المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌74 - كِتابُ الأَشْرِبَةِ وَ‌ ‌قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا - التوضيح لشرح الجامع الصحيح - جـ ٢٧

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌74 - كِتابُ الأَشْرِبَةِ

وَ‌

‌قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]

.

5575 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ» . [مسلم: 2003 - فتح 10/ 30]

5576 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ، وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ. تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ الْهَادِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَالزُّبَيْدِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ. [انظر: 3394 - مسلم: 168 - فتح 10/ 30]

5577 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ غَيْرِي قَالَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَقِلَّ

ص: 9

الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ». [انظر: 80 - مسلم: 2671 - فتح 10/ 30]

5578 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولَانِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَزْنِي [الزَّانِي] حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ: «وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ» . [انظر: 2475 - مسلم: 57 - فتح 10/ 35]

ثم ساق فيه أربعة أحاديث:

أحدها:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ".

ثانيها:

حديث شعيب عن الزهري أَخْبَرَنِي سعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ، وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: الحَمْدُ لله الذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، وَلَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ.

تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ الهَادِي وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَالزُّبَيْدِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

قلت: وابن الهادي هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي، والزبيدي محمد بن الوليد.

ثالثها:

حديث أنس رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثاً لَا يُحَدِّثُكُمْ بِهِ

ص: 10

غَيْرِي قَالَ: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتُشْرَبَ الخَمْرُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ".

رابعها:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَزْنِي [الزَّانِي]

(1)

حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ". قَالَ ابن شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ المَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ: "وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ".

الشرح:

متابعة معمر أخرجها البخاري في أحاديث الأنبياء مسندة

(2)

.

ومتابعة ابن الهادي، قال الحاكم: أراد حديث ابن الهادي، عن عبد الوهاب بن بخت، عن الزهري

(3)

، قلت: وهي في النسائي

(4)

(5)

.

(1)

ليس بالأصل، وبدونها في أصل "اليونينية" ولكن أُثبتت في هامشها من رواية أبي ذر والمستملي عن الكشميهني. قال ابن حجر في "الفتح" 10/ 34: وقع في أكثر الروايات هنا "لا يزني حين يزني " بحذف الفاعل، فقدر بعض الشراح الرجل أو المؤمن أو الزاني، وقد بينت هذه الرواية -يقصد رواية أبي ذر- تعيين الاحتمال الثالث. اهـ.

(2)

سلف برقم (3394) باب: قول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)} .

(3)

انظر: "تحفة الأشراف"(13157).

(4)

"السنن الكبرى" 4/ 386.

(5)

ورد في هامش الأصل: فيما قاله نظر، وإنما هي في ترجمة عبد الوهاب بن أبي بكر، عن الزهري، في النسائي؛ وكأنه انتقل نظره، فإنها بعد ترجمة عبد الوهاب ابن بخت في "أطراف المزي" فاعلمه. =

ص: 11

ومتابعة الزبيدي أخرجها أيضًا عن كثير بن عبيد المذحجي ومحمد بن صدقة، عن محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري

(1)

.

وأخرجه ابن حبان، عن محمد بن عبيد الله، عن كثير بن عبيد، عن ابن حرب

(2)

.

وأخرجه البخاري في التفسير عن أحمد بن صالح عن عنبسة بن خالد عن يونس

(3)

.

= قلت: كذا علق سبط في الهامش، وفيه جزم المزي كما في "تحفة الأشراف" 10/ 21 بأن عبد الوهاب في رواية النسائي هو ابن رفيع (أبي بكر)، ورأيت في "علل الدارقطني" 7/ 273 أنه حين ذكر الاختلاف على الزهري، أورد من جملة من رواه عنه يونس والزبيدي وعبد الوهاب بن رفيع وابن الهاد، فيتضح أن لابن الهاد في هذا الحديث رواية عن الزهري بدون واسطة، وأن عبد الوهاب بن رفيع أحد من رووه عن الزهري، ولم يذكر فيهم عبد الوهاب بن بخت.

قلت: وجاءت رواية عبد الوهاب من طريق ابن الهاد عنه، غير منسوب فيحتمل على ما ذكره الدارقطني أن ابن الهاد رواه على الوجهين، وأن عبد الوهاب هو ابن رفيع لا ابن بخت، ولما ترجم المزي لهما في "تهذيبه" 18/ 488 - 492، ذكر أن ابن رفيع يروي عن الزهري، وعنه ابن الهاد، ولم يذكره لابن بخت، ثم رأيت أن ابن حجر اعترض على قول المزي في "التحفة" فرجح في "نكته" أن عبد الوهاب هو ابن بخت، وكذا أسنده في "تغليق التعليق".

لكن بقي هناك إشكال، هو أن المزي رحمه الله لما ذكر الحديث مسندا في "التحفة" في ترجمة شعيب، عن الزهري؛ نقل عن الحاكم أن ابن الهاد رواه عن ابن بخت، عن الزهري، ذكره معلقا في ترجمة عبد الوهاب بن بخت، فيفهم من ذلك أنه يرى أن ابن الهاد رواه عن ابن بخت، ثم أورد رواية النسائي في ترجمة عبد الوهاب بن رفيع.

(1)

المصدر السابق 4/ 388.

(2)

"صحيح ابن حبان" 1/ 248 (52).

(3)

سلف برقم (4709) باب قول الله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} .

ص: 12

ومتابعة عثمان بن عمر أراد بها روايته عن يونس بن يزيد، عن الزهري، كما قاله الحاكم وغيره

(1)

، وقد سلف في الإسراء طرف من هذا، وأنه أتي بثلاثة أقداح

(2)

.

وحديث ابن عمر أخرجه مالك عن نافع، ووقفه على عبد الله

(3)

، والبخاري أخرجه من طريقه عنه عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، وأخرجه مسلم والنسائي

(4)

.

وله طريق آخر عن ابن عمر أخرجه ابن أي عاصم من حديث يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد عنه مرفوعًا:"من شرب الخمر فجعلها في بطنه لم تقبل له صلاة سبعًا، إن مات فيها مات كافرًا وإن أذهبت عقله عن شيء من الفرائض لم تقبل منه صلاة أربعين يومًا، فإن مات فيها مات كافرًا".

(1)

كذا نقله المزي في "تحفة الأشراف" عنه، وتعقبه الحافظ ابن حجر في "النكت الظراف" فقال: قلت: لم يصب الحاكم في ذلك وإنما أراد البخاري حديث عثمان بن عمر، عن الزهري نفسه من غير واسطة يونس، وذلك أن عثمان بن عمر هذا (عثمان بن عمر بن فارس) الراوي عن يونس وقد وصله تمام الرازي في "فوائده" من طريق عثمان بن عمر التيمي. اهـ 10/ 21 - 22.

(2)

سلف برقم (3887)، كتاب مناقب الأنصار، باب: المعراج.

(3)

الذي في "الموطأ" مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وقال أبو عمر في "التمهيد" 15/ 9: روى مالك وابن جريج هذا الحديث كله عن نافع بعضه مسندًا وبعضه من قول ابن عمر، وهو كله مسند صحيح. وقال في 1/ 253 - 254: رواه جماعة منهم عبيد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، كما رواه أيوب وموسى بن عقبة، وكان عبيد الله ربما وقفه وكان يقول أحيانًا: لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا، والحديث ثابت مرفوع لا يضره تقصير من قصر في رفعه لرفع الحفاظ الأثبات له ولاجتماع الجماعة من رواة نافع على رفعه منهم: أيوب، وموسى وسائر من ذكرنا. اهـ. بتصرف.

(4)

مسلم (2003) كتاب: الأشربة، باب: عقوبة من شرب من الخمر إذا لم يتب منها بمنعه إياها في الآخرة. والنسائي 8/ 317 - 318.

ص: 13

وخرجه الترمذي وحسنه

(1)

، وله طريق آخر من حديث أبي هريرة أخرجه النسائي من حديث [. . .]

(2)

مرفوعًا: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية المذهب والفضة لم يشرب بها في الآخرة" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لباس أهل الجنة وشرب أهل الجنة وآنية أهل الجنة"

(3)

الذهب.

وروى ابن أبي عاصم بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "مدمن الخمر كعابد وثن"

(4)

.

قال ابن عدي في "كامله": تفرد به محمد بن سليمان الأصفهاني

(5)

، وخالف سليمان بن بلال فرواه عن سهيل، عن محمد بن عبد الله، عن أبيه موقوفًا

(6)

.

وقال أبو حاتم الرازي: هذا حديث خطأ

(7)

. ولابن عدي من

(1)

الترمذي (1861) من حديث ابن عمر.

(2)

بياض بالأصل بمقدار كلمتين وفي هامش (غ) تعليق نصه: سقط صحابي.

(3)

"السنن الكبرى" 4/ 195 (6869).

(4)

الحديث رواه ابن ماجه (3375)، والبخاري في "تاريخه الكبير" 1/ 99، وابن عدي في "الكامل" 7/ 464 من طريق محمد بن سليمان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، وقال البخاري: لا يصح حديث أبي هريرة في مثل هذا.

(5)

"الكامل" 7/ 464 بتصرف وهو بنصه في "العلل المتناهية" 2/ 182 (1117) من قول ابن الجوزي.

(6)

قاله الدارقطني في "العلل" 10/ 114 - 115.

(7)

"علل ابن أبي حاتم" 2/ 35، وقول أبي حاتم على حديث ابن عمرو الذي رواه المؤمل بن اسماعيل، عن سفيان، عن ابن المنكدر، عنه مرفوعًا، قال: إنما هو كما رواه حسن بن صالح، عن ابن المنكدر، عنه مرفوعًا، قال: إنما هو كما رواه حسن بن صالح، عن ابن المنكدر، عنه مرفوعًا، قال: إنما هو كما رواه حسن بن =

ص: 14

حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مثله

(1)

وفيه ضعف.

وفي التنفير عنه أحاديث أخر: حديث أصرم بن حوشب، ثنا فضيل أبو معاذ، عن أبي حريز عبد الله بن الحسين، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر" أخرجه الأصفهاني في "ترغيبه"

(2)

، ولابن سعد، قال أبو موسى: ما أبالي أشربت الخمر أم عبدت هذِه السارية من دون الله

(3)

.

وعن عروة بن رويم قال صلى الله عليه وسلم: "أول ما نهاني ربي عن شرب الخمر وعبادة الأوثان"

(4)

.

ومن حديث أبي يعلي أحمد بن علي، ثنا موسى بن محمد بن حيان، ثنا عبد القدوس بن الحواري، ثنا أبو هدبة، عن أشعث (الحرازي)

(5)

، عن أنس رفعه: "من فارق الدنيا وهو سكران دخل القبر وهو سكران، وبعث من قبره وهو سكران، وأمر به إلى النار وهو سكران إلى جبل يقال له سكران، فيه عين يجري منها القيح والدم وهو طعامهم

= صالح، عن ابن المنكدر قال: حدثت عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ. وحديث ابن عباس رواه أحمد 1/ 272.

(1)

لم أقف عليه في "الكامل"، ورواه البخاري في "تاريخه الكبير" 3/ 515 وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 184 (1120).

(2)

ورواه أحمد 4/ 399 من طريق المعتمر بن سليمان عن الفضيل بن ميسرة به.

(3)

لم أقف عليه في "طبقات ابن سعد"، وهو عند النسائي 8/ 314 وقال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2365): صحيح موقوف.

(4)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 96 (24056).

(5)

كذا بالأصل، والصواب (الحداني). انظر:"تهذيب الكمال" 3/ 272 و"سير أعلام النبلاء" 63/ 274، و"تهذيب التهذيب" 1/ 180.

ص: 15

وشرابهم ما دامت (السماوات)

(1)

والأرض"

(2)

.

ومن حديث عطيه العوفي، عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا:"لا يدخل الجنة مدمن سكر"

(3)

الحديث.

وأخرجه ابن أبي عاصم في "الأشربة" من حديث يزيد بن أبي زياد، عن سالم بن أبي الجعد عنه بلفظ:"خمر" بدل من سكر.

ومن حديث القاسم بن عبد الرحمن الشامي، عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا مكذب بقدر"

(4)

.

ولابن أبي حاتم من حديث حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا:"من لقي الله وهو مدمن خمر كان كعابد وثن"

(5)

.

(1)

من (غ) وسقطت من (س).

(2)

رواه أبو يعلى في "مسنده" كما في "إتحاف الخيرة المهرة" 4/ 388 (3803)، "المطالب العالية" 8/ 632 (1814).

وعزاه البوصيري إلى الأصبهاني، ورواه ابن عدي في "كامله" 1/ 343 من طريق أبي يعلى، وأعله بأبي هدبة، ومن طريقهما رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" 3/ 209 (1434)، وأورده على القاري في "الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة"(1257)، وهو حديث باطل لا يصح.

(3)

رواه أحمد 3/ 14، 3/ 83 والبزار كما في "كشف الأستار" (2932) وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 74: فيه عطية بن سعد وهو ضعيف، وقد وثق.

(4)

رواه الطبراني 8/ 240 - 241، وابن عدي في "الكامل" 2/ 156 وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 184 - 185 (1121) وقال: وهذا حديث لا يصح: قال أحمد بن حنبل: ترك الناس حديث بشر. قال يحيى: ليس بشي، وقال ابن حبان: والقاسم يروي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعضلات. اهـ. وقال الهيثمي في "المجمع" 7/ 206: رواه الطبراني بإسنادين، في أحداهما: بشر بن نمير وهو متروك وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2740).

(5)

"العلل" 2/ 26.

ص: 16

وقد سلف من حديث أبي هريرة

(1)

، ولفظه عند أحمد:"مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن"

(2)

.

ومن حديث مجاهد، عن (زيد الجرشي)

(3)

: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة مدمن خمر"

(4)

قال أبو حاتم: حديث منكر

(5)

.

ولابن عدي في "كامله" من حديث عثمان بن عفان مرفوعًا: "لا يجمع الإيمان والإدمان في صدر رجل أبدًا يوشك أحدهما أن يخرج الآخر" أسنده عمر بن سعيد بن شريح، عن الزهري ووقفه يونس ومعمر وشعيب وغيرهم عنه

(6)

. قال أبو داود وهو الصواب.

(1)

سبق تخريجه آنفًا.

(2)

رواه في "المسند" 1/ 272 من حديث ابن عباس قال: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا الحسن -يعني ابن صالح- عن محمد بن المنكدر قال: حدثت عن ابن عباس .. فذكره؛ ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 182 ثم قال: الراوي عن ابن عباس مجهول. والحسن بن صالح، قال ابن حبان: ينفرد عن الثقات بم لا يشبه حديث الأثبات. وحسنه الألباني في "الصحيحة"(677) بمجموع طرقه.

(3)

كذا بالأصول، وفي "الحلية": أبو زيد الحرمي، بحاء مهملة؛ وفي "المعجم الكبير"، و"معرفة الصحابة": أبو زيد الجرمي، وهو الصواب، وهكذا ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 229 (3010)، وابن حجر في "الإصابة" 4/ 79، وذكروا له هذا الحديث. قال ابن عبد البر: حديثه يدور على عبيد بن إسحاق. وقال ابن حجر: عبيد ضعيف جدا، وقد خولف.

(4)

رواه الطبراني في "الكبير" 22/ 372 (931)، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 309 وفي "معرفة الصحابة" 5/ 2902 وأعله الدارقطني في "العلل" 7/ 36 - 37. وقال ابن حجر في "الإصابة" 4/ 79: وعبيد ضعيف جدًا وأعله الدارقطني أ. هـ بتصرف.

(5)

"العلل" 2/ 31 ووقع فيه (زيد الجرشي) وهو خطأ.

(6)

لم أقف عليه في "الكامل" ورواه ابن أبي الدنيا في "ذم المسكر" 1/ 15 (1)، وابن حبان في "صحيحه" 12/ 168 - 169، والبيهقي في "شعب الأيمان" 5/ 10، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 185 - 186، من طريق عمر بن سعيد عن الزهري، =

ص: 17

ولأحمد في كتاب "الأشربة" من حديث خَلْدَة بنت طلق، عن أبيها طلق مرفوعًا: "والذي نفسي بيده لا يشربها رجل ابتغاء لذة (سكره)

(1)

فيسقيه الله الخمر يوم القيامة"

(2)

.

ولابن أبي عاصم من حديث سالم عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا:"ما من أحد يشرب الخمر فيقبل الله له صلاة أربعين يومًا وليلة، ولا يموت وفي مثانته منها شيء إلا حرم الله عليه الجنة، وإن مات في الأربعين مات ميتة جاهلية"

(3)

.

= عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه عبد الرحمن، عن عثمان فرفعه؛ وأخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، به موقوفًا على عثمان بن عفان رضي الله عنه 9/ 236، وأخرجه النسائي 8/ 315 قال: أخبرنا سويد قال أنبأنا عبد الله عن معمر به.

وأخرجه البيهقي في "السنن" 8/ 287 - 288 من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب به موقوفًا.

وقال الدارقطني في "العلل" 3/ 41: يرويه الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبيه واختلف عنه فأسنده عمر بن سعيد عن الزهري ووقفه يونس ومعمر وشعيب وغيرهم عن الزهري والموقوف هو الصواب.

وقال الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(1415): منكر.

(1)

بياض في (س) والمثبت من (غ).

(2)

كتاب: "الأشربة" 1/ 11 (32).

(3)

"الآحاد والمثاني" 2/ 106 (810)، والطبراني في "الأوسط" 1/ 116 - 117 (363) والحاكم في "المستدرك" 4/ 147 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 67 - 68: رجاله رجال الصحيح خلا داود بن صالح التمار وهو ثقة وقال المنذري كما في "صحيح الترغيب والترهيب"(2370): رواه الطبراني بإسناد صحيح.

وقال الألباني في "صحيح الترغيب"(2370): صحيح.

ص: 18

ولابن عدي من حديث الحسن بن عمارة، عن أبيه، عن عبد الله بن أبي أوفى، يرفعه:"شارب الخمر كعابد اللات والعزى" قال: الذي يشربه ولا يستفيق منه؟ قال: لا، الذي يشربه كلما وجده ولو بعد حول

(1)

.

ولأبي الليث من حديث شهر عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا: "من شرب الخمر كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال"

(2)

.

قال أبو الليث: إنما شبهها بعبادة الأوثان؛ لأن الله تعالى سماها رجسًا وأمرنا باجتنابها فقال: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، وقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ

(3)

مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، وقد روي عن ابن مسعود: من شربها نهارًا أشرك بالله حتى يمسي، ومن شربها ليلاً أشرك به حتى يصبح، وإذا مات فانبشوا قبره فإن لم تجدوه مصروفًا عن القبلة فافعلوا ما أردتم

(4)

.

فصل:

حديث أبي هريرة له طريق آخر من حديث عائشة، وفي آخره:"إياكم إياكم"

(5)

أخرجه ابن أبي عاصم بإسناد جيد.

(1)

رواه في "الكامل" 3/ 103 - 104 ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 181 (1115) وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال شعبة: الحسن ابن عمارة كذاب يحدث بأحاديث قد وضعها وقال يحيى: هو كذاب. أهـ.

(2)

رواه أبو الليث في "تنبيه الغافلين" ص 56، وأحمد في "المسند" 6/ 460 والطبراني 24/ 168 من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب به مطولاً وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 69: وفيه شهر بن حوشب وهو ضعيف، وقد حسن حديثه وبقية رجال أحمد ثقات. وحسنه المنذري كما في "ضعيف الترغيب" (1425) وتعقبه الألباني ثم قال: منكر.

(3)

سقطت من (س).

(4)

"تنبيه الغافلين" ص 56.

(5)

رواه أحمد 6/ 139.

ص: 19

وأخرجه أيضًا من حديث ليث عن مدرك، عن ابن أبي أوفى مرفوعًا:"لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"

(1)

.

وذكره ابن حزم من حديث ابن عباس مرفوعًا صحيحًا: "لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر" الحديث، وعائشة وأبي هريرة ثم قال: هو نقل متواتر يوجب صحة العلم

(2)

.

فصل:

تحريم الخمر قليلها وكثيرها معلوم من الدين بالضرورة، والإجماع قائم عليه، وشاربها مستحلًا كافر، أو غير مستحل فاسق إذا شربها في حال التكليف والاختيار، ولنذكر ما يتعلق بالكتاب والسنة فيه.

أما الكتاب: فالآية التي افتتح بها البخاري {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآيتين، ويبين الله فيها عِلِّية تحريم الخمر بقوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] إلى قوله {مُنْتَهُونَ} وهاتان الآيتان تتضمن دلائل عدة على تحريمها، فمنها قوله تعالى {رِجْسٌ} يعني: نجسًا مبعدًا بدليل قوله: {قُلْ لَا أَجِدُ} إلى قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145].

فبين في هذِه الآية الرجس المأمور باجتنابه في الآية الأخرى وإنه حرام بنص الله عليه، ثانيها: قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]

ثالثها: قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] أي كونوا أجانب منه، وهذا أمر، لقوله:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]{وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

(1)

رواية ابن أبي شيبة 5/ 96.

(2)

"المحلى" 11/ 120 - 121.

ص: 20

والأمر للوجوب، وحصل له الفلاح إن اجتنب ذلك، وذلك يفيد الوجوب أيضًا، وضد الفلاح الفساد، وكل شيء هو سبب لحصول العداوة والبغض بين الإخوان واجب اجتنابه وعكس ذلك ما يؤدي إلى الصلاح.

وقوله: ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وكل شيء يكون سببًا للصد عن هذين ففرض اجتنابه وواجب تركه، ألا ترى إلى قوله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [هود: 18، 19] ثم قال تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] وهو استفهام طريقه التوبيخ والردع والزجر، وهذِه اللفظة يقال إنها أبلغ لفظ للعرب في التكبر والمنع، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ} [الأعراف: 33] والمراد بالإثم: الخمر، قال الشاعر:

شربت الإثم حتى زال عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

وعزي إلى امرئ القيس.

وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] فلما جعل الغلبة للإثم علم أن ذلك محرم

قال ابن عباس قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] الآية، ثم نزل {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فكانوا لا يفعلونها عند الصلاة، فإذا صلوا العشاء فعلوها فلا يصبحون حتى تذهب عنهم، فإذا صلوا الصبح فعلوها فما يأتي الظهر حتى تذهب عنهم، ثم إن ناسًا شربوها فقاتل بعضهم بعضًا، وتكلموا بما لا يرضى الله فأنزل الله تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية. فحرم الخمر ونهى عنها وأمر باجتنابها كما أمر باجتناب الأوقات.

ص: 21

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما لما نزلت: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حرمت"

(1)

.

وقال عمر: انتهينا انتهينا إنها تذهب المال

(2)

. والمفسرون على أن المحرم لها هذا، وقال جماعة من الفقهاء: المحرم لها آيتان {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] والأخرى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} إلى {وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33].

والميسر: القمار بالأزلام، كذا في "الصحاح"

(3)

، والمفسرون يقولون: هو نحر الجزور، قاله ابن التين، وقد سلف في سورة المائدة واضحًا.

والأنصاب: الأوثان، وقال النحاس في "ناسخه": قال جماعة من العلماء إن قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} ناسخة لما كان مباحًا من شربه.

وقال آخرون: هي منسوخة بتحريمه بقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] فمن قال بهذا احتج بأن المنافع التي فيها إنما كانت قبل التحريم ثم نسخت، قاله الضحاك وعطاء، واحتج من قال أنها ناسخة بالأحاديث المتواترة التي فيها ثبات نزول تحريمها وبغير ذلك، فمن الحجج قول عمر رضي الله عنه: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} [البقرة: 219] فقال: اللهم بين لنا، فنزلت {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فقال: اللهم بين لنا في الخمر، فنزلت {إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة: 90] الآية، فقال عمر: انتهينا انتهينا.

(1)

رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1200 في تفسير سورة المائدة الآية [91].

(2)

المصدر السابق 4/ 1200.

(3)

"الصحاح" 2/ 857 مادة: (يسر).

ص: 22

وفي حديث سعد بن أبي وقاص: لما شرب وأخذ رجل بلحيته فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فنزلت {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] وفي حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس: نزل تحريم الخمر في حيين من قبائل الأنصار، لما ثملوا شج بعضهم بعضًا، فنزلت {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] فهذا بين أن الآية ناسخة، والقول الأول جائز، وأبين منه أنها محرمة بقوله تعالى {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] فإذا نهى الله عن شيء فهو محرم، وقد يجمع بين هذا الاختلاف أن عمر سأل بيانًا شافيًا ولم يقل فنزلت، فيجوز أن يكون سؤال عمر وافق ما كان من سعد ومن الخبر وائتلفت الأحاديث

(1)

.

{وَالْأَزْلَامُ} فيما قاله قتادة وغيره: قداح يكتب في أحدها: تأمرني بالخروج، وعلى الآخر: لا تأمرني، والآخر منها لا يكتب عليه شيء، فيجيلها، فإن خرج الأول خرج، وإن خرج الثاني لم يخرج، وإن خرج الثالث رجع فأجالها

(2)

.

فصل:

وهذِه الأحاديث المذكورة في الباب وغيرها دالة على تحريمها؛ لشدة الوعيد فيها حيث يحرمونها في الآخرة.

ومعناه عند أهل السنة: إن أنفذ عليه الوعيد، وكذا قوله:(غوت أمتك) فإن الغي محرم، وفي هذا دليل على أن الأقدار عند الله بشروط، متى وقعت الشروط وقعت الأقدار، ومتى لم تقع لم يوقع على ما سبق من هدايته لغيره إلى تلك الشروط ولغيرها من الأقدار التي أراد أن يعقدها عليه من هدى أو ضلال.

(1)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 575 - 585.

(2)

"تفسير الطبري" 4/ 415 - 417.

ص: 23

وقوله: "أن يظهر الزنا وتشرب الخمر" ففرق بينهما في الرتبة، فكذلك هما في التحريم.

وأما قوله: "لا يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن" فهو أشد ما جاء في شارب الخمر وقد تعلق بظاهره الخوارج، وكذا المعتزلة: أن الفاسق المسلم لا يسمى مؤمنًا، فكفروا المؤمنين بالذنوب، والذي عليه أهل السنة وعلماء الأمة أن المراد مستكمل الإيمان؛ لأنهما أنقص حالاً ممن لم يأت شيئًا منها لا محالة؛ لا أنه كافر بذلك، وسأتقصى مذاهب العلماء في تأويله في الحدود إن شاء الله، وأبعد من حمله على الفعل مستحلًا أو عظم ذنبه حتى قارب الكفر أو لا يكون آمنًا من العذاب.

قال ابن حزم: روينا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مسندًا: يخلع منه الإيمان كما يخلع سرباله، وإذا رجع رجع إليه الإيمان

(1)

.

وفي حديث ابن عباس أنه سئل عن ذلك فشبك بين أصابعه ثم زايلها، وفي لفظ عنه: لا يزني الزاني إلا خلع الله ربقة الإيمان منه فإن شاء أن يرده إليه رده وإن شاء أن يمنعه منعه

(2)

.

وفي حديث أبي هريرة: "ينتزع منه الإيمان ما دام على خطيئة فإذا فارقها رجع إليه" وفي رواية عنه: "زال الإيمان كالظل"

(3)

.

وعن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد مرفوعًا مثله

(4)

.

(1)

الحديث رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 352، وابن الجوزي في "ذم الهوى" 1/ 200 (554)، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1584).

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 417 (13687).

(3)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 352.

(4)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 415.

ص: 24

وفي آخره: هذا نهي يقول حين هو مؤمن فلا يفعل حتى يفعل هذِه الأمور ويلزم من قال: الإيمان (المزيل)

(1)

للشارب في حال شربه أو الزاني، وما في الحديث أنه التصديق أن يقول: إن الشارب وشبهه قد يبطل تصديقهم، ومن بطل فهو كافر ويلزمه أن تجري عليه أحوال الكفار وهو خلاف إجماع من يعتد به وُيعرف بضرورة الحسن أو من واقع شيئًا من الذنوب أن تصديقه ما زال حتى يصح أن الزائل هو الطاعة فقط، وهذا أمر مشاهد بيقين؛ لأن هذِه الأمور ليس شيء منها طاعة فليست إيمانًا، وهذا الحديث من الحجج القاطعة على أن الطاعات كلها إيمان وأن ترك الطاعة ليس إيمانًا

(2)

.

فصل:

وإنما أدخل البخاري هذِه الأحاديث في هذا الباب -والله أعلم- بالوعيد والتشديد في الخمر ليكون عوضًا من حديث ابن عمر في الباب في مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها [و]

(3)

لم يتب منها لم يشربها في الآخرة"

(4)

.

وفي رواية له: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام"

(5)

.

قال ابن بطال: وإنما لم يخرجه في صحيحه؛ لأنه يروى موقوفًا

(1)

كذا بالأصول، ولعلها:(المزايل)، كما في "المحلى".

(2)

"المحلى" 11/ 119 - 123 بتصرف.

(3)

غير موجودة بالأصل، والسياق يقتضيها.

(4)

"مسلم (2003/ 73) كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام.

(5)

مسلم (2003/ 75).

ص: 25

فلذلك تركه

(1)

، وسيأتي بعد الخوض في ذلك.

فصل:

قال الطبري: وفي قوله {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ} الآية [المائدة: 91] الدلالة على تحريم الله على عباده المؤمنين أن يعادي بعضهم بعضًا، والأمر منه لهم بالألفة والتآخي والتواصل، ودلت الآية على أن تحريم الخمر إنما كان من أجل إيجابه لشاربه العداوة والبغضاء في الخمر والميسر بين عباده أن المعنى الذي حرم ذلك من أجله أوكد في التحريم وأبعد من التحليل، والعداوة والبغضاء إذًا بين المؤمنين أشد وأعظم عند الله بدلالة هذِه الآية من شرب الخمر والقمار، وكذلك التفريط في الصلاة وتضييع وقتها أعظم عند الله من شرب الخمر والقمار. وفي ذلك دليل أن عداوة المؤمن للمؤمن عدل بتضييع وقت الصلاة والتفريط فيها وفي ذكر الله؛ لأن الله جمع بين جميع ذلك في تحريمه السبب الذي يوجب لأهله ذلك، فحرم الله الخمر والميسر لمصلحة خلقه

(2)

.

فصل:

أُوِّلَ أيضًا بمعنى حرمها في الآخرة أنه في وقت دون غيره كقوله: "نساء كاسيات عاريات" الحديث

(3)

؛ لأنه لو حرمها في الجنة أبدًا كانت عقوبة شربها تتبعه في الجنة، وكل من دخلها فهو مغفور له، ذكره ابن التين، قال: وقيل: فينساها فلا تجري له على بال، وقيل: تسلب شهوتها.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 38.

(2)

"تفسير الطبري" 5/ 33 - 34 بمعناه.

(3)

رواه مسلم (2128) كتاب اللباس والزينة، باب: النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات.

ص: 26

وقال القرطبي: ظاهر الحديث تأييد التحريم، وإن دخل الجنة فيشرب من جميع أشربتها إلا الخمر، ومع ذلك فلا يتألم لعدم شربها، ولا يحد من شربها، ويكون حاله كحال أصحاب المنازل في الخفض والرفعة، فكما لا يشتهي منزلة من هو أرفع منه وليس ذلك بعقوبة له، قال تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر: 47] وقيل: إنه يعذب في النار فإذا خرج منها بالرحمة أو الشفاعة ودخل الجنة لم يحرم شيئًا، وكذا قولنا في لبس الحرير والشرب في آنية الذهب والفضة

(1)

.

فصل:

أشراط الساعة: علاماتها، واحدها شَرَط بفتح الشين والراء.

وقوله: "حتى يكون خمسين امرأة قيمهن رجل واحد" يحتمل أن يريد نساء وسراري، وأن يريدهما وذوات محارم معهما، ذكره ابن التين والظاهر أنه كناية عن كثرة النساء وقلة الرجال.

فصل:

قال ابن عبد البر: في هذا الحديث دليل على تحريم الخمر، وأن شربها من الكبائر؛ لأن هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخولها؛ لأن الله تعالى أخبر أن الجنة فيها أنهار من خمر، والظاهر أن من دخلها لا بد له من شرب خمرها، ولا يخلو من حرمها في الجنة ولم يشربها فيها وقد دخلها من أن يكون يعلم أن فيها خمرًا لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وإنه حرمها عقوبة أو لا يكون يعلم بها، فإن يكن لا يعلم فليس في هذا شيء من الوعيد؛ لأنه إذا لم يعلم بها ولم يذكرها ولا رآها لم يجد ألم فقدها، فأي عقوبة في هذا؟!

(1)

"المفهم" 5/ 270 - 271.

ص: 27

ويستحيل أن يخاطب الله ورسوله بما لا معنى له، وإن كان عالمًا بها وبموضعها ثم حرمها عقوبة إذا لم يتب قبل الموت وعلى هذا جاء الحديث، فإن كان كذا فقد لحقه حينئذ حزن وغم وهم لما حرم من شربها هو ويرى غيره شربها والجنة دار لا حزن فيها ولا غم، قال الله تعالى {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34] وقال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} [الزخرف: 71] وقال: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} [الحجر: 48] ولهذا والله أعلم قال بعض من تقدم: إن من شرب الخمر ولم يتب منها لم يدخل الجنة. وهو مذهب غير مرضٍ عندنا إذا كان على القطع في إبعاد الوعيد، ومحمله عندنا أنه لا يدخل الجنة إلا أن يغفر الله له إذا مات غير تائب منها، كسائر الكبائر.

وكذلك قولهم: لم يشربها في الآخرة، معناه عندنا إلا أن يغفر الله له فيدخل الجنة ويشربها، وهو عندنا في المشيئة؛ إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بذنبه، فإن عذبه بذنبه ثم أدخله الجنة برحمته لم يحرمها إن شاء الله، وإن غفر له فهو أحرى أن لا يحرمها.

وعلى هذا التأويل يكون معنى حرمها في الآخرة أي: جزاؤه وعقوبته أن يحرمها في الآخرة، ولله جل وعز أن يجازي عبده المذنب على ذنبه وأن يعفو عنه فهو أهله، قال تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]

وهذا الذي عليه عقد أهل السنة، أن الله تعالى يغفر لمن يشاء ما عدا الشرك ولا ينفذ الوعيد على أحد من أهل القبلة، وجائز أن يدخل الجنة إذا غمر الله له فلا يشرب فيها خمرًا ولا كرهًا ولا يراها ولا تشتهيها نفسه

(1)

.

(1)

"التمهيد" 15/ 5 - 8.

ص: 28

قلت: لكن في "صحيح الحاكم" وقال: صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو"

(1)

.

وأخرجه أيضًا ابن حبان في "صحيحه"

(2)

، وقبلهما أبو داود الطيالسي في "مسنده"

(3)

، والظاهر أن هذِه الزيادة:"وإن دخل الجنة" إلى آخره من بقية كلامه صلى الله عليه وسلم، ولئن كانت من كلام الراوي فكذلك؛ لأنه أعلم بالمقال، فيقوي الاحتمال (السابق)

(4)

وهو نسيانه له أو سلب شهوته.

فصل:

قد أسلفنا أن الإثم المراد بها هنا الخمر وهو أحد أسمائها، وحكاه الرازي قولًا بعد أن قال: الإثم هو الذنب والجرم، وقد حرم الله الإثم كما سلف، فإذا كان الإثم حرامًا فما حصل فيه الإثم فهو حرام، وسميت إثمًا لأنها سببت الإثم

(5)

.

وأما أبو جعفر النحاس فقال في "ناسخه": وأما قول من قال: إن الخمر يقال لها: الإثم، فغير معروف من حديث ولا لغة

(6)

.

(1)

"المستدرك" 4/ 191 وقال: حديث صحيح، وهذِه اللفظة تعلل الأحاديث المختصرة أن من لبسها لم يدخل الجنة. اهـ.

(2)

"صحيح ابن حبان" 12/ 253 - 254 (5437).

(3)

"مسند الطيالسي" 3/ 667 (2331) وقال الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(1251): منكر.

(4)

من (غ).

(5)

"التفسير الكبير" 6/ 44 بتصرف.

(6)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 579.

ص: 29

قلت: لكن القزاز في "جامعه" وصاحب "الواعي" وآخرون صرحوا بأنه الخمر، قال أبو عبد الله: الإثم في هذِه الآية أكثر (الناس)

(1)

على أنه الخمر، وأنها أوجبت تحريمه.

فصل:

قد أسلفنا أن الرجس، ولا عين توصف بذلك، فإنها محرمة

(2)

.

يدل على ذلك الميتة والدم والبول، والرجس قد ورد مرة، والمراد به: الكفر.

قال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] يعني: الكفر، ولا يصح أن يكون مرادًا هنا؛ لأن الأعيان لا تصح أن تكون إيمانًا ولا كفرًا، ولأن الخمر لو كانت كفرًا لوجب أن يكون العصير قبل أن يصير خمرًا إيمانًا، إذ الكفر والإيمان طريقهما الاعتقاد والقول.

قال ابن عبد البر: الرجس ذكره الله تعالى مقرونًا بالميتة والدم وقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] وقال: فإنه رجس وهذا أقوى في التحريم وأوكد عند العلماء

(3)

.

فصل:

جاء في أحاديث أن الذي حرم شربها حرم بيعها فمن جوز بيعها لأهل الذمة فقد خالفها، روينا من حديث حماد بن أبي حنيفة، عن أبيه، عن محمد بن قيس، عن أبي عامر الثقفي: أنه كان يهدي

(1)

طمس بالأصل والمثبت من (غ).

(2)

كذا جاءت بالأصول والمعنى: أن الخمر نعتت بأنها رجس أي: نجسة وقذرة ولا عين توصف بذلك إلا وهي محرمة.

(3)

"التمهيد" 1/ 246.

ص: 30

لرسول الله كل عام راوية خمر فأهدى له راوية في العام الذي حرمت فيه الخمر، فقال له عليه السلام:"قد حرمت الخمر فلا حاجة في خمرك" فقال: أفأبيعها وأستعين بثمنها؟ فقال له عليه السلام: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها"

(1)

وروي أن تميمًا هو المهدي، وفي آخره:"لعن الله اليهود" فذكر قصة الشحوم، والخمر حرام وثمنها حرام

(2)

.

وبه إلى محمد بن قيس قال: سألت ابن عمر، أو سأله أبو كثير عن بيع الخمر، فقال: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فحرموا أكلها، واستحلوا بيعها وأكل ثمنها وإن الذي حرم الخمر حرم بيعها وأكل ثمنها وروينا في "سنن أبي داود" من حديث جابر مرفوعًا:"إن الله حرم بيع الخمر والميتة"

(3)

.

(1)

لم أقف عليه من طريق حماد بن أبي حنيفة عن أبيه وهو في "مسند أبي حنيفة" برواية الإمام الحصكفي ص 152 وفيه تحريف، وأشار المحقق إلى ذلك في الهامش وصوب التحريف.

(2)

رواه أحمد في "مسنده" 4/ 227 من طريق عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، ورواه الطبراني 1/ 57 (1275) من طريق عبد الحميد بن جعفر، عن شهر، به.

وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 88: رواه أحمد هكذا وفيه: شهر، وحديثه حسن، وفيه كلام، ثم قال: ورواه الطبراني فذكر نحوه باختصار، وإسناده متصل حسن. اهـ. بتصرف.

وعند الطبراني في "الأوسط" من طريق أشعث بن سوار، عن أبي هبيرة، عن يحيى بن عباد قال سمعت تميمًا، فذكر نحوه وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 89: فيه أشعث بن سوار، وهو ثقة وفيه كلام.

وقال الحافظ في "المطالب العالية" 8/ 616 (1805): هذا حديث حسن.

(3)

"سنن أبو داود"(3486) قلت: وقد سلف في "صحيح البخاري" برقم (2236) كتاب: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام بمتنه وإسناده سواء.

ص: 31

ومن حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم حرم بيع الخمر وثمنها

(1)

.

وقال عمر بن الخطاب: لا تحل التجارة في شيء لا يحل أكله

(2)

، وروينا في "الأوسط" للطبراني من حديث (عبد الله بن عمر)

(3)

، عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي بكر بن حفص، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه أن رجلاً من ثقيف يكنى أبا تمام قال: يا رسول الله وذكر الخمر أستنفق بثمنها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "إن الذي حرم شربها حرم ثمنها"

(4)

قال أبو موسى المديني في كتابه "معرفة الصحابة": يصحف هذا بأبي عامر أو لم يحدد الراوي كنيته.

وروينا في "سنن أبي داود" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة منها: بائعها ومبتاعها

(5)

. وفي إسناده عبد الرحمن الغافقي، قال ابن معين: لا أعرفه

(6)

، وذكره ابن يونس في "تاريخه" وأوضح أنه معروف، وذكره الحاكم في "مستدركه" شاهدًا لحديث ابن عباس مثله، ثم قال في حديث ابن عباس: إنه صحيح الإسناد

(7)

.

(1)

"سنن أبي داود"(3485) وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(2358) و"صحيح الجامع"(1746).

(2)

رواه محمد بن نصر المروزي كما في "التمهيد" 4/ 150 والبيهقي في "سننه" 6/ 14.

(3)

كذا بالأصل والصواب عبيد الله بن عمرو الذي يروى عن زيد بن أبي أنيسه.

(4)

"الأوسط" 1/ 138 (436) وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 89: رجاله رجال الصحيح.

(5)

"سنن أبو داود"(3674).

(6)

"تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي" 1/ 143 (481).

(7)

"المستدرك" 2/ 31 - 32.

ص: 32

وكذا صححه ابن حبان

(1)

وهو حجة على كراهة بيع العصير فيمن يتخذه خمرًا، وفيه حديث نص فيه ضعيف.

قال ابن عبد البر: وروي عن أنس أنها لما حرمت جاء رجل إلى رسول الله، فقال: كان عندي مال ليتيم فاشتريت به خمرًا أفتأذن لي أن أبيعها فقال: "قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها" ولم يأذن له في بيع الخمر

(2)

.

قال: والمسلم لا يثبت له على الخمر ملك لحال، كما لا يثبت على الميتة والدم والخنزير والصنم.

وقوله: "إن الذي حرم شربها" فيه إجماع من المسلمين كافة عن كافة لا يحل لمسلم بيعها ولا التجارة فيها

(3)

، روى عبد الله بن عمر أنه عليه السلام قال:"الخمر حرام وبيعها وثمنها حرام"

(4)

.

وعن ابن عباس: أن جبريل قال: يا محمد، إن الله لعن الخمر وبائعها ومبتاعها. الحديث

(5)

.

(1)

"صحيح ابن حبان" 12/ 178 - 179 (5356).

(2)

رواه أبو يعلى 6/ 160، وابن حبان 11/ 320 (4945).

(3)

"التمهيد" 4/ 149، "الاستذكار" 24/ 316.

(4)

رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "زوائد مسند الحارث" 1/ 140 - 141 (431).

(5)

أخرجه أحمد في "المسند" 1/ 316، وعبد بن حميد في "المنتخب" 1/ 582 (685)، وابن حبان (5356) والحاكم 4/ 145 وصححه ووافقه الذهبي، وصحح إسناده الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 250 وأقره الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 264 وابن حجر العسقلاني في "الدراية" 2/ 235 والحديث صححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(839).

ص: 33

فائدة:

ينعطف على ما مضى في لبس الحرير في "مسند عبد بن حميد" من حديث شريك، عن جابر، عن خالته أم عثمان، عن الطفيل ابن أخي جويرية، عن جويرية، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من لبس ثوبًا من حرير في الدنيا ألبسه الله ثوبًا من نار يوم القيامة"

(1)

.

فصل:

[اختلف]

(2)

أهل اللغة في اشتقاق اسم الخمر على ألفاظ قريبة (المعاني)

(3)

، متداخلة كلها موجودة المعنى في الخمر إما لأنها تخمر العقل أي: تغطيه وتستره أو الدماغ، ومنه الخمار؛ لأنه يغطي الرأس، قال النحاس: وهو أصح ما فيه وأجله إسنادًا، قاله الفاروق على المنبر بحضرة الصحابة

(4)

.

وفي "الأشربة" لأحمد عنه: ما خمرته وعتقته فهو خمر

(5)

.

وفي لفظ: ما عتقت وخمرت فهي خمر، وإما لأنها صعد صفوها ورسب كدرها، (كما)

(6)

قاله سعيد بن المسيب

(7)

، وإما لأنها من المخامرة وهي المخالطة؛ لمخالطتها العقل، أو لأنها تركت حتى أدركت، يقال: خمر العجين إذا بلغ إدراكه.

(1)

"المنتخب" 3/ 255.

(2)

زيادة يقتضيها السياق.

(3)

من (غ).

(4)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 594.

(5)

"الأشربة" ص 69 (157).

(6)

من (غ).

(7)

أخرجه النسائي 8/ 334.

ص: 34

فصل:

وهي مؤنثة، وقد تذكر، ونعوتها موبقات كما قال الفراء، ولها أسماء كثيرة وكنى، ذكر ابن المعتز مائة وعشرة، وزاد عليه أبو القاسم اللغوي مائتين وأربعين اسمًا، وذكرت في "لغات المنهاج" منها مائة وتسعين لابن دحية، ومن كناها: أم ليلى، ومن أسمائها: الدم والسلان والمأذى والمزة وأم زنبق والساهرة والمفتاح والمنومة والديانة وعبد النور. وفي كتاب أبي حنيفة الدينوري من أسمائها: الفضيخ والطلاء والباذق ونصيف والبتع.

فصل:

قال ابن قتيبة في كتاب "الأشربة"

(1)

: حرم الله بالكتاب الخمر وبالسنة السكر، وعوضًا منها صنوف الشراب من اللبن والعسل وحلال النبيذ، وليس في شيء مما وقع فيه الحظر والإطلاق شيء اختلف فيه الناس اختلافهم في الأشربة وكل ما حل فيها وما يحرم على قديم الأيام مع قرب العهد بالرسول صلى الله عليه وسلم وعليه وتواتر الصحابة وكثرة العلماء المأخوذ عنهم المقتدى بهم، حتى يحتاج ابن سيرين مع بارع علمه وثاقب فهمه إلى أن يسأل عبيدة السلماني عن النبيذ، حتى يقول

عبيدة -وقد لحق خيار الصحابة وعلماءهم منهم، علي وابن مسعود-: اختلف علينا في النبيذ. وفي رواية: أحدث الناس أشربة (كثيرة)

(2)

فمالي شراب منذ عشرين سنة إلا لبن أو ماء وعسل

(3)

.

(1)

"كتاب الأشربة" ص 16 - 17.

(2)

من (غ).

(3)

أخرجها النسائي في "الكبرى" 3/ 247 وعبد الرزاق 9/ 226 وابن أبي شيبة 5/ 68، وابن أبي الدنيا في "ذم المسكر" ص 34 (37).

ص: 35

وإن شيئًا وقع الاختلاف فيه في ذلك العصر بين أولئك الأئمة لحري أن يشكل على من بعدهم وتختلف فيه آراؤهم ويكثر فيه تنازعهم، وقد ثبت من مذاهب الناس وحجة كل فريق منهم لمذهبه وموضع الاختيار من ذلك السبب الذي أوجبه، والعلة التي غلبت عليه ما حضرنى بمبلغ العلم ومقدار الطاعة، فنقول: أجمع الناس على تحريم الخمر

(1)

إلا قومًا من مجان أصحاب الكلام وفساقهم ممن لا يعبأ الله بهم فإنهم، قالوا: ليست محرمة وإنما نهى الله عن شربها تأديبًا، كما أمر في الكتاب بأشياء ونهى فيه عن أشياء على جهة التأديب وليس منها ما هو فرض كقوله:{فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] وقوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وكقوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29].

قالوا: لو أراد تحريمها لقال: حرمت عليكم الخمر كما ذكر في الميتة وغيرها. وليس للشغل بهؤلاء وجه ولا تشقيق الكلام بالحجج عليهم معنى، إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على إجماع، وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يخيل على عاقل ولا جاهل؛ لأن الناس أجمعوا على أن ما غلى وقذف بالزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر، وأنه لا يزال خمرًا حتى يصير خلًّا وأنها ليست محرمة العين كالخنزير، وإنما حرمت بعَرَضٍ دخلها، فإذا زايلها حلت كما كانت قبل الغليان حلالًا؛ كالمسك كان دمًا عبيطًا ثم جف، وحديث رائحته فيه خل وطاب، وكان جماعة من الصحابة يحرمونها على أنفسهم في الجاهلية لعلمهم بسوء مصرعها وكثرة جناياتها، قالت عائشة رضي الله عنها: ما شرب أبو بكر رضي الله عنه خمرًا في جاهلية ولا إسلام.

وقال عثمان رضي الله عنه كذلك، وكان عبد الرحمن بن عوف ممن ترك

(1)

"الإقناع" لابن القطان 2/ 991 (1864).

ص: 36

شربها، وقيل للعباس بن مرداس في جاهليته: لما لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جرأتك؟ قال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي، وأصبح سيد قومي وأمسي سفيههم

(1)

.

وكان قيس بن عاصم يأتيه تاجر خمر فيشتري منه، فشرب يومًا فسكر سكرًا قبيحًا فجذب ابنته وتناول ثوبها ورأى القمر فتكلم (بشيء)

(2)

ثم أنه أنهب ماله ومال الخمار وأنشأ شعرًا، فلما صحى خبرته ابنته مما صنع قال: لا أذوق الخمر أبدًا، وكان عثمان بن مظعون حرمها في الجاهلية وقال: لا أشرب شرابًا يذهب عقلي ويضحك بي من هو دوني، فبينا هو بالعوالي إذ أتاه آت فقال: أشعرت أن الخمر قد حرمت؟ وتلا عليه آية المائدة، فقال: تبًا لها لقد كان بصري فيها نافذًا.

وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق في كتاب "قطب السرور" جماعة كثيرة فعلت ذلك، تركناهم اختصارًا.

فصل:

وذكر أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتابه "اختلاف العلماء": أن سفيان قال: أشرب العصير ما لم يغل، وغليانه أن يقذف بالزبد فإذا غلا فهو خمر، وكذلك قال أصحاب الرأي

(3)

، وهو قول الشافعي

(4)

.

ؤقال أحمد وإسحاق

(5)

: يشرب العصير ما لم يغل، أو يأتي عليه

(1)

رواه ابن أبي الدنيا في "ذم المسكر" ص 41 (52).

(2)

من (غ).

(3)

انظر: "المبسوط" 24/ 12.

(4)

انظر: "روضة الطالبين"10/ 168.

(5)

انظر: "المغني" 10/ 340.

ص: 37

ثلاثة أيام، فإذا أتى عليه ثلاثة أيام ولم يشرب غلا أو لم يغل، واحتجوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أشرب العصير ما لم يأخذ شيطانه قال: ومتى يأخذ شيطانه، قال في ثلاثة أيام

(1)

.

وقال الشافعي

(2)

: ما دام العصير حلوًا لم يشتد فهو حلال وسواء أتى عليه ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر إذا لم يتغير عن حاله وكان حلوًا مثل أول عصره

(3)

.

فصل:

قال النحاس

(4)

: أوقع قوم شبهه فقالوا: الخمر هى المجمع عليها ولا يدخل فيها ما اختلف فيه وهذا ظلم من عظيم القول يجب على قائله [أن]

(5)

لا يحرم شيئًا اختلف فيه، واحتجوا أيضًا بأن من قال: الخمر التي لا اختلاف فيها محلها كافر -كما مر- وليس كذلك غيرها. وهذان الاحتجاجان أشد ما لهما، فأما الأحاديث التي جاءوا بها فلا حجة فيها، لضعف أسانيدها، ولتأويله إياها على غير الحق.

وقد قال ابن المبارك: ما صح تحليل النبيذ الذي يسكر كثيره عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن إبراهيم النخعي، فأما الاحتجاجان الأولان اللذان يعتمدون عليهما فقد بينا الرد في أحدهما وسنذكر الآخر، فالخمرة المحرمة تنقسم قسمين؛ مجمع عليه: وهي عصير

(1)

أخرجه عبد الرزاق 9/ 217 (16990)، وابن أبي شيبة 5/ 78.

(2)

انظر: "نهاية المحتاج" 8/ 11 - 12، و"روضة الطالبين" 10/ 168.

(3)

"اختلاف العلماء" 472 - 473.

(4)

"الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس 1/ 582 - 588.

(5)

ليست في الأصل، والمثبت من "الناسخ والمنسوخ" للنحاس.

ص: 38

العنب إذا رغا وأزبد فهذِه التي من أحلها كفر، والأخرى التي لا يكفر من أحلها، وهي التي جاء بها التوقيف عن رسول الله أنه الخمر، وعن أصحابه بالأسانيد التي لا يدفعها إلا حادٍ عن الحق أو جاهل، إذ [قد صح]

(1)

عنه تسميتها خمرًا وتحريمها، فمن ذلك حديث عائشة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع

(2)

؛ فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام"

(3)

.

قال أبو جعفر: فلو لم يكن في هذا الباب إلا هذا الحديث لكفى؛ لصحة إسناده واستقامة طريقه، وقد أجمع الجميع أن الآخر لا يسكر إلا بالأول فقد حرم الجميع بتوقيف الشارع، وفي هذا الباب بما لا يدفع حديث ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه:"كل مسكر خمر وكل مسكر حرام"

(4)

. قال أحمد: هذا إسناد صحيح

(5)

.

وعن أبي موسى وأبي هريرة مرفوعًا: "كل مسكر حرام"

(6)

، قال أبو جعفر: فهذِه الأسانيد المتفق على صحتها. وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"

(7)

فهذا تحريم ما أسكر كثيره نصًا، بهذا الإسناد المستقيم.

(1)

في الأصل: يوضح، والمثبت من "الناسخ والمنسوخ".

(2)

البتع، بكسر الباء الموحدة، كعنب: نبيذ العسل المشتد أو سلالة العنب، انظر:"القاموس المحيط" مادة: بتع. ص 905.

(3)

سلف برقم (242) كتاب: الوضوء، باب: لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر.

(4)

"مسلم"(2003) كتاب: الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر.

(5)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 584 - 585.

(6)

سلف برقم (4343) كتاب: المغازي، باب: بعث أبي موسى.

(7)

رواه ابن ماجه (3392) وأحمد 2/ 91، والبيهقي 8/ 296 قال الألباني في "الإرواء" (2375) وقال: صحيح.

ص: 39

قال البزار: وقد روي التحريم عن عائشة رضي الله عنها، قال يحيى بن معين فيما حكاه ابن عبد البر: هو أصح حديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر

(1)

.

وعن سعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعمر وابنه وابن عباس وأنس وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة وخَوَّات بن جبير وقرة بن إياس وأبي موسى الأشعري والديلم بن الهوسع وبريدة الأسلمي وأم سلمة وميمونة وقيس بن سعد.

وحديث عائشة وابن عمر صحيح، وسائر الأحاديث يؤيد بعضها بعضًا

(2)

.

قلت: وحديث ابن عباس إسناده في غاية الصحة، وحديث أبي هريرة على شرط الشيخين، ولفظ ابن أبي عاصم في حديث أم سلمة رضي الله عنها: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر. وفي سنده شهر.

وعند أحمد، قال جنادة: سألت عطاء بن أبي رباح عما أسكر أو خدَّر، قال: حرام

(3)

.

ولفظ حديث قيس بن سعد بن عبادة من حديث ابن زحر، عن بكر ابن سوادة، عن قيس مرفوعًا:"إن الله حرم الخمرة والكوبه وإياكم والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم"

(4)

.

(1)

"الاستذكار" 24/ 294، 295.

(2)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 586 - 589.

(3)

"الأشربة" ص 31 (13).

(4)

رواه أحمد 3/ 422، وابن أبي شيبة في 5/ 97 وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 54 وقال: رواه أحمد والطبراني وفيه: عبيد الله بن زحر، وثقه أبو زرعة والنسائي وضعفه الجمهور. وللحديث طريق عن قيس بن سعد رواه البيهقي 10/ 222 من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد بن عبدة، عن قيس بن سعد، به. ولكن دون "فإنها ثلث العالم". قال الألباني في "تحريم آلات الطرب" =

ص: 40

ولفظ حديث ديلم عند بن أبي عاصم: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نبيذ يتخذ من القمح، قال:"هل يسكر" قلت: نعم قال: "فاجتنبوه" فقلت: إن الناس غير تاركيه، قال:"إذا لم يتركوه فاقتلوهم"

(1)

.

قال أبو جعفر: وما تبين أن الخمر يكون من غير عصير العنب من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن اللغة والاشتقاق ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخمر من النخلة والعنب" وفي لفظ: "في هاتين الشجرتين النخلة والعنب"

(2)

، وخالف ذلك قوم فقالوا: لا تكون إلا من العنب، ونقضوا قولهم فقالوا: نقيع التمر والزبيب خمر؛ لأنه لم يطبخ.

وقد ذكر النسائي عن النعمان بن بشير يرفعه: "الخمر من خمسة من الحنطة والشعير والتمر والزبيب والعسل وما خمرته فهو خمر"

(3)

، وكذا ذكره عمر بن الخطاب على المنبر

(4)

، زاد الدارقطني في حديث النعمان:"وأنهاكم عن كل مسكر"

(5)

.

وفي لفظ: "إن من التمر خمرًا، وإن من الزبيب خمرًا، وإن من التمر والشعير خمرًا، وإن من العسل خمرًا"

(6)

.

قلت: وفي الباب أيضًا حديث أم حبيبة ابنة أبي سفيان وابن مسعود، وطلق بن علي وأبي قتادة ومعقل بن يسار وعبد الله بن مغفل ومعاذ بن

= ص 59: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات.

(1)

رواه أبو داود (3683)، وأحمد 4/ 231 - 232 وفي "الأشربة"(209، 210).

(2)

مسلم (1985) كتاب: الأشربة، باب: تحريم التداوي بالخمر.

(3)

"السنن الكبرى" 4/ 181 (6787).

(4)

"سنن النسائي" 8/ 295.

(5)

"سنن الدارقطني" 4/ 253، ورواه أبو داود (3677).

(6)

"سنن الدارقطني" 4/ 253، وأبو داود (3676).

ص: 41

جبل ذكرها أحمد في "الأشربة"

(1)

، ومعاوية بن أبي سفيان والأشج العصري وأبي وهب الجيشاني ووائل بن حجر وعلي بن أبي طالب وأبي بردة بن نيار والضحاك بن النعمان ذكرها ابن أبي عاصم في كتاب "الأشربة" بعضها مقوٍ لبعض.

قال أبو جعفر

(2)

: وفي هذِه الأحاديث تصحيح قول من قال: إن ما أسكر كثيره فقليله حرام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة.

وعبارة أبي الليث السمرقندي في "التنبيه" أخبر عليه السلام أن كل مسكر فهو حرام يعني: ما كان مطبوخًا أو غير مطبوخ وشارب المطبوخ أعظم ذنبًا وإثمًا من شارب الخمر؛ لأن من شرب الخمر يكون عاصيًا فاسقًا، ومن شرب المطبوخ يخاف أن يكون كافرًا؛ لأن شارب الخمر مقر بأنه حرام وشارب المطبوخ معتقد حله

(3)

.

قال أبو جعفر: ثم كان الصحابة على ذلك وبه يفتون أشدهم فيه علي بن أبي طالب يخاطبهم بأن ما أسكر كثيره فقليله حرام.

ثم أن ابن عمر لما سئل عن نبيذ ينبذ بالغداة ويشرب بالعشي فقال للسائل: أنهي عن قليل ما أسكر كثيره، وإني أشهد الله عليك، فإن أهل خيبر يشربون شرابًا يسمونه كذا وهي الخمر، وإن أهل فدك يشربون شرابًا يسمونه كذا فهي الخمر، وإن أهل مصر يشربون شرابًا من العسل يسمونه البتع وهي الخمر

(4)

، ثم عائشة لما سئلت عن غير عصير العنب فقالت: صدق الله ورسوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(1)

انظر: "الأشربة" ص 57، 76، 87.

(2)

"الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس 1/ 596 - 606.

(3)

"تنبيه الغافلين" ص 53.

(4)

"سنن النسائي" 8/ 296

ص: 42

"يشرب قوم الخمر يسمونها بغير اسمها"

(1)

فلم يزل الذين يروون هذِه الأحاديث يحملونها على هذا عصرًا بعد عصر، حتى عرض فيها قوم فقالوا: المحرم الشربة الأخيرة التي تسكر

(2)

.

وقالوا: قد قالت اللغة: الخمر المشبع والماء المروي، فإن صح هذا في اللغة فهو عليهم لا لهم؛ لأنه لا يخلو أن يكون من أحد جهتين: إما أن يكون معناه للجنس كله، أي صفة ذلك كذلك فيكون هذا القليل الخمر وكثيره؛ لأنه جنس فكذا قليل ما يسكر، أو يكون الخمر المشبع فهو لا يشبع إلا بما كان قبله وكله مشبع، فكذا قليل المسكر وكثيره، وإن كانوا قد تأولوه على أن معنى المشبع هو الآخر الذي يشبع وكذا الماء الذي يروي.

فيقال لهم: ما حد ذلك الماء المروي والماء الذي لا يروي؟ فإن قالوا: لا حد له فهو كله إذن مروي، إن حدوه قيل لهم: ما البرهان على ذلك وهل يمتنع الذي لا يروي مما حددتموه أن يكون يروي عصفورًا وما أشبهه؟ فبطل الحد، وصار القليل مما يسكر كثيره داخل في التحري.

وعارضوا بأن المسكر بمنزلة القاتل لا يسمى مسكرًا حتى يسكر، كما لا يسمى القاتل قاتلًا حتى يقتل

(3)

. وهذا لا يشبه من هذا شيئًا؛ لأن المسكر جنس وليس كذا القاتل، ولو كان كما قالوا لوجب أن

(1)

"السنن الكبرى" للبيهقي 8/ 295 - 296، والدارمي في "مسنده" 2/ 1333 (1245) وأشار ابن حجر في "الفتح" 10/ 52 إلى رواية الدارمي وليَّن إسناده.

(2)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 278، "أحكام القرآن" للجصاص 2/ 463 - 464، "تبيين الحقائق" 6/ 47.

(3)

انظر: "التمهيد" 1/ 256.

ص: 43

لا يسمى الكثير من المسكر حتى يسكر فكان يجب أن يحلوه، وهذا خارج عن قول الجميع.

وقالوا: معنى "كل مسكر حرام" على القدح الذي يسكر

(1)

، وهذا خطأ من جهة اللغة وكلام العرب؛ لأن كلا معناها العموم، فالقدح الذي يسكر مسكر والجنس كله مسكر، وقد حرم الشارع الكل ولا يجوز الاختصاص إلا بتوقيف، وشبه بعضهم هذا بالدواء والبنج

(2)

الذي يحرم كثيره ويحل قليله، وهذا تشبيه بعيد؛ لأنه عليه السلام قال:"ما أسكر كثيره فقليله حرام" فالمسكر هو الجنس الذي قال الله فيه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} الآية [المائدة: 91] وليس هذا في الدواء والبنج وإنما

هذا في كل شراب هو هكذا، وعارضوا بأن قالوا: فليس ما أسكر كثيره بمنزلة الخمر في كل أحواله وهذِه مغالطة وتمويه على المنافع؛ لأنه لا يجب من هذا إباحة، وقد علمنا أنه ليس من قتل مسلمًا غير نبي بمنزلة من قتل نبيًا، فليس يجب إذا لم يكن بمنزلته في جميع الأحوال أن يكون مباحًا، كذا من شرب ما أسكر كثيره وإن لم يكن بمنزلة من شرب عصير العنب الذي قد نش فليس يجب من هذا أن يستباح له ما قد شرب ولكنه بمنزلته في أنه قد شرب محرمًا وشرب خمرًا، وأنه يحد في القليل منه كما يحد في القليل من الخمر، وهذا قول من لا يدفع قوله، منهم عمر وعلي.

ومعنى: "كل مسكر خمر" يجوز أن يكون بمنزلته في التحريم، وأن يكون المسكر كله يسمى خمرًا كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذكرنا من الصحابة والتابعين بالأسانيد الصحيحة، والعجب من معارضتهم بما

(1)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 278، "فتح القدير" لابن الهمام 5/ 313.

(2)

قال في "اللسان" 2/ 216: والبنج ضرب من النبات.

ص: 44

لا يسوغ مما يذكر به بعد مع أحدهم بما رواه أبو فزارة زعموا عن أبي زيد، عن ابن مسعود حديث النبيذ

(1)

، وأبو زيد لا يعرف ولا ندري

(2)

من أين هو

(3)

.

(4)

وقد روى إبراهيم، عن علقمة، قال: سألت عبد الله هل كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال: لا

(5)

(6)

.

ويحتجون بحديثٍ رووه عن أبي إسحاق، عن ابن ذي لعوة أن عمر حد رجلاً شرب من إداوته، فقال: أحدك على السكر. وهذا من عظيم ما جاءوا به، وابن ذي لعوة لا يعرف به

(7)

.

(1)

يشير إلى ما رواه أبو داود (84)، والترمذي (88)، وابن ماجه (384)، وأحمد 1/ 449، بلفظ: لما كان ليلة الجن؛ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ما في إدواتك؟ " فقلت: نبيذ؛ فقال: "تمرة طيبة وماء طهور". وضعفه الترمذي وغيره وقال الجوزقاني في "الأباطيل والمناكير" 1/ 328: باطل.

(2)

ورد بهامش (غ): (لا ندري) هو غريب، فقد قال عثمان بن أبي شيبة: كان بقَّالا عندنا بالكوفة، وقال الجوزقاني: منهم من سماه.

(3)

ورد بهامش الأصل: في الحاشية ما لفظه: قلت: قال في

(روى عنه أبو روق وأبو قلابة فعينه علمت.

(4)

كما ورد بهامش (غ): قليله لم ينفرد به فقد تابعه عليه بضعة عشر من ثقات الكوفيين وأبو حنيفة لم يقل به إلا عند العدم بل رجع عنه.

(5)

كما ورد بهامش (غ): قلت: لا يعارض الأول فإنه لم يشهد معه أمر الجن.

(6)

مسلم (450) كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن وهو جزء من حديث.

(7)

في هامش الأصل: في الهامش قلت: قال العجلي: كوفي ثقة، كذا ذكره أبو العرب القيرواني في "تاريخه" عن يحيى بن معين.

وقال الساجي: محتمل، وذكره أبو أحمد في "معرفة الصحابة"، وقال: روي مرسلا، وليس تصح صحبته، وقال عمر في كتاب "طبقات الكوفيين" اسم ذي لعوة عامر بن مالك، وهو أبو داود بن سعيد، وذكر أبو حاتم أن الشعبي وأبا اسحاق =

ص: 45

قال أبو جعفر: وهكذا قول أبي بكر بن عياش لعبد الله بن إدريس، ثنا أبو إسحاق عن أصحابه:(أن)

(1)

ابن مسعود كان يشرب الشديد فقال له ابن إدريس: استجيب لك ما نسخ من أصحابه، وأبو إسحاق إذا سمى من حدث عنه، ولم يقل سمعت لم يكن حجة، وما هذا الشديد؟ أهو خل أم نبيذ؟ ولكن حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن ابن عمر وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل مسكر خمر وكل مسكر حرام".

وحدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل شراب أسكر فهو حرام" فأفحم أبو بكر بن عياش، وقال الأوزاعي: قلت للثوري: إن الله لا يسألني يوم القيامة لما لم تشرب النبيذ ويسألني: لما شربته فقال: لا أفتي به أبدًا، وقال أبو يوسف: في أنفسنا الفتيا به أمثال الجبال ولكن عادة البلد

(2)

.

قال أبو عمر: عند أبي يوسف من قعد يريد السكر فالقدح الأول عليه حرام كما أن الزنا عليه حرام، والمشي إليه حرام وإن قعد وهو لا يريد السكر فلا بأس

(3)

.

قال أبو جعفر: فأما الأحاديث التي احتجوا بها فما علمت أنها تخلوا من إحدى جهتين: إما أن تكون واهية الأسانيد، وإما أن تكون لا حجة لهم فيها إلا التمويه، فمن ذلك ما رواه أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون، قال: شهدت عمر حين طعن، فجاءه الطبيب فقال:

= رويا عنه، وقال في "علله": مجهول، لا أعلم روى عنه إلا الشعبي والسبيعي، وقال ابن حبان؛ هو شيخ دجال وقال أبو الفرج: حديثه معلل.

(1)

في (س): عن.

(2)

"المحلى" 7/ 487.

(3)

"الاستذكار" 24/ 304.

ص: 46

أي الشراب أحب إليك قال: النبيذ، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من إحدى طعناته فكان يقول: إنما نشرب من هذا النبيذ لنقطع لحوم الإبل، قال عمرو: وشربت من نبيذه فكان كأشد النبيذ

(1)

، قال ابن حزم: هذا خبر صحيح ولا حجة لهم فيه؛ لأن النبيذ الحلو اللفيف الشديد للفته الذي لا يسكر يقطع لحوم الإبل في الجوف، وأيضًا فإن عمر لم يأت أنه شرب منه فآذاه فليس لذلك فلا متعلق لهم فيه أصلاً، قال: ولا يصح لهم إلا هذا الخبر وخبر عتبة بن فرقد، وحديث نبيذ الطائف ولا حجة لهم فيه

(2)

.

وأما ما رده به أبو جعفر فغير جيد بيانه أنه قال: هذا حديث لا تقوم به حجة؛ لأن ابن إسحاق لم يقل: ثنا عمرو وهو مدلس فلا تقوم بحديثه حجة حتى يقول ثنا وما أشبهه

(3)

.

قلت: قد سلف عن ابن حزم تصحيحه، فرجاله ثقات عدول متصل، ومنها حديث حبيب بن أبي ثابت، عن نافع بن علقمة قال: أتي عمر بنبيذ قد أخلف واشتد فشرب منه ثم قال: إن هذا الشديد ثم أمر بماء فصب عليه ثم شرب هو وأصحابه

(4)

، وهذا الحديث فيه غير علة منها أن حبيبًا على محله لا تقوم بحديثه حجة لمذهبه، وكان مذهبه أنه قال: إذا قال حدثني رجل عنك بحديث ثم حدثت به عنك كنت صادقًا، ومن هذا أنه روى عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها حديث القبلة

(5)

.

(1)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 606 - 607.

(2)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 608.

(3)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 608.

(4)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 218، والنحاس في "ناسخ الحديث ومنسوخه" 1/ 608.

(5)

رواه أبو داود (179)، والترمذي (86)، وابن ماجه (502)، وضعفه جماعة من =

ص: 47

وقال الشافعي: لا يثبت بهذا حجة لانفراد حبيب به، ومنها أن نافعًا ليس بمشهور بالرواية

(1)

.

قلت: بلى قد ذكره ابن عبد البر في "استيعابه" في جملة الصحابة، وقال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.

وقيل: إن حديثه مرسل

(2)

.

وفي كتاب ابن أبي حاتم يقال إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت أبي يقول: لا أعلم له صحبة

(3)

وذكره المديني في "معرفة الصحابة" وقال: ذكره ابن شاهين، قال أبو جعفر: ولو صح عن عمر لما كان فيه حجة؛ لأن اشتداده قد يكون من حموضته.

وقد اعترض بعضهم فقال: من أين لكم كان يمزجه كان يحمضه، إنما تقولونه ظنًا، والظن لا يغني من الحق شيئًا. فجوابه أن نافعًا مولى عبد الله قال: كان ذلك لتخلله، وقد روى عتبة بن فرقد قال: أتى عمر بِعُسّ من نبيذ قد كاد يكون خلًا. الحديث.

فزال الظن بالتوقيف ممن شاهد عمر وهو من روايتهم، ثم رووا حديثًا إن كانت فيه حجة فهي عليهم.

ثم رووا من حديث الأعمش عن إبراهيم، عن همام بن الحارث: أتي عمر بنبيذ فشرب منه فقطَّب، ثم قال: إنَّ نبيذ الطائف له عُرام ثم

= المحدثين القدامى، منهم البخاري ويحيى بن سعيد القطان وغيرهما، وصححه آخرون لذاته ولم يصيبوا، ثم صححه آخرون بمتابعاته وشواهده وهذا أجود، وانظر:"سنن الترمذي" 1/ 133 بتحقيق العلامة الشيخ أحمد شاكر. و"صحيح أبي داود"(172).

(1)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 609.

(2)

"الاستيعاب" 4/ 54.

(3)

"الجرح والتعديل" 8/ 451.

ص: 48

ذكر شدة لا أحفظها، ثم دعا بماء فصب عليه ثم شرب

(1)

(2)

.

قال الأثرم في "ناسخه ومنسوخه": فسره عبد الله بن عمر العمري فقال: إنما كسره عمر من شدة حلاوته قال: ولذلك قال الأوزاعي قال: وأهل العلم أولى بالتفسير

(3)

.

وقال أبو جعفر: هذا لعمري إسناد مستقيم، ولا حجة لهم فيه بل عليهم؛ لأنه إنما يقال: قطب لشدة حموضة الشيء أو معناه: خالطت بياضه حمرة مشتق من قطبت الشيء، أقطبه إذا خلطته

(4)

.

قلت: (قال)

(5)

أبو المعالي في "المنتهى": قطب بين عينيه قطوبًا أي: جمع وقطب وجهه تقطيبًا: عبس، وقطب الشراب وأقطبه إذا: مزجه فهو قاطب والشراب مقطوب.

وفي "جامع القزاز": قطب الرجل يقطب قطبًا وقطوبًا: إذا جمع بين حاجبيه، وقطب تقطيبًا مثله، وقد قطب بين عينيه وقبط، وقطَّبت الخمر بالماء: إذا مزجتها، والقطيب هو المزج في كل الأشربة ليس في الخمر خاصة.

وقال ابن سيده في "المحكم": قطب يقطب قطبًا وقطوبًا وقطب، زوى ما بين عينيه

(6)

كذلك قال أبو جعفر.

وروينا من حديث ابن إسحاق عن سعيد بن ذي حدان أو ابن ذي لعوة فذكر حديث الرجل الذي شرب من سطيحة عمر، وقول عمر:

(1)

"شرح معاني الآثار" 4/ 218.

(2)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 611.

(3)

"الناسخ والمنسوخ" للأثرم ص 216 - 217.

(4)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 611.

(5)

من (غ).

(6)

"المحكم" 6/ 176 مادة: (قطب).

ص: 49

أنا أضربك على السكر؛ وهو من أقبح ما روي في الباب وعلته بينة لمن لم يتبع الهوى، فمنها أن ابن ذي لعوة لا يعرف -كما سبق

(1)

- ولم يرو عنه إلا هذا الحديث، ولم يرو عنه إلا أبو إسحاق، ولم يذكر أبو إسحاق فيه سماعًا، وهو مخالف لما نقله أهل العدالة عن عمر.

ثم روي عن السائب، عن يزيد، أن عمر خرج عليهم، فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، وقد زعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عنه، فإن كان يُسكر جلدته، قال: فجلده ثمانين، قال: فهذا إسناد لا مطعن فيه، وقال أبو عمر: هذا الإسناد أصح ما يروى من أخبار الآحاد، وفيه من الفقه وجوب الحد على من شرب مسكرًا، أسكر أو لم يسكر، خمرًا كان أو نبيذًا

(2)

.

قال أبو عمر: والمحدود هو عبيد الله بن عمر، ذكره ابن عيينة وغيره.

وروى علقمة أن عبد الله وجد من رجل ريح الخمر فحده، وكذا فعلته ميمونة أم المؤمنين وعبد الله بن الزبير.

قال: وهذِه الآثار عن السلف تردُّ ما ذكره ابن قتيبة وغيره من أصحاب أبي حنيفة أن مالكًا تفرد برأيه في حد الذي يوجد منه ريح الخمر؛ وإنه ليس له في ذلك سلف، فهذا جهل واضح أو مكابرة

(3)

.

قال أبو جعفر: والسائب رجل من الصحابة، فهل تعارض هذا بابن ذي لعوة؟

(1)

في نسخة الأصل في الحاشية: قلت: روى عنه الشعبي أيضًا.

(2)

"الاستذكار" 24/ 258.

(3)

" الاستذكار" 24/ 261: 263.

ص: 50

قلت: قال الدارقطني: إنه حديث لا يثبت

(1)

. وعمر يجيز بحضرة الصحابة أنه يجلد في الرائحة من غير سكر؛ لأنه لو كان سكرانًا لما احتاج أن يسأل عما يشرب، فرووا عن عمر ما لا يحل لأحد أن يحكيه عنه من غير جهة لوهاء الحديث، وإنه شرب من سطيحته، وإنه يحد على السكر وذلك ظلم؛ لأن السكر ليس من فعل الإنسان وإنما هو شيء يحدث عن الشراب وإنما الضرب على الشرب كما أن الحد في الزنا إنما هو على الفعل لا على اللذة، ولهذا قيل لهم: تحريم السكر محال؛ لأن الله تعالى إنما يأمر وينهى بما في الطاقة، وقد يشرب الإنسان يريد السكر فلا يسكر، ويريد أن لا يسكر فيسكر، لتباين طباع الناس.

قال: ثم تعلقوا بما رويناه من حديث أبي نعيم عن مسعر، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، أنه قال: حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب

(2)

، وهذا الحديث رواه شعبة -على إتقانه وحفظه- على غير ملأ عن مسعر عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس: حرمت الخمر بعينها، والمسكر من كل شراب

(3)

، أي بالميم.

(1)

"سنن الدارقطني" 4/ 261.

(2)

كذا رواه أبو جعفر النحاس في "ناسخه ومنسوخه" 1/ 617، من طريق أبي نعيم المذكور، وكذا رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 214، والطبراني 10/ 338، وأبو نعيم في "الحلية" 7/ 224، ووقع في المطبوع منه "المسكر من كل شراب" وهو خطأ، والصواب:"السكر من كل شراب".

(3)

رواية شعبة أخرجها أحمد في "الأشربة" ص 58 برقم (109)، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به. ومن طريقه النسائي 8/ 321، والطبراني 10/ 338، والدرا قطني 4/ 256، والبيهقي 8/ 297، ووقع في المطبوع من "سنن النسائي": والسكر بدلا من المسكر.

ص: 51

وصححه ابن حزم

(1)

، وفيه علة.

قال الأصيلي: لم يسمع عبد الله هذا الحديث من ابن عباس قاله أحمد

(2)

، وفيه: بينه هشيم فقال: أخبرني الثقة عن ابن عباس

(3)

، ورواه ابن شبرمة، عن ابن شداد متابعًا لأبي نعيم وليس متصلًا.

قال النسائي: لم يسمعه ابن شبرمة من ابن شداد

(4)

.

ورواه ابن أبي عاصم، عن محمد بن بشر، عن مسعر كرواية أبي نعيم، قال ابن أبي عاصم ثبت عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم السكر، ورواه عن ابن عباس جماعة من قوله أيضًا.

ورواه أحمد في "الأشربة" عن إبراهيم بن أبي العباس، ثنا شريك، عن عباس العامري، عن ابن شداد، عن ابن عباس قال: الخمر حرام بعينها قليلها وكثيرها وما أسكر من كل شراب. قال أبو عبد الله: ربما حذف المسكر وربما حذف السكر

(5)

.

ثنا محبوب، ثنا خالد عن عكرمة أن ابن عباس قال: حرمت الخمر

(1)

"المحلى" 7/ 481.

(2)

كذا ذكر المصنف عن الأصيلي قول أحمد بأن عبد الله لم يسمع هذا الحديث من ابن عباس، وهو خطأ؛ فإن الإمام أحمد قال في "العلل" 1/ 377: ابن شبرمة لم يسمع من ابن شداد.

(3)

كذا قال المصنف: عن ابن عباس، وهو خطأ وصوابه أن ابن شبرمة قال: أخبرني الثقة، عن ابن شداد، بهذا يتصل الحديث.

وهذِه الطريق ذكرها النسائي في "السنن" 8/ 321، وانظر:"العلل" للإمام أحمد 1/ 379 - 377 (723).

(4)

"سنن النسائي" 8/ 321.

(5)

الحديث رواه في "الأشربة" ص 35 (35)، وقوله: رواه أبو القاسم عنه ص 58 بعد حديث (109).

ص: 52

وهو الفضيخ، وفي لفظ: حرمت يوم حرمت وما هي إلا فضيخكم هذا

(1)

.

وثنا أبو أحمد، ثنا سفيان عن علي بن بذيمة قال: حدثني قيس بن حبتر قال: قال ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر حرام"

(2)

، وفي "مسند البزار": هذا أصح إسناد في هذا

(3)

.

وفي "أحكام عبد الحق"، وقد روي عن أنس مرفوعًا وأبي سعيد وعلي وكلهم ما بين ضعيف ومجهول، والصحيح هو الموقوف

(4)

.

وقال ابن حزم في "محلاه": شعبة بلا خلاف أضبط (وأحفظ)

(5)

من أبي نعيم.

وقد روى زيادة على رواية أبي نعيم وزيادة العدل لا يحل تركها وليس في رواية أبي نعيم ما يمنع من تحريم غير ما ذكر تحريمه إذا جاء بتحريمه نص صحيح، وقد صح من طريق ابن عباس تحريم المسكر كله وصح عنه كما ذكرنا من تحريم نبيذ البُسر

(6)

، وعاب الحديث وضعفه بعلي بن بذيمة

(7)

ولا يصلح ذلك؛ لأنه ممن اتفق

(1)

"الأشربة" ص 70 (161)، ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" 11/ 351، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 55: ورجاله رجال الصحيح.

(2)

"الأشربة" ص 79 (194).

(3)

"مسند البزار" 11/ 100 - 101 (4817) لكن دون قوله: هذا أصح إسناد في هذا، ثم وقفت على هذا القول في "الأحكام الوسطي" لعبد الحق 4/ 166.

(4)

"الأحكام الوسطى" 4/ 166، 167.

(5)

من (غ).

(6)

"المحلى" 7/ 481.

(7)

كذا قال المصنف أن ابن حزم أعله بابن بذيمة ولكن ابن حزم أعله بقيس بن حبتر، وقال: مجهول. انظر: "المحلى" 7/ 485.

ص: 53

عليه الشيخان

(1)

، ووثقه غير واحد، وإن سلمنا له قوله فقد رويناه عند أحمد من حديثه عن [زكريا بن عدي]

(2)

، عن عبيد الله، [عن]

(3)

عبد الكريم، عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس بلفظ: أنه عليه السلام قال: "إن الله حرم عليكم الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام"

(4)

وفي "سنن الدارقطني": قال موسى بن هارون الحمال: هذا هو الصواب عن ابن عباس، يعني: بالميم؛ لأنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام" وروي عن طاوس وعطاء ومجاهد: ما أسكر كثيره فقليله حرام

(5)

، ولأبي داود:"كل مخمر فهو خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكرًا بخس صلاته أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، ومن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال"

(6)

، وهي صديد أهل النار.

(1)

كذا قال، وليس كذلك؛ فإن عليًّا هذا روى له الأربعة دون الشيخين، وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 20/ 328.

(2)

في الأصول: زكريا بن أبي عدي، وهو خطأ، والمثبت من كتاب "الأشربة" ص 31 (14).، ومصادر ترجمته.

وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 9/ 364.

(3)

في الأصل: بن، وهو خطأ والمثبت من "المسند" 1/ 350 و"الأشربة" ص 32.

(4)

"المسند" 1/ 350، وفي "الأشربة" ص 31 (14)، قال الألباني في تعليقه على "المشكاة" (4503): رواه أحمد في "المسند" و"الأشربة" بسند صحيح.

(5)

"سنن الدارقطني" 4/ 256.

(6)

"سنن أبي داود"(3680)، ومن طريقه البيهقي في "سننه" 8/ 288، وابن عبد البر في "التمهيد" 1/ 255، وسكت عبد الحق في "أحكامه" 4/ 164، وتعقبه ابن القطان في ذلك، ثم صحح الحديث. "بيان الوهم والإيهام" 5/ 411 (2578)، وضعفه الألباني كما في "الضعيفة"(6328).

ص: 54

ولما ذكره أبو حاتم في "علله " قال: هذا حديث منكر

(1)

.

فصل:

وقد استدل بعض من جوز شرب النبيذ بأحاديث:

أحدها: حديث النسائي: عن الحسن بن إسماعيل بن سليمان، عن يحيى بن يمان، عن سفيان عن منصور، عن خالد بن سعد مولى أبي مسعود الأنصاري، قال: عطش النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة فاستسقى، فأتي بنبيذ من نبيذ السقاية فشمه فقطب فصب عليه من ماء زمزم ثم شربه، فقال رجل: أحرام هو؟ قال: "لا". وهو حديث ضعيف باتفاق الحفاظ.

قال النسائي: خبر ضعيف، انفرد به يحيى بن يمان دون أصحاب سفيان، ويحيى لا يحتج به؛ لسوء حفظه وكثرة خطئه

(2)

.

وقال أبو القاسم بن عساكر: رواه الأشجعي وغيره عن سفيان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بنبيذ، نحر هذا.

وقال يحيى بن سعيد عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود، فعله. قال منصور: ثم حدثني خالد بن سعد، يعني به.

وقال الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن أبي مسعود نقله.

وقال أبو جعفر النحاس: هذا الحديث لا يحل لأحد من أهل العلم أن يحتج به؛ لأن ابن يمان انفرد به عن الثوري دون أصحابه وليس

(1)

"العلل" 2/ 36.

(2)

"سنن النسائي" 8/ 325.

ص: 55

بحجة، وأصل هذا الحديث أنه من رواية الكلبي، فغلط يحيى، فنقل متن حديث إلى حديث آخر، وقد سكت العلماء عن كل ما رواه الكلبي، فلم يحتجوا بشيء منه

(1)

.

والشراب الذي بمكة لم يزل في الجاهلية والإسلام لا يطبخ بنار، وقد أجمع العلماء، منهم أبو حنيفة وصاحباه

(2)

أن ما نقع ولم يطبخ بالنار وكان كثيره مسكرًا؛ فهو خمر، والخمر إذا صب فيها الماء أو صبت على الماء، فلا اختلاف بين المسلمين أنها قد نجست الماء إذا كان قليلاً، فقد صار هذا حكم الخمر إذا أسكر كثيره فقليله حرام بالإجماع فزالت الحجة به لو صح

(3)

.

ولما رواه ابن أبي عاصم بلفظ: فقال رجل: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "بل حلال". قال: لا خلاف بين أهل الحديث والمعرفة أن هذا حديث منكر، ثم خالد بن سعد مجهول عندي لا يروي عنه إلا منصور ومن لم يرو عنه إلا واحد فهو مجهول، حدث عن أبي مسعود في النهاية، وعن أم ولد لأبي مسعود أنها كانت تنبذ له في جر أخضر، ولم يقل: سمعت أبا مسعود، ولا: ثنا، فأراني أن يكون بينهما إنسان، فيوقف حتى يصرح بالتحديث. وقد ذكروا أن الثوري رواه عن أبان، عن الضحاك، عن ابن عباس. وقالوا: الوهم من ابن يمان، ولا اختلاف بين المسلمين في أن نبيذ السقاية زبيب ينقع، ونقيع الزبيب عند من أحل المسكر إذا صار في هذِه الحالة فهو مسكر، ولا اختلاف بينهم في أن الخمر لا يحلها المزاج بالماء قل أو كثر.

(1)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 624.

(2)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 277 - 278.

(3)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 622.

ص: 56

قلت: وروى أحمد عن أبي عبد الرحمن الحنفي: شهدت عطاء سُئل عن النبيذ، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام" فقلت: يا ابن أبي رباح إن هؤلاء يسقون في المسجد نبيذًا شديدًا، فقال لهم: والله لقد أدركتها وإن الرجل ليشرب منها فتلتزق شفتاه من حلاوتها

(1)

.

وروى أحمد أيضًا في كتاب "الأشربة" من حديث الحسن عن نافع، عن أم إياس بنت عمرو بن سبرة أنها سألت عائشة رضي الله عنها فقالت: إن أهلي ينتبذون لي في جرٍ غدوة فأشربه عشية، وينتبذون لي عشية فأشربه غدوة، فقالت: حلوه وحامضه حرام

(2)

.

وفي رواية عن عبد الله بن الأحمر العبدي عن امرأة منهم، فذكره

(3)

، وقال ابن عبد البر: آثار أهل الحجاز في تحريم المسكر أصح مخرجًا وأكثر تواترًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه

(4)

.

وقال النسائي: أول من أحل المسكر إبراهيم، قال ابن عبد البر: يصحح هذا قول ابن سيرين: لقيت بخباء أصحاب ابن مسعود علقمة وشريحًا ومسروقًا وعبيدة، فلم أرهم يشربون نبيذًا بجرٍ فلا أدري أين غاص هؤلاء على هذا الحديث

(5)

؟

قلت: وقول ابن أبي عاصم: خالد بن سعد مجهول، لم يرو عنه غير منصور؛ ليس كما ذكر، فقد روى عنه إبراهيم النخعي وأبو حصين

(1)

"الأشربة" ص 67 (151).

(2)

المصدر السابق ص 38 (31). وقع في المطبوع منه: الحسن بن نافع.

(3)

"الأشربة" ص 44 (51).

(4)

انظر: "الاستذكار" 24/ 307.

(5)

المصدر السابق.

ص: 57

عثمان بن عاصم، ووثقه ابن معين وابن حبان

(1)

واحتج به البخاري مع قوله في "تاريخه الأوسط": وقال يحيى بن يمان عن سفيان، عن منصور، عن خالد بن سعد، عن أبي مسعود: أنه عليه السلام أتي بنبيذ فصب عليه الماء. ولا يصح

(2)

، وقال أبو أحمد الجرجاني: الذي ينكر على خالد حديث النبيذ، وحديث "لا يتم على عبد نعمة إلا بالجنة".

وفي موضع آخر: يروى عن أبي مسعود في النبيذ، ولا يصح، هو موقوف

(3)

، وقال الدارقطني: هذا الحديث معروف بيحيى بن يمان، ويقال: انقلب عليه الإسناد واختلط عليه، بحديث الكلبي عن أبي صالح، وهذا سلف، قال: ورواه اليسع بن إسماعيل عن زيد بن حباب عن الثوري، واليسع ضعيف، ولا يصح عن زيد

(4)

.

قال ابن أبي حاتم في "علله": قال أبو زرعة: هذا إسناد باطل عن الثوري، عن منصور، ووهم فيه يحيى، وإنما ذاكرهم سفيان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن المطلب بن أبي وداعة، مرسل، ولعل الثوري إنما ذكره تعجبًا من الكلبي حين حدث بهذا الحديث، ومنكرًا عليه.

قال: وقال أبي: أخطأ ابن يمان في إسناده، والذي عندي أن يحيى دخل له حديث في حديث رواية الثوري عن منصور عن خالد مولى أبي مسعود أنه كان يشرب نبيذ الجر، وعن الكلبي عن أبي صالح عن

(1)

"الثقات" 4/ 197 - 198.

(2)

"التاريخ" 2/ 54 - 55.

(3)

"الكامل" 3/ 454 ترجمة خالد بن سعد كوفي.

(4)

"سنن الدارقطني" 4/ 264.

ص: 58

المطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يطوف بالبيت .. الحديث

(1)

. فسقط عنه [إسناد]

(2)

الكلبي وجعل إسناده منصور عن خالد، عن أبي مسعود لمتن حديث الكلبي

(3)

.

وقال الدارقطني: متروك وأبو صالح اسمه باذان وهو ضعيف

(4)

.

وقال الأثرم في "ناسخه ومنسوخه": هذا حديث يحتج به من لا فهم له في العلم ولا معرفة له بأصوله، وقد سمعت من أبي عبد الله و (من)

(5)

غيره من أئمة الحديث كلامًا كثيراً وبعضهم سيزيد على بعض في (تفسير)

(6)

قصته، فقال بعضهم: هذا حديث لا أصل له ولا فرع، قال: وإنما أصله الكلبي وهو متروك.

وكان ابن يمان عندهم ممن لا يحفظ الحديث ولا يكتبه، فكان يحدث من حفظه بإعادته وهذا من أنكر ما روي، وإنما الذي رواه عنه فقد غير عليه ما هو أعظم من الغلط مما قدكتبنا عنه لصعوبته وسماجة ذكره.

وفي الحديث بيان عند أهل المعرفة أجمعين لضعفه؛ لأنه زعم أنه شرب من نبيذ السقاية نبيذًا شديدًا فجعلوه حجة في تحليل السكر وإنه لا يقطب إلا من شدة وإنه لا يكون شديدًا غير مسكر، فرجعوا إلى الأخذ بالتأويل فيما تشابه، فيقال لهم: أيكون من النقيع ما يشتد وهو حلو قبل غليانه؟ فيقولان له: لا، فيقال لهم: أرأيتم نبيذ السقاية أنقيع هو أو مطبوخ؟ فيقولون: نقيع فإذا هم قد تكلموا بالكفر أو شبهه

(1)

"علل الحديث" 2/ 25 - 26.

(2)

في الأصل: إسقاط، والمثبت من "علل ابن أبي حاتم" 2/ 26.

(3)

"العلل" لابن أبي حاتم 2/ 251 - 252.

(4)

"السنن" 4/ 262.

(5)

من (غ).

(6)

من (غ).

ص: 59

حين زعموا أنه عليه السلام شرب نقيعًا شديدًا وإنه لا يشتد حتى يغلي وإنه إذا غلا النقيع فهو خمر، فهم يرون بأنه خمر ويزعمون بأنه عليه السلام قد شربه، ثم يحتجون بذلك في غيره ولا يأخذون به بعينه، وتفسير هذا الكلام أنهم احتجوا بشرب الشارع، زعموا أن النقيع الشديد في تحليل المسكر الممزوج ولا يرون شرب المسكر الشديد من النقيع، فأي معاندة للعلم أبين من هذِه

(1)

؟

وقال ابن حزم: رواه يحيى بن يمان وعبد العزيز بن أبان وكلاهما متفق على ضعفه

(2)

، قلت: يحيى قال فيه: يحيى ليس به بأس.

وقال ابن المديني: صدوق.

وقال يعقوب بن شيبة في "مسنده": ثقة، أحد أصحاب سفيان، ولما ذكره ابن شاهين في "ثقاته" قال: قال عثمان بن أبي شيبة: كان صدوقًا ثقة

(3)

، وقال الخليلي: ثقة

(4)

، وذكره ابن حبان في "ثقاته"

(5)

، وقال العجلي: كان ثقة جائز الحديث معروفًا بالحديث صدوقًا

(6)

.

الحديث الثاني: حديث ابن عباس رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:"الظروف لا تحل شيئًا ولا تحرمه ولا لتسكروا" قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله فما قولك: "كل مسكر حرام" قال: "اشرب فإذا خفت فدع"

(7)

.

(1)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" للأثرم ص 209 - 210.

(2)

"المحلى" 7/ 484.

(3)

"تاريخ أسماء الثقات"(1606).

(4)

"الإرشاد" 1/ 285.

(5)

"الثقات" لابن حبان 9/ 255.

(6)

"معرفة الثقات" 2/ 360 ترجمة رقم (2002).

(7)

لم أقف عليه إلا عند ابن حزم في "محلاه" 7/ 482.

ص: 60

قال ابن حزم: هو من طريق المشمعل بن ملحان وهو مجهول، عن النضر بن عبد الرحمن أبي النضري، وهو منكر الحديث ضعفه البخاري وغيره، وقال يحيى بن معين: لا تحل الرواية عنه، ولو صح لم تكن فيه حجة؛ لأن فيه النهي عن السكر، ويكون قوله:"فإذا خفت فدع" أي: إذا خفت أن يكون مسكرًا فسقط التعلق به

(1)

.

قلت: حكمه بالجهالة على ابن ملحان ليس بجيد.

قال ابن الجنيد: سألت ابن معين عنه، فقال: كان ها هنا ما أرى به بأسًا.

وقال ابن أبي حاتم: سُئل أبو زرعة عنه، فقال: كوفي لين إلى الصدق ما هو

(2)

.

وذكر ابن شاهين في "ثقاته" وقال: قال يحيى: إنه صالح الحديث إلا أن ابن إياس بصري ثقة أوثق منه كثيراً

(3)

.

وأخرجه الدارقطني من حديث القاسم بن مهران، ثنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم بالمدينة فعرضوا عليه شرابهم، فلما قربه من فيه قطب فقال للذي جاء به: أهرقه، فقال: يا رسول الله هذا شرابنا إن كان حرامًا لم نشربه، فدعا به فأخذه، ثم دعا بماء فشنَّه عليه ثم شرب وسقى، وقال:"إذا كان هكذا فاصنعوا به هكذا". تفرد به ابن بهرام، وابن حبان يقول فيه: لا يجوز الاحتجاج به بحال.

(1)

"المحلى" 7/ 482.

(2)

"الجرح والتعديل" 8/ 417.

(3)

"تاريخ الثقات"(1380)

ص: 61

وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عكرمة، عنه أنه عليه السلام أتى بقدح من نبيذ السقاية فقطب فقال:"هلموا بماء" فصبه عليه ثم قال: "زد فيه" مرتين أو ثلاثًا ثم قال: "إذا أصابكم هذا فاصنعوا به كذا"

(1)

.

وعند ابن حزم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام"، فقال له رجلان: هذا الشراب إذا أكثرنا منه سكرنا، قال:"ليس كذلك إذا شربت تسعة ولم تسكر لا بأس، وإذا شربت العاشر فسكرت فذاك حرام" ثم قال: هذا الحديث فضيحة الدهر موضوع بلا شك، رواه أبو بكر بن عياش عن الكلبي الكذاب، عن أبي صالح الهالك

(2)

.

الحديث الثالث: حديث أبي موسى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشربا ولا تسكرا"

(3)

.

قال ابن حزم: لا يصح، وروي أيضًا بلفظ:"اشربوا في الظروف ولا تسكروا" ولا يصح أيضًا؛ لأنه من رواية سماك عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة، عن أبي موسى، ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة؛ لأنه إنما فيه النهي عن السكر وليس فيه مانع من تحريم ما يصح تحريمه بما لم يذكر في هذا الخبر

(4)

.

وقال الأثرم في "ناسخه": له علل بينة، وقد طعن فيه أهل العلم قديمًا، فبلغني أن شعبة طعن فيه، وسمعت أبا عبد الله يذكر أن هذا الحديث إنما رواه سماك عن القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه

(1)

"المصنف" 5/ 77 (23856).

(2)

"المحلى" 7/ 484 - 485.

(3)

"شرح معاني الآثار" 4/ 220.

(4)

"المحلى" 7/ 482.

ص: 62

مرفوعًا: "كنت نهيتكم عن ثلاث"

(1)

الحديث، قال: فدرس كتاب أبي الأحوص فلقنوه الإسناد والكلام، فقلب الإسناد والكلام، ولم يكن أبو الأحوص يقول أبو بردة بن نيار وكان يقول: أبو بردة، وإنما هو ابن بريدة، فلقنوه أبا بردة بن نيار فقاله، وقد سمعت سليمان بن داود الهاشمي يذكر أنه قال لأبي الأحوص: من أبو بردة؟ فقال: أظنه، ثم قال: يقولون: ابن نيار فقال: ثم جاءت الأحاديث بمثل ذلك على أبي بريدة، فلو لم يجيء هذا الحديث معارض من كتاب الله وسنة نبيه؛ لم يكن هذا مما يصح لبيان ضعفه

(2)

.

وقال أبو عمر في "استذكاره": هذِه اللفظة تعني: ولا تسكر، إنما رواها شريك وحده، والذي روى غيره "ولا تشربوا مسكرًا"

(3)

.

وقال ابن أبي حاتم في "علله": سألت أبا زرعة عن حديث أبي الأحوص، عن [سماك]

(4)

، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بردة يرفعه:"اشربوا في الظروف ولا تسكروا"، فقال: وهم أبو الأحوص فقال: عن سماك، عن القاسم، عن أبيه، عن أبي بردة، قلب في الإسناد موضعًا وصحف في موضع، أما القلب فقوله: عن أبي بردة، وإنما هو ابن بريدة، عن أبيه، فقلب الإسناد بأسره وأفحش في الخطأ، وأفحش من ذلك وأشنع تصحيفه في متنه:"اشربوا في الظروف ولا تسكروا".

(1)

"مسند أحمد" 5/ 356 - 357.

(2)

"الناسخ والمنسوخ" للأثرم 207 - 208 بتصرف يسير.

(3)

"الاستذكار" 24/ 287.

(4)

ساقطة من الأصل، والمثبت من "العلل" 2/ 24.

ص: 63

وقد روى الحديث عن ابن بريدة أبو سنان ضرار بن مرة

(1)

وزبيد اليامي [عن]

(2)

محارب بن دثار وسماك

(3)

والمغيرة بن سُبيع

(4)

وعلقمة بن مرثد

(5)

والزبير بن عدي

(6)

، وعطاء الخراساني

(7)

، وسلمة بن كهيل

(8)

، كلهم عن ابن بريدة، عن أبيه مرفوعًا:"نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فأشربوا في الأسقية ولا تشربوا مسكرًا"

(9)

.

وفي حديث بعضهم: "واجتنبوا كل مسكر" ولم يقل أحد منهم ولا تسكروا، فقد بان وهم حديث أبي الأحوص من اتفاق هؤلاء المسمين على ما ذكرنا من خلافه.

قال أبو زرعة: سمعت أحمد بن حنبل يقول: حديث أبي الأحوص خطأ في الإسناد والكلام، فأما الإسناد فإن شريكًا وأيوب ومحمد [ابني]

(10)

جابر رووه عن سماك، عن القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه

(1)

"مسلم"(977) كتاب: الجنائز، باب: استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمه.

(2)

في الأصول: (و)، وهو خطأ، والمثبت من "علل ابن أبي حاتم" 2/ 24، ومصادر التخريج.

(3)

رواية سماك أخرجها النسائي 8/ 319 - 320، والدارقطني في "سننه" 4/ 259 ..

(4)

رواية المغيرة بن سبيع أخرجها النسائي 4/ 89.

(5)

رواية علقمة بن مرثد، أخرجها مسلم (977) من طريق ابن أبي شيبة، عن قبيصة، عن سفيان، عنه. وقال فيه: عن سليمان بن بريدة والترمذي من طرق عن سفيان، ورواه أحمد 5/ 356 عن مؤمل، عن سفيان، وفيه عن ابن بريدة، ولم يصرح باسمه.

(6)

رواية الزبير بن عدي أخرجها النسائي 7/ 234 - 235.

(7)

رواية عطاء أخرجها مسلم (977)، وأحمد 5/ 355.

(8)

رواية سلمة أخرجها أحمد 5/ 356.

(9)

"علل ابن أبي حاتم" 2/ 24 - 25.

(10)

في الأصول: ابن، والمثبت من "العلل" 2/ 25، وهو الأليق.

ص: 64

مرفوعًا كما رواه الناس: "فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرًا" قال أبو زرعة: وكذا أقول

(1)

.

وقال ابن أبي عاصم: لا اختلاف فيه أنه خطأ وهم فيه أبو الأحوص، وقد رواه شريك. عن سماك، عن القاسم، عن أبيه، عن [ابن]

(2)

بريدة، عن أبيه وقال:"اجتنبوا ما أسكر وكل مسكر حرام"

وقال الدارقطني: قال يحيى بن يحيى النيسابوري -وهو إمام- عن محمد بن جابر فقال فيه: "ولا تشربوا مسكرًا"، هذا هو الصواب

(3)

، وعند أحمد في "الأشربة" من حديث بلال بن أبي بردة، عن أبيه وعمه عن سرية لأبي موسى قالت: قال أبو موسى: ما يسرني أن أشرب نبيذ الجر ولي السواد سنين

(4)

.

وله بإسناد جيد: "كل مسكر حرام"

(5)

.

وفي رواية قلت: يا رسول الله إن لأهل اليمن شرابًا يسمونه البتع من العسل والمزر من الشعير فما تأمرني فيها؟ قال: "أنهاكم عن كل مسكر"

(6)

وللنسائي: قال معاذ: يا رسول الله إنك تبعث بنا -يعني: هو وأبا موسى- إلى بلد كثير شراب أهله، فما نشرب؟ قال:"اشرب ولا تشرب مسكرًا"

(7)

.

(1)

"العلل" 2/ 25.

(2)

في الأصول: أبي، ولعل المثبت هو الصواب.

(3)

"سنن الدارقطني" 4/ 259.

(4)

"الأشربة" ص 34 (19).

(5)

رواه أحمد في "المسند" 4/ 410، في الأشربة ص 87 (224) وسلف برقم (4343) من حديث أبى موسى.

(6)

رواه أحمد في الأشربة ص (90)(238).

(7)

"النسائي" 8/ 298.

ص: 65

قال أبو جعفر النحاس: هذا هو الصحيح في حديث أبي موسى، والذي رواه شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ إلى اليمن. الحديث، وفيه فقال:"اشربا ولا تسكرا" أتى من قبل شريك في الحرف الذي بيناه قبل

(1)

.

ولابن أبي عاصم من حديث محمد بن أبي موسى، عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بنبيذ فقال: "اضرب بهذا الحائط فإنه شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر".

ومن حديث عمرو بن شعيب، عن أبي موسى: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: إن قومي يصيبون من شراب من الذرة يقال له المزر، فقال رسول الله:"يسكر؟ " قال: نعم، قال:"فانههم عنه"، قال: ثم رجع إليه فسأله فقال: "انههم عنه" ثم سأله الثالثة فقال: قد نهيتهم عنه فلم ينتهوا، فقال:"من لم ينته فاقتله".

ولأحمد في "الأشربة الصغير" من حديث ابن لهيعة عن درَّاج، عن عمر بن الحكم، عن أم حبيبة: أن أناسًا من اليمن قدموا على رسول الله فسألوه عن شراب يصنع من القمح والشعير، قال:"الغبيراء؟ "(قال)

(2)

: نعم، قال:"لا تطعموه" ثم لمَّا أرادوا أن ينطلقوا سألوه عنها، فقال:"لا تطعموه" قالوا: فإنهم لا يدعونها، قال:"من لم يتركها فاضربوا عنقه"

(3)

.

الحديث الرابع: حديث سوار بن مصعب وسعيد بن عمارة، قال سوار: عن عطية، عن أبي سعيد، وقال سعيد: عن الحارث بن

(1)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 624، 625.

(2)

كذا بالأصل، والصواب: قالوا، كما في "الأشربة" للإمام أحمد.

(3)

"الأشربة" ص 37 (29).

ص: 66

النعمان، عن أنس قالا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب"

(1)

.

قال ابن حزم: سوار مذكور بالكذب، وعطية هالك، وسعيد والحارث مجهولان لا ندري من هما

(2)

.

قلت: تجهيله الحارث عجيب، فقد روى عنه ثابت بن محمد ويزيد بن عمارة وأبو النضر الأكفاني. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: ليس بقوي في الحديث، وعرفه غير واحد بأنه ابن أخت سعيد بن جبير

(3)

، وذكره ابن حبان في "ثقاته"

(4)

، وقد ضعفه ابن حزم في موضع آخر

(5)

، ورميه سوار بالكذب غريب.

وقال ابن سعد -في عطية-: كان ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة

(6)

.

وقال ابن عدي: يكتب حديثه

(7)

، وكذا قال أبو حاتم

(8)

، وخرَّج الحاكم حديثه في "مستدركه"

(9)

، وذكره ابن شاهين في "ثقاته"

(10)

.

(1)

لم أقف عليه من هذِه الطرق.

(2)

"المحلى" 7/ 482.

(3)

"الجرح والتعديل" 3/ 91 (425).

(4)

"الثقات" لابن حبان 4/ 135.

(5)

قال ابن حزم في "المحلى" 1/ 181: سوار بن مصعب متروك عند جميع أهل النقل، متفق على ترك الرواية عنه، يروي الموضوعات.

(6)

"الطبقات الكبرى" 6/ 304.

(7)

"الكامل" 7/ 85.

(8)

"الجرح والتعديل" 6/ 383 (2125).

(9)

"المستدرك" 2/ 247 في كتاب: التفسير.

(10)

"تاريخ الثقات" ص 172 ترجمة رقم (1023).

ص: 67

وقال البزار: روى عنه جلة الناس نحو من أربعين، منهم نحو من ثلاثين جليلاً، وتجهيله سعيد بن عمارة ليس كما ذكر، فقد روى عنه جماعة: بقية بن الوليد ومسلم بن بشير وعلي بن عياش وغيرهم.

قال ابن عساكر: وكان جده صفوان الكلاعي على عمل لعبد الملك بن مروان.

وقال ابن الجوزي: الحديث موقوف، ولا يتصل إلى أبي سعيد

(1)

، قلت: قد عرفته متصلًا بما فيه.

ولأحمد بإسناد لا بأس به، عن أبي سعيد مرفوعاً:"نهيتكم عن النبيذ ولا أحل مسكرًا"

(2)

.

الحديث الخامس: حديث أخرجه ابن أبي شيبة، عن ملازم بن عمرو، عن عجيبة بن عبد الحميد، عن عمه قيس بن طلق، عن أبيه طلق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس:"اشربوا ما طاب لكم"

(3)

قال ابن أبي عاصم: هذا من الأسانيد التي لا تتشاغل بها.

وقال ابن حزم: هذا لا حجة فيه؛ لوجوه:

أولها: أنه من رواية عجيبة وهو مجهول لا أدري من هو، ثم لو صح لما كانت فيه حجة؛ لأن ما طاب لنا هو ما حل لنا كما قال تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}

(4)

[النساء: 3].

(1)

"التحقيق في أحاديث الخلاف"، وقال الذهبي في "تنقيح التحقيق" 2/ 306: الصحيح أنه موقوف.

(2)

"المسند" 3/ 38 (1139) مطولاً ورواه هكذا مختصرًا في الأشربة ص 89 (231).

(3)

"المصنف" 5/ 80 (23888).

(4)

"المحلى" 7/ 483.

ص: 68

قلت: عجيبة مذكور في "الثقات" لابن حبان في أتباع التابعين

(1)

.

وقوله ابن عبد الحميد: كذا وقع فيه، والذي في ابن حبان ابنة بدل ابن وأسقط ابن أبي عاصم عن أبيه، وذكر أبو موسى المديني أن العسكري وعبيد بن غنام روياه عن بن أبي شيبة فقالا عن قيس عن أبيه.

الحديث السادس: حديث عبد الملك، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه السلام أتي بشراب فدعا بماء فصبه عليه حتى كسره بالماء ثم شرب، ثم قال:"إن هذِه الأسقية تغتلم فإذا فعلت ذلك فاكسروها بالماء"، أخرجه النسائي، وقال: عبد الملك ليس بالمشهور ولا يحتج بحديثه، والمشهور عن ابن عمر خلاف حكايته

(2)

، وقال أبو حاتم في "علله": هذا حديث منكر وعبد الملك بن نافع راويه عن ابن عمر شيخ مجهول

(3)

، وقال في "تجريحه وتعديله" عبد الملك بن نافع بن أخي القعقاع بن شور، روى عن ابن عمر: روى عنه سليمان الشيباني والعوام بن حوشب وإسماعيل بن أبي خالد وحصين وليث بن أبي سليم: سألت أبي عنه، فقال: شيخ مجهول لم يرو إلا حديثًا واحداً فبلغ الشيباني ذلكم الحديث فجعله حديثين، لا يثبت حديثه، منكر الحديث

(4)

.

وعن يحيى بن معين أنه قال: قرة العجلي عن عبد الملك بن أخي القعقاع ضعيف لا شيء

(5)

.

(1)

"الثقات" 7/ 307.

(2)

"سنن النسائي" 8/ 324.

(3)

"العلل" 2/ 263.

(4)

"الجرح والتعديل" 5/ 371، 372.

(5)

رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 5/ 372، عن أبيه، عن إسحاق منصور، عن يحيى، به.

ص: 69

وفي رواية يضعفونه، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه

(1)

، ولما ذكره ابن شاهين في "ثقاته" قال: قال أحمد بن صالح: لا يجوز أن يأتي إلى رجل مثل هذا قد روى عنه الثقات فيضعفه بلا حجة؛ إذ لم يضعفه أحد

(2)

، وذكره ابن الجارود في الضعفاء.

وقال الدارقطني: ورواه من حديث مالك بن القعقاع، قال: سألت ابن عمر عن النبيذ الشديد، فقال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فوجد من رجل ريح نبيذ .. الحديث، وفيه:"إذا اغتلمت أسقيتكم فاكسروها بالماء" كذا قال مالك بن القعقاع، وقال غيره عبد الملك بن نافع، وهو رجل مجهول ضعيف، والصحيح عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أسكر كثيره فقليله حرام"

(3)

ولفظ ابن أبي شيبة من حديث قرة العجلي عن عبد الملك بن القعقاع أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فرده ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شرب وقال: "انظروا هذِه الأشربة إذا اغتلمت عليكم فاقطعوا متونها بالماء"

(4)

.

وفي كتاب أحمد: حدثنا حجاج، (عن)

(5)

شريك، عن زيد بن جبير: سأل رجل ابن عمر عن الأشربة فقال: اجتنب كل شيء ينشي

(6)

، وله من حديث رجل عنه أنه عليه السلام مر على نشوان شرب زبيبًا وتمرًا فجلده الحد، ونهى عن الجمع بينهما.

(1)

"الضعفاء الكبير" 3/ 36 (991).

(2)

"تاريخ أسماء الثقات" ص 158 ترجمة (896).

(3)

"سنن الدارقطني" 4/ 262.

(4)

"المصنف" 5/ 77 (23857).

(5)

في (غ): حدثنا.

(6)

"الأشربة" ص 35 (22).

ص: 70

وفي لفظ سئل عن السكر فقال: "الخمر ليس لها كنية"

(1)

.

وقال ابن أبي عاصم: اختلف الشيباني وقرة العجلي في كلامه، وعبد الملك مجهول، ورواه عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مسكر حرام " طاوس وعبد الله بن دينار ومغيرة بن مجاش وغيرهم، وقد روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أُتي بشراب فقال:"اضرب به الحائط، فإنما هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر"

(2)

.

وذكر الخلال في "الأشربة" حدثنا عبد الله بن أحمد، ثنا أبي، وسألته عن حديث الشيباني عن عبد الملك في النبيذ فقال: عبد الملك مجهول ويروى عن ابن عمر خلافه، وأخبرنا عيسى بن محمد بن سعيد قال: سمعت أبا بكر يعقوب بن يوسف المطوعي وقد حدث بحديث عبد الملك في النبيذ فقال: قال يحيى بن معين: عبد الملك بن القعقاع كان خمارًا بطيزناباذ

(3)

.

وأما ابن حزم فقال: أسباط بن محمد القرشي وليث بن أبي سليم وقرة العجلي والعوام كلهم ضعيف

(4)

، وليس كما ذكر في (الكل)

(5)

(1)

"الأشربة" ص 61 (124).

(2)

لم أقف عليه من حديث ابن عمر ورواه أبو داود (3716)، والنسائي 8/ 301، وابن ماجه (3409) كلهم من حديث أبي هريرة وصححه الألباني في "الصحيحة"(3010) و"الإرواء"(2389).

(3)

هو موضع بين الكوفة والقادسية على حافة الطريق على جادة الحاج، وبينها وبين القادسية ميل. قال البلاذري في "فتوحه" ص 399: قالوا: كانت طيزناباذ تدعى ضيزناباذ، نسبة إلى ضيزن بن معاوية بن عمرو بن العبيد السلحي.

انظر: "معجم البلدان" 4/ 54.

(4)

"المحلى" 7/ 483.

(5)

من (غ).

ص: 71

فأسباط حديثه عند الجماعة، ووثقه يحيى بن معين ويعقوب بن شيبة.

وفي رواية عنه: ثبت، وقال العجلي: لا بأس به جائز الحديث

(1)

، فقال ابن وضاح: لا بأس به وذكره ابن خلفون في "ثقاته" وقال: وثقه أبو أحمد المروزي وابن السكري وأبو بكر الحضرمي، وقال ابن سعد: كان ثقة

(2)

، وكذا قاله قاسم وذكره ابن حبان

(3)

وابن شاهين في "الثقات"

(4)

.

وليث: مختلف فيه، ووثقه خلق، وقرة العجلي: وثقه ابن حبان وغيره

(5)

.

ولأحمد من حديث ليث عن حرب، عن ابن جبير سئل عبد الله عن نبيذ الزبيب الذي يُعَتَّق الشهر والعشر، فقال: الخمر اجتنبوها

(6)

.

الحديث السابع: حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي، أنه عليه السلام نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء، وقال:"كل مسكر حرام"

(7)

وفرق بين الكوبة والغبيراء وبين الخمر فليس خمرًا.

قال ابن حزم: لا يصح؛ لأنه من طريق الوليد بن عبدة وهو مجهول، ولو صح لكان عليه السلام قد ساوى بين كل ذلك في النهي عن

(1)

"معرفة الثقات" 1/ 217.

(2)

"الطبقات الكبرى" 6/ 393.

(3)

"الثقات" 6/ 85.

(4)

"تاريخ أسماء الثقات" ص 43 (102).

(5)

"الثقات" 7/ 342.

(6)

"الأشربة" ص 61 (125).

(7)

رواه أبو داود (3685)، وأحمد 2/ 158، وفي "الأشربة" ص 82 (207)، وغيرهم من طريق الوليد بن عبدة، عنه، وله طرق أخرى ذكرها الألباني رحمه الله في "تحريم آلات الطرب" ص 56 - 59، وصححه.

ص: 72

الخمر وسائر الأشربة سواء في النهي عنها، إذ ليس في التفريق في بعض المواضع في الذكر دليلًا على أنهما متغايران، قال تعالى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فلم يكن هذا موجبًا أنهما ليسا من الملائكة، وكذا إذا صح أن الخمر في كل مسكر لم يكن ذكر الخمر والكوبة والغبيراء مانعًا من أن تكون الكوبة والغبيراء خمرًا، وقد صح أن كل مسكر خمر لا سيما وفي آخره "كل مسكر حرام" وهو خلاف قولهم، فكيف يسوغ الاحتجاج ببعض خبر ويعرض عن بعض

(1)

؟!

قلت: حكمه على الوليد بالجهالة عجيب، فقد ذكره ابن يونس في "تاريخه"، وقال: كان ممن شهد فتح مصر، روى عنه يزيد بن أبي حبيب، والحديث معلول، وكان من أهل الفضل والفقه.

قال ابن عفير: مات سنة ثلاث ومائة، وذكره يعقوب بن سفيان الفسوي

(2)

، وابن حبان في "ثقاته"

(3)

قال الدارقطني: اختلف على يزيد في اسمه، فقيل: عمرو بن الوليد وقيل الوليد بن عبدة، وقال ابن سعد: لما ذكره في الطبقة الثالثة من أهل مصر الوليد بن أبي عبدة مولى عمرو بن العاص، له أحاديث

(4)

ولم يسمه بعضهم في الحديث إنما قال مولى لعبد الله بن عمرو، عن ابن عمرو: وسماه أحمد في "الأشربة" عمرو بن عبدة

(5)

، ثم قال: حدثنا هشام، ثنا فرج، ثنا

(1)

"المحلى" 7/ 482، 483.

(2)

"المعرفة والتاريخ" 2/ 518 - 519.

(3)

"الثقات" 5/ 493.

(4)

"الطبقات الكبرى" 7/ 514.

(5)

كذا في الأصول، والذي في "الأشربة" ص 82 (208)، عمرو بن الوليد بن عبدة.

فلعله سقط من الأصول.

ص: 73

إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو يرفعه:"إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة وهي كل شيء يكب عليه"

(1)

.

ولابن أبي عاصم من حديث أبان بن عبد الله البجلي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رفعه:"كل مسكر حرام"

وحدثنا زحمويه، حدثنا الفرج بن فضالة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو يرفعه:"إن الله حرم على أمتي الخمر والمزر والكوبة"

(2)

.

وله

(3)

أيضًا: حدثنا (زكريا بن عدي)

(4)

، ثنا عبد الله، فذكر حديث ابن عباس بهذا اللفظ إلا الغبيراء وقد سلف

(5)

.

الحديث الثامن: حديث سفيان بن سعيد الثوري، عن أبيه، عن لبيد بن شماس قال: قال عبد الله بن مسعود: إن القوم ليجلسون على الشراب وهو حل لهم فما يزالون حتى يحرم عليهم

(6)

.

(1)

"الأشربة"(214).

(2)

رواه أحمد "مسنده" 2/ 165 (6547)، عن يزيد عن الفرج، به. وفيه الزيادة. وقال الألباني في "الصحيحة" 4/ 283: إسناده ضعيف، لكن الحديث صحيح فقد جاء مفرقًا من طرق أخرى.

(3)

يعود الضمير هنا على الإمام أحمد، ولا يعود على ابن أبي عاصم كما قد يتوهم.

(4)

كذا بالأصول، والمثبت من "الأشربة" ص 31، ومصادر ترجمته، وانظر:"تهذيب الكمال" 20/ 328.

(5)

سبق تخريجه قريبًا، وهو عنده في "المسند" 1/ 350.

(6)

أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 220.

ص: 74

قال أبو جعفر: لا يصح؛ لأن لبيدًا اختلفوا في اسمه، فقيل ما أسلفناه، وقيل عكسه، وهو لا يعرف، ولم يرو عنه أحد إلا سعيد بن مسروق، ولا روى عنه إلا هذا الحديث، والمجهول لا تقوم به حجة، وروى أيضًا حديث عبد الله من رواية الحجاج بن أرطاة

(1)

، قلت: شماس بن لبيد ليس مجهولاً؛ لأن ابن حبان ذكره في "ثقاته"

(2)

.

قال ابن حزم: وروي عن لبيد، عن رجل، عن عبد الله، وحديث الحجاج رواه ابن حزم مرفوعًا من حديث علقمة: سألت ابن مسعود عن قوله عليه السلام: ما المسكر؟ قال: "الشربة الأخيرة" وقال: الأظهر فيه أن قوله: "الشربة الأخيرة" من قول ابن مسعود تأويل منه.

قال ابن حزم: قال أبو وائل: كنا ندخل على ابن مسعود فيسقينا نبيذًا شديدًا، ولا يصح؛ لأنه من رواية أبي بكر بن عياش عنه، وهو ضعيف

(3)

.

قلت: في رده به نظر. قال: وتعلقوا بخبر رواه علقمة قال: أكلت مع ابن مسعود فأتينا بنبيذ شديد نبذته سيرين، فشربوا منه، وسيرين هذِه أم عبيدة، وهذا خبر صحيح، وليس في شيء مما أوردوا لقولهم وثاق إلا هذا الخبر وحده إلا أنه يسقط تعلقهم به بثلاثة وجوه.

أحدها: أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثانيها: صح عن ابن مسعود تحريم كل ما قل أو كثر مما يسكر كثيره، وعن غيره من الصحابة، فإذا اختلف قوله وخالفه غيره من الصحابة فليس بعضه أولى من بعض.

(1)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 627.

(2)

"الثقات" لابن حبان 4/ 369.

(3)

"المحلى" 7/ 489.

ص: 75

ثالثها: يحتمل أن علقمة عبر بالتشديد عن الخاثر اللفيف الحلو، قال: وروى الضضر بن مطرف وهو مجهول، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه: كان ابن مسعود ينبذ له في جر ويجعل فيه عكرًا، قال: وهذا باطل ومنقطع

(1)

.

فصل:

قال أبو جعفر: وقد عارض قوم إذ ذكر لهم حديث أبي عثمان الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، رفعته:"كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام"

(2)

، فإن قالوا: أبو عثمان مجهول، قيل: لا؛ لأن الربيع بن صبيح روى عنه وليث بن أبي سليم ومهدي بن ميمون.

ومن روى عنه اثنان فليس بمجهول

(3)

، قلت: وذكره ابن حبان في "ثقاته"

(4)

وزاد في الرواة عنه مطرف بن طريف وسماه عمر بن سالم، قال: وقيل عمرو، قال: وكان قاضيًا على مرو، وذكره أيضًا في "ثقاته" ابن شاهين

(5)

وابن خلفون لفظه في كتاب أحمد: فالوقية منه حرام.

ورواه أيضًا من حديث ابن عقيل عن القاسم عنها

(6)

، واعترضوا

(1)

"المحلى" 7/ 489 - 490.

(2)

أخرجه أبو داود (3687)، والترمذي (1866) وقال: حديث حسن وابن حبان (1388) والدارقطني (533) والبيهقي 8/ 296، وأحمد في "مسنده" 6/ 71.

وذكره الألباني في "الإرواء"(2376) وقال صحيح، رجاله ثقات معروفون غير أبي عثمان.

(3)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 600، 602.

(4)

"الثقات" 7/ 176.

(5)

لم أقف عليه في "ثقات ابن شاهين".

(6)

رواه في "المسند" 6/ 332، وفي "الأشربة" ص 30 (10).

ص: 76

أيضًا حديث الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عامر بن سعد، عن أبيه مرفوعًا:"أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره"

(1)

فإن قالوا: الضحاك مجهول قيل: لا، روى عنه عبد العزيز بن محمد وعبد العزيز بن أبي حازم ومحمد بن جعفر بن أبي كثير وابن أبي فديك والوليد بن كثير.

واعترضوا حديث داود بن بكر بن أبي الفرات، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعًا:"ما أسكر كثيره فقليله حرام"

(2)

فإن قالوا: داود مجهول، قيل: لا، روى عنه إسماعيل بن جعفر وأنس بن عياض. قلت: الضحاك ومطرف بن طريف، وقيل: وكان على قضاء، ووثقه أبو داود، ويضعفه ابن الزبير وابن حبان وأحمد ويحيى بن معين وغيرهم، وأما داود بن بكر فوثقه ابن معين.

وقال أبو حاتم: شيخ لا بأس به

(3)

، وذكره ابن حبان في "ثقاته"

(4)

وكذا ابن خلفون.

فصل:

ومن الأحاديث التي تعلق بها من أجاز شربه حديث هريرة مرفوعًا: "اشربوا ما طاب لكم، فإذا خبث فردوه"

(5)

مع ما رويناه في كتاب ابن أبي عاصم بإسناد جيد عن أبي هريرة مرفوعًا: "كل مسكر حرام".

(1)

رواه النسائي في "سننه" 8/ 301.

(2)

أخرجه أبو داود (3681)، الترمذي (1865) وقال: حسن غريب، وابن ماجه (3393)، وأحمد 3/ 343. وقال الألباني في "الإرواء" (2375): إسناده حسن، ورجاله ثقات رجال الشيخين إلا داود وهو صدوق.

(3)

"الجرح والتعديل" 3/ 407 (1870).

(4)

"الثقات" 6/ 281.

(5)

رواه أحمد في "المسند" 2/ 355، وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 64.

ص: 77

وما في كتاب أحمد مما سنذكره بعد، قال ابن حزم: فيه عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب وكلاهما ساقط، ثم لو صح لكان حجة قاطعة عليهم؛ لأن معنى خبثه: سكره، لا يحتمل غيره، وإلا فليعرفونا ما معناه

(1)

.

قلت: عبد الحميد، وثقه أحمد وغيره، وقال شعبة: صدوق نعم الشيخ.

وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "ثقاته"

(2)

وكذا ابن شاهين ونقل عن أحمد بن صالح المصري: يعجبني حديثه، حديثه حديث صحيح

(3)

، وشهر مختلف فيه لإسقاطه.

قال أحمد: ليس به بأس

(4)

وأثنى عليه وقال: ما أحسن حديثه ووثقه، وقال ابن القطان: لم أسمع لمضعفه حجة

(5)

، وصحح الترمذي حديث عن أم سلمة "اللهم هؤلاء أهل بيتي"

(6)

، وقال البخاري: حسن الحديث، وقوى أمره

(7)

، وذكره ابن شاهين في "ثقاته"

(8)

.

وقال البرقاني عن أبي الحسن: يخرج حديثه، وقال البزار: تكلم فيه شعبة، ولا نعلم أحدًا ترك الرواية عنه، وقد حدث شعبة عن رجل عنه،

(1)

"المحلى" 7/ 484.

(2)

"الثقات" 7/ 120.

(3)

"تاريخ أسماء الثقات" 911 - 913.

(4)

"سؤالات أبي داود" 1/ 349 (536).

(5)

"بيان الوهم والإيهام" 3/ 321 (1069).

(6)

"جامع الترمذي"(3871) وقال: حديث حسن وهو أحسن ما روى في الباب.

(7)

ذكره الترمذي في "جامعه" بعد حديث (2697).

(8)

"تاريخ أسماء الثقات"(536).

ص: 78

ونقل الأونبي

(1)

في "ثقاته" توثيقه عن ابن نمير وغيره.

وقال يعقوب بن سفيان: ثقة وطرق حديثه صالحة رواها الشاميون

(2)

، وفي "تاريخ نيسابور: وثقه ابن معين وأبو زرعة والعجلي، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة.

فصل:

ومنها حديث علي رضي الله عنه أنه عليه السلام أُتي بمكة بنبيذ فذاقه فقطب ورده، فقيل له: هذا شراب أهل مكة، فصب عليه الماء حتى رغى وقال:"حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب".

قال ابن حزم: هذا لا حجة فيه؛ لأنه من طريق محمد بن الفرات الكوفي وهو ضعيف باتفاق مطرح، ثم عن الحارث وهو كذاب، ومن طريق شعيب بن واقد وهو مجهول عن قيس بن مطر، ولا يدرى من هو

(3)

.

وفي "الأشربة الصغير" لأحمد من حديث أبي إسحاق عن هبيرة عن علي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجعة شراب يصنع من الشعير والحنطة فيكون شديدًا حتى يسكر

(4)

، وفيه أيضًا عن طاوس أنه عليه السلام تلى آية الخمر وهو على المنبر فقال رجل: كيف بالمزر يا رسول الله؟ قال: "وما المزر؟ " قال: شراب يصنع من الحب قال: "أيسكر؟ " قال: نعم، قال:"كل مسكر حرام"

(5)

.

(1)

هو ابن خلفون.

(2)

"المعرفة والتاريخ" 2/ 426.

(3)

"المحلى" 7/ 484.

(4)

"الأشربة" ص 59 (114).

(5)

المصدر السابق ص 41 (41).

ص: 79

فصل:

ومنها حديث سمرة أنه عليه السلام أذن في النبيذ بعد ما نهى عنه، قال أبو بشر الدولابي في كتابه

(1)

: منذر بن حسان أبو حسان، عن سمرة أنه عليه السلام فذكره يرمى بالكذب

(2)

، وكذا قال أبو العرب في "تاريخه"، وقال ابن حبان: كان حجاجيًا يقول: من خالف الحجاج فقد خالف الإسلام

(3)

، وقال ابن حزم: منذر هذا ضعيف وسماه ابن أبي حسان، ثم لو صح لكان معناه: إذن في الانتباذ في الظروف بعد ما نهى عنه لا أنه نهى عن الخمر ثم أذن فيها

(4)

فصل:

ومنها خبر فيه النهي عن الانتباذ في الجرار الملونة فإذا خشى فليسجه بالماء.

قال ابن حزم: لا يصح؛ لأنه من طريق أبان الرقاشي وهو ضعيف عن أبيه، ثم لو صح لكان حجة عليهم؛ لأن فيه إذا خشى فليسجه بالماء ومعناه: إذا خشى أن يسكر بإجماعهم لا يحتمل غير هذا، فإذا أبيح بالماء بطل إسكاره وهذا لا يخالفهم فيه، وليس فيه أن بعد إسكاره يسج، إنما فيه إذا خشى، وهذا بلا شك قبل أن يسكر

(5)

، قلت: قال

(1)

المسمى بـ "الأسماء والكنى".

(2)

نقله عنه ابن عدي في "الكامل" 8/ 95؛ ثم قال: هو مجهول، ونسبه منذر أبو حسان، وكذا نسبه الذهبي في "المغني" ص 677 (6424)، وفي "الميزان" 5/ 307، ورجحه ابن حجر في "لسان الميزان" 6/ 89 - 90؛ فقال: سماه ابن الجوزي منذر بن حسان، وإنما منذر أبو حسان.

(3)

"الثقات" 5/ 421.

(4)

"المحلى" 7/ 484.

(5)

السابق 7/ 485.

ص: 80

محمد بن إسماعيل: أبان والد يزيد لم يصح حديثه

(1)

، وقال أبو حاتم الرازي، روى حديثًا واحداً ولا يصح

(2)

.

وقال الدارقطني: له حديث واحد

(3)

، وقال ابن عدي: لا يحدث عنه إلا أبيه يزيد بحديث مظلم المخرج

(4)

، قلت: لعله هذا.

فصل:

ومنها مرسل سعيد بن المسيب أنه عليه السلام قال: "الخمر من العنب والسكر من التمر والمزر من الحنطة والبتع من العسل فكل مسكر حرام".

قال ابن حزم: فيه إبراهيم بن أبي يحيى وهو مذكور بالكذب، ولو صح لكان حجة عليهم لأن فيه "كل مسكر حرام"، وليس في قوله: الخمر من العنب مانع أن يكون من غيره إذا صح بذلك نص، وقد صح

(5)

.

فصل:

ومنها مرسل مجاهد رواية ابن جريج عن رجل لم يسم عنه: أنه عليه السلام شرب من نبيذ سقاية زمزم فقطب وجهه ثم صب عليه الماء مرة بعد مرة ثم شرب منه.

ومنها ما رواه سماك وهو ضعيف عن قرصافة امرأة منهم وهي مجهولة، عن عائشة أنها قالت: اشربوا ولا تسكروا

(6)

.

(1)

"التاريخ الكبير" 1/ 451 (1442).

(2)

"الجرح والتعديل" 2/ 295 (1085).

(3)

"الضعفاء والمتروكين" ص 149 (104).

(4)

"الكامل في الضعفاء" 7/ 283.

(5)

"المحلى" 7/ 485.

(6)

رواه النسائي 8/ 320.

ص: 81

ورواه إسرائيل عن سماك بلفظ: "اشربي، ولا تشربي مسكرًا" قال: وسماك عن قرصافة، ومرة [قال]

(1)

: لنا عليهم، ومرة: لا لنا ولا لهم

(2)

.

وقال أحمد

(3)

: الحديث الذي روته غير ثابت، وقرصافة لا ندري من هي والمشهور عن عائشة رضي الله عنها خلاف ما روت

(4)

.

وقال النسائي بعد أن روى هذا الأثر: حديثها في الأوعية لا يصح ومنها خبر رواه ابن جريج عن (الإسماعيلي)

(5)

مرسلاً: (أن رجلاً عب في نبيذ خمر فسكر فضربه عمر الحد لما أفاق، ومنها خبر من حديث ابن أبي مليكة قال)

(6)

: حدثني وهب بن الأسود ولا ندري من هو كما قال ابن حزم

(7)

-وإن ذكره ابن حبان في "ثقاته"

(8)

- قال: أخذنا زبيبًا فأكثرنا منه في (أدواتنا)

(9)

وأقللنا الماء فلم يلق عمر حتى عدى طوره فأخبرنا بأنه عدى طوره وأريناه إياه، فوجده شديدًا وكسره بالماء ثم شرب.

(1)

ليست بالأصل، والمثبت من "المحلى"

(2)

"المحلى" 7/ 486.

(3)

هو ابن شعيب، يعني النسائي.

(4)

"سنن النسائي" 8/ 320.

(5)

كذا بالأصول، ولعله إسماعيل بن أمية شيخ ابن جريج، كما في "المحلى" 7/ 487.

(6)

زيادة من (غ).

(7)

"المحلى" 7/ 487.

(8)

"الثقات" 5/ 489. قلت: كذا هنا: ولا ندري من هو، وقد ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 120؛ فقال: ابن خال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن حجر في "الإصابة" 1/ 46 باسم الأسود بن وهب، وقال أبو نعيم في "معرفة الصحابة" 5/ 2718: مختلف في صحبته. وقال مغلطاي في "الإنابة" 2/ 239: لا تصح له صحبة. وقيل: فيه الأسود بن وهب. وقال البخاري في "تاريخه" 8/ 163: لقي عمر، وروى عنه ابن مليكة.

(9)

كذا في الأصل: وفي "المحلى": أداوانا.

ص: 82

ومنها خبر، رواه ابن شهاب عن عمر -ولم يسمع منه، ولا يمكن- أتى بسطيحة فيها نبيذ قد اشتد بعض الشدة، فذاقه، ثم قال: بخٍ بخٍ، (اكسروا)

(1)

بالماء، ومنها خبر رواه سعيد بن منصور، ثنا ابن عليه عن الحذاء، عن أبي المعدل، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر ينبذ له في ذي خمسة عشر قائمة، فجاء فذاقه، فقال: كأنكم أقللتم عكره. قال ابن حزم: أبو المعدل مجهول

(2)

.

قلت: قد عرفه الحاكم أبو أحمد، ووثقه ابن حبان، ومنها خبر رواه شريك عن فراس، عن الشعبي، عن علي.

قال ابن حزم: ولم يسمع منه أن رجلاً شرب من إدواة فسكر فجلد الحد، ولو صح لم تكن فيه حجة لهم؛ لأنه ليس (فيه)

(3)

أن عليًا شرب من تلك الإدواة بعد ما أسكر ما فيها. وفي رواية مجالد عن الشعبي: أن رجلاً شرب من طلاء فضربه على الحد، فقال الرجل: إنما شربت ما أحللتم، فقال علي: إنما جلدتك؛ لأنك سكرت

(4)

.

قلت: عدم سماعه من علي فيه وقفة؛ لأنه محتمل فإن الشعبي ولد سنة عشرين كما قال ابن السمعاني

(5)

، أو سنة إحدى وعشرين كما قال الشمشاطي، وقال ابن البطال: سِنُّهُ محتملة لإدراك علي

(6)

.

وقال الحاكم: رآه، وقال الدارقطني في "علله": سمع منه حرفًا، وقد احتج به ابن حزم نفسه في حديث ذكره في الحيض، ومنها خبر رويناه صحيحًا، كما قال ابن حزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا أطعمك

(1)

في "المحلى": اكسره.

(2)

"المحلى" 7/ 487.

(3)

من (غ).

(4)

"المحلى" 7/ 488.

(5)

"الأنساب" 7/ 342.

(6)

"علل الدارقطني" 4/ 97.

ص: 83

أخوك المسلم طعامًا فكل وإذا سقاك شرابًا فاشرب، فإن رابك فاسججه بالماء، قال: ولا حجة لهم فيه؛ لأنه ليس فيه إباحة النبيذ المسكر لابنص ولا بدليل ولا إباحة ما حرم كالخمر وغيره ولا إباحة الخمر، وإنما فيه لا تفتش على أخيك المسلم وأن يسج النبيذ إذا خيف أن يسكر بالماء، وهم لا يقولون بهذا، وهو موافق لقولنا إذا كان يحيله عن الشدة إلى إبطالها، وصح عن أبي هريرة تحريم المسكر جملة

(1)

.

ولابن أبي عاصم بإسناد جيد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبيذ فقال "ادنه" فإذا هو ينش، فقال "اضرب بهذا الحائط فإنه شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر"

(2)

.

ومن حديث مسلم بن خالد، عن زيد بن أسلم، عن شمر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا

(3)

: "كل مسكر حرام" فإن كان الشراب مسكرًا فقد ثبت تحريمه بجنص حديث أبي صالح أن يكسره بالماء؛ لأنه يسكر أو لعله غير ذلك.

ولابن سعد: ثنا وكيع، عن على بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم: سمع أبا هريرة يقول: من رابه من شدة فليشن عليه الماء فيذهب حرامه ويبقى حلاله.

ومنها خبر رواه ابن أبي شيبة عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عثمان بن قيس أن جرير بن عبد الله سقاهم عسلًا وشرب هو الطلاء،

(1)

"المحلى" 7/ 488.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

ورد في هامش (غ): إذا دخل أحد على أخيه. الحديث، قال ابن أبي عاصم (

).

ص: 84

وقال: هذا يستنكر منكم ولا يستنكر منى، قال: وكانت رائحته توجد من هنالك وأشار إلى أقصى الحلقة

(1)

.

قال ابن حزم: عثمان مجهول

(2)

، قلت: قد ذكره ابن حبان في "ثقاته"

(3)

.

ومنها خبر رواه ابن أبي ليلى -وهو سيئ الحفظ- عن أخيه عيسى أنه أبصر عند أنس بن مالك طلاءً شديدًا وهو مع ضعفه يحتمل أن يريد بالتشديد الخاثر وهي صفة الزبيب المطبوخ الذي لا يسكر

(4)

.

قال ابن حزم: ومنها خبر رواه ابن أبي شيبة من حديث سماك عن رجل أنه سأل الحسن بن علي عن النبيذ، فقال: اشرب فإذا رهبت أن تسكر فدعه

(5)

.

قال ابن حزم: لا يصح هذا عن الحسن أصلاً، قال: وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى من طريق أبي فروة أنه شرب معه نبيذ جر فيه دردي.

وعن ابن أبي وائل مثله.

وعن النخعي والشعبي وعن الحسن أنه كان يجعل في نبيذ عكرًا، وقد خالف هؤلاء ابن سيرين وابن المسيب فصح عنهم المنع من العكر.

قال ابن المسيب: هو خمر

(6)

.

(1)

"المصنف" 5/ 90 (23989).

(2)

"المحلى" 7/ 488.

(3)

"الثقات" 5/ 158.

(4)

"المحلى" 7/ 498.

(5)

"المصنف" 5/ 78 (23862).

(6)

"المحلى" 7/ 489، 490.

ص: 85

فصل:

وذكر إباحته ابن أبي شيبة في "مصنفه"، عن أبي الدرداء وسويد بن غفلة وزر بن حبيش وابن أبي ليلى عن جماعة من أهل بدر وأبي ذر وعمرو بن شرحبيل وعبد الله بن ذئب وعمارة ومرة الهمذاني وعمرو بن ميمون ومحمد وعلي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن وهبيرة بن يريم والحارث الأعور وعلقمة بن قيس وعبد الرحمن بن يزيد وماهان الحنفي وإبراهيم وبكر بن ماعز والشعبي

(1)

، وقد أسلفنا عن ابن المبارك لم يصح إباحة النبيذ عن أحد إلا عن إبراهيم النخعي وحده، وقد بسطنا هذا الموضع على خلاف العادة لتدفع هذِه المقالة العجيبة ويتقرر ردها ولله الحمد.

(1)

"المصنف" 5/ 77 - 81.

ص: 86

‌2 - باب الْخَمْرُ مِنَ العِنَبِ

5579 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ -هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ- عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ. [انظر: 4616 - فتح 10/ 35]

5580 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ، وَمَا نَجِدُ -يَعْنِي: بِالْمَدِينَةِ- خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلاَّ قَلِيلاً، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. [انظر: 2464 - مسلم: 1980 - فتح 10/ 35]

5581 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، حَدَّثَنَا عَامِرٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهْيَ مِنْ خَمْسَةٍ: الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ. [انظر: 4619 - مسلم: 3032 - فتح 10/ 35]

ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: لَقَدْ حُرِّمَتِ (الْخَمْرُ)

(1)

، وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ.

وحديث أنس رضي الله عنهما قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الخَمْرُ (حِينَ حُرِّمَتْ)

(2)

، وَمَا نَجِدُ -يَعْنِي: بِالْمَدِينَةِ- خَمْرَ الأَعْنَابِ إِلَّا قَلِيلاً، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا البُسْرُ وَالتَّمْرُ، وهما من أفراده.

وحديث أبي حيان حين حرمت واسمه يحيى بن سعيد بن حيان التيمي ثَنَا (أبو عَامِر)

(3)

، قال: قَامَ عُمَرُ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَهْيَ مِنْ خَمْسَةٍ: العِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ.

(1)

من (غ).

(2)

من (غ).

(3)

كذا بالأصل، والصواب: عامر، وهو الشعبي كما في كتب المتون.

ص: 87

الشرح:

فيه رد على الكوفيين في قولهم: إن الخمر من العنب خاصة وأن كل شراب يتخذ من غيره فغير محرم ما دون السكر منه، وهذا التفسير من عمر مقنع كما قال المهلب: ليس لأحد أن يسود فيقول إن الخمر من العنب وحده؛ فهؤلاء الصحابة فصحاء العرب والفهماء عن الله ورسوله قد فسروا عين ما حرم الله، وقال: إن الخمر من خمسة أشياء، وقد أخبر الفاروق بذلك حكايته عما نزل من القرآن وتفسيرًا للجملة وقال: الخمر ما خامر العقل، وخطب بذلك على منبره عليه السلام بحضرة الصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم ولم ينكره أحد فصار كالإجماع.

وهذا ابن عمر يقول: حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء، يعني: خمر العنب فإنه المشهور باسمها، وكذا قول أنس وما يجد خمر الأعناب إلا قليلاً، وممن روي عنه من الصحابة أن الخمر تكون من غير العنب وإن كان لا يخالف، فيهم عمر وابنه وعلي وأبو موسى وابن عباس وأبو هريرة وسعد وعائشة.

ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز في تابعي أهل المدينة من أهل الكوفة ابن مسعود روى عنه في نقيع التمر أنه خمر، وبه قال الشعبي وابن أبي ليلى والنخعي والحسن البصري وعبد الله بن إدريس الأودي وسعيد بن جبير وطلحة بن مصرف، كلهم قالوا: المسكر خمر، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وعليه أهل الحديث.

وروى صفوان بن محرز قال: سمعت أبا موسى على المنبر يقول: ألا أن خمر أهل المدينة البسر والتمر وخمر أهل فارس العنب، وخمر

ص: 88

أهل اليمن البتع وهو العسل، وخمر الحبشة السكركة وهو الأرز

(1)

.

قال إسماعيل بن إسحاق: فإذا تبين أن الخمر تكون من هذا كله وجب أن يجري كله مجرًا واحداً، وأن لا نفرق بين السكر من العنب والسكر من غيره، والمزر يصنع من الشعير وهو الجعة أيضًا.

فصل:

أسلفنا أن الحكم في التحريم لا يتعلق بعين الخمر وكل ما أسكر فهو ملحق به.

وقال أبو حنيفة: المحرم عصير العنب النيِّئ، فمن شرب منها ولو نقطة حد، وما عداها لا يحد إلا مما أسكر منه

(2)

، وموضع الرد عليه من الحديث: أنهم كانوا يشربون بالمدينة الفضيخ وهو ما يتخذ من البسر والتمر، فلما جاءهم منادي رسول الله: أن الخمر حرمت امتنعوا وكسروا الجرار ولم ينكروا ولا قالوا: إنما كنا نشرب الفضيخ، بل قبلوا وامتنعوا، فلولا أنهم عندهم خمر ما امتنعوا منه، فإذا ثبت بالسنة وإجماع الصحابة أن هذِه الأشربة تسمى خمرًا فهي داخلة في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] فهو حرام بنص القرآن وقد سلف.

قال الخطابي: وذهب غير واحد من فقهاء الكوفة إلى أن الخمر إنما هي من العنب والرطب. وقول الفاروق: والخمر ما خامر العقل؛ دال على جواز إحداث الاسم بالقياس، أخذه من طريق الاشتقاق، وزعم قوم أن العرب لا تعرف النبيذ المتخذ من التمر خلاً، فقال: إن

(1)

رواه ابن عبد البر في "التمهيد" 5/ 168.

(2)

"بدائع الصنائع" 5/ 496.

ص: 89

الصحابة الذين سموا الفضيخ خمرًا عرب فصحاء، فلو لم يصلح هذا الاسم لم يطلقوه عليها

(1)

.

فرع:

قال ابن حبيب: لا تشرب الفضيخ وإن لم تسكر؛ لأنه البسر والرطب جميعاً يهشان لينتبذان، وهما الخليطان اللذان نهى الشارع عنها.

قال ابن التين: والذي ذكر أهل اللغة أن الفضيخ شراب يتخذ من بسر وحده من غير أن تمسه النار.

فصل:

ذكر صاحب "الهداية" من الحنفية أن الأشربة المحرمة أربعة: الخمر وهو عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، وهو قول أبي حنيفة، والعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو الطلاء، ونقيع التمر وهو السكر، ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلا، فأما الخمر فماهيتها أنها من ماء العنب إذا صار مسكرًا وهذا عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم.

وقال بعض الناس: هو اسم لكل مسكر؛ لقوله عليه السلام: "كل مسكر خمر" وقوله: "إن الخمر من هاتين الشجرتين" وأشار إلى الكرم والنخلة

(2)

؛ ولأنه من مخامرة العقل وهو موجود في كل مسكر قال: ولنا أنه خاص بإطباق أهل اللغة على ما ذكرنا؛ ولهذا اشتهر استعماله فيه وفي غيره، ولأن حرمة الخمر قطعية وهي في غيرها

(1)

"أعلام الحديث" 3/ 2086.

(2)

رواه مسلم برقم (1985) كتاب: الأشربة، باب: تحريم التداوي بالخمر.

ص: 90

ظنية. قال: وإنما سمي الخمر خمرًا لتخمره لا لمخامرته العقل على ما ذكرتم، ولا ينافي كون الاسم خاصًا فيه، فإن النجم منشق من (النجوم)

(1)

، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف، لا بكل ما ظهر، وهذا كثير النظير، قال: والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين، قلت: لا يقبل منه فمن صححه حجة عليه، والثاني أريد لبيان الحكم إذ هو اللائق بمنصب الرسالة، وعند الشيخين: لا يشترط القذف بالزبد والخمر حرام غير معلولة بالسكر ولا موقوفة عليه، ومن الناس من أنكر حرمة عينها، وقال: السكر بها حرام؛ لأن به يحصل الفساد. وهذا لغو؛ لأنه جحود الكتاب لأنه سماه رجسًا، والرجس ما هو محرم العين.

وقد جاءت السنة المتواترة بتحريمها، وعليه انعقد إجماع الأئمة؛ ولأن قليله يدعو إلى كثيره وهذا من خواص الخمر ولهذا يزداد لشاربها اللذة بالاستكثار منها بخلاف سائر المطعومات، ثم هو غير (معلول)

(2)

عندنا حتى لا يتعدى حكمه إلى سائر المسكرات، والشافعي يعديه إليها قال: وهذا بعيد؛ لأنه خلاف السنة المشهورة.

قلت: بل الذي قاله هو البعيد، وما قاله الشافعي موافق للسنة المشهورة كأحاديث الباب وغيره.

قال: وتعليله لتعدية الاسم والتعليل في الأحكام لا في الأسماء

قال: وهي نجسة نجاسة مغلظة كالبول؛ لثبوتها بالدلائل القطعية، يكفر مستحلها؛ لإنكاره الدليل القطعي، ويسقط عوضها في حق

(1)

في (غ): الظهور.

(2)

في الأصل: معلوم، والمثبت من "الهداية" 4/ 447.

ص: 91

المسلم إذا (أتلفها)

(1)

، قال: والأصح أنه مال؛ لأن الطباع تميل [إليها]

(2)

وتضن بها

(3)

.

فرع:

قال ابن حزم: ولا يحل كسر أوانيها، ومن كسرها من حاكم أو غيره فعليه ضمانها لكن يهريق ويغسل الفخار والجلود والعيدان والحجر، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: يكسر الفخار والعود وتشق الجلود ويغسل ما سوى ذلك.

دليل قولنا أن الشارع لما أخبر الرجل بتحريمها فتح المزادة وأهرقها ولم يأمره بخرقها، وقد نهى عن إضاعة المال.

حجة المخالف أن عكرمة قال: كسر النبي صلى الله عليه وسلم كوزًا فيه شراب وشق المشاعل يوم خيبر.

وروى ابن عمر أنه عليه السلام شق زقاق الخمر، وكذا رواه أبو هريرة وجابر؛ ولا يصح كل ذلك.

حديث ابن عمر [أحد طرقه]

(4)

فيه ثابت بن يزيد الخولاني ولا ندري من هو

(5)

، والثاني: من رواية ابن لهيعة عن أبي طعمة نسير بن ذعلوق

(1)

غير واضحة بالأصل، والمثبت من (غ).

(2)

ليست في الأصل، والسياق يقتضيها، والمثبت من المصدر المنقول منه.

(3)

"الهداية" للميرغيناني 4/ 446 - 447.

(4)

ليست بالأصل، والمثبث من "المحلى".

(5)

طريق ثابت بن يزيد الخولاني، أخرجها الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 8/ 397، والحاكم في "المستدرك" 4/ 144، والبيهقي في "سننه" 8/ 287، من طريق ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح وابن لهيعة والليث بن سعد عن خالد بن يزيد، عن ثابت بن يزيد الخولاني، عن ابن لهيعة، وسقط من إسناد الحاكم: ابن لهيعة والليث، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، واعترضه الألباني في =

ص: 92

وهو لا شيء

(1)

، والثالث: من رواية عبد الملك بن حبيب الأندلسي وهو هالك عن طلق وهو ضعيف

(2)

، وحديث أبي هريرة فيه عمر بن صهبان وهو ضعيف

(3)

، ولا يصح في هذا الباب شيء

(4)

، قلت: عمر ونسير وثابت وطلق ثقات، وروى ابن أبي عاصم من حديث سفيان عن السدي، عن يحيى بن عباد، عن أنس أن أبا طلحة سأل رسول الله عن أيتام ورثوا خمرًا أيجعله خلًا فكرهه، قال: أبو عمر: هذا صحيح

(5)

. وأخرجه مسلم في صحيحه أيضًا

(6)

.

فرع:

قال في "الهداية": ومن كان له على مسلم دين فأوفاه ثمن خمره لا يحل له أن يأخذه ولا للمديون أن يؤديه؛ لأنه ثمن باطل وهو غصب في يده أو أمانة على حسب ما اختلفوا فيه كما في بيع الميتة ولو كان الدين على ذمي يؤديه من ثمن الخمر، والمسلم هو الطالب يستوفيه؛ لأن بيعها فيما بينهم جائز.

= "الإرواء" 5/ 367؛ فقال: أما الصحة فلا، وأما الحسن فمحتمل.

(1)

طريق نسير بن ذعلوق -أبي طعمة- رواها أحمد في "المسند" 2/ 71، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 8/ 399 - 400، قال الهيثمي في "المجمع" 5/ 54: أبو طعمة وثقه محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، وضعفه مكحول، وبقية رجاله ثقات.

(2)

طريق عبد الملك عن طلق لم أقف على من أخرجها، وإنما رواه الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 8/ 400، من طريق الربيع بن سليمان، عن طلق، به.

(3)

لم أقف عليه.

(4)

"المحلى" 7/ 517 - 518.

(5)

" الاستذكار" 24/ 316.

(6)

مسلم (1983) كتاب: الأشربة، باب: تحريم تخليل الخمر.

ص: 93

فرع:

يحرم الانتفاع بها؛ لأن الانتفاع بالنجس حرام، ولأنه واجب (الاجتناب)

(1)

وفي الانتفاع إقرار

(2)

.

قال ابن عبد البر: أجمع المسلمون على نجاسته وأنه كالدم والميتة ولحم الخنزير إلا ما روى ربيعة بن أبي عبد الرحمن في لفظ من الخمر شيء (لم أر له ذكرًا)

(3)

؛ لأنه خلاف إجماعهم، وقد جاء عنه في مثل؛ رءوس الإبر من لفظ البول نحو ذلك

(4)

.

فرع:

يحد شاربها وإن لم يسكر؛ لقوله عليه السلام: "من شرب الخمر فاجلدوه" وعليه قام الإجماع، والطبخ لا يؤثر فيها لأنها للمنع من شرب الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها، إلا أنه لا حد فيها بما لم يسكر منه على ما قالوا.

فرع:

لا يجوز تخليلها عندنا خلافًا لهم.

وعند مالك فيما حكاه ابن حزم عنه: إن تعمد تخليلها لم يحل أكل ذلك الخل

(5)

.

وقال أبو ثور: لا تؤكل تخللت أو خللت، قال ابن حزم: وقولنا هو قول أبي حنيفة وأبي سليمان رُوي أن عليًا رضي الله عنه كان يصطبغ بخل خمر.

(1)

في الأصل: الانجذاب، والمثبت من المصدر المنقول منه، وهو المناسب للسياق.

(2)

"الهداية" للمرغيناني 4/ 447.

(3)

في (غ): لم أر لذكره وجهًا.

(4)

"التمهيد" 1/ 245.

(5)

"المحلى" 7/ 517.

ص: 94

وعن أبي الدرداء: لا بأس به، وكذا قالت عائشة وابن عمر وابن سيرين وهو قول الحسن وابن جبير

(1)

.

قال ابن القاسم فيما حكاه ابن عبد البر، عن مالك: لا يحل لمسلم أن يخلل الخمر لكن يهريقها، وفي رواية أشهب عنه: إذا خللها النصراني فلا بأس وكذا لو خللها مسلم، والصحيح رواية ابن القاسم، وهذِه رواية سوء ولا تصح في هذِه المسألة إلا بما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد

(2)

.

فرع:

وأما العصير إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخه ويسمى الباذق والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ، وكل ذلك حرام عندنا إذا غلا واشتد وقذف بالزبد وإذا اشتد، على الاختلاف.

وقال الأوزاعي: إنه مباح وهو قول بعض المعتزلة لأنه مشروب طيب وليس بخمر، ولنا أنه رقيق مطرب، ولهذا أن الفساق تجمع عليه فيحرم شربه دفعًا لفساد التعلق به.

فصل:

وأما نقيع التمر وهو السَّكَرُ وهو النيء

(3)

من ماء التمر أي الرطب فهو حرام.

(1)

السابق 7/ 517.

(2)

"الاستذكار" 24/ 313 - 315.

(3)

هذا مقارب لما قاله أبو عبيد: السَّكَرُ نقيع التمر الذي لم تمسه النار. انظر: "لسان العرب" مادة: (سكر).

ص: 95

وقال شريك بن عبد الله: مباح؛ لقوله تعالى {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] ولنا إجماع الصحابة (و)

(1)

ما رويناه من قبل، والآية محمولة على الابتداء إذ كانت الأشربة مباحة كلها، وقيل: أراد به التوبيخ معناه -والله أعلم- تتخذون منه سكرًا وتدعون رزقًا حسنًا.

فصل:

وأما نقيع الزبيب فهو حرام إذا اشتد وغلا، ويتأتى فيه خلاف الأوزاعي إلا أن حرمة هذِه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها؛ لأن حرمتها اجتهادية وحرمة الخمر قطعية، واعترض هذا ابن حزم بأن قال: هذا لا شيء؛ لأنا لو وجدنا إنسانًا غاب عنه تحريم الخمر فلم يبلغه لما كفرناه إلا إذا بلغه وأصر، وكذا النبيذ لا يكفر من جهله إلا بعد بلوغه والإصرار عليه، قال في "الهداية": ولا يجب الحد بشربها حتى يسكر، ويحد شارب قطرة من الخمر، ونجاستها خفيفة في رواية، وغليظة في أخرى، ونجاسة الخمر غليظة رواية واحدة

(2)

.

(1)

في (غ): هو.

(2)

"الهداية" 4/ 449.

ص: 96

‌3 - باب نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهْيَ مِنَ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ

5582 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا. فَأَهْرَقْتُهَا. [انظر: 2464 - مسلم: 1980 - فتح 10/ 36]

5583 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا على الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ -عُمُومَتِي وَأَنَا أَصْغَرُهُمُ- الْفَضِيخَ، فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ. فَقَالُوا: أَكْفِئْهَا. فَكَفَأْتُهَا. قُلْتُ لأَنَسٍ: مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ. فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ. [انظر: 2464 - مسلم:1980 - فتح 10/ 37]

5584 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ، وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ. [انظر: 2464 - مسلم: 1980 - فتح 10/ 37]

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب من فضيخ وهو بسر وتمر، فجاءهم آت، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة قم يا أنس فأهرقها، فأهرقتها.

حدثنا مسدد، ثنا معتمر عن أبيه قال: سمعت أنسًا قال: كنت قائمًا على الحي أسقيهم -عمومتي وأنا أصغرهم- الفضيخ، فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: أكفئها، قلت لأنس: ما شرابهم؟ قال: زبيب وبسر، فقال أبو بكر بن أنس: وكانت خمرهم. فلم ينكر أنس، وحدثني

ص: 97

بعض أصحابي أنه سمع أنسًا يقول: كانت خمرهم يومئذ، وعن أنس: حرمت الخمر يومئذ البسر والتمر.

الشرح:

هذا الحديث يأتي أيضًا في خبر الواحد

(1)

، وأخرجه في الوليمة

(2)

، ومسلم هنا

(3)

.

والقائل: (وحدثني بعض أصحابنا) هو سليمان التيمي والد معتمر، وقد بينه مسلم؛ إذ رواه عن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر، عن أبيه قال: حدثني بعض من كان معي أنه سمع أنسًا يقول: كانت خمرهم يومئذٍ، وعنده أيضًا أنه كان يسقي أبا أيوب وأبا دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء، وعند أحمد بن حنبل: وما نعدها يومئذٍ إلا خمرًا وكانوا أحد عشر رجلاً، قال أنس: وكفأتها وكفأ الناس آنيتهم بما فيها حتى كادت السكك أن تمتنع من ريحها.

قال أنس: وما خمرهم يومئذٍ إلا البسر والتمر مخلوطين وإن عامة خمورهم يومئذٍ الفضيخ التمر والبسر

(4)

، ولابن أبي عاصم: حتى مالت رءوسهم فدخل داخل فقال: إن الخمر حرمت قال: فما خرج منا خارج ولا دخل داخل حتى كسرنا القلال وأهرقنا الشراب واغتسل بعضنا

(1)

برقم (7253) باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق.

(2)

برقم (4617) كتاب: التفسير (سورة المائدة)، باب: قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ} ورقم (4620) باب: {لَيْسَ على الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} . ولم أجد الحديث في باب فيه اسم الوليمة ولعل تخريجه في المائدة هو ما أراده المؤلف.

(3)

مسلم (1980) باب: تحريم الخمر.

(4)

أحمد في "المسند" 3/ 217، وفي "الأشربة"(178، 179).

ص: 98

وتوضأ بعضنا وأصبنا من طيب (سليم)

(1)

، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يقرأ:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة: 90]، فقال رجل: يا رسول الله فكيف بمن مات من إخواننا وهم يشربونها، فنزلت:{لَيْسَ على الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] وفي رواية قال: فما عادوا لشربها حتى لقوا الله تعالى.

فصل:

الفضيخ عند أكثر أهل العلم فيما نقله أبو عمر: نبيذ التمر

(2)

وقال أبو عبيد بن سلام: هو ما افتضخ من البسر من غير أن تمسه النار

(3)

.

وقال ابن سيده في "محكمه": هو عصير العنب، وهو يتخذ من البسر المفضوخ.

قال الراجز:

بال سهيل في الفضيخ ففسد

(4)

.

يقول: لما طلع سهيل ذهب زمن البسر وأرطب فكأنه بال فيه، وفي "مجمع الغرائب" هو فضيخ أو فضوخ أو لأنه يسكر صاحبه فيفضخه.

قال ابن عمر: وسئل عنه ليس بالفضيخ ولكنه الفضوخ.

وفي "الصحاح": هو من البسر وحده

(5)

.

(1)

كذا بالأصل، وكتب فوقها الناسخ: كذا، ولعل الصواب: أم سليم.

(2)

" الاستذكار" 24/ 319، 320.

(3)

"غريب الحديث" 1/ 303.

(4)

"المحكم والمحيط" 5/ 28 مادة "فضخ".

(5)

"الصحاح" 1/ 429.

ص: 99

فصل:

في كتاب أحمد بسند جيد عن جابر: حرمت الخمر يوم حرمت وما كان شراب الناس إلا التمر والزبيب

(1)

، وكذا قاله هلال بن يزيد ومعقل بن يسار وابن عمر وابن عباس، وسئل عكرمة عنه فقال: حرام ما كان خليطًا وما لم يكن، وكان ابن عباس يكرهه وإن كان بسرًا محضًا.

فصل:

هذا الباب أيضًا كالذي قبله حجة على العراقيين أن الخمر من العنب وحده؛ لأن الصحابة القدوة في علم اللسان ولا يجوز عليهم أن يفهموا أن الخمر إنما هي من العنب خاصة ويهريقوا حرام الفضيخ وهي غير خمر، وقد نهى عن إضاعة المال وإنما هراقها لأنها الخمرة المحرمة عندهم من غير شك، ولو شكوا في ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عيبها وما يقع عليه اسمها، وقد قال أنس: إنهم لم يعودوا فيها حتى لقوا الله، قال إسماعيل بن إسحاق: جاء في الآثار من تفسير الخمر ما هي واللغة المشهورة، والنظر يعرفه ذوو الألباب بعقولهم أن كل شيء أسكر فهو خمر، وأما كتاب الله فقوله:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67] فعلم أن السكر من العنب مثل السكر من النخيل وقال تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فنهي عن الصلاة في حال السكر، واستوى في ذلك السكر من ثمرات النخيل، فكما كان السكر من ثمرات الأعناب والسكر من ثمرات النخيل والأعناب منهي

(1)

"الأشربة" ص 27 (28).

ص: 100

عن الصلاة فيه، كذلك كانت الخمر من ثمرالت النخيل والأعناب محرمة بهذِه الآية.

فصل:

وقوله: "قم يا أنس فأهرقها"، الهاء في هرق من الهمزة ولا يجتمع العوض والمعوض منه لكن ذكر سيبويه لغة أهرق الماء يهرقه وإهراقًا.

قال سيبويه: أبدلوا من الهمزة الهاء ثم ألزمت فصارت كأنها من نفس الحرف، ثم أدخلت الألف بعد الهاء وتركت الهاء عوضًا من حذفهم العين؛ لأن أصل أهرق أريق

(1)

، وقوله: اكفأها فكفأتها، (أي: اقلبها)

(2)

وهو ثلاثي، وهو اختيار ابن السكيت أنه ثلاثي

(3)

.

فصل:

أبو عبيدة اسمه عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر

(4)

.

وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عم حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار

(5)

.

(1)

"الكتاب"

(2)

من (غ).

(3)

"إصلاح المنطق"(152).

(4)

"سير أعلام النبلاء" 1/ 5.

(5)

"سير أعلام النبلاء" 2/ 27.

ص: 101

فصل:

قوله في السند الأخر لحديث أنس أبو معشر: البراء هو بتشديد الراء وهو يوسف بن يزيد البصري وشيخه سعيد بن عبيد الله بن جبير بن حية الثقفي البصري، انفرد به البخاري وانفرد أيضًا بجده جبير بن حية بن مسعود بن مالك بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف تابعي، عنه أبيه زياد وبكر بن عبد الله ولاه زياد اصبهان، وتوفي أيام عبد الملك بن مروان، وأبيه زياد بن جبير بن حية تابعي أيضًا، روى له مسلم أيضًا، ووالده عند البخاري يروي عنه يونس وابن عون عنه، اسمه سعيد بن عبيد الله بن جبير عند البخاري كما سلف.

ص: 102

‌4 - باب الْخَمْرُ مِنَ الْعَسَلِ وَهْوَ الْبِتْعُ

وَقَالَ مَعْنٌ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنِ الفُقَّاعِ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُسْكِرْ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ ابن الدَّرَاوَرْدِيِّ: سَأَلْنَا عَنْهُ فَقَالُوا: لَا يُسْكِرُ، لَا بَأْسَ بِهِ.

5585 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِتْعِ، فَقَالَ:«كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهْوَ حَرَامٌ» . [انظر: 242 - مسلم: 2001 - فتح 10/ 41]

5586 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِتْعِ -وَهْوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ، وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهْوَ حَرَامٌ» . [انظر: 242 - مسلم: 2001 - فتح 10/ 41]

5587 -

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَنْتَبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ، وَلَا فِي الْمُزَفَّتِ» . [مسلم: 1992] وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهَا الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ. [مسلم: 1993 - فتح 10/ 41]

ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع، فقال:"كل شراب أسكر فهو حرام" ثم قال: حدثنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه، فقال عليه السلام:"كل شراب أسكر فهو حرام".

وعن الزهري حدثني أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا" تنتبذوا في الدباء ولا في المزفت" وكان أبو هريرة يلحق معها الحنتم والنقير.

ص: 103

الشرح:

التعليق الأول أخذه البخاري عن (معن)

(1)

مذاكرة

(2)

، ورواية أنس هذِه معطوفة على شعيب وهو القائل، وعن الزهري، ولذلك ساغ لأبي نعيم الحافظ وأصحاب الأطراف أن يقولوا: رواه البخاري عن أبي اليمان عن شعيب، وأما حديث عائشة فأخرجه مسلم

(3)

والأربعة

(4)

وسلف في الطهارة

(5)

.

وقوله: (وكان أبو هريرة يلحق معهما الحنتم والنقير) رواه ابن سعد عن محمد بن بشير ومحمد بن عبيد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عنه بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننتبذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير.

وفي كتاب أحمد من حديث سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى فذكر حديثًا، فقلت: يا رسول الله، إن شرابنا يصنع بأرضنا من

(1)

ورد بهامش (س) ما نصه: في هذا الكلام نظر، ومعن لم يأخذ عنه البخاري شيئًا، وقد توفي معن سنة 197، ومن عرف مولد البخاري عرف أنه لم يلقه، وما رأيت أحدًا ذكر معنًا في مشايخ البخاري، وهذا غلط لا شك فيه.

وبهامش (غ)، نحو هذا الكلام.

(2)

قال الحافظ في "الفتح" 10/ 42: وغفل بعض الشراح؛ فقال: إن معن بن عيسى من شيوخ البخاري فيكون له حكم الاتصال. كذا قال؛ والبخاري لم يلق معن بن عيسى؛ لأنه مات بالمدينة والبخاري حينئذ ببخارى، وعمره حينئذ أربع سنين. وهذا الأثر ذكره معن بن عيسى القزاز في "الموطأ" رواية عن مالك، وقد وقع لنا بالإجازة. اهـ.

(3)

"مسلم"(2001) كتاب: الأشربة. باب: بيان أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام.

(4)

أبو داود (3682)، والترمذي (1863)، والنسائي 8/ 297 - 298، وابن ماجه (3386).

(5)

سلف برقم (242) كتاب: الطهارة، باب: لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر.

ص: 104

العسل يقال له البتع، فقال:"كل مسكر حرام"

(1)

.

وفي حديث علي: نهى عن الدباء والحنتم والنقير والجعة

(2)

.

وروى النهي عن مجموع هذِه الأوعية أو بعضها ابن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق ابن عباس وغيره كما ستعلمه.

قال ابن حزم: وصح عنه، ولفظه: نهى عن الانتباذ والشرب من الحنتم والنقير والمقير والدباء، والمراد المجبوبة وكل شيء يصنع من مدر، وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا مثله من غير ذكر المزادة.

وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه من غير ذكر المدر قال: وحديث أبي سعيد صحيح وكذا حديث علي وأنس وعبد الرحمن بن يعمر، وكذا حديث عائشة وصفية وحديثها: نهى عن نبيذ الجر، وابن أبي أوفى وحديثه نهى عن الجر الأخضر والأبيض، وعبد الله بن الزبير، فهؤلاء أحد عشر من الصحابة رووا النهي ورواه عنهم أعدادهم من التابعين وهذا نقل متواتر

(3)

.

قلت: وفي الباب عن سويد بن مقرن، أخرجه ابن أبي عاصم من حديث شعبة، عن أبي حمزة، عن هلال المازني عنه، ولأحمد من حديث مكحول عن بلال أنه كره نبيذ الجر، وعن ابن معقل مثله مرفوعًا، وقال أبو العالية: نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، وعبد الله بن جابر العبدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الدباء والمزفت والحنتم والنقير.

(1)

"المسند" 4/ 410 وأخرجه في "الأشربة"(224).

(2)

سيأتي برقم (5594).

(3)

"المحلى" 7/ 515، 516.

ص: 105

وحديث أبي أيوب الأنصاري وحديث عمران بن الحصين ذكره الحازمي

(1)

.

وحديث أشعث بن عمير العبدي عن أبيه ذكره ابن سعد، وحديث عابد بن عمرو، وحديث زينب بنت أم سلمة، وفي الباب أيضًا سمرة بن جندب، وجابر، وابن عمر، وقد سلف، وعمير العبدي، وثمامة بن عمرو، وزينب بنت أم سلمة، وعمران بن حصين، وفي كتاب أحمد: وميمونة، وعبيد الله بن جابر العبدي، وأبو قتادة. وعند ابن أبي عاصم: وعبد الله بن عمرو بن العاص.

وفي كتاب أحمد عن أبي (موسى)

(2)

. قلت: يا رسول الله إن شرابًا يصنع بأرضنا يقال له المزر من الشعير وشرابًا من العسل يقال له البتع فقال: "كل مسكر حرام"

(3)

.

قال ابن محيريز: وسمعت أبا موسى يخطب على منبر البصرة يقول: ألا أن خمر أهل المدينة البسر والتمر، وخمر أهل فارس العنب، وخمر أهل اليمن البتع، وخمر الحبشة السكركة وهي الأرز، وقد سلف.

فصل:

البتع بكسر بائه، وتاؤه تسكن وتفتح: قمع وقمع: وهو نبيذ العسل كما فسر في الأصل.

وذكر أبو حنيفة الدينوري أن البتع خمر متخذة من العسل، والبتع أيضًا الخمر يمانية.

(1)

"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" ص 176.

(2)

في الأصول: (عيسى)، ولعله تحريف والمثبت من "الأشربة" ص 29.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 106

قال ابن سيده: بتعها: خمرها، والبتاع: الخمار

(1)

، وعند القزاز هو أيضًا مكسور الباء ساكن التاء يتخذ من عسل الخل صلب يكره شربه لدخوله في جملة ما يكره من الأشربة لفعله وصلابته، وفي "الواعي": صلابته كصلابة الخمر.

فصل:

وذكر ابن حزم أن الانتباذ في هذِه الحنتم والنقير والمزفت والمقير والدباء والجرار البيض والحمر والسود والأسقية وكل ظرف حلال، وكذلك الشرب منها؛ لأنه عليه السلام روى عنه بريدة قال: "كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في (الظروف)

(2)

فانتبذوا في كل وعاء غير أن تشربوا مسكرًا" وعند مسلم: فإن الأوعية لا تحل شيئًا ولا تحرمه

(3)

.

وعن جابر: نهى رسول الله عن الظروف، فقال فتية من الأنصار: أنه لا بد لنا منها قال: "فلا إذًا"

(4)

، فصح إباحة ما نهى عنه من الظروف وأن النهي نسخ

(5)

.

وقال: ولم يأت النهي إلا من هاتين الطريقين فقط، قلت: أخرجه ابن أبي عاصم من حديث علي وعبد الله بن عمر وأبي بردة وأبي سعيد وعمران بن حيان الأنصاري عن أبيه، قال: وروي عن جابر وأبي سعيد وأنس وعن عثمان بن عطاء عن أبيه، ثم روي عن الزهري أنه كان يدعو على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أحل نبيذ الجر بعد أن حرمه.

(1)

"المحكم" 2/ 44، 45.

(2)

في (غ): ظروف الآدمي.

(3)

"مسلم" كتاب: الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ في المزفت.

(4)

سيأتي برقم (5592).

(5)

"المحلى" 7/ 515.

ص: 107

وفي كتاب ابن أبي شيبة، عن رافع بن خديج: أنه كره نبيذ الجر، وكذا ذكره عن علي وأبي موسى وأبي هريرة وسعيد بن جبير وجابر بن زيد والحسن وابن عباس وعائشة وعمر بن عبد العزيز

(1)

.

وقال الأثرم: هذِه المسألة قل ما يوجد في السنن مثلها، وذلك أنه جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن الظروف التي ينبذ فيها والرخصة في الأسقية التي تلاث على أفواهها، ثم جاءت الرخصة فيها إذا لم يكن الشراب فيها مسكرًا، ثم جاء النهي عنها أيضًا بعد الرخصة فرجع الأمر فيها إلى النهي

(2)

.

وقال ابن عبد البر في حديث أبي سعيد يرفعه: "نهى عن الجر الأخضر" وهو عندي كلام جرى على جواب السائل، كأنه قال له: الجر الأخضر؟ فقال: "لا تنتبذوا فيه" فقال الراوي: نهى؛ الدليل على ذلك أن عائشة وابن الزبير وعليًا وأبا بردة وأبا هريرة وابن عمر وابن عباس رووا النهي عن النبيذ في الجر مطلقًا لم يذكروا الأخضر ولا غيره

(3)

.

ولابن أبي عاصم من حديث عبد الله: "إني نهيتكم عن هذِه الأوعية فإنها لا تحل شيئًا ولا تحرمه فأشربوا فيها"، ولأحمد:"نهيتكم عن هذِه الظروف فانتبذوا فيها"

(4)

.

ولابن أبي شيبة بإسناد جيد عن أنس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيذ في هذِه الظروف ثم قال:

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 72 - 73.

(2)

"الناسخ والمنسوخ" للأثرم ص 224.

(3)

"الاستذكار" 24/ 284، 285.

(4)

رواه أحمد في "المسند" 1/ 452، وفي "الأشربة" ص 31 (12).

ص: 108

"نهيتكم عن النبيذ فيها فاشربوا فيما شئتم"

(1)

.

ومن حديث يحيى بن غسان التميمي عن ابن الرسيم وكان فقيهًا من أهل هجر، أنه حدث عن أبيه أنه عليه السلام نهاهم عن النبيذ في هذِه الظروف، فرجعوا إليه فقالوا: يا رسول الله، إنك نهيتنا عن هذِه الأوعية فتركناها فشق ذلك علينا، فقال عليه السلام:"اشربوا فيما شئتم"

(2)

.

ومن حديث بشر بن صفوان، عن عمران بن أبي وقاص المكي وهو أبو عبد الرحمن، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رفعته:"كنت نهيتكم أن تنتبذوا في هذِه الأوعية الدباء والنقير"

(3)

. الحديث.

ومن حديث الربيع بن أنس، عن أبي العالية أو غيره، عن عبد الله بن مغفل قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى عن نبيذ الجر وأنا شهدته حين رخص فيه

(4)

.

ولابن أبي شيبة، عن صحار العبدي، قلت: يا رسول الله أتأذن لي في جرة أنتبذ لها؟ فأذن له

(5)

.

وعن عاصم قال: سأل عبد الملك عكرمة عن نبيذ جرة رصاص، فقال: حرام، فوهبها عبد الملك لرجل فانحدر بها إلى البصرة، قال: وكان عكرمة يسأل عن الزجاج فيقول: (الدباء)

(6)

أهون وأضعف

(1)

"المصنف" 5/ 84 (23931).

(2)

"المضنف" 5/ 85 (23936).

(3)

لم أقف عليه من هذِه الطريق.

(4)

"المصنف" 5/ 67 (23754)، ورواه أحمد 4/ 87، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 229.

(5)

"المصنف" 5/ 83 (23923).

(6)

في الأصول: الدنيان والمثبت من كتاب "الأشربة" للإمام أحمد ص 53.

ص: 109

فكرهه أو نهى عنه، وقال سفيان بن حسين سألت الحسن وابن سيرين عن النبيذ في الرصاص فكرهاه ونهياني عنه

(1)

، ورخص فيه ابن عباس وإبراهيم وخيثمة والمسيب بن رافع وأبو قلابة وعبد الله بن عمر والحكم

(2)

.

وقال حميد: كان بكر بن عبد الله ينبذ له في القوارير، ورخص فيه الحسن وابن عمر وابن سيرين وأنس بن مالك وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، وكره ذلك أبو برزة الأسلمي

(3)

.

وروينا عن الحازمي أنه قال: إنما كان نهى عن هذِه الأوعية؛ لأن لها ضراوة يشتد فيها النبيذ ولا يشعر بذلك صاحبها فيكون على غرر من شربها، وقد اختلف الناس في هذا الباب، فذهب بعضهم إلى أن الحظر باق، وكرهوا أن ينبذ في هذِه الأوعية، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق

(4)

.

قال الخطابي: وقد يروى ذلك عن عمر وابن عباس

(5)

، وذكره أحمد أيضًا عن عمر بن عبد العزيز، وأنه كتب بذلك إلى عدي بن أرطاة بالبصرة

(6)

.

قلت: أخرجه ابن أبي شيبة، عن عمر بإسناد جيد عن البراء قال: أمرني عمر أن أنادي يوم القادسية: لا ينبذ في دباء ولا حنتم ولا مزفت

(7)

.

(1)

"الأشربة" ص 52 - 53 (91 - 93).

(2)

"المصنف" 5/ 87.

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 87.

(4)

"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" ص 176 - 177.

(5)

"معالم السنن" 4/ 248.

(6)

"الأشربة" ص 54 - 55.

(7)

"المصنف" 5/ 71 (23789).

ص: 110

وروي أيضًا من حديث عبد الملك بن نافع أن ابن عمر سئل في الطلاء فقال: لا بأس به، قلت: إنه في مزفت: قال: لا تشربه في مزفت

(1)

، وقاله أيضًا أنس بن مالك بإسناد جيد، وفيه -أعني "المصنف"- أيضًا أن معاذًا وزيد بن أرقم وأبا مسعود البدري وابن مسعود وأبا برزة وعلي بن أبي طالب ومعقل بن يسار وقيس بن عباد وأنس بن مالك وأسامة بن زيد وأبا وائل وعبد الرحمن بن أبي ليلى وابن عباس وابن الحنفية وعمران بن حصين ومسروقًا وسعد بن عبيدة والشعبي وهلال بن يساف والأسود وأبا رافع والضحاك وأبا عبيدة بن عبد الله وسعدًا كانوا يشربون بنبيذ الجر

(2)

.

ولأحمد بن منيع البغوي، عن أبي معاوية: ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا عاصم بن عمر العنبري: سألت أنس بن مالك: أحرم النبي صلى الله عليه وسلم نبيذ الجر؟ قال: كيف يحرمه والله ما رآه قط

(3)

.

قال الحازمي: وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحظر كان في مبدأ الأمر ثم رفع وصار منسوخًا، ودلت الأحاديث الثابتة أن النهي كان مطلقًا عن الظروف كلها، ودل بعضها أيضًا على السبب الذي لأجله رخص فيها وهو أنهم شكوا إليه الحاجة إليها فرخص لهم في ظروف الأدم لا غير، ثم أنهم شكوا إليه أن ليس كل أحد يجد سقاء، فرخص لهم في الظروف كلها، ليكون جمعًا بين الأحاديث كلها سيما بين قول بريدة:"نهيتكم عن الظروف وإنها لا تحرم شيئًا ولا تحله" وفي لفظ: "نهيناكم عن الشرب في الأوعية فاشربوا في أي سقاء

(1)

"المصنف" 5/ 71 (23790).

(2)

"المصنف" 5/ 81، 82.

(3)

في "مسنده" كما في "إتحاف الخيرة" 4/ 368 (3760).

ص: 111

شئتم"

(1)

، وبين حديث ابن عمر: نهى عن الحنتم والدباء والمزفت وقال: "انتبذوا في الأسقية"

(2)

(3)

.

فصل:

في حد السكر: قال ابن حزم: سئل أحمد بن صالح عن السكران؟

فقال: أنا آخذ بما رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن يعلي بن منبه، عن أبيه قال: سألت عمر بن الخطاب عن حد السكران؟ فقال: هو الذي إذا استُقْرِئَ سورةً لم يقرَأْها، وإذا خلط ثوبه في ثياب لم يخرجه. قال ابن حزم: وهو نحو قولنا: لا يدري ما يقول

(4)

.

وقال أبو حنيفة: لا يكون سكرانًا حتى لا يميز الأرض من السماء

(5)

. وأباح كل سكر دون هذا وهذا عجيب.

وقال ابن المنذر: قال مالك: هو أن يتغير في طباعه التي هو عليها، وهو قول أبي ثور، وقال الثوري: لا يجلد إلا في اختلاط العقل، فإن استقرئ فقرأ أو سئل فتكلم بما يعرف لم يحدوا ولا حد.

وقال أبو حنيفة: هو أن لا يعرف الرجل من المرأة، وقال مرة: لا يعرف قليلاً ولا كثيراً.

وقال أبو يوسف: لا يكون هذا ولا يحد سكرانًا إلا وهو يعرف شيئًا، فإذا كان الغالب عليه اختلاط العقل واستقرئ سورة فلم يفهمها وجب عليه الحد

(6)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

رواه مسلم (1997/ 55)، كتاب: الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ في المزفت.

(3)

"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" 177 - 178.

(4)

"المحلى" 7/ 508.

(5)

"بدائع الصنائع" 5/ 118.

(6)

المصدر السابق. وانظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 61.

ص: 112

وقال الشافعي: أقل السكر أن يغلب على عقله في بعض ما لم يكن عليه قبل (الشراب)

(1)

.

قال ابن المنذر: وهذا أولى بالصواب لقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، وقد كان الذين خوطبوا بهذِه الآية قبل نزول تحريم الخمر يقربون الصلاة قاصدين لها في حال سكرهم عالمين بالصلاة التي لها يقصدون، وسموا {سُكَارَى} لأن في الحديث أن أحدهم أمهم فخلط في القراءة فأنزل الله الآية

(2)

. فقصدهم إلى الصلاة دلالة أن اسم السكران قد يستحق من عرف شيئًا، وذهب عليه غيره ولو كان السكران لا يكون إلا من لا يعرف شيئًا ما اهتدى سكران بمنزله أبدًا؛ لأنه معروف أن السكران يأتي منزله، ويقال: جاءنا وهو سكران.

فصل:

هذا الباب حجة لقول مالك وأهل الحجاز أن المسكر كله من أي نوع كان من غير العنب فهو الخمر المحرم في الكتاب والسنة، ألا ترى أنه عليه السلام سئل عن البتع فقال:"كل شراب أسكر حرام" فعلمنا أن المسألة إنما وقعت على ذلك الجنس من الشراب ودخل فيه كل ما كان (في معناه)

(3)

مما يسمى شرابًا مسكرًا من أي نوع كان.

فإن قال الكوفي: إن قوله: "كل شراب أسكر" يعني به: الجر الذي يحدث بعقبه السكر فهو حرام.

(1)

من (غ). وانظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 61.

(2)

"الإشراف" 3/ 61.

(3)

من (غ).

ص: 113

فجوابه: أن الشراب اسم جنس فيقتضي أن يرجع التحريم إلى الجنس وهذا كما نقول: هذا الطعام مشبع والماء مرو ويريد به الجنس وكل جزء منه يفعل ذلك الفعل، فاللقمة تشبع العصفور، وما هو أكبر منها يشبع ما هو أكبر من العصفور، وعلى هذا حتى تشبع الكبير، وكذا جنس الماء يروي الحيوان على هذا الحد، فكذلك النبيذ.

قال الطبري: يقال لهم: أخبرونا عن الشربة التي كان يعقبها السكر أهي التي أسكرت شاربها دون ما تقدمها أو من الاجتماع معها وأخذت كل شربة بحظها من الإسكار؟ فإن قالوا بالأول قيل لهم: وهل هذِه التي حدث له ذلك عن شربها إلا لبعض ما تقدم من الشربات قبلها في أنها لو انفردت دون ما تقدم قبلها كانت غير مسكرة وحدها، وإنها إنما أسكرت باجتماعها واجتماع عملها، فحدث عن جميعها السكر، يوضحه لو أن رطلًا من ماء العنب ألقيت فيه قطرة من خل فلم يتغير طعمه إلى الحموضة ثم تابعنا ذلك بقطرات كثيرة كل ذلك لا يتغير لها طعم الماء، ثم ألقينا آخر ذلك قطرة منه فتغير طعمه وحمض أترونه حمض من الآخرة أم حمض منها وغيرها؟

فإن قالوا: من الأخير، فقد قالوا ما يعلم العقلاء خلافه، فكابروا العقول؛ لأن أمثالها قد ألقيت فيه ولم يحدث ذلك فيه، فكان معلومًا بذلك أن الحموضة حدثت عن جميع ما ألقى من الخل، وأنه لولا قوة عمل ما تقدم من قطرات الخل المتقدمة مع عمل الآخرة فيه لم يحدث ذلك فيه، وإن قالوا حمض بالكل ولكنه ظهرت بالآخرة، قيل لهم: فهلا قلتم ذلك في الشراب الذي أسكر كثيره إنما أسكر باجتماع قوة الكل، ولكن السكر إنما ظهر فيه عند الأخيرة مع سائرها، كما

ص: 114

قلتم في الماء الذي ظهرت فيه حموضة الخل، فتعلموا بذلك أن كل شراب أسكر كثيره يستحق بذلك قليله اسم سكر، وكذلك الزعفران والكافور المغير في أن قليل ذلك مستحق من الاسم والصفة فيما عمل فيه من التغيير مثل الذي هو مستحق كثيره.

قال المهلب: وإنما دخل الوهم على الكوفيين من حديث رووه عن ابن عباس: "حرمت الخمر بعينها والمسكر من غيرها"، وكذلك رواه شعبة وسفيان عن مسعر، عن أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد، وعن ابن عباس و (السكر)

(1)

من غيرها

(2)

، هكذا رواية أبو نعيم عن مسعر، وإنما الحديث كما رواه ابن شبرمة، عن ابن شداد: السكر بغير ميم أيضًا على الوهم، وهذا قد أسلفناه واضحًا.

قال الأصيلي: وشعبة وسفيان أضبط ممن أسقط الميم على أن الحديث لم يسمعه ابن شداد من ابن عباس، قاله أحمد وقد بينه هشيم فقال عن الثقة، عن ابن عباس، وقال مرة أخرى عمن حدثه، عن ابن عباس: فهذا كله يدل على الوهم

(3)

.

(1)

في الأصل: المسكر، والمثبت من (غ)، وهو ما يوافق السياق.

(2)

النسائي 8/ 321.

(3)

قلت: كذا وقع هنا، وفيه نظر من وجوه:

الأول: ما عزي إلى الإمام أحمد من نفي سماع ابن شداد من ابن عباس غير صحيح؛ إذ المنقول عنه في "العلل" 1/ 377: ابن شبرمة لم يسمع من ابن شداد. الثاني: قوله: بينه هشيم؛ فقال عن الثقة، عن ابن عباس، لا يصح أيضًا؛ إذ أن هشيما قال: عن ابن شبرمة، قال: حدثني الثقة، عن ابن شداد، كما عند النسائي 8/ 324، قال أيضًا: عن ابن شبرمة، عمن حدثه، كما رواه الإمام أحمد في "العلل" 1/ 376 (723).

وتقدم في أول كتاب الأشربة، تعقيبنا على ذلك.

ص: 115

وقال النسائي: لم يسمعه ابن شبرمة من ابن شداد

(1)

، قلت: وقد سلف حديث نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"كل مسكر خمر وكل مسكر حرام " وأن مالكًا وغيره أوقفه

(2)

.

وعن نافع، عن ابن عمر وقيل: هو أقعد وأولى ممن أسنده عن نافع، وقد روى:"كل مسكر حرام" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم: أبو موسى الأشعري، وأبو هريرة، وابن عباس، والنعمان بن بشير، وبريد الأسلمي، ووائل بن حجر، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمرو، وأبو سعيد الخدري، ومعاوية، وأم سلمة، وعائشة، وابن مسعود، ذكرها الطبري في "تهذيبه".

وإن قال الكوفي: الدليل على صحة قولنا في التفريق بين عصير العنب وبين سائر الأشربة أن الآية كفرت مستحل عصير العنب دون نقيع التمر، فاعتلالهم بالتكفير ليس بشيء؛ لأنه إنما يقع فيما ثبت بالإجماع لا فيما ثبت من جهة الآحاد، ألا ترى أنه لا يكفر القائل بأن الصلاة تجوز بغير أم القرآن، ولا يكفر من أجاز النكاح بغير ولي، ولا من قال: الوضوء جائز بغير نية وأمثاله، وكذا من قال: لا يقطع سارق ربع دينار مع ثبوته عن رسول الله في أخبار الآحاد، ولا يسع أحد من العلماء أن يحرم ما قام له الدليل على تحريمه من الكتاب والسنة، وإن كان غيره يخالفه فيه لدليل استدل به ووجه من العلم أداه إليه وليس في شيء من هنا خروج من الدين ولا يكفر بما فيه الخطأ والصواب.

(1)

"سنن النسائي" 8/ 321.

(2)

السابق 8/ 324.

ص: 116

فصل:

إن قلت ما وجه إدخال حديث أنس في الباب، وليس فيه إلا النهي عن الانتباذ؟ أجاب عنه المهلب قال: هو موافق للتبويب، وذلك أن الخمر من العسل لا يكون إلا منبذًا في الأواني بالماء الأيام حتى يصير خمرًا، فأنه عليه السلام إنما نهى عن الانتباذ في الظروف المذكورة؛ لسرعة كون ما ينبذ فيها خمرًا من كل ما ينبذ فيها.

فصل:

أوضح ابن التين أيضًا الرد على المخالف، فقال: فيه رد على من قال: إن الإشارة بالمسكر في قوله: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" إنما وقعت الشربة الأخيرة أو إلى الجر الذي يظهر السكر على شاربه عند شربه، وذلك أنه معلوم من طريق العادة أن الإسكار لا يختص بجزء من الشراب دون جزء، وإنما يؤخذ آخر السكر في آخر المشروب على سبيل التعاون كالشبع بالمأكول وكل أمر يؤدي إلى نقص المتعارف فهو منقوص وليس في المتعارف أن يكون فعل الجر من الشيء أكثر من فعله كله، هذا محال وليس يخلو الشراب الذي يسكر كثيره إذا كان في الإناء أن يكون حلالًا أو حرامًا، فإن كان حرامًا لم يجز أن يشرب منه قليل، فإن كان حلالًا لم يجز أن يحرم منه شيء.

فإن قلت: الشراب حلال في نفسه ونهى الله أن يشرب منه ما يزيل العقل، قيل: ينبغي أن تكون الشربة التي تزيله ويسكر معلومة يعرفها كل شارب، إذ غير جائز أن يحرم الله تعالى على خلقه شيئًا ويتعبد به ولا يحصل لهم السبيل إلى معرفة ما حرم الله.

ص: 117

ومعلوم أن طباع الناس مختلفة في مقدار ما يسكرهم منه، والتعبد لا يقع إلا بمعلوم. فإن قيل: لما اختلف الناس في الأشربة وأجمعوا على تحريم خمر العنب، حرمنا ما أجمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه.

قيل: أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وكل مختلف فيه من الأشربة مردود إلى تحريم الله ورسوله الخمر، وقد ثبت عنه عليه السلام:"كل شراب أسكر فهو حرام" وأشار إلى الجنس بالاسم العام والنعت الخاص الذي هو علة الحكم، فكان ذلك حجة على المختلفين، ولو لزم ما قاله هذا القائل للزم منه في الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيه، فلو كان كما سلف، كان الربا محرمًا قبل تحريمه فلما حرم نظرنا إلى ما أجمعوا عليه فحرمناه وأبحنا ما اختلفوا فيه، ولا بأس بالدرهم بالدرهمين يدًا بيد، وإنما يحرم منه ما كان غائبًا بناجز، وكذلك المتعة فلما لم يلزم هذا وكان الحكم لما ورد به التحريم الفضة بالفضة إلا مثلًا بمثل يدًا بيد، ولما ثبت من تحريم المتعة ولم يلتفت إلى الاختلاف ولم يعتد به وليس الاختلاف حجة وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين.

وقال الزجاج: قياس كل ما عمل من الخمر المجمع عليها أن يقال له: خمر وأن يكون بمنزلتها في التحريم؛ لأن إجماعهم أن يقال للقمار: كله حرام وإنما ذكر الميسر من بينه فجعله كله قياسًا على الميسر، وهو إنما كان قمارًا خاصة، فلذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.

ص: 118

‌5 - باب مَا جَاءَ فِي أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنَ الشَّرَابِ

5588 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهْيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا عَهْدًا: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، فَشَيْءٌ يُصْنَعُ بِالسِّنْدِ مِنَ الرُّزِّ؟ قَالَ: ذَاكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. أَوْ قَالَ: عَلَى عَهْدِ عُمَرَ. وَقَالَ حَجَّاجُ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ: مَكَانَ الْعِنَبِ: الزَّبِيبَ. [انظر: 4619 - مسلم: 3032 - فتح 10/ 45]

5589 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: الْخَمْرُ يُصْنَعُ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ. [انظر: 4619 - مسلم: 3032 - فتح 10/ 46]

ذكر فيه حديثين:

أحدهما:

حدثنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، ثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابن عُمَرَ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَهْيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: العِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ العَقْلَ، وَثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا عَهْدًا: الجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، شيء يُصْنَعُ بِالسِّنْدِ مِنَ الرُّزِّ؟ قَالَ: ذَاكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. أَوْ قَالَ: عَلَى عَهْدِ عُمَرَ. وَقَالَ حَجَّاجُ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ: مَكَانَ العِنَبِ: الزَّبِيبَ.

ص: 119

وصدر هذا الحديث إلى قوله: ما خامر العقل، سلف في أواخر تفسير سورة المائدة

(1)

، ويحيى هذا هو ابن سعيد القطان الحافظ. وأبو حيان التيمي هو يحيى بن سعيد بن حيان.

الحديث الثاني:

حديث الشعبي عَنِ ابن عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: الخَمْرُ يُصْنَعُ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الزَّبِيب إلى آخر ما تقدم تعداده، والمراد بقوله:(قلت: يا أبا عمرو). هو أَبو حيان التيمي، وأبو عمرو هو الشعبي، وفي "الأشربة" لأحمد من حديث أبي بردة عنه: ما خمرته فعتقته فهو خمر، وإنما كانت لنا الخمر خمر العنب

(2)

.

وله أيضًا بإسناد جيد عن ابن سيرين أن رجلاً قال لابن عمر: آخذ التمر فأجعله في التنور؟ فقال: لا أدري ما تقول يتخذ أهل أرض كذا وكذا خمرًا، ويتخذ أهل أرض كذا وكذا خمرًا يسمونها كذا وكذا، حتى عدَّ خمسة أشربة. قال محمد: لا أحفظ منها إلا العسل والشعير واللبن. قال أيوب: فكنت أهاب أن أُحدِّث باللبن حتى حدثني رجل أنه يصنع منه بأرمينية شراب لا يلبث صاحبه

(3)

.

ومن حديث ابن عمر أيضًا: الخمر من خمسة. فعدَّها كما سلف

(4)

، وفي رواية: والمزر من الذرة، والجعة من الشعير

(5)

.

(1)

سلف برقم (4619) باب: قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} .

(2)

"الأشربة" ص 69 (157).

(3)

كتاب الأشربة ص 73 (173).

(4)

المصدر السابق ص 48 (173).

(5)

المصدر السابق ص 65 - 66 (143، 145).

ص: 120

ومن حديث إبراهيم بن مهاجر، عن عامر عن النعمان بن بشير مرفوعًا:"من الزبيب خمر، ومن الحنطة خمر، ومن الشعير خمر، ومن العسل خمر"

(1)

.

ومن حديث أنس: "الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والذرة والشعير فما خمرت من ذلك فهو خمر"

(2)

.

ومن حديث أبي الجويرية الحرمي قال: سُئل ابن عباس عن الباذق فقال: سبق محمد صلى الله عليه وسلم الباذق

(3)

. يعني: المطبوخ

(4)

.

فصل:

وممن رخص في الطلاء الذي ذهب ثلثاه: أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ وعمر، وأمر بذلك عمارًا ومن قبله من المسلمين، وأبو أمامة، وجرير بن عبد الله، وأبو الدرداء، وخالد بن الوليد، وعلي، وأنس، وإبراهيم النخعي، والحسن، وسعيد بن المسيب، ومسروق، وشريح، وأبو عبيدة بن عبد الله، وعبد الرحمن بن بشر الأنصاري، وعمر بن عبد العزيز، وطاوس، وعكرمة.

ذكره ابن أبي شيبة، وذكر أن البراء بن عازب كان يشربه على النصف، وكذا أبو جحيفة (وجرير بن عبد الله، وأنس، وابن أبزى،

(1)

المصدر السابق ص 47 - 48 (72).

(2)

المصدر السابق ص 78 (191).

(3)

المصدر السابق ص 88 (229).

(4)

الباذِق -بالكسر أو الفتح-: قال أبو عبيد في "غريب الحديث" 2/ 178: كلمة فارسية عُرِّبت فلم نعرفها. اهـ. وقال أبو الفتح المطرزي في "المغرب في ترتيب المعرب" 1/ 64: الباذَق من عصير العنب ما طبخ أدنى طبخة فصار شديدًا، وقول من قال: معناه: أنها كلمة فارسية عُرِّبت لم يعرفها النبي عليه السلام أو أنه شيء فلم يكن في أيامه، وإنما أحدِث بعده ضعيف. اهـ.

ص: 121

ومحمد ابن الحنفية، وشريح، وأبو عبيدة بن عبد الله، وإبراهيم)

(1)

وقيس ابن أبي حازم وسعيد بن جبير ويحيى والشعبي وعبيدة

(2)

، وأجازه أبو حنيفة وصاحباه محتجين أنه لا يشرب أحد من الصحابة والتابعين ما يسكر؛ لأنهم مجمعون أن قليل الخمر وكثيرها حرام. قال ابن عبد البر: وممن كره النصف ابن المسيب والحسن وعكرمة

(3)

.

فصل:

قال المهلب: قوله: (نزل تحريم الخمر وهي من خمسة) ففسر ما نزل، وهذا يجري مجرى المسندات، وإذا لم يجد مخالفًا له في الصحابة وجب أن يكون هذا التفسير لكتاب الله ولما حرم فيه مجتمعًا عليه في الصحابة، ويرتفع الإشكال عمن يلتبس عليه أمره إن أراد الله هدايته، قال: ومن الدليل القاطع لهم إجماعنا وإياهم على تحريم قليل الخمر من العنب، ولا يخلو تحريمها أن يكون لمعنى أم لا؟ الثاني ممتنع؛ لامتناع العبث فتعين الأول، والمعنى فيهما واحد كما سلف؛ لأن كل نقطة من الخمر تأخذ بنصيب من الإسكار.

إيضاحه: لو أن سفينة رمي فيها عشرة أقفزة فلم تغرق، فرمي فيها قفيز زائد فغرقت لم يكن غرقها بالقفيز ولا بثقله وحده بل الكل وهذا عقلي واضح، ولا شك أن القليل يدعو إلى الكثير كما أن البيع وقت النداء يُخشى منه فوت الجمعة، وكذا الهدي إذا عطب لا يأكل منه ولا يطعم أحدًا؛ خيفة أن يتطرق إلى نحره ويدعي عطبه، وكذا

(1)

من (غ).

(2)

"المصنف" 5/ 89 - 91 باب: في الطلاء من قال: إذا ذهب ثلثاه فاشربه 5/ 93 - 94 باب من رخص في شرب الطلاء على النصف.

(3)

انظر: "الاستذكار" 24/ 325.

ص: 122

الخاطب في العدة منع من التصريح لما يدعو إليه من الدواعي، (وكذا كل ما)

(1)

يقع عليه اسم خمر فحكمه واحد في التحريم مع أن القدر الذي يحدث عنه السكر غير معلوم، فلا يجوز أن يتعلق به التحريم كما سلف، وقد ألزم الشافعي الكوفيين إلزامًا صحيحًا قال: ما تقولون فيمن شرب القدر الذي لا يسكر؟ قالوا: مباح. قال لهم: إن خرج فهبت عليه الريح فسكر مما شربه؟ فقالوا: حرام. فقال لهم: هل رأيتم شيئًا يدخل الجوف وهو حلال ثم يصير محرمًا

(2)

؟

فصل:

وقوله: (والخمر ما خامر العقل).

قال إسماعيل: هو أن يصير على القلب من ذلك شيء يغطيه ومن ذلك سُمي الخمار وغيره.

فصل:

وقوله: (وثلاث وددت) إلى آخره يريد: حتى يبينها لنا، وقد اختلف الصحابة والفقهاء في الجد اختلافًا كثيراً: فروي عن عبيدة أنه قال: حفظت عن عمر في الجد سبعين قضية كلها يخالف بعضها بعضًا

(3)

.

وعن عمر أنه جمع الصحابة، ليجتمعوا في الجد على قولٍ فسقطت حية من السقف فتفرقوا، فقال عمر: أبى الله إلا أن تختلفوا في الجد

(4)

.

(1)

في (س): (فكل ذلك) والمثبت من (غ) وهو الموافق للسياق.

(2)

"الأم" 6/ 247.

(3)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 10/ 292 (19043) بلفظ: حفظت من عمر بن الخطاب فيها مئة قضية مختلفة.

(4)

ذكره بنحوه السرخسي في "مبسوطه" 29/ 180.

ص: 123

وقال علي: من أراد أن (يقتحم)

(1)

جراثيم جهنم فليقض في الجد

(2)

، يريد أصولها والجرثومة: الأصل.

وقال أبو بكر وابن الزبير وابن عباس وعائشة وأبو موسى: هو يحجب الإخوة، وبه قال أبو حنيفة

(3)

.

وقال زيد: هو كأحد الإخوة ما لم تنقصه المقاسمة فإذا نقصته أعطي الثلث وقسموا الأخوة ما بقي

(4)

. وبه قال مالك وأبو يوسف والشافعي

(5)

.

وروي عن علي: هو أخ منهم ما لم تنقص المقاسمة من السدس

(6)

. وروى عنه: أنه أخ (منكم)

(7)

وإن فاته السبع.

وأما الكلالة فهو من لا ولد له ولا والد، قاله أبو بكر وعمر وعلي وزيد وابن مسعود والمدنيون والبصريون والكوفيون

(8)

، وروي عن ابن عباس: هو من لا ولد له

(9)

.

(1)

كذا بالأصل، والذي في كتب المصنفات والسنن .. (يتقحم).

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 363 وعبد الرزاق 10/ 263 (19048).

(3)

"المبسوط" 29/ 179 - 180.

(4)

رواه عبد الرزاق 10/ 266 (19059)، وابن أبي شيبة 7/ 352، 362.

(5)

"المبسوط" 29/ 180، "المنتقى" 6/ 233، "الأم" 4/ 85، "المبسوط" 29/ 180.

(6)

رواه عبد الرزاق 10/ 266 (19058).

(7)

من (غ).

(8)

"مصنف عبد الرزاق" 10/ 303 - 304، "مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 402 - 403، "المغني" 6/ 164.

(9)

"مصنف عبد الرزاق" 10/ 303 (19187).

ص: 124

واختلف في الكلالة؛ فقال البصريون: هو اسم الميت، وهو قول ابن عباس

(1)

، وقال المدنيون: هو اسم للورثة لا ولد فيهم ولا والد

(2)

، وقيل: هو اسم الفريضة التي لا يرث فيها ولد ولا والد. وقال أيوب القرطبي في أبوين وأختين لأم: إن الذين رووا عن ابن عباس في الكلالة أنه من لا ولد له يقولون: للأم الثلث؛ لأنه سهم من تسعة، والأختين للأم الثلث مما بقي، وللأب ما بقي وهو أربعة، وقد سلف أيضًا إيضاح ذلك في آخر تفسير سورة النساء.

وأما أبواب الربا فكثيرة غير محصورة.

وقوله: (فشيء يصنع بالسند من الرز)(وفي أخرى: (من الأرز)

(3)

. قال الجوهري: الأرز حب، وفيه لست لغات: أرُزّ وأُرُزّ باتباع الضمة الضمة والزاي مشددة فيهما، وأُرْز بضمِّها مع تخفيف الزاي، وأُرُز مثل رُسْل ورسُل، ورز ورنز وهي لغة لعبد القيس

(4)

، وفيه لغة سابعة: أرز بفتح الهمزة مع تخفيف الراء مع تخفيف الزاي.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 403.

(2)

"المنتقى" 6/ 241.

(3)

من (غ).

(4)

"الصحاح" 3/ 863 مادة: (أرز).

ص: 125

‌6 - باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ (الْخَمْرَ)

(1)

وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ

5590 -

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ -أَوْ أَبُو مَالِكٍ - الأَشْعَرِيُّ -وَاللهِ مَا كَذَبَنِي- سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ -يَعْنِي: الْفَقِيرَ- لِحَاجَةٍ فَيَقُولُوا: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا. فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . [فتح 10/ 51]

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، ثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الكِلَابِيُّ، حدثني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ (الأَشْعَرِيُّ)

(2)

قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ -أَوْ أَبُو مَالِكٍ- الأَشْعَرِيُّ -والله مَا كَذَبَنِي- سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ الفَقِيرَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُون: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا. فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ".

الشرح:

هذا الحديث وصله الإسماعيلي.

فقال: حدثنا الحسن بن سفيان: ثنا هشام، فذكره، ثم قال: وحدثنا الحسن أيضًا قال: أنا عبد الرحمن بن إبراهيم، ثنا بشر ثنا عبد الرحمن

(1)

من (ص).

(2)

من (ص).

ص: 126

ابن يزيد بن جابر، وقال أبو عامر: ولم يشك ووصله أيضًا أبو نعيم الحافظ، فقال: أخبرنا أبو إسحاق بن حمزة، ثنا عبدان، ثنا هشام قال: وحدثنا الحسن بن محمد، ثنا محمد بن محمد بن سليمان، ثنا هشام بن عمار، فذكره.

ووصله أيضًا أبو داود فقال: حدثنا (عبد الواحد بن نجدة)

(1)

عن بشر بن بكر، ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وهذا أيضًا على شرط الصحيح

(2)

، وكأن البخاري أخذه عن هشام مذاكرةً، ولما جوَّز ابن حزم سماع الغناء عند ذكر حديث:"دعهن فإن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا" وشبه ذلك قال: لم يأت حديث فيه النهي عن سماعه صحيحًا.

ثم قال: فإن قيل: إن البخاري روى في "صحيحه" يعني: هذا الحديث، قال: هذا منقطع فيما بين البخاري وصدقة بن خالد، والمنقطع لا تقوم به حجة، ولا يصح في هذا الباب شيء أبدًا، وكل ما فيه موضوع، ووالله لو أسند جميعه أو واحد منه فأكثر من طريق الثقات إلى رسول الله لما ترددت في الأخذ به

(3)

. هذا كلامه، وقد علمت أنه اتصل على شرط الصحيح فلا وجه (له)

(4)

إذًا عن الأخذ به لا جرم. قال ابن الصلاح في "علومه": لا التفات إلى ما قاله،

(1)

كذا بالأصل، والصواب عبد الوهاب بن نجدة الحوطي فهو الذي يروي عنه أبو داود، ويروي عن بشر بن بكر، ولم أقف على ترجمة لعبد الواحد بن نجدة هذا اللهم إلا ما ذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ" 1/ 83 من طريق الحاكم ولعله خطأ في النسخ أو الطبع.

(2)

"سنن أبي داود"(4039).

(3)

"المحلى" 7/ 565.

(4)

من (غ).

ص: 127

والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح

(1)

.

ووقع في كلام ابن حزم أن البخاري، وقال مرة: البخاري علقه عن هشام. ولا حجة فيه، قال: وأبو عامر لا يدري قال: وقال صدقة. وهو وَهمٌ، وإنما قال: وقال هشام ثنا صدقة وليته أعلَّه بصدقة، فإن يحيى قال فيه: ليس بشيء، رواه ابن الجنيد عنه

(2)

.

وروى المروذي (عن)

(3)

أحمد: ليس بمستقيم ولم يرضه لكن تابعه بشر بن بكر كما قدمناه. وأغرب المهلب فضعفه من وجه آخر غير جيد فقال: هذا الحديث لم يسنده البخاري من أجل شك المحدث في الصاحب، فقال: أبو عامر أو أبو مالك أو بمعنى آخر لا أعلمه، واعتل أن الاختلاف في الصحابي لا يضر، فإن قلت: فما وجه

(1)

"علوم الحديث " ص 67 - 68. قلت: وقال أبو عمرو بن الصلاح في كتابه "صيانة صحيح مسلم" ص 83 - بعد أن ذكر كلام ابن حزم-: وهذا خطأ من ابن حزم من وجوه:

أحدها: أنه لا انقطاع في هذا أصلاً من جهة أن البخاري لقي هشامًا وسمع منه، وقد قررنا في كتابنا "علوم الحديث": أنه إذا تحقق اللقاء والسماع مع السلامة من التدليس حمل ما يرويه منه على السماع بأي لفظ كان كما يحمل قول الصحابي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على سماعه منه إذا لم يظهر خلافه.

الثاني: أن هذا الحديث بعينه معروف الاتصال بصريح لفظه من غير جهة البخاري.

الثالث: أنه إن كان ذلك انقطاعًا فمثل ذلك في الكتابين غير ملحقٍ بالانقطاع القادح لما عرف من عادتهما وشرطهما وذكرهما ذلك في كتاب موضوع لذكر الصحيح خاصةً فلن يستجيرا فيه الجزم المذكور من غير ثبت وثبوت بخلاف الانقطاع أو الإرسال الصادرين من غيرهما .. اهـ.

(2)

ولمزيد من التفصيل في هذِه المسألة ينظر "فتح الباري" لابن حجر 10/ 52 وما بعدها فإن فيه تفصيلها.

(3)

من (غ).

ص: 128

إدخاله في الترجمة وهو ترجم بشيئين استحلال الخمر، وتسميته بغير اسمه؟ فأما الأول فظاهر، وأما الثاني فقد جاء مبينًا من طريق آخر سأذكره، وإنما أدخله البخاري على أنه جائز وقوعه من الله في المسرفين على أنفسهم من أهل هذِه الملة، وأنه مروي بحيث أن يتوقع ما روي فيه من العقوبة.

قال ابن أبي شيبة: حدثنا زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، ثنا حاتم بن حريث، عن مالك بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يشرب ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها يضرب على رءوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير"

(1)

.

ورواه ابن أبي عاصم: حدثنا دحيم: ثنا محمد بن شعيب عن أبي حفص القاص، عن معاوية بن حاتم، عن ابن غنم، عن أبي مسلم الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سيكون قوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها".

وقال ابن وهب في "مسنده": حدثني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن عبد الله أن أبا مسلم الخولاني حج فدخل على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت تسأله على الشأم وعن بردها، فقال: يا أم المؤمنين، إنهم يشربون شرابًا لهم يقال له: الطلاء. فقالت: صدق الله وبلغ حبيبي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن ناسًا من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها".

(1)

"المصنف" 5/ 67 (23748) ووقع في المطبوع من المصنف أبو مالك الأشمعي وهو خطأ وصوابه الأشعري كما في مصادر الترجمة.

ص: 129

وروى ابن أبي شيبة من حديث ابن محيريز، عن ثابت بن السمط، عن عبادة [مرفوعًا]

(1)

: "ليستحلن آخر أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها"

(2)

فهذِه ثلاث طرق.

وأخرجه النسائي من حديث ابن محيريز عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره

(3)

.

ولحديث عائشة طريق ثان أخرجه ابن أبي عاصم من حديث بقية عن عتبة بن أبي حكيم، ثنا سليمان بن موسى، عن القاسم عنها أنه عليه السلام قال: " (إن)

(4)

أول ما يكفأ الإيمان كما يكفأ الإناء -يعني الخمر- يسمونها بغير اسمها"

(5)

.

وفي رواية له: سألتها عن الطلاء. الحديث.

وثالث أخرجه أيضًا من حديث جعفر بن برقان، عن فرات بن سليمان، عن رجل من جلساء القاسم، عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إن أول ما يكفأ الإسلام لشراب يقال له الطلاء"

(6)

.

وله طريق رابع من حديث ابن عمر أخرجه أيضًا من حديث بقية عن

(1)

من (غ).

(2)

"المصنف" 5/ 67.

(3)

"سنن النسائي" 8/ 312 - 313.

وقال الألباني في "الصحيحة"(90): هذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات وابن محيريز اسمه عبد الله وهو ثقة من رجال الشيخين.

(4)

من (غ).

(5)

رواه ابن أبي عاصم في "الأوائل" ص 28 (64) وفيه: (الإسلام)، بدلاً من:(الإيمان).

وحسنه الألباني في "الصحيحة"(89).

(6)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 68 (23766)، وفَصَّل الألباني في طرقه فراجعه في "الصحيحة"(89).

ص: 130

عتبة: حدثني أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد عنه مرفوعًا: "إن ناسًا من أمتي يستحلون الخمر يشربونها يسمونها -يدعونها- بغير اسمها"

(1)

.

وخامس من حديث أبي أمامة أخرجه ابن ماجه من حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان، عنه مرفوعًا:"لا تذهب الأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها"

(2)

.

وفي "مسند ابن قانع" من حديث يونس بن خبَّاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن سابط، عن سعيد بن أبي راشد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون في أمتي خسف ومسخ"

(3)

. الحديث.

وقال ابن المنير: قنع البخاري في الاستدلال على مراده في الترجمة بقوله: "من أمتي" فإن كونهم من الأمة يبعد معه أن يستحلوها بغير تأويل ولا تحريف، فإن ذلك مجاهرة بالخروج عن الأمة، إذ تحريم الخمر معلوم ضرورة، فهذا سر مطابقة الترجمة لهذِه الزيادة

(4)

.

وقال ابن التين عن الداودي: يحتمل أن يريد بـ "أمتي" من يسمى بهم ويستحل ما لا يحل فهو كافر إن أظهر ذلك ومنافق إن أسرَّه، أو يكون يرتكب المحارم تهاونًا واستخفافًا فهو يقارب الكفر والذي يصح في

(1)

لم أقف على هذِه الطريق ورواه الخطيب في "تاريخه" 6/ 205 من طريق محمد بن عبد الوهاب عن أبي إسحاق الشيباني عن أبي بكر بن حفص به.

(2)

"سنن ابن ماجه"(3384) وقال البوصيري في "زوائده" 1/ 440: هذا إسناد ضعيف لضعف عبد السلام بن عبد القدوس ثم ذكر شواهده.

وقال الألباني في "الصحيحة" 1/ 184: ورجاله ثقات غير عبد السلام هذا وهو ضعيف، والحديث يصح بالشواهد والله أعلم.

(3)

أخرجه ابن قانع في "معجم الصحابة" 1/ 264 (305)، 1/ 267 (310). من حديث عبد الرحمن بن سابط عن سعيد، به.

(4)

"المتواري" ص 213.

ص: 131

النظر أن هذا لا يكون إلا ممن يعتقد الكفر ويتسمَّى بالإسلام؛ لأن الله لا يخسف من تعود عليه رحمته في المعاد.

فصل:

قوله: "الحر": هو مما اختلف الحفاظ في ضبطه، فأما أبو داود فأدخله في "سننه" في باب: ما جاء في الحر، من كتاب اللباس، وأما ابن ناصر الحافظ فزعم أن صوابه كما رواه الحفاظ بالحاء المهملة المكسورة والراء والتخفيف. وحكى المحب الطبري وغيره كما ستعلمه التشديد أيضًا، وقال الشيخ تقي الدين القشيري: في كتاب أبي داود والبيهقي ما يقتضي الأول، قال بعضهم: وهو تصحيفهم، والصواب الثاني مخففًا. وقال ابن بطال: الحر: الفرج، وليس لمن تأوله من صحيفة، فقال الخز من أجل مقارنته للحرير فاستحل التصحيف بالمقارنة مع أنه ليس في الخز تحريم وقد جاء في الحر التحريم

(1)

. وأما ابن الجوزي فقال: إنه الخز بالخاء والزاي معروف، وقد جاء في حديث يرويه أبو ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"يستحل الحر والحرير"

(2)

يراد به استحلال الحرام من الفروج، فهذا بالحاء والراء المهملتين وهو مخفف فذكرنا هذا، لئلا يتوهم أنهما شيء واحد.

وقال ابن التين: يريد -والله أعلم- ارتكاب الفرج بغير حله وهو الزنا، وإن كان أهل اللغة لم يذكروا هذِه اللفظة لهذا المعنى، وكذلك العامة تستعمله بكسر الحاء، وكذا روي. وقال الداودي: أحسب أن قوله "الخز" ليس بمحفوظ؛ لأن كثيراً من الصحابة لبسوه،

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 51.

(2)

أخرجه الطبراني 22/ 223 (591).

ص: 132

قال: ويحتمل إن كان محفوظُا أن يريد جمع الحر والحرير، لعله يريد الحر جمع حرير مثل: حمير وحمر. قال: ورواه بعضهم بالحاء.

وقال القاضي، وصاحب "المطالع" مخفف الراء: فرج المرأة.

ورواه بعضهم بشد الراء، والأول أصوب، وقيل: أصله بالياء بعد الراء فحذف. وقال ابن الأثير: ذكره أبو موسى في حرف الحاء والراء، وقال: الحر بتخفيف الراء: الفرج، وأصله حِرْحٌ بكسر الحاء وسكون الراء، وجمعه أحراح، ومنهم من شدد الراء، وليس بجيد، فعلى التخفيف يكون في حرح لا في حرر، والمشهور في رواية هذا الحديث بالخاء والزاي وهو ضرب من ثياب الإبريسم معروف

(1)

.

وقال المنذري: أورد أبو داود هذا الحديث في باب ما جاء في الخز كذا الرواية، فدل على أنه عنده كذلك، وكذا وقع في البخاري، وهي ثياب معروفة لبسها غير واحد من الصحابة والتابعين، فيكون النهي عنه لأجل التشبه بالعجم وزي المترفين.

فصل:

معنى قوله: "يستحلون الحرير" أي: يستحلون النهي عنه، والنهي في كتاب الله من الشارع يتوعد عليه بقوله {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63].

فصل:

والمعازف بالزاي المعجمة: آلات اللهو، قاله في "الصحاح"

(2)

. وعبارة الصاغاني في "عبابه": المعازف: الملاهي.

(1)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 931 مادة: (حرر).

(2)

"الصحاح" 4/ 1403 مادة: (عزف).

ص: 133

وقال صاحب "العين": المعازف: جمع معزفة وهي آلة اللهو

(1)

.

ونقل القرطبي عن الجوهري: أن المعازف: الغناء والذي في "صحاحه" ما قدمته، وعبارة ابن التين: المعازف: الملاهي، والعازف: اللاهي. وبخط الدمياطي: المعازف من الدفوف وغيرها مما يضرب، وقيل: إن كل لعب عزف، وعَزَف: غنى.

فصل:

قوله: ("ولينزلن أقوام") الحديث هو من أعلام نبوته، فإن وقع ما أنذر به فذاك وإلا فيشفع لقوله في حديث عبادة:"ليستحل آخر أمتي الخمر"

(2)

فدل أن كل ما أنذر به من ذلك يكون في آخر الإسلام.

(ومعنى "تروح عليهم" أي: بالعشي. تقول: أرحت الماشية وأسمنتها وسرحتها وسرحت بالغداة وراحت بالعشي.

وقوله: "فيبيتهم الله" أي: يهلكهم ليلاً، والبيات إبيات العدو ليلاً، قال تعالى:{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)} [الأعراف: 97]

وقوله: ("ويضع العلم"): يرمى بالجبل أو يخسف به. قال ابن بطال: إن كان العلم بناء فهدمه وإن كان جبلًا فيدكدكه وهكذا إن كان غيره

(3)

.

فصل:

والعلم بفتح العين واللام: الجبل أي: بجوار جبل وجمعه: أعلام قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)} [الرحمن: 24].

(1)

الذي في "العين" 1/ 359: (المعازف): الملاعب التي يضرب بها الواحد: عزف والجمع معازف .. الخ.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 67 (23749).

(3)

"شرح ابن بطال" 6/ 52.

ص: 134

[وقال الداودي: مرتفع العلم: رأس الجبال، وكل شيء يعرف أهل الطريق، وأهل اللغة على أنه الجبال، زاد الخطابي: المرتفع)

(1)

.]

(2)

.

فصل:

وقوله: "ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة": يعني ممن لم يهلكهم في البيات، والمسخ في حكم الجواز في هذِه الأمة إن لم يأت خبر برفع جوازه.

وقد رويت أحاديث لينة الأسانيد: "إنه سيكون في أمتي خسف ومسخ" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأت ما يرفع ذلك

(3)

.

وقال بعض العلماء: معنى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يكون في هذِه الأمة مسخ، فالمراد به مسخ القلوب حتى لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القرآن يُرفع من صدور الرجال وأن الخشوع والأمانة تُنزع منهم، ولا مسخ أكثر من هذا، وقد يجوز أن يكون الحديث على ظاهره فمسخ الله تعالى من أراد تعجيل عقوبته، كما قد خسف بقوم وأهلكهم بالخسف والزلازل، وقد رأينا هذا عيانًا، فكذلك يكون المسخ. قاله ابن بطال

(4)

.

(1)

وردت هذِه الجملة في (س) بين علامتي (لا إلى) وعليها تعليق في الهامش نصه:

من قوله: وقال الداودي إلى آخر كلام الخطابي مخرج في (4) من أصله، وليس عليه تصحيح ولا إشاره إليه من الأصل فليعلم.

(2)

ما بين المعكوفتين اضطراب في تنسيق العبارات بالأصل.

(3)

روي هذا الحديث عن جمع من الصحابة كعبد الله بن مسعود وعائشة وعمران بن حصين وابن عمر وسهل وأبي هريرة وسعيد بن راشد، وذكرهم الألباني وطرقهم في "الصحيحة"(1787).

(4)

"شرح ابن بطال" 6/ 52 - 53.

ص: 135

وقال الخطابي: فيه بيان أن المسخ سيكون في هذِه الأمة كسائر الأمم خلافًا لمن زعم أن ذلك لا يكون وإنما مسخها بقلوبها

(1)

.

وقال الداودي في قوله: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين لا يصيبكم ما أصابهم" فيه دليل أن هذِه الأمة لا تأمن أن يصيب بعضهم ما أصاب أولئك إذا عصوا.

قلت: في المسخ قردة وخنازير أحاديث من طرق:

روى سعيد بن منصور من حديث حسان بن أبي سنان، عن رجل، عن أبي هريرة مرفوعًا:"يمسخ قوم من أمتي في آخر الزمان قردة" قالوا: يا رسول الله ويشهدون أنك رسول الله وأن لا إله إلا الله. قال: "نعم، ويصومون ويصلون ويحجون" قالوا: فما بالهم يا رسول الله؟

قال: "اتخذوا المعازف والقينات والدفوف، ويشربون هذِه الأشربة، فباتوا على لهوهم وشرابهم فأصبحوا قردة وخنازير"

(2)

. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه

(3)

، ورواه أبو عبد الله بن منجويه في كتابه "أشراط الساعة" من حديث أسيد بن زيد: ثنا عمرة عن جابر، عن رميح الحزامي عن أبي هريرة بنحوه.

عن الحارث بن نبهان، حدثثا فرقد السبخي، عن عاصم بن عمر، عن أبي أمامة مرفوعًا:"تبيت طائفة من أمتي على لهو وأكل ولعب، فيصبحوا قردة وخنازير، ويكون فيها خسف وقذف"

(4)

.

وروينا من طريق ابن أبي الدنيا من حديث عبد الرحمن بن زيد بن

(1)

"أعلام الحديث" 3/ 2098.

(2)

لم أقف عليه في المطبوع من "سنن سعيد بن منصور".

(3)

لم أقف على هذا القول للترمذي.

(4)

لم أقف عليه في المطبوع من "السنن".

ص: 136

أسلم، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد مرفوعًا:"يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ " قيل: يا رسول الله متى؟ قال: "إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمور"

(1)

.

ومن حديث الأعمش عن هلال بن يساف، عن عمران بن حصين مرفوعًا:"يكون في أمتي قذف ومسخ وخسف" قيل: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال:"إذا ظهرت المعازف وكثرت القينات وشربت الخمور"

(2)

.

ومن حديث فرقد السبخي، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله

(3)

.

ومن حديث أبي معشر عن محمد بن المنكدر، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف" قالت: وهم يقولون لا إله إلا الله؟! قال: "إذا ظهرت القينات والزنا، وشربت الخمور، ولبسوا الحرير"

(4)

.

وفي الترمذي من حديث علي مرفوعًا: "إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء" فذكرها، وفيه:"وشربت الخمور ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، فارتقبوا عند ذلك ثلاثًا: ريحًا حمراء، وخسفًا، ومسخًا". ثم قال: حديث غريب، وفي إسناده فرج بن فضالة، وقد ضعف من قبل حفظه

(5)

.

(1)

رواه في "ذم الملاهي" 1/ 67 (1).

(2)

رواه الترمذي (2212) وقال: حديث غريب.

(3)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" 1/ 71.

(4)

رواه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" 1/ 71.

(5)

"سنن الترمذي"(2210).

ص: 137

وعند ابن أبي الدنيا

(1)

وابن منجويه في "أشراط الساعة" من حديث إسماعيل بن عياش، عن عبد الرحمن التميمي، عن عباد بن أبي علي، عن علي مرفوعًا:"تمسخ طائفة من أمتي قردة، وطائفة خنازير، ويخسف بطائفة، ويرسل على طائفة الريح العقيم، بأنهم شربوا الخمور ولبسوا الحرير واتخذوا القينات وضربوا بالدفوف".

وعند ابن أبي الدنيا من حديث أبي بكر الهذلي، عن قتادة، عن أنس مرفوعًا:"ليكونن في هذِه الأمة خسف ومسخ وقذف، وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف". ومن حديث أبان بن تغلب عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن سابط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ". قالوا: متى ذاك؟ قال: "إذا ظهرت المعازف واستحلوا الخمور"

(2)

.

ومن حديث أبي العلاء عن عبد الرحمن بن صحاري وكان من عبد القيس يرفعه: "لا تقوم الساعة حتى يخسف بقبائل من أمتي"

(3)

الحديث، ومن حديث إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عتبة، عن أبي العباس الهمداني، عن عمارة بن راشد، عن المغازي بن ربيعة يرفعه:"ليخسفن بقوم وهم على أريكتهم؛ لشربهم الخمور وضربهم بالبرابط والقيان".

ومن حديث عثمان بن عطاء، عن أبيه، ومن حديث المغيرة، عن صالح بن خالد، ومن حديث إسماعيل بن عياش، عن عقيل بن

(1)

رواه في "ذم الملاهي" 1/ 72.

(2)

لم أقف عليه من طريق أبان بن تغلب ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" من طريق آخر عن سابط 7/ 501 (37534).

(3)

رواه أحمد 3/ 483، 5/ 31، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" 1/ 72.

ص: 138

مدرك، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.

وعند أبي نعيم الأصفهاني، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما مرفوعًا:"من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة" فذكر منها: "واتخذ الحرير لباسًا، وشربت الخمور، واتخذت القينات .. " الحديث "قلترتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء ومسخًا". وقال غريب من حديث عبد الله بن عمير عن حذيفة لم يرفعه، لم يروه عنه فيما أعلم إلا فرج بن فضالة

(1)

.

وفي "نوادر الترمذي" من حديث إسماعيل بن عياش، عن أبيه، عن ابن سابط، عن أبي أمامة يرفعه:"يكون في أمتي فزعة فيصير الناس إلى علمائهم، فإذا هم قردة وخنازير".

وللترمذي وقال: صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما (مرفوعًا)

(2)

: "يكون في هذِه الأمة خسف ومسخ وقذف في أهل القدر"

(3)

.

فائدة: في بعض الأخبار عنه عليه أفضل الصلاة والسلام: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه الربا بالبيع، والخمر بالنبيذ، والبخس بالزكاة، والسحت بالهدية، والقتل بالموعظة" يريد: بالبخس النقصان ويريد به المكس، وما يأخذه الولاة يتأولون فيه الزكاة وهو مكس.

وقوله: "القتل بالموعظة" أي: يقتل البريء؛ ليتعظ به العامة.

(1)

"حلية الأولياء" 3/ 359.

(2)

من (غ).

(3)

"سنن الترمذي"(2152) وقال: حديث حسن صحيح غريب.

ص: 139

‌7 - باب الانْتِبَاذِ فِي الأَوْعِيَةِ وَالتَّوْرِ

5591 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلاً يَقُولُ: أَتَى أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ فَدَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُرْسِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ وَهْيَ الْعَرُوسُ، قَالَتْ: أَتَدْرُونَ مَا سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ. [انظر: 5176 - مسلم: 2006 - فتح 10/ 56]

ذكر فيه (حديث)

(1)

أبي حازم -واسمه: سلمة بن دينار- قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلًا يَقُولُ: أَتَى أَبُو أُسيْدٍ السَّاعِدِيُّ -واسمه مالك بن ربيعة- فَدَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُرُسِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ وَهْيَ العَرُوسُ، قَالَتْ: أَتَدْرُونَ مَا سَقَيْتُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ.

هذا الحديث سلف في النكاح في باب النقيع

(2)

، والتور: إناء يشرب فيه ويتغير أيضًا من حجارة يستنقع فيه الماء، ويتغير أيضًا كالإجان.

قال ابن المنذر: وكان هذا التور الذي ينتبذ فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حجارة.

قال المهلب: والإنقاع حلال إذا لم يلبث حتى يخشى شدته، والشدة مكروهة للجهل بموقعها من السكر أو غيره، والأشياء المشكوك فيها والمشتبهات قد نص الشارع على تركها. وإنما ينقع له من الليل ويشربه يومًا آخر، وينقع له بالنهار ويشربه من ليلته.

(1)

من (غ).

(2)

سلف برقم (5183).

ص: 140

وفيه أن الحجاب ليس بفرض على سائر نساء المؤمنين، وإنما هو خاص بأمهات المؤمنين، كذلك ذكر الله تعالى في كتابه:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا} [الأحزاب: 53] الآية.

فصل:

وترجم على هذا الحديث بعد باب: نقيع التمر وغيره ما لم يسكر

(1)

. وقام الإجماع على أن نقيع التمر وغيره ما لم يسكر فهو حلال شربه، وقالت عائشة رضي الله عنها: كنا ننتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة ويشربه عشيًا. ننتبذه عشاءً فيشربه غدوة

(2)

.

وفي حديث ابن عباس أنه عليه السلام كان ينبذ له ويشربه من الغد، بعد الغد، فإذا كان يوم الثالث أهريق

(3)

.

قال ابن المنذر: الشراب في المدة التي ذكرتها عائشة يشرب حلوا

(4)

.

وفي حديث ابن عباس: أهراقته في الثالث. يعني: إذا غلا. وغير جائز أن يظن أحد أنه كان مسكرًا؛ لأنه حرم المسكر.

(1)

سيأتي برقم (5597).

(2)

رواه مسلم في "صحيحه"(2005) كتاب: الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرًا.

(3)

رواه مسلم في "صحيحه"(2004) كتاب: الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرًا.

(4)

"الإشراف" 3/ 241.

ص: 141

‌8 - باب تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ

5592 -

حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الظُّرُوفِ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَنَا مِنْهَا. قَالَ: «فَلَا إِذًا» .

وَقَالَ خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ بِهَذَا. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا، وَقَالَ فِيهِ: لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الأَوْعِيَةِ. [فتح 10/ 57]

5593 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما -قَالَ: لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الأَسْقِيَةِ، قِيلَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً. فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ. [مسلم: 2000 - فتح 10/ 57]

5594 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ. حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا. [مسلم: 1994 - فتح 10/ 57]

5595 -

حَدَّثَنِي عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قُلْتُ لِلأَسْوَدِ: هَلْ سَأَلْتَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، عَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ قَالَتْ: نَهَانَا فِي ذَلِكَ -أَهْلَ الْبَيْتِ- أَنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ. قُلْتُ: أَمَا ذَكَرْتِ الْجَرَّ وَالْحَنْتَمَ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ، أُحَدِّثُ مَا لَمْ أَسْمَعْ؟ [مسلم: 1995 - فتح 10/ 58]

5596 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَرِّ الأَخْضَرِ. قُلْتُ: أَنَشْرَبُ فِي الأَبْيَضِ؟ قَالَ: لَا. [فتح 10/ 58]

ص: 142

[9 - باب نَقِيعِ التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ]

(1)

5597 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِعُرْسِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَهْيَ الْعَرُوسُ. فَقَالَتْ: مَا تَدْرُونَ مَا أَنْقَعْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ. [انظر: 5176 - مسلم: 2006 - فتح 10/ 62]

ساق فيه خمسة أحاديث:

حديث محمد بن عبد الله أبي أحمد الزبيري: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الظُّرُوفِ، فَقَالَتِ الأَنصَارُ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لنَا مِنْهَا. قَالَ: "فَلَا إِذًا".

وَقَالَ لي خَلِيفَةُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْدِ، عن جابر بهذا.

حدثنا عليُّ، ثنا سفيان قال: لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الأَوْعِيَةِ.

وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي

(2)

.

ثانيها:

حدثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن سليمان بن أبي مسلم الأحول، عن مجاهد، عن أبي عياض -واسمه: عمرو بن الأسود. وقيل: قيس بن ثعلبة العبسي الكوفي، كان حيًّا في ولاية معاوية، انفرد به البخاري- عن عبد الله بن عمرو قَالَ:(لَمَّا)

(3)

نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

(1)

لم يذكر الشارح هذا الباب حيث إن حديث الترجمة قد سبق قبل باب منه وأشار هناك إلى تبويب البخاري له، ولم يكرره لعدم الفائدة.

(2)

"سنن أبي داود"(3699)، والترمذي (1870)، والنسائي 8/ 312.

(3)

من (غ).

ص: 143

عَنِ الأَسْقِيَةِ، قِيلَ له: لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً. فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الجَرِّ غَيْرِ المُزَفَّتِ.

حدثنا عبد الله بن محمد، ثنا سفيان بهذا، وقال: لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأوعية.

وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي

(1)

.

ثالثها:

حديث إبراهيم التيمي -تيم الرباب، وهو إبراهيم بن يزيد- عن الحارث بن سويد -وهو تيمي أيضًا تيم الرباب مات في آخر ولاية عبد الله بن الزبير- عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ. حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ بهذا.

وأخرجه مسلم والترمذي من هذا الوجه

(2)

وأبو داود والترمذي من حديث مالك

(3)

بن عمير عنه.

رابعها:

حديث منصور عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قُلْتُ لِلأَسْوَدِ: هَلْ سَأَلْتَ عَائِشَةَ رضي الله عنها أُمَّ المُؤْمِنِينَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: يَا أُمَّ المُؤْمِنِينَ، عَمَّا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ قَالَتْ: نَهَانَا -أَهْلَ البَيْتِ-

(1)

مسلم (2000) كتاب: الأشربة، باب: النهي عن كل مسكر، وأبو داود (3700)، والنسائي 8/ 310.

(2)

مسلم (1994) كتاب: الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ في المزفَّت والدبَّاء والحنتم. وأخرجه النسائي 8/ 305 ووقع في المخطوط: الترمذي بدلاً من النسائي وهو خطأ؛ فإن الترمذي قال بعد حديث ابن عمر: وفي الباب عن علي ولم يخرجه.

(3)

أبو داود (3697)، ورواه النسائي 8/ 302 ووقع أيضًا في المخطوط: الترمذي وهو خطأ أيضًا.

ص: 144

أَنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ. قُلْتُ: أَمَا ذَكَرْتِ الحنتم الجَرَّ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ بمَا سَمِعْتُ، أُحَدِّثُ بمَا لَمْ أَسْمَعْ؟!

وأخرجه مسلم والنسائي

(1)

.

خامسها:

حديث الشيباني: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى قَالَ: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الجَرِّ الأَخْضرِ. قُلْتُ: أَنَشْرَبُ فِي الأَبْيَضِ؟ قَالَ: لَا. وأخرجه الترمذي

(2)

. والشيباني: هو سليمان بن فيروز أبو إسحاق. أما حكم الباب فقد سلف واضحًا.

وحاصله أقوال:

ذهب مالك إلى إجازة الانتباذ في جميع الظروف غير الدباء والمزفت، فإنه كره الانتباذ فيهما ولم ينسخ عنده وأخذ في ذلك بحديث علي وعائشة رضي الله عنهما أنه عليه السلام نهى عنهما

(3)

.

وروي مثله عن ابن عمر

(4)

.

وذهب الشافعي والثوري إلى كراهية الانتباذ في الدباء والمزفت والحنتم والنقير؛ للنهي عنها كما سلف في باب الخمر من العسل من حديث أنس.

(1)

مسلم (1995) كتاب: الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء .. ، والنسائي 8/ 305.

(2)

كذا وقع في الأصل عزوه إلى الترمذي وهو خطأ والصواب أنه رواه النسائي 8/ 304.

(3)

انظر: "المدونة" 4/ 411.

(4)

رواه مسلم (1997، 1998) كتاب: الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير.

ص: 145

وقد روى النهي عن الانتباذ في هذِه الأربعة من حديث ابن عباس في حديث وفد عبد القيس كما سلف في الإيمان والعلم

(1)

.

ومعنى النهي عندهم عن الانتباذ فيها؛ لسرعة استحالة ما ينبذ فيها فتصير خمرًا وهم لا يظنون ذلك، فيواقعون ما نهى الله عنه. وذكر الطبري القائلين بتحريم الشراب المتخذ في الأوعية المذكورة المنكرين أن تكون منسوخة عن عمر أنه قال: لأن أشرب من قمقم محمي فيحرق ما أحرق ويبقي ما أبقى أحبُّ إليّ أن أشرب من نبيذ الجر. وعن علي النهي عنه، وعن ابن عمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة وأنس مثله، وقال ابن عباس لأبي جمرة: لا تشرب نبيذ الجر وإن كان أحلى من العسل. وكرهه ابن المسيب والحسن

(2)

.

وقال إسماعيل بن إسحاق: قال سليمان بن حرب: كل شيء ذكر عمر كان يشرب نبيذ الجر أو يكرهه، فإنما هو الحلو، فأما المسكر فهو حرام في كل وعاء.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: الانتباذ في جميع الأوعية كلها مباح وأحاديث النهي عن الانتباذ منسوخة بحديث جابر وغيره

(3)

، ألا ترى أنه عليه السلام أطلق لهم جميع الأوعية والظروف حتى قالت الأنصار: إنه لا بد لنا منها. فقال: "فلا إذا" ولم يستثن منها شيئًا.

واحتجوا بحديث جابر مرفوعًا قال: "إني نهيتكم أن تنتبذوا في

(1)

سلف في الإيمان برقم (53) باب: أداء الخمس من الإيمان، وفي العلم برقم (87) باب: تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم.

(2)

روى جميع هذِه الآثار ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 72 - 73.

(3)

انظر: "شرح معاني الآثار" 4/ 2290.

ص: 146

الدباء والحنتم والمزفت، فانتبذوا ولا أحل مسكرًا"

(1)

، ورواه أبو سعيد الخدري أيضًا مرفوعًا مثله

(2)

فيثبت بهذِه الآثار نسخ ما جاء في النهي عن الانتباذ في الأوعية وثبت إباحة الانتباذ في الأوعية كلها.

وذكر الطبري عن ابن عمر رضي الله عنهما: الأوعية لا تحل شيئًا ولا تحرمه.

وعن ابن عباس قال: كل حلال في كل ظرف حلال، وكل حرام في كل ظرف حرام

(3)

.

وهذا القول أولى بالصواب، وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم كل مسكر وفي ذلك مقنع.

وقال الداودي: النهي عن الأوعية إنما كان قطعًا للذريعة، فلما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نجد بدًا من الانتباذ فيها قال: "انتبذوا، وكل مسكر حرام" وكذلك كل نهي كان بمعنى التطرق إلى غيره يسقط بمعنى الضرورة، وذلك كنهيه عن الصلاة بعد الصبح والعصر، ويجوز أن تصلى الجنائز في تلك الساعتين لما بالناس من الضرورة إلى دفن موتاهم، وليس كذلك لصلاة النافلة ولا ضرورة إلى صلاتها حينئذٍ، وكنهيه عن الجلوس في الطرقات، فلما ذكروا أنهم لا يجدون بدًّا من ذلك قال:

(1)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 228، والبيهقي في "سننه" 8/ 310 - 311.

(2)

رواه الطحاوي أيضًا في "شرح معاني الآثار" 4/ 228، والبيهقي في "سننه" 8/ 311.

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 495.

ص: 147

"إذا أبيتم فأعطوا الطريق حقه وذلك غض البصر

(1)

ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعون الضعيف، وإرشاد الضال"

(2)

.

وأما الجر الأبيض فهو مثل الأخضر؛ لأنه كله حنتم. وقال أبو عبيد: الحنتم جرار خضر كانت تحمل إليهم

(3)

.

فصل:

قوله لما نهى عن الأسقية يريد عن الظروف إلا الأسقية يوضحه باقي الحديث، إذ قيل له: ليس كل الناس يجد سقاء، فرخص في الجر غير المزفت أي: غير المطلي بالزفت، وهو حجة لمالك: أن الرخصة لم تدخل في الدباء والحنتم وأخواتها.

والدباء بالمد والقصر جمع: دباءة

(4)

.

(1)

ورد بهامش (س) ما نصه: في الحديث في بعض طرقه: "وكف الأذى".

(2)

لم أقف عليه بهذا التمام وقد روي بألفاظ نحوه منها ما رواه البخاري في "صحيحه"(2465) كتاب: المظالم، باب: أفنية الدور والجلوس فيها، ومسلم (2121) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وليس فيه إرشاد الضال ولا عون الضعيف وأما لفظة "إرشاد الضال" فقد وردت عن جمع من الصحابة أيضًا منهم أبو هريرة والبراء وابن عباس وسهل بن حنيف، وقد صحح الألباني الحديث برواياته كما في "الصحيحة" (2501) ثم علق قائلاً: واعلم أن في هذِه الأحاديث مجموعة طيبة من الآداب الإسلامية الهامة بأدب الجلوس في الطرق وأفنية الدور ينبغي على المسلمين الاهتمام بها ولا سيما ما كان منها من الواجبات مثل غض البصر عن النساء المأمور به في كثير من الأحاديث الأخرى، وفي قول ربنا تبارك وتعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30]. اهـ.

(3)

"غريب الحديث" 1/ 305.

(4)

ورد بهامش (س) ما نصه: بالمد والقصر أيضًا.

ص: 148

والحنتم: (الجرار الخضر)

(1)

.

وقال ابن حبيب: هو الفخار كله

(2)

. وسبق قبل ذلك النقير: وهو ما عمل من خشب. وقد سلف الاختلاف في علة النهي، فقيل: لئلا يبادرهم فيصير خمرًا فيشربونه غير عالمين. وقيل: لأن فيه إضاعة مال. وإباحته عليه السلام الانتباذ في الأسقية وهي القرب؛ لقلِّة حرارتها فيؤمن أن تصير خمرًا.

قال ابن السكيت: السقاء يكون للَّبن والماء، والوطب يكون للَّبن خاصة، والنحي للسمن، والقربة للماء، والجمع القليل أسقية وأسقيات والكثير أساق

(3)

.

وقد اختلف في النهي هل هو باق؟ قال مالك: نعم. وخالفه ابن حبيب، وقال: ما كان بين نهيه عنها ورخصته فيها إلا جُمعة. وروى ابن حبيب عن مالك أنه أرخص في الحنتم

(4)

، وروى القاضي أنه مجمع وإذا قلنا (بالنهي)

(5)

ففعل قال محمد: يؤدب في الخليطين، وقال عبد الوهاب: إن سلم من السكر فلا بأس

(6)

، وهو أحسن كما قال ابن التين.

(1)

ورد بهامش (س) ما نصه: في أصله: والحنتم الجرة الخضراء. والحنتم جمع، فالأولى ما كتبته في الأصل.

(2)

"المنتقى" 3/ 148.

(3)

"إصلاح المنطق"375.

(4)

"النوادر والزيادات" 14/ 290، "المنتقى" 3/ 148.

(5)

في (غ): بالمنع.

(6)

"المعونة" 1/ 472.

ص: 149

‌10 - باب البَاذَقِ، وَمَنْ نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنَ الأَشْرِبَةِ

وَرَأى عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ رضي الله عنه شُرْبَ الطِّلَاءِ على الثُّلُثِ. وَشَرِبَ البَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ رضي الله عنهما على النِّصْفِ. وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: اشْرَبِ العَصيرَ مَا دَامَ طَرِيًّا. وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللهِ رِيحَ شَرَابٍ، وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ.

5598 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْبَاذَقِ،

فَقَالَ: سَبَقَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم الْبَاذَقَ فَمَا أَسْكَرَ فَهْوَ حَرَامٌ. قَالَ: الشَّرَابُ الْحَلَالُ الطَّيِّبُ. قَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ إِلاَّ الْحَرَامُ الْخَبِيثُ. [فتح 10/ 62]

5599 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ. [انظر: 4912 - مسلم: 1474 - فتح 10/ 62]

ثم ساق حديث أبي الجويرية: سَأَلْتُ ابن عَبَّاسٍ عَنِ البَاذَقِ، فَقَالَ: سبَقَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم البَاذَقَ، فَمَا أَسْكَرَ فَهْوَ حَرَامٌ. قَالَ: الشَّرَابُ الحَلَالُ الطَّيِّبُ. قَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الحَلَالِ الطَّيِّبِ إِلَّا الحَرَامُ الخَبِيثُ.

وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ.

وهذا سلف في الأطعمة

(1)

.

(1)

سلف برقم (5431) باب: الحلواء والعسل.

ص: 150

وهذِه التعاليق سلفت من "المصنف" لابن أبي شيبة

(1)

، والباذق بفتح الباء

(2)

ثم ألف ثم ذال معجمة مفتوحة ثم قاف، وهو الطلاء المطبوخ من عصير العنب وكان أول من صنعه وسماه بنو أمية؛ لينقلوه عن اسم الخمر وكل مسكر فهو حرام؛ لأن الاسم لا ينقله عن معناه الموجود فيه، وما ذكرته من فتح الذال هو ما قال ابن التين أنه ضبط به. ونقل عن الشيخ أبي الحسين عن بعض الحذاق أنه اسم حدث بعد رسول الله لم يكن قديمًا في العرب، وسئل عن فتح الذال فقال: ما وقفناهم عليه، ولكن الذين قرءوا بكسرها، وقال أبو عبد الملك: سمي بالباذق الخمر المطبوخ.

قال ابن التين: وقول ابن عباس: سبق محمد الباذق. يريد أن الباذق لم يعرفه رسول الله؛ لأن هذا الاسم فارسي عربته العرب فردته إلى حد السكر، أي: ليس الاعتبار بالأسماء إنما هو بما أسكر، وذكر القزاز أن ابن عباس نهى عن شربه.

وعند الجواليقي: باذه أي باق، وقال الداودي: وهو يشبه البقاع إلا أنه ربما اشتد، وإنما لم يعرفه ابن عباس؛ لأنه اسم مولد، وعبارة المهلب تعني: سبق محمد صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر قبل تسميتهم لها بالباذق وهو من شراب العسل.

وليس تسميتهم بغير اسمها بنافع لها إذا أسكرت، ورأى ابن عباس وأبيّ أن سائله، أراد استحلال الشراب المحرم

(3)

بهذا الاسم فحسم منه

(1)

روى ابن أبي شيبة هذِه الآثار جميعها فقد أخرج أثر أبي عبيدة والبراء وأبي جحيفة وعمر 5/ 89 - 91. وأثر ابن عباس وصله النسائي 8/ 231 ونحوه عن ابن أبي شيبة.

(2)

ورد بهامش الأصل: لا تحتاج الباء إلى تقييد.

(3)

سبق تخريجه آنفًا.

ص: 151

رجاءه وباعد منه أصله، وأخبره أن ما أسكر فهو حرام.

وزعم ابن قرقول أنه طلاء مطبوخ من عصير العنب.

وقال ابن سيده: هو الخمر

(1)

.

وقال القزاز: هو ضرب من الأشربة، ومالك بن أسماء هو شاربه وذكر فيه شعرًا.

وذكر أبو الليث السمرقندي من الحنفية في كتابه "التنبيه": أن شارب المطبوخ أعظم ذنبًا وإثمًا من شارب الخمر؛ لأنه عليه السلام قال: "ما أسكر العرق منه فالجرعة منه حرام".

وذلك أن شارب الخمر يكون عاصيًا فاسقًا وشارب المطبوخ يشرب المسكر وسماه حلالًا.

وقام الإجماع على أن قليل الخمر ككثيره، وقال:"كل مسكر خمر حرام" فإذا استحل ما هو حرام بالإجماع صار كافرًا

(2)

.

فصل:

والطلاء: بالمد وكسر الطاء كما ضبطه ابن ولَّاد، وهو الشراب المطبوخ من عصير العنب وهو الربُّ، وأصله القطران الخاثر الذي تطلى به الإبل.

قال القزاز: هو ضعيف من الخمر، وهو أن يغلي عصير العنب حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، شبه بطلاء الإبل لثخنه وسواده وليس بحرام وإنما سميناه خمرًا؛ لأن بعض الناس يجعل الطلاء الخمر، ومن هذا قول عبيد بن الأبرص:

(1)

"المحكم" 6/ 214 باب: القاف والذال والباء.

(2)

"تنبيه الغافلين" ص 53.

ص: 152

هي الخمر تكنى الطلا

كما الذئب يكنى أبا جعدة.

ولو قيل: هي الخمر يكنونها بالطلاء، لصح أيضًا. وقال ابن سيده: هو خاثر المنصف

(1)

. وقال اللحياني: الطلاء مذكر لا غير. وقال الجوهري: تسميه العجم: الميْبَخْتَج

(2)

. وزعم ابن حبيب أن شربه لا يجوز حتى يذهب ثلثاه في الطبخ ويوقن أن لا يسكر

(3)

. وسئل عكرمة عن الميبختج؟ فقال: كان بالماء فاختتموه بالماء.

فصل:

شراب الطلاء على الثلث هو ما صنعه عمر لأهل الشام كما قاله ابن بطال: أن يطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه، ويبقى ثلثه وحدُّهُ أن يتمدد ويشبه طلاء الإبل، وبذلك شبهه عمر بن الخطاب، فهذا الذي يؤمن غائلته، والطلاء هو طبيخ العنب الثخين.

واختلف العلماء في شربه؛ فقال كثير من الصحابة والتابعين: إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فهو جائز شربه، وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبي عبيدة ومعاذ وأبي طلحة وأبي الدرداء وأبي أمامة الباهلي. ومن التابعين: الحسن وعكرمة وابن المسيب

(4)

، وهو قول مالك والثوري والليث وأحمد، وكلهم (اختار)

(5)

شربه إذا ذهب ثلثاه؛ لأنه لا يسكر كثيره

(6)

. وفيه قول ثان: أن يذهب النصف

(1)

"المحكم" 9/ 177.

(2)

"الصحاح" 6/ 2414.

(3)

"النوادر والزيادات" 14/ 293.

(4)

"مصنف عبد الرزاق" 9/ 255، "مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 500 - 503.

(5)

في (غ): (أجاز).

(6)

"المنتقى" 3/ 156، "المغني" 12/ 514.

ص: 153

بالطبخ. وروي أنه أجاز شربه البراء وأبو جحيفة وجرير وأنس، ومن التابعين: ابن الحنفية وعبيدة وشريح والحكم بن عتيبة والنخعي وسعيد بن جبير

(1)

، وأجازه أبو حنيفة وصاحباه

(2)

واحتجوا أنه لا يجوز أن يشرب أحد من الصحابة والتابعين ما يسكر؛ لأنهم مجتمعون أن قليل (الخمر)

(3)

وكثيرها حرام وأما الذي كرهه فإنه تورع عنه

(4)

.

فصل:

قوله: (ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث). معناه أن المشتبهات تقع في حيز الحرام وهي الخبائث.

قال إسماعيل بن إسحاق: في قول ابن عباس هذا رد لما روي عنه أنه قال: حرمت الخمر بعينها والسكر من كل شراب. والصحيح عنه: المسكر. كما رواه شعبة وسفيان، وقد روي عن ابن عباس من وجوه ما يضعف رواية الكوفيين عن مسعر.

ثم ساق من حديث إسماعيل عن ليث، عن عطاء وطاوس ومجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قليل ما أسكر كثيره حرام. ومن حديث حماد بن زيد، ثنا أبو حمزة قال: سمعت ابن عباس يقول: لا تشرب نبيذ الجر وإن كان أحلى من العسل

(5)

. قال إسماعيل: فإذا كان هذا فتيا ابن عباس فكيف يقبل عنه خلافه.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 505 - 506.

(2)

انظر: "المبسوط" 24/ 12 - 13.

(3)

من (غ).

(4)

انتهى من "شرح ابن بطال" 6/ 58 - 59.

(5)

سبق تخريجه.

ص: 154

فصل:

وأما حديث: كان يحب الحلواء والعسل. فهو الحلال الذي لا يشك في طيبه فالحلواء تطبخ حتى تنعقد، والعسل يمتزج بالماء فيشرب من ساعته، فهذا الذي لا شك في طيبه وحله.

فصل:

وفي حديث عمر من الفقه الجلد في ريح الشراب الذي يسكر كثيره، ألا ترى قوله:(وأنا سائل عنه، فإن كان يسكر حددته)، ولم يخص بذلك السكر من خمر العنب بل أطلق ذلك على ما يسكر من جميع الأشربة.

وروي عن ابن مسعود أنه ورد حمص فشم من رجل ريح خمر فحده، ولا مخالف له من الصحابة. وعن عمر بن عبد العزيز مثله.

قال ابن المنذر: وبه قال مالك، قال: إذا شهد عدلان ممن شرب الخمر في كفره ثم أسلم، أو شربها في إسلامه فحد ثم تاب (منها)

(1)

وقالا: إنها ريح مسكر جاز الحد، وقال عطاء: لا حد إلا بالنبيذ؛ لأن الريح يكون من الشراب الذي ليس به بأس

(2)

. وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وقالوا: لا يحد الذي يوجد منه ريح الشراب إلا أن يقول: شربت مسكرًا، أو يشهد عليه بذلك، قالوا: لأن الروائح تتفق فرائحة التفاح الشامي والخمر تتفق ودرء الحد بالشبهة أولى، وحجة مالك: أن رائحة الخمر وإن تشابهت فإنه إذا تأملها من يعرفها لم تختلط مع غيرها وإن تقاربت، وقد تشتبه الألسن والروائح، ثم لا بد من الفرق بينهما كما تقول في شهادة الأعمى على الصوت.

(1)

من (غ).

(2)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 59.

ص: 155

وقال ابن المنذر: روي عن عطاء: لا يحد في شيء من الشراب حتى يسكر إلا الخمر، وبه قال أبو حنيفة. وعن ابن أبي ليلى والنخعي: لا يجلد السكران من النبيذ حدًّا. وقال أبو ثور: من كان المسكر عنده حرامًا فشرب منه ما يسكر حددته، ومن كان متأولًا مخطئًا في تأويله فشربه على خبر ضعيف قلده واتبع أقوامًا لم يكن عليه حد، وذلك أنَّا لا نحد إلا من فسق، إنما الحد على من علمه، وأما من أتى بشيء ظنه حلالًا فلا حد عليه.

قال ابن المنذر: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه" فالحد على شاربه واجب سكر أم لا على ظاهر الحديث، وكل شرابٍ أسكر كثيره فهو حرام، وقليله حرام للأخبار الثابتة

(1)

.

وقول عمر: (وجدت من عبيد الله ريح الشراب). وفي "الموطأ": رائح

(2)

فزعم أنه (شرب)

(3)

الطلاء. يعكر عليه ما أسلفناه عن عمر من تجويزه شرب الطلاء إلا أن يكون أراد به المعصفر.

قال ابن التين: وفيه الأخذ بالرائحة إذا لم يشك فيها، وسؤال الإمام عما يشك فيه. قال: وما رآه عمر فمن بعده، يريد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وإنما أتى به على معنى البيان -أعني قوله على الثلث- لأن الطلاء هو ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه، وتسميه العرب أيضًا الميبختج كما سلف، وبعض العرب تسمي الخمر الطلاء يريد تحسين اسمها لا أنها الطلاء نفسه. قيل: وإنما سمي بذلك؛ لأنه ذهب ثلثاه بالطبخ ثخن

(1)

"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 59 - 60.

(2)

من (غ).

(3)

"الموطأ" ص 526. والذي في "الموطأ": ريح. وليس فيه: رائح.

ص: 156

واسود فشبه بطلاء الإبل، وهذا جعله بعض العلماء حدًّا (أنه)

(1)

إذا ذهب ثلثاه لم يسكر.

قال في "المدونة": ولم يلتفت مالك إلى ثلثين من ثلث، وإنما قال: حلو إذا طبخ فلم يسكر

(2)

. وقال ابن حبيب: لا يجوز إلا باجتماع وجهين: أن يذهب ثلثاه في الطبخ، ويوقن أنه لا يسكر. وقال محمد: أكثرها يعرف من العصير إذا طبخ فذهب ثلثاه إلا ثخن وحل ولم يسكر. قال مالك: وليس ذلك في كل عصير ولا في كل بلد.

فصل: في بيان كنى وأسماء وقعت في الآثار:

أبو جحيفة اسمه: وهب بن عبد الله بن مسلمة بن جنادة بن جندب بن جحير بن رئاب بن جندب بن سراية بن عامر بن صعصعة.

وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر. ومعاذ: هو ابن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى أخي سلمة ابني سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج أخي الأوس ابني حارثة.

وأبو الجويرية اسمه: حطان بن خفاف الجرمي، انفرد به البخاري وهم جماعة تكنوا بذلك عبد الرحمن بن مسعود العبدي، سمع ابن الحنفية، وعنه الصلت بن بهرام، وعبد العزيز بن زياد، سمع أم سعد عن عائشة، وعنه نصر بن علي، وعبد الحميد بن مهران كوفي نزل المدينة، عن حماد بن أبي سليمان، وعنه حماد والخياط. من الكنى لمسلم.

(1)

من (غ).

(2)

"المدونة" 4/ 414.

ص: 157

‌11 - باب مَنْ رَأَى أَنْ [لَا] يَخْلِطَ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ إِذَا كَانَ مُسْكِرًا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ إِدَامَيْنِ فِي إِدَامٍ

5600 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي لأَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَأَبَا دُجَانَةَ وَسُهَيْلَ ابْنَ الْبَيْضَاءِ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ إِذْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَذَفْتُهَا وَأَنَا سَاقِيهِمْ وَأَصْغَرُهُمْ، وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ الْخَمْرَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، سَمِعَ أَنَسًا. [انظر: 2464 - مسلم: 1980 - فتح 10/ 66]

5601 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ. [مسلم: 1986 - فتح

10/ 67]

5602 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على حِدَةٍ. [مسلم: 1988 - فتح 10/ 67]

ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث هشام ثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي لأَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَأَبَا دُجَانَةَ وَسُهَيْلَ ابن البَيْضَاءِ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ إِذْ حُرِّمَتِ الخَمْرُ، فَقَذَفْتُهَا وَأَنَا سَاقِيهِمْ وَأَصْغَرُهُمْ، وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ الخَمْرَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الحَارِثِ: ثَنَا قَتَادَةُ، سَمِعَ أَنَسًا.

ثانيها:

حديث أبي عاصم عن ابن جريج، أخبرني عطاء، سمع جابرا: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالرُّطَبِ.

ص: 158

ثالثها:

حديث أبي قتادة: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ.

الشرح:

قوله: (وقال عمرو بن الحارث: ثنا قتادة، سمع أنسًا) أراد به -والله أعلم- التصريح بسماع قتادة له من أنس، وهذا التعليق أسنده أبو نعيم الحافظ عن محمد بن عبد الله بن سعد، ثنا عبد الله بن محمد، أخبرنا أبو الطاهر، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو فذكره.

وحديث جابر أخرجه مسلم

(1)

والنسائي عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن ابن جريج فوقفه

(2)

.

ورواه الإسماعيلي عن الحسن، ثنا حبان بن موسى، ثنا ابن المبارك، عن ابن جريج فرفعه، فترجم لحديث أنس باب خدمة الصغار الكبار

(3)

.

وحديث أبي قتادة أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه

(4)

.

وقوله في الترجمة: من رأى أن لا يخلط التمر والبسر إذا كان مسكرًا، تعقبه المهلب وقال: إنه خطأ منه وليس مما قصد به أنهما

(1)

مسلم (1986) كتاب الأشربة، باب: كراهة انتباذ التمر.

(2)

"السنن الكبرى" 4/ 184 (6806) ووقع فيه الحديث مرفوعاً كما في المطبوع منه وقد ذكر المزي في "التحفة" 2/ 234 أيضًا أن النسائي رواه من هذِه الطريق موقوفًا.

(3)

سيأتي برقم (5622).

(4)

رواه مسلم (1988)، وأبو داود (3704)، والنسائي 8/ 293، وابن ماجه (3397).

ص: 159

يسكران حالاً بل مآلًا إلى السكر، والنهي عن الخليطين من جهة الإسكار؛ لأن المسكر مأمور بإهراقه قليله وكثيره.

وأجاب ابن المنير عنه بأنه لا يلزم البخاري ذلك، إما لأنه يرى جواز الخليطين قبل الإسكار، وإما لأنه ترجم على ما يطابق الحديث الأول وهو قول أنس: كنت أسقي أبا طلحة. ولا شك أن الذي كان يسقيه حينئذٍ للقوم مسكرًا، ولهذا دخل عندهم في عموم التحريم. وقد قال أنس: وإنا لنعدها يومئذٍ الخمر دل أنه مسكر.

وقوله في التبويب: وأن لا يجعل إدامين في إدام واحد، يطابقه حديث جابر: نهى عن الزبيب والتمر والبسر والرطب، وحديث أبي قتادة أيضًا

(1)

. ولما ذكر الأثرم حديث أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعًا: نهى عن الخليطين.

وعن ابن عباس مثله مرفوعًا، وعن أبي قتادة مثله، قال: هذا ما صح في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال

(2)

: ويكون النهي معللًا بعلل مستقلة، إما تحقق إسكار الكثير، وإما توقع الإسكار بالاختلاط سريعًا، وإما الإسراف الشره والتعليق في ذلك الإسراف فمبين في حديث النهي عن قرآن التمر، وهذا. والتمرتان نوع واحد فكيف بالتعدد؟

(3)

.

وروى ابن عبد البر من حديث (معبد بن مالك)

(4)

، عن أمه وكانت قد صلت القبلتين: أنه عليه السلام نهى عن الخليطين

(5)

.

(1)

"المتواري" ص 214.

(2)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 222.

(3)

"المتواري" ص 214.

(4)

هو معبد بن كعب بن مالك كما ورد في ترجمته في "تهذيب الكمال" 28/ 236.

(5)

"التمهيد" 5/ 162.

ص: 160

ومن حديث ابن أبي ليلى عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان الرجل يمر على الصحابة وهم متوافرون فيلقونه فيقولون: هذا يشرب الخليطين التمر والزبيب

(1)

.

فصل:

وحكمة النهي إسراع الشدة إليه مع الخلط، قال الداودي: لأن أحدهما لا يصير نبيذًا حلوًا حتى يشتد الآخر فيسرع إلى الشدة.

قلت: فيصير خمرًا وهم لا يظنون

وقد روي هذا عن الليث، واختلف هل ترك ذلك واجب أو مستحب؟

فقال محمد: يعاقب.

وقال القاضي عبد الوهاب وغيره: أساء في خلطه، فإن لم تحدث الشدة المطرية جاز شربه.

واختلف في الخليطين من الخل، وعن بعض العلماء كراهة الشرابين للمريض وأنكر عليه لانتفاء السكر إفرادًا وجمعًا.

فصل

وسئل الشافعي عن رجل شرب خليطين مسكرًا، فقال: هذا بمنزلة أكل لحم خنزير ميت، فهو حرام من وجهين: الخنزير حرام والميتة حرام، والخليطان حرام والسكر حرام.

وجمهور العلماء قائلون بهذِه الأحاديث من الخليطين من جميع الأشربة، وأن ينبذ كل واحد على حدته.

(1)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 93 (24023).

ص: 161

وممن روي ذلك عنه من الصحابة: أنس، وأبو مسعود الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري. ومن التابعين: عطاء وطاوس.

وبه قال مالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وروي عن الليث بن سعد أنه قال: لا بأس أن يخلط نبيذ الزبيب ونبيذ التمر ثم يشربان جميعًا، وإنما جاء الحديث في النهي أن ينبذا جميعًا؛ لأن أحدهما يشد صاحبه.

وخالف مالك والشافعي فلم يريا أن يخلطا عند شرب ولا انتباذ

(1)

.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا بأس بشرب الخليطين من الأشربة، قالا: وكل ما لو طبخ على الانفراد حل كذلك هو إذا طبخ مع غيره

(2)

، قالوا: روي مثل قولنا عن ابن عمر والنخعي.

قال الطحاوي: ومعنى النهي عن الخليطين على وجه السرف لضيق ما كانوا فيه من العين، كما روى جبلة

(3)

بن سحيم قال: أصابتنا سنة، فرآنا ابن عمر ونحن نأكل التمر فقال لنا: لا تقرنوا؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القران

(4)

.

قال ابن عمر: إلا أن يستأذن الرجل أخاه.

قال: وهذا معنى النهي عن الخليطين عندهم؛ لأن كل واحد على حاله يجوز شربه كما يجوز أكل كل (تمرة)

(5)

على حالها

(6)

.

قال غيره: المعروف عن ابن عمر خلاف ما حكاه الطحاوي عنه؛

(1)

انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 244 - 245.

(2)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 369.

(3)

في الأصل: (حنظلة)، وفي الهامش: صوابه جبلة.

(4)

سلف برقم (2455) كتاب: المظالم، باب: إذا أذن إنسان لآخر شيئًا جاز.

(5)

من (غ).

(6)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 371.

ص: 162

لأنه أشد الناس اتباعًا لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن ليخالفه.

وقد روي عن ابن عمر أنه كان ينتبذ التمر فينظر إلى التمرة بعضها بسرة وبعضها رطبة فيقطعها ولا ينتبذ كلها كراهية أن يواقع

(1)

نهي الشارع عن الخليطين.

وأما قياسهم أن ما حل على الانفراد حل مع غيره فلا قياس لأحد ولا رأي مع مخالفة السنة ومن خالفها فمحجوج بها.

ويقال للكوفيين: إذا جاز نكاح المرأة ونكاح أختها منفردتين فليس بالجمع بينهما بأس فإن قالوا: حرم الله الجمع بين الأختين قيل: وكذلك حرم رسوله الجمع بين ما ذكر، وكذلك الجواب في الجمع بين العمة وبنت أخيها.

قال المهلب: ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن خلط الأُدم، وإنما روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وذلك من أجل السرف؛ لأنه كان يمكن أن يأتدم بأحدهما ويرفع الآخر إلى مرة أخرى.

وقال أبو عمر: النهي في هذا الباب نهي عبادة واختيار لا للسرف والإكثار ولا لخوف الشدة، كما قاله الليث وغيره

(2)

.

قال ابن حزم: واحتج لأبي حنيفة بما روينا من طريق مسعر عن موسى بن عبد الله، عن امرأة من بني أسد، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُنبذ له زبيب فيلقى فيه تمر أو تمر فيلقى فيه زبيب ثم قال: وهذا لا شيء؛ لأنه عن امرأة لم تسم

(3)

ومن طريق زياد بن يحيى

(1)

في الأصل: (يوقع)، وفي الهامش: لعله يواقع.

(2)

"الاستذكار" 24/ 290.

(3)

رواه أبو داود (3707) وقال المنذري في "مختصره" 5/ 277: امرأة من بني أسد: مجهولة.

ص: 163

الحسَّاني: حدثنا أبو بحر: ثنا عتّاب بن عبد العزيز الحماني: حدثتني صفية بنت عطية: سمعت عائشة تقول: وقد سئلت عن التمر والزبيب فقالت: كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب وأمرسه ثم أسقيه النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

وهو أيضًا مردود؛ لأنه عن أبي بحر ولا يدرى من هو، عن عتّاب وهو مجهول، عن صفية ولا يدرى من هي

(2)

.

قلت: حكمه بالجهالة في حق أبي بحر عجيب فقد روى عنه جماعة منهم: الفلاس وأبو بكر بن أبي شيبة، قال أحمد: طرح الناس حديثه

(3)

.

وقال يحيى بن معين والنسائي: ضعيف الحديث

(4)

، وقال ابن المديني: ذهب حديثه

(5)

، وكان يحيى بن سعيد حسن الرأي فيه وحدث عنه وقال: إنكم تحدثون عمن هو دونه، وفي كتاب يحيى بن سعيد هو صاحب حديث وهو: عبد الرحمن بن عثمان بن أمية بن عبد الرحمن بن أبي بكرة البكراوي.

وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به

(6)

، وقال أبو داود: صالح تركوا حديثه.

(1)

رواه أبو داود (3708) وقال المنذري في "مختصره" 5/ 278 في إسناده: أبو بحر: عبد الرحمن بن عثمان البكراوي البصري، ولا يحتج بحديثه.

(2)

"المحلى" 7/ 510.

(3)

"الجرح والتعديل" 5/ 265 (1252).

(4)

"تاريخ يحيى بن معين برواية الدوري" 4/ 209، "الضعفاء والمتروكين" 1/ 67 (357).

(5)

"الجرح والتعديل" 5/ 265.

(6)

المصدر السابق.

ص: 164

وقال ابن عدي: مشهور معروف وله أحاديث عن أبيه، عن شعبة وغيره من البصريين وهو ممن يكتب حديثه

(1)

.

وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به

(2)

.

وقال أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم.

وذكره ابن شاهين وابن حبان

(3)

وابن خلفون في ثقاتهم

(4)

.

وقال البخاري: لم يتبين لي طرحه

(5)

.

وقال أبو عمر في "الاستيعاب"

(6)

والعجلي: هو ثقة بصري

(7)

، وخرج حديثه الحاكم فمن هذا حاله كيف يدّعي جهالته؟ وحكمه على عتّاب بالجهالة عجيب أيضًا، فقد روى عنه جماعة منهم: يزيد بن هارون وأحمد بن سعيد الدارمي.

وذكر ابن حبان في "ثقاته"

(8)

، وذكر الأثرم في "ناسخه ومنسوخه" أن حميد بن سليمان روى عن مجاهد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه رخص في الخليطين.

قال الأثرم: هذا خلاف الأحاديث القوية، ومثل هذا لا يصح به حجة ولو لم يجيء خلافه.

(1)

"الكامل" 5/ 415.

(2)

" المجروحين " 2/ 61.

(3)

"تاريخ أسماء الثقات" لابن شاهين ص 147 (804)، "ثقات ابن حبان" 3/ 252.

(4)

ورد بهامش (س) ما نصه: كذا، في الأصل "ثقاته".

(5)

"التاريخ الكبير" 5/ 331 (1054).

(6)

كذا في الأصل وكتب فوقها: (لعله). وقال في الهامش: في أصله الاستعيا [غير منقوطة]، ولعله: الاستقصاء، وهذا يقرب -مما كتبته في الأصل- إلى التصحيف.

(7)

لم أقف عليه في "الاستيعاب" وهو عند العجلي في "ثقاته" 2/ 82 (1058).

(8)

"ثقات ابن حبان" 7/ 295.

ص: 165

قال: واحتجوا بأن ابن عباس رخص فيه، وقد صح عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عنه، أفتراه كان يحدث الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعمل بغيره؟ واحتجوا بأن ابن عمر رخص فيه وذلك من وجه ضعيف

(1)

.

قال ابن حزم: فإن قالوا: هذا ندب.

قلنا: لا دليل لكم عليه ثم الأمر كما قلتم فاكرهوه إذًا وانتدبوا إلى تركه.

وقالوا أيضًا: نهى عنه لضيق العيش؛ ولأنه من السرف وهذا نادر؟ لأنه ما كان قط عند ذي عقل رطل تمر ورطل زبيب سرفًا ورطل زهو ورطل بسر سرفًا وهم بالمدينة والطائف وبلاد اليمن، والزبيب والتمر كثير بها أيضًا فإن أكل الدجاج والنقي والسكر أدخل على أموالهم في السرف وأبعد من ضيق العيش، وما نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وقال القرطبي: أبعد بعض أصحابنا فمنع الخلط وإن لم يكن كذلك حتى منع خلطهما للتخليل، وهذا إنما يليق لمن لم يعلل النهي عن الخليطين بعلة، ويلزم عليه أن يجري النهي عن خلط اللبن والعسل وشراب الورد بالتنقيح، قلت: قد قيل بهذا كما سلف والخل والعسل وغير ذلك، والصواب ما ذهب إليه مالك والجمهور

(3)

.

(1)

"الناسخ والمنسوخ" ص 222، 223.

(2)

"المحلى" 7/ 511.

(3)

"المفهم" 5/ 260.

ص: 166

‌12 - باب شُرْبِ اللَّبَنِ

وقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].

5603 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَقَدَحِ خَمْرٍ. [انظر: 3394 - مسلم: 168 - فتح 10/ 69]

5604 -

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، سَمِعَ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَيْرًا -مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ- يُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ قَالَتْ: شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِإِنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ فَشَرِبَ. فَكَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا قَالَ: شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ. فَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ قَالَ: هُوَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ. [انظر: 1658 - مسلم: 1123 - فتح 10/ 69]

5605 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ اللهِ قَالَ: جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنَ النَّقِيعِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَلاَّ خَمَّرْتَهُ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا» . [5606 - مسلم: 2011 - فتح 10/ 70]

5606 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَذْكُرُ -أُرَاهُ- عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ -رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ- مِنَ النَّقِيعِ بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَلاَّ خَمَّرْتَهُ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا» . وَحَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا. [انظر: 5605 - مسلم:2011 - فتح 10/ 70].

5607 -

حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَرَرْنَا بِرَاعٍ وَقَدْ عَطِشَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: فَحَلَبْتُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فِي قَدَحٍ،

ص: 167

فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، وَأَتَانَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ، فَدَعَا عَلَيْهِ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ سُرَاقَةُ أَنْ لَا يَدْعُوَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَرْجِعَ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2439 - مسلم: 2009 -

فتح 10/ 70]

5608 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«نِعْمَ الصَّدَقَةُ، اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، تَغْدُو بِإِنَاءٍ، وَتَرُوحُ بِآخَرَ» . [انظر: 2629 - مسلم: 1019، 1020 - فتح 10/ 70]

5609 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَالَ:«إِنَّ لَهُ دَسَمًا» . [انظر: 211 - مسلم: 358 - فتح 10/ 70]

5610 -

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ، نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ، فَأُتِيتُ بِثَلَاثَةِ أَقْدَاحٍ، قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ، فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِي: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ» .

قَالَ هِشَامٌ وَسَعِيدٌ وَهَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الأَنْهَارِ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَلَاثَةَ أَقْدَاحٍ. [انظر: 3570 - مسلم: 162 - فتح 10/ 70]

ذكر فيه ثمانية أحاديث تفرقت:

أحدها:

حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَقَدَحِ خَمْرٍ سلف أول الكتاب، وذكره في التفسير.

ص: 168

وأخرجه مسلم والنسائي

(1)

.

وشيخه فيه عبدان وهو: عبد الله بن عثمان.

ثانيها:

حديث أم الفضل في فطره يوم عرفة بعرفة.

وأم الفضل هي لبابة الكبرى، وشيخه فيه الحميدي وهو عبد الله بن الزبير، وسلف في الحج والصوم

(2)

.

ثالثها:

حديث الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عبد اللهِ قَالَ: جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنَ النَّقِيعِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلَّا خَمَّرْتَهُ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا".

ثم ساقه من حديث الأعمش أيضًا: قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَذْكُرُ -أُرَاهُ- عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ -رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ- مِنَ النَّقِيعِ بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَلَّا خَمَّرْتَهُ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا" يقول الأعمش. وَحَدَّثَنِي [أبو] سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بهذا.

وأبو صالح ذكوان أخرجا له

(3)

.

(1)

سلف برقم (5576) وسلف في التفسير برقم (4709) باب قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .

وأخرجه مسلم (168) كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والنسائي 8/ 312.

(2)

سلف برقم (1658) باب: صوم يوم عرفة.

(3)

انظر: "الجمع بين رجال الصحيحين" 1/ 132 - 133.

ص: 169

وأبو سفيان طلحة بن نافع انفرد به مسلم

(1)

.

وأبو حميد هو الساعدي عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة، ابن عم سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة.

و (النقيع) بالنون: حماه الشارع وعُمر لنعم الفيء وخيل المجاهدين فلا يرعاه غيرها وهو موضع قريب من المدينة، كان ينتقع فيه الماء أي يجتمع، والماء الناقع، المجتمع ومنه حديث أول جمعة جمعت بالمدينة في نقيع الخضمات

(2)

.

وقال ابن التين: روي بالباء كبقيع الغرقد، وهي رواية أبي الحسن، والنون موضع تعمل فيه الآنية.

وقال القرطبي: بالنون أكثر الرواة عليه، وهو: وادي العقيق على عشرين فرسخًا من المدينة

(3)

. وزعم الخطابي: أنه القاع

(4)

.

وقال بعضهم: أصله كل موضع يستنقع فيه الماء. ورواه أبو بحر سفيان بن العاصي بباء موحدة

(5)

.

(1)

ذكر المصنف أن مسلمًا انفرد بتخريجه لطلحة بن نافع -أبي سفيان- ولكن ذكر ابن القيسراني أنه ممن اتفقا عليه ونقل الحافظ عن مغلطاي أنه قال: وهو على شرط البخاري انتهى. وتعقبه قائلاً: وليس كما زعم فإن البخاري وإن كان أخرج لأبي سفيان لكن أخرج له مقرونًا بأبي صالح ثلاثة أحاديث فقط فليس على شرطه. اهـ من "الفتح" 9/ 535 - 536. وقال في موضع آخر من "الفتح" 7/ 123: هذا من شأن البخاري في حديث أبي سفيان طلحة بن نافع صاحب جابر لا يخرج له إلا مقرونًا بغيره أو استشهادًا.

(2)

رواه أبو داود (1069)، وابن ماجه (1082) عن كعب بن مالك.

(3)

"المفهم" 5/ 283 وعزاه القرطبي للهروي.

(4)

انظر: "غريب الحديث" للخطابي 1/ 619 ونقله عن الأصمعي.

(5)

انظر: "المفهم" 5/ 283.

ص: 170

قال الخليل: هو أرض فيها شجر

(1)

.

وقوله: "ألا خمرته" أي: سترته ومنه خمار المرأة.

وقوله: "يعرضوا عليه عودًا" هو بضم الراء، قاله الأصمعي، ورواه أبو عبيد بكسرها والوجه الأول.

قال الخطابي: ورواه الأصيلي بالتخفيف يعرض، وأعرض بكسر الراء قول عامة الناس إلا الأصمعي قال بالضم خاصة في هذا

(2)

.

وقال الجوهري: عرض العود على الإناء والسيف على فخذه يعرضه ويعرُضه أيضًا

(3)

. ومعنى الحديث: إن لم يغطِّ فلا أقل من أن يعرض عليه شيئًا لقوة النهي في تركه. وقوله: (فلا يقدر الشيطان على شيء) لا بد من ذكر الله كما جاء في الحديث وببركة اسمه تندفع المفاسد ويحصل تمام المقاصد.

رابعها:

حديث أبي إسحاق واسمه: عمرو بن عبد الله السَّبيعي قَالَ: سَمِعْتُ البَرَاءَ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَرَرْنَا بِرَاعٍ وَقَدْ عَطِشَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَحَلَبْتُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فِي قَدَحٍ، فَشَرِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى رَضِيتُ، وَأَتَاه سُرَاقَةُ بْنُ مالك جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ، فَدَعَا عَلَيْهِ، فَطَلَبَ إِلَيْهِ سُرَاقَةُ ألاّ يَدْعُوَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَرْجِعَ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -وهو بعض حديث من الهجرة.

والكثبة من اللبن قدر حلبة، قاله الجوهري قال: وقال أبو زيد: هو

(1)

"العين" 1/ 184.

(2)

"أعلام الحديث" 3/ 1515.

(3)

"الصحاح" 3/ 1082 مادة: [عرض].

ص: 171

ملء القدح

(1)

، وعبارة ابن فارس الكثبة: القطعة من اللبن والتمر سميت بذلك؛ لاجتماعها وجمعها كُثُب

(2)

.

وقوله: (فجلبت له كثبة). كذا هنا، وفي رواية أخرى: أمرت الراعي فحلب.

وهذا جائز أن ينسب إلى نفسه فعلًا أمر غيره بفعله.

خامسها:

حديث أبي الزناد واسمه عبد الله بن ذكوان، عن عبد الرحمن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"نِعْمَ الصَّدَقَةُ، اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، تَغْدُو بِإِنَاءٍ، وَتَرُوحُ بِآخَرَ".

والصفى: الناقة الغزيرة اللبن أو الشاة، وسلف ذلك في العارية.

وعبارة ابن التين: الكثيرة اللبن ويدل على كثرة لبنها قوله: "تغدو بإناء وتروح بآخر".

واللقحة بكسر اللام، كذا ذكر أهل اللغة، وذكر الهروي عن غير الأزهري الفتح أيضًا وهي التي نتجت حديثًا، والمعروف أنها ذات اللبن.

سادسها:

حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَالَ: "إِنَّ لَهُ دَسَمًا". سلف في الطهارة

(3)

وشيخه فيه أبو عاصم عن الأوزاعي، واسم أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، والأوزاعي

(1)

المصدر السابق 1/ 209 مادة: [كثب].

(2)

"مقاييس اللغة" 1/ 886 مادة: [كثب].

(3)

سلف برقم (211) باب: هل يمضمض من اللبن.

ص: 172

عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ .. " الحديث، وفي آخره:

"فَأُتِيتُ بِثَلَاَثةِ أَقْدَاحٍ: قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ، فَأَخَذْتُ الذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِي: أَصَبْتَ الفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ".

وقَالَ هِشَامٌ وَسعِيدٌ وَهَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الأَنْهَارِ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَلَاثَةَ أَقْدَاحٍ.

تعليق إبراهيم وصله الإسماعيلي فقال: أخبرنا أبو حاتم مكي بن عبدان وأبو عمران موسى بن العباس قالا: ثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا حفص بن عبد الله، ثنا إبراهيم به.

وقال أبو نعيم: ثنا أبو بكر الآجري، ثنا عبد الله بن العباس الطيالسي، ثنا محمد بن عقيل، ثنا حفص بن عبد الله، حدثنا ابن طهمان، وقوله: وقال هشام .. إلى آخره. يريد: بحديث هشام ما أسلفه مسندًا في بدء الخلق

(1)

.

وكذا حديث همام، وحديث سعيد تقدم عنده مسندًا عن قريب

(2)

.

وقال الإسماعيلي: حديث الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة أتيت بإناءين أصح إسنادًا من هذا وذاك أولى من هذا، ولما ذكر ابن التين هذِه الرواية قال الذي في غيره: بقدحين، وزاد هنا: قدح العسل وقد سلف.

(1)

سلف برقم (3207) باب: ذكر الملائكة.

(2)

سلف برقم (3207).

ص: 173

وإذا عرفت ذلك، فالفرث في الآية المبدأ بها: الكرش، وقال في "المنتهى": هو السرجين ما دام في الكرش، والجمع: فروث، وفي "الجامع" و"المحكم" كذلك

(1)

. وقال القزاز: هو ما ألقي من الكرش وكل شيء أخرجته من وعاء فنثرته فقد فرثته، ومنه يقولون: فرثت جلد النمر: إذا أخرجت ما فيه، والفراثة: ما أخرج من الكرش، (وقد أفرثت ما أخرج من الكرش)

(2)

وقد أفرثت الكرش إفراثًا إذا ألقيت فرثها.

فصل:

وشرب اللبن حلال بكتاب الله، وليس قول من قال إنه يسكر الكثير منه بشيء؛ لأن كل ما أباح الله تعالى في أكله وشربه فوقع منه لشاربه أو آكله سكر فهو غير مأثوم إلا أن يتعمد شربه لذهاب عقله دون منفعة يقصدها فهو آثم لقصده إلى ذهاب عقله، وإنما يكون السكر منه بصناعة تدخله وقد أسلفنا أنه يعمل منه خمر وإن وجد أحد بسكر منه فهي آفة في خلقته وهذا في الشاذ والنادر فلذلك لم يحكم فيه بحكم عام، وهذا هو تفسير الترجمة المذكورة.

وفي الآية دليل أن الماء إذا خالطته نجاسة فتغير ثم قعدت عنه حتى صفا وحلا وطابت رائحته أنه طاهر يجوز الوضوء به لقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66] فوصفه بالخلوص مما خالطه من الدم وحثالة الفرث وهذا دليل لازم.

وقد روى مالك في جباب تقع فيها الدابة فتموت وتروث فيها البقر والغنم حتى تنتن ثم تصفو وتطيب أنه يجوز التوضؤ بمائها.

(1)

"المحكم" 11/ 128 مادة: (فرث).

(2)

هكذا في الأصل، وهي زيادة يستقيم السياق بدونها.

ص: 174

فصل:

والنهران الباطنان في الجنة في حديث أنس إذا أبدلت الأرض ظهرا إن شاء الله، قاله ابن بطال

(1)

.

وأما أخذه اللبن وما قيل له: هديت الفطرة، فهو من باب الفأل؛ لأن اللبن أول ما يفتح الرضيع إليه فمه، فلذلك سمي فطرة لأنه فطر جوفه أي: شقه أول شيء، والفطور: الشقوق.

وقوله: ولو أخذت الخمر غوت أمتك. فيه دليل على أن الخمر كلها قليلها وكثيرها مقرون بها الغي فيجب أن تكون حرامًا، وإنما أُتي بثلاثة أقداح وقيل له: خذ أيها أحببت؛ ليريه الله فضل تيسيره له، ولو أُتي بقدح واحد لخفي موضع التيسير عليه.

وقوله: (فحلبت كثبة)، قال صاحب "العين": كل ما جمعته من قليل فقد كثبته وهي كثبة وقد سلف أيضًا

(2)

.

فصل:

في (أبي داود)

(3)

من حديث جابر مرفوعًا: "غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بابًا ليس عليه غطاء إلا نزل فيه"

(4)

.

قال الليث بن سعد راوي الحديث: الأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول

(5)

. وأخرجه البخاري كما تقدم ويأتي فيه أيضًا، وسلف في بدأ

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 67.

(2)

"العين" 5/ 353 - 352 مادة: [كثب].

(3)

مضبب عليها في (س) وفي الهامش: إنما هو في مسلم، انفرد به. فاعلمه.

(4)

مسلم (2012) كتاب: الأشربة، باب: الأمر بتغطية الإناء ..

(5)

مسلم بعد حديث (2014).

ص: 175

الخلق ويأتي في الاستئذان

(1)

.

وفي مسلم عن أبي حميد فذكر حديث إتيانه بقدح من لبن، وفي آخره قال أبو حميد: إنما أمر بالأسقية أن توكأ ليلاً، وبالأبواب أن تغلق ليلاً

(2)

. ولابن أبي عاصم وبوب له من قال: تخمر نهارًا من حديث جابر أيضًا؛ لأنه عليه السلام أُتي بإناء لبن نهارًا فقال: هلا خمرتموه أو عرضتم عليه عودًا.

وفي لفظ: كنا مع رسول الله فاستسقى فقال رجل: ألا أسقيك نبيذًا؟ قال: "بلى" فجاء بقدح فيه نبيذ فقال عليه السلام: "ألا خمرته ولو أن تعرض عليه عودًا" قال: وفيه عن أبي حميد، وفي حديث أبي هريرة: أمرنا رسول الله بتغطية الوَضوء وإيكاء السقاء والإناء. وفي حديث ابن عباس يرفعه: "إذا شرب أحدكم لبنًا فليقل: الحمد لله اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه"

(3)

فليس شيء يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن.

فصل:

الحديث الثاني رواه أولاً من حديث سفيان وقال: أم الفضل وفي آخره: كان سفيان ربما قال: شك الناس في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فأرسلت إليه أم الفضل فإذا وقف عليه قال: هو عن أم الفضل.

قال الداودي: قوله: عن أم الفضل، ومرة يقول: أرسلت إليه أم الفضل، فقد تقول ذلك أم الفضل عن نفسها فتذكر ما قالت، وربما ذكر معناه.

(1)

سلف برقم (3280) باب: صفة إبليس وجنوده وسيأتي برقم (6295).

(2)

"مسلم"(2010) كتاب: الأشربة، باب: في شرب النبيذ وتخمير الإناء.

(3)

رواه أبو داود (3730) والترمذي (3455) وقال: حسن.

ص: 176

‌13 - باب اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ

5611 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ -أَوْ رَايِحٌ، شَكَّ عَبْدُ اللهِ- وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى: "رَايِحٌ". [انظر: 1461 - مسلم: 998 - فتح 10/ 74]

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه في قصة بيرحاء السالفة في الزكاة

(1)

، وموضع الحاجة منه قوله:(وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ). وقال فيه: "بَخٍ ذَلِكَ قال رَابِحٌ -أَوْ- رَايِحٌ، شَكَّ عَبْدُ اللهِ- وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى: "رَايحٌ".

وحديث ابن عباس السالف أنه عليه السلام قال لامرأة أبي الهيثم: أين أبو الهيثم؟ فقالت: لرسول الله يستعذب لنا الماء. الحديث

(2)

.

(1)

سلف برقم (1461) باب: الزكاة على الأقارب.

(2)

رواه أبو يعلى في "مسنده" 1/ 214 - 215 (250)، والطبراني 19/ 253 وقال الهيثمي في "المجمع" 10/ 316: رواه البزار وأبو يعلى باختصار قصة الغلام ورواه الطبراني كذلك وفي أسانيدهم كلها عبد الله بن عيسى وهو ضعيف. اهـ.

قلت: وله شاهد من حديث أبي هريرة عند مسلم برقم (2038).

ص: 177

وروى ابن أبي عاصم من حديث أبي هريرة مثله مرفوعًا، ومن حديث عائشة أنه عليه السلام كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا، ولا شك أن التماس الماء العذب لا ينافي الزهد، ولا يدخل في الترفه المكروه بخلاف تطييب الماء بالمسك، وشبهه الذي يكرهه مالك؛ لأنه نص على كراهة الماء المطيب بالكافور للمحرم والحلال قال: لأنه نوع من السرف.

وشرب الماء وطلبه مباح للصالحين والفضلاء وليس شرب الماء الزعاق أفضل من شرب العذب؛ لأنه عليه السلام كان يشرب العذب ويؤثره، وفيه القدوة والأسوة الحسنة ومحال أن يترك الأفضل في شيء من أفعاله، وفيه دلالة على استعذاب الأطعمة وجميع المآكل جائز لذوي الفضل وأن ذلك من أفعال الصالحين.

ولو أراد الله أن لا يؤكل لذيذ المطاعم لم يخلقها لعباده ولا امتن بها عليهم بل أراد منهم أكلها ومقابلتها من الشكر الجزيل عليها والحمد بما منَّ به منها بما ينبغي لكرم وجهه وعز سلطانه، فإن كانت نعمة لا تكافئ شكرًا عليها إلا بتجاوزه عن تقصيرنا، وقد قال أهل التأويل في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] أنها أنزلت فيمن حرم على نفسه لذيذ المطاعم.

فصل:

بيرحاء: فيها لغات كثيره أسلفتها، واقتصر ابن التين هنا على أن الرواية بالمد والقصر، فإن كان منسوبًا إلى حاء التي هي من حروف الهجاء فهي تمد وتقصر، وإن كانت حاء من برح همز حاء أو تكون زجر الإبل بالمد والقصر أيضًا.

ص: 178

فصل:

قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في الشرب من ماء الجباب بغير ثمن.

فصل:

وبخ: كلمة تقال عند المدح والرضى بالشيء وتكرر للمبالغة فيقال: بخ بخ فإن وصلت خفضت ونونت وربما شددت كالاسم.

ومعنى رابح بالباء: أي ربح كثير الربح، وقيل: وصفه صاحبه موضع الربح وهو من حسن كلامهم، تقول: مال رابح ومتجر رابح ولا تقول: مربح.

ومعنى رايح بالمثناة تحت من راح: أي يروح أجره إلى يوم القيامة، وقيل: يروح عليه في الآخرة بالأجر العظيم.

فصل:

فيه كما قال أبو عبد الملك: أن من تصدق بشيء معين لزمه إن كان أكثر من ثلثه؛ لأنه عليه السلام لم يسأله أهو أكثر من ثلث ماله؟ وهذا لا حجة فيه لأنه يحتمل أن يكون عليه السلام علم كثرة ماله يؤيده: (وكان أكثر أنصاري بالمدينة مالًا) لا جرم. قال ابن التين: إنه أظهر الاحتمالين، قال: وفي مشهور مذهب مالك يلزمه ذلك، وقيل: لا يلزمه.

فصل:

وقوله: (فجَعَلَها في أقاربِه وبني عمه)، يريد: وهم بنو عمه ولم يختلف أنه إذا أوصى بشيء لقرابته أن قرابته من قبل أبيه يدخلون، واختلف هل يدخل قرابته من أمه، فقال ابن القاسم: لا، وقال ابن الماجشون: نعم ويدخل بنو البنات.

ص: 179

‌14 - باب شَوْبِ

(1)

اللَّبَنِ بِالْمَاءِ

5612 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا وَأَتَى دَارَهُ، فَحَلَبْتُ شَاةً، فَشُبْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبِئْرِ، فَتَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَأَعْطَى الأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ:«الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ» . [انظر: 2352 - مسلم:

2029 -

فتح 10/ 75]

5613 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ على رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي شَنَّةٍ، وَإِلاَّ كَرَعْنَا» . قَالَ: وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطِهِ قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ، يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي مَاءٌ بَائِتٌ فَانْطَلِقْ إِلَى الْعَرِيشِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمَا، فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ قَالَ: فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ. [5621 - فتح 10/ 75]

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه أَنَّهُ عليه السلام شَرِبَ لَبَنًا .. الحديث.

وقد سلف

(2)

، وشيخه فيه عبدان وهو عبد الله بن عثمان، وقد سلف قريبًا

(3)

.

(1)

هكذا بالأصل وجاءت في بعض الروايات [شرب] وأيدها ابن المنير فقال في "المتواري" ص 217: شرب اللبن بالماء هو أصل في نفسه، وليس من باب الخليطين في شيء.

وتبعه ابن حجر فقال في "الفتح" 10/ 75: إنما قيده بالشرب للاحتراز عن الخلط عند البيع فإنه غش.

(2)

سلف برقم (2352) كتاب: المساقاة، باب: في الشرب ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة ..

(3)

سلف في حديث (5603) باب: شرب اللبن.

ص: 180

وحديث جابر بن عبد الله أَنَّه صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ .. وفيه:، فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ.

وفي إسناده أبو عامر وهو العقدي عبد الله بن عمرو.

ومعنى ("وإلا كرعنا") يقال: كرع في الماء تكرع كرعًا وكروعًا: إذا تناوله بفيه من غير أن يشرب بكفه ولا بإناء كما تشرب البهائم؛ لأنها تدخل فيه بأكارعها يقال: أكرع في هذا الإناء نفسًا أو نفسين.

وترجم لحديث جابر باب الكرع في الحوض

(1)

، وفيه: فقال: يا رسول الله بأبي وأمي وهي ساعة حارَّة.

وشرب اللبن بالماء هو أصل في نفسه وليس من باب الخليطين في شيء

(2)

، والحكمة -كما قال المهلب- في شرب الماء: البارد ما فعله الشارع من الجرع لاستلذاذ برودته، وكان ذلك في يوم حر، ألا ترى قوله في باب الكرع وهي ساعة حارة؛ ولذلك صب له اللبن علي الماء ليقوي برده لاجتماع برد اللبن مع برد الماء البائت، وفيه أنه لا بأس بطلب البارد في سموم الحر، وقصد الرجل الفاضل بنفسه فيه حيث يعرف مواضعه عند إخوانه، وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة أن يقال له: ألم أصح جسمك وأروك من الماء البارد"

(3)

.

(1)

سيأتي عند حديث (5621).

(2)

ذكره ابن المنير في "المتواري" ص 217.

(3)

رواه الترمذي (3358)، وابن حبان 16/ 364 - 365 (7364) والحاكم 4/ 138، وغيرهم وقال الترمذي: غريب، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وصححه الألباني في "الصحيحة"(539).

ص: 181

وقوله: ("وإلا كرعنا") يريد: إن لم يكن عندك ماء بارد ولا عذب كان الأولى في شربه الكرع لئلا يعذب نفسه لكراهته في كثرة الجرعات، والكرع: شرب الرجل بفيه كما سلف، وكرع أيضًا في الإناء إذا مال نحوه بفيه فشرب منه.

قال الجوهري: وفيه لغة أخرى: كرع بالكسر، يكرع كرعًا

(1)

.

وذكر أبو عبد الملك قولًا شاذًّا في معنى كرع: شرب بيده، وأهل اللغة على خلافه.

فرع:

خلط اللبن بالماء إنما يجوز عند الشرب لطلب اللذة والحاجة إلى ذلك، وأما عند البيع؛ فإنه لا يجوز لأنه غش، ذكره ابن بطال وهو ظاهر

(2)

.

فصل:

معنى (فشيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من البئر) أي: خلط.

وقوله: (وعن يساره أبو بكر وعن يمينه أعرابي فأعطى الأعرابي فضله) هو خالد بن الوليد كما سلف، وفيه البُداءة باليمين.

قيل: وفيه هبة المجهول؛ لأنه عليه السلام وهب لكل واحد من جلسائه قَدْرَ رَيَّةٍ ولا نعلم مبلغه وهو مشهور مذهب مالك خلافًا للشافعي وفيه جواز هبة المتاع خلافًا لأبي حنيفة، وفيه: هبة الواحد للجماعة.

قيل: وفيه أن من قدم إليه بطعام لا يلزمه أن يسأل من أين صار إليه ولعله علم طيب كسبه، وفيه مواساة الجلساء من الهدية واشتراكهم فيها،

(1)

"الصحاح" 3/ 1275 مادة: [كرع].

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 70.

ص: 182

وقد سلف مرفوعًا: "جلساؤكم شركاؤكم في الهدية"

(1)

ولا يصح، وإن صح فعلى الندب إلى التحاب وبر الجلساء، وفيه مجالسة أهل البدو؛ لأن العرب جيل من الناس ينسب إليهم عربي وهم سكان الأنصار وأهلها، والأعراب منهم سكان البادية والنسبة إلى الأعراب أعرابي؛ لأنه لا واحد له، وليس الأعراب جمعًا لعربي كالأنباط جمع للنبط وإنما العرب اسم جنس.

والشنة بفتح الشين: القربة الخلقة والشنّ أيضًا وكأنها صغيرة.

وقال الداودي: هي التي زال شعرها من القدم.

وقوله: (فانطلق إلى العريش): هي خيمة من خشب وثمام وهو نبت ضعيف له خُوصٌ.

وقال الداودي: العريش شيء يجعل من الجريد كالقبة، والجمع: عُرُش مثل قليب وقُلُب، ومنه قيل لبيوت مكة: العُرُش؛ لأنها عيدان تنصب ويظلل عليها.

وقوله: (فسكب في قدح) أي: صبَّ فيه.

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ وروى نحوه البيهقي في "سننه" 6/ 183 وقال البخاري في "صحيحه" قبل حديث (2609): ويذكر عن ابن عباس: أن جلساءه شركاؤه. ولم يصح.

ص: 183

‌15 - باب شَرَابِ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ؛ لأَنَّهُ رِجْسٌ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5]، وَقَالَ ابن مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.

5614 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ. [انظر:4912 - مسلم: 1474 - فتح 10/ 78]

ثم ساق من حديث عائشة رضي الله عنها: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ وقد سلف

(1)

.

وقول الزهري: أخرجه عبد الرزاق عن معمر، عنه

(2)

.

وعندنا لا يجوز التداوي بالبول وغيره من النجاسات

(3)

خلا الخمر والمسكرات.

قال ابن التين: وشرب البول إن كان لغير ضرورة فهو حرام؛ لأن الشارع سماه خبثًا، فقال:"وهو يدافعه الأخبثان"

(4)

.

وقال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وعند الشدة هو كالميتة قال: وتعليل الزهري بأنه رجس غير ظاهر؛ لأن الميتة والدم ولحم الخنزير رجس أيضًا ولعله يريد أن الرخصة لم ترد فيه بخلافها فبقي على أصله في التحريم وما ذكره غير ظاهر، وقيل

(1)

سلف برقم (4912) كتاب: التفسير، باب:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} .

(2)

لم أقف عليه في "مصنفه" ولا في "تفسيره".

(3)

ورد بهامش (س) ما نصه: بشرطين عندنا معروفين.

(4)

رواه مسلم (560) من حديث عائشة.

ص: 184

أنهما يخبثان النفس، والبول لا يقطع العطش، فإن صح هذا فلا يباح لانتفاء الفائدة.

وعن الحسن: أنه كان يكره الدواء يجعل فيه البول.

وقال ابن بطال: أبوال الناس مثل الخمر والميتة في التحريم، ولم يختلفوا في جواز أكل الميتة عند الضرورة، فكذلك البول والفقهاء على خلاف قول ابن شهاب وإنما اختلفوا في جواز شرب الخمر عند الضرورة فقال مالك: لا يشربها لأنها لا تزيده إلا عطشًا وجوعًا، وأجاز أبو حنيفة أن يشرب منها مقدار ما يمسك به رمقه

(1)

.

والأصح عندنا أنه لا يجوز تعاطيها لعطش ولا لتداوٍ، واحتج المانع بقول ابن مسعود في الكتاب، وقد روي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ستعلمه، واحتج الكوفيون بأن الضرورة أباحت أكل ما حرم الشرع من الميتة والدم ولحم الخنزير والبول وما لا ينقلب إلى حالة أخرى، فأن تبيح الخمر كان أولى؛ لأنها قد تنتقل من حالها إلى حال التخليل.

وكان الشيخ أبو بكر فيما حكاه ابن القصار يقول: إن دفعته إليها ضرورة تغلب على ظنه أنه يتخلص بشربها جاز؛ لأنه لو تغصص بلقمة في حلقه فلم يجد ما يدفعها به واضطر أن يردها بالخمر جاز له ذلك ولم يجز أن يمنعه من هذِه الحال فيصير كالميتة عند الضرورة والأمر كما قال إن شاء الله

(2)

.

قلت: مسألة الغصة النفع بها محقق وهذا مظنون فافترقا.

(1)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 363.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 70 - 71.

ص: 185

فصل:

وأثر ابن مسعود أخرجه ابن أبي شيبة عن جرير، عن منصور، عن أبي وائل أن رجلاً أصابه الصفر فسأل عبد الله عن ذلك فقال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم

(1)

. وعند أحمد: اسم الرجل خثيم بن العداء، قال ابن أبي شيبة: وحدثنا محمد بن فضيل عن العلاء عن أبيه عن ابن مسعود قال: إن أولادكم ولدوا على الفطرة فلا تسقوهم السكر فإن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم

(2)

.

ورواه ابن حبان في "صحيحه" مرفوعًا

(3)

.

ولأحمد من حديث غنية بنت رُضي الجرمية، عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن صبي وصف له نبيذ في جريرة صفرة، فقالت: أي شيء تريدين به الشفاء، لا هو سقم

(4)

.

وقال ابن التين عن أبي الحسن: إن كان ابن مسعود أراد سكر الأشربة فيمكن أن يكون سقط من الكلام ذكر السؤال عن ذلك، وإن كان أراد السكْر بسكون الكاف فهو الذي ينتبذ به السكر فيمكن أن يكون الساقط عنه، وأحسبه هذا أراد لأني أظن عند بعض المفسرين هذِه الحكاية، وسئل ابن مسعود وهو قائم عن النهي عن التداوي بشيء من المحرمات، فقال ذلك، فالله أعلم بما أراد البخاري من ذلك.

(1)

"المصنف" 5/ 37 (23482) وقال العيني في "عمدة القاري" 17/ 11: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

(2)

لم أقف عليه في "المصنف" ولا في المطبوع من "مسنده".

(3)

رواه ابن حبان بلفظ: "إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام" من حديث أم سلمة رضي الله عنها 4/ 233 (1391).

(4)

رواه في "الأشربة" ص 60 (120).

ص: 186

قلت: قد أسلفنا المراد صريحًا، قال أبو داود: قول ابن مسعود في السكر هو الحق؛ لأن الله حرم الخمر ولم يذكر فيها ضرورة وأباح في الضرورة الميتة ولحم الخنزير، ففهم الداودي أن ابن مسعود تكلم عن استعمال الخمر عند الضرورة وليس كذلك، وإنما تكلم على التداوي به، وذلك أن التداوي به يجد الإنسان مندوحة عنه بغيره، ولا يقطع بنفعه بخلاف استعمال الميتة وأخواتها للضرورة وهي الجوع، وقد اختلف في السكر فقيل: هو الخمر وبه جزم الدمياطي وقيل: ما كان شربه حلالًا كالنبيذ والخل، وقيل: هو النبيذ.

قال الجوهري: هو نبيذ التمر

(1)

.

فصل:

وحديث عائشة رضي الله عنها في إسناده أبو أسامة وهو حماد بن أسامة مات سنة إحدى ومائتين وفيها مات معروف الكرخي، وقد سلف أن الحلواء فيها ثلاثة أقوال: قول الخطابي: أنها ما تصنع من العسل ونحوه

(2)

.

وقال الداودي: هو النقيع الحلو، وعليه يدل تبويب البخاري شرب الحلواء، وقال أيضًا: هو التمر ونحوه من الثمار، وتقدم أن الأصمعي قصرها وتكتب بالياء، والفراء يمدها، وابن فارس والجوهري حكياها

(3)

، وعبارة ابن بطال: الحلواء: كل شيء حلو، وفيه من الفقه أن الأنبياء والصالحين والفضلاء يأكلون الحلاوات والطيبات ولا يتركونها تقشفًا، وقد نزع ابن عباس أكل الطعام الطيب بقوله

(1)

"الصحاح" 2/ 687 مادة: [سكر].

(2)

"أعلام الحديث" 3/ 2053.

(3)

انظر "مقاييس اللغة" ص 259، و"الصحاح" 6/ 2317.

ص: 187

تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] الآية، ومدارها على أن الطيبات الحلال وكل ما كان حلالًا حلوًا كان أو حامضًا فهو طيب لمن استطابه

(1)

.

قال ابن المنير: ترجم البخاري على شيء وأعقبه بضده يشير إلى أن الطيبات هي الحلال لا الخبائث والحلواء من الطيبات، وأشار بقول ابن مسعود إلى أن كون الشيء شفاءً ينافي كونه حرامًا، والعسل شفاء فوجب أن يكون حلالاً، ثم عاد إلى ما يطابق الترجمة [نصًّا، ونبه بقوله: شرب الحلواء. أنها ليست الحلواء]

(2)

المعهودة التي يتعاطى المترفون، وإنما هي شيء يشرب إناء عسل بماء أو غير ذلك مما شاكله

(3)

.

ويجوز أن يقال: شرب الحلواء والعسل، وربما هو الصحيح؛ لأن العرب لا تعرف الحلواء المعقودة التي هي الآن معهودة، وإن أطلقوا الاسم فما أظنهم -والله أعلم- أطلقوه إلا على الحلو كالعسل والماء المنبوذ فيه التمر وغيره.

وقد نبه عليه البخاري في الترجمة باب: شرب الحلواء والعسل، والحلواء التي بأيدي الناس التي يطلقون عليها هذا الاسم لا تشرب فتعين أن المقصود ما يمكن شربه وهو الماء المنبوذ فيه التمر ونحوه، وكذلك العسل.

(1)

"شرح ابن بطال" 6/ 70.

(2)

ما بين المعقوفين ليس في الأصل، وما أثبتناه من كلام ابن المنير؛ ليستقيم السياق.

(3)

"المتواري" ص 218.

ص: 188

فإن قيل: قد قال في الترجمة: والعسل والحلو يشمل كل حلو عسلًا وغيره فتقول هذا من قبيل التخصيص بعد التعميم وهي قاعدة معروفة لقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68] ولا يخلو هذا النوع من التخصيص من فائدة، ويحتمل أن تكون الفائدة البينة على جواز شرب العسل إذ قد يتخيل أن شربه من السرف.

قلت: ودعواه له أن العرب لا تعرف هذِه الحلواء ليس كما قال، هم يعرفون الفالوذج وهو لباب البُر بسمن البقر يعقد بالعسل الماوي، وهو الذي نسميه الآن الصابونية، وفيه شعر أمية بن أبي الصلت في ابن جدعان المعروف، إلا أن يقال: تسميته بالفالوذج محدثة.

ص: 189

‌16 - باب الشُّرْبِ قَائِمًا

5615 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزَّالِ قَالَ: أَتَى عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ، فَشَرِبَ قَائِمًا فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهْوَ قَائِمٌ، وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ. [5616 - فتح 10/ 81]

5616 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ -وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ- ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهْوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ. [انظر: 5615 - فتح 10/ 81]

5617 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا مِنْ زَمْزَمَ. [انظر: 1637 - مسلم: 2027 - فتح

10/ 81]

5618 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ، عَنْ عُمَيْرٍ -مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِ لَبَنٍ، وَهُوَ وَاقِفٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَشَرِبَهُ. زَادَ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ: عَلَى بَعِيرِهِ. [انظر: 1658 - مسلم: 1123 - فتح 10/ 85]

ذكر فيه حديث شيخه أبي نعيم، وهو الفضل بن دكين، ثنا مسعر -وهو ابن كدام بن ظهير الهلالي- عن عبد الملك بن قيس، عن النَّزَّالِ -وهو ابن سبرة الهلالي. انفرد به البخاري- قَالَ: أَتَى عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ، فَشَرِبَ قَائِمًا فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهْوَ قَائِمٌ، وَإِنِّي رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ.

ثم رواه من طريق آخر عنه، وفيه عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ العَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ

ص: 190

بِمَاءٍ، فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ -وَذَكَرَ رَأسَهُ وَرِجْلَيْهِ- ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهْوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنِّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ.

ثم ساق حديث ابن عباس: شَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا مِنْ زَمْزَمَ.

ثم ترجم باب: باب مَنْ شَرِبَ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ.

ثم ساق حديث أبي النضر سالم، عَنْ عُمَيْرٍ -مَوْلَى ابن عَبَّاسٍ- عَنْ أُمِّ الفَضْلِ بِنْتِ الحَارِثِ -وهي لبابة- أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَشَرِبَهُ. زَادَ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ: عَلَى بَعِيرِهِ.

الشرح:

الذي أراه تقديم الأحاديث الواردة في الباب، ثم أجمع بينها فأقول: روى الترمذي مصححًا، عن كبشة: دخل عليَّ رسول الله فشرب من في قربة معلقة

(1)

.

وروته كلثم أيضًا أخرجه أبو موسى المديني في كتابه "معرفة الصحابة" من حديث يزيد بن جابر، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدته كلثم قالت: دخل عليَّ رسول الله فشرب من قربة معلقة وهو قائم.

ورواه ابن عمر: كنَّا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام. أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب، من حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. قال: وروي هذا الحديث أبو البزري، عن ابن عمر

(2)

.

(1)

"سنن الترمذي"(1892)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1542).

(2)

"سنن الترمذي"(1881)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1533).

ص: 191

وهذا أخرجه (صاحب "المنتقى" ابن الجارود)

(1)

(2)

الذي زاده على الصحيحين، وابن حبَّان في "صحيحه"

(3)

.

ورواه سعد بن أبي وقاص أنه عليه السلام كان يشرب قائمًا، أخرجه الضياء

(4)

في "صحيحه"

(5)

.

وعبد الله بن أنيس أخرجه الطبراني عن الحسن بن عبد الأعلى، وآخر معه عن عبد الرَّزاق، عن عبد الله بن عمر، عن عيسى بن عبد الله ابن أنيس، عن أبيه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى قربة معلقة فخنثها ثم شرب وهو قائم

(6)

.

وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله شرب قائمًا وقاعدًا. أخرجه الترمذي وقال: حسن

(7)

.

وعائشة: أنه عليه السلام شرب قائمًا وقاعدًا أخرجه أبو عليٍّ الطوسي من حديث الزبيدي قال: حدثني مكحول: أن مسروق بن الأجدع حدثه عن

(1)

في الأصل: (صاحب "المنتقى" في جاروده) وهو تحريف؛ ولذا ورد بهامش الأصل ما نصه: ("المنتقى" لابن الجارود كذا أعرفه) قلت: والمثبت الأنسب للسياق.

(2)

رواه ابن الجارود في "المنتقى"(867).

(3)

"صحيح ابن حبان" 12/ 141 (5322).

(4)

ورد بهامش الأصل ما نصه: ضياء الدين المقدسي محمد بن عبد الواحد صاحب الصناعة بصالحية دمشق.

(5)

"المختارة" 3/ 215 (1016، 1017).

(6)

لم أقف على طريق الحسن بن عبد الأعلى، عن عبد الرزاق في المعاجم الثلاثة، ثم وجدت الطريق الآخر عنده في "الأوسط" 3/ 8 (2306) قال: ثنا إبراهيم قال: أنا عبد الرزاق به. وقال: لا يروى هذا الحديث عن عبد الله بن أنيس إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبد الرزاق. اهـ.

(7)

رواه الترمذي في "سننه"(1883)، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي"(4276)، وحسنه في "مختصر الشمائل"(177).

ص: 192

عائشة، ثم قال: حديث غريب.

وأم سليم أخرجه ابن شاهين من حديث ابن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عبد الكريم -يعني: الجزري- عن البراء ابن بنت أنس، عن أنس: أن أم سليم حدثتهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليهم فأتي بقربة فشرب قائمًا

(1)

.

وعنده أيضًا أنه عليه السلام مرَّ ببرمة تفور بلحم فأخذ منهم قطعة، فلم يزل يلوكها حتى دخل في الصف.

وأم المنذر قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولي دوالٍ معلقة فقام فأكل منها، أخرجه أبو داود بإسناد حسن

(2)

.

وأخرجه ابن أبي عاصم من حديث ابن عباس أنه عليه السلام كان يمر بالقدر فيتناول منها العرق فيصيب منه وهو يريد الصلاة.

ولأبي محمد بن أبي حاتم الرازي بإسناد جيدٍ من حديث عبد الله بن السائب بن خباب، عن أبيه، عن جده قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام إلى فخار فيها ماء فشرب قائمًا.

وفيه آثار عن الصحابة، وغيرهم أيضًا:

ففي "الموطأ": أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفَّان وعليَّ بن أبي طالب رضي الله عنهم كانوا يشربون قيامًا، وكان سعد بن أبي وقاص وعائشة رضي الله عنهما لا يريان بذلك بأسًا

(3)

.

وعن أبي جعفر القاري قال: رأيت عبد الله بن عمر يشرب سويقًا قائمًا. وعن عامر بن عبد الله بن الزبير: أن أباه شرب وهو قائم.

(1)

"الناسخ والمنسوخ"(572).

(2)

"سنن أبو داود"(3856) وحسنه الألباني في "الصحيحة"(59).

(3)

"الموطأ" 1/ 576.

ص: 193

وفي "المصنف" لوكيع بن الجراح، عن عباد بن منصور قال: رأيت سالم بن عبد الله شرب وهو قائم.

وحدثنا ابن عجلان قال: سألت إبراهيم عن الشرب قائمًا؟ فقال: لا بأس به، إن شئت قائمًا، وإن شئت قاعدًا

(1)

.

وفي "مصنف بن أبي شيبة" حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن واقد، عن زاذان أنه قال: لا بأس بالشرب قائمًا.

وحدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا أبو سعيد الهمذاني قال: رأيت الشعبي يشرب قائمًا وقاعدًا.

وحدثنا غندر، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة قال: سألت طاوسًا وسعيد بن جبير عن الشرب قائمًا، فلم يريا به بأسًا.

وحدثنا يحيى بن يمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: قال لي سعيد بن جبير: اشرب قائمًا.

وحدثنا أبو الأحوص، عن عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب قال: رأيت الحسين بن عليِّ يشرب قائمًا. وحدثنا حفص بن غياث، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنَّا نشرب ونحن قيام، ونحن نمشي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

، وسلف عن الترمذي

(3)

.

وقد روي خلاف ذلك؛ وكأن البخاري لمحه بالترجمة مما ليس على شرطه، ففي أفراد مسلم من حديث همَّام، عن قتادة، عن أنس أنه عليه السلام

(1)

رواه عنه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 100.

(2)

هذِه الآثار بتمامها رواها ابن أبي شيبة 5/ 99 - 100.

(3)

سبق تخريجه آنفًا.

ص: 194

زجر عن الشرب قائمًا

(1)

. وله أيضًا عن همَّام، ثنا قتادة، عن أبي عيسى الأسواري، عن أبي سعيد مثله

(2)

. وله أيضًا من حديث أبي غطفان المري سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشربن أحدكم قائمًا من نسي فليستقئ"

(3)

.

وللأثرم، عن معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح عنه مرفوعًا:"لو يعلم الذي يشرب قائمًا لاستقاءه"

(4)

.

وفي حديث أبي زياد، عن أبي هريرة: أن رجلاً شرب قائمًا، فقال له عليه السلام:"أتحب أن يشرب معك الهرُّ؟ " قال: لا. قال: "قد شرب معك من هو شر منه الشيطان"

(5)

.

وللترمذي من حديث سعيد، عن قتادة، عن أبي مسلم الجذمي، عن الجارود بن المعلى أنه عليه السلام نهى عن الشرب قائمًا.

ثم قال: حسن غريب، وهكذا روى غير واحد هذا الحديث

(6)

.

وروي عن قتادة، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن أبي مسلم، عن الجارود أنه عليه السلام قال:"ضالة المؤمن حرق النار"

(7)

وقد سلف عن أم قيس خلافه، وذكر أنه روى ذلك أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية

(1)

مسلم (2024) كتاب: الأشربة، باب: كراهية الشرب قائمًا.

(2)

مسلم (2025) كتاب: الأشربة، باب: كراهية الشرب قائمًا.

(3)

مسلم (2026) كتاب: الأشربة، باب: كراهية الشرب قائمًا.

(4)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 228.

(5)

رواه أحمد 2/ 301، والدارمي 2/ 1351 (2174).

(6)

"سنن الترمذي"(1881).

(7)

أحمد 5/ 80 ورواه النسائي في "الكبرى" 3/ 415، وغيرهم وصححه الألباني في "الصحيحة"(620).

ص: 195

شريك، عن حميد عنه وهو مروي في "مسند البزار": أنه شرب لبنًا، فقال: فقد يدعى النسخ لكن يحتاج إلى معرفة التاريخ.

قال الأثرم في "ناسخه": حديث أنس في الكراهة جيد الإسناد إلا أنه قد جاء عنه خلافه وأنه عليه السلام شرب وهو قائم، فلما جاءت عنه أحاديث الرخصة فقد يمكن أن يكون هذا أصح الخبرين، وإن كان حديث الكراهة أثبت، ألا ترى أنه ربما روى الليث حديثًا فيخالفه فيه من هو دونه فتكون رواية من هو دونه أصوب، وليس ذلك في كل شيء، وسيفتح لك منه بابًا قد كان سالم يقدم على نافع، وقد قدم نافع في أحاديث على سالم فقيل: نافع هو فيها أصوب. وكان سفيان بن سعيد يقدم على شريك في صحة الرواية تقديمًا شديدًا، ثم قضي لشريك على سفيان في حديثين ومثله نمير.

وأمَّا حديث أبي عيسى الأسواري، عن أبي سعيد فليس هو بالمشهور بالعلم ولا نعرف له عن أبي سعيد غير هذا الحديث وآخر

(1)

. وقال أحمد: لا أعلم روى عن أبي عيسى غير قتادة

(2)

ومن كان موصوفًا بهذا من غير أصحابه، كما لا يقبل حديثه جماعة من العلماء.

وأمَّا حديث أبي هريرة فقد سلف في لفظ ما يوجب التوقف عن العمل به لاسيَّما ورواية عمر بن حمزة

(3)

وهو ممن قال فيه أحمد:

(1)

"الناسخ والمنسوخ" 1/ 229 - 230.

(2)

انظر: "الجرح والتعديل" 9/ 412.

(3)

يشير المصنف إلى ما رواه مسلم في "صحيحه"(2026) بلفظ "لا يشربن أحد منكم قائمًا، فمن نسي فليستقيء" ورد النووي على من قال بتضعيف الحديث أو نسخه فقال في "شرح مسلم" 13/ 195: وليس في هذِه الأحاديث (يقصد أحاديث النهي عن الشرب قائمًا) بحمد الله تعالى إشكال ولا فيها ضعف بل كلها صحيحة والصواب فيها أن النهي محمول على كراهة التنزيه ..

ص: 196

أحاديثه مناكير

(1)

، وضعفه جماعة منهم ابن معين والنسائي

(2)

.

ولمَّا ذكر الأثرم حديث معمر، عن الأعمش المذكور قبل، قال: كان معمر يضطرب في حديث الأعمش ويخطئ فيه، وقد تفرد به هنا، وأيضًا أبو زياد ليس المشهور في الحديث ولا أعرف له عن أبي هريرة غيره، ثم أبين من ذلك أنه سُئل أبو هريرة عن الشرب قائمًا؟ فقال: لا بأس به، فكان هذا الخبر ساقطًا

(3)

؛ إذ لا يجوز لأبي هريرة ولا لغيره من المسلمين أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا ويفتي بخلافه؛ إلاَّ لشيء ظهر له.

وقد ذكر الطَّحاوي في "مشكله" ما يبين العلة في كراهة الشرب قائمًا، وهو أنه شرب ولم يسم، فقال له عليه السلام الحديث

(4)

.

وأمَّا قول المازري عن بعض الشيوخ: الأظهر أنه موقوف على أبي هريرة

(5)

. فلا يساوي سماعه؛ لأن الأحاديث لا ترد بالاحتمالات، قال: ولا خلاف بين أحد من أهل العلم أنه ليس عليه أن يستقيء.

وأمَّا حديث الجارود فقد رده الطوسي بأنه لمَّا ذكر حديث ابن الشخير إثر حديث قتادة، عن أبي مسلم قال: هو أشبه.

قال الأثرم: ونرى مع هذا أنه إن كانت الكراهة بأصل ثابت أن الرخصة بعدها؛ لأنَّا وجدنا العلماء من الصحابة على الرخصة

(6)

.

(1)

"علل الحديث" 2/ 506 (3336).

(2)

"تاريخ يحيى بن معين" برواية الدوري 2/ 427، و"الضعفاء" للنسائي ص 84 (470).

(3)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" 1/ 229.

(4)

انظر: "شرح مشكل الآثار" 6/ 438 - 445 وليس فيه التصريح بذلك.

(5)

"المعلم بفوائد مسلم" 2/ 217.

(6)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" 1/ 230.

ص: 197

ولئن سلمنا صحة الكراهة فيكون محمولًا على الإرشاد والتأديب لا على التحريم، كما ذكره الطبري في "تهذيبه"؛ قال: ولم يرد أحد الخبرين ناسخًا للآخر، ولا يجوز أن يكون منه عليه السلام تحريم شيء بعد إطلاقه أو عكسه، ثم لا يعلم أمته أي ذلك الواجب عليهم العمل به.

وقد روي في سبب النهي عن ذلك حديث فيه نظر رواه بقية عن إسحاق بن مالك، عن محمد بن إبراهيم، عن الحارث بن فضيل، عن جعفر بن عبد الله، عن ابن عمر مرفوعًا:"من أصابه داء في إحدى ثلاث لم يشف: أن يشرب قائمًا، وأن يمشي في نعل واحدة أو يشبِّك بين أصابعه"

(1)

.

وهذا الحديث وإن كان مما لا يعتمد عليه لضعفه، فإن كان في الإجماع حجة على أن النَّهي عن الشرب قائمًا على غير وجه التحريم، منهم من أوَّله وذكر أبو الفرج الثقفي في "نصرة الصحاح" أنه أراد بقوله: قائمًا: ماشيًا، قال تعالى:{إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] أي: مواظبًا بالمشي عليه، والعرب تقول: قم في حاجتنا. أي: امش فيها.

ويقال: قام في هذا الأمر وقعد. وتكون علته أنه لا يتمكن من الشرب فندب الشارع إلى الطمأنينة للتمكن منه.

وذهب بعضهم -فيما حكاه القرطبي- إلى أن النهي عن ذلك؛ مخافة

(1)

لم أقف عليه مسندًا.

وذكره صاحب "الكنز"(44351) بلفظ: "من أصابه في الجن إحدى ثلاث .. ". الحديث وعزاه لابن جرير في "تهذيب الآثار" ولم أقف عليه في المطبوع منه. ثم قال: سنده ضعيف واهٍ، لا يعتمد على مثله.

ص: 198

شرقة أو يمثل له وجع في كبده أو حلقه، وشربه قائمًا لأمنه من ذلك

(1)

، وقال ابن بطال: إنما رسم البخاري هذا الباب؛ لأنه قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار فيها كراهة الشرب قائمًا، فلم يصح عنده وصحت عنده أحاديث الإباحة في ذلك، وعمل بها الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بها أئمة الفتوى.

وروى الطبري: عن عمر أنه شرب قائمًا، وعن عليِّ وسعد وابن عمر وعائشة وأبي هريرة مثله، وعن إبراهيم وطاوس وسعيد بن جبير مثله أيضًا، وروي عن أنس كراهته، وعن أبي هريرة مثله، وبه قال الحسن البصري. والدليل على جواز أن الأكل مباح قائمًا -وعلى كل حال- فكذلك الشرب

(2)

.

وقال ابن التين: فعله ذلك لبيان الجواز، وكذا قال الخطابي: إنه نهي تأديب؛ لأنه أحسن وأرفق بالشارب.

وقال القرطبي: لم يصر أحد من العلماء إلى أن النهي للتحريم، وإن كان جاريًا على أصول الظاهرية والجمهور على الجواز، فمن السلف أبو بكر وعمر وجمهور الفقهاء متمسكين بشربه عليه السلام قائمًا من زمزم، وكلهم رأوا في هذا الفعل منه متأخرًا عن أحاديث النهي، فإنه كان في حجة الوداع، ورواية ابن عباس وصحبته متأخرة عن صحبة أولئك فهو ناسخ، وتحقق بذلك فعل الخلفاء الأربعة، ويبعد أن يخفى عليهم تلك الأحاديث

(3)

.

(1)

"المفهم" 5/ 286.

(2)

"شرح ابن بطال" 6/ 72.

(3)

"المفهم" 5/ 285.

ص: 199

وقد قال أبو عمر، عن مالك: إذا أعيانا أمر ولا نعرف الناسخ فيه من المنسوخ نظرنا إلى فعل الشيخين، فعلمنا أنه الآخر من الأمرين

(1)

، فكيف بالصحابة الباقين وقد قال عليه السلام:"اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"

(2)

وهذا وإن لم يصلح للنسخ فيصلح لترجيح أحد الحديثين على الآخر، ويكون النهي هنا يقتضي التفرقة ومن خبَّر وهو ابن حزم وزعم أن حديث النهي نسخ الآخر بقوله: لا يحل الشرب قائمًا فأمَّا الأكل مباح، ثم قال: فإن قيل: قد صحَّ عن عليٍّ وابن عباس أنه عليه السلام شرب قائمًا.

قلنا: نعم، والأصل إباحة الشرب على كل حال من قيام وقعود وإضجاع، فلمَّا صحَّ النهي عنه قائمًا كان ذلك -بلا شك- ناسخًا للإباحة، مجال مقطوع به أن يعود المنسوخ ناسخًا ثم لا يثبته، وأقل ما في هذا على أصول المخالفين أن لا يترك اليقين للمظنون وهم على يقين من نسخ الإباحة السابقة، ولمَّ يأت في الأكل نهي إلاَّ عن أنس من قوله

(3)

. فيتوقف.

في قوله كما قدمنا للجهل بالتاريخ، ولأنه لا يصار إلى النسخ إلاَّ مع إمكان عدم الجمع بين الأحاديث.

(1)

"التمهيد" 3/ 353 - 354.

(2)

رواه الترمذي (3662)، وابن ماجه (97) وأحمد 5/ 402 وغيرهم، وقال الترمذي: حسن. من حديث أبي حذيفة بن اليمان. وصححه الألباني في "الصحيحة"(1233).

وفي الباب عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر وصحح الألباني الحديث بشواهده في "الصحيحة"(1233).

(3)

"المحلى" 7/ 519 - 520.

ص: 200

وهنا أمكن كما سلف على أن جماعة من العلماء أثبتوا النسخ، وليس أحد القولين أولى من الآخر، وقد أسلفنا قول الأثرم وغيره، وقال ابن شاهين: هذا حديث مشكل نسخه؛ لأنه قد صحَّ عن الشارع النهي عنه وصحَّ عنه فعله، وأن أصحابه كانوا يفعلون ذلك لإباحة ذلك قائمًا أقرب إلى أن يكون نسخه النهي؛ لأنه لو كان النهي ثابتًا -وهو آخر في الأمرين- لما كان الصحابة يفعلون ذلك، ولو كان شربه قائمًا دون غيره لما جاز لأصحابه أن يشربوا قيامًا؛ لأنهم كانوا يفعلون هذا على عهده عليه السلام، فهذا أشبه أن يكون ناسخًا للنهي.

وفي قول ابن حزم: الشرب قائمًا مكروه لا يحل.

عجبتُ!! يرده فعله عليه السلام وبعده الصحابة والتابعون -ولا تاريخ صحيح- وكذا الأربعة من المذاهب ومن تبعهم؛ ولم يبلغنا عن أحد منهم فيما نعلم كراهته إلاَّ ما حكي عن أبي هريرة وأنس وقد أسلفنا عنهما خلاف ذلك.

وعن الحسن في "مصنف ابن أبي شيبة" وجد كراهته، ولعله إنما كرهه من جهة الطب مخافة ضرر وهو أليق بعلمه ذلك

(1)

.

وقد سلف عن إبراهيم النخعي ذلك، وهذا يوضح لك كراهة الحسن على أنا قدمنا عن إبراهيم عدمها، وهذا من شذوذ ابن حزم من بين الأئمة ولا نعتد به، وقد أفردت المسألة بالتأليف، وأنشدنا بعض شيوخنا:

اشرب قيامًا تابعًا سنن الهدى

ودع ابن حزم والذي يتقوله

فالجزم في هذا المقام خلافه

وهو الصواب أتى به منقوله

(1)

"المصنف" 5/ 101 (24114).

ص: 201

وأمَّا من زعم أن شربه من زمزم كان لعذر الزحام والوحل فغير جيد، وقد قاله هو في مسألة: إن تزوجت فلانة فهي طالق، قالوا: جوزناه؛ لأنه ضيق على نفسه. فأجاب: أين وجدتم أن الضيق يفسخ الحرام؟!

وقد فعل ذلك بالمدينة.

وقال النووي: أمَّا قول عياض: لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب ناسيًا قائمًا ليس عليه أن يتقيأ. وأشار بذلك إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاء لا يمنعوا كونها مستحبة، ثم إنه يستحب لمن شرب قائمًا ناسيًا أو متعمدًا أن يستقيء، وذكر الناسي في الحديث ليس المراد به أن العامد يخالفه بل هو للتنبيه على غيره من باب أولى؛ لأنه إذا أمر به الناسي وهو غير مخاطب فالعامد المكلف للمخاطب أولى

(1)

.

فصل:

وقع في "صحيح مسلم"، قال قتادة: فقلنا: لا يسن الأكل.

قال: ("أشر أو أخبث"

(2)

) بالألف، والمعروف عند علماء العرب شر بدونها، وكذا خير، قال تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24]، وقال:{مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا} [مريم: 75] ولكن هذِه اللفظة وقعت هنا على الشك فإنه قال: أشر أو أخبث فشك قتادة في أن أنسًا قال: أشر أو أخبث، فلا يثبت عن أنس أشرَّ بهذِه الرواية إلاَّ أن تثبت هذِه اللفظة من غير شك هو عربي صحيح، وذلك لغة.

(1)

"مسلم بشرح النووي" 13/ 195 - 196.

(2)

"مسلم"(2024) كتاب: الأشربة، باب: كراهية الشرب قائمًا.

ص: 202

قلت: وقتادة معروف النسب في بني شيبان ولهذا نظير فما لا يكون معروفًا عند النحويين وحارسًا على قواعدهم، وقد صحت به الأحاديث فلا ترد إذا ثبت بل يعلل بقلة الاستعمال، ونحو ذلك إذ لم يحيطوا بكلام العرب، ولهذا يمنع بعضهم ما يفعله غيره عن العرب.

ووقع في كتاب الترمذي: أشد بالدال

(1)

.

فصل:

ترجم البخاري على حديث أم الفضل: باب: الشرب في الأقداح

(2)

أيضًا، وإذا جاز الشرب قائمًا بالأرض فالشرب على الدابة أحرى بالجواز؛ لأن الراكب أشبه بالجالس.

وقوله فيه: (زاد مالك عن أبي النضر: (على بعيره)) يريد به: ما خرَّجه في الحج: عن القعنبي، عن مالك، عن أبي النضر، به

(3)

، وبهذه الرواية طابق الترجمة، ولو لم يعلم أن طوافه عليه السلام كان على بعير، لكان الحديث مستغنيًا عن التعليق ومناسبًا لباب: الشرب من قيام، وقال ابن العربي: قوله: (شرب وهو قائم على بعيره) لا حجة فيه؛ لأن المرء على بعيره قاعد غير قائم.

فصل:

قوله: (على باب الرحبة) هو بإسكان الحاء، قال الجوهري: الرُحب بالضَّم: السعة، والرحب بالفتح: الواسع نقول منه: وبلد رحب وأرض رحبة، ثم قال: والرحبة بالتحريك رحبة المسجد وهي ساحته والجمع: رحبه ورحبات

(4)

.

(1)

"سنن الترمذي"(1879).

(2)

سيأتي قبل حديث (5636).

(3)

سلف برقم (1661) باب: الوقوف على الدابة بعرفة.

(4)

"الصحاح" 1/ 134 مادة (رحب).

ص: 203

فعلى هذا نقرأ ما في الأصل بالسكون، كما قدَّمناه؛ لأنه أراد الأرض المتسعة، أو يريد: أنها صارت رحبة بالكوفة بمنزلة الرحبة للمسجد فتقرأ بالتحريك.

قال ابن التين: وهذا هو البين؛ لأنه تبين في الحديث الثاني: أنه كان جالسًا في رحبة الكوفة، ولا فرق بين رحبة الكوفة ورحبة المسجد.

فصل:

قوله: (ثم قعد في حوائج الناس)، هو قول الأصمعي، وقال: إنه مؤكد وإنما أنكره؛ بخروجه عن القياس، وإلَّا فهو كثير في كلامهم نهارًا، والمرء أمثل حين يقضي حوائجه من الليل الطويل.

وقال ابن فارس أو الجوهري: الجمع: حاج وحاجات وحوائج. قال الجوهري: على غير قياس كأنهم جمعوا: حائجة، وذكر قول الأصمعي المتقدم، وزاد: حوج

(1)

، وقال الهروي: قيل الأصل فيه: حائجة.

وقال ابن ولّاد: الحوجاء: الحاجة، وجمعها: حواجي بالتشديد والتخفيف

(2)

.

قال: ويروى أن حوائج مقلوبة من حواجي، كقولهم: سوائع وسواعي.

(1)

انظر: "مقاييس اللغة" 1/ 268، و"الصحاح" 1/ 308.

(2)

"المقصور والممدود" لابن ولاد ص 32.

ص: 204

‌18 - باب الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ فِي الشُّرْبِ

5619 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وَعَنْ شِمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ، ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَابِيَّ، وَقَالَ:«الأَيْمَنَ الأَيْمَنَ» . [انظر: 2352 - مسلم: 2029 - فتح 10/ 86]

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وَعَنْ شِمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ، ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَابِيَّ وَقَالَ:"الأَيْمَنَ فالأَيْمَنَ" أخرجه مسلم أيضًا

(1)

.

وذلك إكرام للميامن.

قال المهلب: التيامن في الأكل والشرب وجميع الأشياء من السنن أيضًا، وأصله ما أثنى الله به على أصحاب اليمين في الآخرة.

وكان عليه السلام يحب التيامن؛ استشعارًا منه لما شرف الله تعالى به أهل اليمين، ولئلا تكون أفعاله كلها إلاَّ مرادًا بها ما عند الله تعالى وليحتذي حكمة الله تعالى في أفعاله.

وفيه أن سنة المناولة في الطعام والشراب من على اليمين، قال غيره: وما روي عن مالك أنه قال ذلك في الماء خاصة، فلا أعلم أحدًا قاله غيره.

وحديث عائشة أنه عليه السلام كان يحب التيامن في طهوره وتنعله

(2)

وترجله يعم الماء وجميع الأشياء.

(1)

مسلم (2029) كتاب: الأشربة، باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما عن يمين المبتدئ.

(2)

سلف برقم (168) كتاب: الوضوء، باب: التيمن في الوضوء والغسل.

ص: 205

قال ابن عبد البر: ولا يصح ذلك عن مالك

(1)

، قال ابن العربي: وهي رواية أنكرها قوم ووجهها أن الماء مباح الأصل فإذا أخذ الشارب منه حظه رجع الباقي إلى الأصل فيأخذه الأيمن فالأيمن بالفضل بخلاف سائر الأطعمة، ويضعف هذا ما بالماء وإن كان مباح الأصل فإنه إذا صارت عليه اليد اتصل به المالك فصار كسائر الأملاك ولتعارض هذين الأصلين فيه؛ اختلف العلماء في حرمان الربا فيه والقطع في سرقته.

فصل:

وإنما أعطى الأيمن لما أسلفناه من إكرام الميامن.

وقال القرطبي: إنما أعطاه ليتألفه فإنه كان من كبراء قومه، ولذلك جلس عن يمينه؛ ولأن ذلك سُنَّة وهو الأظهر

(2)

.

قلت: الأعرابي لعله سبق إلى اليمين ولذلك لم يقمه لأجل الصديق فإنه سبقه به بخلاف الصَّلاة لقوله: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى"، ألا ترى أن عبد الله -كما في الترمذي، وهو الصحيح- أو الفضل، كما قال ابن التين، وهو غلام، لما سبق وجلس عن يمينه وجلس أبو بكر عن يساره، وأتي بماء فشرب، فقال له عمر: أعط أبا بكر، فأعطاه عبد الله وليس هو بأكبر ولا بأحق من الصديق، أو أراد أن الأعرابي لا يستوحش في صرف ذلك إلى أصحابه، أو ربما سبق إلى قلبه شيء يهلك لقرب عهده بالجاهلية وعدم معرفته بخلقه.

(1)

"الاستذكار" 2/ 21 - 23.

(2)

"المفهم" 5/ 290.

ص: 206

وفي "صحيح مسلم" قال أنس: فهي سنة

(1)

فإن لم يكن على اليمين أحد فالأكبر؛ لقوله عليه السلام في حديث حويصة ومحيصة "الكبر الكبر"

(2)

وهو عموم لا يجوز العدول عنه إلاَّ بنص صحيح؛ لحديث أم الفضل الذي تقدم وأنه شرب بحضره الناس ولم يناول أحدًا.

وحديث امرأة أبي أسيد فإنها خصته عليه السلام بشيء سقته به.

فصل:

وقوله: "الأيمن فالأيمن" ضبط بالرفع على تقدير الأيمن أحق، وبالنصب على أعط الأيمن.

وفي رواية: "الأيمنون" وهو ترجيح للرفع.

(1)

مسلم (2029) كتاب: الأشربة، باب: استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما.

(2)

سلف برقم (3173).

ص: 207

‌19 - باب هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الشُّرْبِ لِيُعْطِيَ الأَكْبَرَ

؟

5620 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ:«أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟» . فَقَالَ الْغُلَامُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا. قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ. [انظر: 2351 - مسلم: 2030 - فتح 10/ 86]

ذكر فيه حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ:"أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هؤلاء؟ ". فَقَالَ الغُلَامُ: والله يَا رَسُولَ اللهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا. قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ.

قد سلف أن الغلام هو: عبد الله بن عباس على الأصح، ومعنى (تله في يديه): ألقاه ووضعه في يده. قال الخطابي: بعنف، وأنكره بعض أهل اللغة

(1)

، ومعنى وتله للجبين أي: صرعه كما تقول: كبه لوجهه.

والأشياخ: خالد بن الوليد، نقل من طرق، وأخرجه الحميدي، عن سفيان، ثنا عليُّ بن زيد بن جدعان، عن عمر بن حرملة، عن ابن عباس قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالتي ميمونة ومعي خالد بن الوليد فقدمت إلينا ضبابًا مشوية، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل ثلاث مرات ولم يأكل منها وأمرنا أن نأكل، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فيه لبن -وأنا عن يمينه وخالد عن يساره- فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشربة لك يا غلام،

(1)

الذي ذكره الخطابي في "أعلام الحديث" 2/ 1218: معناه: دفعه إليه وأصل التل: ضربك الشيء على المكان بقوة.

ص: 208

وإن شئت آثرت بها خالدًا"، فقال: ما كنت لأؤثر بسؤر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا، ثم قال عليه السلام: "من أطعمه الله طعامًا فليقل: اللهمَّ بارك لنا فيه وزدنا منه، فإني لا أعلم شيئًا يجري مجرى الطعام والشراب غيره"

(1)

.

فصل:

ومن الفقه أن من وجب له حق لا يؤخذ منه إلاَّ بإذنه، فلذلك قال الغلام: ما قال تبركًا بفضله.

قال المهلب: واستئذانه صاحب اليمين من باب الإيثار بالسنن فإن أذن آثر على نفسه وإلا فله فضل ماشح عليه من شريف المكان، وقال الإمام: لا تجوز التبرعات بالقرب والعبادات، وتجوز في المهج والنفوس ويجزئه ما نحن فيه، وكذا جذب واحد من الصف مع استحباب مباعدته؛ وفي هذا دليل أن من سبق إلى مجالسة الإمام والعالم أنه لا يقم لمن هو أحق منه؛ لأنه عليه السلام لمَّا لم يقم ذلك الأعرابي لأبي بكر ولا الغلام للشيخ علم أن من سبق إلى موضع من العالم أو المسجد أو غيره مما حقوق الناس فيه متساوية أنه أحق به.

قال غيره: وقوله: "كبر كبر" في غير هذا الحديث، إنما ذلك إذا استوت حال القوم في شيء واحدٍ؛ فحينئذ يبتدأ بالأكبر.

وأمَّا إذا كان لبعضهم فضل على بعض في شيء فصاحب الفضل أولى بالتقدمة، (وسيأتي)

(2)

في المياه، في باب: من رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة، شيء من الكلام في هذا الحديث.

(1)

"مسند الحميدي" 1/ 432 (488).

(2)

ورد بهامش الأصل: ينبغي أن نقول: وتقدم؛ لأن الباب المشار إليه تقدم في الشرب، فاعلمه.

ص: 209

‌20 - باب الْكَرْعِ فِي الْحَوْضِ

5621 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَسَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبُهُ، فَرَدَّ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. وَهْيَ سَاعَةٌ حَارَّةٌ، وَهْوَ يُحَوِّلُ فِي حَائِطٍ لَهُ -يَعْنِي: الْمَاءَ- فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنَّةٍ وَإِلاَّ كَرَعْنَا» . وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي مَاءٌ بَاتَ فِي شَنَّةٍ. فَانْطَلَقَ إِلَى الْعَرِيشِ فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ مَاءً، ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ، فَشَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَعَادَ، فَشَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ. [انظر: 5613 - فتح 10/ 88]

ذكر فيه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أَنَّه صلى الله عليه وسلم دَخَلَ على رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَسَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبُهُ، فَرَدَّ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. وَهْيَ سَاعَةٌ حَارَّةٌ، وَهْوَ يُحَوِّلُ فِي حَائِطٍ .. الحديث. وقد سلف ذلك قريبًا

(1)

.

والكرع بالتحريك: ماء السماء يكرع فيه. وقد أسلفنا أن معنى "وإلَّا كرعنا" تعني: أخذنا الماء بأفواهنا من غير آلة.

قال ابن سيده: كرع: تناول بفيه من غير إناء. وقيل: هو أن يدخل النهر ثم يشرب، وقيل: هو أن يصوب رأسه في الماء وإن لم يشرب

(2)

.

وفي الجامع: كل خائض ماء كارع شرب أو لم يشرب، (والكرع: الشرب)

(3)

.

(1)

سلف برقم (5613).

(2)

"المحكم" 1/ 163 باب: العين والكاف والراء.

(3)

من (غ).

ص: 210

وقد أسلفنا عن "الصحاح" أن فيه لغة كرع بالكسر

(1)

.

وفي "التهذيب": كرع في الإناء: إذا مال نحوه عنقه فشرب منه

(2)

.

قال ابن حزم: الكرع مباح إذ لم يصح فيه نهي ولا أمر

(3)

.

وروى ابن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل حديثًا لو صح لكان معارضًا لحديث الباب، وهو ثنا ليث بن أبي سليمان، عن سعيد بن عامر، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم واشربوا فيها فإنه ليس من إناء أطيب من اليد"

(4)

، ورواه ابن ماجه من حديث بقية، عن مسلم بن عبد الله، عن زياد بن عبد الله، عن عاصم بن محمد بن عمر، عن أبيه، عن جده بلفظ: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا وهو الكرع، ونهانا أن نشرب باليد الواحدة، وقال:"لا يلغ أحدكم كما يلغ الكلب ولا يشرب باليد الواحدة كلما يشرب القوم الذين سخط الله عليهم ولا يشرب بالليل في إناء حتى يحركه إلاَّ أن يكون مخمرًا .. " الحديث

(5)

.

قال

(6)

ابن عساكر: كذا قال عاصم بن محمد بن عمر، وإنما هو عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر.

(1)

"الصحاح" 3/ 1275 مادة: (كرع).

(2)

"تهذيب اللغة" 4/ 3130 مادة: (كرع).

(3)

"المحلى" 7/ 521.

(4)

"المصنف" 5/ 109 (24207)، وقال البوصيري في "زوائده" 1/ 445: هذا إسناد ضعيف لضعف ليث. اهـ وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2845).

(5)

"سنن ابن ماجه"(3433)، وقال البوصيري في "الزوائد" 1/ 445: هذا إسناد ضعيف لتدليس بقية فيه وقد عنعنه.

(6)

ورد بهامش الأصل: الذي في أصلنا بابن ماجه: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا، وهو الكرع، ونهانا أن نغترف باليد الواحدة، وقال: "لا يلغ =

ص: 211

‌21 - باب خِدْمَةِ الصِّغَارِ الكِبَارَ

5622 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا على الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ -عُمُومَتِي وَأَنَا أَصْغَرُهُمُ- الْفَضِيخَ، فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ. فَقَالَ: أَكْفِئْهَا. فَكَفَأْنَا. قُلْتُ لأَنَسٍ: مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ. فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ.

وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ. [انظر: 2464 - مسلم: 1980 - فتح 10/ 88]

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه كُنْتُ قَائِمًا عَلَى الحَيِّ أَسْقِيهِمْ عُمُومَتِي .. الحديث سلف قريبًا

(1)

.

= أحدكم كما يلغ الكلب، ولا يشرب بالليل من إناءِ حتى يحركه إلا أن يكون إناءً مخمرًا ومن شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد التواضع كتب الله له بعدد أصابعه حسنات، وهو إناء عيسى بن مريم إذ طرح القدح فقال:[(أف) غير واضحة بالأصل والمثبت من "سنن ابن ماجه"] هذا مع الدنيا. انتهى الحديث.

(1)

سلف برقم (5583) باب: نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر.

ص: 212

‌22 - باب تَغْطِيَةِ الإِنَاءِ

5623 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ -أَوْ أَمْسَيْتُمْ- فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ، فَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ» . [انظر: 3280 - مسلم: 2012 - فتح 10/ 88]

5624 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ - وَأَحْسِبُهُ قَالَ: - وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيْهِ» . [انظر: 3280 - مسلم: 2012 - فتح 10/ 89]

ذكر فيه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كانَ جُنْحُ اللَّيْلِ -أَوْ أَمْسَيْتُمْ- فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ .. الحديث وفيه: "وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ".

وفيه: "أَطْفِئُوا المَصَابِيحَ .. وَأغَلِّقُوا الأَبْوَابَ" إلى أن قال: "وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ -وَأَحْسِبُهُ قَالَ:- وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيْهِ" أخرج الأول في (صفة إبليس) والثاني في (الاستئذان)

(1)

.

وقد سلف الكلام في باب شرب اللبن على هذا الحديث.

قال المهلب: خشي الشارع على الصبيان عند انتشار الجن أن يلم بهم فيصرعهم فإن الشيطان قد أعطى قوة على هذا، وأعلمنا الشرع أن

(1)

الأول: سلف برقم (3280) كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده. الثاني: سيأتي برقم (6296) باب: غلق الأبواب بالليل.

ص: 213

التعرض للفتن مما لا ينبغي، وأن الاحتراس منها أحزم على أن ذلك الاحتراس لا يرد قدرًا، ولكن لتبلغ النفس عذرتها، ولئلا يسبب له الشيطان إلى لوم نفسه في التقصير.

وأمَّا قوله: "فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا" فهو إعلام منه أن الله لم يعطه قوة على هذا، وإن كان أعطاه ما هو أكبر منه وهو الولوج حيث لا يلج الإنسان وسيأتي موضحًا في باب غلق الأبواب بالليل في آخر الاستئذان.

والوكاء

(1)

والتخمير دلائل على أن الاستعاذة تردع الشيطان، [وإنما أمر بتغطيته الإناء لحديث جابر الذي أسلفناه هناك.

وأمَّا إطفأ السراج: فقد بيَّنه]

(2)

في غير هذا الحديث، قال من أجل الفويسقة وهي الفأرة، فإنها تضرم على الناس بيوتهم، ولعله أسماها: فويسقة؛ لفسادها وأذاها، وستأتي زيادة في هذا المعنى في الاستئذان في باب: لا تترك النار في البيت عند النوم.

وفيه: أن أوامره عليه السلام قد تكون لمنافعنا لا لشيء من أمر الدين.

فصل:

الإناء: واحد الآنية بكسر الأول ممدود، كسقاء وأسقية ورداء وأردية، ويجمع على أوان، كإساق.

وجنح الليل: إقباله. قال ابن فارس: جنح الليل، وجنحه: طائفه منه

(3)

.

(1)

وقع بهامش الأصل: لعله (والايكاء).

(2)

من (غ).

(3)

"مجمل اللغة" 1/ 199 (جنح).

ص: 214

و (القرب) للماء خاصة، كما قاله ابن السكيت، قال الجوهري: وهي ما يستقى بها، والجمع في أدنى العدد وقِرَبات وقِرِبات وقِرْبات، وللكثير: قِرَبٌ.

قال: وكذلك [جمع]

(1)

كل ما كان على فِعْلَةٍ مثل سِدْرَة لك أن تفتح العين وتكسر وتسكن

(2)

.

وتعرض: بضم الراء وكسرها- كما سلف.

(1)

من "الصحاح" وليست في الأصل.

(2)

"الصحاح" 1/ 199 مادة: قرب.

ص: 215

‌23 - باب اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ

5625 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ. يَعْنِي: أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا. [5626 - مسلم: 2023 - فتح 10/ 89]

5626 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: قَالَ مَعْمَرٌ أَوْ غَيْرُهُ: هُوَ الشُّرْبُ مِنْ أَفْوَاهِهَا. [انظر: 5625 - مسلم: 2023 - فتح 10/ 89]

ذكر فيه حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ. يَعْنِي: أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا.

وفي رواية: نهَى عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسقِيَةِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ -يعني: الراوي، عن يونس-: قَالَ مَعْمَرٌ أَوْ غَيْرُهُ: هُوَ الشُّرْبُ مِنْ أَفْوَاهِهَا. وأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي

(1)

.

اسم أبي سعيد: سعد بن مالك بن سنان، وفيه ابن أبي ذئب، واسمه: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث، أبو الحارث فقيه أهل المدينة، ممن كان يأمر بالمعروف.

وفي رواية لابن أبي عاصم -بإسناد صحيح- قال: شرب رجل من في السقاء وهو قائم فانساب في بطنه جان، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية.

(1)

مسلم (2023) كتاب: الأشربة، باب: آداب الطعام والشراب وأحكامهما، وأبو داود (3720)، والترمذي (1890)، وابن ماجه (3418).

ص: 216

ولابن ماجه من حديث سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية أن تشرب من أفواهها وأن رجلاً- بعد ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قام من الليل إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حيَّة

(1)

، وأصله عند الترمذي مصحح

(2)

، قال الأثرم: وفي هذا بيان ما ذكرنا من أن النهي كان بعد الفعل، وإنهم كانوا يفعلونه على ما في حديث كبشة: أنه عليه السلام شرب من فم قربة

(3)

، وكذا رواه أنس بن مالك حتى نهوا عنه

(4)

.

قال ابن حزم: فإن قيل أنه عليه السلام شرب من فم قربة، قلنا: لا حجة في شيء منه؛ لأن أحدها من طريق الحارث بن أبي أسامة

(5)

، وقد ترك، وفيه البرَّاء ابن بنت أنس، وهو مجهول، قلت: لا بل حالته معلومة بالثقة فيما ذكره ابن حبَّان، وآخر من طريق يزيد بن (حارثة)

(6)

، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، ولا أعرفه قلت: ابن أبي عمرة معروف

(1)

"سنن ابن ماجه"(3419).

وقال البوصيري في "زوائده" ص 444: في إسناده زمعة بن صالح وهو ضعيف وشيخه مختلف فيه.

وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(744).

(2)

"سنن الترمذي"(1890).

(3)

رواه الترمذي (1892)، وابن ماجه (3423)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 6/ 138 ووقع عنده: أم كبشة بدلاً من: كبشة وهو خطأ، وابن حبان في "صحيحه" 12/ 138 (5318) وغيرهم، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2763).

(4)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 232.

(5)

رواه الحارث في "مسنده" كما في "بغية الباحث" ص 166 (517، 518).

(6)

كذا بالأصول والصواب جابر وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 32/ 273 واسمه يزيد بن يزيد بن جابر.

ص: 217

وحديثه عند الجماعة وأثنى عليه غير واحد- وآخر من طريق رجل لم يسم ثم لو كان ذلك صحيحًا كانت تكون موافقة للمعهود بالأصل، والنهي بلا شك إذا ورد ناسخ لتلك الإباحة بلا شك ومن المحال أن يعود المنسوخ ناسخًا أو لا يأتي بذلك بيان حكم، ثم ذكر أنه صح عن ابن عمر أنه شرب من فم إداوة

(1)

.

وروى ابن وهب: فيه علة أخرى وهي أنه ينتنه

وروي عن ابن عياض، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أنه عليه السلام نهى أن يشرب من في السقاء؛ وقال: إنه ينتنه

(2)

.

قال ابن التين: فأظن أن هذِه الأخبار لم تبلغ مالكًا، فلذلك أجاز الشرب من أفواهها، وقال: ما بلغني فيه نهي، قيل: فمن ثلمة القدح وما يلي الأذن.

قال: قد سمعت فيه سماعًا وما علمت عنه شيئًا، وكأنه يضعفه. وذلك أن الترمذي روى عن عبد الله بن أبي قتادة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى قربة معلقة فحلها ثم شرب من فيها

(3)

.

وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري: أنه عليه السلام نهى عن الشرب من ثلمة القدح، والنفخ في الشراب

(4)

، وقال مالك: يكره النفخ في الطعام والشراب جميعًا

(5)

.

(1)

"المحلى" 7/ 519.

(2)

لم أقف عليه من طريق ابن عياض ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 429، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 276.

(3)

"سنن الترمذي"(1891) من حديث عبد الله بن أبي أنيس عن أبيه وليس من حديث عبد الله بن أبي قتادة.

(4)

"سنن أبي داود"(3722)، وصححه الألبانى في "الصحيحة"(388).

(5)

"المنتقى" 7/ 237.

ص: 218

وقد تحصلنا على معنيين: إمَّا أن يكون فيه حيوان، وفي معناه: قذى يبتلعه.

وإمَّا لنتن أفواهها، وقذى ضمها ابن العربي وذكره مالك عن النص. و (أبدى) بالباء وهو لئلا يغلبه الماء فيقع عليه أكثر من حاجته فيشرق أو يبتل ثيابه، وواحدها يكفي، ومجموعها أقوى في المعنى.

وشربه عليه السلام، قالوا: للضرورة، أو كانت حال ضرر لعدم الإناء، ولم يعط الحال التمكين من التفريع معه، لكن كان شربه في بيت وهي حالة تمكن لا ضرر أو لعلمه إنما شرب من إداوة.

والنهي محمول على القربة الكبرى ونحتاج إلى مزيد نقل من أهل اللغة، ثم إن شربه من فيها جائز لطيب نكهته وعصمته من أذى الحيوان وأمنه بتلطفه عن صب الماء، وقال المهلب: معنى هذا النهي -والله أعلم- على وجه الأدب؛ لجواز أن يكون في أفواهها حية أو بعض الهوام لا يراها الشارب فيدخل جوفه، وقد قيل: إن ذلك على سبيل التقذر؛ لأنه لا يدخلها فيه.

فائدة:

تقول العرب: خنثت السقاء وانخنث السقاء إذا مال، ومنه قيل للمخنث: مخنث؛ لتكسره وميله إلى شبه النساء.

فصل:

قوله: (يعني: تكسر أفواهها فيشرب منه).

قال الخطابي: أحسب هذا التفسير عن الزهري، ومن هنا اشتق المخنث؛ لتكسره وتثنيه.

وقوله: (أفواهها) جمع (فمًا) على أفواه؛ لأن أصل فم: فوه تقضب منه الهاء؛ لاستثقالهم اجتماع هائين في قولك: هذا فوهه بالإضافة،

ص: 219

فحذفوا الهاء فلم تحتمل الواو الإعراب لسكونها فعرضوا بها الميم، فإذا صغرت أو جمعت رددته إلى أصله، فقلت: فويه- وأفواه، ولا تقل: أفمام.

وفيه لغات: - فتح الفاء منه رفعًا ونصبًا وجرًا وكسرها مطلقًا، ومنهم من يعرفه في مكانين فيقول: رأيت فمًا، وهذا فم، وعجبت من فم.

وأمَّا تشديد الميم فيجوز في الشعر، كقوله:

يا ليتها قد خرجت من فمِّه

حتى يعود الملك في إسطمه.

قال ابن السكيت: ولو قيل من فمه بفتح الفاء لجاز

(1)

.

وقال ابن فارس: يقال: فم بالضم والتشديد

(2)

.

ولم يكن ضرورة شعر، وهو ما في "الصحاح"

(3)

.

(1)

"إصلاح المنطق" 1/ 84 وفيه لو قيل بضم الفاء وليس كما ذكر المصنف.

(2)

"مجمل اللغة" 3/ 70 (فم).

(3)

"الصحاح" 5/ 2004 (فم).

ص: 220

‌24 - باب الشُّرْبِ مِنْ فَي السِّقَاءِ

5627 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ: قَالَ لَنَا عِكْرِمَةُ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ؟ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ -أَوِ السِّقَاءِ- وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي دَارِهِ. [انظر: 2463 - مسلم: 1609 - فتح 10/ 90]

5628 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ. [انظر:2463 - مسلم: 1609 - فتح 10/ 90]

5629 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ. [فتح 10/ 90]

ذكر فيه حديث عِكْرِمَةَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؟ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ القِرْبَةِ -أَوِ السِّقَاءِ- وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خشبه فِي جداره.

وعنه: عن أبي هريرة أيضًا: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ.

وعنه: عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ.

الشرح:

سلف في الباب قبله أن النهي عن الشرب من في السقاء نهي أدب لا تحريم، وسلف الجواب عما عارضه.

وروي عن أبي سعيد الخدري: أن رجلاً شرب من في السقاء فانساب جان في بطنه، فنهى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية

(1)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 101 (24117) والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 285.

ص: 221

وهذا يدل أن من فعل ذلك ليس بحرام عليه شربه، قال ابن المنير: لم يستغن البخاري بالترجمة التي قبلها وعدل عنها؛ لاحتمال أن يظن أن النهي مطلق فيما يختنث، وفيما لا يختنث كالفخار مثلًا

(1)

، وترجم باب الشرب والمقصود النهي عنه لكن لمَّا كان أصل النهي وقوع المنهي عنه جاز ذلك، فكأنه قال: ما جاز في هذا الفعل الذي وقع في النهي.

فصل:

قوله: من فم، وقال: مرة من في، والفم لا يخلو أن يفرد فتلزمه الميم المعوضة من الواو ويضاف إلى ميم قبله فيكون معربًا بالحروف، ولا تدخله الميم إلاَّ في الشعر، كقوله:

يصبح ظمآن عطشان وفي البحر فمه.

وإن أضفته إلى اسم مضمر ظاهر جاز لك الوجهان: اثبات الميم وإعرابه بالحركات، وحذفها وإعرابه بالحروف.

فصل:

وقوله: وأن يمنع جاره أن يضع خشبه في جداره، هو عندنا وعند مالك محمول على الاستحباب والقديم عندنا وجوبه، وبه قال ابن حبيب وغيره: دليلنا قوله عليه السلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلَّا بطيب نفس منه"

(2)

وقياسًا على ما لو أراد أن يفتح فيه بابًا أو كوةً.

(1)

"المتواري" 1/ 219.

(2)

رواه أحمد 5/ 72 - 73، وأبو يعلى 3/ 140 (1570) والدارقطني في "سننه" 3/ 26 من حديث عم أبي حرة الرقاشي وفي الباب عن: أبي حميد الساعدي وعمرو ابن يثربي وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وصححه الألباني في "الإرواء"(1459) وانظر تخريجه في "البدر المنير" 6/ 693 - 698، "تلخيص الحبير" 3/ 45 - 46.

ص: 222

قالوا: فإذا أذن ثم بدا له فإن كان لحاجة إلى بناء جداره أو لأمر لا بد له منه فله ذلك، وإن لم يكن لشيء في ذلك فليس له ذلك بخلاف حال الابتداء؛ لأنه لم يأذن له في حال الابتداء فيتعلق عليه حق بخلاف أن يأذن فيضمن إذنه بنفسه على الوجه المأذون فيه إلى مثله في العادة، وليس له الرجوع على مقتضى إذنه

(1)

.

(1)

انظر: "المعونة" 2/ 177 - 178، "المنتقى" 6/ 44، "مختصر المزني" 151، "البيان" 6/ 258.

ص: 223

‌25 - باب النَّهْي عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الإِنَاءِ

5630 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ، وَإِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ» . [انظر: 153 - مسلم: 267 - فتح 10/ 92]

ذكر فيه حديث أبي نُعَيْمٍ، ثنا سفيان، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ، وَإِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ".

هذا الحديث سلف في الطهارة

(1)

، فإن قلت: رواه هشام الدستوائي، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، فقال: أحسبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأجاب ابن حزم: بأن هذِه رواية الحارث بن أبي أسامة وقد ترك وحتى لو شك هشام في إسناده، فإن أيوب ومعمر بن راشد لم يشكا وكلاهما فوق هشام

(2)

.

قال المهلب: التنفس إنما نهى عنه كما نهى عن النفخ في الطعام والشراب- والله أعلم؛ من أجل أنه لا بد من أن يقع فيه شيء من ريقه فيعاف الطاعم له ويستقذر أكله إذ كان التعذر في باب الطعام والشراب والتنظف فيه الغالب على طباع أكثر الناس فنهاه عن ذلك لئلا يفسد الطعام والشراب على من يريد تناوله، هذا إذا أكل وشرب مع غيره، وإذا كان الإنسان يأكل أو يشرب وحده أو مع أهله أو مع

(1)

سلف برقم (153) كتاب: الوضوء، باب: النهي عن عدم الاستنجاء باليمين.

(2)

"المحلى" 7/ 520.

ص: 224

من يعلم أنه لا يقذر شيئًا مما يأكل منه فلا بأس في التنفس في الإناء كما فعل عليه السلام مع عمر بن أبي سلمة أمره أن يأكل مما يليه، وكان هو عليه السلام يتبع الدباء في الصحفة علمًا منه أن لا يقذر منه شيء عليه السلام، وكيف يظن ذلك وكان عليه السلام يبادر أصحابه نخامته فدلَّكوا بها وجوههم وكذا قصد وضوئه

(1)

، فهذا فرق بين فعله عليه السلام وأمره غيره بالأكل مما يليه.

(1)

سلف برقم (2731) كتاب: الشروط، باب: الشروط في الجهاد.

ص: 225

‌26 - باب الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ

5631 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا. [مسلم: 2028 - فتح 10/ 92]

حدثنا أبو عاصم، هو الضحاك بن مخلد، وأبو نعيم هو الفضل بن دكين قَالَا: ثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ: أَخْبَرَنِي ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِي الإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا.

الشرح:

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا والنسائي وابن ماجه والترمذي

(1)

وصححه، ولمَّا أخرجه النسائي من حديث قتادة، عن ثمامة، قال قتادة: هذا الحديث خطأ

(2)

.

فإن قلت: ما الجمع بينه وبين حديث أبي قتادة في الباب قبله نهى عن التنفس في الإناء؟ قلت: أسلفت الجمع هناك، ويحتمل أيضًا أن النهي عن الشرب وهو يتنفس فيه من غير أن يبينه عن فيه، فإن أبانه في كل نفس فلا بأس، وقد جاء أنه عليه السلام كان يتنفس ثلاثًا، ويقول:"هو أمرى وأروى" ذكره الترمذي

(3)

.

وفي "الموطأ" والنسائي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفخ في الشراب،

(1)

مسلم (2028) كتاب: الأشربة، باب: كراهة التنفس في نفس الإناء واستحباب التنفس ثلاثًا خارج الإناء، والترمذي (1884)، وابن ماجه (3416) والنسائي في "الكبرى" 4/ 198.

(2)

"السنن الكبرى" 4/ 198.

(3)

"سنن الترمذي"(1884) ورواه مسلم (2028/ 123) بلفظ "إنه أروى وأبرأ وأمرأ".

ص: 226

فقال رجل: يا رسول الله، إني لا أروى من نفس واحد، قال:"فأبن القدح عن فيك ثم تنفس" وعليه يحمل حديث أنس

(1)

.

ورواه ابن ماجه بلفظ "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، فإذا أراد أن يعود فلينح الإناء ثم ليعد إن كان يريد"، أخرجه من حديث أبي هريرة

(2)

وأخرجه الترمذي صحيحًا عن أبي سعيد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاءة أراها في الإناء. فقال: "أهرقها". قال: فإني لا أروى من نفس واحد قال: "فأبن القدح عن فيك"

(3)

.

ورواه أبو داود بزيادة نهى عن الشرب من ثلمة القدح

(4)

، ولفظ الحاكم:"إذا شرب أحدكم فليشرب بنفس واحد" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين

(5)

، ورجح ابن بطال الوجه الأول وقال: إنه أولى بالصواب؛ لأن عامة الفقهاء لا يختلفون أنه لو تنفس في الشراب حرم ذلك

(6)

.

روى ابن المنذر عن أبي هريرة مرفوعًا "لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا شرب ولكن إذا أراد أن يتنفس فليؤخره عن فيه ثم يتنفس"

(7)

.

(1)

"الموطأ" 1/ 576 من حديث أبي سعيد الخدري ولم أقف عليه عند النسائي فلعله وهم في عزوه.

(2)

"سنن ابن ماجه"(3427) وقال البوصيري في "زوائده " ص 445: حديث أبي هريرة صحيح، رجاله ثقات .. اهـ.

(3)

"سنن الترمذي"(1887) وقال: حسن صحيح.

(4)

"سنن أبو داود"(3722).

(5)

"المستدرك" 4/ 138.

(6)

"شرح ابن بطال" 6/ 80.

(7)

انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 239.

ص: 227

وقال ابن العربي: قال علماؤنا: هذا من مكارم الأخلاق، وحرام أن يناول الرجل أخاه بما يقذره فإن فعله في خاصة نفسه ثم جاء غيره فناوله إناءً فليعلمه، فإن كتمه كان من باب (الغش)

(1)

وهو حرام

(2)

.

ولمَّا ذكر ابن أبي عاصم حديث ابن عباس، وحديث أبي قتادة السالفين ترجم للرخصة في ذلك فذكر حديث أنس أنه عليه السلام كان يتنفس في الإناء ويقول:"هو أهنأ وأمرأ وأبرأ".

ولمَّا ذكر الأثرم حديث أبي سعيد قال: هذِه الأحاديث في ظاهرها مختلفة، والوجه فيها عندنا أنه يجوز الشرب بنفس وباثنين وبثلاثة وأكثر منها؛ لأن اختلاف الرواة في ذلك يدل على التسهيل فيه وأن اختيار الثلاث يحسن. وأما حديث النهي عن التنفس في الإناء، فإنما ذلك أن يجعل نفسه في الإناء، فأمَّا التنفس للراحة إذا أبانه عن فيه فليس من ذلك

(3)

.

فصل:

قد سلف أن علة النهي لما يخشى أن يصيب منه، ومخالطة النفس الماء لما في النفس من المستقذر، وقيل: إنه تكون منه النَّسَمَة

(4)

.

فصل:

اختلفوا هل يجوز الشرب بنفس واحدٍ؟ فروى عيسى، عن ابن القاسم: أن مالكًا سئل عن قول الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أروى من نفس واحد -الحديث السالف- أرى ذلك رخصة أن يشرب من نفس واحد ما شاء.

(1)

في (غ): الغبن.

(2)

"عارضة الأحوذي" 8/ 83.

(3)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 234.

(4)

النَّسَمَة: الربو. انظر: "الصحاح" 5/ 2040.

ص: 228

يريد مالك: أنه عليه السلام لما لم ينه الرجل أن يشرب من نفس واحد، وقال له ما قال، علم أن ذلك كالإباحة.

وقد روي عن سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح: أنهما أجازاه بنفس واحد.

وقال ميمون بن مهران: رآني عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب فجعلت أقطع شرابي فأتنفس، فقال: إنما نهي أن تنفس في الإناء فأمَّا إذا لم يتنفس في الإناء فاشربه -إن شئت- بنفس واحد، [وروي]

(1)

عن ابن عباس وطاوس وعكرمة: كراهة الشرب في نفس واحد، وقال: هو شرب الشيطان

(2)

.

وقول عمر بن عبد العزيز تفسير لهذا الباب وأصل له.

فصل:

قوله في حديث الباب قبله: ولا يتمسح بيمينه. يريد: الاستنجاء، وقد سلف في موضعه واضحًا.

فصل:

روى أبو نعيم في "الطب" من حديث هشام، عن أبي عصام، عن أنس:"تنفسوا في الإناء ثلاثًا فإنه أهنأ وأمرأ وأبرأ"

(3)

، رواه أحمد بن منيع البغوي، عن أبي فطين، عن هشام: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب تنفس في الإناء ثلاثًا، وقال:"هو أمرأ وأبرأ".

(1)

في الأصل: (وأرى)، والمثبت هو الملائم للسياق.

(2)

روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 104 باب: من رخص في الشرب في النفس الواحد، وانظر:"التمهيد" 1/ 395.

(3)

"الطب النبوي" 2/ 675 (737).

ص: 229

فصل:

وروي النهي عن التنفس في الإناء من حديث عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعاً. ذكره الأثرم. لكن روى رشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس، أنه عليه السلام شرب من ماء فتنفس مرتين

(1)

.

فصل:

روى أبو نعيم الحافظ من حديث المعلي بن عُرفان، عن أبي وائل، عن عبد الله: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يتنفس في الإناء ثلاثة أنفاس يُسمِّي عند كل نفس ومثله في آخرهن.

ومن حديث الربيع بن بدر، عن ابن سمعان، عن نافع، عن مولاه: أنه عليه السلام كان إذا شرب قطع ثلاثة أنفاس، يسمِّي الله إذا بدأ، ويحمده إذا قطع.

ومن حديث ثبيت بن كثير الضبي، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، عن بهز قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك عرضًا ويتنفس ثلاثًا ويقول: "هو أهنأ وأمرأ وأبرأ"

(2)

فصل:

قال ابن حزم: لا يحل النفخ في [الإناء]، والشرب من ثلمة القدح مباح؛ لأنه لم يصح فيها نهي، وقد وردت الإباحة في ذلك عن ابن عباس وابن عمر ولا يُعرف لهما مخالف من الصحابة إلاَّ ما تقدم من حديث أبي سعيد، ولا يصح؛ لأنه من رواية قرّة بن عبد الرحمن، وهو ساقط

(3)

.

(1)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 233.

(2)

"الطب النبوي" 2/ 676 - 677 (739) - (741).

(3)

"المحلى" 7/ 521.

ص: 230

‌27 - باب الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ

5632 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلاَّ أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ:«هُنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهْيَ لَكُمْ فِي الآخِرَةِ» . [انظر: 5426 - مسلم: 2067 - فتح 10/ 94]

ذكر فيه حديث ابن أبي ليلى قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنِ الحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ:"هي لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ".

الشرح:

هذا الحديث مذكور في الأطعمة وكرر بعد أيضًا

(1)

والشرب في أواني الذهب والفضة حرام بالإجماع ولا عبرة لمن شذ فيه، ولأنه من باب السرف إذ قد جعلهما الله قوامًا للناس، وأثمانًا لمعايشهم وقيمًا للأشياء فكره استعمالها في غير ذلك إلاَّ ما أباحته السُّنة للرجال من السيف والخاتم والمصحف والحلي للنساء كذا ذكره ابن بطال.

فأمَّا ما ذكره من تحلية السيف فهو بالفضة، وأمَّا الخاتم فمن الفضة، والمصحف يحلى بالفضة للرجل، وللمرأة بذهب، وأمَّا الحلي فإجماع.

وقوله: "هي لكم .. " إلى آخره مثل قوله عليه السلام في الحرير: "إنما

(1)

سلف برقم (5426) باب: الأكل في إناء مفضض وسيأتي برقم (5831) كتاب: اللباس، باب: لبس الحرير وافتراشه للرجال.

ص: 231

يلبس هذِه من لا خلاق له في الآخرة"

(1)

وهم الكفَّار؛ لأنه لمَّا كان الحرير لباسهم في الدنيا وآثروه على ما أعدَّ الله في الآخرة لأوليائه وأحبوا العاجلة ذمَّهم الشارع بذلك ونهى المسلمين أن يتشبهوا بالكفَّار المؤثرين للدنيا على الآخرة، ولئلا يدخلوا تحت قوله:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] الآية.

وقال مالك بن دينار: قرأت فيما أنزل الله عز وجل (قل لأوليائي لا تطعموا مطاعم أعدائي ولا تلبسوا ملابس أعدائي؛ فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي)

(2)

.

فرع:

في اتخاذ أوانيهما وجهان أو قولان عندنا، والأصح: المنع قياسًا على استعماله، والخلاف عند المالكية أيضًا إذا اتخذها للتجمل خاصة، ونسب ابن التين الجواز للشافعي وهو أحد قوليه، كبيعه

(3)

.

(1)

سلف برقم (886) كتاب: الجمعة، باب: يلبس أحسن ما يجد.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 82.

(3)

انظر: "المدونة" 1/ 231، "حلية العلماء" 1/ 101 - 102، "المغني" 1/ 103 - 104.

ص: 232

‌28 - باب آنِيَةِ الْفِضَّةِ

5633 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ» . [انظر: 5426 - مسلم: 2067 - فتح 10/ 96]

5634 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» . [مسلم: 2065 - فتح 10/ 96]

5635 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ -أَوْ قَالَ: آنِيَةِ الْفِضَّةِ- وَعَنِ الْمَيَاثِرِ، وَالْقَسِّيِّ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالإِسْتَبْرَقِ. [انظر: 1239 - مسلم: 2066 - فتح 10/ 96]

ذكر فيه حديث حذيفة أيضًا فقال: حدثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، ثَنَا ابن أَبِي عَدِيِّ وهو محمد بن إبراهيم، عَنِ ابن عَوْنٍ واسمه عبد الله، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابن أَبِي لَيْلَى واسمه عبد الرحمن قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَلْبَسُوا الحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ".

وحديث أم سلمة أَنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ".

ص: 233

وحديث البَرَاءِ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ .. الحديث. وقد سلف.

وفيه: وعن الشرب في الفضة أو آنية الفضة.

وحديث أم سلمة: أخرجه النسائي من حديث نافع عن صفية، عن عائشة، وأخرجه ابن ماجه من حديث نافع، عن امرأة ابن عمر، عن عائشة

(1)

.

وأخرجه النسائي -أيضًا- عن محمد بن عليِّ بن حرب، عن محيرز بن الوضاح، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، ولم يذكر زيدًا إنما قال عن عبد الرحمن.

والبخاري: أخرجه عن إسماعيل، عن مالك، عن نافع، عن زيد بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أم سلمة. قال النسائي: والصواب حديث أيوب، عن نافع يعني: عن زيد، عن عبد الله، وذكر من حديث خالد بن عبد الله بن حسين الدمشقي، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من شرب من آنية الفضة والذهب في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة"، ثم قال عليه السلام:"آنية أهل الجنة": الذهب والفضة .. الحديث

(2)

.

ورواه عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن أبي هريرة، قال النسائي: والصواب في هذا كله حديث أبي هريرة

(3)

.

(1)

"السنن الكبرى" 4/ 197، و"سنن ابن ماجه"(3415).

(2)

"السنن الكبرى" 4/ 195 - 196.

(3)

المصدر السابق 4/ 197.

ص: 234

وفي الدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعًا بزيادة: أو فيه شيء من ذلك

(1)

. وفيه من لا يُعرف وقد أسلفنا الإجماع على حرمة استعمال أواني الفضة.

واختلفوا في الآنية المفضضة، فروي عن عائشة رضي الله عنها أنها نهت أن نضبب الآنية أو نحلقها بفضة، وكان ابن عمر لا يشرب في إناء حلقه فضة أو ضبة

(2)

وهو قول عطاء وسالم وعروة بن الزبير، وبه قال مالك والليث.

وقاله القاضي في "معونته": يجوز الإناء المضبب إذا كان يسيرًا

(3)

. وقال الخطابي عن الشافعي: أكره الشرب في الإناء المفضض بالفضة لئلا أن يكون شاربًا على الفضة وأباح علم الحرير بخلاف يسير الفضة، قال: ويجوز أن يفرق بينهما؛ بأن الحرير أبيح للإناث ولبعض الذكور عند الضرورة كمن به حكة وعندما أتاه العدو ورخص في قليله إذا كان علمًا في ثوب، والشرب في الفضة إنما حرم من أجل السرف وهو محرم على الرجال والنساء جميعًا فجعل قليله ككثيره

(4)

.

ورخصت في ذلك طائفة: روي عن عمران بن حصين وأنس بن مالك: أنهما أجازا الشرب في الإناء المفضض، وأجازه من التابعين طاوس والحكم والنخعي والحسن البصري، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس أن يشرب الرجل بالقدح المفضض إذا لم يجعل فاه على الفضة، وهو كالشرب بيده وفيها الخاتم.

(1)

"سنن الدارقطني" 1/ 40.

(2)

"السنن الكبرى" للبيهقي 1/ 29.

(3)

"المعونة" 2/ 585.

(4)

"أعلام الحديث" 3/ 2094.

ص: 235

وقال أحمد: لا بأس به إذا لم يجعل فاه على الفضة وهو مثل العلم في الثوب، وبه قال إسحاق، وقال ابن المنذر: ثبت أنه عليه السلام نهى عن آنية الفضة والمفضض ليس بإناء فضة، وكذلك المضبب، فالذي يحرم فيه الشرب ما نهي عنه، ولا يعصي من شرب فيما لم يُنه عنه

(1)

.

وقال أبو عبيدة نحوه، وفعل ابن عمر إنما هو محمول على التورع لا على التحريم، وكما روي عنه أنه كان ينضح الماء في عينيه لغسل الجنابة، وليس ذلك بواجب عليه.

وروى أبو نعيم: ثنا شريك، عن حميد قال: رأيت عند أنس رضي الله عنه قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فضة أو سبك بفضة.

قال الطحاوي: ولا يخلو ذلك أن يكون قد كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو أحدثه أنس بعده فأي ذلك كان قد ثبت عن أنس إباحته؛ لأنه كان يسقي الناس فيه تبركًا برسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

قلت: المحفوظ عن أنس أنه فاعله كما ستعلمه.

قال الخطابي: وهو حجة على الشافعي.

قلت: لأنه شيء يسير للحاجة وهو مبيحها.

فصل:

قال أبو عبيد: والجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف، وإنما يكون ذلك عند الشرب ومنه قيل للبعير: إذا صاح هو يجرجر

(3)

، وجرجر العجل إذا هدر في شقيقه فكان المعنى يصوت في بطنه نار جهنم، فيكون إعراب نار على هذا بالرفع، ويجوز أن يكون المعنى

(1)

انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 242 - 243.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 365.

(3)

"غريب الحديث" 1/ 154.

ص: 236

يتجرع في شربه نار، فيكون إعراب نار بالنصب مثل قوله:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].

وقال الداودي: معنى يجرجر: ينحدر أي: يتجرع نار جهنم.

وقوله: ("يجرجر في بطنه نار جهنم") محمول عند أهل السُّنَّة على أن الله تعالى في الخيار لمن أراد أن ينفذ عليه الوعيد.

فصل:

ولنذكر نبذة عن شرح حديث البراء، وإن كان سلف غير مرة.

قوله: (نهانا عن الحرير والديباج) ذكر الديباج بعد الحرير من باب: ذكر الخاص بعد العام، وهو فارسي معرب وجمعه ديابج -وإن شئت ديابيج- على أن تجعل أصله مشددًا، كدنانير أصله دنار فكذا هذا أصله دباج، وذلك رده إلى أصله في التصغير.

والجنازة: بكسر الجيم وفتحها واحدة الجنائز، وقال ابن الأعرابي: بالكسر السرير، وبالفتح الميت والمعروف عكسه.

وقال الجوهري: العامة تقول: الجنازة بالفتح والمعنى للميت على السرير وإلَّا فهو نعش وسرير

(1)

.

والتشميت بالمعجمة والمهملة.

قال ابن مزين: لا يجوز أن يشمته واحد من جماعة بخلاف رد السلام.

وقال أبو عبيد: هو كرد السلام ويجزئ. ومعناه إذا قال له: يرحمك الله، قيل معناه بالمعجمة: سأل الله أن يجمع شمله، وقيل معناه: بالمهملة أي: دعوت له بالهدى والاستقامة على سمت الطريق.

(1)

"الصحاح" 2/ 870.

ص: 237

والعرب تضع الشين مع السين كقولهم: حجاش وحجاس، وقيل: هو من الشماته، وذلك إذا قلت له: يرحمك الله فقد أدخلت على الشيطان ما يشمته فيسر بذلك العاطس ويشمت الشيطان، وقال ثعلب: المهملة المختار؛ لأنه مأخوذ من السمت وهو القصد والحجة، وقال أبو عبيد: الشين في كلامهم أعلا وأفضل

(1)

.

وصفة التشميت يرحمك الله، ويرد: يهديكم الله ويصلح بالكم ويغفر الله لكم.

قال في "المعونة": والأول أفضل

(2)

.

وقال في "التلقين": الثاني أحسن.

وقوله: (وعن المياثر). قال الداودي: هي من الأرجوان الأحمر، وقيل: جلود السباع.

وقال غيره: قال أبو عبيد: المياثر الحمر التي جاء فيها النهي كانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير

(3)

.

قال ابن التين: وهذا أبين؛ لأن الأرجوان لم يأت فيه تحريم ولا في جلود السباع إذا ذكيت، وقال جرير، عن يزيد بعد هذا في البخاري: الميثرة: جلود السباع

(4)

.

وقال علي: كانت النساء تصنعه لبعولتهنَّ مثل القطائف يصبغونها. والقِسي: الثياب التي يؤتى بها من مصر من قس بلدة بتنيس خربت الآن وهي بفتح القاف، وأصحاب الحديث يكسرون والوجه الفتح وعليه

(1)

"غريب الحديث" 1/ 306.

(2)

"المعونة" 2/ 575 - 576.

(3)

"غريب الحديث" 10/ 139.

(4)

سيأتي في كتاب: اللباس، باب: لبس القسي.

ص: 238

أهل مصر ذكره القزاز، قال الهروي عن شمر عن بعضهم: هو القزي أبدلت الزاي سينًا.

وقال أبو عبيد: هو منسوب إلى بلاد يقال لها: القس، رأيتها. ولم نعرفها، وقال ابن فارس: هي ثياب يؤتى بها من اليمن

(1)

.

وفي البخاري في اللباس عن أبي بردة قلنا لعلي ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير، فيها أمثال الأترج

(2)

.

والإستبرق: ضرب من الديباج غليظ، قيل: وفيه ذهب، وأصله فارسي معرب أصله استبره فرد استبرق، والمعروف أن الإستبرق غليظ الديباج. وقال الداودي: هو رقيقه.

(1)

"غريب الحديث" 1/ 138، "مقاييس اللغة" ص 825.

(2)

سيأتي في باب: لبس القسي.

ص: 239

‌29 - باب الشُّرْبِ فِي الأَقْدَاحِ

5636 -

حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُمَيْرٍ -مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ- عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ، فَبُعِثَ إِلَيْهِ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَهُ. [انظر: 1658 - مسلم: 1123 - فتح 10/ 89]

ذكر فيه حديث أم الفضل لبابة الكبرى، وقد سلف قريبًا وفي الحج

(1)

.

(1)

سلف قريبًا (5604) باب: شرب اللبن، وفي الحج (1658)، باب: صوم يوم عرفة.

ص: 240

‌30 - باب الشُّرْبِ في قَدَحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَآنِيَتِهِ

وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ -واسمه عامر- قَالَ لِي عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: أَلَا أَسْقِيكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ؟

5637 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ. فَقَالَ: «قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي» . فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَتْ: لَا. قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ. قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ «اسْقِنَا يَا سَهْلُ» . فَخَرَجْتُ لَهُمْ بِهَذَا الْقَدَحِ فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ. قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَوَهَبَهُ لَهُ. [انظر: 5256 - مسلم: 2007 - فتح 10/ 98]

5638 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ قَالَ: رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -وَكَانَ قَدِ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ- قَالَ: وَهْوَ قَدَحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ مِنْ نُضَارٍ. قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْقَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا. [انظر: 3109 - فتح 10/ 99]

قَالَ: وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لَا تُغَيِّرَنَّ شَيْئًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَتَرَكَهُ.

هذا رواه البخاري في الاعتصام عن أبي كريب: ثنا أبو أسامة، عن بريد، عن أبي بردة.

وفي مناقب عبد الله بن سلام: حدثنا سليمان بن حرب، ثنا شعبة،

ص: 241

عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه فذكره

(1)

.

وذكر فيه أيضًا حديث سهل بن سعد: ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنَ العَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: أَعُوذُ باللهِ مِنْكَ

الحديث، سلف في النكاح

(2)

.

وفيه: فسقيتهم فيه -يعني: في القدح- فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه، ثم قال: استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك فوهبه له.

وشيخ شيخ البخاري فيه أبو غسان، وهو محمد بن مطرف مدني نزل عسقلان الشام، وشيخه

(3)

سعيد بن أبي مريم هو سعيد بن محمد بن الحكم، أو الحكم بن محمد بن أبي مريم الجمحي مولاهم المصري مات سنة أربع وعشرين ومائتين، وفيه أبو حازم، واسمه سلمة بن دينار، وأبو أسيد اسمه مالك بن ربيعة بن البدن، وأخرجه مسلم أيضًا

(4)

.

وحديث أبي عوانة الوضاح عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ قَالَ: رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -وَكَانَ قَدِ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ- قَالَ: وهْوَ قَدَحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ مِنْ نُضَارٍ. قَالَ أَنَسٌ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي هذا القَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَقَالَ ابن سِيرِينَ: كَانَ فِيهِ

(1)

سيأتي في الاعتصام برقم (7342)، باب: ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم، وسلف برقم (3814) كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب عبد الله بن سلام.

(2)

سلف برقم (5256) باب: من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق.

(3)

أي: شيخ البخاري.

(4)

مسلم (2007) كتاب: الأشربة، باب: إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرًا.

ص: 242

حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ لَا تُغَيِّرَنَّ شَيْئًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَتَرَكَهُ.

والبخاري ساقه عن الحسن بن مدرك، وهو أبو علي، وجده بشر سدوسي بصري حافظ الطحان، روى عنه النسائي وابن ماجه أيضًا.

وقد سلف في الخمس عند البخاري، عن أنس: أن قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة

(1)

.

قال عاصم: رأيت القدح وشربت فيه، وهذا هو الذي عليه الحفاظ أن المتخذ له أنس بن مالك.

وللبزار من طريق فيها ضعف، عن ابن عباس أن المقوقس أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدح قوارير، فكان يشرب فيه

(2)

.

وهذا غير ذاك، وإن توهم بعضهم أنهما واحد؛ لأن الأول من نُضار بضم النون وكسرها، كما قاله أبو حنيفة، والأول أعرف، والثاني ذكره غير واحد.

قال شمر: وهي هذِه الأقداح الحمر الحبشانية، وقال ابن الأعرابي: النضار: النبع، وقال -أيضًا-: هو شجر الأثل، والنضار: الخالص من كل شيء

(3)

. وقال ابن سيده: من التبر والخشب، وقيل: الخلاف.

قال أبو حنيفة: والكرم النضار وأجوده ما صنع من النبع، وكل آنية عند أهل البادية نضار.

(1)

سلف برقم (3109) كتاب: فرض الخمس، باب: ما ذكر من درع النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

رواه البزار كما في "كشف الأستار"(2904) وقال: لا نعلم أحدًا رواه متصلًا إلا مندل، عن ابن إسحاق. وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 153: فيه مندل بن علي، وقد وثق وفيه ضعف.

(3)

انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3595.

ص: 243

قال: وهو أجود الخشب للآنية ويعمل منه ما رق من الأقداح واتسع وما غلظ ولا يحتمله من الخشب غيره

(1)

.

والقدح: النضار من أثل ورسي اللون.

قال القزاز: العرب تقول: قدح نضار مضاف إلى هذا الخشب، وإنما سمي الأثل: نضارًا؛ لأنه ينبت في الجبل، وهو الخالص من العود وأجوده.

وقال ابن فارس: أثل يكون بالغور، والغور تهامة ومما يلي اليمن، والأثل: الشجر ونحوه في "الصحاح" غير أنه قال: وهو نوع من الطرفاء، والواحدة: أثلة

(2)

.

وقال أيضًا: يكون القدح ورسي اللون -يريد: أصفر- يضاف ولا يضاف

(3)

. يريد: أنك تقول: قدح نضارٌ وقدح نضارٍ.

وذكر ابن عياش في "المنتهى" أنه الطويل من الأثل المستقيم الغصون.

وقال صاحب "العين": قدح من نضار يتخذ من أثل ورسي اللون وذهب نضار والنضار الخالص

(4)

.

وقال ابن الفاسي: النضار عود أصفر يشبه لون الذهب وهو أعتق العود.

فصل:

والأجم: جمع أجمة وهي الغياض قاله ابن بطال

(5)

.

(1)

"المحكم" 8/ 123.

(2)

"مقاييس اللغة" ص 995، و"الصحاح" 4/ 1620.

(3)

"الصحاح" 2/ 830.

(4)

"العين" 7/ 26.

(5)

"شرح ابن بطال" 6/ 86.

ص: 244

وقال الخطابي: الأجم والأطم واحد، وهي الآطام والآجام وهي أبنية عالية تشبه القصور

(1)

.

فصل:

والشرب من قدحه عليه أفضل الصلاة والسلام وآنيته من باب التبرك بآثاره لعلِّي أراهم أو أرى من يراهم.

ومن باب الامتثال بفعله كما كان ابن عمر يصلي في المواضع التي كان يُصلِّي فيها ويدير ناقته حيث أدارها تبركًا بالاقتداء به وحرصًا على اقتفاء آثاره.

ومن هذا ما يفعله الناس إلى اليوم من الدخول في الغار الذي اختفى فيه والصديق على صعوبة الارتقاء إليه والدخول فيه.

وهذا كله وإن كان ليس بواجب ولا لازم وإنما يحمل عليه فرط محبته، والاغتباط بموافقته وقد قال:"والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين"

(2)

وهو بشهادة الله كذلك.

فصل:

وقوله: ("اسقنا يا سهل") أراد أن يبسطه بذلك ويستدعي ما عنده من شراب وطعام، وهذا لا خلاف في استحبابه إذا كان الصديق طيب النفس وعلم من حاله ذلك، وفي مثل هذا قال تعالى:{أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61].

(1)

"أعلام الحديث" 3/ 2096.

(2)

سلف برقم (15) كتاب: الإيمان، باب: حب الرسول من الإيمان.

ص: 245

‌31 - باب شُرْبِ البَرَكَةِ وَالْمَاءِ المُبَارَكِ

5639 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ حَضَرَتِ الْعَصْرُ، وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ قَالَ:«حَيَّ على أَهْلِ الْوُضُوءِ، الْبَرَكَةُ مِنَ اللهِ» . فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ وَشَرِبُوا، فَجَعَلْتُ لَا آلُو مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي مِنْهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ. قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ. تَابَعَهُ عَمْرٌو، عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ حُصَيْنٌ وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ جَابِرٍ. [انظر: 3576 - مسلم: 1856 - فتح 10/ 101]

ذَكَرَ فِيهِ حَديثَ الأعمش سُليمان قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بنُ أبي الجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما هذا الحَدِيثَ قَالَ: رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وقَدْ حَضَرَتِ العَصْرُ، وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ قَالَ:"حَيَّ عَلَى أَهْلِ الوُضُوءِ، والْبَرَكَةُ مِنَ اللهِ". فَلَقَدْ رَأَيْتُ المَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ وَشَرِبُوا، فَجَعَلْتُ لَا آلُو مَا جَعَلْتُ في بَطْنِي مِنْهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ. قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ. تَابَعَهُ عَمْروٌ، عَنْ جَابِرٍ. وَقَالَ حُصَيْنٌ وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرٍ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، عَنْ جَابِرٍ.

هذا الحديث بمتابعاته سلف.

ومقصود البخاري -والله أعلم- أن شرب البركة مفتقر فيه الإكثار لا كالشرب المعتاد الذي ورد أن يجعل له الثلث

(1)

.

(1)

انظر: "المتواري" ص 220.

ص: 246

وقال المهلب: قال البخاري: باب شرب البركة لقول جابر: (فعلمت أنه بركة)، وهذا شائع في لسان العرب أن تسمي الشيء المبارك فيه بركة، كما قال أيوب: لا غنى بي عن بركتك، فسمى الذهب بركة.

وقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللهِ} [لقمان: 11] يعني: مخلوقاته، والخلق: اسم الفعل.

وفيه من الفقه: أن الإسراف في الطعام والشراب مكروه إلاَّ الأشياء التي أرى الله فيها بركة غير معهودة وآية قائمة بينة، فلا بأس بالاستكثار منها.

وليس في ذلك سرف ولا كراهية، ألا ترى قول جابر:(فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه) أي: لا أقتصر على جهدي في الاستكثار من شربه، وفيه علم عظيم من أعلام نبوته، وقد سلف بيان هذا المعنى، وما في نبع الماء من أصابعه من عظيم الآية وشرف الخصوصية في باب: التماس الوضوء إذا حانت الصلاة فراجعه

(1)

.

فصل:

وقوله: ("حي على أهل الوضوء") أي: هلم وأقبل، مثل: حي على الصلاة. وفتحت الياء من حيَّ لسكونها وسكون ما قبلها كليتَ ولعلَّ، وهو اسم لفعل الأمر.

وقوله: (لا آلو) أي: لا أقصر كما سلف.

وحكى الكسائي عن العرب: يَضْرِبُه لا يَأْلُ، فحذفوا الواو كقولهم: لا أَدْرِ

(2)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 86 - 87.

(2)

انظر: "الصحاح": 6/ 2270.

ص: 247

فصل:

ينعطف على الباب قبله قوله: (فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها) فيه تقديم الخطبة وهو غير واجب عند أكثر الفقهاء كما سلف، وخالف بعضهم.

وقد سلف تفسير الأجم، قال الجوهري: الأجمة من القصب والجمع: أجماء وآجم وآجام وأُجم، وجمع أجمة: أجم مثل ثمرة وثمر، وأجم وإجام، كجبل وجبال، وجمع إجام: أجم مثل: كتاب وكتب، وجمع أجُم: أجام كعنق وأعناق.

قال: والأجم أيضًا حصن بناه أهل المدينة من حجارة.

قال يعقوب: كل بيت مرتفع مسطح: أجم.

وقال الأصمعي: هو مخفف، ويثقل

(1)

.

وقال ابن فارس: الأجمة معروفة، والأجم: الحصن وجمعه: آجام

(2)

.

وقال الداودي: الأجم واحد الآجام وهي الأشجار والحوائط.

وفيه -كما قال الخطابي- جواز نظر الخاطب إلى وجه المخطوبة إذا أراد نكاحها

(3)

. وعارضه ابن التين بأن الحديث ليس دال فيه.

وقولها: (كنت أنا اسقي من ذلك) فيه اعترافها بما متَّعها الله من فضله الجسيم.

(1)

"الصحاح" 5/ 1858.

(2)

"مقاييس اللغة" ص 47.

(3)

"أعلام الحديث" 3/ 2096.

ص: 248

وقوله: (استوهبه عمر بن عبد العزيز من سهل) فيه: أن عمر يعد من التابعين لرؤيته سهلاً، وسهل: أحد من مات بالمدينة من الصحابة، يقال: مات سنة ثنتين وتسعين، ويقال: إحدى وتسعين وكان مولده مولد الحسن.

وقوله: (وكان قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس) فيه: اعتناء أنس به وما أحسنه من اعتناء.

ومعنى (سلسله بفضة): أصلحه بها، يقال: شيء مسلسل أي: متصل بعضه ببعض، ومنه سلسلة الحديث.

وقوله: (فيه حلقة) هي بإسكان اللام كحلقه القوم، والجمع: حِلَق على غير قياس.

وقال الأصمعي: حلقة مثل قصعة وقصع.

وحكى يونس، عن أبي عمرو بن العلاء: حلقة في الواحد بالتحريك، وفي الجمع حلق.

وقال ثعلب: كلهم يجيزه على ضعفه، وقال أبو عمرو الشيباني: ليس في الكلام حلقة بالتحريك إلاَّ في قولهم: هؤلاء حلقة، الذين يحلقون الشعر، جمع حالق

(1)

.

آخر الأشربة بحمد الله ومنِّه.

(1)

انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 900.

ص: 249

75

كتاب المرضى

ص: 251

بسم الله الرحمن الرحيم

‌75 - كِتَابُ المَرضَى

هذا الكتاب قدم عليه ابن بطال كتاب الأيمان والنذور وذكره بعد كتاب الأدب

(1)

.

‌1 - [باب] مَا جَاءَ فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].

5640 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» . [مسلم: 2572 - فتح 10/ 103]

5641، 5642 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 371.

ص: 253

وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ». [مسلم: 2573 - فتح 10/ 103]

5643 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً، وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالأَرْزَةِ لَا تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً» .

وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ: حَدَّثَنِي سَعْدٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 2810 - فتح 10/ 103]

5644 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا، فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ، وَالْفَاجِرُ كَالأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً، حَتَّى يَقْصِمَهَا اللهُ إِذَا شَاءَ» . [7466 - فتح 10/ 103]

5645 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ أَبَا الْحُبَابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» . [فتح 10/ 103]

ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا". وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي

(1)

.

(1)

مسلم (2572) كتاب: البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصبه من مرض أو حزن، والترمذي (965)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 352.

ص: 254

ثانيها:

حديث أبي سعيد الخدري سعد بن مالك وأَبِي هُرَيْرَةَ، عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ". وأخرجه مسلم والترمذي وحسنه

(1)

.

ثالثها:

حديث سفيان، عن سعد -وهو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف-، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلُ المُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً، وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً، وَمَثَلُ المُنَافِقِ كَالأَرْزَةِ لَا تَزَالُ حَتَّى يَكونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً".

وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ: حَدَّثَنِي سَعْدٌ، ثَنَا ابن كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وأخرجه مسلم والنسائي

(2)

، وأغفله ابن عساكر.

والخامة: الطاقة الغضة اللينة من الزرع، وألفها منقلبة عن واو.

والأرزة: -بسكون الراء وفتحها- شجرة الأرز وهو خشب معروف، وقيل: الصنوبر.

وانجعافها: انقلاعها، يقال: جعفته فانجعف إذا قلعته فانقلع، وهو مطاوع جعفه جعفًا.

قاله ابن سيده

(3)

.

(1)

مسلم (2573) كتاب: البر والصلة، باب: ثواب المؤمن .. ، والترمذي (966).

(2)

مسلم (2810) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: مثل المؤمن كالزرع ومثل الكافر كشجر الأرز، والنسائي في "الكبرى" 4/ 351.

(3)

"المحكم" 1/ 204.

ص: 255

وقال الداودي: يريد كسرها من وسطها وانقلاعها. وأهل اللغة على ما سلف لكن يوضحه قوله في الحديث: "حتى يقصمها الله" أي: يكسرها.

رابعها:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ خامة الزَّرْعِ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفَأَتْهَا، فَإِذَا اعْتَدَلَتْ تَكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ، وَالْفَاجِرُ كَالأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً، حَتَّى يَقْصِمَهَا اللهُ إِذَا شَاءَ". وأخرجه مسلم والترمذي

(1)

وقال: حسن صحيح.

خامسها:

حديث أبي هريرة أيضًا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ". وأخرجه النسائي

(2)

.

الشرح:

حديث أبي هريرة وأبي سعيد لما رواه الترمذي قال: قال ابن الجارود: وسمعت وكيعًا يقول: لم يسمع في الهم أنه كفَّارة إلاَّ في هذا الحديث

(3)

.

وفي الباب أحاديث مثل أحاديث الباب، أخرجه مسلم من حديث جابر، ثنا أم المسيب:"لا تسبي الحمى فإنها تذهب بخطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد"

(4)

.

(1)

مسلم (2809) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: مثل المؤمن كالزرع .. ، والترمذي (2866).

(2)

"السنن الكبرى" 4/ 351.

(3)

"سنن الترمذي" بعد حديث (966).

(4)

مسلم (2575) كتاب: البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض ..

ص: 256

وأخرجه بن أبي شيبة من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يزال البلاء بالعبد المؤمن والمؤمنة حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة".

قال أبو هريرة: ما من وجعٍ يصيبني أحبُّ إليَّ من الحمى إنها تدخل في كل مفصل من ابن آدم، وإن الله تعالى ليعطي كل مفصل قسطًا من الأجر

(1)

.

وأخرجه الترمذي مصححًا من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا "ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"

(2)

.

وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث أنس مرفوعًا "إن الله إذا ابتلى المسلم ببلاء في جسده قال للملك: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه"

(3)

.

ومن حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "ما من أحد من المسلمين يُبتلى ببلاء في جسده إلاَّ أمر الله الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودًا في وثاقي"

(4)

.

وسلف في البخاري في الجهاد من حديث أبي موسى مرفوعًا: "إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا"

(5)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 441 - 442 (10811، 10817) ورواه الترمذي مطولاً (2399) وقال: حسن صحيح.

(2)

رواه الترمذي (2398) وقال: حسن صحيح.

(3)

"المصنف" 2/ 443 (10831).

(4)

رواه أحمد 2/ 194، وابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 440 (10808) واللفظ له والحاكم في "المستدرك" 1/ 348 وصححه الألباني في "الأرواء" 2/ 346.

(5)

سلف برقم (2996) باب: يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة.

ص: 257

وفي لفظ "إذا كان العبد يعمل عملًا صلحًا فيشغله عنه مرض أو سفر كتب له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم"

(1)

.

ولابن أبي شيبة أيضًا من حديث أبي عبيدة يرفعه: "من ابتلاه الله ببلاء في جسده فهو حظه"

(2)

.

ولابن بنت منيع من حديث خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد القسري، عن جده أسد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"المريض تحات خطاياه كما يتحات ورق الشجر"

(3)

.

وروينا في جزء القنطري داود بن علي

(4)

: حدثنا ابن أبي مريم: ثنا نافع بن زيد: حدثني جعفر بن ربيعة، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن السائب، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن أزهر، عن أبيه أنه عليه السلام قال:"إنما مثل المؤمن حين يصيبه الوعك أو الحمى كمثل الحديدة المحماة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيِّبها"

(5)

.

وللطبراني من حديث أبي المليح، عن محمد بن خالد، عن أبيه، عن جده -وكانت له صحبة- قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن

(1)

رواه أبو داود (3091).

(2)

"المصنف" 2/ 441 (10808).

(3)

رواه ابن بنت منيع -أبو القاسم البغوي- في "معجم الصحابة" 1/ 120 (24) وعبد الله ابن أحمد في "زيادات المسند" 4/ 70 وقال ابن حجر في "الإصابة" 1/ 33: فيه انقطاع بين خالد وأسد. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(3531) و"ضعيف الجامع"(5928).

(4)

هكذا في الأصل، ولعل الصواب:(علي بن داود)، وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 20/ 423 (4065)، "سير أعلام النبلاء" 13/ 143.

(5)

رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 348 عن علي بن حمشاذ عن عبيد بن شريك عن ابن أبي مريم به سواء ومن طريقه أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 159 وقال الحاكم: صحيح الإسناد.

ص: 258

العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها فعله ابتلاه في جسده وماله وولده ثم صبر على ذلك حتى تبلغه المنزلة التي سبقت له من الله"

(1)

.

وأخرجه أبو داود بمعناه من حديث عبد الله بن أبي إياس الضمري، عن أبيه، عن جده. ومن حديث إبراهيم السلمي، عن أبيه، عن جده، وكانت له صحبة

(2)

.

ولأبي الليث، عن عليٍّ رضي الله عنه قال: لما نزل {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد أنزلت عليَّ آية هي خير لأمتي من الدنيا وما فيها" ثم قرأها ثم قال: "إن العبد إذا أذنب ذنبًا فتصيبه شدة أو بلاء في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعذبه ثانيًا". فقلنا: ما أبقت هذِه الآية من شيء، فقال:"إنها لكما أنزلت".

(1)

رواه الطبراني في "الكبير" 22/ 318 وفي "الأوسط" 1/ 17 (1085). وقال الهيثمي في "المجمع" 2/ 292: فيه محمد بن خالد وأبوه لم أعرفهما والله أعلم.

(2)

قلت: ما رواه أبو داود عن إبراهيم المصيصي، عن أبي المليح، عن محمد بن خالد السلمي، عن أبيه، عن جده بلفظ:"إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده" برقم (3090) وصححه الألباني في "الصحيحة"(2599). وأما قول المصنف من حديث عبد الله بن أبي إياس الضمري فمجانب للصواب وصوابه: عبد الله بن إياس الضمري قال عنه الحافظ في "اللسان" 3/ 261: لا يعرف وعزاه للعلائي. وأخرج حديثه ابن سعد في "الطبقات" 7/ 508 والبخاري في "التاريخ الكبير" 7/ 266 - 267 في ترجمة مسلم بن عقيل والبيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 164، وابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 290 بلفظ:"كنت جالسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من أحب أن يصح فلا يسقم؟ " قلنا: نحن يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه! " وعرفناها في وجهه، فقال: "أتحبون أن تكونوا كالحمير الصيالة؟ " قال: قالوا: يا رسول الله: لا. قال: "ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فوالله إن الله ليبتلي .. " الحديث وقال الألباني في "الصحيحة" 6/ 192: هذا إسناد ضعيف.

ص: 259

وهذِه الآية التي استفتح البخاري بها الباب.

وذكر ابن أبي شيبة: أن أبا هريرة رضي الله عنه (قال)

(1)

: لمَّا نزلت هذِه الآية بكينا وحزنَّا، فقال:"إنها لكما أنزلت".

فقال عليه السلام: "أبشروا وسددوا فإنه لا يصيب أحدًا منكم مصيبة حتى الشوكة يشاكها إلاَّ كفَّر الله بها عنه"

(2)

.

زاد ابن التين بعد ("يشاكها"): "في قدمه"، قال: وروي عن ابن عباس {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} [النساء: 123] أي: من يشرك.

وعن الحسن: ذلك لمن أراد الله هوانه، فأمَّا من أراد كرامته فلا. قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف: 16] الآية

(3)

.

ونقل ابن بطال، عن كثير من أهل التأويل أن معنى الآية: أن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفَّارة

(4)

.

روي عن أبي بن كعب وعائشة ومجاهد، وروي عن الحسن وابن زيد: أنه في الكفَّار خاصة

(5)

.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها وأبي سعيد وأبي هريرة [ما]

(6)

يشهد بصحة الأول.

قال أبو الليث: وروى الحسن أن رجلاً من الصحابة رأى امرأة كان يعرفها في الجاهلية فجعل يلتفت إليها فضربه حائط في وجهه، فأتى

(1)

من (ص 2).

(2)

روى نحوه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 440، وذكره ابن كثير في "تفسيره" 4/ 289 وعزاه لابن مردويه.

(3)

"تفسير الطبري" 4/ 292.

(4)

"شرح ابن بطال" 9/ 372.

(5)

"تفسير الطبري" 4/ 291.

(6)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 260

رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا يعجل عقوبة ذنبه في الدنيا"

(1)

.

وروى ابن زنجويه حميد في كتابه عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا "ما من مسلم يصيبه أذى مرض فما سواه إلاَّ حطَّ به من سيئاته".

وعن أبي أمامة مرفوعًا: "ما من مسلم يصرع سرعة من مرض إلاَّ بعث منها طاهرًا"

(2)

.

وعن شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة الأنصاري مرفوعًا "الحمى كير من جهنم وهي نصيب المؤمن"

(3)

.

وعن الحسن أنه قال: إن الله تعالى ليكفَّر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة.

وعن ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن أبي عثمان الأصبحي -وله صحبة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل:"لو كان الله يريد به خيرًا لطهَّر جسده بالمرض".

وعن (ابن)

(4)

إسحاق، عن رجلٍ من أهل الشام، عن عمه، عن عامر الرامِ أخي الخُضر

(5)

قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن المؤمن

(1)

"تنبيه الغافلين" ص 96.

(2)

رواه الطبراني 8/ 97 (7485) وقال الهيثمي في "المجمع" 2/ 302: رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله ثقات.

(3)

رواه البخاري في "التاريخ الكبير" 7/ 63، والبيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 161 وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3190).

(4)

في الأصل: (أبي) والمثبت من (ص 2) وهو الصحيح والموافق لمصادر التخريج.

(5)

في هامش الأصل: الخُضر بطن من محارب من خصفة بن قيس عيلان، كان عامرٌ أرمى العرب، وقيل لهؤلاء: الخُضر لأن أباهم كان آدم.

ص: 261

إذا أصابه السقم ثم عافاه منه كان كفَّارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل"

(1)

.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "عجبًا للمؤمن لو كان يعلم ماله في السقم أحب أن يكون سقيمًا حتى يلقى ربه، وإن عبدًا مرض فقال الله للحفظة: اكتبوا لعبدي الذي كان يعمل في يومه وليلته ولا تنقصوه شيئًا فله أجر ما حبسته وله أجر ما كان يعمل"

(2)

.

وعن شداد بن أوس مرفوعًا: "قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا فحمدني وصبر على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الله تعالى للحفظة: اجزوا لعبدي بما كنتم تجزون له قبل ذلك من الأجر وهو صحيح"

(3)

.

ورواه أيضًا من حديث عقبة بن عامر وفيه ابن لهيعة.

وما ذكرناه من حديث ابن مسعود يخالف ما ذكره ابن بطال عنه حيث قال: وروي عن ابن مسعود أنه قال: الوجع لا يكتب به الأجر ولكن تكفرُ به الخطيئة.

ثم قال: فإن قيل: إن ظاهر هذِه الآثار تدل على أن المريض إنما تحط عنه بمرضه السيئات فقط دون الزيادة.

(1)

رواه أبو داود (3089) وأعله المنذري في "مختصره" 4/ 273 وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(556).

(2)

رواه الطبراني في "الأوسط" 3/ 14 من حديث عتبة بن مسعود وضعفه الألبانى في "ضعيف الجامع"(3681).

(3)

رواه أحمد في "مسنده" 4/ 123 والطبراني في "الكبير" 7/ 279 (7136) وفي "الأوسط" 5/ 73 - 74 وقال الهيثمي في "المجمع" 2/ 303: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" كلهم من رواية إسماعيل بن عياش، عن راشد الصنعاني وهو ضعيف في غير الشاميين.

ص: 262

وقد ذكر البخاري في الجهاد حديث أبي موسى السالف وظاهره مخالف لآثار الباب؛ لأن في حديث أبي موسى يزاد على التكفير.

قيل له: ليس ذلك بخلاف وإنما هو زيادة بيان على آثار الباب التي جاءت بتكفير الخطايا بالوجع لكل مؤمن.

وفي حديث أبي موسى معنًى آخر وهو: أن من كانت له عادة من عمل صالح ومنعه الله منه بالمرض أو السفر وكانت نيته أن لو كان صحيحًا أو مقيمًا أن يدوم عليه فإن الله يتفضل عليه بأن يكتب له ثوابه.

فأما من لم يكن له تنفل ولا عمل صالح فلا يدخل في معنى الحديث؛ لأنه لم يكن يعمل في صحته أو إقامته بما يكتب له في مرضه أو سفره، فحديث أبي موسى المراد به: الخصوص، وأحاديث الباب المراد بها: العموم وكل واحد منها يفيد معنى غير معنى صاحبه فلا يخالف وقد سلف الكلام على حديث أبي موسى في الجهاد

(1)

.

فصل:

وقوله: ("حتى الشوكة يشاكها") أي: يصاب بها. وحقيقة هذا اللفظ: أن تكون الشوكة يدخلها غيره في جسده.

قال الكسائي: شكت الرجلَ الشوكةُ: إذا دخلت في جسده شوكة

(2)

.

وشِيك هو على ما لم يسم فاعله يشاك شوكًا، وقال الأصمعي: يقال: شاكتني الشوكة تشوكني إذا دخلت في جسده

(3)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 372.

(2)

"الصحاح" 4/ 1595، مادة (شوك).

(3)

المصدر السابق.

ص: 263

فلو كان أراد أن تصيبه الشوكة لقال: حتى الشوكة تشوكه ولكنه جعلها -أعني الشوكة- مفعولة وجعله هو مفعولًا به، أيضًا، نبه عليه ابن التين.

والنصب والتعب والوصب: المرض. يقال: منه وصب. يوصب فهو موصب.

وقوله: (من همٍّ ولا غم) معناهما واحد، وكرَّر لاختلاف اللفظ. وقيل: الهم المرض من همَّه المرض إذا أذابه فيكون كمثل الوصب.

فصل:

وقوله: (وقال زكريا: حدثني سعد .. ) إلى آخره هذا التعليق أخرجه مسلم عن أبي بكر، ثنا عبد الله بن نمير ومحمد بن بشر قالا: ثنا زكريا به.

ثم رواه من حديث جماعة، عن سفيان، عن سعد به وسمى مرة ابن كعب، فقال: عن عبد الله بن كعب بن مالك

(1)

. كما ساقه أولاً، والنسائي لما ذكر حديث ابن بشَّار، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان قال عبد الله بن كعب بن مالك فأسقط سعد بن إبراهيم

(2)

.

فصل:

والخامة: بالخاء المعجمة وتخفيف الميم أسلفنا تفسيرها وهي ورقة الزَّرع الغضة الرطبة، وقيل: الضعيفة.

(1)

مسلم (2810) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: مثل المؤمن كالزرع ومثل الكافر كشجر الأرز.

(2)

رواه النسائي في "الكبرى" 4/ 351 ووقع فيه سعد بن إبراهيم ولما طرقه المزني في "التحفة" 8/ 313، 321 ذكر في طريق النسائي سعد بن إبراهيم ولم أقف على طريق النسائي الذي أسقط فيه سعد بن إبراهيم ولعله وهم منه.

ص: 264

وقال ابن سيده في "محكمه": هي أول ما تنبت على ساق واحدة

(1)

، وبه جزم صاحب "العين"

(2)

وقيل: هي الطاقة الغضة منه. وقيل: الشجرة الغضة الرطبة

(3)

.

قال القزاز: وروي الخافة بالفاء وهي: الطاقة من الزرع.

وقوله: ("تفيئها") أي: تميلها.

وقال أبو عبد الملك: ترقدها، حكاه ابن التين.

قال: والذي في اللغة أن فاء: إذا رجع وأفاء غيره رجعه، قال صاحب "المطالع": وفي رواية أبي ذر: تَفَيأها بفتح التاء والفاء.

ومعنى ("تعدلها") بفتح التاء وكسر الدال: ترفعها.

والأرزة بفتح الهمزة وسكون الراء وفتحها كما أسلفته. قال صاحب "المطالع": الرواية بالسكون.

وقال أبو عبيدة: إنما هو الآرزة على وزن فاعلة، ومعناها: الثابتة في الأرض، وأنكر هذا أبو عبيد

(4)

، وقال أبو حنيفة: راؤه ساكنة وليس هو من نبات العرب ولا السباخ، والأرز مما يطول طولًا شديدًا ويغلظ، وأخبرني الخبير أنه ذكر الصنوبر وأنه لا يحمل شيئًا، ولكن يستخرج من أعجازه وعروقه الزفت

(5)

.

وقال القزاز: رواها أصحاب الحديث بالسكون على فَعْلَة. (ورواها قوم الآرزة على فاعلة

(6)

.

(1)

"المحكم" 5/ 166.

(2)

"العين" 4/ 316.

(3)

"المحكم" 5/ 166.

(4)

"غريب الحديث" 1/ 77.

(5)

انظر: "المحكم" 9/ 66.

(6)

من (غ).

ص: 265

وروى قوم: الأرَزة على فَعَلة محركة العين، قالوا: وهو ضرب من الشجر، يقال له: الأرزن له صلابة.

وفسَّره قوم على لفظ الحديث بالسكون، وقالوا: الأرز شجر معروف، واحده: أرزة وهو الذي يقال له: الصنوبر، (وإنما الصنوبر)

(1)

ثمر الأرز، سمي صنوبرًا من أصل ثمره.

وقال الخطابي: الأرزة مفتوحة الراء من الشجر، واحده: الأرزة. قال: ويقال: هو شجر الصنوبر

(2)

.

وقال ابن فارس: هي شجرة بالعراق تسمى: الصنوبر

(3)

.

وأمَّا قول الداودي: هي شجرة الأرز فلا أعلم له معنى. وفي "المحكم": والأرز: العرعر، وقيل: هو شجر بالشام. يقال لثمره: الصنوبر، والأُرْزَة والأَرَزَة جميعًا

(4)

.

وقال الجوهري: أبو عمرو: الأَرَزَة بالتحريك: شجر الأرزن. وقال أبو عبيدة: الأَرْزَةُ بالتسكين: شجر الصنوبر، والجمع أَرْز

(5)

.

وعبارة ابن بطال: الأرز من أجل الخشب

(6)

.

فصل:

وقوله: ("من حيث أتتها الريح كفأتها") أي: قلبتها مهموز ووقع في بعض النسخ بغير همز وكأنه سهل الهمزة.

(1)

من (غ).

(2)

"أعلام الحديث" 3/ 2102.

(3)

"مجمل اللغة" 1/ 91 مادة: [أرز].

(4)

"المحكم" 9/ 66.

(5)

"الصحاح" 3/ 863.

(6)

"شرح ابن بطال" 9/ 373.

ص: 266

وقوله: ("صماء") أي: صلبة ليست مجوفة.

وقوله: ("حتى يقصمها الله إذا شاء") أي: يكسرها حتى تبين.

ومعنى الحديث: أن المؤمن ملقى بالأمراض وغيرها كالزرع كثير الميلان لضعف ساقه، والمنافق لا يعرض له مرض يؤجر فيه حتى يصرع للموت مرةً واحدةً.

قال المهلب: معنى الحديث أن المؤمن من حيث جاءه أمر الله انطاع له ولان ورضيه، وإن جاءه مكروه رجا فيه الخير والأجر، فإذا سكن البلاء منه اعتدل قائمًا بالشكر له على البلاء والاختبار وعلى المعافاة من الأمر المختبر به، منتظر لاختيار الله له ما شاء مما حكم له بخير به في دنياه أو كريم مجازاته في أخراه.

والكافر كالأرزة صماء معتدلة لا يتفقده الله باختبار، بل يعافيه في دنياه وييسر عليه أموره ليعسر عليه في معاده حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه قصمة الأرزة الصماء فيكون موته أشد عذابًا عليه وأكثر ألمًا في خروج نفسه من ألم النفس المبتلية بالبلاء المأجور عليه

(1)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 373.

ص: 267

‌2 - باب شِدَّةِ الْمَرَضِ

5646 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 2570 - فتح 10/ 110]

5647 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ -وَهْوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا- وَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قُلْتُ: إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: «أَجَلْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلاَّ حَاتَّ اللهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ، كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ» . [5648، 5660، 5661، 5667 - مسلم: 2571 - فتح 10/ 110]

ذكر فيه حديث مسروق، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا الوجع عليه أشد مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وحديث الحارث بن سويد عَنْ عَبْدِ اللهِ قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ -وَهْوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا- وَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قُلْتُ: إِنَّ ذَاكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: "أَجَلْ، مَا مِنْ مُسْلِمِ يُصِيبُهُ أَذًى إِلَّا حَاتَّ اللهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ، كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ".

الشرح:

حديث عائشة أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه

(1)

. وأخرجه [الترمذي] من حديث أبي وائل عنها، وقال: حسن صحيح

(2)

،

(1)

مسلم (2570) كتاب: البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن .. ، والنسائي في "الكبرى" 4/ 352، وابن ماجه (1622).

(2)

رواه الترمذي (2397).

ص: 268

وصححه ابن حبان

(1)

وحديث ابن مسعود أخرجه مسلم والنسائي

(2)

، شيخه فيه محمد بن يوسف هو الفريابي كما نص عليه أبو نعيم وسفيان بعده هو الثوري.

الوعك -بسكون العين-: مغث الحمى.

كذا في الصحاح

(3)

، وقال ابن فارس: الحمى

(4)

.

وقيل: مغثها أي: مَرَثيته

(5)

وقد وعك الرجل يوعك فهو موعك.

وقال صاحب "المطالع": الوعك بفتح العين وسكونها، قيل: هو إرعاد الحمى وتحريكها إيَّاه.

وقال الأصمعي: الوعك: شدة الحر، وكأنه أراد: حر الحمى وشدتها. وفي "المحكم": الوعك: الألم يجده الإنسان من شدة التعب

(6)

. وعن الأزهري: الوعك: مغث المرض

(7)

.

والمراد بالوجع هنا: المرض، والعرب تسمي كل مرض: وجعًا.

أمَّا حكم الباب فقد خَصَّ الله أنبياءه بشدة الأوجاع والأوصاب لما خصهم به من قوة اليقين وشدة الصبر والاحتساب؛ ليكمل لهم الثواب ويتم لهم الخير.

(1)

"صحيح ابن حبان" 7/ 181 (2918).

(2)

مسلم (2571) كتاب: البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن .. ، والنسائي في "الكبرى" 4/ 352.

(3)

"الصحاح" 4/ 1615.

(4)

"المجمل" 2/ 930.

(5)

انظر: "الصحاح" 1/ 293.

(6)

"المحكم" 2/ 201 باب: العين والكاف والواو.

(7)

"تهذيب اللغة" 4/ 3918.

ص: 269

وذكر عبد الرزاق من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: أن رجلاً وضع يده على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك. قال عليه السلام: "إنَّا معشر الأنبياء يُضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالقمل حتى يأكله، وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلى بالفقر حتى يأخذ العباءة فيجوبها وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء"

(1)

.

وفي البيهقي زيادة قال: يا رسول الله، من أشدُّ الناس بلاءً؟ قال:"الأنبياء". قال: ثم من؟ قال: "العلماء". قال: ثم من؟ قال: "ثم الصالحون"

(2)

.

وعند الترمذي وقال: حسن صحيح من حديث مصعب بن سعد، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال:"الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب ذلك فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة".

قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة وأخت حذيفة بن اليمان وقيل: اسمها خولة بنت اليمان

(3)

.

وقوله: ("كما يتحات ورق الشجر") أي: يسقط.

وفيه: أن الأجور على قدر المشقة.

(1)

"المصنف" 11/ 310 (20626) وروى نحوه ابن ماجه (4024) وابن سعد 2/ 308 والحاكم 4/ 307 وصححه الألباني في "الصحيحة"(144).

(2)

"السنن الكبرى" 3/ 372.

(3)

"سنن الترمذي"(2398) ورواه ابن ماجه (4023) والحاكم 1/ 40 وغيرهم وصححه الألباني في "الصحيحة"(143).

ص: 270

‌3 - باب أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ

5648 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: دَخَلْتُ على رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَهْوَ يُوعَكُ- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قَالَ:«أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ» . قُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: «أَجَلْ، ذَلِكَ كَذَلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى -شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا- إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ، كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» . [انظر: 5647 - مسلم: 2571 - فتح 10/ 111]

هذِه الترجمة لفظ حديث سقناه إلَّا أنه قال: الأمثل بدل الأول

(1)

. وابن بطال أورد الترجمة بلفظ الحديث

(2)

.

وأخرجه أحمد أيضًا من حديث (أبي حذيفة، عن حذيفة)

(3)

، عن عمته فاطمة فذكرته

(4)

.

وهو ثابت في بعض النسخ، ثم ساق البخاري فيه حديث عبد الله أيضًا، ساقه عن عبدان واسمه عبد الله بن عثمان، عن أبي حمزة وهو محمد بن ميمون السكري.

وادعى الإسماعيلي أنه ليس في الباب ما ترجم له، وليس كذلك بل قوله:"أوعك كما يوعك رجلان منكم" ظاهر فيه.

(1)

يشير المصنف إلى ما رواه الترمذي (2398) من حديث مصعب بن سعد، عن أبيه.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 374.

(3)

كذا بالأصل والصواب أبي عبيدة بن حذيفة، كما في "مسند أحمد" 6/ 369.

(4)

"مسند أحمد" 6/ 369 وأورده الهيثمي في "المجمع" 2/ 292، وقال: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" بنحوه، وإسناد أحمد حسن.

وصححه الألباني في "الصحيحة"(145).

ص: 271

قال ابن الجوزي: والحديث دال على أن القوي يحمل والضعيف يرفق به إلاَّ أنه كلما قويت المعرفة بالمبتلي هان البلاء الشديد، ومنهم من ينظر إلى أجر بلائه فيهون عليه، وأعلى هذين درجة من يرى أن هذا تصرف المبتلي في ملكه، وأرفع منه من تشغله محبة الحق عن دفع البلاء، ونهاية المراتب التلذذ بضرب الحبيب؛ لأنه عن اختياره نشأ.

ص: 272

‌4 - باب وُجُوبِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ

5649 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» . [انظر: 3046 - فتح 10/ 112]

5650 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما -قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: نَهَانَا عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ، وَلُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالإِسْتَبْرَقِ، وَعَنِ الْقَسِّيِّ، وَالْمِيثَرَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَتْبَعَ الْجَنَائِزَ، وَنَعُودَ الْمَرِيضَ، وَنُفْشِيَ السَّلَامَ. [انظر: 1239 - مسلم: 2066 - فتح 10/ 112]

ذكر فيه حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ".

وحديث البراء رضي الله عنه أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، وفيه:(ونعود المريض)، وقد سلفا

(1)

.

ويحتمل أن يكون كما قال ابن بطال: من فروض الكفاية: كإطعام الجائع، وفك الأسير، وهو ظاهر الكلام، ويحتمل أن يكون معناه: الندب والحض على المؤاخاة والألفة، كما قال عليه السلام:"مثل المؤمنين في تواصلهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر جسده"

(2)

.

(1)

حديث أبي موسى سلف برقم (3046) كتاب: الجهاد، باب: فكاك الأسير، وحديث البراء سلف برقم (1239) كتاب: الجنائز، باب: الأمر باتباع الجنائز.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 375 والحديث سيأتي برقم (6011) كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم ورواه مسلم (2586) كتاب: البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم. واللفظ لمسلم.

ص: 273

وقال ابن التين: إنها مندوبة، وقد تتأكد في بعض الناس. وقال الداودي: هو فرض يحمله بعض الناس عن بعض.

وقد جاء في عيادة المريض آثار أسلفناها في الجنائز، منها قوله عليه السلام "عائد المريض على مخارف الجنة"

(1)

وروى مالك أنه بلغه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه عليه السلام قال:"إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة حتى إذا قعد عنده قرَّت فيه"

(2)

.

أسنده ابن معين وابن أبي شيبة، عن هشيم، ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن جابر

(3)

.

فصل:

حديث البراء ظاهر في فضل العيادة للمريض وهو على عمومه في الرجل الصالح وغيره، وفي المسلم وغيره، وقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرًا، كما سلف في الجنائز ويأتي

(4)

، وعاد عمَّه أبا طالب

(5)

.

وكرهها بعض أهل العلم -أعني: عيادة الكافر- لما فيها من الكرامة وقد أمرنا أن لا نبدأهم بالسلام، فالعيادة أولى.

قلت: ولا بأس بها إذا رجا إسلامه كما وقع له عليه السلام.

(1)

روى نحوه مسلم (2568) كتاب: البر والصلة، باب: فضل عيادة المريض من حديث ثوبان بلفظ: "عائد المريض في مخرفة الجنة حتى يرجع".

(2)

"الموطأ" ص 587 كتاب: العين، باب: عيادة المريض والطيرة.

(3)

"المصنف" 2/ 443.

(4)

سلف برقم (1356)، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه.

وسيأتي برقم (5657) كتاب: المرضى، باب: عيادة المشرك.

(5)

سلف برقم (1360) كتاب: الجنائز، باب: إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله.

ص: 274

فصل:

ظاهر الحديث وعمومه: طلبها في كل وقت، وقد كرهها طائفة من العلماء في أوقات.

قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله، وقال له شيخ كان يخدمه يجيء إلى رجل سماه يعوده، وذلك عند ارتفاع النهار في الصيف، فقال: ليس هذا وقت عيادة.

وعن الشعبي: عيادة حمقى القراء أشد على أهل المريض من مرض صاحبهم يجيئون في غير حين عيادة ويطيلون الجلوس

(1)

.

ولقد أحسن ابن حدار حيث يقول:

إن العيادة يوم بين يومين

واجلس قليلاً كلحظ العين للعين

لا تبرمنَّ مريضًا في مساءلة

يكفيك من ذاك تسأل بحرفين

وقال ابن بطال: أخف العيادة: أخفها. قال ابن وضاح: هو أن لا يطول الرجل في القعود إذا عاد مريضًا.

وذكر ابن الصلاح في فوائد رحلته عن ابن عبد الله الفزاري أنه يستحب العيادة في الشتاء ليلاً وفي الصيف نهارًا وهي تفرقة غريبة.

فرع:

يستحب للعائد أن يتوضأ لها لحديث فيه

(2)

.

فصل:

مواساة الجائع والعاجز واجبة.

(1)

"شعب الإيمان" 19/ 224 (8925).

(2)

سيأتي برقم (5676).

ص: 275

والعاني الأسير، أي: خلاصه وتخليصه واجب على المسلمين من أيدي العدو.

واختلف هل يفك من الزكاة أم لا؟ فقال أصبغ: لا تجزئ أن يفدى منها، وخالفه ابن حبيب

(1)

.

فصل:

وقوله: أمرنا بسبع ونهانا عن سبع، وذكر في النهي خمسًا.

وتقدم الشرب في آنية الفضة.

وذكر في الأوامر: اتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإفشاء السلام، ولم يذكر إبرار القسم -والمراد به: في المعروف- ولا إجابة الدعوة، ولا نصر المظلوم، ولا تشميت العاطس، وذكرها فيما سلف.

(1)

"النوادر والزيادات" 2/ 285.

ص: 276

‌5 - باب عِيَادَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ

5651 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: مَرِضْتُ مَرَضًا، فَأَتَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ، فَأَفَقْتُ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ كَيْفَ أَقْضِى فِي مَالِي؟ فَلَمْ يُجِبْنِى بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ. [انظر: 194 - مسلم: 1616 - فتح 10/ 114]

ذكر فيه حديث جابر رضي الله عنه: مَرِضْتُ، فَأَتَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَوَجَدَانِي قد أغمي عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ، فَأَفَقْتُ .. الحديث.

وقد سلف

(1)

، والإغماء كسائر الأمراض ينبغي العيادة فيه تأسيًا بالشارع والصديق.

وقوله عليه السلام يدخل في عمومه جميع الأمراض.

وفيه: رد لما يعتقده عامة الناس أنه لا يجوز عندهم عيادة من مرض من عينيه، وزعموا ذلك لأنهم يرون في بيته ما لا يراه هو، وحالة الإغماء أشد من حالة مرض العين؛ لأن المغمى عليه يزيد عليه بفقد عقله وقد جلس الشارع في بيت جابر في حال إغمائه حتى أفاق وهو الحجة.

وفيه: أن عائد المريض قد يطول في جلوسه عند العليل إذا رأى لذلك وجهًا

(2)

.

(1)

سلف برقم (194) كتاب: الوضوء، باب: صب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء على المغمى عليه.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 376.

ص: 277

فائدة:

الوضوء بفتح الواو: الماء، وبالضم: المصدر، وقيل بالضم مطلقًا. وقيل بالفتح مطلقًا: كالولوع والقبول.

وقال أبو عمرو بن العلاء: هو بالفتح: مصدر لم أسمع غيره

(1)

.

(1)

انظر: "المغرب" 2/ 358 - 359.

ص: 278

‌6 - باب فَضْلِ مَنْ يُصْرَعُ مِنَ الرِّيحِ

5652 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عِمْرَانَ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ لِي. قَالَ:«إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ» . فَقَالَتْ: أَصْبِرُ. فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ رَأَى أُمَّ زُفَرَ -تِلْكَ امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ سَوْدَاءُ- عَلَى سِتْرِ الْكَعْبَةِ. [مسلم: 2576 - فتح 10/ 114]

ذكر في حديث عطاء بن أبي رباح قَالَ: قَالَ ابن عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: هذِه المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي. قَالَ:"إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافيك". فَقَالَتْ: أَصْبِرُ. فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَا.

وعن عَطَاءٍ أَنَّهُ رَأى أُمَّ زُفَرَ -تِلْكَ امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ سَوْدَاءُ- عَلَى سِتْرِ الكَعْبَةِ.

الشرح:

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا، وأخرجه النسائي في الطب

(1)

، وأغفله ابن عساكر، والراوي عن عطاء في الأول هو عمران بن مسلم أبو بكر القصير البصري المقرئ.

وأتى البخاري بالثاني لينبه على اسم المرأة.

(1)

مسلم (2576) كتاب: البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض .. والنسائي في "الكبرى" 4/ 353 (7490).

ص: 279

وفي الصحابيات أم زفر اثنتان: الأولى كان بها مس من الجنون.

قال ابن الأثير: روى ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى بالمجانين فيضرب صدر أحدهم فيبرأ، فأتي بمجنونة، يقال لها، أم زفر، فضرب صدرها فلم يخرج شيطانها، فقال عليه السلام:"هو يعيبها في الدنيا ولها في الآخرة خير".

ثم ذكر ما تقدم عن عطاء قال: وذكر عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الكريم، عن الحسن أنه سمعه يقول: كانت امرأة تحمق، فجاء إخوتها فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن شئتم دعوت الله فبرأت، وإن شئتم كانت كما هي ولا حساب عليها في الآخرة" فخيَّرها إخوتها، فقالت: دعوني كما أنا. فتركوها.

قال ابن الأثير: أم زفر ماشطة خديجة كانت عجوزًا سوداء تغشاه عليه السلام في زمن خديجة.

ثم ذكر حديث عطاء، عن ابن عباس المذكور عند البخاري، وقال: أخرجها هكذا أبو موسى، ويحتمل أن تكون أم زفر التي ذكروها.

قال: كذا ذكرها أبو موسى، ثم ذكر حديث ابن عباس وابن جريج، وقال: هذان الحديثان يدلان أنهما واحدة، والذي ذكره أبو موسى عن ابن جريج في هذِه الترجمة، ذكره أبو عمر في الترجمة الأولى

(1)

، وقوله في هذِه: إنها العجوز التي كانت تغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياة خديجة يدل أنها غير الأولى إلاَّ أن يكون الصرع حدث بها

(2)

.

واسمها سعيرة الأسدية، ويقال: ستيرة. قال: وكانت حبشية. قال:

(1)

"الاستيعاب" 4/ 491 (3587).

(2)

"أسد الغابة" 7/ 333 ترجمة رقم (7443، 7444).

ص: 280

وقال أبو موسى: قال ابن خزيمة: أبرأ إلى الله من عهدة هذا الإسناد

(1)

، قلت: الذي ذكره أبو موسى (سكيرة) وفيه أيضًا قال جعفر: في إسناد حديثها نظر أوردها أبو عبد الله وغيره في باب الشين

(2)

.

وقال جعفر: هي بالسين أثبت

(3)

.

زاد علي بن معبد، عن بشير بن ميمون قال: فأنزل الله في سعيرة {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] قال: وكانت سعيرة تجمع الصوف والشعر والليف فتجمع بها كبة عظيمة، فإذا عظم عليها نقضتها فأنزل الله فيها يا معشر قريش لا تكونوا مثل سعيرة، ولا تنقضوا أيمانكم بعد توكيدها كما فعلت سعيرة نقضت كبتها بعد توكيدها يعني الموتة والجنون.

فصل:

في الحديث: فضل ما يترتب على الصرع، وأن اختيار البلاء والصبر عليه يورث الجنة، وأن الأخذ بالشدة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه أنه يطيق التمادي على الشدة ولا يضعف عن التزامها.

(1)

يشير المصنف إلى ما رواه ابن خزيمة من طريق عطاء الخراساني، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباس: ألا أريك إنسانًا من أهل الجنة؟ فأراني حبشية صفراء عظيمة قال: هذِه سعيرة الأسدية .. الحديث.

(2)

قال الحافظ في "الإصابة" 4/ 329: ذكرها ابن منده بالشين المعجمة والقاف.

(3)

"أسد الغابة" 7/ 142.

ص: 281

‌7 - باب فَضْلِ مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ

5653 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَمْرٍو -مَوْلَى الْمُطَّلِبِ- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ» . يُرِيدُ عَيْنَيْهِ. تَابَعَهُ أَشْعَثُ بْنُ جَابِرٍ وَأَبُو ظِلَالٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [فتح 10/ 116]

ذكر فيه حديث عمرو مولى المطلب، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الجَنَّةَ". يُرِيدُ عَيْنَيْهِ. تَابَعَهُ أَشْعَثُ بْنُ جَابِرٍ وَأَبُو ظِلَالٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

الشرح:

عمرو هذا هو ابن أبي عمرو ميسرة مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي مات في خلافة أبي جعفر المنصور وقال فيه ابن معين: ضعيف ليس بالقوي وليس بحجة. علقمة بن أبي علقمة أوثق منه

(1)

، قلت: لكن أخرج له الجماعة.

وأبو ظلال اسمه: هلال بن أبي مالك زيد الأزدي القسملي الأعمى البصري تابعي، وعنه جماعة. ضعفه يحيى بن معين

(2)

أخرج له الترمذي. ومتابعته أخرجها الترمذي عن عبد الله بن معاوية الجمحي ثنا عبد العزيز بن مسلم: ثنا أبو ظلال عن أنس

(3)

. قال: وتابعه زيد العمي، وواهب بن سلامة وكثير بن سليم وغير واحد عن أنس.

(1)

انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 22/ 168.

(2)

"المجروحين" لابن حبان 3/ 85.

(3)

"سنن الترمذي"(2400) وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني.

ص: 282

ورواه ابن حبان الكلبي فقال عن ثابت أو أبي ظلال على الشك قال: أتينا أنسًا، ومعنا أبو ظلال، وكذلك رواه محمد بن عبد الملك، عن عفيرة بنت واقد البصرية، عن حمنة بنت ثابت، عن أبيها

(1)

.

ولفظ أبي ظلال عند البغوي الكبير: أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ابن أم مكتوم فقال: قال ربك -جل وعز-: "إذا أخذت كريمتي عبدي لم أجد له بها أجرًا إلاَّ الجنة"، وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي عنه مرفوعاً:"يقول الله تعالى: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب" الحديث، ثم قال: حسن صحيح

(2)

.

ومن حديث زيد بن أرقم قال: رمدت فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما برأت قال لي: "يا زيدُ أرأيت لو أن عينيك كانتا لما بهما" قال: قلت: كنت أصبر وأحتسب. قال: "إذًا لقيت الله ولا ذنب لك"

(3)

.

أخرجه حميد بن زنجويه، عن النضر بن شميل، أنا يونس، عن أبي إسحاق، عنه، وهو إسناد جيد، وحينئذٍ فلا ينبغي لابن الجوزي أن يذكره في "علله".

وهذا الحديث حجة أيضًا في أن الصبر على النبلاء ثوابه الجنَّة، ونعمة الصبر على العبد وإن كانت من أجلِّ نعم الله في الدنيا فعوض الله له الجنَّة عليها أعظم من نعيمها في الدنيا لنفاذ مدة الالتذاذ بالبصر في الدنيا، وبقاء مدة الالتذاذ به في الجنَّة، فمن ابتلي من المؤمنين

(1)

ذكر هذه المتابعات المزي في "التحفة" 1/ 422 (1643)، مع اختلاف في بعض أسماء الرواة.

(2)

رواه الترمذي (2401).

(3)

رواه البخاري في "الأدب المفرد"(532)، والطبراني 5/ 190 (5052) كلاهما من طريق سالم بن قتيبة، عن يونس، به.

ص: 283

بذهاب بصره في الدنيا فلم يفعل ذلك به لسخط عليه، وإنما أراد الإحسان إليه، إمَّا بدفع مكروه عنه يكون سببه نظر عينيه لا صبر على عقابه في الآخرة أو ليكفر عنه ذنوبًا سلفت لا يكفرها عنه إلاَّ بأخذ أعظم جوارحه في الدنيا ليلقى ربه طاهرًا من ذنوبه أو ليبلغه من الأجر إلى درجة لم يكن يبلغها بعمله.

وكذلك جميع أنواع البلاء، فأخبر الشارع كما تقدم: أن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم:"أن أهل العافية في الدنيا يودون لو أن لحومهم قرضت بالمقاريض في الدنيا"

(1)

لما يرون من ثواب الله لأهل البلاء، فمن ابتُلي بذهاب بصره أو فقد جارحة من جوارحه، فليلق ذلك بالصبر والشكر والاحتساب وليرض باختيار الله له، ذلك ليحصل على أفضل العوضين وأعظم النعمتين وهي الجنَّة التي من صار إليها فقد ربحت تجارته وكرمت صفقته ولم يضره ما لقي من شدة البلاء فيما قاده إليها.

(1)

رواه الترمذي (2402)، والبيهقي في "السنن الكبرى" 3/ 526 وفي "الشعب" 7/ 180، والطبراني في "الصغير" 1/ 156 من حديث أبي الزبير عن جابر وقال الترمذي حديث لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه. وروى نحوه مطولاً الطبراني في "الكبير" 12/ 182، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 91 من حديث ابن عباس وقال الهيثمي في "المجمع" 2/ 305، رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه مجاعة بن الزبير وثقه أحمد وضعفه الدارقطني.

وحديث جابر حسنه الألباني في "الصحيحة"(2206).

ص: 284

‌8 - باب عِيَادَةِ النِّسَاءِ الرِّجَالَ

وَعَادَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ المَسْجِدِ مِنَ الأَنْصَارِ.

5654 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ رضي الله عنهما قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا قُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ

وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَتْ عَنْهُ يَقُولُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بَوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ

وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ» . [انظر: 1889 - مسلم: 1376 - فتح 10/ 117]

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ رضي الله عنهما قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا .. الحديث.

وفيه: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد .. إلى آخره، وقد سلف في الحج وهو ظاهر فيما ترجم له، وحديثها هذا كان في أول الإسلام عند قدومهم المدينة فوجدوها وبيئة، فدعا لها عليه السلام أن يصححها وينقل حماها إلى الجحفة، فأجاب الله دعوته. وعيادة أم الدرداء تحمل على أنها عادته وهي متجالة فلا تزور امرأة رجلاً إلاَّ أن تكون ذات محرم منه أو تكون متجالة يؤمن من مثلها الفتنة أبدًا.

ص: 285

وقيل: كان ذلك قبل نزول الحجاب.

وفيه: أن الدعاء يرفع الوباء والمرض جائز.

وفيه: ما ترجم له وهو عيادة النساء الرجال، وعيادة السادة الجلة لعبيدهم؛ لأن بلالًا وعامر بن فهيرة أعتقهما الصديق.

فصل:

الوادي. في قوله: بوادٍ يريد: مكة، وأنشده في "الصحاح".

......... بمكةَ حَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

(1)

.

والإذخر نبت. الواحدة: إذخرة

(2)

.

والجليل: التمام. وهو نبت ضعيف يحشى به خصاص البيوت، الواحدة: جليلة. والجمع جلائل. فإذا عظم رجل فهو جليل.

ومياه: جمع ماء في الكثرة، وجمعه في القليل: أمواه؛ لأن أصله موه بالتحريك مثل جمل وأجمال في القلَّة، وجمال في الكثرة، وأبدلت في واحدة من الهاء همزة، وتصغيره: مويه، فعادت الهاء في جمعه وتصغيره؛ لأنهما يردان الأشياء إلى أصولها.

ومجنة -بفتح الميم-: موضع على أميال من مكة كان بها سوق للعرب، وبعضهم يكسر ميمها، والفتح أكثر، والميم زائدة.

قال ابن عباس: كانت مجنة وذو المجاز وعكاظ أسواقًا في الجاهلية

(3)

.

(1)

"الصحاح" 4/ 1659.

(2)

المصدر السابق 2/ 663.

(3)

سلف برقم (2050) كتاب البيوع، باب: ما جاء في قول الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} .

ص: 286

وشامة وطفيل، بفتح الطاء: جبلان بمكة، وقيل: عينان.

وإنما تمنى الرجوع إلى مكة حين استثقل (حمى)

(1)

المدينة ووباءها، ولذلك دعا لهم بحب المدينة.

وقوله: "وانقل حمَّاها واجعلها في الجحفة".

قيل: كان أهلها حينئذٍ كفارًا.

وقيل: كان رأى سوادًا تعبد فأنزلها الجحفة فأولها الحمى.

قال ابن حبيب: ولمَّا دعا بذلك لم تزل الجحفة من يومئذٍ أكثر بلاد الله حمى، وإنه ينقى شرب الماء من عينها التي يقال لها: عين حم، وقيل من شرب منها إلاَّ حم، قلت: وكيف لا! ودعاؤه لا يرد.

(1)

في الأصل: الحمى، والمثبت هو الملائم للسياق.

ص: 287

‌9 - باب عِيَادَةِ الصِّبْيَانِ

5655 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَاصِمٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما، أَنَّ ابْنَةً لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ -وَهْوَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَعْدٍ وَأُبَيٍّ: نَحْسِبُ أَنَّ ابْنَتِي قَدْ حُضِرَتْ فَاشْهَدْنَا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا السَّلَامَ وَيَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى، فَلْتَحْتَسِبْ وَلْتَصْبِرْ» . فَأَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا، فَرُفِعَ الصَّبِيُّ فِي حَجْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَيْنَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ وَضَعَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ إِلاَّ الرُّحَمَاءَ» . [انظر: 1284 - مسلم: 923 - فتح 10/ 118]

ذكر فيه حديث أسامة السالف في الجنائز ويأتي في النذور والتوحيد

(1)

، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه

(2)

وقال: إن ابنا لها قُبض، أي قارب لا جرم. قال ابن ناصر: حُضِرَ، وقال هنا: (أن ابنتي قد حُضرت فاشهدنا

(3)

. وفي نسخة: أن ابني قد حُضر فاشهدنا

(4)

حضرت فاشهدها، وقد أسلفنا المبهم هناك في رواية البنت وأما المرسلة فهي زينب، وابنها في الرواية الأخرى علي، كذا نقل عن خط الدمياطي.

(1)

سلف برقم (1284)، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه، ويأتي في النذور (6655) باب:{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، وفي التوحيد (7377) باب: قول الله {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} .

(2)

رواه مسلم (923) كتاب: الجنائز، باب: البكاء على الميت، وأبو داود (3125) والنسائي في "الكبرى" 1/ 612، 613، وابن ماجه (1588).

(3)

في الأصل: (فاشهدها)، والمثبت هو الصواب.

(4)

في الأصل: (أن ابني قد حضرت فاشهدها)، والمثبت هو الصواب.

ص: 288

وادعى ابن بطال أن هذا الحديث لم يضبطه الراوي فمرة قال: إن بنتًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه أن ابنتي قد احتضرت. ومرة قال في آخر الحديث: فرفع الصبي في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفسه تقعقع، فأخبرت مرَّة عن صبية ومرَّة عن صبي.

وفيه من الفقه:

عيادة الرؤساء وأهل الفضل للصبيان المرضى، وذلك صلة لآبائهم ولا نعدم من ذلك بركة دعائهم للمرضى وموعظة للآباء وتصبيرهم واحتسابهم لما ينزل بهم من المصائب عند الله

(1)

.

ومعنى: (ونفسه تقعقع): يسمع لها صوت.

وفي حديث آخر: كأنها شن.

وقوله: ("هذِه الرحمة"): قد صح "إِنَّ لله مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ" أخرجه مسلم

(2)

، وروى البخاري نحوه

(3)

.

وفي مسلم -أيضًا- عن سلمان مرفوعًا "خَلَقَ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا في الأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بهذِه الرَّحْمَةِ"

(4)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 379، 380.

(2)

مسلم (2753) كتاب: التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه من حديث أبي هريرة.

(3)

سيأتي برقم (6000) كتاب: الأدب، باب: جعل الله الرحمة مائة جزء.

(4)

مسلم (2753) كتاب: التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.

ص: 289

وجاء: إنَّ الله خَلَقَ مائةَ رحمة، فأمسكَ عنده تسعًا وتسعين وجعل في عباده رحمة واحدةً بها يتراحمون، وتحن الأم على ولدها، فإذا كان يوم القيامة جمع الله تلك الرحمة إلى التسع والتسعين فيظل بها خلقه حتى إن إبليس -رأس الكفرة- يطمع لما رأى من رحمته تعالى.

ص: 290

‌10 - باب عِيَادَةِ الأَعْرَابِ

5656 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ على أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَقَالَ لَهُ: «لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ» . قَالَ: قُلْتَ: طَهُورٌ؟ كَلاَّ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ -أَوْ تَثُورُ- عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَنَعَمْ إِذًا» . [انظر: 3616 - فتح 10/ 118]

ذكر فيه حديث ابن عباس السالف في علامات النبوَّة ويأتي في باب ما يقال للمريض وفي التوحيد

(1)

، ولا شك أن عيادتهم داخلة في عموم قوله:"عودوا المريض"

(2)

. إذ هم من جملة المؤمنين.

وفائدة هذا الحديث كما قال المهلب: أنه لا نقص على السلطان في عيادة مريض من رعيته أو واحد من باديته، ولا على العالم في عيادة الجاهل؛ لأن الأعراب شأنهم الجهل كما وصفهم الله، ألا ترى رد هذا الأعرابي لقوله عليه السلام وتهوينه عليه مرضه بتذكيره ثوابه عليه. فقال: بل هي حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، وهذا غاية الجهل.

وقد روى معمر، عن زيد بن أسلم في هذا الحديث: أنه عليه السلام حين قال للأعرابي: "فنعم إذًا"، أنه مات الأعرابي، وسيأتي زيادة فيه قريبًا.

(1)

سلف برقم (3616)، ويأتي برقم (5662)، وفي التوحيد برقم (7470) باب: في المشيئة والإرادة.

(2)

رواه أحمد 22/ 296 (10751)، ابن أبي شيبة 2/ 444 (10841)، عبد الرزاق 4/ 592 (6762).

ص: 291

وقوله: ("فنعم إذًا") يحمل كما قال ابن التين: أن يكون دعا عليه، ويؤيده ما أوردناه آنفًا أو أخبر بذلك أي على طريق الرجاء لا على الإخبار بالغيب ويحتمل الآخر.

وفيه الدعاء للمريض بتطهير الذنوب عملًا بقوله: ("لا بأس، طهور").

وقوله: (كلَّا بل هي)، يعني: الحمى، وذكره ابن التين بلفظ هو، وقال: يريد المرض.

و (تفور) أي: تهيج، كذلك.

ص: 292

‌11 - باب عِيَادَةِ الْمُشْرِكِ

5657 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ غُلَامًا لِيَهُودَ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَالَ:«أَسْلِمْ» . فَأَسْلَمَ. [انظر: 1356 - فتح 10/ 119].

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه أَنَّ غُلَامًا لِيَهُودَ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَقَالَ:"أَسْلِمْ". فَأَسْلَمَ.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ: لَمَّا حُضِرَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشرح:

الحديثان سلفا في الجنائز، والثاني في قصة أبي طالب والتفسير

(1)

. وسلف ذلك قريبًا أيضًا وتكلمنا عليه.

قال ابن بطال: إنما يعاد المشرك؛ ليدعى إلى الإسلام إذا رجا إجابته إليه، ألا ترى أن اليهودي أسلم حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكذلك عرض الإسلام على عمِّه أبي طالب، فلم يقض الله به، فأمَّا إذا لم يطمع بإسلامه ولا رجيت (إنابته)

(2)

فلا ينبغي عيادته

(3)

.

وهذا كنت أسلفته (بحثًا)

(4)

فإذا هو منقول.

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

في (ص 2) إجابته.

(3)

"شرح ابن بطال" 9/ 381.

(4)

زيادة من (ص 2).

ص: 293

‌12 - باب إِذَا عَادَ مَرِيضًا فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً

5658 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ يَعُودُونَهُ فِي مَرَضِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا، فَجَعَلُوا يُصَلُّونَ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:«إِنَّ الإِمَامَ لَيُؤْتَمُّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِنْ صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا» . [انظر: 688 - مسلم: 412 - فتح 10/ 120]

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم آخِرَ مَا صَلَّى صَلَّى قَاعِدًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامٌ.

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها السالف في الصلاة

(1)

. ونقل عن الحميدي نسخه بأنه عليه السلام آخر ما صلى قاعدًا والناس خلفه قيام، وهذا قد سلف الكلام عليه واضحًا. ورواه النسائي

(2)

وأهمله ابن عساكر.

ومن السنَّة المعروفة: أن صاحب المنزل يتقدم للصلاة بمن جحره من الناس إلاَّ أن يقدم غيره، وصلاته بمن عاده في مرضه هو الواجب لأمرين:

أحدهما: ما قررناه من أن صاحب المنزل أولى من غيره بالإمامة.

ثانيهما: أنه عليه السلام ولا يجوز أن يتقدمه أحد في كل مكان.

قال ابن بطال: ولا يجوز اليوم لمن كان مريضًا أن يؤم أحدًا في بيته جالسًا؛ لأن إمامة الجالس منسوخة عند أكثر العلماء

(3)

.

(1)

سلف برقم (1113) باب: صلاة القاعد.

(2)

"سنن النسائي" 3/ 340، "السنن الكبرى" 1/ 292 (906).

(3)

"شرح ابن بطال" 9/ 381.

ص: 294

قلت: المنسوخ: قعودهم معه فقط، وهذا ذكره على مشهور مذهبه: أعني مذهب مالك أنه لا يؤم المريض الصحاح

(1)

.

كما ذكره ابن التين قال: ودليله قوله عليه السلام: "لا يؤم أحد بعدي جالسًا"

(2)

.

قلت: حديث لا يصح، وحمل ابن القاسم حديث الباب أنه كان نافلة وهو غلط، وأخذ أحمد وإسحاق بظاهره، وأن الإمام إذا صلَّى جالسًا تابعوه

(3)

، وتبين في حديث جابر أنه فعله تواضعًا ومخالفة لأهل فارس في قيامهم على رءوس ملوكهم.

قيل: ويحتمل أن يكون قاموا في بعض الجلوس تعظيمًا له، فأمرهم باتباعه إذا جلس للتشهد.

وقول الحميدي: أنه منسوخ بفعله الآخر، قال به أبو حنيفة والشافعي.

ويأتي على رواية الوليد، عن مالك خلاف المشهور، كما سلف.

(1)

"المدونة" 1/ 81.

(2)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 463 (4087، 4088)، والدارقطني في "سننه" 1/ 398 وقال: لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة. ورواه البيهقي أيضًا في "سننه" 3/ 8 ثم أسند إلى الشافعي قوله: قد علم الذي احتج بهذا أن ليست فيه حجة وأنه لا يثبت؛ لأنه مرسل، ولأنه عن رجل يرغب الناس عن الرواية عنه.

(3)

"المغني" 3/ 61 - 63.

ص: 295

‌13 - باب وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَرِيضِ

5659 -

حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْجُعَيْدُ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَاهَا قَالَ: تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ شَكْوًا شَدِيدًا، فَجَاءَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي أَتْرُكُ مَالاً وَإِنِّي لَمْ أَتْرُكْ إِلاَّ ابْنَةً وَاحِدَةً، فَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي وَأَتْرُكُ الثُّلُثَ؟ فَقَالَ:«لَا» . قُلْتُ: فَأُوصِي بِالنِّصْفِ وَأَتْرُكُ النِّصْفَ؟ قَالَ: «لَا» . قُلْتُ: فَأُوصِي بِالثُّلُثِ وَأَتْرُكُ لَهَا الثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» . ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِي وَبَطْنِي، ثُمَّ قَالَ:«اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتْمِمْ لَهُ هِجْرَتَهُ» . فَمَا زِلْتُ أَجِدُ بَرْدَهُ عَلَى كَبِدِي فِيمَا يُخَالُ إِلَيَّ حَتَّى السَّاعَةِ. [انظر: 56 - مسلم: 1628 - فتح 10/ 120]

5660 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِى فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ» . فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَجَلْ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى -مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ- إِلاَّ حَطَّ اللهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» . [انظر: 5647 - مسلم: 2571 - فتح 10/ 120]

ذكر فيه حديث الجعيد، عَنْ عَائِشَةَ

(1)

بِنْتِ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَاهَا قَالَ: تَشَكَّيْتُ بِمَكَّةَ شَكْوًا شَدِيدة .. الحديث.

وقد سلف في الجنائز وغيره

(2)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: الصحيح أنها تابعية.

(2)

سلف في الجنائز برقم (1295)، باب: رثي النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة.

وسلف في الوصايا برقم (2742)، باب: أن يترك ورثته أغنياء ..

وبرقم (3936) كتاب: مناقب الأنصار، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم" ومواضع أخرى.

ص: 296

وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الوعك، وقد سلف قريبًا

(1)

.

والشكو والشكوى والشكاة والشكاية: المرض.

والجُعيد بضم أوله، وجده أوس مدني، قال البخاري: قال مكي: سمعته من الجعيد سنة أربع وأربعين ومائة، ويقال فيه أيضًا: الجعد. أخرج له مسلم حديثًا واحداً وهو حديث السائب الآتي

(2)

.

أمَّا حكم الباب فوضع اليد على المريض تأنيس له وتعرف لشدة مرضه ليدعو له العائد على حسب ما يبدو منه، وربما رقاه بيده ومسح على ألمه، فانتفع به العليل إذا كان عائده صالحًا يتبرك بيده ودعائه كما فعل عليه السلام، وذلك من حسن الأدب واللطف بالعليل، وينيغي امتثال أفعاله كلها والاقتداء به فيها ما لم تكن خاصة به.

وزاد في حديث سعد هنا: (فأوصي بالثلث وأترك لها الثلثين). قال الداودي: إن يكن هذا محفوظًا فلقد كان قبل أن تنزل الفرائض.

وقوله: ("الثلث والثلث كثير"). قال بعض العلماء: إن الوصية تكون بدون الثلث، وأكثرهم كما قال ابن التين على إجازته.

وقوله: (فما زلت أجد برده على كبدي فيما يخال إليَّ حتى السَّاعة) أي: يظن.

قال ابن التين: وصوابه يخيل من التخيل، قال تعالى:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ} [طه: 66].

(1)

سلف برقم (5647) باب: شدة المرض.

(2)

سيأتي عند البخاري برقم (5670)، ورواه مسلم (2345) كتاب: الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله من جسده.

ص: 297

‌14 - باب مَا يُقَالُ لِلْمَرِيضِ، وَمَا يُجِيبُ

5661 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ فَمَسِسْتُهُ وَهْوَ يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ:«أَجَلْ، وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلاَّ حَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ، كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ» . [انظر: 5647 - مسلم: 2571 - فتح 10/ 121]

5662 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ فَقَالَ:«لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ» . فَقَالَ: كَلاَّ بَلْ حُمَّى تَفُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ كَيْمَا تُزِيرَهُ الْقُبُورَ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَنَعَمْ إِذًا» . [انظر: 3616 - فتح 10/ 121]

ذكر فيه حديث عبد الله الذي فرغنا منه آنفًا، وحديث ابن عباس السالف في عيادة الأعراب.

فيه: كما قال المهلب: إن من السُّنَّة أن يخاطب العليل بما يسليه من ألمه ويغبطه بأسقامه بتذكيره بالكفارة لذنوبه وتطهيره من آثاره ويطمعه من الإقالة، كقوله: لا بأس عليك مما تجده بل يكفر الله به ذنوبك ثم يفرج عنك فيجمع لك الأجر والعافية لئلا يسخط أقدار الله واختياره له وتفقده إيَّاه بأسباب الرحمة، ولا يتركه إلى نزغات الشيطان والسخط، فربما جازاه الله بالتسخيط سخطًا، وبسوء الظن عقابًا فيوافق قدرًا يكون سببًا إلى أن يحل به ما لفظ من الموت الذي حكم به على نفسه.

وقوله لابن مسعود: ("أجل") فيه: أنه ينبغي للمريض أن يحسن جواب زائره، ويتقبل ما يعده من ثواب مرضه، ومن إقالته، ولا يرد عليه كمثل ما رد الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وستأتي له تتمة في

ص: 298

الاعتصام في باب {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]

(1)

.

فائدة:

قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: حدثنا إسحاق -هو ابن شاهين الواسطي- كما ذكره الإسماعيلي.

(1)

سيأتي برقم (7470) كتاب التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة.

ص: 299

‌15 - باب عِيَادَةِ الْمَرِيضِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَرِدْفًا عَلَى الحِمَارِ

5663 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ على قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَسَارَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللهِ، وَفِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ، قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا.

فَسَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَوَقَفَ وَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ، إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَكَتُوا، فَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ:«أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟» . يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ.

قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ، فَلَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ مَا أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ اجْتَمَعَ أَهْلُ هَذِهِ البَحْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ، فَلَمَّا رَدَّ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ الَّذِي فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ. [انظر: 2987 - مسلم: 1798 - فتح 10/ 122]

5664 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدٍ -هُوَ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ- عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلَا بِرْذَوْنٍ. [انظر: 194 - مسلم: 1616 - فتح 10/ 122]

ذكر فيه حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى

ص: 300

حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ، يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ .. القصة بطولها، وقد سلفت في الجهاد والتفسير، وتأتي في اللباس والأدب والاستئذان

(1)

وأخرجه مسلم والنسائي، -وأهمل ابن عساكر النسائي- والترمذي، وقال: حسن صحيح

(2)

.

وحديث جابر جَاءَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي لَيْسَ بِرَاكِبِ بَغْلٍ وَلَا بِرْذَوْنٍ. وأخرجه أبو داود والنسائي

(3)

وأهمله ابن عساكر.

فيه: ما ترجم له، وعيادة المريض راكبًا مفردًا وردفًا وماشيًا كل ذلك سنُّة مرجو بركة العمل بها، وثواب الأعمال على صحة النيَّة وإخلاصها لله، وإن قلَّت المشقة فيها.

(والإكاف): ما يجعل على الحمار، كالبرذعة ويقال: وكاف أيضًا والقطيفة: دثار مخمل، والجمع: قطائف وقطف.

(والفدكية): منسوبة إلى فدك، قرية بخيبر.

و (عجاجة الدابة): غبارها، قال الجوهري: العجاج: الغبار والدخان أيضًا، والعجاجة -أيضًا- أخص منه

(4)

.

(1)

سلف في الجهاد برقم (2987) باب: الردف على الحمار، وفي التفسير برقم (4566)، باب:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وسيأتي في اللباس برقم (5964)، باب: الارتداف على الدابة وفي "الأدب" برقم (6207)، باب: كنية المشرك وفي الاستئذان برقم (6254) باب: التسليم في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين.

(2)

مسلم (1798) كتاب: الجهاد والسير، باب: في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين، والترمذي (2702)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 356 - 357.

(3)

"سنن أبي داود"(3096)، "السنن الكبرى" 4/ 356، ورواه مسلم (1616) والترمذي (3851).

(4)

انظر: "الصحاح" 1/ 327 مادة: (عجج).

ص: 301

وقوله: (يتثاورون) أي: يتواثبون، وتثور بينهم الفتنة وتهيج، وفيه شكوى الشارع عبد الله بن أُبَيِّ إلى سعد بن عبادة.

وقوله: ("أبو حُباب")، فيه تكنية الكافر يتلطف بذلك من يحتمي به من المسلمين.

والبحيرة: البلدة، قاله الجوهري: يقول هذِه بحيرتنا أي: بلدتنا

(1)

.

و (يتوجوه): يعصبوه، يقال: عصبت رأسه بالعمامة والتاج تعصيبًا، واعتصب بها.

وقوله: (شرق بذلك) أي: تنحى، وغص بكسر الراء، ومنه شرق بريقه أي غص به.

والبرذون -بكسر الباء- مشتق من برذن الرجل برذونة إذا بعل، والأنثى: برذونه. قاله الكسائي.

(1)

"الصحاح" 2/ 515 مادة: (بحر).

ص: 302

‌16 - باب قَوْلِ الْمَرِيضِ: إِنِّي وَجِعٌ، أَوْ: وَارَأْسَاهْ، أَوِ: اشْتَدَّ بِي الْوَجَعُ

وَقَوْلِ أَيُّوبَ عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83].

5665 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَأَيُّوبَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه: مَرَّ بِىَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ الْقِدْرِ، فَقَالَ:«أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» . قُلْتُ: نَعَمْ. فَدَعَا الْحَلاَّقَ فَحَلَقَهُ ثُمَّ أَمَرَنِي بِالْفِدَاءِ. [انظر: 1814 - مسلم: 1201 - فتح 10/ 123]

5666 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَبُو زَكَرِيَّاءَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَارَأْسَاهْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ، فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ» . فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلِيَاهْ، وَاللهِ إِنِّي لأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلِلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ، لَقَدْ هَمَمْتُ -أَوْ أَرَدْتُ- أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ، وَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ" أَوْ: "يَدْفَعُ اللهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ» . [7217 - مسلم: 2387 - فتح 10/ 123]

5667 -

حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يُوعَكُ فَمَسِسْتُهُ فَقُلْتُ: إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قَالَ: «أَجَلْ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ» .

قَالَ: لَكَ أَجْرَانِ. قَالَ: «نَعَمْ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى -مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ- إِلاَّ حَطَّ اللهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» . [انظر: 5647 - مسلم: 2571 - فتح 10/ 123]

ص: 303

5668 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي زَمَنَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقُلْتُ: بَلَغَ بِي مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ:«لَا» . قُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ قَالَ: «لَا» . قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ كَثِيرٌ، أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ» . [انظر: 56 - مسلم: 1628 - فتح 10/ 123]

ذكر فيه أحاديث سلفت:

حديث كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه: "أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ.

سلف في الحج

(1)

.

وحديث القاسم قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَارَأْسَاهْ .. ، الحديث سلف أيضًا

(2)

. وحديث ابن مسعود في الوعك سلف قريبًا

(3)

.

وحديث عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَنَي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي زَمَنَ حَجَّةِ الوَدَاعِ.

وقد سلف قريبًا في المغازي والهجرة وفي الجنائز

(4)

، اختلف العلماء كما قال الطبري في هذا الباب، فقالت طائفة: لا أحد من بني آدم إلاَّ وهو يألم من الوجع ويشتكي المرض؛ لأن نفوس بني آدم

(1)

سلف برقم (1814)، باب قول الله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} .

(2)

قلت بل سيأتي في الأحكام برقم (7217) باب: الاستخلاف. وانظر: "تحفة الأشراف"، و"النكت" عليه 12/ 290 (17561).

(3)

سلف برقم (5660)، باب: وضع اليد على المريض.

(4)

سلف برقم (4409) كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع. وبرقم (1295) كتاب: الجنائز، باب: رثي النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة.

ص: 304

مبنية على الجزع من ذلك والألم فغير قادر أحد على تغيرها عما خلقها عليه بارئها، ولا يكلف أحد أن يكون بخلاف الجبلة التي جبل عليها.

وإنما كلف العبد في حال المصيبة أن لا يفعل ما له إلى ترك فعله سبيل، وذلك ترك البكاء على الرزية والتأوه من المرض.

فمن تأوه من مصيبة تحدث عليه أو فعل نظير الشيء من ذلك، فقد خرج من معاني أهل الصبر ودخل في معاني أهل الجزع، وممن روى ذلك مجاهد وطاوس، قال مجاهد: يكتب على المريض كل ما تكلَّم به حتى الأنين

(1)

.

وقال ليث: قلت لطلحة بن مصرف: إن طاوسًا كره الأنين في المرض، فما سُمع لطلحة أنين حتى مات

(2)

. واعتلوا لقولهم بإجماع الجميع على كراهة شكوى العبد ربه على ضُرٍّ ينزل به أو شدة تحدث به، وشكواه ذلك إنما هو ذكر للناس ما امتحنه به ربه تعالى على وجه الضجر، قالوا: فالمتأوه: المتوجع في معنى ذاكره للناس متضجرًا به وأكثر منه، وقال: آه. وليس

(3)

الذي قال: هؤلاء، يسيء.

وقال: إنما الشاكي ربه من أخبر عمَّا أصابه من الضر والبلاء متسخطًا قضاء الله فيه، فأما من أخبر به إخوانه ليدعوا له بالشفاء والعافية وأن استراحته من الأنين والتأوه فليس ذاك بشاكٍ ربَّه، وقد شكا الألم والوجع المؤذي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجماعة من القدوة ممن ذكرهم البخاري في هذا الباب وغيرهم.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 443 (10830).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 213 (35401).

(3)

في الأصل: (ومن ليس)، والمثبت هو الملائم للسياق.

ص: 305

روي عن الحسن البصري: أنه دخل عليه أصحابه وهو يشتكي ضربةً، فقال:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] وهذا القول أولى بالصواب؛ لما يشهد له من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأيضًا، فإن الأنين من ألم العلَّة والتأوه وقد يغلبان الإنسان ولا يطيق كفهما عنه، ولا يجوز إضافة مؤاخذة العبد به إلى الله؛ لأنه تعالى قد أخبر أنه لا يكلف نفسًا إلاَّ وسعها، وليس في وسع ابن آدم ترك الاستراحة إلى الأنين عند الوجع يشتد به والألم ينزل به فيؤمر به

أو يُنهى عن خلافه.

فصل:

قول أيوب عليه الصلاة والسلام: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] ليس مما يشاكل تبويبه؛ لأن أيوب إنما قال ذلك داعيًا ولم يذكره للمخلوقين، وقد ذكر أنه كان إذا سقطت دودة من بعض جراحه ردها مكانها.

فصل:

المراد بالهوام هنا القمل؛ لأنها تهيم في الرأس أي: تدب، وأمَّا هوام الأرض، فقال الجوهري والهروي: إنها الأحناش وكل ذي سم يقتل

(1)

.

قال الهروي: فأمَّا ما لا يقتل ويسم فهي السوام مثل العقرب والزنبور، وقال ابن فارس: هو حشرات الأرض

(2)

. قال: وهي دواب الأرض الصغار اليرابيع والضباب.

(1)

"الصحاح" 5/ 2062.

(2)

"مقاييس اللغة" ص 1016 مادة (هم).

ص: 306

فصل:

قوله في حديث عائشة رضي الله عنه: ("أو يتمنى المتمنون").

قال ابن التين: ضبط في غير كتاب بفتح النون، وإنما هو بضمها أصله: المتمنيون على زنة المتطهرون.

فاستثقلت الضمة على التاء، فاجتمع ساكنان والواو فحذفت التاء، لذلك وضمت النون لأجل الواو؛ إذ لا يصح واو قبلها كسرة.

وقال النووي: قوله عليه السلام لعائشة: "إني أخاف أن يتمنى متمن أو يقول قائل: أنا أولى".

وفي نسخة "أنا ولا ويأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر" كذا في بعض النسخ المعتمدة أنا ولا، بتخفيف أنا ولا، أي يقول: أنا أحق، وليس كما يقول:"يأبى الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر".

وفي بعضها: أنا أولى، أي: أنا أحق بالخلافة، قال عياض: هذِه أجودها

(1)

.

ورواه بعضهم: أنا ولي بتخفيف النون وكسر اللام، أي: أنا أحق والخلافة لي.

ورواه بعضهم: أنا ولاه، أي: أنا الذي ولَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعضهم رواه: أنَّى ولاه، بتشديد النون أي: كيف ولاه. وفي الحديث دلالة ظاهرة على فضل الصديق وإخبار منه عمَّا يقع في المستقبل بعد وفاته، وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره وفيه إشارة إلى أنه سيقع نزاع، وقد وقع ذلك.

وأمَّا طلبه لأخيها مع أبيه فالمراد أي يكتب الكتاب.

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 390.

ص: 307

وفي رواية: "لقد هممت أن أوجه إلى أبي بكر وابنه وأعهد".

ورواه بعضهم: أو آتيه، بألف ممدودة بعدها تاء مثناة فوق ثم من تحت من الإتيان. وصوبه بعضهم كما قال عياض قال: وليس كما صوب بل الصواب بالباء الموحدة والنون يوضحه ما في مسلم: أخاك؛ ولأن إتيانه عليه السلام كان متعذرًا؛ لأنه عجز عن حضور الجماعة

(1)

. قال القرطبي: القادح في خلافة الصديق مقطوع بخطئه وفسقه، وهل يكفر أم لا؟ لا سيما وقد انعقد إجماع الصحابة على ذلك من غير مخالف

(2)

.

فصل:

وفيه من الفوائد: الغيرة، وقد سلف الكلام على ذلك.

فصل:

والراوي عن ابن مسعود: الحارث بن سويد وهو أبو عائشة التيمي، تيم الرباب كما في تلميذه إبراهيم التيمي.

فصل:

قوله: في (زمن حجة الوداع)، قد سلف غير مرَّة أنه كذا في "الموطأ"

(3)

، وأن سفيان قال: كان ذلك يوم الفتح، والصواب الأول.

فصل:

قوله فيه: (أفأتصدق بثلثي مالي. قال: "لا") احتج به أهل الظاهر على أن من أوصى بأكثر من ثلثه لا يجوز، وإن أجازه الورثة، قالوا: ولم يقل: إن أجازه ورثتك جاز.

(1)

"مسلم بشرح النووي" 15/ 155 - 156.

(2)

"المفهم" 6/ 250.

(3)

"الموطأ" ص 476.

ص: 308

وهذا لا دليل فيه؛ لأنه عليه السلام لم يتكلم على إجازة الورثة، وإنما يتكلم على ما يفعله الموصي ولا يفتقر إلى غيره فيه.

وقوله: "والثلث كثير". قال به إسحاق، وقال جماعة: الخمس: ومنهم من استحب أقل من الثلث.

وقوله: ("إن تذر ورثتك أغنياء .. ") الحديث.

احتج به لابن مسعود وإسحاق في قولهما أنه إذا لم يترك وارثًا أنه يجوز له أن يوصي بجميع ماله، والفقهاء على خلافه.

قيل: وذلك إذا كان بيت المال بيد عدلٍ.

وذكر عن الشيخ أبي القاسم السيودي أنه أوصى بجميع تركته لعلماء القيروان سوى ميراث زوجته لما كان القيروان بيد العرب، وجعل القاضي حكم بذلك في حياته، وأفتى المتأخرون من الشافعية أنه إذا لم ينتظم أمر بيت المال بالرد على أهل الفرض غير الزوجين ما فضل عن فروضهم بالنسبة فإن لم يكونوا صرف إلى ذوي الأرحام

(1)

.

فصل:

والعالة: الفقراء، ففيه فضل الكفاف على الفقر، ومعنى ("يتكففون"): يمدون أيديهم ليسألوا الناس.

وفيه أن يد المتصدق أفضل من يد المتصدق عليه.

وقوله: ("لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله") فيه أن روح العمل النيِّة، وأنه تعالى لا يثيب إلاَّ بما قصد به وجهه.

وقوله: ("حتى ما تجعل في فِيْ امرأتك ")، فيه دلالة على وجوب نفقة الزوجة.

(1)

"إعانة الطالبين" 3/ 264.

ص: 309

‌17 - باب قَوْلِ الْمَرِيضِ: قُومُوا عَنِّي

5669 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ.

وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما -قَالَ: لَمَّا حُضِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ» .

فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ. فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَاخْتَصَمُوا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغْوَ وَالاِخْتِلَافَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قُومُوا» .

قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ. [انظر: 114 - مسلم:

1637 -

فتح 10/ 126]

ذكر فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما لَمَّا حُضِرَ النبي صلى الله عليه وسلم وَفِي البَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:"هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا .. " الحديث.

وقد سلف في باب: كتابة العلم من كتاب العلم والمغازي، ويأتي في الاعتصام في باب النهي (على)

(1)

التحريم إلاَّ ما يعرف إباحته

(2)

.

وفيه: من الفقه أن المريض إذا اشتدَّ به المرض أنه يجوز أن يقول

(1)

في هامش الأصل: كذا في أصله، وكذا هو في أصل لنا دمشقي (عن) ولكني أحفظه كما أثبته (على) وهو أظهر في المعنى. قلت: وهو موافق لما في (ص 2).

(2)

سلف برقم (114) كتاب: العلم، وفي المغازي برقم (4431) باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته وسيأتي في الاعتصام برقم (7366) باب: كراهية الاختلاف.

ص: 310

لزواره: قوموا عنِّي وبأمرهم بالخروج؛ لينفرد بالطاقة ويمرضه من يخف عليه مباشرته له من أهله وذوي رحمه، ولا يعد ذلك جفاء على الزائرين، بل الجفاء منهم هو طول الجلوس عنده إذا اشتدَّ مرضه، والصواب لهم: تخفيف القعود عنده وترك إحراجه بأذاه.

(وهلم) هنا قال ابن التين: إنها بمعنى: تعال. قال الخليل: أصلها (لم) من قولهم لمَّ الله شعثه أي: جمعه؛ لأنه أراد لم نفسك إلينا (أي: قرِّب)

(1)

. و (ها) للتنبيه، وحذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسمًا واحداً يستوي فيه المذكر والمؤنث والجماعة في لغة أهل الحجاز، وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثثين: هلمَّا. وللجماعة: هلمُّوا. وللمؤنث: هلمي.

والأول أفصح؛ لقوله تعالى: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]. قاله الجوهري

(2)

.

وقال ابن فارس: أصلها (هل أم) كلام من يريد (إتيان)

(3)

الطعام، ثم كثرت حتى تكلم بها الداعي مثل قوله تعال وحئ كأنه يقولها من كان أسفل لمن فوق.

قال: ويحتمل أن يكون معناها: هل لك في الطعام ألم أي: اقصد واذنُ

(4)

.

وذكر صاحب "العين" ثم "البارع" هذِه المادة في باب الهاء واللام والميم

(5)

.

(1)

من (غ).

(2)

انظر: "الصحاح" 5/ 2060 مادة: [هلم].

(3)

من (غ).

(4)

"مجمل اللغة" 2/ 907.

(5)

"العين" 4/ 56.

ص: 311

قال الزبيدي في "مستدركه": وهو غلط من أبي علي القالي؛ لأن هلم ليس من هذا الباب عند النحويين الحداق، وإنما هي من كلمتين كان الأصل فيها لم وصلت بالهاء وصيرتا بمنزلة كلمة واحدة فليست من هذا الباب في شيء؛ لأن الهاء للتنبيه وهي وليدة.

وفي "المحكم" عن اللحياني أن من العرب من يقول: هلم، بنصب (اللام)

(1)

(2)

.

فصل:

قوله: "ائتوني بكتاب".

قال الشيخ أبو الحسن: يحتمل أن يكون على معنى جهة طرح المسائل عليهم لتخييرهم لا على عزيمةٍ وإلزام، فلما طرح عليهم هذا السؤال نظر أهل الفقه والفطنة، فقالوا: حسبنا كتاب الله ربنا فما كان من حادثة لجئوا إليه ليستنبطوا منه حكمها وامتنعوا أن يختاروا أن يكتب لهم حدا لعلمهم بعلة استقرار الناس مع التحذير، وهذا من دقة الفقه، ونظر عليه السلام إلى الطائفة الأخرى التي هي دون هذِه في الفقه فعلم مبلغ إدراكها وتركه أن يكتب جوابًا لهم، واختار إلى رأيه والمنع من الكتابة؛ ودليل ذلك أن قوله عليه السلام:"ائتوني بكتاب" لو كان بجزمه لما ترك أن يكتب ولا منعه اختلافهم.

فصل:

اللغط بالتحريك: الصوت والجلبة، وقد لغطوا يلغطون لَغْطًا ولَغَطًا ولغاطًا.

(1)

"المحكم" 4/ 234، 235.

(2)

في الأصل: (الألف)، والمثبت من (غ) وهو الموافق لما في "المحكم".

ص: 312

‌18 - باب مَنْ ذَهَبَ بِالصَّبِيِّ الْمَرِيضِ لِيُدْعَى لَهُ

5670 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ -هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ- عَنِ الْجُعَيْدِ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ. فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، وَقُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ. [انظر: 190 - مسلم: 2345 - فتح

10/ 127]

حدثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، أي بالحاء والزاي ثنا حَاتِمٌ -هُوَ ابن إِسمَاعِيلَ- عَنِ الجُعَيْدِ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابن أُخْتِي وَجِعٌ. فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، وَقُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ.

الشرح:

هذا الحديث سلف في الطهارة وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعين، ويأتي في الدعوات، وأخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن غريب من هذا الوجه، ورواه النسائي وأغفله ابن عساكر

(1)

.

وقد سلف أنه يقال: الجعيد، والجعد. وأنه ليس له في مسلم سوى هذا.

(1)

سلف برقم (190) كتاب: الوضوء، باب: استعمال فضل وضوء الناس.

وسلف في المناقب برقم (3540، 3541) باب: خاتم النبوة وسيأتي برقم (6352) كتاب: الدعوات، باب: الدعاء للصبيان بالبركة ومسح رءوسهم.

وأخرجه مسلم (2345) كتاب: الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة وصفته

ومحله، والترمذي (3643) والنسائي في "الكبرى" 4/ 361.

ص: 313

رواه عن محمد بن عباد، عن حاتم بن إسماعيل.

والزر: واحد الأزرار التي تشد بها النعال والستور على ما يكون في حجلة العروس.

والحجلة بالتحريك: بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كثار، ويجمع على: حجالة.

ومنه الحديث "اعروا النساء يلزمن الحجال"

(1)

، وقيل: إنما هو بتقديم الراء على الزاى مأخوذ من أرزت الجرادة ورزت إذا أدخلت ذنبها في الأرض لتلقي فيها بيضها.

ويريد بالحجلة: القبحة لهذا الطائر المعروف، والجمع: حجل بالتحريك.

ويشهد له ما رواه الترمذي من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم الذي بين كتفيه غدة حمراء مثل بيضة الحمامة

(2)

.

وقال ابن التين: الحجلة بالتحريك: واحدة حجال العروس.

(1)

رواه الطبراني في "الكبير" 19/ 438 وفي "الأوسط" 3/ 256 من حديث بكر بن سهل، عن شعيب بن يحيى، عن يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث، عن مجمع بن كعب، عن مسلمة بن مخلد؛ رفعه.

وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 138: في إسناده مجمع بن كعب ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات وقال ابن حجر في "لسان الميزان" لم ينفرد به بكر بن سهل فقد أخرجه ابن عساكر في "أماليه " وقال: حديث حسن اهـ بتصرف 2/ 52.

وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة" لا أصل له وتعقبه المعلمي اليماني في تخريجه له فقال: رواه الطبراني في "الأوسط" وغيره. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2827).

(2)

"سنن الترمذي"(4644) وهو عند مسلم (2344) كتاب الفضائل، باب: إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله من جسده.

ص: 314

قال الداودي: هو مثل البندقة، ومن رواه: بضم الحاء يقول: كحجلة العرس وهي الشعر المجتمع في مؤخر الحافر.

واعترض ابن التين فقال: هذا لم يذكره أهل اللغة.

فصل:

لا بأس بالذهاب بالصبيان إلى الصالحين وأهل الفضل رغبة في بركة دعائهم والانتفاع بهم.

ألا ترى أن هذا الصبي مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ودعا له وسقاه من وضوئه فبرئ حين قام خلف ظهره، ورأى بين كتفيه خاتم النبوَّة.

وفيه أنَّ شرب صاحب الوجع من وضوء الرَّجل الفاضل مما يذهب وجعه.

ص: 315

‌19 - باب تَمَنِّى الْمَرِيضِ الْمَوْتَ

5671 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» . [6351 - 7233 - مسلم: 2680 - فتح 10/ 127]

5672 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: دَخَلْنَا على خَبَّابٍ نَعُودُهُ -وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ- فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ سَلَفُوا مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّا أَصَبْنَا مَا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلاَّ التُّرَابَ، وَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى وَهْوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ فَقَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ لَيُوجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ إِلاَّ فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ فِي هَذَا التُّرَابِ. [6349، 6350، 6430، 6431، 7234 - مسلم: 2681 - فتح 10/ 127]

5673 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدٍ -مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» . قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَا أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ» . [انظر: 39 - مسلم: 2816 - فتح 10/ 127]

5674 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى» . [انظر: 4440 - مسلم: 2444 - فتح 10/ 127]

ذكر فيه أحاديث:

ص: 316

أحدها:

حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي"

وأخرجه مسلم والأربعة، في الدعوات

(1)

.

ثانيها:

حديث قيس بن أبي حازم، عن خباب، وعن أبيه، عنه: وَلَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ مَرَّةً أُخْرى وَهْوَ يَبْنِي حَائِطًا لَهُ فَقَالَ: إِنَّ المُسْلِمَ يُؤجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُنْفِقُهُ إِلَّا فِي شَيْءٍ يَجْعَلُهُ فِي هذا التُّرَابِ.

ويأتي في الدعوات والرقاق

(2)

، وأخرجه مسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه

(3)

.

ثالثها:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ". قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ خَيْرًا، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ".

(1)

مسلم (2680) كتاب: الذكر والدعاء، باب: كراهة تمني الموت لضر نزل به، وأبو داود (3108) والترمذي (971)، والنسائي 4/ 3، وابن ماجه (4265).

(2)

سيأتي في الدعوات (6349)، باب: الدعاء بالموت والحياة وفي الرقاق (6430، 6431) باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها.

(3)

مسلم (2681) كتاب: الذكر والدعاء، باب: كراهة تمني الموت لضر نزل به والترمذي (970)، والنسائي 4/ 4 وابن ماجه (4163).

ص: 317

رابعها:

حديث عائشة رضي الله عنها سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى".

الشرح:

في الباب -أيضًا- عن جابر وأم الفضل، أخرج الأول: ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن كثير بن زيد، عن سلمة بن أبي زيد عنه مرفوعاً:"لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد وإن من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة"

(1)

.

وأخرج الثاني: بقي بن مخلد، عن ابن رمح: ثنا الليث: ثنا ابن الهادي، عن هند -ابنة الحارث- عنها: أنه عليه السلام قال للعبَّاس: "يا عم رسول الله لا تَمَنَّ الموت، فإنك إن كنت محسنًا فإن تؤخر تزدد إحسانًا إلى إحسانك، وإن كنت مسيئًا فإن تؤخر تستعتب خيرًا لك".

وروى الترمذي من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أيُّ الناس خير؟ قال:"من طال عمره وحسن عمله"، قال: فأيّ الناس شرّ؟ قال: "من طال عمره وساء عمله"، ثم قال: حديث حسن صحيح

(2)

. وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلم

(3)

.

وأمَّا حكم الباب: فنهى عليه السلام أمته عن تمني الموت عند نزول البلاء بهم وأمرهم أن يدعوا بالموت ما كان الموت خيرًا لهم.

(1)

رواه ابن أبي شيبة من طريق كثير بن زيد، عن الحارث بن أبي يزيد، عن جابر مرفوعًا بلفظ "إن من سعادة مرء أن يطول عمره ويرزقه الله الأنابة".

(2)

"سنن الترمذي"(2330).

(3)

"المستدرك" 1/ 339.

ص: 318

وقد سلف في حديث أبي هريرة معللاً، قيل: إنه منسوخ.

يقول يوسف صلى الله عليه وسلم: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101] ويقول سليمان صلى الله عليه وسلم: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].

وبحديث الباب: ("وألحقني بالرفيق .. ") قالوا: ودعا عمر بالموت، وعمر بن عبد العزيز وليس كذلك؛ لأن هؤلاء، إنما سألوا ما قارن الموت، فالمراد بذلك ألحقنا بدرجاتهم، قلت: ولعل المراد إذا توفيتني فافعل ذلك، فهو دعاء لا تمن.

وكذا قوله: "وألحقني بالرفيق"، لأنه أخبر أن الأنبياء تخير، وقال: ذلك عند التخيير.

وتحقق الوفاة في يومه؛ لمجئ الملائكة المبشرين له بلقاء ربه، وبما أعدَّ له.

ألا ترى إلى قوله لفاطمة: "لا كرب على أبيك بعد اليوم"

(1)

.

فإن قلت: الحديث جاء بلفظ (لعلَّ) وهي موضوعة لغير التحقيق، قلت: هي في كلام الشارع كلفظ الباري تعالى، ثم إن في مسلم بلفظ (إن) التي موضوعة للتحقيق فزال ما توهم، وتمني عمر في إسناده علي بن زيد وهو ضعيف، رواه معمر عنه عن الحسن، عن سعيد بن أبي العاصي قال: رصدت عمر ليلة فخرج إلى البقيع -وذلك في السحر- فاتبعته فصلَّى ثم رفع يديه فقال: اللهمَّ كبرت سنِّي وضعفت قوتي وخشيت الانتشار من رعيتي فاقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم.

(1)

رواه ابن ماجه (1629).

ص: 319

قال الزهري، عن ابن المسيب: فما انسلخ الشهر حتى مات

(1)

.

وتمنَّاه عليٌّ رضي الله عنه أيضًا، أخرجه معمر -أيضًا- عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يخطب، فقال: اللهمَّ إني قد سئمتهم وسئموني، فأرحني منهم وأرحهم منى ما يمنع أشقاكم أن يخضبها بدم وأشار إلى لحيته

(2)

. وحملها الطبري على أنهما خشيا المصاب في الدين.

وحديث (الشارع)

(3)

على المصاب في الدنيا، ويشهد لصحة ذلك قوله: وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، فاستعمل عمر هذا المعنى حين خشي عند كبر سنه وضعف قوته أن يعجز عن القيام بما فرض عليه من أمر الأمة أو أن يفعل ما يلام عليه دنيا وأخرى.

فأجاب دعاءه. وكذا خشي علي من السآمة من الجهتين أن يحملهم على ما يئول إلى سخط الرب جل جلاله فكان ذلك من قبلهم فقتلوه وتقلدوا دمه، وباءوا بإثمه، وهو إمامٌ عدلٌ بر تقي لم يستحق منه ما يستحق عليه التأنيب فضلاً عن غيره، فلذلك سأل الإراحة منهم.

فصل:

مراد خباب البنيان الذي لا يحتاج إليه وبه صرّح ابن بطال.

قال: ومعنى الحديث: أن من بني ما يكفيه ولا غنى به عنه، فلا يدخل في معنى الحديث بل هو مما يؤجر فيه، وإنما أراد خباب من بناء ما يفضل عنه ولا يضطر إليه، فذلك الذي لا يؤجر عليه؛ لأنه

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 11/ 315 (20639).

(2)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 10/ 154.

(3)

من (غ).

ص: 320

من التكاثر الملهي لأهله. وسيأتي في الاستئذان في باب: البناء

(1)

(2)

.

وكذا قال ابن التين: المراد من يجاوز الكفاية وقصد المباهاة. أي كما قال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا تطاول رعاة رِعاء الإبل البهم في البنيان"

(3)

.

وقوله: (إنَّا أصبنا ما لا نجد له موضعًا إلاَّ التراب). قال الداودي: يعني الموت إشفاقًا أن ينقص ما نالوه من الدنيا حسناتهم، وليس ببين كما قاله ابن التين، بل هو عبارة عن كثرة ما أصابوا من الدنيا.

فصل:

وقوله: ("إلاَّ أن يتغمدني الله برحمته") أي: يغمرني بها ويلبسني ويغشيني.

قال أبو عبيد: ولا أحسبه إلاَّ أخذ من غمد السيف فإنك إذا أغمدته فقد ألبسته الغمد

(4)

.

وقوله: ("فسددوا") أي: استقيموا والزموا الصواب، فإن قلت: كيف الجمع بين قوله: "لن يُدخل أحدًا عمله الجنة" وبين قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ؟

قلت: من أوجه - ذكرها ابن الجوزي.

أولها: لولا رحمة الله السابقة التي كتب بها الإيمان في القلوب ووفق للطاعات ما نجا أحد ولا وقع عمل تحصل به النجاة، والتوفيق للعمل من رحمة الله تعالى أيضًا.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 389 - 390.

(2)

سيأتي برقم (6302)

(3)

سلف برقم (50) كتاب الإيمان، باب: سؤال جبريل ..

(4)

"غريب الحديث" 1/ 454.

ص: 321

ثانيها: أن منافع (العبد)

(1)

لسيده فعله مستحق لمولاه، فإن أنعم عليه بالجزاء فمن فضله، كالمكاتب مع المولى.

ثالثها: روي في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنَّة بالرحمة واغتنام الدرجات بالأعمال.

رابعها: أن عمل الطاعات كانت في زمن يسير وثوابها لا ينفد أبدًا. فالمقام الذي لا ينفد في جزاء ما نفد بفضل الله لا بمقابلة الأعمال - وهذا نص -كما قال القرطبي- في الرد على أهل البدع والمعتزلة في قولهم في قاعدة التحسين والتقبيح

(2)

.

وستكون لنا عودة إلى ذلك في باب القصد والمداومة على العمل في كتاب الرقاق.

وقوله: فلعله أن يستعتب أن يرجع عن الإساءة إلى الإحسان ويطلب الرضى.

يقال: استعتبته فأعتبني أي: عاد إلى مسرتي، فكذلك استرضيته فأرضاني.

وقال الخليل: حقيقة العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، ومنه قوله:{وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24]، وأعتب واستعتب بمعنًى

(3)

. ويقال: يبقى الرد ما بقى العتاب.

(1)

من (غ).

(2)

"المفهم" 7/ 139.

(3)

"العين" 2/ 76 - 77.

ص: 322

‌20 - باب دُعَاءِ الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهَا قال النبي صلى الله عليه وسلم "اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا يعني: ابن أبي وقاص". [انظر: 5659]

5675 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا -أَوْ أُتِيَ بِهِ- قَالَ:«أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» . قَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي الضُّحَى: إِذَا أُتِيَ بِالْمَرِيضِ. وَقَالَ جَرِيرٌ: عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى وَحْدَهُ، وَقَالَ: إِذَا أَتَى مَرِيضًا. [5743، 5744، 5750 - مسلم: 2191 - فتح 10/ 131]

هذا أسلفه مسندًا، ثم ساق عن أبي عوانة، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا -أَوْ أُتِيَ بِهِ- قَالَ:"أَذْهِبِ البَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا". قَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَنْصُورٍ وَأَبِي الضُّحَى: إِذَا أُتِيَ بِالْمَرِيضِ. وَقَالَ جَرِيرٌ: عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى وَحْدَهُ، وَقَالَ: إِذَا أَتَى مَرِيضًا. ويأتي في الطب وأخرجه مسلم

(1)

.

الشرح:

تعليق ابن طهمان، أخرجه الإسماعيلي في "صحيحه" عن القاسم، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني: ثنا يحيى بن يعلى الرازي: ثنا محمد بن

(1)

سيأتي في الطب برقم (5743) باب: رقية النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم (2191)

كتاب: السلام، باب: استحباب رقية المريض.

ص: 323

سابق: ثنا إبراهيم به قال: وتابعه سفيان بن سعيد وأبو الأحوص، عن منصور، قال: وثنا عمران: ثنا عثمان، عن جرير، عن منصور، عن أبي الضحى: إذا أتي بالمريض.

قال الإسماعيلي: وليس هذا بشك، ولكنه كان عليه السلام يقول في الحالتين كذلك إن شاء الله.

وقال النسائي: حديث أبي عوانة وسفيان وورقاء، عن منصور، عن إبراهيم وحده، وحديث جرير، عن منصور، عن أبي الضحى

(1)

. قلت: وهذا الحديث روي من طريق ثابت بن قيس بن شماس وعليٍّ ومحمد بن حاطب

(2)

وابن مسعود رضي الله عنه.

أخرج الأول: ابن حبان من حديثه: أنه عليه السلام دخل عليه وهو مريض، فقال:"اكشف الباس رب الناس" عن ثابت بن قيس بن شماس

(3)

.

والثاني: ابن أبي عاصم من حديث الحارث عنه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل على المريض قال:"أذهب العباس، رب الناس، واشف أنت الشافي لا شافي إلاَّ أنت"

(4)

.

والثالث: ابن أبي عاصم -أيضًا- عن محمد بن حاطب قال: تناولت قدرًا فأحرقت يدي، فذهبت بي أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم

(1)

انظر: "تحفة الأشراف" 12/ 305.

(2)

ورد في هامش الأصل: ينبغي أن يقول: وأم محمد بن حاطب كما طرقه سواه فيما يأتي -والله أعلم- وأمه أم جميل، يقال: اسمها فاطمة بنت المجلل بن عبيد الله قرشية عامرية، هاجرت مع زوجها حاطب بن الحارث بن المغيرة إلى الحبشة فتوفي هناك وولدت له محمدًا والحارث. وقيل: اسمها جويرية، وقيل: أسماء.

(3)

رواه ابن حبان في "صحيحه" 13/ 432 - 433.

(4)

"الآحاد والمثاني" 2/ 84 - 85 (782، 783) مختصرًا.

ص: 324

بكلام لا أدري ما هو، فقالت: قال: "أذهب الباس رب الناس" الحديث

(1)

.

والرابع: أبو داود من طريق فيها مجهول عنه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا أتي بمريض" الحديث. بلفظ البخاري

(2)

.

قال الطبري: في هذِه الآثار من الفقه أن الرغبة إلى الله تعالى في العافية في الجسم أفضل للعبد وأصلح له من الرغبة إليه في البلاء؛ وذلك أنه عليه السلام كان يدعو للمرضى بالشفاء من عللهم، فإن قلت: ما وجه دعائه لسعد بالشفاء وقد تظاهرت الأخبار عنه، أنه قال يومًا لأصحابه:"من أحب أن يصح ولا يسقم؟ ". قالوا: نحن يا رسول الله، فقال:"أتحبون أن تكونوا مثل الحمير الصيالة؟ "، وتغيرَّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفَّارات؟! ". قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"فوالذي نفس أبي القاسم بيده، إن الله ليبتلي المؤمن وما يبتليه إلاَّ لكرامته عليه، وإلَّا أن له عنده منزلة لا يبلغها بشيء من عمله دون أن يبلغ من البلاء ما يبلغه تلك المنزلة"؟ من حديث أبي عقيل مسلم بن عقيل، عن عبد الله بن أبي إياس بن أبي فاطمة، عن أبيه، عن جده مرفوعًا

(3)

.

وروى زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل مصحح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أصابتك أم ملدم قط؟ ".

(1)

المصدر السابق 6/ 24 (3204).

(2)

رواه أبو داود في "سننه"(3883) وقال المنذري في "مختصره" 5/ 363: الراوي عن زينب مجهول.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 325

قال: لا. يا رسول الله، فلما ولى قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا"

(1)

.

وروى الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن (يسار)

(2)

، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"

(3)

مع كثرة ما كان يؤثر العلل والأسقام.

من السلف قيل: لا تعارض، ولكل وجه، وذلك أن العلل والأمراض كفَّارات لأهل الإيمان وعقوبات يمحص الله بها عمن شاء منهم في الدنيا؛ ليلقوه مُطهرين من دنس الذنوب.

كما روى أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه قال: كان الصديق يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 7] الآية.

فرفع الصديق يده، وقال: يا رسول الله، إني أجزى بما عملت من مثقال شر؟

(1)

لم أقف عليه من هذِه الطريق ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(495)، وأحمد 2/ 366 والنسائي في "الكبرى" 4/ 353 - 354 والحاكم في "مستدركه" 1/ 347 من طرق عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به مطولاً.

وحسنه الألباني في تخريج "الأدب المفرد" ص 169 وله طرق أخرى ضعيفة عن أبي هريرة رواها أحمد وغيره وفي الباب عن أبي بن كعب وسنده ضعيف.

(2)

كذا في الأصول والصواب: سنان كما في مصادر ترجمته ومصادر التخريج وانظر: "تهذيب الكمال" 10/ 265.

(3)

رواه الترمذي (2396)، وابن ماجه (4031) وصححه الألباني في "الصحيحة"(1220).

ص: 326

فقال: "يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره نجشًا مثل ذر الشر ويدخر لك مثاقيل الخير حتى توفاهُ يوم القيامة"

(1)

.

فإذا كانت العلل والأوجاع إنما هي عقوبات التبعات، ثبت أنه عليه السلام إنما دعا بالشفاء من الأمراض لمن لا كبائر له، ومن سلم من الذنوب الموجبة للعقاب، وبرئ من مظالم العباد -لا كبائر له- وكره اختيار الصحة على البلاء.

في هذِه الأحاديث: الأجر لأهل الإجرام، ولمن اقترف على نفسه والآثام، فكره له أن يختار لنفسه لقاء ربه بآثامه، وموافاته بإحرامه غير متمحص ولا متطهر من الأدناس، فليس شيء من الأخبار مضاد لصاحبه.

فصل:

وفيه: جواز السجع في الدعاء والرقى إذا لم يكن مقصودًا ولا متكلفًا.

فصل:

شفاء: منصوب على المصدر، تقديره: واشف.

والشافي: اسم فاعل من ذلك. والألف واللام فيه بمعنى الذي. وليس باسم علم لله تعالى، "ولا يغادر" أي: لا يترك سقمًا، يريد:

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 662 تفسير سورة الزلزلة، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 10/ 3456، والطبراني في "الأوسط" 8/ 204، والبيهقي في "الشعب" 7/ 151 - 152 كلهم من طريق الهيثم بن الربيع عن سماك بن عطية عن أيوب به.

وقال الهيثمي في "المجمع" 7/ 142: رواه الطبراني في "الأوسط" عن شيخه موسى بن سهل، والظاهر أنه الوشاء وهو ضعيف. قلت: الوشاء ليس من شيوخ الطبراني، وإنما هو موسى بن سهل أبو عمران الجوني وهو ثقة.

ص: 327

مرضًا.

وقال ابن العربي: أي كاملًا ثابتًا. وسقمًا: بضم السين والقاف

(1)

وبفتحهما، ذكره ابن التين.

وقوله: "أذهب الباس رب الناس" فيه إشارة إلى الرقى والدواء، لا ينتسب إليهما من إذهاب الداء شيءٌ، إنما يذهبه الله.

(1)

ورد بهامش الأصل: في "الصحاح": السُّقم والسَّقم مثل حُزن وحَزن.

ص: 328

‌21 - باب وُضُوءِ الْعَائِدِ لِلْمَرِيضِ

5676 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَرِيضٌ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَيَّ -أَوْ قَالَ:"صُبُّوا عَلَيْهِ"- فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ: لَا يَرِثُنِى إِلاَّ كَلَالَةٌ، فَكَيْفَ الْمِيرَاثُ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. [انظر: 194 - مسلم: 1616 - فتح 10/ 132]

ذكر فيه حديث جابر رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَنَا مَرِيضٌ، فَتَوَضَّأَ وصبه عَلَيَّ -أَوْ قَالَ:"صُبُّوا عَلَيْهِ"- فَعَقَلْتُ، فَقُلْتُ: لَا يَرِثنِي إِلَّا كَلَالَةٌ، فَكَيْفَ المِيرَاثُ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الكلالة.

هذا الحديث سلف في الطهارة والتفسير، ويأتي في الفرائض

(1)

، وأخرجه مسلم في الفرائض

(2)

.

ولا شك أن وضوء العائد للمريض إذا كان إمامًا في الخير، ورئيسًا في الفضل يتبرك به وصبه عليه مما يرجى نفعه، وقد يمكن أن يكون مرض جابر الذي صبّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء مرض الحمى الذي أمر بإبرادها بالماء؛ لأنها من فيح جهنَّم، فتكون صفة من الإبراد.

هكذا أن يتوضأ الفاضل، ويصُب ذلك الماء الذي طار من وضوئه عليه.

(1)

سلف في الطهارة برقم (194) باب: صب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءه على المغمى عليه، وفي التفسير برقم (4577) باب: قوله {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية، وسيأتي في الفرائض (6723) باب: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} .

(2)

أخرجه مسلم (1616) كتاب: الفرائض، باب: ميراث الكلالة.

ص: 329

‌22 - باب مَنْ دَعَا بِرَفْعِ الْوَبَاءِ وَالْحُمَّى

.

5677 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ

وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ فَيَقُولُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ

وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ» . [انظر: 1889 - مسلم: 1376 - فتح 10/ 132]

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها السالف قريبًا، والحج

(1)

أيضًا.

والوباء يمد ويقصر، وجمع المقصور: أوباء، والممدود: أوبئة، قاله الجوهري

(2)

.

وفيه من الفقه: جواز الدعاء إلى الله في رفع الوباء والحمى والرغبة إليه في الصحة والعافية.

وهذا ردٌّ على الصوفية في قولهم: إن الولي لا تتم له الولاية إلاَّ إذا

(1)

سلف في الحج برقم (1889) باب: فضائل المدينة.

وسلف برقم (5654) باب: عيادة النساء الرجال.

(2)

"الصحاح" 1/ 79 مادة: (وبأ).

ص: 330

رضي بجميع ما نزل به من البلاء، ولا يدعُ الله في كشفه، وهو من العجائب، وقد سلف زيفه.

وقوله: (رفع عقيرته) أي: صوته. يقال: إن أصله أن رجلاً قطعت رجله، فكان يرفع المقطوعة على الصحيحة ويصيح من شدة وجعها بأعلى صوته، فقيل لكل من رفع صوته: رفع عقيرته. والعقيرة: فعيلة بمعنى مفعولة.

(تمَّ الجزء بحمد الله وعونه، وصلواته على سيدنا محمدٍ وآله، كلما ذكره الذاكرون وسها عن ذكره الغافلون. يتلوه: كتاب الطب)

(1)

(1)

من (غ).

ص: 331

76

كتاب الطب

ص: 333

بسم الله الرحمن الرحيم

‌76 - كِتابُ الطِّبِّ

‌1 - باب مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً

.

5678 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» . [فتح 10/ 134]

ذكر فيه حديث أبى هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً".

الشرح:

هذا الحديث أخرجه من أفراده، وقال الحاكم: إنه صحيح على شرط مسلم أيضًا

(1)

.

الطِّبُّ -مثلث الطاء- اسم الفعل كما ذكره ابن السيد في "مثلثه"

(2)

.

وأما الطَّبُّ -بالفتح- فالرجل العالم بالأمور، وكذلك الطبيب،

(1)

"المستدرك" 4/ 199.

(2)

"المثلث" 2/ 75.

ص: 335

وامرأة طبَّة، والطِّب: السحر، والطِّب: الداء، من الأضداد، والطِّب: الشهوة. هذِه كلها مكسورة

(1)

.

وفي "المنتهى" لأبي المعالي: الطب: الحزق بالشيء والرفق، وكل حاذق عند العرب طبيب، وإنما خصوا به المعالج دون غيره من العلماء تخصيصًا وتشريفًا.

وجمع القلة: أطبة، والكثرة: أطباء. والطب طرائق ترى في شعاع الشمس إذا طلعت، وحده كما قال ابن سينا في "أرجوزته":

الطب حفظ صحة برء مرض

من شيب في بدن فيه عرض

وهو ينقسم إلى علمي وإلى عملي، والعلمي طبيعي وخارج عنها، والمرض حرفانية الجسم عن المجرى الطبيعي، والمداواة [رده] إليه وحفظ الصحة بقاؤه عليه، والشيء يداوى بضده، ولكن قد يدق وتغمض حقيقة المرض وحقيقة طبع الداء فتقل الثقة بالمضادة.

ومن هنا يقع الخطأ من الطبيب، وطب سيدنا رسول الله حاصل بالوحي وبعادة العرب، والتبرك كالاستشفاء بالقرآن، وحقيقة الطبيب: العالم بالطب، وهو العلم بالشيء الخفي الذي لا يبدو إلا بعد معاناة بفكر صاف ونظر واف.

ولما ولي أبو الدرداء القضاء كتب إليه (سليمان)

(2)

: بلغني أنك جُعلت طبيبا تداوي الناس، فاحذر أن تكون متطببا فتهلكهم

(3)

. وقد نفى عنه الطب، وإنما هو رفيق خشية النسبة إلى الأدوية، والمزيل الله

(1)

انظر: "الأضداد" لابن الأنباري 1/ 231، و"مجمل اللغة" 1/ 581 مادة [طبب].

(2)

كذا بالأصل والصواب سلمان وهو سلمان الفارسي رضي الله عنه.

(3)

رواه مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد؛ أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي فذكره ص 480.

ص: 336

كما سلف.

فصل:

وفي سند حديث الباب أبو أحمد الزبيري، واسمه محمد بن عبد الله بن الزبير

(1)

. قال الترمذي: وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة وأبي خزامة عن أبيه وابن عباس وعن أسامة بن شريك

(2)

، قلت: وأبي سعيد أخرجهن قاسم بن أصبغ

(3)

.

وحديث أسامة أخرجه أصحاب السنن الأربعة، صححه [الترمذي] وابن حبان والحاكم، وفيه:"إلا داءً واحدا وهو الهرم" (وفي الذي قبله

(1)

كذا قال المصنف وهو يشير إلى أن الزبيري هذا يتكلم فيه. قلت: قد تكلم فيه الإمام أحمد وغيره: وقد ذكره الحافظ في "مقدمة الفتح" ص 439 - 440 فيمن طعن فيه من رجال الصحيح والجواب عن الاعتراضات، فقال: محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري نسبة إلى جده وهو مولى بني أسد يكنى أبا أحمد، الكوفي أحد الأثبات الثقات المشهورين من شيوخ أحمد بن حنبل. قال حنبل عن أحمد كان كثير الخطأ في حديث سفيان وقال أبو حاتم: كان حافظًا له أوهام ووثقه ابن نمير وابن معين والعجلي وزاد: كان يتشيع، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال أبو زرعة وغير واحد: صدوق، وقال بندار: ما رأيت أحفظ منه، قلت: احتج به الجماعة، وما أظن أخرج له شيئًا عن أفراده عن سفيان والله أعلم.

(2)

"سنن الترمذي" بعد الحديث (2038).

(3)

هو قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح، أبو محمد الإمام الحافظ العلامة القرطبي مولى بني أمية. سمع بقي بن مخلد ومحمد بن وضاح وغيرهم وحدث عنه حفيده قاسم بن محمد وعبد الله بن محمد الباجي، وعبد الله بن نصر وغيرهم. أثنى عليه غير واحد. وتواليف ابن حزم وابن عبد البر وأبي الوليد الباجي طافحة برواياته. وألف "بر الوالدين"، "مسند مالك"، و"المنقى في الآثار"، و"الأنساب"، وغير ذلك. وتوفي في جمادى الأولى سنة أربعين وثلاثمائة عن تسعين عاما. وانظر "سير أعلام النبلاء" 15/ 472 - 474 "شذرات الذهب" 2/ 357.

ص: 337

"إلا السام" وهو الموت، وفي رواية لابن حبان:"إلا السام والهرم"

(1)

(2)

.

وأخرجه مسلم من حديث جابر

(3)

، وأغرب الحاكم فاستدركه عليه وقال: صحيح على شرطه

(4)

.

وحديث ابن مسعود أخرجه النسائي بزيادة: "فعليكم بألبان (البقر)

(5)

فإنها ترم من كل الشجر" وصححه ابن حبان

(6)

، ولأبي نعيم:"تأكل" وفي لفظ: "تحيط"

(7)

.

قال ثابت السرقسطي في "دلائله"

(8)

: و"تريم" و"تقم" و"تقيم"، يقال الشاة ترم بمرمتيها، وهما: شفتاها، والرمرام: حشيش الربيع.

وحديث أبي خزامة أخرجه ابن ماجه -وفي نسخة: خزامة عن أبيه-:

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص 2).

(2)

رواه أبو داود (2855)، والترمذي (2038)، ابن ماجه (3436) والنسائي في "الكبرى" 4/ 368، وابن حبان 13/ 426، 429، والحاكم في "المستدرك" 4/ 399، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، أخرجه عشرة من أئمة المسلمين. وصححه الألباني في الصحيحة (451).

(3)

مسلم (2204) كتاب السلام، باب: لكل داء دواء واستحباب التداوي.

(4)

"المستدرك" 4/ 401.

(5)

مثبتة من هامش الأصل، وكتب فوقها: كذا أحفظه. ووقع في أصله: الإبل.

(6)

"السنن الكبرى" 4/ 193، "صحيح ابن حبان" 13/ 427.

(7)

رواه أبو نعيم في "الطب النبوي" 1/ 180 (13) بلفظ: تحيط، وليس فيه: تأكل.

(8)

هو ثابت بن حزم بن عبد الرحمن بن مطرف، العلامة الإمام الحافظ، أبو القاسم السرقسطي صاحب كتاب "الدلائل"، كان عالما، مفتيًا، بصيرًا بالحديث، والنحو واللغة والغريب والشعر وله مصنفات مفيدة. وقد ولي قضاء سرقسطة، وكان ولده من الأذكياء المعدودين ومات سنة أربع عشرة وثلاثمائة. وانظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 14/ 562 و"شذرات الذهب" 2/ 266.

ص: 338

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله؟ قال:"هي من قدر الله"

(1)

.

قلت: وفي الباب عن بريدة أخرجه ابن أبي عاصم، وأنس أخرجه أيضًا، وأبي الدرداء أخرجه أبو داود

(2)

.

فصل:

فيه: إباحة التداوي وجواز الطب، وهو رد على الصوفية أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء ولا يجوز له مداواته.

وقد أباح الشارع التداوي وقال للرجلين: "أيكما أطب؟ " فقالا: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فقال: "أَنْزل الداء الذي أنزل الأدواء" أخرجه مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم

(3)

.

وروى الأولى منه عاصم بن عمر، عن سهيل، عن أبي هريرة مرفوعًا

(4)

، والباقي بأسانيد صحيحة، فلا معنى لقول من أنكر ذلك، وفيه الإعلام أن تلك الأدوية تشفي بإذن الله، وأن البرء ليس في وسعه أن يُعَجِّلَه قبل نزول وقته.

(1)

"سنن ابن ماجه"(3437) وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"749.

(2)

رواه أبو داود في "سننه"(3892) وقال المنذري في "مختصره" 5/ 366: في إسناده زيادة بن محمد الأنصاري. قال: أبو حاتم الرازي: منكر الحديث وقال البخاري والنسائي: منكر الحديث. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدًا، يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك. وقال ابن عدي: لا أعرف له إلا مقدار حديثين أو ثلاثة. روى عن الليث وابن لهيعة ومقدار ما له لا يتابع عليه. وقال الألباني في "ضعيف الترغيب"(2013)، و"ضعيف الجامع الصغير" (5422): ضعيف جدًا.

(3)

"الموطأ" ص 586.

(4)

لم أقف عليه من هذا الطريق وذكره أبو عمر في "التمهيد" 5/ 263 ولم يسنده.

ص: 339

و (الشفاء) ممدود، قال تعالى:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وقد سلف استثناء الهرم والموت، فالحديث ليس على عمومه و (الداء) ممدود مفتوح الدال لا غير، والدواء فتح داله أفصح من كسرها كما قاله القرطبي

(1)

(2)

.

فصل:

وقد تلافى الشارع بآخر كلامه ما قد يعارض به أوله بأن يقال: إنك قلت "لكل داء دواء"، ونحن نجد كثيراً من المرضى يداوون فلا يبرءون؛ فنبه على أن ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة لا لفقد الدواء، (والناس يلحون الطبيب إصابة المقدار)

(3)

، والرب تعالى لو شاء لم يخلق داء، وإذ خلقه فلو شاء لم يخلق له دواء ولا أذن له في استعماله، وإذ أذن فيه فقد ندب إلى تركه.

قال صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا لا يسترقون ولا يكتوون"

(4)

وفي رواية "سبعمائة ألف"

(5)

.

في رواية لأبي عمر: "دخلت أمة بقضها وقضيضها الجنة كانوا

(1)

في هامش الأصل: حاشية: ويفهم الترجيح من الصحاح.

(2)

"المفهم" 5/ 592.

(3)

"المعلم" 2/ 264 - 265 للمازري والعبارة هناك: وما قلنا واضح.

حتى نظمه الشعراء فقالوا:

والناسُ يلحَوْن الطبيبَ وإنَّما

غَلطُ الطبيب إصابةُ المقدارِ

(4)

رواه مسلم (218) كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب من حديث عمران بن حصين.

(5)

مسلم (219) كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب من حديث سهل بن سعد.

ص: 340

لا يسترقون ولا يكتوون"

(1)

.

وحديث ابن مسعود: "فأمر الله الملك بثلاثة رزقه وأجله وأين يموت، وإنكم تعلقون التمائم على أبنائكم من العين" ذكره إسماعيل القاضي موقوفًا، وقد روي هذا المعنى مرفوعًا

(2)

.

ثم هذا فيمن استرقى واكتوى قبل حصول مرض يوجبه فإذا وقع ندب إلى التداوي لقوله: "تداووا" هذا أمر مع اعتقاد أن الفاعل الرب جل جلاله، فالدواء لم يحدث شفاء ولا ولَّده كما أن الداء لا يحدث سقمًا.

فائدة تتعلق بحديث "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا" ذكرناها استدراكًا: من هو الذي قيل له: "سبقك بها عكاشة؟ ".

قال ثعلب: كان منافقًا. وهو مردود بما ذكره الخطيب عن مجاهد أنه سعد بن عبادة

(3)

- وهو بعيد منه.

ويجاب بأنه لم يبلغ منزلته لشهوده بدرًا، وهو من معاريض الكلام والرفق بالجاهل في الخطاب إذ أنه لم يهتم كما اهتم عكاشة بل سمع فطلب، ولحسم المادة.

(1)

كذا ذكره أبو عمر ولم يسنده ورواه ابن الأعرابي في "معجمه" 1/ 254 (471) وابن حبان في "صحيحه" 2/ 505 والطبراني في "الأوسط" 8/ 97 من طرق عن شعيب بن حرب، عن عثمان بن واقد، عن سعيد بن أبي سعيد مولى المهري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به. وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 109: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه من لم أعرفه. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(4613) وذكر فيه فوائد جمة فراجعه فإنه مفيد.

(2)

رواه إسماعيل بن اسحاق القاضي موقوفاً كما في "التمهيد" 5/ 268.

(3)

رواه الخطيب في "الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة" ص 106 (58) عن مجاهد.

ص: 341

‌2 - باب هَلْ يُدَاوِي الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوِ المَرْأَةُ الرَّجُلَ

؟

5679 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ رُبَيِّعَ بِنْتِ مُعَوِّذٍ ابْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسْقِي الْقَوْمَ، وَنَخْدُمُهُمْ، وَنَرُدُّ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى الْمَدِينَةِ. [انظر: 2882 - فتح 10/ 136]

ذكر فيه حديث الرُبَيِّعَ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسْقِي القَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ، وَنَرُدُّ القَتْلَى وَالْجَرْحَى إِلَى المَدِينَةِ.

هذا الحديث سلف في الجهاد

(1)

.

قال ابن بطال: وإنما يجوز هذا للنساء اللاتي لا يخشى من قبلهن فتنة، وأما الجواري فلا يباشرن الرجال غير ذوي المحارم منهن

(2)

.

وعندنا إنما تجوز المداواة عند عدم المعالج من كل صنف.

(1)

سلف في الجهاد برقم (2882) باب: مداواة النساء الجرحى في الغزو.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 394.

ص: 342

‌3 - باب الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ

5680 -

حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، حَدَّثَنَا سَالِمٌ الأَفْطَسُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما -قَالَ:«الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وَكَيَّةِ نَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» . رَفَعَ الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ الْقُمِّيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَسَلِ وَالْحَجْمِ. [5681 - فتح 10/ 136]

5681 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ أَبُو الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: في شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» . [انظر: 5680 - فتح 10/ 136]

ذكر فيه حديث سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:"الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: شَرْبَةِ عَسَلٍ، وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ، وَكيَّةِ نَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ". رَفَعَ الحَدِيثَ وَرَوَاهُ القُمِّيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي العَسَلِ وَالْحَجْمِ.

ثم ساقه من حديث سَالِمٍ الأَفْطَسِ، عَنْ ابن جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الشِّفَاءُ فِي ثَلَاَثةٍ: في شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ".

الشرح:

روى البخاري الأول عن الحسين، هو ابن محمد بن زياد أبو علي (النيسابوري)

(1)

القباني الحافظ. قال الكلاباذي: كان عنده مسند أحمد بن منيع.

(1)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2).

ص: 343

وبلغني أنه كان يلزم البخاري ويهوى هواه. وقال الحاكم: هو الحسين بن أبي جعفر البيكندي، فرواه ابن ماجه عن أحمد بن منيع بغير واسطة

(1)

وهو عزيز من أفراد الصحيح لا نعرفه إلا من رواية مروان بن شجاع هو الجرزي عن سالم الأفطس، وليس لأحمد بن منيع في صحيح البخاري غير هذا الحديث الواحد، ولا لمروان بن شجاع ولا لسالم الأفطس فيه غير هذا الحديث، وحديث آخر عن سعيد بن جبير: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟

(2)

. ولا لهما عند ابن ماجه غير هذا الواحد.

و (القُمِّيُّ) بقاف مضمومة، ووقع في بعض النسخ: الشعبي، فاحذره. قال الجياني: وهو يعقوب بن عبد الله بن سعد ذكره هنا استشهادًا

(3)

وأسنده أبو نعيم في "الطب" من حديث أحمد بن عبد الله بن يوسف (عن)

(4)

جبارة بن المغلس، عنه بذلك بلفظ:"احتجموا لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم"

(5)

.

ووقع في الحميدي في أفراد البخاري: رواه مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، وبعض الرواة يقول فيه: عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"في العسل والحجم الشفاء"

(6)

.

(1)

"سنن ابن ماجه"(3491).

(2)

سلف برقم (2684) كتاب الشهادات، باب من أمر بإنجاز الوعد.

(3)

"تقييد المهمل" 2/ 391.

(4)

في الأصل: بن، والمثبت من هامش الأصل وهو الصواب.

(5)

رواه أبو نعيم في "الطب النبوي" 1/ 290 (187) وغيره وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1863).

(6)

"الجمع بين الصحيحين" 2/ 77 وتعقبه الحافظ في "الفتح" 10/ 138 فقال: وأغرب الحميدي في "الجمع" فقال في أفراد البخاري: عن طاوس، عن ابن عباس من =

ص: 344

وقد ذكره بعد -أعني البخاري- من حديث جابر، ومن حديث أبي سعيد أيضًا

(1)

، وفي الحجامة عن أنس، أخرجه ابن ماجه بإسناد ضعيف

(2)

.

ويسير بن عمرو أخرجه ابن سعد، وابن أبي ليلى، وأبي سمرة

(3)

، وابن عباس، ورجل من الأنصار، أخرجها ابن سعد.

وترجم البخاري على حديث جابر وحديث أبي سعيد، وفي آخره: فسقاه عسلًا فبرأ.

= رواية مجاهد عنه. قال: وبعض الرواة يقول فيه: عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم "في العسل والحجم الشفاء" وهذا الذي عزاه للبخاري لم أره فيه أصلاً، بل ولا في غيره، والحديث الذي اختلف الرواة فيه هل هو عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس أو عن مجاهد، عن ابن عباس، بلا واسطة إنما هو في القبرين اللذين كانا يعذبان وأما حديث الباب فلم أره من رواية طاوس أصلاً وأما مجاهد فلم يذكره البخاري عنه إلا تعليقًا. اهـ.

(1)

حديث جابر وأبي سعيد يأتيان في الباب التالي.

(2)

يشير المصنف إلى ما رواه ابن ماجه في "سننه"(3479) من طريق جبارة بن المغلس عن كثير بن سليم عن أنس بن مالك، وقال البوصيري في "زوائده": قلت: وإن ضعف كثير وجبارة فقد رواه من حديث الترمذي في "الجامع" و"الشمائل" وقال: حسن غريب، ورواه الحاكم في "المستدرك" من حديث ابن عباس وقال: صحيح الإسناد، وإسناد حديث أنس فيه: جبارة بن المغلس وهو ضعيف، وكذا شيخه كثير بن سليم، ورواه البزار في "مسنده" حديث ابن عمر. اهـ.

قلت: وحسنه الألباني في "الصحيحة"(2263) بشواهده فراجعه.

(3)

كذا في الأصل وفي (ص 2) أبي وسمرة.

ص: 345

‌4 - باب الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} . [النحل: 69]

5682 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ. [انظر: 4912 - مسلم: 1474 - فتح 10/ 139]

5683 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما -قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ -أَوْ يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ- خَيْرٌ، فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» . [5697، 5702، 5704 - مسلم: 2205 - فتح 10/ 139]

5684 -

حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ. فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلاً» . ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلاً» . ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: فَعَلْتُ. فَقَالَ: «صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اسْقِهِ عَسَلاً» . فَسَقَاهُ، فَبَرَأَ. [5716 - مسلم: 2217 - فتح 10/ 139]

ثم ساق فيه من حديث عائشة رضي الله عنها كَانَ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ.

وقد اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ، فقال بعضهم: على القرآن وهو قول مجاهد وقال آخرون: العسل. روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وهو قول الحسن وقتادة وهو أولى بدليل حديثي الباب

(1)

.

(1)

هذِه الأقوال رواها الطبري في "تفسيره" 7/ 614.

ص: 346

وقال قتادة من حديث أبي سعيد: "صدق القرآن وكذب بطن أخيك"

(1)

وفي البخاري عن قتادة: "صدق الله". وقال بعضهم المعنى: فيه شفاء لبعض الناس، وتأولوا الآية وحديثي جابر وأبي سعيد على الخصوص، وقالوا: الحجامة وشرب العسل والكي إنما هو شفاء لبعض الأمراض دون بعض. ألا ترى قوله: "أو لذعة بنار توافق الداء" فشرط صلى الله عليه وسلم موافقتها للداء فدل هذا أنها إذا لم توافق الداء فلا دواء فيها.

وقد جاء في القرآن ما لفظه لفظ العموم والمراد به الخصوص كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} يريد المؤمن، كقوله:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} أي: خلقنا. وقال تعالى في بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ولم تؤت ملك سليمان، ومثله كثير.

وقال المازري: هذا الكلام من بديع صناعة الطب، وذلك أن سائر الأمراض الامتلائية إما أن تكون دموية أو صفراوية أو سوداوية أو بلغمية، فالأول: شفاؤه إخراج الدم، والباقي: الإسهال بما يليق بالخلط منها فكأنه نبه بالعسل على المسهلات وبالحجامة على الفصد (وضع)

(2)

العلق وغيرهما مما في معناهما.

وقد قال بعضهم: الفصد يدخل في قوله: "شرطة محجم"، وإذا أعيا الداء فآخر الطب الكي، فذكره في الأدوية؛ لأنه يستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية وحيث لا ينفع الدواء المشروب، فيجب أن يُتأمل ما في كلامه من هذِه (الأساليب)

(3)

وتعقيبه بقوله: "لا أكتوي" إشارة إلى أن

(1)

رواه عبد الرزاق 11/ 153.

(2)

في الأصل: وجع. والمثبت من "المعلم".

(3)

وقع في "المعلم": الإشارات.

ص: 347

يؤخر العلاج به حتى تدفع الضرورة إليه ولا يوجد الشفاء إلا فيه؛ لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي.

ثم أجاب عن شبه من ألحد واعترض، وأن هذا الذي أصابه الإسهال حصل من امتلاء وهيضة فدواؤه تركه والإسهال أو تقويته، فلما أمره صلى الله عليه وسلم بشرب العسل فزاد منه فزاده فزاد منه إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال، فيكون الخلط الذي كان بالرجل يوافق منه شرب العسل.

والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمن والغذاء المتقدم والتدبير المألوف وقوة الطباع. والإسهال يعرض من ضروب كثيرة محلها كتب أهله، منها: الإسهال الحادث من التخم والهيضات، وهم مجمعون في مثل هذا على أن تترك الطبيعة وفعلها وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أُعينت ما دامت القوة باقية فأما حبسها فضررٌ عندهم واستعجال مرض.

ولسنا نستظهر على قول رسول الله بأن تصدقه الأطباء؛ بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم وصدقناه حتى يوجدوا المشاهدة لصحة ما قالوه فنفتقر حينئذٍ إلى تأويل كلامه وتخريجه على ما يصح، وكذا القول في الماء للمحموم، فإنهم قالوا عنه مالم يقل، وهو لم يقل أكثر من قوله "أبردوها بالماء" ولم يبين الصفة والحالة فمن أين فهم أنه أراد الانغماس؟ قلت: قد ذكر الانغماس عدة أيام في جرية الماء، والحديث إسناده جيد

(1)

- والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية (قدم)

(2)

(1)

يشير إلى حديث رواه الترمذي برقم (2084)، وأحمد 5/ 281.

(2)

كذا بالأصل، وفي "المعلم": يدبر.

ص: 348

صاحبها بسقي الماء البارد الشديد البرد، نعم ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فغير بعيد أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى فلا يبقى للملحد إلا أن يتقول الكذب ويعارض كذبه بنفسه، وهذا مما لا يلتفت إليه

(1)

.

وقال ابن بطال: قوله "صدق الله وكذب بطن أخيك" يدل أن الكلام لا يحمل على ظاهره، ولو حمل على ظاهره لبرئ المريض عند أول شربة، فلما لم يبرأ دل على أن الألفاظ مفتقرة إلى معرفة معانيها وليست على ظواهرها

(2)

.

وقال ابن الجوزي: يجاب عما اعترض به على قوله لصاحب الإسهال "اسقه عسلًا" من أربعة أوجه.

أحدها: أنه تأول الآية وهي: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ولم يلتفت إلى اختلاف الأمراض.

ثانيها: أن ما كان يذكره صلى الله عليه وسلم من الطب على مذاهب العرب وعاداتهم كما في حديث إبراد الحمى بالماء.

ثالثها: أن العسل كان يوافق ذلك الرجل، فقد قال الخطابي: كان استطلاقه من الامتلاء وسوء الهضم

(3)

.

قلت: عند أبي نعيم أنه كان به هيضة، ومعناها قريب.

رابعها: أن يكون أمره بطبخ العسل قبل سقيه وهو لعقد البلغم.

وذكر ابن سعد عن علي رضي الله عنه: إذا اشتكى أحدكم شيئًا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها، فتشتري به عسلاً، ويشربه بماء السماء، فيجمع

(1)

"المعلم بفوائد مسلم" 2/ 265 - 267.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 416.

(3)

"أعلام الحديث" 3/ 2110.

ص: 349

الله له الهنيء المريء والماء المبارك والشفاء

(1)

.

وقال ابن مسعود: عليكم بالشفائين القرآن والعسل

(2)

، وقال الربيع بن خثيم: ما للمريض عندي إلا العسل ولا للنفساء إلا التمر

(3)

.

فصل:

ذكر الموفق البغدادي في كتابه "الأربعين الطبية"

(4)

منفعة العسل فأوضح، ذكر أنه يمنع من لسع الهوام ومن السموم القاتلة ويحفظ جثث الموتى وكل ما يودع فيه، ولذلك يسمى الحافظ الأمين، ومن

(1)

لم أقف عليه في "طبقات ابن سعد" وعزاه الحافظ في "الفتح" 10/ 170 لابن أبي حاتم في "تفسيره" وقال: سنده حسن.

(2)

كذا رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن" ص 57 وابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 127 (30010) موقوفًا على ابن مسعود من طريق الأعمش، عن خيثمة، عن الأسود عنه، ثم رواه من طريق سفيان عن أبي اسحاق، عن أبي الأسود عنه بلفظ العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. ومن طريق شعبة عن أبي إسحاق به رواه الطبراني 9/ 184 - 185 وفيه قصة.

ورواه ابن ماجه في "سننه"(3452)، وابن عدي في "الكامل" 4/ 166، والحاكم في "المستدرك" 4/ 200. والبيهقي في "الشعب" 2/ 519 من طريق زيد بن الحباب عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله مرفوعًا. وقال البيهقي: والصحيح موقوف على ابن مسعود، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1514).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 5/ 59.

(4)

هو الشيخ الإمام الفقيه النحوى الطبيب: موفق الدين أبو محمد عبد اللطيف الموصلي ثم البغدادي الشافعي نزيل حلب، ويعرف بابن اللباد. ولد ببغداد في أحد الربيعين سنة سبع وخمسين وخمسمائة، حدث بدمشق ومصر والقدس وحلب، وصنف في اللغة والطب، وله مصنفات كثيرة منها كتاب "رب"، "شرح بانت سعاد"، "شرح أربعين حديثا طبية" وله كتاب "غريب الحديث الكبير" الذي جمع فيه "غريب" أبي عبيد، وابن قتيبة والخطابي، ومات ببغداد في ثاني عشر المحرم سنة تسع وعشرين وستمائة، انظر:"سير أعلام النبلاء" 22/ 320، "تاريخ الإسلام" 45/ 352.

ص: 350

نهش الهوام ذوات السموم، ومن عضة الكلب الكَلِبِ ولم يخلق لنا شيء فيه معانيه، ولا أفضل منه وأنفع للمشايخ وأرباب العثالة ومضرته للصفراويين ودفع مضرته بالخل ونحوه، وهو في أكثر الأمراض والأحوال أنفع من السكر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يشرب كل يوم قدح عسل ممزوجًا على الريق، وهي حكمة عجبية في حفظ الصحة، ولا يعقلها إلا العالمون.

وروى أبو نعيم من حديث الزبير بن سعيد الهاشمي، عن عبد الحميد بن سالم، عن أبي هريرة مرفوعًا:"من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء"

(1)

.

قال الموفق: وقد كان بعد ذلك يفتدي بخبز الشعير مع الملح أو الخل ونحوه، ويصير شظف العيش فلا تضره لما سبق من شربه العسل على الريق، وقد كان يراعى أمورًا في حفظه الصحة، منها هذا، ومنها بتقليل الغذاء وشرب المنقوعات والتطيب والادِّهان والاكتحال، فكان يغذي الدماغ بالمسك والقلب، وروح الكبد والقلب بماء العسل، ويقلل الغذاء الأرضي الجسماني بالنقيع فما (أنفس)

(2)

هذا التدبير وأفضله.

(1)

"الطب النبوي" 1/ 268 (162)، ورواه ابن ماجه في "سننه"(3450) وابن الجوزي في "الموضوعات" 3/ 509 (1734) كلهم من طريق سعيد بن زكريا المدائني عن الزبير به، وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح. قال يحيى: الزبير ليس بشيء وقال العقيلي: ليس لهذا الحديث أصل عن ثقة، وقال البوصيري في "زوائده" 1/ 448: هذا إسناد فيه لين، ومع ذلك فهو منقطع، قال البخاري: لا نعرف لعبد الحميد سماع من أبي هريرة، وقال ابن حجر في "الفتح" 10/ 140: سنده ضعيف من حديث أبي هريرة وضعفه الألباني في "الضعيفة"(762).

(2)

في (ص 2): أيقن.

ص: 351

فصل:

قد أسلفنا كلام ابن بطال في قوله: "صدق الله وكذب بطن أخيك" وذكر الخطابي فيه احتمالين:

أحدهما: أن يكون أخبر عن غيب أطلعه الله عليه وأعلمه بالوحي أن شفاءه في العسل فكرر عليه الأمر بسقيه ليظهر ما وعد به.

الثاني: أن يكون قد علم أن ذلك النوع من المرض يشفيه بسقيه العسل.

فصل:

ذكر ابن الأثير في "جامعه" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا خرجت به قرحة أو شيء لطخ الموضع بالعسل، ويقرأ الآية، وكان يقول: عليكم بالشفائين القرآن والعسل. وقال شقيق قال صلى الله عليه وسلم: "المبطون شهيد ودواء المبطون العسل"

(1)

.

فصل:

العسل يذكر ويؤنث، ذكره أبو حنيفة في "النبات" ويجمع عُسولًا وأعسلًا وعسلانًا وعسلاً، إذا أردت فرقًا منه وضروبًا، وله أسماء فوق المائة منها: الأري والسلوى والدوب والدواب والشهد والبسل والسيلة والطرم وجنى النحل ولعابُ النحل وريقه ومجاجُه.

فصل:

ذكر ابن الجوزي أن النهي عن الكي على خمسة أضرب: كي الصحيح لئلا يسقم كفعل الأعاجم، وكثير من العرب يعظمون أمره على الإطلاق، ويقولون: أنه يحسم الداء، وإذا لم يفعل عطب

(1)

لم أقف عليه.

ص: 352

صاحبه، فالنهي عنه إذًا لذلك، ويكون للإباحة لمن طلب الشفاء، ورجاء البرء من عضله عند الكي، فيكون سببًا لا علةً.

وقد يكون نهى عنه في علمه علم أن الكي لا ينجح فيها، وقد كان عمران بن حصين به علة الباسور، فيحتمل أن يكون نهاه عن الكي في موضع من البدن لا فرق فيه الخطر.

وكي الجرح إذا نفذ، والعضو إذا قطع، فهذا مأمور به كما يؤمر بإتقاء (الحر)

(1)

والبرد، وكي الأيادي هل ينجح فيه أم لا كما في الدواء؟ فهذا يخرج المتوكل عن توكله وعندنا أن ترك التداوي (في)

(2)

مثل هذِه الحال أفضل.

وكذا قال ابن حبان في حديث عمران بن حصين: هذا في الابتداء بالكي من غير علة توجيه

(3)

كما كانت العرب تفعله يريدون بذلك الوسم، وفي خبر جابر إباحة استعماله لعلة تحدث من غير الاتكال عليه في برئها

(4)

.

وقال ابن التين: هو نهي كراهة لما يخاف أن يتراقى إليه، يدل عليه قوله بعدها:"وما أحب أن أكتوي"، وحديث:"لا يكتوون" على من اتخذه عادة وإلا فقد (اكتوى)

(5)

، وهم أفضل هذِه الأمة.

فصل:

قال الخطابي: هذِه القسمة في التداوي منتظمة جملة ما يتداوى به

(1)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2).

(2)

ليست في الأصل وفي هامشها: لعله سقط (في).

(3)

في الأصل: توجد، والمثبت من هامش الأصل.

(4)

"صحيح ابن حبان" 13/ 447.

(5)

في هامش الأصل: لعله: اكتووا ..

ص: 353

الناس، وذلك أن الحجم يستفرغ الدم، وهو أعظم الأخلاط وأنجحها شفاء عند الحاجة إليه، والعسل مسهل، ويدخل أيضًا في (العمومات)

(1)

المسهلة ليحفظ على تلك الأدوية قواها، فيسهل الأخلاط التي في البدن، وأما الكي، فإنما هو في الداء العضال، والخلط الباغي الذي لا يقدر على حسم مادته إلا به، وقد وصفه الشارع ثم نهى عنه كراهة لما فيه من الألم الشديد، والخطر العظيم، وقد كوى الشارع سعد بن معاذ على أكحله

(2)

.

وقال الداودي: كوى أسعد بن زرارة من الذُّبحة، وأمر بالكي وقال: إن فيه شفاء.

فصل:

وقوله: في حديث جابر: "أو لذعة بنار" يقال: لذعته النار لذعًا، أي: أحرقته، وقوله فيه:("إن كان في شيء من أدويتكم -أو- يكون في شيء من أدويتكم ففي كذا").

قال ابن التين: صوابه: أو يكن؛ لأنه مجزوم بـ (إن)، ولعل هذا قبل أن يعلم أن لكل داء شفاء.

فصل:

وقوله في حديث أبي سعيد: (أخي يشتكي بطنه فقال: "اسقه عسلًا")

قال ابن التين: يجوز أن يكون شكوى أخيه من برد أو فضل بلغم فيضعفه العسل وقيل: ببركة أمره صلى الله عليه وسلم له، فيكون خاصًا بذلك الرجل.

وقوله: (فبرأ) هو بفتح الراء ويجوز برئ، ذكرهما ابن التين.

(1)

في "أعلام الحديث": المعجونات.

(2)

"أعلام الحديث" 3/ 2105 - 2106.

ص: 354

فصل:

حديث أبي سعيد أخرجه البخاري من حديث سعيد، عن قتادة، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، وأخرجه مسلم من حديث شعبة بدل سعيد

(1)

، وأبو المتوكل اسمه علي بن داود وقيل: دُؤاد، وفيه: فلم يزده إلا استطلاقًا، يعني: إلا إسهالًا.

(1)

مسلم (2217) كتاب السلام، باب: التداوي بسقي العسل.

ص: 355

‌5 - باب الدَّوَاءِ بِأَلْبَانِ الإِبِلِ

5685 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَلاَّمُ بْنُ مِسْكِينٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ نَاسًا كَانَ بِهِمْ سَقَمٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، آوِنَا وَأَطْعِمْنَا: فَلَمَّا صَحُّوا قَالُوا: إِنَّ الْمَدِينَةَ وَخِمَةٌ. فَأَنْزَلَهُمُ الْحَرَّةَ فِي ذَوْدٍ لَهُ فَقَالَ: «اشْرَبُوا أَلْبَانَهَا» . فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَاقُوا ذَوْدَهُ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَكْدُمُ الأَرْضَ بِلِسَانِهِ حَتَّى يَمُوتَ. قَالَ سَلاَّمٌ: فَبَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لأَنَسٍ: حَدِّثْنِى بِأَشَدِّ عُقُوبَةٍ عَاقَبَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثَهُ بِهَذَا، فَبَلَغَ الْحَسَنَ، فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْهُ. [انظر: 233 - مسلم: 1671 - فتح 10/ 141]

ص: 356

‌6 - باب الدَّوَاءِ بِأَبْوَالِ الإِبِلِ

5686 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا اجْتَوَوْا فِي الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ -يَعْنِي: الإِبِلَ - فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَلَحِقُوا بِرَاعِيهِ فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ، فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَسَاقُوا الإِبِلَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِمْ، فَجِئَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ. [انظر: 233 - مسلم: 1671 - فتح 10/ 142]

ذكر فيه حديث العرنيين السالف في الطهارة

(1)

.

ثم ترجم له باب: الدواء بأبوال الإبل، وذكره أيضًا.

وذكر الخطيب في "الفصل للوصل" أن حميد بن أبي حميد -وأشار البخاري إلى متابعته في كتاب الطهارة

(2)

- رواه عن أنس من غير قوله: ("وأبوالها") فإنه رواها عن قتادة عن أنس أي كما هنا

(3)

. قال: ووقع في بعض الأحاديث الباطلة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الله عاتبه لما قطع أيديهم وسمل أعينهم بالنار، فأنزل الله:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآيات

(4)

.

وذكر أبو نعيم في "طبه" أنه صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بأبوال الإبل البرية وألبانها"

(5)

وأخذ أصحابنا من هذا الحديث التداوي بالنجاسات،

(1)

سلف برقم (233) باب: أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها.

(2)

قلت: بل ذكر البخاري متابعة حميد في كتاب الزكاة بعد حديث (1501)، باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل.

(3)

"الفصل للوصل المدرج في النقل" 2/ 591 - 594.

(4)

"الفصل للوصل" 2/ 747 - 748.

(5)

"الطب النبوي" 1/ 417 من حديث عبد الحميد بن صيفي بن صهيب، عن أبيه عن =

ص: 357

وعند مالك: أبوال الإبل طاهرة، وكذا كل ما يؤكل لحمه، قيل له: فأبوال الخيل؟ قال: لا خير فيه. قيل له: تحلب فتبول في اللبن؟ قال أرجو ألا يكون بذلك بأس

(1)

.

والقول الصحيح في ذلك قول من شهدت له السنة الثابتة.

فصل:

قوله: (كان بهم سقم) هو بضم السين وفتحها مثل حُزن وحَزَن ومعنى: "يكدم)

(2)

الأرض بلسانه)

(3)

يلعقها من شدة العطش وألم الجراح، يقال: كدم يكدم إذا عض بادئ الفم.

وقوله: (فقال: سلَّام -يعني: ابن مسكين-: فبلغني أن الحجاج قال لأنس: حدثني بأشد عقوبة عاقب فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بهذا فبلغ الحسن فقال: وددت أنه لم يحدثه بهذا) يريد: لئلا يجترئ الحجاج ويزيد في العقوبة ويحتج بذلك على ما يحب فعله.

ومعنى (اجتووا المدينة) كرهوها واستوخموها واستوبلوها لمرض أصابهم فيها وقد جاء مفسرًا.

قال الجوهري: اجتويت البلدة إذا كرهتها وإن كنت في نعمة

(4)

،

= جده صهيب الخير به ورواه البزار في "مسنده" 6/ 29 - 30 عن طريق عبد الحميد به وقال: لا نحفظه عن صهيب إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1407).

(1)

"المدونة" 1/ 4 - 5.

(2)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2).

(3)

في هامش الأصل: قوله: (بلسانه) قال ابن قرقول: هو مغير من (أسنانه) لا يكون باللسان كما جاء في الرواية الأخرى: (يعضون الحجارة).

(4)

"الصحاح" 6/ 2306 مادة [جوا].

ص: 358

وفرق بعضهم بين اجتووا واستوخموا فجعل (اجتووا) كرهوا الموضع وإن وافق و (استوبلوا) إذا لم يوافقه وإن أحبه، يقال: وبل الموضع -بالضم وبلا ووبالًا- فهو: وبيل، أي: وخيم. و (صلَحت) بفتح اللام قال الجوهري: يقول صلح الشيء يصلح صلوحًا

(1)

. وحكى الفراء الضم.

قوله: (وسمر أعينهم) هو بالتخفيف، أي: كحلها بالمسامير المحماة، يقال: سمرت الشيء تسميرًا وسمَّرت أيضًا، ويروى: وسمل باللام أي: فقأها بالشوك، وقيل بالحديدة (المحماة)

(2)

تدنى من العين حتى يذهب بصرها.

فصل:

قوله: (قال قتادة: فحدثني محمد بن سيرين أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود) يريد حد المحارب، والذي فعله الشارع لهم كان الحد ثم نسخ بالقرآن، وقيل: إنهم فعلوا بالراعي مثل ذلك فعوقبوا بمثل ما أتوه. وقد سلف إيضاح ذلك أجمع في الطهارة، وأعدناه لبعده.

(1)

المصدر السابق 1/ 383 مادة [صلح].

(2)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2).

ص: 359

‌7 - باب الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ

5687 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: خَرَجْنَا وَمَعَنَا غَالِبُ بْنُ أَبْجَرَ فَمَرِضَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهْوَ مَرِيضٌ، فَعَادَهُ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ فَقَالَ لَنَا: عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحُبَيْبَةِ السَّوْدَاءِ، فَخُذُوا مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَاسْحَقُوهَا، ثُمَّ اقْطُرُوهَا فِي أَنْفِهِ بِقَطَرَاتِ زَيْتٍ فِي هَذَا الْجَانِبِ وَفِي هَذَا الْجَانِبِ، فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ مِنَ السَّامِ» . قُلْتُ: وَمَا السَّامُ؟ قَالَ الْمَوْتُ. [فتح 10/ 143]

5688 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّامَ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَالسَّامُ: الْمَوْتُ، وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ. [مسلم: 2215 - فتح 10/ 143]

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها بقصته أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنِّ هذِه الحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامِ". قُلْتُ: وَمَا السَّامُ؟ قَالَ المَوْتُ.

وحديث أبي هريرة مرفوعا: "إن الحَبَّة السَّوْدَاء شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ". قَالَ ابن شِهَابٍ: وَالسَّامُ: المَوْتُ، وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ.

الشرح:

حديث عائشة هو من رواية خالد بن سعد، عن ابن أبي عتيق، عنها، وقد أخرجه ابن ماجه

(1)

، وليس لخالد عندهما غيره، وهو حديث غريب، هذا الحديث من طريقها، وطريق أبي هريرة دال

(1)

"سنن ابن ماجه"(3449).

ص: 360

بعمومه على الانتفاع بالحبة السوداء في كل داء غير الموت كما قال صلى الله عليه وسلم، وأوله الموفق البغدادي بأكثر الأدواء وعدد جملة من منافعها.

وكذا قال الخطابي: هو من العموم الذي أريد به الخصوص، وليس يجتمع في شيء من النبات جميع القوى التي تقابل (الطباع)

(1)

كلها في نفاذ الأدوية، وإنما أراد شفاء كل داء يحدث من الرطوبة والبلغم، لا في حار يابس

(2)

.

قلت: إلا أن أمر ابن أبي عتيق في حديث عائشة بقطر الحبة السوداء بالزيت في أنف المريض لا يدل أن هكذا سبيل التداوي بما في كل مرض، فقد يكون من الأمراض ما يصلح للمريض شربها أيضًا، ويكون منها ما يصلح خلطها لبعض الأدوية، فيعم الانتفاع بها مفردة ومجموعة مع غيرها.

وقوله: (ثم اقطروها

(3)

في أنفه) هو ثلاثي يقال: قطر الماء وغيره يقطر قطرًا، وقطرته أنا، يتعدى ولا يتعدى، وقوله:(فاسحقوها) هو ثلاثي أيضًا أي: أسهلوها.

قال الخطابي: وليس ذلك في الحديث إنما هو من عنده، ولعل صاحبه الذي وصف له هذا السعوط كان مزكومًا، والمزكوم ينتفع برائحة الشونيز

(4)

.

قلت: وروى الإسماعيلي من حديث إسرائيل، عن منصور، عن خالد عن أبي بكر بن أبي عتيق حدثتني عائشة رضي الله عنها أن

(1)

في "أعلام الحديث": الطبائع.

(2)

"أعلام الحديث" 3/ 2112.

(3)

في هامش الأصل: هذا لفظ الجوهري، وكذا في "أفعال ابن القطاع"، يقال:

أقطرته أنا

هذا يقرأ بالقطع والوصل، والله أعلم.

(4)

"أعلام الحديث" 3/ 2114.

ص: 361

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذِه الحبة السوادء التي تكون في الملح شفاء من كل داء" وربما قال: "واقطروا عليها شيئًا من زيت"، وابن أبي عتيق: هو (عبد الله)

(1)

بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وقيل: هو محمد بن عبد الرحمن، حكاهما ابن التين، وقد أدرك محمدٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه، ولأبيه وجده أربعة في نسق، وليس هذا إلا في هذا البيت

(2)

، ومن جهة أخرى راجعة إليه: عبد الله بن الزبير ابن أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة.

فصل:

ذكر في حديث الباب عن الزهري أن (الحبة السوادء: الشونيز)، وذكر في حديث الزبيدي، عنه، عن أبي سلمة، عنه:(والحبة السوداء: الشونيز)، وفي "جامع الترمذي": قال قتادة حديث أبي هريرة أنه قال: "الشونيز دواء من كل داء إلا السام". قال قتادة: يأخذ كل يوم أحدًا وعشرين حبة من الشونيز فيجعلهن في خرقة، وينقعها ويستعط بها في كل يوم مرة في منخره الأيمن قطرة وفي الأيسر قطرة، والثاني في الأيمن واحدة وفي الأيسر ثنتين والثالث في الأيمن قطرتين وفي الأيسر قطرة

(3)

.

وفي "الطب" لأبي نعيم من حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا:"ما صح من دام في الحبة السوادء منه شيئًا إلا السام"

(4)

ومن

(1)

في هامش الأصل علق عليها بقوله: في أصله: (عبد الرحمن) والصواب ما كتبت أنا.

(2)

في هامش الأصل: وفي غير هذا والبيت أيضًا.

(3)

الترمذي (2070).

(4)

كذا الحديث بالأصل وهو مع إشكال لفظه ومعناه فهو مخالف لما عند أبي نعيم فهو هناك: "ما من داءٍ إلا في حبة السوداء منه شفاء إلا السام""الطب" 2/ 590.

ص: 362

حديث صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعًا:"الحبة السوداء فيها شفاء من كل داء إلا الموت" وفي لفظ: قال ابن بريدة: يعني: الشونيز الذي يكون في الملح. قال أبو نعيم: الشينيز فارسي الأصل. ومن حديث الهيثم بن خارجة ثنا سعيد بن ميسرة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا اشتكى بطن أحدكم يأخذ في كفه شونيزًا فاستفه ثم شرب عليه عسلًا"

(1)

.

وروى ابن أبي عاصم من حديث سالم، عن أبيه مرفوعًا:"عليكم بالحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام".

فصل:

قال القرطبي: قيد بعض مشايخنا (الشونيز) بفتح الشين المعجمة، قال ابن الأعرابي: إنما هو الشينيز، كذا تقوله العرب، وقال غيره: الشونيز- بالضم، وهي الحبة الخضراء، والعرب تسمى الأخضر أسود وعكسه، وهي (شجرة)

(2)

البُطم، وهو المسمى بالضِّرو، وقيل: إنها الخردل. وما في الحديث أولى، ولأنه أكثر منافع من الخردل وحب الضرو

(3)

.

وقال الموفق البغدادي: هو الكمون الأسود ويسمى الكمون الهندي، ثم ذكر منافعه، من جملتها أنه يشفي من الزكام إذا قلي وصر وشم، ويقتل الدود إذا أكل على الريق وإذا وضع في البطن من خارج لطوخًا، ودهنه ينفع من داء الحية، ومن الثآليل والخيلان، وإذا

(1)

"الطب النبوي" 2/ 588 - 589 (616 - 618).

(2)

في "المفهم": ثمرة.

(3)

"المفهم" 5/ 605 - 606 بتصرف.

ص: 363

شرب منه مثقال نفع ضيق النفس والطمس والمحتبس، والضماد ينفع من الصداع البارد، وإذا نقع منه سبع حبات بالعدد في لبن امرأة وسعط به صاحب اليرقان نفعه نفعًا بليغًا، ودخانه يطرد الهوام.

وذكر ابن البيطار له منافع أخرى: منها أنه إذا ضمد به السن أخرج الدود الطواف وينفع من البهق والبرص طلاء، يؤكل ويسقى بالماء الجار والعسل للحصاة في المثانة والكلى، وإن عجن بماء الشيح أخرج الحيات من البطن، وإذا ضمد أوجاع المفاصل نفعها، وخرج الأجنة أحياء وموتى والمشيمة.

ص: 364

‌8 - باب التَّلْبِينَةِ لِلْمَرِيضِ

5689 -

حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ، وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ» . [انظر: 5417 - مسلم: 2216 - فتح 10/ 146]

5690 -

حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينَةِ وَتَقُولُ: هُوَ الْبَغِيضُ النَّافِعُ. [انظر: 5417 - مسلم: 2216 - فتح 10/ 146]

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَالْمَحْزُونِ عَلَى الهَالِكِ، وَكَانَتْ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ التَّلْبِينَ يُجِمُّ فُؤَادَ المَرِيضِ، وَيَذْهَبُ بِبَعْضِ الحُزْنِ".

وعنها: أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينَةِ وَتَقُولُ: هُوَ البَغِيضُ النَّافِعُ.

هذا الحديث سلف في الأطعمة وترجم عليه: باب التلبينة، وقد سلف بيانها هناك. ومعنى ("تجم"): تريح، وقيل: تجمع وتكمل صلاحه ونشاطه.

قال ابن بطال: ويروى (تخم)، ومعناه: تنقي، والمخمة: المكنسة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أي المؤمن أفضل؟ قال: "الصادق اللسان المخموم القلب". قيل: قد عرفنا الصادق اللسان، فمن المخموم القلب، قال:"الذي لا غل فيه ولا حسد"، ومن روى:(تجم)، بالجيم فمعناه قريب من هذا، وهو من خفة النفس ونشاطها، والجمام: الراحة، بالفتح، تقول العرب: جم الفرس يجم ويجم

ص: 365

إجماما، وأجم: إذا ترك ولم يركب ولم يتعب

(1)

. وعبارة ابن التين: إذا ترك أن يركب على ما لم يسم فاعله وجم، ويقال: اجمم نفسك يوما أو يومين.

وقال الداودي في التلبينة: أن يؤخذ العجين غير خمير، فيخرج ماؤه ويجعل به حسوا، وهي تفعل هذا؛ لأنها لباب لا يخالطه شيء، فهي كثيرة النفع على قلتها. قال: وتجم: تمسك وتذهب ألم الجوع.

قال: وفي هذِه أن الجوع يزيد الحزن، وأن ذهابه يذهب ببعضه.

وقولها: (هو البغيض النافع)، كانوا يبغضون ذلك؛ لأن الدواء يبغضه المريض، يقال: أبغضت الشيء فهو بغيض.

وفي رواية الشيخ أبي الحسن: النغيض، بالنون، ولا أعلم له وجها.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 397 - 398.

ص: 366

‌9 - باب السَّعُوطِ

5691 -

حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَاسْتَعَطَ. [انظر: 1835 - مسلم: 1202 (وبعد الحديث 1577) - فتح 10/ 147]

ذكر فيه حديث ابن طاوس (عن أبيه)

(1)

، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَأَعْطَى الحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَاسْتَعَطَ.

الشرح:

(هذا الحديث سلف في الإجارة بدون (استعط)

(2)

، والسعوط بالفتح: الدواء يصب في الأنف.

وفي الترمذي من حديث عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: "إن خير ما تدوايتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي"

(3)

.

وهذا الحديث معناه الخصوص، والسعوط والحجامة شفاء لبعض الناس دون بعض، وكذلك اللدود والمشي.

(1)

ليست في الأصل، والمثبت من "اليونينية".

(2)

ليست في الأصل، والمثبت في (ص 2).

(3)

الترمذي (2047)، وقال: حسن غريب. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1959).

ص: 367

‌10 - باب السَّعُوطِ بِالْقُسْطِ الْهِنْدِيِّ الْبَحْرِيِّ

وَهْوَ الكُسْتُ مِثْلُ الكَافُورِ وَالْقَافُورِ، مِثْلُ {كُشِطَتْ} [التكوير: 11] نُزِعَتْ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللهِ:((قُشِطَتْ)).

5692 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ يُسْتَعَطُ بِهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» . [5713، 5715، 5718 - مسلم: 2214 - فتح 10/ 148]

5693 -

وَدَخَلْتُ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّ عَلَيْهِ. [انظر: 223 - مسلم: 287 - فتح 10/ 148]

ثم ساق حديث أُمِّ (قَيْسٍ بِنْتِ)

(1)

مِحْصَنٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "عَلَيْكُمْ بهذا العُودِ الهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ يُسعط مِنَ العُذْرَةِ، وَيُلَدُّ بِهِ مِنْ ذَاتِ الجَنْبِ" .. وَدَخَلْتُ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّ عَلَيْهِ.

الشرح:

(هذا الحديث يأتي في اللدود

(2)

، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه

(3)

، وسلف.

فيه: الطهارة من بول الصغير)

(4)

.

(1)

ما بين القوسين سقط من الأصل، والمثبت من "اليونينية".

(2)

يأتي برقم (5713).

(3)

مسلم (2214) كتاب: السلام، باب التداوي بالعود الهندي، وأبو داود (3877)، والنسائي في "السنن الكبرى" 4/ 374 - 375 (7583 - 7587) وابن ماجه (3462).

(4)

ما بين القوسين ليس في الأصل والمثبت من (ص 2).

ص: 368

(وأشفية) جمع: شفاء، كسقاء وأسقية.

(والعذرة) بضم العين: وجع في الحلق يهيج من الدم، وكذلك الموضع أيضًا يسمى عذرة، وهو قريب من اللهاة.

(ويلد): يداوي، واللدود: ما كان من السقي في أحد شقي الفم، بخلاف الوجور فإنه في وسطه، هذا المعروف.

(وذات الجنب): وجع بالجنب.

فصل:

وترجم عليه أيضًا: باب العذرة.

وفيه

(1)

: أم (قيس بنت)

(2)

محصن الأسدية -أسد خزيمة- وكانت من المهاجرات الأول اللائي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أخت عكاشة أخبرته أنها أتت (رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(3)

بابن لها وقد أعلقت عليه من العذرة، فقال صلى الله عليه وسلم:"على ما تدغرن أولادكن بهذا العلاق؟ عليكن بهذا العود الهندي؛ فإن فيه سبعة أشفية، منها ذات الجنب". يريد الكست وهو العود الهندي، وقال يونس، وإسحاق بن راشد عن الزهري: علقت عليه. ومراده بالتعليق عن يونس ما أخرجه مسلم

(4)

، وتعليق إسحاق ذكره هو مسندًا

(5)

.

فصل:

روى ابن سعد بإسناد جيد عن أنس مرفوعا: "إن أمثل ما تداويتم به

(1)

أي في باب العذرة الآتي، والحديث فيه برقم (5715).

(2)

ليست في الأصل.

(3)

علم فوقها في الأصل: (لا. إلى).

(4)

مسلم 2214/ 87.

(5)

أسنده في باب: ذات الجنب برقم (5718).

ص: 369

الحجامة والقسط الهندي لصبيانكم"

(1)

.

وروى أبو نعيم في "طبه" بإسناد جيد عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله عنها وعندها صبي يسيل منخراه دما، قال:"ما هذا"؟ قالوا: إنه العذرة. فقال: "ويلكن، لا تقتلن أولادكن، أيما امرأة أصاب ولدها العذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطا هنديا فلتحكه ثم لتستعطه به". قال: فصنعت ذلك فبرأ

(2)

.

وفي رواية لابن أبي شيبة: "فتحكه سبع مرات ثم توجره إياه"

(3)

.

وفي رواية لأبي نعيم: "فلتأخذ كستًا (بحتًا)

(4)

ثم تعمد إلى حجر فلتسحقه عليه ثم لتقطر عليه قطرات من زيت وماء ثم (تعالجه)

(5)

وتوجره إياه؛ فإن فيه شفاء من كل داء إلا السام"

(6)

، قال القرطبي: ويسعط بالقسط بحتا من ذات الجنب

(7)

ومن حديث ابن جريج عن زياد بن سعد عن حميد: سمعت أنسًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير ما تداوى به الناس (الحجامة)

(8)

والكست" وذكر العذرة. وفي لفظ: "لا تعذبوا أولادكم بالغمز، عليكم بالقسط البحري"، ومن حديث عمر بن محمد التلي، عن أبيه، عن محمد بن أبان، عن علقمة بن

(1)

"الطبقات" 1/ 447، ولفظه عنده "خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري".

(2)

"الطب النبوي" 1/ 393 (340).

(3)

"المصنف" 5/ 32 عن أم سلمة.

(4)

كذا بالأصل، ووقع في مطبوع "الطب النبوي": بحريًا. ثم كتب المحقق بهامشه أنه في مخطوط "الطب": بحتا. ثم جعله خطأ من الناسخ من غير دليل.

(5)

في الأصل: تعادي، والمثبت من (ص 2).

(6)

"الطب النبوي" 1/ 394 (343)

(7)

"المفهم" 5/ 603.

(8)

في الأصل: الحجارة. والمثبت في (ص 2).

ص: 370

مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم العذرة حتى صدعته ورئي ذلك عليه، فأتاه جبريل فرقاه فبرأ

(1)

.

وللترمذي عن ابن عباس يرفعه: "إن خير ما تداويتم به السعوط واللدود والحجامة والمشي"

(2)

. وقد سلف من حديث زيد بن أرقم أنه صلى الله عليه وسلم كان ينعت الزيت والورس والقسط لذات الجنب.

قال قتادة: يلده من الجانب الذي يشتكيه.

وفي رواية: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتداوى من ذات الجنب في القسط البحري والزيت.

ولأبي داود عن أبي كبشة مرفوعا: "من أهراق من هذِه الدماء فلا يضره أن (لا يتداوى)

(3)

بشيء"

(4)

.

فصل:

قال الأزهري في "تهذيبه": السعوط والنشوع والنشوق في الأنف، نشع وأنشع، ولخيته ولخوته وألخيته: إذا سعطته، ويقال: أسعطته، وكذلك: وجرته وأوجرته لغتان. وأما النشوق، فيقال: أنشقته إنشاقا، وهو طيب السعوط والسعاط والإسعاط

(5)

.

وقال ابن سيده في "محكمه": سعطه الدواء يسعُطُه ويسعَطُه، والضم أعلى، والصاد في كل ذلك لغة، عن اللحياني. وأرى هذا إنما هو على المضارعة التي حكاها سيبويه. وأسعطه: أدخله في أنفه، والسعوط:

(1)

"الطب النبوي" 1/ 396 - 398 (348، 349، 350).

(2)

الترمذي (2047).

(3)

في الأصل: يتأدى. والمثبت "سنن أبي داود".

(4)

أبو داود (3859).

(5)

"تهذيب اللغة" 2/ 1694 (سعط).

ص: 371

اسم الدواء، والسعيط: المسعط، والسعيط: دهن الخردل ودهن البان، والسعوط من السعي، كالنشوق من النشق

(1)

.

وقال الجوهري: أسعطته، واستعط هو بنفسه

(2)

.

وفي "الجامع": السعوط والمسعط والسعيط: الرجل الذي يفعل به ذلك، والسعطة: المرة الواحدة من الفعل، والإسعاط قبلها. قال أبو الفرج: الإسعاط هو تحصيل الدهن أو غيره في أقصى الأنف، سواء كان بجذب النفس أو بالتفريغ فيه.

وفي "البيان" لأبي حنيفة: نشقه نشقا واستنشقه استنشاقا، ونشقته أنشقه نشقا، ونشقا، وهو ما جعلت في أنفك.

فصل:

القُسط: بضم القاف، قال الجوهري: هو من عقاقير البحر

(3)

.

وقال ابن السكيت: القاف بدل من الكاف، كما ذكره البخاري.

وفي كتاب "المنتهى" لأبي المعالي: الكست والكسط والقسط ثلاث لغات، وهو جزر البحر.

وفي "الجامع" لابن البيطار: أجوده ما كان من بلاد المغرب، وكان أبيض خفيفا، وهو البحري، وبعده الذي من بلاد الهند، وهو غليظ أسود خفيف مثل القار، وبعده الذي من بلاد سوريا، وهو ثقيل ولونه لون البقس، ورائحته ساطعة، وأجودها ما كان حديثا أبيض ممتلئا غير متآكل ولا زهم.

(1)

"المحكم" 1/ 288 - 289 (عسط).

(2)

"الصحاح" 3/ 1131 (سعط).

(3)

"الصحاح" 3/ 1152 "قسط "

ص: 372

وأطال في تعريفه ومنافعه، ومنها: أنه ينفع من أوجاع الأرحام إذا استعمل، وشربه ينفع من لدغ الأفعى، ويحرك شهوة الجماع، وإذا وجر به في جمع قتل الولد، وإذا طلي به البهق والنمش أزالهما.

وقال ابن سينا: الهندي يسمى القرنفي، والذي لونه لون البقس شامي ورومي، وهو حار في الثالثة، يابس في الثانية، مفرح ونافع لكل عضو يحتاج أن يسخن.

فصل:

العُذرة: بضم العين -كما سلف- وبذال معجمة، وقال في علاجها: عذرته فهو معذور، قيل: هو قرحة تخرج في الخرم الذي بين الأنف والحلق تعرض للصبيان غالبا عند طلوع العذرة، وهي خمس كواكب تحت الشعرى العبور، وتسمى أيضًا: العذارى، ويطلع في وسط الحر. قاله ابن قتيبة.

وفي "المحكم": العذرة: نجم إذا طلع اشتد الحر، والعذرة والعاذر والعاذور: داء في الحلق، ورجل معذور: أصابه ذلك

(1)

.

وقال أبو علي: هي اللهاة، وقيل: قرب اللهاة، وقد أسلفت هذا، واللهاة هي اللحمة التي في آخر الفم وأول الحلق، وعادة النساء في علاجها أن تأخذ المرأة خرقة فتفتلها فتلا شديدا وتدخلها في أنف الصبي وتطعن ذلك الموضع فينفجر منه دم أسود، وربما أقرحته، وذلك الطعن يسمى دغرا، فمعنى "تدغرن أولادكن" أنها تغمز حلق الصبي بإصبعها فترفع ذلك الموضع وتكبسه.

(1)

"المحكم" 2/ 55 (عذر).

ص: 373

فصل:

وقولها في الباب الذي ذكرناه: (وقد أعلقت عليه من العذرة)، وفي رواية: علقت. قال صاحب "المطالع": ويروى: علقت عنه. وكلاهما صحيح؛ لأن (على) بمعنى (عن)، وعلقت وأعلقت جاءت بهما الروايات "الصحيحة" وأهل اللغة إنما يذكرون: أعلقت، والإعلاق والعلاق رباعيًّا.

قالوا: وهو الصواب، ومعناه غمز العذرة باليد، وهي اللهاة -كما سلف- فخافت أن يكون به ذلك فرفعت لهاته بإصبعها، فنهاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لما فيه من التعذيب للصبي، ولعل ذلك يزيد في وجع اللهاة.

فصل:

قال القرطبي: والرواية الصحيحة: "تدغرن أولادكن"، بدال مهملة وغين معجمة، ومعناه رفع اللهاة

(1)

.

فائدة: روى أبو حاتم الرازي، عن الصلت بن زبيد، عن أبيه، عن جده: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن بابني العذرة. قال: "خذي كستا مرًّا وزيتا وحبة سوداء فاسعطيه وتوكلي .. " الحديث

(2)

.

فصل:

أسلفنا أن ذات الجنب وجع به، قال الترمذي: وهو السل

(3)

. وفي

(1)

"المفهم" 5/ 603.

(2)

"علل الحديث" 2/ 346 وفيه: الصلت بن زبيد عن أمه، ومرة: جدته. وليس كما زعم المصنف.

(3)

قاله في "السنن" بعد الحديث رقم (2079) كتاب: الطب، باب: ما جاء في دواء ذات الجنب.

ص: 374

"البارع": هو الذي يطول به مرضه. وعن النضر: هو الدبيلة، وهي قرحة تثقب البطن، وقيل: هي القرحة. وفي "المنتهى": الجناب بالضم: داء في الجنب.

وأما الأطباء فإنهم يقولون: ذات الجنب ورم حار يكون إما في الحجاب الحاجز أو في الغشاء المستبطن للصدر، وهما خالصان، وإما في الغشاء المتخلل للأضلاع أو العضل الخارج، وهما غير خالصين.

والخالص يلزمه الأعراض الخمسة: حمى لازمة، وجع فاحش، وضيق نفس في صفر وتواتر، ونبض متسارع، وسعال ثاقب.

وغير الخالص ربما أدركه حس الطبيب، وقد يكون بلا حمى، وقد يقال لورم الحجاب برساما، ولورم (العضل)

(1)

الخارج شوصا.

فصل:

قال ابن العربي: قوله في القسط: (يلد به من ذات الجنب)، فذلك -والله أعلم- في آخر المرض أن يفرج منه الصدر فينزله تخفيف، وأما في أول الأمر- والمرض المذكور ورم حار- فيبعد عادة فيه منه القسط لحرارته

(2)

.

قال الخطابي فيما نقله ابن التين عنه: وسألت الأطباء عن هذا العلاق فلم يبينوه، إلا أن محمد بن العباس بن محمد المصري ذكر لي أنه رأى لبعض قدماء الأطباء أن ذات الجنب إذا حدثت من البلغم نفع منها القسط البحري

(3)

.

(1)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2).

(2)

"عارضة الأحوذي" 8/ 204.

(3)

"أعلام الحديث" للخطابي 3/ 2122.

ص: 375

فصل:

قال ابن العربي: ذكر صلى الله عليه وسلم في القسط سبعة أشفية، فسمى منها اثنتين ووكل باقيها إلى طلب المعرفة أو الشهرة فيها، وقد عدد الأطباء فيها عدة منافع

(1)

. وقد أشرنا إلى بعضها.

فإن قلت: إذا كان فيه ما تقدم من كثرة المنافع فما وجه تخصيص منافعه بسبع؟ فيجاب -بعد التسليم أن لأسماء الأعداد مفهوما- أن هذِه السبعة هي التي علمها الشارع بالوحي وتحققها، وغيرها من المنافع علمت بالتجربة، فذكر ما علمه وحيا دون غيره أو يقال: إنما فصّل منها ما دعت الحاجة إليه وسكت عن غيره؛ لأنه لم يبعث لبيان تفاصيل الطب، ولا لتعليم صنعته، وإنما تكلم بما تكلم به منه؛ ليرشد إلى الأخذ فيه والعمل به، وأن في الوجود عقاقير وأدوية ينتفع بها، وعين منها ما دعت حاجتهم إليه في ذلك الوقت وبحسب أولئك الأشخاص.

(1)

"العارضة" 8/ 204.

ص: 376

‌11 - باب: أيَّ سَاعَةٍ يَحْتَجِمُ

؟

وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى لَيْلًا.

5694 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ صَائِمٌ. [انظر: 1835 - فتح 10/ 149]

هذا التعليق أخرجه ابن أبي شيبة عن هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه

(1)

.

ثم ساق حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ صَائِمٌ. وقد سلف في الصوم.

والحجامة ليلاً أو نهارا، وفي كل وقت احتيج إليها مباحة. وقد ذكر احتجامه نهارًا لقوله: وهو صائم. وليلا عن أبي موسى. ومنع مالك الحجامة في الصوم لئلا يغرر بنفسه.

فصل: وقت الحجامة في أيام الشهر

لم يصح فيه شيء عند البخاري؛ فذلك لم يتعرض لها وقد وردت فيها أحاديث، من ذلك ما رواه أبو داود من حديث سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:"من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء"

(2)

وفي رواية: "من احتجم يوم الأربعاء ويوم السبت فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه". في إسناده

(1)

"المصنف" 2/ 208 (9307).

(2)

أبو داود (3861) ورواه الحاكم 4/ 210 مختصرا وصححه على شرط مسلم، وقال النووي في "المجموع": إسناده حسن على شرط مسلم. وكذا قال الألباني في "الصحيحة"(622). وقال الحافظ في "الفتح" 1/ 150: سعيد بن عبد الرحمن الجمحي وثقه الأكثر ولينه بعضهم من قبل حفظه.

ص: 377

سليمان بن أرقم، وهو متروك

(1)

. وفي رواية: "فأصابه بأس".

ومن حديث أبي بكرة بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة -وفيه كلام- عن عمته كبشة بنت أبي بكرة، عن أبيها أنه كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويزعم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ

(2)

.

ولما رواه ابن أبي عاصم في "طبه" قال حدثني غير واحد من شيوخ آل أبي بكرة منهم: عبد الملك بن هوذة بن خليفة، ومحمد بن أحمد، وهذا في آل أبي بكرة خاصة أن هذا الحديث معروف. ونقل:"من احتجم يوم الثلاثاء إلا كانت منيته فيه".

وعند الترمذي -محسنا- عن أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام كان يحتجم في الأخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين

(3)

.

وفي كتاب ابن أبي حاتم مضعفا وقال: "من تبيغ به الدم فليحتجم"

(4)

زاد ابن الجوزي في "علله": "عليكم بالحجامة يوم

(1)

رواه الحاكم 4/ 409، والبيهقي 9/ 340، قال البيهقي: سليمان بن أرقم ضعيف. وبه أعله أيضا في "معرفة السنن والآثار" 14/ 118. وقال الذهبي في "التلخيص" 4/ 409: سليمان متروك. وضعفه أيضًا النووي في "المجموع" 9/ 68.

(2)

رواه أبو داود (3862) والعقيلي في "الضعفاء" 1/ 150، والبيهقي 9/ 340، وضعفه العقيلي والبيهقي والمنذري في "المختصر" 5/ 349، والنووي في "المجموع" 9/ 68، والألباني في "الضعيفة"(2251).

(3)

الترمذي (2051)، ورواه أيضًا أبو داود (3860)، وابن ماجه (3483) بالشطر الأول منه، وصححه ابن حبان (6077)، والحاكم 4/ 210 على شرط الشيخين، والنووي في "المجموع" 9/ 68 على شرطهما، والألباني في "الصحيحة"(908).

(4)

"علل الحديث" 2/ 346. ونقل عن أبيه أنه قال: هذا حديث باطل.

ص: 378

الخميس فإنها تزيد في العقل"

(1)

زاد رزين في كتابه "الجمع": "لا تفتحوا الدم في سلطانه فإنه اليوم الذي أثر فيه الحديد فلا تستعملوا الحديد في يوم سلطانه".

وفي رواية عنده: "إذا وافق سبع عشرة يوم الثلاثاء كان دون السنة لمن احتجم فيه " ذكره من حديث أبي هريرة.

وعند الترمذي -محسنا- عن ابن عباس مرفوعًا: "نعم العبد الحجام يذهب الدم ويخف الصلب ويجلو عن البصر وإن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة ويوم تسع عشرة وأحد وعشرين"

(2)

.

وفي "جامع الأصول" من حديث عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحتجم يوم سبعة عشرة وتسعة عشر وإحدى وعشرين.

(3)

ولأبي داود عن سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا في رأسه إلا قال: "احتجم". ولا وجعًا في رجليه إلا قال: "اخضبهما"

(4)

.

(1)

"العلل المتناهية" 2/ 394 (1468) وقال: حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

الترمذي (2053). ورواه ابن ماجه والطبراني 11/ 326 (11893)، والحاكم 4/ 212 من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ.

قال الحافظ في "إتحاف المهرة" 7/ 619: قال علي بن المديني: سمعتُ يحيى بن سعيد القطان يقول: قلتُ لعباد بن منصور: سمعتُ هذا الحديث ممن؟ قال: حدثني ابن أبي يحيى عن داود بن الحصين، عن عكرمة. اهـ.

فعلى هذا فالحديث معلول، دلَّسه عباد بإسقاط رجلين، وابن أبي يحيى ضعيف، وعباد تكلم فيه غير واحد. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2036).

(3)

"جامع الأصول" 7/ 544، وذكر المحقق أن في نسخة مطبوعة: أخرجه رزين.

(4)

"سنن أبي داود"(3858). ورواه الحاكم 4/ 407 وصححه، وصححه الألباني في "الصحيحة"(2059).

ص: 379

وفي "طب أبي نعيم" من حديث ابن عباس مرفوعًا: "الحجامة في الرأس شفاء من سبع: الجنون والجذام والبرص والنعاس ووجع الأضراس (والصدار)

(1)

والظلمة يجدها في عينه"

(2)

، ولابن الجوزي معللًا "خير يوم تحتجمون فيه سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين"

(3)

.

ومن حديث ابن عمر مرفوعًا: "الحجامة تزيد في الحفظ وفي العقل وتزيد الحافظ حفظًا فعلى اسم الله يوم الخميس ويوم الجمعة ويوم السبت ويوم الاحد ويوم الاثنين ويوم الثلاثاء ولا تحتجموا يوم الأربعاء فما نزل من جنون ولا جذام ولا برص إلا ليلة الأربعاء"

(4)

(1)

كذا في الأصل، وفي "الطب" لأبي نعيم: والصداع.

(2)

"الطب النبوي" 1/ 359 (296) من طريق الطبراني في "الكبير" 11/ 29 (10938). ورواه ابن حبان في "المجروحين" 2/ 86، وابن عدي في "الكامل" 6/ 105، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 394 - 395 (1469 من طريق عمر بن رياح -أبي حفص الضرير- عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، به.

قال ابن حبان: عمر بن رياح كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب. وقال ابن عدي: يروي عن ابن طاوس البواطيل ما لا يتابعه أحد عليه، والضعف بين على حديثه. وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح. وضعفه الحافظ في "الفتح" 10/ 152 وقال الألباني في "الضعيفة"(3513): موضوع.

(3)

"العلل المتناهية" 2/ 393 (1467). رواه من طريق الإمام أحمد في "المسند" 1/ 354، ورواه ابن أبي شيبة 5/ 57 (23664)، وعبد بن حميد 1/ 500 (572). ثلاثتهم عن يزيد بن هارون عن عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، به. والحديث أعله ابن الجوزي بعباد، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"(3316)، والألباني في "الصحيحة" (1847). وذكره الحافظ في الفتح 10/ 150 وقال: رجاله ثقات لكنه معلول. أهـ. وقول الحافظ أقرب للصواب، والله أعلم.

(4)

"الطب النبوي" 1/ 360 (297)، ورواه الحاكم 4/ 210، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 391 - 392 (1464، 1465) من طريق زياد بن يحيى عن =

ص: 380

وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحجامة في الرأس شفاء من الجنون والجذام والبرص"

(1)

.

= غذال (وعند الحاكم: غزال) بن محمد، عن محمد بن جحادة، عن نافع مولى ابن عمر قال: قال لي عبد الله بن عمر: يا نافع، ابغني حجاما ولا يكون شيخا فانيا ولا صبيا صغيرا فإن الدم قد تبيغ بي، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:. . فذكره. قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات إلا غزال بن محمد، فإنه مجهول لا أعرفه بعدالة ولا جرح، وقد صحَّ الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله من غير مسند ولا متصل.

وأعله ابن الجوزي، وقال الذهبي عن غزال: لا يُعرف وخبره منكر في الحجامة.

ورواه ابن ماجه (3487)، وابن حبان في "المجروحين" 2/ 99 - 100، وابن عدي 3/ 141، وابن الجوزي (1464) من طريق عثمان بن مطر عن الحسن بن أبي جعفر عن محمد بن جحادة عن نافع عن ابن عمر قال .. الحديث، وفيه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحجامة على الريق أمثل وفيها شفاء وبركة .. " الحديث.

قال ابن حبان: عثمان بن مطر كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات لا يحل الاحتجاج به. وقال ابن عدي: هذا الحديث يرويه عن ابن جحادة ابن أبي جعفر، ولعل البلاء من عثمان بن مطر، لا من الحسن فإنه يرويه عنه غيره.

وبهما أعله ابن الجوزي، وقال البوصيري في "الزوائد" (1156): إسناده ضعيف؛ لضعف الحسن بن أبي جعفر.

ورواه ابن ماجه (3488) من طريق عبد الله بن عصمة عن سعيد بن ميمون، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعا. قال البوصيري (1158): إسناده ضعيف.

ورواه الحاكم 4/ 211 من طريق عبد الله بن صالح المصري عن عطاف بن خالد عن نافع عن عبد الله بن عمر، به مرفوعا. وضعفه الحافظ في "اللسان" 4/ 161 - 162 وقال: الظاهر أن عبد الله بن صالح وهم في رفعه.

ورواه الحاكم 4/ 211، وابن الجوزي (1465) من طريق عبد الله بن هشام الدستوائي عن أبيه عن أيوب السختياني، عن نافع عن ابن عمر موقوفا عليه. وصححه الحاكم، لكن قال الذهبي: عبد الله متروك، وكذا أعله ابن الجوزي. وللحديث طريق سادسة تأتي مع زيادة.

(1)

"الطب النبوي" 2/ 515 - 516 (505) وهو حديث ابن عباس الضعيف المتقدم.

ص: 381

وسُئل أبو حاتم عن حديث ابن عمر مرفوعًا: "الحجامة على الريق أمثل فيها شفاء وبركة تزيد في العقل والحفظ" قال: ليس هذا الحديث بشيء

(1)

.

وفي رواية -من طريق فيها ضعف- موقوفة لأبي نعيم: احتجموا على الريق فإنه يزيد الحافظ حفظًا، ولا تحتجموا يوم السبت فإنه يوم يدخل الداء ويخرج الشفاء، واحتجموا يوم الأحد فإنه يوم يخرج الداء ويدخل الشفاء، ولا تحتجموا يوم الاثنين فإنه يوم فجعتم فيه بنبيكم، واحتجموا يوم الثلاثاء فإنه يوم دم وفيه قتل ابن آدم أخاه، ولا تحتجموا يوم الأربعاء فإنه يوم بخس، وفيه سالت عيون الصبر وفيه أنزلت سورة الحديد، واحتجموا يوم الخميس فإنه يوم أنيس وفيه رفع إدريس وفيه لعن إبليس وفيه رد الله على يعقوب بصره ورد عليه يوسف، ولا تحتجموا يوم الجمعة فإن فيه ساعة لو وافقت فيه أمة لماتوا جميعًا

(2)

.

ومن حديث عبد الحميد بن صيفي بن صهيب عن أبيه عن جده يرفعه: "عليكم بالحجامة في (جوزة)

(3)

القمحدوة فإنها دواء من اثنين وسبعين داء من الجنون والجذام والبرص ووجع الأضراس"

(4)

.

(1)

"علل الحديث" 2/ 320 (2477). ورواه أيضًا ابن حبان في "المجروحين" 3/ 20 - 21 من طريق إسماعيل بن إبراهيم، عن المثنى بن عمرو، عن أبي قلابة، عن ابن عمر مرفوعا، به. قال أبو حاتم: إسماعيل والمثنى مجهولان. وقال ابن حبان: المثنى ابن عمرو شيخ يروي عن أبي سنان ما ليس من حديث الثقات لا يجوز الاحتجاج به.

وهذا الحديث وما سبقه من روايات ذكره الألباني في "الصحيحة"(766).

(2)

"الطب النبوي" 1/ 361 (298).

(3)

ساقطة من الأصل، والمثبت من "الطب النبوي".

(4)

"الطب النبوي" 1/ 365 (302). ورواه الطبراني 8/ 36 (7306)، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(3894).

ص: 382

ومن حديث الشعبي رفعه: "خير الدواء اللدود والسعوط والمشي والحجامة والعلق"

(1)

.

وفي "المصنف" من حديث ليث بن أبي سليم، عن البهزي رفعه:"من احتجم يوم الأربعاء أو يوم السبت فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه"

(2)

.

ومن حديث حفص، عن حجاج رفعه:"من كان محتجمًا فليتحجم يوم السبت"

(3)

.

وسئل مالك عن الحجامة في خمس عشرة وسبع عشرة وثلاث وعشرين فكره أن يكون لذلك يوم محدود، وقال: لا أرى بأسًا بالحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء والأيام كلها وكذلك السفر والنكاح وأراه عظيمًا أن يكون يوم من الأيام يجتنب ذلك فيه. وأنكر الحديث في هذا.

وقال الليث: إني لأتقي الحجامة يوم السبت والأربعاء لحديث بلغني. وكان ابن سيرين -فيما ذكره ابن أبي شيبة- يعجبه أن يحتجم من السبع عشرة إلى العشرين.

قال الطبري: فإن قلت: قوله: "أمثل ما تداويتم به الحجامة" أهو على العموم أو الخصوص؟ فإن قلتَ: على العموم فما أنت قائل فيما رواه ابن علية، عن ابن عون، عن ابن سيرين أنه قال: إذا بلغ الرجل أربعين سنة لم يحتجم. قال ابن عون: فتركت الحجامة وكانت

(1)

"الطب النبوي" 1/ 286 (180) رواه من طريق ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 32 (23423). ورواه البيهقي 9/ 346 وقال: مرسل. وانظر "الضعيفة"(3564).

(2)

"المصنف" 5/ 57 (23665) وفيه: عن ليث عن مكحول. بدل البهزي.

(3)

السابق (23666).

ص: 383

نعمة من الله؟ وإن قلت: على الخصوص فما الدليل عليه؟ قلت: أمره عليه السلام أمته إنما هو أمر ندب وهو عام فيما ندبهم إليه من معناه. وذلك أنه أمرهم بها حضًا منه لهم على ما فيه نفعهم، ولدفع ما يخاف من الدم على أجسامهم إذا كثر فندبهم إلى استعمال ذلك لقوله في حديث أنس:"إن الدم إذا تبيغ بصاحبه قتله".

(1)

وغير بعيد ما روي عن ابن سيرين من النهي المذكور، وذلك أنه في انتقاص من عمره، وانحلال من قوى جسده، وفي ذلك غناء له عن معونته عليه بما يزيده وهنا على وهن، نعم محمول على عدم الاحتياج إليها وإذا احتاج إليها فحق عليه حينئذ إخراجه، والآخر ندب إليه

(2)

.

قلتُ: والأطباء على خلاف ما قاله ابن سيرين.

قال ابن سينا في أرجوزته المطولة في الفصادة وهي نحو الحجامة:

ومن يكن تعود الفصادة

فلا يكن يقطع تلك العادة

لكن من بلغ الستينا

وكان ذا ضخامة مبينا

فافصده في السنة مرتين

ولا تحد فيه عن الفصلين

إن بلغ السبعين فافصده مرة

ولا تزد فيه على ذي الكرة

وإن تزد خمسا ففي العامين

في الباسليق افصده مرتين

وامنعه بعد ذاك كل فصد

فإن ذاك بالشيوخ مردي

(1)

رواه الطبري في "تهذيب الآثار" مسند ابن عباس - السفر الأول ص 494 (779)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(2747).

(2)

انتهى من "تهذيب الآثار" مسند ابن عباس -السفر الأول- 517 - 519. بتصرف.

ص: 384

‌12 - باب الْحَجْمِ فِي السَّفَرِ وَالإِحْرَامِ

قَالَهُ ابن بُحَيْنَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 1836]

5695 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُحْرِمٌ. [انظر: 1835 - مسلم: 1202 - فتح 10/ 150]

وهذا أسنده بعد بلفظ: احتجم بلحي جمل من طريق مكة، وهو محرم، في وسط رأسه

(1)

.

وفي حديث ابن عباس: زيادة: من شقيقة كانت به

(2)

. وفي رواية: وهو محرم صائم

(3)

.

ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُحْرِمٌ. وهو ظاهر في جواز الحجامة له، وقد سلف في الحج

(4)

، والله أعلم.

(1)

سيأتي برقم (5698) كتاب الطب، باب الحجم من الشقيقة والصداع.

(2)

سيأتي برقم (5701) كتاب الطب، باب الحجم من الشقيقة والصداع.

(3)

رواه أبو داود (2373)، والترمذي (775)، (777)، وابن ماجه (1682)، وأحمد 1/ 215، وقال الترمذي: حسن صحيح، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(408)، وقال في "صحيح ابن ماجه" (1364): صحيح بلفظ: واحتجم وهو محرم، وانظر "الإرواء"(932).

(4)

سلف برقم (1835).

ص: 385

‌13 - باب الْحِجَامَةِ مِنَ الدَّاءِ

5696 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَجْرِ الْحَجَّامِ، فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ، وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ، وَقَالَ:«إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ» . وَقَالَ: «لَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ» . [انظر: 2102 - مسلم: 1577 - فتح 10/ 150]

5697 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو وَغَيْرُهُ: أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ، أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما عَادَ الْمُقَنَّعَ ثُمَّ قَالَ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى تَحْتَجِمَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ فِيهِ شِفَاءً» . [انظر: 5683 - مسلم: 2205 - فتح 10/ 150]

كذا في الأصول: من الداء، وذكره ابن بطال بلفظ: من الدواء

(1)

.

ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَجْرِ الحَجَّامِ فَقَالَ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ، وَأَعْطَاهُ صَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ، وَكَلَّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفَّفُوا عَنْهُ، وَقَالَ:"إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ البَحْرِيُّ". وَقَالَ: "لَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنَ العُذْرَةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ".

وحديث جابر أنه عاد المقنع، ثم قال: لا أبرح حتى يحتجم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن فيه شفاء". (وسلف قريبا)

(2)

(الغمز): العصر باليد.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 400.

(2)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2).

ص: 386

وفيه: جواز الأجرة على الحجامة.

وقال ابن فارس: يقال: عذرت المرأة الصبي: إذا كانت به العذرة، وهي وجع في الحلق يغمز به

(1)

.

قال ابن التين: والقسط: شيء شجرته غريبة، وقد سلف ذلك واضحا.

(1)

"مجمل اللغة" 3/ 655 مادة (عذر).

ص: 387

‌14 - باب الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ

5698 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ ابْنَ بُحَيْنَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ، وَهْوَ مُحْرِمٌ، فِي وَسَطِ رَأْسِهِ. [انظر: 1836 - مسلم: 1203 - فتح 10/ 152]

5699 -

وَقَالَ الأَنْصَاريُّ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ فِي رَأْسِهِ. [انظر: 1835 - فتح

10/ 152]

ذكر فيه حديث ابن بُحَيْنَةَ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهْوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأسِهِ. (سلف في الحج)

(1)

.

وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: أَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، ثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّه صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ فِي رَأْسِهِ.

وهذا أسنده الإسماعيلي في "مستخرجه" عن الحسن بن سفيان ثنا عبد الله بن فضالة، أنا محمد بن عبد الله الأنصاري، ثنا هشام .. فذكره، (وأخرجه أبو نعيم من حديث يزيد والأنصاري به)

(2)

.

و (لحي جمل) بفتح اللام وكسرها مفردا، وكذا عند ابن عتاب وابن عيسى، وهما لغتان في اللحي، وقد ذكرا، وإن في هذا الحرف عند ابن جعفر بالفتح لا غير. قال أبو علي الحافظ: وهي روايتنا. وكذا وجد بخط الأصيلي في البخاري. قال ابن وضاح: هي عقبة الجحفة.

(1)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2). والحديث وسلف برقم (1836) باب الحجامة للمحرم.

(2)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2).

ص: 388

وقال غيره: على سبعة أميال من السقيا. واقتصر ابن التين على الفتح، وقال: هو موضع بين مكة والمدينة.

وقوله: (احتجم في وسط رأسه)، هو بفتح السين، قال الجوهري: كل موضع صلح فيه بين فهو وسط وإلا حرك، وربما سكن، وليس بالوجه

(1)

.

وروى الطبري عن شيبان، عن جابر، عن محمد بن علي، عن عبد الله بن جعفر قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قرنه بعد ما سم

(2)

.

(1)

"الصحاح" 3/ 1168.

(2)

"تهذيب الآثار" مسند عبد الله بن عباس 1/ 525 (831).

ص: 389

‌15 - باب الحجامة مِنَ الشَّقِيقَةِ وَالصُّدَاعِ

5700 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَأْسِهِ وَهْوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ: لَحْيُ جَمَلٍ. [انظر: 1835 - مسلم: 1202 - فتح 10/ 153]

5701 -

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهْوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ. [انظر: 1835 - مسلم:

1202 -

فتح 10/ 135]

5702 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ لَذْعَةٍ مِنْ نَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِىَ» . [انظر: 5683 - مسلم: 2205 - فتح 10/ 153]

ذكر فيه حديث ابن أَبِي عَدِيِّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَأْسِهِ وَهْوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ: لَحْيُ جَمَلٍ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ: ثَنَا هِشَامٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّه صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ فِي رَأْسِهِ وَهْوَ مُحْرِمٌ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ.

وحديث جابر رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ كَانَ فِي شَيء مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ فَفِي شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ لَذْعَة نَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ".

(الشرح)

(1)

:

تعليق محمد بن سواء أسنده الحافظ أبو بكر في "مستخرجه" عن أبي

(1)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2).

ص: 390

يعلى، ثنا محمد بن عبد الله (الأزدي)

(1)

، ثنا محمد بن سواء .. فذكره.

(وحديث ابن عباس الذي قبله أخرجه أبو داود والنسائي

(2)

، وأهمله ابن عساكر، وحديث جابر سلف في العسل)

(3)

.

و (الشقيقة): وجع يأخذ نصف الرأس والوجه، وقال الداودي: هو وجع في ناحية من الرأس مع الصدغ، وقال الفراء: هو وجع يأخذ نصف الرأس والوجه، وهذا قدمته. وقال ابن سيده في "المحكم": هو داء يأخذ في نصف الرأس

(4)

.

وفي "النهاية": هو نوع من صداع يعرض في مقدم الرأس وإلى أحد جانبيه

(5)

. وقال الأطباء: هو وجع مزمن يهيج في أحد جانبي الرأس، وسببه إما أبخرة مرتفعة أو أخلاط حارة أو باردة.

وروى أبو نعيم من حديث المسيب بن دارم، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه: كان صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة فيمكث اليوم واليومين لا يخرج.

ومن حديث ابن عون، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدع، فيغلف رأسه بالحناء

(6)

.

قال ابن التين: وفي الحديث أن حجامة الرأس شفاء من كل أوجاع الرأس والنعاس والأضراس. قال الليث: وهي في فاس الرأس التي في

(1)

وقع في الأصل: الرازي، وفي (ص 2): الأزرقي، والمثبت كما ساقه ابن حجر في "الفتح" 10/ 154 والعيني في "عمدة القاري" 21/ 242.

(2)

أبو داود (1836)، و"السنن الكبرى" 4/ 377.

(3)

من (ص 2).

(4)

"المحكم" 6/ 62 (قشقش) مقلوبة.

(5)

"النهاية" 2/ 492.

(6)

"الطب النبوي" 1/ 325 (240، 241).

ص: 391

وسط الرأس وربما أعمت، وذكر عن الأطباء أن حجامة الأخدعين نفعها من داء الصدر والرئة (والكبد)

(1)

، والحجامة على النقرة لأدواء العينين والرأس والعنق والظهر، والحجامة على الكاهل لأدواء الجسد كله، وحجمه صلى الله عليه وسلم في أماكن مختلفة لاختلاف أسباب الحاجة إليها، روي أن حجمه في كاهله كان لوجع أصابه في رأسه من أكله الطعام المسموم بخيبر.

قال الموفق البغدادي: الحجامة تنقي سطح البدن أكثر من الفصد؛ والفصد لأعماق البدن أفضل، وهي تستخرج الدم الرقيق، وتصلح للصبيان، ولمن لا يقوى على الفصد، وفي البلاد الحارة التي لا يصلح فيها الفصد، وتستحب في وسط الشهر وبعده في الربع الثالث من أرابيع الشهر لا في أول الشهر ولا في آخره؛ لأن الأخلاط في أول الشهر لم تكن هاجت، وفي آخره تكون قد سكنت، وأما في وسطه وبُعيده تكون في نهاية التزيد.

والحجامة على النقرة تقوم مقام فصد الأكحل، وتنفع من ثقل الحاجبين، وتخفيف الجفنين، وتنفع من جربة وفي البخر. وأما الحجامة على الكاهل تنوب عن فصد الباسليق وتنفع من وجع المنكب والحلق، وعلى الأخدعين تنوب عن فصد القيفال، وتنفع من ارتعاش الرأس، ومن أمراض أجزائه كالوجه والأسنان والأذنين والعينين والأنف والحلق، وتحت الذقن تنفع من أوجاع الأسنان والوجه والحلقوم، وتنفع الرأس والفكين، وعلى البطن تنفع من دماميل الفخذ وجربه، وببوره من النقرس والبواسير وداء الفيل ورياح

(1)

من (ص 2).

ص: 392

المثانة والرحم وحكة الظهر، ووضع المحاجم على المقعدة يجذب من جميع البدن ومن الرأس، وينفع الأمعاء، ويشفي من فساد الحيض

(1)

.

فصل:

قوله: (يقال له لحي جمل)، قال عياض: رواه بعض رواة البخاري مثنى، وفسره فيه في حديث محمد بن بشار فقال: ماء يقال له: لحي جمل

(2)

.

فصل:

في سند حديث جابر: ابن الغسيل: وهو عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حنظلة الغسيل، وأمه أسماء بنت حنظلة بن عبد الله بن حنظلة الغسيل ابن أبي عامر الراهب، واسمه عبد عمرو بن صيفي بن النعمان بن مالك بن أمية بن ضبيعة أخي أمية وعبيد ابني زيد أخي عزيز ومعاوية أولاد مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.

فصل:

قال الطبري: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحتجم على رأسه وبين كتفيه، من حديث أبي كبشة الأنماري وسلمى خادمه صلى الله عليه وسلم، ومن حديث جرير عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يحتجم في الأخدعين وبين الكتفين.

وصحة هذا غير مبطلة صحة الخبر عنه أنه احتجم على رأسه، وذلك أن حجم المحتجم من جسده ما يرجو نفعه في بعض أحايينه غير موجب

(1)

انظر: "زاد المعاد" 4/ 53 - 56.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 369.

ص: 393

علينا حالة احتجامه على هامته ونقرة قفاه وغيرها من أماكن جسده؛ لاختلاف العلل.

وقد ذكر عن المتقدمين في العلم بحجامة الأدواء أن حجامة الأخدعين نفعها من داء الصدر والرئة والكبد؛ لأنها تجذب الدم منها، وأن الحجامة على النقرة لأدواء العين والرأس والعنق والظهر، وأن الحجامة على الكاهل نفعها من داء الجسد كله، وأنها فوق القحف نفعها من السدود وقروح الفخذ واحتباس الطمث -وهذا قد سلف- فإذا كانت منافع الحجامة مختلفة لاختلاف أماكنها فمعلوم أن حجمه صلى الله عليه وسلم من جسده ما حجم كان لاختلاف أسباب الحاجة إليه. وروي عنه أن حجمه هامته كان لوجع أصابه في رأسه

(1)

، كما تقدم.

(1)

"تهذيب الآثار" مسند عبد الله بن عباس 1/ 524 - 525 بتصرف.

ص: 394

‌16 - باب الْحَلْقِ مِنَ الأَذَى

5703 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبٍ -هُوَ ابْنُ عُجْرَةَ- قَالَ: أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ بُرْمَةٍ، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَنْ رَأْسِي، فَقَالَ:«أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟» . قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «فَاحْلِقْ وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةً، أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً» . قَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي بِأَيَّتِهِنَّ بَدَأَ. [انظر: 1814 - مسلم: 1201 - فتح 10/ 154]

ذكر فيه حديث كعب بن عجرة، وقد سلف في الحج (والمغازي)

(1)

.

وفيه: أن كل ما يتأذى به المؤمن وإن صغر أذاه فمباح له إزالته وإماطته عنه؛ لأن تناثر القمل على كعب كان من شعث الإحرام، وذلك لا محالة أهون من علة لو كانت بجسده، فكما أمره صلى الله عليه وسلم بإماطة أذى القمل عنه كان مداواة أسقام الجسد أولى بإماطتها بالدواء، بخلاف قول الصوفية الذين لا يرون بالمداواة.

(1)

ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص 2).

ص: 395

‌17 - باب مَنِ اكْتَوَى أَوْ كَوَى غَيْرَهُ، وَفَضْلِ مَنْ لَمْ يَكْتَوِ

5704 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ شِفَاءٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» . [انظر: 5683 - مسلم: 2205 - فتح 10/ 154]

5705 -

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما -قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ. فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ أُمَّتِي هَذِهِ؟ قِيلَ: هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ. قِيلَ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ. فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا -فِي آفَاقِ السَّمَاءِ- فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ". ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ، فَأَفَاضَ الْقَوْمُ وَقَالُوا: نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا بِاللهِ وَاتَّبَعْنَا رَسُولَهُ، فَنَحْنُ هُمْ أَوْ أَوْلَادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلَامِ، فَإِنَّا وُلِدْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ فَقَالَ: "هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . فَقَالَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا؟ قَالَ: «سَبَقَكَ عُكَّاشَةُ» . [انظر: 3410 - مسلم: 220 - فتح 10/ 155]

ذكر فيه حديث جابر السالف قريبًا، وفيه:"وما أحب أن أكتوي" وحديث حصين، ثنا عامر، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ. فَذَكَرْتُهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: ثَنَا ابن عَبَّاسٍ قَالَ: قال

ص: 396

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ .. " الحديث. وفيه: "وَيَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ هؤلاء سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ". وفي آخره: "هُمُ الذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". فَقَالَ عُكَاشَةُ بن مِحْصَنٍ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا؟ فقَالَ: "سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ".

وقد سلف الكلام عليه قريبا.

فنذكر هنا أمورًا:

أحدها: حديث عامر الشعبي منقطع، قال البخاري في بعض نسخه: استفدنا من هذا أن حديث عمران مرسل، وحديث ابن عباس مسند.

قلت: وهو مع إرساله موقوف، وإن كان أبو داود لما رواه عن مسدد، ثنا عبد الله بن داود، عن مالك بن مغول، عن حصين، عن الشعبي، عن عمران رفعه به

(1)

، ورواه الترمذي من طريق سفيان عن حصين، ثم قال: ورواه شعبة، عن حصين، عن الشعبي، عن بريدة

(2)

ورواه ابن ماجه عن طريق أبي جعفر الرازي عن حصين، عن الشعبي، عن بريدة به مرفوعا. وأخرجه من حديث هشيم عن حصين موقوفا، ورواه أيضًا من حديث أنس مرفوعا أنه رخص في الرقية من العين والحمة والنملة

(3)

.

ولأبي داود من حديث سهل بن حنيف مرفوعا: "لا رقية إلا من نفس أو حُمَة أو لدغة"

(4)

.

(1)

أبو داود (3884).

(2)

الترمذي (2057).

(3)

ابن ماجه (3513، 3516) ولم أقف عنده على الطريق الموقوفة.

(4)

أبو داود (3888).

ص: 397

فصل:

قوله: (فذكرته لسعيد بن جبير)، هو حصين بن عبد الرحمن، جاء مبينا في بعض طرقه عند البخاري، وعنده أيضًا عن عائشة رضي الله عنها: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو أمر- أن يسترقى من العين

(1)

.

وعنده أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم رخص لأهل بيت من الأنصار في الرقية من كل ذي حمة

(2)

.

وعنده أيضًا من حديث أبي هريرة مرفوعا: "العين حق"

(3)

. ومن حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم رأى جارية في بيتها في وجهها سفعة -يعني صفرة- فقال: "بها نظرة، استرقوا لها"

(4)

.

ومن حديث أنس رضي الله عنه: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة والأذن، قال أنس: كويت من ذات الجنب ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي، وشهدني أبو طلحة وأنس بن النضر وزيد بن ثابت، وأبو طلحة كواني

(5)

.

وعند مسلم عنه: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من الحمة والنملة

(6)

.

ولأبي داود "لا رقية إلا من عين أو حُمَة أو دم يرقأ"

(7)

.

(1)

سيأتي برقم (5738)، باب: رقية العين.

(2)

سيأتي برقم (5741) باب: رقية الحية والعقرب.

(3)

سيأتي برقم (5740) باب: العين حق.

(4)

سيأتي برقم (5739) باب: رقية العين.

(5)

سيأتي برقم (5719، 5720، 5721) باب: ذات الجنب.

(6)

مسلم (2196) كتاب: السلام، باب: استحباب الرقية.

(7)

أبو داود (3889).

ص: 398

وعند مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: "العين حق، لو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا"

(1)

.

ولأبي داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان يأمر العائن فيتوضأ ثم يغتسل منه المعين

(2)

.

وللنسائي من حديث عامر بن ربيعة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه شيئاً يعجبه فليدع بالبركة؛ فإن العين حق"

(3)

.

وللترمذي -وقال صحيح- عن أسماء بنت عميس: يا رسول الله، إن ولد جعفر تسرع إليهم العين، أفنسترقي لهم؟ قال:"نعم؛ فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين"

(4)

.

ولابن أبي عاصم من طريق ضعيفة: "أكثر ما يحفر لأمتي من القبور العين"

(5)

.

وعن حية بن حابس، عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا شيء في الهامة، والعين حق". قال الترمذي: غريب

(6)

. وقال أبو عمر: في سنده اضطراب

(7)

.

وفي "الموطأ" عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسترقوا إلا من عين"

(8)

.

(1)

مسلم (2188) كتاب: السلام، باب: الطب والمرض والرقى.

(2)

أبو داود (3880).

(3)

"السنن الكبرى" 6/ 256.

(4)

الترمذي (2059).

(5)

هو في "المعجم الكبير" للطبراني 24/ 155 (399) عن داود بن أبي عاصم عن أسماء بنت عميس، بلفظ "نصف ما يحفر لأمتي من القبور من العين".

(6)

رواه الترمذي برقم (2061)، وقوله مذكور بعد حديث (2062).

(7)

"الاستيعاب" 1/ 345.

(8)

"الموطأ" ص 584، وفيه "ألا تسترقون له من العين".

ص: 399

وعن عائشة رضي الله عنها أن الصديق قال ليهودية ترقيني: ارقيها بكتاب الله

(1)

.

ولأبي داود عن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال: "ألا تعلمين هذِه رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟ "

(2)

.

ولمسلم عن عوف بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال: "اعرضوا علي رقاكم". ثم قال: "لا بأس ما لم يكن فيه شرك".

وعن جابر رضي الله عنه أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في رقية الحية لبنى عمرو بن حزم، وفي لفظ:"من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل"

(3)

.

فصل:

العين: نظر باستحسان ويشوبه شيء من الحسد، ويكون الناظر خبيث الطبع كذوات السموم. نبه عليه ابن الجوزي، ولولا هذا لكان كل عاشق يصيب معشوقه بالعين، يقال: عِنْتَ الرجل: إذا أصبته بعينك، فهو معين ومعيون، والفاعل: عائن.

ومعنى قوله: ("العين حق") أي: تصيب بلا شك عاجلا كأنها سابق القدر.

وقد أشكلت إصابة العين على قوم، فاعترضوا على هذا الحديث، فقالوا: كيف تعمل العين من بُعْدٍ حتى تمرض؟

والجواب: أن طبائع الناس تختلف كما تختلف طبائع الهوام، وأن ذلك يصل من أعينهما في الهواء حتى يصيبه، وقال رجل عيون: إذا رأيتُ شيئا يعجبني وجدتُ حرارة تخرج من عيني.

(1)

السابق ص 586.

(2)

أبو داود (3887).

(3)

مسلم (2200، 2199) كتاب: السلام، بابي: استحباب الرقية .. ، لا بأس بالرقى ..

ص: 400

وقد عرف أن في الناس من تلسعه العقرب فيموت العقرب، فلا ينكر أن يكون في الناس ذو طبيعة ذات ضر وسم، فإذا نظر إلى ما يعجبه فُصِلَ من عينه شيء في الهواء من السم فيصل إلى المرئي فيقتله.

ومما يشبه هذا أن المرأة الطامث تدنو من إناء اللبن فيفسد اللبن، وليس ذلك إلا لشيء فصل عنها فوصل إلى اللبن، وقد تدخل البستان فتضر بكثير من العروش من غير أن تمسها، ويفسد العجين إذا وضع في البيت الذي فيه البطيخ، وثاقب الحنظل تدمع عيناه، كذا قاطع البصل، والناظر إلى العين المحمرة، وقد يتثاءب الرجل فيتثاءب غيره.

فصل:

قال أبو عمر: قوله صلى الله عليه وسلم أي فيما يأتي: "علام يقتل أحدكم أخاه" دليل على أن العين حق، وربما قتلت وكانت سببًا من أسباب المنية.

وقوله: ("لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين") دليل على أن المرء لا يصيبه إلا ما قدر له، وأن العين لا تسبق القدر لكنها من القدر.

وقوله: ("ألا بركت؟ ") به دليل على أن العين لا تضر ولا تعدو إذا برك العائن، فواجب على كل من أعجبه شيء أن يبرك، وإذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، والتبريك أن يقول: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه

(1)

.

فصل:

ويؤمر العائن بالاغتسال، ويجبر إن أبى؛ لأن الأمر للوجوب، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينتفع به أخوه ولا يضره هو، لا سيما إذا كان بسببه وهو الجاني عليه.

(1)

"التمهيد" 6/ 237 - 241 باختصار.

ص: 401

والاغتسال ورد في حديث عامر بن ربيعة

(1)

، وهو أنه يغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صب عليه. وفي رواية: ويديه إلى المرفقين والركبتين

(2)

. وفي رواية أن عامرا غسل صدره. وفي أخرى: حسى منه حسوات

(3)

.

قال أبو عمر: وأحسن شيء في تفسيره ما وصفه الزهري راوي الحديث الذي عند مسلم: يؤتى بقدح من ماء، فيدخل يده في القدح (ثم يتمضمض في القدح)

(4)

ويغسل وجهه في القدح، ثم يصب بيده اليسرى على كفه اليمين، ثم بكفه اليمنى على كفه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصبه بها على مرفق يده اليمنى، ثم بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى، ثم يغسل قدمه اليمنى، ويغسل قدمه اليسرى ثم يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين، ثم يأخذ داخلة إزاره فيصب على رأسه صبة واحدة، ولا يضع "القدح به حتى يفرغ. زاد ابن عيينة في روايته عن الزهري: وأن يصبه من خلفه صبة واحدة تجري على جسده، ولا يوضع القدح في الأرض، ويغسل أطرافه وركبتيه وداخلة إزاره في القدح

(5)

.

قال النواوي: ولا يغسل ما بين المرفقين والكفين، وقد سلف في رواية خلافه.

قال: وداخلة إزاره هو الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن.

(1)

انظر في "الموطأ" ص 582، و"مسند أحمد" 3/ 486.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائي 4/ 381 (7617).

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 11/ 14 (9766).

(4)

في (ص 2): (فيمضمض ويمجه).

(5)

"التمهيد" 6/ 241 - 243 بتصرف.

ص: 402

قال: وظن بعضهم أن داخلة إزاره كناية عن الفرج، وجمهور العلماء على ما قدمناه، وإذا استكمل هذا منه صبه من خلفه على رأسه

(1)

.

وقال القرطبي: داخلة الإزار هو إدخاله وغمسه في القدح، ثم يقوم الذي يأخذ القدح فيصبه على رأس المعين من خلفه على جميع جسده، وقيل: يغسله بذلك، ثم يكفأ الإناء على ظهر الأرض

(2)

.

وذكر عياض أن غسل العائن وجهه إنما هو صبة واحدة بيده اليمنى، وكذلك باقي أعضائه، إنما هو صبه على ذلك العضو من القدح ليس على صفة غسل الأعضاء من الوضوء وغيره، وكذلك داخلة إزاره إنما هو غمسه في القدح، أي كما سلف، ويستغفل المعين عند صبه عليه. هذِه رواية ابن أبي ذئب عن الزهري، وفي رواية عقيل عنه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة، ويغسل طرف قدمه اليمنى من أصول أصابعه، واليسرى كذلك. وداخلة الإزار هي المئزر، والمراد بداخلته ما يلي الجسد منه. وقيل: المراد موضعه من الجسد، فقيل: المراد مذاكيره، وقيل: وركه؛ إذ هو معقد الإزار

(3)

.

فصل:

قال عياض: وقال بعض العلماء: ينبغي إذا عرف واحد بالإصابة بالعين أن يجتنب ويحترز منه، وينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس، ويأمره بلزوم منزله، وإن كان فقيرا رزقه ما يكفيه، فضرره أكثر من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخول المسجد

(1)

"شرح مسلم" 14/ 172.

(2)

"المفهم" 5/ 567.

(3)

"إكمال المعلم" 7/ 84.

ص: 403

لئلا يؤذي الناس، ومن ضرر المجذومة التي منعها عمر رضي الله عنه الطواف مع الناس

(1)

. وما ذكره ظاهر.

فصل:

قال أبو عمر: الرجل الصالح قد يكون عائنا، وأن هذا ليس من باب الصلاح ولا من باب الفسق في شيء، وأن العائن لا ينفى كما زعم بعض الناس

(2)

.

قلت: (ذكر)

(3)

القاضي حسين أن نبيا عان قومه

(4)

.

فصل:

قال القرطبي: لو انتهت إصابة العين إلى أن يعرف ذلك ويعلم من حاله، أنه كلما تكلم بشيء معظما له أو متعجبا منه أصيب ذلك الشيء وتكرر ذلك بحيث يصير ذلك عادة، فما أتلفه بعينه غرمه، وإن قتل أحدا بعينه عامدًا لقتله قتل به، كالساحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرا، وأما عندنا فيقتل على كل حال قتله بسحره أم لا؛ لأنه كالزنديق

(5)

.

فصل:

ذهبت الفلاسفة -كما قال ابن العربي- إلى أن ما يصيب العين من جهة العائن إنما هو صادر عن تأثير النفوس بقوتها فيه، فأول ما تؤثر في نفسها، ثم تقوى فتؤثر في غيرها. وقيل: إنما هو سم في عين العائن

(1)

السابق 7/ 85.

(2)

"التمهيد" 13/ 69.

(3)

ليست في الأصل.

(4)

هذا الكلام يقدح في كمال الأنبياء، فالأنبياء متصفون بالكمال الخَلْقي والخُلُقي.

وانظر هذه المسألة في "الشفا" 1/ 88.

(5)

"المفهم" 5/ 568.

ص: 404

يصيب لفحة المعين عند التحديق إليه كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به

(1)

.

قلت: ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند نظر العائن بفعل الله، أجرى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص لشخص آخر بمشيئة الله {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102].

فصل:

لما ذكر أبو بكر الكلاباذي حديث الحارث عن علي رضي الله عنه أن جبريل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق بالعين؛ فإن العين حق (قال)

(2)

: يجوز أن يكون معنى العين التي تجري فيها الأحكام والأمور في الخلق، وهو القضاء القديم (والقدرة السابقة)

(3)

، فكأنه قال: صدق بالعين وتحقق أن الذي أصاب منها إنما هو (بقدر)

(4)

الله لا أنه حدث في الوقت. فكأنه قال: صدق بالقدر.

ويجوز أن يكون الناظر إذا نظر إلى شيء فاستحسنه حتى شغل به عن ذكر الله تعالى فلم يرجع إليه ولا إلى رؤية صنيعه أحدث الله تعالى في المنظور علة، ويكون نظر الناظر سببها، فيؤاخذه الله بجنايته بنظره إليه على غفلة من ذكر الله، كأنه هو الذي فعلها به.

وهذا كالضرب من الضارب بالسيف فيحدث الله الجراحة في المضروب وهو يكون الجارح، وإن كان ذلك من فعل الله وليس بفعل

(1)

"عارضة الأحوذي" 8/ 215 - 216.

(2)

ساقطة من الأصل.

(3)

في الأصل: السابق.

(4)

في (ص 2): بقضاء.

ص: 405

الضارب، ولكن (لما كان)

(1)

الضارب منهيًّا عن الضرب بغير حقه لخفة الوعيد الذي أوعده الله به واستحقه بجنايته وهو الضرب، وكذلك الناظر نهي عن نظره إلى شئ من الأشياء على غفلة، ونسيان ذكر الله، فكانت هذِه جنايته، فيجوز أن يحدث الله في المنظور علة (يؤاخذ)

(2)

الناظر بجنايتها

(3)

.

قلت: وما فسر به العين بالقدر نظر.

فصل:

(الحمة) بضم الحاء المهملة ثم ميم مخففة ثم هاء؛ كذا ذكره ثعلب وقال: وهي سم العقرب. وقال الخطابي: هي كل شيء يلدغ أو يلسع

(4)

. وقال الفراء: هي السم. وقيل: شوكة العقرب.

قال صاحب "المطالع": وهو غلط، وأصله حمو أو حمي، والهاء عوض من الواو، ولامه ياء.

وقال ابن سيده: والحمة، قال بعضهم: هي الإبرة التي تضرب بها الحية والعقرب والزنبور أو تلدغ بها، والجمع: حماة وحمى

(5)

.

وقال الجاحظ: من سمّى إبرة العقرب حمة فقد أخطأ، وإنما الحمة سموم ذوات الشعر كالدبر، وذوات الأنياب والأسنان كالأفعى وسائر الحيات، وكسموم ذوات الإبر من العقارب، وأما البيش وما أشبهه من السموم فليس يقال له: حمة. وههنا أمور لها سموم، ولم نسمعهم يسمون جميع السموم الحمة، وقلنا مثل ما قالوا، وانتهينا إلى حيث انتهوا.

(1)

ساقطة من الأصل.

(2)

في الأصل: يأخذ.

(3)

"بحر الفوائد" المسمى بـ "معاني الأخبار" 1/ 197 (128) بتصرف.

(4)

"أعلام الحديث" 3/ 2116.

(5)

"المحكم" 3/ 348.

ص: 406

وقال المطرز في "يواقيته": حمَّة بالتشديد. وعند كراع: وجمعها حمون وحمات، كما قالوه: برة وبرون وبرات، قال: وكأنها مأخوذة من حميت النار تحمى: إذا اشتد حرارتها.

فصل:

قوله: ("لا رقية إلا من عين أو حمة")، قال الخطابي: يريد لا رقية أولى وأشفى من رقية العين

(1)

، وقد أسلفنا عن القزاز: الحمة: السم.

وكذلك قال ابن سيرين: يكره الترياق إذا كان فيه الحمى. يعني: سموم الحيات. قال: والذي في الحديث: الحمة كل هامة ذات سم من حية أو عقرب.

قال الجوهري: الحمى: حمة العقرب، سمها وحرها، وهي بالتخفيف، وأما حمة الحر -وهو معظمه- فبالتشديد

(2)

، وقيل: الحمة: لدغة الحية. وبخط الدمياطي: أي من لدغة ذي حمة وهي السم كالعقرب.

فصل:

وقوله في حديث ابن عباس: (فأفاض القوم)، أي: في الكلام واندفعوا إليه.

فصل:

قال ابن بطال: في حديث [جابر]

(3)

إباحة الكي والحجامة، وأن الشفاء فيهما؛ لأنه لا يدل أمته على ما فيه الشفاء لهم إلا ومباح لهم الاستشفاء به والتداوي.

(1)

"أعلام الحديث" 3/ 2115.

(2)

"الصحاح" 6/ 1321.

(3)

مثبتة من هامش الأصل حيث كتب: سقط جابر من أصله.

ص: 407

فإن قلت: ما معنى قوله: "وما أحبُّ أن أكتوي" قيل: معناه -والله أعلم- أن الكي إحراق بالنار وتعذيب بها، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ كثيرًا من (فتنة النار و)

(1)

عذاب النار، فلو اكتوى بها لكان قد عجل لنفسه ألم ما قد استعاذ بالله منه.

فإن قيل: فهل نجد في الشريعة مثل هذا مما أباحه لأمته ولم يفعله هو؟ قيل: بلى، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أباح لأصحابه أكل الضب وامتنع هو، وبين علة امتناعه منه فقال:"لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه".

ومثله عدم أكله الثوم والبصل والخضرات المنتنة الريح، وأباحها لأمته وقال:"إني أناجي من لا تناجي". وقال مرة: "إنه يحضرني من الله حاضر". فكذلك أباح الكي وكرهه في خاصة نفسه

(2)

.

فصل:

قوله: ("لا يسترقون") قيل: فيه دليل على كراهة التداوي، وقيل: ليس فيه دليل على منع الرقية، ووجهه أن يكون تركها توكلا على الله ورضًا بالبلاء والقضاء، وهذِه أرفع الدرجات، وذهب إلى هذا أبو الدرداء وغيره من الصحابة، وروي ذلك عن الصديق وابن مسعود.

ويحتمل أن يكون كره من الرقية ما كان على مذهب التمائم التي كانوا (في الجاهلية)

(3)

يعلقونها، والعوذ التي كانوا في الجاهلية يتعاطونها يزعمون أنها تذهب الآفات عنهم، وكانوا يرون معظم السبب في ذلك الجن ومعونتهم، وهذا محظور محرم التصديق به، ويكره أيضًا الرقى بالعجمية؛ لأنه ربما يكون كفرا وقولًا يدخله الشرك.

(1)

ساقطة من الأصل.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 404.

(3)

ساقطة من الأصل.

ص: 408

وقال أبو الحسن القابسي: معنى "لا يسترقون" يريد به الذي كانوا يسترقون به في الجاهلية مما ليس في كتاب الله، وهو ضرب من السحر، فأما الاسترقاء بكتاب الله فقد فعله صلى الله عليه وسلم وأمر به، وليس بمخرج عن التوكل؛ لأن الثقة بالله، والاعتماد في الأمور عليه، وتفويض كل ذلك بعد استفراغ الوسع في السعي فيما بالعبد الحاجة إليه في أمر دينه ودنياه، على ما أمر به لا كما قاله بعض الصوفية أن التوكل حده الاستسلام للسباع، وترك الاحتراز من الأعداء ورفض السعي للمعايش والمكاسب، والإعراض عن علاج العلل تمسكا بقوله:"ولا يكتوون .. " الحديث. ومعناه: معتقدين أن الشفاء (والبرء في)

(1)

الكي وغيره دون إذن الله بالشفاء، وأما من اكتوى معتقدا إذا شفي أن الله هو الذي شفاه فهو المتوكل على ربه.

فصل:

وقوله: ("ولا يتطيرون") الطيرة: التطير من الشيء، وهو أن يرى شيئا يتشاءم به، واشتقاقه من الطير كالغراب ونحوه، وفي بعض الحديث:"ثلاث لا يسلم منهن أحد: الظن، والطيرة، والحسد، فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ"

(2)

.

وقال الطبري: معنى "لا يسترقون ولا يتطيرون" -والله أعلم- الذين لا يفعلون شيئا من ذلك معتقدين أن البرء إن حدث عقب ذلك كان من عند غير الله، وأنه كان بسبب الكي والرقية، وأن الذي يتطير منه لو لم يتضرر

(1)

في (ص 2): والترقي و.

(2)

ذكره العراقي في "المغني" 2/ 862 (3169) بلفظ: ينجو، بدل: يسلم، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في كتاب "ذم الحسد" من حديث أبي هريرة. قال: وفيه يعقوب بن محمد الزهري. وموسى بن يعقوب الزمعي ضعفهما الجمهور.

ص: 409

من أجله ومضى كان مصيبه -إن أصابه مكروه- من قبل مضيه لا من قبل الله، فأما من انصرف ومضى وهو في كلا حاليه معتقدا أنه لا ضار ولا نافع غير الله، وأن الأمور كلها بيده، فإنه غير معني بقوله:"لا يكتوون ولا يتطيرون".

فصل:

اختلف الناس في التوكل كما قاله الطبري، فقالت طائفة: لا يستحق اسم التوكل حتى لا يخالط قلبه خوف شيء غير الله من سبع عاد وعدو لله كافر (حتى)

(1)

يترك السعي على نفسه في طلب رزقه؛ لأن الله تعالى قد ضمن أرزاق العباد، والشغل بطلب المعاش شاغل عن الخدمة.

واحتجوا بما رواه فضيل، عن هشام، عن الحسن، عن عمران بن حصين رفعه:"من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها"

(2)

.

وبما رواه فضيل، عن عطية، عن أبي سعيد مرفوعا:"لو فر أحدكم من رزقه لأدركه كما يدركه الموت"

(3)

.

وقالت أخرى: حده الثقة به، والاستسلام لأمره، والإيقان بأن قضاءه عليه ماض، واتباع سنته (وسنة رسوله، ومن اتباع سنته)

(4)

سعي العبد فيما لا بد له منه، ومن مطعم ومشرب وملبس؛ لقوله

(1)

في (ص 2): لا.

(2)

"معجم الطبراني الصغير" 1/ 201 (321) وقال: لم يروه عن هشام إلا الفضيل تفرد به إبراهيم بن الأشعث الخراساني.

(3)

"معجم الطبراني الصغير" 1/ 365 (611). وقال لا يروى عن أبي سعيد إلا بهذا الإسناد تفرد به الحسين بن علي الصدائي.

(4)

ساقطة من الأصل.

ص: 410

تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: 8].

ومن سببه أن يحترز من عدوه كما فعل الشارع يوم أحد من مظاهرته بين درعين وتغفره بالمغفر؛ ليتقي به سلاح المشركين، وإقعاده الرماة على فم الشعب؛ ليدفعوا من أراد إتيانه، وكصنيعه الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم مع كونه من (الثقة و)

(1)

التوكل والثقة بربه بمحل لا يبلغه أحد، ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم مرة إلى الحبشة وأخرى إلى المدينة؛ خوفا على أنفسهم من مشركي مكة وهربًا بدينهم أن يثبتوهم عنه بتعذيبهم إياهم.

وقد أحسن الحسن البصري حين قال -للمخبر عن عامر بن عبد الله أنه نزل مع أصحابه في طريق الشام على ماء حال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: لقد خاطرت بنفسك! وقال: لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلى أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه-: قد خاف من كان خيرًا من عامر، موسى عليه السلام حين قيل له:{إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)} [القصص: 20، 21] وقال أيضًا: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)} [طه: 67، 68] قالوا: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله عليه نفوس بني آدم كاذب، وقد طبعهم الله على الهرب مما يضرهم، وقد أمر الله عباده بالإنفاق من طيبات ما كسبوا.

(1)

ساقطة من الأصل.

ص: 411

وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] فأحل للمضطر ما كان حرم عليه عند عدمه للغذاء الذي أمر الله باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعام ينزل عليه من السماء، ولو ترك السعي في طلب ما يتغذى به حتى هلك كان لنفسه قاتلا، وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع ما يجد ما يأكله، ولم ينزل عليه طعام من السماء، وهو أفضل البشر، وكان يدخر لنفسه قوت سنة حتى فتح الله عليه الفتوح.

وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير فقال: يا رسول الله، أعقله وأتوكل، أو أطلقه (وأتوكل؟)

(1)

قال: "اعقله وتوكل"

(2)

.

وأما اعتلالهم بحديث: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب .. " إلى قوله: "وعلى ربهم يتوكلون" فذلك إغفال منهم، فمعنى ذلك: الذين لا يكتوون معتقدين أن الشفاء والبرء بالكي دون إذن الله بالشفاء له به، فأما من اكتوى معتقدًا إذا شفاه الله بعلاجه أن الله هو الذي شفاه به فهو المتوكل على ربه التوكل الصحيح، ولا أحد يتقدم سيد هذِه الأمة في دخول الجنة ولا يسبقه إليها، وقال:"أنا أول من يقرع باب الجنة، فيقال لي: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول الخازن: ما أمرت أن أفتح لأحد قبلك"

(3)

.

قالوا: وقد كوى صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه، كوى أبا أمامة أسعد بن

(1)

ساقطة من الأصل.

(2)

رواه الترمذي (2517).

(3)

بنحوه عند مسلم (197) كتاب: الإيمان باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أول الناس يشفع ..

ص: 412

زرارة من الذبحة، وكوى سعد بن معاذ من كلمه يوم الخندق، وكوى أبي بن كعب على أكحله حين أصابه السهم يوم أحد، وكوي أبو طلحة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال جرير بن عبد الله: أقسم علَيَّ عمرُ بن الخطاب لأكتوين.

واكتوى خباب بن الأرت سبعا في بطنه، واكتوى من اللوقة ابن عمر ومعاوية وعبد الله بن عمرو، وذلك كله ذكره الطبري بأسانيد صحاح، قال: فبان أن معنى الحديث ما قلناه، وأن الصواب في حد التوكل الثقة بالله والاعتماد عليه كما أسلفناه أولاً

(1)

.

فصل:

سلف في باب أول الطب من هو المسبوق.

وعن "مسند ابن سنجر" من رواية أم قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه انتهى بها إلى البقيع فقال: "يا أم قيس، يبعث من هذِه المقبرة سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، كأن وجوههم القمر ليلة البدر". فقام عكاشة .. الحديث)

(2)

.

فصل:

قال الإسماعيلي: في حديث أبي هريرة: كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ قال: "أرأيت لو كان لأحد خيل"؟ وفي حديث ابن عباس هذا أنه لم يعرف أمته؛ فإن فيه: " .. فإذا فيه سواد قد ملأ الأرض، قيل: هذِه أمتك". فكيف (وجه)

(3)

خروج الحديثين مع صحة إسنادهما؟

(1)

انظر ابن بطال 9/ 404: 408.

(2)

ما بين القوسين ساقط من (س).

(3)

ساقط من الأصل.

ص: 413

فنقول: إن السواد الذي في الأفق الثاني غير مدرك الطرف إلا السواد والكثرة، ولا يدرك الأعيان والأشخاص حتى إذا صاروا منهم بحيث يدرك الطرف أشخاصهم عرفهم بالعلامة التي ذكرها، وقد يرى الرجل شخصا ثانيا فيكلمه ولا يعلم أخاه، فإذا صار بالمحل الذي يتبينه عرفه حينئذ.

ص: 414

‌18 - باب الإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ مِنَ الرَّمَدِ

فِيهِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ. [انظر: 313]

5706 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا، فَذَكَرُوهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرُوا لَهُ الْكُحْلَ، وَأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَيْنِهَا، فَقَالَ:«لَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي بَيْتِهَا فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا -أَوْ فِي أَحْلَاسِهَا فِي شَرِّ بَيْتِهَا- فَإِذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بَعْرَةً، فَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . [انظر: 5336 - مسلم: 1488 - فتح 10/ 157]

ثم ساق من حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا فَاشْتَكَتْ عينها، فَذَكَرُوهَا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذَكَرُوا لَهُ الكُحْلَ، وَأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى عَيْنِهَا، فَقَالَ:"لَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي بَيْتِهَا فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا -أَوْ: فِي أَحْلَاسِهَا فِي شَرِّ بَيْتِهَا- فَإِذَا مَرَّ كلْبٌ رَمَتْ ببَعْرَة، فَلَا، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا".

الشرح:

(حديث أم سلمة سلف في الطلاق، و)

(1)

عني البخاري بحديث أم عطية حديثها السالف في الطلاق أيضًا مسندًا

(2)

، وليس فيه ولا في حديث الباب ذكر الإثمد، وكأن البخاري اعتمد على أنه يدخل في غالب الأكحال لا سيما أكحال العرب، وأما ذكره والتنصيص عليه فكأنه لم يصح على شرطه، وقد أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

ساقط من الأصل.

(2)

سلف في الطلاق برقمي (5340، 5343) وأول ذكر له في البخاري برقم (313) كتاب: الحيض، باب: الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض.

ص: 415

"إن خير أكحالكم الإثمد: يجلو البصر، وينبت الشعر"

(1)

.

وللترمذي أيضًا محسنا: "اكتحلوا بالإثمد؛ فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر"، وكان له صلى الله عليه وسلم مكحلة يكتحل منها كل ليلة، ثلاثة في هذِه، وثلاثة في هذِه، وفي رواية: وثنتين في اليسرى

(2)

.

وفي "علل الترمذي" المفردة: سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث محفوظ

(3)

.

وفي لفظ ذكره ابن بطال: كان صلى الله عليه وسلم يكتحل قبل أن ينام (بالإثمد)

(4)

ثلاثة في كل عين ثلاث

(5)

.

وخرج الترمذي في "شمائله" من حديث ابن إسحاق

(6)

عن ابن المنكدر عن جابر نحوه "عليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر"

(7)

، وقال في "علله": سألت محمدًا عنه فلم يعرفه من حديث ابن إسحاق. وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن مسلم عن ابن المنكدر عن جابر. قال: وسألته عن حديث ابن عمر، قال: إنما روى هذا عن سالمٍ عثمانُ بْنُ عبد الملك، ولم يعرفه من حديث غيره، وعن ابن عمر كذلك

(8)

.

(1)

"صحيح ابن حبان" 13/ 437 (6073).

(2)

الترمذي (1757).

(3)

"العلل الكبير" 2/ 733 - 734.

(4)

ساقط من الأصل.

(5)

"شرح ابن بطال" 9/ 409.

(6)

وقع في الأصل هنا: وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن مسلم عن ابن المنكدر نحوه. ومكانها بعد كما سيأتي، ولعله خطأ من الناسخ.

(7)

"الشمائل المحمدية" ص 27 (54) وفيه زيادة: عند النوم.

(8)

"العلل الكبير" 2/ 734 - 735.

ص: 416

ولابن أبي عاصم من حديث عون بن محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده مرفوعا:"عليكم بالإثمد؛ فإنه منبتة للشعر، مذهبة للقذى، مصفاة للبصر".

وفي "غرائب الدارقطني" من حديث الزهري عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالإثمد. ثم قال: تفرد به عبد الرحمن بن عبد الله بن مسلم -وكان ضعيفا- عن سعيد بن بزيع، عن ابن إسحاق عنه

(1)

.

ولابن أبي عاصم من حديث عقبة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اكتحل اكتحل وترا. ومن حديث صفوان بن سليم، عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان له مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثًا ثلاثا.

ولأبي نعيم: اثنتين في كل عين، ويقسم بينهما واحدة

(2)

.

وفي رواية من طريق يحيى بن زهدم، عن أبيه، عن أنس يرفعه:"لا تكرهوا الرمد، فإنه يقطع عروق العمى"

(3)

.

فصل:

الإثمد: حجر يكتحل به، قال في "المحكم": الإثمد: حجر يتخذ منه الكحل، وقيل: هو نفس الكحل، وقيل: شبيه به

(4)

.

وذكر الموفق البغدادي وابن البيطار منافع الإثمد، منها أنه يقطع الرعاف.

(1)

"أطراف الغرائب والأفراد" 2/ 194 (1125).

(2)

"الطب النبوي" 1/ 341 (268).

(3)

"الطب النبوي" 1/ 344 (274).

(4)

"المحكم" 10/ 22.

ص: 417

فصل:

قولها: (شر أحلاسها)، قال الجوهري: أحلاس البيوت: ما يبسط تحت الثياب

(1)

.

وقال الداودي: شر أحلاسها: الثياب التي تلبس.

(1)

"الصحاح" 3/ 919، وفيه: ما يبسط تحت الحر من الثياب.

ص: 418

‌19 - باب الجُذَامِ

5707 -

وَقَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» . [5717، 5757، 5770، 5773، 5775 - مسلم: 2220 - فتح 10/ 158]

وَقَالَ عَفَّانُ: ثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا عَدْوى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ".

الشرح:

هذا تعليق صحيح، وعفان شيخه، وأخرجه أبو نعيم من حديث عمرو بن مرزوق وأبي داود وقفه عن سليم. ثم قال أبو نعيم: وقفه يوسف القاضي عن عمر.

وله طريق ثان أخرجه ابن حبان من حديث الدراوردي، عن العلاء، (عن أبيه)

(1)

، عن أبي هريرة بزيادة:"ولا نوء"

(2)

. وقال البخاري في باب لا صفر: ورواه الزهري، أي: من رواية معمر عنه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"لا عدوى، ولا صفر، ولا هامة .. " الحديث، قال: وعن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي هريرة رضي الله عنه

(3)

. وهذا أخرجه مسلم من حديث (الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن)

(4)

،

(1)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2).

(2)

"صحيح ابن حبان" 13/ 503 (6133).

(3)

يأتي بعد الحديث رقم (5717).

(4)

زيادة من هامش الأصل، ووقع فيه: القزاز. ثم قال في الهامش: صوابه

فكتب ما أثبتناه.

ص: 419

عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري به

(1)

، وله طريق آخر من حديث جابر أخرجه مسلم عنه مرفوعا:"لا عدوى، ولا طيرة، ولا غول"

(2)

. زاد ابن حبان: "ولا صفر"

(3)

. وله طريق آخر من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه أيضًا عنه مرفوعا ("لا طيرة ولا هامة ولا صفر")

(4)

.

ولحديث أبي هريرة طريق آخر أخرجه أبو نعيم من حديث محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:"اتقوا المجذوم كما يتقى الأسد"

(5)

.

ومن حديث وعلة بن وثاب، عن محمد بن علي، عن ابن عباس مرفوعا:"فروا من المجذوم كما تفرون من الأسد". وفي رواية: "لا تديموا النظر إلى المجذومين"

(6)

.

ولابن حبان من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنا قد بايعناك فارجع"

(7)

.

ولأبي نعيم من حديث الحسن

(8)

بن عمارة، (عن أبيه)

(9)

، عن

(1)

مسلم (2221/ 105).

(2)

مسلم (2222).

(3)

"صحيح ابن حبان" 13/ 498 (6128).

(4)

السابق 13/ 486 (6117).

(5)

"الطب النبوي" 1/ 353 (287).

(6)

"الطب النبوي" 1/ 353 - 354 (288، 289).

(7)

لم أقف عليه عند ابن حبان، وأولى بالمصنف أن يعزوه لمسلم فهو عنده بسنده ومتنه (2231) كتاب: السلام، باب: اجتناب المجذوم.

(8)

علق في هامش الأصل بقوله: الحسن متروك.

(9)

ليست في الأصل، والمثبت من (ص 2).

ص: 420

ابن أبي أوفى رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كلم المجذوم وبينك وبينه قِيدُ رمح أو رمحين"

(1)

.

ولابن ماجه من حديث فاطمة بنت الحسين، عن ابن عباس مرفوعا:"لا تديموا النظر إلى المجذوم"

(2)

.

وفي رواية عن فاطمة عن أبيها عن علي رضي الله عنه يرفعه .. فذكره

(3)

.

فإن قلت: كيف نعمل بحديث أبي داود عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخله معه في القصعة ثم قال: "كل بسم الله وثقة بالله وتوكلا عليه"

(4)

.

قال الترمذي فيه: غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد، عن مفضل بن فضالة، والمفضل هذا شيخ مصري أوثق من هذا وأشهر، وروى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد، عن ابن بريدة أن عمر أخذ بيد مجذوم، وحديث شعبة أثبت عندي وأصح

(5)

.

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي الزناد أن عمر رضي الله عنه قال لمعيقيب: ادنه، فلو كان غيرك ما قعد منى إلا قِيدَ الرمح، وكان مجذومًا

(6)

.

(1)

"الطب النبوي" 1/ 355 (292).

(2)

ابن ماجه (3543).

(3)

رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على "المسند" 1/ 78.

(4)

أبو داود (3925)، وليس فيه جملة:"بسم الله".

(5)

الترمذي (1817)، ونقل المصنف كلام الترمذي مختصرًا، فأشكل، والترمذي يشير إلى أن المفضل بن فضالة راوي هذا الحديث غير المفضل بن فضالة المشهور، وأن المشهور أوثق.

(6)

"المصنف" 10/ 405 (19510).

ص: 421

(قلت: وهو المجذوم المذكور في حديث جابر، كما نبه عليه ابن بشكوال عن أبي مسلم صالح بن أحمد بن صالح عن أبيه: لم ينبذ أحد من الصحابة إلا هذا كان به الجذام، وأنس به وضح

(1)

.

وقال ابن السكن: لم يكن من أصحابه أحد مجذوما غير معيقيب.

قلت: وقيل إنه عالجه عمر بالحنظل حتى برئ، وهو الذي سقط من يده خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر أريس زمن عثمان.

وقال المحب في "أحكامه": لم يكن في الصحابة مجذوم غيره)

(2)

.

وروى محمد بن عبد السلام الخشني

(3)

بإسناد صحيح إلى ابن بريدة قال: كان سلمان يصنع الطعام الخبز واللحم من عطائه، ويقعد مع المجذومين

(4)

.

قلت: لا معارضة؛ لأمور:

أحدها: تقديم الأول؛ لصحتها.

ثانيها: أن أخذه بيده وقوله: "كل بسم الله" ليس فيه أنه أكل معه، وإنما أذن له ولم يأكل هو؛ ذكره الكلاباذي.

(1)

"غوامض الأسماء المبهمة" 2/ 558.

(2)

سقط من الأصل ما بين القوسين.

(3)

هو الحافظ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد السلام بن ثعلبة القرطبي اللغوي صاحب التصانيف. روى عن: يحيى بن يحيى الليثي ومحمد بن أبي عمر، وعنه أسلم بن عبد العزيز ومحمد بن القاسم بن محمد، وهو من نسل أبي ثعلبة الخشني الصحابي. مات سنة ست وثمانين ومائتين.

انظر: "الإكمال" 3/ 261، و"تذكرة الحفاظ" 2/ 649.

(4)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 140 (24523) عن يحيى بن سعيد عن حبيب بن شهيد عن ابن بريدة به وعنده أيضًا -أعني: مخالطة المجذومين- عن ابن عمر، وأبي بكر، وابن عباس.

ص: 422

ثالثها: أراد تعليم أن هذِه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن الله يجعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا لإدامة مرضه، ثم قد يتخلف ذلك عن سببه كما في سائر الأسباب، ففي الحديث الأول نفي ما كان يعتقده الجاهل من أن ذلك يعدي بطبعه، ولهذا قال:"فمن أعدى الأول"؟! وفي قوله: "فر من المجذوم" أعلم أن الله جعل ذلك سببا لذلك، فحذر من الضرر الذي يغلب وجوده عند وجوده بفعل الله، أو يكون قاله لمن ضعفت نفسه، والثاني قاله لمن قويت نفسه وزاد يقينه، فيخاطب كل إنسان بما يليق بحاله، وهو يفصل الحالين معا تارة بما فيه من (التسوية والتسريع)

(1)

وتارة بما يغلب عليه من القوة الإلهية، وقد ذكر ابن أبي شيبة ما يؤيد ما ذكرناه وهو قوله: ثنا وكيع، عن إسماعيل بن مسلم، عن الوليد بن عبد الله أن نبي الله مر على مجذوم، فخمر أنفه، فقيل: يا رسول الله، أليس قلت:"لا عدوى ولا طيرة"؟ قال: "بلى"

(2)

.

وقال أبو بكر بن الطيب: زعم الجاحظ عن النظام أن قوله: "فر من المجذوم كما تفر من الأسد" يعارض قوله: "لا عدوى"، وهذا جهل وتعسف من قائله؛ لأن قوله:"لا عدوى" مخصوص، ويراد به شيء دون شيء، وإن كان الكلام ظاهره العموم فليس ينكر أن يخص العموم لقول آخر له أو استثناء، فيكون قوله:"لا عدوى"(المراد)

(3)

به: إلا من الجذام والبرص والجرب، فكأنه قال: لا عدوى إلا ما كنت بينته لكم أن فيه عدوى وطيرة، فلا تناقض في هذا إذا رتبت الأخبار على ما وصفناه.

(1)

غير واضحة بالأصل، ولعلها:(التشوية والزيغ) ..

(2)

"المصنف" 5/ 312 (26400).

(3)

وقعت في الأصل المرض.

ص: 423

قلت: وطريق ابن أبي شيبة تؤيده.

وقال الطبري: اختلف السلف في صحة هذا الحديث، فأنكر بعضهم أن يكون صلى الله عليه وسلم أمر بالبعد من ذي عاهة، جذاما كان أو غيره، وقالوا: قد أكل مع مجذوم وأقعده معه، وفعله أصحابه المهديون، روى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن وفد ثقيف أتوا الصديق، فأتي بطعام، فدعاهم، فتنحى رجل، فقال: ما لك؟ (قالوا)

(1)

مجذوم. فدعاه وأكل معه.

وكان سلمان وابن عمر يصنعان الطعام للمجذومين ويأكلان معهم.

وعن عكرمة أنه تنحى عن مجذوم، فقال له ابن عباس: لعله خير منى ومنك.

وعن عائشة أن امرأة سألتها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المجذومين: فروا منهم (فراركم)

(2)

من الأسد؟ فقالت عائشة: كلا والله، ولكنه قال:"لا عدوى" وقال: "فمن أعدى الأول"؟ وكان مولًى لي أصابه ذلك الداء وكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي

(3)

.

قالوا: وقد أبطل الشارع العدوى، روينا عنه أنه أكل مع مجذوم، خلافا لأهل الجاهلية فيما كانوا يفعلونه من ترك مؤاكلته خوفا أن يعديهم داؤه. ثم ذكر حديث جابر السالف.

(1)

في (ص 2): (فقال).

(2)

وقع في المتن: فرارك، وصوبه في هامش الأصل بقوله: لعله: فراركم.

(3)

انظر هذِه الآثار في "المصنف" لابن أبي شيبة 5/ 140، 141 (24523: 24531) ونقلها هنا من "تهذيب الآثار" مختصرة، وهي فيه مسنده.

انظر: "تهذيب الآثار" مسند علي من ص 26 وما بعدها.

ص: 424

وقال آخرون بتصحيح هذا الخبر وقالوا: أمره بالفرار منه واتقاء مؤاكلته ومشاربته، فغير جائز لمن علم أمره بذلك إلا الفرار من المجذوم، وغير جائز إدامة النظر إليهم؛ لنهيه عن ذلك. ذكر من قال ذلك: روى معمر عن الزهري أن عمر قال لمعيقيب: اجلس منى قِيدَ رمح، وكان به الداء، وكان بدريًّا. وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد: كان عمر إذا أتي بالطعام وعنده معيقيب قال له: كل مما يليك، وايم الله لو غيرك به ما بك ما جلس منى على أدنى من قِيدَ رمح.

وكان أبو قلابة يتقي المجذوم

(1)

.

والصواب عندنا ما صح به الخبر عنه أنه قال: "لا عدوى"، وأنه لا يصيب نفسا إلا ما كتب عليها، فأما دنو عليل من صحيح فإنه غير موجب للصحيح علة وسقمًا، غير أنه لا ينبغي لذي صحة الدنو من صاحب الجذام والعاهة التي يكرهها الناس، لا أن ذلك حرام، ولكن حذرًا من أن يظن الصحيح إن نزل به ذلك الداء يوما إنما أصابه لدنوه منه فيوجب له ذلك الدخول فيما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وأبطله من أمر الجاهلية في العدوى، وليس في أمره بالفرار من المجذوم خلاف لأكله معه؛ لأنه كان يأمر بالأمر على وجه الندب

(2)

أحيانا، وعلى وجه الإباحة أخرى، ثم يترك فعله؛ ليعلم بذلك أن أمره به لم يكن على وجه الإلزام، وكان ينهى عن الشيء على وجه الكراهة والتنزيه أحيانا، وعلى وجه التأديب أخرى ثم يفعله؛ ليعلم به ذلك أن نهيه لم يكن على وجه التحريم

(3)

.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 142 (34535).

(2)

في (ص 2) الإلزام.

(3)

انتهى من "تهذيب الآثار" مسند علي من ص 26: 34 بتصرف.

ص: 425

وقال غيره: قال بعض العلماء: هذا الحديث يدل على أنه يفرق بين المجذوم وامرأته إذا حدث ذلك به وهي عنده لموضع الضرر، إلا أن ترضى بمقامها عنده.

وقال ابن القاسم: يحال بينه وبين وطء رقيقه إذا كان في ذلك ضرر.

وقال سحنون: لا يحال بينه وبين وطء إمائه

(1)

، ولم يختلفوا في الزوجة. قال: ويمنع أيضًا من المسجد والدخول بين الناس والاختلاط بهم، كما روي عن عمر أنه مر بامرأة مجذومة تطوف بالبيت، فقال لها: يا أمة الله، اقعدي في بيتك ولا تؤذي الناس

(2)

.

وقال مطرف وابن الماجشون في المرضى إذا كانوا يسيرا لا يحرجون عن قرية ولا حاضرة ولا السوق، وإن كثروا رأينا أن يتخذوا لأنفسهم موضعا كما صنع مرضى مكة عند التنعيم منزلهم وفيه جماعتهم، ولا أرى أن يمنعوا من الأسواق لتجارتهم وللنظر والمسألة إذا لم يكن إمام عدل يرزقهم، ولا يمنعوا من الجمعة، ويمنعوا من غيرها

(3)

.

وقال أصبغ: ليس على مرضى الحواضر أن يخرجوا منها إلى ناحية يفضاء يحكم به عليهم، ولكنهم إن كفاهم الإمام مئونتهم وأجرى عليهم الرزق منعوا من مخالطة الناس.

قال ابن حبيب: والحكم (بتنحيتهم)

(4)

إذا كثروا أعجب إلى، وهو الذي عليه الناس

(5)

.

(1)

"النوادر والزيادات" 4/ 626.

(2)

"الموطأ" ص 273.

(3)

"النوادر والزيادات" 1/ 457 - 458.

(4)

في الأصل: بتجنبهم.

(5)

"المنتقى" 7/ 265 - 266 بتصرف.

ص: 426

فصل:

زعم ابن سيده أن الجذام سمي بذلك لتجذم الأصابع وتقطعها، ورجل أجذم ومجذم: نزل به الجذام، الأولى عن كراع

(1)

.

وعند الأطباء: هي علة تحدث من انتشار السوداء في جميع البدن فتفسد مزاج (الأعضاء)

(2)

وهيئاتها، وربما تقرح وهي كسرطان عام للبدن، وسببه شدة حرارة الكبد ويبوستها أو البدن كله، وتعين على استداد المسام فينحبس الحار الغريزي ويبرد الدم ويغلظ، ويسمى: داء الأسد؛ لأنه يجهم وجه صاحبه ويجعل سجيته كسجية الأسد.

فصل:

زعم عيسى بن دينار أن قوله: "لا عدوى" ناسخ لقوله: "لا يورد ممرض على مصح" كما ذكره بعد من حديث أبي هريرة، وأنكر أبو هريرة حديثه الأول، قلنا: ألم تحدث أنه لا عدوى، فرطن بالحبشية. قال أبو سلمة: فما رأيته نسي حديثا غيره

(3)

.

وقيل: إنما نهى المصح أن يجعل ماشيته مع المريضة لئلا يصيبها داء فيكذب الحديث فيأثم؛ قاله سحنون وأبو عبيد، ودليله قوله:"فمن أعدى الأول؟ "

(4)

.

ومعنى: "لا عدوى": نفي لما كانت العرب في الجاهلية تقول: إن المرض يعدي، بتحول منه إلى الصحيح، وأن دواءه أن يكوى الصحيح فيبرأ المجروب، وكذبهم بقوله:"لا عدوى".

(1)

"المحكم" 7/ 257 (جذم).

(2)

في (ص): الأجساد.

(3)

سيأتي برقم (5770).

(4)

"غريب الحديث" 1/ 328 - 329.

ص: 427

وقيل: المراد به بعض الأدواء والعاهات كالطاعون يقع ببلد فيهرب منه خوفا من العدوى خلاف الجذام فإنه تشتد رائحته وتؤذي.

وقال الداودي: يريد النهي عن الاعتداء، ولعل بعض من أجلب على إبله إبلا جربا أراد تضمين المحل، فاحتج عليه في إسقاط الضمان بأنه إنما أصابها ما قدر لها وما لم يكن ينجو منه؛ لأن العجماء جبار.

ويحتمل أن يكون قال ذلك على ظنه ثم تبين له خلاف ذلك.

فصل:

قوله: "ولا هامة". قال أبو عبيد: (يقول)

(1)

: عظام الموتى تصير هامة فتطير، وكانوا يسمون ذلك الطائر: الصدى

(2)

.

وقال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بالهامة إذا وقفت على بيت أحدهم يقول: نعيت إلى نفسي أو أحد من أهل داري. وقاله مالك أيضًا.

وقال القزاز: هي طائر من طير الليل. وإنما نفى صلى الله عليه وسلم قولهم في الجاهلية: إذا قتل أحد ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة لا تزال تقول: اسقوني، حتى يؤخذ بثأره. وقاله الجوهري وابن فارس

(3)

.

قال أبو عبد الملك: قال أبو زيد: الهامة مشددة، وأهل اللغة على خلاف هذا، بل هو عندهم مخفف.

(1)

في "غريب الحديث": فإن العرب كانت تقول.

(2)

"غريب الحديث" 1/ 26.

(3)

"الصحاح" 5/ 2063 (هيم)، "مجمل اللغة" 2/ 897 (هام).

ص: 428

فصل:

قوله: (ولا صفر). قال البخاري: هو داء يأخذ البطن، قال ابن وهب ومطرف: كان في الجاهلية يقولون: الصفار التي في الجوف تقتل صاحبها، فرد صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:"ولا صفر" أنه لا يعدي ولا يقتل أحدا، وإنما يموت بأجله

(1)

. وهذا اختيار ابن حبيب وأبي عبيد

(2)

.

وقال مالك وغيره: كانوا يجعلون المحرم صفرا ويستحلونه، وهو النسيء. وقيل: هو حيات تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وكانوا يقولون: هي أعدى من الجرب

(3)

، فنهى الشارع عن ذلك.

فصل:

وقوله: ("وفر من المجذوم كما تفر من الأسد"). هو مثل قوله: "لا يوردن ممرض على مصح" كما سلف، ووجه فراره منه أنه يؤذي برائحته، وربما نزع الولد إليه، ولذلك جعل به الخيار بالنسبة إلى النكاح.

وقيل: إنما أمره به لأنه إذا رآه صحيحَ البدن عظمت حسرته

(4)

ونسي نعمة ربه، فأمر أن يفر منه لئلا يكون سببا للزيادة في محنة أخيه وبلائه.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 417.

(2)

"غريب الحديث" 1/ 26.

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 417.

(4)

وقع بهامش الأصل: أي حسرة المجذوم.

ص: 429

فرع:

جذم بعض أهل القرية وأراد باقيهم منعهم من الماء، فإن وجدوا غناء بماء غيره من غير ضرورة ويقدرون على حفر بئر آخر وإجراء عين في غير ضرورة أمروا بذلك، وإلا قيل لمن تأذى منهم: استنبط لهم بئرا أو أجر لهم عينا أو أقم لهم من يسقي لهم من البعد، وإلا فكل ذي حق أولى بحقه، وأعظم الضرر أن يمنع أحد ماله بغير عوض، (قاله يحيى بن يحيى، وزاد غيره)

(1)

أنه يمنع من دخول المسجد، ومن الدخول بين الناس والاختلاط بهم، وقد سلف.

(1)

من (ص) ووقع في الأصل: غيره فقط.

ص: 430

‌20 - باب الْمَنُّ شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ

5708 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» . قَالَ شُعْبَةُ: وَأَخْبَرَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ شُعْبَةُ: لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الْحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ. [انظر: 4478 - مسلم: 2049 - فتح 10/ 163]

ذكر فيه حديث غُنْدَر، عن شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عن عَمْرو بْن حُرَيْثٍ، عن سَعِيد بْن زَيْدٍ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "الْكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ".

قَالَ شُعْبَةُ: وَأَخْبَرَنِي الحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنِ الحَسَنِ العُرَنِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ شُعْبَةُ: لَمَّا حَدَّثَنِي بِهِ الحَكَمُ لَمْ أُنْكِرْهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ المَلِكِ.

هذا الحديث تقدم في التفسير

(1)

، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه

(2)

، وذكر الطبري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع أقوام من أكلها وقالوا: هي جدري الأرض، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن الكمأة ليس من جدري الأرض، ألا إن الكمأة من السنن .. " الحديث.

الكمأة معروفة، كما أن المن معروف، كل واحد منهما غير نوع صاحبه، والكمأة وإن لم تكن من نوع المن فإنه يجمعهما في المعنى

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 413.

(2)

مسلم (2049) كتاب: الأشربة، باب: فضل الكمأة، والترمذي (2067)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 156 (6666) وابن ماجه (3454).

ص: 431

أنهما مما يحدثه الله رزقا لعباده من غير أصل له ومن غير صنع منهم ولا علاج؛ إذ كانت جميع أقوات العباد لا سبيل إليها إلا بأصل عندهم وغرس، وليس كذلك الكمأة والمن

(1)

.

وقد سلف أن الكمأة جمعٌ واحدُها: كمء، على غير قياس، وهو من النوادر؛ لأن الأكثر على أن حذف الهاء علامة للجمع، مثل: تمرة وتمر، وهذا بعكس ذلك ثبتت الهاء في جمعه وسقطت في مفرده، وهو البرقاس.

ولم يرد أنها من المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل؛ فإن ذلك كان (شيئًا)

(2)

يسقط كالترنجبين عليهم، وإنما أراد به (شيئًا)

(3)

ينبت بنفسه من غير تكليف (حرث)

(4)

ولا زرع، وإنما نالت الكمأة هذا؛ لأنها حلال لا شبهة في اكتسابها.

وقوله: ("وماؤها شفاء للعين")، يريد أنه يتربى به الكحل والتوتيا ونحوهما مما يكتحل به فينتفع بذلك، وليس بأن يكتحل به وحده، فذلك يؤدي العين ويقذيها.

وقيل: أراد العين التي هي النظرة للشيء يتعجب منه، ودليل ذلك قوله في رواية أخرى:"شفاء من العين".

وقيل: يريد من داء العين، فحذف المضاف، مثل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} .

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 413.

(2)

سقطت في الأصل ووقعت في (ص 2): بشيء.

(3)

رسمت في الأصل: (شيء).

(4)

سقطت من الأصل.

ص: 432

‌21 - باب اللَّدُودِ

5709، 5710، 5711 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مَيِّتٌ. [انظر: 1241، 1242، 4456 - فتح

10/ 166]

5712 -

قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا، أَنْ لَا تَلُدُّونِي. فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ. فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: «أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟» . قُلْنَا: كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ. فَقَالَ: «لَا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلاَّ لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ، إِلاَّ الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ» . [انظر: 4458 - مسلم: 2213 - فتح 10/ 166]

5713 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ أُمِّ قَيْسٍ قَالَتْ: دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ:«عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا الْعِلَاقِ؟ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» .

فَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: بَيَّنَ لَنَا اثْنَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا خَمْسَةً. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يَقُولُ: أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ. قَالَ: لَمْ يَحْفَظْ إنَّمَا قالَ: أَعْلَقْتُ عَنْهُ، حَفِظْتُهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ. وَوَصَفَ سُفْيَانُ الْغُلَامَ يُحَنَّكُ بِالإِصْبَعِ، وَأَدْخَلَ سُفْيَانُ فِي حَنَكِهِ -إِنَّمَا يَعْنِي: رَفْعَ حَنَكِهِ بِإِصْبَعِهِ- وَلَمْ يَقُلْ: أَعْلِقُوا عَنْهُ شَيْئًا. [انظر: 5692 - مسلم: 2214 - فتح 10/ 166]

ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مَيِّتٌ.

قَالَ: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا، أَنْ لَا تَلُدُّونِي. فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ المَرِيضِ لِلدَّوَاءِ. فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: "أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟ ". قُلْنَا: كَرَاهِيَةَ المَرِيضِ لِلدَّوَاءِ. فَقَالَ: "لا يَبْقَى فِي البَيْتِ أَحَدٌ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ، إِلَّا العَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ".

ص: 433

وحديث أُمِّ قَيْسٍ قَالَتْ: دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ العُذْرَةِ، فَقَالَ:"عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بهذا العِلَاقِ؟ عَلَيْكُنَّ بهذا العُودِ الهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الجَنْبِ".

فَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: بَيَّنَ لَنَا اثْنَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا خَمْسَةً. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ مَعْمَرًا يَقُولُ: أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ. قَالَ: لَمْ يَحْفَظْ إنَّمَا قالَ: أَعْلَقْتُ عَنْهُ. حَفِظْتُهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ. وَوَصَفَ سُفْيَانُ الغُلَامَ يُحَنَّكُ بِالأِصابعِ، وَأَدْخَلَ سُفْيَانُ فِي حَنَكِهِ -يَعْنِي: إِنَّمَا رَفْعَ حَنَكِهِ بِإِصبَعِهِ- وَلَمْ يَقُلْ: أَعْلِقُوا عليه شَيْئًا.

الشرح:

(حديث ابن عباس وعائشة سلفا في المغازي، ويأتي في الديات

(1)

، وأخرجه مسلم أيضًا

(2)

، و)

(3)

حديث أم قيس سلف قريبًا

(4)

.

واللدود سلف في مرضه صلى الله عليه وسلم، وهو بفتح اللام، وهو ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم، ولديدا الفم: جانباه، ولديدا العنق: صفحتاه، وهو من أدوية الخدر وذات الجنب، تقول العرب: لددت المريض لدا: ألقيت الدواء في شق فيه. وهو التحنيك بالأصبع، كما قال سفيان، ويقال: سعطته وأسعطته فاستعط.

والاسم: السعوط بالفتح، وهو ما يجعل من الدواء في الأنف.

(1)

سلفا بأرقام (4455: 4458) باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم. ويأتي في الديات برقمي (6886، 6897).

(2)

مسلم (2213) كتاب السلام، باب: كراهية التداوي باللدود.

(3)

ساقطة من الأصل.

(4)

سلف قريبًا برقم (5692) باب: السعوط.

ص: 434

وقد سلف أن العذرة وجع الحلق، وقيل: اللهاة.

وعبارة ابن بطال: الإعلاق: أن يرفع العذرة باللد والعذرة قريبة من اللهاة

(1)

.

وقال ابن قتيبة: العذرة: وجع الحلق، وأكثر ما يعتري الصبيان فيعلق عنهم، والإعلاق والدغر شيء واحد، وهو أن يرفع اللهاة، ونهى الشارع عن ذلك وأمر بالقسط البحري، يقال: دغرت المرأة الصبي: رفعت لهاته بإصبعها إذا أخذته العذرة. وسلف معنى "تدغرن"، وأنه غمز الحلق منها، وهو وجع يهيج في الحلق، وهو الذي يسمى: سعوط اللهاة، والدغر: أخذ الشيء اختلاسا، وأصل الدغر: الدفع.

فإن قلت: لم أمر الشارع أن يُلَدَّ كل من في البيت؟ قلت: أجاب عنه المهلب بأن قال: وجهه -والله أعلم- أنه لما فعل به [من]

(2)

ذلك ما لم يأمرهم به من المداواة بل نهاهم عنه وآلم بذلك ألما شديدا، أمر أن يقتص من كل من فعل به ذلك، ألا ترى قوله:"لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا العباس فإنه لم يشهدكم" فأوجب القصاص على كل من لده من أهل البيت ومن ساعدهم في ذلك ورآه؛ لمخالفتهم نهيه صلى الله عليه وسلم.

وقد جاء هذا المعنى في رواية ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله ابن كعب أنهم لدوا النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، فلما أفاق قال لهم:"لم فعلتم ذلك"؟ قالوا: خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب. فقال: "إن ذلك داء ما كان الله ليقذفني به، لا يبق أحد في البيت إلا لد إلا عَمِّي" فقد

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 414.

(2)

زيدت من "شرح ابن بطال" ومنه ينقل المصنف.

ص: 435

لدت ميمونة وهي صائمة لقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عقوبة لهم بما صنعوا برسول الله

(1)

.

وسيأتي هذا المعنى في الديات في باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقبهم أو يقتص منهم كلهم؟ وأجاب ابن العربي بجواب لطيف، وهو أنه إنما لدهم لئلا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه فيدركهم خطب عظيم وذنب

(2)

.

وروى الحاكم في "مستدركه" وقال: على شرط مسلم: "ذات الجنب من الشيطان، وما كان الله ليسلطه علي". (قال)

(3)

: وأما ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: مات صلى الله عليه وسلم من ذات الجنب، فخبر واهٍ

(4)

.

واستنبط بعض العلماء من هذا الحديث أخذ عمر قتل من تمالأ على قتل الغلام بصنعاء، وفيه بعد، كما قال القرطبي؛ إذ يمكن أن يقال: جاز ذلك فيما لا إراقة دم فيه لخفته في مقصود الشرع. ولا يجوز ذلك في الدماء لحرمتها وعظم أمرها، فلا يصح حمل أحدهما على الآخر، وإنما الذي يستنبط منه أن (المجامع)

(5)

في الجناية المعين عليها كالناظور الذي هو الطليعة كالمباشر لها، فيقتص من الكل، لكن فيما لا دم فيه

(6)

. على ما قررناه، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى بقوله:"إلا العباس فإنه لم يشهدكم" كما سلف.

(1)

"سيرة ابن هشام" 4/ 328 - 329. وانظر "شرح ابن بطال" 9/ 414 - 415.

(2)

"عارضة الأحوذي" 8/ 205.

(3)

ساقطة من الأصل.

(4)

" المستدرك" 4/ 405.

(5)

كذا في الأصل، وفي "المفهم":(الحاضر).

(6)

"المفهم" 5/ 602.

ص: 436

فإن قلت: عارض هذا قول عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه.

ويجاب بأنه لا ينتقم لها باعتبار الأكثر من حاله، أو أنها نسيت هذا الحديث، (وقيل: أرادت)

(1)

في المال، وأنه إذا أصيب بدنه كان انتهاكا لحرمة الله؛ ذكرها ابن التين.

فإن قلت: فلم لم يعف عنهم؟ قيل: أراد أن يؤدبهم لئلا يعودوا إلى مثلها، فيكون لهم أدبا وقصاصا، أو أنه فعل ذلك بهم لأنهم لدوه في مرض تحقق فيه الموت، وإذا تحقق العبد الموت كره له التداوي.

فصل:

وفيه: دليل أنه يقتص من اللطمة ونحوها، وهو أحد قولي مالك، قاله الداودي، وزاد أن قوله:"إلا العباس، فإنه لم يشهدكم" فيه دليل أن العمد يقتص منه؛ لأنه لو شهد لاقتص منه.

فصل:

وقوله: (قلت لسفيان: فإن معمرا يقول: أعلقت عليه، قال: لم يحفظ، إنما قال: أعلقت عنه). قال الخطابي عن ابن الأعرابي: يقال: أعلقت عن الصبي: إذا عالجت منه العذرة، وهو وجع الحلق، قال: وأكثر المحدثين يروونه: أعلقت عليه، والصواب ما حفظه سفيان

(2)

. وقد سلف ذلك، وكذا قال ابن بطال بعد أن ساق كلام ابن قتيبة في العذرة: الصواب: أعلقت عنه، كذلك حكاه أهل اللغة ولم يُعَدُّوه إلا بـ (عن).

(1)

ساقطة من الأصل.

(2)

"أعلام الحديث" 3/ 2121 - 2122.

ص: 437

وقال الجوهري في الحديث: "اللدود أحب إلى من الاعلاق" يقال: أعلقت المرأة ولدها من العذرة: إذا رفعتها بيدها

(1)

.

و"تدغرن" بالغين المعجمة والدال المهملة كما سلف.

وعبارة ابن التين: الدغر - بغين ساكنة: الرفع، يقول: لم ترفعن ذلك بأصابعكن فتؤلمنهم وتؤذينهم بذلك.

وقوله: "بهذا العلاق" كما قال الخطابي: (بهذا الإعلاق) مصدر أعلقت عنه. والله أعلم.

(1)

"الصحاح" 4/ 1532 (علق).

ص: 438

‌22 - باب

5714 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ وَيُونُسُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ، اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَآخَرَ. فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الآخَرُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ هُوَ عَلِيٌّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهَا وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ» . قَالَتْ: فَأَجْلَسْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقِرَبِ، حَتَّى جَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ. قَالَتْ: وَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَصَلَّى لَهُمْ وَخَطَبَهُمْ. [انظر: 198 - مسلم: 418 - فتح 10/ 167].

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ،. الحديث سلف في مرضه صلى الله عليه وسلم بطوله

(1)

، وسلف في الغسل

(2)

والخمس

(3)

والمغازي

(4)

والهبة

(5)

وغيرها

(6)

.

كذا وقع هذا الحديث في الأصول: باب، من غير أن يترجم له، وأما ابن بطال فأدخله في الباب قبله وقال: إن قال قائل: ما وجه ذكر حديث عائشة الذي في آخر الباب في هذِه الترجمة وليس فيه ذكر

(1)

برقم (4442) كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.

(2)

برقم (198) كتاب: الوضوء، باب: الغسل والوضوء.

(3)

برقم (3099) باب: ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

هو ما سلف في مرضه.

(5)

برقم (2588) باب: هبة الرجل لامرأته.

(6)

سلف أيضًا برقم (664) كتاب: الأذان، باب: حد المريض أن يشهد الجماعة.

ص: 439

اللدود المعقود له؟ قال: قيل: يحتمل ذلك -والله أعلم- أنه أراد ما فُعل بالمريض مما أمر أن يفعل به أنه لا يلزم فاعل ذلك به لوم ولا قصاص حين لم يأمر بصب الماء على كل من حضره، وأنه بخلاف ما أُولم به مما نهى عنه أن يفعل به؛ لأن ذلك من باب الجناية عليه، وفيه القصاص

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 415.

ص: 440

‌23 - باب الْعُذْرَةِ

5715 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ الأَسَدِيَّةَ -أَسَدَ خُزَيْمَةَ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاَّتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْيَ أُخْتُ عُكَّاشَةَ- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا، قَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنَ العُذْرَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا الْعِلَاقِ؟ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ» . يُرِيدُ: الْكُسْتَ، وَهْوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ. وَقَالَ يُونُسُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: عَلَّقَتْ عَلَيْهِ. [انظر: 5692 - مسلم: 2214 - فتح 10/ 167]

ذكر فيه حديث أم قيس المذكور قبل، وقد عرفت ما فيه.

(وذكره بلفظ: وَقَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنَ العُذْرَةِ.

وفي آخره: وَقَالَ يُونُسُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ، عَن الزُّهْرِيِّ: عَلَّقَتْ. وحديث يونس أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه

(1)

، وحديث إسحاق في البخاري، يأتي قريبًا في باب ذات الجنب)

(2)

.

(1)

مسلم 2214/ 87 كتاب: السلام، باب التداوي بالعود الهندي. وأبو داود (3877)، وابن ماجه (3462) وطريق أبي داود عن سفيان، وليس يونس. وفيها جميعًا: أعلقت بإثبات الهمزة.

(2)

ما بين القوسين ساقط من الأصل.

ص: 441

‌24 - باب دَوَاءِ الْمَبْطُونِ

5716 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ. فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلاً» . فَسَقَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلاَّ اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ: «صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ» . تَابَعَهُ النَّضْرُ، عَنْ شُعْبَةَ. [انظر: 5684 - مسلم: 2217 - فتح 10/ 168]

ذكر فيه حديث محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي المتوكل -واسمه علي بن داود- عن أبي سعيد قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ. فَقَالَ: "اسْقِهِ عَسَلًا". فَسَقَاهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ: "صَدَقَ اللهُ وَكذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ". زاد ابن بطال هنا: "واسقه عسلًا" فسقاه عسلًا فبرئ. تَابَعَهُ النَّضْرُ، عَنْ شُعْبَةَ

(1)

.

وهذا الحديث سلف في باب الدواء بالعسل من حديث عياش بن الوليد، ثنا عبد الأعلى، ثنا سعيد، عن قتادة به، وقد أسلفناه عن مسلم هناك من حديث شعبة عن قتادة به أتم من هذا.

والاستطلاق: إصابة الإسهال، وفيه: أن ما جعل الله فيه من الشفاء من الأدوية قد يتأخر تأثيره في العلة حتى يتم أمره وتنقضي مدته المكتوبة في أم الكتاب.

وقوله: ("صدق الله وكذب بطن أخيك") يدل على أن الكلام لا يحمل على ظاهره، ولو حمل على ظاهره لبرئ المريض عند أول شربة للعسل، فلما لم يبرأ إلا بعد تكرر شربه له دل على أن الألفاظ مفتقرة

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 416.

ص: 442

إلى معرفة معانيها، وليست على ظواهرها، وقد أسلفنا هذا أيضًا.

قال الخطابي: هذا الحديث مما يحسب كثير من الناس أنه مخالف لمذهب الطب، وذلك أن العسل مسهل

(1)

.

(قلت)

(2)

: وقد أسلفنا الجواب عن ذلك واضحا.

قال الخطابي: وعندي أن من عرف شيئا من الطب ومعانيه عرف صواب هذا التدبير، وذلك أن استطلاق بطن هذا الرجل من هيضة حدثت له من الامتلاء وسوء (الهضم)

(3)

، والأطباء كلهم يأمرون صاحب الهيضة بأن يترك الطبيعة وسومها لا يمسكها، وربما أمدته بقوة مسهلة حتى يستفرغ تلك الفضول.

فإذا فرغت تلك الأوعية من تلك الفضول أمسكت من ذاتها، وربما عولجت، بالأشياء القابضة والمقوية إذا خافوا سقوط القوى، فخرج (الأصل)

(4)

في هذا على مذهب الطب مستقيما حتى أمر الشارع بأن تمد الطبيعة بالعسل؛ لتزداد استفراغا، حتى إذا فرغت تلك الفضول وتنقت منها و (فنيت)

(5)

وأمسكت، وقد يكون ذلك أيضًا من ناحية التبرك تصديقا لقوله:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وما يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم لشخص بعينه من الدواء، فقد يكون ذلك بدعائه وبركته ولا يكون ذلك حكما عامًّا

(6)

.

وقال أبو عبد الملك: يجوز أن تكون شكوى أخيه من برد أو فضل بلغم، وتقدم ذكره فلا (عائد)

(7)

من إعادته.

(1)

"أعلام الحديث" 3/ 2110.

(2)

في الأصل: (قال).

(3)

في الأصل: الهم. وفي الحاشية: لعله أو البت: الهضم.

(4)

في "الأعلام": الأمر.

(5)

في "الإعلام": وقفت.

(6)

"أعلام الحديث" 3/ 2110 - 2111.

(7)

في الأصل: عليك.

ص: 443

‌25 - باب لَا صَفَرَ، وَهْوَ دَاءٌ يَأْخُذُ البَطْنَ

5717 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ» . فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِي الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ:«فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟» . رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ. [انظر: 5707 - مسلم: 2220 - فتح 10/ 171]

ذكر فيه حديث ابن شِهَاب قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا عَدْوى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ". فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِي البَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ:"فَمَنْ أَعْدى الأَوَّلَ؟ ". ورَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ.

الشرح:

سلف الكلام على هذا الحديث (في باب الجذام)

(1)

.

و (الهامة) ههنا: طائر كانوا يتشاءمون به، وهو من طير الليل، وقيل: البومة كما سلف، وصوب الطبري أنه ذكر البوم

(2)

. وقيل: كانت العرب تزعم أن روح القتيل الذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتقول: اسقوني اسقوني، فإذا أدرك بثأره طارت. وقيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت -وقيل: روحه- تصير هامة فتطير، ويسمونه: الصدى، فترفرف عند قبره حتى تقاربه، فنفاه الإسلام ونهاهم عنه.

(1)

ساقط من الأصل.

(2)

"تهذيب الآثار" مسند علي ص 39.

ص: 444

قال الطبري: ذكر أبو عبيدة قال: سمعت يونس الجرمي يسأل رؤبة بن العجاج عن الصفر، فقال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب. ويقال: إن قوله: "لا صفر" إبطال ما كان أهل الجاهلية يفعلونه من تأخير المحرم إلى صفر في التحريم، وقد روي عن مالك مثل هذا القول

(1)

، وصوب الطبري الأول

(2)

.

وقال ابن وهب: كان أهل الجاهلية يقولون: إن الصفار التي في الجوف تقتل صاحبها، فرد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال:"لا يموت أحد إلا بأجله"

(3)

، وقد فسر جابر بن عبد الله مثله، وهو راوي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

قال ابن قتيبة: والعدوى جنسان: عدوى الجذام والطاعون؛ فأما الأول فإن المجذوم تشتد رائحته حتى تسقم من أطال مجلسه معه ومؤاكلته، وربما جذمت امرأته بطول مضاجعتها (معه)

(5)

، وربما يسرع أولاده في الكبر إليه، وكذا من كان به سل، والأطباء يأمرون ألا يجالس المسلول ولا المجذوم، ولا يريدون بذلك معنى العدوى، وإنما يريدون بذلك تغير الرائحة، وأنها تسقم من أطال اشتمامها، والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن أو شؤم.

(1)

"المنتقى" 7/ 264.

(2)

"تهذيب الآثار" ص (38).

(3)

"المنتقى" 7/ 264.

(4)

رواه مسلم (2222) كتاب: السلام، باب: لا عدوي ولا طيرة

(5)

في الأصل: له.

ص: 445

وكذلك الجرب الرطب يكون بالبعير إذا خالط الإبل وحاكها وأوى في مباركها وصل إليها بالماء الذي يسيل منه نحوا مما به، فلهذا المعنى نهى الشارع ألا يورد ممرض على مصح كراهة أن يخالط ذو العاهة الصحيح فيناله من حكته ودائه نحو مما به، وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك ألا يظن أن الذي نال إبله من ذي العاهة فيأثم

(1)

. والطاعون يأتي الكلام فيه.

فصل:

(الظباء) بالمد جمع ظبي في الكثرة، وكذلك ظبى كـ (قذى) وهو على فعول، وفي أقله: أظْبٍ: كـ (دلو) على زنة أفعل، أصله: أظبي.

(1)

"تأويل مختلف الحديث" ص 168 - 169، وانظر "شرح ابن بطال" 9/ 418.

ص: 446

‌26 - باب ذَاتِ الْجَنْبِ

5718 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ، بْنُ عَبْدِ اللهِ أَنَّ أُمَّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ -وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاَّتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهْيَ أُخْتُ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا قَدْ عَلَّقَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ:«اتَّقُوا اللهَ، عَلَى مَا تَدْغَرُونَ أَوْلَادَكُمْ بِهَذِهِ الأَعْلَاقِ؟ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ» . يُرِيدُ الْكُسْتَ يَعْنِي: الْقُسْطَ، قَالَ: وَهْيَ لُغَةٌ. [انظر: 5692، 2214 - فتح 10/ 171]

5719، 5720، 5721 - حَدَّثَنَا عَارِمٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَيُّوبَ مِنْ كُتُبِ أَبِي قِلَابَةَ - مِنْهُ مَا حَدَّثَ بِهِ وَمِنْهُ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ- وَكَانَ هَذَا فِي الْكِتَابِ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَأَنَسَ بْنَ النَّضْرِ كَوَيَاهُ، وَكَوَاهُ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِهِ. [5721 - فتح 10/ 172]

وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ: عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الأَنْصَارِ أَنْ يَرْقُوا مِنَ الحُمَةِ وَالأُذُنِ. قَالَ أَنَسٌ: كُوِيتُ مِنْ ذَاتِ الجَنْبِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ، وَشَهِدَنِي أَبُو طَلْحَةَ وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ كَوَانِي. [انظر: 5719 - فتح 10/ 172]

ذكر فيه حديث أم قيس السالف، وفي آخره:"فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الجَنْبِ". يُرِيدُ: الكُسْتَ يَعْنِي: القُسْطَ، قَالَ: وَهْيَ لُغَةٌ.

وحديث حَمَّاد قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَيُّوبَ مِنْ كُتُبِ أَبِي قِلَابَةَ -مِنْهُ مَا حَدَّثَ بِهِ وَمِنْهُ مَا قُرِئَ عَلَيْهِ- وَكَانَ هذا فِي الكِتَابِ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ وَأَنَسَ بْنَ النَّضْرِ كَوَيَاهُ، وَكَوَاهُ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِهِ.

فقال الإسماعيلي: وكأن هذا في الكتاب غير مسموع. وأما أبو نعيم فرواه عن أبي القاسم ثنا محمد بن حبان المازري، ثنا محمد بن عبيد بن

ص: 447

حساب، ثنا حماد بن زيد قال: قرأ جرير بن حازم كتب أبي قلابة. فقال أيوب: قد سمعته من أبي قلابة عن أنس.

قال البخاري: وقال عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار أن يرقوا من الحمة والأذن. قال أنس: كويت من ذات الجنب ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي، (وشهدني أبو طلحة)

(1)

وأنس بن النضر وزيد بن ثابت، وأبو طلحة كواني. وهو من أفراده.

قال الإسماعيلي: لم يذكر البخاري حديث عباد؛ لأنه ليس من شرطه، ولقد أخبرنيه الحسن، ثنا إبراهيم بن سعد، ثنا ريحان -هو ابن سعيد- عن عباد، عن أيوب .. الحديث.

ورواه أبو نعيم من حديث ابن ناجية ثنا إبراهيم بن سعيد ثنا ريحان .. فذكره وقال: ذكره البخاري عن عباد استشهادا.

قوله: (والأذن)، أي: وجع الأذن.

والحمة: (سم)

(2)

كل شيء يلدغ، عن صاحب العين

(3)

، وسلف مبسوطا. ومعنى "من الحمة" أي: من لدغة ذي حمة كالعقرب وشبهها.

وفيه: أن ذات الجنب تداوى بالقسط وبالكي أيضًا. وفيه: جواز الكي والاسترقاء، وقد سلف ما للعلماء فيه.

(1)

ساقطة من الأصل.

(2)

مثبتة من "شرح ابن بطال" وفي الأصل ما يشبه: سمية.

(3)

"العين" 3/ 313.

ص: 448

‌27 - باب حَرْقِ الحَصِيرِ لِيُسَدَّ بِهِ الدَّمُ

5722 -

حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: لَمَّا كُسِرَتْ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم البَيْضَةُ، وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِي الْمِجَنِّ، وَجَاءَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام الدَّمَ يَزِيدُ على الْمَاءِ كَثْرَةً عَمَدَتْ إِلَى حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا عَلَى جُرْحِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَقَأَ الدَّمُ. [انظر: 243 - مسلم: 1790 - فتح 10/ 173]

ذكر فيه حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: لَمَّا كُسِرَتْ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم البَيْضةُ، وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ .. الحديث، وقد سلف في الجهاد

(1)

.

واعترض ابن التين على قوله: (حرق) وقال: صوابه: إحراق أو تحريق، فأما الحرق فهو حرق الشيء يؤذيه.

و (الرباعية) في الحديث مثل: الثمانية، مخففة الياء: السنن التي بين الثنية والناب.

و (المجن): الترس.

و (عَمَدَت) بفتح الميم.

وقوله: (فرقأ الدم) هو مهموز، أي: سكن وانقطع جريه، وقد سلف واضحا في باب الترس والمجن، من الجهاد.

قال المهلب: فيه أن قطع الدم بالرماد من المعلوم القديم المعمول به، لا سيما إذا كان الحصير من ديس السعدي (فهي)

(2)

معلومة بالقبض

(1)

سلف برقم (2903) باب: المجن.

(2)

في الأصل: فهو.

ص: 449

وطيب الرائحة، والقبض يسد أفواه الجراح، وطيب الرائحة يذهب بزهم الدم، وإذا غسل الدم بالماء كما فعل أولًا بجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فليجمد الدم ببرد الماء إذا كان الجرح سهلا غير غائر، وأما إذا كان غائرا فلا يؤمن فيه آفة الماء وضرره، وكان أبو الحسن القابسي يقول: لوددنا أن نعلم ذلك الحصير ما كان منه فنجعله دواء لقطع الدم

(1)

.

قال ابن بطال: وأهل الطب يزعمون أن كل حصير إذا أحرق (يقطع)

(2)

رماده الدم، بل الأرمدة كلها تفعل ذلك؛ لأن الرماد من شأنه القبض. وقد ترجم الترمذي لحديث سهل بن سعد بهذا المعنى فقال: باب التداوي بالرماد

(3)

، ولم يقل: التداوي برماد الحصير

(4)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 420.

(2)

في الأصل، (ص 2): يحرق. والمثبت من "شرح ابن بطال".

(3)

الترمذي (2085).

(4)

"شرح ابن بطال" 9/ 420.

ص: 450

‌28 - باب الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ

5723 -

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ» . قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَقُولُ: اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ. [انظر: 3264 - مسلم: 2209 - فتح 10/ 174]

5724 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ قَدْ حُمَّتْ تَدْعُو لَهَا، أَخَذَتِ الْمَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَبْرُدَهَا بِالْمَاءِ. [مسلم: 2211 - فتح 10/ 174]

5725 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ» . [انظر: 3263 - مسلم: 2210 - فتح 10/ 174]

5726 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْحُمَّى مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ» . [انظر: 3262 - مسلم: 2212 - فتح 10/ 174]

ذكر حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَأَطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ". وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَقُولُ: اكْشِفْ عَنَّا الرِّجْزَ. (وأخرجه مسلم والنسائي)

(1)

(2)

.

وحديث أسماء: أنها كَانَتْ إِذَا أُتِيَتْ بِالْمَرْأَةِ قَدْ حُمَّتْ تَدْعُو لَهَا، أَخَذَتِ المَاءَ فَصَبَّتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا، وقَالَتْ: كَانَ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ

(1)

مسلم (2209) كتاب: السلام، باب لكل داء دواء، والنسائي في "الكبرى" 4/ 379 (7609).

(2)

من (ص 2).

ص: 451

نَبْرُدَهَا بِالْمَاءِ. (وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه)

(1)

(2)

.

وحديث عائشة مرفوعا: "الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرُدوهَا بِالْمَاءِ".

وحديث رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مثله، وقال:"مِنْ فَوْحِ جَهَنَّمَ".

وقد فسرت أسماء بأن إبراد الحمى صب الماء على جسد المحموم، وقد تختلف أحوال المحمومين، فمنهم من يصلح بأن يبرد بصب الماء عليه، وآخر يصلح أن يبرد بشرب الماء.

وزعم بعض العلماء أن بعض الحميات هي التي يجب إبرادها بالماء، وهي التي عني الشارع، وهي الحارة التي يكون أصلها من الحر. والحديث يراد به الخصوص، واستدل على ذلك بالحديث:"الحمى من فيح جهنم" والفيح عند العرب: سطوع الحر عن صاحب "العين"

(3)

يقال: فاحت القدر: غلت. وفي كتاب "الأفعال": فاحت النار والحر، فيحا: انتشر.

واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "فأطفئوها بالماء وأبردوها بالماء" وذلك كله أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإبراد الحميات الباردة التي يكون أصلها البرد، وإنما أمر بإبراد الحميات الحارة التي يكون أصلها الحر.

فصل:

والفوح والفيح لغتان، يقال: فاحت ريح المسك تفيح وتفوح فيحا وفوحا وفووحا؛ قاله الجوهري، قال: ولا يقال: فاحت ريح خبيثة

(4)

.

(1)

مسلم (2211) كتاب: السلام، باب لكل داء دواء، والترمذي (2074) والنسائي "الكبرى" 4/ 379 (7611) وابن ماجه (3474).

(2)

من (ص 2).

(3)

"العين" 3/ 307.

(4)

"الصحاح" 1/ 393.

ص: 452

فصل:

وقولها: (نبردها)، هو ثلاثي من برد يتعدى ولا يتعدى، تقول: بردت الماء وبردته أنا. قاله الجوهري

(1)

. ولا يقال: أبردته إلا في لغة رديئة.

فصل:

ينعطف على ما مضى: قال الخطابي: غلط في هذا الحديث بعض من ينسب إلى العلم فانغمس في الماء لما أصابته الحمى فاختقنت الحرارة في باطن دمه فأصابته علة صعبة كاد أن يهلك، فلما خرج من علته قال قولا فاحشا لا يحسن ذكره، وذلك لجهله بمعنى الحديث وتدبير الحميات الصفراوية بسقي الماء الصادق البرد ووضع أطراف المحموم فيه أنفع العلاج وأسرعه إلى إطفاء نارها، فإنما أمر بإطفاء الحمى و (تبريدها)

(2)

بالماء على هذا الوجه دون الانغماس فيه وغط الرأس فيه. وحديث أسماء يشبه هذا المعنى، وروي:"فأبردوها بماء زمزم". وهذا من ناحية البركة، وبلغني عن ابن الأنباري أن معنى "فأبردوها بالماء" أي: تصدقوا بالماء عن المريض يشفه الله؛ لما روي: أن أفضل الصدقة سقي الماء

(3)

.

(1)

السابق 2/ 445.

(2)

في الأصل: تدبيرها.

(3)

"أعلام الحديث" 3/ 2124 - 2126.

والحديث رواه: أبو داود (1796 - 1681)، والنسائي 6/ 254، وأحمد 5/ 285، وابن خزيمة 4/ 123 (2496 - 2497)، وعنه ابن حبان 8/ 135 - 136 (3348) عن سعد بن عبادة. وحسنه الألباني في:"صحيح أبي داود"(1474)، و"صحيح ابن ماجه"(2971)

ص: 453

‌29 - باب مَنْ خَرَجَ مِنْ أَرْضٍ لَا (تُلَايِمُهُ)

(1)

5727 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ نَاسًا -أَوْ رِجَالاً- مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَكَلَّمُوا بِالإِسْلَامِ وَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ. وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وَبِرَاعٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَانْطَلَقُوا حَتَّى كَانُوا نَاحِيَةَ الْحَرَّةِ، كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، وَأَمَرَ بِهِمْ فَسَمَرُوا أَعْيُنَهُمْ، وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ، وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ. [انظر: 233 - مسلم: 1671 - فتح 10/ 178]

ذكر فيه حديث أنس في العُرنيين، وقد سلف

(2)

.

(1)

هكذا في "اليونينية": (تلايمه)، وعلق في هامشها: هكذا في جميع النسخ المعتمدة بيدنا بالياء التحتية بلا همز، وفي النسخ المطبوعة تبعاً للقسطلاني المطبوع:(لا تلائمه) بالهمز.

(2)

سلف برقم (223) كتاب: الوضوء، باب أبوال الإبل والدواب.

ص: 454

‌30 - باب مَا يُذْكَرُ فِي الطَّاعُونِ

5728 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْدًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا» . فَقُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ سَعْدًا وَلَا يُنْكِرُهُ قَالَ: نَعَمْ؟. [انظر: 3473 - مسلم: 2218 - فتح 10/ 178]

5729 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ -أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ- فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ. فَدَعَاهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفُوا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي.

ثُمَّ قَالَ ادْعُوا لِي الأَنْصَارَ. فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ. فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصَبِّحٌ على ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ: إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ، وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ؟ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ- فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا،

ص: 455

سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» . قَالَ: فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ. [5730، 6973 - مسلم: 2219 - فتح 10/ 179]

5730 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ، فَلَمَّا كَانَ بِسَرْغَ بَلَغَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ، فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» . [انظر: 5729 - مسلم: 2219 - فتح 10/ 179]

5731 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ الْمَسِيحُ وَلَا الطَّاعُونُ» . [انظر: 1880 - مسلم: 1379 - فتح 10/ 179]

5732 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ قَالَتْ: قَالَ لِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: يَحْيَى بِمَا مَاتَ؟ قُلْتُ: مِنَ الطَّاعُونِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» . [انظر: 2830 - مسلم: 1916 - فتح 10/ 180]

5733 -

حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَطْعُونُ شَهِيدٌ» . [انظر: 653 - مسلم: 1914 - فتح 10/ 180]

ذكر فيه حديث إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ سَعْدًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قَالَ:"إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا".

وذكر فيه أيضًا حديث ابن عباس، وفيه خروج عمر رضي الله عنه إلى سَرْغَ، وأَنَّ الوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، إلى أن حضر عبد الرحمن بْنُ عَوْفٍ -وكان متغيبا في بعض حاجته- فقال: إن عندي من هذا علما، سمعت رسول

ص: 456

الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ". قال: فحمد الله عمر ثم انصرف. (وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي)

(1)

(2)

، ثم ذكره مختصرا، (وذكره في ترك الحيل)

(3)

(4)

.

وحديث أبي هريرة مرفوعا: "لَا يَدْخُلُ المَدِينَةَ الدجال وَلَا الطَّاعُونُ". (سلف في الحج)

(5)

(6)

.

وحديث أنس: "الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمِ". وقد (سلف)

(7)

في الجهاد

(8)

.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "المبطون شهيد، والمطعون شهيد"(وسلف في الصلاة والجهاد، وأخرجه الترمذي والنسائي)

(9)

(10)

. ثم قال:

(1)

مسلم (2219) كتاب: السلام، باب: الطاعون

، وأبو داود (3103)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 362 (7522).

(2)

ساقطة من الأصل.

(3)

سيأتي برقم (6973) باب: ما يترك من الاحتيال في الفرار من الطاعون.

(4)

ساقطة من الأصل.

(5)

سلف برقم (1880) كتاب: فضائل المدينة، باب: لا يدخل الدجال المدينة.

(6)

ساقطة من الأصل.

(7)

في الأصل: سلفا.

(8)

سلف برقم (2830) باب: الشهادة سبع.

(9)

سلف برقمي (653) باب: فصل التهجير إلى الظهر، (2829) باب: الشهادة سبع .. ، وعند الترمذي (1063)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 363 (7528).

(10)

ساقطة من الأصل.

ص: 457

‌31 - باب أَجْرِ الصَّابِرِ فِي الطَّاعُونِ

5734 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا أَخْبَرَتْنَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ "كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ". تَابَعَهُ النَّضْرُ، عَنْ دَاوُدَ. [انظر: 3474 - فتح 10/ 192]

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا سَأَلَت النبي صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ:"كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شهيد". (تَابَعَهُ النَّضْرُ، عَنْ دَاوُدَ)

(1)

.

رواه عن إِسْحَاق، ثنا حَبَّانُ، ثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الفُرَاتِ، ثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (به. سلف في التفسير

(2)

، وفي ذكر بني إسرائيل

(3)

، ويأتي في (القدر)

(4)

رواه النسائي أيضًا)

(5)

(6)

، وقال في آخره: تابعه النضر عن داود. يريد

(1)

ساقطة من الأصل.

(2)

ليس في التفسير، وتبع في عزوه المزي انظر "تحفة الأشراف" 12/ 336.

(3)

سلف برقم (3474) كتاب: أحاديث الأنبياء.

(4)

في (ص 2): النذر.

(5)

سيأتي برقم (6619) باب: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} [التوبة: 51]، ورواه النسائي في "الكبرى" 4/ 363 (7527).

(6)

ساقطة من الأصل.

ص: 458

بذلك ما أخرجه هو في القدر عن إسحاق بن إبراهيم، عن النضر بن شميل، عن داود به، (ويأتي، وفيه بعد "صابرا": "محتسبا")

(1)

.

فصل:

هذِه الخرجة من عمر سنة سبع عشرة، ذكر خليفة بن خياط أن خروج عمر إلى الشام هذِه المرة كان في السنة المذكورة يتفقد فيها أحوال الرعية وأمرائهم، وكان قد خرج قبل ذلك سنة ست عشرة لما حاصر أبو عبيدة بيت المقدس فقال أهله: يكون الصلح على يد عمر، فخرج لذلك

(2)

.

فصل:

(سرغ) بسين مهملة مفتوحة ثم راء مهملة أيضًا ساكنة ثم غين معجمة: مدينة بالشام، كما قاله أبو عبيد البكري

(3)

. افتتحها أبو عبيدة هي واليرموك والجابية والرمادة متصلة، وقال الحازمي: هي أول الحجاز وآخر الشام، بين المعنية وتبوك من منازل حاج الشام وعبارة ابن التين أنه موضع بأدنى الشام إلى الحجاز.

قال أبو عمر: قيل إنه وادٍ بتبوك، وقيل: بقرب تبوك

(4)

.

قال صاحب "المطالع": وعن ابن وضاح بتحريك الراء، وهو من المدينة على ثلاثة عشر مرحلة.

وقال ابن مكي: الصواب سكون الراء.

(1)

ساقطة من الأصل.

(2)

"تاريخ خليفة ابن خياط" 1/ 26.

(3)

"معجم ما استعجم" 3/ 735.

(4)

"التمهيد" 8/ 370.

ص: 459

فصل:

في فوائد حديث عمر رضي الله عنه:

فيه: المشاورة فيما ليس فيه نص ودليل على أن الاختلاف لا يوجب حكماً، وإنما يوجب النظر، وأن الإجماع هو الذي يوجب الحكم والعمل.

وفيه: إثبات المناظرة والمجادلة عند الخلاف في النوازل والأحكام.

وفيه: الانقياد لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفيه: أن الحديث يسمى علما، ويطلق ذلك عليه.

وفيه: أن الخلق يجرون في قدر الله وعلمه، وأن أحدا منهم لا يخرج عن حكمه وإرادته.

وفيه: أن العالم قد يوجد عند من هو دونه في العلم ما لا يوجد عنده؛ لأن عمر فوق عبد الرحمن في العلم والفقه والدنو من الشارع، وقد وجد عنده في هذا الباب ما لم يكن عند عمر، وقد جهل محمد بن سيرين رجوع عمر من الطاعون ولم يعرفه، وقال: إنما رجع لأنه أخبر أن الصائفة لا تخرج العام.

وفيه: أن الحاكم لا ينفذ قضاء ولا يفصل حكما إلا من مشورة من يحضره من علماء موضعه، وبهذا كان يكتب عمر إلى القضاة: وإنه لم يبلغ مِنْ علمٍ عالمٌ أن يجتزئ به حتى يجمع بين علمه وعلم غيره.

وتمثل:

أشيرا علي اليوم ما تريان

خليلي ليس الرأي في صدر واحد

وذكر سيف، عن سهل بن يوسف بن سهل بن مالك الأنصاري، عن أبيه، عن عبيد بن صخر بن لوذان الأنصاري: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا

ص: 460

معلما لأهل اليمن وحضرموت، فقال:"إنك تقدم على قوم أهل كتاب، وإنهم سائلوك .. " الحديث.

وفيه: " .. ولا تقضين إلا بعلم، وإن أشكل عليك أمر فسل واستشر، فإن المستشير معان والمستشار مؤتمن، وإن التبس عليك فقف نبين لك أو تكتب إلى، ولا تصرمن قضاء فيما لم تجده في كتاب الله أو سنتي إلا عن ملأ"

(1)

.

وفيه: دليل عظيم على ما كان عليه القوم من الإنصاف في العلم والانقياد إليه.

وفيه: استعمال خبر الواحد (وقبوله)

(2)

وإيجاب العمل به، وهو أصح وأقوى ما يروى جهة الأثر في خبر الواحد؛ لأن ذلك كان بمحضر من الصحابة في أمر قد أشكل عليهم، فلم يقولوا لعبد الرحمن أنت واحد فلا يجب قبوله إنما يجب قبول خبر الكافة.

قال أبو عمر: ما أعظم ضلال من قاله، والله تعالى يقول:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} فلو كان العدل إذا جاء بنبأ يتثبت في خبره ولم ينفذ لاستوى الفاسق والعدل.

وهذا خلاف القرآن العظيم، قال تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]

(3)

وقد قال القاضي أبو بكر: الصحابة على تقديم خبر الواحد

(4)

على قياس الأصول، وما نحن فيه ظاهر.

(1)

"التمهيد" 8/ 370.

(2)

من (ص 2).

(3)

السابق 8/ 371.

(4)

قال ابن العربي في "أحكام القرآن" 2/ 579: خبر الواحد أصل عظيم لا ينكره إلا زائغ، وقد أجمعت الصحابة على الرجوع إليه، وقد جمعناه في جزء.

ص: 461

قال ابن التين: وإنما رجع عمر إلى رأي المشيخة لأنه ترجح عنده على رأي من خالفهم ممن أمره بالدخول؛ لأنه جمع بين الحزم والأخذ بالحذر، وأما ما يروى من ندمه على الرجوع فلا يصح عنه شيء من ذلك، وكيف يندم وقد ظهر له الحق بحديث ابن عوف؟!

فصل:

قال ابن عبد البر: وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الطاعون فتنة على المقيم وعلى الفار، فأما الفار فيقول: فررت ونجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت. وكذبا، فر من لم يجيء أجله وأقام من جاء أجله

(1)

.

وقال الأصمعي: هرب بعض البصريين من الطاعون، فركب حمارا وسار هاربا نحو سفوان، فسمع حاديا يحدو خلفه:

ليس يسبق الله على حمار

ولا على ذي ميعة طيار

أو يأتي [الحتف]

(2)

على مقدار

قد يصبح الله (أمام)

(3)

الساري

فرجع.

قال المدائني: ويقال: إنه ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت.

قال أبو عمر: ولم يبلغني أن أحدا من حملة العلم فر من الطاعون إلا ما ذكر المدائني أن علي بن زيد بن جدعان هرب منه فطعن فمات بالسيالة. قال: وهرب عمرو بن عبيد ورباط بن محمد بن رباط إلى الرباطية، فقال إبراهيم بن علي (الفقيمي)

(4)

:

(1)

"التمهيد" 8/ 372.

(2)

ليست بالأصل، ومثبتة من "التمهيد".

(3)

في الأصل (الأمام)، والمثبت من "التمهيد".

(4)

كذا بالأصل، وفي "التمهيد": القعنبي.

ص: 462

ولما استفز الموت كل مكذب

صبرت (ولم يصبر رباط ولا عمرو)

(1)

قال الأصمعي: ولما وقع طاعون الجارف بالبصرة لم يدفن بها الموتى، فجاءت السباع على ريحها، وخلت سكة بني جرير، فلم يبق فيها إلا جارية، فسمعت صوت الذئب في سكتهم فأنشأت تقول:

ألا أيها الذئب المنادي سحرة

إلى أنبئك الذي قد بدا ليا

بدا لي أني قد نعيت وإنني

بقية قوم ورثوني البواكيا

وإني بلا شك سأتبع من مضى

ويتبعني من بعد ما كان باكيا

قال المدائني: ولما وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان خرج هاربا، فنزل قرية من قرى الصعيد يقال لها سكر، فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك، فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ قال: طالب بن مدرك. فقال: أوه ما أراني راجعا إلى الفسطاط. فمات في تلك القرية.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} قال: كانوا أربعين ألفا خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا، فدعا اللهَ نبيٌّ من الأنبياء أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم الله تعالى

(2)

. وهذا النبي حزقيل، فيما قاله ابن قتيبة في "معارفه"

(3)

.

فصل: في الفرار منه:

في "مسند أحمد" حديث جابر رفعه: "الفار من الطاعون كالفار من

(1)

ساقط من الأصل.

(2)

من أول الفصل إلى هنا نقل من "التمهيد" 6/ 213: 217 بتصرف.

(3)

"المعارف" ص 51.

ص: 463

الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف". وفي رواية له:"ومن صبر كان له أجر شهيد"

(1)

. ورواه ابن خزيمة باللفظين في "كتاب التوكل".

وقيل لمطرف: ما تقول في الفرار من الطاعون؟ قال: هو القدر يخافونه وليس منه بُد.

فصل:

روي عن مالك أنه سئل عن قول عمر رضي الله عنه: لبيت بركبة أحب إلى من عشرة أبيات بالشام. فقال: إنما قال ذلك حين وقع الوباء بالشام. وركبة واد من أودية الطائف، يريد لطول الأعمار والبقاء، ولشدة الوباء بالشام

(2)

.

وقال ابن وضاح: ركبة: موضع بين مكة والطائف في طريق العراق.

فصل:

قال: وللطبري في حديث سعد الدلالة على أن على المرء توقي المكاره قبل نزولها، وتجنب الموجعات قبل هجومها، وإن غلبه الصبر وترك الجزع بعد نزولها.

وذلك أنه صلى الله عليه وسلم نهى من لم يكن في أرض الوباء عن دخولها إذا وقع فيها، ونهى من هو فيها عن الخروج منها بعد وقوعه فيها فرارا منه، فكذلك الواجب أن يكون حكم كل متق من الأمور غوائلها سبيله في ذلك سبيل الطاعون.

(1)

"المسند" 3/ 323، 3/ 360. قال الهيثمي في "المجمع" 3/ 52: رواه أحمد والبزار والطبراني في "الأوسط" ورجال أحمد ثقات، وقال ابن حجر في "الفتح" 10/ 188: وسنده صالح للمتابعات، وصححه الألباني في "الصحيحة"(1292).

(2)

انظر: "الموطأ" ص 559، و"التمهيد" 6/ 211.

ص: 464

وهذا المعنى نظير قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، وإذا لقيتموهم فاصبروا"

(1)

.

فإن قلت: فشعبة روى عن يزيد بن أبي زياد عن سليمان بن عمرو بن الأحوص أن أبا موسى بعث بنيه إلى الأعراب من الطاعون.

وروى شعبة أيضًا عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى الأشعري أن عمر كتب إلى أبي عبيدة في الطاعون الذي وقع بالشام: إنه قد عرضت لي حاجة لا غناء بي عنك فيها، فإذا أتاك كتابي ليلا فلا تصبح حتى ترد إليَّ، وإن أتاك نهارا فلا تمس حتى ترد إلى، فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين، أراد أن يستبقي من ليس بباق. ثم كتب إليه: إني قد عرفت حاجتك، فحللني من عزمتك يا أمير المؤمنين، فإني في (جند)

(2)

المسلمين، ولن أرغب بنفسي عنهم. فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقيل له: توفي أبو عبيدة؟ قال: [لا]

(3)

. وكان قد كتب إليه عمر إن الأردن أرض غميقة، وأن الجابية أرض نزهة، فأظهر بالمسلمين إلى الجابية.

فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: هذا نسمع فيه لأمير المؤمنين ونطيعه. فأراد ليركب بالناس فوجد وخزة فطعن، وتوفي أبو عبيدة، وانكشف الطاعون

(4)

.

(1)

سلف عند البخاري (2966) كتاب: الجهاد، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل.

(2)

في (ص 2): حتف.

(3)

ليست بالأصل، ومثبتة من "شرح ابن بطال".

(4)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 305.

ص: 465

وروى شعبة أيضًا أنه سأل الأشعث: هل فر أبوك من الطاعون؟ قال: كان إذا اشتد الطاعون فر هو والأسود بن هلال.

وروى شعبة أيضًا عن الحكم أن مسروقا كان يفر من الطاعون.

قيل: قد خالف هؤلاء من القدوة مثلهم، وإذا اختلف في أمر كان أولى بالحق من كان موافقا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى شعبة أيضًا، عن يزيد بن خمير، عن شرحبيل بن شفعة قال: وقع الطاعون، فقال عمرو بن العاص: رجز فتفرقوا عنه. فبلغ شرحبيل بن حسنة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وعمرو أضل من بعير أهله- إنه دعوة نبيكم، ورحمة من ربكم، وموت الصالحين قبلكم، فاجتمعوا له ولا تفروا عنه. فبلغ ذلك عَمْرًا فقال: صدق

(1)

.

وروى أيوب عن أبي قلابة، عن عمرو بن العاص قال: تفرقوا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورءوس الجبال. فقال معاذ: بل هو شهادة ورحمة ودعوة نبيكم، اللهم أعط معاذا وأهله نصيبهم من رحمتك. فطعن في كفه. قال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة ولم أعرف ما دعوة نبيكم، فسألت عنها، فقيل: دعا صلى الله عليه وسلم أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حتى دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم فمنعها، فدعا بهذا

(2)

.

(1)

رواه الإمام أحمد 4/ 196، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 306، وفي "شرح معاني الآثار": يزيد بن خمير عن شرحيل بن حسنة، خطأ، فيزيد هذا إنما يروى عن شرحبيل بن شفعة، "تهذيب الكمال" 32/ 116 (6983) وشرحبيل بن شفعة يروي عن عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة. انظر:"تهذيب الكمال" 12/ 423 (2718).

(2)

انظر: "مسند أحمد" 5/ 248.

ص: 466

كذا هو بلفظ: والطاعون، والصحيح -كما نبه عليه القرطبي- أنه بـ (أو)، أي: لا يجمع ذلك عليهم، وأما الطبري فصححهما. بيانه: أن مراده بأمته المذكورين في الحديث إنما هم أصحابه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دعا لجميع أمته أن لا يهلكهم بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم أعداءهم، فأجيب إلى ذلك، فلا تذهب بيضتهم ولا معظمهم بموت عام، ولا يعدو على مقتضى هذا الدعاء أن يكون ما تأولناه- والدعاء المذكور في حديث أبي قلابة يقتضي أن يفنى جميعهم بالقتل والموت العام، فتعين أن يصرف الأول إلى أصحابه؛ لأنهم هم الذين اختار الله تعالى لهم الشهادة بالقتل في سبيله الذي وقع في زمنهم فهلك به بقيتهم. فعلى هذا: فقد جمع الله لهم الأمرين، فتبقى الواو على أصلها في الجمع، أو تحمل على التنويعية والتقسمية

(1)

.

وسئلت عائشة عن الفرار منه فقالت: هو كالفرار من الزحف. وقد أسلفناه مرفوعا.

وسئل الثوري عن الرجل يخرج أيام الوباء بغير تجارة معروفة، قال: لم يكونوا (ليفعلوا ذلك)

(2)

، ولا أحب ذلك.

فإن قلت: الأجل لابد من استيفائه، فما حكمة النهي عن الدخول وعن الخروج؟

قلت: حذرا أن يظن أن الهلاك كان من أجل القدوم، والنجاء من الفرار- كما سلف، وهو نظير الدنو من المجذوم والفرار منه مع الإعلام

(1)

"المفهم" 5/ 612، ولم ينكر القرطبي رواية الواو، وإنما نقله عن بعض العلماء، ثم قال: ويظهر لي أن الروايتين صحيحتا المعنى.

(2)

بياض في الأصل والمثبت من (ص 2).

ص: 467

بأن لا عدوى ولا طيرة

(1)

.

وقال بعض العلماء فيما حكاه ابن الجوزي: إنما نهى عن الخروج؛ لأن الأصحاء إذا خرجوا هلكت المرضى، فلا يبقى من يقوم بحالهم، فخروجهم لا يقطع بنجاتهم، وهو قاطع بهلاك من بقي، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وأكثر أهل العلم على منع القدوم عليه ومنع الخروج فرارا منه.

وفي قوله: "فرارا منه" جواز الخروج منه لا على (سبيل)

(2)

الفرار منه، وكذا الداخل، كما نبه عليه بعض العلماء.

وقال عروة بن رويم: بلغنا أن عمر كتب إلى عامله بالشام: إذا سمعت بالطاعون قد وقع عندكم فاكتب لي حتى أخرج إليه

(3)

.

فرع:

سئل مالك عن البلد يقع فيه الموت والأمراض هل يكره الخروج إليه؟ فقال: ما أرى بأسا خرج أو أقام. قيل: فهذا يشبه ما جاء به الحديث من الطاعون؟ قال: نعم

(4)

.

فصل:

حديث أنس السالف في العرنيين لما استوخموا المدينة أمرهم أن يخرجوا منها، حجة لمن أجاز الفرار من أرض الوباء والطاعون، لكن ليس كما توهم، وذلك أن القوم شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 423 - 425.

(2)

في (ص 2): وجه.

(3)

"شرح ابن بطال" 9/ 426.

(4)

"المفهم" 5/ 614.

ص: 468

كانوا أهل ضرع ولم تلائمهم المدينة فاستوخموها؛ لمفارقتهم هواء بلادهم، فهم الذين استوخموا المدينة خاصة دون سائر الناس، فأمرهم صلى الله عليه وسلم بالخروج منها.

وفي هذا من الفقه: أن من قدم إلى بلدة ولم يوافقه هواؤها أنه مباح له الخروج منها والتماس أفضل (هواء)

(1)

منها، وليس ذلك بفرار من الطاعون، وإنما الفرار منه إذا عم الموت في البلدة الساكنين فيها والطارئين عليها، وفي ذلك جاء النهي

(2)

.

(فائدة:

نقل ابن الصلاح في بعض مجاميعه عن الزهري أن من قدم أرضا فأخذ من ترابها فجعله في مائها ثم شرب عوفي من وبائها)

(3)

.

فصل:

قوله: ("وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه") دليل أنه يجوز الخروج منها لا على قصد الفرار منه -كما سلف أيضًا- إذا اعتقد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وكذلك حكم الداخل أيضًا إذا أيقن أن دخوله لا يجلب إليه قدرا لم يكن قدره الله عليه فمباح له الدخول، وقد روي عن عروة بن رويم -كما سلف- أن عمر كتب إلى عامله بالشام: إذا سمعت بالطاعون وقع عندكم فاكتب لي حتى أخرج إليه

(4)

.

وروى القاسم عن عبد الله بن عمر أن عمر قال: اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ

(5)

.

(1)

من (ص 2).

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 425 - 426.

(3)

من (ص 2).

(4)

رواه ابن عبد البر بإسناده في "التمهيد" 6/ 212 - 213.

(5)

السابق، وهو عند ابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 28 (33837).

ص: 469

فصل:

حديث عائشة يفسر قوله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون شهادة، والمطعون شهيد"

يبين أن الصابر عليه المحتسب أجره على الله العالم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه، ولذلك تمنى معاذ أن يموت فيه لعله إن مات فيه فهو شهيد، وأما من جزع من الطاعون وكرهه وفر منه فليس بداخل في معنى الحديث.

فصل:

سلف أن (الوباء) يمد ويقصر

(1)

، والثاني عليه الجماعة، وهو مرض عام يفضي إلى الموت غالبا، وعند الأطباء هو (آفة تعرض للهواء)

(2)

فتفسد بفساده الأمزجة.

وقال أبو زيد: أرض وبئة: إذا كثر مرضها.

وقال صاحب "الجامع": الوباء على فعل الطاعون، وقيل: كل مرض عام وباء.

قال ابن درستويه: والعامة لا تهمزه، وإن كان ترك الهمز جائزا.

والشأم بهمزة ساكنة، ويجوز تخفيفه بحذفها كـ (رأس) وشبهه، وفيه لغة ثالثة: شآم، بالمد وأنكرت، تذكر وتؤنث.

وقوله: (ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح). (قال الداودي: فيه دليل أن الفتح فتح مكة؛ لأن أبا سفيان ومن أسلم معه من مهاجرة الفتح)

(3)

.

(1)

في هامش الأصل: مع الهمز.

(2)

في الأصل: فساد الهواء.

(3)

من (ص 2).

ص: 470

وقوله: (إني مصبح على ظهر)، أي سفر. قال الجوهري: الظهر: طريق البر

(1)

. وفي حديث ابن شهاب عن سالم أن عمر إنما رجع بالناس لحديث عبد الرحمن بن عوف، فلعل معنى قوله:(إني مصبح على ظهر) على معنى الارتياء والاستخارة ثم عزم لحديث عبد الرحمن.

وقوله: (نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله). يريد أن القدر بالموت لا بد أن يدرك، فنفر من قدر يقع في أنفسنا منه شيء إلى قدر لا يقع في أنفسنا (منه شيء)

(2)

.

وقوله: (له عدوتان): شاطئان وحافتان. وهي بضم العين وكسرها، وقرئ بهما في قوله تعالى:{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} . وقال أبو عمرو: العدوة بالضم والكسر: المكان المرتفع

(3)

.

وقوله: (إحداهما خصبة). قال ابن التين: ضبط بفتح الخاء، وكسر الصاد في بعض الكتب. وفي بعضها بالسكون. وفي "الصحاح": الخصب بالكسر: نقيض الجدب، (يقال: بلد خصب)

(4)

، وجدبة بفتح الجيم وسكون الدال: ضد الخصب.

فصل:

وقوله قبل: (لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه). قال كراع: كان الشام على خمسة أجناد: الأردن، وحمص، ودمشق، وفلسطين، وقنسرين، على كل ناحية أمير، ولم يمت عمر حتى جمع الشام كله لمعاوية.

(1)

"الصحاح" 2/ 730 (ظهر).

(2)

من (ص 2).

(3)

السابق 6/ 2421 (عدا).

(4)

من (ص 2).

ص: 471

فصل:

وقوله: (فقال عمر لما قال أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نفر من قدر الله إلى قدر الله). فيه قولان:

الأول: لعاقبته.

الثاني: هلا تركت هذِه الكلمة لمن قل فهمه وروى ابن جرير أن عمر قال لأبي عبيدة في هذا الحديث: أشككت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أشاكا كان يعقوب عليه السلام حيث قال (لبنيه)

(1)

: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [يوسف: 67]؟ فقال عمر: والله لأدخلنها. فقال أبو عبيدة: والله لا تدخلها. فرده.

فصل:

قوله: ("لا يدخل المدينة المسيح ولا الطاعون"). فيه فضل ظاهر للمدينة.

قلت: وسبب عدم الدخول أنه في الأصل رجز وعذاب، وإن كان شهادة فببركة مجاورته عليه السلام بها دفع عنهم ألمه، وقد دعا بنقل الحمى عنها إلى الجحفة كما سلف، وهي طهور، وسيأتي أن الحرق والغرق شهادة، وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم منهما.

وأما قول عائشة: (قدمنا المدينة وهي وبيئة)

(2)

. فلعله كان قبل استيطان المدينة، أو المراد به الوخم، وقد ورد أن الطاعون لا يدخل

(1)

من (ص 2).

(2)

انظر حديث (1889) السالف في أبواب فضائل المدينة، وفيه: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله. واللفظ الذي هنا رواه مسلم (1376) كتاب: الحج، باب: الترغيب في سكنى المدينة.

ص: 472

مكة أيضًا، وإسناده ضعيف

(1)

. وفي "المعارف" لابن قتيبة أنه لم يقع بالمدينة ولا بمكة طاعون قط

(2)

.

قلت: أما المدينة فنعم، وأما مكة فدخلها سنة تسع وأربعين وسبعمائة

(3)

.

والمسيح بالحاء المهملة، وروي بالمعجمة، وضبطه ابن التين بكسر الميم وتشديد السين، ثم قال: وقيل: المسّيح. قال الحربي: سمي بذلك لأن فردة عينه ممسوحة عن أن يبصر بها

(4)

.

وقال ابن الأعرابي: المسيح: الأعور، وبه سمي الدجال.

وقال ابن فارس: هو الذي أحد شقي وجهه ممسوح لا عين له ولا حاجب. قال: وبذلك سمي دجالا؛ لأنه ممسوح العين

(5)

.

فصل:

الطاعون: الموت الشامل، وعبارة الداودي: إنه حبة تنبت في الأرفاغ وكل ما انثنى من الإنسان.

(1)

رواه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 483 عن عمر بن العلاء الثقفي عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك، لا يدخلها الدجال ولا الطاعون.

(2)

"المعارف" ص 602.

(3)

ورد بهامش الأصل: لا يرد على ابن قتيبة؛ لأنه بعد زمنه.

(4)

لم أقف عليه في "غريبه" وهذا الكلام في "اللسان" 7/ 4197 غير منسوب.

(5)

"مجمل اللغة" 3/ 830.

ص: 473

‌32 - باب الرُّقَى (بِالْقُرْآنِ)

(1)

وَالْمُعَوِّذَاتِ

5735 -

حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا. فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ. [انظر: 4439 - مسلم: 2192 - فتح 10/ 195]

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أَنَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي المَرَضِ الذِي مَاتَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا. فَسَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَيْفَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: كَانَ يَنْفِثُ عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا على وَجْهَهِ.

الشرح:

(هذا الحديث كرره في الطب

(2)

، وسلف في فضائل القرآن

(3)

والمغازي

(4)

وزاد خلف: وفي الأدب، وأخرجه مسلم

(5)

وأبو داود

(6)

والنسائي

(7)

وابن ماجة)

(8)

(9)

.

(1)

من (ص 2).

(2)

سيأتي برقم (5751) باب: في المرأة ترقي الرجل.

(3)

سلف برقم (5016) باب: فضل المعوذات.

(4)

سلف برقم (4439) باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.

(5)

مسلم (2192) كتاب: السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث.

(6)

"سنن أبي داود"(3902).

(7)

"سنن النسائي الكبرى" 4/ 364.

(8)

"سنن ابن ماجة"(3529).

(9)

من (ص 2).

ص: 474

في الاسترقاء بالمعوذات: استعاذة بالله تعالى من شر كل ما خلق، ومن شر النفاثات في السحر، ومن شر الحاسد، ومن شر الشيطان ووسوسته، وهذِه جوامع من الدعاء تعم أكثر المكروهات، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يسترقي بها، وهذا الحديث أصل أن لا يسترقى إلا بكتاب الله وأسمائه وصفاته، وقد روى مالك في "الموطأ" أن الصديق دخل على عائشة رضي الله عنها وهي تشتكي، ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ارقيها بكتاب الله

(1)

. يعني بالتوراة والإنجيل؛ لأن ذلك كلام الله الذي فيه الشفاء، وذكر ابن حبان في "صحيحه" مرفوعا أنه صلى الله عليه وسلم دخل .. الحديث، قال ابن حبان: قوله: عالجيها بكتاب الله، أي بما يبيحه كلام الله؛ لأن القوم كانوا يرقون في الجاهلية بأشياء فيها شرك، فزجرهم بهذِه اللفظة عن الرقى إلا بما يبيحه كتاب الله

(2)

، وقد روى عن مالك جواز رقية اليهودي والنصراني للمسلم إذا رقى بكتاب الله، وهو قول الشافعي

(3)

، وعنه أنه كره رقى أهل الكتاب وقال: لا أحبه، وذلك -والله أعلم- لأنه لا يُدرى هل يرقون بكتاب الله أو الرقى المكروهة التي تضاهي السحر

(4)

.

وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن المرأة التي ترقي بالحديد

(5)

والملح، وعن الذي يكتب (الكتاب)

(6)

للإنسان ليعلقه عليه من الوجع،

(1)

"الموطأ" ص 586.

(2)

"صحيح ابن حبان" 13/ 464.

(3)

"الاستذكار" 27/ 34.

(4)

"الاستذكار" 27/ 32.

(5)

كذا في الأصل [بالحديد] وقد وضع علامة الإهمال تحت الحاء، وفي الاستذكار (بالجريدة).

(6)

من (ص 2).

ص: 475

ويعقد في الخيط الذي يربط به الكتاب سبع عقد، والذي يكتب خاتم سليمان في الكتاب، فكرهه كله وقال: لم يكن ذلك أمر الناس في القديم

(1)

.

وفي "جامع مختصر الشيخ أبي محمد" أن مالكا كره ذلك، وأن ابن وهب أجازه، واحتج بفعل أبي بكر السالف.

فصل:

هذا الحديث ذكره البخاري في باب النفث الآتي قريبًا بلفظ: كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)} وبالمعوذتين جميعا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده، فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به

(2)

.

وروى الترمذي -وقال: حسن- عن أبي سعيد: كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما

(3)

.

فصل:

ينفث بكسر الفاء وضمها، قال أبو عبيد: هو شبيه بالنفخ، وأما التفل فلابد فيه شيء من الريق

(4)

، وقيل: يكون معه شيء أقل من التفل.

فصل:

فيه: إثبات الرقى كما ذكرناه، والرد على من أنكر ذلك من الإسلاميين.

(1)

"الاستذكار" 27/ 33 - 34.

(2)

سيأتي برقم (5748).

(3)

"سنن الترمذي"(2058).

(4)

"غريب الحديث" 1/ 180.

ص: 476

فصل: وهو دال على الرقية في صحة الجسم.

فائدة: (في)

(1)

النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء أو النفس المباشر لتلك الرقية والذكر، وقد يكون على وجه التفاؤل بزوال الألم عن المريض وانفصاله عنه كما ينفصل ذلك النفث عن الراقي.

فصل:

وفيه: إباحة النفث في الرقى، وقد روى الثوري عن الأعمش، عن إبراهيم قال: إذا رقيت بآي القرآن فلا تنفث

(2)

.

وقال الأسود: أكره النفث. وكان لا يرى بالنفخ بأسا.

وكرهه أيضًا عكرمة والحكم بن حماد

(3)

، وأظن حجة من كرهه ظاهر قوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} وذلك نفث سحر، والسحر محرم، وما جاء عن الشارع أولى، وفيه الخير والبركة.

وفيه أيضًا: المسح باليد عند الرقية، وفي معناه المسح باليد على كل ما ترجى بركته وشفاؤه وخيره، مثل المسح على رأس اليتيم وشبهه.

وفيه: التبرك بالصالحين وأيمانهم كما فعلت عائشة بيده اليمنى دون الشمال

(4)

.

فصل:

قيل: وفيه: أن أقل الجمع اثنان، لقوله: بالمعوذات، وهما معوذتان، وهو عجيب، وأغرب من ذلك أنه من باب التغليب، ومعهما (قل هو الله أحد) وغلب، وقد سلف.

(1)

هذا فيه نظر وسيأتي إيضاح حكم التبرك وأنواعه.

(2)

ورد في هامش الأصل: لعله سقط: (في) فأثبتناها ليتضح السياق.

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 44.

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 44.

ص: 477

‌33 - باب الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ

وُيذْكَرُ عَنِ ابن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

5736 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَتَوْا على حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَقْرُوهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ فَقَالُوا: هَلْ مَعَكُمْ مِنْ دَوَاءٍ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً. فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءِ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ، وَيَتْفِلُ، فَبَرَأَ، فَأَتَوْا بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ، فَضَحِكَ وَقَالَ:«وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ» . [انظر: 2276 - مسلم: 2201 - فتح 10/ 198]

ثم ساق بإسناده حديث أبي سعيد الخدري السالف في الإجارة

(1)

(وفضائل القرآن)

(2)

(3)

، ذكره هنا من حديث غندر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن أبي المتوكل عنه، وإليه الإشارة بقوله هناك: وقال شعبة: ثنا أبو بشر، سمعت أبا المتوكل بهذا. وكان ساقه أولا من حديث أبي عوانة، عن أبي بشر به.

وأبو بشر اسمه جعفر، وأبو المتوكل الناجي علي بن داود، والناجي أيضًا أبو الصديق بكر بن عمرو، ويقال: ابن قيس، جميعا يرويان عن أبي سعيد سعد بن مالك، متفق عليهما.

وحديث ابن عباس كذا ذكره بلفظ (يُذكر) وهو صيغة تمريض، وقد

(1)

سلف برقم (2276) باب: ما يعطى في الرقية على أحياء العرب.

(2)

سلف برقم (5007) باب: فضل فاتحة الكتاب.

(3)

من (ص 2).

ص: 478

ساقه بعد في باب الشرط في الرقية كما ستعلمه

(1)

، وهو راد على

(2)

من يقول إن مثل هذِه صيغة تمريض، فهذا مما ذكره بصيغة التمريض، وهو عنده بسند صحيح، وقد سبق نظيره في الصلاة من حديث أبي موسى.

أما فقه الباب فهو ظاهر من جواز الرقى بالفاتحة، ويرد به ما روى شعبة، عن الزكي قال: سمعت القاسم بن حسان يحدث عبد الرحمن بن حرملة عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره الرقى إلا بالمعوذات

(3)

. وهو حديث لا يجوز الاحتجاج بمثله، كما نبه عليه الطبري؛ إذ فيه من لا يعرف، ثم لو صح لكان إما غلطا أو منسوخا بقوله صلى الله عليه وسلم فيه:"ما أدراك أنها رقية؟ " فأثبت أنها رقية بقوله هذا، وقال:"اضربوا لي معكم بسهم". (قيل: أراد التبرك به، وكذا في شحم العنبر)

(4)

، وإذا جازت الرقية بالمعوذتين -هما سورتان من القرآن- كانت الرقية بسائر القرآن مثلهما في الجواز؛ إذ كله قرآن.

وقال المهلب: في الحديث معني الرقى شبيه بمعنى ما في المعوذات منه، وهو قوله:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والاستعانة به تعالى في ذلك دعاء في كشف الضر وسؤال الفرج، وقد سلف هذا المعنى في الإجارة.

(1)

الحديث التالي برقم (5737).

(2)

في هامش الأصل: أجاب عنه وعن الأول وغيرهما شيخنا العراقي في "النكت" وهذا الذي قاله شيخنا أصله لشيخه مغلطاى، والله أعلم.

(3)

"سنن أبي داود"(4222)، "سنن النسائي" 8/ 141، "مسند أحمد" 1/ 380، "صحيح ابن حبان" 12/ 495، "المستدرك" 4/ 195.

(4)

من (ص 2).

ص: 479

فائدة:

قولهم: (فلم يقروهم). هو ثلاثي، قريت الضيف: أكرمته، قرى

(1)

مثل: قليته قلى وقلاء، وقراء أيضًا، إذا كسرت قصرت، وإذا فتحت مددت.

والقطيع: الطائفة من الغنم، كما قاله ابن فارس

(2)

. وقال الجوهري: هي الطائفة من البقر والغنم، والجمع: أقاطيع، على غير قياس، كأنهم جمعوا إقطيعا، وقد قالوا: أقطاع، مثل: شريف وأشراف

(3)

.

وقوله: (من الشاء). هو جمع الكثرة للشاة، وأصله: شاهة؛ لأن جمعها: شياه، فتصغيرها: شويهة، وجمعها: شياه بالهاء في العدد، تقول: ثلاث شياه إلى العشر، فإذا جاوزت فبالتاء، فإذا كثرت قلت: هذِه شاء كثيرة، (وجمع الشاء)

(4)

وهو ممدود: شواء؛ لأن أصل جمع شاة شياه، فأبدلوا الهاء همزة كما أبدلوها في ماء البصاق بالصاد والسين (والزاي)

(5)

، كصراط وصقر.

(ويتفل) بضم الفاء وكسرها، وهو شبيه بالبزاق، وهو أقل منه، أوله البصق، ثم التفل، ثم النفث، ثم النفخ؛ ذكره في "الصحاح"

(6)

.

(1)

في هامش الأصل: هذا فيه خبط في النسخة، والذي يريد أن يقوله: مثل: قليته قلى وقلاءً وقراء أيضًا، أيضًا ثم يقول: إذا

إلى آخره.

(2)

"مجمل اللغة" 2/ 758 مادة: [قطع].

(3)

"الصحاح" 3/ 1268 مادة: [قطع].

(4)

من (ص 2).

(5)

من (ص 2).

(6)

"الصحاح" 4/ 1644 مادة [تفل].

ص: 480

وقوله في (الباب بعده)

(1)

: لديغ أو سليم. من باب التفاؤل، كقولهم (للقفر): مفازة، وقيل: سليم؛ لما به. ذكره في "الصحاح"

(2)

، والخطابي

(3)

. والله أعلم.

(1)

من (ص 2).

(2)

"الصحاح" 5/ 1952 مادة [سلم].

(3)

"أعلام الحديث" 3/ 2133.

ص: 481

‌34 - باب الشَّرْطِ فِي الرُّقْيَةِ بِقَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ

5737 -

حَدَّثَنِي سِيدَانُ بْنُ مُضَارِبٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ البَصْرِيُّ -هُوَ صَدُوقٌ - يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ الْبَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الأَخْنَسِ أَبُو مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ -أَوْ سَلِيمٌ- فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ إِنَّ فِي الْمَاءِ رَجُلاً لَدِيغًا -أَوْ سَلِيمًا- فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ، فَبَرَأَ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْرًا. حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ» . [فتح 10/ 198]

حَدَّثَنِي سِيدَانُ بْنُ مُضَارِبٍ أَبُو مُحَمَّدٍ البَاهِلِيُّ، ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ البَرَّاءُ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الأَخْنَسِ أَبُو مَالِكٍ، عَنِ ابن أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ -أَوْ سَلِيمٌ- فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ المَاءِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ .. الحديث.

وسيدان هذا بكسر السين ثم مثناة تحت ثم دال ثم نون، بصري من أفراده، مات سنة أربع وعشرين ومائتين، ثقة.

وأبو معشر البراء -كان يبري العود- العطار، (بصري من أفراده، مات سنة أربع وعشرين ومائتين)

(1)

، أخرجا له، وانفرد مسلم بأبي العالية البراء، كان يبري النبل، واسمه زياد بن فيروز، وقيل: كلثوم، وقيل: أذينة، مولى قريش، بصري أيضًا تابعي.

(1)

من (ص 2)، وتحرر.

ص: 482

وابن أبي مليكة اسمه عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي أبو بكر، وقيل: أبو محمد، أخو أبي بكر، مات سنة سبع عشرة ومائة، الأحول المكفوف التيمي مؤذن ابن الزبير، وقاضيه، روى عن: عائشة وابن عباس رضي الله عنه، وعنه: أيوب والليث. قال: بعثني ابن الزبير على قضاء الطائف، فكنت أسأل ابن عباس.

وقوله: (لديغ أو سليم). سلف بيانه.

وقوله: ("إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله"). فيه حجة على أبي حنيفة في منعه أخذ الأجرة على تعليمه.

ص: 483

‌35 - باب رُقيَةِ العَينِ

5738 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ شَدَّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ العَيْنِ. [مسلم: 2195 - فتح 10/ 199]

5739 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ:«اسْتَرْقُوا لَهَا، فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ» . وَقَالَ عُقَيْلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. تَابَعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ. [مسلم: 2197 - فتح 10/ 199]

ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَمَرَ أَنْ يُسْتَرْقَى مِنَ العَيْنِ.

وحديث أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّه صلى الله عليه وسلم -رأى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ: "اسْتَرْقُوا لَهَا، فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ".

الشرح:

شيخ البخاري في الأول محمد بن كبير، وهو بالباء الموحدة بعد الكاف

(1)

، (وسفيان -بعده- هو الثوري. وأخرجه مسلم

(2)

والنسائي

(3)

(1)

ورد بهامش الأصل: هذا تصحيف من المؤلف، لا من الناسخ، ومحمد ابن كثير بالمثلثة بلا خلاف، وهو سبق قلم من المؤلف، بل ليس في الكتب الستة راوٍ اسمه محمد بن كبير بالموحدة. والله أعلم.

(2)

مسلم (2195) كتاب: السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة.

(3)

"سنن النسائي الكبرى" 4/ 365.

ص: 484

وابن ماجه)

(1)

(2)

، وروى الثاني عن محمد بن خالد، ثنا محمد بن وهب بن عطية الدمشقي، ثنا محمد بن حرب، ثنا محمد بن الوليد الزبيدي، أنا الزهري، عن عروة بن الزبير، عن زينب ابنة أبي سلمة، عن أم سلمة به. ثم قال: تابعه عبد الله بن سالم عن الزبيدي، وقال عُقيل، عن الزهري، أخبرني عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وشيخ البخاري فيه محمد بن خالد، هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد الذهلي، كما صرح به أبو مسعود والجياني وقال: حدث أبو محمد ابن الجارود بحديث أم سلمة هذا عن محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن وهب بن عطية، (وليس له عنده غيره)

(3)

.

وقد اجتمع في هذا الحديث لطيفة عزيزة وهي سبعة كل واحد منهم اسمه محمد: الفربري عن البخاري عن شيخه، آخرهم الزهري وهو محمد بن شهاب. وعبد الله بن سالم هو أبو يوسف الأشعري، حمصي، مات سنة تسع وأربعين ومائة

(4)

، انفرد به البخاري.

فصل:

والسفعة بفتح السين وضمها: شحوب في سواد في

(5)

الوجه، وفي

(1)

"سنن ابن ماجه"(3512).

(2)

من (ص 2).

(3)

من (ص 2).

(4)

ورد بهامش الأصل: كذا في "الكاشف" و"التذهيب" وكذا في "الكمال" وفي "المغني" غير أن في النسخة التي راجعتها: تسعين. وهي سقيمة. والله أعلم. ثم علق بجوارها تعليقا آخر نصه: إنما أخرج له أبو داود والنسائي ولم يخرج له البخاري في الأصول، ولعله أراد انفراد البخاري به في المتابعات عن مسلم، والله أعلم. وقد راجعت نسخة عندي من "الكمال" فوجدته قال فيها: روى له البخاري وأبو داود والنسائي. وهذا فيه نظر

، والله أعلم.

(5)

من (ص 2).

ص: 485

"البارع": هو سواد الخدين من المرأة الشاحبة. وقال الأصمعي: هي حمرة يعلوها سواد. وقيل: علامة من الشيطان. وقيل: ضربة واحدة منه، من قوله:{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15] سفعت بالناصية وسفعته: لطمته، وسفعته بالعصا: ضربته، وأصل السفع: الأخذ بالناصية، ثم تستعمل في غيرها. وقيل في قوله:{لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} لنأخذن بها. وقيل: لنسودن منها وجهه، ولنزرقن عينيه حتى يكون ذلك علامة له، فاكتفى بالناصية عن ذكر الوجه.

وقيل: لنذلنه. وعبارة ابن بطال: السفعة: سواد وشحوب في الوجه، وامرأة سفعاء الخدين، والسفع: الأثافي؛ لسوادها

(1)

؛ من كتاب "العين"

(2)

.

وفي "الصحاح": السفعة في الوجه: سواد في خدي المرأة الشاحبة. وضبطه بضم السين. وبه سفعة من الشيطان أي: مس منه، ضبطه بفتح السين

(3)

.

وقال الخطابي: أصل السفع: الأخذ بالناصية، يويد أن بها مسًا من الجن وأخذا منها بالناصية

(4)

.

وقال ابن الجوزي عن ابن ناصر عن الخطيب التبريزي قال: قال أبو العلاء المعري: هو بفتح السين أجود، وقد تضم سينها، من قولهم: رجل أسفع، أي: لونه أسود.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 430.

(2)

"العين" 1/ 340 مادة: [سفع].

(3)

"الصحاح" 3/ 1230.

(4)

"أعلام الحديث" 3/ 2129.

ص: 486

وقال أبو عبيد: أي: إن الشيطان أصابها، و (قيل)

(1)

السفع: الأخذ بالناصية. تم ذكر الآية

(2)

.

وقال غيره: السفعة: الصفرة والتغير، وكل أصفر أسفع.

فصل:

وقوله: ("فإن بها النظرة"). أي: أصابتها عين، يقال: رجل منظور: إذا أصابته العين.

وقال صاحب "المطالع": النظرة بفتح النون وسكون الظاء: أي: عين من نظر الجن.

قال الخطابي: وعيون الجن أنفذ من (الإسنية)

(3)

، ولما مات سعد سمع قائل من الجن يقول:

نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده

ورميناه (بسهمين)

(4)

فلم نخطئ فؤاده

(5)

فتأوله بعضهم: أي: أصبناه بعين.

فصل:

والرقية من العين والنظرة وغير ذلك باسم الله تعالى وكتابه يرجو بركتهما؛ لأمر الشارع به، وقد أمر باغتسال العائن وصب ذلك الماء على المعين، كما سلف.

روى مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه قال: رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل، فقال: ما رأيت كاليوم

(1)

في (ص 2): أصل.

(2)

"غريب الحديث" 2/ 221.

(3)

في (ص 2): الأسنة.

(4)

في (ص 2): بسهم.

(5)

"أعلام الحديث" 3/ 2130.

ص: 487

ولا جلد مخبأة. فلبط سهل -قلت: قال أبو زيد: رجل ملبوط وقد لُبط لبطا، وهو سعال أو زكام- فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضه، فقال:"هل تتهمون أحدا"؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا فتغيظ عليه وقال: "علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت؟ اغتسل له". فغسل عامر وجهه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه، فراح سهل مع الناس ليس به بأس

(1)

.

وقال معمر عن ابن شهاب: فصب على رأسه، وكفأ الإناء خلفه، وأمره فحسا منه حسوات. وقال الزهري: هي السنة.

فيه من الفقه: أنه إذا عُرف العائن أنه يُقضى عليه بالوضوء؛ لأمر الشارع بذلك، وأنها نشرة ينتفع بها.

وفي قوله: ("ألا بركت؟! ") أن من رأى شيئاً فأعجبه فقال: تبارك الله أحسن الخالقين وبرك فيه فإنه لا تضره العين، وهي رقية منه.

فصل:

قوله: ("استرقوا لها"). هو أمر بالرقية، وهو ساكن الراء، أصله: استرقيوا، فاستثقلت ضمة الياء فحذفت، فاجتمع ساكنان الواو والياء، فحذفت الياء؛ لاجتماعهما، ثم ضمت القاف لتصح الواو.

فصل:

الرقى المكروهة أمور مشتبهة مركبة من حق وباطل من ذكر الشياطين، والاستعانة بهم، والتعوذ بمردتهم، وإلى هذا ينحو من يرقي بالحية ويستخرج السم من بدن الملسوع، (ويقال إن الحية لما بينها وبين الإنسان من العداوة الظاهرة تؤالف الشياطين)؛ إذ هي

(1)

"الموطأ" ص 583.

ص: 488

أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذلك اللديغ إذا رقي بتلك الأسماء سالت سمومها وجرت من مواضعها من بدن الإنسان. ولذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه وبكتابه الذي يعرف بيانه؛ ليكون (بريئًا من)

(1)

شوب الشرك. والفرق بين هذِه الرقية والمنهي عنها من رقية المعزمين الذين يدعون تسخير الجن أن الأولى هي الطب الريحاني، وعليه الصالحون، فلما عدموا فزع الناس إلى الطب الجسماني.

(1)

بالأصل: (ترياق).

ص: 489

‌36 - باب العَيْنُ حَقٌّ

5740 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْعَيْنُ حَقٌّ» . وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ. [5944 - مسلم: 2187 - فتح 10/ 203]

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق". ونهى عن الوشم (ويأتي في اللباس

(1)

.

وأخرجه مسلم

(2)

وأبو داود

(3)

بدون الوشم)

(4)

.

الشرح:

معناه: الإصابة بها حق، ولها تأثير في النفوس إبطالا لمن زعم من الطبائعيين أنه لا شيء إلا ما تدركه الحواس الخمس، وما عداها فلا حقيقة له.

وقوله: (ونهى عن الوشم). هو بالمعجمة مصدر وشم: إذا غرز بإبرة ثم ذر عليها (النؤر)

(5)

والنيلج والاسم أيضًا: الوشم.

فائدة: روى مالك عن حميد بن قيس أنه صلى الله عليه وسلم قال لحاضنة ابني جعفر: "ما لي أراهما ضارعين"؟ فقالت: يا رسول الله، تسرع إليهما العين. فقال صلى الله عليه وسلم:"استرقوا لهما، فلو سبق شيء القدر لسبقته العين"

(6)

.

(1)

سيأتي برقم (5944) باب: الواشمة.

(2)

مسلم (2187) كتاب: السلام، باب: الطب والمرض والرقى.

(3)

أبو داود (3879).

(4)

من (ص 2).

(5)

في ص 2: (النؤور).

(6)

"الموطأ" ص 583.

ص: 490

قال أبو عبد الملك: واختلف المتأخرون: هل يقضى على العائن بالوضوء أم لا؟ والصواب: نعم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر عامر بن ربيعة أن يغتسل لسهل بن حنيف فاغتسل.

ص: 491

‌37 - باب رُقْيَةِ الحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ

5741 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الرُّقْيَةِ مِنَ الْحُمَةِ، فَقَالَتْ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرُّقْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ. [مسلم: 2193 - فتح 10/ 205]

ذكر فيه حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ الرُّقْيَةِ مِنَ الحُمَةِ، فَقَالَتْ: رَخَّصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرُّقْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِي حُمَةٍ.

(هذا الحديث أخرجه مسلم

(1)

والنسائي)

(2)

(3)

، وقد سلف الكلام على الحمة في باب من اكتوى

(4)

واضحا، وهذا الحديث يبين ما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: الرقى والتمائم والتِوَلة شرك

(5)

أن المراد بذلك رقى الجاهلية وما يضاهي السحر من الرقى المكروهة.

(1)

مسلم (2193) كتاب: السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة.

(2)

"سنن النسائي الكبرى" 4/ 366.

(3)

من (ص 2).

(4)

سلف برقم (5705).

(5)

رواه أبو داود في "سننه"(3883)، وأبو يعلى في "مسنده" 9/ 133، والبيهقي في "السنن الكبرى" من طريق عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله عن زينب عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا.

ورواه ابن حبان في "صحيحه" 13/ 456 والطبراني في "الكبير" 10/ 213 من طريق فضيل بن عمرو عن يحيى بن الجزار قال: قال عبد الله .. الحديث.

وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1632).

ولم أعثر على حديث علي في المصادر التي بين يدي.

ص: 492

روى ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: بلغني عن رجال من أهل العلم أنهم كانوا يقولون أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الرقى حتى قدم المدينة، وكانت الرقى في ذلك الزمن فيها كثير من كلام الشرك، فلما قدم المدينة لدغ رجل من أصحابه، فقالوا: يا رسول الله، قد كان آل حزم يرقون من الحمة، فلما نهيت عن الرقى تركوها. فقال صلى الله عليه وسلم:"ادعوا لي عمارة" وكان قد شهد بدرا، فقال:"اعرض علي رقيتك". فعرضها عليه، فلم ير بها بأسًا وأذن له فيها

(1)

.

(1)

"التمهيد" 23/ 155.

ص: 493

‌38 - باب رُقْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-

5742 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَثَابِتٌ على أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَقَالَ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، اشْتَكَيْتُ. فَقَالَ أَنَسٌ: أَلَا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلاَّ أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» . [فتح 10/ 206]

5743 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ:«اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَاسَ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» . قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُورًا، فَحَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ. [انظر: 5675 - مسلم: 2191 - فتح 10/ 206]

5744 -

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْقِي يَقُولُ:«امْسَحِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، بِيَدِكَ الشِّفَاءُ، لَا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ أَنْتَ» . [انظر: 5675 - مسلم: 2191 - فتح 10/ 206]

5745 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ:«بِسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا» .

5746 -

حَدَّثَنِي صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الرُّقْيَةِ: «تُرْبَةُ أَرْضِنَا، وَرِيقَةُ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا، بِإِذْنِ رَبِّنَا» . [انظر: 5745 - مسلم: 2194 - فتح 10/ 206]

ذكر فيه خمسة أحاديث:

ص: 494

أحدها:

حديث عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ: دَخَلْتُ مع ثَابِتٍ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، فَقَالَ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، اشْتَكَيْتُ. فَقَالَ أَنَسٌ: أَلَا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ البَاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا".

(وأخرجه أبو داود

(1)

والترمذي

(2)

والنسائي في "اليوم والليلة"

(3)

)

(4)

.

ثانيها:

حديث مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ اليُمْنَى وَيَقُولُ:"اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ البَاسَ، واشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا". قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثْتُ بِهِ مَنْصُورًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ نَحْوَهُ.

(وسلف في باب دعاء العائد للمريض)

(5)

(6)

، وترجم عليه بعدُ: باب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى

(7)

.

ثالثها:

حديثها أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم كان يرقي يقول: "أذهب البَاسَ رَبَّ النَّاسِ، بِيَدِكَ الشِّفَاءُ، لَا كاشِفَ لَهُ إِلَّا أَنْتَ". (وهو من أفراده)

(8)

.

(1)

"سنن أبي داود"(3890).

(2)

"سنن الترمذي"(973).

(3)

"سنن النسائي الكبرى" 6/ 253.

(4)

من (ص 2).

(5)

سلف برقم (5675).

(6)

من (ص 2).

(7)

سيأتي برقم (5750).

(8)

من (ص 2).

ص: 495

رابعها:

حديثها أيضًا أَنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ: "بِسْمِ اللهِ، تُرْبَةُ أَرْضِنَا، بِرِيقَةِ بَعْضِنَا، يُشْفَى سَقِيمُنَا (بإذن ربنا)

(1)

".

خامسها:

عنها بلفظ: كان يقول في الرقية: "تُرْبَةُ أَرْضِنَا .. " إلى آخره، بزيادة:"بِإِذْنِ رَبِّنَا". (أخرجهما من طريق عمرة عنها، وقد أخرجه مسلم

(2)

وأبو داود

(3)

والترمذي

(4)

وابن ماجه)

(5)

(6)

.

وفي هذِه الأحاديث بيان واضح على جواز الرقية بكل ما كان دعاء للعليل بالشفاء، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد مريضا قال ما سلف، وذلك كانت رقيته التي يرقي بها أهل العلل، وإذا كان ذلك دعاء ومسألة للعليل بالشفاء فمثله كل ما يرقى به ذو علة من رقية إذا كان دعاء لله، ومسألة من الراقي ربه للعليل الشفاء في أنه لا بأس به.

وذكر عبد الرحمن عن معمر قال: الرقية التي رقى بها جبريل رسول الله: بسم الله أرقيك، والله يشفيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد، وباسم الله أرقيك

(7)

. ومعنى مسحه موضع الوجع بيده في الرقية -والله أعلم- تفاؤلا بذهاب الوجع بمسحه بالرقى.

(1)

من الأصل، وهي مشكلة مع ما بعدها، ولعلها سبق قلم.

(2)

مسلم (2194) كتاب: السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة.

(3)

"سنن أبي داود"(3895).

(4)

لم أعثر على الحديث عند الترمذي، وهو عند النسائي في "الكبرى" 6/ 253 كما في "تحفة الأشراف" للمزي (17906).

(5)

"سنن ابن ماجة"(3521).

(6)

من (ص 2).

(7)

"مصنف عبد الرزاق" 11/ 18.

ص: 496

‌39 - باب النَّفْثِ فِي الرُّقْيَةِ

5747 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ» . [انظر: 3292 - مسلم: 2261 - فتح 10/ 208] وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَإِنْ كُنْتُ لأَرَى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنَ الْجَبَلِ، فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا.

5748 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِقُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدَاهُ مِنْ جَسَدِهِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَمَّا اشْتَكَى كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ. قَالَ يُونُسُ: كُنْتُ أَرَى ابْنَ شِهَابٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَتَى إِلَى فِرَاشِهِ. [انظر: 5017 - فتح 10/ 209]

5749 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْطَلَقُوا فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ، الَّذِينَ قَدْ نَزَلُوا بِكُمْ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ. فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، فَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللهِ إِنِّي لَرَاقٍ، وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلاً. فَصَالَحُوهُمْ على قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ فَجَعَلَ يَتْفُلُ وَيَقْرَأُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} حَتَّى لَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي مَا بِهِ قَلَبَةٌ. قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ

ص: 497

بَعْضُهُمُ: اقْسِمُوا. فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لَا تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا. فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ:«وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ أَصَبْتُمُ، اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ» . [انظر: 2276 - مسلم:

2201 -

فتح 10/ 209]

ذكر فيه أحاديث:

أحدها: حديث أبي قَتَادَةَ الحارث بن ربعي: سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَيْطَانِ، فَإذَا رَأى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ حِينَ يَسْتَيْقِظُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ".

وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَإِنْ كُنْتُ لأَرى الرُّؤْيَا أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنَ الجَبَلِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ هذا الحَدِيثَ فَمَا أُبَالِيهَا.

وسيأتي في كتاب التعبير

(1)

، (وأخرجه مسلم

(2)

والأربعة

(3)

، قال الترمذي: حسن صحيح)

(4)

.

ثانيها:

حديث عائشة رضي الله عنها: كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ .. الحديث، وقد سلف في (باب المغازي)

(5)

(6)

وفي باب الرقى

(1)

سيأتي برقم (6984) باب: الرؤيا من الله.

(2)

مسلم (2261) كتاب: الرؤيا.

(3)

"سنن أبي داود"(5021)، "سنن الترمذي"(2277)، "سنن ابن ماجه"(3909)، "سنن النسائي الكبرى" 4/ 391.

(4)

من (ص 2).

(5)

سلف برقم (4439) باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.

(6)

كذا في (ص 2).

ص: 498

بالقرآن

(1)

، وفي آخره: قَالَ يُونُسُ: كُنْتُ أَرى ابن شِهَابٍ يَصنَعُ ذَلِكَ إِذَا أَتَى عَلَى فِرَاشِهِ. وترجم له فيما سيأتي: باب المرأة ترقي الرجل

(2)

. (وأخرجه مسلم أيضًا)

(3)

(4)

.

ثالثها:

حديث أبي سعيد في الرقى بالفاتحة، وقد سلف قريبًا

(5)

، أخرجه هنا من حديث أبي عوانة وهو الوضاح عن أبي بشر وهو جعفر عن أبي المتوكل، وسلف قريبًا اسمه عنه.

وقوله فيه: (فانطلق يمشي ما به قلبة). هو بفتح اللام، أي: ألم وعلة، وأصله من القلاب بضم القاف، وهو داء يأخذ البعير فيشتكي منه قلبه فيموت من يومه. وقيل: معناه: ما به داء يقلب له.

وفي هذِه الأحاديث البيان أن التفل على العليل إذا رقي أو دعي له بالشفاء جائز، والرد على من لم يجز ذلك، وبه قال جماعة من الصحابة وغيرهم، وأنكر قوم من أهل العلم النفث والتفل في الرقى، وأجازوا النفخ فيهما، كما أسلفناه عنهم في باب الرقى بالقرآن، وما فعله الشارع هو المتبع، وقد روت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ريق ابن آدم شفاء

(6)

، قالت: كان إذا اشتكى الإنسان قال صلى الله عليه وسلم بريقه هكذا في الأرض وقال: "تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا"

(7)

.

(1)

سلف قريبًا برقم (5735).

(2)

سيأتي قريبًا برقم (5751).

(3)

مسلم (2192) كتاب: السلام، باب: رقية المريض بالمعوذات والنفث.

(4)

من (ص 2).

(5)

سلف قريبًا برقم (5736).

(6)

لم أقف عليه.

(7)

سلف برقم (5745)، (5746) ولمسلم برقم (2194) كتاب السلام، باب: استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة.

ص: 499

فصل:

وقوله: (فكأنما نشط من عقال). قال صاحب "الأفعال": يقال: أنشطت العقدة: حللتها، ونشطتها: عقدتها بأنشوطة، وهي حديدة يعقد بها

(1)

.

قلت: فعلى هذا، صوابه: أنشط، كما نبه عليه ابن التين أيضًا، ثم نقل ما ذكرناه عن الجوهري وابن فارس و"الغريبين"، وذكره الجوهري بلفظ: أنشط

(2)

، وكذا الهروي.

وقوله في أوله: (فأبوا أن يضيفوهم). قال ابن التين: ضبط في بعض الكتب بفتح الياء ثلاثي، وليس هو في اللغة كذلك، يقال: ضفت الرجل وضيفته: إذا أنزلته ضيفا، ومنه قوله تعالى:{فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} وضفت الرجل ضيافة: إذا نزلت عليه ضيفا، وكذلك تضيفته.

فصل:

والرهط: ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة، وليس له واحد من لفظه، مثل: ذود، والجمع: أرهط وأرهاط.

فصل:

قوله: (فقال الذي رقى: لا تفعلوا). كذا هنا، وقال قريبا: فقالوا لا نأخذه حتى نسأل. ولا تخالف بينهما، فقد يقولون ذلك ثم يقوله هو، أو في أحدهما وهم؛ قاله ابن التين.

فصل:

فيه هبة المشاع؛ لقوله: اضربوا لي معكم بسهم.

(1)

"الأفعال" ص (112).

(2)

"الصحاح" 3/ 1193 مادة: [نشط].

ص: 500

فصل:

قوله في الحديث الأول: (الرؤيا من الله). يريد الرؤيا الصالحة التي لا تختلط فيها من الشيطان ولا أمور فاحشة.

و (الحلم) بضم الحاء والسلام وبسكونها أيضًا: ما يراه النائم، تقول منه: حلم بالفتح واحتلم، والحلم بالكسر: الصفح، والحلم بالتحريك: أن يفسد الإهاب في العمل، وهذا من الشيطان يهول ويخلط ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله.

وقوله: (فما أباليها). أي فما أكترث عليها.

وقوله: (فلينفث). أي: عن يساره ثلاثًا كما جاء في موضع آخر. والله أعلم.

ص: 501

‌40 - باب مَسْحِ الرَّاقِى الْوَجَعَ بِيَدِهِ اليُمْنَى

5750 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ بَعْضَهُمْ يَمْسَحُهُ بِيَمِينِهِ: «أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» . فَذَكَرْتُهُ لِمَنْصُورٍ، فَحَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ. [انظر: 5675 - مسلم: 2191 - فتح 10/ 210]

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها السالف قريبًا

(1)

، وفيه التبرك باليمنى لفضلها على اليسرى، وفيه معنى الفأل.

(1)

سلف برقم (5743) باب: رقية النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 502

‌41 - باب فِي الْمَرْأَةِ تَرْقِى الرَّجُلَ

5751 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا ثَقُلَ كُنْتُ أَنَا أَنْفِثُ عَلَيْهِ بِهِنَّ، فَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا. فَسَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ: كَيْفَ كَانَ يَنْفِثُ؟ قَالَ: يَنْفِثُ على يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ. [انظر: 4439 - مسلم: 2192 - فتح 10/ 210]

ذكر فيه حديث عائشة السالف قريبًا

(1)

أَنَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مَرَضِهِ

(2)

.

(1)

سلف برقم (5735) باب: الرقى بالقرآن والمعوذات.

(2)

هذا الباب ساقط من (س).

ص: 503

‌42 - باب مَنْ لَمْ يَرْقِ

5752 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما -قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ أُمَّتِي، فَقِيلَ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ. ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ. فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا. فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ» . فَتَفَرَّقَ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ، فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ، وَلَكِنَّا آمَنَّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«هُمُ الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«نَعَمْ» . فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا؟ فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ» . [انظر: 3410 - مسلم: 220 - فتح 10/ 211]

ذكر فيه حديث ابن عباس السالف في الذين لا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون

(1)

، وفي إسناده حصين بن نمير، وهو واسطي انفرد به البخاري.

(1)

سلف برقم (5705) باب: من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو.

ص: 504

‌43 - باب الطِّيَرَةِ

5753 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ، وَالدَّابَّةِ» . [انظر: 2099 - مسلم: 2225 - فتح 10/ 212]

5754 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ» . قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ» . [انظر: 5755 - مسلم: 2223 - فتح 10/ 212]

ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما مرفوعا: "لَا عَدْوى وَلَا طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ: فِي المَرْأَةِ، وَالدَّارِ، وَالدَّابَّةِ". سلف في النكاح

(1)

ويأتي

(2)

.

وحديث أبى هريرة مَرْفُوعًا: "لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الفَأْلُ". قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: "الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ". (وأخرجه مسلم أيضًا)

(3)

(4)

.

(1)

سلف برقم (5094) باب: ما يتقى من شؤم المرأة.

(2)

سيأتي برقم (5772) باب: لا عدوي.

(3)

مسلم (2223) كتاب: السلام، باب: الطيرة والفأل، وما يكون فيه مكن الشؤم.

(4)

من (ص 2).

ص: 505

‌44 - باب الفَأْلِ

5755 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ» . قَالَ: وَمَا الْفَأْلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ» . [انظر: 5754 - مسلم: 2223 - فتح 10/ 214]

5756 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ، الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ» [5776 - مسلم: 2224 - فتح 10/ 214]

ذكر فيه حديث أبي هريرة أيضًا وقَالَ: "الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ".

وحديث أنس مرفوعا: "لَا عَدْوى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ الصَّالِحُ، الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ".

(وأخرجه أبو داود

(1)

والترمذي وقال: حسن صحيح

(2)

)

(3)

.

قال الخطابي: الفرق بين الفأل والطيرة أن الفأل مأخوذ من طريق حسن الظن بالله تعالى، والطيرة إنما هي من طريق الاتكال على شيء سواه

(4)

.

وقال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل، فقال: هو أن يكون مريضا فيسمع: يا سالم أو يكون غائبًا فيسمع: يا واجد.

قلت: وكان صلى الله عليه وسلم يسأل عن اسم الأرض والجبل والإنسان، فإن كان حسنا سر به واستبشر، وإن كان سيئا ساءه ذلك، كما سأعقد له فصلا.

(1)

"سنن أبي داود"(3916).

(2)

"سنن الترمذي"(1615).

(3)

من (ص 2).

(4)

"غريب الحديث" 1/ 183.

ص: 506

وزعم بعض المعتزلة أن قوله: ("لا طيرة") يعارض قوله: ("الشؤم في ثلاث")، وهو تعسف وبعد عن العلم، فحديث الطيرة مخصوص بحديث الشؤم، فكأنه قال: لا طيرة إلا في هذِه الثلاثة لمن التزم الطيرة، يوضحه حديث زهير بن معاوية، عن عتبة بن حميد، عن عبد الله بن أبي بكر أنه سمع أنسا يقول: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا طيرة، والطيرة على من تطير، وإن تكن في شيء ففي الدار والمرأة والفرس" أخرجه ابن حبان في "صحيحه"

(1)

.

وفي "مسند أبي الدرداء" لإبراهيم بن محمد بن عبيد: شؤم الفرس: أن لا يحمل عليها في سبيل الله. وقد سلف، فبان بهذا الحديث أن الطيرة إنما تلزم من تطير بها، وأنها في بعض الأشياء دون بعض، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يقولون: الطيرة في هذِه الثلاثة، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن الطيرة فلم ينتهوا، فبقيت في الثلاثة التي كانوا يلتزمون التطير فيها، ومثله قوله تعالى:{إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: حظكم من الخير والشر معكم ليس هو من شؤمنا، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الدار:"اتركوها ذميمة"

(2)

فإنما قال ذلك لقوم علم منهم أن

(1)

"صحيح ابن حبان" 13/ 492.

(2)

رواه أبو داود في "سننه"(3924)، والبخاري في "الأدب المفرد"(918)، والبيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 141 من طريق عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس بن مالك، قال البخاري: في إسناده نظر.

ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" 10/ 411 من طريق معمر عن الزهري عن عبد الله ابن الحارث عن عبد الله بن شداد. والطبراني في "المعجم الكبير" 6/ 104 (5639) من طريق يعقوب بن حميد عن أنس بن عياض عن سعد بن سعد بن عجرة عن سهل بن حارثة الأنصاري.

ورواه البيهقي في "الشعب" 2/ 124 من طريق سُكين بن عبد العزيز، عن إبراهيم =

ص: 507

الطيرة والتشاؤم غلب عليهم وثبت في نفوسهم؛ لأن إزاحة ما ثبت في النفس عسير، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ثلاث لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق"

(1)

.

وفي "علل الدارقطني" من حديث أبي ذر مرفوعا: "من خرج من بيته ثم رجع من الطيرة رجع كافرا". وقال: الأشبه وقفه

(2)

.

وليس في قوله: "دعوها ذميمة" أمر منه بالتطير، كيف وقد قال:"لا طيرة" وإنما أمرهم بالتحول عنها لما قد جعل الله في غرائز الناس من استثقال ما نالهم

(3)

فيه الشر وإن كان لا سبب له في ذلك، وحب

= الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود.

قال الهيثمي: "مجمع الزوائد" 5/ 105 رواه الطبراني، وفيه يعقوب بن حميد بن كاسب، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه جماعة.

ورواه مالك في "موطئه " ص 602 عن يحيى بن سعيد معضلاً.

وحسنه الألباني في "الصحيحة" ص (790).

(1)

رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 4/ 77 والطبراني في "معجمه الكبير" 3/ 228 (3227) بلفظ "إذا حسدت فاستغفر الله وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض " من طريق إسماعيل بن قيس الأنصاري عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال عن أبيه عن جده حارثة بن النعمان.

قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 78 فيه إسماعيل بن قيس الأنصاري وهو ضعيف. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2526).

ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" 10/ 403، والبيهقي في "الشعب" 2/ 63 من طريق عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية.

وقال البيهقي: وهذا منقطع.

(2)

"علل الدارقطني" 6/ 273 (1133).

(3)

في الأصل: يتوهم.

ص: 508

من جرى لهم الخير على يديه، وإن لم يردهم به، وكان الشارع يستحب الاسم الحسن والفأل الصالح، وقد جعل الله تعالى في فطرة الناس محبة الكلمة الحسنة والفأل الصالح والأنس به، كما جعل فيهم الارتياح للبشرى والمنظر الأنيق، وقد يمر الرجل بالماء الصافي فيعجبه وهو لا يشربه وبالروضة المنورة فتسره وهي لا تنفعه. وفي بعض الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الأترج والفاغية وهي نور الحناء، وهذا مثل إعجابه بالأسماء الحسنة والفأل الحسن، وعلى حسب هذا كانت كراهته للاسم القبيح، كبني النار وبني حزن وشبهه، وقد كان كثير من أهل الجاهلية لا يرون الطيرة شيئا ويمدحون من كذب بها، قال المرقش:

ولقد غدوت وكنت لا

أغدو على واق وحائم

فإذا الأشائم كالأيا

ـمن والأيامن كالأشائم

كذا عزاه ابن بطال إلى المرقش

(1)

، وعزاه غيره إلى حرز بن ذكوان، فلعله هو، وأوله:

ولا يقعدنك عن بغا

ء الخير تقعاد التمائم

وبعد البيتين:

وكذاك لا خير ولا شر

على أحد بدائم

قد حط ذاك في كتا

ب الأوليات القدائم

وقال عكرمة: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير فقال ابن عباس: ما عندها لا خير ولا شر

(2)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 438.

(2)

"تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة ص 172.

ص: 509

فصل:

قال ابن الأثير: الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن، وهي التشاؤم بالشيء، وهو مصدر تطير، يقال: تطير طيرة، وتخير خيرة، ولم يجيء من المصادر هكذا غير هذين، وأصل التطير -فيما يقال- هو التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، ومنه الحديث:"الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل"

(1)

. كذا جاء مقطوعا ولم يذكر المستثنى فحذف اختصارا واعتمادا على فهم السامع، وهذا كالحديث الآخر: "وما منا

(2)

إلا من هم أو لم إلا يحيى بن زكريا"

(3)

فأظهر المستثنى.

(1)

رواه أبو داود في "سننه"(3910)، والترمذي في "سننه"(1614) وابن ماجه في "سننه"(3538)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 311 والبزار في "مسنده" 5/ 230 (1840)، وابن حبان في "صحيحه" 13/ 491 من طريق سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عيسى بن عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه أحمد في "مسنده" 1/ 234، والطيالسي في "مسنده" 1/ 278 (354) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 312 من طريق شعبة، عن سلمة بن كهيل به. ورواه أبو يعلى في "مسنده" 9/ 26 من طريق منصور، عن سلمة به.

وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن كهيل. وروى شعبة أيضًا، عن سلمة هذا الحديث. وقال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث "وما منا، ولكن الله يذهبه بالتوكل"، قال سليمان: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه"(2850).

(2)

في هامش الأصل ما نصه: "ما منا إلا من عصى أوهم بمعصية إلا يحيى". ضعيف معروف الضعف.

(3)

رواه أحمد في "مسنده" 1/ 254 وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 349، وأبو يعلى في "مسنده" 4/ 418، والطبراني في "الكبير" 12/ 216 والبيهقي في "الكبرى" 10/ 186 من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن =

ص: 510

وقيل

(1)

: إن قوله: "وما منا" من قول ابن مسعود أدرجه في الحديث. وإنما جعلها من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم خيرا إذا عملوا بموجبه، فكأنهم أشركوه مع الله في ذلك.

وقوله: ("ولكن الله يذهبه بالتوكل"). معناه: إذا خطر له عارض التطير فتوكل على الله وسلم إليه ولم يعمل بذلك الخاطر لم يؤاخذ به

(2)

.

فصل:

قوله هنا: ("الشؤم في ثلاث"). وفي رواية: "إن كان الشؤم في شيء ففي"

(3)

. كذا مع قوله: "لا طيرة". قال ابن الجوزي: غلطت عائشة رضي الله عنها على من روى هذا الحديث، وقالت: إنما كان

= ابن عباس مرفوعًا.

قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 209 فيه: علي بن زيد، وضعفه الجمهور، وقد وثقه، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.

قال ابن حجر في "تلخيص الحبير" 4/ 199. وهو من رواية علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران وهما ضعيفان. ورواه البزار في "مسنده" 6/ 344 (2351) عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا.

قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 209: ورجاله ثقات. ورواه الطبراني في "الأوسط" 6/ 333 (6556) من طريق حجاج بن سليمان الرعيني، عن الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 209: فيه حجاج بن سليمان الرعيني، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات.

وصححه الألباني في "الصحيحة"(2984) بمجموع طرقه.

(1)

في هامش الأصل: هو من قول ابن مسعود بلا شك بين ذلك.

(2)

"النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 152.

(3)

سلف برقم (5094) كتاب: النكاح، باب: ما يتقى من شؤم المرأة.

ص: 511

أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في كذا وكذا. وهو رد (لصريح خبرٍ رواه ثقات)

(1)

، والصحيح أن المعنى: إن خيف من شيء أن يكون سببا لما يخاف شره ويتشاءم به فهذِه الأشياء، لا على سبيل الذي يظنه أهل الجاهلية من الطيرة والعدوى. وقال الخطابي: لما كان الإنسان لا يستغني عن هذِه الأشياء الثلاثة، ولكن لا يسلمن من عارض مكروه فأضيف إليها الشؤم إضافة محل

(2)

.

فصل:

الشؤم مهموز: نقيض اليمن، تقول: ما أشأم الرجل. قال الجوهري: والعامة تقول: ما أشأمه

(3)

.

ويسمى كل محذور ومكروه مشؤما ومشأمة، والشؤمى: الجهة اليسرى، وأصحاب المشأمة: الذين سلك بهم طريق النار؛ لأنها على الشمال. وقيل: لأنهم مشائيم على أنفسهم. وقيل: لأنهم أخذوا كتابهم بشمالهم.

فصل:

نقل ابن التين عن معمر أنه سمع من يقول: شؤم المرأة أن لا تلد، والدابة إذا لم يغز عليها، والدار جار السوء

(4)

. قال: إنه حسن؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نفى الشؤم والطيرة، فقال:"لا شؤم ولا طيرة". قال: وقيل: لم يسمع الراوي الحديث، وأوله:"إن الجاهلية تقول الشؤم في ثلاث" فحكى

(1)

في الأصل: لصريح رواية ثقات.

(2)

"أعلام الحديث" 2/ 1379 بتصرف.

(3)

"الصحاح" 5/ 1957 مادة: [شأم].

(4)

"التمهيد" 9/ 279.

ص: 512

ما سمع، وقيل: يكون الشؤم لقوم دون قوم.

فصل:

الفأل مهموز، وجمعه: فئول.

قال الخطابي: وإنما صار خير أنواع هذا الباب لأن مصدره عن نطق وبيان، فكأنه خبر

(1)

جاءك عن غيب، وأما سنوح الطير وبروحها فليس فيه شيء من هذا المعنى، وإنما هو تكلف من المتطير، وتعاط لما لا أصل له في نوع علم وبيان؛ إذ ليس للطير والبهائم نطق ولا تمييز يستدل بنطقها على مضمون معانيه، وطلب العلم من غير مظانه جهل، فلذلك تركت واستؤنس بالفأل

(2)

. ومعنى سنوحها وبروحها أن الأول: ما ولاك ميامنه، وذلك إذا مر من مياسرك إلى ميامنك، والعرب تتيمن به، وتتشاءم بالسارح؛ لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى تنحرف إليه. وفي المثل: من لي بالسانح بعد البارح.

فصل:

حكى ابن العربي في تأويل قوله: "لا طيرة" قولين: هل معناه الإخبار عما تعتقده الجاهلية، أو الإخبار عن حكم الله الثابت في الثلاثة؛ بأن الشؤم فيها عادة أجراها الله، وقضاء أنفذه يوجده حيث شاء فيها متى شاء.

قال: والأول ساقط؛ لأن الشارع لم يبعث ليخبر عن الناس ما كانوا يعتقدونه، إنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعلموه ويعتقدوه.

(1)

كذا بالمخطوط، وعند الخطابي (خير).

(2)

"أعلام الحديث" 3/ 2136.

ص: 513

فصل: سلف الوعد به:

روى الترمذي -صحيحًا- عن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يعجبه أن يسمع: يا نجيح، يا راشد

(1)

.

وهذا من التفاؤل.

ولأبي داود عن بريدة أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث (عاملًا)

(2)

سأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهة ذلك في وجهه، وإذا دخل قرية سأل عن اسمها، فإن أعجبه فرح به ورئي بشر ذلك في وجهه، وإن كره اسمها رئي كراهة ذلك في وجهه

(3)

.

وفي رواية: "من عرض له من هذِه الطيرة شيء، فليقل: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله"

(4)

.

(1)

"سنن الترمذي"(1616).

(2)

في هامش الأصل: وفي أصله غلامًا. وهو ما وقع في (ص 2).

(3)

"سنن أبي داود"(3920) قال الألباني في "الصحيحة"(762) وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.

(4)

رواه أحمد في "مسنده" 2/ 220 من طريق ابن لهيعة، عن ابن هبيرة عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا، قال الهيثمي في "المجمع" 5/ 55 فيه: ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجال أحمد ثقات. وصححه الألباني في "الصحيحة" (1065) ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 313 (26402) عن وكيع عن أسامة بن زيد عن نافع بن جبير قال: قال كعب لعبد الله بن عمرو: هل تطير؟ قال نعم قال: فما تقول؟ قال: أقول: فذكره موقوفًا.

ورواه ابن أبي شيبة أيضًا 6/ 111 عن محمد بن الحسن عن مهدي بن ميمون عن غيلان عن ابن عباس موقوفًا.

ص: 514

وروى قاسم بن أصبغ أن بريدة لما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاصد المدينة، قال:"ما اسمك"؟ قال: بريدة. فالتفت إلى أبي بكر، فقال:"برد أمرنا وصلح، ممن"؟ قال: من أسلم. فقال لأبي بكر: "سلمنا". ثم قال: "ممن"؟ قال: من بني سهم. قال: "خرج سهمنا"

(1)

.

وروى ابن صاعد في "مناسكه" عن أبي حدرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الحديبية: "من يسوق إبلنا"؟ فقال رجل: أنا. فقال: "ما اسمك"؟ قال: فلان. قال: "اجلس". فقام آخر، فقال:"ما اسمك"؟ قال: ناجية. قال: "سقها"

(2)

.

وفيه عن يعيش الغفاري قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بناقة، فقال:"من يحلبها"؟ فقام رجل، فقال:"ما اسمك"؟ قال: مرة. قال: "اقعد".

ثم قام آخر، فقال:"ما اسمك"؟ قال: (جمرة)

(3)

. قال: "اقعد". فقام يعيش، فقال:"ما اسمك"؟ قال: يعيش. قال: "احلبها"

(4)

.

(1)

"التمهيد" 24/ 73، "الاستذكار" 27/ 235.

(2)

رواه البخاري في "الأدب المفرد"(812)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 4/ 335، والطبراني في "الكبير" 22/ 353، والحاكم في "المستدرك" 4/ 276 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 47: رواه الطبراني من طريق أحمد بن بشير، عن عمه، ولم أو فيهما جرحًا ولا تعديلاً، وبقية رجاله ثقات، وضعفه الألباني في الضعيفة (4804).

(3)

في الأصل: حمزة.

(4)

رواه الطبراني في "الكبير" 22/ 277 قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 47 إسناده حسن.

ص: 515

ولابن عدي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "إذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا"

(1)

.

وعند الزمخشري: "ليس منا من لطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له"

(2)

.

وفي رواية عن أنس رضي الله عنه مرفوعا: "ويعجبني الفأل الصالح". قالوا: وما الفأل الصالح؟ قال: "الكلمة الطيبة"

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: سمع النبي صلى الله عليه وسلم كلمة فأعجبته فقال: "أخذنا فألك من فيك"

(4)

.

(1)

"الكامل في ضعفاء الرجال" 5/ 509 (1143). وقال الألباني في "ضعيف الجامع"(465): ضعيف جدًا.

(2)

لم أعثر عليه في كتب الزمخشري التي بين يدي وقد رواه الطبراني في "الكبير" 18/ 162 من طريق إسحاق بين الربيع أبي حمزة العطار عن الحسن عن عمران بن حصين مرفوعًا.

قال الهيثمي في "المجمع" 5/ 104: فيه: إسحاق بن الربيع العطاء، وثقه ابن حبان، وضعفه عمرو بن علي، وبقية رجاله ثقات. وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5435).

ورواه الطبراني أيضًا في "الأوسط" 4/ 301 من طريق زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا.

قال الهيثمي في "المجمع" 5/ 117: فيه: زمعة بن صالح، وهو ضعيف.

(3)

"التمهيد" 24/ 192، وهو عند مسلم (2224) بلفظ "ويعجبني الفأل" قال: قيل: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة" كتاب: السلام، باب: الطيرة والفأل، وما يكون فيه من الشؤم. وعند أبي داود (3916) بلفظ:"ويعجبني الفأل الصالح والفأل الصالح الكلمة الحسنة".

(4)

"سنن أبي داود"(3917)، "مسند أحمد" 2/ 388 وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(225).

ص: 516

وقال عروة بن عامر: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله"

(1)

.

وعن قبيصة مرفوعا: "العيافة والطيرة والطرق من الجبت"

(2)

.

فصل:

أخذ مالك بظاهر قوله: "الشؤم في ثلاث" وحمله على ظاهره. قال القرطبي: ولا يظن بمن قال هذا القول أن الذي رخص فيه من الطيرة بهذِه الثلاثة الأشياء (هو على ما كانت الجاهلية تعتقد فيها فإن ذلك خطأ، وإنما يعني بذلك أن هذِه الأشياء)

(3)

أكثر ما يتشاءم الناس به؛ لملازمتهم إياها -ولذلك خصها بالذكر. وقد سلف ذلك، وقد يصح حمله على أعم من ذلك فيدخل فيه الدكان والفندق و (الحارة)

(4)

وغيرها- فمن وقع في نفسه شيء من ذلك فقد أباح الشرع له أن يتركه ويستبدل به غيره مما تطيب به نفسه، ولم يلزمه الشرع أن يقيم في موضع يكرهه أو امرأة يكرهها، بل قد فسح الله له في ترك ذلك كله، لكن مع اعتقاد أن الله هو الفعال لما يريد

(5)

.

(1)

"سنن أبي داود"(3919) وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(199).

(2)

رواه أبو داود (3907) وأحمد 3/ 477، وعبد الرزاق 10/ 403 وابن أبي شيبة 5/ 312 والنسائي في "الكبرى" 6/ 324، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 313، والطبراني في الكبير" 18/ 369، وابن حبان في "صحيحه" 3/ 502، والبيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 139. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (3900).

(3)

ساقط من الأصل.

(4)

في الأصل: (الجارية).

(5)

"المفهم" 5/ 629 - 630.

ص: 517

وأنشد المبرد في "كامله":

لايعلم المرء ليلاً ما يصبحه

إلا كواذب ما يخبر الفال

والفأل والزجر والكهان كلهم

مضللون ودون الغيب أقفال

(1)

وقال صابئ بن الحارث البرجمي هذِه الأبيات:

وما عاجلات الطير تدني من الفتى

نجاحا ولا عن ريثهن يخيب

ورب أمور لا تضيرك ضيرة

وللقلب من مخشاتهن وجيب

ولا خير فيمن لايوطن نفسه

على نائبات الدهر حين تنوب

(2)

وللبيد بن ربيعة:

لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى

ولا زاجرات الطير ما الله صانع

فسلهن إن أحدثن علما متى الفتى

يذوق المنايا أم متى الغيب واقع

ورأى أعرابي في دهليز عبيد الله بن زياد صورة أسد وكلب وكبش، فقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح. فقال: أما -والله- لا يتمتع بهذِه الدار أبدا. فما لبث عبيد الله أياما حتى قتل.

وتفاءل هشام بن عبد الملك بنصر بن سيار فقلده خراسان، فكان بها عشرة أحوال.

ولما سار عامر بن إسماعيل صاحب السفاح في طلب مروان بن محمد اعترضه بالفيوم ناس، فسأل رجلا منهم عن اسمه فقال: منصور بن سعد من سعد العشيرة. فتبسم تفاؤلا به، فظفر بمروان في تلك الليلة

(3)

.

(1)

"الكامل في اللغة والأدب" 1/ 266.

(2)

"الكامل في اللغة والأدب" 1/ 264.

(3)

ذكره الزمخشري في "ربيع الأبرار" باب الفأل والزجر والطيرة ..

ص: 518

وتفاءل المأمون (بنصر)

(1)

بن بسام فكان ذلك سبب مكانته عنده.

وقال بعضهم: خرجت في بغاء ناقة لي ضلت، فسمعت قائلا يقول:

ولئن نعت لنا النعا

ة فما النعاة بواجدينا

فلم أتطير منه ومضيت، فلقيني رجل قبيح الصورة به ما شئت من عاهة، فما ثناني ذلك وتقدمت، فلاحت لي أكمة فسمعت منها: والشر يلقى مطالع الأكم. فلم أكترث له، فلما علوتها وجدت ناقتي تفاجت للولادة فنتجتها وعدت إلى أهلي مع ولدها.

وقال بشير غلام حرب الراوندي للمنصور يوم قتل أبي مسلم: يا أمير المؤمنين، رأيت اليوم ثلاثة أشياء تطيرت لأبي مسلم منها. قال: وما ذاك؟ قال: ركب فوقعت قلنسوته عن رأسه، وكبا به فرسه، وسمعته يقول: إني مقتول وإنما أخادع نفسي، فإذا رجل ينادي في الصحراء: لآخر اليوم آخر الأجل بيني وبينك. فقال المنصور: الله أكبر، ذهب أجله وانقطع من الدنيا أثره. فكان كذلك.

ألا أيها العادي على دين طائر

ليكذبه حزما وليس له حزم

وما لغراب البين بالبين خبرة

ولا لغراب البين بالملتقى علم

(2)

وخرج النابغة الذبياني -واسمه زياد- مع زبان بن سيار الفزاري للغزو، فلما أراد الرحيل نظر إلى جرادة سقطت عليه فقال:

جرادة تجردت وذات

لونين غيري من حرج

فلم يلتفت زبان إلى طيرته وسار فرجع غانما، فقال زبان:

تخير طيرة فيها زياد

لتخبره وما فيها خبير

(1)

كذا في (ص 2)، وتُقرأ في الأصل:(بمنصور) وفي "ربيع الأبرار": بنصر.

(2)

ذكره الزمخشري في "ربيع الأبرار" باب الفأل والزجر والطيرة ..

ص: 519

أم كان لقمان بن عاد

أشار له بحكمته مشير

يعلم أنه لا طير إلا

على متطير وهو البتور

بلى شيء يوافق بعض شيء

أحايينًا وباطله كثير

(1)

(1)

المصدر السابق. وبعض هذِه الأخبار عند الجاحظ في "الحيوان" باب التشاؤم بالغراب، وباب تشبيه الفرس بالجرادة، وفي "رسالة الصاهل والشاجح" لأبي العلاء، و"المعاني الكبير" لابن قتيبة" (باب أبيات المعاني في الغراب).

ص: 520

‌45 - باب لَا هَامَةَ

5757 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ، وَلَا صَفَرَ» . [انظر: 5707 - مسلم: 2220 - فتح 10/ 215]

ذكر فيه حديث أبي حصين وهو بفتح الحاء عثمان بن عاصم، عن أبي صالح وهو ذكوان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عبد الرحمن أو عبد الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا عَدْوى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ، وَلَا صَفَرَ". (وهو من أفراده)

(1)

.

هذا الباب أسقطه ابن بطال وغيره من هنا، وكأنه لتقدمه، ثم ترجم البخاري أيضًا بعد بأبواب بعد قوله: باب الدواء بالعجوة للسحر: باب لا هامة.

ثم ساق الحديث السالف من طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا

(2)

كما سلف.

ثم قال: وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة بعد يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يوردن ممرض على مصح". وأنكر أبو هريرة الحديث الأول. قلنا: ألم تحدث أنه قال: "لا عدوى، ولا طيرة"؟ فرطن بالحبشية. قال أبو سلمة: فما رأيته نسى حديثا غيره

(3)

قلت: ولا أدري ما وجه تكرار الترجمة بعينها، وترجم عليه أيضًا: باب لا عدوى، كما ستعلمه، وقد سلف تفسير الحديث في باب لا صفر

(4)

.

(1)

من (ص 2).

(2)

سيأتي برقم (5770).

(3)

سيأتي برقم (5771).

(4)

سلف برقم (5717).

ص: 521

وقد زعم بعض البدعيين أن قوله: "لا عدوى" يعارض قوله: "لا يورد ممرض على مصح" كما يعارض "فر من المجذوم" وقد سلف في باب الجذام وغيره وجه الجمع

(1)

.

قال الطبري: وليس في قوله: "لا عدوى" خلاف لقوله: "لا يورد ممرض على مصح"، و (ذلك أن)

(2)

قوله: "لا عدوى" إعلام منه أمته أن لا يكون لذلك حقيقة، وقوله:"لا يوردن" نهي منه الممرض أن يورد ماشيته المرضى على ماشية أخيه الصحيح لئلا يتوهم المصح إن مرضت ماشيته الصحيحة أن مرضها حدث من أجل ورود المرضى عليها فيكون داخلا بتوهمه ذلك في تصحيح ما قد أبطله الشارع من أمر العدوى

(3)

، والممرض: ذو الماشية المريضة، والمصح: ذو الماشية "الصحيحة" وقد تأوله يحيى بن يحيى الأندلسي تأويلا آخر، قال: لا يحل من أصابه جذام محلة الأصحاء فيؤذيهم برائحته وإن كان لا يعدو، والأنفس تكره ذلك، قال: وكذلك الرجل يكون به المرض لا ينبغي له أن يحل محل الأصحاء إلا أن لا يجد عنها غنى فيرد، وقد أسلفنا عنه الكلام في الماء.

وقوله: (فرطن بالحبشية). أي: رطن بها، والرطانة: التكلم بالعجمية، (وقد تراطنا)

(4)

. وقوله: بالحبشية، بيان ما نطق به؛ لأن (رطن): تكلم بالعجمية، ولعله أبان عن الأعجمية؛ لأنه يحتمل أن يتكلم بالفارسية أو غيرها من الأعاجم. ورطن بفتح الطاء على وزن ضرب.

(1)

سلف برقم (5707).

(2)

في (ص 2): كذلك.

(3)

"تهذيب الآثار" مسند علي ابن أبي طالب ص 34.

(4)

من (ص 2).

ص: 522

وقول أبي سلمة: فما رأيته نسي حديثا غيره. لعله كان سمع هذا الحديث قبل أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بسط ردائه، ثم ضمه إليه عند فراغي من مقالتي لم ينس شيئا سمعه من مقالتي"

(1)

. وقيل: يريد من "مقالتي" تلك: الذي قال اليوم. وقيل: يحتمل أن يكون حديثه الآخر ناسخا للأول فسكت عن المنسوخ.

(1)

سلف برقم (2047) كتاب: البيوع، باب: ما جاء في قول الله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: 10].

ص: 523

‌46 - باب الكَهَانَةِ

5758 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهْيَ حَامِلٌ، فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، فَقَالَ وَلِىُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ: كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ، وَلَا اسْتَهَلَّ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يَطَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ» . [5759، 5760، 6740، 6904، 6909، 6910 - مسلم: 1681 - فتح 10/ 216]

5759 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَتَيْنِ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ. [انظر: 5758 - مسلم: 1681 - فتح 10/ 216]

5760 -

وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي الْجَنِينِ يُقْتَلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ، فَقَالَ الَّذِي قُضِيَ عَلَيْهِ: كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا أَكَلَ، وَلَا شَرِبَ، وَلَا نَطَقَ، وَلَا اسْتَهَلَّ؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ بَطَلْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ» . [انظر: 5758 - مسلم: 1681 - فتح 10/ 216]

5761 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. [انظر: 2237 - مسلم: 1567 - فتح 10/ 216]

5762 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاسٌ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ:«لَيْسَ بِشَيْءٍ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ

ص: 524

الْحَقِّ، يَخْطَفُهَا مِنَ الْجِنِّيِّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ». قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: مُرْسَلٌ "الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ". ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْدَهُ. [انظر: 3210 - مسلم: 2228 - فتح 10/ 216]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حديث أبي هريرة من طريقين أنه صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، وفي آخره:"إِنَّمَا هذا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ". (وهو من أفراده في الأول، والثاني يأتي في الديات، وأخرجه معه مسلم والنسائي قريبًا في آخر الثاني عن ابن شهاب، عن ابن المسيب أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين. وهذا مرسل، وأخرجه كذلك النسائي

(1)

، وأسنده الإسماعيلي من طريق ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة وقال: أسنده ابن أبي ذئب ويونس، وأرسله مالك وفليح)

(2)

.

ثانيها:

حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الكَاهِنِ. وقد سلف (في البيوع والإجارة والطلاق، وأخرجه مسلم والأربعة)

(3)

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (6904) باب: جنين المرأة، ورواه مسلم (1681) كتاب: القسامة والمحاربين، باب: دية الجنين

، ورواه النسائي 8/ 48، ومرسلاً 8/ 49.

(2)

من (ص 2).

(3)

من (ص 2).

(4)

سلف في البيوع برقم (2237) باب: ثمن الكلب، وفي الإجارة برقم (2282) باب: كسب البغي والإماء وفي الطلاق برقم (5346) باب: مهر البغي والنكاح الفاسد، ورواه مسلم برقم (1567) كتاب: المساقاة.

باب تحريم ثمن الكلب

، وأبو داود (1276)، والترمذي (3428)، والنسائي 7/ 309، وابن ماجه (2159).

ص: 525

ثالثها:

حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاسٌ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ:"لَيْسَ بِشَيْءٍ" .. الحديث. وفي آخره: قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: مُرْسَلٌ "الْكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ". ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَسْنَدَهُ بَعْد. (ويأتي في الأدب والتوحيد، وأخرجه مسلم أيضًا)

(1)

(2)

.

وفي هذِه الأحاديث ذم الكهان، وذم من تشبه بهم في ألفاظهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كره قول ولي المرأة لما أشبه سجع الكهان الذي يستعملونه في الباطل ودفع الحق، ألا ترى أنه أتى بسجعة (سجعها)

(3)

على الشارع في دفع شيء قد أوجبه عليه، فاستحق بذلك غاية الذم وشدة العقوبة في الدنيا والآخرة، غير أنه صلى الله عليه وسلم جبله الله على الصفح عن الجاهلين وترك الانتقام لنفسه فلم يعاقبه في اعتراضه عليه، كما لم يعاقب الذي قال له: إنك لم تعدل منذ اليوم، ولم يعاقب موالي بريرة في اشتراطهم ما يخالف كتاب الله وأنفذ حكم الله في كل ذلك.

فإن قلت: فالسجع كله مكروه؟

قلنا: لا، قد وقع في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"يقول العبد مالي مالي، ومالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأبقيت"

(4)

. نبه عليه ابن النحاس.

(1)

من (ص 2).

(2)

يأتي برقم (6213) باب: قول الرجل للشيء ليس بشيء، ورقم (7561) قراءة الفاجر والمنافق، ومسلم 2228/ 123 كتاب: السلام، باب: تحريم الكهانة.

(3)

في (ص 2): (متبجحا).

(4)

رواه مسلم (2958) كتاب: الزهد والرقائق.

ص: 526

فصل:

قوله: (فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصابت بطنها وهي حامل فقتلت ولدها فقضى فيه بالغرة). فصلت المالكية فقالوا: إذا ضربها في بطنها وخرج الجنين بعد حيا ثم مات بعد أن استهل فعليه القود عند ابن القاسم، خلافا لأشهب، وإن ضربها في ظهرها فعليه القود عند ابن القاسم، وإن ضرب رأسها فخلاف بين ابن أبي زيد وأبي موسى بن مياس، فألحقه الأول بالرجل واليد، وألحقه الثاني بالبطن والظهر

(1)

.

فصل:

قوله: (فقتلت جنينها الذي في بطنها). وقال بعد: فطرحت جنينها. يريد ميتا، كما فسره في مسلم.

فصل:

قال كافة العلماء بالغرة، وخالف فيه قوم فقالوا: لا شيء فيه؛ حكاه في "المعونة"

(2)

، وهو منابذ للنص فلا يلتفت إليه.

فصل:

الغرة: الخيار، فعبر عن الجسم كله بها، قال مالك: الحمران أحب إلى من السودان. يريد البيض، فإن لم يكن في البلد فالسود؛ قاله الأبهري.

وقال أبو عمرو بن العلاء: لا يؤخذ إلا من البيض؛ لقوله: غرة، وإلا لقال عبدًا أو وليدةً.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 13/ 466، 467.

(2)

"المعونة" 2/ 292.

ص: 527

فصل:

قال مالك عن ربيعة: يقوم بخمسين دينارا أو ستمائة درهم.

قال أشهب: ولا يؤخذ من أهل الإبل غيرها كالدية وهي خمس فرائض: بنت مخاض، وبنت لبون، وابن لبون، وحقة، وجذعة

(1)

.

وفي "المدونة": لا تؤخذ الإبل

(2)

.

وقال ابن القاسم: تؤخذ من أهل الإبل، والعين من أهله.

وقال أشهب: كل جنس عليهم كسبهم

(3)

.

وقال عيسى: القاتل مخير بين إعطاء غرة قيمتها ما سلف، أو يعطي الدراهم أو الدنانير.

ونقل ابن شعبان في "زاهيه" عن بعض أصحابهم أن الغرة أيضًا: الخيل.

فصل:

قوله: (غرة عبد أو أمة). يروى بالتنوين والإضافة، وعزي الأول إلى سائر رواة "الموطأ"

(4)

، ورواية ("بغرة عبد أو وليدة")

(5)

يحتمل -كما قال ابن التين- أن يكون شكا من الراوي، لكن مالكا قال: أو وليدة، قال: وهذا المعول عليه، زاد الشعبي: أو مائة وعشرين من الشاء. وقال مرة: قيمتها مائة من الغنم. زاد طاوس: أو فرس، وهو يؤيد ما سلف، (وجاء: أو فرس أو بغل.

(1)

"الموطأ" ص 534.

(2)

"المدونة" 4/ 484.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 3/ 463: 466 بتصرف.

(4)

"الموطأ" ص 533.

(5)

في الأصل: (بعبد أو وليدة).

ص: 528

قال البيهقي: وهي زيادة غير محفوظة وإن أخذ بها بعض السلف

(1)

.

وقال ابن القطان: صحيحة لضعف الاعتلال

(2)

.

قلت: وأخرجها ابن حبان في "صحيحه" من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة

(3)

(4)

.

فصل:

وقوله: (فقال ولي المرأة التي غرمت كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل) .. إلى آخره. يريد من لم يشرب ولم يأكل، مثل قوله تعالى:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} .

فصل:

هذا دليل على أن الجانية غرمت الغرة وحدها، قال ابن التين: وهو مشهور مذهب مالك، وعنه أنها على العاقلة؛ لأنها دية، وبه قال الشافعي، وحجته رواية البخاري (فقال الذي قضي عليه: كيف أغرم .. ؟) إلى آخره، و (الذي قضي عليه) رجل من العصبة.

فصل:

وقوله: (بطل). روي بالموحدة وبالمثناة تحت، أي يهدر ولا تكون فيه دية.

قال الخطابي: والذي سمعت الأول.

(1)

"سنن البيهقي" 8/ 114.

(2)

"بيان الوهم والإيهام" 5/ 459.

(3)

من (ص 2).

(4)

"صحيح ابن حبان" 13/ 374.

ص: 529

قال صاحب "الأفعال": طَل الدم وطُل: إذا هدر

(1)

، قال الشاعر:

وما مات منا ميت في فراشه

ولا طل منا حيث كان قتيل

وقد قيل: أطل الدم، بمعنى طل، ولم يعرفه الأصمعي.

(قال أبو زيد: طُل دمه فهو مطلول، وأطل دمه)

(2)

وطله الله وأطله، قال: ولا يقال طل دمه بالفتح، وأبو عبيدة والكسائي يقولانه، قال أبو عبيدة: فيه ثلاث لغات: طُل دمَه وطَل دمُه وأطل دمه

(3)

.

وقال ابن دريد: أهل الحديث يقولونه بالباء وهو تصحيف، وإنما هو بالياء.

فصل:

معنى استهل: صاح عند الولادة وهو البكاء.

فصل:

قد أسلفنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يعبه لأجل السجع، إنما كره سجعه بالباطل؛ لأن الكهان يموهون أباطيلهم بالأسجاع فيظن أن تحتها حقا وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم:"قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". وسلف غيره أيضًا

(4)

.

فصل:

واختلف فيمن يرث الجنين، فقال مالك: هي موزونة على فرائض الله. وقال أيضًا: هو كبضعة من أمه ترثه وحدها. وقال أيضًا: هو بين

(1)

"الأفعال" لابن القوطية ص 116.

(2)

من (ص 2).

(3)

"غريب الحديث" 1/ 297.

(4)

سلف برقم (2168) كتاب: البيوع، باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل.

ص: 530

أبويه، الثلثان للأب، وللأم الثلث. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وأيهما خلا به فهو له. كذا في ابن التين، وإنما يخلو به الأب إذا ماتت المرأة من الضرب، ثم خرج الجنين ميتا، على قول أشهب والشافعي، وأما ابن القاسم فيقول: لا شيء فيه؛ لأنه مات بموت أمه، وتخلو به الأم إذا مات الأب قبل أن تطرحه. كذا فيه أيضًا.

فصل:

واحتجاج العلماء بهذا الحديث وهو (سببها قضية في عين معلوم بشخصها)

(1)

فعدوها، وهو كرجم ماعز لما علم سببها، فالعلم بالسبب كالتعليل، يرد إليه ما شابهه، وهذا فعل من يقول بالقياس في الأحكام على العلل، وهو كثير.

فصل:

استدل أبو سعيد الهروي

(2)

بهذا الحديث على صحة قول مالك أن الرجل والمرأة سواء في عقل الجراح حتى تبلغ دية جرح المرأة بثلث دية الرجل، فيكون حينئذ للمرأة نصف ما للرجل، ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة، ولم يفصل بين الذكر والأنثى؛ لأنه قليل من

(1)

من (ص 2)، وفي الأصل:(عين معلوم سببها).

(2)

هو أبو سعد يحيى بن منصور الهروي وقيل: أبو سعيد ولد سنة 215 هـ. سمع من: علي بن المديني، أحمد بن حنبل، وابن راهويه.

حدث عنه: عبد الصمد الطستي، وأبو بكر أحمد بن خلف، وأبو بكر الشافعي. قال أبو بكر الخطيب: توفي بهراة في سنة 287 هـ قال: وكان ثقة، حافظًا، زاهدًا. قال الذهبي: بل الصحيح وفاته في ذي الحجة، سنة 292 هـ.

من مصنفاته: "أحكام القرآن"، "شرف النبوة"، "الإيمان " انظر:"تاريخ بغداد" 14/ 225، "طبقات الحنابلة" 2/ 544 (537)، "المنتظم" 6/ 26، "سير أعلام النبلاء" 13/ 570 (293).

ص: 531

الدية، فكذا ما حل محله في كونه قليلا دون الثلث، فالذكر والأنثى فيه سواء، فإذا بلغ الثلث صار كثيراً؛ لقوله:"الثلث والثلث كثير". وليس ظاهرًا لما استدل له.

فصل:

النهي عن ثمن الكلب عندنا على العموم، وقال ابن التين: قيل: هو على كلب الدور، وقيل: على العموم.

و (البغي): الزانية، سمي ما يعطى لها مهرا من كونه قوبل بالوطء، وإلا فلا مهر لها.

و (حلوان الكاهن): ما يعطاه على كهانته، وقام الإجماع على تحريمه؛ لأنهم يأخذون أجرة ما لا يصلح فيه أخذ عوض، وهو الكذب الذي يخلطونه مع ما يسترقه الجني، فيفسدون تلك الكلمة بمائة كذبة أو أكثر، كما جاء في بعض الروايات، فلا ينبغي أن يلتفت إليهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"ليسوا بشيء".

وقد جاء فيمن أتى الكهان آثار شديدة، فروينا من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد برئ من محمد صلى الله عليه وسلم "

(1)

.

وأخرجه ابن جرير بلفظ: "فقد كفر"

(2)

، بدل:"برئ".

(1)

رواه أحمد في "مسنده" 2/ 408، وابن الجارود في "منتقاه"(107) وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5942).

(2)

رواه الترمذي في "سننه"(135) والحاكم في "المستدرك" 1/ 8 وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما.

قال الشيخ أحمد شاكر: وهذا إسناد صحيح متصل: "سنن الترمذي"(135).

ص: 532

وروى أيضًا بإسناده من حديث عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ولم ينظر الله إليه أربعين ليلة"

(1)

.

فصل:

قوله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني". بينه في الخبر الآخر: "إذا قضى الله الأمر تكلم به حملة العرش، فيسمعه الذين يلونهم ثم الذين يلونهم إلى الملائكة، فتسترق الجنة السمع بعضهم فوق بعض، فيقذفون بالشهب، فربما ألقى الأعلى الكلمة إلى من دونه قبل أن يصيبه الشهاب فيلقيها الجني إلى الكاهن، فيخلط معها مائة كذبة أو أكثر". كما ذكرنا

(2)

.

وقوله: "فيقرها في أذن وليه". ضبط بضم الياء وكسر القاف على أنه رباعي من أقر، قال ابن التين: وكذا قرأناه. وقال الجوهري: قررت على رأسه دلوا من ماء، أي: صببته. قال: وقر الحديث في أذنه يقره كأنه صب فيها

(3)

. وقال ابن الأعرابي: القر: ترديد الكلام في أذن الأبكم حتى يقضيه

(4)

(5)

. ومن رواه: "كقر الدجاجة" أراد صوتها إذا قطعته، يقال: قرت الدجاجة تقر قرا وقريرا، فإن رددته قلت: قد قرت قرقرة.

(1)

"المعجم "الأوسط" 9/ 76، وهو في مسلم (2230) كتاب: السلام، باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان. عن صفية، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي وليس فيهما زيادة (ولم ينظر الله إليه أربعين ليلة).

(2)

سلف برقم (3210) كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة.

(3)

"الصحاح" 2/ 790 مادة (قرر).

(4)

كذا بالمخطوط، وفي "تهذيب اللغة"(حتى يفهمه).

(5)

"تهذيب اللغة" 3/ 2923 مادة (قرر).

ص: 533

‌47 - باب السِّحْرِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} إلى قوله: {مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه: 69]. وَقَوْلِهِ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء: 3]. وَقَوْلِهِ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ} [طه: 66]. وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} [الفلق: 4]، وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ. {تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89]: تُعَمَّوْنَ.

5763 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ -أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ- وَهْوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ:«يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ» . فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ:«يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أَسْتَخْرِجُهُ؟ قَالَ:«قَدْ عَافَانِي اللهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا» . فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ.

تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ:"فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ". يُقَالُ: الْمُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ، وَالْمُشَاقَةُ مِنْ مُشَاقَةِ الْكَتَّانِ. [انظر: 3175 - مسلم: 2189 - فتح 10/ 221]

ص: 534

وقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} إلى قوله: {مِنْ خَلَاقٍ} وقوله تعالى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} وقوله: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} وقوله: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وقوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} والنفاثات: السواحر. وقوله: {تُسْحَرُونَ} : يعمون.

قلت: وحكى الثعلبي: {فأنى تسحرون} : تخدعون وتصرفون عن توحيده وطاعته.

وقال ابن عطية: السحر هنا مستعار، وهو تشبيه لما وقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال عن موضعها بما يقع من المسحور، عبر عنه بذلك.

وقالت فرقة: {تسحرون} يمنعون

(1)

.

ثم ساق حديث عِيسَى بْن يُونُسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجُلٌ مِنْ بَنِي زُريقٍ .. الحديث بطوله.

ثم قال: تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَأَبُو ضَمْرَةَ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ. وَقَالَ اللَّيْثُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامٍ:"في مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ". يُقَالُ: المُشَاطَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الشَّعَرِ إِذَا مُشِطَ، وَالْمُشَاقَةُ مِنْ مُشَاقَةِ الكَتَّانِ.

وذكر الدارقطني في "علله" من هذِه المتابعات متابعة الليث وابن عيينة وأبي أسامة وأبي ضمرة، وأسند البخاري متابعة أبي أسامة قريبًا في باب السحر أيضًا عن عبيد بن إسماعيل عنه

(2)

، وأبي ضمرة عن

(1)

"المحرر الوجيز" 10/ 393.

(2)

سيأتي برقم (5766).

ص: 535

إبراهيم بن المثنى عنه، وابن عيينة عن عبد الله بن محمد عنه. والحديث سلف في الجهاد

(1)

مع الجواب عن اعتراض الملحدين عليه. ثم السحر له حقيقة عندنا وعند مالك وأبي حنيفة، وقد يمرض من يفعل به ويموت خلافا لمن نفاه وقال إنه تخييل وشعوذة، والحجة عليه هذِه الآية؛ لأنه جعلهم كفرة بتعليمه، فثبت أن له حقيقة، فإذا تاب قبلت توبته عندنا، خلافا لمالك، قال: ولا يستتاب، وإن قال: تبت فلا تقبل منه، قالوا: لأنه مستسر فلم تقبل كالزنديق؛ ولأن علمه به وفعله له كفر عملا بالآية السالفة، فلا تكفر (أي: بتعلمه والآلام الحاصلة بفعل الله، واعتقاد أنه من فعله وأنه قادر عليه كفر)

(2)

. وبقول مالك قال أحمد، وروي قتله عن عمر وعثمان وابن عمر وحذيفة وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين.

وقال الشافعي: لا يقتل إلا أن يقتل بسحره. وروي عنه أيضًا أنه يسأل عن سحره، فإن كان كفرا استتيب منه. وعن مالك: فإن جاء الساحر أو الزنديق تائبا قبل أن يشهد عليهما بذلك قبلت توبتهما، والحجة لذلك قوله تعالى:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} فدل على نفعه قبله، فكذا هذان. وقال مالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها: تنكل ولا تقتل.

وقرأ الحسن وابن عباس: (وما أنزل على الملِكَين)، بكسر اللام

(3)

.

(1)

سلف برقم (3175) باب: هل يعفى عن الذمي إذا سحر.

(2)

من (ص 2).

(3)

انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية 1/ 417، وهي قراءة شاذة.

ص: 536

والحديث يدل على أنهما من الملائكة، وأبعد من قال: إن (ما) في {وَمَا أُنْزِلَ} نافية، وهو مذهب علي بن سليمان، وقال: المعنى: وما أنزل السحر على الملكين، ويكون {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} أن يعلما ولم ينزل عليهما، ولا يصح، كما قاله الزجاج؛ لأن ما جاء في الحديث والتفسير في قصة الملكين أشبه.

وقال غيره: لم يتقدم أحد قال هذا، ولا ما يدل عليه فينفى، والحجة لمن قاله أن تكون الشياطين قالت ذلك.

قال أبو إسحاق: ومن جعل (ما) جحدًا جعل هاروت وماروت من الشياطين وجمعا على الجنس، أو لأن التثنيه جمع.

وقال الحسن: هاروت وماروت علجان من أهل بابل

(1)

.

وقال علي: الملكان يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء. وعلى هذا أكثر اللغويين.

فصل:

زريق بتقديم الزاي على الراء.

وقوله: ("أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته"). أي: أجابني فيما دعوته، سمى الدعاء استفتاء لأن الداعي طالب والمجيب مسعف، فاستعير أحدهما للآخر.

وقوله: ("جاءني رجلان"). أي: ملكان في صورة رجلين، وظاهره يقتضي أن يكون يقظة، وإن كان مناما فرؤياه وحي.

وقوله: ("ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبه؟ ")

(1)

ذكره ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" ص 270، ورواه ابن أبي حاتم في "التفسير" 1/ 189 عن الضحاك.

ص: 537

مطبوب، أي: مسحور، وطبه: سحره، وقيل: كنى عنه كما كنى عن اللديغ بسليم، قاله الفراء، وطبه بفتح الطاء وقد سلف أنه مثلث، وفي "الصحاح": والطَب والطُب لغتان في الطب

(1)

.

وقوله: "في مشط ومشاطة". المشط بضم الميم و (سكون)

(2)

الشين المعجمة وضمها وبكسر الميم وسكون الشين وممشط و (مشقأ) بالهمز وتركه ومشقاء ممدود وملد ومرجل وقيلم بفتح القاف؛ ذكره الزاهد في "يواقيته". والمشط: بيت صغير يقال له مشط الذئب، والمشط: سلاميات ظهر القدم، ومشط الكتف: العظم العريض. فله عدة معان على غير الآلة المعروفة.

وقال القرطبي: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم سحر في أحد هؤلاء الأربعة

(3)

.

وقال ابن سيده في "محكمه": والمشط: سمة من سمات البعير تكون في العين والخد والفخذ، والمشط: سبحة فيها أسنان وفي وسطها هراوة يقبض عليها ويعطى بها الحب

(4)

.

وأما الجف فبجيم مضمومة ثم فاء، وهذا هو المشهور. وقال أبو عمر: روي بالباء الموحدة. قال الهروي: أي: في جوفه. وقال: وجف البئر: جوانبها، وهو من أعلاها إلى أسفلها.

وقال النووي: أكثر نسخ بلادنا عليه، وفي بعضها بالفاء، وهما بمعنى واحد وهو الغشاء الذي يكون على الطلع، وإذا انشق الجف ظهر، ويطلق على الذكر والأنثى، ولهذا قيد في الحديث بقوله:("طلعة ذكر")، بإضافة (طلعة) إلى (ذكر)

(5)

.

(1)

"الصحاح" 1/ 170 (طبب).

(2)

في (ص 2): (كسر).

(3)

"المفهم" 5/ 572.

(4)

"المحكم" 8/ 21.

(5)

"شرح مسلم" 14/ 177.

ص: 538

وذكر القرطبي أن الذي بالفاء هو وعاء الطلع هو الغشاء الذي يكون عليه، وبالباء قال شمر: أراد به داخل الطلعة إذا خرج منها (الكُفُرى)

(1)

، كما يقال: لداخل الرَّكِيَّة

(2)

من أسفلها إلى أعلاها جب، وقد قيل فيه: إنه من القطع؛ يعني: ما قطع من قشورها

(3)

، وعبارة ابن بطال: قال المهلب: الجف: غشاء الطلع. وقال أبو عمرو الشيباني: شيء يند من جذوع النخل.

فصل:

قوله: ("في بئر ذروان"). كذا في البخاري، وفي بعض نسخه:"ذي أروان"، وهو ما في مسلم

(4)

.

وقال القتبي عن الأصمعي: إنه الصواب، وهو واد بالمدينة في بني زريق من الخرزج. وفي الدعوات منه: ذروان في بني زريق

(5)

. وعند الأصيلي عن أبي زيد: ذي أوان، من غير راء، وهو وهم كما قاله في "المطالع"، إنما ذو أوان موضع آخر على ساعة من المدينة، وبه بني مسجد الضرار.

وقال ابن التين: ذروان ضبط في بعض الكتب بفتح الراء، وهو الذي قرأته، وفي بعضها (بسكونها)

(6)

، وهو أشبه في العربية؛ لأن حروف العلة إذا تحركت وانفتح ما قبلها قلبت ألفا.

(1)

الكُفُرى: وعاء طلع النحل انظر "الجمهرة" لابن دريد 2/ 786.

(2)

"الرَّكِيَّة": البئر وجمعها: ركيُّ وركايا كما في "الصحاح" 6/ 2361.

(3)

"المفهم" 5/ 572.

(4)

مسلم 2189/ 43.

(5)

سيأتي برقم (6391) باب: تكرير الدعاء.

(6)

في الأصل: بكسرتها.

ص: 539

وفي كتاب البكري: قال القتبي: هي بئر أروان، بالهمز مكان الذال.

وقال الأصمعي: وبعضهم يخطئ فيقول: ذروان.

فصل:

قوله: (كأن ماءها نقاعة الحناء). هو بضم النون ثم قاف. والحناء ممدود جمع حناءة، ونقاعتها حمراء، أخبر صلى الله عليه وسلم بلون مائها.

وقال الداودي: هو الماء الذي يكون من غسالة الإناء الذي تعجن فيه الحناء.

وقوله: ("كرهت أن أثور على الناس شرا"). قيل: إن السحر إذا خرج تعلمه من لا يتقي الله. وقيل: إن لبيدا منافق، فربما احتمى له قومه إن هو طولب. وقيل: إنه حليف ليهود، وهو ما في البخاري، وللنسائي: رجل من اليهود.

وقال ابن الجوزي: وهذا يدل على أنه كان أسلم وهو منافق.

قال الداودي: وفيه أنه يخشى من السحر إذا استخرج على سائر الناس، وأن دفنه يذهب مضرته. قال: وقوله: "كأن رءوس نخلها رؤوس الشياطين". يعني: أن السحر عمل في النخل حتى صار أعلاها وأعلا طلعها كأنه رؤوس دابة ذلك وهي الحيات.

وقال الفراء في الآية من العربية ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يشبه طلعها في قبحه برؤوس الشياطين؛ لأنها (موصوفة)

(1)

بالقبح.

(1)

في الأصل: موضوعة.

ص: 540

ثانيها: أن العرب تسمي بعض الحيات شيطانا، وهو معروف قبيح الوجه.

ثالثها: يقال إنه نبت قبيح يسمى بذلك

(1)

. قال غيره: وهو باليمن يقال له (الأسربات)

(2)

.

فإن قلت: كيف شبه بها ونحن لم نرها؟

قلت: على من قال هي نبت أو حيات ظاهر، وعلى الثالث أن المقصود ما وقع عليه التعارف من المعاني، فإذا قيل: فلان شيطان، فقد علم أن المعنى: أنه خبيث قبيح، والعرب إذا قبحت مذكرا شبهته بالشياطين، وإذا قبحت مؤنثا شبهته بالغول، ولم ترها.

والشيطان نونه أصلية، ويقال: زائدة.

فائدة:

قال القرطبي: هذِه الأرض التي فيها النخيل والبئر خراب لا تعمر لرداءتها فبئرها معطلة ونخيلها مهملة.

أخرى:

تغير ماء البئر إما لردائته وطول إقامته وإما لما خالطه ما ألقي فيه

(3)

.

(1)

"معاني القرآن" 2/ 387.

(2)

كذا بالأصل وغير منقوطة.

(3)

"المفهم" 5/ 573.

ص: 541

‌48 - باب الشِّرْك وَالسِّحْر مِنَ الْمُوبِقَاتِ

5764 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ» . [انظر: 2766 - مسلم: 89 - فتح 10/ 232]

ذكر فيه حديث ثَوْرِ بْنِ زيدٍ، عَنْ أَبِي الغَيْثِ، واسمه: سالم مولى عبد الله بن مطيع، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اجْتَنِبُوا السبع المُوبِقَاتِ، الشِّرْكُ باللهِ، وَالسِّحْرُ".

هذا الباب حذفه ابن بطال وغيره، وحذف الحديث أيضًا لكونه سلف (في الوصايا)

(1)

، وثور بن زيد هذا أخرج له مسلم، وثور بن زيد الشامي من أفراد البخاري والله أعلم.

(1)

من (ص 2).

ص: 542

‌49 - باب هَلْ يَسْتَخْرِجُ السِّحْرَ

؟

وَقَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أَوْ يُؤَخَّذُ عَنِ امْرَأَتِهِ، أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟. قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِصْلَاحَ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ.

5765 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي آلُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ فَسَأَلْتُ هِشَامًا عَنْهُ، فَحَدَّثَنَا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُحِرَ حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ. قَالَ سُفْيَانُ: وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ إِذَا كَانَ كَذَا. فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَعَلِمْتِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلآخَرِ: مَا بَالُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ حَلِيفٌ لِيَهُودَ، كَانَ مُنَافِقًا. قَالَ: وَفِيمَ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ. قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، تَحْتَ رَعُوفَةٍ، فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ» . قَالَتْ: فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبِئْرَ حَتَّى اسْتَخْرَجَهُ فَقَالَ: «هَذِهِ الْبِئْرُ الَّتِي أُرِيتُهَا، وَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، وَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» . قَالَ: فَاسْتُخْرِجَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: أَفَلَا؟ أَيْ تَنَشَّرْتَ. فَقَالَ: «أَمَا وَاللهِ فَقَدْ شَفَانِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ شَرًّا» . [انظر: 3175 - مسلم: 2189 - فتح 10/ 232]

ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها في سحره صلى الله عليه وسلم بطوله.

ومعنى (طب) أي: سحر، كنوا به عنه، و (يؤخَّذ عن امرأته) مشدد الخاء، أي: يحبس عنها حتى لا يصل إلى جماعها، والأُخذة -بضم الهمزة: رقية الساحر. وقوله: (أو ينشر) بفتح الشين مشددة، أي: يرقى؛ لأن النشير: الرقية. وقد سئل عن النشرة. فقيل: من عمل

ص: 543

الشيطان، وهي ضرب من الرقى والعلاج يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن، وقال الحسن: إن النشرة من السحر

(1)

، وقد نشرت عنه تنشيرا، وفي الحديث: هلا تنشرت؟ ويأتي.

و (راعوفة) البئر وأرعوفتها: حجر ناتئ على رأسها لا يستطاع قلعه يقوم عليه المستقي، ويقال هو في أسفلها. قاله ابن سيده

(2)

، وقدمه ابن بطال على الأول

(3)

، وقال أبو عبيد: هي صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت تكون باقية هناك، فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقي فوقها. وقيل: هو حجر ناتئ في بعض البئر صلبًا لا يمكنهم حفره فيترك على حاله

(4)

.

وقال الأزهري في "تهذيبه": عن شمر عن خالد: راعوفة البئر: النطَّافة، قال: وهي مثل عين على قدر جحر العقرب يبض في أعلى الركية، فيجاوزونها في الحفر خمس قِيَم فأكثر، فربما وجدوا ماء كثيرا تبجسه، قال شمر: من ذهب بالراعوفة إلى النطَّافة فكأنه أخذه من رعاف الأنف، وهو: سيلانُ دمِه وقطرانُه، ويقال ذلك سيلان الذنين، ومن ذهب بها إلى الحجر الذي يتقدم طي البئر على ما ذكر عن الأصمعي، فهو من رعف الرجل أو الفرس إذا تقدم وسبق، وكذلك استرعف

(5)

.

وادعى (ابن التين)

(6)

أرعوفة، وفي أكثر الروايات: رعوفة، وأن

(1)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 39.

(2)

"المحكم" 2/ 86 (عرف).

(3)

"شرح ابن بطال" 9/ 446.

(4)

"غريب الحديث" 1/ 354.

(5)

"تهذيب اللغة" 2/ 1427 (رعف).

(6)

في (ص 2): أن البئر.

ص: 544

عند الأصيلي: راعوفة، وهو ما رأيناه في الأصول، قال: والذي ذكر أهل اللغة أن فيها لغتين: راعوفة وأرعوفة بالضم، ثم حَكى الاختلاف فيها هل هي صخرة في أسفل البئر إذا احتفرت يجلس عليها المنقي، سميت بذلك لتقدمها وبروزها من قولهم: جاء فلان يرعف الخيل أي: يتقدمها، أو في جنبه لا يقدر الحافر قلعها فيتركها؟.

فصل:

قال المهلب وقع هنا: فاستخرج السحر، ووقع في باب السحر: أفلا استخرجته، (فأمر بها)

(1)

، قال:("قد عافاني الله") فدفنت، وهو اختلاف من الرواة، ومدار الحديث على هشام بن عروة، وأصحابه مختلفون في استخراجه، فأثبته سفيان في روايته من طريقين في هذا الباب، وأوقف سؤال عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة، ونفى الاستخراج عيسى بن يونس، وأوقف سؤالها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستخراج، ولم يذكر أنه جاوب عن الاستخراج بشيء، وحقق أبو أسامة جوابه صلى الله عليه وسلم إذ سألته عائشة عن استخراجه بلا. ولا ذكر النشرة، والزيادة من سفيان مقبولة؛ لأنه أثبتهم، وقوي ثبوت الاستخراج في حديثه لتكرره فيه مرتين، فبَعُد من الوهم فيما حقق من الاستخراج، وفي ذكره النشرة في جوابه عليه السلام مكان الاستخراج، وفيه وجه آخر يحتمل أن يحكم بالاستخراج لسفيان ويحكم لأبي أسامة بقوله: لا، على أنه استخرج الجف بالمشاقة، ولم يستخرج صورة ما في الجف من المشط وما ربط به؛ لئلا يراه الناس فيتعلمون إن أرادوا استعمال السحر، فهو عندهم مستخرج من البئر وغير مستخرج من الجف.

(1)

من (ص 2)، وعلم عليها في الأصل: (لا

إلى).

ص: 545

فصل:

اختلف السلف هل يُسأل الساحر عن حل السحر (عن المسحور)

(1)

، فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخاري، وكرهه الحسن البصري وقال: لا يعلم ذلك إلا ساحر، ولا يجوز إتيان الساحر؛ لما روى سفيان عن أبي إسحاق عن هبيرة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من مشي إلى كاهن أو ساحر فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد

(2)

.

قال الطبري: وليس ذلك عندي سواء، وذلك أن مسألة الساحر عقد السحر مسألة منه أن يضر من لا يحل ضره، وذلك حرام، وحل السحر عن المسحور نفع له، وقد أذن الله لذوي العلل في العلاج من غير حصر معالجتهم منها على صفة دون صفة، فسواء كان المعالج مسلما تقيا أو مشركًا ساحرًا، بعد أن يكون الذي يتعالج به غير محرم، وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعالج وأمر به أمته، فقال:"إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله"

(3)

فسواء كان علم ذلك وحله عند ساحر أو غير ساحر، وأما معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن إتيان السحرة فإنما ذلك على التصديق لهم فيما يقولون على علم ممن أتاهم بأنهم سحرة أو كهان، فأما من أتاهم لغير ذلك وهو عالم به وبحاله فليس بمنهي عنه ولا عن إتيانه.

(1)

ليست في الأصل.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 41.

(3)

رواه أحمد 1/ 377، وهو في "الصحيحة"(1650) وسلف.

ص: 546

فصل:

اختلفوا في النشرة أيضًا، فذكر عبد الرزاق، عن عقيل بن معقل عن همام بن منبه قال: سئل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النشرة فقال: من عمل الشيطان.

وقال عبد الرزاق: قال الشعبي: لا بأس بالنشرة العربية التي لا تضر إذا وطئت، وهي أن يخرج الإنسان في موضع عضاه فيأخذ عن يمينه وشماله من كلٍ، ثم يدبغه ويقرأ فيه ثم يغتسل به، وفي كتب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي وذوات {قُلْ} ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل عاهة إن شاء الله، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله

(1)

، وقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(أفلا). أي: تنشرت دال على جوازها كما قال الشعبي، وأنها كانت معروفة عندهم لمداواة السحر وشبهه، ويدل قوله:("أما الله فقد شفاني") وتركه الإنكار على عائشة على جواز استعمالها لو لم يشفه الله، فلا معنى لقول من أنكرها.

وقال القزاز: النشرة: الرقية، وهي كالتعويذ وهو التنشير، وفي الحديث أنه قال:("فلعل طبا أصابه")، يعني سحرا، ثم نشره بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} أي رقاه. وقال الداودي: قولها (فهلا تنشرت)، تعني: يغتسل بماء أو يعوذ نفسه.

(1)

"المصنف" 11/ 13 (19762، 19763).

ص: 547

‌50 - باب السِّحْرِ

5766 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهْوَ عِنْدِي دَعَا اللهَ وَدَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ:«أَشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ أَنَّ اللهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟» . قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «جَاءَنِي رَجُلَانِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، اليَهُودِيُّ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ. قَالَ: فِيمَا ذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ» . قَالَ: فَذَهَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْبِئْرِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ:«وَاللهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَأَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ:«لَا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِيَ اللهُ وَشَفَانِي، وَخَشِيتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ مِنْهُ شَرًّا» . وَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ. [انظر: 3175 - مسلم: 2189 - فتح 10/ 235]

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا، وفيه:"فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ".

وقد سلف الكلام عليه، قال عياض: بئر ذروان، كذا جاء في الدعوات

(1)

. وغيره للبخاري، وعند مسلم

(2)

كما في البخاري هنا، وقال القتبي: عن الأصمعي أنه الصواب

(3)

، وينظر في سر تكرار البخاري الترجمة المذكورة في موضعين، والله أعلم.

(1)

"إكمال المعلم " 7/ 91.

(2)

مسلم (2189) كتاب: السلام، باب: السحر.

(3)

"غريب الحديث" 1/ 419، وانظر:"مشارق الأنوار" 1/ 275، و"إكمال المعلم" 7/ 91.

ص: 548

‌51 - باب مِنَ الْبَيَانِ سِحْر

5767 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ المَشْرِقِ، فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا" أَوْ: "إِنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ لَسِحْرٌ". [انظر: 5146 - فتح 10/ 237]

ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قال: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ المَشْرِقِ، فَخَطَبَا، فَعَجِبَ النَّاسُ لِبَيَانِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا" أَوْ: "إِنَّ بَعْضَ البَيَانِ لَسِحْرٌ".

هذا الحديث سلف في النكاح

(1)

، ولا بأس بإعادة نبذة منه، قال ابن بطال: والرجلان هما: عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر

(2)

، وقال ابن التين: أحدهما الأهتم. روى حماد بن زيد عن محمد بن الزبير قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو:"أخبرني عن الزبرقان" قال: (هو مطاع في ناديه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. قال الزبرقان)

(3)

: هو والله يا رسول الله يعلم أني أفضل منه، ولكنه حسدني شرفي فقصر بي. قال عمرو: إنه لزمر المروة، لضيق العطن، أحمق الأب، لئيم الخال، يا رسول الله صدقت في الأولى وما كذبت في الأخرى، ولكني رضيت فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلت أسوأ ما علمت. فقال صلى الله عليه وسلم:"إن من البيان لسحرا".

(1)

سلف برقم (5146) باب: الخُطبة.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 446.

(3)

هو من (ص 2).

ص: 549

(وقال ابن بشكوال في "غوامضه": رواه أكثر رواة "الموطأ" مرسلا ليس فيه ابن عمر

(1)

. ثم قال: الرجلان: عمرو والزبرقان. ثم استشهد له من طريق الدارقطني من حديث الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: اجتمع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم التميميون، فقام الزبرقان فقال: يا رسول الله، أنا سيدهم والمطاع فيهم والمجاب منهم، آخذ منهم حقوقهم وأمنعهم من الظلم، وهذا يعلم ذلك. يعني: عمرو بن الأهتم. فقال عمرو: إنه لشديد العارضة مانع لجانبه، مطاع في (ناديه)

(2)

. فقال الزبرقان: والله لقد كذب يا رسول الله، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد. فقال عمرو: أنا أحسدك؟ فوالله إنه لئيم الخال حديث المال أحمق الولد مبغض في العشيرة، والله يا رسول الله ما كذبت فيما قلت آخرًا، ولكني رجل رضيت فقلت أحسن ما عملت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت. فقال صلى الله عليه وسلم .. الحديث)

(3)

.

واختلف العلماء في تأويله، فقال قوم من أصحاب مالك: إن هذا الحديث خرج على الذم للبيان، وقالوا: على هذا يدل مذهب مالك) واستدلوا بإدخاله هذا الحديث في باب ما يكره من الكلام، وقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم شبه البيان بالسحر والسحر مذموم محرم قليله وكثيره، وذلك لما في البيان من التفيهق وتصوير الباطل في صورة الحق، وقد قال

(1)

"الموطأ" موصولاً في رواية أبي مصعب 2/ 164، ورواية يحيى مرسلاً لم يُذكر فيها عبد الله بن عمر كما بيّن ذلك ابن عبد البر في "التمهيد" 5/ 169. إلا أنه في المطبوع ص 610 بإثباته.

(2)

في (ص 2): أذنيه.

(3)

من (ص 2)، وانظر:"غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 98 - 100.

ص: 550

- صلى الله عليه وسلم "أبغضكم إليّ الثرثارون والمتفيهقون"

(1)

وقد فسره عامر بنحو هذا المعنى، وهو راوي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قيل. وليس هو في هذا الإسناد في الباب، وكذلك فسره صعصعة بن صوحان (فقال: أما قوله "إن من البيان سحرا" فالرجل يكون عليه الحق فيسحر القوم)

(2)

ببيانه، فيذهب بالحق وهو عليه.

وقال آخرون: هو كلام خرج على مدح البيان، واستدلوا بقوله في الحديث:(فعجب الناس لبيانهما). قالوا: والإعجاب لا يقع إلا بما يحسن ويطيب سماعه. قالوا: وتشبيهه بالسحر مدح له؛ لأن معنى السحر: الاستمالة، وكل من استمالك فقد سحرك، وكان صلى الله عليه وسلم أميز الناس بفصل البلاغة لبلاغته، فأعجبه ذلك القول واستحسنه، فلذلك شبهه بالسحر، قالوا: قد تكلم رجل في حاجة عند عمر بن عبد العزيز -وكان في قضائها مشقة- بكلام رقيق موجز، وتأنى لها وتلطف، فقال عمر بن عبد العزيز: هذا السحر الحلال. وكان زيد بن إياس يقول للشعبي: يا مبطل الحاجات. يعني: أنه يشغل جلساءه بحسن حديثه عن حاجتهم.

وأحسن ما يقال في ذلك: أن هذا الحديث ليس بذم للبيان كله ولا بمدح للبيان كله، ألا ترى قوله:("إن من البيان لسحرا") ومن للتبعيض، وقد شك المحدث إن كان قال:("إن من البيان")

(1)

جزء من حديث رواه أحمد في "المسند" 4/ 193، وابن حبان في "صحيحه" 2/ 232، والطبراني في "الكبير" 22/ 221، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 97 عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 21: رجال أحمد رجال الصحيح.

(2)

من (ص 2).

ص: 551

أو ("إن بعض البيان") وكيف يذم البيان كله وقد (عدد)

(1)

الله به النعمة على عباده فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 3، 4] ولا يجوز أن يعدد على عباده إلا ما فيه عظيم النعمة عليهم، وما ينبغي إدامة شكره عليه، فإذا ثبت أن بعض البيان هو المذموم، وهو الذي خرج عليه لفظ الحديث، وذلك الاحتجاج للشيء الواحد مرة بالفضل ومرة بالنقص، وتزيينه مرة وعيبه أخرى، ثبت أن ما جاء به من البيان مزينًا الحق ومبينا له فهو ممدوح، وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز: هذا السحر الحلال، ومعنى ذلك أنه يعمل في استمالة النفوس ما يعمل السحر من استهوائها، فهو سحر على معنى التشبيه لا أنه السحر الذي هو الباطل الحرام

(2)

.

وقال ابن التين: الفصاحة حسنة، وهي منحة من الله، قال صلى الله عليه وسلم:(أنا أفصح العرب بيد أني من قريش وربيت في بني سعد)

(3)

وبعث عبد الملك بن مروان الشعبي إلى ملك الروم فكتب إليه: رسولك أحق بمكانك منك. فأخبر الشعبي عبد الملك فقال: لم يرك يا أمير المؤمنين. فذهب ما في نفسه وقال: حسدني فيك وأراد أن يغريني بك.

(1)

في الأصل: (وعد). والمثبت مستفاد من الكلام بعده، وهو الأنسب.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 447 - 448.

(3)

قال في "كشف الخفاء" 1/ 201: أورده أصحاب الغرائب، ولا يعلم من أخرجه ولا إسناده. اهـ قلت: قال أبو عبيد في "غريبه" 1/ 89: وأخبرني بعض الشاميين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال .. فذكره.

ص: 552

‌52 - باب الدَّوَاءِ بِالْعَجْوَةِ لِلسِّحْرِ

5768 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، أَخْبَرَنَا هَاشِمٌ، أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرُّهُ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ» . وَقَالَ غَيْرُهُ: «سَبْعَ تَمَرَاتٍ» . [انظر: 5445 - مسلم: 2047 - فتح 10/ 238]

5769 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ، سَمِعْتُ سَعْدًا رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ» . [انظر: 5445 - مسلم: 2047 - فتح 10/ 238]

ذكر فيه حديث عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً، لَمْ يَضُرُّهُ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ ذَلِكَ اليَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ". وَقَالَ غَيْرُهُ: "سَبْعَ تَمَرَاتٍ".

ثم ساقه إليه أيضًا مرفوعا كذلك.

وقد سلف في الأطعمة، ويأتي قريبًا أيضًا

(1)

.

قال ابن التين: أي: أكلهن في الصباح قبل أن يأكل شيئا. قلت: تؤيده رواية ابن نمير عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر في الدواء بسبع تمرات عجوة غدوات على الريق.

قال الداودي: والعجوة من وسط التمر. قال القزاز: وهي مما غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكذا قال ابن الأثير: أنها نوع من تمر المدينة أكبر من الصيحاني يضرب إلى السواد من غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

سلف برقم (5445) باب: العجوة، ويأتي برقم (5779) باب: شرب السم والدواء به ..

ص: 553

وقال الجوهري: إنها ضرب بها من أجود التمر، ونخلها يسمى لينة

(1)

، وقيل: هذا ما لا يغفل معناه في طريقة علم الطب، ولو صح أن يخرج لمنفعة التمر في السم وجه من جهة الطب لم يقدر على إظهار وجه الاقتصار في العدد على سبع، ولا على الاقتصار على العجوة، ولعل ذلك كان لأهل زمنه صلى الله عليه وسلم، وقيل: يجعل الله الشفاء فيما شاء من عجوة وعدد، وقيل: أراد نخلا بعينه وهو لا يعرف الآن، والسم سينه مثلثة، ولم يذكر ابن التين الكسر، (وحكاها صاحب "المطالع")

(2)

، وكونها عوذ من السم تبركا لدعوة سبقت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أن طبع التمر ذلك، قاله الخطابي

(3)

.

(1)

"النهاية" 3/ 188، و"الصحاح" 6/ 2419. (عجا).

(2)

من (ص 2).

(3)

"أعلام الحديث" 3/ 2054.

ص: 554

‌53 - باب لَا هَامَةَ

5770 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا عَدْوَى، وَلَا صَفَرَ، وَلَا هَامَةَ» . فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيُخَالِطُهَا الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟» . [انظر: 5707 - مسلم: 2220 - فتح 10/ 241]

5771 -

وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ بَعْدُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» . وَأَنْكَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ حَدِيثَ الأَوَّلِ، قُلْنَا: أَلَمْ تُحَدِّثْ أَنَّهُ لَا عَدْوَى؟ فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيَّةِ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَمَا رَأَيْتُهُ نَسِيَ حَدِيثًا غَيْرَهُ. [5774 - مسلم: 2221 - فتح 10/ 241]

سلف حديثه في الباب الماضي فراجعه.

ص: 555

‌54 - باب لَا عَدْوَى

5772 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَحَمْزَةُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ» . [انظر: 2099 - مسلم: 2225 - فتح 10/ 243]

5773 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا عَدْوَى» . [انظر: 5707 - مسلم: 2220 - فتح 10/ 243]

5774 -

قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تُورِدُوا الْمُمْرِضَ عَلَى الْمُصِحِّ» . [انظر: 5771 - مسلم: 2221 - فتح 10/ 243]

5775 -

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا عَدْوَى» . فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الإِبِلَ تَكُونُ فِي الرِّمَالِ أَمْثَالَ الظِّبَاءِ فَيَأْتِيهِ الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَتَجْرَبُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟» . [انظر: 5707 - مسلم: 2220 - فتح 10/ 243]

5776 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ» . قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ» . [انظر: 5756 - مسلم: 2224 - فتح

10/ 244]

أحاديثه سلفت.

حديث ابن عمر: "لَا عَدْوى، وَلَا طِيَرَةَ"، سلف في باب الطيرة

(1)

وحديث أبي هريرة: "لَا يورد المُمْرِض عَلَى المُصِحِّ".

(1)

سلف برقم (5753)، وزاد في (ص 2): النكاح. قلت: سلف برقم (5094) باب: الأكفاء في المال.

ص: 556

وحديثه: "لَا عَدْوى". فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ. سلف في الباب قبله.

وحديث أنس رضي الله عنه، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا عَدْوى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ". قَالُوا: وَمَا الفَأَلُ؟ قَالَ: "كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ". وسلف في باب الفأل.

لا جرم أهمل ابن بطال هذا الباب من أصله، قال سحنون: إنما لم يورد الممرض على المصح، خشية أن ينال إبله الداء فيكذب في الحديث فيأثم، وقيل: لما يتأذى به المصح من الرؤية القذرة المنفرة، لا على أن المرض يعدي، قال أبو عبيد: وحمله بعض الناس على خوف الإعداء، وهو من شر ما حمل عليه الحديث؛ لأنه رخص في التطير، وكيف تقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الطيرة ويقول:"لا عدوى" ولكن وجه الحديث عندي أن ينزل بهذِه الصحيحة أمر فيظن المصح سبب ذلك الإعداء

(1)

.

ألا تراه يقول في الحديث: ("فمن أجرب الأول؟ ") وقيل: ربما علق ذلك بالصحيحة فكان ذلك سببًا للمرض بقدر الله تعالى، وقد أسلفنا عن عيسى بن دينار أنه منسوخ بحديث "لا عدوى ولا طيرة" وقال يحيى بن يحيى: سمعت أن تفسيره: أن الرجل يكون به الجذام فلا ينبغي له أن يحل محله الصحيح؛ لأنه يؤذيه، وإن كان لا يعدي فالأنفس تكرهه، وإنما نهى عن ذلك للأذى لا للعدوى، وإني لأكره صاحب الإبل أن يحمل على الصحيح من الماشية إلا أن لا يجد عن ذلك غناء فيرد.

(1)

"غريب الحديث" 1/ 329.

ص: 557

وقد أسلفنا ذلك فيما مضى.

وقوله: (فيأتيه البعير الأجرب فتجرب)، هو بفتح الراء يقال: جرب الجمل -بالكسر- فهو أجرب.

ص: 558

‌55 - باب مَا يُذْكَرُ فِي سَمِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

-

رواه عروة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

5777 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ فِيهَا سَمٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنَ الْيَهُودِ» . فَجُمِعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ؟» . فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَبُوكُمْ؟» . قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَذَبْتُمْ بَلْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ» . فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ. فَقَالَ: «هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟» . فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَهْلُ النَّارِ؟» . فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا» . ثُمَّ قَالَ لَهُمْ «فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ؟» . قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: «هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا» . فَقَالُوا نَعَمْ. فَقَالَ: «مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ» . فَقَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَذَّابًا نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. [انظر: 3169 - فتح 10/ 244]

ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما فتحت خيبر .. الحديث بطوله، سلف في المغازي (والجزية، وأخرجه النسائي في "التفسير"

(1)

وحديث عائشة سلف في آخر المغازي)

(2)

(3)

.

(1)

سلف في المغازي برقم (4249) باب: الشاة التي سمت

، وفي الجزية برقم (3169) باب: إذا غدر المشركون

ورواه النسائي في "الكبرى" 6/ 413 (11355).

(2)

سلف برقم (4428) باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.

(3)

من (ص 2).

ص: 559

قال ابن بطال

(1)

: ولا أعلم خلافًا فيمن سم طعامًا أو شرابًا لرجل فلم يمت أنه لا قصاص فيه، ولا حد، وفيه العقوبة الشديدة، والأدب البالغ قدر ما يراه الإمام في ذلك.

فإن قلت: كيف فيه العقوبة والشارع لم يعاقب من وضع له فيه السم فيها؟

قلت: كان عليه السلام لا ينتقم لنفسه ما لم تنتهك حرمات الله، وكان يصبر على أذى المنافقين واليهود، وقد سحره لبيد بن الأعصم، وناله من ضرر السحر ما لم ينله من ضرر السم في الشاة، ولم يعاقب الذي سحره؛ لأن الله تعالى كان قد ضمن لنبيه أنه لا يناله مكروه، وأن لا يموت حتى يبلغ دينه، ويصدع بتأدية شريعته، وكان معصومًا من ضرر الأعداء، قال تعالى:{وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وغيره من الناس بخلاف ذلك، (وكذا)

(2)

.

الفرق بينه وبين غيره، واختلف فيمن سم طعامًا أو شرابًا لرجل فمات منه، فذكر ابن المنذر عن الكوفيين: إذا سقاه سمًا أو جربه به فقتله فلا قصاص عليه وعلى عاقلته الدية، وقال مالك: إذا استكرهه فسقاه سمًا فقتله فعليه القود

(3)

.

قال الكوفيون: ولو أعطاه إياه فشربه هو لم يكن عليه فيه شيء، ولا على عاقلته من قبل أنه هو شربه، وقال الشافعي: إذا جعل السم في طعام رجل أو شرابه فأطعمه أو سقاه غير مكره له، ففيه قولان:

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 452.

(2)

كذا في الأصل، وعند ابن بطال -وهو الأنسب-: فهذا.

(3)

"الإشراف" لابن المنذر 3/ 73.

ص: 560

أحدهما: أن عليه القود، وهو أشبههما.

وثانيهما: أن لا قود عليه، وهو آثم، لأن الآخر شربه، وإن خلطه فوضعه فأكله الرجل فلا عقل ولا قود ولا كفارة، وقيل: يضمن.

فصل:

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الدليل الواضح على صحة نبوة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام من وجوه منها: إخباره عن الغيب الذي لا يعلمه إلا من أعلمه الله بذلك، وذلك معرفته بأبيهم، وبالسم الذي وضعوه له في الشاة، وفيها تصديق اليهود له حين أخبرهم بأبيهم ومنه قول اليهود له: إن كنت نبيًا لم يضرك، فرأوا أنه لم يقتله السم وتمادوا في غيهم ولم يؤمنوا لما رأوا من برهانه في السم وفي إخباره عن الغيب.

وهذا الحديث يشهد بمباهتة اليهود وعنادهم للحق كما قال عبد الله بن سلام: اليهود قوم بهت

(1)

.

فصل:

قوله: ("هل أنتم صادقوني؟ ") كذا في الأصول، وفي بعضها:"صادقي"، وذكره ابن التين باللفظ الأول وقال: صوابه في العربية الثاني أصله صادقوني؛ لأن النون تحذف للإضافة فيجتمع حرفا علة سبق الأول منهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، مثل قوله تعالى:{وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} وقوله صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل: "أو مخرجي هم"

(2)

.

(1)

انتهى من "شرح ابن بطال" 9/ 452 - 453.

(2)

سلف برقم (2)

ص: 561

فصل:

قولهم: (صدقت وبررت) هو بكسر الراء الأولى، قلت: وحكي فتحها.

فصل:

وقولهم: (نكون فيها يسيرًا ثم يخلفوننا فيها) أي: يدخلون مكاننا، ومنه:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم: 59].

فصل:

ذكر هنا أنه صلى الله عليه وسلم علم بالسم ولم يذكر أنه علم به قبل الأكل أو بعده، وفي رواية أخرى: أهدت امرأة شاة مسمومة، فأكل منها هو وبعض أصحابه فمات بعضهم من ذلك السم وأمسك الله نفس نبيه إلى أن قال:"ما زالت أُكلة خيبر تعاهدني فهذا أوان انقطاع أبهري"

(1)

ويحتمل أن يكون الذي سألهم أهل المرأة أو غيرهم ويحتمل أن يكون في بعض الروايتين وهم.

(1)

سلف نحوه برقم (4428).

ص: 562

‌56 - باب شُرْبِ السُّمِّ، وَالدَّوَاءِ بِهِ، وَبِمَا يُخَافُ مِنْهُ والخبث

5778 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهْوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» . [انظر: 1365 - مسلم: 109 - فتح 10/ 247]

5779 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ» . [انظر: 5445 - مسلم: 2047 - فتح 10/ 247]

ذكر حديث (شعبة عن سليمان عن ذكوان، عن)

(1)

أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ تَرَدى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهْوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدى فِيها خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسَمُّهُ فِي يَدِهِ، يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا". (وهذا أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وقال: صحيح)

(2)

(3)

.

(1)

من (ص 2).

(2)

مسلم (109) كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، وأبو داود (3872)، والترمذي (2043)، والنسائي 4/ 66 - 67.

(3)

من (ص 2).

ص: 563

ثم قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ أَبُو بَكْرٍ، أَنَا هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ اصْطَبَحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ اليَوْمَ سَمٌّ وَلَا سِحْرٌ".

وهذا سلف قريبًا

(1)

ومحمد هو ابن سلام، وأحمد بن بشير بفتح الباء مولى امرأة عمرو بن حريث الشيبانية انفرد به البخاري

(2)

مات بعد وكيع بخمسة أيام، ومات وكيع سنة (سبع)

(3)

وتسعين ومائة، وفيها توفي ابن وهب وهشام ابن يوسف (وأخرج الترمذي الأول من حديث عَبيدة بن حميد، عن الأعمش، وقال: صحيح، ومن حديث وكيع وأبي معاوية، عن الأعمش نحو حديث شعبة عن الأعمش، وقال: صحيح وهو أصح من الأول.

وروى ابن عجلان عن المقبري، عن أبي هريرة، بدون:"خالدًا .. " إلى آخره، وكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح؛ لأن الروايات إنما تجيء بأن أهل التوحيد إنما يعذبون في النار ثم يخرجون منها، ولا يذكر أنهم يخلدون فيها)

(4)

.

وهذا الحديث يشهد لصحة نهي الله تعالى في كتابِه المؤمنَ عن قتل نفسه حيث قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية.

فأما من شرب سمًا للتداوي به ولم يقصد به قتل نفسه وشرب منه مقدارًا لا يقتل مثله أو خلطه بغيره مما يكسر ضره فليس بداخل في

(1)

سلف قريبًا برقم (5768).

(2)

في هامش الأصل: حاشية: بتقديم الشين.

(3)

في (ص 2): (تسع).

(4)

من (ص 2) وانظر: "سنن الترمذي" 4/ 387 بعد حديث (2044).

ص: 564

الوعيد، لأنه لم يقتل نفسه غير أنه يكره ذلك؛ لما روى الترمذي من حديث مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث. قال أبو عيسى: يعني: السم

(1)

.

وقد تعلق بقوله: ("خالدًا مخلدًا في النار") من أنفذ الوعيد على القاتل، وهو قول روي عن قوم من الصحابة -يأتي في الديات- وجمهور التابعين وجماعة الفقهاء على خلافه، ولا يجوز عندهم إنفاذ الوعيد على القاتل، وأنه في المشيئة لحديت عبادة بن الصامت الآتي.

فإن قلت: ظاهر حديث الباب يدل على أنه مخلد في النار. قلت: هذا قول تقلده الخوارج وهو مرغوب عنه، ومن حجة الجماعة أن لفظ التأبيد في كلام العرب لا يدل على ما توهموه، وقد يقع الأبد على المدة من الزمان التي قضى الله عز وجل فيها بتخليد القاتل إن أنفذ عليه الوعيد، ومنه: خلد الله ملكه أبدا. وذلك أن العرب تجمع الأبد على آباد، كما تجمع الدهر على دهور، فإن كان الأبد عندها واحد الآباد لا يدل الأبد على ما قالوه، ويدل على صحة هذا إجماع المؤمنين كلهم غير الخوارج على أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وأنه لا يخلد في النار بالتوحيد مع الكفار، فسقط قولهم

(2)

.

ومنهم من حمل الحديث على من فعله مستحلًا مع علمه بالتحريم فإنه كافر. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم قاله في رجل بعينه كافر، فحمله الناقل على ظاهره، وحديث:"يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"

(3)

،

(1)

الترمذي (2045).

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 454.

(3)

سلف برقم (22).

ص: 565

وحديث: "من قال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه دخل الجنة"

(1)

يرد ظاهره.

وقيل: هذا جزاؤه، والرب تكرم عليه أن يدخله النار لكونه مسلمًا، وهو بمعنى ما سلف.

فصل:

وترجمة البخاري بها وإيراده فيها الحديث فيمن شربه ليقتل نفسه، وقد يتداوى بيسير السم إذا جعل مع غيره.

فصل:

وقوله: ("يجأ بها في بطنه"). أي: يضرب بها فيه وهو بالهمز والتسهيل، يقال: وجأه يجؤه، قال صاحب "الأفعال": وجأت البعير: طعنت منحره

(2)

. وجيًا.

طعنه مثل وجأه، والأصل فيها المستقبل يوجأ، وإنما وجب حذف الواو؛ لأن فتحة الجيم نائبة مناب كسرة وأصله مكسور؛ لأن ماضيه: وجأ بالفتح فيكون مستقبله (يوجئ) بكسر الجيم، فحذفت الواو؛ لوقوعها بين ياء وكسرة، وفتحت الجيم لأجل الهمزة، وكذلك تعليل يهب ويدع.

قال ابن التين: وفي رواية الشيخ أبي الحسن: يجأ بضم الياء ولا وجه له عندي؛ لأنه لو أراد أن يبنيه لما لم يسم فاعله قال: يوجأ على وزن يفعل، مثل يوجد.

(1)

راجع حديث (22)، و"كشف الخفاء"(2561)، و"الصحيحة"(1314).

(2)

"الأفعال" لابن القوطية ص 304.

ص: 566

فصل:

قوله: ("ومن تحسى") هو من ذوات الياء ليس بمهموز.

فصل:

قال عياض: فيه دليل على أن القصاص من القاتل يكون بما قتل به محددًا كان أو غيره اقتداءً بعذاب الله تعالى

(1)

، كقاتل نفسه وهو استدلال ضعيف، كما نبه عليه النووي

(2)

.

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 388.

(2)

"شرح مسلم" 2/ 125.

ص: 567

‌57 - باب أَلْبَانِ الأُتُنِ

5780 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ حَتَّى أَتَيْتُ الشَّأْمَ. [انظر: 5530 - مسلم: 1932 - فتح

10/ 249]

5781 -

وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ: هَلْ نَتَوَضَّأُ أَوْ نَشْرَبُ أَلْبَانَ الأُتُنِ أَوْ مَرَارَةَ السَّبُعِ أَوْ أَبْوَالَ الإِبِلِ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا، فَلَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأْسًا، فَأَمَّا أَلْبَانُ الأُتُنِ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُومِهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَلْبَانِهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْىٌ، وَأَمَّا مَرَارَةُ السَّبُعِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ. [انظر: 5530 - مسلم: 1932 - فتح 10/ 249]

ذكر فيه حديث الزهري، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّباعِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ حَتَّى أَتَيْتُ الشَّأْمَ.

وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ قَالَ: وَسَأَلْتُهُ: هَلْ نَتَوَضَّأُ أَوْ نَشْرَبُ أَلْبَانَ الأُتُنِ أَوْ مَرَارَةَ السَّبُعِ أَوْ أَبْوَالَ الإِبِلِ؟ قَالَ: قَدْ كَانَ المُسْلِمُونَ يَتَدَاوَوْنَ بِهَا، فَلَا يَرَوْنَ بِذَلِكَ بَأسًا، فَأَمَّا أَلْبَانُ الأُتُنِ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُومِهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَلْبَانِهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَأَمَّا مَرَارَةُ السَّبُعِ فقَالَ ابن شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ فذكره.

ص: 568

الشرح:

(هذا الحديث سلف في الذبائح)

(1)

(2)

، وقول ابن شهاب:(فلا يرون بذلك بأسًا). أراد به أبوال الإبل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أباح للعرنيين شربها والتداوي بها. وقوله في ألبان الأتن: (إنه لم يبلغنا عنه أمر ولا نهي). كما نهى عن لحمه فلبنه منهي عنه؛ لأن اللبن متولد من اللحم، ألا ترى أنه استدل الزهري على أن النهي عن مرارة السبع بنهيه عن أكل ذي ناب من السباع، وكذلك ألبان الأتن. وقد سئل مالك عن ألبان الأتن فقال: لا خير فيها

(3)

. وقال ابن التين: اختلف في ألبان الأتن على وجهين:

أحدهما: على الخلاف في لحومها هل هي محرمة أو مكروهة؟

والثاني: بعد التسليم التحريم هل لبنهن حلال قياسًا على لبن الآدمية؟

والأتن جمع أتان في الكثير وفي القلة ثلاثة أتن مثل عناق والأعنق والكثير أتن بسكون التاء وضمها، ومرارة السبع على الاختلاف أيضًا في لحومها هل هي محرمة أو مكروهة؟

(1)

سلف برقم (5530) باب: أكل كل ذي ناب من السباع.

(2)

من (ص 2).

(3)

"شرح ابن بطال" 9/ 455.

ص: 569

‌58 - باب إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الإِنَاءِ

5782 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ -مَوْلَى بَنِي تَيْمٍ- عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ -مَوْلَى بَنِي زُرَيْقٍ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ لْيَطْرَحْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الآخَرِ دَاءً» . [انظر: 3320 - فتح 10/ 250]

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ لْيَطْرَحْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الآخَرِ دَاءً".

هذا الحديث سلف في (بدء الخلق)

(1)

(2)

وهو يتأول على وجهين:

أحدهما: حمله على ظاهره، وهو أن يكون في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء كما قال صلى الله عليه وسلم، فيذهب الداء بغمسه ويحدث مع الغمس دواء الداء الذي في الجناح الواقع أولاً وفي أبي داود وصحيحي ابن خزيمة وابن حبان:"وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء"

(3)

.

والوجه الثاني: يكون الداء ما يحتاج في نفس الآكل من التقزز والتقذر والنكير للطعام إذا وقع فيه الذباب، والدواء الذي في الجناح الآخر رفع التقزز والنكير كله في الطعام وقلة المبالاة بوقوعه فيه؛ لأن الذباب لا نفس لها سائلة وليس فيه دم يخشى منه إفساد الطعام فلا معنى لتقذره، والله أعلم بما أراده الشارع من ذلك.

(1)

سلف برقم (3320) باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم

(2)

في الأصل: الطهارة، وفي هامشها: وهو في بدء الخلق لا في الطهارة. والمثبت من (ص 2)، وهو الصواب.

(3)

أبو داود (3844) وابن حبان 12/ 55 (5250)، ابن خزيمة 1/ 56 (105).

ص: 570

وفيه أيضًا أنه إذا وقع في الماء لا ينجسه، وهو مشهور مذهبنا لا كما أورده ابن التين عليه.

قال الخطابي: وقد أنكر هذا من لا يثبت إلا ما أدركه الحس والمشاهدة، وكيف أنكر هذا صاحب هذِه المقالة والنحلة جمع الله في جوفها شفاءً وسمًّا، فتعسل من أعلاها وتسم من أسفلها، وقد يدخل الذباب في بعض أدوية الكحل، وقد يؤمر من عضه الكلب بستر وجهه عن الذباب، فإنه إن وقع عليه أسرع في هلاكه فهذا يدلك على اجتماع الدواء والداء معًا

(1)

.

فائدة:

واحد الذباب ذبابة، ولا تقل: ذبانة، وجمع القلة: أذبة. والكثير: ذبان، كغراب وأغربة وغربان.

آخر الطب ولله الحمد والمنَّة

(1)

"أعلام الحديث" 3/ 2141 - 2142 بتصرف.

ص: 571

77

كتاب اللباس

ص: 573

بسم الله الرحمن الرحيم

‌77 - كِتابُ اللِّبَاسِ

هذا الكتاب أورده ابن بطال بعد الاستئذان

(1)

، ولا أدري كيف ذلك وذكر بعد الطب الأطعمة وقد أسلفناها قبل، كما وردت في آخره أشياء ليست من اللباس.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 77.

ص: 575

‌1 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ". وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ.

5783 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يُخْبِرُونَهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ» . [انظر: 3665 - مسلم: 2085 - فتح 10/ 252]

ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ".

الشرح:

قيل: الآية الأولى عامة في كل مباح. وقيل: أي من حرم لبس الثياب في الطواف، ومن حرم ما حرموا من البحيرة وغيرها. وقال الفراء: كانت قبائل من العرب لا يأكلون اللحم أيام حجهم ويطوفون عراة، فأنزل الله الآية

(1)

، وقيل: و {الطَّيبَاتِ} : المستلذ من الطعام أو الحلال.

والحديث الأول المعلق أخرجه ابن أبي شيبة عن يزيد بن هارون، أنا همام، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا، الحديث

(2)

.

(1)

"معاني القرآن" للفراء 1/ 377.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 171 (24867).

ص: 576

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي، وثنا عن الفضل بن الصباح، عن أبي عبيدة الحداد، عن همام، عن قتادة، عن عمرو بن (سعيد)

(1)

، عن أنس رفعه:"كلوا واشربوا .. " الحديث. قال: إني أخطئ فيه، إنما هو عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده

(2)

.

والمخيلة: الكبر -بفتح الميم- مفعلة من اختال إذا تكبر.

وأثر ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا، عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، عنه

(3)

.

وقوله: (ما أخطأتك) أورده ابن التين بلفظ: ما أخطتك. ثم قال: كذا وقع غير مهموز، وصوابه: أخطأتك، لكن قال في "الصحاح": تقول: أخطأتُ، ولا تقل: أخطيت

(4)

، قال: وبعضهم يقوله

(5)

.

والخيلاء كالمخيلة: الكبر أيضًا، وهو بضم الخاء وكسرها ممدود فيها، والذي سمعناه هنا الضم.

فصل:

حديث ابن عمر أخرجه مسلم أيضًا والترمذي، وقال: حسن صحيح، والنسائي

(6)

، قال الطبري: وقد اتفقت الأئمة الخمسة على

(1)

في الأصل: (شعيب)، والمثبت من "العلل"، وانظر التعليق التالي.

(2)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 488 (1461). وقد أشار الحافظ في "الفتح" 10/ 253 إلى مثل هذا فقال: وقد قلب هذا الإسناد بعض الرواة فَصَحَّفَ والدَ عمرو بن شعيب [أيك فجعله: سعيد]، وقوله:"عن أبيه"[أي: فجعله: عن أنس].

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 171 (24868).

(4)

في الأصل: خطيت، والمثبت من "الصحاح".

(5)

"الصحاح" 1/ 47 مادة (خطأ).

(6)

مسلم (2085) كتاب: اللباس والزينة، باب: كراهة ما زاد على الحاجة من الفراش واللباس، والترمذي (1730)، والنسائي 8/ 209.

ص: 577

إخراجه، قال الترمذي: وفي باب ما جاء في كراهية جر الإزار عن حذيفة وأبي سعيد وأبي هريرة و (سمرة)

(1)

وأبي ذر وعائشة ووهيب بن مغفل)

(2)

(3)

.

فصل:

زاد الترمذي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فقالت أم سلمة

(4)

: فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبرًا" فقالت: إذًا تنكشف أقدامهن. قال: "يُرخينه ذراعًا لا يزدن عليه"

(5)

.

فصل:

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا .. " وقول ابن عباس أيضًا (بيان)

(6)

شافٍ للآية، والسرف والخيلاء محرمان، وقد قال تعالى:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ، {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وحديث الباب هذا وعيد شديد، قال أهل العلم في معنى:"لا ينظر الله إليه": نظر رحمة إن أنفذ عليهم الوعيد فأبقى أمر ربه وتأدب بأدبه، وأدب رسوله، وأدب الصالحين، وذلك بالتواضع لله بقلبه، وأودع سمعه وبصره وجوارحه للاستكانة بالطاعة، وتحبب إلى خلقه بحسن المعاشرة وخالفهم بجميل المخالفة، ليخرج من صفة من لا ينظر الله إليه ولا يحبه.

(1)

في (ص 2): شمر، والمثبت من الترمذي.

(2)

"سنن الترمذي" عقب حديث (1730).

(3)

هذا الفصل بتمامه من (ص 2).

(4)

في الأصل: أم سليم، والمثبت من (ص 2).

(5)

الترمذي (1731)

(6)

من (ص 2).

ص: 578

‌2 - باب مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ [مِنْ غَيْر]

(1)

خُيَلَاءَ

5784 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي، إِلاَّ أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ» . [انظر: 3665 - مسلم: 2085 - فتح 10/ 254]

5785 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلاً حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ، وَثَابَ النَّاسُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَجُلِّيَ عَنْهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا وَقَالَ:«إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَصَلُّوا وَادْعُوا اللهَ حَتَّى يَكْشِفَهَا» . [انظر: 1040 - فتح 10/ 254]

ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ". فقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: إِنَّ أَحَدَ شِقّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي، إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلَاءَ".

وحديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: خسفت الشمس ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام يجر ثوبه مستعجلًا حتى أتى المسجد، وثاب الناس فصلى ركعتين، فجلِّي عنها، ثم أقبل علينا فقال:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا وادعوا الله حتى يكشفها".

(1)

من "اليونينية".

ص: 579

الشرح:

فيه بيان أن من سقط ثوبه بغير قصده وفعله أو جره ولم يقصد به خيلاء، فإنه لا حرج عليه في ذلك، عملًا بقوله لأبي بكر:"لست ممن يصنعه خيلاء" ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم جر ثوبه حين استعجل السير إلى صلاة الخسوف وهو مبيِّن لأمته بقوله وفعله، وقد كان ابن عمر رضي الله عنه يكره أن يجر الرجل ثوبه على كل حال، وهذا من شدائد ابن عمر، لأنه لم يخفَ عليه (قصد)

(1)

أبي بكر وهو الراوي، والحجة في السنة لا فيما خالفها.

فصل:

وفي قوله صلى الله عليه وسلم وفي قول ابن عباس السالفين أنه مباح للرجل اللباس الحسن والجمال في جميع أمره إذا سلم (فعله)

(2)

من التكبر به على من ليس له ذلك من الناس وقد وردت الآثار بذلك.

روى المعافى بن عمران، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن سواد بن عمرو الأنصاري قال: يا رسول الله، إني رجل حبب إليّ الجمال، وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد فيها شراك نعلي، أفمن الكبر ذلك؟ قال:"لا، ولكن الكبر من بطر الحق وغمص -أو: غمط- الناس"

(3)

، ومن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال للذي سأله حبه لجمال ثيابه وشراك

(1)

في الأصل: فعل، والمثبت من (ص 2).

(2)

مُكلة في الأصل، وعلق عليها في الهامش بـ: لعله: فعله.

(3)

رواه الطبراني 7/ 96 (6479)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 134: رجاله رجال الصحيح. وذكره الألباني في "الصحيحة"(1626)؛ وقال: الحديث صحيح على كل حال؛ لأن له شواهد من حديث عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو وعبقة بن عامر، وعبد الله بن عمر، وأبي هريرة.

ص: 580

نعله، هل ذلك من الكبر؟ فقال صلى الله عليه وسلم:"لا ولكن الله جميل يحب الجمال"

(1)

.

فإن قلتَ: فقد روى وكيع، عن أشعث السمان، عن أبي سلام

(2)

الأعرج، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إن الرجل يعجبه شراك نعله، أن يكون أجود من شراك صاحبه، فيدخل في قوله:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} الآية [القصص: 83]؟

(3)

.

قلتُ: أجاب الطبري

(4)

أن من أحب ذلك ليتعظم به على من سواه من الناس ممن ليس له مثله، فاختال به واستكبر فهو داخل في عدد المستكبرين في الأرض بغير الحق، ولحقته صفة أهله؛ وإن أحب ذلك سرورًا بجودته وحسنه، غير مريد به الاختيال والتكبر، فإنه بعيد المعنى ممن عناه الله بقوله:{لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} بل هو ممن أخبر الله أنه يحب ذلك من فعله على ما ورد في حديث عبد الله بن عمر، وذكر النسائي من حديث أبي الأحوص، عن أبيه قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رث الثياب، فقال:"ألك مال؟ " قلت: يا رسول الله، من كل المال، فقال:"إذا آتاك الله مالاً فَلْيُرَ أثره عليك"

(5)

.

(1)

رواه الطبراني في "الأوسط" 5/ 60 وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 133: فيه موسى بن عيسى الدمشقي، قال الذهبي: مجهول، وبقية رجاله رجال الصحيح، وقال في "مجمع البحرين" 7/ 165: في الصحيح طرف منه.

(2)

تحرفت في المطبوع من "تفسير الطبري" إلى: أبي سلمان.

(3)

رواه الطبري في "تفسيره" 10/ 115، كما عزاه السيوطي في "الدرر" إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم. "الدر المنثور" 6/ 444 ط. دار الفكر.

(4)

نقله عنه ابن بطال 9/ 79 - 80.

(5)

النسائي 8/ 180 - 181.

ص: 581

فصل:

الإزار يذكر ويؤنث، والإزارة مثله، ومعنى (ثاب الناس): اجتمعوا وجاءوا.

فصل:

روى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن أبي الهذيل أن أبا بكر رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موضع الإزار فقال: "مستدق الساق، لا خير فيما أسفل من ذلك ولا خير فيما فوق ذلك)

(1)

، وروى أيضًا من حديث (أبي)

(2)

مكين، عن خالد أبي أمية أن عليًّا اتزر (فلحق إزاره بركبته)

(3)

(4)

.

(1)

"المصنف" 5/ 166 (24807). لكن بلفظ: "مسترق السابق".

(2)

مثبثة من (ص 2).

(3)

من (ص 2).

(4)

"المصنف" 5/ 167 (24815).

ص: 582

‌3 - باب التَّشْمِيرِ فِي الثِّيَابِ

5786 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، أَخْبَرَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: فَرَأَيْتُ بِلَالاً جَاءَ بِعَنَزَةٍ فَرَكَزَهَا، ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي حُلَّةٍ مُشَمِّرًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى العَنَزَةِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ العَنَزَةِ. [انظر: 187 - مسلم: 503 - فتح 10/ 256]

ذكر فيه حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قَالَ: رأيت بِلَالًا جَاءَ بِعَنَزَةٍ فَرَكَزَهَا، ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي حُلَّةٍ حمراء مُشَمِّرًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ إِلَى العَنَزَةِ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ وَرَاءِ العَنَزَةِ.

هذا الحديث سلف في الصلاة

(1)

، وهو ظاهر فيما ترجم له، فالتشمير في الصلاة مباح، وعند المهنة والحاجة إليه، وهو من التواضع ونفي التكبر والخيلاء.

والحلة عند العرب ثوبان: ظاهر وباطن. قال صاحب "العين": الحلة إزار ورداء، ولا يقال: حلة، لثوب واحد

(2)

. قال أبو عبيد: ومما يدل على ذلك حديث عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً

(3)

عليه حلة قد ائتزر بإحداهما وارتدى بالأخرى.

(1)

سلف برقم (376) باب: الصلاة في الثوب الأحمر.

(2)

"العين" 3/ 28.

(3)

زاد في (ص 2): (بفتح النون). [قلت: وهي زيادة مقحمة في السياق، فليست في "غريب الحديث"، والظاهر أنها خطأ، إذ يبدو أن ناسخها قد انتقل بصره إلى السطر الذي يليه في النسخة التي ينقل عنها فكتبها، أو أنه كتبها سهوا ونسي أن يضبب عليها، والله أعلم].

ص: 583

والعنزة بفتح النون: أطول من العصا وأقصر من الرمح، في سفله زج كزج الرمح

(1)

.

(1)

"لسان العرب" 5/ 3128، و"مختار الصحاح" ص 192، مادة (عنز).

ص: 584

‌4 - باب: مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَهْوَ فِي النَّارِ

5787 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ» .

[فتح 10/ 256]

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ".

هذا الحديث (أخرجه النسائي)

(1)

وفيه تقديم وتأخير، ومعناه ما أسفل من الإزار من الكعبين في النار

(2)

، وقيل: يعني: ما أسفل من الكعبين من الرجلين، وأما الثوب فلا ذنب له، يريد: إلا أن يغفر الله تعالى.

وروى عبد الرزاق، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع أنه سئل عن قوله في هذا الحديث:"ما أسفل من الكعبين ففي النار" من الثياب ذلك؟ فقال: وما ذنب الثياب

(3)

؟ بل هو من القدمين. قال غيره: ولو كان الإزار في النار ما ضره الذي جر ثوبه بشيء، ومعنى هذا الحديث عند أهل السنة: من أنفذ الله عليه الوعيد كان القدمان في النار.

(1)

من (ص 2).

(2)

النسائي 8/ 207.

(3)

"المصنف" 11/ 84 (19991).

ص: 585

‌5 - باب مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلَاءِ

5788 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا» . [مسلم: 2087 - فتح 10/ 257]

5789 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ -أَوْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ- صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بِهِ، فَهْوَ يَتَجَلَّلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . [5790 - مسلم: 2088 - فتح 10/ 258]

5790 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«بَيْنَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ، خُسِفَ بِهِ، فَهْوَ يَتَجَلَّلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . تَابَعَهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَلَمْ يَرْفَعْهُ شُعَيْبٌ، عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. [انظر: 3485 - فتح 10/ 258]

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ عَمِّهِ جَرِيرِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. [انظر: 5789 - مسلم: 2088 - فتح 10/ 258]

5791 -

حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: لَقِيتُ مُحَارِبَ بْنَ دِثَارٍ عَلَى فَرَسٍ وَهْوَ يَأْتِي مَكَانَهُ الَّذِي يَقْضِى فِيهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِي فَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مَخِيلَةً لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ: أَذَكَرَ إِزَارَهُ؟ قَالَ: مَا خَصَّ إِزَارًا وَلَا قَمِيصًا.

تَابَعَهُ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَزَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ مِثْلَهُ. وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ،

ص: 586

وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ» . [انظر: 3665 - مسلم: 2085 - فتح 10/ 258]

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا".

وأخرجه مسلم أيضًا

(1)

، (وسلف قريبًا)

(2)

، وحديثه أيضًا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -أَوْ قَالَ أَبُو القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم:"بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بِهِ، إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ".

وحديث عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهابٍ، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بينما رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة".

(وسلف في بني إسرائيل)

(3)

، تَابَعَهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَلَمْ يَرْفَعْهُ شُعَيْبٌ، عَنِ الزهري. (قلت: أخرجه الزهري به)

(4)

.

وحديث جرير بن زيد، وهو الأزدي الجهضمي بصري، عم جرير بن حازم بن زيد قال: كنت مع سالم بن عبد الله على باب داره، فقال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نحوه (أخرجه النسائي)

(5)

(6)

.

(1)

مسلم (2087) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم جر الثوب خيلاء وبيان حد ما يجوز.

(2)

من (ص 2).

(3)

سلف برقم (3485) كتاب: أحاديث الأنبياء.

(4)

من (ص 2).

(5)

من (ص 2).

(6)

النسائي 8/ 206.

ص: 587

وحديث شعبة قال: لَقِيتُ مُحَارِبَ بْنَ دِثَارٍ عَلَى فَرَسٍ، وَهْوَ يَأْتِي مَكَانَهُ الذِي يَقْضِي فِيهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هذا الحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِي قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ من مَخِيلَة لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ". فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ: إِزَارَهُ؟ فقَالَ: مَا خَصَّ إِزَارًا وَلَا قَمِيصًا. تَابَعَهُ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَزيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ مِثْلَهُ، وَتَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَقُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خيلاء .. ".

الشرح:

إنما خص الإزار بالذكر -والله أعلم- لأن أكثر الناس في عهده صلى الله عليه وسلم كانوا يلبسون الأزر والأردية، فلما لبس الناس المقطعات وصار عامة لباسهم القمص والدراريع كان حكمُها حكمَ الإزار، والنهي عما جاوز الكعبين منها داخل في معنى نهيه عن جر الإزار، إذ هما سواء في المماثلة، وهذا هو القياس الصحيح، نبه عليه الطبري وهو طريق (القياس ولو)

(1)

لم يأت نص في التسوية بينهما.

وقد سلف حديث ابن عمر: "من جر ثوبه خيلاء"، فعم جميع الثياب، وفي أبي داود عن ابن عمر أنه سئل عن حديث الإزار، فقال: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار هو في القميص، وقد جاء هذا أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

كذا في الأصل، وفي (ص 2):(للقياس لو).

(2)

أبو داود برقم (4095).

ص: 588

روى أبو داود من حديث سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر منها شيئًا لم ينظر الله إليه يوم القيامة"

(1)

. وأخرجه ابن أبي شيبة وقال: "خيلاء"

(2)

.

فصل:

قوله: ("مُرَجِّل جمَّته")، قال ابن السكيت: شعر رجِل ورجَل إذا لم يكن شديد الجعودة ولا سبطًا

(3)

. تقول منه: رجل شعره ترجيلاً، والجمة بالضم: مجمع شعر الرأس، وهو أكبر من الوفرة.

وقوله: ("يتجلجل") أي: يموج ويضطرب، وقال عبد الملك: هو الانجرار في الأرض بصوت، ومنه سمي الجلجل، وقال صاحب "الأفعال": جلجلت الشيء إذا حركته، وكل شيء خلطت بعضه ببعض، فهو جلجلة.

فصل:

قال الداودي: وركوب الخيل يغيظ به الكفار ويرهب العدو، وقال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .

فصل:

قوله: (ولم يرفعه شعيب)، ذكره الإسماعيلي (كما سلف)

(4)

من حديث أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، به. أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر قال:"بينما امرؤ جر إزاره .. ". الحديث.

(1)

السابق برقم (4094).

(2)

"المصنف" 5/ 168 (24830).

(3)

"إصلاح المنطق" ص 52.

(4)

من (ص 1).

ص: 589

وحديث عبد الرحمن بن خالد هو المشار إليه في ذكر بني إسرائيل عقب حديث يونس عن الزهري، مرفوعا بقوله: تابعه عبد الرحمن هذا واستفدنا (هذا بهذِه)

(1)

المتابعة، وأخرجها الإسماعيلي أيضًا من حديث ابن المبارك عنه، ومن حديث ابن شبيب عن أبيه عنه.

(فصل)

(2)

:

وقوله: (تابعه جبلة بن سحيم وزيد بن أسلم وزيد بن عبد الله عن ابن عمر) أما متابعة جبلة فأخرجها مسلم

(3)

(والنسائي من حديث زيد)

(4)

وذكره البخاري مسندًا في أول الكتاب.

وقوله: (وقال الليث .. ) إلى آخره، يريد بقول الليث ما أخرجه (النسائي)

(5)

ومسلم عن قتيبة ومحمد بن رمح؛ كلاهما عن الليث

(6)

.

وقوله: (وتابعه موسى بن عقبة) يريد ما سلف عنده في باب: من جر إزاره من غير خيلاء.

وقوله: (وعمر بن محمد) أخرجه مسلم عن أبي الطاهر بن السرح، عن ابن وهب عنه

(7)

.

(1)

كذا في (ص 2)، وفي الأصل:(بهذا هذِه).

(2)

من (ص 2).

(3)

مسلم (2085/ 43).

(4)

من (ص 2).

(5)

من (ص 2).

(6)

مسلم (2085/ 42) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم جر الثوب خيلاء. والنسائي 8/ 206.

(7)

مسلم (2086).

ص: 590

فصل:

روي هذا الحديث من طرق أيضًا (كما سلفت الإشارة إليه من عند الترمذي أول الباب)

(1)

. روى ابن أبي شيبة بإسناد جيد عن ابن مسعود: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جر الإزار، وعن ابن عباس رفعه، "إن الله لا ينظر إلى مسبل"، وعن عبد الله بن عمرو يرفعه:"لا ينظر الله إلى الذي يجر إزاره خيلاء"، وعن أبي ذر يرفعه:"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المسبل .. " الحديث. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يسبل، فقيل له في ذلك فقال: إني حمش الساقين

(2)

.

وروى الترمذي -مصححًا- عن حذيفة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي -أو ساقه- وقال: "هذا موضع الإزار فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين"

(3)

.

وروى النسائي من حديث الأشعث بن سليم: سمعت (عمي)

(4)

يحدث عن عمه أنه كان بالمدينة فسمع قائلًا يقول: "ارفع ثوبك فإنه أتقى وأنقى وأبقى" فنظرت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنما هي بردة ملحاء. قال: "أو مالك في أسوة" فنظرت فإذا إزاره إلى نصف الساق

(5)

.

ولأبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال له عكرمة وقد اتزر فوضع حاشية إزاره من مقدمته على ظهر قدمه، ورفع من مؤخره، فقلت:

(1)

من (ص 2).

(2)

"المصنف" 5/ 165 - 166.

(3)

الترمذي (1783).

(4)

كذا في الأصل، وفي (ص 2):(عمن).

(5)

"السنن الكبرى" 5/ 484.

ص: 591

لم تأتزر هذِه الأزرة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتزرها

(1)

.

وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله، ارفع إزارك" فرفعت، ثم قال:"زد". فزدت، فقال بعض القوم: إلى أين؟ قال: "أنصاف الساقين"

(2)

.

ولأبي داود عن أبي سعيد يرفعه: "إزرة المؤمن إلى أنصاف الساقين، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، فما أسفل من الكعبين ففي النار، لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرًا"

(3)

.

ولابن أبي شيبة عن أبي جري الهجيمي مرفوعًا: "الإزار إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك والمخيلة، فإن الله لا يحب المخيلة"

(4)

.

ومن حديث أبي قزعة، عن الأسقع بن الأسلع، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار"

(5)

، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن إزاره كان إلى أنصاف ساقيه. وقال: هذِه إزارة حبيبي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن حصين بن قبيصة عن المغيرة بن شعبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفيان بن سهل:"لا تسبل فإن الله لا يحب المسبلين"

(6)

.

(1)

أبو داود (4096).

(2)

مسلم (2086) كتاب: اللباس، باب: تحريم جر الثوب خيلاء.

(3)

أبو داود (4093).

(4)

"المصنف" 5/ 166 (24812)

(5)

رواه أحمد في "المسند" 5/ 9، والنسائي في "الكبرى" 5/ 491، وابن أبي شيبة 5/ 167، والبخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 64.

(6)

"المصنف" 5/ 168 (24824، 42825).

ص: 592

فرع:

قال صاحب "القنية": اختلف في المسدل في الصلاة، فقيل: يكره بدون القميص، ولا يكره عليه وفوق الإزار. وقيل: يكره كما في الصلاة، والصحيح أنه لا يكره، وهذا عجيب، فالنهي فيها وارد.

ص: 593

‌6 - باب الإِزَارِ الْمُهَدَّبِ

وُيذْكَرُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَحَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا ثِيَابًا مُهَدَّبَةً.

5792 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جَالِسَةٌ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّهُ وَاللهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللهِ إِلاَّ مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ. وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا، فَسَمِعَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ قَوْلَهَا وَهْوَ بِالْبَابِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، قَالَتْ: فَقَالَ خَالِدٌ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَا تَنْهَى هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَلَا وَاللهِ مَا يَزِيدُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّبَسُّمِ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ، لَا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» . فَصَارَ سُنَّةً بَعْدُ. [انظر: 2639 - مسلم: 1433 - فتح 10/ 264]

ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها في امرأة رفاعة القرظي السالف

(1)

.

وليس فيه أكثر من أن الثياب المهدبة من لبس السلف وأنه لا بأس بها. وقال ابن التين: يريد بها غير مكفوفة الأسفل.

وهدب الثوب وهدابه: تباعد أطرافه.

وقال الداودي: ما يبقى من الخيوط من أطراف الأردية والأزر يكون لها كالكف لئلا ينسل، وليس ذلك من الخيلاء. وعند الهروي: هدبت الشيء: قطعته. قال: والهدبة: القطعة والطائفة، ومنه هدبة الثوب.

(1)

سلف برقم (2639) كتاب: الشهادات، باب: شهادة المختبي.

ص: 594

ولأبي داود من حديث جابر: (أتيت)

(1)

النبي صلى الله عليه وسلم -وهو محتب بشملة وقد وقع هدبها على قدمه، وفيه:"وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة"

(2)

.

فصل:

قولها: (فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير)، هو بفتح الزاي، والجلباب: الملحفة.

وقوله: ("لا حتى يذوق عسيلتك") فيه رد واضح على ابن المسيب في دعواه حلها بالعقد، والعسيلة: حلاوة الفرج في الفرج ليس الإنزال، ودخلت الهاء في تصغير العسل؛ لأنه يذكر ويؤنث والغالب التأنيث، وقيل: إنما أنث لأنه أراد به العسيلة، وهي القطعة منه، يقال للقطعة من الذهب: ذهبة، وسمي به الجماع، شبهت لذته بالعسل.

فائدة:

معاوية هذا قرشي هاشمي مدني

(3)

، روى عن رافع بن خديج وأبيه وجمع، وعنه ابنه والزهري وجمع، ثقة عالم، وروى له النسائي حديثًا "لا تمثلوا بالبهائم"(وابن ماجه)

(4)

آخر

(5)

.

(1)

في (ص 2): رأيت.

(2)

أبو داود (4084).

(3)

انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 5/ 329، "ثقات العجلي"(51)، "التاريخ الكبير" 7/ 331 (1416)، "تهذيب الكمال" 28/ 196 (6060).

(4)

من (ص 2).

(5)

النسائي 7/ 238، وابن ماجه (1388).

ص: 595

‌7 - باب الأَرْدِيَةِ

وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: جَبَذَ أَعْرَابِيٌّ رِدَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

5793 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه قَالَ: فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنُوا لَهُمْ. [انظر: 2089 - مسلم: 1979 - فتح 10/ 265]

يريد به ما ذكره بعد في البرود والحبرة.

ثم ساق حديث عليّ رضي الله عنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِهِ فارتدى، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، حَتَّى جَاءَ البَيْتَ الذِي فِيهِ حَمْزَةُ، (فَاسْتَأْذَنَ)

(1)

فَأَذِنُوا لَهُمْ.

سلف في البيوع والمغازي والخمر والشرب

(2)

.

فيه؛ أن الرداء من لباسه صلى الله عليه وسلم، غير أنه لم يذكر في الحديث صفة لباسه به إن كان مشتملًا به أو متطيلسًا أو على هيئة لباسنا اليوم، وقد روي عن طاوس أنه قال: الشملة من الزينة التي أمر الله بأخذها عند كل مسجد

(3)

.

فصل:

وقوله: (جبذ أعرابي) أي: جذبه، وهو مقلوب منه، وأصل الجذب المد، والرداء تثنيته: رداءان أو رداوان، لأن كل اسم ممدود لا تخلو

(1)

في (ص 2): فاستأذنوا.

(2)

سلف برقم (2089) كتاب: البيوع، باب: ما قيل في الصواغ. وبرقم (4003) كتاب: المغازي. وبرقم (2375) كتاب: الشرب، باب: بيع الحطب والكلأ.

(3)

رواه عبد الرزاق 3/ 204 (5333).

ص: 596

همزته أن تكون أصلية فتترك في التثنية على حالها فتقول: خطاءان وجزاءان

(1)

، أو تكون للتأنيث فتقلب واوًا لا غير مثل: صفراوان وسوداوان، وتكون منقلبة عن واو وياء مثل: كساء ورداء أو ملحقة مثل عِلباء وحرباء ملحقة بسِرْدَاح شِمْلال فأنت في ذلك كله بالخيار بين قلبها واوًا وتركها همزة. قاله في "الصحاح"

(2)

، وهو أجود.

(1)

في (ص 2): قرآن.

(2)

"الصحاح" 3/ 2355 مادة: (ردى).

ص: 597

‌8 - باب لُبْسِ الْقَمِيصِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93].

5794 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا الْخُفَّيْنِ، إِلاَّ أَنْ لَا يَجِدَ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ مَا هُوَ أَسْفَلُ مِنَ الكَعْبَيْنِ» . [انظر: 134 - مسلم: 1177 - فتح 10/ 266]

5795 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ. [انظر: 1270 - مسلم: 2773 - فتح 10/ 266]

5796 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ. فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ، وَقَالَ:«إِذَا فَرَغْتَ فَآذِنَّا» . فَلَمَّا فَرَغَ آذَنَهُ، فَجَاءَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَجَذَبَهُ عُمَرُ فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]. فَنَزَلَتْ: {وَلَا تُصَلِّ على أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ. [انظر: 1269 - مسلم: 2400 - فتح 10/ 266]

ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ:"لَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ القَمِيصَ". الحديث.

ص: 598

وقد سلف

(1)

.

وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيِّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، والله أَعْلَمُ.

وحديث نافع عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ جَاءَ ابنهُ .. الحديث، وسلف في الجنائز

(2)

، وأخرج حديث جابر هنا عن عبدان: عبد الله بن عثمان

(3)

، وفي الجهاد عن عبد الله بن محمد، وفي الجنائز عن مالك بن إسماعيل كلهم عن ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر

(4)

، وأخرجه مسلم في التوبة عن زهير وأبي بكر وأحمد بن عبدة كلهم عن ابن عيينة، (والنسائي في الجنائز)

(5)

(6)

:

قلت: جاء ذكر القميص في عدة أحاديث أخر.

(1)

سلف في خمسة مواضع، أولها:(134) كتاب: العلم، باب: من أجاب السائل بأكثر مما سأله.

(2)

سلف برقم (1269) باب: الكفن في القميص.

(3)

قال الحافظ في "الفتح" 10/ 266: زاد القابسي (عبد الله بن عثمان بن محمد) وهو تحريف، وليس من شيوخ البخاري من اسمه عبد الله بن عثمان إلا عبدان، ووقع في رواية أبي زيد المروزي (عبد الله بن محمد) فإن كان ضبطه فلعله اختلاف على البخاري، وفي شيوخه عبد الله بن محمد الجعفي، وهو أشهرهم وابن أبي شيبة، وابن أبي الأسود كذلك وعبد الله بن محمد بن أسماء، وليست له رواية عنده عن ابن عيينة، وعبد الله بن محمد النفيلي كذلك. اهـ.

(4)

سلف برقم (1270) كتاب: الجنائز، باب: الكفن في القميص، وبرقم (3008) كتاب: الجهاد، باب: الكسوة للأسارى.

(5)

مسلم (2773) كتاب: صفات المنافقين، والنسائي 4/ 37 - 38.

(6)

من (ص 2).

ص: 599

منها: حديث عائشة رضي الله عنها (السالف في الجنائز)

(1)

كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة

(2)

.

ومنها: حديث أم سلمة رضي الله عنها عند الترمذي: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص. ثم قال: حسن غريب إنما نعرفه من حديث عبد المؤمن بن خالد عن عبد الله بن بريدة، عنها. وروى بعضهم هذا الحديث عن أبي تميلة، (عن عبد المؤمن بن خالد)

(3)

عن عبد الله بن بريدة، عن أمه، عنها. وسمعتُ

(4)

محمد بن إسماعيل

(5)

يقول: حديث ابن بريدة عن أمه، عن أم سلمة أصح

(6)

.

قلت: ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود عن زياد بن أيوب، عن أبي تميلة

(7)

.

ومنها: حديث أسماء بنت يزيد بن السكن (قالت)

(8)

: كان كُمُّ يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ. أخرجه أيضًا الترمذي، وقال: حسن غريب

(9)

.

ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا لبس قميصًا بدأ

(1)

من (ص 2).

(2)

سلف برقم (1264) باب: الثياب البيض للكفن.

(3)

ساقط من الأصول، والمثبت من الترمذي.

(4)

أي: الترمذي.

(5)

هو البخاري.

(6)

الترمذي (1762 - 1764)، وصححها الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(2028).

(7)

أبو داود (4026).

(8)

في الأصل: (قال). والمثبت من "جامع الترمذي" وهو الصواب.

(9)

الترمذي (1766) وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" 5/ 474.

ص: 600

بميامنه، أخرجه أيضًا، ثم قال: رواه غير واحد عن شعبة، ولم يرفعه، وإنما رفعه عبد الصمد بن عبد (الوارث)

(1)

، عن شعبة. ومن هذا الوجه أخرجه ابن حبان في "صحيحه"

(2)

.

ومنها: حديث أبي سعيد: كان صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبًا سماه باسمه: عمامة أو قميصًا أو رداءً .. الحديث أخرجه أيضًا

(3)

، وذكر أبو داود أن حماد بن سلمة وعبد الوهاب أرسلاه

(4)

، وفيما ذكرناه رد على قول ابن العربي في "سراجه": ما سمعت للقميص ذكرًا صحيحًا إلا في الآية السالفة، وحديث ابن أُبَي وتكفينه في قميصه، ولم أر لهما ثالثًا فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصته. وقال ابن بطال: فيه أن لبس القميص من الأمر القديم، وكذا كل ما ذكر في حديث ابن عمر من السراويل والبرانس وغيرهما

(5)

.

فصل:

قوله في المحرم، في حديث ابن عمر:("لا يجد النعلين فليلبس ما أسفل من الكعبين").

قال ابن حبيب: كان هذا في بدء الإسلام والنعال قليلة، فأما الآن فلا يلبس الخفين وإن قطعهما أسفل من الكعبين، وقال غيره: ظاهر قول مالك خلاف ذلك

(6)

.

(1)

في الأصل: (الوهاب)، والمثبت من الترمذي، وهو الصواب.

(2)

الترمذي (1765)، وابن حبان 12/ 241 (5422)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1445).

(3)

الترمذي (1767)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1446).

(4)

أبو داود (4022).

(5)

"شرح ابن بطال" 9/ 83.

(6)

"النوادر والزيادات" 2/ 345.

ص: 601

فصل:

قال الداودي: في حديث أبي هذا خلاف حديث أنس، وأرى حديث أنس هو المحفوظ؛ لأنه قال هنا: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين؟ وفي آخره: فنزلت: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} جعل النهي بعد قوله: أليس قد نهاك. هذا هو المحفوظ؛ وإنما أنزل بعد التخيير: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} الآية، وفي حديث ابن أبي نزلت هذِه في حياته، والصحيح ما رواه أنس، وإنما فعل ذلك رجاء التخفيف عنه.

ص: 602

‌9 - باب جَيْبِ الْقَمِيصِ مِنْ عِنْدِ الصَّدْرِ وَغَيْرِهِ

5797 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَثَلَ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ، كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَى ثُدِيِّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ المُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ، وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِي جَيْبِهِ، فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسِّعُهَا وَلَا تَتَوَسَّعُ.

تَابَعَهُ ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ فِي الجُبَّتَيْنِ. وَقَالَ حَنْظَلَةُ: سَمِعْتُ طَاوُسًا، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: جُبَّتَانِ. وَقَالَ جَعْفَرٌ، عَنِ الأَعْرَجِ: جُبَّتَانِ. [انظر: 1443 - مسلم: 1021 - فتح 10/ 267]

الجيب بالفتح يقال: جبت القميص، أجيبه وأجوبه، إذا قورت جيبه.

ذكر فيه من حديث أبي عامر -واسمه عبد الملك بن عمرو العقدي أخرجا له- ثنا إبراهيم بن شافع -وهو مخزومي مكي، أخرجا له أيضًا- عن الحسن، عن طاوس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد .. المذكور في الزكاة، وفيه: فقال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعيه هكذا في جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا توسع.

تابعه ابن طاوس عن أبيه، وأبو الزناد عن الأعرج في الجبتين وقال: سمعت حنظلة: سمعت طاوسًا يقول: سمعت أبا هريرة يقول: جبتان. قال جعفر عن الأعرج: جنتان.

ص: 603

أما متابعة ابن طاوس عن أبيه فسلفت في الزكاة

(1)

.

وقوله: (وأبو الزناد) خرجه مسلم

(2)

من طريق ابن عيينة عن [

]

(3)

، وحديث حنظلة أخرجه الإسماعيلي عن الفضل بن سهل، ثنا إسحاق الرازي، ثنا حنظلة به، ثم قال: كأن أبا عبد الله أورد الخبر، فيصير ما يوضع فيه الشيء في الصدر، وليس هو كذلك، وإنما الجيب الذي يحيط بالعنق. جُيِّبَ الثوب أي: جعل فيه ثقب، فإدخاله صلى الله عليه وسلم إصبعه في جيبه هو في هذا الموضع الذي وصف، إلا أنه وضع إصبعيه من الجيب حيث يلي الصدر.

وقال البخاري في الزكاة: وقال الليث: حدثني جعفر بن هرمز، سمعت أبا هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"جبتان". ووقع في نسخة أبي ذر: جعفر بن حيان، فخطأ وصوابه ابن ربيعة وهو شيخ الليث.

وقال ابن بطال: في هذا الحديث دلالة أن الجيب في ثياب السلف كان عند الصدر على ما (يصنع عندنا)

(4)

اليوم بالأندلس، ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم شبه البخيل والمتصدق برجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما، فتبسط على جسد المتصدق، وتشد على يدي البخيل إذا همّ بالصدقة، وتمسكهما في الموضع الذي

(1)

سلف برقم (1443) باب: مثل المتصدق والبخيل.

(2)

مسلم برقم (1021) كتاب: الزكاة، باب: مثل المنفق والبخيل.

(3)

بياض بالأصل بمقدار كلمتين، وكتب الناسخ فوقه:(كذا). ثم رأيت في هامش الأصل ما نصه: حاشية: خرجه مسلم في الزكاة عن عمرو الناقد، والنسائي فيها عن محمد بن منصور الجواز؛ كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. [قلت: سلف قريبًا تخريجه عند مسلم، أما النسائي فرواه في "المجتبى" 5/ 70].

(4)

كذا بالأصل وفي "شرح بن بطال"(على ما تضعه النساء).

ص: 604

اضطرتهما إليه، وهو الثدي والتراقي، وذلك في صدره وفيه، يروم أن يوسع حلقها ولا تتسع، بينه قول أبي هريرة رضي الله عنه: أنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه هكذا في جبته يوسعها ولا تتسع، فبان أن جيبه عليه السلام كان في صدره؛ لأنه لو كان في منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثدييه وتراقيه، وهذا استدلال حسن

(1)

.

فصل:

قوله: (تراقيهما) جمع: ترقوة بفتح التاء، قال الخليل وغيره: هي فَعْلُوة

(2)

، ولا تقله بضم التاء، وهي: العظم الذي بين ثُغْرَةِ النَّحر والعَاتق

(3)

.

وقال ثابت: الترقوتان: العظمان المشرفان في أعلى الصدر إلى طرف ثغرة النحر، وهي الهزمة التي بينهما.

فصل:

وقوله: (جبتان) بالباء والنون، يصح أن تميل بها، وأفصحها النون، وهو: ما يستتر به الإنسان فيجنه، أي: يغطيه.

وقوله: (إلى ثديهما)، هو بضم الثاء جمع ثدي، مثل ظبي وظبى، وحلي وحلى، وثدي أيضًا بكسر الثاء لما بعدها من الكسر، وأصل جمعه فعول، اجتمع حرفا علة وسبق الأول بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، وكسرت الدال لتصح الياء، والثدي يذكر ويؤنث، وهي للمرأة والرجل أيضًا، والجمع: أَثْدٍ مثل أطب هكذا

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 84 - 85.

(2)

في (ص 2): فعولة، وهي مخالفة لما في مصادر التخريج، ولما في الأصل.

(3)

"العين" 5/ 126 مادة: ترق، وانظر:"تهذيب اللغة" 1/ 436، "لسان العرب" 1/ 429، "تاج العروس" 13/ 55.

ص: 605

في "الصحاح"

(1)

، وقال ابن فارس: الثدي للمرأة يذكر ويؤنث، وثندوة الرجل كثدي المرأة، وهو مهموز إذا ضم أوله، فإن فتحت لم تهمز

(2)

.

وقوله: (حتى تغشى أنامله) الأنامل: رءوس الأصابع، واحدها: أنملة بالفتح، وكذا اقتصر عليه ابن التين، وفيها تسع لغات: تثليث الهمزة مع تثليث الميم، ومعنى قلصت: انقبضت وانضمت. والحلقة بسكون اللام، وكذا حلقة الباب والقوم، وجمعها حلق على غير قياس.

وقول أبي هريرة: (فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعيه .. ) إلى آخره، قيل: فيه دليل أن جيبه كان في صدره؛ لأنه لو كان في منكبه لم تكن يداه مضطرتين إلى ثدييه وتراقيه، وهو ما أسلفناه أولاً.

(1)

"الصحاح" 6/ 2291 مادة (ثدا).

(2)

"مجمل اللغة" 1/ 157.

ص: 606

‌10 - باب مَنْ لَبِسَ جُبَّةً ضَيِّقَةَ الْكُمَّيْنِ فِي السَّفَرِ

5798 -

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الضُّحَى قَالَ: حَدَّثَنِي مَسْرُوقٌ قَالَ: حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَاجَتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ، فَتَلَقَّيْتُهُ بِمَاءٍ، فَتَوَضَّأَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ، فَغَسَلَهُمَا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى خُفَّيْهِ. [انظر: 182 - مسلم: 274 - فتح 10/ 268]

ذكر فيه حديث المغيرة رضي الله عنه: وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأمِيَّةٌ، وقد سلف في الطهارة (والصلاة والجهاد، وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه)

(1)

(2)

، وترجم عليه أيضا.

(1)

من (ص 2).

(2)

سلف برقم (182) كتاب: الطهارة، باب: الرجل يوضئ صاحبه، وبرقم (363) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في الجبة الشامية، وبرقم (2918) كتاب: الجهاد، باب: الجبة في السفر والحرب، ومسلم (274) كتاب: الطهارة، باب: المسح على الخفين، والنسائي 1/ 82، وابن ماجه (389).

ص: 607

‌11 - باب جُبَّةِ الصُّوفِ فِي الغَزْوِ

5799 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي سَفَرٍ فَقَالَ: «أَمَعَكَ مَاءٌ؟» . قُلْتُ: نَعَمْ. فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَمَشَى حَتَّى تَوَارَى عَنِّي فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ الإِدَاوَةَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا حَتَّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبَّةِ، فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: «دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ" فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. [انظر: 182 - مسلم: 274 - فتح 10/ 268]

وذكره بلفظ: (وعليه جبة من صوف)

وهو دال على أن ثياب السلف في الحضر لم تكن أكمامها بضيق أكمام هذِه الجبة التي لبسها صلى الله عليه وسلم في سفره؛ لأنه لم يذكر عنه أنه أخرج يديه من تحت ثيابه لضيق كميه إلا في هذِه المرة، ولو فعله في الحضر دائمًا لنقل.

وفيه: دلالة أيضًا أن ثياب السفر أخصر من ثياب الحضر، فلباس الأكمام الضيقة والواسعة جائز إذا لم يكن مثل سعة أكمام النساء؛ لأن زي النساء لا يجوز للرجال استعماله على ما سنعلمه في كتاب الزينة، وقد كره مالك للرجل سعة الثوب وطوله، وأما لباس الصوف فجائز في الغزو وغيره إذا لم يرد لابسه به الشهرة.

وسئل مالك عن لباس الصوف الغليظ، فقال: لا خير فيه في الشهرة، ولو كان يلبسه تارة وينزعه أخرى لرجوت، وأما المواظبة حتى يعرف به ويشتهر فلا أحبه، ومن غليظ القطن ما هو في ثمنه وأبعد من الشهرة منه، وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجل:

ص: 608

"ليرى عليك مالك"

(1)

.

وقال مالك أيضًا: لا أكره لباس الصوف لمن لم يجد غيره، وأكرهه لمن يجد غيره؛ ولأن يخفي عمله أحب إليَّ، وكذلك كان شأن من مضى. قيل: إنما يريد التواضع بلبسه، قيل: يجد من القطن بثمن الصوف

(2)

.

فصل:

شاميّة -بتشديد الياء وتخفيفها- قال في "الصحاح": مَرْأة شَأَمِيَّةٌ، وَشَآمِيَةٌ مخففة الياء

(3)

. والإداوة: المَطْهَرة.

وقوله: (ثم أهويت لأنزع خفيه)، أي: أومأت.

وقوله: ("فإني أدخلتهما طاهرتين")، يريد بالطهر: الوضوء، وهذا مشهور مذهب مالك جواز المسح على الخف في السفر والحضر، وله قول آخر: اختصاصه بالسفر، وثالث: المنع مطلقًا، وعنه غير ذلك

(4)

.

(1)

رواه أبو داود (4062)، والنسائي 8/ 180 - 181، 196، وأحمد 3/ 473، والطبراني 22/ 277، والحاكم 4/ 181، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 2/ 462 (1262، 1263)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(254).

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 86.

(3)

"الصحاح" 5/ 1957 مادة: (شأم).

(4)

"المنتقى" 1/ 77.

ص: 609

‌12 - باب: القَبَاءِ وَفَرُّوجِ حَرِيرٍ

وَهْوَ القَبَاءُ، وُيقَالُ: هُوَ الذِي لَهُ شَقٌّ مِنْ خَلْفِهِ.

5800 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيَّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَقَالَ ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي. قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا فَقَالَ:«خَبَأْتُ هَذَا لَكَ» . قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ. [انظر: 2599 - مسلم: 1058 - فتح 10/ 269]

5801 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا -كَالْكَارِهِ لَهُ- ثُمَّ قَالَ:«لَا يَنْبَغِي هَذَا لِلْمُتَّقِينَ» . تَابَعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فَرُّوجٌ حَرِيرٌ. [انظر: 375 - مسلم: 2075 - فتح 10/ 269]

ذكر فيه حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ منها شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيّ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي. قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا فَقَالَ:"خَبَأْتُ هذا لَكَ". قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: رَضِيَ مَخْرَمَةُ.

(وقد سلف في الهبة والشهادات والخمس)

(1)

(2)

.

(1)

من (ص 2).

(2)

سلف برقم (2599) كتاب: الهبة، باب: كيف يقبض العبد والمتاع، وبرقم (2657) كتاب: الشهادات، باب: شهادة الأعمى، وبرقم (3127) كتاب: الخمس، باب: قسمة الإمام ما يقدم عليه.

ص: 610

وحديث أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني -أخرجا له- عن عقبة بن عامر أنه قال: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ، ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَنَزَعَهُ نَزْعًا شَدِيدًا -كَالْكَارِهِ لَهُ- ثُمَّ قَالَ:"لَا يَنْبَغِي هذا لِلْمُتَّقِينَ". تَابَعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فَرُّوجٌ حَرِيرٌ.

وهذِه المتابعة سلفت مسندة أول الصلاة

(1)

، (وأخرجه مسلم والنسائي

(2)

، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" وقال: فروج الحرير هو الثوب الذي يكون على ذروره حرير دون أن يكون الكل من الحرير، ولو كان الكل حريرًا ما لبسه ولا صلى فيه، وهذا معنى خبر عمر بن الخطاب إلا موضع أصبعين أو ثلاث أو أربع)

(3)

(4)

.

القباء ممدود، وقال (ابن دريد)

(5)

: هو مأخوذ من قبوت الشيء، أي: جمعته

(6)

، قال غيره: ومنه حرف مقبو إذا كان مضمومًا.

قال ابن بطال: القباء من لبس الأعاجم على أن يكون عليه السلام نزعه من أجل ذلك ففي أبي داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"

(7)

ويمكن أن يكون نزعه من أجل أنه من

(1)

سلفت برقم (375) باب: من صلى في فروج حرير ثم نزعه.

(2)

مسلم (2075) كتاب: اللباس، والنسائي 2/ 72.

(3)

"صحيح ابن حبان" 12/ 248.

(4)

من (ص 2).

(5)

في الأصل: أبو زيد.

(6)

"جمهرة اللغة" 2/ 1026 مادة: قبا.

(7)

رواه أبو داود (4031)، وأحمد 2/ 50، والطبراني في "مسند الشاميين" 1/ 135 (216)، والبيهقي في "الشعب" 2/ 75، وقد حسنه ابن حجر في "الفتح" 1/ 271، وجوده ابن تيمية، وصححه الألباني في "الإرواء"(1269).

ص: 611

حرير، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن لباس الحرير لذكور أمته

(1)

، وسيأتي ما للعلماء فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى.

والفروج بفتح الفاء وضمها. قال ابن فارس: الفُروج وضبط بالفتح، وهو قميص الصغير، قال: ويقال: هو القباء

(2)

.

وقال غيره: فروج حرير وكذلك تقدم له، إلا أن في بعض الروايات. أن أحدهما مشدد الراء، والآخر مخفف، ويحتمل أن يريد أن أحدهما غير مضاف، والآخر مضاف، كثوب (حرير)

(3)

، وباب حديد، وفي بعض الكتب ضبط أحدهما بفتح الفاء، والآخر بضمها، والفتح أوجه، لأن فعولًا بالضم ليس إلا في سبوح وقدوس وقروح.

(فائدة:

مخرمة والد المسور صحابي، وهو ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري، أمه: رقيقة بنت أبي صيفي بن هشام بن عبد مناف، وولده المسور أمه عاتكة أخت عبد الرحمن بن عوف)

(4)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 88.

(2)

"مجمل اللغة" 2/ 720 مادة: (فرج).

(3)

في الأصل: خز.

(4)

من (ص 2).

ص: 612

‌13 - باب البَرَانِسِ

5802 -

وَقَالَ لِي مُسَدَّدٌ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى أَنَسٍ بُرْنُسًا أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ. [فتح 10/ 271]

5803 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلَا الْعَمَائِمَ، وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ، وَلَا البَرَانِسَ، وَلَا الخِفَافَ، إِلاَّ أَحَدٌ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا الوَرْسُ» . [انظر: 134 - مسلم: 1177 - فتح 10/ 271]

وقال لِي مُسَدَّدٌ: ثَنَا مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى أَنَسٍ بُرْنُسًا أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ. كذا ذكره عن شيخه، وكأنه أخذه عنه مذاكرة. وروى ابن أبي شيبة، عن ابن علية، عن يحيى بن أبي إسحاق قال: رأيت على أنس بن مالك برنس (خز)

(1)

(2)

.

ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنهما السالف: ما يلبس المحرم من الثياب. وفيه: "ولا البرانس".

سئل مالك عن لباس البرانس: أتكرهها فإنها تشبه لباس النصارى؟ قال: لا بأس بها، وقد كانت تلبس هنا. وقال عبد الله بن أبي بكر: ما كان أحد من القراء إلا له برنس يغدو فيه وخميصة يروح فيها.

وأما لباس الخز -وهو بخاء معجمة، وزاي- حرير خلط بوبر وشبهه وأصله من وبر الأرنب فسمي -وإن خلط بكل وبر- خزًّا من أجل خلطه.

وقال ابن العربي في "سراجه": هو ما أحد نوعيه -السدى

(1)

في (ص 2): حرير.

(2)

"المصنف" 5/ 181.

ص: 613

أو اللحمة- حرير، والآخر (سواه)

(1)

فقد لبسه جماعة من السلف، وكرهه آخرون، فمن لبسه: الصديق وابن عباس وأبو قتادة وابن أبي أوفى وسعد بن أبي وقاص وجابر وأنس، وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن الزبير وعائشة رضي الله عنه، ومن التابعين ابن أبي ليلى والأحنف بن قيس وشريح والشعبي وعروة وأبو بكر بن عبد الرحمن وعمر بن عبد العزيز أيام إمارته -زاد ابن أبي شيبة في "مصنفه"- القاسم بن محمد وعبيد الله بن عبد الله والحسين بن علي وأبا بكرة وقيس بن أبي حازم وشبيل بن عزرة وأبا عبيدة بن عبد الله ومحمد بن علي بن حسين وسعيد بن المسيب وعلي بن زيد وابن عون، وعن خيثمة أن ثلاثة عشر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان يلبسون الخز

(2)

. قال أبو داود: وقد لبس من الصحابة عشرون نفسًا [أو] أقل أو أكثر

(3)

.

وروى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا يعجبني لبس الخز ولا أحرمه، وروى عنه ابن القاسم كراهته.

قال الأبهري: إنما كرهه من أجل السرف، ولم يحرمه لأجل من لبسه من الصحابة، والنهي عنه لأجل التشبه بالعجم وزي المترفين، وكرهه ابن عمر وسالم والحسن وابن سيرين وسعيد بن جبير، وكان ابن المسيب لا يلبسه ولا ينهى عنه.

وقال علي بن زيد: جلست إلى سعيد بن المسيب وعليه جبة خز فأخذ بكم جبتي وقال: ما أجود جبتك. قلت: وما تغني! قد أفسدوها علي. قال: ومن أفسدها؟ قلت: سالم. قال: إذا صلح

(1)

كذا في (ص 2) وفي الأصل: سواء.

(2)

"المصنف" 5/ 149 - 150.

(3)

أبو داود، عقب حديث (4039).

ص: 614

قلبك فالبس ما شئت، فذكرت قوله للحسن، فقال: إن من صلاح القلب ترك الخز

(1)

.

فرع:

يحرم المركب من الإبريسم وغيره إن زاد وزن الإبريسم، ويحل عكسه، وكذا إن استويا في الأصح عندنا، وذكر الزاهري من الحنفية أن ما كان من الثياب الغالب عليها القز كالخز وغيره فلا بأس به، ويكره ما كان ظاهره القز. وكذا ما كان خط منه قز وخط منه خز وهو ظاهر فلا خير فيه.

وظاهر مذهب أبي حنيفة عدم الجمع في المتفرق إلا إذا كان خط منه خز وخط منه غيره بحيث يرى كله خزًّا فلا يجوز، فأما إذا كان كل واحد مستبينًا كالطرز في العمامة فظاهر المذهب أنه لا يجمع. (وجوزه الشافعي باطنًا غير ظاهر.

قال القاضي: والصحيح جوازه؛ لأن الحرير ثبت منعه مع الذهب، بقي غيره على الإباحة لا سيما مع فعل الأعيان من الصحابة. ولأبي داود من حديث عبد الله بن سعد عن أبيه قال: رأيت رجلاً ببخارى على بغلة عليه عمامة خز سوداء، فقال: كسانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

. قال النسائي: قال بعضهم: إن هذا الرجل عبد الله بن خازم السلمي أمير خراسان

(3)

.

(1)

"الاستذكار" 8/ 305 - 306، و"شرح ابن بطال" 9/ 87.

(2)

أبو داود (4038)، والنسائي في "الكبرى" 5/ 476.

(3)

جاء في هامش الأصل: وكذا نقله المحب الطبري في "أحكامه" عن النسائي، وكذا عينه المزي في "أطرافه". [قلت: عَيَّنَه المزي قائلاً: قيل: إن هذا الرجل "عبد الله

" فذكره. "الأطراف" 11/ 153 (15578). كما أنه قد أفاد أن الذي ذكر ذلك هو ابن حبان في "الثقات" انظر: "تهذيب الكمال" 10/ 292 (2221). =

ص: 615

ولما ذكره البخاري في "تاريخه" قال: ما أرى أنه أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

= هذا وقد جاور الحاشية الأولى في هامش الأصل حاشية أخرى نصها: خازم بالخاء المعجمة والصحيح أنه تابعي، وقد غمزه الذهبي في "تجريده"، وفي غيره قال: إنه صحابي فتناقض كلامه. [قلت: ينظر التعليق التالي].

(1)

"التاريخ الكبير" 4/ 67، وقد عقب العيني على قول البخاري قائلاً: قلت: ذكره الذهبي في "تجريد الصحابة" وقال: عبد الله بن خازم بن أسماء بن الصلت، أبو صالح السلمي أمير خرسان بطل مشهور، قيل: له صحبة. وتمت له حروب كثيرة أوردناها في "التاريخ الكامل". اهـ "عمدة القاري" 18/ 17.

ص: 616

‌14 - باب السَّرَاوِيلِ

5804 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ» . [انظر: 1740 - مسلم: 1178 - فتح 10/ 272]

5805 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ إِذَا أَحْرَمْنَا؟ قَالَ:«لَا تَلْبَسُوا القَمِيصَ، وَالسَّرَاوِيلَ، وَالْعَمَائِمَ وَالْبَرَانِسَ، وَالْخِفَافَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ نَعْلَانِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ» . [انظر: 134 - مسلم: 1177 - فتح 10/ 272]

ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ". وحديث ابن عمر السالف في الباب قبله. ثم ترجم:

ص: 617

‌15 - باب العَمَائِمِ

5806 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ الْقَمِيصَ، وَلَا العِمَامَةَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا الْبُرْنُسَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ، وَلَا الْخُفَّيْنِ، إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمَا فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» . [انظر: 134 - مسلم: 1177 - فتح 10/ 273]

و (ذكر)

(1)

حديث ابن عمر المذكور أيضًا:

السراويل غير مصروف، يذكر ويؤنث. قال سيبويه: سراويل واحدة، وهي أعجمية، أعربت لما أشبهت في كلامهم ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، فهي مصروفة في النكرة، وإن سميت بها رجلا لم يصرفها، وكذلك إن حقرتها اسم رجل؛ لأنها مؤنث على أكثر من ثلاثة أحرف مثل عناق، ومن النحويين من لا يصرفه أيضًا في النكرة، ويزعم أنه جمع سِرْوال وسِرْوَالة.

قال في "الصحاح": والعمل على القول الأول، والثاني أقوى (وحكى إعجامها)

(2)

، والورس: نبت باليمن، يصبغ به، أصفر

(3)

.

فصل:

ولبس السراويل من الأمر القديم كما سلف

(4)

. وروى أحمد من حديث أبي أمامة قلنا: يا رسول الله؛ إن أهل الكتاب يتسرولون

(1)

من (ص 2).

(2)

من (ص 2).

(3)

"الصحاح" 5/ 1729 مادة: (سرل)، 3/ 988 مادة:(ورس).

(4)

بداية الكلام من (ص 2).

ص: 618

ولا يتزرون، فقال عليه السلام:"تسرولوا واتزروا وخالفوا أهل الكتاب"

(1)

وصح أنه صلى الله عليه وسلم اشتراه.

والظاهر أنه كان قبل الهجرة ولم يبلغنا أنه تسرول بالمدينة.

وفي "صحيح ابن حبان" من حديث سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبد بُرًّا من هجر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فساومنا)

(2)

بسراويل وعنده وزان يزن بالأجر، فقال صلى الله عليه وسلم، "زن وأرجح".

قال ابن حبان: وأراد به من ماله فيقع ثمن السراويل راجحًا

(3)

. وأخرجه أحمد أيضًا من حديث مالك بن عمير الأسدي قال: قدمت قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى منى سراويل فأرجح لي

(4)

.

وفي "الطبراني الكبير" من حديث أبي هريرة في شرائه صلى الله عليه وسلم -وقال: "زن وأرجح"، قلت: يا رسول الله، وإنك لتلبس السراويل؟ قال:"نعم، في السفر والحضر والليل والنهار، فإني أمرت بالستر، فلم أجد شيئًا أستر منه"

(5)

، ثم قال: تفرد به الأفريقي

(6)

.

(1)

أحمد 5/ 264، وحسنه الألباني في "جلباب المرأة المسلمة" ص 184.

(2)

في الأصل: فسامنا، والمثبت من "صحيح ابن حبان".

(3)

ابن حبان 11/ 547 (5147).

(4)

أحمد 6/ 29.

(5)

رواه الطبراني في "الأوسط" 6/ 349، وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 122: فيه يوسف بن زياد البصري، وهو ضعيف.

(6)

هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم بن منبه الشعباني أبو أيوب، ويقال: أبو خالد الأفريقي، قاضيها.

قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد عنه؛ فقال: سألت هشام بن عروة عنه فقال: دعنا منه؟ حديثه حديث مشرقي.

وقال أبو طالب، عن الإمام أحمد بن حنبل: ليس به شيء. وقال عبد الرحمن بن =

ص: 619

وفيه أيضًا من حديث أبي رهم السمعي مرفوعا: "إن من لبسة الأنبياء: القميص قبل السراويل، وإن مما يستجاب به عند الدعاء العطاس"

(1)

، وفي إسناده معاوية بن يحيى الأطرابلسي ضعفوه

(2)

.

وفي "معرفة الصحابة" لأبي نعيم من حديث مالك بن العتاهية مرفوعا: "إن الأرض لتستغفر للمصلي في السراويل"

(3)

. فيه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب)

(4)

.

= أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن الأفريقي وابن لهيعة أيهما أحب إليكما؟

قالا: جميعًا ضعيفين.

وقال الترمذي: ضعيف عند أهل الحديث؛ ضعفه يحيى القطان وغيره.

وقال النسائي: ضعيف.

وقال ابن شاهين: ليس به بأس، وفيه ضعف، وهو أحب إلى من أبي بكر بن أبي مريم الغساني.

توفي سنة 156 هـ، وكان أول مولود ولد بأفريقية في الإسلام.

انظر: "الجرح والتعديل" 5/ 234 (1111)، "الضعفاء" للعقيلي 2/ 332، "أسماء الثقات" لابن شاهين ص 147 (806)، "تهذيب الكمال" 17/ 102.

(1)

"المعجم الكبير" 22/ 336، وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 181: رجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر.

(2)

بل اختلفوا؛ قال معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين: ليس به بأس.

وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عنه؛ فقالا: صدوق، مستقيم الحديث. وقال أبو زرعة: هو ثقة. وقال الدراقطني: ضعيف. وكذا قال البغوي وقال ابن حجر: صدوق له أوهام.

انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 384 (1754)، "الضعفاء والمتروكين" للدارقطني (512)، "تهذيب الكمال" 28/ 226، "تقريب التهذيب"(6773).

(3)

"معرفة الصحابة" 5/ 2468 (2809)، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(1408).

(4)

نهاية الكلام من (ص 2).

ص: 620

والعمائم: تيجان العرب وهي زيهم؛ وقد روي أن الملائكة الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر كانوا بعمائم صفر، وليس ذلك في العجم.

وقال مالك: العمة والاحتباء والانتعال من عمل العرب، وليس ذلك في العجم. وكانت العمة في أول الإسلام، ثم لم تزل حتى كان هؤلاء القوم.

قال ابن وهب: وحدثني مالك أنه لم ير أحدًا من أهل الفضل مثل يحيى بن سعيد [و]

(1)

ربيعة وابن هرمز إلا وهم يعتمون ولقد كنت في مجلس ربيعة، وفيهم أحد وثلاثون رجلاً ما منهم رجل إلا هو معتم، وإنه فيهم، ولقد كنت أراهم يعتمون في العشاء والصبح، وكان ربيعة لا يدع العمائم حتى تطلع الثريا وكان يقول: إني لأجد العمة تزيد في العقل

(2)

.

قال: وسئل مالك عن الذي يعتم بالعمامة ولا يجعلها من تحت حلقه فأنكرها. وقال: ذلك من عمل القبط وليست من عمة الناس، إلا أن تكون قصيرة لا تبلغ، أو يفعل ذلك في بيته أو في مرضه فلا بأس به، قيل له: فترخى بين الكتفين؟ قال: لم أر أحدًا ممن أدركت يرخي بين كتفيه إلا عامر بن عبد الله بن الزبير، وليس ذلك بحرام، ولكن يرسلها بين يديه وهو أجمل. وقال ابن ربيعة: رؤي جبريل في صورة دحية الكلبي، وقد سدل عمامته بين كتفيه.

وفي "سنن أبي داود" من حديث جعفر بن عمرو بن حريث. وفي حديث عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وعليه عمامة سوداء

(1)

مثبتة من هامش الأصل، وكتب: لعله سقط (و) فإني لا أعرف ربيعة بن هرمز.

(2)

"المنتقى" 7/ 219.

ص: 621

قد أرخى طرفها بين كتفيه

(1)

.

ورواه أبو داود من حديث علي بن حسين أيضًا، وفي الترمذي من حديثٍ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه. قال نافع: وكان ابن عمر يفعله. قال عبيد الله: ورأيت القاسم وسالمًا يفعلان ذلك. قال الترمذي: حسن غريب

(2)

.

وفي "الجهاد" لابن أبي عاصم: حدثنا أبو موسى، ثنا عثمان بن عمر، عن الزبير بن حوار، عن رجل من الأنصار قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبد الرحمن العمامة سنة؟ فقال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف:"اذهب فاسدل عليك ثيابك والبس سلاحك" ففعل، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبض ما سدل بنفسه ثم عممه، فسدل من بين يديه ومن خلفه.

ولأبي داود من حديث شيخ من أهل المدينة. قال عبد الرحمن بن عوف: عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يدي وخلفي

(3)

.

ولابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مريم عن رشدين، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف بعمامة سوداء من قطن، وأفضل له بين يديه مثل هذِه. ومن حديث شهر بن حوشب، عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة حرقانية

(4)

قد سدلها بين كتفيه.

(1)

أبو داود (4077)، والحديث في مسلم (1359) كتاب: الحج، باب: جواز دخول مكة بغير إحرام.

(2)

الترمذي (1736)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(717).

(3)

أبو داود (4079).

(4)

في هامش الأصل: جاء تفسيرها السوداء قال ابن الأثير: ولا ندري ما أصله. وقال الزمخشري: هي التي على لون ما أحرقته النار (

).

ص: 622

ومن حديث المسيب بن واضح ثنا عبد الله بن نافع، عن ابن جريج، عن نافع، عن عبد الله قال: عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عوف بعمامة سوداء كرابيس وأرخاها من خلفه قدر أربع أصابع وقال: هكذا فاعتم، فإنه أجمل.

قال أبو حاتم في "علله": ابن جريج لم يسمع منه ابن نافع شيئًا والحديث باطل

(1)

.

ومن حديث موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عند ابن أبي عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء

(2)

.

ومن حديث جابر: وعليه عمامة سوداء

(3)

.

ومن حديث أشعث بن سعيد: أخبرني عبد الله بن بسر الحبراني، عن أبي راشد الحبراني: سمعت عليًّا قال: عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر (بعمامة سوداء، سدل طرفها على منكبي وقال: "إن الله أمدني يوم بدر ويوم حنين بملائكة معتمين)

(4)

بهذِه العمة". وقال: "العمامة حجز بين المسلمين والمشركين"

(5)

.

(1)

"علل الحديث" 1/ 487.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 5/ 179 (24955).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 5/ 178 (24942).

(4)

ليست في الأصل.

(5)

رواه الطيالسي 1/ 130 - 131 (149). وابن ماجه (2810)، مختصرا، وابن عدي 4/ 1490 - 1491، والبيهقي في "سننه" 10/ 14. قال البوصيري في "الزوائد" ص 379 (943): هذا إسناد ضعيف؛ فيه عبد الله بن بسر الحبراني الحمصي، ضعفه يحيى القطان ويحيى بن معين وأبو حاتم والترمذي والنسائي والدارقطني، وذكره ابن حبان في "الثقات" فما أجاد. وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (617). وعلى الجملة: لا يصح في فضل العمامة حديث غير أن النبي صلى الله عليه وسلم لبسها.

انظر: "التحديث بما قيل لا يصح فيه حديث" ص 171.

ص: 623

وفي حديث أبي عبيدة الحمصي، عن عبد الله بن بسر: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا يوم خيبر فعممه بعمامة سوداء أرسلها من ورائه وعن منكبه اليسرى

(1)

.

وفي "شمائل الترمذي" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة دسماء

(2)

.

ولأبي داود عن ركانة قال صلى الله عليه وسلم: "فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس"

(3)

.

وفي "علل الترمذي" من حديث أبي المليح، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعتموا تزدادوا حلمًا" قال: وسألت محمدًا عنه فقال: عبيد الله بن أبي حميد راويه عن أبي المليح ضعيف ذاهب الحديث، لا أروي عنه شيئًا

(4)

.

وذكر الكلبي عن الشرباص بن العظامي أن أول من اعتم من العرب عدي بن نمارة بن لخم بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن يعرب بن زيد بن كهلان بن سبأ، فلقب: عمما.

(1)

رواه الضياء في "الأحاديث المختارة" 9/ 109 - 110، وذكره الهيثمي في "المجمع" 5/ 268، وعزاه للطبراني، وقال: لم أجد لأبي عبيدة عيسى بن سليم من عبد الله بن بسر سماعًا.

انظر الحديث السابق، وتضعيف الأئمة لعبد الله بن بسر.

(2)

"شمائل الترمذي" ص 52 (119)، وصححه الألباني في "مختصر الشمائل" ص 68 (95).

(3)

أبو داود (4078)، وضعفه الألباني في "الإرواء"(1503)، ونقل قول الترمذي: حديث غريب وإسناده ليس بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة. وقال الألباني: للحديث شاهد مرسل صحيح رواه البيهقي 10/ 18.

(4)

"العلل" 2/ 751، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" 3/ 212.

ص: 624

قال الجواني: كانوا قبل ذلك يلبسون عصائب الملك وتيجانه. وفي "الكامل" للمبرد: لما طلق خالد بن يزيد بن معاوية آمنة بنت سعيد بن العاصي بن أمية قال فيها:

فتاة أبوها ذو العصابة وابنه

أخوها فما أكفاؤها بكثير

وزعم الدمياطي أن هذا قاله عمرو بن سعيد حين خطبها عبد الملك. [قال]

(1)

: وزعم بعضهم أن هذا اللقب إنما لزمه للسيادة، وذلك أن العرب تقول: فلان معتم. يريدون أن كل جناية يجنيها الجاني من قبيلته معصوبة برأسه.

قال المبرد: يعني بذي العاصبة أباها سعيد بن العاص، وذلك أن قومه يذكرون أنه كان إذا اعتم لم يعتم قرشي إعظامًا له وينشدون:

أبو أحيحة من يعتم عمته يُضرب

وإن كان ذا مال وذا ولد

(2)

وذكر ابن دريد في "وشاحه" أن ذا العصابة هو أبو أحيحة خالد بن

سعيد بن العاصي.

قال: ويقال له: ذو العمامة أيضًا.

وفي "قطب السرور" للرفيق: كان حرب بن أمية أبو أبي سفيان بن حرب له عمامة سوداء، إذا لبسها لم يعتم ذلك اليوم أحد.

فرع:

نص الزاهدي من الحنفية أن لف العمائم الطويلة ولبس الثياب الواسعة حسن في حق الفقهاء الذين هم أعلام الهدى دون الناس.

(1)

من (ص 2).

(2)

انظر: "الكامل في اللغة والأدب" 1/ 285.

ص: 625

فائدة:

في الأحاديث الموضوعة: صلاة بعمامة خير من سبعين صلاة بغير عمامة

(1)

. وروي: من صلى وجنبه مشدود كان خيرًا ممن صلى سبعين صلاة مكشوف، وهو مثله.

(وفي الطبراني من حديث أبي حمزة أيضًا من حديث أبي المليح عن أبيه. وقد سلف من حديث مالك بن مغول، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا:"عليكم بالعمائم فإنها سيماء الملائكة، وأرخوا لها خلف ظهوركم"

(2)

.

وعن ابن عمر مرفوعا أنه كان يدير كور العمامة على رأسه

(3)

. وعنه مرفوعا: كان يسدل عمامته بين كتفيه)

(4)

(5)

.

(1)

روي بلفظ: "صلاة بعمامة تعدل بخمس وعشرين وجمعة بعمامة تعدل تسعين جمعة" ذكره العجلوني في "كشف الخفاء" 2/ 590، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" 1/ 187، والفتني في "تذكرة الموضوعات" 1/ 1182.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم " ص 123، وابن حبان في "الضعفاء" 3/ 153، والبيهقي في "الشعب" 5/ 174. وقال الألباني في "الضعيفة" (4267): منكر.

(4)

من (ص 2).

(5)

رواه الترمذي (1736)، وابن حبان في "صحيحه" 14/ 307 (6393)، وقال الترمذي: حسن غريب. وصححه الألباني في "مختصر الشمائل"(94).

ص: 626

‌16 - باب التَّقَنُّعِ

قَالَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ عِمَامَة دَسْمَاءُ. [انظر: 3800] وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: عَصَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ. [انظر: 3799]

5807 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي» . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَ تَرْجُوهُ بِأَبِي أَنْتَ. قَالَ: «نَعَمْ» . فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِصُحْبَتِهِ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِنَا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَقَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُقْبِلاً مُتَقَنِّعًا، فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدًا لَهُ بِأَبِي وَأُمِّي، وَاللهِ إِنْ جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ لأَمْرٍ. فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لأَبِي بَكْرٍ:«أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ» . قَالَ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ» . قَالَ: فَالصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِالثَّمَنِ» . قَالَتْ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الجِهَازِ، وَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَأَوْكَتْ بِهِ الْجِرَابَ، -وَلِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقِ- ثُمَّ لَحِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ، فَمَكُثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهْوَ غُلَامٌ شَابٌّ لَقِنٌ ثَقِفٌ، فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلاَّ وَعَاهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ -مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ- مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلِهَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ

ص: 627

مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ. [انظر: 476 - فتح 10/ 273]

ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها: قالت: هاجر إلى الحبشة رجال، وجهز أبو بكر مهاجرًا.

الحديث في الهجرة، وقد سلف فيها، وفي البيوع: في باب من اشترى متاعًا، والإجارة ويأتي في الأدب

(1)

.

وموضع الحاجة منه (فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا في هذِه الساعة) والتقنع للرجل عند الحاجة مباح. وقال ابن وهب: سألت مالكًا عن التقنع بالثوب فقال: أما الرجل الذي يجد الحر والبرد أو الأمر (الذي له)

(2)

فيه عذر فلا بأس به، وأما لغير ذلك فلا، ولقد كان أبو النضر يلزم ذلك لبرد يجده وما بذلك بأس.

وذكر ابن أبي زيد عن مالك قال: رأت سكينة أو فاطمة بنت الحسين بعض ولدها متقنعًا رأسه فقالت: اكشف عن رأسك فإن القناع ريبة بالليل ومذلة بالنهار، وما أعلمه حرامًا وأكرهه لغير عذره، ولكن ليس من لباس خيار الناس.

وقال الأبهري: إذا تقنع لدفع مضرة فمباح ولغيره مكروه، فإنه من فعل أهل الريب، ويكره أن يفعل شيئًا يظن به الريبة، وليس ذلك من فعل من مضى

(3)

.

(1)

سلف برقم (2138) كتاب: البيوع، وبرقم (2263) كتاب: الإجارة، باب: استئجار المشركين عند الضرورة، وبرقم (3905) كتاب: مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبرقم سيأتي (6079) كتاب: الأدب، باب: هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة وعشيًّا؟

(2)

في الأصل: (الذي ليس له)، ولا يستقيم المعنى.

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 92.

ص: 628

فصل:

سلف تفسير الدسماء في بابه بعد أبواب الجمعة.

وقوله: (عصب على رأسه حاشية برد) عصَّب بتشديد الصاد، قال الجوهري: حاشية البرد جانبه

(1)

.

وقال القزاز: حاشيتا الثوب: ناحيتاه اللتان في طرفهما الهدب، واعترض الإسماعيلي فقال: ما ذكره من العصابة لا مدخل له في التقنع فإنه تغطية الرأس، وهي شده الخرقة على ما أحاط بالرأس كله.

وقوله: ("على رِسْلك") هو بكسر الراء، أي: اتئد فيه، كما يقال: على هينتك، و (السمر) -بضم الميم- من شجر الطلع، وهو شجر العضاه، ذات شوك. وقوله:(متقنعًا)، لعله لأجل الحر

(2)

وقول أبي بكر: فداك أبي وأمي، إن كسرت الفاء مددت، وإن فتحت قصرت. قال ابن التين: وهو الذي قرأنا هنا.

فصل:

قوله: (والله إن جاء في هذِه الساعة إلا لأمر). وفي نسخة: (إلا أمر)، وذكر ابن بطال بلفظ:(الأمر)، ثم قال:(إن) ههنا مؤكدة، واللام في قوله:(لأمر) لام التأكيد، لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] في قراءة من فتح اللام، وهو الكسائي وقوله:{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} [القلم: 51]، وقوله:{وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]. هذا قول سيبويه والبصريين.

(1)

"الصحاح" 6/ 2313.

(2)

ورد بهامش الأصل: الذي يظهر أنه تقتع، ليختفي على رائيه لا لحر ولا لبرد بل للاختفاء، والله أعلم.

ص: 629

وأما الكوفيون (فيجعلون)

(1)

(إن) ههنا نافية بمعنى ما، والمعنى: إلا، والتقدير عنده: ما كان إلا أمر، وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين، وما يكاد الذين كفروا إلا يزلقونك.

وهذِه دعوى يحتاج فيها إلى حجة قاطعة، وإخراج الكلام عن موضعه لا يصح إلا إذا أبطل معنى نسقه وموضوعه، وقد صح المعنى في نسقه

(2)

، وقوله قبله:(علف راحلتين). قال صاحب "الأفعال" يقال: علفت الدابة وأعلفتها، واللغة الأولى أفصح

(3)

.

فصل:

والسُّفْرَة -بالضم- طعام يصنع للمسافر، ومنه سميت السفرة، والجراب بكسر الجيم أفصح من فتحها. قال الجوهري: و (العامة)

(4)

تفتحه

(5)

وحكاها غيره.

وقوله: (فقطعت أسماء قطعة من نطاقها)، فيه جواز عطية ذات الزوج بغير إذنه، وبه قال: (

)

(6)

قال الجوهري: والنطاق: شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها، ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة، والأسفل ينجر على الأرض، وليس لها حجزة ولا نيفق ولا ساقان

(7)

.

(1)

في الأصل، (ص 2): فيجعل.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 96 - 97.

(3)

"الأفعال" لابن القوطية ص 15.

(4)

ليست في الأصل.

(5)

"الصحاح" 2/ 686 مادة (سفر)، 1/ 98 مادة: جرب.

(6)

بياض بالأصل.

(7)

"الصحاح" 4/ 1559 مادة: (نطق).

ص: 630

وقال الهروي نحوه، وزاد: وبه سميت أسماء ذات النطاقين؛ لأنها كانت تطاوق نطاقًا على نطاق

(1)

.

قال ابن التين: وهذا مخالف لما في الكتاب، قلت: لا مخالفة فتأمله، ثم نقل عن الشيخ أبي محمد: شقت نصف نطاقها للسفرة وانتطقت بنصفه.

قال الداودي: النطاق: المئزر، وقال ابن فارس: هو إزار فيه تكة تلبسه النساء

(2)

.

وفيه: اتخاذ الفضلاء الزاد في أسفارهم وردُّ قول من أنكر ذلك من الصوفية، وزعم: أن من صح توكله ينزل عليه طعام من السماء إذا احتاج. ولا أجد أصح توكلًا من الشارع والصديق.

فصل:

وقوله: لقِن ثقِف فاللقِن: الفهم -بكسر القاف-، يقال: لقن الشيء لقنًا ولقانة عقلا وذكاء، وقال ابن فارس: سريع الفهم، وكذا قاله الجوهري، ويجوز سكونها

(3)

، وقال الهروي: هو الحسن التلقي لما يسمعه، وثقف بكسر القاف، قال ابن التين: كذا قرأناه.

قال الجوهري: تقول: ثقُف الرجل إذا صار حاذقًا خفيفًا فهو ثَقْف، مثل ضَخُم فهو ضَخْم، وكذا هو في بعض الروايات بسكون القاف.

وقال الجوهري: وثقِف أيضًا مثل تعب تعبا لغة في ثَقُف، أي: صار حاذقًا فطنًا فهو ثَقِف ثَقُف مثل حَذِر وحَذُر

(4)

.

(1)

"غريب الحديث" 2/ 31.

(2)

"مجمل اللغة" 2/ 872 مادة: (نطق).

(3)

"مقاييس اللغة" ص 942 مادة: (لقن)، "الصحاح" 6/ 2196 مادة (لقن).

(4)

"الصحاح" 4/ 1334 مادة: (ثقف).

ص: 631

وعبارة ابن بطال لما ذكر الملقن قال: والثقف مثله، يقال: ثقفت الحديث: أسرعت فهمه وثقفت الشيء: أخذته، ومنه قوله تعالى:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}

(1)

وأكثر كلام العرب: ثَقْف: لقَفْ، وثَقِفَ لقف: أي: راوٍ، شاعر رام وهذا شاع عن الخليل

(2)

.

فصل:

قوله: (يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر)، وذكر الهروي

(3)

أن اسم ولد أبي بكر هذا عبد الرحمن، وهو غريب.

فصل:

والرسل بكسر الراء: اللبن، ونعق ينعق (بالغنم)

(4)

إذا صاح بها، عن الخليل

(5)

.

فصل:

في استخفائهم في الغار عندما أراد المشركون المكر بنبيه وقتله كما وصفه الله بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ} الآية. إلى أن سكن الطلب، ثم هاجر بالإذن، لتكون سنة لأمته، وإلا لو سأله أن يعمي الخلق عنه أو يخسف بهم لكان هينًا عليه، وكذا في هجرتهما خوفًا على مصيرهما رد على من قال: من رأى منكم منكرًا يغيره وإن أدى إلى هلاك نفسه، وإلا كان مضيعًا فرضًا.

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 97.

(2)

"العين" 5/ 138 مادة (ثقف).

(3)

وقع بهامش الأصل ما نصه: روجع كتاب "الغريبين" للهروي فوجد فيه (عبد الله) كما في "الصحيح" وكأن شيخنا في نسخته "الغريبين" غلط. والله أعلم.

(4)

في الأصل: بالعين.

(5)

"العين" 5/ 171 مادة: (نعق).

ص: 632

وفيه أيضًا: فساد قول من منع أن يتحيز بيته أويتحيز إلى حصن إذا خشي على نفسه، وقال: قد برئ من التوكل من فعل هذا؛ لأن الضر والنفع بيد الله، والله أمر نبيه بدخول الغار والاختفاء فيه من شرار خلقه، وكان سيد المتوكلين، وبأن أيضًا فساد قول من زعم أن من خاف شيئًا سوى الله لم يؤمن بالقدر، وذلك أن الصديق قال للشارع: لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا حذرا أن يكون ذلك من بعضهم فيلحقهما الضرر، وبذلك أخبر الله في قوله:{إِلَّا تَنْصُرُوهُ} الآية، فلم يصفه ولا رسوله بذلك من قوله؛ لضعف اليقين (بل كان من اليقين)

(1)

لقضاء الله وقدره في المحل الأعلى، وكان الذي منه، مثل ما كان من موسى (إذ)

(2)

أوجس في نفسه خيفة: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)} .

فصل:

فيه الدليل الواضح على ما خص الله به (صديق نبيه)

(3)

من الفضيلة والكرامة ورفيع المنزلة عنده؛ لاختياره إياه دون باقي الأمة (لموضع سره)

(4)

وخفي أموره التي كان يخفيها عن سائر أصحابه، ولصحبته في سفره، إذ لم يعلم أحد بكونه في الغار أيام مكثه فيه غيره وحاشيته من ولد له ومولى وأجير، (ولا صحبه في طريقه غيره)

(5)

، وخصص له بذلك دون قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبين بذلك منزلته عنده، ودل به على اختياره إياه لأمانه ولأمانته عليه.

(1)

من (ص 2).

(2)

في (ص 2): إذا.

(3)

في الأصل: (الصديق بنبيه).

(4)

في (ص 2): بموضع ستره.

(5)

من (ص 2).

ص: 633

فصل:

وفيه المعنى الذي استحق به اسم الصديق بحبس نفسه عليه بقوله له: إني لأرجو أن يؤذن لي في الهجرة، فبادر إلى صدقه، ولم يرتب عالماً بحالته معه، وتحريه الصدق عليه، وتكلف النفقة على الراحلتين وأعد إحداهما له، وبذل ماله كما بذل نفسه في الهجرة معه، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم:"ليس أحد أمن علي في نفسه وماله منه".

فصل:

وفيه: أن المرء (ينبغي)

(1)

له أن يتحفظ بسره ولا يطلع عليه إلا من تطيب نفسه عليه، لقوله للصديق:"أخرج مَنْ عندك" ليخبره بخروجه مخليًا به، فلما قال له الصديق: إنما هم أهلك، وعلم أن شفقتهم عليه كشفقة أهله، أطلعه حينئذٍ على سره، وأنه قد أذن في الخروج، فبدر الصديق وقال: الصحبة، قبل أن يسأله ذلك، وهذا من أبلغ المشاركة وأعظم الوفاء له.

فصل:

وقوله للصديق "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" أي: بالحفظ والكلاءة، ولم يرد أنه يعلم مكانهما فقط، كما قال تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} الآية، ويدل أنه (أراد)

(2)

الله ثالثهما بالحفظ قوله: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} أي: يكلؤنا ويحفظنا، ولو أراد يعلمنا لم يكن (له)

(3)

ولا لصاحبه فضيلة على أحد من الناس، لأن

(1)

من (ص 2).

(2)

في (ص 2): لو أراد.

(3)

في الأصل: فيه.

ص: 634

الله شاهد كل نجوى وعالم بها، وإنما كان فضيلة له ولصاحبه حين كان الله ثالثهما بأن صرف عنهما طلب المشركين، وأعمى أبصارهم، وسيأتي في التمني معنى قوله: لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا في باب ما يجوز من اللو، إن شاء الله.

ص: 635

‌17 - باب المِغْفَرِ

5808 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ [مَكَّةَ] عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ. [انظر: 1846 - مسلم: 1357 - فتح 10/ 273]

ذكر فيه حديث مالك، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّه عليه السلام دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ المِغْفَرُ.

وقد سلف في الحج

(1)

، والمغفر كما قال الأصمعي: زرد تنسج من الدرع على قدر الرأس تلبس تحت القلنسوة.

وقال الداودي: يعمل على الرأس والكتفين.

وقال ابن بطال: المغفر من حديد وهو من آلات الحرب، ودخوله عليه السلام يوم الفتح كان في حال القتال ولم يكن محرمًا كما قال ابن شهاب

(2)

، وقد عد هذا الحديث في أفراد مالك عن الزهري وإنما الصحيح أنه دخلها يوم الفتح وعليه عمامة سوداء.

كما أخرجه الترمذي من حديث حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر ثم قال: حسن

(3)

، ولم يكن عليه مغفر لكن في حديث الزهري للنسائي: أن الأوزاعي رواه عن الزهري كما رواه مالك

(4)

بذكر

(1)

سلف برقم (1846) باب: دخول الحرم ومكة بغير إحرام.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 97.

(3)

الترمذي (1735).

(4)

ورد بهامش الأصل: قد ورد ذلك من حديث غير مالك عن الزهري فورد من حديث الأوزاعي -كما قاله شيخنا هنا، ومن طريق ابن أخي الزهري، وابن أويس عبد الله بن عبد الله ابن أبي عامر، ومعمر، وقد قرر كل ذلك شيخنا العراقي في "نكته" فاعلمه.

ص: 636

المغفر

(1)

، وقد يمكن أن يكون عليه السلام عليه مغفر وتحته عمامة سوداء لتتفق الروايتان، سواءً دخلها بمغفر أو بعمامة سوداء فحكمهما سواء ولا حرج عليه في ذلك إنما دخلها كذلك في الساعة التي أحلت له، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، وإنما اتخذ (الدرع)

(2)

وتسلح به في حال الحرب، وقد أخبر الله: أن الله يعصمه من الناس ليسن ذلك لأمته، ليقتدي به الأئمة والصالحون.

(1)

النسائي 5/ 201.

(2)

في (ص 2): المغفر.

ص: 637

‌18 - باب الْبُرُودِ وَالْحِبَرَةِ وَالشَّمْلَةِ

وَقَالَ خَبَّابٌ: شَكَوْنَا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ. [انظر: 3612]

5809 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. [انظر: 3149 - مسلم: 1057 - فتح 10/ 275]

5810 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ -قَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرِي مَا البُرْدَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، هِيَ الشَّمْلَةُ، مَنْسُوجٌ فِي حَاشِيَتِهَا- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا. فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا لإِزَارُهُ، فَجَسَّهَا رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اكْسُنِيهَا. قَالَ:«نَعَمْ» . فَجَلَسَ مَا شَاءَ اللهُ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَطَوَاهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلاً. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللهِ مَا سَأَلْتُهَا إِلاَّ لِتَكُونَ كَفَنِى يَوْمَ أَمُوتُ. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. [انظر: 1277 - فتح 10/ 275]

5811 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هِيَ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ» . فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ قَالَ: ادْعُ اللهَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ» . ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ:«سَبَقَكَ عُكَاشَةُ» . [6542 - مسلم: 216 - فتح 10/ 276]

ص: 638

5812 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَيُّ الثِّيَابِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: الحِبَرَةُ. [انظر: 5813 - مسلم: 2079 -

فتح 10/ 276]

5813 -

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا 7/ 190 مُعَاذٌ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَهَا الحِبَرَةَ. [انظر: 5812 - مسلم: 2079 - فتح 10/ 276]

5814 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ. [مسلم: 942 - فتح 10/ 276]

وقال خباب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو متوسد بردة له، وقد سلف في الصلاة

(1)

.

ثم ذكر فيه أحاديث:

أحدها: حديث أنس في جبذ الأعرابي بردائه، وقد سلف قريبًا

(2)

.

وثانيها: حديث سهل بن سعد: جاءت امرأة (ببردة)

(3)

، وقد سلف أيضًا

(4)

.

وثالثها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ (هِيَ)

(5)

(1)

سلف برقم (3612) كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، وليس في الصلاة كما ذكر.

(2)

سلف برقم (3149) كتاب: فرض الخمس، باب: ما كان النبي يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه.

(3)

من (ص 2).

(4)

سلف برقم (1277) كتاب: الجنائز، باب: من استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه.

(5)

من (ص 2).

ص: 639

سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ القَمَرِ". فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ .. الحديث، وقد سلف قريبًا.

ورابعها: حديث قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَيُّ الثِّيَابِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: الحِبَرَةُ.

وفي لفظة: كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْبَسَهَا الحِبَرَةَ.

وخامسها: حديث عائشة: أَنَّه صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ. وقد سلف أيضًا.

والبردة كساء أسود مرقع فيه صغر تلبسه الأعراب والجمع: برود. قال الجوهري: والبرد من الثياب والجمع برود

(1)

.

وقال الداودي: البرود كالأردية والميازر، (وبعضهم)

(2)

أفضل من بعض، وقال ابن بطال: النمرة والبرد سواء

(3)

.

وفيه: تواضعه صلى الله عليه وسلم في لبسه، والشملة: كساء يشتمل به، قاله الجوهري

(4)

.

قال ابن السكيت: يقال: كم اشتريت شملة تشملني، وقال الداودي: هي البردة. قال: وقوله: منسوج في حاشيتها يقول: [بها]

(5)

حاشيتان ثم تشق من برد كبير فيتخذ مئزرًا.

والحبرة بوزن عنبة: برد يمان، قاله الجوهري

(6)

.

(1)

"الصحاح" 2/ 446 مادة: (برد).

(2)

كذا بالأصل وعليها إشارة إلى الهامش وكتب بالهامشك وبعضها أو وبعضهن.

(3)

"شرح ابن بطال" 9/ 100.

(4)

"الصحاح" 5/ 1739، مادة:(شمل).

(5)

ليست في الأصل.

(6)

"الصحاح" 2/ 621 مادة (حبر).

ص: 640

قال الداودي: هي الخضر؛ لأنها لباس أهل الجنة. قال: ولذلك يستحب في الكفن ولذلك سُجي رسول الله صلى الله عليه وسلم بها والبياض خير منها.

وفيه كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: أحد أكفانه حبرة، والأول أكثر. وقال الهروي: وهي الموشية المخططة

(1)

.

ومعنى (سجي ببرد حبرة) أي: مد عليه. يقال: سجيت الميت. إذا مددت عليه ثوبًا.

وقال ابن بطال: البرود هي برود اليمن التي تصنع من قطن وهي الحبرات يشتمل بها، وهي كانت أشرف الثياب عندهم.

ألا ترى أنه (عليه السلام سجي بها حين توفي ولوكان أفضل من البرود شيء لسجي به.

وفيه: جواز لباس)

(2)

رفيع الثياب للصالحين وذلك داخل في معنى قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ} الآية.

وفي حديث أنس ما يجبل عليه الشارع من شريف الأخلاق وعظيم الصبر على جفاء الجهال والصفح عنهم والدفع بالتي هي أحسن، ألا ترى أنه ضحك حين جبذه الأعرابي ثم أمر له بعطاء ولم يؤاخذه.

وفي حديث سهل: كرم الشارع وإيثاره على نفسه، وإن كان في حال حاجة آخذًا بـ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية.

وفيه: أنه ينبغي التبرك بثياب الصالحين ويتوسل بها إلى الله تعالى في الحياة والممات

(3)

.

(1)

"غريب الحديث" 1/ 60.

(2)

من (ص 2).

(3)

سبق الكلام عن هذِه المسألة بالتفصيل وبينا الحق فيها.

ص: 641

وفيه: جواز أخذ الهدية للرجل الكبير ممن هو دونه إذا علم طيب ما عنده.

وفيه: جواز (لوم من سأل)

(1)

الإمام والخليفة ما عليه من ثيابه

(2)

، وسلف معنى قوله:"سبقك بها عكاشة".

(1)

في الأصل: كونه من سؤال.

(2)

"شرح ابن بطال" 9/ 99 - 100.

ص: 642

‌19 - باب الأَكْسِيَةِ وَالْخَمَائِصِ

5815، 5816 - حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهْوَ كَذَلِكَ:«لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا. [انظر: 435، 436 - مسلم: 531 - فتح 10/ 277]

5817 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَمِيصَةٍ لَهُ لَهَا أَعْلَامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ:«اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي، وَائْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ» . [انظر: 373 - مسلم: 556 - فتح 10/ 277]

5818 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً وَإِزَارًا غَلِيظًا فَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَيْنِ. [انظر: 3108 - مسلم: 2080 - فتح 10/ 277]

ذكر فيه حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنه قَالَا: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهْوَ كَذَلِكَ:"لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ". يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.

وحديث عائشة رضي الله عنها: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَمِيصَةٍ [-لَها أَعْلَامٌ -، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلَامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: "اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هذِه إِلَى أَبِي جَهْمٍ]

(1)

، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاِتي،

(1)

من (ص 2).

ص: 643

وَأتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ".

وحديث أبي بردة قال: أَخْرَجَتْ إِلَيْنَا عَائِشَةُ كِسَاءً وَإِزَارًا غَلِيظًا قال: قُبِضَ رُوحُ الرسول صلى الله عليه وسلم فِي هَذَيْنِ. وقد سلفت.

والحديث الأول أخرجه من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة وابن عباس. هذا هو الصواب.

ووقع في بعض النسخ زيادة (أبيه) قبل (عائشة وابن عباس) وهو وَهَمٌ كما نبه عليه الجياني

(1)

، والخمائص: جمع خميصة، أكسية من صوف سود مربعة لها أعلام كانت من لباس السلف.

وقال الأصمعي: إنها ثياب من خز أو صوف معلمة وهي سود

(2)

، وقد سلف ذلك وتفسير الأنبجانية وضبطها واضحًا في الصلاة، وعبارة عيسى: الخميصة: كساء من صوف لها علم من حرير، وعبارة ابن فارس: كساء من صوف

(3)

معلم. زاد الجوهري: مربع

(4)

.

وقال (الفراء)

(5)

: له علمان. قال: ولذلك أمر الشارع أن يذهب بها إلى أبي جهم ويأتوه بأنبجانية -وهي كساء غليظ كثيرة الصوف- فعل ذلك تواضعًا، قالوا كلهم: فإن لم تكن معلمة فلا تسمى خميصة.

وقال الداودي: هي أكسية من صوف رقاق، وربما كانت فيها أعلام قد تكون غلاظًا، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة.

(1)

"تقييد المهمل" 2/ 727.

(2)

انظر: "غريب الحديث" 1/ 138.

(3)

في (ص 2): أسود.

(4)

"مجمل اللغة" 1/ 303، "الصحاح" 3/ 1038، مادة:(خمص).

(5)

من (ص 2).

ص: 644

فصل:

أبو بردة: اسمه (عامر)

(1)

بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري قاضي الكوفة، عزله الحجاج، وجعل أخاه مكانه، مات سنة ثلاث ومائة

(2)

، وأخوه أبو بكر عمرو

(3)

مات في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق، قال ابن نمير: كان أبو بكر أكبر من أبي بردة، وقد [اتفق]

(4)

عليهما

(5)

.

فصل:

أبو جهم: اسمه عامر، وقيل: عبيد أخو أبي خيثمة مؤرق وبنيه، كلهم أسلموا ولهم صحبة. بنو حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج أخي رباح ابني عدي بن كعب بفتح عين عبيد، وعويج أسلم يوم الفتح، وكان مقدمًا في قريش معظمًا فيهم.

وهو أحد الأربعة الذين كانت قريش تأخذ عنهم علم النسب -كما سيأتي- وأحد الأربعة الذين دفنوا عثمان وهم حكيم

(6)

وجبير ونيار، وكان فيه وفي بنيه شدة وعرامة، وكان من المعمرين من قريش، بني في الكعبة مرتين، مرة في الجاهلية (حين بنتها قريش ومرة حين بناها

(1)

ورد في هامش الأصل: كذا في "التذهيب" الحارث وقيل: عامر.

(2)

انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 6/ 268، "ثقات ابن حبان" 5/ 187، "تهذيب الكمال" 33/ 66 (6220).

(3)

ورد في هامش الأصل: وقيل: عامر.

(4)

في (ص 2): اتفقوا.

(5)

انظر ترجمته "طبقات ابن سعد" 6/ 269، "ثقات ابن حبان" 5/ 592، "تهذيب الكمال" 33/ 144 (7256).

(6)

ورد بهامش الأصل: حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، ونيار له صحبة ورواية، روى له الترمذي والباقون مشهورون أزيد من نيار.

ص: 645

ابن الزبير، وقال: عملت فيها مرتين، مرة في الجاهلية)

(1)

بقوة غلام، ومرة في الإسلام بقوة شيخ. وكان له من الولد عبد الله الأكبر أسلم يوم الفتح وقتل بأجنادين وهو أخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمه أم كلثوم بنت جرول الخزاعية، وعبد الله الأصغر، ومحمد -ولد على عهد رسول الله وقتل يوم الحرة صبرًا- وحميد وصخر وصخير وسليمان وعبد الرحمن، وكلهم كانت فيهم شراسة وعرامة، ومن أجلهم وقعت الحرب بين بني عدي وسليمان بن أبي حثمة، هاجر صغيرًا مع أمه الشفاء بنت عبد الله إلى المدينة، (وكان) من الفضلاء والصلحاء، استعمله عمر على السوق، وجمع (عليه)

(2)

وعلى أبيّ الناس يصليان بهم في شهر رمضان وكان قارئًا

(3)

.

أبو حثمة: أسلم ومات بمكة قبل الهجرة.

وابن سليمان: أبو بكر من رواة العلم، روى عنه الزهري.

وليلى بنت أبي حثمة: زوج عامر بن ربيعة أم بنته، قدمت المدينة مع زوجها، وقتل ابنها عبد الله الأكبر مع رسول الله بالطائف

(4)

.

قال ابن عباس: كان في قريش أربعة يتحاكم إليهم ويوقف عند قولهم يعني في النسب: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وأبو جهم بن حذيفة، وحويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسيل بن عامر بن لؤي.

(1)

من (ص 2).

(2)

من (ص 2).

(3)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة" 1/ 1154، "الوافي بالوفيات" 1/ 2319.

(4)

انظر ترجمته في: "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 6/ 3439 (4008)، "الاستيعاب" 4/ 462 (3516)، "أسد الغابة" 7/ 256 (7253).

ص: 646

‌20 - باب اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ

5819 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ خُبَيْبٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَعَنْ صَلَاتَيْنِ: بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ. [انظر: 368 - مسلم: 825، 1511 - فتح 10/ 278]

5820 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ: نَهَى عَنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ، وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ، وَلَا يُقَلِّبُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ بِثَوْبِهِ، وَيَنْبِذَ الآخَرُ ثَوْبَهُ، وَيَكُونَ ذَلِكَ بَيْعَهُمَا عَنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا تَرَاضٍ، وَاللِّبْسَتَيْنِ: اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ، وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقَيْهِ، فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، وَاللِّبْسَةُ الأُخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ وَهْوَ جَالِسٌ، لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. [انظر: 367 - مسلم: 1512 - فتح 10/ 278]

ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه السالف في الصلاة

(1)

.

وحديث أبي سعيد رضي الله عنه السالف أيضا.

الصماء: وهو أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب.

واللبسة الأخرى الاحتباء بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء.

وقال مالك: هو أن يشتمل على منكبيه ويخرج يسراه من تحت الثوب ونحوه.

(1)

سلف برقم (368) باب: ما يستر العورة.

ص: 647

قال ابن حبيب: فيصير جانبه الأيسر مكشوفًا ليس عليه من الغطاء شيء، فينكشف فرجه إذا لم يكن تحتها ثوب غيره، فإذا خالف لم يكن صماء؛ لأن العورة تكون حينئذ مستورة من كلتا جانبيه.

وقال ابن وهب: هو أن يرمي بطرف الثوب على شقه الأيسر.

وقال القاضي في جامع "معونته": هو أن يلتحف بالثوب ويرفعه على أحد جانبيه، فلا يكون ليده موضع تخرج منه، ولذلك سميت الصماء. وقيل: هو أن يلتف بثوب واحد ويحول طرفه الذي يلتف به على منكبه الأيسر فتبدو عورته.

واختلف قول مالك إذا فعل ذلك من فوق ثوب فكرهه مرة وإن كان (عليه)

(1)

مئزر وسراويل اتباعًا للنهي، وأجازه مرة؛ لأن المنع من خشية انكشاف العورة، وقد أمنت، والاحتباء على ثوب جائز؛ لأنه عليه السلام إنما نهى عنه إذا كان كاشفًا عن فرجه، (والله أعلم)

(2)

(3)

.

(1)

من (ص 2).

(2)

من (ص 2).

(3)

"المعونة" 2/ 591، كتاب: الجامع، وانظر:"بداية المجتهد" 1/ 186.

ص: 648

‌21 - باب الاِحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ

5821 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ: أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ على فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ، لَيْسَ على أَحَدِ شِقَّيْهِ، وَعَنِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ. [انظر: 368 - مسلم: 1511 - فتح 10/ 279]

5822 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَخْلَدٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ على فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ. [انظر: 367 - مسلم: 1512 - فتح 10/ 279]

ذكر فيه حديث أبي هريرة وأبي سعيد أيضًا.

ص: 649

‌22 - باب الْخَمِيصَةِ السَّوْدَاءِ

5823 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ بْنِ فُلَانٍ -هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ- عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ، فَقَالَ:«مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُو هَذِهِ؟» . فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ:«ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ» . فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ، فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ:«أَبْلِي وَأَخْلِقِي» . وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ، فَقَالَ:«يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَاهْ» . وَسَنَاهْ بِالْحَبَشِيَّةِ: حَسَنٌ. [انظر: 3071 - فتح 10/ 271]

5824 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَالَتْ لِي: يَا أَنَسُ، انْظُرْ هَذَا الْغُلَامَ فَلَا يُصِيبَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَنِّكُهُ. فَغَدَوْتُ بِهِ، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ حُرَيْثِيَّةٌ، وَهْوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْحِ. [انظر: 1502 - مسلم: 2119 - فتح 10/ 279]

ذكر فيه حديث إسحاق بن سعيد عَنْ أَبِيهِ سَعِيدِ بْنِ فُلَانٍ -بْن سَعِيدِ بْنِ العَاصي- عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ .. الحديث سلف

(1)

، وفي آخره "أَبْلِي وَأَخْلِقِي". وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ، فَقَالَ:"يَا أُمَّ خَالِدٍ، هذا سَنَاهْ سناه".

وفلان: هو عمرو

(2)

، وإسحاق: أخو خالد ويحيى أولاد سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي، (مات سنة سبعين ومائة وأم خالد بنت خالد بن سعيد بن أمية بن العاصي)

(3)

بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

(1)

سلف برقم (3071) كتاب: الجهاد، باب: من تكلم بالفارسية والرطانة.

(2)

في (ص 2): ابن عمرو. ولا يستقيم به السياق إذ فلان هو (عمرو) لا (ابن عمرو).

(3)

من (ص 2).

ص: 650

ثم ساق حديث أنس رضي الله عنه قال: لَمَّا وَلَدَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَالَتْ لي: يَا أَنسُ، انْظُرْ هذا الغُلَامَ فَلَا يُصِيبَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَنِّكُهُ. فَغَدَوْتُ بِهِ، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ وَعَلَيْهِ خَمِيصَةٌ حُرَيْثِيَّةٌ، وَهْوَ يَسِمُ الظَّهْرَ الذِي قَدِمَ عَلَيْهِ فِي الفَتْحِ. وقد سلف.

وحريثية: نسبة إلى حريث رجل من قضاعة.

وفي رواية الحذاء: جونية منسوبة إلى بني الجون قبيلة من الأزد، وإلى لونها من السواد أو البياض أو الحمرة؛ لأن العرب تسمي كل لون من (هذه)

(1)

جونًا. وقيل فيها غير ذلك، وهو تصحيف.

وفقه الباب سلف.

فائدة:

(أخلقي) بالقاف والفاء كما سلف.

وفيه الدعاء بطول العمر، و (سنا) أي: حسن بالحبشية، وروي:"سنه سنة"، و"سنا سنا".

وفيه: الاستشارة. وفيه: رد الأمر إلى الأعلم.

(1)

عليها بالأصل علامة (صح).

ص: 651

‌23 - باب ثِيَابِ الْخُضْرِ

5825 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ الْقُرَظِيُّ، قَالَتْ عَائِشَةُ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَخْضَرُ. فَشَكَتْ إِلَيْهَا، وَأَرَتْهَا خُضْرَةً بِجِلْدِهَا، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا- قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا يَلْقَى الْمُؤْمِنَاتُ، لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ ثَوْبِهَا. قَالَ: وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا. قَالَتْ: وَاللهِ مَا لِي إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ، إِلاَّ أَنَّ مَا مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّي مِنْ هَذِهِ. وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا، فَقَالَ: كَذَبَتْ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لأَنْفُضُهَا نَفْضَ الأَدِيمِ، وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ تَحِلِّي لَهُ -أَوْ لَمْ تَصْلُحِي لَهُ- حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ» . قَالَ: وَأَبْصَرَ مَعَهُ ابْنَيْنِ فَقَالَ: «بَنُوكَ هَؤُلَاءِ؟» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «هَذَا الَّذِي تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ، فَوَاللهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ» . [انظر: 2639 - مسلم: 1433 - فتح 10/ 281]

ذكر فيه عن عكرمة: أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزَّبِيرِ الحديث بطوله. وسلف في الطلاق وغيره

(1)

.

وموضع الحاجة منه قول عائشة رضي الله عنها: (وعليها خمار أخضر) والثياب الخضر لباس أهل الجنة كما سلف.

قال تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} وكفى بهذا شرفًا لها وترغيبًا فيها.

(1)

سلف برقم (2639) كتاب: الشهادات، باب: شهادة المختبي.

وبرقم (5260، 5261) كتاب: الطلاق، باب: من أجاز طلاق الثلاث.

وبرقم (5265) باب: من قال لامرأته: أنت علي حرام.

وبرقم (5317) باب: إذا طلقها ثلاثا، وسلف قريبًا برقم (5792) باب: الإزار المهدب.

ص: 652

وقال هشام بن عروة: رأيت على عبد الله بن الزبير مطرفًا من خز أخضر ألبسته

(1)

إياه عائشة

(2)

.

وروى أبو داود حديثًا عن أبي رمثة قال: انطلقت مع أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت (عليه بردين أخضرين)

(3)

.

وفيه: أن للرجل ضرب زوجته عند نشوزها عليه وإن أثر ضربه في جلدها، ولا حرج عليه في ذلك، ألا ترى أن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لجلدها أشد خضرة من ثوبها، ولم ينكر عليها.

وفيه: أن للنساء أن يطالبن أزواجهن عند الإمام بقلة الوطء، وأن يعرضن بذلك تعريضًا بينًا كالصريح، ولا عار عليهن في ذلك.

وفيه: أن للزوج إذا ادعي عليه بذلك أن يخبر بخلاف ويعرب عن نفسه، ألا ترى قوله (لرسول الله)

(4)

صلى الله عليه وسلم: والله إني لأنفضها نفض الأديم. وهذِه الكناية من الفصاحة العجيبة، وهي أبلغ في المعنى من الحقيقة.

وفيه: الحكم بالدليل لقوله في بنيه: "لهم أشبه به من الغراب بالغراب". فاستدل بشبههما له على كذبها ودعواها.

فصل:

الزَّبير بفتح الزاي: قتل مع قومه يوم بني قريظة كافرًا بعد أن سأل فيه عثمان

(5)

فترك، فقال: كيف يعيش المرء دون ولده؟. فذكر ذلك عثمان

(1)

في (ص 2): كَسَتْهُ.

(2)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 11/ 76 بلفظ: كسته. وهو موافق لما في نسخة: (ص 2).

(3)

"سنن أبي داود"(4065).

(4)

في (ص 2): يا رسول الله.

(5)

وقع بهامش الأصل: القصة بنحو هذا معروفة له مع ثابت بن قيس.

ص: 653

لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تركت ولده، فأخبره، فقال: كيف يعيش دون ماله؟ فذكره عثمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تركت ماله، فأخبره فقال: ما فعل بفلان وفلان؟ قيل: قتلوا. قال: فعلت الذي إليك، لا خير لي في الحياة. فقتل كافرًا

(1)

.

فصل:

قولها (قالت: والله ما إليه من ذنب إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذِه، وأخذت هدبة من جلبابها) يحتمل أن تريد: ما ينقم مني إلا أنه أعرض عني. ويحتمل أن تريد ما أنقم عليه ذلك، فإن كان جلدني ما أنقم عليه إلا إعراضه عني. قاله الداودي وزاد: يحتمل تشبيهها بالهدبة انتشاره وأنه لا يتحرك، أو أنه رقيق فشبهته بالهدبة على التقليل والمبالغة، ويحتمل أن يكون رأت من رفاعة من الجماع ما يباعد من فعله هذا فوصفته بهذا؛ ولهذا يستحب نكاح الأبكار، لأنها تظن الرجال سواء، والثيب تعدم من الضعيف ما علمته من القوي وإن كان الثاني أقوى، فقد تقول: ثم من هو أقوى منه.

(1)

ما ثبت في مصادر التخريج هو ثابت بن قيس بن شماس، وليس عثمان!! قال الطبري في، "تاريخه" 2/ 102: حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق، عن الزهري قال: أتي الزبير بن باطا القرظي، وكان يكنى أبا عبد الرحمن وكان الزبير قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية. قال محمد: مما ذكر لي بعض ولد الزبير أنه كان من عليه يوم بعاث أخذه فجز ناصيته ثم خلى سبيله؛ فجاءه وهو شيخ كبير؛ فقال يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟! قال: إني قد أردت أن أجزيك بيدك عندي. قال: إن الكريم يجزي الكريم، ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وانظر:"سيرة ابن هشام" 3/ 261 - 262، "عيون الأثر" 2/ 301، "البداية والنهاية" 4/ 125.

ص: 654

فصل:

وقوله: (أنفضها نفض الأديم) فقد يكون بلغ جهده، وهو عندها قليل.

وقوله: ("وإن كان ذلك لم تحلي له -أو- لم تصلحي له") كذا في الأصول. وادعى ابن التين أن في سائر الأمهات "تحلين" وصوابه: تحلي، وأخبرها بذلك لعلها ترضى بالمقام.

وقوله: ("بنوك هؤلاء؟ " قال: نعم). عبر عن التثنية بالجمع، وذلك جائز. قال تعالى:{إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} وهما اثنان.

وقوله: ("لهم أشبه به من الغراب بالغراب") فيه دليل على الحكم بالقافة وهو الدليل كما أسلفناه.

وفيه أنه لم يقتص لها (منه)

(1)

في الضرب؛ لقوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} أي في شأنها، ولم يذكر أنه قضى في الأعراض بشيء، فلعله علم أن الكاذب منهما يرجع عن قوله إلى الحق.

(1)

من (ص 2).

ص: 655

‌24 - باب ثِيَابِ البِيضِ

5826 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ بِشِمَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ. [انظر: 4054 - مسلم: 2306 - فتح 10/ 282]

5827 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنِ الحُسَيْنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ الدِّيلِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رضي الله عنه حَدَّثَهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَهْوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ:«مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» . قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» . قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» . قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ» . وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ، إِذَا تَابَ وَنَدِمَ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. غُفِرَ لَهُ. [انظر: 1237 - مسلم: 94 - فتح 10/ 283]

ذكر فيه حديث عائشة

(1)

(2)

: رَأَيْتُ بِشِمَالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَبِيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ.

وحديث أبي الأسود الديلي عن أبي ذَرٍّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَهْوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ:"مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ. ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ". قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ .. الحديث.

(1)

الحديث الوارد في الباب حديث سعد وليس لعائشة ذكر في الباب.

(2)

ورد بهامش الأصل: صوابه سعد.

ص: 656

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: هذا عِنْدَ المَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ، إِذَا تَابَ وَنَدِمَ وَقَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ. غُفِرَ لَهُ.

الشرح:

الثياب البيض من أفضل الثياب، وهو لباس الملائكة الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وغيره، والرجلان اللذان كانا يوم أحد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله كانا ملكين -والله أعلم

(1)

- وكان صلى الله عليه وسلم يلبس البياض ويحض على لباسه، ويأمر بتكفين الأموات فيه، وقد صح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم" أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه ابن حبان والحاكم أيضًا

(2)

.

فصل:

وحديث أبي ذر، وتفسير البخاري عقيبه يحتاج إلى تفسير آخر، وذلك أن التوبة والندم إنما تنفع في الذنب الذي بين العبد وربه، وأما مظالم العباد فلا تسقطها عنه التوبة إلا بشرط ردها له أو غفرها.

ومعنى الحديث: أن من مات على التوحيد يدخل الجنة وإن ارتكب الذنوب ولا يخلد كما تقوله أهل الخوارج والبدع، وقد سلف في حديث معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال له:"ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صادقًا من قلبه، إلا حرمه الله على النار" هذا المعنى مبينًا بأقوال السلف في كتاب: العلم في باب: من خص بالعلم قومًا دون قوم

(3)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: في "صحيح مسلم" يعني: جبريل وميكائيل.

(2)

أبو داود (4061)، والترمذي (994)، وابن ماجه (3566)، وابن حبان 12/ 242، والحاكم 1/ 354.

(3)

سلف برقم (128).

ص: 657

فإن قلت: ظاهر قول البخاري أنه لم يوجب المغفرة إلا لمن تاب، فظاهر هذا يوهم إنفاذ الوعيد لمن لم يتب.

قلت: إنما أراد البخاري ما أراده وهب بن منبه بقوله في مفتاح الجنة في كتاب الجنائز: أن تحقيق ضمان وعده صلى الله عليه وسلم لمن مات لا يشرك بالله شيئًا، ولمن قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك أنه إنما يتحصل لهم دون مدافعة من دخول الجنة، ولا عذاب ولا عقاب إذا لقوا الله تائبين عاملين بما أمر به، فأولئك يكونون (أول)

(1)

الناس دخولًا الجنة، وإن كانوا غير تائبين أو قبلهم تبعات للعباد فلا بد لهم أيضًا لهم من دخول الجنة بعد إنفاذ الله المشيئة فيهم من عذاب أو مغفرة.

وقال ابن التين: قول البخاري هذا خلاف ظاهر الحديث، ولو كان إذا تاب ولم يقل: وإن زنا وإن سرق. والحديث على ظاهره: (من)

(2)

مات مسلمًا دخل الجنة قبل النار أو بعدها.

وقوله: (ثم مات على ذلك). ليس في أكثر الروايات هذِه الزيادة، وهي صحيحة، نبه عليه ابن التين.

فصل:

الديلي: ضبط بضم الدال وكسرها وبفتح الهمزة فيها

(3)

، وفي بعض الروايات: وبكسر الدال وسكون الياء.

قال أبو نصر في "صحاحه": الدُّئل دويبة شبيهة بابن عرس.

قال أحمد بن يحيى: لا نعلم اسمًا جاء على فُعِل غير هذا.

(1)

في الأصل: أولى. والمثبت من (ص 2).

(2)

في (ص 2): وإن.

(3)

أي: الدُّؤَلِي.

ص: 658

قال الأخفش: وإلى هذا نسب أبو الأسود الدؤلي، إلا أنهم فتحوا الهمزة على مذهبهمِ في النسبة استثقالًا لتوالي الكسرتين مع ياء النسب، كما ينسب إلى نَمِر نَمَريٌّ، وربما قالوا: الدُّوَلي، قلبوا الهمزة واوًا؛ لأن الهمزة إذا انفتحت وقبلها ضمة، فتخفيفها أن تقلب واوًا محضة.

وقال (ابن الكلبي)

(1)

: (هو الدِّيلي)

(2)

، قلبت الهمزة ياء حين انكسرت، وإذا انقلبت ياء كسرت الدال؛ لتسلم الياء كبِيعَ وقِيلَ.

قال: واسمه ظالم بن عمرو.

قال الأصمعي: أخبرني عيسى بن عمر قال: الديل بن بكر الكناني إنما هو الدُّئل، فترك الهمزة أهل الحجاز

(3)

.

فصل:

قال الجوهري: يقال: رغَم فلان بالفتح إذا لم يقدر على الانتصاف؛ فقال: رغِم أنفي لله رَغْمًا ورُغْمًا، (وقال أوله الرُّغْم والرَّغْم، وحكي تثليث رائه

(4)

)

(5)

.

(1)

في "الصحاح": الكلبي.

(2)

من (ص 2).

(3)

"الصحاح" 4/ 1694.

(4)

"الصحاح" 5/ 1934 - 1935.

(5)

من (ص 2).

ص: 659

‌25 - باب لُبْسِ الْحَرِيرِ وَافْتِرَاشِهِ لِلرِّجَالِ، وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ

5828 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ إِلاَّ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإِبْهَامَ، قَالَ: فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي الأَعْلَامَ. [5829، 5830، 5834، 5835 - مسلم: 2069 - فتح 10/ 284]

5829 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلاَّ هَكَذَا، وَصَفَّ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِصْبَعَيْهِ. وَرَفَعَ زُهَيْرٌ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ. [انظر: 5828 - مسلم:

2069 -

فتح 10/ 284]

5830 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ التَّيْمِيِّن عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِي الدُّنْيَا إِلاَّ لَمْ يُلْبَسْ فِي الآخِرَةِ مِنْهُ» .

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَانَ بِإِصْبَعَيْهِ الْمُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى. [انظر: 5828 - مسلم: 2069 - فتح 10/ 284]

5831 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلاَّ أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ» . [انظر: 5426 - مسلم: 2067 - فتح 10/ 284]

5832 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: أَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: شَدِيدًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا فَلَنْ يَلْبَسَهُ فِي الآخِرَةِ» . [مسلم: 2073 - فتح 10/ 284]

ص: 660

5833 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُ يَقُولُ: قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ» . [فتح 10/ 284]

5834 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي ذُبْيَانَ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ» .

وَقَالَ لَنَا أَبُو مَعْمَرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ، قَالَتْ مُعَاذَةُ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ عَبْدِ اللهِ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، سَمِعَ عُمَرَ، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 5828 - مسلم: 2069 - فتح 10/ 284]

5835 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حِطَّانَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْحَرِيرِ، فَقَالَتِ: ائْتِ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَلْهُ. قَالَ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَلِ ابْنَ عُمَرَ. قَالَ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَفْصٍ -يَعْنِي: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ» . فَقُلْتُ صَدَقَ وَمَا كَذَبَ أَبُو حَفْصٍ على رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي عِمْرَانُ. وَقَصَّ الْحَدِيثَ. [انظر: 5828 - مسلم: 2069 - فتح 10/ 285]

ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث قتادة، عن أبي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قال: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ رضي الله عنه وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ بِأَذْرَبِيجَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الحَرِيرِ إِلَّا هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإِبْهَامَ، قَالَ: فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِي به الأَعْلَامَ.

ص: 661

ثم ساق من حديث عاصم -وهو ابن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن البصري عن أبي عثمان قال: كَتَبَ عُمَرُ وَنَحْنُ بِأَذْرَبِيجَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ إِلَّا هَكَذَا، ووَصَفَّ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بإصْبَعَيْهِ. وَرَفَعَ زُهَيْرٌ الوُسْطَى وَالسَّبَّابَةَ. وأشار أبو عثمان بإصبعيه المسبحة والوسطى.

ثم ساق من حديث التيمي وهو سليمان بن طرخان: عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَلْبَسُ الحَرِيرَ أحدُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لَمْ يَلْبَسْ فِي الآخِرَةِ مِنْهُ".

ثم ساق من حديث مُعْتَمِرٍ، عن أبيه، عن أبي عُثْمَانَ، وَأَشَارَ أَبُو عُثْمَانَ بِإِصْبَعَيْهِ المُسَبِّحَةِ وَالْوُسْطَى.

الحديث الثاني:

حديث ابن أبي ليلى: قَالَ: كنا مع حُذَيْفَةَ بالْمَدَايِنِ فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ في الآخِرَةِ".

الحديث الثالث:

حديث شعبة عن عَبْدٍ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ شُعْبَةُ: أَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: شَدِيدًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لم يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ".

الحديث الرابع:

حديث شعبة أيضًا: عَنْ أَبِي ذُبْيَانَ خَلِيفَةَ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابن الزُّبَيْرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ".

ص: 662

وَقَالَ لَنَا أَبُو مَعْمَرٍ: ثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ، قَالَتْ مُعَاذَةُ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ عَبْدِ اللهِ، قالت: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، سَمِعَ عُمَرَ، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نحوه.

الحديث الخامس:

حديث عمران بن حطان: قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ الحَرِيرِ، فَقَالَتِ: ائْتِ ابن عَبَّاسٍ فَسَألهُ. فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: سَلِ ابن عُمَرَ. فَسَأَلْتُ ابن عُمَرَ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَفْصٍ -يَعْنِي: عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ الحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ". فَقُلْتُ صَدَقَ وَمَا كَذَبَ أَبُو حَفْصٍ عَلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ: ثَنَا حَرْبٌ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنِي عِمْرَانُ. وساق الحَدِيثَ.

الشرح:

قوله: (عن أبي ذبيان) كذا روي عن الفربري بذال معجمة ونون في آخره وهو الصواب. قال الأصيلي في كتب بعض أصحابنا عن أبي زيد، عن أبي دينار بالراء، وكذا ذكره البخاري في "تاريخه"

(1)

.

والذي عند مسلم

(2)

، وابن الجارود والدارقطني بالنون

(3)

، وقاله أيضًا أحمد بن حنبل ولعل الذي في "تاريخ البخاري" تصحيف من

(1)

الذي في "التاريخ الكبير" 3/ 189 - 190 (641): خليفة بن كعب أبو ذبيان البصري التميمي، يقال: عن علي -أي ابن المديني- أبو ذبيان روى عنه جعفر بن ميمون. قال آدم: حدثنا شعبة، سمع عبد الله بن الزبير .. الحديث، وكذا ذكره في "التاريخ الصغير" 1/ 274.

(2)

مسلم (2069) كتاب: اللباس، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة.

(3)

"علل الدارقطني" 2/ 106.

ص: 663

الكاتب؛ لأنه لم يعقبه البخاري بحرف المعجم وكان في نسخ محمد بن راشد بخطه وروايته عن أبي عليّ بن السكن عن أبي ظبيان بالظاء المعجمة، وهو خطأ فاحش؛ إنما هو بذال معجمة.

وقوله: (عن يزيد قالت معاذة): هو يزيد بن أبي يزيد سنان أبو الأزهر الضبعي مولاهم القسام، يعد في البصريين، ويقال للقسام بالفارسية رشك، كان يقسم الدور ويمسح بمكة قبل أيام الموسم فبلغ كذا ومسح أيام الموسم

(1)

، مات سنة ثلاثين ومائة

(2)

.

وقوله: (ثنا حرب) هو ابن شداد أبو الخطاب اليشكري البصري القطان، مات سنة إحدى وستين ومائة، روي له الجماعة إلا ابن ماجه.

وحديث حذيفة أخرجه مسلم أيضًا

(3)

، وأخرج من حديث عمر رضي الله عنه: نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع

(4)

. ولأبي داود: ثلاثة أو أربعة

(5)

.

ولابن أبي شيبة: أنه كان ينهى عن الحرير الديباج

(6)

.

وفي حديث زر عنه موقوفًا: لا تلبسوا من الحرير إلا إصبعين أو ثلاثة

(7)

.

(1)

في "تهذيب الكمال" تتمة: فإذا قد زاد كذا وكذا.

(2)

انظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 7/ 245، "الجرح والتعديل" 9/ 297 (1268)، "تهذيب الكمال" 32/ 280 (7064).

(3)

مسلم (2067) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والفضة ..

(4)

مسلم (2069) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء ..

(5)

"سنن أبي داود"(4042).

(6)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 151.

(7)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 154.

ص: 664

وفي رواية: قال عمر: لا يصلح من الحرير إلا ما كان في تكفيف أو تزرير

(1)

.

وزعم الدارقطني: أن جماعة وقفوا على هذا اللفظ وفي لفظ: لم يرخص في الديباج إلا موضع أربع أصابع، قال الدارقطني: فنحا به نحو الرفع

(2)

، وضعف رواية من روى:"ولا تلبسوا الديباج ولا الحرير فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" وصححه من رواية حذيفة

(3)

.

ولما ذكر ابن أبي حاتم في "علله" عن أبي زرعة حديث قتادة، عن أبي عثمان، عن عثمان بن عفان، أنه كتب إلى عامل الكوفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحرير إلا قدر إصبعين وثلاثة، قال: هذا خطأ، إنما هو قتادة عن أبي عثمان، عن عمر

(4)

.

وقوله: (وقال لنا أبو معمر) إلى آخره أخرجه الإسماعيلي عن الحسن، ثنا يعقوب بن سفيان، ثنا أبو معمر فذكره.

وقوله: إثر حديث عمران بن حطان: (وقال عبد الله بن رجاء) يشبه أن يكون أخذه عنه مذاكرة، وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير، أما العلم وسداء الثوب فلا بأس به

(5)

.

واستدركه الحاكم صحيحًا على شرط الشيخين بلفظ: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصمت إذا كان حريرًا

(6)

.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 155.

(2)

"علل الدارقطني" 2/ 161

(3)

"علل الدارقطني" 2/ 154

(4)

"علل الحديث" لابن أبي حاتم 1/ 492.

(5)

"سنن أبي داود"(4055)، "مسند أحمد" 1/ 321.

(6)

"المستدرك" 4/ 192.

ص: 665

ولابن حزم من طريق فيها ضعف عن الحكم بن عمير، وله صحبة قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبس الحرير عند القتال. ويأتي حديث أنس الذي فيه الرخصة للزبير وعبد الرحمن وفيه الحكة

(1)

.

فصل:

اختلف العلماء في معنى هذِه الأخبار كما قال الطبري، فقال بعضهم بعموم الأخبار السالفة منها:"إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة"، وقال: الحرير كله حرام قليله وكثيره، مصمتًا كان أو غير مصمت في الحرب، وغيرها على الرجال والنساء؛ لأن التحريم بذلك قد جاء عامًّا فليس لأحد أن يخص منه شيئًا؛ لأنه لم يصح بخصوصه خبر.

وقال آخرون: مثل هذِه الأخبار الواردة بالنهي عن لبسه أخبار منسوخة، وقد رخص فيه الشارع بعد النهي عن لبسه وأذن لأمته فيه.

وقال آخرون ممن قال بتحليل لبسه: ليست منسوخة، ولكنها بمعنى الكراهة لا بمعنى التحريم.

وقال آخرون: بل هي وإن كانت واردة بالنهي عن لبسه فإن المراد الخصوص (للرجال فقط دون النساء، وما عني به الرجال من ذلك، فإنما هو ما كان منه حريرًا مصمتًا)

(2)

، فأما ما اختلف سداه ولحمته أو كان علمًا في ثوب فهو مباح

(1)

سيأتي برقم (5839) باب: ما يرخص للرجال من الحرير للحكة.

(2)

اضطربت العبارة في الأصل، وفيه: للرجال فقط دون النساء، وما عني به الرجال، (فإنما هو ما كان منه حريرًا [للرجال فقط دون النساء، وما عني به الرجال] من ذلك)، فإنما هو ما كان منه حريرًا مصمتًا. فكررت عبارات مما بين القوسين، وانضبطت (ص 2)، على ما وجدناه في "شرح ابن بطال" 9/ 107.

ص: 666

وقال آخرون ممن قال بخصوص هذِه الأخبار: إنما عني بالنهي عن لبسه في غير لقاء العدو، فأما له فلا بأس به؛ مباهاة وفخرًا.

حُجة من عمم: ما رواه مجاهد عن ابن عمر قال: اجتنبوا من الثياب ما خالطه الحرير

(1)

.

وروى عطاء عن عبد الله مولى أسماء قالت: أرسلت أسماء إلى ابن عمر: بلغني أنك تحرم العلم في الثوب، فقال: إن عمر حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"

(2)

، وأخاف أن يكون العلم في الثوب من لبس الحرير.

وقال أبو عمرو الشيباني: رأى عليُّ بن أبي طالب على رجل جبة طيالسة قد جعل على صدره ديباجًا، فقال: ما هذا النتن تحت لحييك؟ قال: لا رأه علي بعدها

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه رأى على رجل لبنة حرير في قميصه فقال: لو كانت برصًا لكانت خيرًا له.

وعن عمرو بن مرة قال: رأى حذيفة على رجل طيلسانًا فيه أزرار ديباج، فقال: تتقلد قلائد الشيطان في عنقك

(4)

.

وعن الحسن البصري أنه كان يكره قليل الحرير وكثيره للرجال والنساء، حتى الأعلام في الثياب.

(1)

رواه ابن حزم تعليقا في "المحلى" 4/ 40، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 155، من طريق ابن الفضل ووكيع عن مسعر، عن وبرة، عن ابن عمر.

(2)

رواه مسلم (2069) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحرير استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء ..

(3)

رواه ابن أبي شيبة 5/ 156 (24687).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 156 (24688).

ص: 667

(وكره ابن سيرين العلم في الثوب)

(1)

(2)

، وقال: الدليل على عموم التحريم قوله صلى الله عليه وسلم: "من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة".

حُجة من قال بالفرق بين الرجال والنساء ورخص في الأعلام وهو قول الجمهور.

روي عن حذيفة أنه رأى صبيانًا عليهم قمص الحرير فنزعها عنهم وتركها على الجواري، وعن ابن عمر أنه قال: كره الحرير للرجال ولا يكره للنساء، وعن عطاء مثله.

وروى أحمد والنسائي والترمذي من حديث أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها" قال الترمذي: حديث حسن صحيح

(3)

.

وخالف ابن حبان في "صحيحه" فقال: لا يصح

(4)

.

وصح أنه عليه السلام أعطى عليًّا حلة وقال: "شققها خمرًا بين نسائك" أخرجه الشيخان من حديثه

(5)

، وفي رواية:"بين الفواطم"، ورواها مسلم

(6)

، زاد ابن أبي الدنيا: فشققها أربعة أخمرة: خمارًا لزوجته فاطمة، وآخر لأمه، وآخر لابنة حمزة ونسي الراوي الرابعة.

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 156 (24689).

(2)

من (ص 2).

(3)

الترمذي (1720)، والنسائي 8/ 161، وأحمد 4/ 392، وصححه الألباني في "صحيح النسائي".

(4)

"صحيح ابن حبان" 12/ 250.

(5)

سلف برقم (2814) كتاب: الهبة، باب: هدية ما يكره لبسه، ورواه مسلم برقم (2071) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء ..

(6)

مسلم (2071).

ص: 668

وكان ابن عباس لا يرى بأسًا بالأعلام

(1)

، وقال عطاء: إذا كان العلم إصبعين أو ثلاثة مجموعة فلا بأس به، وكان عمر بن عبد العزيز يلبس الثوب سداه كتان ولحمته خز، وأجازه ابن أبي ليلى.

وقال أبو حنيفة: لا بأس بالخز وإن كان سداه إبريسم، وكذلك لا بأس بالخز؛ وإن كان مبطنًا بثوب حرير؛ لأن الظاهر الخز وليس الظاهر الحرير، ولا بأس بحشو القز

(2)

.

وقال الشافعي: إن لبس رجل قباء محشوًا قزًا فلا بأس؛ لأن الحشو باطن، وإنما كره إظهار القز للرجال، كان النخعي يكره الثوب سداه حرير

(3)

.

وقال طاوس: دعه لمن هو أحرص عليه، وسئل الأوزاعي عن السيجان الواسطية التي سداها قز، فقال: لا خير فيها.

قال غير الطبري: وكان مالك يعجبه ورع ابن عمر، فلذلك كره لباس الحرير.

قال مالك: إنما كره الخز؛ لأن سداه حرير

(4)

.

حُجة من ادعى النسخ بإذنه للزبير في ذلك وأن لباس الحرير جائز في الحرب وغيره.

روى معمر، عن ثابت، عن أنس قال: لقي عُمرُ عبدَ الرحمن بنَ عوف فجعل ينهاه عن لباس الحرير، فجعل عبد الرحمن يضحك وقال: لو أطعتنا لبسته معنا

(5)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 5/ 154 (24673).

(2)

"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 375.

(3)

"الأم" 7/ 226.

(4)

"المنتقى" 7/ 222.

(5)

رواه عبد الرزاق 11/ 69، والبيهقي في "الشعب" 5/ 142.

ص: 669

روى شعبة عن أبي بكر بن حفص عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: شهدت عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعليه قميص حرير؛ فقال: يا عبد الرحمن لا تلبس الحرير والديباج، فإنه ذكر لي أن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة

(1)

؛ فقال عبد الرحمن: والله إني لأرجو أن ألبسه في الدنيا والآخرة.

وروى ابن أبي ذئب، عن سفينة مولى ابن عباس قال: دخل المسور بن مخرمة على ابن عباس يعوده وعلى ابن عباس ثوب إستبرق، وبين يديه كانون عليه تماثيل فقال: ما هذا اللباس عليك؟ قال: ما شعرت به، وما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه إلا للتكبر والتجبر، ولسنا كذلك (بحمد الله)

(2)

قال: فما هذِه التماثيل؟ فقال: أما تراها قد أحرقناها بالنار؟! فلما خرج المسور قال ابن عباس: ألقوا هذا الثوب، واكسروا هذِه التماثيل، وألقوا هذا الكانون

(3)

.

(1)

عزاه المتقي الهندي في "كنز العمال" 15/ 755 (41868) إلى ابن جرير، وقال: إسناده صحيح.

(2)

من (ص 2).

(3)

رواه أحمد 1/ 319 - 320، 352، وأبو داود الطيالسي 4/ 449 (2853)، والبغوي في "الجعديات"(2818)، والطبراني 11/ 429 - 430 (12218)؛ كلهم من طريق ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس أن المسور ..

وشعبة مولى ابن عباس هو: ابن دينار الهاشمي المدني مختلف فيه. قال أحمد: ما أرى به بأسا. وقال ابن معين: ليس به بأس. وقال مرة أخرى: لا يكتب حديثه. وسئل مالك عنه. قال: ليس بثقة وقال الجوزجاني والنسائي: ليس بقوي. وقال ابن سعد: له أحاديث كثيرة ولا يحتج به. وقال العجلي: جائز الحديث. وقال أبو زرعة والساجي: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال ابن حجر موضحًا قول مالك: لفظة ليس بثقة في الاصطلاح توجب الضعف الشديد. =

ص: 670

وعن جبير بن حية أنه اشترى جارية عليها قباء من ديباج منسوج بذهب فكان يلبسه، وكان أصحابه عابوا عليه ذلك. فقال: إنه يدفئني، وألبسه في الحر.

وصوب الطبري أن حديث عمر على الخصوص.

فصل:

وقوله: "إنما هذِه لباس من لا خلاق له" يعني: من الحرير المصمت من الرجال في غير حال المرض والحرب لغير ضرورة تكبرًا واختيالًا في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ولباس ذلك كذلك لباس من لا خلاق له.

وإنما قلنا: عني به من الحرير المصمت؛ لقيام الحجة بالنقل الذي يمتنع منه الكذب أنه لا شيء بلبس الحرير، والخز -لا شك- سداه حرير ولحمته وبر، فإذا كانت الحجة ثابتة بحله، فسبيل كل ما اختلف سداه ولحمته سبيل الخز أنه لا بأس بلبسه في كل حالٍ للرجال والنساء وإنما قلنا: عني به ما كان ثوبًا دون ما كان علمًا في ثوب؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى قدر إصبعين أو ثلاثة أو أربعة.

أما حال الضرورة فلصحة الخبر أيضًا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أرخص للزبير وابن عوف لحكة كانت بهما، وألحقنا بها كل علة ترجى بلبسه خفتها، وكذا لدفع السلاح من باب أولى، وفرقنا بين الرجال والنساء؛ لصحة خبر أبي موسى السالف، فبان أن الأخبار لا تضاد فيها ولا نسخ.

= وقال ابن حبان: روى عن ابن عباس ما لا أصل له حتى كأنه ابن عباس آخر.

انظر: "تهذيب التهذيب" 2/ 170 - 171. وحسنه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" أيضًا.

ص: 671

وقد سلف في الجهاد اختلاف العلماء في لبس الحرير في الحرب، واختلفوا كما قال الطبري في قوله:"إنما يلبسها من لا خلاق له في الآخرة". فقيل: ما له في الآخرة من جهة، وقيل: من قوام. وقيل: من دين.

ومن لبسه لباس اختيال وتكبر دون ضرورة تدعو إليه فهو الذي لا خلاق له فيها. وقال غير الطبري: يعني أنه من لباس المشركين في الدنيا فينبغي أن لا يلبسه المؤمنون

(1)

.

فصل:

يحل عندنا ما طرز أو طرف بحرير بقدر العادة. وذكر الزاهدي من الحنفية أن العمامة إذا كانت طرتها قدر أربع أصابع من إبريسم بأصابع عمر بن الخطاب، وذلك قيس شبرنا يرخص فيه

(2)

، والأصابع لا مضمومة ولا منشورة كل النشر، وقيل: أربع أصابع كما هي على هيئتها لا أصابع السلف. وقيل: أربع أصابع منشورة.

وقال بعضهم: التحرز عن مقدار المنشورة أولى، والعلم في العمامة في مواضع، قال بعضهم: تجمع. وقيل: لا تجمع، ولا بأس بالعلم المنسوج بالذهب للنساء.

وأما الرجال: فقدر أربع أصابع وما فوقه يكره، فإن كان نظره الدائم إلى الثلج يضره فلا بأس أن يسدل على عينيه خمارًا أسود من إبريسم. قال: ففي العين الرمدة أولى. وقيل: لا يجوز.

وعن أبي حنيفة: لا بأس بالعلم من الفضة في العمامة قدر أربع

(1)

"شرح ابن بطال" 9/ 106 - 111.

(2)

"اللباب" 4/ 32.

ص: 672

أصابع ويكره من الذهب. وقيل: لا يكره. والذهب المنسوج في العلم كذلك.

وعن محمد: لا يجوز، ويجوز لبس الثوب والقلنسوة المنسوجة.

فصل:

أذربيجان في حديث عمر بفتح الهمزة الممدودة.

وقال ابن التين: قرأناه بكسرها وفي بعض الكتب ضبط بفتحها، (ورأيت في كتاب عصرينا

(1)

"غريب الرافعي": أنها بفتح الهمزة والراء) وسكون الذال.

قال: ومنهم من مد الهمزة وضم الذال وسكن الراء

(2)

(3)

.

قال ابن فارس: والنسب إليها أذري

(4)

.

وقوله: (وأشار بإصبعيه) يعني: الأعلام.

وقال أبو عبد الملك: إنما نهى الشارع عن الحرير المصمت إلا ما كان منه مقدار إصبعين أو ثلاثة أو أربعة، وادعى أن البخاري خرجه، وهو دال على الطوق منه واللبنة ما كان دون أربعة أصابع حلال.

وفي "جامع مختصر" الشيخ أبي محمد: قيل لمالك: ملاحف أعلامها حرير قدر إصبعين. قال: لا أحبه، وما أراه حرامًا. وفي رواية أخرى: لا بأس بالخط الرقيق.

وكره مالك في المنسوجة لبست للغزو، وأجاب عن حديث الزبير وابن عوف بأنه مخصوص بهما.

(1)

كذا في (ص 2)، وهنا يشير المصنف إلى ما ألفه الفيومي (نسبة إلى فيوم العراق) في غريب الرافعي، وهو "المصباح المنير".

(2)

"المصباح المنير" 1/ 9.

(3)

من (ص 2).

(4)

"مجمل اللغة" 1/ 91.

ص: 673

وأجاز عبد الملك لبسه للجهاد عند القتال والصلاة فيه حينئذ.

فصل:

قال ابن التين: اختلف في إجازة الخز فأجيز وكره، وهو الذي سداه حرير.

وقال ابن حبيب: لم يختلف في إجازة لبسه، وقد لبسه خمسة عشر صحابيا وخمسة عشر تابعيًّا، وأما الذي مزج من الحرير بكتان أو صوف، فلبسه للرجال في الصلاة وغيرها مكروه للاختلاف بين السلف، أجازه ابن عباس وكرهه ابن عمر

(1)

.

قال مُطَرِّفٌ: ورأيت على مالك ساج إبريسم كساه إياه هارون وكان يفتي هو وأصحابه بكراهته ولم يكن عنده كالخز المحض.

قال ابن حبيب: وليس بين ثياب الخز والثياب التي قيامها الحرير فرق إلا الاتباع

(2)

.

فصل:

وقوله: ("لم يلبسه في الآخرة") هو على ما تقدم إما أن ينساه أو تزال شهوته من نفسه أو يكون ذلك في وقت دون وقت.

فصل:

عمران بن حطان هو بكسر الحاء سدوسي من أفراد البخاري تابعي، وكان رجلاً خارجيًّا مدح ابن ملجم قاتله الله

(3)

.

(1)

"المنتقى" 7/ 221 - 222.

(2)

المصدر السابق.

(3)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 7/ 155، "ثقات ابن حبان" 5/ 222، "تهذيب الكمال" 22/ 322 (4487).

ص: 674

قال ابن التين: حطان مر أنه بكسر الحاء وضبط في بعض النسخ بالفتح قبل وهو خارجي، وإنما أدخله البخاري في المتابعة لا في الأصول

(1)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: بل وروى له في الأصول، فكأن هذا كلام ابن التين ولم يتثبت منه شيخنا

والاعتصام أنه من أفراد البخاري قريبًا

والله أعلم.

ص: 675

‌26 - باب مَسِّ الْحَرِيرِ مِنْ غَيْرِ لُبْسٍ

وَيُرْوى فِيهِ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

5836 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبُ حَرِيرٍ، فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ وَنَتَعَجَّبُ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا؟» . قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: «مَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا» . [انظر: 3249 - مسلم: 2468 - فتح 10/ 291]

ذكر فيه حديث البراء رضي الله عنه، قال: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبُ حَرِيرٍ، فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ وَنتَعَجَّبُ مِنْهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"أَتَعْجَبُونَ مِنْ هذا؟ ". قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: "مَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هذا".

هذا الحديث سلف

(1)

.

والزبيدي هو: محمد بن الوليد، وحديثه هذا ذكره الدارقطني في كتاب "الأفراد والغرائب" أنه صلى الله عليه وسلم أهديت له حلة إستبرق. الحديث.

قال: تفرد به محمد بن الوليد عن الزهري ولم يروه عنه (غير)

(2)

عبد الله بن سالم الحمصي

(3)

.

قال ابن بطال: وليس النهي عن لباس الحرير من أجل نجاسة عينه فيحرم مسه باليد، وإنما نهي عن لبسه من أجل أنه ليس من لباس المتقين وعينه مع ذلك طاهرة، فلذلك جاز لمسه والانتفاع به

(4)

.

(1)

سلف برقم (3249) كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة، وأنها مخلوقة.

(2)

غير موجودة، ومثبتة في "أطراف الغرائب"، والسياق يقتضيها.

(3)

"أطراف الغرائب والأفراد" 2/ 196 (1130).

(4)

"شرح ابن بطال" 9/ 111 - 112.

ص: 676

‌27 - باب افْتِرَاشِ الحَرِيرِ

وَقَالَ عَبِيدَةُ: هُوَ كَلُبْسِهِ.

5837 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ. [انظر: 5426 - مسلم: 2067 - فتح 10/ 291]

ذكر فيه حديث ابن أبي نجيح، وهو عبد الله بن يسار: عَنْ مُجَاهِدٍ، عَن ابن أَبِي لَيْلَى، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ.

هذا الباب رد على من أجاز افتراش الحرير والارتفاق فيه، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة وابنه عبد الملك، وروى وكيع، عن مسعر، عن راشد مولى بني تميم

(1)

(2)

قال: رأيت في مجلس ابن عباس مرفقة حرير

(3)

.

والجمهور على خلافه، وحجتهم حديث الباب، وهو نص في المسألة لا يعدل عنه، ولو عدمنا هذا النص لاستدللنا على الافتراش والجلوس كما مر من حديث أنس رضي الله عنه في الحصير الذي اسود من

(1)

في هامش الأصل: في هامش أصله (نمير) وكتب تجاه تميم: ضبطه النووي بالنون وضبطه الدمياطي بالياء.

(2)

في "المعجم الكبير": أبو راشد مولى بني عامر.

(3)

رواه الطبراني 10/ 259 (10602)، وفي إسناده أبو راشد مولى بني عامر. قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 154: لم أر من ذكره.

ص: 677

طول ما لبس

(1)

.

وقد روى ابن وهب عن ابن لهيعة، عن أبي النضر أن عبد الله بن (عامر)

(2)

صنع صنيعًا، فدعى الناس، وكان فيهم سعد بن أبي وقاص، فلما أتى أمر بمجلس من حرير كان على سريره فنزع، فلما دخل قال له ابن عامر: يا أبا إسحاق، إنه قد كان على السرير مجلس من حرير، فلما سمعنا بك نزعناه، فقال سعد: لأن أقعد على جمر الغضا أحب إليّ من أن أقعد على مجلس من حرير.

وقد سلف طرف منه في البيوع.

فرع:

في افتراشه للنساء عندنا خلاف واختلف في الصحيح، والأصح: الحل.

(فرع:

قال الزاهدي من الحنفية: لا يجوز استعمال اللحاف من الحرير، لأنه نوع لبس)

(3)

ولا يكره الاستناد إلى الوسادة من الديباج.

فرع:

لا بأس بملاءة حرير توضع في مهد الصبي؛ لأنه ليس بلبس، وكذا الحلة من الحرير للرجال، لأنها كاليسير، ولبس الحرير للدثار لا يكره عند أبي حنيفة، لأنه اعتبر حرمة استعمال الحرير إذا كان يتصل ببدنه.

(1)

سلف برقم (380) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على الحصير.

(2)

وقع بالأصل (عمر)، والمثبت هو الصواب كما ذكره بعد على الصواب، وكما في "شرح ابن بطال" 9/ 113.

(3)

من (ص 2).

ص: 678

وأبو يوسف اعتبر المعنى، يعني: اللبس؛ قال: وهذا تنصيص أن عند أبي حنيفة لا يكره لبس الحرير إذا لم يتصل بجسده حتى إذا لبسه فوق شيء غزل أو نحوه لا يكره عنده

(1)

، فكيف إذا لبسه فوق قباء أو شيء آخر محشو، أو كانت جبة من حرير وبطانتها ليست من حرير، وقد لبسها فوق قميص عزلي.

قال الزاهدي: في هذا رخصة عظيمة في موضع عم فيه البلوى، ولكن طلبت هذا القول عن أبي حنيفة في كثير من الكتب، فلم أجد سوى هذا ومن الناس من يقول: إنما يكره إذا كان الحرير يمس الجسد وما لا فلا.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان عليه جبة من حرير، فقيل له في ذلك، فقال: ما نرى إلى ما يلي الجسد وكان تحته ثوب من قطن، إلا أن الصحيح ما ذكرناه أن الكل حرام.

وفي "شرح الجامع الصغير" للبَزْدوي: ومن الناس من أباح لبس الحرير والديباج للرجال، ومنهم من قال هو حرام على النساء، وعامة الفقهاء على الفرق حله للنساء دون الرجال، فإن لبس منطقة فيها من الديباج أقل من أربعة أصابع، ولكن جعلها طاقين، كل طاق منها ثلاثة أصابع فلا يجوز.

(1)

"الكتاب" 1/ 327، 4/ 23.

ص: 679

‌28 - باب لُبْسِ القَسِّيِّ

وَقَالَ عَاصِمٌ: عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قُلْتُ لِعَلِيٍّ: مَا القَسِّيَّةُ؟ قَالَ: ثِيَابٌ أَتَتْنَا مِنَ الشَّامِ أَوْ مِنْ مِصْرَ، مُضَلَّعَةٌ فِيهَا حَرِيرٌ فِيهَا أَمْثَالُ الأُتْرُنْجِ، وَالْمِيثَرَةُ كَانَتِ النِّسَاءُ تصطنعه لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ القَطَائِفِ يُصَفِّرْنَهَا. وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ فِي حَدِيثِهِ: القَسّيَّةُ ثِيَابٌ مُضَلَّعَةٌ، يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ، فِيهَا الحَرِيرُ، وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللهِ: عَاصِمٌ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ فِي المِيثَرَةِ.

5838 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ ابْنِ عَازِبٍ قَالَ: نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ المَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقَسِّيِّ. [انظر: 1239 - مسلم: 2066 - فتح 10/ 292]

ثم ساق حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قَالَ: نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ المَيَاثِرِ الحُمْرِ وَالْقَسِّيِّ.

(الشرح)

(1)

:

عاصم هو ابن كليب بن شهاب الجرمي، انفرد به مسلم، (وعلق البخاري كما ترى، وروى له في رفع اليدين والأدب، مات في خلافة المنصور)

(2)

، واسم أبي بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري.

(1)

من (ص 2).

(2)

ساقطة من الأصل.

ص: 680

(والقطائف واحدها قطيفة وهي كساء له خمل، وشيخ جرير بُريد -بضم الباء- وهو ابن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، كذا ضبطه الدمياطي على "الحاشية" بخطه.

وأما المزي في "تهذيبه" فذكره في حرف الياء المثناة تحت؛ وقال: إنه يزيد بن أبي زياد القرشي، أخو برد، وعين أن البخاري روى له ذلك في هذا الباب معلقًا فذكره، وأنه روى له في "رفع اليدين" و"الأدب" وروى له مسلم مقرونًا بغيره، وأن أحمد ويحيى بن معين في "جامعه" ضعفوه، وأن العجلي قال: هو جائز الحديث، وأنه كان بِأَخَرَةٍ يُلقَّن

(1)

.

وقال ابن المبارك: (أكرم به)

(2)

، الذي حكاه عنه (ارم به)

(3)

)

(4)

. والتعليق عن عاصم وصله أبو عبيد في "غريبه"

(5)

، وبين أنه عاصم بن كليب - كما ذكرناه.

فصل:

سلف بيان القسية؛ قال الطبري: القسط ثياب تعمل من الحرير بقرية

بمصر يقال لها: القسي.

(1)

"معرفة الثقات" للعجلي 2/ 364 (2069).

(2)

كذا في: "تهذيب الكمال" 32/ 135 - 139 (6991).

(3)

كذا صوَّبها المصنف، وكذا العقيلي بإسناده إلى ابن المبارك كما في "الضعفاء" 4/ 382، وذكرها ابن حزم في "المحلى" 7/ 241 وابن حجر في "تهذيب التهذيب" 4/ 113 في تعقيبه على قول المزي (أكرم به): ونقلها الذهبي عن المزي (أكرم به) كما في "تذهيب التهذيب" 10/ 75 ولعله خطأ. اهـ.

(4)

من (ص 2).

(5)

"غريب الحديث" 1/ 137. بهامشه.

ص: 681

وقال أبو عبيد: وأصحاب الحديث يقولون: القسي -بكسر القاف- وأهل مصر يفتحونها- ينسب إلى بلاد يقال لها: القس، رأيتها ولم يعرفها الأصمعي

(1)

.

قال ابن سيده في "المحكم": قس، والقس موضع ينسب إليه ثياب تجلب من نحو مصر

(2)

، وقال القزاز: قس بالفتح، موضع تنسب إليه الثياب وأصحاب الحديث يقولون: القِسي بكسر القاف.

والصحيح أنه لأنه منسوب إلى هذا البلد المذكور، وذكر الحسن بن محمد المهلبي المصري أن القس لسان خارج في البحر عنده حصن يسكنه الناس، بينه وبين القرناء عشرة فراسخ من جهة الشام، وقال الحازمي: هي من بلاد الساحل.

وقال الهروي في "الغريبين": قال شمر: القسي، قال بعضهم: وهو القزي، أبدلت الزاي سينًا.

وعبارة النووي: هو بفتح القاف وكسر السين المشددة، وبعض أهل الحديث: يكسر القاف. قال: والأول هو الصحيح المشهور، والقس: قرية من تنيس، وقيل: هي ثياب كتان مخلوطة بالحرير، وقيل: هي ثياب من الخز وهو رديء الحرير

(3)

.

وقد سلف تفسيرها في البخاري، وفي "سنن أبي داود".

والقس: قرية بالصعيد

(4)

.

(1)

"غريب الحديث" 1/ 138.

(2)

"المحكم" 6/ 68.

(3)

"مسلم بشرح النووي" 14/ 33 - 34 بتصرف.

(4)

انظر: "معجم البلدان" 4/ 344.

ص: 682

فصل:

والمياثر بالثاء المثلثة جمع مثيرة بكسر الميم.

قال أبو عبيد: المياثر الحمر المنهي عنها، كانت مراكب من مراكب الأعاجم من ديباج أو حرير

(1)

.

قال ابن بطال: كلامه يدل أنها [إذا]

(2)

لم تكن من حرير أو ديباج وكانت من صوف أحمر، فأنه يجوز الركوب عليها، وليس النهي عنها كالنهي عنها إذا كانت منها، وهذا يشبه قول مالك.

قال ابن وهب: سئل مالك عن ميثرة أرجوان أيركب عليها؟ قال: ما أعلم حرامًا، ثم قرأ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]

(3)

.

وقال الطبري: الميثرة: وطاء كان النساء يوطئنه لأزواجهن من الأرجوان الأحمر على سروج خيلهم أو من الديباج والحرير، وكان ذلك من مراكب العجم.

وعند الهروي: نهي عن ميثرة الأرجوان، قال: وهي مرفقة، تتخذ لصفة السرج، وكانوا يحمرونها، والأرجوان صبغ أحمر.

وفي "المحكم": الميثرة: الثوب تجلل به الثياب فيعلوها، والمثيرة: هنة كهيئة المرفقة تتخذ للسرج كالصفة، وهي المواثر والمياثر على المعاقبة

(4)

.

وفي "مجمع الغرائب " للفارسي: الميثرة: النقرة.

(1)

"غريب الحديث" 1/ 139.

(2)

ليست بالأصل وأثبتناها من "شرح ابن بطال" ليستقيم السياق ويتضح.

(3)

"شرح ابن بطال" 9/ 123 - 124.

(4)

"المحكم" 11/ 186.

ص: 683

وقال الخطابي -وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أركب الأرجوان"- قال: الأرجوان: الأحمر، وأراه أراد به المياثر الحمر، وقد تتخذ من ديباج وحرير، وقد ورد فيها النهي، لما في ذلك من الشقة، وليست من لباس الرجال، وإنما سميت هذِه المراكب مياثر، لوثارتها ولينها، وكانت مراكبهم اللبود أمروا أن يقتصروا عليها

(1)

.

وقال النووي: هي وطاء كانت النساء تصنعه لأزواجهن على السروج وتكون من الحرير، وتكون من الصوف وغيره، وقيل: هي أغشية للسروج تتخذ من الحرير، وقيل: هي سروج من الديباج، وقيل: هي كالفراش الصغير يتخذ من الحرير ويحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب على البعير تحته فوق الرحل، وهي مفعلة من الوثار، يقال: وثر وثارة فهو وثير، أي: وطيء لين، وأصلها موثرة، فقلبت الواو بالكسرة قبلها كما في ميراث وميقات، وأصله موراث وموقات

(2)

.

وفي بعض نسخ البخاري: والميثرة: جلود السباع، يؤيده ما في النسائي من حديث المقدام بن معدي كرب

(3)

، وجلود النمور.

فصل:

حديث الباب روي من غير طريق البراء، فلأبي داود من حديث أبي هريرة:"لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر"

(4)

. وللنسائي عن علي: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول نهاهم عن القسي

(5)

.

(1)

"أعلام الحديث" 3/ 2146 بتصرف.

(2)

"مسلم بشرح النووي" 14/ 33.

(3)

"سنن النسائي" 7/ 176.

(4)

"سنن أبي داود"(4130).

(5)

"سنن النسائي الكبرى" 5/ 460 - 461.

ص: 684

وفي كتاب "الخاتم" لابن منجويه من حديث ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مياثر الأرجوان والتختم بالذهب.

ولأبي داود عن معاوية مرفوعا: "لا تركبوا الخز ولا النمار"

(1)

.

(1)

"سنن أبي داود"(4129).

ص: 685

‌29 - باب مَا يُرَخَّصُ لِلرِّجَالِ مِنَ الْحَرِيرِ لِلْحِكَّةِ

5839 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا. [انظر: 2919 - مسلم: 2076 - فتح 10/ 295]

ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف فِي لُبْسِ الحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كانت بِهِمَا.

هو ظاهر فيما ترجم له، وقد أسلفنا أن هذا الحديث (دالٌّ على)

(1)

أن النهي عن لبس الحرير في حق من لم تكن له علة تضطره إلى لبسه، وإن من المعلوم من ترخيصه للحكة إلحاق من كان به علة ترجى بلبسه خفتها، وكذا ما فوق ذلك كنبل العدو وأسلحتهم.

ووقع في "الوسيط" للغزالي أنه صلى الله عليه وسلم أرخص لحمزة

(2)

، وهو غلط فاجتنبه.

ومن الغريب حكايته صاحب "التنبيه" وجهًا أنه (لا)

(3)

يجوز لبسه للحاجة المذكورة

(4)

.

ولم يحكه الرافعي وصاحب "البيان" إلا عنه. وقد تعلل على بعده باختصاص الرخصة بالمذكورين.

(1)

في (ص 2): ظاهر عن.

(2)

"الوسيط" 2/ 322.

(3)

في (ص 2).

(4)

"التنبيه" 1/ 43.

ص: 686

وفرق بعض أصحابنا فجوزه بالسفر دون الحضر لرواية مسلم أن ذلك كان في السفر، وهذا الوجه خصه في "الروضة" القمل

(1)

، وليس كذلك؛ فقد نقله الرافعي في الحكة.

وفي الصحيحين أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم أرخص لهما لما شكيا بالقمل في غزاة لهما

(2)

.

والأصح: جوازه سفرًا وحضرًا، وأبعد من قال باختصاصه بالسفر؛ لأنه شاغل عن التفقد والمعالجة، وإن اختاره ابن الصلاح لظاهر الحديث المذكور.

(1)

"الروضة" 2/ 68.

(2)

سلف برقم (2920) كتاب: الجهاد والسير، باب: الحرير في الحرب.

ورواه مسلم (2076) كتاب: اللباس والزينة، باب: إباحة لبس الرجل الحرير إذا كان به حكة.

ص: 687