إلا ما استثنى منها، وهو مذهب مالك وأصحابه

(4)

؛ قال ابن حزم: ولا يحل قتل الكلاب فمن قتلها ضمنها بمثلها بما يتراضيان عليه إلا الكلب الأسود البهيم، والأسود ذا (النقطتين)

(5)

فإن عظمتا حتى لا يسميان نقطتان في اللغة

(1)

"التمهيد" 14/ 222. والعبارة الأخيرة فيه: أو يبلغه ما يلحق مقتنيه ومتخذه من السيئات.

(2)

ورد بهامش الأصل: وقع فيه للرافعي والنووي (

) وبالجملة فمذهب الشافعي جواز (

) به في "الأم" في باب: الخلاف في ثمن الكلب.

(3)

"مسلم بشرح النووي" 10/ 235.

(4)

"إكمال المعلم" 5/ 242.

(5)

في الأصل: الطفيتين، والمثبت من هامشها حيث كتب: لعله النقطتين. [قلت: ويؤيده بقية قوله بعدُ، وكذا هو في "المحلى"].

ص: 359

العربية لم يجز قتله ولا يحل ملكه

(1)

.

فصل:

هل هذا النقص من ماضي عمله أو من مستقبله، أو قيراط من عمل الليل وقيراط من عمل النهار، أو قيراط من الفرض، وقيراط من النفل؟ فيه خلاف حكاه في "البحر".

فصل:

جميع الكلاب عندنا في الاصطياد سواء كما سلف

(2)

، واستثنى أحمد الكلب الأسود فقال: لا يجوز الاصطياد به؛ لأنه شيطان. وبنحوه قال النخعي والحسن وقتادة وإسحاق

(3)

.

(1)

"المحلى" 9/ 9 - 10.

(2)

ورد بهامش الأصل: في وجه محكي عن أبي علي الفارسي أنه [يحرم] الاصطياد بالكلب الأسود [قال] النووي: وهو شاذ ضعيف.

[قلت: وقع في "المجموع" 9/ 106: قال الشافعي والأصحاب: يجوز الاصطياد بجوارح السباع .. وسواء في الكلاب الأسود وغيره، ولا خلاف في شيء من هذا عندنا إلا وجهًا لأبي بكر الفارسي من أصحابنا أن صيد الكلب الأسود حرام، حكاه الروياني والرافعي وغيرهما، وهو ضعيف بل باطل]. اهـ.

(3)

"المغني" 13/ 267.

ص: 360

‌7 - باب إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] الصَّوَائِدُ وَالْكَوَاسِبُ. {اجْتَرَحُوا} [الجاثية:21]: اكْتَسَبُوا. {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} إلى قَوْلِهِ: {سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4]. وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: إِنْ أَكَلَ الكَلْبُ فَقَدْ أَفْسَدَهُ، إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، والله تعالى يَقُولُ:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} فَتُضْرَبُ وَتُعَلَّمُ حَتَّى يَتْرُكَ. وَكَرِهَهُ ابن عُمَرَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ شَرِبَ الدَّمَ وَلَمْ يَأْكُلْ، فَكُلْ.

5483 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ. فَقَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ قَتَلْنَ، إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ على نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ» . [انظر: 175 - مسلم: 1929 - فتح: 9/ 601].

ثم ساق حديث عدي من حديث بيان عَنِ الشَّعْبِيِّ، عنه: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بهذِه الكِلَابِ. فَقَالَ: "إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ المُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُ وَإِن قَتَلْنَ، إِلَّا أَن يَأكُلَ الكَلْبُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلَابٌ مِن غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ"

الشرح:

حديث عدي سلف، وفسر مجاهد:{مُكَلِّبِينَ} بالكلاب والطير

(1)

.

(1)

"تفسير مجاهد" 1/ 186.

ص: 361

مثل ما فسره البخاري وانفرد طاوس فقال: لا يحل صيد الطير لقوله: {مُكَلِّبِينَ}

(1)

، وليس بشيء؛ لأن معناه مجربين.

والإجماع على خلافه كما نبه عليه ابن التين، وحكاه ابن بطال عن ابن عمر ومجاهد قال: وهو قول شاذ، وكرها صيد الطير والناس على خلافهم؛ لما دل عليه القرآن من كونها كلها جوارح

(2)

.

وقال قوم -فيما حكاه ابن حزم-: لا يجوز أكل صيد بجارحٍ علمه من لا يحل أكل ما ذكى، وروى (عيسى)

(3)

بن عاصم، عن علي أنه كره صيد بازي المجوسي وصقره وكره أيضًا صيد المجوسي

(4)

وعن أبي الزبير، عن جابر قال: لا يؤكل صيد المجوسي ولا ما أصاب بسهمه

(5)

، وعن خصيف: قال ابن عباس: لا تأكل ما صدت بكلب المجوسي وإن سميت؛ فإنه من تعليم المجوسي قال تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ} [المائدة: 4] وجاء نحو هذا القول عن عطاء ومجاهد ومحمد بن علي والنخعي والثوري

(6)

.

وأئر ابن عباس أخرجه معمر بن راشد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه عنه

(7)

، وهذا إسناد جيد.

(1)

روى الطبري في "تفسيره" عن طاوس في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} أنه قال: من الكلاب، وغيرها من الصقور والبِيزان، وأشباه ذلك مما يعلم.

(2)

"شرح ابن بطال" 5/ 393.

(3)

وقع في الأصل: يحيى، والمثبت من "المصنف" و"المحلى".

(4)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 4/ 243 (19622).

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 469 (8495).

(6)

"المحلى" 7/ 476.

(7)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 4/ 473 (8513).

ص: 362

وأثر ابن عمر أخرجه وكيع بن الجراح: ثنا سفيان بن سعيد، عن ليث، عن مجاهد، عنه.

وأثر عطاء أخرجه ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن ابن جريج عنه

(1)

، وذكر عن عدي بن حاتم: إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلم ما علمته، وقال الحسن: إن أكل فكل وإن شرب فكل

(2)

.

وزعم ابن حزم: أن الجارح إذا شرب من دم الصيد لم يضر ذلك شيئًا؛ لأنه عليه السلام إنما حرم علينا أكل ما قتل إذا أكل ولم يحرم إذا ولغ

(3)

.

وأما مسألة الكتاب فقد أسلفنا الخلاف فيها غير مرة.

وقال ابن بطال: اختلف العلماء في أكل الكلب المعلم إذا أكل من الصيد: هل يجوز أكله أم لا؛ فقال ابن عباس: إذا أكل فقد أفسده وأمسك على نفسه.

وقال به من التابعين الشعبي وعطاء وعكرمة وطاوس والنخعي وقتادة؛ وحجتهم حديث عدي بن حاتم، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأصحابه والثوري، والشافعي وأحمد، وإسحاق وأبو ثور قالوا كلهم: إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم فلا يؤكل صيده

(4)

.

ونقله القرطبي عن الجمهور من السلف وغيرهم، منهم ابن عباس وأبو هريرة والزهري في رواية والشعبي وسعيد بن جبير والنخعي وعطاء وعكرمة وقتادة

(5)

، وفيها قول آخر، روي عن جماعة من

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 239 (19572).

(2)

السابق 4/ 244 (19634)، (19635).

(3)

"المحلى" 7/ 474.

(4)

"شرح ابن بطال" 5/ 391.

(5)

"المفهم" 5/ 211 - 212.

ص: 363

الصحابة والتابعين عددتهم فيما سبق أنهم قالوا: كل وإن أكل الكلب ولم يبق إلا نصفه.

ثم ساق

(1)

حديث أبي ثعلبة السالف من عند أبي داود: "فكل وإن أكل منه"

(2)

قال: وقال لي بعض شيوخي: في الظاهر أن حديث أبي ثعلبة ناسخ لحديث عدي. وقال إسماعيل: إنما ذكر في الحديث: "إن أكل فلا تأكل".

قال: ولما ثبت في حديث عدي وغيره، أنه عليه السلام جعل قتل الكلب للصيد تذكية لم يضر ما حدث بعد التذكية من أكل الكلب أو غيره، كما أن البهيمة إذا ذبحت لم يضر لحمها ما حدث فيه بعد التذكية؛ وإنما الكلب بمنزلة السهم أيما أرسلت فذهب بإرسالي إلى الصيد فقتله فكأني أنا قتلته، فكذلك السهم إذا أرسلته من يدي فأصاب الصيد فكأني أنا ذبحت الصيد؛ لأني لا أنال الصيد الذي تناله يدي إلا بذلك، والمعنى في قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] حبسه الصيد حتى جئت فأدركته مقتولًا فلا يضره ما صنع بلحمه بعد التذكية.

قال المهلب: ويحتمل أن يكون معنى قوله عليه السلام: "فإني أخشى أن يكون أمسك على نفسه" إذا أكل الكلب قبل إنفاذ مقاتله وفوات نفسه، وقد أجمع العلماء على أنه إذا أكل الكلب وحياته قائمة حتى مات من أجل أكله أنه غير مذكى ولا يحل أكله وهو معنى الوقيذ.

قال إسماعيل: والذي قالوا: إذا أكل الكلب فلا يؤكل.

(1)

أي ابن بطال.

(2)

أبو داود (2852).

ص: 364

يقولون: إذا أكل البازي والصقر فلا بأس أن يؤكل.

قالوا: لأن الكلب يُنهى فينتهي والبازي والصقر إنما يعلمان (بالأكل)

(1)

وهذا يفسد اعتلالهم، ولو كانت علتهم صحيحة؛ لكان البازي والصقر إذا أكلا أمسكا على أنفسهما أيضًا؛ إذ الطير في معنى الكلاب بأنها جوارح كلها، والجوارح عند العرب الكواسب على أهلها قال تعالى:{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] أي: كسبتم، وقوله تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] وروي عن ابن عمر ومجاهد تلك القولة الشاذة في الطير أنها لا تكون جارحًا

(2)

.

وروي عن قوم من السلف التفرقة بين ما أكل منه الكلب فمنعوه، وما أكل منه البازي فأجازوه، وهو قول النخعي وحماد والثوري وأصحابهم، وحكي أيضًا عن ابن عباس من وجه فيه ضعف.

فصل:

يؤخذ من قوله: "إذا أرسلت" اعتباره، حتى لو استرسل بنفسه فلا يؤكل صيده، وهو قول العلماء، إلا ما حكي عن الأصم من إباحته، وحكاه ابن المنذر أيضًا عن عطاء والأوزاعي: أنه يحل إن كان صاحبه أخرجه لاصطياد، فلو أرسل كلبًا حيث لا صيد فاعترض صيدًا فأخذه لم يحل في المشهور عند الشافعي

(3)

.

(1)

من (غ).

(2)

"شرح ابن بطال" 5/ 391 - 393.

(3)

"الشرح الكبير" 12/ 26.

ص: 365

فصل:

لفظ الصيد يقتضي التوحش المعجوز عنه فلو استأنس الوحش زال عنه اسم الصيد، وإذا غصب كلبًا واصطاد به هل يكون للمالك أو للغاصب؟ والأول يستدل بقوله:"إذا أرسلت كلبك" إذ لم تصد بكلبه.

فصل:

ويستدل أيضًا به من يقول: إن الكلب يملك. ومن منع قال إنه للاختصاص.

قال ابن حزم: لا يجوز بيع الكلاب أصلاً لا كلب صيد ولا كلب ماشية ولا غيرها، فإن اضطر إليه ولم يجد من يعطيه إياه فإنه يبتاعه وهو حلال للمشتري وحرام على البائع ينزع منه الثمن متى قدر عليه كالرشوة، وفك الأسير، ودفع الظلم ومصانعة الظالم

(1)

.

قال: وقد روينا إباحة ثمن الكلب عن عطاء ويحيى بن سعيد وربيعة، وعن إبراهيم إباحة ثمن الكلب للصيد، ولا حجة لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

فصل:

قد أسلفنا قبيل باب صيد المعراض أنه صح عن ابن عمر أنه قال: كل ما أكل منه كلبك المعلم، وقال ابن أبي وقاص: كل وإن لم يبق إلا بضعة.

وعن أبي هريرة وسلمان: كل وإن أكل ثلثيه

(3)

.

(1)

"المحلى" 9/ 9.

(2)

السابق 9/ 12.

(3)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 240.

ص: 366

قال

(1)

: ورويناه أيضًا من طريق رجل لا يعرف من هو ولا يسمى، عن علي. قال: هذا جميع ما شغبوا به ولا حجة لهم فيه، أما حديث أبي ثعلبة فمن طريق داود بن عمرو -وقد سلف كلامه فيه وقد قررنا نفيه- وحديث عمرو صحيفة، وحديث عدي أحد طريقيه من رواية عبد الملك ابن حبيب وقد (رمي بالكذب)

(2)

المحض عن الثقات -قلت: غريب؛ وإنما نسب إلى التساهل في سماعه وكثرة الإجازة- عن أسد بن موسى وهو منكر الحديث -قلت: لا بل هو ثقة- والأخرى عن سماك وهو يقبل التلقين عن مُرَي، وهو مجهول -قلت: حدث عنه سماك (ومالك)

(3)

بن حرب، وذكره ابن حبان في "ثقاته" والحاكم في "مستدركه"

(4)

فزالت عنه الجهالة العينية والحالية

(5)

- وحديث أبي النعمان من رواية الواقدي وهو مذكور بالكذب عن ابن أخي الزهري وهو ضعيف عن أبي عمير، ولا يدرى من هو، عن أبي النعمان وهو مجهول، فسقط كل ما تعلقوا به من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما عن سعد فلا يصح؛ لأنه من طريق حميد بن مالك بن

(1)

أي: ابن حزم، وكل ما سيجيء بعد (قلت) بعدُ فهو من مداخلات المصنف للرد على ابن حزم فلُيعلم.

(2)

في "المحلى": روى الكذب.

(3)

كذا بالأصل، ولم أجد عند أحد ممن ترجم لمرَي أنه روى عنه من يُسمى بمالك بن حرب، بل قال الذهبي في "الميزان" 5/ 220 ترجمته (8442): لا يعرف. تفرد عنه سماك بن حرب، ولما ترجم له المزي في "التهذيب" 27/ 414 لم يذكر في الرواة عنه إلا سماك.

(4)

"الثقات" 5/ 117، "المستدرك" 4/ 240.

(5)

قال ابن حجر في "التقريب"(6578): مقبول من الثالثة. وانظر التعليق قبل السابق.

ص: 367

(الأختم)

(1)

وليس بالمشهور، وعن علي وسلمان كذلك؛ لأنا لا نعلم لابن المسيب (سماعًا من علي)

(2)

ولا (بكر)

(3)

بن عبد الله سماعًا من سلمان ولا كان يعقل إذ مات سلمان؛ لأنه مات أيام عمر، بل هو صحيح عن أبي هريرة وابن عمر واختلف عنهما في ذلك

(4)

، قلت: ابن أخي الزهري وثقوه وسكت عنه هو في موضع من الضحايا.

(1)

كذا بالمحلى، وتشبه في الأصل: الأصم، وضبط في "تهذيب الكمال" 7/ 389 (1536) حميد بن مالك بن خُثيم، ويقال: حميد بن عبد الله بن مالك بن خُثم. روى عن: سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة.

وروى عنه: بكير بن عبد الله الأشج ومحمد بن عمرو بن حلحلة.

قال النسائي: ثقة، وذكره أبو حاتم بن حبان في كتاب "الثقات" اهـ.

وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 1/ 498: ذكره البخاري في "التاريخ" فضبطه فيه الرواة عنه بضم المعجمة وفتح المثناة الخفيفة، وضبطوه في رواية ابن القاسم في "الموطأ" كذلك، ولكن بالمثلثة، وضبطه مسلم كذلك، لكن بتشديد المثناة، وضبطوه في "الأحكام" لإسماعيل القاضي بتشديد المثلثة.

(2)

هذِه العبارة ليست في مطبوع "المحلى" وهو الأوجه المناسب لسابق كلام ابن حزم فهو يتكلم عن طريقين لحديث سلمان، طريق سعيد بن المسيب، وطريق بكر بن عبد الله المزني.

(3)

ضبط في الأصل: بُكير. وهو خطأ، والمثبت من "المحلى" وهو بكر بن عبد الله المزني، سلف تعيينه في كلام ابن حزم في "المحلى".

(4)

"المحلى" 7/ 471 - 472.

ص: 368

‌8 - باب الصَّيْدِ إِذَا غَابَ عَنْهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً

5484 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَمْسَكَ وَقَتَلَ، فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا خَالَطَ كِلَابًا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهَا فَأَمْسَكْنَ وَقَتَلْنَ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهَا قَتَلَ، وَإِنْ رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، لَيْسَ بِهِ إِلاَّ أَثَرُ سَهْمِكَ، فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ» . [انظر: 175 - مسلم: 1929 - فتح: 9/ 610].

5485 -

وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى: عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَرْمِى الصَّيْدَ فَيَقْتَفِرُ أَثَرَهُ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، ثُمَّ يَجِدُهُ مَيِّتًا وَفِيهِ سَهْمُهُ. قَالَ:«يَأْكُلُ إِنْ شَاءَ» . [انظر: 175 - مسلم: 1929 - فتح: 9/ 610].

ذكر فيه حديث عاصم عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا أَرْسَلْتَ كلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَمْسَكَ وَقَتَلَ، فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِذَا خَالَطَ كلَابًا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهَا فَأَمْسَكْنَ وَقَتَلْنَ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أيّهَا قَتَلَ، وَإِنْ رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، لَيْسَ بِهِ إِلَّا أَثرُ سَهْمِكَ، فَكُلْ، وَإِنْ وَقَعَ فِي المَاءِ فَلَا تَأْكُلْ". وقد سلف.

وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى: عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيٍّ، به. قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَرْمِي الصَّيْدَ فيقتفي أَثَرَهُ اليَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، ثُمَّ يَجِدُهُ مَيِّتًا، وَفِيهِ: قَالَ: "يَأْكُلُ إِنْ شَاءَ".

هذا أسنده أبو داود، عن الحسين بن معاذ، عن عبد الأعلى، وعن ابن مثنى، عن عبد الوهاب كلاهما عن داود

(1)

.

(1)

طريق عبد الأعلى رواه أبو داود برقم (2853)، وأما طريق ابن المثنى فذكره المزي في "التحفة" 7/ 276 وعزاه لأبي داود من رواية ابن العبد.

ص: 369

واختلف العلماء في الصيد يغيب عن صاحبه، فقال الأوزاعي: إذا وجد من الغد ميتًا ووجد فيه سهمه أو أثرًا من كلبه فليأكله

(1)

، وهو قول أشهب وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ قالوا: إذا مات ما نفذت الجوارح أو السهم مقاتله ولم يشك في ذلك فليؤكل

(2)

، وروي عن مالك -فيما حكاه ابن القصار- والمعروف عنه خلافه، قال أصبغ: بخلاف الكلب والباز.

قال في "الموطأ" و"المدونة": لا بأس بأكل الصيد وإن غاب عنه مصرعه، إذا وجدت به أثرًا من كلبك أو كان به سهمك ما لم يبت فإذا بات لم يؤكل. وروي عنه الأخذ بظاهر هذا الحديث وبحديث أبي ثعلبة:"فكله بعد ثلاث ما لم يُنتن" وسوى فيه بين السهم والكلب.

وعنه: لا يؤكل شيء من ذلك إذا غاب عنك، وعنه الفرق بين السهم فيؤكل وبين الكلب فلا يؤكل

(3)

.

وقال ابن التين: فيه ثلاث روايات في الكلب والبازي إذا بات ووجد مُنْفَذ المقاتل: يؤكل، لا يؤكل، الفرق بين ما صيد بسهم فيؤكل أو بجارح فلا. وفي رابع: يكره فيهما، قال في رواية ابن القصار: كان صاحب مطلبه أم لا.

وقال أبو حنيفة: إذا توارى عنه الصيد والكلب وطلبه فوجده قد قتله جاز أكله، وإن ترك الكلب الطلب واشتغل بعمل غيره، ثم ذهب في طلبه فوجده مقتولًا والكلب عنده كرهت أكله

(4)

؛ دليله حديث داود، عن

(1)

"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 195.

(2)

"النوادر" 4/ 344، "الاستذكار" 15/ 275.

(3)

انظر: "الموطأ" ص 305، و"المدونة" 1/ 412.

(4)

"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 194 - 195.

ص: 370

الشعبي السالف: (فيقفو أثره) وقال الشافعي: إنه لا يأكله إذا غاب عنه؛ لاحتمال أن يكون غيره قتله، وقال ابن عباس: كُلْ ما أصميت ودع ما أنميت

(1)

، قال أبو عبيد:[الإصماء]

(2)

أن يرميه فيموت بين يديه لم يغب عنه، والإنماء أن يغيب عنه فيجده ميتًا

(3)

.

احتج لأهل المقالة الأولى الذين وافقوا حديث عدي، وقالوا: إنه عليه السلام أجاز أكله بعد يومين وثلاثة إذا وجد فيه أثر سهمه، ألا ترى أنه عليه السلام بين له ما يحل له أكله بشرط إذا وجد فيه أثر سهمه أو سهمه، وهو يعلم أنه قتله فإذا عدم الشرط لم يحل.

واحتج الكوفيون بحديث عدي المذكور معلقًا. فيقال لهم: قد جاء حديث (عدي)

(4)

في أول الباب، وفيه:"فكل" ولم يذكر الاتِّباع فيستعمل الجميع، فيجوز أن يؤكل وإن لم يتبعه إذا كان فيه سهمه ولا أثر فيه غيرُه، ويستعمل خبركم إذا شاهده قد أنفذ مقاتله ثم غاب الصيد عنه ثم وجده على حاله مقتولًا، واستعمال الأخبار أولى من إسقاط بعضها، وأما قولهم: إذا لم يتبعه لم يأمن أن يكون قد صار مقدورًا عليه، فإننا نقول: هذا حكم بشيء مظنون وإنما يجوز أكله إذا لم ير فيه (أثرًا غير كون سهمه فيه)

(5)

، ولو روعي هذا الذي ذكروه لوجب أن يتوقف عن كل صيد؛ لأنه يجوز أن يكون (مات)

(6)

خوفًا

(1)

"الأم" 2/ 192.

(2)

ليست في الأصل، وفي (غ): الإنماء. والمثبت من "غريب الحديث".

(3)

"غريب الحديث" 2/ 292.

(4)

في الأصل: علي، والمثبت من "شرح ابن بطال" وهو الموافق للسياق.

(5)

من (غ).

(6)

في الأصل: شل، وفي (غ): مَلَّ، وما أثبتناه من "شرح ابن بطال".

ص: 371

وفزعًا وإن شاهدناه واتبعناه، وإن وجدنا السهم فيه ولا أثر فيه غيره، فالظاهر أنه مات منه.

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر بالروحاء فإذا هو بوحش عقير فيه سهم قد مات. فقال عليه السلام: "دعوه حتى يجيء صاحبه" فجاء البهزي فقال: يا رسول الله، هي رميتي. فأمره أن يقسمه بين الرفقة وهم محرمون

(1)

، فلو كان الحكم يختلف بين أن يتبعه حتى يجده أو يشتغل عنه ثم يطلبه ويجده؛ لاستفسر الشارع فلما لم (يسكت)

(2)

عن ذلك وقال: "دعوه حتى يجيء صاحبه" ولم يزد: هل كان يتبعه؟ علم أن الحكم لا يختلف، والحجة لقول مالك فيما مضى ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن الرجل يرمي الصيد فيجد فيه سهمه من الغد، قال: لو أعلم أن سهمك قتله لأمرتك بأكله ولكن لا أدري قتله برد أو غيره، وفي حديث آخر عنه: وما غاب عنك ليلة فلا تأكله

(3)

.

قال ابن القصار من المالكية: وهو عندي على الكراهة.

وقوله: ("يَأْكُلُ إِنْ شَاءَ") فيه دليل لأبي حنيفة أنه إن لم يتبعه لا يأكل، وقال محمد: إذا وجده وقد أنفذت مقاتله وكان رماه بسهم أكل، وإن كان بكلب أو باز لم يؤكل.

فصل:

قوله: (فيقتفي أَثَرَهُ). أي: يتبعه، وفي رواية أبي ذر: فيقتفر

(4)

(1)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/ 172.

(2)

كذا بالأصل، وفي "شرح ابن بطال": يسأل.

(3)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 4/ 459 - 460 (8453)، (8454).

(4)

في هامش "اليونينية" 7/ 88 ما يشير إلى أن رواية أبي ذر عن الكشميهني: فيقتفي. وقال ابن حجر في "الفتح" 9/ 611: وفي رواية الكشميهني: فيقتفي، أي: يتبع، وكذا لمسلم والأصيلي. اهـ.

ص: 372

معناه: يتبع أيها، وكذلك تقفرت واقتصر ابن بطال على رواية: فيقتفر، ثم قال: واقتفوت

(1)

الأثر: اتبعته.

فصل:

أخرج مسلم من حديث أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكل ما لم ينتن". وفي روايةٍ في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: "فكله ما لم ينتن فدعه"

(2)

.

وأما ابن حزم فقال: لا يصح -كما سيأتي- لأنه من طريق معاوية بن صالح

(3)

، وقال مرة: إنه ليس بالقوي

(4)

. قلت: أخرج له مسلم هذا الحديث، ووثقه أحمد وابن مهدي وابن سعد وأبو زرعة والعجلي والبزار ويحيى بن معين وابن حبان وابن شاهين وغيرهم، نعم كان ابن سعيد لا يرضاه

(5)

.

واختلف في تأويل قوله: "ما لم ينتن" فمنهم من قال: إذا أنتن لحق بالمستقذر الذي تمجه الطباع فلو أكله جاز، كما جاء أنه أكل إهالة سنخة

(6)

، قال بعضهم أي: منتنة. ومنهم من قال: هو معلل بما يخاف منه من الضرر على آكله وعلى هذا يكون أكله محرمًا إن كان الخوف محققًا.

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 396.

(2)

مسلم (1931) كتاب: الصيد والذبائح، باب: إذا غاب عنه الصيد ثم وجده.

(3)

"المحلى" 7/ 463.

(4)

السابق 7/ 377.

(5)

انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 7/ 521، "معرفة الثقات" 2/ 284 (1746)، "الثقات" 7/ 470 (1995)، "تاريخ أسماء الثقات" ص 220 (1337)، "تهذيب الكمال" 28/ 186 (6058).

(6)

سلف برقم (2069) كتاب: البيوع، باب: شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة.

ص: 373

فصل:

قوله: ("وَإِنْ وَقَعَ فِي المَاءِ فَلَا تَأْكُلْ") هذا محمله على الشك المحقق في السبب القاتل للصيد، والشك تردد بين مجوزين لا ترجيح لأحدهما على الآخر، فما كان كذلك لم يؤكل وأما إذا تحقق أن سهمه أنفذ مقاتله قبل وقوعه في الماء أو شبهه، فمذهب الجمهور: أكله.

وروى ابن وهب فيما ذكره عن مالك كراهته، وعنه إذا سقط في الماء أو وقع من أعلى جبل بعد إنفاذ مقاتله أكل وقبل إنفاذها لا

(1)

، وعن أبي حنيفة والشافعي:[عدم]

(2)

أكله على كل حال ذكره ابن التين وزعم بعض الحنفية أنه إذا رماه فأدماه ثم نزع الخف وخاض في الماء فوجده ميتًا وكان محال لو خاض فيه متخففًا لوجده حيًّا يحل

(3)

. ذكره في "المحيط". وقال القاضي بديع: لا يحل.

ولو رماه في الهواء فلم يصبه فلما عاد السهم إلى الأرض فأصاب صيدًا يحل لبقاء فعله، ولهذا لو أصاب إنسانًا حالة العود أو مالاً يضمن.

فصل:

قال ابن حزم: وسواء أنتن أو لم ينتن، ولا يصح الأثر الذي فيه في الذي يدرك صيده بعد ثلاث:"فكله ما لم ينتن"؛ لأنه من طريق معاوية بن صالح (ولا)

(4)

الخبر الذي فيه: "فإن تغيب عنك فلم يصل"

(5)

؛ لأنه من

(1)

"الموطأ" ص 304.

(2)

ليست بالأصل، وسياق ما جاء في مصادر التخريج يقتضيها. والله أعلم

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 202، و"الاستذكار" 15/ 274.

(4)

في الأصل: قال. والمثبت من (غ).

(5)

أبو داود (2857).

ص: 374

حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ولا الأثر الذي فيه: كل ما أصميت ولا تأكل ما أنميت، وتفسير الإصماء: أن تقعصه، والإنماء: أن يستقل بسهمه حتى يغيب عنه [فيجده]

(1)

بعد ذلك ميتًا، يومًا أو نحوه. كذا روينا تفسيره عن ابن عباس لأن راوي المسند في ذلك محمد بن سليمان بن مسمول وهو منكر الحديث -قلت: قد وثقه يحيى بن معين وذكره ابن حبان في "ثقاته"

(2)

عن عمرو بن تميم، عن أبيه وهو منكر الحديث. قلت: ذكره ابن حبان في "ثقاته" وترجم له البخاري وابن أبي حاتم

(3)

. قال: وأبوه مجهول، ولا الخبر الذي فيه أن رجلاً قال: يا رسول الله، رميت صيدًا فتغيب عني أيامًا فقال عليه السلام:"إن هوام الأرض كثيرة"

(4)

لأنه مرسل، ولا الخبر الذي فيه قال عليه السلام: "لو أعلم أنه لم (يعن على)

(5)

قتله دواب الغار لأمرتك بأكله"؛ لأنه مرسل، وفيه الحارث بن نبهان وهو ضعيف

(6)

.

قلت: بل منكر الحديث كما قاله البخاري وغيره

(7)

.

(1)

ليست في الأصول، والمثبت من "المحلى".

(2)

"الثقات" 7/ 439.

(3)

"التاريخ الكبير" 6/ 318، و"الجرح والتعديل" 6/ 222، "الثقات" 5/ 172.

(4)

"مصنف عبد الرزاق" 4/ 460 (8456).

(5)

في الأصول: يعق عن. والمثبت من "المحلى".

(6)

"المحلى" 7/ 463 - 464.

(7)

"التاريخ الكبير" 2/ 284.

ص: 375

‌9 - باب إِذَا وَجَدَ مَعَ الصَّيْدِ الكلب آخَرَ

5486 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي وَأُسَمِّي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَخَذَ فَقَتَلَ فَأَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . قُلْتُ: إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي أَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ، لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ. فَقَالَ:«لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ» . وَسَأَلْتُهُ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ، فَقَالَ:«إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ، فَإِنَّهُ- وَقِيذٌ فَلَا تَأْكُلْ» . [انظر: 175 - مسلم: 1929 - فتح: 9/ 612].

ذكر فيه حديث شعبة عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي وَأُسَمِّي فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَسَمَّيْتَ فَأَخَذَ فَقَتَلَ فَأَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ". قُلْتُ: إِنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي فأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ، فلَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ. فَقَالَ:"لَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ". وَسَأَلْتُهُ

(1)

عَنْ صَيْدِ المِعْرَاضِ، فَقَالَ:"إِذَا صدت بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ -فَإِنَّهُ وَقِيذٌ- فَلَا تَأْكُلْ".

الشرح:

جمهور العلماء بالحجاز والعراق متفقون أنه إذا أرسل كلبه على الصيد، ووُجِدَ معه كلب آخر ولا يدرى أيهما أخذه، فإنه لا يؤكل ذلك الصيد أخذًا بحديث عدي المذكور، وممن قال ذلك عطاء والأربعة وأبو ثور، وقد بين الشارع المعنى في ذلك فقال:"إنما سميت على كلبك عند إرسالك، ولم تسم على غيره" فينبغي أن يكون

(1)

من (غ).

ص: 376

الصيد بإرسال ونية لله تعالى عند إرساله، وكان الأوزاعي يقول: إذا أرسل كلبه المعلم فعرض له كلب آخر معلم فقتلاه فهو حلال وإن كان غير معلم لم يؤكل. وعبارة القرطبي: الكلب المخالط (محمول)

(1)

[على أنه]

(2)

غير مرسل من صائد آخر وإنه إنما انبعث في حال طلبه الصيد بطبعه ونفسه، ولا يختلف في هذا فأما إذا أرسله صائد آخر على ذلك (الصيد)

(3)

فاشترك الكلبان فيه: فإنه للصائدين، فلو أنفذ أحد الكلبين مقاتله ثم جاء الآخر بعد، فهو للأول

(4)

.

ونقل ابن بطال عن بعض من لقيه: إن كان الكلب المعلم قد أرسله صاحبه فالمسألة إجماع على جواز أكله، ولو أن كلبًا معلمًا انطلق على صيد وأخذه ولم يرسله أحد عليه أنه لا يجوز له أكله؛ لعدم الإرسال والنية وهذا إجماع.

قال ابن المنذر: وإذا اجتمع أصحاب كلاب وأطلقوا كلابهم على صيد وسمى كل واحد منهم، ثم وُجِدَ الصيدُ قتيلًا ولا يدرى من قتله منهم فكان أبو ثور يقول: إذا مات الصيد بينهم فإنه يؤكل وهذا إجماع، فإن اختلفوا فيه وكانت الكلاب متعلقة به كان بينهم، وإن كان مع واحد منهم كان صاحبه أولى، وإن كان قتيلًا والكلاب ناحية أقرع بينهم فمن أصابته القرعة منهم كان له

(5)

.

(1)

في (غ): مجهول.

(2)

ليست في الأصل، وأثبتناه من "المفهم".

(3)

في الأصول: الصائد، والمثبت من "المفهم" وهو الصواب.

(4)

"المفهم" 5/ 209.

(5)

"شرح ابن بطال" 5/ 396 - 397 ومنه نقل المصنف كل الكلام على الباب إلا عبارة القرطبي، وما سيأتي.

ص: 377

وفي الحديث تنبيه على أنه لو وجد حيًّا أو فيه حياة مستقرة فذكُّاهُ حلَّ، ولا يضر كونه اشترك في إمساكه كلبه وكلب غيره؛ لأن الاعتماد حينئذٍ على الإباحة على تذكية الآدمي، لا على إمساك الكلب وإنما تقع الإباحة بإمساك الكلب إذا قتله، وحينئذٍ إذا كان معه كلب آخر لم يحل إلا يكون أرسله من هو من أهل الذكاة.

ص: 378

‌10 - باب مَا جَاءَ فِي التَّصَيُّدِ

5487 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ. فَقَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ على نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ» . [انظر: 175 - مسلم: 1929 - فتح: 9/ 612].

5488 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ حَيْوَةَ. وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ، نَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ، وَأَرْضِ صَيْدٍ أَصِيدُ بِقَوْسِي، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ وَالَّذِى لَيْسَ مُعَلَّمًا، فَأَخْبِرْنِي مَا الَّذِي يَحِلُّ لَنَا مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ:«أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ، تَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَ آنِيَتِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا ثُمَّ كُلُوا فِيهَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ صَيْدٍ، فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، ثُمَّ كُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ ثُمَّ كُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ، فَكُلْ» . [انظر: 5478 - مسلم:1930 - فتح: 9/ 612].

5489 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَوْا عَلَيْهَا حَتَّى لَغِبُوا، فَسَعَيْتُ عَلَيْهَا حَتَّى أَخَذْتُهَا، فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا وَفَخِذَيْهَا، فَقَبِلَهُ. [انظر: 2572 - مسلم: 1953 - فتح: 9/ 612].

5490 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ -مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ -عَنْ نَافِعٍ-مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ- عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،

ص: 379

حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ. وَهْوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، ثُمَّ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطًا، فَأَبَوْا، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ، فَأَبَوْا فَأَخَذَهُ ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:«إِنَّمَا هِيَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللهُ» . [انظر: 1821 - مسلم: 1196 - فتح: 9/ 613].

5491 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مِثْلَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ:«هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ؟» . [انظر: 1821 - مسلم: 1196 - فتح: 9/ 613].

ذكر فيه أربعة أحاديث:

أحدها: حديث عدي وقد سلف وفيه ابن فضيل، وهو محمد.

ثانيها: حديث أبي ثعلبة وقد أخرجه مسلم والأربعة

(1)

. وقد سلف.

وشيخ البخاري فيه أبو عاصم وهو الضحاك بن مخلد بن الضحاك ابن

(2)

مسلم الشيباني مولاهم.

وقد اختلف في اسمه

(3)

واسم أبيه اختلافًا كبيرًا فقيل: جرهم، وقيل: جرهوم بن ناشب، وقيل: ناشم، وقيل: ناشر، وقيل اسمه: الأشر بن جرهم، وقيل: ابن حمير، وقيل: جرثومة بن ناشح وقيل: غير ذلك، وقال ابن الكلبي: اسمه الأشر بن الحشرج بن هبي بن عامر بن مسرف بن حارث بن عمرو بن مر بن وائل بن خُشَين بن

(1)

مسلم (1930) كتاب: الصيد والذبائح، باب: الصيد بالكلاب المعلمة وأبو داود (2855، 2857، 3839)، والترمذي (1464) والنسائي 7/ 181 وابن ماجه (3207).

(2)

من (غ) وهو الموافق لما في "تهذيب الكمال" 13/ 281.

(3)

ورد بهامش الأصل: أي في اسم أبي ثعلبة فاعلمه.

ص: 380

النمر أخي كلب وأسد وغيرهم أبناء وبرة أخي ريان والد جرم بن ريان ابني ثعلبة بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة

(1)

.

قال ابن سعد: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى خيبر فشهد خيبر معه، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خشين وهم سبعة، فنزلوا على أبي ثعلبة، وقال الواقدي: توفي بالشام سنة خمس وسبعين أول خلافة عبد الملك بن مروان

(2)

.

وقال أبو عمر وغيره: كان أبو ثعلبة ممن بايع تحت الشجرة ثم نزل الشام ومات في خلافة معاوية، وقال ابن الكلبي: بايع بيعة الرضوان وأرسله إلى قومه فأسلموا وأخوه عمرو بن الحشرج

(3)

.

الحديث الثالث: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنبَا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَوْا عَلَيْهَا حَتَّى لَغبُوا، فَسَعَيْتُ عَلَيْهَا .. الحديث. وسلف في الهبة.

ومعنى: (أنفجنا): أجرينا، وفي كتاب "الأفعال": نفج الأرنب وغيره نفوجًا: أسرع

(4)

.

وقال صاحب "العين": وأنفجته، وكل ما ارتفع فقد انتفج ورجل نفاج بما لم يفعل

(5)

.

وقال ابن التين: أنفجنا: أثرنا، يقال: نفج الأرنب إذا ثار، وأنفجه صائده أثاره وهو بمعنى ما سلف.

(1)

ذكر ابن حجر في "الإصابة" 4/ 29 الاختلاف في اسمه وضبط -بالحروف- كل اسم ذكره، فانظره.

(2)

"الطبقات الكبرى" 7/ 416.

(3)

"الاستيعاب" 4/ 183. وفيه: جرهم. بدل: الحشرج.

(4)

"الأفعال" ص 262.

(5)

"العين" 6/ 145.

ص: 381

ولغبوا -بفتح الغين-: أعيوا. وقال الجوهري: لغب بالكسر: لغة ضعيفة

(1)

، ومنه: وما {مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} أي: إعياء.

وقوله: (فَبَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا وَفَخِذَيْهَا).

الورك: ما فوق الفخذين بكسر الواو وسكونها لغتان كذا ذكرهما ابن التين، وأهمل ثالثة: فتح الواو وكسر الراء وإسكان ثانيه مع فتح أوله وكسره.

والفخذ: بفتح الفاء وكسر الخاء هذا أصله ويجوز فيه ثلاث لغات غير هذا، سكون الخاء أيضًا وكسر الفاء وسكون الخاء -كَقِدْر- وكسرها؛ وذلك أن كل اسم وفعل على وزن عَلِم وسطه حرف حلق يجوز فيه أربع لغات كما بينا، فمثال الاسم فخذ، ومثال الفعل شهد وبئس ونعم.

الحديث الرابع: حديث أبي قتادة السالف في الحج والجهاد والأطعمة والهبة

(2)

.

وقوله: (تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ) كذا في الأصول، وذكره ابن التين بلفظ:(محرمون)

(3)

ثم قال: [كذا]

(4)

وقع هنا، ولعله خبر مبتدأ محذوف، التقدير: وهم محرمون.

وقوله: (وَهْوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ). قال ابن التين: انظر كيف جاوز الميقات وهو غير محرم.

(1)

"الصحاح" 1/ 220.

(2)

سلف في جزاء الصيد برقم (1821)، وفي الجهاد برقم (2854)، وفي الأطعمة برقم (5406)، وفي الهبة برقم (2570).

(3)

أشار في هامش "اليونينية" 7/ 88 أنها رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي.

(4)

ليست في الأصل، والسياق يقتضيها.

ص: 382

قال أبو عبد الملك: كان هذا في عمرة الحديبية، أحرم عليه السلام من ذي الحليفة وأمر أبا قتادة وأصحابه أن يكشفوا طريق الساحل قبل أن يحرموا، ثم أحرم أصحاب أبي قتادة ولم يحرم هو حتى رأى الحمار.

وقوله: (ثُمَّ سَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطًا، فَأَبَوْا). فيه: أن المحرم لا يعين الحلال على الصيد.

وفي بعض طرق البخاري: "هل أثرتم أو أعنتم" قالوا: لا.

وقال ابن القاسم: إن دل محرم حلالًا أو إنسانًا أو أمر بقتله فلا شيء عليه، إلا أن يأمر عبده فيقتله، فعليه جزاء واحد أو استغفر الله للدال، وكذلك إن ناوله سوطه

(1)

.

وقال عطاء وأحمد وإسحاق والليث: عليه الجزاء، وروي عن أشهب.

وقال ابن وهب: أحبُّ إلى أن يفدي، وهو قول أبي حنيفة واستدل أصحابه بسؤاله أن يناولوه سوطه أو رمحه. وهذا الحديث أصل في جواز أكل ما صاده الحلال لنفسه لا للمحرم، وهو قول فقهاء الأمصار وغيرهم، وقال عبد الله بن عمرو وابن عباس: لا يحل للمحرم أكل الصيد.

واختلف فيما صاده الحلال لأجل المحرم.

قال مالك: لا يأكله المحرم. وسواء أمره المحرم بذبحه أو لا، وبه قال عطاء وأحمد وإسحاق والشافعي وأجاز أكله أبو حنيفة

(2)

.

(1)

"النوادر والزيادات" 2/ 467.

(2)

انظر: "المنتقى" 2/ 241 - 246.

ص: 383

فصل:

قام الإجماع على جواز الصيد للاكتساب وطلب المعاش، وقد سلف ذلك، وقال مالك فيمن كان شأنه الصيد للذة: إن شهادته غير جائزة. وقد أسلفنا هناك أن حديث ابن عباس "من اتبع الصيد غفل" إلا أن الذي يصيد للذة ينبغي أن يعتبر فإن كان يضيع له فرائضه وما يلزمه من مراعاة أوقات الصلاة وشبهها؛ فهذا هو الأمر المسقط لشهادته ولو لم يكن ثم صيد، وإن كان لا يضيع شيئًا يلزمه فلا ينبغي أن ترد شهادته

(1)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 398.

ص: 384

‌11 - باب التَّصَيُّدِ عَلَى الْجِبَالِ

5492 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ -مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ- وَأَبِي صَالِحٍ -مَوْلَى التَّوْأَمَةِ- سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَأَنَا رَجُلٌ حِلٌّ عَلَى فَرَسٍ، وَكُنْتُ رَقَّاءً عَلَى الْجِبَالِ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ مُتَشَوِّفِينَ لِشَيْءٍ، فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ حِمَارُ وَحْشٍ، فَقُلْتُ لَهُمْ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي. قُلْتُ: هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ. فَقَالُوا: هُوَ مَا رَأَيْتَ. وَكُنْتُ نَسِيتُ سَوْطِي، فَقُلْتُ لَهُمْ: نَاوِلُونِي سَوْطِي. فَقَالُوا: لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ. فَنَزَلْتُ فَأَخَذْتُهُ، ثُمَّ ضَرَبْتُ فِي أَثَرِهِ، فَلَمْ يَكُنْ إِلاَّ ذَاكَ، حَتَّى عَقَرْتُهُ، فَأَتَيْتُ إِلَيْهِمْ فَقُلْتُ لَهُمْ: قُومُوا فَاحْتَمِلُوا. قَالُوا: لَا نَمَسُّهُ. فَحَمَلْتُهُ حَتَّى جِئْتُهُمْ بِهِ، فَأَبَى بَعْضُهُمْ، وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ، فَقُلْتُ: أَنَا أَسْتَوْقِفُ لَكُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَدْرَكْتُهُ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِي:«أَبَقِىَ مَعَكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ؟» . قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: «كُلُوا، فَهْوَ طُعْمٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللهُ» . [انظر:1821 - مسلم: 1196 - فتح: 9/ 613].

ذكر حديث ابن وهب: أَنَا عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ نَافِعٍ -مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ- وَأَبِي صَالِحٍ -مَوْلَى التَّوْأَمَةِ- قالا: سمعنا أَبَا قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَأَنَا حِلٌّ عَلَى فَرَسٍ، وَكُنْتُ رَقَّاءً عَلَى الجِبَالِ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ إِذْ رَأَيْتُ النَّاسَ مُتَشَوِّفِينَ فنظرت فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ، وساق الحديث المذكور في الحج.

والتوأمة: بفتح التاء، وواو ساكنة، ثم همزة مفتوحة، وقال ابن التين: فيه روايتان: تُوَمة، على وزن: حُطَمة، وتومة بفتح أوله كما أسلفناه، وقال الداودي: تغيّر أبو صالح هذا بآخره فمن أخذ منه قديمًا مثل ابن أبي ذئب وعمرو بن الحارث فهو صحيح، وذكره هنا

ص: 385

مع نافع لما في حديثه من الزيادة، وهو قوله:(رقاء) إلى قوله: (حمار وحش).

وقال الجياني: كذا رواه ابن السكن، وأبو أحمد، وأبو زيد عن نافع وأبي صالح، إلا أن أبا محمد كتب في حاشية كتابه: هذا خطأ. يعني: أن صوابه عنده: عن نافع وصالح مولى التوأمة. وليس كما ظن، والحديث محفوظ لنبهان أبي صالح لا لابنه صالح، ورواية من ذكرنا من الرواة صواب، كما رووه، والوهَم من أبي محمد، وقد أخبرني أبو (عُمر)

(1)

أحمد بن محمد بن يحيى ابن الحذاء عن أبيه، قال: سألت أبا محمد عبد الغني بن سعيد المصري عن هذا الحديث، وعمن روى فيه: صالح مولى التوأمة فقال: هذا خطأ، إنما هو عن نافع وأبي صالح.

قال: وأبو صالح هذا هو: والد صالح، ولم يأت له غير هذا الحديث فلذلك غَلِطَ فيه من غَلِط، وأبو صالح اسمه: نبهان، وهو مذكور فيمن خرج له البخاري في "الصحيح" يعني في المقرونات

(2)

.

فصل:

نبه البخاري بما ترجم على جواز ارتكاب المشاق لنفسه ودابته لغرض صحيح وهو الصيد، والتصيد على الجبال كهو على السهل في الإباحة سواء، وأن جري الخيل في الجبال والأوعار جائز للحاجة وليس من تعذيب الحيوان والتحامل عليها.

(1)

ضبط في الأصل: عَمرو والمثبت من (غ) وهو الصواب كما في "تقييد المهمل" وانظر ترجمته في "الصلة" 1/ 62 (133) وفيه أيضًا تكنيته بأبي عمر.

(2)

"تقييد المهمل" 2/ 719 - 720.

ص: 386

فصل:

قوله: (رَقَّاءً) ممدود، فقال: من رقى إذا صعِد وطلَع.

وفي قوله: (إذ رأيت الناس متشوفين)، وفي أخرى (فضحك بعضهم) أن التشوف والضحك ليس بإعانة.

ص: 387

‌12 - باب قَوْلِه عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: صيْدُهُ مَا اصْطِيدَ، {وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] مَا رَمَى بِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: الطَّافِي حَلَالٌ. وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: طَعَامُهُ: مَيْتَتُهُ إِلَّا مَا قَذِرْتَ مِنْهَا، وَالْجِرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ اليَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ. وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَيْءٍ فِي البَحْرِ مَذْبُوحٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرى أَنْ يَذْبَحَهُ. وَقَالَ ابن جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: صيْدُ الأَنْهَارِ وَقِلَاتِ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ تَلَا: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} الآية [فاطر: 12]. وَرَكِبَ الحَسَنُ عليه السلام عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ المَاءِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لأَطْعَمْتُهُمْ. وَلَمْ يَرَ الحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا. وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: كُلْ مِنْ صَيْدِ البَحْرِ نَصرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي المُرِي: ذَبَحَ الخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ.

5493 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ: غَزَوْنَا جَيْشَ الْخَبَطِ، وَأُمِّرَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَجُعْنَا جُوعًا شَدِيدًا، فَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا مَيِّتًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَظْمًا مِنْ عِظَامِهِ، فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ. [انظر: 2483 - مسلم: 1935 - فتح: 9/ 615].

5494 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: بَعَثَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَمِائَةِ رَاكِبٍ وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ، فَسُمِّيَ جَيْشَ الْخَبَطِ، وَأَلْقَى الْبَحْرُ حُوتًا يُقَالُ لَهُ: الْعَنْبَرُ، فَأَكَلْنَا نِصْفَ شَهْرٍ وَادَّهَنَّا بِوَدَكِهِ حَتَّى صَلَحَتْ أَجْسَامُنَا. قَالَ: فَأَخَذَ

ص: 388

أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَنَصَبَهُ، فَمَرَّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ، وَكَانَ فِينَا رَجُلٌ فَلَمَّا اشْتَدَّ الْجُوعُ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَهَاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ. [انظر: 2483 - مسلم: 1935 - فتح: 9/ 615].

ثم ساق حديث العنبر من طريق ابن جريج وسفيان، عن عمرو، عن جابر.

الشرح:

في الآية المذكورة خمسة أقوال:

أحدها: قول عمر: (طعامه: ما رمى به) والهاء في (طعامه) عائدة على البحر، وكذلك في قول ابن عباس: طعامه ما ردع؛ لأنه ينبتّ. وكذلك قول سعيد بن جبير: طعامه: الملح منه ما كان طريًّا، وقيل: طعامه: أكله، فالهاء في (طعامه) على الصيد؛ لأنه كان يجوز أن يحل لنا صيد دون أكلِه ونحن حرم، وكذلك في قولة من قال:(طعامه): طعام الصيد، أي: قد أحل لنا ما نجد في جوفه من حوت أو ضفدع

(1)

.

ونقل ابن بطال عن ابن عباس: طعامه: ما لفظه فألقاه ميتًا. وقال ابن عباس: أشهد على الصديق لسمعته يقول: السمكة الطافية حلال لمن أكلها، وقال: عن عمر وزيد بن ثابت وعبد الله بن (عمر)

(2)

وأبي هريرة رضي الله عنه مثل قول ابن عباس في تأويل الآية، ثم روى القول الآخر عن ابن عباس فقال: ورُويَ عن ابن عباس قول آخر: (طعامه): مملوحه. وقال عن سعيد بن المسيب والنخعي ومجاهد وابن جبير مثله، ومن قال:(طعامه): مملوحه، كره أكل ما طفا منه، وروي ذلك عن جابر وابن عباس وعن طاوس وابن سيرين والكوفيين: لا يؤكل الطافي إذا مات

(1)

انظر: "تفسير الطبري" 5/ 68 - 70.

(2)

وقع في "شرح ابن بطال": عمرو.

ص: 389

حتف أنفه ولفَظَهُ البحرُ ميتًا ولا يؤكل من البحر غير السمك. وقال مالك: يؤكل كل حيوان في البحر، وهو حلال -حيًّا كان أو ميتًا- وهو قول الأوزاعي

(1)

وابن حزم قال: سواء وجد حيًّا أو ميتًا طفا أو لم يطف أو قتله حيوان بري أو بحري، أو مجوسي، أو وثني، أو غيرهما، وسواء خنزير الماء وإنسانه أو كلبه حلال وخالف في ذلك أبو حنيفة وقاله أيضًا الليث

(2)

، وأجاز الشافعي خنزير الماء

(3)

، وكرهه مالك أي: من غير تحريم. قاله ابن القصار، وكذا قال ابن القاسم: لا أُراه حرامًا

(4)

.

وحديث الباب حجة على الكوفيين ومن وافقهم؛ لأن أبا عُبيدة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلوا الحوت الذي لفظه البحر ميتًا، ولا يجوز أن يخفى عليهم وجه الصواب في ذلك وأكلوا الميتة وهم ثلثمائة رجل.

وقال بعض المالكية: إنهم لم يأكلوه على وجه ما يؤكل عليه الميتة عند الضرورة إليها، وذلك أنهم قاموا عليه أيامًا تأكلون منه والمضطر إلى الميتة إنما يأكل منها ثم ينتقل بطلب المباح.

وقوله: ({أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}) يقتضي عمومه إباحة كل ما في البحر من جميع الحيوان حوتًا كان أو غيره مما يصطاد خنزيرًا كان أو كلبًا أو ضفدعًا، ويشهد لذلك الحديث المشهور "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي هريرة

(5)

، وصححه

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 400.

(2)

"المحلى" 7/ 393 - 394.

(3)

انظر "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 214، "الاستذكار" 15/ 305.

(4)

"المدونة" 1/ 420، وانظر "شرح ابن بطال" 5/ 400.

(5)

أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي 1/ 50، وابن ماجه (386)، وأحمد 12/ 171.

ص: 390

الترمذي والبخاري وابن خزيمة وابن حبان

(1)

وابن السكن، وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان من حديث جابر

(2)

، وهذا أصح ما في الباب.

فأطلق على جميع ميتته وأباحها؛ فسقط قول الكوفيين، وُيزيل ما قد يُتوهم أن الشارع قد أكل منه في المدينة بعد ما قدموا وأخبروه بذلك كما سيأتي، وقد قال الصديق: كل دابة في البحر فقد ذكاها الله لكم. ولم يخص ولا مخالف له، وأيضًا فإن البحر لما عفي عن الذكاة فيما يخرج منه عفي عن مراعاة صورها، وبعضها كصور الحيات، وكذا صورة الدابة التي يقال لها العنبر خارجة عن عادات السمك، ولم يحرم أكلها، وأيضًا فإن اسم سبع وكلب وخنزير لا يتناول حيوان الماء؛ لأنك تقول: خنزير الماء، وكلب الماء بالإضافة، والخنزير المحرم مطلق لا يتناول إلا ما كان في البر خاصة، وكذلك الجِرِّيّ داخل في صيد البحر، ولم يُروَ كراهيته إلا عن علي بإسناد لا يصح

(3)

، وأجازه الكوفيون؛ لأنه داخل في عموم السمك وحرموا الضفادع، وبه قال الشافعي

(4)

.

قلت: إنما يحرم عندنا حيث كانت تعيش في بر وبحر، وكذا السرطان والحية، والأصح عندنا أن كل ما في البحر يطلق عليه اسم السمك.

(1)

"علل الترمذي" 1/ 135 - 136، "صحيح ابن خزيمة" 1/ 59 (111)، "صحيح ابن حبان" 4/ 49 (1243).

(2)

ابن ماجه (388)، وابن حبان 4/ 51 (1244).

(3)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 4/ 536 (8774) عن عثمان بن مطر، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس بن عَمرو أن عليًّا كان يكره من الشاة الطحال، ومن السمك الجري، ومن الطير كل ذي مخلب.

(4)

انظر: "شرح ابن بطال" 4/ 401.

ص: 391

فصل:

وأثر أبي بكر رضي الله عنه: الطافي حلال. أخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أشهد على أبي بكر أنه قال: السمكة الطافية على الماء حلال

(1)

.

زاد الطحاوي في "كتاب الصيد": (حلال)

(2)

لمن أراد أكله.

وروى الدارقطني من حديث موسى بن داود: ثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت شيخًا يكنى أبا عبد الرحمن: سمعت أبا بكر الصديق يقول: ما في البحر من شيء إلا قد ذكاه الله لكم، ومن حديث عباد بن يعقوب، ثنا شريك، عن (ابن أبي بشير)

(3)

، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت أبا بكر رضي الله عنه يقول: إن الله قد ذبح لكم ما في البحر، فكلوه كله، فإنه ذكي، وفي لفظ: أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء

(4)

.

فائدة: الطافي: ما على على الماء ولم يرسب، وهو غير مهموز من طفا يطفو.

فصل:

وأثر ابن عباس: طعامه: ميتته إلا ما قذرت منها. أخرجه ابن أبي شيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن محمد بن صخر، عن محمد بن كعب عنه وذكر قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]

(1)

"المصنف" 4/ 254 (19749).

(2)

من (غ).

(3)

كذا بالسنن، ووقع بالأصول: أبي بشر. وانظر إسناد ابن أبي شيبة السابق.

(4)

"سنن الدارقطني" 4/ 269 - 270.

ص: 392

ما ألقى البحر على ظهره ميتًا وفي رواية أبي مجلز عنه: طعامه ما قذف

(1)

.

فصل:

وقوله: (وَالْجِرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ اليَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ). هو بفتح الجيم كما ذكره عياض

(2)

، وفيه الكسر أيضًا، وبه ضبطه الدمياطي بخطه، وهو ما لا قشر له من الحوت وهذا عن ابن عباس أيضًا أخرجه ابن أبي شيبة من حديث عبد الكريم، عن عكرمة: سئل ابن عباس عن الجري، فقال: لا بأس به إنما يحرمه اليهود ونحن نأكله.

وعن علي بن أبي طالب وذكر الجري: كثير طيب يشبع العيال. وفي لفظ آخر: نأكله ولا نرى به بأسًا، وعنه: أنه كرهه.

وعن إبراهيم: لا بأس به وعليك بأذنابه. وفي لفظ: لا بأس بالجريث.

وقال سعيد بن جبير: هو من السمك إن أعجبك كله.

ولما سئل ابن الحنفية عن الجري والطحال وأشباههما مما يكره أكله: تلا {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] وقال عطاء: لما سئل عن الجري: كل ذنب سمين منه

(3)

.

وقال الحسن: هو من صيد البحر لا بأس به بالمرماهيك وفي لفظ: لا يرى بأكل الجريث بأسًا

(4)

.

(1)

"المصنف" 4/ 255 (19758 - 19762).

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 145.

(3)

كذا في الأصل، وفي "المصنف"(ريب) بدل (ذنب) وعلى أي منهما فالمعنى غير واضح، ووقع في "عمدة القاري" 17/ 222: كُلْ كُلَّ ذنيب سمين منه.

(4)

انظر "مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 145 - 146.

ص: 393

وإلى أكله ذهب مالك وأصحابه وقال ابن حبيب: أنا أكرهه؛ لأنه يقال: إنه من المسوخ

(1)

. وفي "الغريبين": الجري: الجريث أراه الحوت هو المرماهي وهو نوع من السمك.

وروينا في "مسند إسحاق بن راهويه": ثنا النضر بن شميل، ثنا أبو محمد العاقلاني، عن همام، عن رجل سماه قال: رأيت عمار بن ياسر على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فأتى اللحامين فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أن لا تأكلوا الحشا. قال النضر: يعني: الطحال قال: وأتى السماكين فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم لا تأكلوا السلور والأنقليس. قال النضر: يريد أحدهما: الجري، والآخر: المرماهي.

قال الأزهري: المارماهي بالفارسية، وهي لغة في الجريث وهو: نوع من السمك يشبه الحيات

(2)

، وقيل: سمك لا قشر له. والأنقليس شبه الحيات رديء الغذاء، وهي: المارماهي بالفارسية والسلور مثله.

فصل:

وقوله: (وَقَال شُرَيْحٌ صَاحِبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَيْءٍ فِي البَحْرِ مَذْبُوحٌ).

أخرجه أبو نعيم في كتاب "الصحابة" حدثنا الحسين بن محمد بن علي، ثنا (القاسم الكوكبي)

(3)

، ثنا خالد بن سليمان الصدفي، ثنا

(1)

"المنتقى" 3/ 128.

(2)

"تهذيب اللغة" 1/ 593 - 594 مادة (جريث).

(3)

كذا بالأصل، وفي "معرفة الصحابة": حدثنا الحسن بن القاسم، حدثنا الكوكبي. ووقع في "سنن الدارقطني" 4/ 269: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي. وهو الصواب، وهو شيخ الدارقطني، معروف. انظر "تاريخ بغداد" 8/ 86.

ص: 394

أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن شريح بن أبي شريح الحجازي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله جل وعز ذبح ما في البحر لبني آدم". قال أبو نعيم: كذا رواه خالد، عن أبي عاصم مرفوعًا، ورواه مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج موقوفًا، ورواه عبد الوهاب بن نجدة، عن شعيب بن إسحاق، عن ابن جريج كذلك

(1)

، ولما روى الدارقطني هذا الحديث مرفوعًا قال فيه: عن (أبي شريح)

(2)

. وروى ابن أبي عاصم في "الأطعمة" بإسناد جيد، عن عمرو بن دينار قال: سمعت شيخاً كبيرًا يحلف بالله ما في البحر دابة إلا قد ذبحها الله لبني آدم.

قال سفيان - الراوي عنه-: قال غيره: أبو شريح الخزاعي.

وقال الجياني: هذا التعليق لم يكن في رواية أبي زيد وأبي أحمد وأبي علي، وفي أصل أبي محمد: وقال (أبو)

(3)

شريح. وهو وهَم، والحديث محفوظ لشريح لا لأبي شريح

(4)

وكذا ذكره البخاري في "تاريخه" عن مسدد، ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، أخبرني عمرو وأبو الزبير؛ سمعا شريحًا

(5)

.

فائدة:

شريح هذا صحابي -كما جزم به البخاري- حجازي روى عنه

(1)

"معرفة الصحابة" 3/ 1479 (1425).

(2)

كذا قال المصنف، والذي في مطبوع "سنن الدارقطني" 4/ 269: شريح. ولم يذكر في "التعليق المغني" اختلاف نسخ.

(3)

وقع بالأصول: ابن، والمثبت من "تقييد المهمل".

(4)

"تقييد المهمل" 2/ 720 - 721

(5)

"التاريخ الكبير" 4/ 228.

ص: 395

أبو الزبير وعمرو بن دينار سمعاه يحدث عن أبي بكر الصديق قال: كل شيء في البحر مذبوح، ذبح الله لكم كل دابة خلقها في البحر. قال أبو الزبير وعمرو بن دينار: وكان شريح هذا قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو حاتم: له صحبة

(1)

. وذكره في "الاستيعاب" ولا يعرف له غيره

(2)

.

فائدة أخرى: هذا المتن مروي من طريق آخر أخرجه الدارقطني من حديث إبراهيم الخُوْزي، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن سرجس قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله قد ذبح كل نون في البحر لبني آدم"

(3)

.

فصل:

وأثر عطاء: أما الطير فأرى أن يذبحه. أخرجه ابن منده في "الصحابة" إثر حديث شريح المتقدم من طريق ابن جريج، فقال: فذكرت ذلك لعطاء فذكره.

وهو قول مالك، وذكر الشيخ أبو الحسن، عن عطاء أنه قال: حيث يكون البر فهو من صيده، فجعله داخلًا في قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96].

فصل:

وقول ابن جريج، عن عطاء أخرجه أبو قرة، موسى بن طارق السكسكي في "سننه" عنه.

والقلات -بالمثناة فوق-: النقرة في الصخرة، ذكره في

(1)

"الجرح والتعديل" 4/ 332.

(2)

"الاستيعاب" 2/ 260 (1184).

(3)

"سنن الدارقطني" 4/ 267.

ص: 396

"المجمل"

(1)

. وفي "الصحاح"

(2)

: نقرة في الجبل يستنقع فيها الماء إذا نضب السيل، وقَلْتُ العَيْنِ:(نُقْرتها)

(3)

. وعبارة ابن التين: والقلات: جمع قَلْت، كبحر وبحار. ثم ساق ما ذكرناه، وعبارة ابن بطال: القلات: جمع قلْت، والقلت:(نقرة)

(4)

في حجر يحفرها السيل وكل نقرة في الجبل أو غيره قلت؛ وإنما أراد ما ساق السيل من الماء وبقي في الغدر الصغار، وكان فيها حيتان

(5)

.

فصل:

(وركب الحسن .. ) على ما ذكر، لا يحضرني وكذا أثر الشعبي في الضفدع. وفي أبي داود والنسائي و"مستدرك الحاكم"، وقال: صحيح الإسناد من حديث عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي الصحابي، وهو ابن أخي طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: ذكر طبيب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم دواء وذكر الضفدع يجعل فيه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع

(6)

، قال البيهقي: وهذا أقوى ما روي في النهي عن قتله

(7)

.

ورواه الدارمي في كتاب "الأطعمة" عن ابن عمر مرفوعًا مثله، قال الدارمي: فيكره أكله إذ نهي عن قتله؛ لأنه لا يمكن أكله إلا مقتولاً، فإن أكل غير مقتول فهو ميتة، وزعم ابن حزم أنه لا يحل أكلها؛ لأنه عليه السلام

(1)

"مجمل اللغة" 2/ 720 مادة (قلت).

(2)

"الصحاح" 1/ 261.

(3)

وقع بالأصول: يقذفها، والمثبت من "الصحاح".

(4)

وقع بالأصول: رمية، والمثبت من "شرح ابن بطال".

(5)

ابن بطال 5/ 402.

(6)

أبو داود (3871)، النسائي 7/ 210، "المستدرك" 4/ 411.

(7)

"السنن الكبرى" 9/ 318.

ص: 397

نهى عن ذبحها

(1)

، وكذا قال الطحاوي في "مشكله": فيه دليل على أنه لا يؤكل وأنه بخلاف السمك ودل على أن ما في البحر من خلاف السمك لا يقتل ولا يؤكل وقد جاء أن نقيقها تسبيح فلما لم تؤكل فقتلها عبث

(2)

، وادعى ابن رشد أنه يحتمل أن يكونوا أرادوا قتله على صفة لا يجوز قتله بها؛ لما فيه من تعذيب، فنهي عن ذلك لذلك، لا لأنه لا يؤكل. قال: فلا حجة فيه إذًا على مالك في إجازة أكل دواب البحر.

فصل:

لم يبين الشعبي هل تذكى الضفادع أم لا؟ واختلف مذهب مالك في ذلك فقال ابن القاسم في "المدونة" عن مالك: أكل الضفدع والسرطان والسلَحْفاة جائز من غير ذكاة

(3)

، وروى عيسى عن ابن القاسم: ما كان مأواه الماء يؤكل من غير ذكاة وإن كان يرعى في البر، وما كان مأواه ومستقره البر فلا يؤكل إلا بذكاة، وإن (جاز)

(4)

يعني: في الماء. وعن محمد بن إبراهيم بن دينار فيهما: لا يؤكلان إلا بذكاة

(5)

.

قال ابن التين: وهو قول أبي حنيفة والشافعي. كذا نقل عن الشافعي.

فصل:

ذكر الجاحظ في "الحيوان" في النهي عن قتلها من حديث ابن

(1)

"المحلى" 7/ 398.

(2)

"شرح مشكل الآثار" 5/ 34.

(3)

"المدونة" 1/ 427.

(4)

من (غ).

(5)

"المنتقى" 3/ 129.

ص: 398

المسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان التميمي أنه عليه السلام نهى عن قتلها، ومن حديث زرارة أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: لا تسبوا الضفادع فإن أصواتها تسبيح. وفي لفظ: فإن نقيقهن تسبيح. قال: والضفدع لا يصيح ولا يمكنه الصياح حتى يدخل حنكه الأسفل في الماء، وهي من الحيوان الذي يعيش في الماء ويبيض في الشط مثل الرق والسلحفاة وأشباه ذلك، وهي تنق فإذا أبصرت النار أمسكت، وهي من الحيوان الذي يخلق من أرحام الحيوان، ومن أرحام الأرضيين إذا لقحتها المياه، وأما قول من قال: إنها من السحاب فكذب، وهي لا عظام لها، وتزعم الأعراب في خرافاتها أنها كانت ذا ذنب وأن الضب سلبه إياه، وتقول العرب: لا يكون ذلك حتى يجمع بين الضب والنون. وحتى يجمع بين الضفدع والضب. والضفدع أجحظ الخلق عينا ويصبر عن الماء الأيام الصالحة وهي تعظم ولا تسمن كالأرنب. والأسد ينتابها في الشرائع فيأكلها أكلًا شديدًا، والحيات تأتي مناقع الماء لطلبها ويقال له: ينق ويهدر

(1)

.

فصل آخر:

في لغاته، حكى ابن سيده فيه كسر الدال وفتحها مع كسر الضاد وقال: هما فصيحتان

(2)

وقال الأزهري في الفتح: إنها لغة قبيحة. وأنكره غيره أيضًا والأنثى ضفدعة. وفي "الصحاح": وناس يقولون ضفدع بفتح الدال، وقد زعم الخليل أنه ليس في الكلام فعلل إلا أربعة أحرف: درهم، وهجرع -وهو الطويل- وهبلع وقلعم -وهو

(1)

"الحيوان" 5/ 524 - 537.

(2)

"المحكم" 2/ 311.

ص: 399

اسم جبل -وهو الأكول

(1)

، زاد غيره الضفدع كما ذكرنا، وجزم صاحب "ديوان الأدب" بكسر الضاد والدال، وحكى ابن السيد في "الاقتضاب" ضم الضاد وفتح الدال، وهو نادر، وحكى ابن دحية ضمهما.

فرع:

في "القنية" للحنفية: دود لحم وقع في مرقه لا تنجس وكذا الضفدع إذا ماتت في الماء، وعن محمد: إذا انقطع عنه أكرهه على وجه التحريم. وعندنا إذا مات ما لا نفس له سائلة في الماء والطعام لا ينجسه على الأظهر؛ لكن الضفدع مما يسيل دمه على الأصح، وقال ابن نافع: ميتة نجسة وكذا يثاب فيه.

فصل:

قوله: (وَلَمْ يَرَ الحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاةِ بَأْسًا) هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن مهدي، عن مبارك عنه، ومن حديث يزيد بن أبي زياد، عن أبي جعفر: أنه رأى سلحفاة فأكلها، ومن حديث أشعث، عن أبي هريرة رضي الله عنه: كان فقهاء (المدينة)

(2)

يغالون في شراء الرق وحتى يبلغ ثمنها دينارًا، ومن حديث حجاج، عن عطاء: لا بأس بأكلها- يعني: السلحفاة

(3)

. وزعم ابن حزم أنها لا تحل إلا بذكاة وأكلها حلال بريها وبحريها وأكل بيضها وروينا عن عطاء: إباحة أكلها. كذا عن طاوس ومحمد بن علي وفقهاء المدينة أيضًا

(4)

.

وروى محمد بن دينار، عن مالك: لا تؤكل إلا بذكاة، وروى ابن

(1)

"الصحاح" 2/ 1250.

(2)

من (غ).

(3)

"المصنف" 5/ 146 (24586 - 24589).

(4)

"المحلى" 7/ 410.

ص: 400

القاسم عنه أكلها، والضفدع والسرطان جائز من غير ذكاة، وفي "مختصر الوقار": تستحب ذكاتها؛ لأن لها في البر رعيا وقال: تلك عند محمد، وهي برس صغير يكون صيد البراري، وأما أبو حنيفة فكره أكلها، وقال مقاتل: إنها من المسوخ.

فائدة:

هي بفتح اللام كما ذكره في "الصحاح"

(1)

وقدم ذلك في "المحكم" وحكي إسكانها وحكي إسقاط الهاء، وقال: إنها من دواب الماء، وقيل: هي الأنثى من الغيالم

(2)

. وحكى الرؤاسي سُلَحْفِيَةٍ مثال بُلَهْنَيِةٍ وهو ملحق بالخماسي بألف، وإنما صارت ياء لكسرة ما قبلها

(3)

.

فصل:

وأما قول ابن عباس: (كُلْ من صيد البحر .. ) إلى آخره، فهو قول جمهور العلماء؛ لأن طعام البحر ميتة ولا يحتاج فيه إلى ذكاة، وقال الحسن فيما ذكره سعيد بن منصور، عن إسماعيل بن عياش، عن عبيد الله ابن عبيد الكلاعي، عن سليمان بن موسى عنه: أدرك سبعين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يأكل صيد المجوسي الحيتان، وما (يتخلى)

(4)

في صدورهم منه شيء، وروي ذلك عن عطاء والنخعي

(5)

، وهو قول الأربعة والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور، وروى ابن أبي شيبة من حديث عيسى بن عاصم، عن علي أنه كره

(1)

"الصحاح" 4/ 1377 (سلحف).

(2)

"المحكم" 4/ 48.

(3)

انظر المصدر قبل السابق.

(4)

كذا بالأصول ولعله: يختلج.

(5)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 247 (19666).

ص: 401

صيد المجوسي للسمك، وعن عطاء وسعيد بن جبير مثله بإسناد جيد

(1)

، وقول ابن عباس:(كل من صيد البحر) يؤخذ منه أن صيد البر لا يؤكل إن صادوه وكذا هو في "المدونة"

(2)

وأجازه أشهب في اليهودي والنصراني.

فصل:

وقول أبي الدرداء: (ذبح الخمر النينان والشمس) كذا ذكره معلقًا بصيغة الجزم، وابن أبي شيبة أخرجه من طريق مكحول عنه، ولم يسمع منه، وروي عن مكحول بإسناد جيد أنه كان يكره المري يجعل فيه الخمر

(3)

. قال أبو ذر: إذا طرحت النينان في الخمر ذبحته وحولته وصار مريًا، وكذلك إذا ترك في الشمس، وكذا قال ابن أبي صفرة ومعناه أن الخمر تطرح في الحيتان حتى يصير مريًا، فكأن الحيتان والشمس ذكاة الخمر وذبحها الذي يحللها ويحتج به من يجوز تخليل الخمر

(4)

، وقد سبق في البيوع ما فيه، وقال الحريمي: هو مري يعمل بالشام يؤخذ الخمر فيجعل فيها الملح والسمك ويوضع في الشمس فيغير طعمه إلى طعم المري، يقول: كما أن الميتة والخمر حرامان والتذكية تحل الميتة بالذبح فكذلك الملح.

والنينان، بكسر النون الأولى ثم مثناة تحت ثم نون أخرى ثم ألف ثم نون، جمع نون: وهو: الحوت، كعود وعيدان.

والمزي، بضم الميم وسكون الراء. وفي "الصحاح": المري الذي

(1)

"المصنف" 4/ 247 (19668)، (19669)، (19670).

(2)

"المدونة" 1/ 417.

(3)

"المصنف" 5/ 95 (24048)، (24049).

(4)

انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 401 - 402.

ص: 402

يؤتدم كأنه منسوب إلى المرارة والعامة تخففه وأنشد: وعندها المريُ والكامَخُ

(1)

.

ومالك في "المدونة"

(2)

كره هذا وقال ابن حبيب: هو حرام.

وسئل الحافظ أبو موسى المديني عنه فقال: عبر عن قوة الملح والشمس وغلبتهما على الخمر وإزالتهما طعمهما وريحها بالذبح، وإنما ذكر النينان دون الملح؛ لأن المقصود من ذلك هي دون الملح وغيره الذي فيها، ولا يسمى المعمول من ذلك إلا باسمها دون ما أضيف إليها، ولم يرد به أن النينان وحدها هي التي حللته.

وذهب البخاري إلى ظاهر اللفظ وأورده في طهارة صيد البحر وتحليله مريدًا أن السمك طاهر حلال، وأن طهارته وحله يتعدى إلى غيره كالملح حتى تصير (الخمر)

(3)

الحرام النجسة بإضافته عليها طاهرة حلالاً، وكان أبو الدرداء ممن يفتي بتحليل تخليل الخمر

(4)

، وقال: إن السمك بالآلة التي أضيفت إليه من الملح وغيره قد غلب على ضراوة الخمر التي كانت فيها وزال شدتها، كما أن الشمس تؤثر في تخليلها فصار خلًّا لا بأس به، فالخمر مفعول مقدم، والنينان والشمس فاعلان

(5)

له.

ومعناه أن أهل الريف بالشام وغيرها قد يعجنون المري بالخمر وربما يجعلون فيه أيضًا السمك المري بالملح والأبزار نحو ما يسمونه

(1)

"الصحاح" 2/ 814 (مرر).

(2)

"المدونة" 4/ 412.

(3)

من (غ).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 98 (24082).

(5)

ورد بهامش الأصل: فاعل ومعطوف عليه.

ص: 403

(الصحناء)

(1)

، إذ القصد من المري وأكله هضم الطعام، فيضيفون إليه كل ثقيف وحريف ليزيد في جلاء المعدة واستدعاء الطعام بثقافته وحرافته، وكان أبو هريرة وأبو الدرداء وابن عباس وغيرهم من التابعين يأكلون هذا المري المعمول بالخمر ولا يرون به بأسًا ويقول أبو الدرداء إنما حرم الله الخمر بعينها وسكرها، وما ذبحته الشمس والملح فنحن نأكله لا نرى به بأسًا.

فصل:

حديث العنبر سلف في المغازي

(2)

، والخبط اسم ما خبط من القشر والورق وهو من علف الإبل، وكان أميرهم أبو عبيدة كما ذكره هنا أيضًا، وهو ثابت في مسلم

(3)

وغيره، ووقع في كتاب "الأطعمة" لابن أبي عاصم من حديث جابر أن الأمير عليهم يومئذٍ قيس بن سعد بن عبادة وهو عجيب، فإنه الذي ذبح لهم عند المخمصة جزورًا بعد جزور فقط وهو المشار إليه في البخاري: وكان فينا رجل، فلما اشتد بنا الجوع نحر ثلاث جزائر .. إلى آخره.

فصل:

من الأحاديث الضعيفة ما أخرجه الدارقطني وضعفه عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا: "كلوا ما حسر عنه البحر، وما ألقاه، وما وجدتموه طافيًا فوق الماء أو ميتًا فلا تأكلوه"، ثم رواه من حديث أبي الزبير عنه مرفوعًا "إذا طفا فلا تأكله وإذا جزر عنه فكله وإذا كان على حافتيه فكله" ثم

(1)

كذا بالأصول، ووقع في شرح الكرماني 20/ 90: الصمتى.

(2)

سلف برقم (4361).

(3)

مسلم برقم (1935) كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة ميتات البحر.

ص: 404

صوب وقفه

(1)

، وقال عبد الحق: إنما يرويه الثقات من قول جابر وإنما أسنده من وجه ضعيف

(2)

.

فصل ملحق بالطافي:

قال ابن حزم: بقي قول لبعضٍ في تحريم الطافي من السمك، روينا (ذلك)

(3)

عن جابر ومن طريق سعيد بن منصور، ثنا ابن فضيل، أنا عطاء بن السائب، عن ميسرة، عن علي رضي الله عنه قال: ما طفا من صيد البحر فلا تأكلوه. ولا يصح؛ لأن ابن فضيل لم يسمع من عطاء إلا بعد اختلاطه، ومن طريق عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأجلح، عن عبد الله بن أبي الهذيل سمع ابن عباس وذكر صيد البحر لا تأكل منه طافيًا. قال: والأجلح ليس بالقوي -قلت: قد وثق أيضًا- ومن طريق يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن المسيب: ما طفا فلا تأكل. وصح عن الحسن ومحمد وجابر بن زيد والنخعي: أنهم كرهوا الطافي من السمك، وبتحرميه يقول الحسن بن حي.

وروي عن سفيان بن سعيد فيما في البحر مما عدا السمك قولان: يؤكل، لا يؤكل حتى يذبح. يبطلهما حديث العنبر وليس سمكًا وهو ميتته.

قلت: في نفس الحديث: "فألقى البحر حوتًا لم ير مثله" ولا يقدر أحد أن يقول: الحوت ليس سمكًا، وعند سعيد بن منصور: حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثني عبد العزيز بن عبيد الله بن حمزة بن

(1)

"سنن الدارقطني" 4/ 267 - 268.

(2)

"الأحكام الوسطي" 4/ 124.

(3)

من (غ).

ص: 405

صهيب، عن وهب بن كيسان، عن نعيم [بن]

(1)

المجمر، عن جابر مثله، قال ابن حزم: هذا ضعيف

(2)

. لأن في إسناده ابن عياش وهو ضعيف، وللدارقطني بإسناد جيد أن أبا أيوب سئل عن سمكة طافية على الماء فقال: أطيبة هي لم تتغير؟ قالوا: نعم. قال: فكلوها وارفعوا لي نصيبي وكان صائمًا، وبنحوه قال أبو طلحة الأنصاري؟ وفي سنده ضعف

(3)

.

وسلك الطحاوي مسلكًا ليس بجيد فطعن في حديث أبي هريرة السالف "الحل ميتته" فقال: ذهب الشافعي ومالك إليه وهو حديث قد اضطرب في إسناده اضطرابًا لا يصلح الاحتجاج به.

كذا قال، وقد بينت في تخريجي لأحاديث الرافعي أنه لا يقدح

(4)

، قال: ولو صححناه لم يكن فيه ما يخالف حديث جابر، لأن الذي فيه من الميتة يحتمل أن يكون من الميتة التي أباحها في حديث جابر، فيلتئم الحديثان فيكون ما في حديث جابر من الطافي زيادة على ما في الحديث الآخر من تحليل الميتة، وأما ما سلف عن أبي طلحة وغيره فقد خالفهما فيه علي وجابر، والأولى بما اختلف من الصحابة ما وافق ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهي لا الإباحة.

قلت: لا نسلمه.

قال: وقد روي عن ابن عباس أنه سئل آتي البحر فأجده قد حمل سمكًا ميتًا؟ فقال: لا تأكل الميتة. فقد عاد قول ابن عباس إلى كراهة

(1)

ليست في بالأصول، والمثبت من "المحلى".

(2)

"المحلى" 7/ 394 - 396.

(3)

"سنن الدارقطني" 4/ 270 - 271.

(4)

"البدر المنير" 1/ 348 - 381.

ص: 406

أكل طافي السمك

(1)

.

قال ابن رشد: والصواب في هذا ما ذهب إليه مالك، ويحمل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن أكل الطافي وعمن روى ذلك عنه من الصحابة على الكراهة دون التحريم، فتتفق الأقوال.

قلت: الحق حله فإن الله تعالى قال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وقد فسر عمر بن الخطاب وابن عباس بأن طعامه: ما رمى به، وهما من أهل اللسان، وقال رسوله:"الحل ميتته" وأقرهم على أكل العنبر وأكل منه بالمدينة ولا معدل عن ذلك، واسم الميتة شرعًا: ما زال عنه الحياة لا بذكاة شرعية، وقد قال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ومن القياس سمك لو مات في البر حل، وكذا البحر أصله إذا مات بسبب حر أو برد أو نضب الماء عنه أو قتلته سمكة أخرى أو يوخذ فيموت، وقد وافق أبو حنيفة على كل ذلك.

فصل:

قوله في حديث جابر (نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ) هو بفتح النون من نرصد أي: نرقب، وأرصد: رباعي إذا أعد شيئًا.

وقوله: (نحر ثلاث جزائر) هو جمع جزور.

(1)

"شرح مشكل الآثار" 10/ 210 - 214.

ص: 407

‌13 - باب الْجَرَادِ

5495 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ -أَوْ سِتًّا- كُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ. قَالَ سُفْيَانُ وَأَبُو عَوَانَةَ وَإِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: سَبْعَ غَزَوَاتٍ. [مسلم: 1952 - فتح: 9/ 620].

ذكر فيه حديث شعبة: عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ: سمِعْتُ ابن أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ -أَوْ ستًّا- كُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الجَرَادَ. قَالَ سُفْيَانُ وَأَبُو عَوَانَةَ وَإِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنِ ابن أَبِي أَوْفَى: سَبْعَ غَزَوَاتٍ.

الشرح:

هذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي

(1)

.

وأبو يعفور: هو بالفاء واسمه واقد، ولقبه: وقدان عبدي تابعي، وهو أبو يعفور الكبير، والصغير: اسمه عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس عامري بكائي، ونسطاس: يكنى أبا صفية روى عن أبي الضحى مسلم بن صُبيح والوليد بن عيزار، وعنه: ابن عيينة ومروان بن معاوية، وهما متفق عليهما.

وأبو عوانة اسمه: الوضاح.

وعند ابن حبان من حديث أبي الوليد كما في البخاري: سبعًا أو ستًّا- شك شعبة

(2)

. ورواه الترمذي صحيحًا من حديث سفيان عن أبي يعفور، فقال: ست غزوات، ثم قال: كذا روى ابن عيينة، عن

(1)

أبو داود (3812)، والترمذي (1821)، والنسائي 7/ 210.

(2)

"صحيح ابن حبان" 12/ 60 (5257).

ص: 408

أبي يعفور فقال: ستًّا، وروى الثوري، عن أبي يعفور هذا الحديث فقال: سبعًا. قال: وروى شعبة هذا الحديث عن أبي يعفور بلفظ: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوات نأكل الجراد. ثنا بذلك بندار أنا غندر عنه ولم يذكر عددًا

(1)

. وفي "مسند الحميدي" عبد الله بن الزبير رواه ابن عيينة -و [هو]

(2)

أخص الناس به

(3)

- ثنا سفيان، ثنا أبو يعفور قال: أتيت ابن أبي أوفى، فسألته عن أكل الجراد، فقال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست غزوات أو سبع غزوات، فكنا نأكل الجراد

(4)

.

وروى ابن أبي عاصم في كتابه عن ابن أبي شيبة، عن ابن عيينة، عن أبي يعفور عن عبد الله قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد

(5)

.

وأخرجه مسلم من حديث أبي كامل عن أبي عوانة عن أبي يعفور

(6)

، وأخرجه البزار عن ابن عبد الملك القرشي عنه

(7)

ثم قال: حدثنا الحسن بن مدرك، ثنا يحيى بن حماد وحدثنا أبو عوانة، عن الشيباني، عن ابن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد.

(1)

"سنن الترمذي" 4/ 268 - 269 (1821 - 1822).

(2)

زيادة يقتضيها السياق، وانظر التعليق الآتي.

(3)

هذِه العبارة من مداخلات الشارح؛ يشير إلى أن سفيان تابع شعبة على رواية الشك، فيندفع بذلك نسبة الشك إلى شعبة. ثم ساق إسناد الحميدي عن سفيان. والله أعلم.

(4)

"مسند الحميدي" 1/ 566 (730).

(5)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 143 (24551).

(6)

مسلم (1952) كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الجراد.

(7)

أي: عن أبي عوانة.

ص: 409

قال: وحديث الشيباني لم أسمع أحدًا يحدث به إلا ابن مدرك، عن يحيى، وعند حديث أبي يعفور. وأما عند أبي عوانة، عن أبي يعفور: حدثنا غير واحد، وابن مدرك ذكر هذا أيضًا عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن الشيباني وعن أبي يعفور، عن ابن أبي أوفي.

فصل:

الجراد -بفتح الجيم-: اسم جنس، واحدته جرادة يطلق على الذكر والأنثى، وجردت الأرض فهي مجرودة، أي: أكل الجراد نبتها.

قال ابن دريد: سمي جرادًا؛ لأنه يجرد الأرض فيأكل ما عليها

(1)

، وأطال الجاحظ في تعريفه، ونقل عن الأصمعي أنه إذا خرج من بيضه فهو دبا والواحدة دباة ثم قال: ولعابه سم على الأشجار لا يقع على شيء إلا أحرقه

(2)

.

وفي "الغريب المصنف" للأصمعي الذكر من الجراد: هو الحنطب، والعنطب زاد الكسائي: والعنطوب.

وقال أبو حاتم في "كتاب الطير": قالت العرب الذكر والأنثى كذلك، وهو نثرة حوت يؤكل ولا يذبح قال (أبو المعاني)

(3)

: والجندب ضرب مثله.

وقال أبو حاتم: أبو جحادب شيخ الجنادب وسيدهم.

قال ابن خالويه: وليس في كلام العرب اسم للجراد إذا غرب من

العصفور، وللجراد نيف وستون اسمًا فذكرها.

(1)

"جمهرة اللغة" 1/ 446.

(2)

"الحيوان" 5/ 542 - 568.

(3)

كذا بالأصل، وتقدم أنه (أبو المعالي) بلام بدل النون.

ص: 410

فصل:

الجراد حلال بالإجماع، قال الكوفيون والشافعي: يؤكل كيفما مات

(1)

، وقال مالك: إن وجده ميتًا لم يأكله حتى يقطع رءوسه أو يطرح في النار وهو حي من غير أن يقطف رءوسه فهو حلال. وعنه: إن أخذ حيًّا ثم قطع رأسه أو شواه فلا بأس بأكله، فإن أخذ حيًّا فغفل عنه حتى مات فلا يؤكل

(2)

، وإنما هو بمنزلة ما أخذه ميتًا قبل أن يصاد؛ لأنه من صيد البر، وذكاته قتله، ومن أجاز أكله ميتًا جعله من صيد البحر كطافي الحيتان يجوز أكلها، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه قال: الجراد ذكي حيه وميته، وذكر عبد الرزاق أن ابن عباس قال: كان عمر رضي الله عنه يأكل الجراد ويقول: لا بأس به لا يذبح، وعن علي أنه قال: الجراد مثل صيد البحر

(3)

.

وهو قول عطاء

(4)

، وأما مالك فهو عنده من صيد البر ولا يجوز أكله إلا بذكاة وهو قول ابن شهاب وربيعة

(5)

، وكان علقمة يكره الجراد ولا يأكله

(6)

.

وقال ابن التين: مشهور مذهب مالك افتقاره إلى الذكاة، وعند ابن حبيب: أنه يؤكل إذا وجد ميتًا، وبه قال محمد بن عبد الحكم قال: واختلف في ذكاته فقال ابن وهب: ذكاته أخذه.

(1)

"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 210.

(2)

"المدونة" 1/ 419.

(3)

"المصنف" 4/ 532 (8758).

(4)

رواه عنه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 508 (8669).

(5)

"النوادر والزيادات" 4/ 357.

(6)

رواه عنه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 145 (24567).

ص: 411

وقال مالك: قطع أجنحتها وأرجلها ذكاته

(1)

، وقال أشهب وسحنون: لا تؤكل إلا بقطع رءوسها وأرجلها من أفخاذها، وإن ألقيت في ماء جاز أكلها، ومنعه سحنون، واختلف إذا سلقت الأحياء مع الأموات، فقال سحنون: تؤكل الأحياء ومنعه أشهب -قال ابن عبد الحكم-: وعلي.

فرع:

أخذها: التسمية عند قطع رءوسها أو أجنحتها أو غير ذلك مما يقتلها، قال الأبهري: والدليل على أنه (من)

(2)

صيد البر أن المحرم يجوز له صيد البحر وهو ممنوع من صيد الجراد؛ وذلك لئلا يقتله فعلم أنه من صيد البر وإذا كان ذلك كذلك فيحتاج إلى ذكاة إلا أن ذكاته حسب ما تيسر كما يكون في الصيد ذكاته على حسب ما يقدر عليه من الرمي وإرسال الكلب، لأنه لا يمكن من ذبحه بين الحلق واللبة، فكذلك الجراد تُذَكيهِ كيف تيسر لا حلق له ولا لبة، فلما كان يعيش في البر وجب أن يفارق السمك فلا يستباح إلا مما يقوم مقام الذكاة من أخذه كيف تيسر؛ لأن صيد البر لم يسامح فيه بغير ذكاة كما سومح في صيد البحر

(3)

.

فرع:

لو صاده مجوسي أكل عندنا ولم يؤكل عند مالك

(4)

، وعلى قول مطرف يؤكل كالحوت

(5)

.

(1)

"المدونة" 1/ 419.

(2)

من (غ).

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 5/ 403.

(4)

انظر: "النوادر" 4/ 357.

(5)

"المنتقى" 3/ 129.

ص: 412

وقال ابن وهب: سألت مالكًا وغيره من أهل العلم عما يصيده المجوسي من الجراد فيموت عنده فقالوا: لا يؤكل.

قال ابن وهب: إذا أخذه حيًّا ثم مات فلا بأس بأكله.

فصل:

وردت أحاديث بأكله وبالوقف، ففي ابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد"

(1)

، وإسناده ضعيف لأجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وإن كان الحاكم قال في "مستدركه" في حديث هو في سنده: هذا حديث صحيح الإسناد

(2)

، قال البيهقي: وقفه أصح وهو في معنى المسند

(3)

، ورواه الدارقطني من حديث عبد الله وعبد الرحمن ابني زيد بن أسلم عن أبيهما، عن ابن عمر أيضًا أنه عليه السلام قال:"أحلت لنا ميتتان: الحوت والجراد"

(4)

، وروى ابن عدي من حديث ثابت بن زهير قال -وهو يخالف الثقات- عن نافع عن ابن عمر: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضب فقال: "لست آكله ولا أحرمه" قال: والجراد؟ فقال "مثل ذلك"

(5)

.

وعند الدارمي، عن ابن عمر: كنا (نقتله)

(6)

بالسمن والزيت، وعند أبي داود عن سلمان رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال: "لا آكله

(1)

ابن ماجه (3221).

(2)

"المستدرك" 2/ 615.

(3)

"معرفة السنن والآثار" 13/ 466.

(4)

"سنن الداقطني" 4/ 271 - 272.

(5)

"الكامل" 2/ 296.

(6)

كذا بالأصول، ولعله: نقليه.

ص: 413

ولا أحرمه " قال: وروي مرسلًا

(1)

.

وعند ابن ماجه من حديث أبي المهزم -وهو متروك- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه رضي الله عنه قال في الجراد: "كلوه فإنه من صيد البحر"

(2)

وكذا ذكره أبو علي الحسن بن أحمد البنا في "أحكام الجراد" أن النجار روى بسند له عن أبي سعيد الخدري: الجراد من صيد البحر.

ومن حديث موسى بن محمد بن إبراهيم -وله مناكير- عن أبيه، عن جابر وأنس بن مالك أنه عليه السلام كان إذا دعا على الجراد قال:"اللهم أهلك كباره، واقتل صغاره، وأفسد بيضه، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معاشنا، وارزقنا إنك سميع الدعاء" فقال رجل: يا رسول الله كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ قال: "إنه نثرة حوت في البحر". زاد ابن ماجه: قال زياد: وحدثني من رأى الحوت ينثره

(3)

.

ومن حديث سعيد بن المرزبان -وهو منكر الحديث- عن أنس رضي الله عنه: كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد على الأطباق

(4)

. وعند الدارقطني من حديث زينب [بنت منخل]

(5)

ويقال: بنت منجل، عن عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام زجر صبياننا عن الجراد وكانوا يأكلونه

(6)

. قال أبو الحسن: الصواب موقوف

(7)

.

(1)

أبو داود (3813).

(2)

ابن ماجه (3222).

(3)

رواه الترمذي (1823)، وابن ماجه (3221).

(4)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 533 (8763).

(5)

وقع بالأصول: امنخل. ولعل الصواب ما أثبتناه، كما في مصادر التخريج.

(6)

رواه البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 135.

(7)

"علل الدارقطني" 14/ 446.

ص: 414

وعند ابن أبي عاصم، عن إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي زهير النميرى -ويقال: أبو الأزهر، وله صحبة- قال عليه السلام:"لا تقتلوا الجراد، فإنه جند الله الأعظم"

(1)

، ومن حديث بقية: حدثني نمير بن يزيد: حدثني أبي أنه سمع صُدَي بن عجلان يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مريم بنت عمران سألت ربها أن يطعمها لحمًا لا دم له فأطعمها الجراد فقالت: اللهم انعشه بغير رضاع وتابع بينه بغير شياع" -يعني الصوت

(2)

. وهذا من أفراد بقية كما انفرد بحديث السلام في العيد، ومن حديث محمد بن عيسى الهذلي، عن ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق ألف أمة ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذِه الأمة الجراد فإذا هلك الجراد تتابعت الأمم مثل سلك النظام"

(3)

.

فصل:

ذكر الطحاوي في كتاب "الصيد" أن أبا حنيفة قيل له: أرأيت الجراد هو عندك بمنزلة السمك من أصاب منه شيئًا أكله، سمى أو لم يسم وإن وجدته ميتًا على الأرض؟ قال: نعم. قلت: فإن أصابه مطر فيقتله؟ قال: نعم لا يحرم الجراد شيئًا على حال ولا بأس بأكله أينما وجدته وكيف أخذته، ولا يضرك أميتًا وجدته أم حيًّا، وأينما وجدته فكله. قال: ولم يحكِ محمد في ذلك خلافًا بين أحد بينه وبين أبي يوسف لأبي حنيفة.

(1)

"الآحاد والمثاني" 3/ 118 (1440) وفيه: "فإنه جند من جنود الله تعالى".

(2)

رواه الطبراني في "الكبير" 8/ 141 (7631)، والبيهقي في "السنن" 9/ 258.

(3)

رواه نعيم بن حماد في "الفتن" 1/ 238 (674)، والبيهقي في "الشعب" 7/ 234 (10134).

ص: 415

وقال ابن وهب: وسمعت مالكًا وسئل عن الجراد يوجد ميتًا فيؤكل قال: جعله عمر بن الخطاب صيدًا، فأما إذا أخذه حيًّا ومات فلا بأس بأكله؛ لأن أخذه ذكاته وقال ابن القاسم في جواباته لأسد: أرأيت الجراد وجدته ميتًا يتوطأه غيري أو أتواطأه أنا فيموت، أيؤكل أم لا في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا يؤكل.

قلت: فإن (أفردت)

(1)

الجراد فجعلته في غرارة فمات فيها أيؤكل؟ قال: قال مالك: لا يؤكل إلا ما قطعت رأسه فتركته حتى تطبخه أو تقليه فإن أنت طرحته في النار أو سلقته وهو حي من غير أن تقطع رأسه فذلك حلال أيضًا عند مالك، ولا يؤكل الجراد إلا بما ذكرت لك من هذا.

قلت: أرأيت إن أخذ فقطع أجنحتها وأرجلها ورفعها حتى يسلقها فماتت أنأكلها أم لا؟ قال: لم أسمع من مالك في هذا شيئًا، إلا أنه قال: إذا قطع أرجلها وأجنحتها فماتت فلا بأس بأكلها.

قلت: فحين أدخلها في الغرارة أليس أنها ماتت من فعله؟ قال: لم أر عند مالك القتلة إلا بشيء يقتلها بها حالمَا وصفت لك

(2)

. وسئل الليث عن الجراد الذي يرمي به البحر فيوجد مجتمعًا كبيرًا في أصل شجره ميتًا، فقال: أكره أكل الجراد ميتًا، فأما إذا أخذه وهو حي ثم مات، فلا أرى بأكله بأسًا وإنما كرهته؛ لأن عمر وداه وجعله صيدًا

(3)

. قيل له: فما أخذته حيًّا فطرحته في القدر وهي تغلي بالنار؟ فقال: أحب ذلك إليَّ أن يترك حتى تسكن وتذهب منه الخثلة ثم

(1)

كذا بالأصول، وفي "المدونة": صدت.

(2)

"المدونة" 1/ 419.

(3)

"الإشراف" 3/ 224.

ص: 416

يطرح في الماء. قال: وسألته عن الجراد الميت في البحر هل يصلح أكله؟ فقال: هو على كل حال بمنزلة الحيتان. وزعم أنه ينقى منه إذا لم يصد حيًّا، والذي يصاد حيًّا لا يصلح أكله حتى يموت، وروى عبيد الله بن الحسن أن ميت الجراد غير حرام في البحر والبر وأنا أقذره. وعن الشافعي في رواية الربيع قال: ذوات الأرواح التي يحل أكلها صنفان: صنف لا يحل إلا بأن تذكيه من محل ذكاته، وصنف يحل بلا ذكاة ميتة أو مقتولة إن شاء، وهو الحوت والجراد

(1)

.

وعند ابن أبي شيبة ذكر لعمر رضي الله عنه جراد بالربذة فقال: وددت أن عندنا منه قفعة

(2)

أو قفعتين، وقال إبراهيم: كان أمهات المؤمنين يتهادين الجراد. وقد سلف. وعن الحسن بن سعد عن أبيه أنه كان يبغي لعلي بن أبي طالب الجراد فيأكله، وفي لفظ: هو طيب كصيد البحر.

وقال سعيد بن المسيب: أكله عُمر والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن عمر وصهيب. وقال جابر بن زيد: لقصعة جراد أحبُّ إليِّ من قصعة ثريد، وقال جعفر بن محمد:(لا نرى)

(3)

بأكله بأسًا، وقالت زينب (بنت)

(4)

أبي سعيد: كان أبي يرانا نأكله فلا ينهانا ولا يأكله فلا أدري تقذرًا منه أو يكرهه، وقيل لابن عمر: لِمَ لَمْ تأكلِه؟ قال: أستصغره، وفي رواية: تقذره. وكان علقمة لا يأكله، وعن أبي عثمان النهدي رفعه:"لا آكله ولا أنهى عنه"، وقال كعب الحبر: هو حوت.

(1)

"الأم" 2/ 197.

(2)

ورد بهامش الأصل: القفعة: شيء شبيه بالزنبيل بلا عروة يعمل من (

).

(3)

ليست في الأصل.

(4)

كذا بالأصل، والذي في "المصنف": زوجة.

ص: 417

وقال عروة: هو نثرة حوت

(1)

، وعند الطبري، عن ابن عباس: هو ذكي حيه وميته، وقد سلف وقال عطاء: هو مثل صيد البحر

(2)

.

(1)

ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 143 - 145.

(2)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 4/ 508 - 509 (8669)، (8670).

ص: 418

‌14 - باب آنِيَةِ الْمَجُوسِ وَالْمَيْتَةِ

5496 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ، وَبِأَرْضِ صَيْدٍ، أَصِيدُ بِقَوْسِي، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ، وَبِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بِأَرْضِ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ، إِلاَّ أَنْ لَا تَجِدُوا بُدًّا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكُمْ بِأَرْضِ صَيْدٍ، فَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ وَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ وَكُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ، فَكُلْهُ» . [انظر: 5478 - مسلم: 1930 - فتح: 9/ 622].

5497 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: لَمَّا أَمْسَوْا يَوْمَ فَتَحُوا خَيْبَرَ أَوْقَدُوا النِّيرَانَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَلَى مَا أَوْقَدْتُمْ هَذِهِ النِّيرَانَ؟» . قَالُوا: لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ. قَالَ: «أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا، وَاكْسِرُوا قُدُورَهَا» . فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقَالَ: نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوْ ذَاكَ» . [انظر: 2477 - مسلم: 1802 - فتح: 9/ 622].

ذكر فيه حديث أبي ثعلبة وقد سلف قريبًا.

وحديث سلمة بن الأكوع سلف في المظالم.

ونبه البخاري بقوله: (والميتة) على أنَّ الخمر لما كانت محرمةً لم تؤثر فيها الذكاة.

وحديث أبي ثعلبة فيه ذكر الكتاب ولعله يرى أنهم أهل كتاب، وهو أحد القولين عندنا وعند المالكية، ومشهور مذهب مالك أنه لا كتاب لهم.

ص: 419

قلت: روى عبد بن حميد في "تفسيره" عن علي أنه كان لهم كتاب.

قال ابن حزم: وصح أنه عليه السلام أخذ منهم الجزية ولا تؤخذ إلا من كتابيِّ؛ لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} الآية [التوبة: 29]، وحديث:"لا تؤكل لهم ذبيحة"

(1)

مرسل، وقد سئل ابن المسيب عن مريض أمر مجوسيًّا أن يذبح ويسمي الله. فقال سعيد: لا بأس بذلك

(2)

. وهو قول أبي قتادة وأبي ثور وأصحابنا.

قال المهلب: معنى ذكر آنية المجوسي في هذِه الترجمة، وذكر سؤال أبي ثعلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آنية أهل الكتاب من أجل أنهم لا يتحرزون من الميتة والخنزير والخمر ويخلصون أعناق الحيوان وذلك ميتة كطعام المجوس.

وقد جاء هذا المعنى مبينًا في حديث أبي ثعلبة من رواية معمر عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي ثعلبة قلت: يا رسول الله، إن أرضنا أرض أهل كتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ فقال:"إن لم تجدوا غيرها فارحضوها واطبخوا فيها واشربوا"

(3)

، فأباح غسل ما جعل فيه الخنزير والخمر واستعمال الأواني.

وقام الإجماع على أن الماء مطهر لكل نجاسة من جميع أواني الشراب وغيرها، إلا ما روى أشهب عن مالك في زقاق الخمر أنها لا تطهر بالغسل؛ لأنها تشرب الخمر وذلك مخالف لجميع الظروف.

(1)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 6/ 69 (10028)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 432 (32635).

(2)

"المحلى" 9/ 448 - 449.

(3)

رواه أحمد 4/ 193 - 194.

ص: 420

وأما حديث تحريم الحُمُر في هذا الباب فهو بيِّن؛ لأنها قد ثبت تحريمها فهي كالميتة كما أسلفناه، وأباح عليه السلام استعمال القدور بعد غسلها، فكذلك آنيتهم يجوز استعمالها بعد غسلها، لأن ذبائحهم ميتة، وذكر ابن حبيب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: إنا نغزو أرض الشرك وننزل بالمجوس وقد طبخوا في قدورهم الميتة والدم ولحم الخنزير فقال: ما كان من حديد أو نحاس فاغسلوه بالماء ثم اطبخوا فيه، وما كان من فخار فاغلوا فيها الماء ثم اغسلوها واطبخوا فيها فإن الله جعل الماء طهورًا.

وقد سلف الخلاف في ظروف الخمر هل تضمن إذا كسرت؟

فإن قلت: كيف قال: لا تأكلوا في آنيتهم وقد أباح الله لنا طعامهم.

قيل: المراد بذلك: ذبائحهم أو ما علم من عادتهم أنهم لم يمسوه بشيء من المحرم مثل النصارى، فإنهم يطبخون في قدورهم الخنزير، فإذا علم أن الطعام سالم من ذلك جاز أكله؛ لأن ذبيحتهم لنا حلال حتى نتيقن نجاسته، وما عمله المجوس حتى يتيقن حله، من جبن أو سمن أو زبد ونحوها، والمنصوص عليه في مذهب مالك نحو ذلك أن جبن المجوسي لا يؤكل

(1)

.

فصل:

قال أبو علي النحوي: المجوس واليهود إنما عرف على حد يهودي ويهود، ومجوسي ومجوس، مثل شعيرة وشعير، ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام عليهما؛ لأنهما معرفتان قال: وهما مؤنثان (وباقي

(1)

"التفريع" 1/ 406.

ص: 421

كلامهم مجري (

)

(1)

ولم يجعلا كالجنس)

(2)

في باب الصرف.

فصل:

قوله: ("أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا") هو بفتح الهمزة وسكون الهاء، وأصله: أهراق -بفتح الهمزة- ويُهْريق -بضم أوله وسكون ثانيه- وتثبت الهاء في أهريقوا؛ لأنه عندنا فاء لعارض، فلما تحركت القاف عادت الياء المحذوفة؛ لالتقاء الساكنين في أراق الماء وهي لغة ثالثة، والمشهور أراق الماء وذكره سيبويه بالهاء، أبدلوا من الهمزة الهاء ثم ألزمت فصارت كأنها من نفس الحرف ثم أُدخلت الألف على الهاء وتركت عوضًا من حذفهم العين؛ لأن أصل أهريق أريق.

ولغة أهْراق على وزن أسْطَاع يسْطيع اسطاعًا بفتح الألف في الماضي وضمها في المستقبل، جعلوا الهاء في أهراق والسين في اسطاع عوضًا من ذهاب حركة عين الفعل

(3)

.

وقوله: (فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ فَقَالَ: نُهَرِيقُ مَا فِيهَا) إن قرأته بفتح الهاء كان على اللغة المشهورة، أو بالسكون فعلى الأخرى، قال الجوهري: فأما تقدير (يُهْرِيق)

(4)

بالتسكين فلا (يمكن)

(5)

أن ينطق

(1)

بياض في الأصل، وغير واضحة في (غ).

(2)

كذا هذِه العبارة في الأصول مضطربة وناقصة، ونقل الصاغاني في "العباب الزاخر" في مادة (مجس) كلام أبي علي النحوي ونسبه إليه، والجملة نصها عنده: فجرتا في كلامهم مجرى القبيلتين، ولم يجعلا كالحيين.

(3)

اضطرب مبحث هذِه اللفظة هنا، من حيث البنية الصرفية، وانظر ضبطها في "الصحاح" 4/ 1569 - 1570.

(4)

في الأصل: نُهريق، وفي (غ): تهريق، والمثبت من "الصحاح".

(5)

في الأصول: ينكر، والمثبت من "الصحاح".

ص: 422

به؛ لأن الهاء والفاء جميعًا ساكنان وكذلك تقدير (مُهْرَاق)

(1)

.

فصل:

وقد أسلفنا الاختلاف في علة تحريم الحُمُر؛ لأنها لم تخمس، أو لئلا تفنى حمولتهم، أو لأنها من جوال القرية

(2)

، أو لنجاسته، أو تعبُّد. وقال طاوس: أَبَى ذلك البحر ابن عباس {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية [الأنعام: 145].

واختلف قول مالك هل هي مكروهة أو محرمة؟

فصل:

قوله: ("وَاكْسِرُوا قُدُورَهَا") فيه العنف عند ظهور المنكر، والأدب في المال؛ ليكون أحسم لوأد المنكر، وقد روي أنه عليه السلام أمر بشق الزقاق عند تحريم الخمر

(3)

، وكان الفاروق يرى العقوبة في المال كالبدن إذا رأى ذلك أبلغ، وهذا من اجتهاد الأئمة. فأما من لم يولَّ وإن بلغ في الصلاح؟

قلت: ليس له ذلك خوف الفتنة وكذلك الأئمة لا يفضلونه إن خشوا الفتنة عنه، ألا ترى أنه عليه السلام لما قيل له: نُهريق ما فيها ونغسلها؟ قال: "أو ذاك"، وذلك أنه لما رآهم سلموا للحكم وانقادوا وضع عنهم العقوبة التي أراد إلزامهم إياها، وقد اختلف قول مالك في العقوبة في المال، ومرَّة فرق بين يسير ذلك وكثيره فمنعها في الكثير.

(1)

يعني: الجلالة، كما رواه أبو داود (3809) من حديث غالب بن أبجر، وضعفه الحافظ في "الفتح" 9/ 656.

(2)

في الأصول: يهراق، والمثبت من "الصحاح" 4/ 1570 مادة:(هرق).

(3)

رواه أحمد 2/ 132 - 133.

ص: 423

‌15 - باب التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ، وَمَنْ تَرَكَ مُتَعَمِّدًا

قَالَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَنْ نَسِيَ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وَالنَّاسِي لَا يُسَمَّى فَاسِقًا، وَقَوْلُهُ تعالى:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121].

5498 -

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَبْنَا إِبِلاً وَغَنَمًا -وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ- فَعَجِلُوا فَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَدُفِعَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَمَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَطَلَبُوهُ فَأَعْيَاهُمْ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» . قَالَ: وَقَالَ جَدِّي: إِنَّا لَنَرْجُو -أَوْ نَخَافُ- أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدى، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ؟ فَقَالَ:«مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْهُ، أَمَّا السِّنُّ عَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» . [انظر: 2488 - مسلم: 1968 - فتح: 9/ 623].

ثم ساق حديث رافع بن خديج السالف في الشركة والجهاد

(1)

، وقد أخرجه مسلم

(2)

، والأربعة

(3)

أيضًا.

(1)

سلف في الشركة برقم (2488) باب: قسمة الغنم، وفي الجهاد برقم (3075) باب: ما يكره من ذبح الإبل والغنم ..

(2)

مسلم (1968) كتاب: الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم ..

(3)

أبو داود (2821)، الترمذي (1491)، النسائي 7/ 226، ابن ماجه (3137).

ص: 424

وقد أسلفنا اختلاف العلماء في التسمية على الصيد وهو كاختلافهم في التسمية على الذبيحة سواء، وسلف أيضًا الاحتجاج بالآية المذكورة، ووقع في كتاب ابن التين أنه حجة على الشافعي في قوله: لا تؤكل الذبيحة إذا نسي التسمية، والشافعي لم يقل هذا وإنما أباحهما عند الترك عمدًا.

وقوله: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة). قال الداودي: ذو الحليفة المذكورة هنا من أرض تهامة ليست التي بقرب المدينة. وكذا عرفها ياقوت بأنها موضع بين حاذَة وذات عرق من تهامة، وليست بالمهل

(1)

، وذكر ابن بطال عن القابسي أنها المهل. فقال عنه: وكانوا في هذِه الغنيمة بذي الحليفة قريبًا من المدينة

(2)

. وهو عجيب فاجتنبه

(3)

.

قال أيضًا عنه: ويمكن أن يكون أمره عليه السلام بإكفاء القدور من أجل أنهم استباحوا من الغنائم، كما كانوا يغزون فيما بعد عن بلاد الإسلام، وموضع الانقطاع عن مواضعهم فهم مضطرون إلى ما وجدوه في بلاد العدو، كما جاء في قصة خيبر أن قومًا أخذوا جرابًا فيه شحم فما عيب عليهم ولا طولبوا به

(4)

، وقد مضى من سنن المسلمين في الغنائم وأكلهم منها ما لا خلاف فيه.

(1)

"معجم البلدان" 2/ 296.

(2)

"شرح ابن بطال" 5/ 406.

(3)

ورد بهامش الأصل: في بعض طرق "الصحيح" بذي الحليفة من تهامة.

(4)

سلف برقم (3153) كتاب: فرض الخمس، باب: ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، ورواه مسلم (1772) كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب.

ص: 425

قالوا: وكانوا في هذِه الغنيمة بذي الحليفة -قريبًا من المدينة- وقد أسلفنا هذا ووهنَّاه وقال: ولم يكونوا مضطرين إلى أكل الغنيمة، فأراهم الشارع أن هذا ليس لهم فمنعهم مما فعلوه بغير إذنه، فكان في باب الخوف من الغُلول وقد سلف هذا في الجهاد في باب: ما يكره من ذبح الإبل بزيادة، فراجعه.

قال: ولو قيل: إن معنى ذلك من قِبَل أنهم بادروا قبل القسم لكان داخلًا في المعنى الذي ذكرناه، ولو قيل: إنما كان ذلك من قِبَل أن الغنيمة كانت إبلًا وغنمًا كلها؛ لكان داخلًا في المعنى كان وجهه أنهم فعلوا ما ليس لهم

(1)

.

وقوله: (فأمر بالقدور فأكفئت). هو بالهمز أي: قلبت. وزعم ابن الأعرابي أنها لغة والمشهور في اللغة: كفأت الإناء إذا قلبته وقيل: أكفأت: أملت.

وقوله: (ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير). قال ابن بطال: ولم ينقل أحد أنه دخل في ذلك قرعة وما لم يدخله قرعة لا يضره اختلاف أجناسه في القسمة تساووا أو تفاضلوا إذا رضوا بذلك

(2)

.

قال ابن التين: ومذهب مالك أن الغنم لا تجمع مع الإبل في القسم، فإن كان أراد أنه قسم بغير قرعة فيكون ذلك موافقًا لمذهبه.

ومعنى: (ندَّ): شرد. يقال: ندَّ نديدًا وندادًا إذا شرد وفر.

ومعنى (فأهوى إليه رجل) أي: أومأ إليه.

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 406.

(2)

"المرجع السابق".

ص: 426

وقوله: (فحبسه الله) أي: بذلك السهم ومنعه من النفار الذي كان به حتى أدرك فذكي. قال ابن بطال: وليس في الحديث ما يمنع من هذا المعنى إذ لم يقل فيه "فحبسه الله" فمات فبان أنه أدرك فذكي، وذكاته ترفع التنازع في أكله ويصير إلى الإجماع في أكله، وهو قولنا فيما غلبنا من المواشي الإنيسة أنا نحبسها بما استطعنا، فما أدركنا منها لم تنفذ مقاتله فذكيناه أكلناه، وإذا أنفذنا مقاتله لم نحمله محمل الصيد إذ لم يأتنا في ذلك شيء بين نتبعه فنحن في صيد الوحش على ما إذا أذن الله ورسوله.

وفي ذكاة الإنسي على ما جاءنا به حكم الذكاة، وسيأتي اختلاف العلماء في هذِه المسألة في بابها في سائر الحديث في الذبح بالسن والظفر في بابه إن شاء الله

(1)

.

ولا يبعد أن يكون سلف أيضًا. وما ذكره هو مذهب مالك لا يجوز فيها إلا أن تحبس بسهم كما جاء في الحديث: أوغر فيه أو طعن أو غير ذلك.

ما لم ينفذ فيه المقاتل، ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة أن ما ند من الأنسية يستباح بما يستباح به الصيد، ووافق ابن حبيب في البقر قال: لأن لها أصلاً في التوحش.

وانفصل المالكية عن هذا الحديث بأنه إنما أثبته وحبسه ولم ينفذ مقاتله، وأبيح ذلك إصلاحًا ليمسك على صاحبه.

ودليله أنه حكم ثبت لبهيمة الأنعام فلا يخرج عن التوحش كالذكاة وإخراجها في الضحايا والهدايا وألزم بعض الفقهاء ابن حبيب بسائر

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 407.

ص: 427

الأنعام على قوله: يطعن الشاة والبعير في الجنب إذا لم يقدر على ذكاته.

فقال: وكذلك هذا إذا تعذرت ذكاته أيضًا، يجوز أن يصنع به كالصيد في كل موضع.

وقوله: ("إن لهذِه البهائم أوابد"). أي: توحشًا يقال: أبدت البهيمة توحشت، والأوابد: التوحش.

قال أبو عمرو الشيباني: قال النمري: الآبدة: التي تلزم الخلاء فلا تقرب أحدًا ولا يقربها، وقال أبو عمرو: وقد أبدت الناقة تأبدًا أبودًا إذا انفردت وحدها وتفردت، وتأبد أي: تفرد. وقال مرة: هي آبدة إذا ذهبت في المرعى وليس لها راعٍ فأبعدت شهرًا أو شهرين.

وقال أبو علي في "البارع" في باب وبد: قال ابن أبي طرفة: المستوبد المستوحش.

يقال: خلوت فاستوبدت، أي: استوحشت.

وقوله: (ليس معنا مدى) هو: جمع مدية بضم الميم، وقد تكسر، وهي الشفرة ومعنى ("أنهر الدم"): أساله.

وقوله: ("ليس السن والظفر") أخذ به مالك مرة فيما حكاه ابن القصار، ومحمد، وبه قال الشافعي

(1)

، سواء كانا متصلين أو منفصلين.

وعنه رواية ثانية ذكرها ابن وهب: يجوز بهما منفصلين ولا يجوز متصلين.

وبه قال أبو حنيفة قال ابن القصار: وقد رأيت لبعض شيوخنا أنه مكروه بالسن، مباح بالعظم.

(1)

"الأم" 2/ 200

ص: 428

قال: وعندي أنهما إذا كانا عريضين حتى يمكن قطع الحلقوم بهما في مرة واحدة صحت الذكاة بهما، وكذا سائر العظام كانت مما يؤكل لحمه أم لا.

وأجاب عن هذا الحديث بجوابين أحدهما: بحمله على الكراهة، والثاني: أن السن والضرس صغيران لا يصح قطع الأوداج بهما وهذا لا يصح؛ لأنه قال: ("ما أنهر الدم").

ثم استثنى ذلك فظاهره عدم الذكاة بهما، وإن كانا كبيرين ينهران والحاصل أربعة أقوال: الجواز، والمنع، والتفرق بين المتصل والمنفصل، وكراهة السن وإباحة العظم

(1)

.

وقوله: (ليس السن والظفر) استثناهما بليس.

وفي رواية أخرى، (إلا) بدل (ليس) وهي مثلها.

قال في "الصحاح" يضمر اسمها فيها وينصب خبرها

(2)

. والتقدير: وليس مجزئًا السن والظفر مأكولًا. وضم السن في بعض الكتب كما ذكره ابن التين وقال: ليس سن بل هو منصوب.

(1)

انظر: "المنتقى" 3/ 106 - 107

(2)

"الصحاح" 3/ 976 مادة [ليس].

ص: 429

‌16 - باب مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ والأزلام

5499 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ الْمُخْتَارِ- أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ، وَذَاكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُفْرَةً فِيهَا لَحْمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلَا آكُلُ إِلاَّ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ. [انظر: 3826 - فتح:

9/ 630].

ذكر فيه حديث سالم: أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَقِيَ زيدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحٍ .. الحديث.

وقد تقدم في الفضائل في باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل

(1)

أطول منه.

و (بلدح): وادٍ قرب مكة من جهة الغرب كما قاله عياض

(2)

، وقال هنا:(سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها) ثم قال: (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه) وظاهره دال أن زيدًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آكل مما تذبحون إلى آخره، يوهم أنه عليه السلام كان يأكل ذلك، وحاشاه منه، فإنه أولى باجتناب ذلك منه، وقد سلف هناك مبينًا.

فالسفرة إنما قدمتها قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل منها، فقدمها عليه السلام إلى زيد فأبى أن يأكل منها، ثم قال لقريش الذين قدموها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم. ولم يك زيد

(1)

سلف برقم (3826) كتاب: مناقب الأنصار.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 116.

ص: 430

في الجاهلية بأفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحين امتنع زيد فهو عليه السلام الذي كان (حباه)

(1)

الله لوحيه واختاره أن يكون خاتم النبيين أولى من الامتناع منها في الجاهلية أيضًا.

فصل:

(النصب) بضم الصاد وقرأه طلحة بإسكانها، قال مجاهد: هي حجارة كانت (حول مكة)

(2)

يذبحون عليها وربما استبدلوا منها

(3)

.

والنصب قيل: هو واحد كعنق، وقيل: هو جمع نصاب كحمر وحمار، وأنصاب الحرم: أعلامه، جمع نصب، وقد يجمع أيضًا: نصبًا، كما قال تعالى:{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] وكانت هذِه النصب ثلاثمائة وستين حجرًا مجموعة عند الكعبة، كانوا يذبحون عندها لآلهتهم، ولم تكن أصنامًا وذلك أن الأصنام كانت تماثيل وصورًا مصورة، وأما النصب فكانت حجارة مجموعة. وقال ابن زيد: ما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به واحد.

ومعنى (أهل لغير الله به): ذكر عليه غير اسم الله من أسماء الأوثان (التي)

(4)

كانوا يعبدونها، وكذا المسيح وكل اسم سوى الله، فالمعنى ما ذبح للآلهة وللأوثان فسمي عليه غير اسم الله.

واختلف الفقهاء في ذلك، فكره عمر وابنه وعلي، وعائشة ما أهل به لغير الله، وعن النخعي والحسن مثله، وهو قول الثوري.

(1)

ورد بهامش الأصل: لعله اختاره.

(2)

في "تفسير مجاهد": (حول الكعبة).

(3)

"تفسير مجاهد" 1/ 185.

(4)

في الأصول: (الذي) والمثبت هو الموافق للسياق.

ص: 431

وكره مالك ذبائح النصارى لكنائسهم وأعيادهم وقال؛ لا يؤكل ما سمي عليه المسيح.

وقال إسماعيل بن إسحاق: كرهه مالك من غير تحريم، وقال أبو حنيفة: لا يؤكل ما سمي المسيح عليه، وقال الشافعي: لا يحل ما ذبح لغير الله، ولا ما ذبح للأصنام.

ورخص في ذلك آخرون، روي ذلك عن عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وأبي أمامه.

وقال عطاء والشعبي: قد أحل الله ما أهل به لغير الله؛ لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول، وأحل ذبائحهم.

وذهب الليث وفقهاء أهل الشام، مكحول وسعيد بن عبد العزيز والأوزاعي قالوا: سواء سمى المسيح على ذبيحته، أو ذبح لعبد أو كنيسة، كل ذلك حلال؛ لأنه كتابي ذبح لدينه وكانت هذِه ذبائحهم قبل نزول القرآن، وأحله الله تعالى في كتابه.

قال ابن بطال: وإذا ثبت (أن)

(1)

ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم قبل نزول القرآن وأحله الله تعالى وما أهلوا به لغير الله من طعامهم المباح لنا، فلا حجة لمن حرمه ومنعه

(2)

، وهدى الله زيدًا للامتناع مما سلف قبل أن ينزل على رسوله التحريم. وفي كتاب ابن التين: ما ذبح على النصب محرمٌ أكله، ونص عليه في كتاب محمد، وما ذبح للكنائس، ولعيسى، وللصليب وما قضى من أحبارهم يضاهي به ما أهل لغير الله، ولم يبلغ به مالك التحريم؛ لأن الله تعالى أحل لنا طعامهم وهو يعلم ما يفعلون، فليتأمل الفرق بين الصليب والنصب.

(1)

من (غ).

(2)

"شرح ابن بطال" 5/ 410.

ص: 432

فائدة:

زيد هذا هو أبو سعيد والد أحد العشرة، كان من بني عدي، طلب الدِّين وقد سأل عن اليهودية، فقال: أن تأخذ بحظك من لعنة الله تعالى، فقال: لا أحمل منها شيئًا؛ فقيل له: عليك بدين إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا فقال: اللهم إني وجهت وجهي إليك وإني على ملة إبراهيم.

ص: 433

‌17 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ»

5500 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَجَلِيِّ قَالَ: ضَحَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُضْحِيَّةً ذَاتَ يَوْمٍ، فَإِذَا أُنَاسٌ قَدْ ذَبَحُوا ضَحَايَاهُمْ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَآهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدْ ذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ:«مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ كَانَ لَمْ يَذْبَحْ حَتَّى صَلَّيْنَا فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ» . [انظر: 985 - مسلم: 1960 - فتح 9/ 630].

ذكر فيه حديث (جرير)

(1)

، السالف في العيدين ويأتى في الأضاحي والنذور والتوحيد

(2)

، وأخرجه مسلم والنسائي

(3)

،، وموضع الحاجة منه:"ومن كان لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله".

وفائدة هذِه الترجمة بعد تقدم الترجمة على التسمية التنبيه على أن الناسي ذبحَ على اسم الله؛ لأنه لم يقل في الحديث فليسم، وإنما جعل أصل ذبح المسلم على اسم الله من صفة فعله ولوازمه كما ورد ذكر الله على قلب كل مسلم سمى أو لم يسم.

وفي "المراسيل": ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر

(4)

، وللدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا:"المسلم تكفيه التسمية"

(5)

،

(1)

كذا في الأصول، والصواب جندب.

(2)

سلف في العيدين برقم (985) باب: كلام الإمام والناس في خطبة العيد، وسيأتي في الأضاحي برقم (5562) باب: من ذبح قبل الصلاة أعاد، كما سيأتي في الأيمان والنذور برقم (6674) باب: إذا حنث ناسيًا في الأيمان، وفي التوحيد برقم (7400) باب: السؤال بأسماء الله ..

(3)

مسلم (1960) كتاب: الأضاحي، باب: وقتها، والنسائي 7/ 224.

(4)

"المراسيل" لأبي داود (378).

(5)

"سنن الدارقطني" 4/ 296.

ص: 434

وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "اسم الله على كل مسلم"

(1)

، وهما ضعيفان، وأما المعتمد بالترك فيلحق بالمتهاون باسمه، وذلك كالصيد الخاص للتسمية، نبه عليه ابن المنير

(2)

وهو ماشٍ على قاعدته في التسمية.

قال المهلب: وقد سلف أن التسمية من سنن الذبح، وفيه العقوبةُ في المال؛ لمخالفة السنة والتعزيرُ عليها كما عاقب الذين استعجلوا في ذي الحليفة وإنما اتجهت العقوبة بالمنع لهم؛ لما استعجلوه قبل.

وفيه: من أصل السنة أن من استعجل شيئًا قبل وجوبه أن يحرمه، كمن استعجل الميراث حرمه الله، ومن استعجل الوطء فنكح في العدة حرم ذلك أبدًا، كذا نقل ابن بطال

(3)

، فكذلك هؤلاء الذين عجلوا الضحايا قبل وقتها حرموها عقوبة لهم.

فصل:

قوله: ("على اسم الله") أي: باسم الله، وحروف الجر تبدل بعضها من بعض قاله الداودي، وعن بعض الناس: لا يقال على اسم الله؛ لأن اسم الله تعالى على كل شيء.

فصل:

صفة التسمية: باسم الله، والله أكبر قاله محمد.

وترجم البخاري في الأضاحي: باب التكبير عند الذبح وساق من حديث أنس: أنه عليه السلام لما ذبح سمى وكبر.

(1)

"سنن الدارقطني" 4/ 295، ورواه أيضًا الطبراني في "الأوسط" 5/ 94 (7469)، والبيهقي في "السنن" 9/ 240.

(2)

"المتواري" ص 206.

(3)

"شرح ابن بطال" 5/ 410.

ص: 435

قال ابن حبيب: فلو قال: باسم الله فقط أو الله أكبر فقط، أو لا إله إلا الله أو سبحان الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله من غير تسمية أجزأ، ولكن ما مضى عليه الناس أفضل، وهو باسم الله والله أكبر.

فصل:

استأجر رجلاً على أن يضحي عنه ويسمعه التسمية، (فذبح ولم يسمعه)

(1)

فاختلف الشيوخ فيها على ثلاثة أقوال حكاها ابن التين.

فقال الشيخ أبو بكر ابن عبد الرحمن: له الأجرة، ولا يضمن قيمتها وعكس غيره، وقال آخرون: لا فيهما.

فصل:

قد ترجم البخاري على قوله: "ومن كان لم يذبح فليذبح على اسم الله" في الأضاحي.

(1)

من (غ).

ص: 436

‌12 - باب مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَعَادَ

5561 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ» . فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ -وَذَكَرَ مِنْ جِيرَانِهِ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَذَرَهُ- وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ. فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَا أَدْرِي بَلَغَتِ الرُّخْصَةُ أَمْ لَا، ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ -يَعْنِي: فَذَبَحَهُمَا- ثُمَّ انْكَفَأَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَذَبَحُوهَا. [انظر: 954 - مسلم: 1962 - فتح 10/ 20]

5562 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ، سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ سُفْيَانَ الْبَجَلِيَّ قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّىَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ» . [انظر: 985 - مسلم: 1960 - فتح 10/ 20]

5563 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ:«مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، فَلَا يَذْبَحْ حَتَّى يَنْصَرِفَ» . فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلْتُ. فَقَالَ:«هُوَ شَيْءٌ عَجَّلْتَهُ» . قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ، آذْبَحُهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ، ثُمَّ لَا تَجْزِى عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» . قَالَ عَامِرٌ: هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتِهِ. [انظر: 951 - مسلم: 1961 - فتح 10/ 20]

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه السالف

(1)

، وفي آخره ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ -يَعْنِي: فَذَبَحَهُمَا- ثُمَّ انْكَفَأَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَذَبَحُوهَا.

وحديث جندب بن سفيان السالف فيه في باب: كلام الإمام الناس في خطبة العيد

(2)

.

(1)

سيأتي برقم (5549) باب: ما يشتهى من اللحم يوم النحر.

(2)

سلف برقم (985) كتاب: العيدين.

ص: 437

وحديث البراء السالف أيضًا فيه

(1)

، وفيه: عِنْدِي جَذَعَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ. قَالَ عَامِرٌ: هِيَ خَيْرُ نسيكتيه.

وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، وعندنا: إذا ذهب من الوقت مقدار ما تُصلى ركعتين وخطبتين خفيفات جاز الذبح. وفيه: الذبح بعد الخطبة.

(1)

سلف برقم (983).

ص: 438

‌18 - باب مَا أَنْهَرَ الدَّمَ مِنَ الْقَصَبِ وَالْمَرْوَةِ وَالْحَدِيدِ

5501 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، سَمِعَ ابْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يُخْبِرُ ابْنَ عُمَرَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا، فَقَالَ: لأَهْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ، أَوْ حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -أَوْ بَعَثَ إِلَيْهِ- فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَكْلِهَا. [انظر: 2304 - فتح 9/ 630]

5502 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَخْبَرَ عَبْدَ اللهِ، أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِالْجُبَيْلِ الَّذِي بِالسُّوقِ وَهْوَ بِسَلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا، فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهَا. [انظر: 2304 - فتح 9/ 631]

5503 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ لَنَا مُدى. فَقَالَ:«مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ، لَيْسَ الظُّفُرَ وَالسِّنَّ، أَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ، وَأَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ» . وَنَدَّ بَعِيرٌ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ:«إِنَّ لِهَذِهِ الإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا هَكَذَا» . [انظر: 2488 - مسلم: 1968 - فتح 9/ 631]

ذكر فيه أحاديث.

أحدها:

حديث رافع "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ " وقد سلف

(1)

.

ثانيها:

حديث نَافِعٍ، سَمِعَ ابن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ يُخْبِرُ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتًا،

(1)

سلف برقم (5498) باب: التسمية على الذبيحة.

ص: 439

فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا، فَقَالَ: لأهْلِهِ: لَا تَأْكُلُوا حَتَّى آتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ، أَوْ حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ. فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -أَوْ بَعَثَ- فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَكْلِهَا.

ثالثها:

حديث نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَخْبَرَ عَبْدَ اللهِ، أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ بِالْجُبَيْلِ الذِي بِالسُّوقِ وَهْوَ بِسَلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا، فَذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِهَا.

وقد سلف في الوكالة من حديث نافع أنه سمع ابن كعب بن مالك يحدث عن أبيه أنه كانت لهم غنم بسلع ترعى .. الحديث

(1)

.

وفي الأول لطيفة: وهي رواية صحابي عن تابعي؛ لأن ابن عمر رواه عن ابن كعب بن مالك وهو تابعي، نبه عليه ابن التين وتوبع، وفي هذا الحديث خمس فوائد: ذبيحة المرأة، وذبيحة الأمة، والذكاة بالحجر، وذكاة ما أشرف على الموت، وذكاة غير المالك بغير وكالة وقد سلف ذلك في الوكالة واضحًا.

فصل:

اختلف إذا ذبح الراعي شاة، وقال: خشيت عليها الموت فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه وضمنه غيره.

فصل:

المروة: الحجارة البيض وقيل: إنها الحجارة التي تقدح منها النار.

(1)

سلف برقم (2304) باب: إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاةً تموت ..

ص: 440

فصل:

ترجم لحديث رافع مختصرًا باب: لا يزكى بالسن والعظم، والظفر كما سيأتي

(1)

.

فصل:

في حديث كعب جواز ذبيحة المرأة كما سلف وهو قول جمهور الفقهاء، وذلك إذا أحسنت الذبح، وكذلك الصبي عندهم إذا أحسنه، قال مالك في "المدونة": تجوز ذكاة المرأة من غير ضرورة، والصبي إذا أطاق الذبح

(2)

. قال ابن حبيب: مختونًا كان أو غير مختون، وفي كتاب محمد لمالك تكره ذبيحة المرأة والصبي، وكذلك اختلف في كراهة ذبح الخصي.

فصل:

قوله: (جارية) في المواضع الثلاث

(3)

هنا، والوكالة أكثر ما تستعمل هذِه اللفظة في الأمة، وقد جاء مصرحًا به في رواية أخرى: أمة، وذكره البخاري بعد بلفظ: امرأة، وبلفظ: جارية.

فصل:

استدل الفقهاء بحديث كعب على جواز أكل ما ذبح بغير إذن مالكه كما سلف، وردوا به على من أبى من أكل ذبيحة السارق والغاصب، وهو قول يروى عن عكرمة وطاوس، وبه قال أهل الظاهر وإسحاق وهو شذوذ لا يلتفت إليه والناس على خلافه، وقال ابن المنذر: وليس بين ذبيحة السارق وذبيحة المحرم فرق.

(1)

سيأتي برقم (5506) باب رقم (20).

(2)

"المدونة" 1/ 429.

(3)

عليها في الأصل: كذا.

ص: 441

فصل:

وفيه تصديق الراعي والأجير فيما اؤتُمن عليه حتى يظهر عليه دليل الخيانة والكذب نبه عليه المهلب.

فصل:

اختلف العلماء فيما يجوز أن يذبح به فقالت طائفة: كل ما ذكي به من شيء أنهر الدم وفرى الأوداج ولم يتردَّ جازت به الذكاة إلا السن والظفر لنهي الشارع عنهما، وإن كان منزوعين، هذا قول النخعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور احتجاجًا بحديث رافع.

وقال مالك وأبو حنيفة: كل ما فرى الأوداج وأنهر الدم تجوز الذكاة به، ويجوز بالسن والظفر المنزوعين، فأما إن كانا غير منزوعين فإنه لا يجوز؛ لأنه يصير خنقًا وفي ذلك ورد النهي؛ ولذلك قال ابن عباس: ذلك الحق لأن ما ذبح به إنما يذبح بكف لا بغيرها فهو يجوز وكذلك ما نهى عنه من السن، إنما هو السن المركبة؛ لأن ذلك يكون عضًا.

وأما إذا كانا منزوعين وفريا الأوداج فجائز الذكاة بهما؛ لأنه في حكم الحجر كلما قطع ولم يتردَّ وإذا جازت التذكية بغير الحديد جازت بكل شيء في معناه.

وذكر الطحاوي: أن طائفة ذهبت إلى أنه يجوز الذكاة بالسن والظفر المنزوعين، وقد أسلفنا الخلاف في ذلك في باب: التسمية على الذبيحة.

واحتجوا بما روى سفيان -يعني: ابن سعيد، من عند أبي داود

(1)

،

(1)

رواه أبو داود (2824) من طريق حماد، عن سماك بنحوه.

ص: 442

وقد سلف- عن سماك، عن مُرَي بن قطري، رجل

(1)

من بني ثعلبة عن عدي قلت: يا رسول الله أرسل كلبي فيأخذ الصيد فلا يكون عندي ما نذكيه به إلا المروة والعصا، قال:"أنهر الدم بما شئت، واذكر اسم الله"

(2)

.

وحديث رافع أصح من هذا الحديث فالمصير إليه أولى ولو صح حديث عدي لكان معناه: أنهر الدم بما شئت إلا بالسن والظفر، وزاد الطبري: وما كان نظيرًا لهما وهو القرن وهذِه زيادة وتفسير لحديث عدي يجب الأخذ بها.

فصل:

روى ابن حزم عن طاوس منع ذبيحة الزنجي، وعن ابن عباس: الأقلف لا تُؤكل ذبيحته، ولا تقبل له صلاة ولا شهادته، وسيأتي في باب ذبائح أهل الكتاب، عن الحسن وإبراهيم: لا بأس بذبيحة الأقلف

(3)

، وقال ابن المنذر: اتفق عوام أهل العلم على جواز ذبيحتهم؛ لأن الله تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب ومنهم من لم يختتن.

قال ابن حزم: وتذكية الحائض والزنج، والأخرس والفاسق، والجنب أو ما ذبح أو نحو لغير القبلة (عمدًا) أو غير عمد جائزًا أكلها إذا ذكروا الله، أو سموا على حسب طاقتهم بالإشارة من الأخرس ويسمي الأعجمي بلغته

(4)

.

(1)

في الأصول: عن رجل. والمثبت كما في "سنن أبي داود".

(2)

"شرح معاني الآثار" 4/ 183.

(3)

سيأتي معلقًا قبل حديث (5508)، وأثر الحسن وصله عبد الرزاق 4/ 484 (8562)، وأما أثر إبراهيم فوصله أبو بكر الخلال كما في "الفتح" 9/ 637.

(4)

"المحلى" 7/ 453.

ص: 443

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره ذبيحة الآبق، وذبيحة من ذبح لغير القبلة، وصح عن ابن سيرين وأبي الشعثاء مثل الثاني.

وعن عكرمة وقتادة: يذبح الجنب إذا توضأ.

وعن الحسن: يغسل وجهه وذراعيه، وروى ابن حزم أن التذكية بآلة أخذت بغير حق حرام وهو ميتة

(1)

. وقد أسلفناه عن أهل الظاهر أيضًا.

(1)

"المحلى" 7/ 452.

ص: 444

‌19 - باب ذَبِيحَةِ الْمَرْأَةِ وَالأَمَةِ

5504 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُخْبِرُ عَبْدَ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبٍ بِهَذَا. [انظر: 2304 - فتح 9/ 632]

5505 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ -أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ- أَخْبَرَهُ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«كُلُوهَا» . [فتح 9/ 632]

ذكر فيه حديث نَافِعٍ، عَنِ ابنٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أمْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بحَجَرٍ .. الحديث. وقد سلف.

وَقَالَ اللَّيْثُ: ثَنَا نَافِعٌ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ يُخْبِرُ عَبْدَ اللهِ بن عمر، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبٍ بهذا.

ثم ساقه من حديث مَالِك، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ سَعْدٍ -أَوْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ- أَخْبَرَهُ أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسَلْعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"كُلُوهَا". وقد سلف، فيه ذلك قريبًا.

وقوله: (المرأة والأمة) فهو مطابق لما ذكره حيث قال مرة: امرأة، ومرة: جارية، وقد سلف أيضًا.

وتعليق الليث أسنده الإسماعيلي فقال: أخبرنا ابن شريك، ثنا أحمد بن يونس، ثنا الليث بن سعد به.

ص: 445

‌20 - باب لَا يُذَكَّى بِالسِّنِّ وَالْعَظْمِ وَالظُّفُرِ

5506 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُلْ -يَعْنِي: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ- إِلاَّ السِّنَّ وَالظُّفُرَ» . [انظر: 2488 - مسلم: 1968 - فتح 9/ 633]

ثم ساق فيه حديث رافع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلْ مَا أَنْهَرَ الدَّمَ إِلا السِّنَّ وَالظُّفُرَ".

هذا الحديث سلف الكلام عليه قريبًا مرة بعد مرة.

ص: 446

‌21 - باب ذَبِيحَةِ الأَعْرَابِ وَنَحْوِهِمْ

5507 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ حَفْصٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا. فَقَالَ: «سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ» . قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ. تَابَعَهُ عَلِيٌّ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ. وَتَابَعَهُ أَبُو خَالِدٍ وَالطُّفَاوِيُّ. [انظر: 2057 - فتح 9/ 634]

ذكر فيه حديث أسامة بن حفص المدني عن هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا. فَقَالَ: "سَمُّوا الله عَلَيْهِ وَكُلُوهُ". قَالَتْ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ. تَابَعَهُ عَلِيٌّ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ. وَتَابَعَهُ أَبُو خَالِدٍ وَالطُّفَاوِيُّ.

هذا الحديث من أفراد البخاري، وقد ذكره في التوحيد أيضًا

(1)

.

وقوله: (تابعه علي)، يعني: تابع أسامةَ بن حفص، عن هشام. عبدُ العزيز بن محمد الدراوردي، وأبو خالد سليمان بن حيان الأحمر، ومحمد بن عبد الرحمن الطفاوي البصري، فرووه عن هشام. وطفاوة بنت جرم بن ريان بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، كانت عند حبال بن منبه، ومنبه هو أعصر بن سعد بن قيس غيلان، وأخوه: عقبى واسمه عمرو بن أعصر، وعمهما: غطفان بن سعد، فنسب ولد حبال إلى أمهم.

والراوي عن أسامة: شيح البخاري محمد بن عبيد الله بن محمد بن زيد بن أبي زيد المدني.

(1)

سيأتي برقم (7398)، باب: السؤال بأسماء الله ..

ص: 447

وروى النسائي عن رجل عنه، صحب ابن القاسم وأتى بعلمه العراق، فأخذ عنه إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد قاضي بغداد.

وهاتان المتابعتان ذكرهما البخاري في التوحيد بزيادة، فقال: عقب حديث أخرجه عن يوسف بن موسى، تابعه محمد بن عبد الرحمن والدراوردي وأسامة بن حفص، يريد هذا الحديث المسند هنا.

والتعليق عن الدراوردي أخرجه الإسماعيلي عن ابن كاسب عنه، وأبو داود عن يوسف بن موسى عنه

(1)

، وطريق الطفاوي ساقها في البيوع عن أحمد بن المقدام العجلي عنه

(2)

. وسماه هناك محمد بن عبد الرحمن.

وقوله: (تابعه أبو خالد)، يريد ما ذكره في التوحيد متصلًا عن يوسف بن موسى عنه، زاد الإسماعيلي أنه تابعه أيضًا عبد الرحيم بن سليمان ويونس بن بكير ومحاضر وأبو سلمة ومالك بن أنس، وزاد الدارقطني: تابعه أيضًا النضر بن شميل، وعمر بن مجمع، ورواه عبد الوهاب بن عطاء، عن مالك فرفعه. قال في "غرائب الموطأ": تفرد به عبد الوهاب، عن مالك متصلاً، وغيره يرويه عن مالك، عن هشام، عن أبيه مرسلًا

(3)

، وادعى ابن عبد البر أنه لم يختلف عن مالك في إرساله

(4)

.

(1)

أبو داود (2829).

(2)

سلف برقم (2057) باب: من لم ير الوساوس ..

(3)

"الموطأ" ص 302 (1).

(4)

"التمهيد" 22/ 298.

ص: 448

قال الدارقطني في "علله": ورواه حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن عيينة، ويحيى القطان، والمفضل بن فضالة، عن هشام، عن أبيه مرسلًا ليس فيه عن عائشة والمرسل أشبه بالصواب.

قلت: وله طرق أخرى مرسلة أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن الشعبي: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك بجبنة فقيل: إن هذا طعام تصنعه المجوس فقال: "اذكروا اسم الله عليه وكلوه"

(1)

وأخرج ابن حزم في "محلاه" من حديث ابن عيينة، عن هشام، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اجتهدوا أيمانهم وكلوا" يعني: اللحمان التي تقدم بها الأعراب لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا. وهذا مرسل، قال: ولا حجة في المرسل

(2)

.

وروى الطحاوي في "مشكله": سأل ناس من الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أعاريب يأتوننا بلحمان مشروحة وجبن وسمن (ما ندري)

(3)

ما كنه إسلامهم قال: "انظروا ما حرم الله عليكم فأمسكوا عنه، وما سكت عنه فإنه عفي لكم عنه، وما كان ربك نسيا، اذكروا اسم الله"

(4)

ومثل هذا ما روي عن ابن عباس: بعث الله نبيه وأحل حلاله وحرم حرامه وما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو ثم تلا {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية

(5)

[الأنعام: 145].

(1)

"المصنف" 5/ 130 (24417).

(2)

"المحلى" 7/ 458.

(3)

من (غ).

(4)

"شرح مشكل الآثار" 2/ 226 (754).

(5)

رواه أبو داود (3800)، والبيهقي في "السنن" 9/ 330.

ص: 449

فصل:

قد أسلفنا أن هذا الحديث عمدتنا في أن التسمية في الابتداء ليست شرطًا، وكذا قال المهلب: هذا أصل في أن التسمية في الذبح ليست بفرض، ولو كانت فرضًا لاشترطت على كل حال. والأمة مجمعة على أن التسمية على الأكل مندوب إليها، وليست فرضًا، فلما نابت عن التسمية على الذبح دلّ أنها سنة؛ لأنه ينوب عن فرض، وهذا يدل أن حديث عدي، وأبي ثعلبة

(1)

محمولان على التنزيه من أجل أنهما كانا صائدين على مذهب الجاهلية، فعلمهما أمر الصيد والذبح دقيقه وجليه لئلا يواقعا شبهة من ذلك، ويأخذا بأكمل الأمور في بدء الأمر، فعرفهم عليه السلام. وهؤلاء القوم جاءوا مستفتين لأمر قد وقع ويقع من غيرهم ليس لهم فيه قدرة على الأخذ بالكمال في بدئه، فعرفهم بأصل ما أحله الله لهم ولم يقل لعدي: إنك إن فعلت فإنه حرام، ولكن قال له:"لا تأكل فإني أخاف".

فأدخل عليه الشبهة التي يجب التنزه عنها والأخذ بالأكمل قبل مواقعتها، ويدل على صحة هذا المعنى- أنه قد يستدل قبل وقوع الأمر ولا يشهد بعده- قضية اللعن

(2)

لشارب الخمر

(3)

قبل شربها، ونهيه عن اللعنة بعده بقوله:"لا تعينوا الشيطان على أخيكم"

(4)

وقال

(1)

حديث عدي سلف برقم (5487)، وحديث أبي ثعلبة الخشني سلف أيضًا برقم (5488). باب: ما جاء في التصيد.

(2)

هكذا في الأصل، والعبارة في "شرح ابن بطال" 5/ 413: أنه قد يشتد قبل وقوع الأمر، ولا يشتد بعد وقوعه: قصةُ اللعن.

(3)

رواه أبو داود (3674)، وابن ماجه (3380) من حديث ابن عمر.

(4)

سيأتي برقم (6777) كتاب: الحدود، باب: الضرب بالجريد والنعال.

ص: 450

ابن التين: يحتمل أن يراد بالتسمية هنا عند الأكل؛ لأن ذلك مما يثني عليهم من التكلف وأما التسمية على ذبح تولاه غيرهم من غير علمهم فلا تكليف عليهم وإنما يحمل على الصحة إذا تبين خلافهما ويحتمل أن يريد أن تسميتكم الآن تستبيحون بها أكل ما لم تعلموا أَذكروا اسم الله عليه أم لا؟ إذا كان الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمى.

وفيه: أن ما في الأسواق من اللحم محمول على الصحة وكذا ما ذبحه الأعراب؛ لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية وعلى ذلك عمل المسلمين، وقال أبو عمر بن عبد البر: فيه من الفقه أن ما ذبحه المسلم ولم يعرف هل سمى الله عليه أم لا؟ لا بأس بأكله وهو محمول على أنه قد سمى، والمؤمن لا يُظن به إلا الخير وذبيحته وصيده محمول على السلامة حتى يصح فيه غير ذلك من تعمد ترك التسمية ونحوه.

وقد قيل في معنى هذا الحديث أنه عليه السلام أمرهم بأكلها في أول الإسلام قبل أن ينزل عليه: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وهو قول ضعيف لا دليل على صحته، ولا يعرف وجه ما قال قائله، وفي الحديث نفسه ما يرده؛ لأنه أمرهم فيه بالتسمية على أكله فدل على أن هذِه الآية كانت نزلت عليه ومما يدل على بطلان هذا القول (أن)

(1)

هذا الحديث كان بالمدينة، وأن أهل باديتها هم المشار إليهم ولا يختلف العلماء أن هذِه الآية نزلت في سورة الأنعام بمكة.

وقام الإجماع على أن التسمية على الأكل للتبرك لا مدخل فيها

(1)

من (غ).

ص: 451

للذكاة بوجه من الوجوه، وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة بهذا الحديث.

وقالوا: لو كانت التسمية واجبة على الذبيحة لما أمرهم عليه السلام بأكل ذبيحة الأعراب أهل البادية، إذ يمكن أن يسموا ويمكن ألا بجهلهم، ولو كان الأصل ألا يؤكل إلا من ذبائح المسلمين، أو ما صحت التسمية عليه لم يجز استباحة شيء من ذلك إلا بيقين من التسمية؛ إذ الفرائض لا تؤدى إلا بيقين

(1)

.

وأغرب ابن حزم فقال: تسمية الله فرض على كل آكل عند ابتداء أكله لحديث عمر بن أبي سلمة الذي فيه: "سم الله وكل مما يليك"

(2)

.

(1)

"التمهيد" 22/ 299 - 300.

(2)

"المحلى" 7/ 424، وحديث ابن أبي سلمة سلف برقم (5376) كتاب: الأطعمة، باب: التسمية على الطعام.

ص: 452

‌22 - باب ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَشُحُومِهَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهِمْ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ نَصَارِيِّ الْعَرَبِ، وَإِنْ سَمِعْتَهُ يُسَمِّى لِغَيْرِ اللهِ فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ فَقَدْ أَحَلَّهُ اللهُ، وَعَلِمَ كُفْرَهُمْ. وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ: لَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الأَقْلَفِ.

5508 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ. [انظر: 3153، مسلم: 1772 - فتح 9/ 636].

ثم ساق حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنهما قال: كُنَّا مُحَاصِرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ، فَرَمَى إِنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ، فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ.

وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: طَعَامُهُمْ: ذَبَائِحُهُمْ.

الشرح:

تعليق الزهري ذكره معمر بن راشد عنه، وهو في "الموطأ" مرفوعًا قال:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]

(1)

، وأجراهم مجرى نصارى العرب، وأثر علي يأتي عنه خلافه

(2)

، وأثر الحسن وإبراهيم

(1)

"الموطأ" ص 303 (5) عن ابن عباس موقوفًا.

(2)

سيأتي تخريجه قريبًا، وتعليق البخاري وصله عبد الرزاق 6/ 118 (10177)، وانظر:"تغليق التعليق" 4/ 514.

ص: 453

سلفا قريبًا، وحديث ابن مغفل سلف في آخر الخمس سندًا ومتنًا سواء

(1)

، وقل ما يقع له ذلك أعني: أن يعيده بمتنه وسنده سواء من غير زيادة، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي أيضًا

(2)

، ومن تفضل الرب جل جلاله إباحة الله لعباده المؤمنين ذبائح أهل الكتاب بالآية المذكورة، وقام الإجماع على أنه أريد بطعامهم في هذِه الآية: ذبائحهم.

وقد نقله البخاري عن ابن عباس، قال الداودي: وهو قول عوام العلماء، وكان ابن عمر يكرهه ويقول: أي شرك أعظم من قولهم في عزير والمسيح؟! قال: ولعله شك أن تكون الآية منسوخة للبعير والنحر للشاء.

واختلفوا في شحومهم المحرمة عليهم، إذا ذكوها، فكرهها مالك، وقال ابن القاسم وأشهب: إنها حرام، وروي عن مالك أيضًا.

وأجاز أكلها الكوفيون والثوري والأوزاعي والليث وابن وهب وابن عبد الحكم والشافعي.

واعتل من حرمها: بأن الله تعالى إنما أباح لنا ما كان طعامًا لهم من ذبائحهم، والشحم ليس بطعام لهم، فدليله أن ما ليس بطعام لهم فلا يحل لنا. وأيضًا فإنهم لا يقصدونه بالذكاة، والذكاة تحتاج إلى قصد، بدليل أنها لا تصح من المجنون والمبرسم، فجرى مجرى الدم الذي في الشاة.

وحجة المجيز أن الشحوم محرمة عليهم لا علينا؛ لأن ذبائحهم حلال لنا، فما وقع تحت ذبحهم مما هو في شريعتنا وسكوت عنه

(1)

سلف برقم (3153) باب: ما يصيب من الطعام في أرض الحرب ..

(2)

رواه مسلم (1772) كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز الأكل من طعام الغنيمة .. ، وأبو داود (2702)، والنسائي 7/ 236.

ص: 454

بالتحريم فهو حلال؛ بإطلاق الله لنا عليه، لا يقال: لما لم تعمل ذكاتهم في الدم فكذا الشحم؛ لأن الدم منصوص على تحريمه علينا وعلى كل أمة، والشحوم محرمة عليهم لا علينا، ألا ترى قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية [الأنعام: 145] وليس للشحوم فيها ذكر.

ومن حجة من لم يحرمها أن التذكية لا تقع على بعض الشاة دون بعض، ولما كانت الذكاة سائغة في جميعها دخل الشحم في التذكية؛ لأنها إذا ذكيت ذبح كلها، ثم إذا فصل الشحم فهو المحرم عليهم فكرهناه نحن بعد أن سبقت الذكاة فيه.

وحديث الباب حجة واضحة له؛ لأنه لو كان حرامًا لزجره عنه، وأعلمه تحريمه؛ للزوم البلاع عليه، إذ كان الأغلب أن يهود خيبر لا يذبح لهم مسلم.

فصل:

معنى: (فنزوت لآخذه): وثبت.

قال صاحب "الأفعال": نزا نزوًا (ونزاءً، ونزوانا)

(1)

وثب، ونزا على الشيء: ارتفع

(2)

.

فصل:

سلف الاختلاف في ذبائح أهل الكتاب للأصنام قريبا في باب ما ذبح على النصب والأصنام، وذكر البخاري عن علي رضي الله عنه أنه أجاز ذبائح نصارى العرب إذا لم يسمعه يسمي بغير الله، وذكر الطبري عن علي في نصارى بني تغلب خلاف ما ذكره البخاري، روى ابن سيرين عن

(1)

في الأصل: ونزوًّا.

(2)

"الأفعال" لابن القطاع 3/ 272.

ص: 455

عبيدة، عن علي: سألته عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا تأكل ذبائحهم فإنهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر

(1)

.

وهو قول ابن سيرين والنخعي، وقال مكحول: لا تأكلوا ذبائح بني تغلب، وكلوا ذبائح تنوخ وبهراء وسَلِيح

(2)

، فنهى عن أكل ذبائحهم فيجب على مذهبه أن يُنهى عن نكاح نسائهم، وقال آخرون: كل ذبائحهم، ونكاح نسائهم حلال، وروي ذلك عن ابن عباس وقرأ:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وعن الشعبي والحسن وعطاء والحكم مثله.

قال الطبري: فإذا كان الاختلاف في أمر بني تغلب موجودًا بين السلف، وكانت تغلب تدين بالنصرانية، ولا تدفع الأمة أن عمر أخذ منها الجزية بين ظهراني المهاجرين والأنصار من غير نكير، وكان أخذه ذلك يعني: أنهم أهل كتاب، لا يعني: أنهم مجوس، صح أنهم أهل كتاب وأن ذبائحهم ونساءهم حلال للمسلمين

(3)

.

فصل:

وأما ذبيحة الأقلف فقد سلف الكلام عليها قريبًا، والأقلف الذي لم يُختن، والقلفة: الغرلة.

فصل:

قال الطبري: والذي عندي في معنى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] وهم لا يؤمنون بالقرآن أن القصد بالتحليل لنا وإن كان القول لهم، كأنه

(1)

"تهذيب الآثار" -مسند علي- ص 226 (357)، ورواه أيضًا عبد الرزاق 7/ 186 (12715). وصحح إسناده الحافظ في "الفتح" 9/ 637.

(2)

"تهذيب الآثار" -مسند علي- ص 227 (363).

(3)

"تهذيب الآثار" ص 230.

ص: 456

قال: أحل لكم طعامهم أن تأكلوه، وأحل لكم أن تطعموه طعامكم ولو لم يقل:{وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5] لم نعلم إن كان يجوز لنا أن نطعم الكفار طعامًا.

قلت: وقام الاتفاق على أن المراد بالآية ما ذكره دون ما أكله؛ لأنهم يأكلون الميتة ولحم الخنزير والدم ولا يحل لنا شيء من ذلك بالإجماع وَمَا كَانَ ربكَ نَسِيًّا.

وقد ورد عن عمر وعلي وابن مسعود وعائشة وأبي الدرداء وابن عباس وعبد الله بن يزيد والعرباض وأبي أمامة وعبادة بن الصامت وابن عمر، وجمهور التابعين كإبراهيم وجبير بن نفير وأبي مسلم الخولاني ومكحول ومجاهد والحسن ومحمد والشعبي، وسعيد فيمن لا يحصى إباحة ذبيحة أهل الكتاب دون اشتراط ما يستحلونه.

قال ابن حزم: كل ما ذبحه يهودي أو نصراني أو مجوسي نساؤهم ورجالهم أو نحوه فهو حلال لنا وكذا شحومها، إذا ذكر اسم الله، ولو نحو يهودي بعيرًا أو أرنبًا حل أكله

(1)

. قال: ولا يحل أكل ما ذكاه غير اليهودي والنصراني والمجوسي لا من ذكاة مرتد إلى دين كتابي أو غير كتابي، ولا من ذكاة من انتقل من دين كتابي إلى دين كتابي، ولا من حل

(2)

في دين كتابي بعد [مبعث]

(3)

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ومن ذبح وهو سكران أو في جنونه، إلا إذا أفاقا فتذكيتهما جائزة، وما ذبحه أو نحره من لم يبلغ لم يحل أكله حتى يبلغ، وأباحها النخعي والشعبي والحسن وعطاء ومجاهد وطاوس

(4)

. قال: وكل حيوان بين

(1)

"المحلى" 7/ 454.

(2)

في "المحلى": دخل.

(3)

في الأصول: منصب، والمثبت من "المحلى".

(4)

"المحلى" 7/ 456.

ص: 457

اثنين فصاعدًا فذكاه أحدهما بغير إذن الآخر ميتة لا يحل أكله- وهذا أسلفناه- ويضمن لشريكه مثل حصته، إلا أن يرى موتًا أو تعظم مؤنته فيضيع، فله تذكيته حينئذٍ، ومن أمر وكيله أو [خادمه]

(1)

بذبح ما شاءوا من حيوانه جاز ذلك، ولا يحل كسر قفا الذبيحة حتى تموت فإن فعل بعد تمام التذكية فقد عصى، ولم يحرم أكلها وكل ما غاب عنا مما ذكاه مسلم فاسق أو جاهل أو كتابي فحلال أكله

(2)

. وقد ورد حديث ضعيف: "أعفُّ الناس قِتلةً أهلُ الإيمان"

(3)

.

فرع: واختلف في الظرف ونحوه مما حرموه ففي "المدونة": كان مالك يجوز أكله وبه قال أشهب، ثم كرهه. قاله ابن القاسم، ورأى ألا يؤكل.

(1)

كلمة غير واضحة بالأصول، والمثبت من "المحلى".

(2)

"المحلى" 7/ 457.

(3)

رواه أبو داود (2666)، وابن ماجه (2682)، وأحمد 1/ 393 من حديث ابن مسعود.

وذكره الألباني في "الضعيفة"(1232)، وانظر تمام تخريجه هناك.

ص: 458

‌23 - باب مَا نَدَّ مِنَ الْبَهَائِمِ فَهْوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَحْشِ

وَأَجَازَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَا أَعْجَزَكَ مِنَ الْبَهَائِمِ مِمَّا فِي يَدَيْكَ فَهْوَ كَالصَّيْدِ، وَفِي بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ (مِنْ حَيْثُ قَدَرْتَ عَلَيْهِ)

(1)

فَذَكِّهِ، وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ.

5509 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدى. فَقَالَ:«اعْجَلْ -أَوْ أَرِنْ- مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، وَسَأُحَدِّثُكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ» . وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لِهَذِهِ الإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا» . [انظر: 2488 - مسلم: 1968 - فتح 9/ 638]

ثم ساق حديث رافع بن خديج السالف: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَاقُو العَدُوِّ غَدًا، وَلَيْسَتْ مَعَنَا مُدى. فَقَالَ: "اعْجَلْ -أَوْ أَرِنْ- مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عليه فَكُلْ، لَيسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ

إلى آخره" وَأَصَبْنَا نَهْبَ إِبِلٍ وَغَنَمٍ فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْم فَحَبَسَهُ، فَقَالَ عليه السلام: "إِنَّ لهذِه الإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَإِذَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْءٌ فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا".

وهذا الحديث أخرجه هنا عن عمرو بن علي، ثنا يحيى: ثنا سفيان: ثنا أبي، عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج، عن رافع، وأخرجه مختصرًا

(2)

(1)

من (غ).

(2)

سلف مختصرًا برقم (5506) باب: لا يذكى بالسِّن والعظم والظفر.

ص: 459

ومطولًا

(1)

، ورواه مرة عن مسدد

(2)

، وكذا أبو داود

(3)

، ورواه الترمذي والنسائي عن هناد بن السري كلاهما عن أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رفاعة، عن أبيه، عن جده رافع

(4)

.

ورفاعة هذا روى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي هذا الحديث الواحد على ما فيه من الخلاف.

والتعليق عن ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد، عن وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة أن حمارًا لأهل عبد الله ضرب رجل عنقه بالسيف فسئل عبد الله فقال: كلوه فإنما هو صيد

(5)

، قال: ثنا ابن عيينة عن عبد الكريم، عن زياد بن أبي مريم أن حمارًا وحشيًّا استعصى على أهله فضربوا عنقه فسئل ابن مسعود فقال: تلك أسرع الذكاة

(6)

.

وثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة كان حمار وحش في دار عبد الله فضرب رجل عنقه بالسيف وذكر اسم الله عليه فقال ابن مسعود: صيد فكلوه

(7)

.

وثنا عبيد، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة (عن عبد الله بمثله أو نحوه

(8)

.

(1)

سلف مطولًا برقم (2488) كتاب: الشركة، باب: قسمة الغنم.

(2)

سيأتي برقم (5543) باب: إذا أصاب قومٌ غنيمة ..

(3)

أبو داود (2821).

(4)

الترمذي (1491)، والنسائي 7/ 226.

(5)

"المصنف" 4/ 257 (19786).

(6)

"المصنف" 4/ 257 (19783).

(7)

"المصنف" 4/ 257 (19784).

(8)

"المصنف" 4/ 257 (19785).

ص: 460

وأثر ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة)

(1)

أيضًا عن ابن علية، عن خالد، عن عكرمة قال ابن عباس: ما أعجزك مما في يدك فهو بمنزلة الصيد

(2)

.

ولابن عدي من حديث جابر مرفوعًا: "كل إنسية توحشت فذكاتها ذكاة الوحشية" وأخرجه البيهقي أيضًا

(3)

وإسناده فيه مجهول وضعيف وهو حرام بن عثمان المدني والرواية عنه حرام كما قاله الشافعي

(4)

، وهو من بليغ العبارات.

وقوله: (ورأى ذلك علي وابن عمر وعائشة) أما التعليق عن علي فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا عن جعفر، عن أبيه أن ثورًا مر في بعض دور المدينة، فضربه رجل بالسيف وذكر اسم الله قال: فسئل عنه علي فقال: ذكاة وأمرهم بأكله

(5)

.

والتعليق عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق عن [شعبة وسفيان]

(6)

، كلاهما عن سعيد بن مسروق، عن عباية بن رافع بن خديج عنه

(7)

.

والتعليق عن عائشة ذكره ابن حزم فقال: هو أيضًا قول عائشة ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف

(8)

.

(1)

من (غ).

(2)

"المصنف" 4/ 256 (19777).

(3)

"الكامل" لابن عدي 3/ 383، والبيهقي في "السنن" 9/ 246 بنحوه.

(4)

انظر: "الكامل في الضعفاء" لابن عدي 3/ 379.

(5)

"المصنف" 4/ 257 (19787).

(6)

في (س): سعيد بن سفيان، وفي (غ): سعيد وسفيان، والمثبت من "المحلى" 7/ 447.

(7)

ذكره ابن حزم في "المحلى" 7/ 447 من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان وشعبة، به. ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 465 - 466 (8481) عن سفيان، به. وفيه (عمر) بدلاً من (ابن عمر)، وانظر "الفتح" 9/ 638.

(8)

"المحلى" 7/ 447.

ص: 461

قال: وهو قول أبي حنيفة والثوري والشافعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق وأصحابهم وأصحابنا.

وقال مالك: لا يجوز أن تذكى أصلاً إلا في الحلق واللبة

(1)

، وهو قول الليث وربيعة، وقد سلف الكلام فيه.

وقال ابن بطال: اختلف العلماء في الإنسي الذي لا يحل إلا بالذكاة في الحلق واللبة إذا توحش فلم يقدر عليه أو وقع في بئر فلم يوصل إلى حلقه ولبته.

فذهبت طائفة من العلماء إلى أنه يقتل بما يقتل به الصيد، ويجوز أكله، روى ذلك البخاري عن خمسة من الصحابة كما بينتهم لك، وقاله من التابعين: عطاء وطاوس.

ومن الفقهاء: الثوري وسائر الكوفيين والثلاثة ومن سلف، وقال ابن المسيب: لا تكون ذكاة كل إنسية إلا بالذبح والنحر وإن تردت لا تحل بما يحل به الصيد.

حجة الأولين: حديث الباب، وموضع الدلالة منه من وجهين:

أحدهما: عدم إنكاره عليه السلام عليه الرمي بما أقره عليه وإباحة مثل ذلك الرمي بأن قال: "اصنعوا به هكذا"، ومن خالفنا لا يجيز رميه.

ثانيهما: قوله: ("إن لها أوابد"). والشارع ما يعلمنا اللغة وإنما يعلمنا الحكم فعلم أنه أراد أنه يصير حكمه حكم الوحشي في الذكاة، ومن جهة القياس أنه إذا كان الوحشي إذا قدرنا عليه لا يحل به الإنسي وكذلك الإنسي إذا توحش وامتنع أن يحل بما يحل به الوحشي.

(1)

"المدونة" 1/ 428.

ص: 462

واحتج المانع فقال: لا تلزم هذِه الحجة أن لو كان المستأنس إذا استوحش كالوحشي في الأصل؛ لوجوب أن يكون حكمه حكم الوحشي في وجوب الجزاء فيه إذا قتله المحرم، وفي أن لا يجوز في الضحايا والعقيقة، ويجب أن يصير ملكًا لمن أخذه ولا شيء على قاتله.

قال مالك: لو أن رجلاً رماها فقتلها غرمها ولم يحل له أكلها، ولو كانت بمنزلة الصيد حلت له فلما أجمعنا على أن جميع أحكامه التي كانت عليه قبل أن يتوحش لم تزل ولم تتغير وكانت كلها بخلاف الوحشي في الأصل كذلك الذكاة وأما الاحتجاج بحديث رافع فيجوز إذا ند ولم يقدر عليه أن يرميه ليحبسه ثم يلحقه فيذكيه وهذا معنى قوله:"فاصنعوا به هكذا"، أي: ارموه لتحبسوه ثم ذكره ولم يرد قتله كما يقتل الوحشي قاله ابن القصار

(1)

. وما أبعده، كما سلف.

فصل:

قوله: ("أعجل أو أرني ما أنهر الدم") إلى آخره قال ابن بطال: كذا وقعت هذِه اللفظة في رواية الفربري بالألف والراء ثم نون ثم ياء "أرني" ولم أجد لها معنى يستقيم به الكلام وأظنها مصحفة. وقال الخطابي: هذا حرف طالما استثبت فيه الرواة وسألت عنه أهل العلم باللغة فلم أجد عند واحد منهم شيئًا يقطع بصحته وقد طلبت له مخرجًا فرأيته يتجه لوجوه:

أحدها: أن يكون مأخوذًا من قولهم: أران القوم فهم مرينون إذا هلكت مواشيهم فيكون معناه أهلكها ذبحًا، وأزهق نفسها بما ذكر هذا إذا رويته بكسر الراء على رواية أبي داود.

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 417 - 419.

ص: 463

ثانيها: أن يقال: (أرأن)

(1)

القوم مهموزًا على وزن أعرن من أرن يأرن أرنًا إذا نشط وخف تقول: خف وأعجل لئلا تقتلها خنقًا، وذلك أن غير الحديد لا يمور في الذكاة موره والأرن: الخفة والنشاط يقال في مثلٍ: سَمِنَ فأرن، أي: بطر.

ثالثها: أن تكون أرن بمعنى أَدِم الحز ولا تفتر، من قولك رنوت النظر إلى الشيء إذا أدمته، أو يكون أراد أدم النظر إليه وراعه ببصرك لا يزول عن المذبح؛ قال: وأقرب من هذا كله أرزنا بالزاي من قولك: أرز الرجل إصبعه إذا أثاخها في الشيء، وأرزت الجرادة إرزازًا إذا أدخلت ذنبها في الأرض لكي تبيض، وارتزَّ

(2)

السهم في الجدار إذا ثبت، هذا إن ساعدته رواية حدثنا ابن داسه، عن أبي داود وقال: أرِن مكسور الراء على وزن عرن، ورواه البخاري ساكنة الراء على وزن عرْن، هكذا حدثنيه الخيام عن إبراهيم بن معقل عنه

(3)

.

قال ابن بطال: فعرضت قول الخطابي على بعض أئمة اللغة والنقد في كلام العرب فقال: أما الوجه الأول قال: إنه مأخوذ من أران القوم فهم مرينون فلا وجه له؛ لأن أران لا يتعدى إلى مفعولين لا تقول: أران الرجل غنمه ولا أرن غنمك.

وقوله في الثاني: (أأرن)

(4)

على وزن أعرن خطأ لاجتماع همزتين في كلمة إحداهما ساكنة وإنما تقول في الأمر من هذِه اللفظة ايرن بياء بعد همزة الوصل بدلاً من الهمزة التي هي فاء الفعل؛ لأن المستقبل منها

(1)

هكذا في الأصول، وفي "غريب الحديث": ائرن.

(2)

في (س): واترز.

(3)

"غريب الحديث" 1/ 385 - 387، "شرح ابن بطال" 5/ 419 - 420.

(4)

في "شرح ابن بطال": أرأن.

ص: 464

يأرن، والأمر إنما يكون في الفعل المستقبل.

قال ابن بطال: وهذا الوجه أولى بالصواب فكأنه قال: أعجل وانشط في الذبح؛ لأن السنة فيه سرعة الإجهاز على المذبوح بخلاف فعل الجاهلية في تعذيب الحيوان ويحتمل أن يكون (أو) جاءت لشك المحدث في أي اللفظين قال عليه السلام لتقاربهما في المعنى أو تكون (أو) جاءت بمعنى الواو للتأكيد. وقول الخطابي: وأقرب من هذا كله أن يكون أرز، بالزاي، فلا وجه له لعدم الرواية به

(1)

. ونقل غيره عن الخطابي أن صوابه: أأرن على وزن أعجل ومعناها وقد سلف أرن على وزن أطع ومعناها ويكون أرن على وزن اعطِ وأرني بالياء بمعنى: هات، وقال بعضهم: وتكون بمعنى: أرني سيلان الدم (وقد)

(2)

سلف على وزن ارم وصوب على وزن ادع واغز. وقيل غير ذلك.

وسئل الحافظ أبو موسى المديني عن ذلك فقال: صوابه أيرن ومعناه: خف وانشط وأعجل؛ لئلا تختنق الذبيحة؛ لأن الذبح إذا كان بغير حديد احتاج صاحبه إلى خفة يد في إمرار تلك الآلة على الذبح قبل أن تهلك الذبيحة لما ينالها من ألم الصعب وهو من قولهم: "أرن" يأرن أرنًا وإرانًا، إذا نشط فهو أرن والأمر ائرن على وزن احفظ.

وقال إسماعيل بن الفضل في "شرح مسلم" قوله: (اعجل أو أرن) الشك من الراوي ومعنى: "أرن": اعجل. منهم من يسكن الراء ومنهم من يحذف الياء من الأمر. وقال غيره: قوله: "أَرِن" على وزن عَرِن

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 420 - 421.

(2)

من (غ).

ص: 465

وروى بعضهم أَرْنِ على وزن عَرْن وهو مشكل إلا أن يكون من أران القوم إذا هلكت ماشيتهم فيكون المعنى كن ذا شاة هالكة وأزهق نفسها بكل ما أنهر الدم غير السن والظفر، ويجوز أَرْنِ مثل عَرْنِ أي: أدم الحز، ولا تفتر في ذلك من قولك: رنوت، إذا أدمت النظر، وأرن أي: شد يدك على المحزِّ والمذبح واعتمد بها، ويجوز أن يكون أران تعدية [لِرَان]

(1)

كما تُعدَّى بالباء ولو قيل رنَّ أي: اذبحن بالإرارة هو ظُرَرَة أي: حجر محدد يَؤُرُّ بها الراعي ثَغْرَ الناقة إذا انقطع لبنها كان وجهًا

(2)

.

(1)

في الأصل: أران، والمثبت من "المجموع المغيث".

(2)

"المجموع المغيث" 1/ 58 - 60.

ص: 466

‌24 - باب النَّحْرِ وَالذَّبْحِ

وَقَالَ ابن جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ لَا ذَبْحَ وَلَا نحر إِلَّا فِي المَذْبَحِ وَالْمَنْحَرِ. قُلْتُ: أَيَجْزِي مَا يُذْبَحُ أَنْ أَنْحَرَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، ذَكَرَ اللهُ ذَبْحَ البَقَرَةِ، فَإِنْ ذَبَحْتَ شَيْئًا يُنْحَرُ جَازَ، وَالنَّحْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَالذَّبْحُ قَطْعُ الأَوْدَاجِ. قُلْتُ: فَيُخَلِّفُ الأَوْدَاجَ حَتَّى يَقْطَعَ النِّخَاعَ؟ قَالَ: لَا إِخَالُ. وَأَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابن عُمَرَ نَهَى عَنِ النَّخْعِ، يَقُولُ: يَقْطَعُ مَا دُونَ العَظْمِ، ثُمَّ يَدَعُ حَتَّى تَمُوتَ. وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] وَقَالَ: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]. وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: الذَّكَاةُ فِي الحَلْقِ وَاللَّبَّةِ. وَقَالَ ابن عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه إِذَا قَطَعَ الرَأْسَ فَلَا بَأْسَ.

5510 -

حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ امْرَأَتِي: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ. [5511، 5512، 5519 - مسلم: 1942 - فتح 9/ 640]

5511 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، سَمِعَ عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ فَأَكَلْنَاهُ. [انظر:5510 - مسلم:

1942 -

فتح 9/ 640]

5512 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ. تَابَعَهُ وَكِيعٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي النَّحْرِ. [انظر: 5510 - مسلم 1942 - فتح 9/ 640]

ص: 467

ثم ساق حديث سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عن فَاطِمَة بِنْت المُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما -قَالَتْ: نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ.

وفي رواية من حديث عَبْدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ: ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ فَأَكَلْنَاهُ.

ثم ساقه من حديث جَرِير، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ المُنْذِرِ، عن أَسْمَاءَ، به.

تَابَعَهُ وَكِيعٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ فِي النَّحْرِ.

والحاصل أن ثلاثة رووه عن هشام بلفظ النحر: جرير، ووكيع، وابن عُيينة. وأن عبدة رواه عن هشام بلفظ الذبح، وذكره في باب لحوم الخيل من حديث: سفيان بلفظ النحر

(1)

.

قال الدارقطني: روي عن أيوب، عن هشام، عن أسماء مرسل، لم يذكر فاطمة بنت المنذر، ورواه منجاب عن شريك، عن هشام، عن أبيه، عن فاطمة قالت: ذبحنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووهم في موضعين أسقط أسماء ابنة أبي بكر وقال فيه: عن أبيه عن أسماء. والصواب: هشام، عن فاطمة عن أسماء

(2)

. أي: كما ساقه البخاري.

وتعليق عطاء أخرجه ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء: لا ذبح ولا نحر إلا في المنحر والمذبح. قال: وثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء في رجل ذبح شاة من قفاها، فكره أكلها.

(1)

سيأتي برقم (5519) باب: لحوم الخيل.

(2)

"علل الدارقطني" 15/ 299 - 300 (4046).

ص: 468

وأثر ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن المبارك، عن خالد، عن عكرمة، عنه

(1)

؛ قال ابن حزم: وروي عن عمر بن الخطاب مثله، ولم يخصوا حيوانًا من حيوان بل هتف عمر بذلك مجملًا، ولم نعرف لهما مخالفًا من الصحابة أصلاً.

وقد سلف أن عليًّا أباح أكله بغير ضرب عنقه بالسيف ورأى ذلك ذكاة واجبة وقال: قال ابن عباس لعكرمة: اذبح هذا الجزور. وهو البعير بلا خلاف. وقال عطاء: ذكر الله الذبح في القرآن، فإن ذبحت شيئًا ينحر أجزأ عنك الذبح من المنحر، والمنحر من الذبح. وعن الزهري وقتادة: الإبل والبقر إن شئت ذبحت وإن شئت نحرت.

وعن مجاهد: كان الذبح فيهم والنحر فيكم {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر: 2] وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في الأضاحي الذبح والنحر عمومًا وفيها الإبل والبقر والغنم، ولم يخص من ذلك شيئًا ينحر دون ذبح ولا عكسه، ورواية أسماء: نحرنا. وفي أخرى: ذبحنا

(2)

.

قلت: وغرض الباب أن يبين ما يجوز فيه النحر يجوز ذبحه، وما يجوز فيه الذبح يجوز نحره.

فأما البقر فالأمة مجمعون كما قاله ابن بطال

(3)

على جواز النحر والذبح فيها، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، وروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل علينا

(1)

"المصنف" 4/ 260 - 261 (19822، 19824، 19826).

(2)

"المحلى" 7/ 445 - 446.

(3)

"شرح ابن بطال" 5/ 421.

ص: 469

يوم النحر بلحم فقيل: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه البقر

(1)

. فجاز فيها

الوجهان.

وأراد البخاري أن يريك [أن]

(2)

الفرس مما يجوز النحر والذبح لما جاء فيه من اختلاف الرواة، وسيأتي الخلاف في أكله بعد.

واختلفوا في ذبح ما ينحر من الإبل، ونحر ما يذبح من الغنم، فأجاز أكثر الفقهاء أي ذلك فعل المذكي، قال ابن المنذر

(3)

: روي ذلك عن عطاء والزهري وقتادة. وقال أبو حنيفة والثوري والليث والشافعي بنحو ذلك ويكرهونه، ولم يكرهه أحمد وإسحاق وأبو ثور

(4)

، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة في ذبح الإبل، أو نحو ما يذبح من طير أو غيره من غير ضرورة. وقال أشهب: إن ذبح بعيرًا من غير ضرورة فقد صار كالضرورة ويؤكل

(5)

. وقال مالك: إن ذبحت الإبل أو نحرت الشاة أو شيء من الطير من غير ضرورة لم تؤكل

(6)

. واعتل أصحابه بأنه عليه السلام بين وجه الذكاة فنحر الإبل وذبح الغنم والطير ولا يجوز تحويل شيء من ذلك عن موضعه مع القدرة عليه إلا بحجة واضحة.

وقال ابن المنذر: لا أعلم أحدًا حرم أكل ما نحر مما يذبح، أو ذبح ما ينحر، وإنما كره ذلك مالك ولم يحرمه، وقد يكره المرء الشيء

(1)

سلف برقم (1709) كتاب الحج، باب: ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن، ورواه مسلم (1211/ 125) باب بيان وجوه الإحرام.

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

(3)

في الأصل: المنكدر. وما أثبتناه من "شرح ابن بطال" 5/ 422.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 210، "مختصر المزني" ص 109، "المغني" 13/ 306.

(5)

انظر "النوادر والزيادات" 4/ 363.

(6)

انظر: "التمهيد" 12/ 141.

ص: 470

ولا يحرمه. حجة الجمهور أنه لما جاز في البقر والخيل النحر والذبح جاز ذلك في كل ما يجوز تذكيته، ألا ترى قول ابن عباس: الذكاة جائزة في الحلق واللبة. ولم يخص شيئًا من ذلك دون شيء، وهو عام في كل ذي حلق وكل ذي لبة، والناس على هذا، ولم يخالف ذلك غير مالك وحده.

وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما أن الذكاة في الحلق واللبة فمعناه: أن الذكاة لا تكون إلا في هذين الموضعين، وقال صاحب "العين": اللبة من الصدر: أوسطه، ولبة القلادة: واسطتها

(1)

.

فصل:

اختلف العلماء فيما يكون بقطعه من الحلقوم الذكاة، فقال بعض الكوفيين: إذا قطع ثلاثة من الأوداج جاز -والأوداج أربعة: الحلقوم، والمريء، وعرقان من كل جانب عرق- وقال الثوري: إذا قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم. وحكى ابن المنذر عن محمد بن الحسن: إذا قطع الحلقوم والمريء فأكثر من نصف الأوداج ثم يدعها حتى تموت فلا بأس بأكلها، وأكره ذلك، وإن قطع أقل من نصف الأوداج فلا خير فيها. وقال مالك والليث: يحتاج أن يقطع الودجين والحلقوم، وإن ترك شيئًا منها لم يجز. ولم يذكر المريء. وقال الشافعي: أقل ما يجزئ من الذكاة قطع الحلقوم والمريء وينبغي أن يقطع الودجين، فإن لم يفعل فيجزئ؛ لأنهما قد يسلان من البهيمة والإنسان ويعيشان

(2)

.

(1)

"العين" 8/ 318.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 209، "النوادر والزيادات" 4/ 361، "مختصر المذني" ص 381.

ص: 471

وقال ابن جريج: قال عطاء: الذبح: قطع الأوداج؛ قلت: وذبح ذابح فلم يقطع أوداجها. فقال: ما أراه إلا قد ذكاها فليأكلها

(1)

.

وروى يحيى عن ابن القاسم في الدجاجة والعصفور والحمام: إذا (أجيز)

(2)

على أوداجه ونصف حلقه أو ثلثه لا بأس بذلك إلا أن يتعمد. وعنه أيضًا عن مالك فيمن ذبح ذبيحة فأخطأ بالغلصمة

(3)

أن تكون في الرأس أنها لا تؤكل، وقاله أشهب وأصبغ وسحنون ومحمد بن عبد الحكم

(4)

.

قال ابن حبيب: إنما لم يؤكل؛ لأن الحلقوم إنما هو من العقدة إلى ما تحتها، وليس فوق العقدة إلى الرأس حلقوم، وإنما العقدة طرف الحلقوم، فمن جهل فذبح فوق العقدة لم يقطع الحلقوم إنما قطع الجلدة المتعلقة بالرأس، فلذلك لم تؤكل، وأجاز أكلها ابن وهب في "العتبية" وأجازه أشهب وأبو مصعب وموسى بن معاوية من رواية ابن وضاح. وعن محمد بن عبد الحكم أنها تؤكل. وعلى قياس قول ابن القاسم إذا صارت في البدن وبقي في الرأس منها قدر حلقة الخاتم أنها تؤكل إلا أن يبقى في الرأس منها ما لا يستدير فلا تؤكل

(5)

، وحكى

(1)

رواه عبد الرزاق 4/ 489 (8584).

(2)

كذا في الأصل وفي "النوادر والزيادات" أجهز.

(3)

الغلصمة: اللحم الذي بين الرأس والعنق، أو هي العجرة التي على ملتقى اللهاة والمريء، أو هي رأس الحلقوم بشواربه وحرقدته، وهو الموضع الناتئ في الحلق، أو أصل اللسان، أو متصل الحلقوم بالحلق إذا ازدرد الآكل لقمة فنزلت عن الحلقوم. "تاج العروس" 17/ 521.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 360، 361.

(5)

انظر: المصدر السابق.

ص: 472

ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه لا بأس بالذبح في الحلق كله أسفله ووسطه وأعلاه.

وقال ابن وضاح: سألت موسى بن معاوية عن هذِه المسألة، فغضب وقال: هذِه من مسائل المريسي وابن علية يخلِّطون على الناس دينهم، قد علَّم الشارع أصحابه كل شيء حتى الخراءة

(1)

، فكان يدعهم فلا يعرفهم الذبح؟!

قال موسى: لقد كتبت بالعراق نحوًا من مائة ألف حديث، وبمكة كذا وكذا ألفًا، وبمصر نحوًا من أربعين ألف حديث ما سمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه ولا للتابعين فيها شيئًا. وكان يحيى بن يحيى وأصحابه (يقولون)

(2)

: لا نعرف ما العقدة، ما فرى الأوداج فكل.

قال ابن وضاح: ثم بلغني عن أبي زيد بن أبي الغمر أنه روي عن ابن القاسم عن مالك كراهتها، فلما قدمت مصر سألته عنها، فأنكرها وقال: ما أعرف هذا. قلت له: فما تقول في أكلها؟ قال: لا بأس بذلك

(3)

.

قال ابن وضاح: ولم تعرف العقدة في أيام مالك ولا أيام ابن القاسم، وإنما أول ما سمعوا بها أن عبد الله بن عبد الحكم ذبح شاة فطرحت العقدة إلى الجسد، فأمر بها أن تُلقى، فبلغ ذلك أشهب فأنكره وأجاز أكلها، وسئل عنها أبو المصعب بالمدينة وذلك أن أهل المدينة يطرحون العقدة في ذبائحهم إلى الجسد لمعنى الجلود، فأجاز ذلك، فقيل له: إذا طرحها إلى الجسد لم يذبح في الحلق إنما يذبح

(1)

رواه مسلم (262) كتاب الطهارة باب الاستطابة من حديث سليمان.

(2)

في الأصل: يقولان، والمثبت ما يقتضيه السياق.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 360.

ص: 473

في الرأس، فانتهره الشيخ، وقال: مغاربة برابر يأتوننا يريدون أن يعلمونا، هذِه دار السنة والهجرة وبها كان المهاجرون والأنصار فكانوا لا يعرفون الذبح؟ وكانوا لا يذكرون عقدة ولم يعنوا بها.

قال ابن وضاح: ثم سألت يعقوب بن حميد بن كاسب -ولم أر بالحجاز أعلم منه بقول المدنيين منه- فقال: لا بأس بها، فرددت عليه فنزع لحديث عائشة رضي الله عنها -يعني السالف-:"سموا وكلوا"

(1)

.

فقال ابن كاسب: فهلا قال لهم عليه السلام: انظروا إن كان يصيبون العقدة، إن كان الذبح إنما هو فيها، ونزع لحديث عطاء بن يسار أن امرأة ترعى غنمًا؛ فرأت بشاة موتًا فذكتها بشظاظ، فقال عليه السلام:"ليس بها بأس فكلوها". فهلا قال لهم: انظروا أين طرحت العقدة؟ أو هل كانت هذِه تعرف العقدة؟

قال ابن وضاح: أفهل هذِه كانت تعرف العقدة؟! ما فرى الأوداج وقطع الحلقوم فكل.

فصل:

ونهى ابن عمر رضي الله عنهما عن النخع

(2)

.

قال أبو عبيدة: الفرس هو النخع. يقال منه: فرست الشاة ونخعتها، وذلك أن ينتهي بالذبح إلى النخاع وهو عظم في الرقبة.

قال أبو عبيد في النخع كما قال أبو عبيدة، وأما الفرس فقد خولف.

(1)

سلف برقم (5507)، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم.

(2)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 4/ 490 (8589).

ص: 474

وقيل: هو كسر رقبة الذبيحة، وممن كره أكل الشاة إذا نخعت سوى ابن عمر، عمر بن الخطاب وقال: لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق

(1)

. وكرهه إسحاق، وكرهت ذلك طائفة وأباحت أكله، هذا قول النخعي والزهري والأربعة وأبي ثور.

قال ابن المنذر: ولا حجة لمن منع أكلها لأن القياس أنها حلال بعد الذكاة، والنخع لا يحرم الذكي.

وإنما إذا قطع الرأس فأكثر العلماء على إجازته.

وممن روي عنه سوى من ذكره البخاري علي وعمران بن حصين، ومن التابعين: عطاء والنخعي والشعبي، والحسن والزهري وبه قال الأربعة، وإسحاق، وأبو ثور وكرهها ابن سيرين، ونافع والقاسم وسالم ويحيى بن سعيد، وربيعة والصواب قول من أجازها كما قال ابن بطال

(2)

.

وقد قال فيها علي بن أبي طالب هي ذكاة وحيَّة؛ إلا أنهم اختلفوا إن قطع رأسها من قفاها، واختاره الكوفيون والشافعي، وإسحاق، وأبو ثور وكره ذلك ابن المسيب وقال: لا بد في الذبح من المذبح.

وهو قول مالك وأحمد وقالوا: فاعل هذا فاعل غير ما أمر به، فإذا ذبحها من مذبحها فسبقت يده فأبان الرأس فلا شيء عليه

(3)

.

(1)

"غريب الحديث" لابن سلام 2/ 29 - 30، والأثر عن عمر أخرجه البيهقي في "السنن" 9/ 279 - 280.

(2)

"شرح ابن بطال" 5/ 426.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 225، "المغني" 13/ 308.

ص: 475

فصل:

قسم ابن التين البهائم ثلاثة أنواع: نوع منها ينحر -وهو البعير- ونوع منها يذبح، وهو الشاة وشبهها من الغزلان ونحو ذلك.

ونوع منها يذبح وينحر وهو البقر، ذبحها بالقرآن ونحرها بالسنة كما سلف قال: إن نحر ما يذبح أو عكس فمنعه ابن القاسم وأجازه أشهب، وقال ابن بكير: تؤكل البعير بالذبح ولا تؤكل الشاة بالنحر، واختلف في المنع هل هو على الكراهة أو التحريم؟ وبه قال ابن حبيب: وروى إسماعيل بن أبي أويس عن مالك: من نحر البقر ما صنع مخالفة الآية، وهذا إنما يصح على قول من يقول: إنا مخاطبون بشريعة من كان قبلنا

(1)

.

فصل:

(والذبح: قطع الأوداج) هما ودجان بدال مهملة، وهما عرقان في الأخدعين محيطان بالحلقوم. وقيل: محيطان بالمريء من باب إطلاق صيغة الجمع على الاثنين، وهو صحيح حقيقة عند طائفة، مجازًا عند الأكثرين، وذلك مستحب عندنا

(2)

، والودج والوداج أيضًا يقال: دِجْ دابتك أي: اقطع ودجها، وهو لها كالعضد للإنسان.

وقال ابن التين: لعله ترك ذكر الحلقوم لما كان معلومًا في الأغلب لا تُفرى الأوداج إلا بعد فري الحلقوم، والذي في "المدونة": أن الذكاة فري الحلقوم والودجين فإن قطعهما دون الحلقوم أو عكسه

(3)

لم يصح

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 363، "المنتقى" 3/ 108.

(2)

انظر: "المجموع" 9/ 102.

(3)

في الأصل: (عسله) والمثبت من "المدونة".

ص: 476

الذكاة

(1)

، وزاد أبو التمام عن مالك رابعها؛ وهو قطع المريء

(2)

، ثم قال: قال الشافعي: الذكاة: قطع الحلقوم والمريء، وهو البلعوم، والاعتبار بالودجين

(3)

قال: ودليلنا قوله عليه السلام: "ما أنهر الدم" وإنهاره: إجراؤه، وذلك لا يكون إلا بقطع الأوداج؛ لأنها مجرى الدم، وأما المريء فليس مجراه، وإنما هو مجرى الطعام، وليس فيه من الدم ما يحصل به إنهار.

فصل:

(اللبة) في أثر ابن عباس رضي الله عنهما بفتح اللام، قال الداودي: في أعلى العنق ما دون الخرزة إلى أسفل، قال أهل اللغة: إن اللبة موضع القلادة من الصدر وهي المنحر

(4)

.

فصل:

وقول ابن عمر ومن بعده: (إذا قطع الرأس فلا بأس). قال مالك في "المدونة": وذلك أنها تؤكل

(5)

. قال غيره: ولو تعمد من أول أكلت؛ لأن التعدي حصل بعد تمام الذكاة.

وقال مطرف وابن الماجشون: إن فعل ذلك بنية سبقت أكلت، وإن كان متعمدًا من غير جهل لم تؤكل

(6)

.

(1)

"المدونة" 1/ 427.

(2)

انظر: "مواهب الجليل" 4/ 314 ..

(3)

انظر: "البيان" 4/ 531.

(4)

انظر: "الصحاح" 1/ 217 [لبب].

(5)

"المدونة" 1/ 428.

(6)

انظر: "شرح الخرشي" 3/ 18.

ص: 477

فصل:

وحديث أسماء دال على حل أكل الخيل، وهو قول الشافعي

(1)

وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وسيأتي حديث جابر فيه، وقال مالك: إنها مكروهة. وبه قال أبو حنيفة، وقال ابن حبيب: الخيل مختلف في كراهة أكلها والبراذين منها فجعلها مباحة في قوله

(2)

.

فصل:

سلف فيه: نحرنا وذبحنا. قال بعض العلماء: حكم الخيل في الذكاة حكم البقر، يريد أنها تنحر وتذبح وأن الأحسن فيها الذبح.

(1)

انظر: "الأم" 2/ 223

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 216، "المنتقى" 3/ 133.

ص: 478

‌25 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْمُثْلَةِ وَالْمَصْبُورَةِ وَالْمُجَثَّمَةِ

5513 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ، فَرَأَى غِلْمَانًا -أَوْ فِتْيَانًا- نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا. فَقَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ. [مسلم: 1956 - فتح 9/ 642]

5514 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ دَخَلَ على يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلَامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى إِلَيْهَا ابْنُ عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلَامِ مَعَهُ فَقَالَ: ازْجُرُوا غُلَامَكُمْ عَنْ أَنْ يَصْبِرَ هَذَا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتْلِ. [5515 - مسلم: 1958 - فتح 9/ 642]

5515 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ فَمَرُّوا بِفِتْيَةٍ -أَوْ بِنَفَرٍ- نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَلَمَّا رَأَوُا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا.

تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا الْمِنْهَالُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ. [انظر: 5514 - مسلم: 1958 - فتح 9/ 643] وَقَالَ عَدِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 1957]

5516 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ. [انظر: 2474 - فتح

9/ 643]

ذكر فيه خمسة أحاديث:

أحدها: حديث هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ: دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ عَلَى الحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ، فَرَأى غِلْمَانًا -أَوْ فِتْيَانًا- نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا. فَقَالَ أَنَسٌ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصبَرَ البَهَائِمُ.

ص: 479

وأخرجه مسلم أيضًا وأبو داود والنسائي وابن ماجه

(1)

.

والحكم

(2)

هذا هو: ابن عم الحجاج بن يوسف الثقفي، وزوج أخته زينب بنت يوسف التي كانت يشبب بها النميري، وكان الحجاج استعمله على البصرة.

ثانيها: حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغُلًامٌ مِنْ بَنِي يَحْيَى رَابِطٌ دَجَاجَةً يَرْمِيهَا، فَمَشَى إِلَيْهَا ابن عُمَرَ حَتَّى حَلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهَا وَبِالْغُلَامِ مَعَهُ فَقَالَ: ازْجُرُوا غِلْمَانكمْ عَنْ أَنْ تصْبرَ هذا الطَّيْرَ لِلْقَتْلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُصْبَرَ بَهِيمَةٌ أَوْ غَيْرُهَا لِلْقَتل.

ثالثها: حَدَّثنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما فَمَرُّوا بِفِتْيَةٍ -أَوْ بِنَفَرٍ- نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فَلَمَّا رَأَوُا ابن عُمَرَ تَفَرَّقُوا عَنْهَا، وَقَالَ ابن عُمَرَ: مَنْ فَعَلَ هذا؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هذا.

وأخرجه مسلم أيضا

(3)

.

قال البخاري: تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ، عَنْ شُعْبَةَ، ثَنَا المِنْهَالُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابن عُمَرَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ.

(1)

أخرجه مسلم (1956) كتاب: الصيد والذبائح، باب: النهي عن صبر البهائم، وأبو داود (2816)، والنسائي 7/ 238، ابن ماجه (3186).

(2)

ورد بهامش الأصل: هو مجهول، كذا جهله، ابن أبي حاتم عن أبيه، وكذا جهله الذهبي في "الميزان" وقد ذكره ابن حبان في "ثقاته"، ولكن لم يذكر عنه راويًا سوى الجريري.

(3)

أخرجه مسلم (1958) كتاب: الصيد والذبائح، باب: النهي عن صبر البهائم.

ص: 480

وهذِه المتابعة أسندها أبو نعيم الحافظ فقال: حدثنا أبو إسحاق بن حمزة وأبو أحمد قالا: ثنا أبو خليفة، ثنا أبو داود الطيالسي سليمان بن داود، ثنا شعبة

(1)

.

رابعها: وَقَالَ عَدِيٌّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

هذا أخرجه مسلم عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، وعن بندار عن غندر وابن مهدي ثلاثتهم عن شعبة، عن عدي، عن سعيد

(2)

، وعدي هو: عدي بن ثابت، وسعيد هو: ابن جبير.

خامسها: حَدَّثنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، ثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ.

هذا رواه الإسماعيلي من حديث جماعة عن شعبة قال: رواه يعقوب بن إسحاق الحضرمي، وداود بن المحبر عن شعبة فقالا: عن عبد الله بن يزيد، عن أبي أيوب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان: حدثني ابن إسحاق، عن بكير بن عبد الله، عن عبيد بن يعلى، عن أبي أيوب سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن صبر البهيمة، وما أحب أني صبرت دجاجة وأن لي كذا وكذا

(3)

.

قلت: وعبد الله راويه هو ابن يزيد بن حصين بن عمرو بن الحارث بن خطمة واسمه: عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس الأنصاري أبو موسى الخطمي وإنما سمي خطمة؛ لأنه ضرب رجلاً على خطمه، شهد الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن سبع عشرة، وشهد

(1)

"حلية الأولياء" 4/ 296.

(2)

مسلم (1957) كتاب: الصيد، باب: النهي عن صبر البهائم.

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 263 (19857).

ص: 481

الجمل وصفين والنهروان مع علي وكان أميرًا على الكوفة.

قال أبو داود -فيما حكاه الآجري-: له رؤية، سمعت يحيى بن معين يقوله، قال: وسمعت مصعبًا الزبيري يقول: عبد الله بن يزيد الخطمي ليس له صحبة، وهو الذي قتل الأعمى أمه، وهو الطفل الذي سقط بين رجليها، التي سبَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

، من طريق عكرمة عن ابن عباس

(2)

.

وقال أبو حاتم: روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صغيرًا على عهده، فإن صحت روايته فذاك

(3)

.

فصل:

وفي الباب عن أبي الدرداء وأم حبيبة بنت العرباض عن أبيها أخرج الأول الترمذي، وقال غريب: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل المجثمة وهي التي تصبر بالنبل. وكذا الثاني أنه عليه السلام نهى يوم خيبر عن المجثمة وعن الخليسة

(4)

.

(1)

"سؤالات الآجري" ص 200 - 201 (220 - 221).

(2)

يعني المذكور في حديث عثمان الشحام، عن عكرمة، عن ابن عباس.

انظر: "تهذيب الكمال" 16/ 303.

(3)

"الجرح والتعديل" 5/ 197 (916).

(4)

ورد بهامش الأصل: الخليسة بفتح الخاء المعجمة ثم لام مكسورة، ثم مثناة تحت ساكنة، ثم سين مهملة، ثم تاء التأنيث، وهي ما يخلس من السبع فيموت قبل أن يذكى، من خلست الشيء إذا سلبته وهي فعيلة بمعنى مفعوله. اهـ[قلت: وحديث أبي الدرداء أخرجه الترمذي (1473) وقال: غريب، وصححه الألباني في "الصحيحة"(2391)، وحديث أم حبيبة أخرجه الترمذي (1474) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1191)].

ص: 482

فصل:

أصل الصبر: الحبس، وكل من حبس شيئًا فقد صبره، ومنه يمين الصبر وقيل للرجل يقدم فيضرب عنقه: قتل صبرا يعني: أمسك للموت. ويقال: صبر عند المصيبة يصبر صبرًا. وصبرته إذا: حبسته، قال تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف: 28]

والصبير: الكفيل تقول منه: صبرت أصبر صبرًا وصبارة أي: كفلت. والصبير: السحاب الأبيض لا يكاد يمطر.

والمجثمة: المصبورة أيضًا، قاله أبو عبيد، ولا يكون إلا في الطير والأرانب وأشباه ذلك مما يجثم بالأرض

(1)

والجثوم: الانتصاب على الأرض، وكذا في "الصحاح"

(2)

أيضًا، وعبارة ابن فارس: المجثمة هي الطير المصبورة على الموت

(3)

. قلت: وفرق بين المجثمة والجاثمة؛ لأن الجاثمة التي جثمت بنفسها فإذا صبرت على تلك الحال لم تحرم، والمجثمة: هي التي ربطت ونصبت، فإذا رميت حتى تهلك حرمت، وسيأتي.

قلت: ففرق البخاري بين المصبورة والمجثمة؛ لأن المجثمة خاصة بما ذكرت بخلاف المصبورة، وفي كتاب "الأفعال": يقال جثم على ركبتيه جثومًا

(4)

، ومنه {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67] ثم رأيت ابن بطال ذكره فقال: نهيه عن المجثمة نظير نهيه عن المصبورة، غير أن التجثيم عند العرب هو في الممتنعات من الوحش والطير التي

(1)

"غريب الحديث" لابن سلام 1/ 155.

(2)

"الصحاح" 5/ 1882 مادة جثم.

(3)

"مجمل اللغة" 1/ 207.

(4)

"الأفعال" لابن القوطية ص 215.

ص: 483

تنبذ بالأرض وتجثم بها، وأن الصيد المصبر يكون في ذلك وغيره فإن وجه موجه -يعني: نهيه عن المجثمة- إلى المعنى الثاني وهو النهي عن أكل لحمها إذا مات من الرمي، فكان ذلك نظير نهيه تعالى عن المنخنقة والموقوذة والمتردية، وتحريمه أكلها إذا ماتت من ذلك، وإن جثمت فرميت ولم تمت فذبحها مجثمها كان حلالًا أكلها بالتذكية

(1)

.

والنهبى: اسم ما ينهب، وهو الأخذ من الغنيمة وقال صاحب "المطالع": هو اسم الانتهاب، وهو أخذ الجماعة الشيء اختطافًا عجل غير سوية لكن يحسب السبق إليه.

فصل:

هذِه النهبى نهبى تحريم لقوله في رواية ابن عمر لعن الله من فعل هذا.

فصل:

قال أبو عبيد: قال أبو زيد وأبو عمرو وغيرهما في نهيه عليه السلام أن تصبر البهائم هو الطائر وغيره من ذوات الروح يصبر حيَّّا ثم يرمى حتى يقتل

(2)

.

قال ابن المنذر عن أحمد وإسحاق: لا تؤكل المصبورة والمجثمة

(3)

.

قال غيره: ولا أعلم أحدًا من العلماء أجاز أكل المصبورة، وكلهم يحرمها؛ لأنه لا ذكاة في المقدور عليه إلا في الحلق واللبة.

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 429 - 430.

(2)

"غريب الحديث" لابن سلام 1/ 155.

(3)

انظر قول الإمام أحمد وإسحاق في "المغني" 13/ 305.

ص: 484

فصل:

قال المهلب: وهذا إنما هو نهي عن العبث في الحيوان وتعذيبه بغير مشروع، وأما تجثيمها للنحر وما شاكله فلا بأس به، وإنما يكره العبث؛ لحديث شداد بن أوس أنه عليه السلام قال:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَةَ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" أخرجه مسلم

(1)

وكره أبو هريرة أن تحد الشفرة والشاة تنظر إليها، وروي أنه عليه السلام رأى رجلاً أضجع شاة فوضع رجله على عنقها وهو يحد شفرته، فقال عليه السلام:"ويلك، أردت أن تميتها موتات، هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها"

(2)

وكان عمر بن الخطاب ينهى أن تذبح الشاة عند الشاة

(3)

، وكرهه ربيعة أيضًا، ورخص فيه مالك

(4)

.

وقال الطبري: في نهيه عن صبر البهائم الإبانة عن تحريم قتل ما كان حلالًا أكله من الحيوان، إذا كان إلى تذكيته سبيل، وذلك أن رامي الدجاجة بالنبل ويتخذها غرضًا قد يخطئ رميه موضع الذكاة فيقتلها، فيحرم أكلها، وقاتله كذلك غير ذابحه ولا ناحره، وذلك حرام عند جميع الأمة، ومتخذه غرضًا مقدم على معصية الرب تعالى من وجوه:

(1)

أخرجه مسلم (1955) كتاب الصيد والذبائح، باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل.

(2)

رواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 231 وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 494 (8610).

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 359.

ص: 485

منها: تعذيب ما قد نهي عن تعذيبه، وتمثيله ما قد نهي عن التمثيل به، وإماتته بما قد حظر عليه إماتته منه، وإفساده من ماله ما كان له إلى إصلاحه والانتفاع به سبيل كالتذكية وذلك من تضييع المال المنهي عنه.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا لن يخرج من الدنيا حتى تصيبه قارعة

(1)

وقال أيضًا وقد انصرفوا: ما يفعلون بطائر أما إنهم سيعادون لها. وذكر الطبري عن قتاد، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المجثمة وقال: المجثمة التي التصقت بالأرض وحبست على القتل والرمي، فإذا جثمت من غير أن يفعل ذلك بها فهي جاثمة. وقال: ويحتمل نهيه عن المجثمة معنيين:

أحدهما: أن يكون نهيًا عن رميها بعد تجثمها فيكون المعنى فيها النهي عن تعذيبها بالرمي والضرب.

والثاني: أن يكون معنى النهي عنها عن أكل لحمها إذا هي ماتت بالضرب والرمي؛ لأنها ماتت كذلك بعد أن تجثم فهي ميتة؛ لأنه لا تجثم إلا بعد أن تصاد، ولو كانت هي الجاثمة من قتل نفسها لم يقدر على صيدها إلا بالرمي، فرماها ببعض ما يخرجها لتجثمها فماتت من رميه كانت حلالاً؛ لأنها حينئذٍ جاثمة لا مجثمة، وهي صيدٌ صِيدَ بما يصاد به الوحش.

(1)

رواه الطبراني في "الأوسط" 2/ 46 (1198).

ص: 486

‌26 - باب الدَّجَاجِ

5517 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى -يَعْنِي: الأَشْعَرِيَّ- رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ دَجَاجًا. [انظر: 3133 - مسلم: 1649 - فتح 9/ 645]

5518 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَي مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ- فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ جَالِسٌ أَحْمَرُ فَلَمْ يَدْنُ مِنْ طَعَامِهِ، قَالَ: ادْنُ، فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهُ. قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُ أَكَلَ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ، فَحَلَفْتُ أَنْ لَا آكُلَهُ. فَقَالَ: ادْنُ أُخْبِرْكَ -أَوْ أُحَدِّثْكَ- إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ، فَوَافَقْتُهُ وَهْوَ غَضْبَانُ، وَهْوَ يَقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا، قَالَ:«مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» . ثُمَّ أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبٍ مِنْ إِبِلٍ، فَقَالَ:«أَيْنَ الأَشْعَرِيُّونَ؟ أَيْنَ الأَشْعَرِيُّونَ؟» . قَالَ: فَأَعْطَانَا خَمْسَ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، فَلَبِثْنَا غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: نَسِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، فَوَاللهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا. فَرَجَعْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا اسْتَحْمَلْنَاكَ، فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا، فَظَنَنَّا أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ. فَقَالَ:«إِنَّ اللهَ هُوَ حَمَلَكُمْ، إِنِّي وَاللهِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا» . [انظر: 4133 - مسلم: 1649 - فتح 9/ 645]

هو جنس واحده دجاجة، ويقع على الذكر والأنثى، وتجمع دجاجات، وداله مثلثة، والفتح والضم شهيران، والكسر حكاه غير واحد، وعبارة ابن التين أنها جمع دجاجة بفتح الدال على المعروف قال: وذكر في "الغريب المصنف": أن فيه لغة بكسر الدال. قال أبو علي في "البارع": إنما سميت الدجاجة؛ لأنها تقبل وتدبر

(1)

.

(1)

"البارع في اللغة" ص 578.

ص: 487

ذكر في الباب حديث أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ زَهْدَمٍ الجَرْمِيِّ -ووالده مضرب البصري- عَنْ أَبِي مُوسَى -واسمه عبد الله بن قيس بن سليم الأَشْعَرِيّ- قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ دَجَاجًا. ثم ساقه عن أبي معمر -واسمه عبد الله بن عمرو المقعد- ثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى. مطولاً، والحديثان في المغازي والخمس

(1)

. والقاسم هو ابن عاصم بصري تميمي كليني

(2)

، أخو رياح، ابنا يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم.

وقوله في الأول: (حدثنا يحيى، ثنا وكيع، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة) به. يريد يحيى بن موسى النخعي، وقيل: يحيى بن جعفر البلخي فيما ذكره الكلاباذي

(3)

، ونص أبو نعيم الحافظ أنه ابن جعفر.

وقوله: (لئن تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه). يقال: تغفلته واستغفلته: تحينتُ غفلته أي: جعلناه غافلًا عن يمينه. وقيل: سألناه في وقت شغله.

أما ترجمة الباب فما أورده واف. وليته ذكر الدجاج والخيل ولحوم الحمر، وغير ذلك من الأطعمة، فإنه أليق به، وإن كان لما ذكر هنا مدخلًا من حيث الذكاة.

وقام الإجماع على حل لحم الدجاج

(4)

وهو من رقيق المطاعم وناعمه، ومن كره ذلك من المتقشفين والزهاد فلا عبرة بكراهته، وقد

(1)

الحديثان سلفا في الخمس برقم (3133) باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، وفي المغازي برقم (4385) باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن.

(2)

قال ابن حجر في "التقريب" ص 450: يقال الكليني، بنون بعد التحتانية، مقبول من الرابعة.

(3)

انظر: "الجمع بين رجال الصحيحين" لابن القيسراني 2/ 567.

(4)

انظر: "مراتب الإجماع" لابن حزم ص 243.

ص: 488

أكل منها سيد الزهاد، وأن يحتمل أن تكون جلالة، وإن نقل الطبري عن ابن عمر أنه كان لا يأكلها حتى يقصرها

(1)

أيامًا؛ لأنها تأكل العذرة.

وقال غيره: وكان يتأول أنها من الجلالة التي نهى الشارع عن أكلها، روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها. أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم والترمذي وقال: حسن غريب. ورواه الثوري عن ابن أبي يحيى، عن مجاهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا

(2)

، قال الدارقطني: وهو أشبه، وروى عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة أن يؤكل لحمها أو يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة. رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد

(3)

وخالفه تلميذه البيهقي فقال: ليس بالقوي

(4)

.

وروى سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه عليه السلام نهى عن أكل الإبل الجلالة

(5)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: أي: لا يمسها.

(2)

رواه أبو داود (3785)، والترمذي (1824)؛ وقال: حسن غريب، وابن ماجه (3189)، والحاكم 2/ 34، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2582)، وفي "المشكاة"(4126).

(3)

"المستدرك" 2/ 39، ورواه أيضًا الدارقطني 4/ 283.

(4)

"سنن البيهقي" 9/ 333.

(5)

روى الترمذي (1825 م)، وأحمد 1/ 241، والحاكم 2/ 34 من طريق سعيد بن أبي عروبة، به أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبن الجلالة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. اهـ. وصححه الحاكم على شرط البخاري. وروى البيهقي 9/ 333 من طريق طاوس، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الجلالة، وألبانها.

ص: 489

فكان ابن عمر إذا أراد أن يأكل بيض الدجاجة قصرها ثلاثة أيام

(1)

. وكره الكوفيون لحوم الإبل الجلالة حتى تحبس أيامًا.

وقال الشافعي: أكرهه إن لم يكن أكله غير العذرة، أو كانت أكثر، وإذا كان أكثر علفها غيره لم أكرهه. وأكثر أصحابه على أن الكراهة كراهة تنزيه، وصحح بعضهم التحريم، وكرهه أيضًا إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح فيما ذكره الدارمي وأحمد، وأبو حنيفة إلا إن حبست أيامًا. وقال مالك والليث: لا بأس بلحوم الجلالة كالدجاج وما يأكل الجيف. وكان الحسن البصري لا يرى بأسًا بأكلها. قال أبو حنيفة: الدجاجة تخلط والجلالة لا تأكل غير العذرة، وهي التي تكره

(2)

، فالعلماء مجمعون على جواز أكل الجلالة، كذا وقع في كتاب ابن بطال، وقد سئل سحنون عن خروف أرضعته خنزيرة، فقال: لا بأس بأكله

(3)

.

قال الطبري: والعلماء مجمعون على أن حملًا أو جديًا، غُذّي بلبن كلبة أو خنزيرة أنه غير حرام أكله، ولا خلاف أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة. قال غيره: والمعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك في الخروف إذا ذبح بذوق ولا شم ولا رائحة، فقد نقله الله وأحاله كما يحيل الغذاء، وإنما حرم الله أعيان النجاسات المدركات بالحواس، فالدجاجة والإبل الجلالة وما شاكلها لا يوجد فيها أعيان العذرات، وليس ذلك بأكثر من

(1)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 522 (8717).

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 217، "النوادر والزيادات" 4/ 372، "روضة الطالبين" 3/ 378، "الإشراف" 3/ 213، "المغني" 13/ 328.

(3)

قال ابن القاسم في جدي وضع خنزيرة: لا بأس بأكله "النوادر والزيادات" 4/ 374.

ص: 490

النبات الذي ينبت في العذرة، وهو طاهر حلال بإجماع، ولا يخلو الزرع من ذلك، وإنما النهي عن الجلالة من جهة التقذر والتنزه لئلا يكون الشأن في علف الحيوان النجاسات، والنهي عن الجلالة ليس بقوي الإسناد كذا في كتاب ابن بطال وقد علمت ما فيه

(1)

.

فروع: عندنا (كما)

(2)

يمنع لحمها يمنع لبنها، وكذا بيضها، ويكره الركوب عليها بدون حائل

(3)

. وأغرب ابن حزم فقال: لا يصح الحج عليها بخلاف المال المغصوب، وزعم أن الجلالة من ذوات الأربع خاصة ولا يسمى الطير ولا الدجاج جلالة، وإن كانت تأكل العذرة، فإذا قطع عنها أكلها وانقطع عنها الاسم حل أكلها وألبانها وركوبها؛ لما روينا من طريق ابن إسحاق، ثم ساق حديث مجاهد عن ابن عمر السالف، ومن طريق عكرمة عن مولاه مثله -يريد الحديث السالف- وفي رواية أيوب عن نافع عنه: نهى عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها. قال: وهذا فيه زيادة الركوب

(4)

.

قلت: ورواه الدارمي

(5)

في كتاب "الأطعمة" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلالة عن ظهورها وشحومها وكل شيء ينتفع به منها. وقال: إسناده وسط ليس بالقوي. ويخدش في قوله ما رواه

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 430 - 431.

(2)

من (غ).

(3)

انظر: "المجموع" 9/ 31.

(4)

"المحلى" 7/ 410 - 411.

(5)

هو أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي (ت 280 هـ) صاحب كتاب "الرد على الجهمية"، و"المسند الكبير"، وله كتاب:"الأطعمة" وليس هو عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي صاحب "السنن".

ص: 491

ابن أبي شيبة بإسناد جيد عن نافع، عن ابن عمر راوي الحديث أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثًا

(1)

.

ورواه ابن عدي عن نافع، عنه مرفوعًا، وأعله بغالب بن عبيد الله الجزري وقال: متروك

(2)

. وفيه مسعود بن جويرية

(3)

، وهو مجهول كما قال ابن القطان. قال الخطابي: وقد روي في حديث أن البقر الجلالة تعلف أربعين يومًا ثم يؤكل لحمها، وقال إسحاق: لا بأس أن يؤكل لحمها بعد أن يغسل غسلًا جيدًا

(4)

.

فصل:

قوله: (وكان بيننا وبين هذا الحي من جرم إخاء) هو بالرفع، وأورده ابن التين بلفظ:(بيننا وبينه) وقال: يُقرأ بالخفض على البدل من الضمير الذي في (بينه) وهو ضمير قبل الذكر، (وإخاء) ممدود تقول: آخيته إخاءً، وضبط في بعض النسخ بالقصر وقال: ليس بصحيح.

وقوله: (رجل أحمر). أي: أبيض، وهو لون العجم -يعني: الروم- يميل إلى الشقرة.

وقوله: (وهو يقسم نعمًا) هي الإبل والبقر والغنم، وقيل: الإبل خاصة. وقدمه ابن التين على الأول، قال الفراء: وهو ذكر لا يؤنث، وذكر غيره التأنيث.

وقوله: (فأعطانا خمس ذود غر الذرى) قال القزاز: الذود في الحديث: الواحد، ثم أنشد بيتًا لا دليل له فيه، والعرب تجعله من

(1)

"المصنف" 5/ 147 (24598).

(2)

"الكامل في ضعفاء الرجال" 7/ 109.

(3)

ورد بهامش الأصل: مسعود بن جويرية روى له النسائي صدوق يقبل.

(4)

"معالم السنن" 4/ 226.

ص: 492

الثلاثة إلى التسعة وقال الجوهري: ثانيها إلى العشرة

(1)

. وقال ابن فارس: الثلاثة إلى العشرة

(2)

. ومعنى (غر الذرى): بيض أعلى أسنمتها؛ لأن الأغر الأبيض، والذرى: جمع ذروة وهي أعلى السنام.

وقوله: ("إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها") أي: حللت فلا تعقد على اليمين بالكفارة وفسره في موضع آخر فقال: كفرت عنها.

(1)

"الصحاح" 2/ 471 مادة (ذود).

(2)

"مجمل اللغة" 1/ 362.

ص: 493

‌27 - باب لُحُومِ الْخَيْلِ

5519 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ. [انظر: 5510 - مسلم: 1942 - فتح

9/ 648]

5520 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهم قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ. [انظر: 4219 - مسلم: 1941 - فتح 9/ 648]

ذكر فيه حديث أسماء السالف قريبًا: نَحَرْنَا فَرَسًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلْنَاهُ.

وحديث حماد بن زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ رضي الله عنه: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ، وَرَخَّصَ في لُحُومِ الخَيْلِ.

وقد سلف في غزوة خيبر

(1)

.

ومحمد هذا هو أبو جعفر الباقر محمد بن علي بن حسين بن علي مات سنة ثماني عشرة ومائة قال النسائي: ما أعلم أحدًا وافق حماد بن زيد

(2)

على محمد بن علي

(3)

؛ فقال الترمذي لما رواه من حديث ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر: كذا رواه غير واحد، ورواية ابن عيينة أصح من رواية حماد، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول:

(1)

سلف برقم (4219) كتاب: المغازي.

(2)

ورد بهامش الأصل: رواه حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي كما نقل شيخنا، قاله النسائي. أي في رواية.

(3)

"السنن الكبرى" 4/ 151 (6641).

ص: 494

ابن عيينة أحفظ من حماد بن زيد

(1)

. ورواه ابن حزم من طريق عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية والخيل والبغال، وحرم المجثمة. ثم قال: عكرمة ضعيف

(2)

.

قلت: لا تعل رواية عمرو عن جابر برواية أبي داود من حديث ابن جريج، عن عمرو قال: أخبرني رجل عن جابر

(3)

؛ لأن هذا الرجل هو محمد بن علي السالف.

وقال الطحاوي: أهل الحديث يضعفون حديث عكرمة عن يحيى، ولا يجعلون فيه حجة، ولو كان حديث محمد بن علي وعطاء وأبي الزبير عن جابر أولى؛ لأن ثلاثة أولى بالحفظ من واحد

(4)

. وقد اختلف الناس في أكل لحوم الخيل، فكرهه مالك وأبو حنيفة والأوزاعي، ونقل عن مجاهد وأبي بكر الأصم والحسن البصري. وفي رواية: تركه أحبُّ إلى. وحرمه الحكم بن عتيبة، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي وأحمد: إنه حلال أكلها

(5)

. واحتج من كره أكلها بما رواه ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده، عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير، أخرجه أبو داود وقال: حرام عليكم لحوم الحمر الأهلية وخيلها، ثم قال: هذا منسوخ.

(1)

"سنن الترمذي"(1793) وقال: حسن غريب.

(2)

"المحلى" 7/ 408.

(3)

"سنن أبي داود"(3808).

(4)

"مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 6/ 393.

(5)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 216، "النوادر والزيادات" 4/ 372، "روضة الطالبين" 3/ 271، "المغني" 13/ 324.

ص: 495

وقد أكل الخيل جماعة من الصحابة: ابن الزبير، وفضالة بن عبيد، وأنس بن مالك، وأسماء، وسويد بن غفلة، وكانت قريش في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تذبحها

(1)

.

وقال النسائي: حديث جابر

(2)

في أكل لحوم الخيل أصح من هذا، ويشبه إن كان هذا صحيحًا أن يكون منسوخًا؛ لأن قوله:(وأذن في لحوم الخيل) دليل على ذلك، ولا أعلم روى حديث خالد هذا غير بقية، عن ثور بن يزيد، عن صالح

(3)

.

قلت: قد رواه سليمان بن سليم، عن صالح، أخرجه أحمد في "مسنده" عن أحمد بن عبد الملك، ثنا محمد بن حرب، ثنا سليمان، به

(4)

.

وأخرجه أيضًا كذلك الطبراني

(5)

.

وأخرجه ابن شاهين في "ناسخه" من حديث سليمان التيمي عن ثور بن يزيد، عن أبي غزوان الجهني، عن يحيى بن جرير، عن خالد ابن الوليد مرفوعًا:"أنهاكم عن أكل خيلها وحمرها وبغالها"

(6)

.

وقال الدارمي في كتاب "الأطعمة": ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة في أكل لحوم الخيل من غير معارض له قوي، والذي يعارضه حديث خالد، وليس إسناده كإسناد الرخصة فيه، قال موسى بن هارون: لا يعرف

(1)

"سنن أبي داود"(3790).

(2)

في الأصل: جرير، والمثبت من "التحفة".

(3)

عزاه المزي في "تحفة الأشراف"(3505) إلى النسائي.

(4)

"المسند" 4/ 89.

(5)

"المعجم الكبير" 4/ 110 (3827).

(6)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" لابن شاهين 1/ 498.

ص: 496

صالح بن يحيى ولا أبوه إلا بجده

(1)

.

وقال الخطابي: لا يعرف سماع بعضهم من بعض

(2)

.

وقال الدارقطني: حديث خالد ضعيف، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث أنه عليه السلام حرمها يوم خيبر. وقد قال الواقدي: إن خالدًا أسلم بعد خيبر

(3)

؛ وقال أبو عمر: لا يصح لخالد مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح

(4)

.

وقال البيهقي: إسناده مضطرب، ومع اضطرابه مخالف للثقات

(5)

.

وقال ابن حزم: صالح بن يحيى بن المقدام مجهولون كلهم، وفيه دليل الوضع؛ لأنه لم يسلم خالد إلا بعد خيبر بلا خلاف

(6)

.

قلت: لعله يريد بجهالتهم كلهم ما عدا جد المقدام، فإنه ثابت الصحبة قطعًا، وبقية الخلاف في إسلام خالد ليس كما ذكره، فالخلاف فيه موجود في كتاب أبي داود والطبراني وغيرهما.

وقال الطحاوي: أما الآثار المروية في لحوم الخيل فالصحيح منها ما روي في إباحة أكل لحومها، وأما الذي يوجب النظر فالنهي عنه أنا وجدنا الأنعام المباح أكلها ذوات أخفاف وذوات أظلاف، ووجدنا الحمر الأهلية والبغال المنهي عن أكل لحومها ذوات حوافر وكانت

(1)

ذكر قول موسى بن هارون الدارقطني في "السنن" 4/ 287، وابن الجوزي في "الضعفاء والمتروكين" 2/ 51 (6678).

(2)

"معالم السنن" 4/ 227.

(3)

"سنن الدارقطني" 4/ 287.

(4)

"الاستيعاب" لابن عبد البر 2/ 12.

(5)

"سنن البيهقي" 9/ 328.

(6)

"المحلى" 7/ 408.

ص: 497

الخيل أشبه بذوات الحوافر المنهي عن أكل لحومها بذوات الأظلاف المباح أكلها

(1)

.

وقال الحازمي: قالوا: وأما حديث خالد فإنه ورد في قضية معينة، وليس هو مطلقًا دالًّا على الحصر بعمومه، ليكون الحكم الثاني تابعًا للحكم الأول، بل سبب تحريمه مغاير تحريم الحمار الإنسي والبغل؛ لأن تحريم البغال والحمر كان مستمرًّا على التأبيد وتحريم أكل الخيل كان إضافيًّا فزال لزوال سببه، وذلك إنما نهى عن أكل لحومها يوم خيبر؛ لأنهم تسارعوا في طبخها قبل أن تخمس، فأمرهم عليه السلام بإكفاء القدور؛ تشديدًا عليهم وإنكارًا لصنيعهم، وكذلك أمر بكسر القدور أولاً ثم تركها، وروينا نحو هذا المعنى عن عبد الله بن أبي أوفى

(2)

، فلما رأوا إنكاره ونهيه عن تناول لحوم الخيل والبغال والحمير اعتقدوا أن سبب التحريم في الكل واحد، حتى نادى مناديه: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية. فحينئذٍ فهموا أن سبب التحريم مختلف، وأن الحكم بتحريم الحمار الأهلي على التأبيد. وأن الخيل إنما نهي عن تناول ما لم يخمس كما ذكرنا، فيكون قوله رخص أو أذن دفعًا لهذِه الشبهة، والذي دل عليه أن حديث خالد ورد في قضية مخصوصة حديث محمد بن حرب السالف، ثم ساقها؛ وقال: وهذا حديث غريب وله أصل من حديث الشاميين

(3)

.

(1)

"مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 6/ 395.

(2)

حديث عبد الله بن أبي أوفى سبق برقم (3155) كتاب: فرض الخمس، باب: ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، ورواه مسلم (1937) كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية.

(3)

"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" ص 126 - 127.

ص: 498

واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وهو عطف على الضمير العائد على الأنعام في في {خَلَقَهَا} أي: خلقها للركوب {وَزِينَةً} قالوا: والتمسك من هذِه الآية من وجوه:

أحدها: أن اللام للتعليل، فدل على أنها ما خلقت إلا لذلك إذ العلة المنصوص عليها تفيد الحصر.

ثانيها: أن فيها عطف البغال والحمير على الخيل، فلا تفرد عن المعطوفين في الحكم إلا بدليل وكذا ذكره ابن عباس فقال: هذِه الآية للركوب والزينة والتي قبلها للأكل

(1)

.

ثالثها: أن الله تعالى قد منَّ على عباده بما جعل لهم من منفعة الركوب والزينة في الخيل، فلو كانت الخيل مأكولة اللحم لكان الأولى الامتنان عليهم بمنفعة الأكل؛ لأنه أعظم وجوه المنفعة وفيه بقاء النفوس وللحاجة تتجدد إليه بكرة وأصيلًا والحكم لا يترك أعظم وجوه المنفعة عند إظهار المنة، ويذكر ما دونه.

ألا ترى كيف ذكر المنة بالأكل في الأنعام التي هي الإبل قبلها مع سائر منافعها، فقال:{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] ولو كان أكلها مباحًا لنبه عليه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] فإن قلت كما لم يذكر فيها الانتفاع بها بالأكل لم يذكر الانتفاع بها في حمل الأثقال عليها، أجاب الحنفي بأن حمل الأثقال على الخيل لا يعرف عندهم، ولم يكن لهم به عادة ولا في ذلك حاجة؛ لكثرة الإبل المغنية عن ذلك؛ ولقلة الخيل؛ ولأنها معدة لإرهاب العدو، فلا يتطرق إلى ذبحها

(1)

انظر: "تفسير الطبري" 7/ 562 - 563 (21481: 21484)

ص: 499

لكرامتها، ولهذا سوى بين الآدمي وفرسه في الغنيمة على رأي أبي حنيفة

(1)

. وعند غيره له سهمان أكثر من فارسه ولا سهم لغير الفرس من الإبل والبقر والغنم والبغال والحمير لو قاتلوا عليها.

وقد أجمعت الأمة على جواز التضحية بالإبل والبقر والغنم

(2)

، ولم يجيزوا التضحية بها، فلو كانت مأكولة اللحم وهي أهلية لوردت السنة بها، كما وردت بسائر الأنعام الأهلية.

قلت: ولا عبرة بخلاف أهل الظاهر في ذلك أن التضحية بها جائزة.

قالوا: ولو أحل أكل لحمها لغابت منفعة الركوب والزينة التي خلقت له، وأما اعتراض الحنفي على أن أسماء لم تقل أنهم أعلموا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرهم عليه، وأنها واقعة حال فلم تكن حجة فغير شيء؛ لأن الخيل لم تكن عندهم كبير بحال أن تذبح في المدينة مع صغيرها حينئذٍ ولا يعلم بها أو لا يعلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تطرق إليه الاحتمال سقط بها الاستدلال، ونظرنا في غيره من الأحاديث فوجدنا في بعض طرقه أن الدارقطني ذكر عنها من حديث

أبي خليد عتبة بن حماد المقرئ، ثنا ابن ثوبان، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء: ذبحنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلنا نحن وأهل بيته

(3)

. قلت: وأخرجها أيضًا في "مسنده": فأكلناه نحن وأهل بيته

(4)

. فدلت هذِه اللفظة على اطلاعه على ذلك؛ ولأن أهل بيته لا يأكلون شيئًا يخفى عليه.

(1)

انظر: "المبسوط" للسرخسي 10/ 41.

(2)

انظر: "التمهيد" لابن عبد البر 23/ 188.

(3)

"سنن الدارقطني" 4/ 290.

(4)

رواه أحمد 6/ 345 بلفظ: فأكلنا منه.

ص: 500

وأما قولهم: واقعة حال فغير جيد؛ لأن أكثر السنة واقعة حال فمن ترك ذلك ترك معظم السنة الشريفة، قال ابن حزم: ولا نعلم عن أحد من السلف كراهة أكل لحم الخيل، إلا رواية عن ابن عباس لا تصح؛ لأنها عن مولى علقمة بن نافع وهو مجهول

(1)

.

قلت: قد أسندها ابن أبي شيبة عن وكيع وعلي بن هشام، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير

(2)

، وذكره الإسماعيلي في "جمعه"

(3)

حديث يحيى بن أبي كثير عن نافع بن علقمة أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل .. الحديث.

فصل:

واحتج من كره أكلها أيضًا من وجه النظر أنه لو كانت لوجب أن يؤكل أولادها، فلما اتفقنا على أن الأم إذا كانت من الخيل والأب حمار لم يؤكل ما يولد منهما، علمنا أن الخيل لا تؤكل، ألا ترى أن ولد البقرة يتبع أمه في جواز الأضحية به، وإن كان أبوه وحشيًّا فلو كانت الخيل تؤكل تبع الولد أمه في ذلك.

فصل:

واحتج من جوزه بتواتر الأخبار في ذلك، وأن أحاديث الإباحة أصح من أحاديث النهي.

قالوا: ولو كان ذلك مأخوذًا من طريق النظر لما كان بين الخيل الأهلية والحمر الأهلية فُرقان، ولكن الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا

(1)

"المحلى" 7/ 409.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 120 (24308).

(3)

هكذا رسمت في الأصل، ولم أر كتابا للإسماعيلي بهذا الاسم، فلعله يقصد "المستخرج" والله أعلم.

ص: 501

صحت أولى أن يقال بها من النظر، ولا سيما وقد أخبر جابر في حديثه أنه عليه السلام أباح لهم لحوم الخيل في وقت منعه إياهم لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكم لحومها، قاله الطحاوي

(1)

.

(1)

"شرح معاني الآثار" 4/ 211.

ص: 502

‌28 - باب لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ

فِيهِ: سَلَمَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

5521 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ. [انظر: 853 -

مسلم: 561 - فتح 9/ 653]

5522 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ. تَابَعَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ. وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ سَالِمٍ. [انظر: 853 - مسلم: 561 - فتح 9/ 653]

5523 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ وَالْحَسَنِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنهم قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ وَلُحُومِ حُمُرِ الإِنْسِيَّةِ. [انظر: 4216 - مسلم: 1407 - فتح 9/ 653]

5524 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ. [انظر: 4219 - مسلم: 1941 - فتح 9/ 653]

5525، 5526 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَدِيٌّ، عَنِ الْبَرَاءِ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهم قَالَا: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ. [انظر: 4221، 3155 - مسلم: 1938 - فتح 9/ 653]

5527 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ. تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَعُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَالْمَاجِشُونُ وَيُونُسُ وَابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. [مسلم: 1936 - فتح 9/ 653]

5528 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ

ص: 503

مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ. ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ. فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ. فَأُكْفِئَتِ الْقُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ. [انظر: 371 - مسلم: 1940 - فتح 9/ 653]

5529 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ حُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَاكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ أَبَى ذَاكَ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَرَأَ:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} . [الأنعام: 145][فتح 9/ 654]

ذكر فيه أحاديث:

أحدها: حديث عَبْدَة، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعِ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيًّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ.

ثم ساقه من حديث يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ.

تَابَعَهُ ابن المُبَارَكِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ. وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ سَالِمٍ. وسلف في المغازي بالمتابعة

(1)

.

ثانيها: حديث مَالِك، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ وَالْحَسَنِ ابنيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنْ عَلِيٍّ قًالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ المُتْعَةِ (يوم)

(2)

خَيْبَرَ وَعن لُحُومِ الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ.

وسلف في المغازي أيضًا والنكاح

(3)

.

(1)

سلف برقم (4217) كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.

(2)

في (غ): عام.

(3)

سلف في المغازي (4216) وسلف في النكاح (5115) باب: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة آخرًا.

ص: 504

ثالثها: حديث مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الخَيْلِ.

سلف في المغازي أيضًا وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وقال: لا أعلم أحدًا وافق حماد بن زيد عن محمد بن علي

(1)

.

رابعها وخامسها: حديث عَدِيّ، عَنِ البَرَاءِ وَابْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَا: نَهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ.

سلف في المغازي وأخرجه مسلم

(2)

.

سادسها: حديث صَالِحٍ

(3)

، عَنِ ابن شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا إدْرِيسَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ. وأخرجه مسلم

(4)

.

تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ، قلت: أخرجها النسائي

(5)

.

وَعُقَيْلٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَمَعْمَرٌ وَالْمَاجِشُونُ وُيونُسُ وَابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ.

سابعها: حديث أنس رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتِ الحُمُرُ، ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُكِلَتِ الحُمُرُ. ثُمَّ جَاءَهُ جَاءٍ فَقَالَ: أُفْنِيَتِ الحُمُرُ. فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادى فِي النَّاسِ: إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ. فَأُكْفِئَتِ القُدُورُ وَإِنَّهَا لَتَفُورُ بِاللَّحْمِ.

(1)

سلف برقم (4219) باب: غزوة خيبر، وأخرجه مسلم (1941) كتاب: الصيد والذبائح، باب: أكل لحوم الخيل، وأبو داود (3788)، والنسائي 7/ 201.

(2)

سلف في المغازي برقم (4221) باب: غزوة خيبر، وأخرجه مسلم (1938) كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية.

(3)

في الأصول (أبي صالح)، والصواب ما أثبتناه.

(4)

أخرجه مسلم (1936).

(5)

أخرجه النسائي 7/ 204 - 205.

ص: 505

سلف في المغازي وأخرجه مسلم

(1)

.

ثامنها: حديث سُفْيَان، قَالَ عَمْرٌو: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ حُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلكَ الحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الغِفَارِيُّ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ، ولكن أَبَى ذَلكَ البَحْرُ ابن عَبَّاسٍ وَقَرَأَ:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية. [الأنعام: 145].

الشرح:

الكلام على الأحاديث وهي تحريم الحمر سلف في المغازي وغيره، ومتابعة ابن المبارك أسندها في المغازي كما قلناه عن محمد ابن مقاتل، ثنا عبد الله، ثنا عبيد الله، وكذا متابعة أبي أسامة أخرجها هناك عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة به

(2)

.

وقوله: (قال مالك) إلى آخره، يريد بحديثه ما يذكره بعد في كتابه مسندًا

(3)

، وحديث معمر أخرجه مسلم

(4)

وكذا حديث يوسف بن يعقوب ابن أبي سلمة الماجشون كذا ذكره في الأطراف في هذا الموضع وإن كان مسلم أيضًا قد خرج حديث عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن الزهري في "صحيحه" وحديث يونس في مسلم أيضًا

(5)

.

(1)

سلف في المغازي (4199) باب: غزوة خيبر، ورواه مسلم (1940) كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية.

(2)

متابعة ابن المبارك أخرجها البخاري في المغازي (4217) باب: غزوة خيبر، ومتابعة أبي أسامة أخرجها برقم (4215).

(3)

سيأتي برقم (5530) باب: أكل كل ذي ناب من السباع.

(4)

أخرجه مسلم (1932) كتاب: الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل كل ذي ناب.

(5)

مسلم (1932).

ص: 506

وقوله: (عن عمرو قلت لجابر بن زيد) إلى آخره: يريد بذلك ما هو مخرج في كتاب "السنن" لأبي داود

(1)

.

فصل:

الزبيدي: اسمه محمد بن الوليد الشامي، وقد روى عن الزهري من بني الماجشون عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، وابن عمه يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة دينار، وقيل: ميمون، والماجشون بالفارسية المورد وقيل: كان أبوهم من أهل أصبهان، نزل المدينة وكان يلقى الناس فيقول: شونى شونى، فلقب الماجشون، وهو مولى الهدير جد محمد بن المنكدر بن الهدير التيمي، مات عبد العزيز ببغداد، وصلى عليه المهدي سنة أربع وستين ومائة ودفن في مقابر قريش قاله الواقدي، وقال غيره: مات سنة ست وستين.

وروى البخاري عن هارون بن محمد عن عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة قال: هلك جدي عبد الله سنة ست ومائة

(2)

.

وكان عبد الملك فقيهًا من أصحاب مالك بن أنس وكان أستاذ أحمد بن المعدل، وهذا اللقب إنما حمله يعقوب بن أبي سلمة أخو عبد الله فجرى على بنيه وعلى أخيه.

فصل:

جابر بن زيد هو: أبو الشعثاء الأزدي الإمام صاحب ابن عباس، قال ابن عباس: لو نزل أهل البصرة عند قوله: لأوسعهم علمًا من كتاب الله

(3)

، مات سنة ثلاث وتسعين.

(1)

"سنن أبي داود"(3808).

(2)

"التاريخ الأوسط" 1/ 259، المطبوع باسم "التاريخ الصغير".

(3)

قول ابن عباس أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 204.

ص: 507

فصل:

قوله في حديث مالك: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر عن المتعة ولحوم الحمر الإنسية).

قال بعض العلماء: لم يروِ هذا الحديث هكذا غير مالك وإنما قالوا في روايتهم نهى عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر يوم خيبر؛ لأن تحريم المتعة إنما كان يوم الفتح عام ثمان وخيبر قبل ذلك عام ست أو سبع ولا يبعد أن يكون أعلمهم يوم الفتح بما كان قدمه من التحريم؛ لأنهم كانوا كفارًا فلما فتح مكة وأسلم أهلها أعلمهم بتحريم ذلك؛ لأنه كان عندهم حلالًا في الجاهلية، وانفصل الداودي بأن قال: نهى عن لحوم الحمر يوم خيبر وعن متعة النساء. يريد في يوم آخر، ولا يصح هذا التأويل في رواية مالك السالفة، فقدم المتعة.

فصل:

فقهاء الأمصار مجمعون على تحريم الحمر، وروي خلافه عن ابن عباس فأباح أكلها، وروي مثله عن عائشة والشعبي وقد روي عنهم خلافه. قال الطحاوي: وقد افترق الذين أباحوا أكلها على مذاهب في معنى نهيه عليه السلام عن أكلها. فقال قوم: إبقاء على الظهر لا التحريم، ورووا في ذلك حديث يحيى بن سعيد عن الأعمش قال: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال ابن عباس: ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر إلا من أجل أنها ظهر.

وابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الحمار الأهلي يوم خيبر، وكانوا قد احتاجوا إليها. فكان من الحجة عليهم أن جابرًا قد أخبر أنه عليه السلام أطعمهم

ص: 508

يومئذ لحوم الخيل، ونهاهم عن لحوم الحمر فهم كانوا إلى الخيل أحوج منه إلى الحمر، فدل تركه منعهم أكل لحوم الخيل، أنهم كانوا في بقية من الظهر، ولو كانوا في (قلة)

(1)

منه حتى احتيج لذلك أن يمنعوا من أكل لحوم الحمر لكانوا إلى المنع من أكل لحوم الخيل أحوج؛ لأنهم يحملون على الخيل كما يحملون على الحمر ويركبون الخيل بعد ذلك (لمعان)

(2)

لا يركبون لها الحمر، فدل أن العلة التي ذكروها ليست علة المنع، وقال آخرون: إنما منعوا منها؛ لأنها كانت تأكل العذرة وورد في ذلك حديث شعبة عن الشيباني.

قال: ذكرت لسعيد بن جبير حديث ابن أبي أوفى في أمره عليه السلام بإكفاء القدور يوم خيبر فقال: إنما نهى عنها؛ لأنها كانت تأكل العذرة. فكان من الحجة عليهم في ذلك أنه لو لم يكن جاء ذلك إلا الأمر بإكفاء القدور لاحتمل ما قالوا ولكن قد جاء هذا وجاء النهي في ذلك مطلقًا، فروى شبابة بن سوار عن أبي زبد عبد الله (بن العلاء)

(3)

عن مسلم بن مشكم عن أبي ثعلبة، قلت: يا رسول الله، حدثني ما يحل لي مما يحرم علي، فقال لي:"لا تأكل الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع"، فكان كلامه جوابًا للسؤال عما يحل له مما يحرم عليه، فدل أن النهي لا لعلة تكون في بعضها دون بعض من أكل العذرة وشبهها.

وقال قوم: إنما نهى عنها؛ لأنها كانت نهبة واحتجوا مما روى يحيى بن أبي كثير النحاز الحنفي، عن سنان بن سلمة، عن أبيه أنه

(1)

في الأصول: (كلفة) والمثبت من "شرح معاني الآثار" 4/ 206.

(2)

في الأصول: (لقال) والمثبت من "شرح معاني الآثار" 4/ 207.

(3)

في الأصول: (العلام) والمثبت من "شرح معاني الآثار" 4/ 207.

ص: 509

- عليه السلام مر يوم خيبر بقدور فيها لحم حمر الناس فأمر بها فأكفئت، فكان من الحجة عليهم في ذلك أن قوله:(حمر الناس) يحتمل أن يكونوا نهبوها منهم، وأن يكون نسبت إليهم؛ لكونهم يركبونها، فيكون وقع النهي عنها، لأنها أهلية لا لغير ذلك.

وقد بين أنس في حديث أنه عليه السلام قال لهم: "اكفئوها لأنها رجس". فدل أن النهي وقع عنها؛ لأنها رجس لا لأنها نهبة، وروى سلمة بن الأكوع أنه عليه السلام قال لهم:"اكفئوا القدور واكسروها". قالوا: يا رسول الله، أو نغسلها؟ قال:"أو ذاك" فدل ذلك على أن النهي كان للنجاسة لا لأنها نهبة؛ ألا ترى لو أن رجلاً غصب شاة فذبحها وطبخ لحمها أن قدره التي طبخ فيها لا تنجس، وأن حكمها حكم ما طبخ فيه لحم غير مغصوب، فدل أمره بغسلها على نجاسة ما طبخ بها، وعلى الأمر بطرح ما كان فيها لنجاسته، وكذلك من غصب شاة فذبحها وطبخها أنه لا يؤمر بطرح لحمها في قول أحد، فلما انتفى أن يكون نهيه عن أكلها لمعنى من هذِه المعاني التي ادعاها الذين أباحوا لحمها ثبت أن نهيه كان عنها في أنفسها، فإن قلت: قد رويتم عن ابن عباس احتجاجه بقوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية [الأنعام: 145] قلت: النص أولى بالرجوع إليه وما قاله عليه السلام هو مستثنى من الآية، وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما جاء عنه مجيئًا متواترًا في الشيء المقصود إليه بعينه مما قد أنزل الله في كتابه آية مطلقة على ذلك الجنس، فيكون ما جاء عنه مستثنى من تلك الآية غير مخالف لها؛ حتى لا يضاد القرآن السنة ولا السنة القرآن

(1)

. قد قال غيره: وأما حديث أبي ثعلبة فلا يصح فيه لحوم الحمر إنما يصح فيه ما رواه مالك عن الزهري، أنه عليه السلام: نهى

(1)

انتهى كلام الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 206 - 210.

ص: 510

عن أكل كل ذي ناب من السباع

(1)

ومن ذكر فيه بهذا الإسناد الحمر فقد وهم؛ لأن مالكًا ومعمرًا وابن الماجشون ويونس بن يزيد أثبت في ابن شهاب من صالح بن كيسان والزبيدي وعقيل.

فصل:

اختلف مالك وابن القاسم في الحمر الوحشية إذا تأنست هل تؤكل؟ فقال مالك: لا. من أجل احتمال لفظ الخبر؛ لأنه حمر إنسية، وأجازه ابن القاسم؛ حملًا على أصلها وهو التوحش

(2)

.

فصل:

ذكر في هذِه الأحاديث المتعة، وقد أوضحناها فيما مضى، والعلماء على تحريمها إلا ما يحكى شذوذًا عن ابن عباس من إباحتها.

وبه قال ابن جريج والرافضة، وعنه إباحتها للمضطر حتى يستغني عنها، وثبت رجوعه عنها من طرق صحاح، كما قاله القاضي في "شرح الرسالة"، وذلك أنه لما بلغه قول الشاعر:

يا صاح، هل لك في فتيا ابن عباس.

قام على زمزم وقال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا ابن عباس: ألا إنها حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير

(3)

.

واختلف هل يحد فيه: والمشهور: لا. وعليه فقهاء الأمصار.

(1)

"الموطأ" ص 307.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 373.

(3)

رواه الطبراني 10/ 259 (10601) من طريق الحجاج بن أرطاة، والبيهقي 7/ 205 من طريق الحسن بن عمارة كلاهما عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. ورواه البيهقي أيضًا 7/ 205 من طريق ابن شهاب، عن عبد الله، عن ابن عباس. وانظر "إرواء الغليل" 6/ 318 - 319.

ص: 511

‌29 - باب أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ

.

5530 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ. تَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْمَاجِشُونُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. [انظر: 5780، 5781 - مسلم: 1932 - فتح 9/ 657]

ذكر فيه حديث مالك: عَنِ الزهري، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ.

تَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَر وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَالْمَاجِشُونُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا، وانفرد بإخراجه مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة بلفظ:"كل ذي ناب من السباع فأكله حرام"

(1)

ومن حديث ابن عباس: نهى عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير

(2)

.

واختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، فذهب الكوفيون والشافعي إلى أن النهي فيه على التحريم، ولا يؤكل ذو الناب من السباع، ولا ذو المخلب من الطير

(3)

، ولا تعمل الذكاة عند الشافعي في جلود السباع شيئًا، ولا يجوز الانتفاع بها إلا أن تدبغ

(4)

.

وذكر ابن القصار أن الذكاة عاملة في جلودها عند مالك وأبي حنيفة، فإن ذكي سبع فجلده يجوز أن يتوضأ منه ويجوز بيعه وإن لم

(1)

مسلم (1933) كتاب الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.

(2)

مسلم (1934).

(3)

انظر: "بدائع الصنائع" 5/ 39، "روضة الطالبين" 3/ 271.

(4)

انظر "الأم" 1/ 8.

ص: 512

يدبغ، والكلب منها، إلا الخنزير خاصة

(1)

.

والشافعي يحلل من السباع الضبع والثعلب خاصة؛ لأن نابهما ضعيف

(2)

، وقال ابن القصار إن محمل النهي في هذا الحديث على الكراهة عند مالك. قال: والدليل على أن السباع ليست بمحرمة كالخنزير اختلاف الصحابة فيها. وقد كان ابن عباس وعائشة إذا سئلا عن أكلها احتجا بقوله: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية

(3)

[الأنعام: 145].

ولا يجوز أن يذهب التحريم على مثل ابن عباس وعائشة مع مكانهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستدركه غيرهما، ولا يجوز نسخ القرآن بالسنة إلا بتاريخ متفق عليه، فوجب مع هذا الخلاف ألا يحرمها كالميتة ويكرهها؛ لأنه لو ثبت تحريمها لوجب نقله من حيث يقطع العذر.

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاز أكل الضبع -قلت: أخرجه الحاكم من حديث جابر، وقال: صحيح الإسناد

(4)

- وهو ذو ناب، فدل بهذا أنه عليه السلام أراد بتحريم كل ذي ناب من السباع الكراهية، وقال الكوفيون والشافعي: ليس في الآية لمن خالفنا؛ لأن سورة

(1)

انظر: "عيون المجالس" 1/ 181 - 182 (44).

(2)

انظر: "روضة الطالبين" 3/ 272.

(3)

سلف في الباب السابق برقم (5529).

(4)

"المستدرك" 1/ 452، ورواه أيضًا أبو داود (3801)، والترمذي (851)، والنسائي 5/ 191، وابن ماجه (3085) وأحمد 3/ 297. كلهم من طريق عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي عمار، عن جابر. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم على شرط الشيخين. وصححه الألباني في "الإرواء"(1050). وانظر تمام تخريجه في "البدر المنير" للمصنف 6/ 359.

ص: 513

الأنعام مكية، وقد نزل بعدها، وأن فيه أشياء محرمات، ونزلت سورة المائدة بالمدينة وهو من آخر ما نزل وفيها تحريم الخمر والمنخنقة إلى آخره.

وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيوع أشياء كثيرة، ونهيه عن ذلك كان بالمدينة؛ لأنه رواه عنه متأخرو أصحابه، أبو هريرة، وأبو ثعلبة، وابن عباس، وقد حرم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ولم يقل أحد من العلماء أن قوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يعارض ذلك بل جعلوا نهيه عن ذلك زيادة على ما في الكتاب.

ثم اختلفوا في النهي عن أكل (كل)

(1)

ذي ناب من السباع جميعها، أو بعضها: فقال الشافعي: إنما أراد به ما كان يعدو على الناس ويفترس مثل الأسد والذئب والنمر والكلب العادي وشبهه مما في طبعه في الأغلب أن يعدو وما لم يكن يعدو، فلم يدخل في النهي، فلا بأس بأكله. واحتج بحديث الضبع في إباحة أكلها وأنها سبع

(2)

، ولابن حبيب شيء نحو هذا، قال في جلود السباع العادية: إن ذكيت فلا تباع ولا يصلى عليها ولا تلبس، وينتفع بها في غير ذلك، وأما السبع الذي لا يعدو فإذا ذكي جاز بيعه ولباسه والصلاة عليه

(3)

.

وعند الكوفيين النهي في ذلك على العموم، فلا يحل عندهم أكل شيء من سباع الوحش كلها ولا الهر الوحشي ولا الأهلي -لأنه سبع- ولا الضبع، ولا الثعلب؛ لعموم نهيه عن أكل (كل)

(4)

ذي ناب

(1)

من (غ).

(2)

"الأم" 2/ 220 - 223.

(3)

انظر: "المنتقى" 3/ 136.

(4)

من (غ).

ص: 514

من السباع

(1)

. قالوا: فما وقع عليه اسم سبع فهو داخل تحت النهي.

قالوا: وليس حديث الضبع يعارض به حديثما النهي؛ لأنه انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار، عن جابر، وليس بمشهور بنقل العلم ولا هو حجة.

إذا تقرر ذلك فكيف إذا خالفه من هو أثبت منه، وقد قال سعيد بن المسيب: إن الضبع لا يصلح أكلها

(2)

، وهو قول الليث

(3)

. وقال ابن شهاب: الثعلب سبع لا يأكل

(4)

.

ومالك يكره أكل كل ما يعدو من السباع، وما لا يعدو من غير تحريم

(5)

، وممن أجاز من السلف أكل الضبع والثعلب، روي عن عمر أنه كان لا يرى بأسًا بأكل الضبع ويجعلها صيدًا، وعن علي وسعد بن أبي وقاص وجابر، وأبي هريرة مثله. وقال عكرمة: لقد رأيتها على مائدة ابن عباس. وبه قال عطاء

(6)

ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق

(7)

.

وأجاز الثعلبَ طاوسُ وقتادةُ، واحتجا بأنه يؤذي وقالا: كل شيء يؤذي فهو صيد

(8)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 192 - 193، "المحيط البرهاني" 8/ 415.

(2)

رواه عبد الرزاق 4/ 1514 (8688).

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 193.

(4)

رواه عبد الرزاق 4/ 528 (8741).

(5)

انظر: "عيون المجالس" 2/ 979.

(6)

روى هذِه الآثار عبدُ الرزاق في "المصنف" 4/ 512 - 513 (8681 - 8685)، 4/ 529 (8744)، وابن أبي شيبة 5/ 117 (24280 - 24283).

(7)

انظر: "المجموع" 5/ 11، "المغني" 13/ 341 - 342.

(8)

رواه عبد الرزاق 4/ 529 (8742، 8743).

ص: 515

وأما الضب فقد ثبت عن الشارع جواز أكله كما سيأتي

(1)

.

وقال أبو يوسف: لا بأس بأكل الوبر، وهو عندي مثل الأرنب؛ لأنه يعتلف البقول والنبات

(2)

، وأجاز أكله طاوس

(3)

وعطاء

(4)

، وأجاز عروة وعطاء اليربوع

(5)

، وكره الحسن أكل الفيل؛ لأنه ذو ناب

(6)

، وأجاز أكله أشهب

(7)

.

واختلفوا في سباع الطير، فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: ولم أسمع أحدًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا بأرضنا ينهى عن أكل كل ذي مخلب من الطير

(8)

.

وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يؤكل

(9)

.

وروي في ذلك حديث شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير

(10)

.

(1)

سيأتي برقم (5536) من حديث ابن عمر، ورقم (5537) من حديث خالد بن الوليد.

(2)

انظر: "الجوهرة النيرة" 2/ 185.

(3)

انظر: "التمهيد" 1/ 157، "المغني" 13/ 326.

(4)

رواه عبد الرزاق 4/ 504 - 506 (8237).

(5)

رواه عبد الرزاق 4/ 514 (8689)، وابن أبي شيبة 4/ 260 (19877 - 19880).

(6)

رواه عبد الرزاق 4/ 535 (8770).

(7)

انظر: "التمهيد" 1/ 154.

(8)

المصدر السابق.

(9)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 192، "البيان" 4/ 506.

(10)

رواه مسلم (1934) كتاب الصيد والذبائح، باب: تحريم أكل كل ذي ناب من السباع .. ، من طريق معاذ العنبري، وسهل بن حماد، عن شعبة به.

ص: 516

ودفع أصحاب مالك هذا الحديث وقالوا: لا يثبت.

وقد أوقفه جماعة على ابن عباس

(1)

، ولم يسمعه منه ميمون وإنما رواه عن سعيد بن جبير عنه

(2)

. وقد روي عن ابن عباس خلافه، وما يدل على أنه ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو قول لابن عباس ثم رجع عنه.

وقد روى عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرًا، فبعث الله تعالى نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه وما سكت عنه فهو عفو وتلا:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية

(3)

[الأنعام: 145] فإن صح حديث النهي فيجوز أن يكون نهى عنها؛ لأن النفس تعافها؛ لأكلها الأنجاس في الأغلب.

قلت: الحديث أخرجه مسلم كما أسلفناه، وهو من رواية ميمون بن مهران عنه، وإن كان أبو داود ذكر في "سننه" والبزار في "مسنده" أنه لم يسمع من ابن عباس، فقد قال الخطيب: الصحيح: ميمون عن ابن عباس ليس بينهما أحد.

فرع:

قال ابن حبيب المالكي: لم يختلف المدنيون في تحريم السباع

(1)

رواه أحمد 1/ 339، قال المزي في "التحفة" 5/ 253: ورواه سفيان الثوري عن حجاج بن أرطاة وجعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عباس، قال أحدهما: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: نهى.

(2)

رواه أبو داود (3805)، والنسائي 7/ 206، وابن ماجه (3234)، والإمام أحمد 1/ 339 كلهم من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن علي بن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا.

(3)

رواه أبو داود (3800) من طريق محمد بن شريك، عن عمرو، به.

ص: 517

العادية الأسد والنمر والذئب والكلب، فأما غير العادية كالدب والثعلب والضبع والهر الوحشي والإنسي فمكروهة، قاله مالك وابن الماجشون

(1)

، وجعل في كتاب محمد مكروهًا بخلاف السبع، وعند ابن الجلاب أن الضبع كالأسد سواء

(2)

، وانفصل عن الآية بوجوه:

منها: أنها إخبار عن الماضي ولا يقضي ذلك على المستقبل وهذا سلف.

ومنها: أنه وجد تحريم ذبائح المجوس والحمر، وذلك غير مسمى في الآية.

ومما احتج به من حرم بحديث "الموطأ" عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عَبيدة بن سفيان، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال:"أكل كل ذي ناب من السباع حرام"

(3)

وأجاب عنه ابن الجهم وغيره بأن عبيدة هذا غير معلوم الحفظ وقد رواه الزهري فلم يذكر هذِه اللفظة

(4)

. وقال غيره: بل هو مفسر بحديث أبي ثعلبة؛ لأنه مقيد، وحديث أبي ثعلبة يحتمل الكراهة والتحريم والمقيد يقضي على المجمل، قال ابن حبيب: لا يحل أكل القرد، وقيل: مكروه

(5)

. وقال ابن شعبان: أجاز بعض أصحابنا ثمنه وأكل لحمه إذا كان يرعى الكلأ.

وسئل عنه مجاهد فقال: ليس من بهيمة الأنعام

(6)

.

(1)

انظر "النوادر والزيادات" 4/ 372.

(2)

"التفريع" 1/ 406.

(3)

"الموطأ" ص 307.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 372.

(5)

انظر: "المنتقى" 3/ 132.

(6)

رواه عبد الرزاق 4/ 529 (8745) وابن أبي شيبة 5/ 143 (24548).

ص: 518

وكره مالك أكل الثعلب

(1)

وأجازه ابن الجلاب

(2)

، وقال القاضي في "مبسوطه" أحسب أن مالكًا حمل النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع على النهي عن أكلها خاصة، عملًا بحديث عبيدة السالف، فذهب مالك إلى أن النهي مختص بالأكل وأن التذكية تطهير لغير الأكل فقال: لا بأس بجلود السباع المذكاة يصلى عليها

(3)

.

(1)

انظر: "المدونة" 1/ 335.

(2)

"التفريع" 1/ 406.

(3)

انظر: "المنتقى" 3/ 131.

ص: 519

‌30 - باب جُلُودِ الْمَيْتَةِ

5531 -

حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ:«هَلاَّ اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟» . قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ. قَالَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» . [انظر: 1492 - مسلم: 363 - فتح 9/ 658]

5532 -

حَدَّثَنَا خَطَّابُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَنْزٍ مَيْتَةٍ فَقَالَ: «مَا على أَهْلِهَا لَوِ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا» . [انظر: 1492 - مسلم: 363 - فتح 9/ 658]

ذكر فيه حديث صالح، عن الزهري، عن عُبَيْد اللهِ بْن عَبْدِ اللهِ عن ابن عَبَّاسٍ أَنَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ فَقَالَ:"هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟ ". قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ. قَالَ: "إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا".

ثم أخرجه عن (خطاب بن عثمان) وهو الفوزي الحمصي، وروى النسائي عن رجل عنه

(1)

.

(حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ) أي: بالحاء المهملة، وهو السليحي، من قضاعة الحمصي، انفرد به البخاري (عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ) وهو أنصاري حمصي، انفرد به أيضًا (قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَنْزٍ مَيْتَةٍ فَقَالَ: "مَا عَلَى أَهْلِهَا لَوِ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا").

الشرح:

هذان الحديثان أخرجهما مسلم أيضًا

(2)

وفي أفراده: "إذا دبغ

(1)

النسائي 7/ 178.

(2)

مسلم (363) كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ.

ص: 520

الإهاب فقد طهر"

(1)

.

وصالح السالف هو ابن كيسان، ولم يذكر في حديثه الدباغ وتابعه مالك

(2)

ومعمر

(3)

ويونس

(4)

وذكره ابن عيينة

(5)

والأوزاعي

(6)

والزبيدي

(7)

وعقيل

(8)

عن الزهري به، وذكره أيضًا في الحديث الذي أوردناه وهو ثابت محفوظ، وهو معنى:"هلَّا استمتعتم بإهابها". يعني: بعد الدباغ؛ لأنه معلوم أن تحريم الميتة قد جمع إهابها وعصبها ولحمها، فإنما أباح الانتفاع بجلدها بعد دباغه بدليل الحديث الذي أوردناه، وبدليل حديث عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت ذكره مالك في "الموطأ"

(9)

، وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفتوى، وذكر ابن القصار أنه آخر قول مالك، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وروي عن ابن شهاب أنه أباح الانتفاع بها قبله مع كونها نجسة

(10)

.

وأما أحمد فذهب إلى تحريم الجلد وتحريم الانتفاع به قبل الدباغ

(1)

مسلم (366/ 105) كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ.

(2)

"الموطأ" ص 308 (16).

(3)

رواه أبو داود (4121).

(4)

سلف برقم (1492)، ورواه مسلم (363/ 101).

(5)

رواه مسلم (363/ 100)، وأبو داود (4120).

(6)

رواه أحمد 1/ 329 - 330، وأبو يعلى 4/ 308 (2419)، وابن حبان 4/ 98 - 99 (1282) وليس فيه ذكر الدباغ.

(7)

رواه الدارمي 2/ 1265 (2032).

(8)

رواه الدارقطني 1/ 41، والبيهقي 1/ 20.

(9)

"الموطأ" ص 308 (18)، ورواه أيضًا أبو داود (4124)، والنسائي 7/ 176، وأحمد 6/ 73.

(10)

انظر قول ابن شهاب في "عيون الأدلة" 2/ 886، "الأوسط" 2/ 259، 268.

ص: 521

وبعده

(1)

، واحتج بحديث ابن عكيم: قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"

(2)

.

قلت: لكنه ضعيف كما أوضحناه في الزكاة.

قال ابن بطال: وهو في الشذوذ قريب من الذي قبله، وعن مالك أن جلودها لا تطهير بالدباغ. وأجاز استعمالها في الأشياء اليابسة وفي الماء خاصة من بين سائر المائعات، فخالف أحمد في استعمالها

(3)

وعنه أيضًا: إذا دبغ استعمل فيما عدا المائعات

(4)

، وهو عنده نجس

(5)

وروى عنه ابن عبد الحكم أنه يطهر طهارة كاملة ويباع ويؤكل

(6)

، وهو قول أبي حنيفة والشافعي

(7)

.

وقال الأوزاعي وأبو ثور: يطهر جلد المأكول به دون ما لا يؤكل

(8)

، وحكاه أشهب عن مالك

(9)

فيما حكاه ابن التين.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 160، "الأم" 1/ 78، "المغني" 1/ 89.

(2)

رواه أحمد في "مسنده" 4/ 310، ورواه أيضًا أبو داود (4128)، والترمذي (1729)، والنسائي 7/ 175، وابن ماجه (3613). وحسنه الترمذي وقال: سمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذُكر فيه قبل وفاته بشهرين، وكان يقول: كان هذا آخر أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده، حيث روى بعضهم فقال: عن عبد الله بن عكيم عن أشياخ لهم من جهينة. اهـ. وانظر تمام تخريجه في "البدر المنير" للمصنف 1/ 587، "التلخيص الحبير" 1/ 46 (41)، وصححه الألباني في "الإرواء"(38).

(3)

"شرح بن بطال" 5/ 443.

(4)

انظر: "الروايتين والوجهين" 1/ 67.

(5)

يقصد المصنف: عند مالك.

(6)

انظر: "التمهيد" 4/ 156.

(7)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 57، "مختصر المزني" ص 1.

(8)

انظر: "عيون الأدلة" 2/ 886، "المجموع" 1/ 270، "المغني" 1/ 94.

(9)

انظر: "التمهيد" 1/ 162.

ص: 522

وفي المسألة أكثر من ذلك أسلفته فيما مضى في الكتاب المذكور واضحًا.

حجة الجمهور أنه معلوم أن قوله: "إذا دبغ الإهاب" هو ما لم يكن طاهرًا من الأهب كجلود الميتات، وما لم تعمل فيه الذكاة من الدواب والسباع؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ (للتطهير)

(1)

ومحال أن يقال في الجلد الطاهر: إذا دبغ فقد طهر، (فقوله)

(2)

: "فقد طهر" نص ودليل، فالنص طهارة الإهاب بالدباغ، والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ فليس بطاهر وإذا لم يكن طاهرًا فهو نجس محرم، وإذا كان ذلك كذلك كان هذا الحديث مبينًا لحديث ابن عباس، وبطل بنصه قول من قال: إن جلد

الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ، وبطل بالدليل منه قول من قال: إن جلد الميتة إن لم يدبغ ينتفع به.

قال أبو عبد الله المروزي: وما علمت أحدًا قال به قبل الزهري

(3)

.

وقال الطحاوي: لم نجد عن أحد من الفقهاء جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ إلا عن الليث، رواه عنه ابن وهب

(4)

.

قال ابن القصار: وإنما اعتمد الزهري في ذلك على رواية في حديث ابن عباس "ما على أهلها لو أخذوا إهابها فانتفعوا به". ولم يذكر (فدبغوه)، فدل على أنه يجوز الانتفاع به قبل الدباغ فيقال: قد روى عنه ابن عيينة والأوزاعي وغيرهما الحديث وقالوا فيه: "فدبغوه وانتفعوا به" فإذا كان الزهري الراوي للحديثين أخذنا بالزائد منهما

(5)

، ومن

(1)

من (غ).

(2)

في الأصول: بقوله. والمثبت الأنسب للسياق.

(3)

انظر: "التمهيد" 4/ 154.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 160 - 161 بنحوه.

(5)

"عيون الأدلة" 2/ 905 - 906.

ص: 523

أثبت شيئًا حجة على من قصَّر عنه ولم يحفظه، وأيضًا فإن الدباغ قد جاء من طرق متواترة عن ابن عباس من غير طريق الزهري، روى ابن جريج وعمرو بن دينار، عن عطاء، عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بشاة مطروحة من الصدقة، قال:"أفلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به"

(1)

.

وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"دباغ جلد الميتة ذكاته"

(2)

.

واحتج أيضًا بقوله: "إنما حرم من الميتة أكلها" وظاهره أنه لا يحرم فيها شيء غيره.

قال الطحاوي: وأما حديث ابن عكيم فيحتمل أن يكون مخالفًا لأحاديث الدباغ، ويكون معناه قبلها، فإنه قد كان سئل عن الانتفاع بشحم الميتة فأجاب فيها بمثل هذا.

وروى ابن وهب، عن زمعة بن صالح، عن أبي الزبير، عن جابر أن ناسًا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن سفينة لنا انكسرت، وإنا وجدنا ناقة سمينة ميتة فأردنا أن ندهن بها. فقال عليه السلام:"لا تنتفعوا بشيء من الميتة"

(3)

. فأخبر جابر بالسؤال الذي كان قوله: "لا تنتفعوا بالميتة" جوابًا له أن ذلك كان على النهي عن الانتفاع بشحومها، فأما ما دبغ منها وعاد إلى معنى الأهب فإنه يطهر بذلك على ما تواترت به

(1)

طريق ابن جريج، رواه أحمد 1/ 227، وطريق عمرو بن دينار رواه مسلم (363/ 102).

(2)

رواه النسائي 7/ 174 من طريق شريك، وإسرائيل، عن الأعمش به بلفظ "ذكاة الميتة دباغها".

(3)

رواه الطبري في "تهذيب الآثار"(1221) مسند ابن عباس والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 468، وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" 15/ 443 (41757) وعزاه إلى ابن جرير، وقال: وسنده حسن.

ص: 524

الآثار" وعلى هذا لا تتضاد الآثار

(1)

.

قال المهلب: وحجة مالك في كراهية الصلاة عليها وبيعها وتجويز الانتفاع بها في بعض الأشياء أنه عليه السلام أهدى حلة من حرير لعمر وقال له: "لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها"

(2)

فأباح له التصرف فيها في بعض الوجوه، فكذلك جلد الميتة ينتفع به في بعض الوجوه دون بعض.

قال ابن القصار: وأما قول الأوزاعي وأبي ثور السالف فاحتجوا بما رواه أبو المليح الهذلي عن أبيه أنه عليه السلام نهى عن افتراش جلود السباع

(3)

، ولم يفرق بين أن تكون مدبوغة أو غير مدبوغة وقال عليه السلام:"دباغ الأديم طهوره"

(4)

فأقام الدباغ مقام الذكاة؛ ولأنه يعمل عملها، فلما لم تعمل الذكاة فيما لا يؤكل لحمه لم يعمل الدباغ فيه، والحجة عليهما حديث الباب الذي أسلفته، وإنما نهى عن افتراش جلود السباع التي لم تدبغ.

وأما قولهم: إن الذكاة لا تعمل في السباع فممنوع، بل تعمل فيها، ويستغنى بها عن الدباغ، إلا الخنزير

(5)

. قلت: وإلا الكلب عندنا

(6)

.

(1)

"شرح معاني الآثار" 1/ 968 - 969.

(2)

سيأتي برقم (5981) كتاب: الأدب، باب: صلة الأخ المشرك، ورواه مسلم (2068). كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة ..

(3)

رواه أبو داود (4132)، والترمذي (1770/ م 2)، والنسائي 7/ 176، وأحمد 5/ 74، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1450).

(4)

رواه أحمد 1/ 342، ورواه مسلم (366) كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة، بلفظ:"إذا دبغ الإهاب فقد طهر"، وفي رواية:"دباغه طهوره". جميعًا من حديث ابن عباس.

(5)

"عيون الأدلة" 2/ 902 - 904.

(6)

انظر: "المجموع" 1/ 270.

ص: 525

وحكى أبو حامد عن مالك عدم استثناء الخنزير، وهو ظاهر إيراد ابن الجلاب

(1)

، وإنما لم يعمل فيها؛ لأنها محرم العين عن أبي يوسف وأهل الظاهر أن جلد الخنزير يطهره الدباغ

(2)

. وهو قول سحنون ومحمد بن عبد الحكم

(3)

، وحكاه أبو حامد عن مالك كما سلف، واحتجوا بعموم:"أيما إهاب دبغ فقد طهر" والصواب قول الجمهور.

والفرق بين الخنزير وغيره أن النص ورد بتحريمه، والإجماع حاصل على المنع من اقتنائه فلم تعمل الذكاة في لحمه ولا جلده، فكذلك الدباغ لا يطهر جلده، وأجاز مالك والكوفيون والأوزاعي الخرازة بشعره ومنعه الشافعي لتحريم عينه

(4)

.

فرع:

الدبغ عندنا نزع فضول الجلد بالأشياء الحريفة كالشب والشث والقرظ ونحوها، بحيث أنه إذا (وقع)

(5)

في الماء لا يعود إلى نتنه وفساده، ولا يكفي التتريب والتشميس، ولا يرجع في ذلك إلى أهل الصنعة على الأصح

(6)

. وقال ابن التين: اختلف فيما يدبغ فقيل: ما يمنع الجلد من الفساد. وقيل: ما ينقله إلى أن تتخذ منه الأسقية والأدم.

(1)

"التفريع" 1/ 408.

(2)

انظر: "بدائع الصنائع" 1/ 86، "المحلى" 1/ 118.

(3)

انظر: "التمهيد" 4/ 178.

(4)

انظر: "بدائع الصنائع" 1/ 63، "المنتقى" 3/ 137، "البيان" للعمراني 1/ 75.

(5)

ورد بهامش الأصل: لعله: نقع.

(6)

قال النووي في المجموع 1/ 278: قال القاضي أبو الطيب والمرجع فيه إلى أهل الصنعة. هذا هو المذهب وهو الذي نص عليه الشافعي. اهـ.

ص: 526

وقيل: القرظ: العفص

(1)

، ونحوها، وعند أبي حنيفة: إذا جعله في الشمس حتى ينشف انتفع به بكل حال وطهر.

فائدة:

الإهاب: الجلد ما لم يدبغ. قاله في "الصحاح"

(2)

وقال ابن فارس، والقزاز: هو الجلد مطلقًا وإن دبغ. وجمعه: أهب بفتح الهمزة والهاء على غير قياس مثل أدم، وقالوا أيضًا أُهب بضم الهمزة، و (هذا)

(3)

على الأصل

(4)

.

أخرى: قوله: (بعنز ميتة) هي واحدة المعز، وهي بفتح العين وسكون النون، وميتة بالتخفيف والتثقيل سواء، هذا قول أكثر أهل اللغة، وقد جمعهما الشاعر في قوله:

ليس من مات ...... البيت

(5)

.

وقيل: بالتخفيف لمن مات، وبالتشديد لمن لم يمت بعد، قال تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزمر: 30] قال أبو عمرو: الكوفيون وحذاقُ أهل اللغة يقولون: إنهما واحد.

(1)

قاله الخليل في "العين" 4/ 395.

(2)

"الصحاح" 1/ 89 مادة [أهب].

(3)

من (غ).

(4)

"مجمل اللغة" 1/ 151.

(5)

الشاعر هو: عدي بن الرعلاء، والبيت بتمامه:

ليس من مات فاستراح بميِّت

إنما الميْتُ ميْت الأحياء

انظر: "الصحاح" 1/ 267، "تهذيب اللغة" 4/ 3321، "لسان العرب" 7/ 4295.

ص: 527

‌31 - باب الْمِسْكِ

5533 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي اللهِ إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ» . [انظر: 237 - مسلم: 1876 - فتح 9/ 660]

5534 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَثَلُ جَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً» . [انظر: 2101 - مسلم: 2628 - فتح 9/ 660]

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سبيل اللهِ إِلَّا جَاءَ يَومَ القِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ".

وحديث أبي موسى رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلُ جَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً".

وقد سلفا في الطهارة

(1)

.

و"يحذيك": أي: يعطيك، يقال: أحذيته وحذوته واستحذاني وأحذاني من الغنيمة إذا أعطيته منها، والاسم: الحذيا مقصور، وإنما

(1)

حديث أبي هريرة سلف في الطهارة (237) باب: ما يقع من النجاسات في السمن والماء، وحديث أبي موسى سلف في البيوع (2101).

ص: 528

أدخل المسك هنا؛ ليدل على تحليله إذا (دخله)

(1)

التحريم؛ لأنه دم لا يتغير على الحالة المكروهة من الدم، وهي الزهم، وقبح الرائحة صار حلالًا طيب الرائحة وانتقلت حاله، وكانت حاله كحال الخمر تتحلل، فتحل بعد أن كانت حرامًا بانتقالٍ، نبه على ذلك المهلب قال: وأصل هذا في كتاب الله تعالى في موسى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} [طه:20، 21] فحكم لها بما انتقلت إليه، وأسقط عنها ما انتقلت عنه.

وحديث أبي موسى حجة في طهارة المسك أيضًا؛ لأنه لا يجوز حمل النجاسة، ولا يأمره عليه السلام بذلك، فدل على طهارته، وجل العلماء على ذلك، ولا عبرة بقول الشيعة فيه، قال ابن المنذر: وممن أجاز الانتفاع بالمسك: علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأنس، وسلمان الفارسي، ومن التابعين: سعيد بن المسيب وابن سيرين وجابر بن زيد، ومن الفقهاء: مالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وخالف ذلك آخرون، ذكر ابن أبي شيبة، عن عمر بن الخطاب: أنه كره المسك وقال: لا تحنطوني به. وكرهه عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن ومجاهد والضحاك، وقال أكثرهم: لا يصلح للحي ولا للميت، لأنه ميتة

(2)

، وهو عندهم بمنزلة ما قطع من الميتة. قال ابن المنذر: ولا يصح ذلك إلا عن عطاء

(3)

.

وهذا قياس غير صحيح؛ لأن ما قطع من الحي يجري فيه الدم وليس هذا سبيل نافجة المسك؛ لأنها تسقط عند الاحتكاك كسقوط الشعر،

(1)

بياض في الأصل والمثبت من صلى الله عليه وسلم.

(2)

"المصنف" 2/ 461 - 462. وانظر "الأوسط" لابن المنذر 2/ 294 - 297.

(3)

"الأوسط" 2/ 297.

ص: 529

وقد روى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "أطيب طيبكم المسك"

(1)

. وهذا نص قاطع للخلاف، قال ابن المنذر: وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد جيد أنه كان له مسك يتطيب به

(2)

.

فصل:

(المسك): طيب فارسي معرب، وكانت العرب تسميه المشموم.

والمكلوم: المجروح، (وكَلْمه) بفتح أوله وسكون ثانيه.

وقوله: ("مثل الجليس الصالح والسوء"). قال الجوهري: تقول: هذا رجل سوء بالإضافة ثم تدخل عليه الألف واللام فتقول: هذا رجل السوء

(3)

. قال الأخفش: ولا يقال: الرجل السوء، ويقال: الحق اليقين، وحق اليقين جميعًا؛ لأن السوء ليس بالرجل، واليقين: هو الحق، ولا يقول أحد: هذا رجلٌ السُّوء.

و"الكير": قيل: إنه الزق الذي ينفخ به الحداد يكون زقًّا أو جلدًا غليظًا ذا حافات، وقيل: هي المبنية بالطين يحمى ليخرج خبث الحديد، يوضحه قوله عليه السلام:"المدينة كالكير؛ تنفي خبثها وتنصع طيبها"

(4)

وقيل: الكير والكور لغتان.

[قال]

(5)

ابن السكيت: سمعت أبا عمرو يقول: الكور: المبني من

(1)

أبو داود (3158)، ورواه بنحوه مسلم (2252) كتاب: الألفاظ من الأدب، باب: استعمال المسك.

(2)

"الأوسط" 2/ 297، وانظر:"شرح ابن بطال" 5/ 444 - 446.

(3)

"الصحاح" 1/ 56.

(4)

سلف برقم (1883) كتاب: فضائل المدينة، باب: المدينة تنفي الخبث، وأخرجه مسلم (1383) كتاب: الحج، باب المدينة تنفي شرارها.

(5)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 530

طين، و (الكور)

(1)

: الزق

(2)

.

وقوله: ("وإما أن تبتاع منه") دلالة على جواز بيعه، وهو إجماع، نعم بيعه في فأرته من غير رؤية باطل على الأصح، وقال ابن شعبان: فأرة المسك ميتة، إنما يؤخذ منها في حال الحياة أو بذكاة من لا تصح ذكاته من أهل الهند؛ إذ لا كتاب لهم، فإنما حكم له بالطهارة لاستحالتها عن صفة الدم، وخرجت عن اسم ما يختص بها فطهرت كما يستحيل الدم إلى اللحم فيطهر، وإنما لم تنجس الفأرة بالموت؛ لأنها ليست بحيوان فتنجس لعدم الذكاة وإنما هي شيء يحدث بالحيوان كالبيض في الطير وقد قام الإجماع على طهارته، قال: وقيل المسك: فأرة تموت فيكون جميع ما فيها مسكًا وقيل شيء يسقط من دويبة تسمى الفأرة، ولعلها ليست لها نفس سائلة.

قال الداودي: أو تكون مختصة من الميتات وكان ابن عمر يكره المسك، وهذا خلاف ما أسلفناه عن ابن المنذر

(3)

عنه.

(1)

في (غ): الكير.

(2)

"إصلاح المنطق" ص 32.

(3)

"الأوسط" 2/ 297.

ص: 531

‌32 - باب الأَرْنَبِ

5535 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَخَذْتُهَا فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا -أَوْ قَالَ بِفَخِذَيْهَا- إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهَا. [انظر: 2572 - مسلم: 1953 - فتح 9/ 661]

ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى القَوْمُ فَلَغَبُوا، فَأَخَذْتُهَا فَجِئْتُ بِهَا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بِوَرِكَيْهَا -أَوْ قَالَ: بِفَخِذَيْهَا- إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهَا.

هذا الحديث سلف

(1)

، ومعنى (أنفجنا): أثرنا، قال ابن سيده: نفج اليربوع ينفج، نفوجًا، وانتفج: عدا، وأنفجه الصائد واستنفجه، الأخيرة عن ابن الأعرابى، ونفجت الأرنب: اقشعرت، يمانية، وكل ما اجْثألَّ فقد نفج

(2)

.

وفي "المنتهى" لأبي المعالي: نفج الأرنب: إذا ثار وعدا، وانتفج أيضًا، وأنفجه: الصائد أثاره من مجثمهِ، وقيل: معنى (أنفجنا): أنا جعلنا بإثارتنا إياها تنتفج، وانتفاجها: إيقاع شعرها وانتفاشه في العدو؛ لأن الشئ يذكر لغيره؛ لكونه منه بسبب، وربما قيل: صيد أثرته قد انتفج. وفي الحديث "إنكم في فتنتين تكون الأولى منها كنفجة أرنب"

(3)

.

(1)

سلف برقم (2572) كتاب: الهبة، باب: قبول هدية الصيد.

(2)

"المحكم" 7/ 319 - 320 مادة [نفج].

(3)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 370 (20767)، ومن طريقه الحاكم 4/ 471 - 472 عن أبي هريرة موقوفًا بلفظ: إني لأعلم فتنة يوشك أن تكون التي معها قبلها كنفجة أرنب.

ص: 532

يريد أن الأولى تكون وإن طالت وعظمت عند الأخرى كوثبة الأرنب إذا عدت.

وفي "الجامع": نفجت الأرنب، وهو أَوْحَى عَدْوِها، وأنفجه الصائد، ويقال هذا كله للصيد.

فصل:

الأرنب واحد الأرانب، قال في "المنتهى": وربما يبدل من الباء تاء، وذكر فيه شعرًا والدرمة الأرنب، ويقال لولدها الصغير: الخرنق، والجمع خرانق.

قوله: (فلغبوا) أي أعيوا وتعبوا.

قال تعالى {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] وهو بفتح الغين على الأصح.

و (مر الظهران): اسم موضع على بريد مكة. وقيل: على أحد عشر ميلا، وقيل: على ستة عشر ميلًا. قال الجوهري: وبطن مر أيضًا موضع، وهو من مكة على مرحلة

(1)

.

وقوله: (فقبلها) وفي رواية البخاري في كتاب الهبة: قلت: وأكل منه؟ قال: وأكل منه ثم قال بعد: قِبَلَه

(2)

.

وصح من حديث محمد بن صيفي الأنصاري قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرنبتين قد ذبحهما بمروة فأكلهما صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

"الصحاح" 2/ 814 مادة [مرر].

(2)

سلف برقم (2572) باب: قبول هدية الصيد.

(3)

رواه ابن ماجه (3175) من طريق عاصم، عن الشعبي، عن محمد بن صيفي .. الحديث.

ص: 533

وفي رواية داود، عن الشعبي، عن محمد بن صفوان، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، أخرجه ابن أبي عاصم وابن أبي شيبة

(1)

، وهو مما ألزم الدارقطني الشيخين تخريجه لصحة الطريق إلى ابن صيفي.

(2)

فصل:

في أحاديث أخر واردة في الإباحة والكراهة والتوقف.

روى ابن أبي شيبة بإسناد جيد من حديث عمر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدى رجل إليه -من الأعراب- أرنبًا فأكلناه، فقال الأعرابي: إني رأيت بها دمًا؛ فقال عليه السلام: "لا بأس". قال: وحدثنا وكيع عن إبراهيم أن رجلاً سأل عبد الله بن عبيد بن عمير عن الأرنب؛ فقال: لا بأس بها.

قال: إنها تحيض؛ قال: إن الذي يعلم حيضها يعلم طهرها وإنما هي حاملة من الحوامل. وعن ابن المسيب عن سعد أنه كان يأكلها، قيل لسعد: ما تقول فيها؟ قال: كنت آكلها. وعن عبيد بن سعد أن بلالًا رمى أرنبًا فذبحها فأكلها. وعن الحسن أنه كان لا يرى بأكلها بأسًا. قال طاوس: الأرنب حلال. وقال حسن بن حسن بن علي: أنا أعافها ولا أحرمها على المسلمين

(3)

.

قال ابن حزم: وصح من حديث أبي هريرة أنه عليه السلام أتي بأرنب مشوية فلم يأكل منها وأمر القوم فأكلوا

(4)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 117 (24274) ومن طريقه ابن ماجه (3244)، ورواه أيضًا النسائي 7/ 225، وأحمد 3/ 471؛ كلهم من طريق زيد بن هارون، عن داود به.

(2)

"الإلزامات والتتبع".

(3)

انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 116.

(4)

"المحلى" 7/ 433.

ص: 534

وفي أبي داود من حديث محمد بن خالد بن الحويرث قال: سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن عمرو، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأرنب:"إنها تحيض".

(1)

.

وفي ابن ماجه من حديث ابن إسحاق، عن عبد الكريم بن أبي المخارق، عن حبان بن جَزْء، عن أخيه خزيمة بن جَزْء قلت: يا رسول الله، ما تقول في الأرنب؟ قال:"لا آكله ولا أحرمه". قال: ولمَ يا رسول الله؟ قال: "إني أحسب أنها تدمي"

(2)

.

ولابن أبي عاصم بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، من عند ابن أبي شيبة أنه كره أكلها، وكذا عن عكرمة.

قال ابن حزم: روينا عن عمر أو ابنه أنه كره أكلها، وكذا عن عمرو بن العاص وابنه. وروينا من طريق وكيع، ثنا أبو مكين، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي بأرنب فقيل له: إنها تحيض، فكرهها.

ومن طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن عمر، عن عبد الكريم بن أمية قال: سأل جرير بن أنس السلمي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأرنب، فقال:"لا آكلها، أنبئت أنها تحيض"

(3)

قال ابن حزم: حديث عكرمة مرسل وأبو أمية هالك

(4)

.

وقال ابن بطال: أكلها حلال عند جمهور الأمة، وذكر عبد الرزاق عن عمرو بن العاص أنه كرهها

(5)

، وذكر الطبري عن عبد الله بن عمرو،

(1)

"سنن أبي داود"(3792).

(2)

"سنن ابن ماجه"(3245) وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(698).

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 4/ 518 (8699).

(4)

"المحلى" 7/ 433.

(5)

"المصنف" 4/ 517 (8696)

ص: 535

وابن أبي ليلى أنهما كرهاها، وعلتهم في ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو، وأنه قال: كنت قاعدًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجيء بها إليه فلم يأمر بأكلها ولم ينه عنها، وزعم أنها تحيض.

قال الطبري: وروي عن عبد

(1)

الله بن عبيد بن عمير قال: سأل رجل أبي عن الأرنب أيحل أكلها؟ قال: وما الذي يحرمها؟ قال: زعموا أنها تطمث كما تطمث المرأة. قال: فهل تعلم متى تطهر؟ قال: لا. قال: فإن الذي يعلم متى طمثها يعلم متى طهرها، وإلا فإنما هي حاملة من الحوامل، إن الله تعالى لم يزد شيئًا نسيه، فما قال الله ورسوله فهو كما قالا، وما لم يقولا فعفو من الله، وهذا مثل ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم الضب ولم يحرمه

(2)

. كما ستعلمه، وقد سلف أثر عبد الله قريبًا مختصرًا. وقد وقع في الرافعي عن أبي حنيفة تحريمها

(3)

. وأما النووي فحكى عنه حلها

(4)

.

(1)

في الأصول: عبيد، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(2)

"شرح ابن بطال" 5/ 446.

(3)

"الشرح الكبير" 12/ 131.

(4)

"المجموع" 9/ 13.

ص: 536

‌33 - باب الضَّبِّ

5536 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ» . [مسلم: 1943 - فتح 9/ 662]

5537 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأُتِيَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ، فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ: أَخْبِرُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ. فَقَالُوا: هُوَ ضَبٌّ يَا رَسُولَ اللهِ. فَرَفَعَ يَدَهُ، فَقُلْتُ: أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ» . قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ. [انظر:

5391 -

مسلم: 1946 - فتح 9/ 663]

ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ".

وحديث خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ أَنَّهُ أكل بحضرته. الحديث بطوله سلف الكلام عليه، وهو مباح عند مالك والشافعي، وكرهه أبو حنيفة

(1)

.

وحديث الباب صريح في الإباحة، وعلل بالعيافة.

وهذا الضب جاء أنه أهداه خالة ابن عباس أم حفيد أو حفيدة بنت الحارث بن حزن أخت ميمونة وكانت (بنجذ تحت)

(2)

رجل من بني جعفر.

(1)

انظر: "المدونة" 1/ 426، "المنتقى" 3/ 132، "الأم" 2/ 222، "المبسوط" 11/ 231 - 232.

(2)

من (غ).

ص: 537

وفي لفظ: "كلوا فإنه حلال"

(1)

، وفي آخر:"لا بأس به"

(2)

، وفي آخر:"لا آكله ولا أنهى عنه"

(3)

.

ولأبي داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما: فجاءوا بضبين مشويين على ثمامتين، فتبزق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له خالد: إخالك تقذره يا رسول الله. قال: "أجل"

(4)

.

وفي "الموطأ" من حديث سليم بن يسار رفعه: "من أين لكم هذا؟ " يعني: ضبابا فيها بيض، فقالت: أهدته إلى أختي هزيلة، فقال:"كلا"، فقالا -يعني ابن عباس وخالته-: قال: "إني حضرني من الله حاضر -يريد: الملائكة- والضب له رائحة ثقيلة". فكره أذى الملائكة بذلك، ذكره أبو القاسم في "شرح الموطأ".

ولمسلم من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "إن الله غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض، فلا أدري لعل هذا منها، فلست آكلها ولا أنهى عنها". قال أبو سعيد: فلما كان بعد ذلك قال عمر: إن الله تعالى لينفع به غير واحد وإنه لطعام عامة الرعاء، ولو كان عندي لطعمته، وإنما عافه رسول الله صلى الله عليه وسلم

(5)

.

وفي حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا أدري" أو قال: "لعله من القرون التي مسخت"

(6)

.

(1)

سيأتي برقم (7267) كتاب: أخبار الآحاد، باب: خبر المرأة الواحدة، ورواه مسلم (1944) كتاب: الصيد، باب: إباحة الضب.

(2)

سيأتي برقم (7267).

(3)

رواه أحمد 2/ 13، ورواه مسلم (1948) من حديث ابن عباس.

(4)

"سنن أبي داود"(3730).

(5)

"صحيح مسلم"(1951) كتاب: الصيد والذبائح، باب: إباحة الضب.

(6)

رواه مسلم (1949).

ص: 538

وعن ثابت بن وديعة عند أبي داود: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش فأصبنا ضبًا، فشويت منها ضبًّا ووضعته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عودًا فعد به أصابعه ثم قال:"أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض، وإني لا أدري أي الدواب هي" فلم يأكل ولم ينه

(1)

. وصح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه عليه السلام وجد ريح ضب فرخص لهم في أكله. وعن ابن المسيب قال عمر: ضب أحب إليَّ من دجاجة. وعن الشعبي أنه عليه السلام سئل عن الضب، فقال:"حلال لا بأس بأكله لكني أعافه"

(2)

.

ولأبي داود عن ابن عمر بإسناد جيد أنه عليه السلام قال: "وددت أن عندي خبزة بيضاء من برة سمراء ملبقة بسمن ولبن"، فقام رجل من القوم فجاء به، فقال:"في أي شيء كان السمن؟ " قال: في عكة ضب. فقال "ارفعه"

(3)

.

وعن عبد الرحمن بن شبل أنه عليه السلام نهى عن أكل لحم الضب

(4)

.

وروى ابن أبي عاصم بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن حسنة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلنا أرضًا كثيرة الضباب فذبحنا، فبينما القدور تغلي بها إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أمة من بني إسرائيل فقدت، وإني أخاف أن يكون من هذا". فأكفأناها وإنا لجياع.

(1)

"سنن أبي داود"(3795).

(2)

انظر هذِه الأخبار في "مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 124.

(3)

"سنن أبي داود"(3818) وقال: حديث منكر.

(4)

رواه أبو داود (3796). وقال المنذري في "مختصره" 5/ 311 في إسناده إسماعيل بن عياش، وضمضم بن زرعة، وفيهما مقال، وقال الخطابي: ليس إسناده بذاك، وقال البيهقي: لم يثبت إسناده، إنما تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة. اهـ. وانظر:"سنن البيهقي" 9/ 326، "معالم السنن" للخطابي 4/ 229.

ص: 539

وعن أبي سعيد قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب، قال:"اقلبوه". فقلبوه، فقال:"تاه سبط من بني إسرائيل حين غضب الله عليهم، فإن يكن فهو هذا"

(1)

. وعن عائشة رضي الله عنها: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (ضب)

(2)

فلم يأكل منه، فقلت: يا رسول الله، ألا نطعمه السؤّال؟ فقال: "لا (تطعموا)

(3)

السؤّال ما لا تأكلون"

(4)

فإن قلت: قد يحمل على الرداءة لا الحرمة، كما نهى عن الصدقة بالرديء.

قلت: ذاك عند القدرة على غيره دون ما إذا لم يكن عنده سواه أو كان نفر من طبعه دون طبع غيرهن والظاهر أن عائشة لم يكن عندها سواه. والأشبه أن تحمل الكراهة عند الحنفية على التنزيه لتتفق معاني الآثار وكما أسلفناه من أن المسخ لا يعقب.

قال ابن أبي عاصم: وفي الضب عن أبي مريم الكندي وعبد الرحمن ابن شبل

(5)

وسمرة وميمونة وخزيمة بن جَزْء.

قلت: حديث سمرة أخرجه الدارمي، ولفظه:"أمة من بني إسرائيل مسخت، فلا أدري أي الدواب مسخت".

ثم ساقه من حديث أبي هريرة مرفوعًا قال: ومنها ألفاظ مختلفة على رجال شتى من الصحابة، لم يصحح أحد منهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمها، وأكثر من روى أنه أمسك عن أكلها عيافة.

(1)

رواه أحمد في "المسند" 3/ 41، 42، وعبد الرزاق في "المصنف" 4/ 512 (8679).

(2)

من (غ).

(3)

في الأصول: (تطعمه)، والمثبت من مصادر التخريج.

(4)

رواه أحمد في "المسند" 6/ 105، وأبو يعلى 7/ 438 - 439 (4461)، والطبراني في "الأوسط" 5/ 212 - 213 (5116)، والبيهقي 9/ 325 - 326. وعزاه الهيثمي في "المجمع" 4/ 37 لأحمد وأبي يعلى، وقال: رجالهما رجال الصحيح.

(5)

في (غ): عبد الله بن شبل.

ص: 540

وحديث عبد الرحمن بن حسنة يدل على النهي، إذ أمر أن تُكفأ القدور بها

(1)

.

وحديث ميمونة أخرجه ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن أبي زياد بلفظ: "إنكما أهل نجد تأكلونها، وإنا أهل المدينة لا نأكلها".

ومن حديث الحارث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كره أكلها

(2)

.

فصل:

قال ابن حزم: أكل الضب حلال ولم ير أبو حنيفة أكله.

روى أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه سئل عن الضب فقال: لا نطعمه. قال: وحديث عبد الرحمن بن شبل ففيه ضعفاء ومجهولون، وأما حديث عبد الرحمن بن حسنة فصحيح وحجة، إلا أنه منسوخ بلا شك؛ لأن فيه أنه عليه السلام إنما أمر بإكفاء القدور بالضباب خوف أن تكون من بقايا مسخ الأمة السالفة، هذا نص الحديث، فإن وجدنا عنه عليه السلام ما يؤمن من هذا الظن بيقين فقد ارتفعت الكراهة أو المنع في الضب فنظرنا في ذلك فوجدنا في "صحيح مسلم" عن ابن مسعود، قيل: يا رسول الله، القردة والخنازير مما مسخ؟ فقال:"إن الله لم يهلك قومًا أو يعذب قومًا فيجعل لهم نسلاً، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك"

(3)

فصح يقينًا أن تلك المخافة منه في الضباب أن تكون مما مسخ قد ارتفعت وأنها ليس مما مسخ (ولا مما مسخ)

(4)

شيء في صورتها فحلت.

(1)

رواه أحمد 4/ 196، والبراز كما في "كشف الأستار"(1217)، وأبو يعلى 2/ 321 (931)، وزاد الهيثمي في "المجمع" 4/ 37 عَزْوه إلى الطبراني في "الكبير"، وقال: ورجال الجميع رجال الصحيح.

(2)

"المصنف" 5/ 123 - 124 (24336، 24351).

(3)

"صحيح مسلم"(2663) كتاب: القدر، باب: بيان أن الآجال والأرزاق ..

(4)

من (غ).

ص: 541

وحديث ابن عباس في أكله بحضرة رسول الله نص على تحليله وهو الآخر الناسخ؛ لأن ابن عباس لم يجتمع -بلا شك- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلا بعد انقضاء الفتح وحنين والطائف ولم يغز بعدها إلا تبوك، ولم تصبهم في تبوك مجاعة أصلاً، فصح يقينًا أن خبر ابن حسنة كان قبل هذا بلا مرية فارتفع الإشكال جملة وصحت إباحة عمر وغيره

(1)

.

قلت: قوله: لأن ابن عباس. إلى آخره. قد يحتمل أنه كان لما تزوج ميمونة، ويحمل قوله: في بيت ميمونة، على موضع منها أي موضع كان.

وغزوة تبوك سماها الرب تعالى بالعسرة وقد أسلفنا عن عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عمر في كراهة أكلها.

وقوله في حديث ابن شبل ما سلف من الطعن يرده أن أبا داود أخرجه عن محمد بن عوف الحمصي الإمام

(2)

-وثقه الخلال ومسلمة والجياني- عن الحكم بن نافع -وهو ثقة عند أبي حاتم الرازي

(3)

وابن معين والخليلي وابن حبان في "ثقاته"

(4)

، وأثنى عليه غيرهم- عن إسماعيل بن عياش -وقد قال جماعة: حديثه عن الشاميين صحيح، منهم يحيى بن معين والبخاري (والعلاء بن)

(5)

ويعقوب بن سفيان وأبو زرعة وأبو أحمد الحاكم والبرقي والساجي وابن حبان وابن عدي

(6)

وحديثه هنا عن الشاميين وهو ضمضم بن زرعة بن ثوب

(1)

"المحلى" 7/ 431 - 432.

(2)

"سنن أبي داود"(3796).

(3)

"الجرح والتعديل" 3/ 129 (586).

(4)

"الثقات" 8/ 194.

(5)

في الأصل بعدها بياض وفي هامش (غ) تعليق: سقط اسم والده.

(6)

انظر: "المجروحين" لابن حبان 1/ 124، "الكامل" لابن عدي 1/ 471 (127).

ص: 542

الحمصي الشامي وثقه ابن حبان

(1)

، وقال الأونبي

(2)

في "ثقاته": وثقه ابن نمير وغيره.

وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن عيسى البغدادي: لا بأس به عن شريح بن عبيد الشامي الحمصي وهو ثقة عند النسائي ودحيم وابن حبان والعجلي

(3)

ومحمد بن عوف، وابن خلفون عن أبي راشد الحبراني وهو ثقة عند العجلي وابن حبان

(4)

والحاكم عن (شرحيل)

(5)

وصحبته ثابتة بلا شك، فهذا إسناد لا ضعيف فيه ولا مجهول.

فصل:

قال الطبري عقب حديث خالد: قال به جماعة من السلف وأحلوا أكله، روي عن عمر وعائشة وابن مسعود.

وقال أبو سعيد الخدري: إن كان أحدنا ليهدى إليه الضب المكونة أحب إليه من أن تهدى له الدجاجة السمينة.

وروي عن ابن سيرين، وهو قول مالك والأوزاعي والشافعي، وقد سلف عن أبي حنيفة الكراهة

(6)

ونقله الطبري عن الكوفيين أن أكلها

(1)

"الثقات" 6/ 485.

(2)

هو الحافظ المتقين العلامة أبو بكر محمد بن إسماعيل بن محمد بن خلفون الأزدي الأندلسي، كان بصيرًا بصناعة الحديث، حافظًا للرجال، من مصنفاته "المنتقى في الرجال"، "المفهم في شيوخ البخاري ومسلم""علوم الحديث"، توفي سنة ست وثلاثين وستمائة. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 23/ 71 (51)، "الوافي بالوفيات" 2/ 218 (611).

(3)

"معرفة الثقات" للعجلي 1/ 452، "الثقات" لابن حبان 4/ 353.

(4)

"معرفة الثقات" 2/ 400، "الثقات" 5/ 583.

(5)

ورد بهامش الأصل، (غ): صوابه عن عبد الرحمن بن شبل أو عن ابن شبل.

(6)

انظر: "المدونة" 1/ 426، "المنتقى" للباجي 3/ 132، "الأم" 2/ 222، "المبسوط" 11/ 231 - 232.

ص: 543

مكروه وليست بحرام، وروي عن أبي هريرة، وقال آخرون: حرام.

واعتلوا بحديث الأعمش عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا أرضًا كثيرة الضباب فذبحناها فبينما القدور تغلي .. الحديث وقد سلف، ثم ساق حديث عائشة السالف أيضًا.

قالوا: الأخبار بالنهي عنها صحيحة، وقد روى عبد الرحمن الشامي عن الحارث، عن علي رضي الله عنه أنه نهى عن الضب، قال: والصواب في ذلك قول من قال أنه حلال؛ للخبر الصحيح عنه.

وتركه عباد كما قاله عمرو، ولم يأت خبر صحيح بتحريمه بل قال له عمر: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا".

وقد روى الثوري عن علقمة بن مرثد، عن [المغيرة]

(1)

بن عبد الله اليشكري، عن المعرور بن سويد، عن [ابن]

(2)

مسعود أنه عليه السلام سألته أم حبيب

(3)

: يا رسول الله القردة والخنازير؟ .. الحديث، وقد سلف.

قال الطحاوي: فبين في هذا الحديث أن المسوخ لا يكون لها نسل ولا عقب فعلمنا بذلك أن الضب لو كان مسخًا لم يبق

(4)

.

وروي عن ابن عباس أنه قال: لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب.

وأما حديث الأسود عن عائشة رضي الله عنها فلا حجة لهم فيه، ثم

(1)

في الأصول: (المعرور)، والصواب ما أثبتناه.

(2)

في الأصول: (أبي)، والصواب ما أثبتناه.

(3)

ورد بهامش الأصل: هذا الكلام يحرر، فإن فيه نظرًا ولعلها أم حبيبة لكنها تابعية، وهي بنت العرباض بن سارية، التي تقدمت.

(4)

"شرح معاني الآثار" 4/ 199.

ص: 544

ذكر ما أسلفناه من أنه أراد أن يكون مما يتقرب به إلى الله من خير الطعام، كما نهى أن يتصدق بالبسر والتمر الرديء، وفي ذلك نزلت {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وبقول مالك قال الطحاوي.

قال الطبري: وليس في الحديث أنه عليه السلام قطع أن الضب من المسوخ وإنما قال: أخشى أن تكون مسخت على صور هذِه وخلقتها، لا أنها بعينها فكرهها؛ لشبهها في الخلقة والصورة، خلقًا غضب الله عليه فغيره الله تعالى عن هيئته وصورته إلى صورتها، وعلى هذا التأويل يصح معنى قوله: إن المسخ لا يعقب.

ومعنى قول ابن عباس السالف إذ لم يمسخ الله تعالى خلقًا من خلقه على صورة دابة من الدواب إلا كره إلى نبينا وأمته أكل لحم تلك الدابة أو حرمها كتحريمه عليهم لحوم الخنازير التي مسخت على صورتها أمة من اليهود، وكتحريمه لحوم القردة التي مسخت على صورتها فيهم أمة أخرى غير أن قوله:"أخشى أن تكون هذِه" بيان واضح أنه لم يتبين أن الضب من نوع الأمة التي مسخت؛ ولذلك لم يحرمها (ولو)

(1)

تبين له فيها ما تبين من القردة والخنازير لحرمها، ولكنه رأى خلقًا مشكلًا يشبه المسوخ فكرهه ولم يحرمه ولم يأته وحي من الله.

فصل:

قال غيره: وفيه من الفقه أنه يجوز للمرء أن يترك أكل ما هو حلال إذ لم يجر له بأكله عادة، ويكون في سعة من ذلك.

فصل:

معنى "أعافه": أكرهه، يقال: عافه الطعام يعافه عيافة وعيوفًا: إذا كرهه.

(1)

من (غ)، وفي الأصل:(ولم).

ص: 545

والمحنوذ: المشوي، قال تعالى {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] أي: محنوذ، حنذت اللحم حنذًا: شويته.

وقوله: (فاجتررته)، هو بالجيم والراء المكررة، وفي نسخة بالزاي.

فصل:

(الضب) بفتح الضاد: حيوان بري معروف.

قال الداودي: هو دويبة صغيرة فوق الحية في الغلظ والطول، وكان أهل المدينة يأكلونها وكانت عند أحدهم خيرًا من دجاجة، وقد أسلفناه عن عمر وغيره، وعبارة صاحب "الغريبين": هي دويبة تشبه الورل يأكله العرب، وكذا نص عليه الجوهري أن الورل يشبه الضب أيضًا

(1)

. وهي لا ترد الماء، ومن عجائبه أن الذكر له ذكران والأنثى فرجان، ويشترك معه في هذِه (الخصوصية)

(2)

السقنقور وأن أسنانه لا تتبدل ولا يقلع منها شيء، يقال: إنها قطعة واحدة.

وأفاد ابن خالويه في كتاب "ليس": أنه يعيش سبعمائة سنة فصاعدًا، ويقال: إنها تبول في كل أربعين يومًا قطرة، وغير ذلك مما أوضحته في "لغات المنهاج" فراجعه منه.

(1)

"الصحاح" 5/ 1841 مادة (ورل).

(2)

في (غ): الخصيصة.

ص: 546

‌34 - باب إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ الْجَامِدِ أَوِ الذَّائِبِ

5538 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُهُ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، فَقَالَ:«أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ» . قِيلَ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: مَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ إِلاَّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مِرَارًا. [انظر: 235 - فتح 9/ 667]

5539 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَهْوَ جَامِدٌ أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ، الْفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ، ثُمَّ أُكِلَ، عَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ. [انظر: 235 - فتح 9/ 668]

5540 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنهم قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ:«أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ» . [انظر: 235 - فتح 9/ 668]

ذكر فيه حديث مَيْمُونَةَ رضي الله عنها، وقد سلف في الطهارة

(1)

، وهنا أطول منه فإنه ساقه عن الحُمَيْدِيِّ، ثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابن عَبَّاسٍ يُحَدِّثُهُ، عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَمَاتَتْ، فَسُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، فَقَالَ:"أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ". قِيلَ لِسُفْيَانَ: إِنَّ مَعْمَرًا يُحَدِّثُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: مَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُه إِلَّا عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، عَنِ

(1)

سلف في الطهارة برقم (235) باب: ما يقع من النجاسات في السمن والماء.

ص: 547

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ مِرَارًا.

حَدَّثنَا عَبْدَانُ، أَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الدَّابَّةِ تَمُوتُ فِي الزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَهْوَ جَامِدٌ أَوْ غَيْرُ جَامِدٍ، الفَأْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِفَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، فَأَمَرَ بِمَا قَرُبَ مِنْهَا فَطُرِحَ، ثُمَّ أُكِلَ. مَنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ.

ثم ساق من حديث مالك: عن ابن شهاب، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ قالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ:"أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ".

الشرح:

توقف البخاري في إسناد معمر عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة؛ لأنه انفرد به معمر عن الزهري.

وأما حديث الزهري عن عبيد الله، عن ابن عباس فرواه جماعة أصحاب ابن شهاب عنه بهذا الإسناد، وقد صحح الذهلي الإسنادين جميعًا عن ابن عباس، وإنما لم يدخل البخاري في الحديث "وإن كان مائعًا فلا تقربوه"

(1)

؛ لأنه من رواية معمر عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة واستراب انفراد معمر، قلت: وأما ابن حبان فصححه

(2)

.

وفي قوله عليه السلام: "ألقوها وما حولها" دلالة على أن السمن كان جامدًا؛ لأنه لا يمكن طرح ما حولها في المائع الذائب؛ لأنه عند الحركة يمتزج بعضه ببعض.

(1)

رواه أبو داود (3842) كتاب: الأطعمة، باب: في الفأرة تقع في السمن، والنسائي 7/ 178 كتاب: الفرع والعتيرة، باب الفأرة في السمن، وأحمد 2/ 265، وقال الألباني في "الضعيفة" (1532): شاذ.

(2)

"صحيح ابن حبان" 4/ 237 (1393).

ص: 548

وقام الإجماع على أن هذا حكم السمن الجامد تقع فيه الميتة فتلقى وما حولها ويؤكل سائره؛ لأنه عليه السلام حكم للسمن الملاصق للفأرة بحكم الفأرة، لتحريم الله تعالى الميتة، فأمر بإلقاء ما مسها منه، وأما السمن المائع والزيت والخل والمري والعسل وسائر المائعات تقع فيه الميتة، ولا خلاف أيضًا بين أئمة الفتوى أنه لا يؤكل منها شيء.

واختلفوا في بيعه والانتفاع به، فقالت طائفة: لا يباع ولا ينتفع بشيء منه كما لا يؤكل، هذا قول الحسن بن صالح وأحمد، واحتجوا بحديث أبي هريرة السالف وبقوله:"لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها"

(1)

.

وقال آخرون: يجوز الاستصباح به والانتفاع به في الصابون وغيره، ولا يجوز بيعه وأكله، هذا قول مالك والثوري والشافعي، واحتجوا برواية عبد الواحد بن زياد، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وإن كان مائعًا فاستصبحوا به"

(2)

قالوا: وقد روي عن علي وابن عمر وعمران بن حصين: أنهم أجازوا الاستصباح به، وأمر ابن عمر أن يدهن به الأدم، وذكر الطبري عن ابن عباس مثله، وذكر ابن المنذر عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري وعطاء مثله

(3)

.

(1)

سلف برقم (2224) كتاب: البيوع، باب: لا يذاب شحم الميتة ولا يباع ودكه، ورواه مسلم برقم (1583) كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام.

(2)

رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 1/ 273 (250) من طريق الحسن بن الربيع، عن عبد الواحد، به. وانظر "البدر المنير" 5/ 23.

(3)

"الأوسط" 2/ 286.

ص: 549

واحتجوا في منع بيعه بقوله عليه السلام في الخمر: "إن الله تعالى حرم شربها وحرم بيعها"

(1)

وبحديث النهي عن بيع الشحوم

(2)

، وأيضاً فإنه قد ينتفع مما لا يجوز بيعه، ألا ترى أنّا ننتفع بأم الولد ولا يجوز بيعها، وننتفع بكلب الصيد ونمنع من بيعه، ويطفأ الحريق بالماء النجس والخمر ولا يجوز بيعه، وهذا كله انتفاع.

وقال آخرون: ينتفع بالزيت الذي تقع فيه الميتة بالبيع وكل شيء ما عدا الأكل، قالوا: ويجوز أن يبيعه ويبين؛ لأن كل ما جاز الانتفاع به جاز بيعه، والبيع من الانتفاع وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والليث.

وروي عن أبي موسى أنه قال: بيعوه وبينوا لمن تبيعونه عيبه ولا تبيعوه من مسلم

(3)

، وروى ابن وهب عن القاسم وسالم أنهما أجازا بيعه وأكل ثمنه بعد البيان.

قال الكوفيون: ويحمل ما روى معمر من قوله عليه السلام: "وإن كان مائعًا فلا تقربوه" أي: للأكل، وليس في تحريم الشحوم على اليهود وتحريم ثمنها حجة لمن منع بيع الزيت تقع فيه الميتة؛ لأن الحديث خرج على تحريم شحوم الميتة وهي نجسة الذات فلا يجوز بيعها ولا أكلها ولا الانتفاع بها، والزيت والسمن الذي تقع فيه الميتة إنما ينجس بالجوار، ولا ينجس بالذات كالثوب الذي يصيبه الدم، ولذلك رأى

(1)

رواه مسلم (1579) كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر، من حديث ابن عباس بلفظ:"إن الذي حرم شربها حرم بيعها".

(2)

سلف برقم (2236) كتاب: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام، ورواه مسلم (1581) كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر، كلاهما من حديث جابر.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 5/ 127 (24385).

ص: 550

بعض العلماء غسله ويجوز عندهم الاستصباح به، ولا يجوز بشحوم الميتة.

وقال أهل الظاهر فيما نقله ابن القصار: لا يجوز بيع السمن ولا الانتفاع به إذا سقطت فيه الفأرة، ويجوز بيع الزيت والخل والمري وجميع المائعات تقع فيها الفأرة؛ لأن النهي إنما ورد في السمن فقط وهذا إبطال للمعقول؛ لأنه عليه السلام لما نص على السمن وهو مما يؤكل ويشرب وهو من المائعات الطاهرات كان فيه تنبيه على كل ما هو طاهر مثله؛ لأنه يثقل عليه أن يقول السمن والزيت والشيرج والخل والمري والدهن والمرق والعصير وكل مائع لأنه أوتي جوامع الكلم، وهذا كما قال تعالى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فنبه بذلك على أن كل ما كان في معناه من الانتهار والسب فما فوقه مثله في التحريم، وكذلك كل مائع وقعت فيه نجاسة هو مثل السمن.

ومما يبطل به مذهبهم أن يقال لهم: ما تقولون في السمن تموت فيه وزغة أو حية أو سائر الحيوان؟ فإن طردوا أصلهم وقالوا: لا ينجس السمن بموت شيء من الحيوان فيه غير الفأرة التي ورد النص فيها خرجوا من قول الأمة ومن المعقول، وإن سووا بين جميع ما يموت في السمن من سائر الحيوان لزمهم ترك مذهبهم.

وذكر ابن التين في "شرحه" سؤالًا وجوابًا فقال: هلا طرح ما قابل فم الفأرة خاصة؛ لأن نفسها خاصة نجس وهي دهنية توجد عند فيها.

قيل: إذا خرجت النفس غرقت الفأرة فيتنجس ما حولها، ومعنى ذلك إذا لم يخص بهنّ للجامد يذوب فيها، قاله سحنون.

ص: 551

‌35 - باب الْوَسْمِ وَالْعَلَمِ فِي الصُّورَةِ

5541 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَمَ الصُّورَةُ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُضْرَبَ. تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا الْعَنْقَزِيُّ، عَنْ حَنْظَلَةَ وَقَالَ: تُضْرَبُ الصُّورَةُ. [فتح 9/ 670]

5542 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَخٍ لِي يُحَنِّكُهُ وَهْوَ فِي مِرْبَدٍ لَهُ، فَرَأَيْتُهُ يَسِمُ شَاةً حَسِبْتُهُ قَالَ: فِي آذَانِهَا. [انظر: 1502 - مسلم: 2119 - فتح 9/ 670]

حدثنا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ تُعْلَمَ الصُّورَةُ. وَقَالَ ابن عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُضْرَبَ. تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ، ثَنَا العَنْقَزِيُّ، عَنْ حَنْظَلَةَ وَقَالَ: تُضْرَبُ الصُّورَةُ. ثم ساق حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَخٍ لِي يُحَنِّكُهُ وَهْوَ فِي مِرْبَدٍ لَهُ، يَسِمُ شَاةً حَسِبْتُهُ قَالَ: فِي آذَانِهَا.

الشرح:

(العنقزي) نسبة إلى العنقز وهو المرزنجوش واسمه عمرو بن محمد القرشي مولاهم، مات سنة تسع وتسعين ومائة، انفرد به مسلم. وعلق له البخاري كما ترى.

والصورة: الوجه، والمربد: الموضع الذي تحبس فيه الإبل وغيرها، وهو اسم الموضع الذي يجفف فيه التمر عند أهل المدينة وهو المسطح والجرين في لغة أهل نجد.

والوسم في الصورة مكروه عند العلماء كما قاله ابن بطال

(1)

وعندنا أنه حرام.

(1)

"شرح ابن بطال" 5/ 453.

ص: 552

وفي أفراد مسلم من حديث جابر أنه عليه السلام مر على حمار وقد وسم في وجهه فقال: "لعن الله الذي وسمه"

(1)

وإنما كرهوه لشرف الوجه وحصول الشَّيْن فيه وتغيير خلق الله.

وأما الوسم في غير الوجه للعلامة والمنفعة بذلك فلا بأس به إذا كان يسيرًا غير شائن، ألا ترى أنه يجوز في الضحايا وغيرها، والدليل على أنه لا يجوز الشائن من ذلك أنه عليه السلام حكم أن من شان عبدًا ومثل به باستئصال أنف أو أذن أو جارحة عتق عليه، وليس يعتق إن جرحه أو شق أذنه، وقد وسم الشارع إبل الصدقة وهو حجة ما لا يشين منه، وقد سلف حيث يجوز الوسم من البهائم في باب وسم الإمام إبل الصدقة في كتاب الزكاة

(2)

.

فائدة:

هذا الأخ هو عبد الله بن أبي طلحة كما فسر في موضع آخر منه، وقوله:(حسبته قال: في آذانها)، الظاهر أنه من قول شعبة إذ في الصحيح أيضًا، قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: في آذانها

(3)

.

وفي رواية لأحمد وابن ماجه: يسم غنمًا في آذانها

(4)

.

(1)

"صحيح مسلم"(2117) كتاب: اللباس والزينة، باب: النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه.

(2)

سلف برقم (1502).

(3)

رواه مسلم (2119/ 110) كتاب: اللباس والزينة، باب: جواز وسم الحيوان.

(4)

ابن ماجه (3565)، وأحمد 3/ 169، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2868).

ص: 553

‌36 - باب إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ غَنِيمَةً فَذَبَحَ بَعْضُهُمْ غَنَمًا أَوْ إِبِلاً بِغَيْرِ أَمْرِ أَصْحَابِهِمْ، لَمْ تُؤْكَلْ؛ لِحَدِيثِ رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-.

وَقَالَ طَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ في ذَبِيحَةِ السَّارِقِ: اطْرَحُوهُ.

5543 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّنَا نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى. فَقَالَ:«مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلُوا، مَا لَمْ يَكُنْ سِنٌّ وَلَا ظُفُرٌ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمُدى الْحَبَشَةِ» . وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَأَصَابُوا مِنَ الْغَنَائِمِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ النَّاسِ، فَنَصَبُوا قُدُورًا، فَأَمَرَ بِهَا فَأُكْفِئَتْ، وَقَسَمَ بَيْنَهُمْ وَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ، ثُمَّ نَدَّ بَعِيرٌ مِنْ أَوَائِلِ الْقَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ خَيْلٌ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللهُ. فَقَالَ:«إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا، فَافْعَلُوا مِثْلَ هَذَا» . [انظر:

2488 -

مسلم: 1968 - فتح 9/ 672]

ثم ساق حديث رافع بطوله، وفيه:(وَتَقَدَّمَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَأَصَابُوا مِنَ الغَنَائِمِ) وسرعان الناس: أخفاؤهم وهم المستعجلون منهم، كذا رواه المتقنون وهو قول الكسائي وهو الوجه، وضبطه بعضهم بسكون الراء وله وجه، وضبطه الأصيلي وغيره: سُرعان والأول أوجه، لكن يكون جمع سريع كقفيز وقُفْزان.

وحكى الخطابي عن بعضهم سُرعان قال: وهو: خطأ: وأما قولهم سرعان ما فعلت بالفتح والضم والكسر

(1)

.

(1)

"معالم السنن" 1/ 202.

ص: 554

وقال ابن التين: ضبط بضم السين، والذي في "الصحاح": سَرَعان الناس -بالتحريك -أوائلهم؛ قال: وهنا يلزم الإعراب نونه من كل وجه

(1)

.

قال: وقول طاوس وعكرمة لعله يريد على التنزه وإلا فإذا ضمنه صاحبها أو رضي أخذها فأكلها جائز، وقوله في الترجمة:(فذبح بعضهم إبلًا أو غنمًا بغير أمر أصحابهم) هم سرعان الناس الذين فعلوه دون اتفاق من أصحابهم، وقد سلف في الجهاد أيضًا

(2)

، وكذا معنى أمره بإكفاء القدور في الذبائح قريبًا.

وأما ذبيحة السارق فقال ابن بطال: لا أعلم من تابع طاوسًا وعكرمة على كراهة أكلها غير إسحاق بن راهويه، وجماعة الفقهاء على إجازتها، وأظن أن البخاري أراد نصر قول طاوس وعكرمة لحديث رافع وجعل أمره بإكفاء القدور حجة لمن كره ذبيحة السارق، ورأى الذين ذبحوا الغنائم بغير أمر أصحابهم في معنى ذبيحة السارق حين ذبحوا ما ليس لهم؛ لأنهم إنما ذبحوا في بلاد الإسلام بذي الحليفة قرب المدينة، كذا وقع وفيه نظر، وقد خرجوا من أرض العدو فلم يكن لبعضهم أن يستأثر بشيء منها دون أصحابه وليس في ذلك حجة قاطعة؛ لأنه قد اختلف في معنى أمره بإكفائها، وقيل: إنها كانت نهبة ولا تقطع على وجه من ذلك، واختلف أيضًا في قطع من سرق من المغنم

(3)

.

(1)

"الصحاح" 3/ 1228 مادة (سرع).

(2)

سلف في الجهاد برقم (3075) باب: ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم.

(3)

"شرح ابن بطال" 5/ 454 - 455.

ص: 555

‌37 - باب إِذَا نَدَّ بَعِيرٌ لِقَوْمٍ فَرَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَأَرَادَ إِصْلَاحَهُمْ فَهْوَ جَائِزٌ

لِخَبَرِ رَافِعِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

5544 -

حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَنَدَّ بَعِيرٌ مِنَ الإِبِلِ -قَالَ:- فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» . قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَكُونُ فِي الْمَغَازِي وَالأَسْفَارِ، فَنُرِيدُ أَنْ نَذْبَحَ فَلَا تَكُونُ مُدًى. قَالَ:«أَرِنْ، مَا نَهَرَ -أَوْ أَنْهَرَ- الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ فَكُلْ، غَيْرَ السِّنِّ وَالظُّفُرِ، فَإِنَّ السِّنَّ عَظْمٌ، وَالظُّفُرَ مُدَى الْحَبَشَةِ» . [انظر: 3488 - مسلم: 1968 - فتح 9/ 673]

ثم ساقه أيضًا.

ومعنى أراد إصلاحهم كما قاله المهلب، يعني: إذا علم مرادهم فأراد حبسه على أربابه ولم يرد إفساده عليهم، فلذلك لم يضمن البعير وحل أكله؛ لأن هذا الحبس الذي حبسه بالسهم قد يكون فيه هلاكه من غير ذبح ولا نحر مشروع، وقد سلف اختلاف العلماء في ذلك قريبًا، وأما من قتل بعيرًا لقوم بغير إذنهم فعليه ضمانه إلا أن يقيم بينة بأنه صال عليه.

وقال ابن التين: تأول البخاري مثل ما تقدم عن أبي حنيفة وليس في الخبر دليل بين، وقوله:("أرن ما نهر -أو أنهر- الدم") قال ابن التين: صحيحه "أنهر"، وكذلك في أكثر الروايات رباعي، وإنما يقال: نهر إذا جرى وأنهرته أنا.

ص: 556

وقال عياض: "ما أنهر الدم" أي: ما أساله وصبه بمرة كصب النهر

(1)

، كذا الرواية فيه في الأمهات، ووقع الأصيلي في كتاب الصيد "ما نهر الدم" وليس بشيء، والصواب "أنهر" كما في سائر المواضع.

(1)

"إكمال المعلم بفوائد مسلم" 6/ 416.

ص: 557

‌38 - باب أَكْلِ الْمُضْطَرِّ

لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} إلى قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 172 - 173]، وقال:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3]. وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} إلى قوله: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} إلى قوله: {بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 118 - 119]{قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} قال ابن عباس مهراقًا {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} ، إلى قوله:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 145] وقال: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ}

(1)

الآية [المائدة: 88]. [فتح 9/ 673].

الشرح:

أصل البغي: قصد الفساد، وأصل العدوان: الظلم، واختلف المفسرون فيها فقيل: معنى {غَيْرَ بَاغٍ} أي: في أكلها ولا متعد فيه من غير ضرورة، وعبارة ابن عباس:{غَيْرَ بَاغٍ} في الميتة {وَلَا عَادٍ} في الأكل. وقال الحسن: {غَيْرَ بَاغٍ} فيها ولا متعد بأكلها وهو غني عنها، وقيل:{غَيْرَ بَاغٍ} غير مستحل لها {وَلَا عَادٍ} متزود منها، وقيل:{غَيْرَ بَاغٍ} في أكله شهوة بأكلها متلذذًا، {وَلَا عَادٍ} يأكل حتى يشبع ولكن يأكل ليمسك رمقه، وقيل {عَادٍ} معناه: عائد، فهو من المقلوب كشاكي السلاح أصله شائك، وهارٍ: أصله هائر، ولاتٍ أصله لائت {غَيْرَ بَاغٍ} على الأئمة {وَلَا عَادٍ}

(1)

في الأصل: (كلوا مما رزقناكم). والمثبت موافق للتلاوة، وهو في اليونينية.

ص: 558

قاطع سبيل المسلمين في طريقهم، فإن خرج على الأئمة أو قطع الطريق فلا رخصة له في الأكل، وقيل: يأكل مع العصيان في سفره فلا يعصي بقتل نفسه

(1)

، وإليه ذهب أبو حنيفة وقيل: هو قادر على التوبة فلا يأكل حتى يتوب فيقال له تب كل.

والمخمصة: ضمور البطن من الجوع، وقال قتادة:{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} [المائدة: 3] غير معتقد

(2)

، والمعروف أن الجنف الميل، ومعنى الإثم هنا: أن يأكل منها فوق الشبع، واختلف في الشبع وسد الرمق والتزود.

وقال مالك: أحسن ما سمعت في المضطر أنه يشبع ويتزود فإذا وجد غنى عنها طرحها وهو قول ابن شهاب وربيعة، وقال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه: لا تأكل منها إلا مقدار ما يمسك الرمق والنفس، والحجة له أن الإباحة إذا خاف الموت على نفسه فإذا أكل منها ما يزيل الخوف فقد زالت الضرورة وارتفعت الإباحة فلا يحل أكلها، وحجة مالك أن المضطر قد أباح الله له الميتة فقال:{غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] أي: إذا أكل منها ولم يفرق بين القليل والكثير فإذا حلت له الميتة أكل منها ما شاء

(3)

.

وحكى الداودي قولًا أنه يأكل منها ثلاث لقم، وقيل: إن تغد لم يتعش، وإن تعش لم يتغد.

فإن احتج الكوفيون والشافعي بتفسير ابن عباس امتنع الشبع والتزود، قيل: قد فسر مجاهد وغيره بما سلف، وإنما معنى قول ابن

(1)

انظر: "تفسير الطبري" 2/ 92 - 39.

(2)

رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 179 (679)، والطبري 4/ 425 (11124)، (11125) بلفظ:(غير متعمد)، (غير متعرض لإثم).

(3)

انظر "المنتقى" 3/ 138، "الأم" 1/ 225، "الأشباه والنظائر" 1/ 107.

ص: 559

عباس: أن الباغي والمتعدي لا يأكلها وهو غني عنها غير مضطر إليها، فإذا اضطر إليها لم يكن متعديًا في شبعه؛ لأنه لا يقدر على سفره وتصرفه إلا بشبع نفسه والتزود أولى في حفظ النفس وحياطتها؛ لأنه لا يأمن أن لا يجد ما يمسك رمقه من الطعام، ولا ميتة ولعله أن يطول سفره فتهلك نفسه، والله قد حرم على الإنسان أن يتعرض لإهلاك نفسه، وسيأتي اختلاف العلماء في شرب الخمر والبول عند الضرورة في كتاب الأشربة قريبًا.

قال مسروق: بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكلها حتى مات دخل النار

(1)

.

فائدة:

قوله: (مهراقًا) إن قرأته بفتح الهاء فهو من أراق يريق وزيدت الهاء على ما تقدم ويكون تقديره مهفعلا، وإن قرأته بإسكانها فقد سلف أن الجوهري قال: لا يمكن النطق بتقديره؛ لأن الهاء والفاء ساكنان

(2)

يريد إنك إنما تقدر على الأصل (قبل)

(3)

دخول الهاء والأصل: هريق على وزن مكرم فإذا دخلت هاء ساكنة على مفعل فلا يصح أن تنطق به لاجتماع ساكنين.

آخر الصيد والذبائح ولله الحمد

(1)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 413 (19536)، ومن طريقه البيهقي في "السنن" 9/ 357 - 358.

(2)

"الصحاح" 4/ 1570 مادة [هرق].

(3)

في الأصل: قد. والمثبت من (غ).

ص: 560

73

كتاب الأضاحي

ص: 561

‌73 - كتاب الأضاحي

الأضاحي: جمع أضحية، وفي الأضحية لغات ضم الهمزة وكسرها وضَحِيَّة، وجمعها: أضاحي وأضحاة، وجمعها أضحى، وبه سمي يوم الأضحى

(1)

، وجزم صاحب "المطالع" بتشديد الياء فيها، وذكر اللحياني في "نوادره": ضِحية بكسر الضاد وجمعها: ضحايا كجمع ضحية بفتحها. زاد ابن التياني: وإضحا بكسر الهمزة، وقال صاحب "الدلائل": أُضحية بضم الهمزة وتخفيف الياء، وفي "نوادر ابن الأعرابي": كل ذلك للشاة التي تذبح ضحوة.

(1)

انظر "الصحاح" 6/ 2407.

ص: 563

‌1 - باب سُنَّةِ الأُضْحِيَّةِ

وَقَالَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: هِيَ سُنَّةٌ وَمَعْرُوفٌ.

5545 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ الإِيَامِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّىَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ» . فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ -وَقَدْ ذَبَحَ- فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً. فَقَالَ: «اذْبَحْهَا وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» . قَالَ مُطَرِّفٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْبَرَاءِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» . [انظر: 951 - مسلم: 1961 - فتح 10/ 3]

5546 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» . [انظر: 954 - مسلم: 1962 - فتح 10/ 3]

وقال ابن عمر رضي الله عنهما: هي سنة ومعروف.

ثم ساق حديث البراء السالف في العيد وفيه: "وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيء".

قال مطرف، عن عامر، عن البراء: قال النبي صلى الله عليه وسلم "مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ المُسْلِمِينَ".

وحديث أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا ذَبَحَ لِنَفْسِهِ، وَمَن يذَبَحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ المُسْلِمِينَ".

ص: 564

الشرح:

أثر ابن عمر أسنده ابن حزم

(1)

. لا شك أن الأضحية من الأمور المهمة المطلوبة.

واختلف أهل العلم في وجوبها على قولين:

أحدها: أنها لا تجب بل هي سنة يثاب فاعلها ومن تركها لا إثم عليه، وهو قول ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح وعلقمة

(2)

والأسود والشافعي

(3)

وأحمد وأبي يوسف وأبي ثور.

قال ابن التين: وهو المعروف من مذهب مالك، وذكر عنه أبو حامد: الوجوب، قال ابن المنذر: وروينا أخبارًا عن الأوائل تدل على أن ذلك ليس بفرض، روينا ذلك عن أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري

(4)

وسعد وبلال.

وقال الليث وربيعة: لا نرى أن يترك الموسر المالك لأمر الضحيةِ الضحيةَ

(5)

.

وقال مالك: لا يتركها فإن تركها بئس ما صنع إلا أن يكون له عذر.

وذكر ابن حبيب وغيره أنه قال: هي سنة لا رخصة لأحد في تركها، وعنه إن وجد الفقير من يسلفه ثمنها فليستسلف.

(1)

"المحلى" 7/ 358، وقال ابن حجر في "الفتح" 3/ 10: وصله حماد بن سلمة في "مصنفه" بسند جيد.

(2)

رواها عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 380 - 383 (8135)، (8134)، (8147) على الترتيب.

(3)

"الأم" 2/ 187.

(4)

رواه عبد الرزاق 4/ 383 (8149).

(5)

انظر "التمهيد" 23/ 192.

ص: 565

وفي "المدونة": من اشترى أضحية ثم حبسها حتى ذهب أيام الذبح أنه آثم إذ لم يضح بها، وقال الثوري: لا بأس حية بتركها.

وقد روي عن الصحابة ما يدل أنها ليست بواجبة.

ذكر عبد الرزاق، عن الثوري، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن أبي سريحة قال: رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان

(1)

.

وعن ابن عمر: من شاء ضحى ومن شاء لم يضح

(2)

.

وقد ذكر البخاري فيما مضى أنها سنة ومعروف.

وروى الثوري، عن أبي معشر مولى لابن عباس قال: أرسلني ابن عباس أشتري له لحمًا بدرهم وقال: قل هذِه أضحية ابن عباس. وقال النخعي: قال علقمة لأن لا أضحي أحب إليَّ من أن أراه حتمًا عليَّ

(3)

.

والقول الثاني: أنها واجبة وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وعن النخعي أنها واجبة على أهل الأمصار ما خلا الحاج، وقال محمد: هي واجبة على كل مقيم في الأمصار إذا كان موسرًا، قال أبو بكر: لا تجب فرضًا؛ لأن الله لم يوجبها ولا الرسول ولا أجمع أهل العلم على (وجوبها)

(4)

.

والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره" الحديث

(5)

، فلو كان واجبًا لم يجعل ذلك إلى إرادة المضحي. أي: الذي يراه أبو حنيفة وأصحابه أنها تجب على

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 4/ 381 (8139).

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 4/ 381.

(3)

عبد الرزاق 4/ 382 - 383 (8146)، (8147).

(4)

في الأصل: (وجوبه) ولعل المثبت هو الصواب.

(5)

رواه مسلم (1977) في الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر .. عن أم سلمة.

ص: 566

الحر المقيم المسلم الموسر، وذهب أبو يوسف إلى عدم وجوبها وقال هو ومحمد: هي سنة غير مرخص فيها لمن وجد السبيل إليها.

قال الطحاوي: وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدلس على أن وجوبها وجوب فرض، ولكن يدل على تأكيدها وأن الإباحة في تركها، وعبارة ابن حزم عن أبي حنيفة أنها فرض وعلى المرء أن يضحي عن زوجته.

قال ابن حزم: وممن روينا عنه إيجابها مجاهد ومكحول، وعن الشعبي: لم يكونوا يرخصون في تركها إلا لحاج أو مسافر وروي عن أبي هريرة: ولا يصح

(1)

.

احتج من لم يوجب بحديث الباب "أول ما نبدأ .. " إلى أن قال: "فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا" وما كان سنة فليس بواجب اللهم إلا أن يراد بالسنة الطريقة فيدخل الواجب كما في لفظ الدين.

واحتج من أوجب

(2)

بحديث الباب أيضًا: "وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ".

قال الطحاوي: فإن قيل كان أوجبها فأتلفها فلذلك أوجب عليه إعادتها، قيل له: لو أراد هذا ليعرف قيمة المتلف ليأمره بمثلها فلما لم يتعرف ذلك دل أنه لم يقصد إلى ما ذكرت.

وقال مرة: قوله: ("لَنْ تَجْزِيَ (جذعة)

(3)

عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ") ولا يكون الإجزاء إلا عن واجب، وهي حجة صحيحة إذ لو كانت إنما وجبت عليه بإيجابه إياها على نفسه واستهلاكه بما يذبحه إياها قبل أوان ذبحها.

(1)

"المحلى" 7/ 358.

(2)

في الأصل: (من لم يوجب) وفي الهامش: لعل الصواب .. : من أوجب.

(3)

من (غ).

ص: 567

قلت: الاستدلال به عجب، فإنه لما أوقع أضحيته على غير الوجه المشروع بين له الوجه المشروع بقوله: اذبح مكانها أخرى إن أردت السنة، ولن تجزي عن أحد بعدك في القيام بالسنة، يوضحه أنك تقول في السنة إذا وقعت بشرطها أجزأت عنك وإذا أفسدتها لم تجز عنك.

وأما ابن حزم فقال: احتج أبو حنيفة بأشياء منها: خبر مخنف بن سليم أنه صلى الله عليه وسلم قال بعرفة: "إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة"

(1)

.

ومنها حديث يحيى بن زرارة بن كُرَيم بن الحارث، حدثني أبي، عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:"في الغنم أضحيتها"

(2)

.

ومنها حديث أم بلال الأسلمية رفعته: "ضحوا بالجذع من الضأن"

(3)

.

ومنها حديث ابن عباس مرفوعًا: "أمرت بالأضحى ولم تكتب"

(4)

.

(1)

رواه أبو داود (2788)، والترمذي (1518) وقال: هذا حديث حسن غريب، والنسائي 7/ 167 - 168، وابن ماجه (3125)، وأحمد 5/ 76. وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" (2487).

(2)

رواه النسائي 7/ 168 - 169 والطبراني 3/ 261 (3350)(3351)، والحاكم 4/ 233، والبيهقي 9/ 312. وصحح إسناده الحاكم.

(3)

رواه أحمد 6/ 368، والطبراني 25/ 164 (397)، والبيهقي 9/ 271.

ورواه ابن ماجه (3139)، وأحمد 6/ 368 عن أم بلال، عن أبيها، مرفوعًا. وقال ابن حزم في "المحلى" 7/ 365: وأما حديث أم بلال فهو عن أم محمد بن أبي يحيى، ولا يدرى من هي، عن أم بلال، وهي مجهولة، ولا ندري لها صحبة أم لا أ. هـ وضعفه الألباني في "الضعيفة"(65).

قلت: ويأتي قريبا تعقب المصنف لابن حزم.

(4)

رواه أحمد 1/ 317، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2937).

ص: 568

ومنها حديث معاذ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن يضحى ويأمر أن يطعم منها الجار والسائل. ومنها حديث الربيع عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالأضحى.

ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "من وجد سعة فليضح"

(1)

.

ومنها حديثه أيضًا مرفوعًا: "من وجد سعة فلم يضح فلا يقرب مصلانا"

(2)

.

قال ابن حزم: وكل هذا ليس بشيء. أما حديث مخنف فقد تقدم تضعيفه، وأما حديث الحارث فهو عن يحيى بن زرارة، عن أبيه وكلاهما مجهول لا يدرى.

قلت: يحيى روى عنه جماعة منهم: ابن المبارك، وذكره ابن حبان في "ثقاته"

(3)

وأبوه روى عنه أيضًا عتبة بن عبد الملك، وذكره ابن حبان في "ثقاته" وقال: من زعم أن له صحبة فقد وهم

(4)

، وأما ابن الجوزي فقال: له رؤية، وكذا قال أبو نعيم

(5)

، وذكره ابن منده فيهم

(6)

.

(1)

رواه ابن عدي في "الكامل" 7/ 482 - 483.

(2)

رواه ابن ماجه (3123)، وأحمد 2/ 321، والدارقطني 4/ 285، والحاكم 2/ 389، 4/ 232، والبيهقي 9/ 260 من حديث أبي هريرة مرفوعًا ورواه الحاكم 4/ 232 والبيهقي 9/ 260 عن أبي هريرة موقوفًا.

وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد، وقال ابن حجر في "الفتح" 10/ 3: رجاله ثقات، لكن اختلف في رفعه ووقفه، والوقف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره. وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه"(2532).

(3)

"الثقات" 7/ 602.

(4)

"الثقات" 4/ 267 - 268.

(5)

"معرفة الصحابة" لأبي نعيم 3/ 1232 (1084).

(6)

قال ابن الأثير في "أسد الغابة" 2/ 256: لم يفرد ابن منده زرارة بن كريم بترجمة فيما رأينا من نسخ كتابه. اهـ

قلت: لعله ذكره مضمنًا في ترجمة أخرى.

ص: 569

وأما حديث أم بلال ففيه أم محمد وابن أنعم وكلاهما في غاية السقوط.

قلت: ابن أنعم ثقة وثقه القطان وغيره.

وأما حديث أبي هريرة فكلا طريقيه برواية عبد الله بن عياش، وليس معروفًا بالثقة.

قلت: هو من رجال مسلم، وقال أبو حاتم: صدوق

(1)

، فسقط كل ما موهوا به في ذلك

(2)

.

قال الطحاوي في كتاب الصيد: نظرنا، هل خولف زيد بن حباب في هذا الحديث، فعند وقوفنا على أن أحدًا لم يرفعه ممن روى عن عبد الله بن عياش غير ابن الحباب، فوجدنا عبيد الله بن أبي جعفر لم يتجاوز به أبا هريرة وهو في الجلالة والضبط فوق ابن عياش

(3)

.

قلت: لكن الدارقطني أخرجه من حديث أحمد بن أخي بن وهب وفيه مقال عن عمه، ثنا ابن عياش، عن عيسى بن عبد الرحمن بن فروة الأنصاري، عن الزهري [عن سعيد بن المسيب]

(4)

عن أبي هريرة

(5)

، ومن حديث ابن علاثة، عن عبيد الله بن أبي [جعفر]

(6)

، عن الأعرج، عن أبي هريرة مرفوعًا

(7)

.

(1)

قال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" 5/ 126: ليس بالمتين، صدوق، يكتب حديثه، وهو قريب من ابن لهيعة.

(2)

"المحلى" 7/ 356 - 357 بتصرف.

(3)

انظر "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 220 - 221.

(4)

ليست في الأصول، والمثبت من "سنن الدارقطني".

(5)

"سنن الدارقطنى" 4/ 276 - 277.

(6)

في "الأصول": حنيفة، والمثبت من "سنن الدارقطني".

(7)

"سنن الدارقطنى" 4/ 285.

ص: 570

وروى أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب "الضحايا" من حديث سلمة بن جنادة عن سنان بن سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الله أحق بالقضاء والوفاء اشترها جذعة سمينة فضح بها"، وفي لفظ:"فانسك بها".

ومن حديث أبي الحسناء، عن الحكم، عن حنش، عن علي قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضحي بكبشين

(1)

.

ومن حديث محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يأيها الناس ضحوا وطيبوا بها نفسًا

(2)

.

ومن حديث الحجاج بن أرطاة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم أقام عشر سنين لا يترك الأضحى. وفي لفظٍ: بالجزور أحيانًا وبالكبش إذا لم يجد جزورًا

(3)

.

وللدارقطني بسند ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول أستدين وأضحي؟ قال: "نعم فإنه دين مقضي"

(4)

ولابن ماجه بسند ضعيف عن محمد بن سيرين قال: سألت ابن عمر عن الضحايا

(1)

رواه أبو داود (2790)، والترمذي (1495)، وأحمد 1/ 107، وعبد الله بن أحمد في زياداته على "المسند" 1/ 149، وأبو يعلى في "المسند" 1/ 355 (459)، والحاكم 4/ 229 - 230 كلهم من طريق شريك، عن أبي الحسناء، به وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك ا. هـ وصحح إسناده الحاكم. وقال المنذري في "مختصره" 4/ 95: حنش تكلم فيه غير واحد

وشريك هو ابن عبد الله القاضي، وفيه مقال أ. هـ وضعف إسناده الألباني في "ضعيف أبي داود"(483).

(2)

رواه ابن عبد البر في "التمهيد" 23/ 193 من طريق نصر بن حماد، عن محمد بن راشد، به.

(3)

رواه البيهقي 9/ 272 من طريق عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر.

(4)

"سنن الدارقطني" 4/ 283، وقال: هذا إسناد ضعيف.

ص: 571

أواجبة قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده وجرت السنة

(1)

.

وأخرجه الترمذي من حديث جبلة بن سحيم (سألت)

(2)

ابن عمر عن الأضحية أواجبة هي؟ فقال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمون، أعاد عليه السؤال فقال: أتعقل؟ ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ولابن ماجه بإسناد جيد عن أبي زيد أنه صلى الله عليه وسلم مر بدار من دور الأنصار فوجد ريح قتار

(3)

فقال: "من هذا الذي ذبح" فخرج رجل فقال: أنا يا رسول الله قال: فأمره أن يعيد، فقال: لا والله ما عندي إلا جذع أو حمل قال: "اذبح ولن تجزي عن أحد بعدك"

(4)

.

ولمالك في "الموطأ" بإسناد صحيح متصل أن عويمر بن أشقر ذبح أضحيته قبل أن يغدو يوم الأضحى، وأنه ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يعيد ضحية أخرى

(5)

.

ولابن وهب في "مسنده"، حدثنا يحيى بن عبد الله العامري، عن أبي عبد الرحمن الجبلي أن عبد الله بن عمرو بن العاصي أخبره أن رجلاً جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي ذبح قبل أن نصلي، فقال صلى الله عليه وسلم:"بل لا نسك صلِّ ثم اذبح" قال: وأنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر فأمر عليه السلام من كان قد نحر أن يعيد نحرًا آخر ولا ينحره حتى ينحر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

ابن ماجه (3124).

(2)

كذا بالأصل، وفي الترمذي (1506): أن رجلاً سأل.

(3)

يعني ريح الشواء. "الصحاح" 2/ 786.

(4)

ابن ماجه (3154).

(5)

"الموطأ" ص 299 (5).

ص: 572

وفي مسلم عن جندب بن عبد الله نحوه

(1)

، وفي القرآن سماها: نسكًا قال الله تعالى: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 162، 163] قالوا: فاقتضى الأمر الوجوب.

وفي الدارقطني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند التضحية: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} الآية

(2)

.

وكذا حكي عن علي، وقال أيضًا:"إن أول نسكنا في يومنا هذا"

(3)

فدل على أن النسك أريد به الأضحية وأخبر أنه مأمور بذلك والأمر يقتضي الوجوب.

وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قالوا: أراد بالصلاة: صلاة العيد، وبالنحر: الأضحية، وإذا أوجب عليه فهو واجب علينا، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وتأويله على نحر البدن أولى من تأويله بوضع اليمين على الشمال تحت النحر.

فصل:

واستدل من قال بعدم الوجوب مع ما سبق بحديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "كتب عليَّ النحر ولم يكتب عليكم، وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها" أخرجه أبو يعلى الموصلي عن إسماعيل بن

(1)

مسلم (1960) كتاب: الأضاحي، باب: وقتها، وقد سبق برقم (985) كتاب: العيدين، باب: كلام الإمام والناس في خطبة العيد.

(2)

لم أجده، وإنما روى الدارقطني 1/ 296 - 298 من حديث علي وجابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"إن صلاتي ونسكي .. " الآية عند افتتاح الصلاة.

(3)

سبق برقم (976) كتاب: العيدين، باب: استقبال الإمام الناس في خطبة العيد.

ص: 573

موسى، حدثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، عنه به

(1)

.

وأخرجه أبو الشيخ من حديث [أبي جناب]

(2)

، عن عكرمة عنه مرفوعًا:"ثلاث هن عليَّ فرائض وهن لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الضحى"

(3)

.

وأخرجه الدارقطني من حديث جابر، عن عكرمة عنه مرفوعًا:"أمرت بالنحر وليس بواجب"

(4)

.

وأخرجه أبو الشيخ أيضًا من حديث الحسن بن شبيب، ثنا أبو يوسف، عن عبد الله بن محرز، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت بالوتر والأضحى ولم يفرضا عليَّ".

قلت: وكلها معلولة، ؤمن حديث شريك عن جابر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يكتب علينا الأضحى من شاء ضحى، ومن حديث عيسى (بن هلال)

(5)

، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا:"إن الله تعالى أمرني بيوم الأضحى عيدًا للمسلمين" فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن لم أجد إلا ذبيحة أهلي أما أضحي بها؟ قال: "لا ولكن

(1)

رواه البيهقي 9/ 264، من طريق أبي يعلى، به. ورواه أحمد 1/ 317، والطبراني 11/ 301 (11802)، والدارقطني 4/ 282. كلهم من طريق جابر الجعفي، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا. وانظر: "مجمع الزوائد" 8/ 264.

(2)

في الأصل: (ابن حبان) والمثبت من مصادر التخريج.

(3)

رواه أحمد 1/ 231، والدارقطني 2/ 21، والحاكم 1/ 300، والبيهقي 2/ 469، 9/ 264، كلهم من طريق أبي جناب، عن عكرمة به.

وقال البيهقي: أبو جناب الكلبي اسمه يحيى بن أبي حية، ضعيف، وكان يزيد بن هارون يصدقه، ويرميه بالتدليس. اهـ. وقال الهيثمي في "المجمع" 8/ 264: أبو جناب الكلبي مدلس، وبقية رجاله عند أحمد رجال الصحيح.

(4)

الدراقطني 4/ 282.

(5)

من (غ).

ص: 574

تأخذ من شعرك وتقلم أظفارك وتقص شاربك وتحلق عانتك فذاك تمام أضحيتك عند الله"

(1)

.

وعن أبي مسعود البدري قال: لقد هممت أن أدع الأضحية وإني لمن أيسركم مخافة أن تحدثني نفسي بخلاف السنة

(2)

.

وعن أبي سريحة حذيفة بن أسيد قال: حملني أهلي على الجفاء بعد ما علمت من السنة، كان أهل البيت يضحون بالشاة والشاتين، والآن يبخلنا جيراننا

(3)

.

وفي رواية لابن حزم: ولقد رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان كراهة أن يقتدى بهما.

قال ابن حزم: وروينا من طريق سعيد بن منصور، ثنا أبو الأحوص، أنا عمران بن مسلم الجعفي، عن سويد بن غفلة قال: قال لي بلال: ما كنت أبالي لو ضحيت بديك، ولأن آخذ ثمن الأضحية فأتصدق به على مسكين أحب إليَّ من أن أضحي

(4)

.

ومن طريق حماد بن سلمة، عن عقيل بن طلحة، عن زياد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: الأضحية سنة.

ومن طريق شعبة عن تميم بن حويص الأزدي قال: ضلت أضحيتي قبل أن أذبحها، فسألت ابن عباس فقال: لا يضرك.

(1)

رواه أبو داود (2789)، والنسائي 7/ 212 - 213، وأحمد 2/ 169. وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" (482).

(2)

رواه عبد الرزاق 4/ 383 (8148 - 8149)، والبيهقي 9/ 265.

(3)

رواه ابن ماجه (3148)، وقال البوصيري في "الزوائد" ص 413: هذا إسناد رجاله موثقون. اهـ. وصحح إسناده الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2547).

(4)

رواه عبد الرزاق 4/ 385 (8156) عن الثوري، عن عمران به.

ص: 575

هذا كله [صحيح. و]

(1)

من طريق وكيع، ثنا أبو معشر المديني، عن عبد الله بن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أعطى مولًى له درهمين، وقال: اشتر بهما لحمًا ومن لقيك فقل: هذِه أضحية ابن عباس.

قال ابن حزم: لا يصح عن أحد من الصحابة أن الأضحية واجبة، وصح أنها ليست واجبة عن سعيد بن المسيب والشعبي، وأنه قال: لأن أتصدق بثلاثة دراهم أحب إليَّ من أن أضحي، وعن سعيد بن جبير وعطاء والحسن وطاوس وأبي الشعثاء.

وروي أيضًا عن علقمة وهو قول الثوري وعبيد بن الحسن وإسحاق بن إبراهيم وأبي سليمان

(2)

.

فصل:

اختلفوا في تفضيل الصدقة على الأضحية فقال ربيعة وأبو الزناد والكوفيون: الضحية أفضل.

وروي عن طاوس مثله.

وروي عن بلال أنه قال: ما أبالي أن لا أضحي إلا بديك ولكن أضعه في فِيِّ يتيمٍ قد ترب أحب إليّ أن أضحي به.

وقال الشعبي: الصدقة أفضل (وقد سلف)

(3)

، وهو قول مالك وأبي ثور، ذكره ابن المنذر، والمعروف من مذهب مالك عند أصحابه كما قال ابن بطال: إنها أفضل من الصدقة

(4)

.

(1)

ليست في الأصل، وأثبتناها من "المحلى".

(2)

"المحلى" 7/ 358.

(3)

من (غ).

(4)

"شرح ابن بطال" 6/ 7.

ص: 576

وروى ابن وهب عن مالك: أن الصدقة ثمنها أحب إلى الحاج من أن يضحي، فهذا يدل أن الضحية عنده لغير الحاج أفضل من الصدقة، قلت: لأن سنته عنده الهدي كما سيأتي، وقال ابن حبيب: هي أفضل من العتق ومن عظم الصدقة لا إحياء السنة أفضل من التطوع.

وقال ربيعة: هي أفضل من صدقة بسبعين دينارًا.

وقال غيره: ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ترك الأضحى طول عمره، وندب أمته إليه فلا ينبغي لموسر تركها.

وإنما قال: إن الصدقة ثمنها أفضل للحاج بمنى من أصل أنه لا يرى على الحاج أضحية.

فصل:

قوله في الحديث: ("إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هذا أن نُصَلِّي ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ").

قال الداودي: الأحاديث كلها من ذبح قبل أن يصلي لم يجزئه ولم يعتبر بالأيام، وكأنه لم يبلغه حديث جابر: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر ولا ينحروا حتى ينحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه مسلم

(1)

.

وفي "الموطأ": أن أبا بردة ذبح أضحيته قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعم أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يعيد أخرى

(2)

.

ومذهب أبي حنيفة: أن من ذبح بعد الصلاة قبل الإمام أجزأه.

(1)

مسلم (1964) كتاب: الأضاحي، باب: سِن الأضحية.

(2)

"الموطأ" ص 298 (4).

ص: 577

وعندنا لا يتوقف على ذبحه، بل إذا مضى مقدار خطبتين وركعتين خفيفات دخل وقته.

وحكى ابن التين عن الشافعي اعتبار صلاتين تامتين، قال: وحكي عنه ركعتين وخطبتين، وعن غيره: الصلاة والخطبة الأولى.

وقوله: ("وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلُ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيء") ظاهره أنه غير نسك وأنه لا يجوز بيعه، وفي لفظ:"من نسك قبل الصلاة فلا نسك له"

(1)

واستدل به القابسي على أن من ذبح قبلها لا تباع؛ لأنه سماه نسيكة.

وقوله: (إِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً)، يريد من الماعز كما بينه بعد.

وقال مالك في "المدونة": أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الجذع من الضأن

(2)

.

قال أبو عبد الملك: إنما أراد هذا الحديث؛ لأنه لا يوجد له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة في الجذع من الضأن سواه، قاله الداودي: وقال في موضع آخر: عندي عناق. وهي: التي استحقت أن تحمل دون الثنية سواء بنت سنة أو نحوها.

وقوله: ("وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ") هو بفتح التاء أي: تقضي.

قال الخطابي: يقال: جزى وأجزى مثل وفي وأوفى، وأجزأ يجزئ مهموزًا إذا كفاه الشيء وقام فيه مقامه

(3)

، وليس هو هنا مهموز إلا أن الهمز لا يستعمل معه (عن) عند الضرر، إنما يقولون: هذا مجزي من هذا.

(1)

سبق برقم (955) كتاب: العيدين، باب: الأكل يوم النحر.

(2)

انظر: "المدونة" 2/ 2.

(3)

"أعلام الحديث" 1/ 597.

ص: 578

وفي "الصحاح" جزى بمعنى قضى، وبنو تميم يقولون أجزأ [مهموز]

(1)

(2)

.

فصل:

شرط إجزاء الإبل عندنا أن يطعن في السنة السادسة، والبقر والماعز في الثالثة، والغنم في الثانية وتجذع قبلها.

وقال ابن حزم: لا يجزئ في الأضاحي جذع ولا جذعة لا من الضأن ولا من غيره، ويجزئ ما فوق الجذع، والجذع من الضأن والماعز والظباء والبقر ما أتم عامًا كاملًا ودخل في الثانية من أعوامه فلا يزال جذعًا حتى تتم عامين، ويدخل في الثالثة فيكون ثنيًا من حينئذٍ، كذا قال في الضأن والمعز الكسائي والأصمعي وأبو عبيد، وهؤلاء عدول أهل العلم واللغة.

قاله ابن قتيبة -وهو ثقة في علمه ودينه- وقاله العَدَبَّس الكلابي وأبو فقعس الأسدي وهما ثقتان في اللغة، وقال ذلك في البقر والظباء أيضًا أبو فقعس، ولا نعلم له مخالفًا من أهل العلم باللغة، والجذع من الإبل ما استكمل أربع سنين ودخل في الخامسة فهو جذع إلى أن يدخل في السادسة فيكون ثنيًّا، قال: هذا مما لا خلاف فيه

(3)

.

قلت: قد ذكر الأزهري في "تهذيبه" عن ابن الأعرابي: ربما أخذت العناق قبل تمام السنة.

ثم حكى أيضًا عن ابن الأعرابي أنه قال: إذا كان الضأن ابن شابَّين أجذع لستة أشهر إلى سبعة أشهر، وإذا كان ابن هَرِمين أجذع لثمانية

(1)

من (غ).

(2)

"الصحاح" 6/ 2302.

(3)

"المحلى" 7/ 361.

ص: 579

أشهر إلى عشرة أشهر، قال الأزهري: فابن الأعرابي فرق بين المعز والضأن في الإجذاع فجعل الضأنين أسرع إجذاعًا.

ثم حكى عن ابن الأعرابي أيضًا أنه قال: الإجذاع وقت وليس بسن. وذكر أبو حاتم عن الأصمعي: الجذع من الضأن لثمانية أشهر أو تسعة أشهر

(1)

.

وفي "الموعب" عن أبي زيد: الإجذاع زمن وليس بسن يسقط ولا ينبت، قال الشاعر:

إذا سهيل مغرب الشمس طلع

فابن اللبون الحِق، والحقُّ جذع

وفي "العين": الجمع الجِذاع، وجُذعان

(2)

. الفراء: وأجذاع، وجذوع. أبو حاتم: جذعان بكسر الجيم وضمها.

وفي "المحكم": الجذع الصغير السن

(3)

. وفي "المغيث": الجذع ما تمت له ستة أشهر ودخل في السابع

(4)

.

وقال أبو حاتم عن الأصمعي: الجذع من الماعز لستة أشهر، ومن الضأن لثمانية أو تسعة.

وقال ابن دريد: الإجذاع ليس بوقوع سن إنما هو وقت

(5)

. فهذا كما ترى ما فيه من الخلاف. ولله الحمد.

وقال أبو عمر: لا خلاف علمته بين العلماء أن الجذع من الماعز لا يجزئ ضحية ولا هديًا، والذي يجزئ فيها الجذع من الضأن فما

(1)

"تهذيب اللغة" 1/ 566 - 567.

(2)

"العين" 1/ 220.

(3)

"المحكم" 1/ 185.

(4)

"المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" لأبي موسى المديني 1/ 309.

(5)

"جمهرة اللغة" 1/ 453.

ص: 580

فوقه، والثني من الماعز فما فوقه من الأزواج

(1)

والجذع من الضأن ابن سبعة أشهر، قيل: إذا دخل فيها، وقيل: إذا أكملها وعلا أن يرقد صوف ظهره بعد قيامه، وثني الماعز إذا تم له سنة ودخل في الثانية.

قال ابن حزم: ومن طريق السبيعي، عن هبيرة بن يريم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ضحوا بثني فصاعدًا، وكذا قاله ابن عمر.

وفي لفظ: لا تجزئ إلا الثني فصاعدًا، وقال حصين بن عبد الرحمن: رأيت هلال بن يساف يضحي بجذع من الضأن فقلت له: أتفعل؟ فقال: رأيت أبا هريرة يضحي بجذع من الضأن.

وقال الحسن: يجزئ ما دون الجذع من الإبل عن واحد في الأضحية؛ برهان صحة قولنا حديث أبي بردة في الجذعة "وَلَنْ تَجْزئ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ"، فقطع صلى الله عليه وسلم أن لا تجزئ جذعة فلا يحل لأحد تخصيص نوع دون نوع بذلك، ولو أن ما دون الجذعة لا يجزئ لسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن اعترض معترض متعسف فقال: إن حديث أبي بردة هذا قد رواه منصور بن المعتمر، عن الشعبي، عن البراء فقال فيه: إن عندي عناقًا جذعة فهل تجزئ عني؟ قال: "نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك"

(2)

قلنا: نعم.

والعناق: اسم يقع على الضأنية كما يقع على الماعزة ولا فرق، قالوا: إن مطرف بن طريف رواه عن الشعبي، عن البراء بلفظ:

(1)

"التمهيد" 23/ 188

(2)

سبق برقم (983) كتاب: العيدين، باب: كلام الإمام والناس في خطبة العيد

، ورواه مسلم (1961/ 7) كتاب: الأضاحي، باب: وقتها.

ص: 581

يا رسول الله إن عندي داجنًا جذعة من الماعز، قال:"اذبحها ولا تصلح لغيرك"

(1)

قلنا: نعم، ولا خلاف في أن هذا كله خبر واحد في موطن واحد، فرواية من روى:"لا تجزئ عن أحد بعدك" هي الزائدة ما لم يروه من لم يرو هذِه اللفظة، وزيادة العدل خبر قائم بنفسه وحكم وارد ولا يسع أحد تركه وإنما يحتج برواية مطرف هذا من لم يمنع الجذع إلا من الماعز فقط، وأما من منع الجذاع كلها ما عدا الضأن فلا حجة له في شيء، هذا الخبر يكن هو الحجة عليه، كما أن هذا الخبر نفسه قد رواه زكريا عن فراس، عن الشعبي، عن البراء أن أبا بردة قال: يا رسول الله إن عندي شاة هي خير من شاتين، قال:"ضح بها فإنها خير نسيكة"

(2)

فلم يذكر أنها لا تجزئ عن أحد بعدك.

وكذلك روينا من طريق ابن عيينة عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أنس فذكر هذا الخبر وأن ذلك القائل قال: يا رسول الله عندي جذعة هي أحب إليَّ من شاتي لحم أفأذبحها؟ قال: فرخص له، قال أنس: فلا أدري أبلغت رخصته من سواه أم لا

(3)

. فلم يجعل المخالفون سكوت زكريا عما زاده غيره من بيان أنه خصوص، ولا سكوت أنس عن ذلك أيضًا، ومغيب ذلك عنه حجة في رد الزيادة التي رواها غيرهما فما الذي (جعل هذِه)

(4)

الزيادة واجبًا أخذها، وزيادة من زاد لفظ الجذعة لا يجب أخذها إن هذا لتحكم- نعوذ بالله منه.

قال: وقد جاء خبر يمكن أن يشغب به وهو ما روينا من طريق مسلم

(1)

سيأتي برقم (5556) باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ضحِّ بالجذع".

(2)

رواه مسلم (1961/ 6) كتاب: الأضاحي، باب: وقتها.

(3)

سيأتي برقم (5549) باب: ما يُشتهى من اللحم يوم النحر.

(4)

مكررة في الأصل.

ص: 582

عن أبي بكرة فذكر حديثًا فيه: "أليس يوم النحر؟ " قالوا: بلى، وفيه: ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما، وإلى جذعة من الغنم فقسمها بيننا

(1)

، وليس فيه أنه أعطاهم إياها ليضحوا بها ولا أنهم ضحوا بها، وأيضًا فاسم الغنم يقع على الماعز كما يقع على الضأن، فإن كان حجة لهم في إباحة التضحية بالجذاع من الغنم فليس حجة في إباحة التضحية بالجذاع من الماعز، وإن لم يكن حجة في إباحة التضحية بالجذاع من الماعز فليس حجة في إباحة التضحية بالجذاع من الضأن.

والذي قد صح عامًّا في أن لا تجزئ جذعة عن أحد بعد أبي بردة.

وفي مسلم أيضًا عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن"

(2)

وهو حجة على الحاضرين المخالفين؛ لأنهم يجيزون الجذع من الضأن مع وجود المسنات فقد خالفوه وهم يصححونه، وأما نحن فلا نصححه؛ لأن أبا الزبير مدلس، ثم لو صح لكان خبر البراء ناسخًا له؛ لأن قوله له:"لا تَجْزِئ جذعة عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" خبر قاطع ثابت ما دامت الدنيا، ناسخ لكل ما تقدم فلا يجوز نسخه، واحتج من أجاز الجذاع بخبر رويناه من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن معاذ بن عبد الله بن خُبيب، عن عقبة بن عامر قال: ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجذاع من الضأن

(3)

.

(1)

مسلم (1679/ 30) كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء.

(2)

مسلم (1963) كتاب: الأضاحي، باب: سن الأضحية.

(3)

رواه النسائي 7/ 219، وابن الجارود في "المنتقى" 3/ 188 - 189 (905)، وابن حبان في "صحيحه" 13/ 225 (5904). وقوى إسناده ابن حجر في "الفتح" 10/ 15.

ص: 583

ومن طريق وكيع عن أسامة بن زيد، عن معاذ بن خُبيب، عن ابن المسيب، عن عقبة قال: سألت رسول الله عن الجذع من الضأن، فقال:"ضح به"

(1)

. وبخبر رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن محمد بن أبي يحيى، عن أمه، عن أم بلال قال صلى الله عليه وسلم:"ضحوا بالجذع من الضأن"

(2)

.

ومن طريق الحجاج بن أرطاة، عن ابن النعمان، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين جذعين

(3)

.

ومن طريق الحجاج أيضًا، عن أبي جعفر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ضحى بكبشين جذعين.

ومن طريق وكيع عن عثمان بن واقد، عن كدام بن عبد الرحمن، عن أبي كباش أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم -أو نعمت- الأضحية الجذع من الضأن"

(4)

.

ومن طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم:"يا محمد إن الجذع من الضأن خير من المسن من المعزى"

(5)

.

(1)

رواه أحمد 4/ 152، والطبراني 17/ 347 (954) واللفظ له، وحسن إسناده الألباني في "الضعيفة" 1/ 159.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

رواه أحمد 5/ 196.

(4)

رواه الترمذي (1499)، وأحمد 5/ 444 - 445. وقال الترمذي: حديث حسن غريب وقد روي عن أبي هريرة موقوفًا. وقال ابن حجر في "الفتح" 10/ 16: وفي سنده ضعف. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(64).

(5)

رواه الحاكم 4/ 222 - 223، والبيهقي 9/ 271، من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن هشام بن سعد به. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي =

ص: 584

ومن طريق سعيد بن منصور، عن عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن رافع، عن شيخ من أهل حمص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"قال لي جبريل" بمثله.

ومن طريق ابن أبي شيبة عن [ابن]

(1)

مُسْهر، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبادة بن أبي الدرداء، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين جذعين

(2)

.

ومن طريق سليمان بن موسى، عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ضحوا بالجذع من الضأن والماعز".

قال ابن حزم: لا يحتج بهذِه الأخبار إلا قليل العلم بوهيها فيعذر، أو قليل الدين يحتج بالأباطيل.

أما حديث عقبة الذي صدرنا به فمن طريق معاذ بن عبد الله وهو مجهول، ورواية ابن وهب له غير مسندة؛ لأنه ليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم عرف ذلك وهم لا يجعلون قول أسماء: نحرنا فرسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه

(3)

. مسندًا، ولا قول جابر: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

. مسندًا، (ولا قول ابن عباس أن طلاق الثلاث

= بقوله: إسحاق هالك، وهشام ليس بمعتمد، قال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. وقال البيهقي: وإسحاق ينفرد به وفي حديثه ضعف. وضعفه أيضًا الألباني في "الضعيفة" 1/ 156.

(1)

في الأصول: أبي، والمثبت من "سنن البيهقي".

(2)

رواه البيهقي 9/ 272 من طريق إسماعيل بن خليل، عن علي بن مسهر به.

(3)

سبق برقم (5510) كتاب: الذبائح والصيد، باب: النحر والذبح.

(4)

رواه أبو داود (3954)، وابن ماجه (2517)، وأحمد 3/ 321، والنسائي في "الكبرى" 3/ 199 (5039)، وابن حبان 10/ 166 (4324)، والحاكم 2/ 18 - 19 وقال: صحيح على شرط مسلم. وانظر: "السلسلة الصحيحة" 5/ 541.

ص: 585

كان يرد على عهد رسول الله

(1)

. مسندًا)

(2)

.

وكلها في غاية الصحة، ويقولون: ليس فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف ذلك ثم يجعلون هذا الخبر الساقط الواهي مسندًا

(3)

.

قلت: معاذ هذا ليس مجهولاً؛ لأن جماعة رووا عنه منهم زيد بن أسلم، قال: أبو داود ثقة روى عنه غير واحد، وقال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "ثقاته" وكذا ابن سعد في "طبقاته" في الثالثة من أهل المدينة، وقال: مات قديمًا وكان قليل الحديث.

وقال ابن ماكولا: هو أخو عبد الله بن عبد الله بن خبيب [و]

(4)

مسلم بن عبد الله بن خبيب

(5)

.

وفي "الجرح والتعديل" عن الدارقطني: ليس بذاك، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة. وقال ابن أبي عاصم في "تاريخه": توفي سنة ثمان عشرة ومائة.

قلت: وله متابعين أيضًا عن عقبة أخرجه أبو الشيخ في كتاب "الضحية" من حديث يحيى بن أبي كثير، عن بعجة بن عبد الله، ومن حديث يزيد عن أبي الخير كلاهما عن عقبة.

ومن حديث ابن إسحاق عن بشير بن يسار، عن أبي بردة بن نيار، قلت: يا رسول الله التمست مسنة فلم أجدها، فقال:"التمس جذعًا من الضأن" فقال: "ضح به".

(1)

رواه مسلم (1472) كتاب: الطلاق، باب: طلاق الثلاث.

(2)

من (غ).

(3)

"المحلى" 7/ 361 - 365.

(4)

في الأصول: بن.

(5)

"الإكمال" 2/ 302.

ص: 586

وقوله

(1)

: وروايةُ ابن وهب له غير مسندة. عجيبٌ، فإذا قال الصحابي: فعلنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا خلاف في رفعه نعم الخلاف في قوله: كنا نفعل كذا أو كنا نقول كذا من غير إضافة إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه مرفوع مسند فلإن يكون قول عقبة أحرى بكونه مسندًا.

ثم قال ابن حزم: والثاني من طريق أسامة بن زيد وهو ضعيف جدًا عن مجهول

(2)

.

قلت: أسامة أخرج له مسلم ووثقه يحيى وأحمد وابن حبان وقال: يخطئ وهو مستقيم الأمر صحيح الكتاب، وكان يحيى بن سعيد يكتب عنه، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن نمير: مدني مشهور، وقال العجلي: ثقة، وقال أبو داود: صالح، وقال يعقوب بن سفيان: هو عند أهل المدينة من أصحابنا ثقة مأمون.

وذكره ابن شاهين والأونبي

(3)

في "ثقاته"، زاد ابن خلفون: هو حجة في بعض شيوخه وضعيف في بعضهم، ومن تدبر حديثه عرف ذلك، وقال أبو العرب: اختلفوا فيه فقيل ثقة وقيل: غير ثقة.

ثم قال ابن حزم: وأما حديث أم بلال فهو (عن محمد بن أبي يحيى فلا ندري من هو، وأم بلال مجهولة)

(4)

لا ندري لها صحبة أم لا

(5)

.

(1)

يقصد قول ابن حزم السالف.

(2)

"المحلى" 7/ 365.

(3)

هو محمد بن إسماعيل بن خلفون، انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 23/ 71 (51).

(4)

كذا في الأصول، وعبارة ابن حزم: عن أم محمد بن يحيى -ولا يدرى من هي- عن أم بلال وهي مجهولة.

(5)

"المحلى" 7/ 365.

ص: 587

قلت: قد ذكر هو أن يحيى القطان روى عنه، ومن روى عنه يحيى بن سعيد قبل حديثه؛ لأنه لا يروي إلا عن ثقة، قاله الفلاس وغيره، وذكر أبو نعيم في "معرفة الصحابة" أن أم بلال هذِه روت هذا الحديث عن ابنها هلال عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، فتكون على هذا تابعية

(2)

.

ثم قال ابن حزم: وحديث أبي الدرداء وأبي جعفر كلاهما من حديث ابن أرطاة وهو هالك، وطريق أبي هريرة الأول أسقطها كلها، وفضيحة الدهر أنه عن عثمان بن واقد وهو مجهول عن كدام، ولا ندري من هو عن أبي كباش الذي جلب الكباش الجذعة إلى المدينة فبارت عليه، هكذا نص حديثه فأبو كباش وما أدراك ما أبو كباش ما شاء الله كان، وكذلك خبر الشيخ من أهل حمص وكفاك به، وطريق أبي هريرة الآخر من حديث هشام بن سعد وهو ضعيف، وحديث مكحول مرسل، وحديث أبي الدرداء من طريق ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ

(3)

.

قلت: عثمان بن واقد، هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري، قال ابن أبي حاتم: روى عنه هذيل بن بلال ووكيع وزيد بن حباب، أنا عبد الله بن أحمد فيما كتب إليَّ قال: سألت أبي عن عثمان بن واقد، فقال: عمري لا أرى به بأسًا. وقرئ على العباس بن محمد: سمعت يحيى يقول: عثمان بن واقد ثقة

(4)

، وذكره ابن حبان وغيره في "ثقاته"، ولما خرج أبو داود حديثه ضعفه.

(1)

"معرفة الصحابة" 6/ 3476.

(2)

ورد بهامش الأصل: أم بلال صحابيه لها في ....

(3)

"المحلى" 7/ 365.

(4)

"الجرح والتعديل" 6/ 172.

ص: 588

وفي "الجرح والتعديل" عن الدارقطني: لا بأس به، وأما كدام فقد روى عنه أيضًا أبو حنيفة مع عثمان فارتفعت عنه جهالة العين.

وقوله في هشام إنه ضعيف قد قال فيه يحيى بن معين: إنه صالح، وقال: أبو حاتم يكتب حديثه ويحتج به

(1)

. وقال العجلي: جائز الحديث حسنه

(2)

. وقال أبو زرعة: محله الصدق

(3)

. ولما خرج الحاكم حديثه مصححًا له، قال: قد احتج به مسلم. وقال الساجي: صدوق حدث عن ابن مهدي.

قال ابن حزم: ثم لو صحت هذِه الأخبار كلها بالأسانيد التي لا مغمز فيها ما كان لهم في شيء منها حجة؛ لأن الأضحية كانت مباحة في كل ما كان من الأنعام بلا شك، وقد كان نزل حكمها -بلا شك من أحد- قبل قصة أبي بردة.

(وصح قول أبي بردة)

(4)

وقوم معه بيقين قبل أن يقول: "لا تجزئ جذعة عن أحد بعدك" فلو صحت هذِه الأخبار كلها لكان قوله ذلك ناسخًا لها بلا شك.

وذكروا عن بعض السلف إجازة الجذع من الضأن، فذكروا عن جعفر ابن محمد، عن أبيه أن عليًّا رضي الله عنه قال: يجزئ من الضأن الجذع، وعن حبة العُرَني عن علي مثله مع رواية جعفر بن محمد أن عليًّا قال: يجزئ من البدن ومن البقر ومن الماعز الثني فصاعدًا، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: لأن أضحي بجذعة سمينة أحب إلىَّ من أن أضحي بجدي.

(1)

"الجرح والتعديل" 9/ 61.

(2)

"معرفة الثقات" للعجلي 2/ 329 (1900).

(3)

"الجرح والتعديل" 9/ 62.

(4)

كذا في الأصول، وفي "المحلى": وضحى أبو بردة.

ص: 589

ومن طريق سعيد بن منصور، ثنا خالد بن عبد الله الطحان، عن عبد العزيز بن حكيم سمعت ابن عمر يقول: لأن أضحي بجذعة سمينة تجزئ في الصدقة أحب إليَّ من أن أضحي بجذع من المعز، مع قوله: لا تجزئ [إلا]

(1)

الثنية من الإبل والبقر.

وعن أم سلمة: لأن أضحي بجذع من الضأن أحب إليَّ من أن أضحي بثني من البقر، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: لا بأس بالجذع من الضأن في الضحية.

وعن عمران بن حصين: إني لأضحي بالجذع من الضأن، فهؤلاء ستة من الصحابة، روينا إجازة الجذع من الضأن في الأضحية عن هلال بن يساف وكعب وعطاء وإبراهيم وطاوس وأبي رزين وسويد بن غفلة فهم سبعة من التابعين. وقال إبراهيم: لا يجزئ من الماعز إلا الثني فصاعدًا، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي.

ثم قال ابن حزم: كل هؤلاء لا حجة لهم فيه، أما الرواية عن علي فمنقطعة والأخرى واهية، ثم ليس فيها المنع من التضحية بالجذع من الماعز ولا من الإبل والبقر، ثم لو صحت لكنا قد روينا عنه خلافها كما قدمناه، وإذا وجد خلاف من الصحابة فالواجب الرد إلى القرآن والسنة، وأما أثر ابن عمر فلا حجة لهم فيه بل هو عليهم؛ لأنه ليس في هذِه الرواية عنه إلا اختيار الضأن على الماعز فقط، والمنع فيما دون الثني من الإبل والبقر فقط لا من الماعز، وقد روينا عنه قبل خلاف هذا، فهو اختلاف من قوله، وإذا جاء الاختلاف عن الصحابة وجب الرد إلى القرآن والسنة. وأما الرواية عن أم سلمة فإنما فيها

(1)

ساقطة من الأصول.

ص: 590

اختيار الجذع من الضأن وليس فيها المنع من الجذع من غير الضأن، وكذلك سائر من ذكرنا من الصحابة، فكيف ولا حجة في قول أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أجاز جماعة من الصحابة والتابعين أن يضحى بالجذع من الماعز وبالجذع من الإبل والبقر وجاءت بذلك آثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرى من نصح نفسه أنه لا حجة للحنفيين والشافعيين والمالكيين أصلاً في إجازتهم الجذع من الضأن ومنعهم من الجذع من الإبل والبقر والماعز، وروينا من طريق ابن أبي شيبة، ثنا محمد بن نمير، ثنا محمد بن إسحاق، عن عمارة -هو: ابن عبد الله بن طعمة- عن ابن المسيب، عن زيد بن خالد الجهني قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه ضحايا فأعطاني عتودًا من المعز، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه جذع فقال: "ضح به"

(1)

.

وعند البخاري عن عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه غنمًا يقسمها بين أصحابه فبقي عتودًا فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "ضحِ أنت به"

(2)

. والعتود: هو الجذع من الماعز بلا خلاف

(3)

.

قلت: قد قال ابن سيدَهْ: العتود: الجدي الذي استكرش، وقيل: هو الذي قد بلغ السِّفَاد

(4)

.

(1)

رواه أبو داود (2798)، وأحمد 5/ 194، وابن حبان 13/ 220 (5899) من طرق عن محمد بن إسحاق، به. وقال الألباني في "صحيح أبي داود" (2493): إسناده حسن صحيح.

(2)

سبق برقم (2300) كتاب: الوكالة، باب: وكالة الشريك، ورواه مسلم (1965) كتاب: الأضاحي، باب: سن الأضحية.

(3)

"المحلى" 7/ 365 - 367.

(4)

"المحكم" 2/ 3.

ص: 591

وحديث عقبة الذي عزاه للبخاري أهمل منه: فصاب لي جذعة فقلت: يا رسول الله صارت لي جذعة قال: "ضح بها" كذا في أكثر النسخ.

ثم قال ابن حزم: وهذان خبران في غاية الصحة، وقد أجاز التضحية بالجذع من الماعز فيهما اثنان من الصحابة: عقبة بن عامر وزيد بن خالد، وذكرنا قبل عن أم سلمة وابن عمر جواز التضحية بالجذع من المعز، وإن كان غيره خيرًا منه، فإن قالوا: هذا منسوخ بخبر البراء، قلنا: خبر البراء لا دليل فيه على تخصيص الجذع من الماعز دون الجذع من الضأن والإبل والبقر بالمنع إلا بدعوى غير صحيحة.

وأما الآثار التي فيها إباحة التضحية بالجذع جملة من كل شيء، فروينا عن عبد الرزاق، عن سفيان بن سعيد، عن عاصم بن كليب، عن أبيه قال: كنا مع رجل من الصحابة يقال له: مجاشع من بني سليم فأمر مناديًا ينادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجذع يوفي بما يوفي منه الثني"

(1)

.

ومن طريق أبي الجهم [نا]

(2)

يوسف بن يعقوب القاضي، ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا حبان بن علي، عن عاصم بن كليب، عن أبيه قال: أُمر علينا رجل من الصحابة من الأنصار فقال: إني شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم النحر فطلبنا المسن فغلت علينا، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن الجذع يفي بما يفي منه المسن" ثم قال ابن حزم: الخبر الأول في غاية الصحة ورواته كلهم ثقات، والآخر خبر صحيح

(3)

.

(1)

رواه أبو داود (2799)، وابن ماجه (3140) كلاهما من طريق عبد الرزاق، به.

وانظر "الإرواء"(1146).

(2)

ساقطة من الأصول.

(3)

"المحلى" 7/ 367.

ص: 592

قلت: حبان تكلموا فيه: ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم.

وروينا من طريق معمر عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عمران بن الحصين قال: لأن أضحي بجذع أحب إليَّ من أن أضحي بهرم، وأحبهن إليَّ أن أضحي به، وفي خبر ابن عمر عموم الجذع.

ومن طريق وكيع ويحيى بن سعيد القطان، ثنا علي بن المبارك، عن أبي السوية التميمي: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: عليَّ بدنة أتجزئ عني جذعة؟ قال: نعم. وفي رواية وكيع: جذعة من الإبل؟ قال: نعم. ومن طريقه أيضًا: ثنا عمر بن ذر: قلت لطاوس: إنا ندخل السوق فنجد الجذع من البقر السمين العظيم فنختار الثني لسنه؟ فقال طاوس: أحبها إليَّ أسمنها وأعظمها. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه: يجزئ الثني من المعز، والجذع من الضأن، والجذع من الإبل والبقر، يعني: في الأضاحي. ومن طريق وكيع، ثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: يجزئ الجذع عن سبعة. ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء قال: يجزئ من الإبل الجذع فصاعدًا.

ومن طريق ابن أبي شيبة، ثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن أنه كان يقول: يضحي بالجذع من الإبل والبقر عن ثلاثة، وما دون الجذع من الإبل عن واحد.

فهذِه أسانيد في غاية الصحة عن طاوس وعطاء والحسن في جواز الجذع من الإبل في الأضاحي.

وعن ابن عباس جواز الجذع من الإبل في البدن، فإن قيل: قد روي عن عطاء كراهة ذلك. قلنا: رواه الحجاج بن أرطاة، وهو ساقط ولا يعارض به ابن جريج إلا جاهل.

ص: 593

قال: والناسخ لهذا كله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ جذعة عن أحدٍ بعدك" ثم إنهم لم يجدوا في النهي عن الجذع من الإبل والبقر خبرًا أصلاً إلا هذا اللفظ، فمن أين خصوا به جذاع الإبل والبقر دون جذاع الضأن؟ فإن قالوا: قسنا جذاع الإبل والبقر على جذاع المعز. قلنا: وهلا قستموها على جذاع الضأن.

ويقولون أيضًا: إن ولدت الأضحية الشاة أو الماعز أو البقرة أو الناقة ضحى بولدها معها، فهذا كما ترى أجازوا في التضحية الصغير جدًا، فإن قالوا: إنما هو تبع. قلنا: هذا لا معنى له، إن قالوا: هو بعضها فليس بصحيح هو ذكر وهي أنثى، وإن كان غيرها فهو قولنا ولا فضل في ذلك

(1)

.

فصل:

قال ابن عبد البر

(2)

: أجمعوا أن من ذبح قبل الصلاة وكان ساكن مصر من الأمصار أنه لا يجزئه ذبحه ذلك.

واختلفوا في وقت ذبح أهل البادية، فقال مالك: يذبحون إذا ذبح أقرب أئمة أهل القرى إليهم فينحرون بعده، فإن لم يفعلوا وأخطأوا فنحروا قبله أجزأهم.

وقال الشافعي: وقت الذبح وقت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين حلت الصلاة وقدر خطبتين، وأما صلاة من بعده فليس فيها وقت

(3)

، وبه قال أحمد والطبري.

(1)

"المحلى" 7/ 367 - 368.

(2)

بداية كلامه من "الاستذكار" 15/ 147.

(3)

"الأم" 2/ 187.

ص: 594

وقال الحنفيون: من ذبح من أهل السواد بعد طلوع الفجر أجزأه؛ لأنه ليس عليهم صلاة العيد وهو قول الثوري وإسحاق.

وقال عطاء: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس، قال ابن عبد البر: ورواية من روى حديث الشعبي عن جابر قصة أبي بردة فقد أخطأ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري والليث إلى أنه لا يجوز ذبحها قبل الصلاة ويجوز بعدها قبل أن يذبح الإمام؛ لأنه وغيره فيما يحرم من الذبح ويحل سواء، فإذا حل للإمام حل لغيره ولا معنى لانتظاره، حجتهم حديث الشعبي عن البراء يرفعه:"من نسك قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم"

(1)

، وقال داود وعاصم، عن الشعبي، عن البراء يرفعه:"من ذبح قبل الصلاة فليعد"

(2)

.

وعن أنس

(3)

وجندب البجلي

(4)

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.

ورفع الطحاوي حديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر من نحر قبله أن يعيد ضحيته، قال: ورواه حماد بن سلمة عن أبي الزبير فقال: إن رجلاً ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذبح أحد قبل الصلاة

(5)

.

قال ابن عبد البر: ومعروف عند العلماء أن ابن جريج أثبت في أبي

(1)

سبق برقم (983) كتاب: العيدين، باب: كلام الإمام والناس في خطبة العيد.

(2)

طريق داود رواه مسلم (1961/ 5) بلفظ: "أَعِدْ نسكًا". وطريق عاصم رواه أيضًا مسلم (1961/ 8) وليس فيه أنه صلى الله عليه وسلم أمره بإعادة الذبح.

(3)

سبق برقم (954) كتاب: العيدين، باب: الأكل يوم النحر، ورواه مسلم (1962) كتاب: الأضاحي، باب: وقتها.

(4)

سبق برقم (985) كتاب: العيدين، باب: كلام الإمام والناس في خطبة العيد، ورواه مسلم (1960).

(5)

"شرح معاني الآثار" 4/ 171 - 172.

ص: 595

الزبير من حماد وأعلم، وليس في الأحاديث عن البراء وغيره إلا النهي عن الذبح قبل الصلاة؛ ولأنه ليس في نهيه عن الذبح قبلها دليل على أن الذبح بعدها، وقبل الإمام جائز، هذا لو لم يكن نص، كيف والنص ثابت من حديث جابر ومرسل بشير بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم أمر من ذبح قبل أن يذبح بالإعادة

(1)

ولفظه في "سنن أبي قرة": فأمر صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر صلى الله عليه وسلم. ولأبي الشيخ بإسناد جيد من حديث أبي جحيفة: أن رجلاً ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تجزئ عنك".

(1)

رواه مالك في "الموطأ" ص 298 - 299 (4). وهنا ينتهي كلام ابن عبد البر من "الاستذكار" 15/ 147 - 155.

ص: 596

‌2 - باب قِسْمَةِ (الإِمَامِ) الأَضَاحِيَّ بَيْنَ النَّاسِ

5547 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ بَعْجَةَ الْجُهَنِيِّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صَارَتْ جَذَعَةٌ. فقال:«ضَحِّ بِهَا» . [انظر: 2300 - مسلم: 1965 - فتح 10/ 4]

ذكر فيه حديث يحيى، [عن]

(1)

بعجة بالباء الموحدة الجهني، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الجُهَنِيِّ قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِعُقْبَةَ جَذَعَةٌ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صَارَتْ جَذَعَةٌ. فقال:"ضَحِّ بِهَا".

الشرح:

أما قسمته صلى الله عليه وسلم الضحايا بين أصحابه فإن كان [قسمتها]

(2)

بين الأغنياء فكانت من الفيء أوما يجري مجراه فيما يجوز أخذها للأغنياء، وإن كان إنما قسمها بين فقرائهم خاصة فكانت من الصدقة، وإنما أراد البخاري بهذا الباب -والله أعلم- أن عطاء الشارع الضحايا لأصحابه دليل على تأكدها وندبهم إليها، نبه عليه ابن بطال، ثم قال: فإن قيل لو كان كما زعمت لم يخف ذلك عن الصحابة الذين قصدوا تركها وهم موسرون. قيل: ليس كما توهمت ولم يتركها من تركها منهم؛ لأنها غير وكيدة ولا مرغب فيها، وإنما تركها لما روى معمر والثوري، عن أبي وائل قال: قال أبو مسعود الأنصاري: إني لأدع الأضحى وأنا موسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليَّ، وروى الثوري عن إبراهيم بن مهاجر، عن النخعي، عن علقمة قال: لإن لا أضحي أحب إليَّ من أن أراه حتمًا عليَّ.

(1)

في الأصل: ابن.

(2)

في الأصل: قسمتها، والمثبت هو الملائم للسياق.

ص: 597

قال: وهكذا ينبغي للعالم الذي يُقتدى به إذا خشي من العامة أن يلتزموا السنن التزام الفرائض أن يتركوا (فيها)

(1)

ليتأسى بهم فيها، ولئلا يختلط على الناس أمر دينهم فلا يفرقوا بين فرضه ونفله.

فصل:

في هذا الحديث من الفقه جواز الضحايا بما يُهدى إليه وما لم يشتره بخلاف ما يعتقده عامة الناس، نبه عليه ابن بطال

(2)

.

فصل:

لعل هذِه الجذعة كانت من الضأن، قاله ابن التين (قال)

(3)

: فيكون فيه رد على عمر بن عبد العزيز في منعه ذلك.

وروي ذلك عن ابن حبيب، أو يكون ذلك منسوخًا بحديث أبي بردة.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 8 - 8.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 8 - 9.

(3)

من (غ).

ص: 598

‌3 - باب الأُضْحِيَّةِ لِلْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ

5548 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ بِسَرِفَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ مَكَّةَ وَهْيَ تَبْكِي، فَقَالَ:«مَا لَكِ؟ أَنَفِسْتِ؟» . قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» . فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح 10/ 5]

ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَحَاضَتْ بِسَرِفَ

الحديث السالف في الحج

(1)

وفي آخره: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بالبقر.

اختلف العلماء في المسافر هل تجب عليه أضحية؟ فقال الشافعي: هي سنة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى، وبه قال أبو ثور.

وقال مالك: الأضحية عليه ولا يؤمر بتركها إلا الحاج بمنى.

وذكر ابن المواز عن مالك: أن من لم يحج من أهل مكة ومنى فليضح، ومذهب ابن عمر أن التضحية تلزم المسافرين، وكذا حكاه ابن بطال

(2)

، وقد سلف، وأسلفنا عن البخاري أن ابن عمر قال: هي سنة ومعروف، نعم هو قول الأوزاعي والليث.

وقال أبو حنيفة: لا تجب التضحية على المسافرين.

ويروى عن النخعي أنه قال: رخص للحاج والمسافر أن لا يضحي، حجة الشافعي حديث الباب: ضحى عن أزواجه بالبقر وكانوا في الحج

(1)

سبق برقم (1556) باب: كيف تصل الحائض والنفساء؟

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 9.

ص: 599

وحال سفر، وحجة مالك القياس على الحضر، كما لا فرق بينهم في الفرائض، وكذا الحاج بمنى لأن سهم الهدايا، وهو ما سيق من الحل إلى الحرم تقربًا.

وذكر ابن وهب عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد قال: كنا نحج مع عائشة فلم يكن يضحي منا أحد.

وعن عمر بن الخطاب أنه كان يحج ولا يضحي.

وعن ابن عمر مثله، كذا في ابن بطال

(1)

وفيه مخالفة لما قدمه عنه.

قال ابن وهب: وأخبرني رجال من أهل العلم أن ابن عباس وسالم بن عبد الله وجماعة كانوا يحجون ولا يضحون.

وعن النخعي أن أبا بكر وعمر كانا يحجان ولا يضحيان.

وحجة أبي حنيفة في سقوطها عن المسافرين لما سقطت الجمعة والعيدان عنهم سقطت التضحية، ورووا عن علي بن أبي طالب أنه قال: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع.

وأما النساء فإن من أوجب الضحايا أوجبها عليهن، ومن لم يوجبها استحبها في حقهن كالرجال.

وأوَّل ابن التين قولها: (ضَحَّى عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ)، أي: ذبحها ضُحى عملًا بمذهبه أن الحاج لا تضحية عليه، وهو خلاف تبويب البخاري، قال: فإن يحمل على الأضحية فيكون ذلك تطوعًا لا على مجرى سنة الأضحية. وقد اختار أشهب للحاج أن يضحي إذا شاء بالإبل والبقر استحبابًا.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 9 - 10.

ص: 600

فصل:

وقوله صلى الله عليه وسلم لها: "أَنَفِسْتِ؟ " هو بضم النون وفتحها. وقال ابن التين: ضبط بالضم، وقد قال في "الغريبين": يقال: نفست بالضم والفتح إذا ولدت، فإن حاضت فبالفتح لا غير.

ص: 601

‌4 - باب مَا يُشْتَهَى مِنَ اللَّحْمِ يَوْمَ النَّحْرِ

5549 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ: «مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ» . فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ -وَذَكَرَ جِيرَانَهُ- وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ. فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَلَا أَدْرِي أَبَلَغَتِ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لَا، ثُمَّ انْكَفَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى كَبْشَيْنِ فَذَبَحَهُمَا، وَقَامَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا. أَوْ قَالَ: فَتَجَزَّعُوهَا. [انظر: 954 - مسلم: 1962 - فتح 10/ 6]

ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ: "مَنْ كَانَ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ". فَقَامَ رَجُلٌ

الحديث وفي آخره: ثُمَّ انْكَفَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى كَبْشَيْنِ فَذَبَحَهُمَا، وَقَامَ النَّاسُ إلى غُنَيْمَةٍ فَتَوَزَّعُوهَا. أَوْ قَالَ: فَتَجَزَّعُوهَا.

الشرح:

فيه فوائد: الأولى: أن من استعجل شيئًا قبل وقته فعقوبته أن يمنع ذلك الشيء، كما نبه عليه المهلب، وهذا أبو بردة استعجل الذبح قبل وقته فخُرِم أن يجزئ عنه مرة أخرى.

ولولا أنه ذكر من جيرانه حاجة ومشقة أراد إطعامهم وسد جوعهم وخلتهم لما عذره الشارع وجوز له الضحية بجذعة من المعز، ويدله على ذلك قوله في غير هذِه الرواية في حديث البراء:"وَلَنْ تَجْزئ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ" فلم يكن في الحديث شيء يمكن بأن يتأول منه معنى اختصاصه صلى الله عليه وسلم إياه بإجازة الجذعة إلا ما ذكر من حاجة جيرانه وجوعهم.

ثانيها: أنَّ من اشتهى اللحم يوم النحر لا حرج عليه ولا يتوجه إليه ما قال عمر بن الخطاب حين لقي جابر بن عبد الله ومعه حمال لحم

ص: 602

بدرهم فقال له: ما هذا فقال: يا أمير المؤمنين قَرِمْنَا

(1)

إلى اللحم فقال له: أين تذهب هذِه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]

(2)

لأن يوم النحر مخصوص بأكل اللحم والالتذاذ بالحلال لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28].

وأما في غير وقت النحر فأكله مباح إلا أن السلف كانوا يواظبون على أكله دائمًا، وستأتي سيرتهم في أكلهم وأخذهم من الدنيا في كتاب الرقاق إن شاء الله في الأطعمة.

ثالثها: ما كان عليه سلف هذِه الأمة من مواساتهم لجيرانهم مما رزقهم الله وترك الاستئثار عليهم، ألا ترى حرص أبي بردة على تعجيل الذبح من أجل خلة جيرانه ولم يتعرف إن كان ذلك يجزئ أم لا.

رابعها: قول أنس: (لا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا)، قد بين أن الرخصة لم تكن لأحد غيره في حديث البراء كما سلف.

وقوله: (فَتَوَزَّعُوهَا) أو قال: (فَتَجَزَّعُوهَا)، الظاهر أنه من الراوي. ومعنى (تَجَزَّعُوهَا): اقتسموها؛ لأنه من الجزع وهو القطع. وعبارة ابن التين قال: هو مثل يوزعوها. قال صاحب "العين": الجزع: القطع، وكذا قال ابن بطال: معناهما واحد؛ لأن تجزعوها اقتسموها قطعًا

(3)

.

والجزعة: القطعة من الشيء، ويقال: البقية منه. قال الجوهري: جزعت الوادي: قطعته

(4)

.

(1)

أي اشتهيناه. انظر: "الصحاح" 5/ 2009.

(2)

رواه مالك في "الموطأ" ص 582 (36)، والحاكم 2/ 455.

(3)

"العين" 1/ 216 مادة (جزع)، "شرح ابن بطال" 6/ 12.

(4)

"الصحاح" 3/ 1195 مادة (جزع).

ص: 603

وكذا عبارة الهروي في "غريبيه" فجزعوها: اقتسموها، وأصلها من الجزع: وهو القطع.

وقوله قبله: (وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ) يريد لسمنها وأنها من المعز.

ونقل ابن التين الإجماع على أن الجذع من المعز لا يجزئ، وقد أوضحناه قبل. قال: واختلف في سنه فالأكثر والأشهر سنة، وقيل: عشرة أشهر، وقيل ثمانية، وقيل ستة.

وقوله: (ثُمَّ انْكَفَأَ) هو مهموز معناه: رجع وانقلب مأخوذ من كفأت الإناء قلبته، هذا ما ذكره أهل اللغة.

وقال الداودي: معناه عمد، وذكره ابن التين بهذا اللفظ ثم قال بعد قول أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين، يدل على مواظبته على ذلك؛ لأن هذا اللفظ إنما يستعمل فيما يواظب عليه، ولفظة (كان) ليست هنا، وإنما هنا (فانكفأ إلى كبشين).

وفيه: أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يفعل الأفضل فضحى بكبشين وأهدى مائة من الإبل؛ لأنها أفضل في الهدايا.

وقال أبو حنيفة والشافعي: الإبل والبقر أفضل من الغنم

(1)

، وعلى الأول أن الغنم أفضل، فقال ابن القرطبي: الإبل بعد، وقال القاضي أبو محمد: البقر لأن المراعَى طيب اللحم.

(1)

"الأم" 2/ 189.

ص: 604

‌5 - باب مَنْ قَالَ: الأَضْحَى يَوْمَ النَّحْرِ

5550 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَيُّ شَهْرٍ هَذَا» . قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:«أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ؟» . قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» . قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:«أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ؟» . قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» . قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ:«أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» . قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ- عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَّلاً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ- وَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: صَدَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: - أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» . [انظر: 67 - مسلم: 1679 - فتح 10/ 7]

ذكر فيه حديث أيوب، عن مُحَمَّدٍ، عَنِ ابن أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كهَيئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ". الحديث بطوله، وقد سلف في الحج

(1)

، وفيه:"أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ" قالوا: بلى.

و (ابن أبي بكرة) اسمه عبد الرحمن أول مولود ولد بالبصرة، وأبو بكرة سلف غير مرة أن اسمه نفيع بن مسروح.

(1)

سلف برقم (1741) باب: الخطبة أيام مني.

ص: 605

واختلف العلماء في أيام الأضحى مع إجماعهم، كما قال ابن عبد البر في "استذكاره"

(1)

: إنَّ الأضحى بعد انسلاخ ذي الحجة على أقوال:

أحدهما: يوم النحر ويومان بعده، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس ذكره ابن القصار، وذكره ابن وهب عن ابن مسعود، وعبارة ابن حزم في إيراد أثر علي: النحر ثلاثة أيام أفضلها أولها.

ثانيها: كذلك وزيادة يوم آخر فصارت أربعة، وهو قول عطاء والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأبي ثور، وروي ذلك عن علي وابن عباس قالا: أيام النحر: الأيام المعلومات.

وعبارة ابن حزم عن ابن عباس: الأيام المعلومات: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، ثم قال: كذا في كتابي، ولا أدري لعله وهم

(2)

.

قال ابن بطال: وهو اختلاف من قولهما

(3)

. وقال عطاء: النحر أربعة أيام إلى آخر أيام التشريق. وفي رواية: النحر ما دامت الفساطيط بمنى. وقال الحسن: النحر يوم النحر وثلاثة أيام بعده، حكى هذا كله ابن حزم، ثم قال: وعن الزهري فيمن نسي أن يضحي يوم النحر: لا بأس أن يضحي أيام التشريق، قال: وقال عمر بن عبد العزيز: الأضحى أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام بعده

(4)

.

(1)

انظر: "الاستذكار" 15/ 197 - 201.

(2)

"المحلى" 7/ 377.

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 13.

(4)

"المحلى" 7/ 377 - 378.

ص: 606

قال ابن بطال: وليس عن الصحابة غير هذين القولين، وبهما قال أئمة الفتوى وللتابعين فيها شذوذ نذكره

(1)

.

وكذا قال ابن عبد البر في "استذكاره": لا يصح عندي في هذِه المسألة إلا قولان: الذي ذهب إليه أبو حنيفة ومالك، والذي ذهب إليه الشافعي لأنهما رويا عن جماعة من الصحابة

(2)

.

ثالثها: يوم واحد وهو يوم النحر، وهو قول ابن سيرين وعليه ترجم البخاري، وحكاه ابن حزم عن حميد بن عبد الرحمن أنه كان لا يرى النحر إلا يوم النحر، وهو قول أبي سليمان

(3)

(4)

.

رابعها: يوم واحد في الأمصار، وفي منى ثلاثة أيام، وهو قول سعيد بن جبير وجابر بن زيد.

خامسها: يوم النحر وستة أيام بعده وهو قول قتادة.

سادسها: عشرة أيام حكاه ابن التين.

سابعها: وهو أغربها أنه إلى آخر يوم من ذي الحجة، روي عن الحسن البصري، قال ابن التين: ويؤثر عن عمر بن عبد العزيز أيضًا، ونقله ابن حزم عن سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن قال: الأضحى إلى هلال المحرم لمن استأنى بذلك

(5)

.

وهذِه الأقوال لا أصل لها في السنة ولا في أقوال الصحابة، كما قال ابن بطال: وليس استدلال من استدل من قوله صلى الله عليه وسلم: "أَلَيْسَ يَوْمَ

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 13.

(2)

"الاستذكار" 15/ 205.

(3)

ورد في هامش الأصل: يعني داود بن علي بن خلف إمام أهل الظاهر.

(4)

"المحلى" 7/ 377.

(5)

"المحلى" 7/ 387.

ص: 607

النَّحْرِ" لا يكون نحر ولا ذبح في غيره بشيء؛ لأن النحر في أيام منى، قد نقله الخلف عن السلف وجرى عليه العمل في جميع الأمصار فلا حجة مع من خالفه

(1)

.

وفي "صحيح أبي حاتم بن حبان" من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " (كل)

(2)

فجاج مكة منحر وفي كل أيام التشريق ذبح"

(3)

.

قال صاحب "الاستذكار": أخرجه ابن أبي حسين، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، رواه عنه سليمان بن موسى، واختلف عليه في إسناده فروي عنه متصلًا ومنقطعًا، واضطرب عليه أيضًا في ابن أبي حسين، وروي من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعًا لكن قال فيه أبو حاتم: إنه موضوع، وأخرجه أبو الشيخ من حديث جبير كما سلف، ومن حديث حجاج، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا "منى كلها منحر"، وعن جابر مثله، وكان مالك لا يرى لأحد أن يضحي بليل.

واحتج بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] قال: فذكر الأيام دون الليالي، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا بأس بالذبح ليلاً في أيام النحر لأن الله تعالى إذا ذكر الأيام فالليالي تبع لها، وإذا ذكر الليالي فالأيام تبع لها، وبه قال أشهب وإسحاق وأبو ثور

(4)

.

وأجمعوا أنه لا يجوز أن يضحي قبل طلوع الفجر يوم العيد، وقد

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 14.

(2)

من (غ).

(3)

"صحيح ابن حبان" 9/ 166 (3854).

(4)

"الاستذكار" 15/ 203 - 206.

ص: 608

سلف في صلاة العيد. اختلف العلماء في الأيام المعلومات والمعدودات.

وأما ابن حزم فقال: التضحية جائزة من طلوع الشمس يوم النحر إلى أن يهل هلال المحرم ليلاً ونهارًا إذ لم يخص تعالى وقتًا دون وقت ولا رسوله فلا يجوز تخصيص وقت بغير نص؛ لأن التقرب إلى الله تعالى بالتضحية حسن ما لم يمنع منه نص أو إجماع، ولا نص في ذلك ولا إجماع إلى آخر ذي الحجة

(1)

. ثم نقل عن مالك بن أنس الأضحى إلى آخر يوم من ذي الحجة.

قال ابن حزم: وروينا عن مجاهد عن مالك بن ماعز أو عكسه الثقفي أن أباه سمع عمر يقول: إنما النحر في هذِه الثلاثة الأيام، وكذا قاله ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأنس بن مالك، وبه يقول أبو حنيفة ومالك ولا يصح شيء من هذا كله، أما طريق عمر ففيها مجهولان. وطريق علي، فمن حديث ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ عن المنهال وهو متكلم فيه

(2)

.

قلت: هو من رجال البخاري -قال الحاكم: ومسلم- وقال العجلي وابن معين: ثقة. وذكره ابن حبان وابن شاهين في "الثقات"، وقال الدارقطني: صدوق

(3)

.

قال: وطريق ابن عباس فيها أبو حمزة وهو ضعيف. قلت: لعله أبو جمرة، وقد أثنى عليه غير واحد.

(1)

"المحلى" 7/ 378.

(2)

"المحلى" 7/ 377.

(3)

انظر: "معرفة الثقات" للعجلي 2/ 86 ترجمة (1072)، "الثقات" لابن حبان 5/ 100، و"سنن الدارقطني" 1/ 124 ونصه: ابن أبي ليلى ثقة، في حفظه شيء.

ص: 609

وطريق ابن عمر فيها إسماعيل بن عياش، وعبد الله بن نافع، وكلاهما ضعيف، وطريق أبي هريرة فيها معاوية بن صالح وليس بالقوي عن أبي مريم وهو مجهول

(1)

.

قلت: لا، فقد روى عنه مع معاوية، يحيى بن أبي عمرو الشيباني.

وقال أحمد: قالوا لي بحمص هو معروف عندنا ثم أحسنوا الثناء عليه، ويذكرون أنه كان قائمًا بشأن مسجدهم وأنه وفد على عمر بن عبد العزيز.

وقال العجلي: مدني ثقة. وفي "تاريخ أبي زرعة" ويعرف بصاحب القناديل، وكان خالد بن الوليد أسره بالمسجد. وقيل: هو مولى أبي هريرة، وقال ابن أبي حاتم: اسمه عبد الرحمن بن ماعز الأنصاري.

قلت: ومعاوية بن صالح وثقه ابن مهدي والعجلي والنسائي وأبو زرعة ويحيى بن معين وابن سعد وابن حبان والبزار وابن شاهين، وذكر ابن حيان صاحب "تاريخ الأندلس" أن مالكًا روى عنه وناهيك بهذا جلالة ونبلًا.

قال ابن حزم: أما من قال: إنه يوم النحر وحده. قال: إنه مجمع عليه وما عداه مختلف فيه ولا توجد شريعة باختلاف لا نص فيه، وأما من قال بقول أبي حنيفة ومالك فإنهم يضحوا، فإنه روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف، قالوا: ومثل هذا لا يقال بالرأي.

قال ابن حزم: إن كان هذا إجماعًا فقد خالف فيه عطاء والحسن والزهري وعمر بن عبد العزيز وأبو سلمة وسليمان بن يسار وأُفٍّ لكل إجماع يخرج عنه هؤلاء.

(1)

"المحلى" 7/ 377.

ص: 610

قلت: مذهبك أن الإجماع إجماع الصحابة فكيف تلزم باحتجاج التابعين- وقد روينا عن ابن عباس ما يدل على خلافه لهذا القول

(1)

.

وقال أبو عمر: اختلف في ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر، فروي عنهم ما ذكر أحمد في الأضحى ثلاثة أيام عن غير واحد من الصحابة، وروي عنهم: الأضحى أربعة أيام: (يوم النحر)

(2)

وأيام التشريق كلها، ولم يختلف عن أبي هريرة وأنس في أن الأضحى ثلاثة أيام

(3)

.

قال: وقد روينا خبرًا صحيحًا يلزم القائل بالمرسل اتباعه -ومعاذ الله أن نحتج بمرسل- قال أبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأضحى إلى هلال المحرم"

(4)

.

فصل:

قوله: ("إن الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ")، قال أبو عبيد: يقال إنَّ بدء ذلك كان والله أعلم أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم، وهذا هو النسيء الذي قال الله فيه:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الآية، وكان ذلك في كتابه، والنسيء: هو التأخير، ومنه قيل: بعت الشيء نسيئة، فكانوا يحرمون صفر يريدون به المحرم ويقولون: هو أحد

(1)

"المحلى" 7/ 378.

(2)

من (غ).

(3)

"الاستذكار" 15/ 201 - 202.

(4)

"المحلى" 7/ 378 - 379.

ص: 611

الصفرين، قال: وقد تأول بعض الناس في قوله: "ولا صفر" على هذا، ثم يحتاجون أيضًا إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده لحاجتهم إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع ثم يمكثون بذلك ما شاء الله، ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك، فكذلك تتدافع شهرًا بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها فقام الإسلام، وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله تعالى به، وذلك بعد دهر طويل.

وزعم بعض الناس أنهم كانوا يستعجلون المحرم عامًا فإذا كان قابل ردوه إلى تحريمه والتفسير الأول أحب إليَّ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كهَيْئَتِهِ يَومَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ" وليس في التفسير الأخير استدارة، وعلى هذا الذي فسرناه يكون قوله تعالى:{يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] مصدقًا له لأنهم إذا حرموا في العام المحرم وفي قابل صفر، ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضًا أحلوه وحرموا الذي بعده، فهذا تأويل قوله تعالى:{يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} .

قال أبو عبيد: وفي هذا تفسير آخر يقال إنه في الحج حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى:{وَلَا جِدَالَ} [البقرة: 197] قال: قد استقر الحج في ذي الحجة لا جدال فيه وفي غير حديث سفيان يروى عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كانت العرب في الجاهلية يحجون عامين في ذي القعدة وعامين في ذي الحجة فلما كانت السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم كان الحج في السنة الثانية (من)

(1)

ذي القعدة، فلما كانت السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل عاد الحج

(1)

كذا بالأصل وفي "غريب الحديث"(في).

ص: 612

إلى ذي الحجة

(1)

.

وقال ثابت بن حزم: روى سفيان بن حسن قال: حدثني أبو بشر عن مجاهد قال: حج أبو بكر في ذي الحجة.

فصل:

ذكر ثابت في "غريب الحديث" حديث أبي بكرة وقال فيه: "أَلَيْسَ البَلْدَةَ" بفتح اللام. قال: ومنى أيضًا يسمونها البلدة وقد ذكر الله تعالى مكة في كتابه فقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل: 91] بإسكان اللام فلا أعرف ما قال ثابت إلا أن تكون لغة العرب أيضًا بفتح اللام.

فصل:

معنى قوله: ("أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ") أي: يوم تنحر فيه الأضاحي في سائر الأقطار والهدايا بمنى.

وقوله: (قَالَ مُحَمَّدٌ: وأحسبه قال: "وأعراضكم")، محمد هو ابن سيرين.

وقوله: ("أَوْعَى لَهُ مِنْ يَعْضِ مَن سَمِعَهُ") كذا هو أوعى، وفي رواية: أرعى، قيل: وهو الأشبه؛ لأن المقصود الرعاية له والامتثال، ويحتمل أن يريد بأوعى: أحفظ للقيام وبحدوده عاملًا به.

وقوله: ("وَرَجَبُ مُضَرَ الذِي بَيْنَ جُمَادى وَشَعْبَانَ") قال الداودي: هو تأكيد، وقال بكر بن العلاء: إنما قال ذلك؛ لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجبًا، وكان مضر تحرم رجبًا نفسه؛ فلذا قال:"الذي بين جمادى وشعبان".

(1)

"غريب الحديث" 1/ 293.

ص: 613

وقوله: "مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ" كذا عدها من سنين، وفيه خلاف سلف في موضعه، وحكى ابن قتيبة عن قوم إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وهو عجيب من إنكارهم رجبًا.

ص: 614

‌6 - باب الأَضْحَى وَالْمَنْحَرِ بِالْمُصَلَّى

5551 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ يَنْحَرُ فِي الْمَنْحَرِ. قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: يَعْنِي مَنْحَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 982 - فتح 10/ 9]

5552 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى. [انظر:

982 -

فتح 10/ 9]

ذكر فيه حديث نَافِعٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ يَنْحَرُ فِي المَنْحَرِ. قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: يَعْنِي مَنْحَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابن عُمَرَ أَخْبَرَهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ بِالْمُصَلَّى.

إنما هذا من سنة الإمام خاصة أن يذبح أضحيته أو ينحر بالمصلى، وعلى ذلك جرى العمل في أمصار المسلمين، وكان ابن عمر يذبح بالمصلى ولم ير ذلك مالك لغير الإمام.

قال المهلب: وإنما يذبح الإمام في المصلى ليراه الناس فيذبحون على يقين بعد ذبحه ويشاهدون صفة ذبحه فإنه مما يحتاج فيه إلى البيان وليبادر الذبح بعد الصلاة كما قال في الخطبة: "أول ما نبدأ به أن نصلي ثم ننصرف فننحر"

(1)

، قال مالك فيما رواه ابن وهب: إنما يذبح الإمام في المصلى لئلا يذبح أحد قبله.

وقال أبو مصعب: من لم يبرز أضحيته للمصلى فلا يأتم به في الذبح، وفي كتاب محمد: إن ذبح قبله في وقت لو ذبح الإمام

(1)

سلف برقم (965) من حديث البراء.

ص: 615

بالمصلى، لكان هذا ذبح بعده لم نجزه، ويذبح الإمام بعد فراغ الخطبة للاتباع، وهو مذهب مالك، كما قاله ابن التين قال: ووقع للقاضي أبي الوليد وقت ذبح الإمام بعد السلام من الصلاة، قال: ولعله يريد وبعد الخطبة.

ص: 616

‌7 - باب فِي أُضْحِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، وَيُذْكَرُ: سَمِينَيْنِ

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ قَالَ: كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ.

5553 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ وَأَنَا أُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ. [5554، 5558، 5564، 5565، 7399 - مسلم: 1966 - فتح 10/ 9]

5554 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ.

تَابَعَهُ وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَحَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ. [انظر: 5553 - مسلم: 1966 - فتح 10/ 9]

5555 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«ضَحِّ أَنْتَ بِهِ» . [انظر: 3300 - مسلم: 1965 - فتح 10/ 9]

وقال يحيى بن سعيد: سمعت أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ قَالَ: كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ المُسْلِمُونَ يُسَمِّنُونَ.

ثم ساق حديث أنس رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ وَأَنَا أُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ.

وحديث عبد الوهاب عن أيوب، عن أبي قلابة، واسمه عبد الله بن زيد بن عمرو بن ناتل الجرمي جرم بن ربان أخي تغلب وسلخ ويزيد أولاد حلوان. تابعه وهيب عن أيوب، وقال إسماعيل وحاتم بن وردان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس.

ص: 617

ثم ساق حديث أبي الخير واسمه مرثد بن عبد الله اليزني، عن عقبة بن عامر أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ غَنَمًا يَقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا، فَبَقِيَ عَتُودٌ فَذَكَرَهُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ضَحِّ بِهِ أَنْتَ".

حديث عقبة سلف قريبًا، وحديث أنس الثاني مطابق لما ترجم عليه.

وأبو أمامة بن سهل ادعى ابن التين أنه من كبار التابعين وولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس له حديث.

قلت: سماه رسول الله وبرك عليه وكناه واسمه أسعد وهو أحد الستة من الصحابة من يكنى بأبي أمامة.

قوله: (تابعه وهيب عن أيوب) هذِه المتابعة أخرجها الإسماعيلي عن الحسن بن سليمان، ثنا الزعفراني، ثنا عفان، ثنا وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة.

وحديث حاتم قال أبو بكر: أنا الساجي والمنيعي، قال: ثنا صالح بن هاشم بن وردان، ثنا أبي، ثنا أيوب، به. وحديث إسماعيل رواه أبو بكر أيضًا عن محمد بن أبي علي، ثنا الحسن الحلواني، ثنا عفان، ثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا أيوب به.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى بكبشين أحدهما عنه وعن أهل بيته والثاني عن أمته

(1)

، وروي عنه من طرق متواترة أنه ضحى بكبشين كما قاله ابن بطال

(2)

.

(1)

رواه الدارقطني 4/ 285 من حديث أنس. وانظر: "نصب الراية" 4/ 215 - 216، "البدر المنير" 9/ 299، "الإرواء" 4/ 349 - 354.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 18.

ص: 618

وروى ابن وهب عن حيوة، عن أبي صخر عن ابن قسيط عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد وينظر في سوادٍ ويبرك في سواد ثم ذبحه وقال:"بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمته" ثم ضحى به

(1)

، ذكره ابن المنذر.

وذكر ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم ويعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو مولى المطلب، عن المطلب بن عبد الله، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بكبشه فذبحه وقال:"بسم الله والله أكبر اللهم عني وعن من لم يضح من أمتي"

(2)

.

وذكر الطحاوي حديث عائشة رضي الله عنها وحديث جابر، وذكر مثله من حديث أبي سعيد الخدري

(3)

.

وهذِه الآثار مبينة لمعنى حديث أنس ومفسرة له، واختلافها يدل على أن الأمر في ذلك واسع فمن أراد أن يضحي عن نفسه باثنين وثلاثة فهو أزيد في أجره إذا أراد بذلك وجه الله وإطعام المساكين، وذهب مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور

(1)

رواه مسلم (1967) كتاب: الأضاحي، باب: استحباب الضحية. عن هارون بن معروف، عن عبد الله بن وهب، به.

(2)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 177، والحاكم 4/ 229 كلاهما من طريق ابن وهب، به.

وفيهما (عن المطلب بن عبد الله، وعن رجل من بني سلمة).

ورواه أبو داود (2810)، والترمذي (1521)، وأحمد 3/ 362؛ كلهم من طريق يعقوب بن عبد الرحمن به. وفيهم (عن المطلب بن عبد الله، عن جابر). وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني في "الإرواء"(1138).

(3)

"شرح معاني الآثار" 4/ 176 - 178.

ص: 619

إلى أنه يجوز للرجل أن يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، وروي مثله عن أبي هريرة وابن عمر واحتج أحمد بذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن أمته.

قال ابن المنذر: وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة وأصحابه.

قال الطحاوي: لا يجوز أن يضحي بشاة واحدة عن اثنين، وقالوا: إن ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذبح عنه وعن أمته منسوخ أو مخصوص، ومما يدل على ذلك أنه لو كان الكبش يجزئ عن غير واحد لا وقت ولا عدد في ذلك كانت البدنة والبقرة أحرى أن تكونا كذلك، ولما رأينا النبي صلى الله عليه وسلم وقت في البدن والبقر فنحر في الحديبية كل واحد عن سبعة دل أنه لا يجزئ في البقرة والبدنة عن أكثر ممن ذبحت عنه يومئذٍ وذلك سبعة، فالشاة أحرى بذلك

(1)

.

قال ابن المنذر: والقول الأول أولى للثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن بطال: والنسخ لا يكون بالدعوى إلا بالنقل الثابت، واستعمال السنن أولى من إسقاط بعضها ولا سلف للكوفيين في أقوالهم بالنسخ في ذلك

(2)

.

فصل:

سلف حديث عقبة كما نبهنا عليه، والعتود: الجذع من المعز.

قال ابن بطال: وهو ابن خمسة أشهر

(3)

، وثقل ابن التين عن أهل اللغة: إنه الصغير من أولاد المعز إذا قوي ورعى وأتى عليه حول فهو عتود وأعتد وعتدان وعدان على الأصل.

(1)

"شرح معاني الآثار" 4/ 181.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 19.

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 19.

ص: 620

وعبارة الداودي: إنه الجذع، والحديث خاص لعقبة لا يجوز لغيره إلا أبا بردة بن دينار الذي رخص له الشارع مثله دون غيرهما

(1)

كما سلف.

وجزم ابن التين بأنه منسوخ بحديث أبي بردة وقال: أو يكون سن العتود فوق الجذع خلافًا لما سلف عن الداودي.

فصل:

الأملح: الأغبر وهو الذي فيه سواد وبياض وعبارة "العين" الملحة والملح بياض يشوبه شيء من سواد، وكبش أملح وعنب ملاحي لضرب منه في حبه طول

(2)

.

وعبارة "الصحاح" وابن فارس: الأملح: الأبيض يخالط بياضه سواد، وقد أملح الكبش إملاحًا صار أملح

(3)

. وعبارة ابن الأعرابي: أنه النقي البياض. وقال أبو عبيد عن الكسائي وأبى زيد أنه الذي فيه بياض وسواد ويكون البياض أكثر.

فصل:

وقول (سَهْلٍ: كُنَّا نُسَمِّنُ الأُضْحِيَّةَ بِالْمَدِينَةِ)، قال ابن عباس في قوله تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32] قال في الاستسمان والاستعظام والاستحسان، ونقل ابن التين عن ابن القرطبي أنه كان يكره أن تسمن الأضحية لئلا يتشبه باليهود، وفيه بعد لا جرم.

(1)

ورد في هامش الأصل: وزيد بن حارثة في أبي داود.

(2)

"العين" 3/ 244 - 245.

(3)

"الصحاح" 1/ 407، "مجمل اللغة" 3/ 839.

ص: 621

قال الداودي: وقول أبي أمامة أحسن.

فصل:

ذهب أبو حنيفة إلى جواز التضحية بما حملت به البقرة الإنسية من الثور الوحشي وبما حملت العنز من الوعل. وقال أبو ثور: يجوز إذا كان منسوبًا إلى الأنعام.

وفي كتاب الصيد للطحاوي عن أبي حنيفة قيل له: أتضحي ببقرة من الوحش أو ظبي أو حمار؟ قال: لا يجزئ شيء من هذا في أضحية ولا في غيرها، قيل: فإن كان الحمار الوحشي قد ألف؟ قال: لا، وكذا قال أبو يوسف ومحمد، وكذا قاله الثوري، وقال مالك: الظبي ليس من الأنعام، وأجاز الحسن بن حي التضحية ببقرة وحشية عن سبعة، وبالظبي أو الغزال عن واحد.

ولما ذكر ابن حزم حديث: "مثل المهجر كالمهدي بدنه"

(1)

، إلى آخره قال: فيه جواز هدي دجاجة وعصفور وتقريبهما وتقريب بيضة، والأضحية بلا شك، وفيه تفضيل الأكبر فالأكبر جنسًا ومنفعةً للمساكين

(2)

.

فرع:

عند مالك: أن النعجة والتيس والعنز أفضل من الإبل والبقر في الضحية كما أسلفناه عنه، وخالفه أبو حنيفة والشافعي فرأيا الإبل أفضل ثم البقر ثم الضأن ثم المعز.

(1)

سلف برقم (929).

(2)

"المحلى" 7/ 371.

ص: 622

‌8 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بُرْدَةَ: «ضَحِّ بِالْجَذَعِ مِنَ الْمَعَزِ، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ»

5556 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما -قَالَ: ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ لَهُ: أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنَ الْمَعَزِ. قَالَ:«اذْبَحْهَا وَلَنْ تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ» . ثُمَّ قَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَذْبَحُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» [انظر: 951 - مسلم: 1961 - فتح 10/ 12].

تَابَعَهُ عُبَيْدَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ. وَتَابَعَهُ وَكِيعٌ، عَنْ حُرَيْثٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَقَالَ عَاصِمٌ وَدَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ. وَقَالَ زُبَيْدٌ وَفِرَاسٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: عِنْدِي جَذَعَةٌ. وَقَالَ أَبُو الأَحْوَصِ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ: عَنَاقٌ جَذَعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: عَنَاقٌ جَذَعٌ، عَنَاقُ لَبَنٍ.

5557 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: ذَبَحَ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَبْدِلْهَا» . قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي إِلاَّ جَذَعَةٌ -قَالَ شُعْبَةُ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ:- هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ قَالَ: «اجْعَلْهَا مَكَانَهَا، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» . [انظر: 951 - مسلم: 1961 - فتح 10/ 12].

وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ:

عَنَاقٌ جَذَعَةٌ.

ذكر فيه حديث مُطَرِّفٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: ضَحَّى خَالٌ لِي يُقَالُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنَ المَعَزِ. قَالَ:"اذْبَحْهَا وَلَا تَصْلُحَ لِغَيْرِكَ". الحديث.

ص: 623

تَابَعَهُ عُبَيْدَةُ -يعني ابن معتب الكوفي- عَنِ الشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ. وَتَابَعَهُ وَكِيعٌ، عَنْ حُرَيْثٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ. وَقَالَ عَاصِمٌ وَدَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ. وَقَالَ زُبَيْدٌ وَفِرَاسٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: عِنْدِي جَذَعَةٌ. وَقَالَ أَبُو الأَحْوَصِ: ثَنَا مَنْصُورٌ: عَنَاقٌ جَذَعَةٌ. وَقَالَ ابن عَوْنٍ: عَنَاقٌ جَذَعٌ، عَنَاقُ لَبَنٍ.

حدثني مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ -أي واسمه وهب بن عبد الله السوائي- قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا جَذَعَةٌ قَالَ شُعْبَةُ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ قَالَ: "اجْعَلْهَا مَكَانَهَا، وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ".

وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ: عَنَاقٌ جَذَعَةٌ.

الشرح:

تعليق عاصم أخرجه النسائي عن عثمان بن عبد الله، عن عفان، عن شعبة، عن داود بن أبي هند، عن عاصم، عن الشعبي به

(1)

.

وتعليق زبيد وفراس أخرجهما البخاري نفسه عن آدم، ثنا شعبة، ثنا زبيد، عن الشعبي

(2)

. وثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن فراس، عن الشعبي فذكره

(3)

.

(1)

عزاه المري في "التحفة" 2/ 474 للنسائي في الصلاة عن عثمان بن عبد الله، عن عفان، عن شعبة، عن داود، عن الشعبي به. ووصله أيضًا مسلم (1961/ 5) من طريق هشيم، عن داود به، وليس فيه ذكر عاصم. وأما تعليق عاصم فوصله مسلم (1961/ 8) من طريق عبد الواحد بن زياد، عن عاصم به. وانظر:"الفتح" 10/ 17.

(2)

سبق برقم (965) كتاب: العيدين، باب: الخطبة بعد العيد.

(3)

سيأتي برقم (5563) كتاب: الأضاحي، باب: من ذبح قبل الصلاة أعاد.

ص: 624

تعليق أبي الأحوص أخرجه أبو داود عن مسدد عنه

(1)

وأخرجه البخاري عن عثمان، ثنا جرير، عن منصور، عن الشعبي باللفظ الذي ذكر معلقًا عن أبي الأحوص: يا رسول الله إن عندنا عناقًا لنا جذعة

(2)

. الحديث.

وتعليق ابن عون أخرجه النسائي عن عثمان بن عبد الله، عن عثمان، عن شعبة، عن ابن عون

(3)

.

وتعليق (أيوب)

(4)

أخرجه البخاري عن علي بن عبد الله، ثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب

(5)

.

والعلماء مجمعون على القول بظاهر هذا الحديث، وقد سلف الكلام فيه واضحًا، والعناق من المعز ابن خمسة أشهر أو نحوها، كما قاله ابن بطال؛ قال: وهي جذعة ولا يجوز في الضحايا بإجماع كما سلف، وإنما يجوز من المعز الثني فما فوقه، وهي ثني إذا تم له سنة ودخل في الثانية، قال: وإنما يجوز الجذع من الضأن فقط وهو ابن سبعة أشهر، قيل: إذا دخل فيها، وقيل: إذا أكملها، وعلامته أن يرقد صوف ظهره بعد قيامه وإذا كان كذلك قالت العرب إنه قد أجذع ولا يجوز من سائر الأزواج الثمانية من الأنعام إلا الثني فما فوق، فثني البقرة إذا كمل له سنتان ودخل في الثالثة، وثني الإبل إذا كمل له خمس سنين ودخل في السادسة

(6)

.

(1)

أبو داود (2800).

(2)

سبق برقم (955) كتاب: العيدين، باب: الأكل يوم النحر.

(3)

انظر: "تحفة الأشراف" للمزي 2/ 474. وفيه عثمان بن عبد الله، عن عفان

(4)

من (غ).

(5)

سيأتي قريبا برقم (5561) باب: من ذبح قبل الصلاة أعاد.

(6)

"شرح ابن بطال" 6/ 20 - 21.

ص: 625

فصل:

قوله: (إِنَّ عِنْدِي دَاجِنًا جَذَعَةً مِنَ المَعَزِ) قال ابن السكيت: شاة في داجن وراجِن إذا ألفت البيوت واستأنست قال: ومن العرب من يقرأها بالهاء، وكذلك غير الشاة

(1)

.

وقوله: (عندي عناق لبن)، قدمنا عن الداودي أنه قال: العناق التي استحقت أن تحمل دون الثنية شيئًا، والذي ذكر أهل اللغة أنها الأنثى من ولد المعز.

وقال الداودي: يطلق العناق على الذكر والأنثى، وبين بقوله:(لبن) أنها أنثى (من ولد المعز)

(2)

. فغلط الداودي في اللغة وفي تأويل الحديث؛ لأن معنى (عناق لبن): أي جذعة ترضع أمها لم يرد أنها ذاتِ لبن فتكون ثنية أو فوق ذلك.

وقوله: (عَنَاقٌ جَذَعٌ) نحو قول الداودي: أن العناق تقع على الذكر إلا أن أهل اللغة على خلاف ذلك.

(1)

انظر: "الصحاح" 5/ 2111.

(2)

من (غ).

ص: 626

‌9 - باب مَنْ ذَبَحَ الأَضَاحِيَّ بِيَدِهِ

5558 -

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ. [انظر: 5553 - مسلم: 1966 - فتح 10/ 18]

ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ.

الشرح:

الصفاح بكسر الصاد يعني جانبي وجهها، وعبارة الداودي: الصفاح جانب الوجه ففيه وضع القدم.

وقال غيره: أراد صفح العنق أي ناحيته.

وفيه: أن الاختيار والسنة للمرء أن يذبح أضحيته بيده، والعلماء على استحبابه فإن كان به عذر جاز أن يستنيب بغيره؛ لأن الأعذار تسقط معها أحكام الاختيار، فإن استناب مع القدرة أتى مكروهًا وأجزأه.

قال ابن التين: وفيما علق عن الشيخ أبي حفص فإن ترك أو ذبح من غير ضرورة لم يجزه وأعاد.

قلت: هو غريب، قال (أصحاب السبيعي)

(1)

: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبحون ضحاياهم بأيديهم، قال مالك: وذلك من التواضع لله وأن رسوله كان يفعله فإن أمر

(2)

بذلك مسلمًا أجزأته بما صنع وكذلك

(1)

كذا بالأصول، وفي "شرح ابن بطال" 6/ 21: أبو إسحاق السبيعي.

(2)

في الأصل: أمره، والمثبت هو الملائم للسياق.

ص: 627

الهدي، وقد كان أبو موسى الأشعري يأمر بناته أن يذبحن نسائكهن بأيديهن (1).

وروى الزهري: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة أو لفاطمة: "اشهدي نسيكتك فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها"(2).

فصل:

وترجم له أيضًا باب وضع القدم على صفح الذبيحة، ومعنى ذلك -والله أعلم- ليقوى على الإجهاز عليها ويكون أسرع لموتها لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"(3) وليس ذلك من تعذيبها المنهي عنه إذ لا يقدر على ذبحها إلا (بتفاقها)(4).

وقال ابن القاسم: الصواب أن يضجعها على شقها الأيسر على ذلك مضى عمل المسلمين فإن جهل فأضجعها على الشق الآخر لم يحرم أكلها.

فصل:

وترجم عليه أيضًا باب التكبير عند الذبح، قال المهلب: وهو مما أمر الله به لقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] وهذا [على](5) الندب والاستنان، ومعناه إحضار النية لله لا لشيء من العبادات التي كانت الجاهلية تذبح لها، وكان الحسن البصري يقول

(1) رواه عبد الرزاق 4/ 389 (7169).

(2)

رواه عبد الرزاق 4/ 388 (7168).

(3)

رواه مسلم (1955) كتاب: الصيد، باب: الأمر بإحسان الذبح. من حديث شداد بن أوس.

(4)

كذا في الأصول، "شرح ابن بطال" 6/ 22، وفي "عمدة القاري" 17/ 277:(بتعافها).

(5)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 628

عند ذبح أضحيته: بسم الله والله أكبر، هذا منك ولك، اللهم تقبل من فلان. وكره أبو حنيفة أن يذكر مع اسم الله غيره بأن يقول: اللهم تقبل من فلان عند الذبح، ولا بأس بذلك قبل التسمية وقبل الذبح.

وقال ابن القاسم: ليقل الذابح: باسم الله والله أكبر، وليس بموضع صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسبيح ولا يذكر هنا إلا الله وحده

(1)

، وهو قول الليث. وكان ابن عمر يقول: باسم الله والله أكبر. قال ابن القاسم: فإن سمى الله أجزأه وإن شاء قال: اللهم تقبل منى، وأنكر مالك قولهم: اللهم منك وإليك

(2)

.

وقال الشافعي: التسمية على الذبيحة باسم الله فإن زاد بعد ذلك شيئًا من ذكر الله أو صلى على محمد صلى الله عليه وسلم لم أكرهه، فإن قال: اللهم تقبل منى، فلا بأس

(3)

.

وقال محمد بن الحسن: إن ذبح شاة فقال: الحمد لله أو قال: سبحان الله والله أكبر يريد بذلك التسمية فلا بأس به. وهذا كله تسمية وقال: وإن قال الحمد لله، يريد أن يحمده ولا يريد التسمية فلا يجزئ شيء عن التسمية ولا يؤكل، وبه قال أبو ثور.

فرع:

الأولى عندنا: أن المرأة تُوَكِّل ولا تباشر الذبح بنفسها ويجوز استنابة الذمي والمرأة الحائض. وفي "المدونة": أنه إذا استناب ذميًّا لم يجزه

(4)

، وأجازه أشهب وقيل: رواه عن مالك.

(1)

"المدونة" 1/ 429.

(2)

المرجع السابق.

(3)

"الأم" 2/ 204.

(4)

في "المدونة" 1/ 430. قال مالك: إن ذبح النصراني أضحية المسلم بأمر المسلم، أعاد أضحيته.

ص: 629

‌10 - باب مَنْ ذَبَحَ أضَحِيَّةَ غَيْرِهِ

وَأَعَانَ رَجُلٌ ابن عُمَرَ فِي بَدَنَتِهِ. وَأَمَرَ أَبُو مُوسَى بَنَاتِهِ أَنْ يُضَحِّينَ بِأَيْدِيهِنَّ.

5559 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَرِفَ وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ:«مَا لَكِ؟ أَنَفِسْتِ؟» . قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللهُ على بَنَاتِ آدَمَ، اقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» . وَضَحَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ. [انظر: 294 - مسلم: 1211 - فتح 10/ 19]

وأعان رجل ابن عمر في بدنته، وأمر أبو موسى بناته أن يضحين بأيديهن.

ثم ذكر حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَرِفَ

الحديث السالف، وفي آخره: وَضَحَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ.

الشرح:

فيه -كما قال المهلب- حجة لرواية ابن عبد الحكم، عن مالك: أنه من ذبح لرجل أضحيته بغير أمره من يقوم بخدمته مثل الولد أو بعض عياله وذبحها على وجه الكفاية أنها تجزئ عنه كما ذبح الشارع عن أزواجه بالبقر.

قال الأبهري: إذا ذبحها من يقوم بأمره كالأخ والوكيل فيجوز؛ لأنه نائب عنه وذبح عنه.

واختلفوا إن أمر بذبحها غير مسلم فكره ذلك علي وابن عباس وجابر، ومن التابعين ابن سيرين والحسن والشعبي وربيعة وقاله

ص: 630

الليث، وقال مالك: أرى أن يبدلها بأخرى حتى يذبحها هو بنفسه صاغرًا؛ فإنَّ ذلك من التواضع، وكان صلى الله عليه وسلم يذبح بنفسه وكره ذلك الثوري والشافعي والكوفيون، وأشهب صاحب مالك كما سلف، فإن وقع أجزأ ذلك عندهم وأجاز ذلك عطاء، وحجة هذِه المقالة أن الله أباح لنا ذبائحهم وإذا كان لنا أن نولي ذبائحنا من تحل لنا ذبيحته من المسلمين كان جميع من حلت لنا ذبيحته في معناه في أنه يقوم مقامه ولا فرق بين ذلك.

قال ابن المنذر: ومن كرهه فإنما هو على وجه الاستحباب لا على وجه التحريم.

قال مالك: فإن ذبحها مسلم أجنبي بغير أمره لم يجز عنه وهو ضامن لها، وأجاز ذلك أبو حنيفة والشافعي، وحجة من أجازها أن من أصولهم أن الضحية تجب عندهم بالشراء قياسًا على ما اتفقوا عليه من الهدي إذا بلغ محله فذبحه ذابح بغير أمره يجزئ عنه؛ لأنه شيء خرج من ماله لله، فكأن الذابح ذبحه للمساكين المستحقين له، وأما مالك فالهدي عنده مخالف للضحايا فصحت الضحايا عنده بالذبح لا بالشراء؛ لأنه يجيز للمضحي أن يبدل أضحيته بأفضل منها وأسمن فهي مفتقرة إلى نية، فكذلك لم يجز أن يذبحها أحد عنه بغير أمره. وقول مالك أولى بالحديث -والله تعالى أعلم- وليس لأحد عنده أن يبدل هديه.

فصل:

وأمرُ أبي موسى بناته بالتضحية ظاهر في جواز ذبيحة المرأة، هو ما في "المدونة" وكرهه عند محمد.

ص: 631

‌11 - باب الذَّبْحِ بَعْدَ الصَّلَاةِ

5560 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي زُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ مِنْ يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ نَحَرَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ يُقَدِّمُهُ لأَهْلِهِ، لَيْسَ مِنَ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ» . فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ، وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّةٍ. فَقَالَ:«اجْعَلْهَا مَكَانَهَا، وَلَنْ تَجْزِيَ -أَوْ تُوفِىَ- عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» . [انظر: 951 - مسلم: 1961 - فتح 10/ 19]

ذكر فيه حديث البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ فِي يَوْمِنَا هذا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ .. " الحديث، آخره: وَلَنْ تَجْزِيَ -أَوْ تُوفِيَ- عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ".

ثم ترجم عليه:

ص: 632

‌12 - باب مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَعَادَ

5561 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ» . فَقَالَ رَجُلٌ: هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ -وَذَكَرَ مِنْ جِيرَانِهِ، فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَذَرَهُ- وَعِنْدِي جَذَعَةٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ. فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَا أَدْرِي بَلَغَتِ الرُّخْصَةُ أَمْ لَا، ثُمَّ انْكَفَأَ إِلَى كَبْشَيْنِ- يَعْنِي: فَذَبَحَهُمَا- ثُمَّ انْكَفَأَ النَّاسُ إِلَى غُنَيْمَةٍ فَذَبَحُوهَا. [انظر: 954 - مسلم: 1962 - فتح 10/ 20]

5562 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ، سَمِعْتُ جُنْدَبَ بْنَ سُفْيَانَ الْبَجَلِيَّ قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ» . [انظر: 985 - مسلم: 1960 - فتح 10/ 20]

5563 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالَ:«مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، فَلَا يَذْبَحْ حَتَّى يَنْصَرِفَ» . فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَعَلْتُ. فَقَالَ:«هُوَ شَيْءٌ عَجَّلْتَهُ» . قَالَ: فَإِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ، آذْبَحُهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ، ثُمَّ لَا تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ» . قَالَ عَامِرٌ: هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتِهِ. [انظر: 951 - مسلم: 1961 - فتح 10/ 20]

ثم ساقه فيه وساق حديث أنس السالف.

وحديث جُنْدَبِ بْنٍ سُفْيَانَ البَجَلِيَّ قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: "مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرى، وَمَن لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ".

ولا شك أن سنة الذبح بعد الصلاة، وأجمع العلماء أن من ذبح قبل الصلاة فعليه الإعادة؛ لأنه ذبح قبل وقته.

ص: 633

واختلفوا في من ذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام، فذهب أبو حنيفة والثوري والليث إلى أنه يجوز ذلك، واحتجوا بحديث البراء رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر"، وبقول جندب بن سفيان المرفوع:"مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَليُعِدْ". قالوا: فإذا حل للإمام الذبح بتمام الصلاة حل لغيره ولا معنى لانتظاره.

وقال مالك والأوزاعي والشافعي: لا يجوز لأحد قبل الإمام -أي: أو مقدار الصلاة والخطبة كما سلف- لحديث ابن جريج عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر فأمرهم أن يعيدوا.

(1)

وقال الحسن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] إنها نزلت في قوم نحروا قبل أن ينحر النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ودفع الطحاوي الحديث المذكور بأن قال: رواه حماد بن سلمة عن أبي الزبير، عن جابر أن رجلاً ذبح قبل أن يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذبح أحد قبل الصلاة، ففي هذا الحديث أن النبي إنما قصد إلى الصلاة لا قبل ذبحه، ولا يجوز أن ينهاهم عن الذبح قبل أن يصلي وهو يريد إعلامهم إباحة الذبح لهم بعدما يصلي وإلا لم يكن لذكره الصلاة معنى، قالوا: ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء: "إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم نرجع فننحر" فأخبر أن النسك يوم النحر إنما هو الصلاة ثم الذبح بعدها، فدل ذلك على أن ما يحل به الذبح هو الصلاة لا نحر الإمام الذي يكون بعدها، وأنَّ حكم النحر قبل الصلاة خلاف حكمه بعدها.

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

"تفسير الطبري" 11/ 378.

ص: 634

وأما من طريق النظر فإنا رأينا الإمام لو لم ينحر أصلاً لم يكن ذلك بمسقط عن الناس النحر ولا مانع لهم منه ولو أن إمامًا تشاغل يوم النحر بقتال عدوٍ أو غيره فلم ينحر أن لغيره

(1)

ممن أراد التضحية أن يضحي، فإن قال: ليس له أن يضحي خرج من قول جميع الأمة وإن قال: لهم أن يضحوا بعد زوال الشمس لذهاب وقت الصلاة، فدل أن ما حل به النحر ما كان وقت صلاة العيد إنما هو الصلاة لا نحر الإمام، ألا ترى أن الإمام لو نحر قبل أن يصلي لم يجزه ذلك، وكذلك سائر الناس فكان حكم الإمام والناس في الذبح قبل الصلاة سواء في أن لا يجزئهم فالنظر على ذلك أن يكون الإمام وسائر الناس أيضًا سواء في الذبح بعد الصلاة أنه يجزئهم كلهم

(2)

.

قال المهلب: إنما كره الذبح قبل الإمام -والله أعلم- لئلا يشتغل الناس عن الصلاة ويحرمها المساكين مع المشتغلين بالذبح، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بإخراج العواتق وغيرهن لشهود بركة دعوة المسلمين.

واختلفوا في ذبح أهل البادية، فقال مالك: تحرى أقرب أئمة القرى إليهم فإن أخطأوا ونحروا قبله أجزأهم. وقال عطاء: يذبح أهل القرى بعد طلوع الشمس. وقال الشافعي: وقتها كما في حق أهل الحاضرة مقدار ركعتين وخطبتين كما سلف، وأما صلاة من بعده فليس فيها وقت، وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة وأصحابه: من ذبح من أهل السواد بعد طلوع الفجر أجزأه؛ لأنه ليس عليهم صلاة العيد، وهو قول الثوري وإسحاق

(3)

.

(1)

في الأصل: لغيرهم.

(2)

"شرح معاني الآثار" 4/ 172 - 174.

(3)

انظر: "الاستذكار" 15/ 154.

ص: 635

فصل:

قوله في حديث البراء رضي الله عنه: (خير من مسنة). قال الداودي: هي التي أسقطت أسنانها للبدل ونحوه. قال الجوهري: الثني يلقي ثنيته، ويكون ذلك في الظلف والحافر في السنة الثالثة، وفي الخف في السادسة

(1)

، ونحوه. قال ابن حبيب: في الغنم الثني ابن سنتين ودخل في الثالثة. وقال ابن فارس: إذا دخل ولد الشاة في السنة الثالثة فهو ثني

(2)

.

واختلف في الثني من البقر فقيل ابن ثلاث مثل ما تقدم عن الجوهري، وقال ابن حبيب: هو ماله أربع، وقال ابن مُزَين: هو ماله سنتان.

وقوله: (ثُمَّ انْكَفَأَ إلى كَبْشَيْنِ) -يعني: فذبحهما- ثم انكفأ الناس)، فيه حجة لمالك أن الذبح إنما يكون بعد ذبح الإمام.

وقوله: (فَإِنَّ عِنْدِي جَذَعَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ مُسِنَّتَيْنِ)، و (قال عامر: هي خير نسيكته). قال ابن التين: ذكر ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واحتج به الشيخ أبو الحسن علَى أنَّ مَن ذبح قبل الصلاة لا يجوز له بيعها؛ لأنه سماه نسيكة، وهذا قد سلف عنه أيضًا، وجاء:"خير نسيكتك"

(3)

ووجهه وإن كانت الأولى شاة لحم؛ لأنه نوى بها النسك وإن لم تجز عنه، والثانية أجزأت فكانت خيرهما. وفي رواية الشافعي عن عبد الوهاب، قال داود: أظن أنها ماعز، وقال الشافعي: هي ماعزة وإنما يقال للضانية: رَخِل

(4)

.

(1)

"الصحاح" 6/ 2295 مادة: (ثني).

(2)

"مجمل اللغة" 1/ 164 مادة: (ثني).

(3)

رواه مسلم (1961/ 5) كتاب: الأضاحي، باب: وقتها.

(4)

"السنن" للشافعي 2/ 198.

ص: 636

‌13 - باب وَضْعِ الْقَدَمِ عَلَى صَفْحة الذَّبِيحَةِ

.

5564 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ على صَفْحَتِهِمَا، وَيَذْبَحُهُمَا بِيَدِهِ. [انظر: 5553 - مسلم: 1966 - فتح 10/ 22]

تقدم حديثه قريبًا، وكذا باب: التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ، تقدم بحديثه أيضًا.

ص: 637

‌14 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الذَّبْحِ

5565 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا. [انظر: 5553 - مسلم: 1966]

ص: 638

‌15 - باب إِذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ لِيُذْبَحَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ شَيْءٌ

5566 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَجُلاً يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَيَجْلِسُ فِي الْمِصْرِ، فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنَتُهُ، فَلَا يَزَالُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُحْرِمًا حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ. قَالَ: فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَقَالَتْ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِمَّا حَلَّ لِلرِّجَالِ مِنْ أَهْلِهِ، حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ. [انظر: 1696 - مسلم: 1321 - فتح 10/ 23]

حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَا عَبْدُ اللهِ، أنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ أَتَى عَائِشَةَ، فَقَالَ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَجُلًا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إِلَى الكَعْبَةِ، وَيَجْلِسُ في المِصْرِ، فَيُوصِي أَنْ تُقَلَّدَ بَدَنتُهُ، فَلَا يَزَالُ مِنْ ذَلِكَ اليَوْمِ مُحْرِمًا حَتَّى يَحِلَّ النَّاسُ. قَالَ: فَسَمِعْتُ تَصْفِيقَهَا مِنْ وَرَاءِ الحِجَابِ فَقَالَتْ: لَقَدْ كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَبْعَثُ هَدْيَهُ إِلَى الكَعْبَةِ، فَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شيء مِمَّا حَلَّ لِلرِّجلِ مِنْ أَهْلِهِ، حَتَّى يَرْجِعَ النَّاسُ.

هذا الحديث فيه رد على من قال: أن من بعث بهديه إلى الكعبة لزمه إذا قلده الإحرام ويجتنب ما يجتنبه الحاج حتى ينحر هديه، وروي هذا عن ابن عباس وابن عمر، وهو قول عطاء بن أبي رباح وأئمة الفتوى على خلاف هذا القول، وقد تقدم بيان الحجة لهم في ذلك في كتاب الحج. قال ابن بطال: وهذا الحديث يرد ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى منكم هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي"

(1)

.

(1)

رواه مسلم (1977) كتاب: الأضاحي، باب: نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة، وهو مريد التضحية، أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئًا.

ص: 639

وقال بظاهر حديث أم سلمة سعيد بن المسيب وأحمد وإسحاق، وقال الليث: قد جاء هذا الحديث وأكثر الناس على خلافه.

وقال الطحاوي: حديث عائشة أحسن مجيئًا من حديث أم سلمة؛ لأنه جاء مجيئًا متواترًا، وحديث أم سلمة قد طُعن في إسناده، وقيل: إنه موقوف على أم سلمة، رواه ابن وهب وعثمان بن عمر، عن مالك، عن عمر بن مسلم، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة ولم يرفعه.

وأما من طريق النظر فرأينا الإحرام يحظر أشياء مما كانت حلالًا قبله منها: الجماع والقبلة وقص الأظفار وحلق الشعر والصيد، فكل هذِه الأشياء تحرم بالإحرام وأحكامها مختلفة، وذلك أن الجماع يفسد الإحرام ولا يفسده ما سوى ذلك.

ثم رأينا من دخلت عليه أيام العشر لا يحرم عليه الجماع وهو أغلظ ما يحرم به الإحرام، فكان أحرى أن لا يمنع ما دون ذلك

(1)

.

قلت: حديث أم سلمة أخرجه مسلم في "صحيحه" مرفوعًا، وقال الحاكم في "مستدركه": إنه على شرط الشيخين

(2)

.

وذهب إليه مع من سلف: الشافعي وأبو ثور وأهل الظاهر، فمن دخل عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يمس من شعره ولا من أظفاره شيئًا. وفي رواية في مسلم:" فلا يمس من شعره وبشره شيئًا"

(3)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 29، "شرح معاني الآثار" 4/ 181 - 182.

(2)

الحاكم 4/ 220.

(3)

مسلم (1977/ 39).

ص: 640

ونقل ابن المنذر عن مالك والشافعي أنهما لا يرخصان في أخذ الشعر والأظفار لمن أراد أن يضحي ما لم يحرم، غير أنهما يستحبان الوقوف عن ذلك عند دخول العشر إذا أراد أن يضحي، ورأى الشافعي أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر اختيار.

وقال أبو ثور: هو إن أراد المرء أن يضحي. ورخص فيه الزهري لغير الحاج. قال ابن حزم: روي عن أم المؤمنين أم سلمة أنها أفتت بذلك، وكذا ذكره ابن أبي عروبة، عن يحيى بن أبي كثير أن يحيى بن يعمر كان يفتي به، قال سعيد: قال قتادة: فذكرت ذلك لابن المسيب فقال نعم؛ فقلت: عمن يا أبا محمد قال: عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

قلت: قد أخرجه عن أم سلمة مرفوعًا كما ترى أخرجه عنه مسلم في "صحيحه"، وفي آخره: قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه، قال: لكني أرفعه. قلت: ولم ينفرد بل توبع كما ستعلمه.

وقال الدارقطني: الصحيح وقفه، وقال مسدد: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: كان ابن سيرين يكره إذا دخل العشر أن يأخذ الرجل من شعره حتى يكره أن يحلق الصبيان في العشر.

قال ابن حزم: وخالف أبو حنيفة ومالك وما علمنا لهم حجة إلا أن بعضهم ذكر ما رواه مالك عن عمارة بن عبد الله بن صياد، عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسًا بالإطلاء في العشر، قالوا: وهو راوي هذا الخبر.

وما روينا من طريق عكرمة أنه ذكر له هذا الحديث فقال: فهلا اجتنبت النساء والطيب، وما يعلم لهم غير هذا أصلاً، وهذا كله

(1)

"المحلى" 7/ 368 - 369.

ص: 641

لا شيء، أما الرواية عن سعيد فباطلة من وجوهٍ:

أولها: أنه لا حجة في قوله؛ إنما الحجة في روايته.

ثانيها: أنه قد صح عنه خلاف ذلك كما ذكرناه قبل.

ثالثها: يتأول له في الإطلاء أنه بحكم سائر الشعر، وأن النهي إنما هو عن شعر الرأس فقط.

رابعها: أنه يكون المراد بالعشر إنما هو عشر المحرم لا عشر ذي الحجة، وإلا فمن أين للمرء أنه أراد عشر ذي الحجة واسم العشر ينطلق عليهما.

خامسها: أن يقول: لعل سعيدًا رأى ذلك لمن لا يريد أن يضحي وهذا صحيح.

وأما قول عكرمة ففاسد؛ لأنه إنما هو منه قياس، والقياس كله باطل، ثم لو صح القياس لكان هذا منه (عين الباطل لأنه)

(1)

ليس إذا وجب ألا يمس الشعر والظفر بالنص الوارد في ذلك يجب أن يجتنب النساء والطيب، كما أنه إذا وجب اجتناب الجماع والطيب لم يجب بذلك اجتناب الشعر والظفر، هذا الصائم فرض عليه اجتناب النساء ولا يلزمه اجتناب الطيب ولا مس الشعر والظفر، وكذلك المعتكفة وهذِه المعتدة يحرم عليها الجماع والطيب ولا يلزمها اجتناب قص الشعر والأظفار، وما ذهب إليه صحت عن فتيا الصحابة ولا نعرف فيها مخالف لهم

(2)

.

(1)

من (غ).

(2)

"المحلى" 7/ 369 - 370.

ص: 642

قال الطحاوي: كل من روى هذا الحديث عن مالك سوى شعبة يوقفه على أم سلمة ولا يرفعه عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممن رواه عنه كذلك ابن وهب وعثمان بن عمر، وخالفا شعبة أيضًا في شيخ مالك الذي روى عنه هذا الحديث فقالا: عمر بن مسلم، وقال شعبة: عمرو، قال ابن وهب وعثمان بن عمر: هذا مجهول

(1)

.

قال الطحاوي: ولعله أن يكون كما قالا؛ لأن مالكًا لم يتركه إلى خلافه، وهو عنده عمرو لا سيما وقد رفعه ثم وقفنا بعد ذلك على حقيقة شيخ مالك ومن هو، وعلى ما بينا أن مالكًا لم يعمل بما أخذه عنه من أجله، إذ كان ليس بمرضي عنده.

قال العلائي: ذكرت لابن معين حديث مالك هذا، فقال: يقولون: عُمر وعَمرو وعمار وهو ابن مسلم بن عبد الله بن أكيمة، وزعموا أنه كان خليفة محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف، وليس هو عمرو بن مسلم (الجندعي)

(2)

هذا، روى عنه معمر وابن جريج وابن عيينة، وكأن مالكًا لما لم يرضه لم يدخله في "موطئه" ولم يعمل بما حدثه عنه، ووجدنا هذا الحديث من وجه آخر من حديث سفيان، عن عبد الرحمن بن حميد، عن ابن المسيب، عن أم سلمة مرفوعًا، ووجدنا غير ابن عيينة رواه عن عبد الرحمن فأوقفه على أم سلمة وهو أبو ضمرة الليثي.

وروى ابن أبي ذئب عن يزيد بن عبد الله بن قسيط أن عطاء بن يسار وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبا بكر بن سليمان كانوا لا يرون

(1)

انظر: "مشكل الآثار" 14/ 129.

(2)

هكذا في الأصول، والصواب: الجندي، انظر:"تهذيب الكمال" 22/ 243.

ص: 643

بأسًا أن يأخذ الرجل من شعره ويقلم أظفاره في عشر ذي الحجة

(1)

.

وأخرجه مسلم من حديث شعبة عن مالك، عن عمر بن مسلم، عن سعيد، عن أم سلمة مرفوعًا. ومن حديث محمد بن عمرو الليثي عن عمر به مرفوعًا، ومن حديث ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة مرفوعًا. ومن حديث محمد بن عمرو، أنا عمرو بن مسلم قال: كنا في الحمام قبيل الأضحى فاطلى فيه ناس، فقال بعض أهل الحمام: إن ابن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه، فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له، فقال: يا ابن أخي هذا حديث قد نُسي وترك، حدثتني أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث معاذ عن محمد بن عمرو. ومن حديث سعيد بن أبي هلال، عن عمر بن مسلم أن ابن المسيب أخبر أن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتهم وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديثهم

(2)

.

ورواه أبو الشيخ في كتابه من حديث مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم يروى من حديث يزيد بن عياض بن جعدبة، عن عبد الرحمن بن حرملة ويحيى بن سعيد وعطاء بن الفارسي، عن ابن المسيب، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم به. ومن حديث جنادة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم به.

فهذِه متابعات لسفيان ولو ظفر بها ابن حزم لما شرع في التأويلات المذكورة.

(1)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 182.

(2)

مسلم (1977) كتاب: الأضاحي.

ص: 644

قال ابن عبد البر: ومما يدل على أن سعيد بن المسيب كان يقول بحديثه هذا عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكره أبو بكر، ثنا وكيع، عن شعبة وهشام، عن قتادة، عن سعيد قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عليك، وهذا أخذ منه بحديثه عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا دخل العشر .. " الحديث

(1)

.

فصل:

قوله: (فَسَمِعْتُ تَسْفِيقَهَا)

(2)

أي: تصفيقها وهو الضرب باليدين، يقال: ثوب سفيق وصفيق.

فصل:

ولما ذكر الداودي أن من أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره إذا أهل هلال ذي الحجة، قال: روته ميمونة، كذا قال، قال: وقد يكون هذا منسوخًا أو ناسخًا لحديث عائشة. وهو عجيب، فإن عائشة إنما أنكرت أن يكون محرمًا يمنع مما يمتنع منه المحرم من الطيب وغيره، ولم تتكلم على ما يستحب في العشر خاصة من اجتناب ما ذكرناه، لكن عموم الحديث يدل على ذلك.

(1)

"الاستذكار" 15/ 162.

(2)

بالسين هي رواية أبي ذر الهروي اهـ من اليونينية.

ص: 645

‌16 - باب مَا يُؤْكَلُ مِنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا

5567 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما -قَالَ: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ على عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ غَيْرَ مَرَّةٍ: لُحُومَ الْهَدْيِ. [انظر: 1719 - مسلم: 1972 - فتح 10/ 23]

5568 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، أَنَّ ابْنَ خَبَّابٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا، فَقَدِمَ فَقُدِّمَ إِلَيْهِ لَحْمٌ. قَالَ: وَهَذَا مِنْ لَحْمِ ضَحَايَانَا. فَقَالَ: أَخِّرُوهُ، لَا أَذُوقُهُ. قَالَ: ثُمَّ قُمْتُ فَخَرَجْتُ حَتَّى آتِيَ أَخِي أبا

(1)

قَتَادَةَ -وَكَانَ أَخَاهُ لأُمِّهِ، وَكَانَ بَدْرِيًّا - فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَكَ أَمْرٌ. [انظر: 3997 - فتح 10/ 23]

5569 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ وَفِي بَيْتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» . فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا عَامَ الْمَاضِي؟ قَالَ:«كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا» . [مسلم: 1974 - فتح 10/ 24]

5570 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: الضَّحِيَّةُ كُنَّا نُمَلِّحُ مِنْهُ، فَنَقْدَمُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ:«لَا تَأْكُلُوا إِلاَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. [انظر: 5423 - فتح 10/ 24]

5571 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ -مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ- أَنَّهُ شَهِدَ الْعِيدَ يَوْمَ الأَضْحَى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ

(1)

هكذا في الأصل. وصوابه: أخي قتادة، وهو: ابن النعمان الظَّفَرِيّ وقد تقدم في باب: عدة من شهد بدرًا. أهـ من اليونينية.

ص: 646

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَاكُمْ عَنْ صِيَامِ هَذَيْنِ الْعِيدَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَأَمَّا الآخَرُ فَيَوْمٌ تَأْكُلُونَ نُسُكَكُمْ. [انظر: 1990 - مسلم: 1137 - فتح 10/ 24]

5572 -

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ. [فتح 10/ 24]

5573 -

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثُمَّ شَهِدْتُهُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ ثَلَاثٍ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ نَحْوَهُ. [مسلم: 1969 - فتح 10/ 24]

5574 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا مِنَ الأَضَاحِيِّ ثَلَاثًا» . وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَأْكُلُ بِالزَّيْتِ حِينَ يَنْفِرُ مِنْ مِنًى، مِنْ أَجْلِ لُحُومِ الْهَدْي. [مسلم: 1970 - فتح 10/ 24].

ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث جابر: كُنَّا نَتَزَوَّدُ لُحُومَ الأَضَاحِيِّ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى المَدِينَةِ، وَقَالَ مَرَّةً: مِنْ لُحُومِ الهَدْيِ.

ثانيها:

حديث القَاسِمِ، أَنَّ ابن خَبَّابٍ واسمه عبد الله بن خبَّاب أخو مسلم بن خباب، وبنو خبَّاب أصحاب المقصورة موالي فاطمة بنت عبيد بن ربيعة أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ لَحْمٌ. فَقَالُوا: هذا مِنْ لَحْمِ ضَحَايَانَا. قَالَ: أَخِّرُوهُ، لَا أَذُوقُهُ. قَالَ: ثُمَّ قُمْتُ فَخَرَجْتُ حَتَّى آَتِيَ أَخِي قَتَادَةَ بن النعمان الظفري

ص: 647

-قَالَ: وَكَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ وَكَانَ بَدْرِيًّا- فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَكَ أَمْرٌ.

ثالثها:

حديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلَا يُصْبِحَنَّ بَعْدَ ثَالِثَةٍ في بَيتِهِ مِنْهُ شَيْءٌ". فَلَمَّا كَانَ العَامُ المُقْبلُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا في العام المَاضِي؟ قَالَ:"كُلُوا وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا، فَإِنَّ ذَلِكَ العَامَ كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِينُوا فِيهَا".

رابعها:

حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها -قَالَتِ: الضَّحِيَّةُ كُنَّا نُمَلِّحُ مِنْهُ، فَنَقْدَمُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ:"لَا تَأْكُلُوا إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ". وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ، ولكن أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ، والله أَعْلَمُ.

خامسها:

حديث أَبي عُبَيْدٍ -مَوْلَى ابن أَزْهَرَ- أَنَّهُ شَهِدَ العِيدَ يَوْمَ الأَضْحَى مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَصَلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَاكُمْ عَنْ صِيَامِ هَذَيْنِ العِيدَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَأَمَّا الآخَرُ فَيَوْمٌ تَأْكُلُونَ فيه من نُسُكِكُمْ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثُمَّ شَهِدْتُ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ جُمُعَةِ، فَصَلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هذا يَوْمٌ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ عِيدَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ العَوَالِي فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثُمَّ شَهِدْتُهُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَصَلَّى قَبْلَ الخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَاكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا لُحُومَ نُسُكِكُمْ فَوْقَ

ص: 648

ثَلَاثٍ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ نَحْوَهُ.

سادسها:

حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا مِنَ الأَضَاحِيِّ ثَلَاثًا". وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَأكُلُ بِالزَّيْتِ حِينَ يَنْفِرُ مِنْ مِنًى، مِنْ أَجْلِ لُحُومِ الهَدْي.

الشرح:

اختلف العلماء في هذا الباب فذهب قوم إلى تحريم لحوم الأضاحي بعد ثلاث، واحتجوا بحديث علي وابن عمر رضي الله عنه في الباب وإليه ذهب ابن عمر، وخالفهم في ذلك آخرون ولم يروا بأكلها وادخارها بأسًا، وعليه الجمهور، واحتجوا بحديث جابر وحديث أبي سعيد الخدري وبحديث سلمة وقالوا: أحاديث الإباحة ناسخة للنهي في ذلك، هذا قول الطحاوي

(1)

.

وقال المهلب: الذي يصح عندي أنه ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وقد فسر ذلك في الحديث بقوله: إنما كان ذلك من أجل الجهد ومن أجل الدافة، فكان نظرًا منه لمعنى فإذا زال المعنى سقط الحكم، وإذا ثبت المعنى ورأى ذلك الإمام عهد بمثل ما عهد به الشارع توسعه على المحتاجين. وقول عائشة:(ليس بعزيمة، ولكنه أراد أن يطعم منه) تبين أنه ليس بمنسوخ ولا النهي عن ذلك بمعنى التحريم، وأن للإمام والعالم أن يأمر بمثل هذا ويحض عليه إذا نزل بالناس حاجة.

وروى إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عابس بن ربيعة قال: أتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أكان صلى الله عليه وسلم يحرم لحوم الأضاحي فوق

(1)

"شرح معاني الآثار" 4/ 187.

ص: 649

ثلاثة؟ فقالت: لا، ولكنه لم يكن يضحي منهم إلا قليل ففعل ذلك ليطعم من ضحى منهم ومن لم يضح، ولقد رأيتنا نخبئ الكراع ثم نأكلها بعد ثلاث، رواه الطحاوي عن فهد، عن أبي غسان، عن إسرائيل

(1)

.

فإن قيل: قد روى عبد الوارث، عن علي بن زيد قال: حدثني النابغة، عن مخارق بن سليم، عن أبيه، عن علي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إني قد كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تدخروها فوق ثلاث، فادخروها ما بدا لكم"

(2)

وهذا يعارض ما روي عن علي رضي الله عنه أنه خطب الناس وعثمان محصور في الدار فقال: لا تأكلوا من لحوم أضاحيكم بعد ثلاثة أيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بذلك

(3)

، فدل هذا على أنه صلى الله عليه وسلم قد كان نهى عن ذلك بعد ما أباحه حتى تتفق معاني ما روي عن علي في ذلك، ولا يتضاد.

قيل: قد جاء في الحديث بيان هذا، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنها لشدة كان الناس فيها، ثم ارتفعت فأباح لهم ذلك، ثم عاد مثل ذلك في وقت ما خطب علي بالناس فأمرهم بما كان صلى الله عليه وسلم أمرهم به في مثل ذلك، والدليل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع في الباب، وقال:"إنما كنت نهيتكم لأجل الدافة التي دفت"

(4)

فدل أن هذا النهي للعارض المذكور، فلما ارتفع أباح لهم ما كان حظر عليهم، وكذلك ما فعل علي في زمن عثمان وأمر به الناس بعد علمه بما أباحه الشارع ما قد نهاهم عنه، إنما كان لضيق بدا فيه مثل ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

"شرح معاني الآثار" 4/ 188.

(2)

"شرح معاني الآثار" 4/ 185.

(3)

"شرح معاني الآثار" 4/ 184.

(4)

رواه مسلم (1971) كتاب: الأضاحي، باب: بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث

، من حديث عائشة.

ص: 650

في الوقت الذي نهاهم فيه.

وبإباحة لحوم الأضاحي وتزودها قال الكوفيون ومالك والشافعي وجمهور الأمة: وعبارة ابن التين اختلفت في هذا النهي فقيل على التحريم ثم طرأ النسخ بإباحته، وقيل للكراهة فيحمل بنسخها وعدمه أن يكون المنع من الادخار ثبت لعلة وارتفع لعدمها، يوضحه قوله: وكان بالناس ذلك العام جهد.

فصل:

فإن قيل فقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا وَأَطْعِمُوا" هل فيه دلالة على وجوب الأكل منها وهل هو كقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28]؟.

قلت: معناهما واحد كما قال الطبري وهو أمر بمعنى الإطلاق والإذن للأكل، لا بمعنى الإيجاب وأمر بعد حظر، وذلك أنه لا خلاف بين سلف الأمة وخلفها أنَّ المضحي غير حرج بتركه الأكل من أضحيته ولا آثم، فدل إجماعهم على ذلك أن الأمر بالأكل بمعنى الإذن والإطلاق، وقد سئل مجاهد وعطاء عن الذي لا يأكل من أضحيته قالا: إن شاء لم يأكل منها، قال تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] أرأيت إن لم يصطد

(1)

.

وقال إبراهيم: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل. وقال سفيان: لا بأس أن يأكل منها ويطعمها كلها. قال الطبري: وهو قول جميع أئمة الأمصار. وقال ابن التين: لم يختلف المذهب أن الأكل غير واجب خلاف ما ذكره القاضي أبو محمد عن بعض الناس أنه واجب،

(1)

"تفسير الطبري" 9/ 138.

ص: 651

وخالف ابن حزم فقال: فرض على كل مضح أن يأكل من أضحيته ولو لقمة فصاعدًا

(1)

.

قلت: وروى أبو هريرة مرفوعًا: "من ضحى فليأكل من أضحيته"

(2)

قال أبو حاتم عن عطاء مرسل

(3)

.

وفي كتاب "الضحية" لأبي محمد القاسم بن عساكر؛ قال عباس بن محمد الدوري: ما حدَّث بهذا الحديث إلا شاذان، فإن قيل فهل روي عن أحد من السلف أنه كان يطعم منها غنيًّا أو من ليس بمسلم؛ قيل: نعم قد روى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عمر يبعث إليها في فضول الأضاحي بالرءوس والأكارع

(4)

.

وقال: لا بأس أن تطعم من أضحيتك جارك اليهودي والنصراني والمجوسي.

قال: ويستحب التصدق بالثلث وأكل الثلث وإطعام الجيران الثلث؛ لأن ذلك كان يفعله بعض السلف، قلت: وقيل يأكل نصفها ويتصدق بنصف، وهو أحد قولي الشافعي، ونقل ابن عبد البر عن الشافعي أنه كان يستحب أن يأكل ثلثًا ويتصدق بثلث ويدخر ثلثها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"كلوا وتصدقوا وادخروا" وكان غيره يستحب أن يأكل نصفها ويطعم نصفها؛ لقوله تعالى في الهدايا: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}

(5)

[الحج: 36]

(1)

"المحلى" 7/ 383.

(2)

رواه أبو الشيخ في كتاب " الأضاحي" كما في "الفتح" 10/ 27، وقال الحافظ: رجاله ثقات.

(3)

"علل الحديث" 2/ 38.

(4)

"الموطأ" برواية محمد بن الحسن (926).

(5)

"التمهيد" 3/ 218.

ص: 652

قلت: هو قول الشافعي كما علمت، وكان مالك لا يحد في ذلك حدًّا.

والدليل على أن هذا استحباب لا إيجاب حديث ثوبان قال: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحيته، ثم قال يا ثوبان:"أصلح لحم هذِه الأضحية" فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة

(1)

، وعندنا: الأفضل التصدق بكلها إلا لقمًا يتبرك بها.

قال الطبري: وينبغي أن لا يقتصر على أقل من نصفه اقتداءً بالشارع، حيث أمر أن يطبخ من كل بدنه التي نحرها ببضعة فأكل منها وتحسى من مرقها

(2)

.

وروي عن علي أنه ذبح أضحيته فشوى كبدها وتصدق بسائرها ثم أخذ رغيفًا وكبدًا بيده الأخرى فأكل. وقال سفيان الثوري: إن أراد أن لا يتصدق من أضحيته بشيء، قال: لا ينبغي له، ولكن إن تصدق بلقمة أجزأه. وقال ابن التين: اختلف قول مالك هل الأفضل الصدقة بجميعها، قاله عنه محمد أو يأكل منها، قاله عنه ابن حبيب، وقال: إن لم يأكل منها شيئًا فهو مخطئ.

وأما قوله: ("وَأَطْعِمُوا") فعلى الاستحباب؛ لأن الفقهاء لم يختلفوا في ذلك أنه واجب؛ لأن لفظة "أَطْعِمُوا" أمر وهو يقتضي غير الوجوب (أو الندب، فإذا دل الإجماع على انتفاء الوجوب ففي الندب، وحينئذٍ قال ابن حبيب: لا حد مما يأكل ويطعم)

(3)

ويجزئ ما قل وكثر.

(1)

رواه مسلم (1975) كتاب: الأضاحي، باب: ما كان من النهي عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ....

(2)

رواه مسلم (1218) كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر.

(3)

من (غ).

ص: 653

وقال ابن الجلاب: الاختيار أن يأكل الأقل ويقسم الأكثر، ولو قيل: يأكل الثلث ويقسم الثلثين لكان حسنًا.

فصل:

قوله: (حَتَّى آتِيَ أَخِي قَتَادَةَ) هذا هو الصواب ووقع في نسخة أبي محمد [و]

(1)

القابسي من رواية أبي زيد وأبي أحمد أخي أبا قتادة، كما نبه عليه الجياني

(2)

، ومشى عليها ابن بطال في "شرحه"

(3)

وقد سلف في باب عدة من شهد بدرًا على الصواب

(4)

.

وخرجه مسلم من حديث عبد الأعلى: حدثني (يحيى بن سعيد)

(5)

، عن أبي نضرة عن أبي سعيد

(6)

. وعند أبي أحمد الجلودي والكسائي، حدثنا ابن مثنى، ثنا عبد الأعلى، أخبرنا سعيد، عن قتادة، عن أبي نضرة، زاد في الإسناد قتادة قال أبو علي: والصواب عندي الأولى رواية ابن ماهان، عن ابن المثنى، ثنا عبد الأعلى كما سلف، وكذا ذكره أبو مسعود الدمشقي في "أطرافه"

(7)

.

ولأبي الشيخ من حديث أبي نضرة، عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث" فشكوا إليه فقالوا: عيالنا، فقال:"كلوا وأطعموا وأحسنوا".

(1)

ساقطة من الأصول.

(2)

"تقييد المهمل" 2/ 725.

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 29.

(4)

سلف برقم (3997) كتاب: المغازي، باب:(12).

(5)

هكذا في الأصول، وعند مسلم: سعيد الجريري.

(6)

مسلم (1973) كتاب: الأضاحي، باب: بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي ..

(7)

"تقييد المهمل" 3/ 892.

ص: 654

فصل:

قوله: (فَقال: إِنَّهُ قَدْ حَدَثَ بَعْدَكَ أمر) يعني: الإباحة.

فصل:

يستحب أن يكون فطره على كبد أضحيته، كما أوضحناه في الفروع. وقول عائشة رضي الله عنها:(الضحية كنا نملح منه) هو بفتح الضاد.

وقولها: (وليست بعزيمة ولكن أراد أن يطعم منه)، بين ذلك في "الموطأ" بقوله:"إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم فكلوا وتصدقوا وادخروا"

(1)

يعني بالدافة: مساكين قدموا المدينة، وكذلك هو في حديث سلمة بن الأكوع.

والإباحة إذا وقعت بعد الحظر فهي نص

(2)

، قال هذا سائر الفقهاء

(3)

سوى ما ذُكر هنا عن علي وابن عمر من ظاهر إيرادهما أن حكم ذلك باق لم ينسخ.

فصل:

قول عثمان رضي الله عنه: (من أحب أن يرجع فقد أذنت له)، أخذ به مالك مرة، والأشهر عنه أن حضورهم العيد لا يضيع عنهم حضور الجمعة وإنه لم يأخذ بإذن عثمان غير الداودي، ويحتمل أنه إنما كانوا يأتون العيد والجمعة من مواضع لا يجب عليهم المجيء منها فأخبر بما لهم في ذلك، وهذا خلاف تأويل مالك وعندنا لأهل السواد تركها.

(1)

"الموطأ" ص 299 (7)، ورواه مسلم أيضًا، وقد تقدم.

(2)

أي نص بحقيقة النسخ.

(3)

انظر: "الفصول في الأصول" 2/ 296 - 307، "المنتقى" 3/ 93.

ص: 655

فصل:

أبو عبيد هو: مولى بن عوف وابن أزهر.

فصل:

ورد النهي أيضًا من حديث الزبير

(1)

وابن عمر أيضًا، روى ابن شاهين من حديث ابن إسحاق، ثنا أبو عبد الله بن عطاء بن إبراهيم مولى الزبير، عن أبيه وجدته أم عطاء أن الزبير بن العوام قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يأكلوا من لحم نسكهم فوق ثلاث فلا تأكلوه. قلت: بأبي أنت فكيف نصنع ما أهدي لنا، قال:"أما ما أهدي لكم فشأنكم به".

ومن حديث عمار بن مطر، ثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل من بدنته ولا من أضحيته فوق ثلاثة أيام

(2)

.

فصل:

وروى الرخصة في تركها بعد ثلاث: بريدة بن الحصيب، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود وأبو قتادة ونُبيشة وثوبان عند أبي الشيخ بأسانيد جيدة.

قال الحازمي: ومن ذهب إلى هذا -يعني المنع اليوم

(3)

-: علي والزبير وعبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر، وخالفهم في ذلك جماهير العلماء

(4)

.

(1)

رواه أحمد 1/ 166، وأبو يعلى 2/ 34 (671)، والطبراني 25/ 100 (259).

(2)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" 1/ 412.

(3)

هكذا في الأصل، والصواب: يعني منع الادخار بعد ثلاث.

(4)

"الاعتبار" ص 120.

ص: 656

قال ابن حزم: حديث أبي عبيد عن علي كان عام حصر عثمان، وكان أهل البوادي ألجأتهم الفتنة إلى المدينة، وأصابهم جهد فأمر علي بذلك كما أمر الشارع حين دفت الدافة

(1)

.

وذكر القاسم بن عساكر في كتاب "الضحية" من حديث ابن فضيل عن يزيد، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ لأنه كان من يضحي قليلاً ومن لا يضحي كثيراً، فلما الناس رأتني أرفع العَرق بعد عاشره.

فصل:

وقول البخاري: (وعن معمر عن الزهري، عن أبي عبيد نحوه)، يعني قوله: أنه صلى الله عليه وسلم نهاكم أن تأكلوا لحم نسككم فوق ثلاث، رواه الشافعي في "الأم"، فقال: حدثنا الثقة عن معمر فذكره

(2)

.

قال الشافعي: لم يبلغ النهي علي بن أبي طالب ولا عبد الله بن واقد ولو بلغهما ما حدثا بالنهي، والنهي منسوخ، فإذا دفت الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث، وإذا لم تدف الدافة فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود والادخار، ويحمل أن يكون النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث منسوخًا في كل حال فيمسك الإنسان من ضحيته ما شاء

(3)

.

(1)

"المحلى" 7/ 385.

(2)

"مسند الشافعي" بترتيب سنجر 2/ 56.

(3)

انظر: "الأم" 1/ 133.

ص: 657

‌فصول ملحقة بالأضحية والذبائح

فصل:

قال أبو حنيفة: لما قيل: الرجل يجز صوف أضحيته قبل أن يذبحها وينتفع به قال: أكره ذلك، قيل: فهل يكره أن يحلبها؟ قال: نعم، وكذا قال مالك

(1)

والشافعي

(2)

.

فصل:

فإن ولدت عنده أيذبحها وولدها؟ جوزه أبو حنيفة، قيل له: فينبغي له أن لا يذبح أولادها، قال: أرأيت لو باع ولدها وذبحها، أيتصدق بثمنه؟ قال: نعم.

وقال مالك: إني لأستحسن أن يذبح ولد الأضحية مع أمه، وإن تركه لم أره عليه واجبًا؛ لأن عليه بدل أمه إن هلكت. وقال الثوري والأوزاعي والشافعي

(3)

: اذبحها وولدها. قال الطحاوي: وجدنا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بركوب البدنة، فكان حكم ولدها كذلك على موجبها.

فصل:

ضابط عيب الأضحية عندنا ما ينقص اللحم، فلو خُلقت بلا آذان أجزأت عند أبي حنيفة بخلاف العمى وذهاب العين. وعن أبي يوسف: الشاة السكاء إن كان لها آذان فتجزئ وإن كان صغيرة الأذن، وإن لم يكن لها أذن لا تجزئ. وسئل مالك عن الشاة تخلق خلقًا ناقصًا، قال: لا تجزئ إلا أن تكون جلحاء أو سكاء وهي التي

(1)

"المدونة" 2/ 4.

(2)

"الأم" 2/ 190.

(3)

المصدر السابق.

ص: 658

لها أذنان صغيرتان. قال ابن القاسم: ونحن نسميها الصمعاء

(1)

.

قال ابن خالويه في كتابه: ليس لأحد أن يقول سكاكة صغيرة الأذن، إنما المسموع أسك وسكاء إلا ابن الأعرابي فإنه روى في "نوادره": رجل سكاكة، وهذا غريب.

والسكك: صغر الأذن، ورجل أسك وامرأة سكاء، والجمع منهما: سك؛ وكل الطير سك: صغير الأذن.

وقال الشافعي في مكسورة القرن تدمى أو لا تدمى، أو جلحاء: تجزئ

(2)

. وإذا خلقت لها أذن ما كانت أجزأت، وإن خلقت لا أذن لها لم تجز، وكذا لو جدعت

(3)

.

فصل:

وسئل أبو حنيفة عن الشاة تذبح من قبل قفاها هل تؤكل؟ فقال: إن كانت الشاة لم تمت حتى وصل إلى الأوداج فقطعها فلا بأس بأكلها، وإن كانت ماتت قبل أن تصل إلى الأوداج فهي ميتة لا خير في أكلها، قيل: أفيكره ذلك الصنع؟ قال: نعم، وهو قول صاحبيه، ومالك يقول: إذا أخطأ فذبح من العنق أو القفا فلا تؤكل.

وقال الثوري: إن ذبحت من قبل القفا فبلغ الذبح المذبح فسميت فكل، ولا يتعمد ذلك، وقال الأوزاعي وعبيد الله بن الحسن والحسن ابن صالح: لا بأس، وعن الشافعي: إن تحركت قبل قطع رأسها أكلت وإلا فلا

(4)

.

(1)

"المدونة" 2/ 5.

(2)

"الأم" 2/ 189.

(3)

"الأم" 2/ 190 - 191.

(4)

"مختصر المزني" المطبوع بهامش "الأم" 5/ 212.

ص: 659

فصل:

فإن قدم أضحيته للذبح فاضطربت في مكانها فانكسرت رجلها فذبحها مكانه أجزأت عند أبي حنيفة

(1)

، وإن كانت لا تستطيع، فإن انقلبت السكين فذبح عينها أجزأت عنده استحسانًا إذا كان في إرادته ذبحها، وهو قول صاحبيه. وقال مالك: يبدله

(2)

، وقال الشافعي: إذا اشترى أضحية فلم يوجبها حتى أصابها ما لا تجوز معه بحضرة الذبح قبل أن يذبحها أو قبل ذلك لم تكن أضحية، ولو أوجبها سالمة ثم أصابها ذلك وبلغت أيام الأضحى فضحى بها أجزأت عنه

(3)

.

فصل:

فإن ذبحت ووجد في بطنها ولد ميت، فذكر أبو حنيفة عن حماد، عن إبراهيم أنه لا تكون ذكاة نفس ذكاة نفسين. قال محمد: إن الجنين لا يؤكل حتى تدرك ذكاته، وبه كان يأخذ أبو حنيفة. وقال مالك: إن خرج من بطن أمه ذبح، وإن لم يذبح مع أمه فلا أرى بأكله بأسًا إذا تم خلقه، وإن لم يتم خلقه فلا يؤكل، وقال: إذا كان ميتًا كله وإن لم يشعر إلا أن يقذره

(4)

وبنحوه قاله الأوزاعي والحسن بن صالح والليث، إلا أنه قال: يستحب ذبحه ليخرج الدم من جوفه وذلك في جنين الأنعام والمواشي.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 226.

(2)

انظر: "المدونة" 2/ 5.

(3)

"الأم" 2/ 190.

(4)

انظر: "المدونة" 2/ 3.

ص: 660

وقال الشافعي: ذبح الجنين تنظيف وإن لم يفعل فلا شيء عليه

(1)

، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم:"ذكاة الجنين ذكاة أمه" من حديث أبي سعيد الخدري، أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان

(2)

، وله عشر طرق أخرى هذا أمثلها.

وأما الطحاوي فقال: لما اختلفوا في ذلك نظرنا هل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء أم لا؟ فوجدنا أبا سعيد روى عنه صلى الله عليه وسلم من طريق ضعيف: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" ولا نسلم له، ومن حديث جابر بن عبد الله مثله

(3)

، وقد طعن فيه قوم، فنظرنا هل روي عن أحد من الصحابة في ذلك شيء؟ فوجدنا أبا إسحاق قد روى عن الحارث، عن علي رضي الله عنه؛ وأيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا ذلك، ولا نعلم عن أحد من الصحابة في ذلك خلافًا لما رويناه عنهما.

وفي حديثهما: "إذا أشعر"

(4)

. فكان ذلك مما يعلم به قوم فرقوا بين حكمه إذا أشعر وإذا لم يشعر، ولم يكن للتفرقة بينهما وجه في القياس.

(1)

"الأم" 2/ 197.

(2)

أحمد 3/ 39، وابن حبان 13/ 206 - 207 (5889). ورواه أيضًا أبو داود (2827)، والترمذي (1476)، وابن ماجه (3199). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

رواه أبو داود (2828)، والدارمي 2/ 1260 (2022)، والحاكم 4/ 114، وقال: صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني في "الإرواء"(2539).

(4)

رواه الطبراني في "الأوسط" 8/ 26 (7856)، والحاكم 4/ 114 كلاهما من طريق وهب بن بقية، ثنا محمد بن الحسن، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا. وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن محمد بن إسحاق إلا محمد بن الحسن، تفرد به وهب بن بقية. وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 35: فيه ابن إسحاق، وهو ثقة، لكنه مدلس، وبقية رجال "الأوسط" ثقات.

ص: 661

فصل:

عن أبي حنيفة وأبي يوسف في رجل تطوع على رجل، فذبح له ضحايا قد أوجبها عن أبيه وعن أمه، فذبح كل ضحية بها عن غير صاحبها فلا يجزئه، فإن جاء رجل فأخذ أضحية آخر بغير أمره فذبحها عن نفسه متعمدًا لذلك، فإن هذا لا يجزئ عن الذي كانت له، وإن لم يذبح ضمن الذابح قيمتها، فإن ضمن قيمتها، فإنها تجزئ عنه -يعني: الضامن- وقد تم في صنعه وعسى أن يجزئ عنه بالضمان. وسئل الثوري عن رجلين ذبح أحدهما أضحية صاحبه، قال: يضمنان ويستقبلان. وقال الشافعي: يذبح كل واحد منهما ما بين قيمته ما ذبح حيًّا ومذبوحًا، وأجزأ عن كل واحد منهما أضحيته وهديه

(1)

.

فصل:

فإن أوجب أضحية فلم يذبحها حتى مضت أيام النحر ثم تصدق بها أجزأه، ولم يكن عليه شيء غير ذلك، قاله أبو حنيفة وأبو يوسف.

وسئل مالك عن ذلك فقال: إن شاء ذبحها وإن شاء صنع بها ما شاء، قيل له: فإن كان موسرًا أيجب عليه أن يشتري مكانها في أيام النحر؟ قال: نعم، كذا في رواية ابن وهب. وفي رواية ابن القاسم: سئل مالك عن الرجل تهلك ضحيته فيجدها بعد ثلاث أترى أن يذبح؟ قال: إنما ذلك في البدن فأما في الضحايا فلا، وفي "الأسدية" لم أسمع من مالك في ذلك شيئًا، ولكن أقول: لا شيء عليه فيها، وهو رجل ترك الأضحى. وسئل الأوزاعي عن رجل اشترى أضحية فضلت

(1)

"مختصر المزني" ص 281.

ص: 662

فاشترى مكانها شاة، ثم وجدها بعد ما مضى الأجل قال: يذبحها فيأكل ويطعم. وقال الشافعي: لو ضلت أضحيته ثم وجدها، وقد مضت أيام النحر صنع بها كما يصنع في أيام النحر، كما لو أوجب أن يهديها العام فأخرها إلى قابل

(1)

.

فصل:

وما أوجبه على نفسه لوقت ففات الوقت لم يبطل الإيجاب، فإن أوجب أضحية ثم مات قبل أن يذبحها أنها ميراث، قاله أبو حنيفة، وعن أبي يوسف لما أوجبها صارت كالوقف وخرجت من ماله، ووجب ذبحها عنه بَعد وفاته ولم تدخل في ميراثه، وقال مالك: تباع في ميراثه ولا تذبح عنه، ويخرج كلام الشافعي كذلك.

فصل:

وسئل أبو حنيفة وصاحباه هل ينتفع الرجل بجلد أضحيته يشتري بها متاعًا (للبيت؟)

(2)

قال: لا بأس به، وبلغنا ذلك عن إبراهيم قيل: فإن باع جلدها بدرهم أو بما أشبهه قال: يتصدق بثمنه، وإنما يرخص له أن يبتاع به شيئًا من متاع البيت، وأما أن يبيعه لغير ذلك فلا.

وقال مالك: جلود الهدايا والأضاحي بمنزلة لحمها يصنع بها ما يصنع باللحم.

وقال الثوري والأوزاعي: لا يبيعه بدراهم، ولكن يتصدق به أو ينتفع به. قيل للأوزاعي: هل يبيعها ويتصدق بثمنها؟ قال: لا، ولكن إن شاء ابتاع بثمنها منخلًا أو غربالًا أو بعض أداة البيت. وسئل الليث عن

(1)

المرجع السابق.

(2)

من (غ).

ص: 663

الرجل يغزل من صوف أضحيته جبة فيلبسها ثم يريد بيعها بعد ذلك، قال: لا أرى (له بيعها)

(1)

. قلت: فجلود الضحايا؟ قال: لا تباع.

وفي "صحيح الحاكم" مرفوعًا: "مَنْ باع جلد أضحيته فلا أضحية له"

(2)

، وأخرجه أبو الشيخ من هذا الوجه من طريق أبي هريرة كذلك.

ومن طريق أبي سعيد الخدري: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع مسوك الأضاحى وقال: "تصدقوا بها أو انتفعوا بها". قال ابن وهب: وسمعته وقيل له عن الرجل يهب جلد أضحيته لابن له صغير في حجره أو عنده، فأراد بيعه قال: لا يترك يبيعه؛ لأنه يملك ذلك عليهما، ولو كان ابنه كبيرًا يمول نفسه لم أر ببيعه إياه بأسًا. وقال الشافعي: الضحية نسك مأذون في أكله (وإطعامه)

(3)

وادخاره، وأكره بيع شيء من ذلك والمبادلة به

(4)

.

فصل:

قال ابن حزم: ولا يلزم من نوى أن يضحي بحيوان أن يضحي به إن شاء، إلا أن ينذر ذلك فيلزمه الوفاء، حكي ذلك عن مجاهد وعطاء، وروينا عن علي والشعبي والحسن كراهة ذلك ولا نعلم لهم حجة

(5)

.

فصل:

قال ابن المنذر: اختلفوا في الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل

(1)

من (غ).

(2)

الحاكم 2/ 389 - 390 من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.

(3)

من (غ).

(4)

"الأم" 2/ 190.

(5)

"المحلى" 7/ 375.

ص: 664

بيته، فكان مالك

(1)

والليث والشافعي

(2)

والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور يجيزون ذلك، وقد روي هذا المعنى عن أبي هريرة وابن عمر وذبح الشارع عن أمته، وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة.

فصل:

صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها والكسيرة التي لا تُنْقي" أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث عبيد بن فيروز قال: سألت البراء بن عازب ما لا يجوز في الأضاحي فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أربع" فذكره، قال: قلت: فإني أكره أن يكون في الشيء نقص. قال: ما كرهت فدعه ولا تحرمه على أحد

(3)

.

قال الترمذي: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبيد بن فيروز، عن البراء، وقال أحمد: ما أحسنه من حديث، وصححه ابن حبان أيضًا والحاكم وذكر له شواهد

(4)

، وروى أحمد والأربعة والحاكم عن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا شرقاء، ولا خرقاء

(5)

.

(1)

" المدونة " 2/ 3.

(2)

"الأم" 2/ 189.

(3)

أبو داود (2802)، والترمذي (1497)، والنسائي 7/ 215، وابن ماجه (3144).

(4)

ابن حبان 13/ 240 - 241 (5919)، والحاكم 4/ 223.

(5)

أبو داود (2804)، والترمذي (1498)، والنسائي 7/ 216 - 217، وابن ماجه (3142)، وأحمد 1/ 80، والحاكم 4/ 224.

ص: 665

قال الحاكم: إسناده صحيح، وقال الترمذي: حسن صحيح، وزاد: والمقابلة: ما قطع من طرف أذنها، والمدابرة: ما قطع من جانب أذنها، والشرقاء: المشقوقة، والخرقاء: المثقوبة، ومعنى يستشرف: يتأمل سلامتها من آفة. وقيل: الشرفة: وهي خيار المال، أمرنا أن نخير.

فرع:

تجوز التضحية بمكسورة القرن، قاله مالك

(1)

وأبو حنيفة والشافعي

(2)

، وروي ذلك عن علي وعمار والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن المسيب، وقال: إلا أن تدمى فلا تصلح.

فرع:

روينا عن الحسن والنخعي وعطاء أنهم كانوا لا يرون بأسًا أن يضحي بالخصي، وبه قال أبو ثور ومالك وأبو حنيفة والشافعي.

فرع:

روينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأسًا أن يضحى بالأبتر، وبه قال ابن المسيب والحسن وابن جبير والنخعي والحكم، وكره الليث أن يضحى بالأبتر ومقطوع الأذن، قال أبو عمر: وروي في الأبتر حديث مرفوع من حديث شعبة، عن جابر الجعفي، عن محمد بن قرظة، عن أبي سعيد أنه قال: اشتريت كبشًا فأكل الذئب من ذنبه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ضح به"

(3)

.

(1)

"المدونة" 2/ 2.

(2)

"الأم" 2/ 189.

(3)

رواه ابن ماجه (3146)، وأحمد 3/ 32. وقال البوصيري في "الزوائد" ص 412: وإسناد حديث أبي سعيد ضعيف، فيه جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف وقد اتهم.

ص: 666

ثم قال: يحتمل أن يكون أكل من ذنبه اليسير، فإن كان كذلك فهو جائز عند العلماء، قال: ورواية مالك عن نافع، عن ابن عمر التي لم تُسِن

(1)

والتي نقص من خلقها

(2)

أصح من رواية من روى عنه جواز الأضحية بالأبتر، قال: وهذا الحديث ليس إسناده بالقوي، وقيل: أنَّ ابن قرظة لم يسمع من أبي سعيد.

قال ابن حزم: وروى ابن أرطاة عن بعض أنه صلى الله عليه وسلم سُئل أنضحي بالبتراء؟ فقال: "لا بأس به"

(3)

.

فصل:

في "الاستذكار" لابن عبد البر روى قتادة، عن جُري بن كليب، عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في الضحايا عن الأعضب الأذن والقرن. قال قتادة: سألت ابن المسيب: ما أعضب الأذن والقرن؟ قال: النصف أو أكثر

(4)

.

قال أبو عمر: لا يوجد ذكر القرن في غير هذا الحديث، وبعض أصحاب قتادة لا يذكر فيه القرن ويقتصر على الأذن وحدها، كذا رواه هشام عن قتادة، وهو الذي عليه جماعة الفقهاء في القرن.

وفي إجماعهم على إجازة التضحية بالجماء ما يُبين لك أن حديث القرن لا يثبت ولا يصح أو هو منسوخ؛ لأنه معلوم أن ذهاب القرنين

(1)

في الأصل: (تُسمن)، والمثبت من "الموطأ".

(2)

"الموطأ" ص 298 (2).

(3)

"المحلى" 7/ 360.

(4)

رواه أبو داود (2805)، (2806)، والترمذي (1504)، والنسائي 7/ 214 - 218، وابن ماجه (3145)، وأحمد 10/ 83. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الألباني في "الإرواء"(1149): منكر.

ص: 667

أعظم من ذهاب بعض أحدهما

(1)

.

الذي رويناه في "سنن أبي داود" من حديث أبي حميد الرعيني أخبرني يزيد ذو مصر، عن عتبة بن عبدٍ السلمي: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المصفرة والمستأصلة والمشيعة والكسراء، أما المصفرة التي استأصل أذنها حتى يبدو صماخها، والمستأصلة التي ذهب قرنها من أصله، الحديث

(2)

. فهذا كما ترى ذكر القرن إن كان مرفوعًا أو من تفسير الصحابي، وكلاهما ذكر القرن.

فصل:

قام الإجماع على إباحة إطعام (فقراء)

(3)

المسلمين من لحوم الأضاحي، واختلفوا في إطعام أهل الذمة منه، فرخص في ذلك الحسن كما أسلفناه في باب: ما يؤكل من لحوم الأضاحي وهو يشبه مذهب الكوفيين وبه قال أبو ثور، وقال مالك: غيرهم أحب إلينا، وكان يكره إعطاء النصراني جلد الضحية وكره ذلك الليث، فأما ما طبخ من لحوم الأضاحي وكانت الظئر وما أشبهها عند أهل البيت فأرجو أن لا يكون به بأس فيما يصيب معهم منه، ونص الشافعي في البويطي: لا يعطى منها لأهل الذمة، وهو نقل عزيز لم يقر به أصحابنا في كتبهم.

وقال النووي وغيره: لم نره مسطورًا

(4)

.

(1)

"الاستذكار" 15/ 133 - 134.

(2)

أبو داود (2803). وقال الألباني في "ضعيف أبي داود"(486): إسناده ضعيف، أبو حميد وشيخه يزيد مجهولان.

(3)

من (غ).

(4)

انظر: "المجموع" 8/ 404.

ص: 668

فرع:

ثبت أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يضحي عما في البطن

(1)

، وبه قال الشافعي

(2)

وأبو ثور.

فرع:

وكان مالك يرى أن يضحى عن اليتيم يكون له ثلاثون دينارًا بالشاة بنصف دينار ونحوه، وقال أبو حنيفة: يضحى عنه من ماله، ولا يجوز ذلك في قول الشافعي.

فرع:

كان الحسن بن أبي الحسن يضحي عن أم ولده ورخص في ذلك الزهري ومالك والليث وهو على مذهب الكوفيين. وقال الشافعي: لست أحب للعبد ولا للمدبر ولا للمكاتب ولا لأم الولد أن يضحوا، ولا أجيز لهم ذلك

(3)

.

فرع:

قال ابن حزم: وفرض عليه أن يتصدق منها مما شاء قل أو كثر، ويباح له أن يطعم منها الغني والكافر، وأن يهدي منها إن شاء

(4)

.

فرع:

قال ولو وجد بها عيبًا بعد التضحية ولو لم يكن اشترط السلامة فله الرجوع ما بين قيمتها حية صحيحة وبين قيمتها معيبة، فإن كان اشترط

(1)

رواه مالك في "الموطأ" ص 301 (13)، وعبد الرزاق في "المصنف" 4/ 380 (8136).

(2)

"الأم" 2/ 191.

(3)

"الأم" 2/ 191.

(4)

"المحلى" 7/ 383.

ص: 669

السلامة فهي ميتة ويضمن مثلها للبائع ويسترد الثمن ولا تؤكل، وكذا من أخطأ فذبح أضحية غيره بغير أمره فهي ميتة لا تؤكل، وعليه ضمانها.

فرع:

في "الاستذكار" لابن عبد البر عن الزهري: لا يجوز في الضحايا مجدوعة ثلث الأذن، ولا تجوز المسلولة الأسنان ولا الصرماء ولا أي ضحية جداء الضرع ولا العجفاء ولا الجرباء ولا المصرمة الأطماء وهي المقطوعة حلمة الثدي ولا العرجاء ولا العوراء. قال أبو عمر: قول الزهري في هذا الباب هو المعمول به

(1)

.

فرع:

تجزئ البدنة عندنا عن سبعة، وكذا البقرة. قال ابن عبد البر: احتج جماعة الفقهاء بحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة

(2)

، وضعفوا حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم الذي فيه ما يدل على أن البدنة نحرت في الحديبية عن عشرة

(3)

، قالوا: هو مرسل خالفه ما هو أثبت منه وأوضح وأصح، والمسور لم يشهد الحديث، ومروان لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال بهذا القول أكثر الصحابة

(4)

.

قلت: لم ينفرد به المسور فقد رواه أبو الشيخ من حديث أبي صالح، عن الليث، عن إسحاق بن بَزْرج، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما

(1)

"الاستذكار" 15/ 134 - 135.

(2)

رواه مسلم (1318) كتاب: الحج، باب: الاشتراك في الهدي.

(3)

رواه أحمد 4/ 323، وابن خزيمة 4/ 290 (2906)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 174، والدارقطني 2/ 243، والبيهقي 5/ 235.

(4)

"الاستذكار" 15/ 187.

ص: 670

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البقرة عن سبعة والبدنة عن عشرة". ومن حديث حذيفة: أشرك النبي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين الجزور عن عشرة، ومن حديث يزيد بن قسيط عن ابن المسيب أنه صلى الله عليه وسلم قال:"الجزور عن عشرة". ومن حديث مسلمة بن علي، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. ومن حديث عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله قال صلى الله عليه وسلم:"الجزور في الأضحى عن عشرة"

(1)

.

لكن روى أبو الشيخ أيضًا من حديث ابن أبي ليلى عن أبي الزبير، عن جابر: أمر صلى الله عليه وسلم أن يشترك السبعة في البدنة

(2)

، وفي رواية أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر يوم الحديبية. ورواه أيضًا من حديث ابن وهب، عن عمرة بن الحارث، عن أبي الزبير. ومن حديث الربيع بن صبيح، عن عطاء، عن جابر (قال)

(3)

: أشرك بيننا النبي صلى الله عليه وسلم الجزور

بين سبعة

(4)

. ومن حديث أبي سفيان، عن جابر، (قال)

(5)

: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة البدنة عن سبعة. ومن حديث

(1)

رواه الطبراني 10/ 163 (10330)، وابن عدي في "الكامل" 2/ 19، والدارقطني 2/ 243 كلهم من طريق عبيد الله بن عبد المجيد، عن أيوب بن محمد أبي الجمل، عن عطاء، به. وقال ابن عدي: وهذا الحديث لا يرويه عن عطاء بن السائب غير أبي الجمل، هذا. وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 20: فيه عطاء بن السائب، وقد اختلط. وانظر:"الإرواء" 4/ 254.

(2)

رواه الطبراني في "الأوسط" 8/ 212 (8431) من طريق شريك، عن ابن أبي ليلى، به.

(3)

من (غ).

(4)

رواه أحمد 3/ 366، والطبراني 7/ 123 (6570) من طرق عن الربيع، به.

(5)

من (غ).

ص: 671

أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرك السبعة في البدنة يوم الحديبية. ومن حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: البدنة عن سبعة.

قال ابن عبد البر، وروي عن رافع بن خديج، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"البدنة عن عشرة"

(1)

. ومن حديث ابن عباس مثله

(2)

. قال الترمذي حديث حسن غريب. وقال الطحاوي: قد اتفقوا على جوازها عن سبعة، واختلفوا فيما زاده ولا تثبت الزيادة إلا بتوقيف لا معارض له أو اتفاق

(3)

.

قال أبو عمر: أي اتفاق يكون على جوازها عن سبعة، ومالك والليث يقولان: لا تجوز البدنة إلا عن واحدة والبقرة كذلك، إلا أن يذبحها الرجل عن أهل بيته فتجوز عن سبعة حينئذٍ وعن أقل وعن أكثر. قال: وسلفهما في ذلك حديث أبي أيوب أي المصحح عند الترمذي قال: كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته

(4)

، وكذا رواه الزهري، عن رجل، عن أبي هريرة رضي الله عنه

(5)

، ومن حديث أبي جابر البياضي

(6)

وهو متروك عن ابن المسيب، عن عقبة بن

(1)

سبق برقم (3075) كتاب: الجهاد، باب: ما يكره من ذبح الإبل

، من حديث رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قسَّم الغنائم فعدل عشرة من الغنم ببعير. ورواه النسائي 7/ 221 كتاب: الضحايا، باب: ما تجزئ عنه البدنة في الضحايا.

(2)

رواه الترمذي (905)، والنسائي 7/ 222، وابن ماجه (3131)، وأحمد 1/ 275.

وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(720).

(3)

انظر: "شرح معاني الآثار" 4/ 176.

(4)

رواه الترمذي (1505)، وابن ماجه (3147)، ومالك في "الموطأ" ص 300 (10). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(5)

رواه عبد الرزاق 4/ 384 (8151) عن معمر، عن الزهري، به.

(6)

في هامش الأصل: اسمه محمد بن عبد الرحمن.

ص: 672

عامر: ضحيت بجذع عني وعن أهل بيتي، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"قد أجزأ عنكم"

(1)

.

وفي "القنية" من كتب الحنفية: أربعة عشر نفرًا ضحوا ببعيرين مشتركتين ينبغي أن تجوز.

فرع:

لا يجوز التضحية بالشاة المرهونة.

فروع:

عند الحنفية لا يجوز التضحية بالشاة الخنثى؛ لأن لحمها لا ينضج والقطع في الأذنين (يمنع)

(2)

عند الرازي ويمنع عند ابن سماعة، فإن سائر شعر الأضحية في غير وقته يجوز إذا كان لها نَقِي أي مخ، وقطع اللسان في الثور يمنع، وفي الشاة اختلاف، ثلاثة نفر ضحى كل واحد منهم بشاة فاختلط رءوسها فإذا بأحد الرءوس عيب مانع جواز الأضحية وكل واحد منهم يقول: ليس هذا برأس شاتي، لا تجوز التضحية عن واحد منهم، فإن اشترى شاة للأضحية فغصبها منه رجل ثم ذبحها بنية التضحية عن المالك يجزئه، ولا يحتاج إلى الإجازة، (فإن قالت المرأة لزوجها ضح عني كل عام من مهري الذي لي عليك كذا وكذا، فيه اختلاف)

(3)

ولا يجوز التصدق بقيمة الأضحية بعد وقتها على الزوجة المعسرة ولا على الزوج المعسر عند أبي حنيفة خاصة ولا على أمه المعسرة، فإن تصدق بلحم الأضحية

(1)

"الاستذكار" 15/ 189 - 191. والحديث رواه عبد الرزاق 4/ 384 (8153) عن الأسلي، عن أبي جابر، به.

(2)

في (غ) لا يمنع.

(3)

من (غ).

ص: 673

بغير نية الزكاة لا يجوز، وعن بعضهم يجزئه ولكنه يأثم؛ فإن اشترى بلحمها مأكولًا فأكله لا يلزمه التصدق بقيمة اللحم استحسانًا، فإن لم يجد أضحية في قريته أو بلده يلزمه المشي لطلبها إلى موضع يمشون إليه من بلده لشراء الشاة.

آخر الضحايا والحمد لله رب العالمين

ص: 674