الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
79 - كِتابُ الاِستِئْذَانِ
هذا الكتاب ذكره ابن بطال في شرحه قبل كتاب اللباس، بعد المرتدين والمحاربين
(1)
، ولا أدري كيف فعل ذلك!
(1)
وقع كتاب الاستئذان عند ابن بطال في 9/ 5 - 76، قبل كتاب: اللباس 9/ 77 - 187، وبعد كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم في 8/ 569 - 599.
1 - باب: (بدء)
(1)
السَّلَامِ
6227 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ. فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ. فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ» . [انظر: 3326 - مسلم: 2841 - فتح 11/ 3]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ، نفرٍ مِنَ المَلَائِكَةِ جُلُوسٍ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ. فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ. فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ".
الشرح:
معنى بدء السلام: أول ما شرع، وقوله:("خلق الله آدم على صورته") الهاء في صورته تعود على آدم، وقيل: على مَضْرُوب في وجهه، وقيل: على الله، فمن قال بالأول احتج بأنه أقرب مذكور إلى الضمير، ويكون فائدة ذلك إتمام نعم الله على أبينا آدم صلى الله عليه وسلم؛ لما فضله الله به من خلقه بيده، وسجود الملائكة له وأنه لم يعاتبه كغيره، وذلك أن في الخبر: لما أخرج من الجنة أخرج معه الحية والطاوس، فعاقب الحية
(1)
كذا في الأصل، وفي (ص 2) واليونينية 8/ 50:(بدو) وفي هامشها: (بدء) عن أبي ذر مصححًا.
بأن سود خلقها وسلبها قوائمها وجعل أكلها من التراب، وشوه خلق رجلي الطاوس، وأبقى آدم على هيئته
(1)
.
ففائدة التعريف: الفرق بينه وبين المخرج معه، وقيل: فيه إبطال قول الدهرية أنه لم يكن إنسان إلا من نطفة، ولا نطفة إلى من إنسان، ليس لذلك أول ولا آخر، فعرفنا الشارع تكذيبهم، وأن أول البشر آدم خلق على صورته لم يخلق من نطفة، ولا من تناسل، ولا كان طفلاً، ولا سكن رحمًا، وقيل: لأن الله خلقه من غير أن كان ذلك على تأثير طبع ولا عنصر؛ إبطالا لقول الطبائعيين أن آدم خلق من فعل الطبع وتأثيره.
وذكر ابن فورك
(2)
أن أظهر التأويل في ذلك أن الحديث خرج على سبب، وذلك أنه عليه السلام مرَّ على رجل يضرب ابنه أو عبده في وجهه لطمًا، ويقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك. فقال عليه السلام: "إذا ضرب أحدكم عبده فليتق الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته"
(3)
. فزجره عن ذلك؛ لأنه قد يسب الأنبياء والمؤمنين، وخصَّ آدم بالذكر؛ لأنه الذي ابتدئت خلقة (وجهه)
(4)
على الحد الذي يخلق عليها سائر ولده، قالها على هذا الوجه كناية عن المضروب في وجهه، فنقل بعضهم هذِه القصة مع هذِه اللفظة.
(1)
رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 216 (892)، ومن طريقه الطبري في "تفسيره" 1/ 273 (742) عن وهب بن منبه، قوله، وليس فيه ذكر الطاوس، وكذا رواه الطبري (743) عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
"مشكل الحديث" ص 46.
(3)
رواه مسلم برقم (2612/ 112).
(4)
في الأصل: (ووجهه)، والمثبت من "مشكل الحديث" ص 47.
وأضعف الوجوه أن تكون الهاء كناية عن الله من قبل أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور إليه، إلا أن تدل دلالة على خلاف ذلك، وعلى هذا التأويل معنى الصورة معنى الصفة، كما يقال: عرفني صورة هذا (الآدمي)
(1)
، أي: صفته ولا صورة للأمر على الحقيقة، (إلا على معنى الصفة)
(2)
ويكون تقدير التأويل: أن الله خلق آدم على صفته، أي: خلقه حيًّا عالما سميعًا بصيرًا متكلمًا مختارًا مريدًا، فعرفنا بذلك إسباغ نعمة الله عليه وتشريفه بهذِه الخصال.
ونظرنا في الإضافة إلى الله فوجدناها على وجوه: منها: إضافة الفعل كما يقال: خلق الله، وأرض الله، وسماء الله. وإضافة الملك كما يقال: رزق الله، وعبد الله. وإضافة اختصاص وتنويه بذكر المضاف إليه كقولهم: الكعبة بيت الله. وكقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] ووجه آخر من الإضافة نحو قولهم: كلام الله وعلمه وقدرته. وهي إضافة اختصاص من طريق القيام به، وليس من جهة الملك والتشريف، بل ذلك على معنى أن ذاته [غير]
(3)
متعرية منها قيامًا بها ووجودًا، ثم نظرنا إلى إضافة الصورة إلى الله تعالى، فلم يصح أن يكون وجه إضافتها إليه على نحو إضافة الصفة إلى الموصوف بها، من حيث تقوم به؛ لاستحالة أن يقوم بذاته حادث، فبقي من وجوه الإضافة: الملك والفعل والتشريف. فأما الأولان فوجهه عام وتبطل فائدة التخصيص فبقي الثالث، وطريق ذلك أن الله هو الذي ابتدأ تصوير آدم لا على مثال سبق، بل اخترعه ثم اخترع
(1)
كذا في الأصل: وفي "مشكل الحديث" ص 54، وغيره:(الأمر).
(2)
ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص 2).
(3)
ما بين المعقوفتين مثبت من "شرح ابن بطال" 9/ 8.
من بعده على مثاله، فشرفت صورته بالإضافة إليه، لا أنه أريد به إثبات صورة لله على التحقيق هو بها مصور؛ لأن الصورة هي التأليف والهيئة، وذلك لا يصح إلا على الأجسام المؤلفة، والباري تعالى عن ذلك.
وقيل: المعنى في رجوع الهاء إلى آدم تكذيب القدرية لما زعمت أن من صورة آدم وصفاته ما لم يخلقه الله تعالى، وذلك أنهم يقولون: إن صفات آدم على نوعين: منها ما خلقها الله، ومنها ما خلقها آدم لنفسه، فأخبر عليه السلام بتكذيبهم وأن الله خلقه على جميع صورته وصفاته وأعراضه، ويحتمل أن يكون رجوع الهاء إليه أيضًا من وجه آخر على أصول أهل السنة أن الله خلق السعيد سعيدًا والشقي شقيًّا، وخلق آدم وعلم أنه يعصيه ويخالف أمره، وسبق العلم بذلك، وأنه يعصي ثم يتوب تنبيهًا على وجوب جريان قضاء الله على خلقه، وأنه إنما تحدث الأمور وتتغير الأحوال على حسب ما يخلق عليه المرء وييسر له
(1)
.
وقال بعضهم: الهاء تعود على بعض الشاهدين من الناس.
فالفائدة في ذلك تعريفنا أن صورة آدم كانت كهذه الصورة؛ إبطالًا لقول من زعم أنها كانت على هيئة أخرى من ذكر طوله وقامته، وذلك مما لا يوثق به؛ إذ ليس في ذلك خبر صحيح وإنما القول في مثله على نقل وهب من أحاديث التوراة ولا بينة في شيء من ذلك، ولم يثبت من جهة أخرى أن خلقة آدم مخالفة لهذِه الخلقة، وهذا خلاف نص هذا الحديث.
(1)
انتهى من "مشكل الحديث" لابن فورك ص 46 - 64 بتصرف بالغ، وانظر:"شرح ابن بطال" 9/ 5 - 8.
وروي عن مالك أنه نهى أن يتحدث بمثل هذا الحديث فذكر له فيه ابن عجلان، فقال: لم يكن من أهل العلم. وذكر له أبو الزناد فقال: ما زال عاملًا لهؤلاء حتى مات
(1)
.
فصل:
قال المهلب: الحديث يدل على أن الملائكة في الملأ الأعلى يتكلمون بلسان العرب، ويتحون بتحية الله، وأن التحية بالسلام، هي التي أراد الله أن يتحيا بها.
فصل:
وفيه الأمر بتعلم العلم من أهله، والقصد إليهم فيه، وأنه من أخذ العلم ممن أمره الله بالأخذ عنه، فقد بلغ العذر في العبادة وليس عليه ملامة؛ لأن آدم أمره الله أن يأخذ عن الملائكة ما يحيونه، وجعلها له تحية باقية وهو تعالى أعلم من الملائكة، ولم يعلمه إلا ليكون سنة.
فصل:
وقوله: ("فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن") هو في معنى قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} [التين: 4، 5]. ووجه الحكمة في ذلك أن الله تعالى خلق العالم بما فيه دالًّا على خالق حكيم، وجعل في حركات ما خلق دليلًا على فناء هذا العالم وبطلانه، خلافًا للدهرية التي تعبد الدهر وتزعم أنه لا يفنى، فأبقى الله هذا النقص دلالة على بطلان قولهم؛ لأنه إذا جاز النقص في البعض، جاز الفناء في الكل.
(1)
رواه العقيلي في "الضعفاء" 2/ 251 - 252 ترجمة عبد الله بن ذكوان أبي الزناد (806).
فصل:
وقوله: (فقال: "السلام عليكم"). (هكذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول في سلامه وفي رده، وقال ابن عباس [السلام ينتهي إلى البركة، ولا ينبغي أن يقول في السلام]
(1)
: سلام الله عليك، ولكن عليك السلام أو السلام عليكم)
(2)
.
فصل:
ابتداء السلام سنة كفاية، وقول القاضي حسين من أصحابنا: ليس لنا سنة كفاية إلا واحداً
(3)
، ليس كما ذكر فتشميت العاطس كذلك، وكذا الأضحية في حق أهل بيت.
والرد واجب وهو أفضل من الابتداء، وقيل: لا، بل هو؛ لأنه محصل له، وصرح به في "المعونة"
(4)
والمعروف الأول، فإن كان المسلَّم عليهم جماعة فالرد فرض كفاية
(5)
، خلافًا لأبي يوسف: نعم الأفضل ردهم أجمع، فإن رد غيرهم دونهم أثموا، وأقل السلام: السلام عليكم، فإن كان واحداً خاطب والأفضل الجمع ليتناوله وملائكته، وأكمل منه زيادة: ورحمة الله وبركاته؛ اقتداءً بقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] وكالتشهد.
ويكره: عليكم السلام، وقد قال عليه السلام لأبي جُرَيٍّ الهجيمي:"لا تقل: عليك السلام؛ فإن عليك السلام تحية الموتى". صححه
(1)
ما بين المعقوفتين مثبت من "عمدة القاري" 18/ 284 وبه يستقيم السياق.
(2)
من (ص 2).
(3)
أي: غير ابتداء السلام. وهو المنقول عن القاضي في "المنثور" للزركشي 2/ 210.
(4)
ذكر صاحب "المعونة" أن الرد واجب والابتداء سنة، "المعونة" 2/ 570.
(5)
في هامش الأصل تعليق نصه: عدوا السنن على الكفاية سبعًا أو ثمانيًا.
الترمذي
(1)
، وادعى ابن بطال أنه لا يثبت
(2)
، فإن قالها استحق الجواب على الأصح. وهذا الحديث قد ثبت عنه عليه السلام أنه قال في سلامه على القبور:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين"
(3)
، وحياهم بتحية الأحياء.
فرع:
وصفة الرد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، والأفضل الواو، فلو حذفها جاز، وترك الأفضل، ولو اقتصر على: وعليكم السلام، أجزأه. قال ابن أبي زيد: ولا تقل في ردك: سلام. وكان ابن عمر يقول في الرد والبداءة: السلام عليك. ولو اقتصر على: عليكم، لم يجزئه قطعًا، ولو قال: وعليكم، بالواو ففي إجزائه وجهان، وإذا قال ابتداءً: سلام عليكم أو السلام عليكم فقال المجيب مثله، كان جوابًا وأجزأه. قال تعالى:{قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ} [هود: 69] قال: سلام. ولكن بالألف واللام أفضل.
فرع:
أقل السلام ابتداءً وردًّا إسماع صاحبه، ولا يجزئه دون ذلك؛ لما روى مسلم من حديث المقداد: فإنه عليه السلام يسلم تسليمًا لا يوقظ نائمًا، ويسمع اليقظان
(4)
.
(1)
رواه أبو داود (5209)، والترمذي (2722)، وصححه عن جميعًا عن جابر بن سليم أبي جُريٍّ، والنسائي في "الكبرى" 6/ 88 (10150).
وصححه الألباني في "صحيح الترمذي (2190).
(2)
"شرح ابن بطال" 9/ 30.
(3)
رواه مسلم (249) من حديث أبي هريرة كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء.
(4)
مسلم (2055).
فرع:
يشترط كون الرد على الفور، فإن أخره ثم رد لم يُعَدَّ جوابًا وكان آثمًا بتركه.
فرع:
أتاه سلام عليه (من غائب)
(1)
مع رسول آخر أو في ورقة، وجب الرد على الفور، ويستحب أن يرد على المبلغ أيضًا، فيقول: وعليك وعليه السلام؛ لما في الحديث أن خديجة لما قال عليه السلام: "هذا جبريل يقرأ عليك من الله السلام". فقالت: الله السلام وعلى جبريل السلام
(2)
. ولأبي داود بإسناد ضعيف عن جد رجل قال: بعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرئه السلام، فقلت له صلى الله عليه وسلم، فقال:"وعليك وعلى أبيك السلام"
(3)
.
فرع:
سلام الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، وشبهه مستحب، فلو عكسوا جاز، وكان خلاف الأفضل.
فرع:
سيأتي من حديث أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام كان إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا
(4)
، وهو محمول على ما إذا كان الجمع كثيراً.
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه النسائي في "السنن الكبرى" 5/ 94 (8359)، والحاكم في "المستدرك" 3/ 186 من حديث أنس.
قال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(3)
"سنن أبي داود"(5231).
(4)
سيأتي برقم (6244).
فرع:
في الترمذي محسنًا من حديث أسماء بجت يزيد: مر عليه السلام في المسجد فألوى بيده بالتسليم
(1)
، وهو محمول على أنه جمع بين اللفظ والإشارة. وكما في رواية أبي داود: فسلم علينا
(2)
. وأما حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف". وإسناده ضعيف، كما قاله الترمذي
(3)
.
فرع:
لو كان السلام على (أصم فينبغي الإشارة مع التلفظ؛ ليحصل الإفهام، وإلا فلا يستحق جوابًا، وإذا سلم على)
(4)
أخرس فأشار الأخرس باليد سقط عنه الفرض، وكذا لو سلم عليه أخرس بالإشارة استحق الجواب.
(1)
"جامع الترمذي"(2697) وقال: حديث حسن. إلا أن الألباني ضعفه في "ضعيف الترمذي"(508).
(2)
"سنن أبي داود"(5204) من حديث أسماء بنت يزيد.
(3)
"جامع الترمذي"(2695) وقال: إسناده ضعيف، ورواه ابن المبارك عن ابن لهيعة، فلم يرفعه.
(4)
في الأصل (أصم وأراد الرد عليه، فلو سلم على) والمثبت من (ص 2).
2 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا على أَهْلِهَا} إلى قوله: {وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 27 - 29]
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي الحَسَنِ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نِسَاءَ العَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ. قَالَ: اصْرِفْ بَصَرَكَ. وقال اللهِ عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} . وَقَالَ قَتَادَةُ: عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُمْ {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31]{خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} : [غافر: 19] مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِي النَّظَرِ إِلَى التِي لَمْ تَحِضْ مِنَ النِّسَاءِ: لَا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً. وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الجَوَارِي اللاتي يُبَعْنَ بِمَكَّةَ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِيَ.
6228 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَرْدَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ النَّحْرِ خَلْفَهُ عَلَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وَكَانَ الْفَضْلُ رَجُلاً وَضِيئًا، فَوَقَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ وَضِيئَةٌ تَسْتَفْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم والفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، فَأَخْلَفَ بِيَدِهِ فَأَخَذَ بِذَقَنِ الْفَضْلِ، فَعَدَلَ وَجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ فِي الْحَجِّ عَلَى عِبَادِهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِىَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَهَلْ يَقْضِي عَنْهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ:«نَعَمْ» . [انظر: 1513 - فسلم: 1334 - فتح 11/ 8]
6229 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ، نَتَحَدَّثُ فِيهَا. فَقَالَ:«إِذَ أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» . قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» . [انظر: 2465 - مسلم: 2121 - فتح 11/ 8]
ثم ساق حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما في نظر الفضل أخيه إلى تلك المرأة من خثعم، وأخذه عليه السلام بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها.
وحديث أَبي عَامِرٍ -واسمه عبد الملك بن عمرو بن قيس العقدي- إلى أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ، نَتَحَدَّثُ فِيهَا. فَقَالَ:"فإِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ". قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىُ عَنِ المُنْكَرِ".
الشرح:
قال ابن عباس: إنما هو (حتى تستأذنوا).
وكذا قال قتادة ومجاهد وإبراهيم
(1)
.
وقال سعيد بن جبير: الاستئناس: الاستئذان، وهو -فيما أحسب- من خطأ الكاتب.
(1)
رواه الطبري 9/ 296 - 297 (25908 - 25921)، وابن أبي حاتم 8/ 2566 (14344 - 14345) والحاكم في "المستدرك" 2/ 396 عن مجاهد عن ابن عباس، وقال: صحيح على شرط الشيخين، والبيهقي في "الشعب" 6/ 437.
وروى أيوب عنه عن ابن عباس: إنما هي: (حتى تستأذنوا)، فسقط من الكاتب
(1)
، وقال إسماعيل بن إسحاق: قوله: من خطأ الكاتب. هو بقول سعيد بن جبير أشبه منه بقول ابن عباس؛ لأن هذا مما لا يجوز أن يقوله أحد؛ إذ كان القرآن محفوظًا، قد حفظه الله من أن يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
وقد روي عن مجاهد أن الاستئناس: التنحنح والتنخم إذا أراد أن يدخل
(2)
. وروى ابن وهب، عن مالك أنه الجلوس، قال تعالى:{وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53] وقال عمر حين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث المشربة: أستأنس يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "نعم". فجلس عمر
(3)
.
قال إسماعيل: وأحسب معنى الاستئناس -والله أعلم- إنما هو أن يستأنس فإن الذي يدخل عليه لا يكره دخوله؛ يدل على ذلك قول عمر رضي الله عنه السالف، فدل قوله على أنه أحب أن يعلم أنه عليه السلام لا يكره جلوسه، وهذا مما يضعف ما روي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن عمر.
(1)
قال القرطبي في "تفسيره" 12/ 214: وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره، فإن مصاحف الإسلام كلها ثبت فيها {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان فهي التي لا يجوز خلافها وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس؛ وقد قال الله عز وجل:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} ، وقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} .
(2)
رواه الطبري 9/ 297 (25922 - 25925).
(3)
سلف برقم (2468) كتاب: المظالم، باب: الغرفة والعُلِّيَّة المشرفة في السطوح وغيرها.
قلت: والاستئناس في اللغة: الإعلام، ومنه:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6].
قال المهلب: ومعنى الاستئذان: هو خوف أن يفجأ الرجل أهل البيت على عورة فينظر ما لا يحل له؛ يدل عليه قوله عليه السلام: "إنما جعل الاستئذان من قبل البصر"
(1)
.
وقال الطحاوي: الاستئناس: الاستئذان، في لغة أهل اليمن، وهو موجود فيها إلى الآن
(2)
.
قال الفراء: تقول العرب: استأنس، فانظر هل في الدار من أحد، بمعنى: استأذن به
(3)
.
فصل:
قام الإجماع على مشروعية الاستئذان، والسنة أن يسلم ويستأذن ثلاثًا؛ ليجمع بين السلام والاستئذان، كما هو مصرح به في القرآن العظيم.
واختلفوا في أنه: هل يستحب تقديم السلام ثم الاستئذان، أو عكسه؟ والصحيح الأول، وبه قال المحققون، وبه جاءت السنة، فيقول: السلام عليكم أأدخل؟
واختار الماوردي وجهًا ثالثًا أنه إن وقعت عين المستأذن على صاحب البيت قبل دخوله، قدم السلام
(4)
، وإلا قدم الاستئذان.
(1)
سيأتي برقم (6241) باب: الاستئذان من أجل البصر.
(2)
"شرح مشكل الآثار" 4/ 248.
(3)
"معاني القرآن" 2/ 249.
(4)
"النكت والعيون" 4/ 87.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثان في تقديم السلام
(1)
.
فرع:
إذا استأذن ثلاثًا فلم يؤذن له، فظن أنه لم يسمعه ففيه ثلاثة مذاهب:
أظهرها: أنه ينصرف ولا يعيد الاستئذان.
وثانيها: يزيد فيه، قال مالك: لا بأس به
(2)
. وهو تأويل قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27].
وثالثها: إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده وإن كان بغيره أعاده.
فمن قال بالأظهر فحجته قوله في الحديث: "فلم يؤذن له فليرجع" كما سيأتي
(3)
، ومن قال بالثاني حمل الحديث على من علم أو ظن أنه سمعه، وقول أبي بن كعب فيه: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم
(4)
. معناه: أن هذا الحديث
(1)
الحديث الأول رواه أبو داود (5177)، عن منصور، عن ربعي قال رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم -وهو في بيت فقال: ألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه "اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم أأدخل؟ " فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل، ورواه بنحوه الترمذي (2710) عن صفوان بن أمية به.
والثاني رواه أحمد 3/ 138 من طريق معمر، عن ثابت البناني، عن أنس أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد فقال:"السلام عليكم ورحمة الله"، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى سلم ثلاثًا ورد سعد ثلاثًا ولم يسمعه فرجع النبي صلى الله عليه وسلم، واتبعه سعد فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا هي بأذني ولقد رددت عليك ولم أُسْمِعْك أحببت أن استكثر من سلامك ومن البركة ثم أدخله البيت فقرب له زبيبًا فأكل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ قال:"أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون".
(2)
انظر: "التمهيد" 3/ 192.
(3)
برقم (6245).
(4)
سيأتي قريبًا برقم (6245) باب: التسليم والاستئذان ثلاثًا.
مشهور بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا، وقد تعلق به من يقول: لا يحتج بخبر الواحد وأن عمر رد حديث أبي موسى هذا؛ لكونه خبر واحد، وهو باطل، والإجماع يرده ممن يعتد به فيه، ودلائله من فعل الشارع والخلفاء الراشدين وسائر الصحابة ومن بعدهم، وقول عمر لأبي موسى: أقم البينة. ليس معناه رد خبر الواحد من حديث هو خبر واحد، ولكن خاف من مسارعة الناس إلى التقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل من بعض المبتدعة أو الكذابين أو المنافقين، فيضع كل من وقعت له قصة حديثًا فيها، فأراد سد الباب خوفًا من غير أبي موسى لا شكًّا في روايته، فإنه كان عند عمر رضي الله عنه أجل من أن يظن به أنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وإنما أراد زجر غيره بطريقه فإن من دون أبي موسى إذا رأى هذِه القضية أو بلغته، وكان في قلبه مرض أو أراد وضع حديث خاف من مثل قضية أبي موسى فامتنع من وضعه والمسارعة في الرواية بغير يقين، ومما يدل على أن عمر رضي الله عنه لم يرد خبره؛ لكونه خبر واحد أنه طلب منه إخبار رجل آخر حتى يعلم الحديث، ومعلوم أن خبر الاثنين خبر واحد، يوضحه ما في مسلم أن أبيًّا لما شهد لأبي موسى قال: يا ابن الخطاب لا تكن عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان الله أنا سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبت
(1)
. وأما رواية: أقم البينة وإلا أوجعتك
(2)
. وفي أخرى والله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد
(3)
.
(1)
"صحيح مسلم"(2154).
(2)
رواها مسلم (2153/ 33).
(3)
رواها مسلم برقم (2153).
وفي أخرى: لأجعلنك نكالًا
(1)
. فكلها محموله على أن التقدير: لأفعلن بك هذا الوعيد إن بان أنك تعمدت كذبًا، وقوله: فهاه وإلا جعلتك عظة. أي: فهات (البينة)
(2)
، وضحك القوم من رؤيتهم فزع أبي موسى وخوفه من العقوبة مع أنهم قد أمنوا أن يناله عقوبة أو غيرها؛ لقوة حجته وسماعهم ما أنكر عليه في رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سلف طرف منه في البيوع
(3)
.
فصل:
وقوله: {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور: 28] أي: يأذن لكم أهلها بالدخول؛ لأنه لا ينبغي أن يدخل منزل غيره وإن علم أنه ليس فيه أحد حتى يأذن له صاحبه.
وقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور: 29] قال مجاهد: كانت بيوتًا في طريق المدينة يجعلون فيها أمتعتهم
(4)
، وقيل: هي الخانات
(5)
.
وقال عطاء: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} : للخلاء والبول
(6)
.
(فصل:
وسعيد بن أبي الحسن هذا هو: أخو الحسن البصري، تابعي
(1)
رواها البخاري في "الأدب المفرد"(1073).
(2)
في الأصل: (السنة) والرواية عند مسلم (2153/ 35).
(3)
راجع شرح حديث (2062).
(4)
رواه الطبري 9/ 300 (25936 - 25939)، وابن أبي حاتم 8/ 2569 (14366).
(5)
رواه الطبري 9/ 300 (25934: 25935) من قول محمد بن الحنفية، وقتادة ورواه ابن أبي حاتم 8/ 2569 (14365) من قول سعيد بن جبير.
(6)
رواه الطبري 9/ 301 (25943)، وابن أبي حاتم 8/ 2570 (14370).
ثقة
(1)
، قال البخاري: مات قبل الحسن)
(2)
.
فصل:
وقوله: (من أبصارهم)(من) هنا؛ لبيان الجنس، وقد جاء في نظر الفجأة الأمر بصرف البصر
(3)
.
ولا شك في أن غض البصر مأمور به للآيتين المذكورتين في الباب؛ ألا ترى صرف النبي صلى الله عليه وسلم لوجه الفضل عن المرأة، ونهيه عليه السلام عن الجلوس على الطرقات إلا أن يغض البصر، وإنما أمر الله بغض الأبصار عما لا يحل؛ لئلا يكون البصر ذريعة إلى الفتنة، فإذا أمنت فالنظر مباح؛ ألا ترى أنه عليه السلام حول وجه الفضل حين علم بإدامته النظر إليها أنه أعجبه حسنها، فخشي عليه الشيطان.
وما ذكره في خائنة الأعين: قال ابن عباس: هو الرجل ينظر إلى المرأة، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره. وقد علم الله سبحانه (أن يرده)
(4)
لو نظر إلى عورتها
(5)
، وقول الزهري صحيح، ومعناه: في غير
(1)
سعيد بن أبي الحسن واسمه: يسار الأنصاري مولاهم البصري. روى عن ابن عباس وعلي، وأبي هريرة.
روى عنه: أخوه الحسن البصري، وخالد الحذاء والأعمش. وثقه الأئمة. انظر:"التاريخ الكبير" 3/ 462 (1538)، و"الجرح والتعديل" 4/ 72 (306)، "تهذيب الكمال" 10/ 385 (22251).
(2)
من (ص 2).
(3)
يشير المصنف رحمه الله إلى ما رواه مسلم (2159) كتاب: الآداب، باب: نظر الفجأة، وأبو داود (2148) عن جرير رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة؛ فقال:"اصرف بصرك".
(4)
كذا في الأصل، ولعل الصحيح: أنه يود.
(5)
رواه الطبري 11/ 50 (30316).
الصغيرة جدًّا، قد مست أم خالد
(1)
خاتم النبوة الذي كان بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى الشارع من نهاها
(2)
. وقد سلف أن فيه حجة لأشهب أن الرجل يُغسِّل الأجنبية الصغيرة الميتة، وأن ابن القاسم لا يجيز ذلك
(3)
.
فصل:
وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم، وضعفه فيما تركب فيه من الميل إلى النساء، والإعجاب بهن، وفيه دليل أن نساء المؤمنين ليس لزوم الحجاب لهن فرضًا في كل حال كلزومه لأمهات المؤمنين، ولو لزم جميع النساء فرضًا لأمر الشارع الخثعمية بالاستتار، ولَمَا صرف وجه الفضل عن وجهها، بل كان أمره بصرف بصره ويعلمه أن ذلك فرضه؛ فصرف وجهه وقت خوف الفتنة وتركه قبل ذلك الوقت.
وهذا الحديث يدل أن ستر المؤمنات وجوههن عن غير محارمهن سنة؛ لإجماعهم أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة منها ويراه الغرباء، وأن قوله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] على الفرض في غير الوجه.
(1)
أم خالد: أمة بنت خالد بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي، ولدت بالحبشة وتزوجها الزبير فولدت له عمرًا، صحابية روى لها البخاري، وأبو داود والنسائي. انظر "الطبقات الكبرى" لابن سعد 8/ 234، و"تهذيب الكمال" 35/ 129 (7788).
(2)
سلف برقم (3071) كتاب الجهاد، باب: من تكلم بالفارسية والرطانة من حديث أم خالد بنت خالد بن سعيد بلفظ "فذهبت ألعب بخاتم النبوة".
(3)
انظر "النوادر والزيادات" 1/ 554.
وأن غض (البصر)
(1)
عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى منه الفتنة واجب.
وقد قال عليه السلام: "لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية"
(2)
. وهذا معنى دخول (من) قوله تعالى: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 34]: لأن النظرة الأولى لا تملك، فوجب التبعيض لذلك بما قدمناه، ولم يقل ذلك في الفروج؛ لأنها لا تملك.
فصل:
فإرادفه الفضل خلفه على عجز راحلته ظاهر في جواز الإرداف، وقد مر. وعَجُز -بفتح أوله وضم ثانيه- أي: آخرها. وقوله: وكان الفضل وضيئًا أي: حسنًا نظيفًا، أصله: وضُأ مثل كَرُم.
وقوله: (فأخلف يده فأخذ بذَقَن الفضل). أي: أدارها من خلفه، يقال: أخلف الرجل بيده إلى سيفه: مدها إليه؛ ليأخذه عند حاجته إليه، وأخلف إلى مؤخر راحلته أو فرسه كذلك، وقال هنا:(والفضل ينظر إليها)، وفي "الموطأ": وتنظر هي إليه
(3)
.
والذَّقَن: -بفتح الذال والقاف- مجتمع اللحيين، قيل: وكان الفضل يومئذ صبيًّا.
(1)
في الأصل: (الفرج) والمثبت هو المناسب للسياق.
(2)
رواه أبو داود (2149)، والترمذي (2777)، وأحمد 5/ 353، 2/ 194 والبيهقي 7/ 90 كلهم من حديث ابن بريدة، عن أبيه مرفوعًا، وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وقال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(1903): حسن لغيره.
(3)
"الموطأ" ص 236 (98).
وغُلِّط؛ لقوله: وكان رجلاً وضيئًا، وليس صريحًا فيه، فإن قلت: سماه بما يئول إليه أمره قيل: الظاهر منه أنه وصف حاله حينئذ، وأيضاً فإنه كان أكبر من أخيه عبد الله، وكان عبد الله في حجة الوداع ناهز الاحتلام.
فصل:
قوله: ("إياكم والجلوس بالطرقات") هي جمع طرق، وطرق جمع طريق.
3 - باب السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى
وقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]
6230 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا: السَّلَامُ عَلَى اللهِ قَبْلَ عِبَادِهِ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ:«إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ. فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ثُمَّ يَتَخَيَّرْ بَعْدُ مِنَ الكَلَامِ مَا شَاءَ» . [انظر: 831 - مسلم:
402 -
فتح 11/ 13]
ثم ساق حديث شَقِيقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ في التشهد فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ". وقد سلف.
قيل: إن الآية في السلام إذا قال: سلام (عليك)
(1)
رد عليه: وعليك السلام ورحمة الله وإذا قال: السلام عليك ورحمة الله، رد: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وقيل: إنها في الهدية.
وعن مالك: يرجع فيها ما لم تقبض. وهو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة
ومشهور مذهب مالك -كما قاله ابن التين- أنها تلزم بالقول، وليس له
رجوع وإنما الحوز شرط في صحتها، واحتج بهذِه الآية على من قال:
إذا سلم على جماعة يردون جميعهم، وهم الكوفيين؛ لأن معناه أن يرد
(1)
من (ص 2).
واحد منهم مثلما يسلم واحد مثلما ابتدئت به من غير زيادة لقوله: {أَوْ رُدُّوهَا} وروى مالك، عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام قال:"إذا سلم واحد من القوم أجزأ عنهم"
(1)
وأنكر أبو يوسف مرسل مالك، واحتجوا بأنه لو رد عنهم (غيرهم)
(2)
لم يسقط ذلك عنهم، فدل أنه يلزم كل إنسان بعينه، واستدل لمالك والشافعي مع ما سلف بقوله عليه السلام:"يسلم القليل على الكثير"
(3)
. والرد سلام عند العرب، وبإجماعهم أن الواحد يسلم على الجماعة، ولا يحتاج إلى تكريره على عددهم، وكذلك الرد، وإنكارهم لمرسل مالك لا وجه له؛ لأنه (لا)
(4)
مستند لهم في قولهم، والمصير إليه أولى من المصير إلى رأي يعارضه، وقد عضده ما أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه من حديث عبد الله بن الفضل عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي يرفعه:"يجزئ عن الجماعة إذا مرت أن يسلم أحدهم، ويجزي عن القعود أن يرد أحدهم". وأخرجه أبو داود من هذا الوجه، وقال: و"الجلوس" بدل "القعود"
(5)
وهو هو.
فصل:
وقوله: ("إن الله هو السلام") يريد أنه اسم من أسمائه، قال تعالى:{السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر: 23] فمصداق هذا الحديث القرآن، والأسماء إنما تؤخذ توقيفًا من الكتاب والسنة، ولا يجوز أن يسمى الله بغير
(1)
"موطأ مالك " ص 595 برواية يحيى الليثي.
(2)
من (ص 2).
(3)
سيأتي قريبًا برقم (6232) ورواه مسلم برقم (2160) كتاب: السلام، باب: يسلم الراكب على الماشي والقليل على الكثير.
(4)
من (ص 2).
(5)
رواه أبو داود برقم (5210).
ما سمى به نفسه، ولما كان السلام من أسمائه لم يجز أن يقال: السلام على الله، وجاز أن يقال: السلام عليكم؛ لأن معناه الله عليكم، والسلام أيضًا السلامة؛ قال تعالى:{لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ} [الأنعام: 127] أي: السلامة، وهي: الجنة، والسلام: التسليم، والسلام: الشجر، وشجر عظام واحدتها سلامة، والسلام: الإسلام، والسلامة: البراءة من العيوب.
فصل:
قد أسلفنا أن الابتداء به سنة، ورده فريضة، وهو إجماع، ومن الدليل على كونه سنة قوله في المتهاجرين:"وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"
(1)
وسلف أيضًا أن الرد فرض كفاية، وهو داخل في معنى قوله:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]؛ لأنه رد عليه مثل قوله وشبهوه بالتشميت أي: في كونه سنة كفاية، نعم هو كالجهاد، وطلب العلم، ودفن الموتى. وإن الكوفيين ذهبوا إلى أن الرد فرض عين على كل واحد، قالوا: والسلام خلاف رده، نعم قد يكون من السنن ما يسد الفرض كغسل الجمعة يجزئ عن غسل الجنابة عند جماعة من العلماء، وكغسل اليدين قبل الوضوء يجزئ عن غسلهما مع الذراعين في الوضوء، في قول عطاء.
فصل:
قد أسلفنا أن تشهد ابن مسعود هذا أخرجه مسلم أيضًا مع باقي الأربعة
(2)
.
(1)
سلف برقم (6077) كتاب: الأدب، باب: الهجرة.
(2)
مسلم برقم (402) كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، أبو داود (968)، الترمذي (289)، النسائي 2/ 237 - 238، ابن ماجه (899).
وأخذ به أحمد
(1)
والكوفيون
(2)
، وأخذ الشافعي بتشهد ابن عباس
(3)
وهو من أفراد مسلم، وأخذ مالك بتشهد عمر رضي الله عنه
(4)
، وادعوا أنه يجري مجرى التواتر كتعليمه الناس على المنبر بحضرة جماعة من الصحابة وأئمة المسلمين ولم ينكر عليه أحد.
فصل:
التحيات: السلام أو البقاء. والصلوات، قال ابن حبيب: قيل: معناه لا يراد بها غير الله والطيبات طيب القول والأعمال (الراتبة)
(5)
(6)
.
فصل:
لم يذكر في هذا الحديث هنا الصلاة على رسول الله فتحزبت المالكية وقالوا: فيه رد على الشافعي وابن المواز منهم
(7)
، قالوا: واحتجاج الشافعي
(8)
بالآية المراد: مرة في العمر (ولغى)
(9)
ثم غلط فادعى أن الشافعي اختار تشهد ابن مسعود والعجب أن الصلاة ثابتة فيه في الحديث الصحيح من طريقين، وفي الذهن أني أسلفت ذلك.
(1)
انظر: "المغني" 2/ 220.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 214.
(3)
"الأم" 1/ 101.
(4)
"الموطأ" ص 77، وانظر "المدونة" 1/ 134.
(5)
في (ص 2): (الزاكية).
(6)
"النوادر والزيادات" 1/ 188، "الذخيرة" 3/ 218.
(7)
"المنتقى" 1/ 174.
(8)
"روضة الطالبين" 1/ 263 - 264.
(9)
في الأصل: (ولغ) وفي (ص 2): (وتشفى في الشفا) غير منقوطة، ولعل المثبت له معنًى يوافق السياق.
4 - باب تَسْلِيمِ الْقَلِيلِ عَلَى الكَثِيرِ
6231 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» . [6232، 6233، 6234 - مسلم: 2160 - فتح 11/ 14]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى القَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ".
ثم ترجم له:
5 - باب تَسْلِيمِ الرَّاكِبِ عَلَى المَاشِي
6232 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ أَنَّهُ سَمِعَ ثَابِتًا -مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ- أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى القَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ» . [انظر: 6231 - مسلم: 2160 - فتح 11/ 15]
ثم ساقه بلفظ: "يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى المَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى القَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ".
وفي سنده: زياد وهو ابن سعد، وثابت هو ابن عياض الأحنف الأعرج، مولى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، ولأبي أحمد يزيد بدل زياد، وهو وهم، قال الجياني: والصواب الأول
(1)
.
ثم ترجم عليه:
(1)
قلت: نظرت في "تقييد المهمل" 2/ 738 - 739 للجياني فعجبت؛ لأنه قال: في نسخة أبي محمد عن أبي أحمد: ثابت مولى عبد الرحمن بن يزيد بزيادة ياء في الاسم، وهو وهم والصواب: زيد. اهـ.
فالجياني إنما ذكر أن الوهم فيمن قال: يزيد بن الخطاب، بدل زيد، والذي حكاه عنه المصنف أن الوهم فيمن قال: يزيد بدل زياد، وكأنه عني زياد بن سعد، المذكور أولًا. والله أعلم.
6 - باب تَسْلِيمِ المَاشِي عَلَى القَاعِدِ
6233 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ، أَنَّ ثَابِتًا أَخْبَرَهُ -وَهْوَ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى المَاشِى وَالْمَاشِى عَلَى القَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ» . [انظر: 6231 - مسلم: 2160 - فتح 11/ 15]
وساقه به سواء.
ثم ترجم عليه:
7 - باب تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ عَلَى الكَبِيرِ
6234 -
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى القَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ» . [انظر: 6231 - مسلم: 2160 - فتح 11/ 16]
ثم قال: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى القَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ".
وهذا أسنده أبو نعيم في كتابه عن الأجُرِّي: ثنا عبد الله بن العباس، ثنا أحمد بن حفص، ثنا أبي، ثنا إبراهيم بن طهمان، فذكره، والبخاري قد ساقه أولا من حديث معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، كما سلف أولًا، فهذا طريق آخر زيادة عليه، والراكب بالإضافة إلى الماشي كأنه مار على قاعد لإشرافه، وكذلك الماشي مع القاعد، ومقصود السلام: الأمان، والماشي يخاف الراكب، وكذلك القاعد يخاف الماشي فأمروا بالسلام؛ ليحصل الأمن، نبه عليه ابن الجوزي.
وقال المهلب: هذِه آداب من الشارع أما تسليم الصغير على الكبير فمن أجل حق الكبير عليه فأَمر الصغير بالتواضع له والتوقير وتسليم المار على القاعد هو من باب الداخل على القوم فعليه أن يبدأهم بالسلام وكذلك فعل آدم عليه السلام بالملائكة حين قيل له: "اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس"
(1)
ويسلم القليل على الكثير من باب التواضع أيضًا؛ لأن حق الكثير أعظم من حق القليل وكذلك فعل أيضًا آدم عليه السلام؛ كان وحده والملأ من الملائكة كثير حين أمر بالسلام
(1)
سلف قريبًا برقم (6227) أول كتاب الاستئذان.
عليهم، وسلام الراكب على الماشي؛ لئلا يتكبر بركوبه على الماشي فأمر بالتواضع له.
8 - باب إِفْشَاءِ السَّلَامِ
6235 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنَهَى عَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ، وَنَهَانَا عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّيِّ، وَالإِسْتَبْرَقِ. [انظر: 1239 - مسلم: 2066 - فتح 11/ 18]
ذكر فيه حديث البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا النبي صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ: منها: إفشاء السلام. وقد سلف غير مرة
(1)
.
والشيباني في الإسناد هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان فيروز
(2)
.
قال الطبري: ومن هذِه السبع ما يكون بتركه عاصيًا وهو نصر الضعيف، وعون المظلوم، وإبرار المقسم، فهذِه فرض في كل حال، وذلك أنه عليه السلام قال:"انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا"
(3)
. وقال: "إن المؤمنين جميعًا كالجسد الواحد"
(4)
.
(1)
سلف برقم (5175) كتاب: النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة.
(2)
روى عن سعيد بن جبير، وعكرمة، والقاسم بن عبد الرحمن. وروى عنه: إبراهيم بن طهمان، وأسباط بن محمد وغيرهم. وثقه الأئمة.
انظر ترجمته في "التاريخ الكبير" 16 (1808)، و"الجرح والتعديل" 4/ 135 (592) و"تهذيب الكمال" 11/ 444 (2525).
(3)
سلف برقم (2443) كتاب: المظالم، باب: أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا.
(4)
سلف بنحوه برقم (6011) بلفظ "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد
…
" من حديث النعمان بن بشير.
وعلى المرء أن يسعى لصلاح كل عضو من أعضاء جسده سعيه لبعضها، فكذلك عليهم في إخوانهم في الدين، وشركائهم في الملة، وأنصارهم من الأعداء من نصرهم وعوضهم مثل ما عليهم ذلك في أنفسهم لأنفسهم إذ كان بعضهم عونًا لبعض، وجميعهم يد على العدو، ولذلك خاطبهم ربنا في كتابه فقال:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
إذ كان القاتل منهم غيره بمنزلة القاتل نفسه، ولم يقل لهم: لا يقتل بعضكم بعضًا؛ إذ كان المؤمن لأخيه المؤمن بمنزلة نفسه في التعاون على الذكر والتقوى، يؤلم كل واحد منهما ما يؤلم الآخر، ألا ترى أن الله تعالى نهى المؤمنين أن يلمز بعضهم بعضًا، وأن يتنابزوا بالألقاب، قال تعالى:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] فجعل اللامز أخاه لامزًا نفسه، إذ كان أخوه بمنزلة نفسه، ومعلوم أنه لا أحد صحيح العقل يلمز نفسه، فعلم أن معناه: لا يلمز أحدكم أخاه المؤمن، وإنما الإبرار بقوله:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] ومنها ما يكون بتركه غير عاص، وهو ابتداء السلام والعيادة، ومنها ما يكون فرضًا في بعض الأحوال وفضلًا في بعضها، وهو شهود الجنازة، إذا لم يكن لها قيم أو يكون ولا يستغنى عن حضوره إياها. وتشميت العاطس عند الحمد فهو فرض كفاية على الجميع، كذا قال: وإنما هو سنة كفاية.
وأما التي فرض في بعض الأحوال دون بعض وفضل في بعضها فشهود جنازة الأخ المؤمن، فالحال التي هو فيها فرض إذا لم يكن لها قيم غيره كما مر، وذلك أن الذي يلزم من أمر موتى المسلمين للأحياء غسلهم وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم، وذلك فرض على
الكفاية. وأما التي هو بفعلها محمود وتركها غير مذموم فالسلام عليه إذا لقيه، فإن المبتدئ أخاه بالسلام له الفضل كما سلف في المتهاجِرَين "وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"
(1)
ومن ذلك عيادته لأخيه إذا مرض، وإجابته إلى طعام إذا دعاه إليه، فإن تارك ذلك تارك للفضل لا تارك فرض؛ لإجماع الجميع على ذلك.
قلت: كذا قال، والخلاف عندنا في وليمة العرس والأظهر الوجوب، وقد سلف جملة من معنى هذا الحديث في الجنائز
(2)
والمظالم
(3)
والنكاح
(4)
واللباس
(5)
.
فصل:
سلف ذكر المياثر، قال الجوهري: ميثرة الفرس: لبدته، غير مهموزة والجمع: مياثر ومواثر
(6)
. قال أبو عبيد: وأما المياثر الحمر التي جاء فيها النهي فكانت من مراكب الأعاجم من ديباج أو من حرير
(7)
. وعند الهروي: في الحديث: نهى عن ميثرة الأرجوان؛ صبغ أحمر
(8)
.
(1)
سلف برقم (6077) من حديث أبي أيوب الأنصاري: كتاب: الأدب، باب الهجرة، ورواه مسلم برقم (2560).
(2)
راجع شرح حديث (1239).
(3)
راجع شرح حديث (2445).
(4)
راجع شرح حديث (5175).
(5)
راجع شرح أحاديث (5838، 5849، 5863).
(6)
"الصحاح" 2/ 844 مادة [وثر].
(7)
"غريب الحديث" لابن سلام 1/ 139.
(8)
"النهاية في غريب الحديث" 5/ 150 والحديث أخرجه الترمزي عن عمران بن حصين (2788) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(2239).
وقال ابن فارس: المياثر ثياب حمر كانت مراكب العجم
(1)
.
والقسيُّ سلف أنه بفتح القاف وكسرها، وقال الجوهري: إنه ثوب يحمل من مصر يخالطه الحرير
(2)
. وقال أبو عبيد: هو منسوب إلى بلاد يقال لها: القَسُّ، قال: وقد رأيتها، ولم يعرفها الأصمعي
(3)
، وقيل: هي القزي. أي: الإِبْرَيْسَم، أبدلت من الزاي سينًا، وقال ابن فارس: هي ثياب يؤتى بها من اليمن
(4)
.
(1)
"مجمل اللغة" 2/ 915 مادة [وثر].
(2)
في هامش الأصل: لم أره في "الصحاح" في نسختي، وهي صحيحة. [قلت: الكلام بنصه في "الصحاح" 3/ 963].
(3)
"غريب الحديث" 1/ 137 وهي قرية بمصر تنسب إليها الثياب القسية التي نهى عنها النبي حكاه الحموي في "معجم البلدان" 4/ 344.
(4)
"مجمل اللغة" 2/ 753.
9 - باب السَّلَامِ لِلْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِ المَعْرِفَةِ
6236 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ» . [انظر: 12 - مسلم: 39 - فتح 11/ 21]
6237 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» . وَذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. [انظر: 6077 - مسلم: 2560 - فتح 11/ 21]
ذكر فيه حديث يَزِيدَ -وهو ابن أبي حبيب- عَنْ أَبِي الخَيْرِ -وهو مرثد بن عبد الله اليزني- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ"(وقد سلف في الإيمان)
(1)
.
وحديث سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ -خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار- أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هذا، وَيَصُدُّ هذا وَخَيْرُهُمَاَ الذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ". وَذَكَرَ سُفْيَانُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
الشرح:
مراده بقوله: (أيُّ الإسلام خير؟) أي: بعد التوحيد، أو يريد: أيُّ شعب الإسلام خير؟ وفي حديث آخر: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان
(1)
من (ص 2)، قلت: سلف برقم (12).
بالله ثم الجهاد"
(1)
، وفي آخر:"ثم الصلاة لمواقيتها"
(2)
. وقد سلف الجمع بين ذلك. وقال ابن التين: لعل هذا قبل أن يفرض الجهاد والصلاة، وأخباره لا تتنافى، فإذا صلى في الوقت في الجهاد كان أفضل؛ لجمعه بين الأمرين وإن صلاها في غير وقتها فالجهاد أفضل، وهذا لمن ليس له أبوان؛ لقوله في الحديث الآخر بعد الصلاة:"ثم بر الوالدين"
(3)
، فمن له أبوان فصلى في الوقت كان أفضل (من الجهاد)
(4)
.
فصل:
هذا أيضًا في باب الأدب والتواضع، وفي السلام لغير المعرفة استفتاح للخلطة؛ ليكون المؤمنون كلهم إخوة؛ ولا يستوحش أحد من أحد، وترك السلام لغير المعرفة يشبه صدود المتصارمين المنهي عنه، فينبغي للمؤمن أن يجتنب مثل ذلك، وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أشراط الساعة السلام للمعرفة"
(5)
.
وروى عبد الرزاق، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يدخل السوق، فما يلقى صغيرًا ولا كبيرًا إلا سلم عليه، ولقد مر بعبدٍ أعمى فجعل يسلم عليه، والآخر لا يرد عليه، فقيل: إنه أعمى
(6)
.
(1)
سلف برقم (1519) من حديث أبي هريرة كتاب: الحج، باب: فضل الحج المبرور.
(2)
سيأتي برقم (7534) من حديث ابن مسعود كتاب: التوحيد، باب: وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملًا.
(3)
سلف برقم (537) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها.
(4)
من (ص 2).
(5)
رواه أحمد 1/ 405. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (3848): إسناده صحيح. ورواه أيضًا الإمام أحمد 1/ 387 من طريق آخر. والحديث صححه الألباني في "الصحيحة"(648).
(6)
"مصنف عبد الرزاق" 10/ 386 (19442).
وكان السلف من المحافظة على بذل السلام، كما ذكر معمر قال: كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعين، فتفرق بينهما شجرة، ثم يجتمعان فيسلم أحدهما على الآخر
(1)
.
ومما يدل على تأكيد السلام على كل أحد أن الله تعالى قد أمر الداخل بيتًا غير مسكون بالسلام عند دخوله، وروي عن ابن عباس والنخعي وعلقمة وعطاء وعكرمة وقتادة في قوله تعالى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا على أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] قالوا: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإن الملائكة ترد عليك. وهذا يدل أن الداخل بيتًا مسكونًا أولى بالسلام
(2)
.
وروى ابن وهب، عن حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام قال:"إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها، واذكروا اسم الله؛ فإن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته، وذكر اسم الله على طعامه، يقول الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم هنا ولا عشاء. وإذا لم يسلم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على طعامه، قال الشيطان لأصحابه: أدركتم المبيت والعشاء"
(3)
.
(1)
رواه عنه عبد الرزاق 10/ 388 (19446).
(2)
الطبري 9/ 356 - 357 - 358، "تفسير ابن أبي حاتم" 8/ 2650 - 2651.
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 401 - 402 من طريق محمد بن الحسن بن أبي الحسن عن عبد الله بن الحارث بن فضيل عن أبيه عن جابر بن عبد الله، بنحوه. قال الحاكم: حديث غريب الإسناد والمتن في هذا الباب، ومحمد بن الحسن المخزومي أخشى أنه ابن زبالة، ولم يخرجاه.
والحديث رواه مسلم (2018) من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعًا: "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه .. " الحديث.
وفي "المشكل " لأبي جعفر الطحاوي عن مسروق: كنت أنا وعلقمة مع ابن مسعود وهو بيننا، فجاء أعرابي فقال: السلام عليكم يا ابن أم عبد. فضحك عبد الله وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من أشراط الساعة السلام بالمعرفة"
(1)
، وفي رواية:"ما بين يدي الساعة تسليم الخاصة"
(2)
، وفي حديث إسلام أبي ذر قال: فانتهيت إليه -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى هو وصاحبه -يعني: الصديق رضي الله عنه فكنت أول من حياه بتحية الإسلام، فقال:"وعليك ورحمة الله"
(3)
.
قال الطحاوي: وهذا ليس بمعارض للأول، إذ قد يحتمل أن يكون أبو ذر كان مع الصديق ورسول الله صلى الله عليه وسلم متشاغل إما بصلاة وإما بطواف؛ لأن ذلك كان بمكة عند البيت فلم يحتج إلى السلام على أبي بكر، وكانت الحاجة إلى السلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ (فقصر سلامه عليه فلم ينل)
(4)
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
.
واختصاصه عليه السلام أبا ذر بالرد عليه وحده دون غيره؛ دليل على أن الرد خلاف السلام؛ لأن المسلم على الواحد من الجماعة ظالم لبقيتهم؛ لأنه كان عليه أن يسلم عليهم كلهم، والرد من المسلم عليه عن نفسه وحده أو عن جماعة هو منهم على اختلاف بين أهل العلم
(1)
"مشكل الآثار" 4/ 265 (1591) وفيه: عن علقمة أنه كان مع مسروق وابن مسعود. أي: أن المتحدث هو علقمة، والذي مع ابن مسعود هو مسروق، لا كما ذكر المصنف رحمه الله.
(2)
مسلم (2473) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: فضائل أبي ذر.
(3)
"مشكل الآثار" 4/ 270 - 271 (1595).
(4)
كذا بالأصل، وفي "شرح المشكل" 4/ 273:(فقصد بسلامه إليه، فلم ينكر).
(5)
"مشكل الآثار" 4/ 273.
في ذلك؛ إنما هو على من سلم عليه عن نفسه أو عن جماعة منهم، فجاز أن يختص به دون من سواه من الناس
(1)
.
قال: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا غرار في صلاة ولا تسليم"، قال أبو عبيد
(2)
: الغرار: النقصان، ومعناه في الصلاة أن ينقص من ركوعها وسجودها، وفي السلام أن يقول: السلام عليك، أو يرد بقوله: وعليك، ولا يقول: وعليكم
(3)
.
قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يكون النقصان المنهي عنه في السلام القصد بالسلام إلى الواحد من الجماعة، بخلاف الرد لما ذكرناه، مما يوجب حكم السلام، ورده في الحديث السالف وقد سلف الرد بعليك، ولا نقص إذًا
(4)
.
(1)
"مشكل الآثار" 4/ 271 - 272.
(2)
"غريب الحديث" 2/ 128 - 129.
(3)
"مشكل الآثار" 4/ 274 - 276 (1597).
(4)
"مشكل الآثار" 4/ 276.
10 - باب آيَةِ الحِجَابِ
6238 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرًا حَيَاتَهُ، وَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ، وَقَدْ كَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ يَسْأَلُنِي عَنْهُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ فِي مُبْتَنَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ، أَصْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَا عَرُوسًا فَدَعَا القَوْمَ، فَأَصَابُوا مِنَ الطَّعَامِ ثُمَّ خَرَجُوا، وَبَقِيَ مِنْهُمْ رَهْطٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَطَالُوا المُكْثَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ وَخَرَجْتُ مَعَهُ، كَيْ يَخْرُجُوا، فَمَشَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى جَاءَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، ثُمَّ ظَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ خَرَجُوا فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ لَمْ يَتَفَرَّقُوا، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَعْتُ مَعَهُ، حَتَّى بَلَغَ عَتَبَةَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَظَنَّ أَنْ قَدْ خَرَجُوا، فَرَجَعَ وَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ خَرَجُوا، فَأُنْزِلَ آيَةُ الْحِجَابِ، فَضَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سِتْرًا. [انظر: 4791 - مسلم: 1428 - فتح 11/ 22]
6239 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ أَبِي: حَدَّثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ دَخَلَ الْقَوْمُ فَطَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مِنَ الْقَوْمِ وَقَعَدَ بَقِيَّةُ الْقَوْمِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآيَةَ.
[قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: فِيهِ مِنَ الفقْهِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْذنْهُمُ حِينَ قَام وَخَرَجَ، وَفِيهِ أَنَّهُ تَهَّيأَ لِلقيَامِ وَهُوَ يُريدُ أَنْ يَقُومُوا][انظر: 4791 - مسلم: 1428 - فتح 11/ 22]
6240 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: احْجُبْ نِسَاءَكَ. قَالَتْ: فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ
أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجْنَ لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ قِبَلَ المَنَاصِعِ، خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهْوَ فِي الْمَجْلِسِ فَقَالَ: عَرَفْتُكِ يَا سَوْدَةُ. حِرْصًا عَلَى أَنْ يُنْزَلَ الْحِجَابُ. قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل آيَةَ الْحِجَابِ. [انظر: 146 - مسلم: 2170 - فتح 11/ 23]
ذكر فيه حديث أَنَسِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ ابن عَشْرِ سِنِينَ مَقْدَمَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ، فَخَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرًا حَيَاتَهُ، فَكُنْتُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِشَأْنِ الحِجَابِ حِينَ أُنْزِلَ .. الحديث.
وحديث أبي مجلز -واسمه: لاحق بن حميد بن سعيد بن خالد بن كثير بن حبيش بن عبد الله بن سدوس بن شيبان بن ذُهل بن ثعلبة السدوسي البصري، مات قبل الحسن بقليل سنة تسع ومائة- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زيْنَبَ دَخَلَ القَوْمُ فَطَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مِنَ القَوْمٍ وَقَعَدَ بَقِيَّةُ القَوْمِ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا القَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا .. الحديث.
وفي آخره: فَأَلْقَى الحجابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآيَةَ.
وحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: احْجُبْ نِسَاءَكَ .. الحديث.
وفيه: فرض الحجاب على أمهات المؤمنين؛ لقول عمر رضي الله عنه: (احجب نساءك). وقال في حديث آخر: يا رسول الله، لو حجبت أمهات المؤمنين فإنه يدخل عليهن البر والفاجر. فنزلت آية الحجاب
(1)
،
(1)
سلف برقم (4483).
يوضحه قول الفقهاء: إن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، وإجماعهم أن لها أن تبرز وجهها؛ للإشهاد عليها، ولا يجوز ذلك في أمهات المؤمنين.
وقد اختلف السلف في تأويل قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] أهو الكحل والخاتم، أو الخضاب والسوار والقرط والثياب، أو الوجه والكفان وهو الأظهر، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وأنس وهو قول مكحول وعطاء والحسن
(1)
، قال إسماعيل بن إسحاق: فدخل في التفسير ما ذكر، والظاهر -والله أعلم- يدل على أنه الوجه والكفان؛ لأن المرأة يجب عليها أن تستر في الصلاة ما عداه
(2)
؛ وفيه دلالة أنه يجوز للغرباء أن يروه من المرأة -والله أعلم- بما أراد من ذلك. وسنعود إليه قريبًا في باب: من قام من مجلسه
(3)
.
وقوله: (كنت أعلم الناس بشأن الحجاب): فيه: أنه يجوز للعالم أن يضيف ما عنده من العلم لسائله عنه على وجه التعريف بما عنده منه، لا على سبيل الفخر والإعجاب.
فصل:
قوله في الحديث الأول: (أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسًا). العروس يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في أعراسهما؛ يقال: رجل عروس في رجال عرس، وامرأة عروس في نساء عرس. والرهط: ما دون العشرة
(1)
ذكر هذِه الأقوال: الطبري 9/ 304 - 305، ابن أبي حاتم 8/ 2570 - 2575، وابن كثير 10/ 217.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 9/ 21.
(3)
انظر شرح الحديث الآتي برقم (6271).
ليس فيهم امرأة، وفي رواية: كانوا ثلاثة رجال
(1)
. وفي أخرى: رجلين
(2)
.
وقوله: (حتى إذا بلغ عتَبة حجرة عائشة) هي أُسْكُفَّةُ الباب، وهي بفتح التاء.
فصل:
قوله في الحديث الثاني: (فأخذ كأنه يتهيأ للقيام) فيه أنه تهيأ، وهو يريد قيامهم. وفيه: أنه لم يستأذنهم حتى قاموا، وقوله في الآية:{غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] أي: متحرِّين نضجه، {وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي: بعد الأكل. وقوله: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ} . قال معمر: قال طلحة: إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة، فنزلت
(3)
.
فصل:
قال الداودي: حديث سودة -يعني: الثالث- ليس منها، إنما هو في لباس الجلابيب {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59].
والمناصع: قال أبو سعيد: هي المواضع التي يتخلون فيها للبول أو حاجة الإنسان، الواحد منصع، قال الأزهري: أراها مواضع خارج المدينة
(4)
. قال: وفي الحديث أن المناصع: (يوقف أفلح)
(5)
، خارجها.
واحجُب نساءَك بضم الجيم.
(1)
رواها مسلم (1428/ 92).
(2)
سلفت برقم (4794)، ورواها مسلم (1428/ 87).
(3)
رواه عنه عبد الرزاق في "التفسير" 2/ 100 (2372 - 2373).
(4)
"تهذيب اللغة" 4/ 3586.
(5)
كذا صورتا هاتين الكلمتين بالأصل، والحديث هذا سلف برقم (146)، ورواه مسلم (217/ 18) عن عائشة، وفيه قالت: إلى المناصع، وهو (صعيد أفيح).
11 - باب الاِسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ
6241 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ هَا هُنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ:«لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الاِسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» . [انظر: 5924 - مسلم: 2156 - فتح 11/ 24]
6242 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ -أَوْ بِمَشَاقِصَ- فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ. [6889، 6900 - مسلم: 2157 - فتح 11/ 24]
ذكر فيه حديث سُفْيَانَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ ها هنا، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الساعدي قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَقَالَ:"لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ البَصَرِ".
وحديث أَنَسِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ -أَوْ بِمَشَاقِصَ- فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعُنَهُ.
الشرح:
الكلام على ذلك من وجوه:
أحدها:
(الجحرة)
(1)
: بضم أوله وإسكان ثانيه: الخرق، والمدرى: -بكسر الميم- يشبه المشط، وهي منونة؛ لأن وزنه مفعل، ليس فعلا، قال ابن فارس: مدرت المرأة إذا سرحت شعرها.
(1)
في (ص 2): (الجحر).
قلت: ومن أنثه قال: مدراة. وقد جاء في الشعر: مدراة. والجمع: المدارى.
والمشقص: -بكسر الميم أيضًا- نصل السهم إذا كان طويلًا غير عريض، فإن كان عريضًا فهو المِعْبَلة. وعبارة الجوهري: المشقص هو الطويل من النصال العريض
(1)
. وقال الخطابي: هو نصل عريض
(2)
. وقيل: هو سهم فيه سن عريض، وقيل: هو الطويل ليس بعريض.
ثانيها:
يختل -بكسر التاء المثناة فوق- أي: يحتال فيراوغه ويستغفله ويطعنه، قال (الجوهري: طعنه بالرمح، وطعن في السن. يطعُن بالضم طعنًا، قال: وطعن فيه بالقول، يطعن أيضًا طعنًا وطعنانًا
(3)
، وحكى)
(4)
ابن فارس عن بعضهم: طعن بالرمح، وطعن بالقول، يطعن بالفتح
(5)
.
ثالثها:
الحديث دال على هدر المفعول به، وجواز رميه بشيء خفيف، وقيل: إن ذلك على وجه التهديد والتغليظ، ولو وقع الفعل (للضرورة)
(6)
قد لا تكون تلك العقوبة، (وكذلك)
(7)
يفعل الأئمة في التغليظ
(1)
"الصحاح" 3/ 1043.
(2)
"أعلام الحديث" 3/ 2229.
(3)
"الصحاح" 6/ 2157.
(4)
من (ص 2).
(5)
"مقاييس اللغة" لابن فارس ص 595.
(6)
في الأصل: (للضر).
(7)
في الأصل: (وقد).
والإرهاب، وكذا من عض رجلاً فندرت سِنه يقتص منه عند مالك خلافًا
(1)
، للشافعي
(2)
وابن نافع، قال يحيى بن عمر: ولعله لم يبلغه الحديث.
وهل يجوز الرمي قبل الإندار؟! فيه وجهان: أصحهما: نعم؛ لظاهر الحديث.
رابعها:
هذا الحديث يبين معنى الاستئذان، وأنه إنما جعل خوف النظر إلى عورة المؤمن وما لا يحل منه، فلا يحل لأحد أن ينظر في جحر باب وشبهه كما هو متعرض فيه؛ لوقوع البصر على أجنبية.
وفي "الموطأ" عن عطاء بن يسار أن رجلاً قال: يا رسول، الله أستأذن على أمي؟ قال:"نعم" قال: إني معها في البيت! قال: "استأذن عليها؛ أتحب أن تراها عريانة؟! " قال: لا. قال: "فاستأذن عليها"
(3)
.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يدخل الغلام إذا احتلم على أمه وعلى أخته، إلا بإذن.
وأصل هذا كله في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية [النور: 58] الآية قال أبو عبيد: فأما ذكور المماليك فعليهم الاستئذان في الأحوال كلها.
(1)
"المدونة" 4/ 499، "النوادر والزيادات" 14/ 254.
(2)
"الأم" 7/ 137.
(3)
"الموطأ" ص 597.
خامسها:
هذا الحديث يرد قول أهل الظاهر، ويكشف عليهم في إنكارهم العلل والمعاني، وقولهم: إن الحكم للأسماء خاصة؛ لأنه عليه السلام علل الاستئذان أنه إنما جعل من أجل البصر، فدل ذلك على أنه عليه السلام أوجب أشياء وحظر أشياء؛ من أجل معان علق التحريم بها. ومن أبى هذا رد نص السنن، وقد ورد القرآن بمثل هذا كثيرًا من قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31]، وقوله:{مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ، إلى قوله:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]، وقوله:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ} [النساء: 165] وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} [سبا: 17] في مواضع كثيرة تطول، فلا يلتفت إلى من يخالف ذلك.
12 - باب زِنَا الْجَوَارِحِ دُونَ الْفَرْجِ
6243 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ. حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيُكَذِّبُهُ» . [6612 - مسلم: 2657 - فتح 11/ 26]
ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَمْ أَرَ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وفي لفظ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابن آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا العَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ (أوَ يُكَذِّبُهُ)
(1)
".
معنى: كتب: قدر، فلا تخلُّصَ منه.
وقوله: ("والفرج يصدق ذلك ويكذبه") احتج به أشهب أنه إذا قال: زنى (يدك أو رجلك أنه لا حدَّ عليه، وخالفه ابن القاسم، وقال الشافعي إذا قال: زنت)
(2)
يدك تحد. وقال بعض أصحابنا: لا يحد، قال الخطابي: لأن الأفعال من فاعلها تضاف إلى الأيدي، كقوله:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]
(3)
.
(1)
كذا في الأصل وفي "اليونينية" 8/ 54: (ويكذبه) وفي هامشها: (أو يكذبه) وورمز فوقها لأبي ذر عن الكشميهني.
(2)
من (ص 2).
(3)
"أعلام الحديث" 3/ 2231.
ولم يختلف إذا قال: زنى فَرْجُكَ أنه يحد له.
ومعنى: ("لا محالة"): لا حيلة للتخلص من إدراك ما كتب عليه.
فصل:
زنا العين فيما زاد على النظرة الأولى التي لا تملك مما تستديم النظر إليه على سبيل اللذة والشهوة، وكذلك زنا المنطق فيما يلتذ به من محادثة من لا يحل له ذلك منه، وزنا النفس تمنِّي ذلك وتشهِّيه، فهذا كله يسمى زنًا؛ لأنه من دواعي زنا الفرج.
قال المهلب: وكل ما كتبه الله على ابن آدم فهو سابق في علم الله، لا بد أن يدركه المكتوب وأن الإنسان لا يملك دفع ذلك عن نفسه غير أن الله تفضل على عباده وجعل ذلك لممًا وصغائر، لا يطلب بها عباده إذا لم يكن للفرج تصديق، فإذا أصدقها الفرج كان ذلك من الكبائر؛ رفقًا من الله بعباده؛ ورحمة لهم، لما جبلهم عليه من ضعف الخلقة ولو آخذ عباده باللمم، أو ما دونه من حديث النفس، لكان ذلك عدلاً منه في عباده وحكمةً، لا يُسأل عما يفعل وله الحجة البالغة، لكن قبل منهم اليسير وعفا لهم عن الكثير؛ تفضلًا منه وإحسانًا.
13 - باب التَّسْلِيمِ وَالاِسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا
6244 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا. [انظر: 94 - فتح 11/ 26]
6245 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَرْجِعْ» . فَقَالَ: وَاللهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ، أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: وَاللهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ. فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ، عَنْ بُسْرٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِهَذَا. [انظر: 2062 - مسلم: 2153 - فتح 11/ 26]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا.
وحديث بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ، فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي .. الحديث.
وَقَالَ ابن المُبَارَكِ: أَخْبَرَنِي ابن عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بن خصيفة، عَنْ بُسْرٍ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بهذا.
وهذا أخرجه ابن المبارك في كتاب البر والصلة بهذا، وقد أسلفت الكلام عليه، وتكراره عليه السلام الكلمة يحتمل أن يكون تأكيدًا، وأن يكون
عَلِم أو شَكَّ هل فهم عنه، فكرر الثانية فزاد الثالثة؛ لاستحبابه الوتر، وقد أسلفنا حكمة تكراره السلام ثلاثًا.
قال المهلب: ذلك للمبالغة في الإفهام (والإسماع)
(1)
وقد أورد الله ذلك في القرآن فكرر القصص والأخبار والأوامر، ليفهم عباده أن يتدبر السامع في الثانية والثالثة ما لم يتدبر في الأولى؛ وليرسخ ذلك في قلوبهم، والحفظ: إنما هو بتكرير الدراسة للشيء المرة بعد المرة، وقد كان عليه السلام يقول الشيء المرة الواحدة، وقول أنس:(كان إذا تكلم الكلمة أعادها ثلاثًا). يريد: في أكثر أمره، وأخرج الحديث مخرج العموم، والمراد به الخصوص.
فصل:
اختلف العلماء في قوله عليه السلام: "الاستئذان ثلاث"
(2)
:
فقالت طائفة: معنى قوله: "فإن أذن له وإلا فليرجع" إن شاء، وإن شاء زاد على الثلاث لا أنه بواجب عليه أن يرجع.
قال ابن نافع: لا بأس إن عرفت أحدًا أن تدعوه أن يخرج إليك، وتنادي به ما بدا لك. وروى ابن وهب عن مالك قال: الاستئذان ثلاثًا، لا أحب لأحد أن يزيد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع فلا بأس أن يزيد
(3)
. وظاهر حديث أبي موسى يرده؛ لأن أبا موسى حمله على أنه لا يزاد على الثلاث مرات، وذلك يكفي معناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان عند أبي موسى أنه يجوز الزيادة على الثلاثة لكان مخالفًا لمذهب عمر، ولم يحتج أبو موسى أن ينزع بقوله:
(1)
من (ص 2).
(2)
كذا لفظه عند مسلم (2153) كتاب: الآداب، باب: الاستئذان.
(3)
"الذخيرة" 13/ 295.
"الاستئذان ثلاث" حتى أنكر عليه عمر ترك الزيادة عليها، وقد زعم قوم من أهل البدع أن طلب عمر أن يأتيه بمن سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل أن مذهب عمر رد قبول خبر الواحد العدل، وقد سلف رده، وهو خطأ في التأويل وجهل بمذهب غيره من السلف. وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث أن عمر قال لأبي موسى: أما إني لم أتهمك ولكني أردت ألا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ففيه من الفقه: التثبت في خبر الواحد؛ لما يجوز عليه من السهو وغيره، وحكم عمر في خبر الواحد أشهر من أن يخفى؛ قد قبل خبر الضحاك بن سفيان وحده في ميراث المرأة من دية زوجها
(2)
، وقبل خبر حمل بن مالك الهذلي الأعرابي أن في دية الجنين غرة عبد أو أمة
(3)
، وقبل
(1)
رواه أبو داود (5183 - 5184).
(2)
رواه أبو داود (2927)، والترمذي (1415، 2110)، وابن ماجه (2642)، وأحمد 2/ 452 من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: كان عمر بن الخطاب يقول: الدية للعاقلة ولا ترت المرأة من دية زوجها شيئًا. حتى قال له الضحاك بن سفيان: كتب إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. فرجع عمر. وهو حديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2599) وانظر "الإرواء"(2649).
(3)
رواه أبو داود (4572)، والنسائي 8/ 21 - 22، وابن ماجه (2641)، وأحمد 1/ 364 من طريق عمرو بن دينار أنه سمع طاوسًا، عن ابن عباس، عن عمر أنه سأل عن قضية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله في جنينها بغرة وأن تقتل.
والحديث صححه ابن حبان 13/ 378 (6021). وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"(3439): إسناده صحيح.
وكذا صحح إسناده الشيخ الألباني في "صحيح ابن ماجه"(2136).
خبر عبد الرحمن بن عوف في الجزية
(1)
، وفي الطاعون
(2)
، ولا يشك ذو لبٍّ أن أبا موسى أشهر في العدالة من الأعرابي الهذلي، وقد قال في حديث السقيفة: إني قائل مقالة، فمن حفظها ووعاها فليحدث بها
(3)
. فكيف يأمر من سمع قوله أن يُحدِّث به، وينهى عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقبل خبر الواحد هذا لا يقوله إلا المعاند أو الجاهل.
وفيه: أن العالم المتبحر قد يخفى عليه من العلم من يعلمه من هو دونه، والإحاطة لله وحده. وقيل: إنما رد عليه عمر التحديد ثلاثًا، وأما نفس الاستئذان ففي القرآن {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا} .
فصل:
قوله: (كأنه مذعور) أي: فجع. وقول أبي سعيد: (وأخبرت عمر أنه عليه السلام قال ذلك). قال الداودي: روى أبو سعيد حديث الاستئذان عن أبي موسى وهو شهد له عند عمر، وقال: معناه أنه أدى إلى عمر ما قال أهل المجلس، لم يحدث بعد ذلك عن أبي موسى ثم نسي أسماءهم ويحفظ قول أبي موسى؛ لأنه صاحب القصة، وهذا كله مخالف لما في البخاري من إخباره عمر أنه عليه السلام قاله.
(1)
سلف برقم (3156 - 3157).
(2)
سلف برقم (5729)، ورواه مسلم (2219).
(3)
انظر ما سيأتي مطولًا برقم (6830).
14 - باب إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ، هَلْ يَسْتَأْذِنُ
؟
وقَالَ سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"هُوَ إِذْنُهُ".
6246 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ. وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ:«أَبَا هِرٍّ، الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ» . قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأُذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا. [انظر: 5375 - فتح 11/ 31]
وهذا أخرجه أبو جعفر في "مشكله" عن أبي إبراهيم
(1)
إسماعيل ابن يحيى، عن المعتمر، عن ابن عيينة، عن سعيد به ثم قال: وفي لفظ: "إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فذاك إذن له". قال: وحديث أبي هريرة الآتي بعده لا تعارض فيه؛ لأن معنى الأول أن المرسل فيه أتى مع الرسول فأغناه سلام الرسول واستئذانه عن السلام والاستئذان؛ لأن المرسل كما أرسله عنه فقد آذنه أن يحييه به، فكان استئذانه استئذانًا له، فإذا دخل سلم سلام الملاقاة.
ومعنى الحديث الثاني أن أهل الصفة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أبي هريرة، فلم يكن لهم بد من السلام والاستئذان وذلك بين؛ لأنه قال:(فجاء)
(2)
ولم يقل: فجئنا. فافترق المعنى بين الحديثين
(3)
.
(1)
في هامش الأصل: هذا هو المزني صاحب الإمام الشافعي، ورأيت بخط ابن عبد الهادي أن المزني خال الطحاوي، والله أعلم.
(2)
في (ص 2): (فجاءوا).
(3)
"شرح مشكل الآثار" 4/ 261 - 262 بتصرف.
وتعليق الباب وصله الطحاوي 4/ 259 (1587)، وأبو داود (5190)، وأحمد 2/ 533، والبخاري في "الأدب المفرد"(1075)، والبيهقي 8/ 340 من طريق =
ثم ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ: "أَبَا هِرٍّ، الحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ (لِيْ)
(1)
". قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأُذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا.
قال المهلب: إذا دعي وأتى مجيبًا له ولم تتراخ المدة، فهذا دعاؤه إذنه، وإذا دعي وأتى في غير حين الدعاء فإنه يستأذن، وكذا إذا دعي إلى موضع لم يعلم أن به أحدًا مأذونًا له في الدخول أنه لا يدخل حتى يستأذن، فإن كان فيه آخر مأذونا له (في الدخول أنه لا يدخل حتى يستأذن، فإن كان فيه آخر مأذونا له فدعوا)
(2)
قبله، فلا بأس أن يدخل بالدعوة وإن تراخت الدعوة وكان بين ذلك زمن يمكن الداعي أن يخلو في أمره أو يتصدى لبعض شأنه، أو ينصرف أهل داره،
= سعيد، عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة مرفوعًا:"إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن".
وسعيد هو ابن أبي عروبة، كذا جاء مصرحًا باسمه عند الطحاوي.
قال أبو داود: قتادة لم يسمع من أبي رافع شيئًا.
قال الحافظ في "الفتح" 11/ 31 - 32: قد ثبت سماعه منه في الحديث الذي سيأتي في البخاري في كتاب: التوحيد، من رواية سليمان التيمي عن قتادة أن أبا رافع حدثه. اهـ.
قلت: سيأتي برقم (7554).
وقال في "التهذيب" 3/ 429: وكأنه -أي: أبو داود- يعني حديثًا مخصوصًا وإلا ففي "صحيح البخاري" تصريح بالسماع منه. وكذا قال في "التغليق" 5/ 123. والحديث صححه الألباني في "الأدب المفرد" (1075) وفي "الإرواء" (1955). ويشهد له ما روي عن أبي هريرة -أيضًا- مرفوعًا: "رسول الرجل إلى الرجل إذنه". وهو حديث صحيح تقدم تخريجه في حديث (2062) فراجعه.
(1)
كذا في الأصل. وفي اليونينية 8/ 55 (إلى) ليس عليها تعليق.
(2)
من (ص 2).
فلا يفتات بالدعوة على الدخول حتى يستأذن؛ لحديث أبي هريرة. هذا وجه تأويل الحديثين.
وعبارة ابن التين: قوله: "إذا دعي فهو إذنه" وفي حديث أبي هريرة أنهم استأذنوا، لعل الأول علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله، والثاني يحتمل أن يكون دخل عليه، والأخذ بالاستئذان أحوط.
فرع:
اختلف في استئذان الرجل على أهله وجاريته فقال القاضي في "المعونة": لا؛ لأن أكثر ما في ذلك أن يصادفهما مكشوفتين
(1)
. وخالف في "تلقينه" فعمم.
فائدة:
روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن ربعي قال: حدثني رجل أنه استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال لخادمه: "اخْرُج إلى هذا فَعَلِّمْهُ الاستئذان، وقيل له: قل: السلام عليكم، أأدخُلُ؟ ".
وعن أبي أيوب قلت: يا رسول الله، هذا السلام، فما الاستئذان؟ فقال:"يتكلم الرجل بتسبيحة أو بتكبيرة أو بتحميدة أو يتنحنح ويؤذن أهل البيت".
وعن الحارث، عن (عبد الرحمن)
(2)
بن نجي، عن علي رضي الله عنه: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخل بالليل ومدخل بالنهار، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي.
(1)
"المعونة" 2/ 579.
(2)
في (ص 2): (عبد الله). وهو الصواب.
وقال زيد بن أسلم: بعثني أبي إلى عبد الله بن عمر فقلت: أألج؟ فقال: لا تقل كذا، ولكن قل: السلام عليكم فإذا قيل: عليكم، فأدخل
(1)
.
وقال أبو الزبير: سألت جابرًا عن الرجل يستأذن عليّ ولا يسلم آذن؟ فقال: أكرهه والناس يفعلونه.
وقال أبو هريرة: لا تأذنوا حتى تؤذنوا بالسلام.
وقال ابن مسعود: إذا دعيت فهو إذنك، فسلم ثم ادخل، وقال ابن (يزيد)
(2)
استأذن رجل على رجل من الصحابة وهو قائم على الباب فقال: أأدخل، ثلاث مرات، وهو ينظر (إليه)
(3)
فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قال: نعم، ثم قال: لو أقمت إلى الليل وأنت تقول: أأدخل ما أذنت لك
(4)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 243 - 244 (25663، 25665 - 25667).
(2)
كذا بالأصل، وفي "المصنف" 5/ 257 (25820): بريدة وهو الصواب.
(3)
من (ص 2).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 257 (25817 - 25820).
15 - باب التَّسْلِيمِ عَلَى الصِّبْيَانِ
6247 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ. [مسلم: 2168 - فتح 11/ 32]
ذكر فيه حديث شُعْبَةَ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ ثَابِتٍ البُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.
وسيار هذا هو ابن أبي سيار وردان بن الحكم العنزي الواسطي، أخو مساور الوراق لأمه، مات سنة اثنتين وعشرين ومائة، وروى شعبة أيضًا عن سيار بن سلامة أبي المنهال، وقد اتفقا عليهما.
وسلامه عليه السلام عليهم من خلقه العظيم وأدبه (الشديد)
(1)
وتواضعه.
وفيه: تدريب لهم على تعليم السنن، ورياضة لهم على آداب الشريعة؛ ليبلغوا حد التكليف، وهم متأدبون بآداب الإسلام، وقد كان عليه السلام يمازحهم ويداعبهم؛ ليقتدى به في ذلك، فما فعل شيئًا وإن صغر إلا ليسن لأمته الاقتداء لأثره، وفي ممازحته لهم تذليل للنفس على التواضع ونفي التكبر عنها.
(1)
في الأصل: (الشريف).
16 - باب تَسْلِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ
6248 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ -قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ- فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ، وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا، فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ، وَمَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ. [انظر: 938 - مسلم: 859 - فتح 11/ 33]
6249 -
حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ» . قَالَتْ: قُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، تَرَى مَا لَا نَرَى. تُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. تَابَعَهُ شُعَيْبٌ. وَقَالَ يُونُسُ وَالنُّعْمَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: وَبَرَكَاتُهُ. [انظر: 3217 - مسلم: 2447 - فتح 11/ 33]
ذكر فيه حديث سَهْل بن سعد رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَفْرَحُ بيَوْمَ الجُمُعَةِ. قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ -قَالَ ابن مَسْلَمَةَ يعني: عبد الله: نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ- فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ، وَتُكَرْكِرُ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا فنُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا، فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ، وَمَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نتَغَدى إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ.
وقد سلف.
ومعنى: (تكركر): تطحن؛ لتكرار عود الرحا، والكركرة: صوت يردده الإنسان في جوفه كالجرجرة للرحا.
قال صاحب "الأفعال": الكركرة: تصريف الرياح للسحاب إذا
جمعته بعد تفرق، وتكركر السحاب إذا تراد في الهواء
(1)
. والكركرة في الضحك مثل القرقرة، وأصله تكرر من التكرير، قاله الجوهري
(2)
، وقال الخطابي: بالكاف أكثر من القاف في الضحك
(3)
.
وحديث مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ، هذا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلَامَ". قَالَتْ: قُلْتُ: - وَعليه السلام وَرَحْمَةُ اللهِ، تَرى مَا لَا نَرى. تُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. تَابَعَهُ شُعَيْبٌ. وَقَالَ يُونُسُ وَالنُّعْمَانُ، عَنِ الزُهْرِيِّ: وَبَرَكَاتُهُ.
وقد سلف قريبًا
(4)
، والنعمان: هو ابن راشد الرقي، وأسنده الإسماعيلي من حديث إبراهيم أبي إسحاق الشامي: ثنا ابن المبارك، فذكره بلفظ: وبركاته. ثم قال: وقاله ابن وهب عن يونس وعقيل وعبيد الله بن أبي زياد كلهم قال: وبركاته.
قال المهلب: السلام على النساء جائز إلا على الشابات منهن؛ فإنه يخشى أن يكون في مكالمتهن بذلك خائنة الأعين أو سرعة شيطان، وفي رَدِّهِنَ من الفتنة مما خيف من ذلك أن يكون ذريعه توقف عنه؛ إذ ليس ابتداؤه مفترضًا، وإنما المفترض منه الرد، وأما المتجالات والعجائز فهو حسن؛ إذ ليس فيه خوف ذريعة، هذا قول قتادة، وإليه ذهب مالك
(5)
وطائفة من العلماء.
(1)
"الأفعال" لابن القطاع 3/ 109.
(2)
"الصحاح" 2/ 805.
(3)
"أعلام الحديث" 3/ 2232.
(4)
برقم (6201).
(5)
"المعونة" 13/ 291.
وقال الكوفيون: لا يسلم الرجل على النساء إذا لم يكن منهن ذوات محارم، وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام فلا يُسَلَّم عليهن
(1)
.
قلت: الإقامة مستحبة عندنا على المشهور. وقال ابن وهب: بلغني عن ربيعة أنه قال: ليس على النساء التسليم على الرجال ولا عكسه.
وروى أبو نعيم من حديث بكار بن تميم عن مكحول عن واثلة مرفوعًا: "يسلم الرجال على النساء، ولا تسلم النساء على الرجال".
وحجة مالك ومن وافقه حديث الباب أنهم كانوا يسلمون على العجوز يوم الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن ذات محرم منهم، وحديث عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام بلَّغها سلام جبريل، وفي ذلك أعظم الأسوة والحجة.
وحاصل مذهبنا أن سلامها على الرجل إن كانت زوجته أو جاريته أو محرمًا من محارمه فهي معه كالرجل يستحب لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر الرد، وإن كانت أجنبية فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها فلا يسلم عليها الرجل، وإن سلم لم يجز لها رد الجواب. ولم تسلم هي عليه ابتداء، فإن سلمت لم تستحق جوابًا، فإن أجابها كره له، وإن كانت ممن لا يفتتن بها جاز أن تسلم على الرجل، وعلى الرجل رد السلام عليها فإن كن النساء جماعة فسلم عليهن الرجل، أو كان الرجال جماعة فسلموا على المرأة الواحدة جاز؛ إذا لم يخف عليهن، ولا عليه، ولا عليهم فتنة.
(1)
"شرح ابن بطال" 9/ 28.
فصل:
بضاعة: بضم الباء ويجوز كسرها، وإليه تنسب بئر بضاعة.
قال الجوهري: بئر بضاعة الذي في الحديث يكسر ويضم
(1)
.
وقوله: (وما كنا نقيل). هو ثلاثي، هو بفتح النون، ومنه قوله تعالى:{أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4].
فصل:
اعترض الداودي على إدخاله حديث عائشة في الباب؛ لأن الملائكة لا يقال لهم: رجال ولا نساء، ولكن الله (خاطبهم)
(2)
بالتذكير.
فصل:
فيه: أن المسلم عليه أن يرده أكثر، وقد سلف في قوله:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86]. وفي حديث عائشة رضي الله عنها دلالة على أن من بلغ إليه سلام غائب أن يرد عليه السلام كما يرد على الحاضر.
فصل:
قال الإسماعيلي: فيه بيان أن بئر بضاعة هي بئر ببستان، وأن ما يطرح فيها لا يكون في بئر؛ لأنها تمتلئ سريعا، ولكن يطرح في البستان فيجري من مطر إن كان منه شيء إليها.
(1)
"الصحاح" 3/ 1187.
(2)
في (ص 2): (خاطب فيهم) وفي حاشية الأصل: كذا في الأصل: خاطب فيهم.
17 - باب إِذَا قَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقَالَ: أَنَا
6250 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الْبَابَ، فَقَالَ:«مَنْ ذَا؟» . فَقُلْتُ: أَنَا. فَقَالَ: «أَنَا أَنَا» . كَأَنَّهُ كَرِهَهَا. [انظر: 2127 -
مسلم: 2155 - فتح 11/ 35]
ذكر فيه حديث جَابِرٍ رضي الله عنه: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ البَابَ، فَقَالَ:"مَنْ ذَا؟ ". فَقُلْتُ: أَنَا. فَقَالَ: "أَنَا أَنَا". كَأَنَّهُ كَرِهَهَا.
هذا الحديث قال به جماعة العلماء؛ لأنه لم يحصل به (تعريف)
(1)
، بل والإبهام باق، والذي ينبغي أن يقول فلان باسمه، وإن قال: أنا فلان فلا بأس به، كما قالت أم هانئ حين استأذنت، فقال (:"من هذا؟ " فقالت: أنا أم هانئ.
ولا بأس أن يقول: أنا أبو فلان، أو القاضي فلان، أو الشيخ فلان، إذا لم يحصل التعريف بالاسم لخفائه، فالأحسن أن يقال: أنا فلان المعروف بكذا.
وزعم ابن الجوزي أن لفظة أنا من غير أن يضاف إليها فلان تتضمن نوع كبر كأنه يقول: أنا الذي لا أحتاج أن أسمي نفسي، أو أتكبر عن تسميتها فيكره هذا أيضا.
قال المهلب: وإنما كره قول جابر: أنا؛ لأنه ليس في ذلك بيان إلا عند من يعرف الصوت، وأما عند من يمكن أن يشتبه عليه فهو من التعصب فلذلك كرهه، وقد قال بعض الناس: ينبغي أن يكون لفظ
(1)
في الأصل: (ولا رياه) من غير نقط، ولعل المثبت تحدث به الفائدة.
الاستئذان بالسلام. وزعم أنه عليه السلام إنما كره قول جابر: (أنا)؛ ليستأذن عليه بلفظ السلام، وقال الداودي: إنما كرهه؛ لأنه أجابه بغير ما سأله عنه؛ لأنه أراد أن يعرف ضارب الباب، وقد علم أن ثم (ضارب)
(1)
، فأخبره أنه ضارب فأعنته، قال: وهذا كان قبل نزول آية الاستئذان.
وفيه: جواز ضرب باب الحاكم، وإخراجه من داره لبعض ما يعزى إليه، ويبينه قصة كعب بن مالك وابن أبي حدرد
(2)
، وليس كما قال بعضهم أنه لا يعرض للحاكم إلا عند جلوسه.
(1)
كذا في الأصل، والجادة: ضاربًا، ولعله رسمها على لغة ربيعة الذين يحذفون ألف التنوين في الوقف نطقًا ورسمًا، وهذا يفعله المحدثون كثيرًا.
(2)
سلف برقم (457)، ورواه مسلم (1558).
18 - باب مَنْ رَدَّ فَقَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ
.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وعليه السلام وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ [انظر: 6249]. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "رَدَّ المَلَائِكَةُ عَلَى آدَمَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ". [انظر: 3217]
6251 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . فَرَجَعَ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ. فَقَالَ:«وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، فَارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . فَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» . وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ فِي الأَخِيرِ: «حَتَّى تَسْتَوِىَ قَائِمًا» . [انظر: 757 - مسلم: 397 - فتح 11/ 36]
6252 -
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا» . [انظر: 757 - مسلم: 397 - فتح 11/ 36]
ثم ساق حديث أَبِي هُرَيْرَةَ في قصة المسيء صلاته، وفيه أنه لما سلم قال: وعليكم السلام ثلاثًا. وقد سلف في موضعه.
اختلفت الآثار في هذا الباب فروي أنه عليه السلام قال في رد السلام: "عليك السلام".
وقال في رد الملائكة على آدم: "السلام عليك"
(1)
.
وفي القرآن تقديم السلام على اسم المسلَّم عليه وهو قوله: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)} [الصافات: 130]، و {سَلَامٌ على مُوسَى وَهَارُونَ (120)} [الصافات: 120]، وقال في قصة إبراهيم:{رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73].
وقد صح الوجهان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه جرت عادة العرب بتقديم اسم المدعو عليه في الشر خاصة، كقولهم: عليه لعنة الله وغضبه، قال تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78)} [ص: 78] وقال تعالى في المتلاعنين: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} [النور: 7] وكذا في الغضب فيه.
وروى يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "السلام اسم من أسماء الله (فأفشونه)
(2)
بينكم"
(3)
.
فإن صح فالاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله على اسم المخلوق وإن فعل غير ذلك، وقدم اسم (السلام)
(4)
عليه على اسم الله فلم يأت محرمًا ولا خرج عليه؛ لثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
سلف برقم (3326) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم وذريته.
(2)
هكذا جاء في الأصل، والصواب من مصادر التخريج: فأفشوه.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 131 (20117)، ومن طريقه العقيلي في
"الضعفاء" 1/ 141، والطبراني في "الأوسط" 3/ 231 (3008).
وقال الهيثمي في "المجمع"(12728): فيه: بشر بن رافع وهو ضعيف.
وفي الباب عن أنس وعبد الله بن مسعود بأسانيد أقوى من إسناد حديث أبي هريرة.
انظر: "الصحيحة"(184، 1607، 1894) فالحديث صحيح بمجموع طرقه الثلاثة.
(4)
في (ص 2): (الملائكة).
فصل:
المراد -والله أعلم- ("بما تيسر"): الفاتحة يدل [عليه] الرواية الأخرى الصحيحة "اقرءوا بأم القرآن وبما تيسر غيرها معها". فلا حجة إذن لمن لم يوجبها، كما هو رواية شاذة عن مالك والمشهور عنه وجوبها
(1)
، واختلف قوله؛ هل هي في كل ركعة، أو في الصلاة، أو في جلها؟
وفيه: وجوب الطمأنينة وهو مشهور مذهب مالك، ووقع له: إذا لم يرفع رأسه من الركوع حتى يسجد يجزئه، ونحوه لابن القاسم.
وقوله: (وقال أبو أسامة في الأخير: "حتى يستوي قائمًا") يعني الجلسة الأخيرة، وقد يقال للجالس: قائم؛ قال تعالى: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]. قاله الداودي.
وليس بظاهر؛ لأنه إنما علمه ركعة واحدة والذي يليها هو القيام، ويكتفى بتعليمها عن تعليم باقي الركعات، ولعل تشهده كان جيدًا فلذلك لم يعلمه له.
فروع متعلقة بالسلام:
لو سلم على صبي لا يجب عليه الجواب قاله المتولي، وهو ظاهرٌ لانتفاء التكليف في حقه، لكن الأدب، والمستحب له الجواب، ولو سلم الصبي على البالغ ففي الوجوب على البالغ وجهان ينبنيان على صحة إسلامه، إن قلنا: يصح فكالبالغ، وإلا فلا يجب الرد؛ نعم يستحب.
(1)
"المنتقى" 1/ 154.
(والأصح)
(1)
عند النووي من الوجهين الرد
(2)
؛ لقوله: {فَحَيُّوا} [النساء: 86] وهذا البناء فاسد كما ذكر الشاشي.
ولو سلم بالغ على جماعة فيهم صبي فرد الصبي وحده فالأصح لا يسقط؛ لأنه ليس أهلًا للفرض. وثانيهما: نعم، كأذانه للرجال وكصلاته على الجنازة مع وجودهم على الأصح، وصفة السلام على الصبيان: السلام عليكم يا صبيان، ذكره أبو نعيم في كتابه "عمل اليوم والليلة" من حديث محمد بن بكار، عن عثمان بن مطر، عن ثابت عن أنس رفعه
(3)
.
فإن سلم على شخص ثم لقيه عن قرب أعاد ثانيًا وثالثًا وأكثر، فإذا تلاقيا فسلم كل منهما على صاحبه دفعة واحدة أو أحدهما بعد الآخر فالمختار الاكتفاء، فلا يجب على أحد منهما الرد بعد، وإذا لقي إنسان آخر فقال له: وعليك السلام، قال المتولي: لا يكون سلامًا، ولا جواب؛ لأن هذِه الصيغة لا تصلح للابتداء، فإن قال: عليك أو عليكم السلام بغير واو فقطع الواحدي بأنه سلام يتحتم على المخاطب به الجواب، وإن كان قد قلب اللفظ المعتاد، وما قاله هو
(1)
من (ص 2).
(2)
"شرح النووي" 14/ 149.
(3)
رواه ابن عدي في "الكامل" 6/ 278 من طريق إسماعيل الترجماني، عن عثمان ابن مطر، به، قال الحافظ في "الفتح" 11/ 33: عثمان واهٍ.
قلت: لكنه توبع؛ فرواه ابن أبي شيبة 5/ 253 (25766)، وأحمد 3/ 183، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(228)، وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 378 من طريق وكيع عن حبيب بن حجر القيسي عن ثابت، به.
قال الألباني في "الصحيحة"(2950): إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير حبيب.
الظاهر وجزم به الإمام؛ لأنه يسمى سلامًا. وفيه احتمال كما في نظيره من التحلل من الصلاة، والأصح هناك نعم، ويحتمل أن يقال: إن هذا لا يستحق فيه جوابًا بكل حال لما سلف في حديث أبي جُرَيٍّ، ويحتمل أن يكون الحديث ورد في بيان الأحسن (والأكمل)
(1)
ولا يكون المراد أنه ليس بسلام، وقد قال الغزالي في "الإحياء": يكره أن يقول ابتداءً: عليكم السلام
(2)
؛ لحديث أبي جُري، والمختار أنه لا يكره الابتداء بهذِه الصيغة، فإن ابتدأ رد الجواب.
فروع منه أيضًا:
السنة البداءة بالسلام قبل كل كلام، والأحاديث الصحيحة وعمل الأمة سلفها وخلفها على توقف ذلك مشهور. وأما حديث "السلام قبل الكلام" زعم الترمذي أنه منكر
(3)
، والابتداء بالسلام أفضل؛ لقوله عليه السلام:"وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"
(4)
والرد أفضل منه كما سلف، وإذا كان المسلَّم عليه مشتغلًا بالبول أو الجماع ونحوه فيكره السلام عليه، فإن سلم لا يستحق جوابًا، وكذا من كان نائمًا أو ناعسًا أو مصليًّا أو مؤذنًا في حال أذانه أو إقامته، أو كان في حمام أو كان يأكل واللقمة في فيه.
فرع:
ابتداء الذمي بالسلام حرام على الأصح، فإن سلم علينا أجبنا بعليكم من غير زيادة، وقيل: بعليك، وقيل: وعليكم السلام فقط.
(1)
في الأصل: (والأكثر).
(2)
"إحياء علوم الدين" 2/ 205.
(3)
"سنن الترمذي"(2699). وانظر "الضعيفة"(1736).
(4)
سلف برقم (6077، 6237)، ورواه مسلم (2560).
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه كتب إلى رجل من أهل الكتاب: السلام عليك، وفي رواية كريب عنه: كتب ابن عباس إلى يهودي حبر تيماء فسلم عليه، فقال له كريب: سلمت عليه؟! فقال: إن الله هو السلام.
وعن إبراهيم: إذا كتبت إلى اليهودي والنصراني في الحاجة فابدأه بالسلام.
وعن محمد بن كعب: ما أرى بأسًا أن أبدأهم بالسلام قال تعالى: {فَقُلْ سَلَامٌ} . وعن أبي أمامة أنه كان لا يمر بمسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا بدأه بالسلام فقيل له في ذلك، فقال: أمرنا أن نفشي.
وعن ابن عجلان أن عبد الله وأبا الدرداء وفضالة بن عبيد كانوا يبدءون أهل الشرك بالسلام، وعن ابن عجلان أيضًا عن أبي عيسى قال: من التواضع أن تبدأ بالسلام من لقيت، وعن أبي بردة أنه كتب إلى رجل من أهل الذمة فسلم عليه
(1)
.
وحكى عياض عن جماعة: ابتدئوهم بالسلام للضرورة وشبهها، وهو قول علقمة والنخعي، وعن الأوزاعي وقد سئل عن مسلم مرَّ بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون
(2)
.
وسيأتي بسط ذلك قريبًا حيث ذكره البخاري.
(1)
"المصنف" 5/ 250 - 251 (25739 - 25743، 25745).
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 53.
فرع:
لو سلم ولم يردَّ فَيُحَالِلْهُ منه بأن يقول: أبرأته من حقي من رد السلام، أو جعلته في حل منه ويلفظ بهذا، ويقول: واجب فينبغي لك أن ترد علي لأجل إسقاط الفرض.
فرع غريب:
في "القنية" من كتب الحنفية: لا يسلم المتفقه على أستاذه، ولو فعل لم يجب رد السلام، وكذلك الخصمان إذا سلما على القاضي، ولا يسلم على الشيخ الممازح أو المرتد أو الكذاب أو (اللاغي)
(1)
ومن يسب الناسَ، ومن يسب الناسُ، وينظر في وجوه الناس في الأسواق ولا تعرف توبته، والذين جلسوا في المسجد للقراءة أو التسبيح أو لانتظار الصلاة ما جلسوا فيه لدخول الزائر عليهم فليس هذا أوان السلام فلا يسلم عليهم؛ ولهذا قالوا: لو سلم عليهم الداخل وسعهم أن يجيبوه؛ لأن السلام إنما يكره على من جلس للزيارة والتحية.
(1)
في هامش الأصل: لعله: (اللاعب)، وما في الأصل يحتمل أيضًا، وهو الذي علم عليه.
19 - باب إِذَا قَالَ: فُلَانٌ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ
6253 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «إِنَّ جِبْرِيلَ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ» . قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ. [انظر: 3217 - مسلم: 2447 -
فتح 11/ 38]
ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام قال لها: "إِنَّ جِبْرِيلَ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ". قَالَتْ: وَعَلَيْهِ السَّلَام وَرَحْمَةُ اللهِ.
هذا حجة في أن من بلغ إليه سلام غائب عنه أن يرد السلام كما يرد على الحاضر. وروى أيوب، عن أبي قلابة أن رجلاً أتى سلمان الفارسي فقال: إن أبا الدرداء يقول: عليك السلام. قال: متى قدمت؟ قال: منذ ثلاث، قال: أما إنك لو لم ترد علي كانت أمانة عندك
(1)
.
(1)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 393 (19464)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" 6/ 465 (8921).
20 - باب التَّسْلِيمِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ
6254 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَهْوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الخَزْرَجِ -وَذَلِكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ- حَتَّى مَرَّ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ، وَفِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ، خَمَّرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا. فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَلَا تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ: اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ:«أَيْ سَعْدُ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ» . يُرِيدُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ- "قَالَ: كَذَا وَكَذَا" قَالَ: اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ وَاصْفَحْ، فَوَاللهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللهُ الَّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُونَهُ بِالْعِصَابَةِ، فَلَمَّا رَدَّ اللهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2987 - مسلم: 1798 - فتح 11/ 38]
ذكر فيه حديث أسامة رضي الله عنه أَنَّهُ عليه السلام رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ .. الحديث بطوله، وفيه: فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ وَقَفَ.
وفيه: الإبانة أنه لا حرج على المرء في جلوسه مع قوم فيهم منافق أو كافر، وفي تسليمه عليهم إذا انتهى إليهم وهم جلوس، وذلك أنه عليه السلام سلم على القوم الذين فيهم عبد الله بن أبي ولم يمتنع من ذلك لمكان
عبد الله مع نفاقه وعداوته للإسلام وأهله إذ كان فيه من أهل الإيمان جماعة.
وقد روي عن الحسن البصري أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم
(1)
. وذلك خلاف ما يقوله بعضُهم أنه غير جائز على من كان عن سبيل الحق منحرفًا إما لبدعة أو لضلالة من الأهواء الردية، أو ملك من ملوك الكفار كان بها. ونظمه غير سائغ، وذلك أنه لا ضلالة أشنع ولا بدعة أخبث ولا كفرًا أرجس من النفاق ولم يكن في نفاق عبد الله بن أبي يوم هذِه القصة شك.
فإن قلت: إنه عليه السلام إنما سلم عليه ونزل إليه يومئذٍ ليدعوَهُ إلى الله وذلك فرض عليه. قيل: لم يكن نزوله عليه السلام ليدعوه؛ لأنه قد تقدم الدعاء منه لعبد الله بن أبي ولجماعة المنافقين في أول الإسلام فكيف يُدَعى إلى ما يظهره، وإنما نزل عليه السلام هناك استئلافًا لهم ورفقًا بهم رجاء رجوعهم إلى الحق، وقد كان عليه السلام يستألف بالمال فضلاً عن التحية، والكلمة الطيبة من استئلافه إذ كناه عند سعد بن عبادة فقال له سعد:(اعف عنه واصفح)، أي: لا تناصبه العداوة، كل هذا رجاء أن يراجع الإسلام.
وقد أجاز مالك في تكنية اليهودي والنصراني، وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب كما سلف قريبًا.
وروى جرير عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنت ردفًا لابن مسعود، فصحبنا دهقان من القنطرة إلى زرارة فأشعب له طريق واحد فيه، فقال عبد الله: أين الرجل؟ فقلت. أخذ في طريقه، فأتبعه
(1)
رواه عبد الرزاق 10/ 392 (19461).
بصره. وقال: السلام عليكم، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس تكره أن يُبدءوا بالسلام؟ قال: نعم، ولكن حق الصحبة
(1)
. وكان ابن محيريز يمر على السامرة فيسلم عليهم، وقال قتادة: إذا دخلت بيوت أهل الكتاب فقل: سلام على من اتبع الهدى
(2)
.
فإن قلتَ: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام " أخرجه مسلم منفردًا به
(3)
.
قلتُ: كلاهما صحيح فهذا عام والأول خاص؛ لأن فيه أنه عليه السلام لما رأى عبد الله بن أبي وحوله رجال من قومه، تذمذم أن يجاوره، فنزل فسلم فجلس، وكان نزوله إليه (بقيادٍ تام)
(4)
، وفيه نظير ما سلف من التسليم على الدهقان وكلام إبراهيم النخعي فالأول بغير سبب يدعوكم أن تبدءوهم من قضاء دينكم، أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة في جوار أو سفر.
فصل:
وفيه -كما قال المهلب-: عيادة المريض على بُعد والركوب إليه، وركوب الحمر للأشراف والأنبياء.
فصل:
ومعنى: (خمر عبد الله أنفه): غطاه، وكل مغط عند العرب فهو مخمر، ومنه:"خمر إناءك ولو بعودٍ تعرضه عليه"
(5)
.
(1)
"شعب الإيمان" 6/ 463.
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 6/ 12 (9841)، 10/ 292 (19459).
(3)
مسلم (2167).
(4)
كذا بالأصل.
(5)
سلف برقم (5624) عن جابر مرفوعًا.
و (البحرة): القرية، وكل قرية لها نهر ماء جارٍ أو ناقع فإن العرب تسميها بحرًا، وقد قيل في قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41]: إنه عني بالبحر الأمصار التي فيها أنهار ماء، والعرب تقول: هذِه بحرتنا، أي: بلدنا.
وقوله: (يعصبوه) أي: يسودوه، والسيد المطاع يقال له: المعصب؛ لأنه يعصب الأمور برأسه، والتاج عندهم للملك، والعصابة للسيد المطاع. ومعنى (شَرِق بذلك): غص به، يقال: غص الرجل بالطعام، وشرق بالماء، وشجى بالعظم.
فصل:
فيه دليل: أنه عليه السلام كان يقدر في ذلك الوقت على مقاومة ابن أبي، ومقاومة من يؤذيه من الأنصار بمدينتهم وموضع سلطانهم.
فصل:
قوله: (عبد الله بن أُبي ابن سلول) سلول: قبيلة من هوازن، وهو اسم أمهم كما ذكره الجوهري
(1)
. فعلى هذا لا ينصرف.
(1)
"الصحاح" 5/ 1731.
21 - باب مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى مَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَلَمْ يَرُدَّ سَلَامَهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ تَوْبَتُهُ، وَإِلَى مَتَى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةُ العَاصِي
؟
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الخَمْرِ.
6255 -
حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ تَبُوكَ: وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِنَا، وَآتِى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟ حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً، وَآذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ. [انظر: 2757 - مسلم: 2769 - فتح 11/ 40]
ثم ذكر فيه حديثَ كعب حين تخلف عن تبوك ونهيه عن كلامهم.
وفيه: وَآتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟ حَتَّى كَمَلَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً، وَآذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى الفَجْرَ.
الشرح:
(شَرَبَة) بفتح الشين والراء، كأنه جمع شارب مثل آكل وأكلة، ولم يجمعه اللغويون كذلك، وإنما جمعوه شارب وشرب، مثل صاحب وصحب، وجمع الشرب: شروب.
وقوله: (وإلى متى تتبين توبة العاصي) ليس في ذلك حد محدود، ولكن معناه أنه لا تتبين توبته من ساعته ولا يومه حتى يمر عليه ما يدل على ذلك.
وروى ابن وهب، عن يزيد بن أبي حبيب قال: لو مررت على قوم
يلعبون بالشطرنج ما سلمت عليهم
(1)
.
وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب
(2)
لم يسلم عليهم
(3)
.
ورخص مالك في السلام على من لم يدمن اللعب بها
(4)
، وإنما يلعب بها المرة بعد المرة.
قال الداودي: ليس ما كان من أمر كعب وصاحبيه حدًّا لذلك؛ لأنه لم يوقت لهم ذلك في أول الأمر، وإنما وقف عنه حتى شاء الله، وقد انتظر الوحي فليس يعرف توبة أحد أنها قبلت.
فصل:
قوله: (كملت) هو مثلث الميم، قال في "الصحاح": والكسر أردؤها
(5)
.
فصل:
المبتدع ومن اقترف ذنبًا عظيمًا ولم يتب منه، فينبغي ألا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام، كما ذكره البخاري وغيره من العلماء محتجين بقصة كعب، فإن اضطر إلى السلام على الظلمة سلم عليهم، وينوي أن السلام اسم من أسمائه تعالى، المعنى: الله عليكم رقيب.
قال المهلب: ترك الكلام على العصاة -بمعنى التأديب لهم- سنة ماضية، لحديث كعب بن مالك وصاحبيه -الثلاثة الذين خلفوا- وبذلك قال كثير من أهل العلم في أهل البدع: لا يسلم عليهم أدبًا لهم.
(1)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 6/ 242 - 243 (6526).
(2)
في هامش الأصل: لعله سقط: الشطرنج.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 290 (26164).
(4)
"عقد الجواهر الثمنية" 3/ 1301.
(5)
"الصحاح" 5/ 1813.
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا تسلموا على مدمني الخمر، ولا على (المسيء)
(1)
بأبويه، ذكره الطبري، وكذلك كان في قطع الكلام عن كعب وصاحبيه حين تخلفوا وإظهار الموجدة عليهم أبلغ في الأدب لهم، فالإعراض أدب بالغ؛ ألا ترى قوله تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34].
(1)
غير واضحة في الأصل، والمثبت أقرب لرسمها ولمعنى السياق.
22 - باب كَيْفَ يُرَدُّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ السَّلَامُ
؟
6256 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَقَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ» .
6257 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمُ: السَّامُ عَلَيْكَ. فَقُلْ: وَعَلَيْكَ» . [6928 - مسلم: 2164 - فتح 11/ 42]
6258 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» . [6926 - مسلم: 2163 - فتح 11/ 42]
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. الحديث سلف. وفي آخره: "فقد قلت: وعليكم".
وحديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ اليَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمُ: السَّامُ عَلَيْكَ. فَقُلْ: وَعَلَيْكَ".
وحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ".
الشرح؛
(السام): فسره أبو عبيد وقال: هو الموت. وتأوله قتادة على خلافه، وقال: تسأمون دينكم، وهو مصدر سئمته سآمة وسآمًا وروي مرفوعًا،
ذكره بقي بن مخلد في "تفسيره")
(1)
عن سعيد، عنه -أعني قتادة- عن أنس، أنه عليه السلام بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى يهودي فسلم عليه، فردوا عليه، فقال عليه السلام:"هل تدرون ما قال؟ "، قالوا: سلم يا رسول الله، قال:"قال: سام عليكم. أي: تسأمون دينكم"
(2)
.
وفي رواية: قالت: عليكم السام والذَّام
(3)
، بالدال المهملة، والمعجمة، فأما من قال بالمهملة أي: الموت الدائم، فحذفت الياء؛ لأجل السام، وبالذال المعجمة: العيب، تهمز ولا تهمز. ورواية من روى: عليكم، بغير واو، أحسن من رواية من روى بالواو، كما قاله الخطابي
(4)
؛ لأن معناه بغير واو: رددت ما قلتموه عليكم، وإذا أدخلت الواو صار المعنى: عليَّ وعليكم؛ لأن الواو حرف تشريك
(5)
. وقال ابن حبيب: إذا قلت: وعليك. حققت على نفسك ما قال، ثم أشركته معك فيه، ولكن قل: عليك. كأنه رد عليه بما قال، ولعله لم يبلغه الحديث.
وقد اختلف العلماء في رد السلام على أهل الذمة فقيل: فرض، وهذا تأويل قوله:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} الآية [النساء: 86]. قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: هي عامة في الرد على المؤمنين والكفار. قال: وقوله: {أَوْ رُدُّوهَا} . بقول: وعليكم. للكفار. قال ابن عباس:
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 15، وابن حبان 2/ 256، من طريق بن يزيد زريع، عن شعيب، عن قتادة، عن أنس به.
(3)
رواه مسلم (2165/ 11).
(4)
"معالم السنن" 2/ 143.
(5)
"غريب الحديث" للخطابي 1/ 322.
ومن سلم عليك من خلق الله فاردد عليه ولو كان مجوسيًّا
(1)
.
وروى ابن وهب عن مالك: لا ترد على اليهودي والنصراني، فإن رددت فقل: عليك
(2)
.
وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه يجوز تكنية اليهودي والنصراني وعيادته
(3)
، وهذا أكثر من رد السلام.
وروى يحيى عن مالك أنه سئل عمن سلم على يهودي أو نصراني هل يستقيله ذلك؟ قال: لا
(4)
.
وقال ابن وهب: يسلم عليهما
(5)
، وتلا قوله تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] واحتج بقوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف: 89].
ورد بأنه لو كان كما قال لكان سلامًا بالنصب، وإنما يعني به على اللفظ والكناية.
وقيل: إن الآية منسوخة؛ بأية القتال، وقيل: لا يرد عليهم. والآية في أهل الإسلام خاصة عن عطاء
(6)
، ورد الشارع على اليهودي:"وعليكم". حجة لمن (رأى)
(7)
الرد على أهل الذمة، فسقط قول عطاء، ورواه أشهب وابن وهب عن مالك.
(1)
رواه عنهما الطبري في "تفسيره" 4/ 191 (10045 - 10048).
(2)
"المنتقى" 7/ 280 - 281.
(3)
المصدر السابق 3/ 343.
(4)
"الموطأ" 2/ 960.
(5)
"المنتقى" ص 595
(6)
الطبري 4/ 191.
(7)
في الأصل: (أراد).
قال المهلب: وفي الحديث من الفقه جواز انخداع الرجل الشريف لمكائد أو عاص أو معارضته من حيث لا يشعر إذا رجا رجوعه وتوبته.
وفيه: الانتصار للسلطان ووجوب ذلك على حاشيته وحشمه.
فصل:
حديث ابن عمر هنا بالواو، وحذفها في "الموطأ"
(1)
.
فصل:
في "المعونة": في اختيار بعضهم أنه يرد عليهم بكسر السين، وهي الحجارة، قال: والأولى أن يقال: وعليك
(2)
. والصواب أن يقال لهم: السلام على من اتبع الهدى، كما كتب الشارع إلى هرقل
(3)
.
فرع:
سلم على من ظنه مسلمًا فبان كافرًا استحب أن يرد سلامه فيقول: رُدَّ علي سلامي، والمقصود من ذلك أن يوحشه، ويظهر له أن ليس بينهما ألفة، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سلم على رجل، فقيل له: إنه يهودي. فتبعه وقال: ردَّ علي سلامي
(4)
.
(1)
"الموطأ" 2/ 960.
(2)
"المعونة" 2/ 572.
(3)
سلف أول الكتاب برقم (7)، ورواه مسلم (1773).
(4)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 392 (19458).
23 - باب مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ مَنْ يُحْذَرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ
6259 -
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: حَدَّثَنِي حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ وَكُلُّنَا فَارِسٌ، فَقَالَ:«انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ» . قَالَ: فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُلْنَا: أَيْنَ الكِتَابُ الَّذِي مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ. فَأَنَخْنَا بِهَا، فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، قَالَ صَاحِبَايَ: مَا نَرَى كِتَابًا. قَالَ: قُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِى يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لأُجَرِّدَنَّكِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنِّي أَهْوَتْ بِيَدِهَا إِلَى حُجْزَتِهَا -وَهْيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ- فَأَخْرَجَتِ الكِتَابَ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«مَا حَمَلَكَ يَا حَاطِبُ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» . قَالَ: مَا بِي إِلاَّ أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا غَيَّرْتُ وَلَا بَدَّلْتُ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ هُنَاكَ إِلاَّ وَلَهُ مَنْ يَدْفَعُ اللهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ. قَالَ:«صَدَقَ، فَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا» . قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ: فَقَالَ: «يَا عُمَرُ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ» . قَالَ: فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. [انظر: 3007 - مسلم: 2494 - فتح 11/ 46]
ذكر فيه حديث عليٍّ رضي الله عنه في صحيفة حاطب بن أبي بلتعة مع الظعينة في روضة خاخ، وقد سلف بطوله واضحا.
وفيه -كما قال المهلب-: هتك ستر المذنب، وكشف المرأة العاصية، وأن الحديث الذي روي أنه لا يجوز النظر في كتاب أحد،
وأن ذلك حرام، وما جاء في التغليظ فيه
(1)
، فإنما ذلك لمن يظن به في كتابه إلا الخير، فإن كان متهمًا على المسلمين فلا حرمة لكتابه ولا له، ألا ترى أن المرأة لا يجوز النظر إليها عريانة لغير ذي محرم منها؛ لأنها عورة، وقد أراد عليٌّ تجريدها لو لم تخرج الكتاب، وأقسم إن لم تخرجه ليجردنها، وحرمة المرأة أكثر من حرمة الكتاب، وقد سقطت عند خيانتها، فكذلك حرمة الكتاب.
وفيه دليل أنه لا بأس بالنظر إلى عورة المرأة عند الأمر ينزل فلا يجد من النظر إليها بدًّا، ويشهد لصحة ذلك ما رواه مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلًا، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال عليه السلام:"نعم"
(2)
.
(1)
يشير المصنف رحمه الله إلى ما رواه أبو داود (1485) من طريق عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستروا الجدر، من نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار .. " الحديث.
وهو حديث ضعيف، قال أبو داود: روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية، وهذا الطريق أمثلها، وهو ضعيف أيضًا.
وقال الحافظ في "الفتح" 11/ 47، والألباني في "الإرواء" 2/ 180: مسنده ضعيف وضعفه أيضًا في "ضعيف أبي داود"(262).
ورواه الطبراني 10/ 320 (10781)، والقضاعي في "مسند الشهاب" 1/ 284 - 285 (464) من طريق هشام بن زياد -أبي المقدام- عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس، مرفوعًا بنحوه.
وهذا إسناد ضعيف أيضًا، كما أشار أبو داود قبل، لذا أورده الألباني في "الضعيفة" (5218. 5425) وقال: ضعيف جدًّا.
(2)
رواه في "الموطأ" ص 459.
قال الطبري: ولو كان الشهداء الأربعة إذا حضروا لم يجز لهم النظر إلى فروجهما لم يكن حضورهم وغيبتهم إلا سواء؛ لأن الشهادة على الزنا لا تصح، إلا أن يشهد الشهود أنهم رأوا ذلك مهما كالمرود في المكحلة.
وقد سلف بعض معاني هذا الحديث في باب: (الجاسوس) في كتاب الجهاد
(1)
، وسيأتي في باب: المتأولين، في آخر الديات
(2)
.
فصل:
شيخ البخاري (في هذا الحديث)
(3)
: يوسف بن بُهلول بضم الباء وهو نعت ومعناه الضحاك، وسمي به وليس وزنه مثل: سُبوح وقُدوس؛ لأن هذا فعلول بالضم وذلك فعول لم يأت سواهما، وفيهما الفتح، والروح ثالثهما ليس فيه إلا الضم، وليس في الكلام فعلول (بالفتح سوى صعفوق كما نبه عليه الجوهري، قال: وأما خرنوب فإن الفصحاء يضمونه أو يشددونه مع حذف النون وإنما يفتحها العامة)
(4)
.
فصل:
وقول عليّ رضي الله عنه: (بعثني والزبير وأبا مرثد الغنوي). هؤلاء من شجعان الصحابة، وفيه تجريد المرأة للضرورة إذا عصت بعد (التهديد)
(5)
بذلك، كما سلف.
(1)
راجع شرح حديث (3007) كتاب: الجهاد والسير، باب: الجاسوس.
(2)
انظر ما سيأتي برقم (6939) كتاب: استتابة المرتدين! باب: ما جاء في المتأولين.
(3)
من (ص 2).
(4)
من (ص 2). وانظر: "الصحاح" 4/ 1507، [صعق].
(5)
من (ص 2).
وقوله: (فلما رأت الجد) الجد بالكسر نقيض الهزل، تقول منه: جد في الأمر، يجد بالكسر جدًّا.
وقول عمر رضي الله عنه: (دعني أضرب عنقه) لعله لم يسمع قوله عليه السلام: ("ولا تقولوا له إلا خيرًا") أو كان قبل قول ذلك.
24 - باب كَيْفَ يُكْتَبُ إِلَى أَهْلِ الكِتَابِ
؟
6260 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ -وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ- فَأَتَوْهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُرِئَ فَإِذَا فِيهِ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ» . [انظر: 7 - مسلم: 1773 - فتح 11/ 47]
ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ -وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ- فَذَكَرَ الحَدِيثَ. (ثم قَالَ:)
(1)
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم (فَقُرِئَ)
(2)
فَإِذَا فِيهِ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى، أَمَّا بَعْدُ".
وقد سلف، وأهل الكتاب لا بأس أن يكتب إليهم بالبسملة ويقدم الكاتب اسمه في الكتابة كما يفعل إذا كتب إلى مسلم. وفي الحديث حجة لمن أجاز بداءة أهل الذمة بالسلام عند الحاجة تكون إليهم؛ لأنه عليه السلام إنما كتب إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.
فائدة:
هرقل: ملك الروم بكسر الهاء وإسكان الراء، ويجوز فتحها، ذكره الجوهري، (وقد سلف ذلك)
(3)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
(3)
من (ص 2). وانظر: "الصحاح" 5/ 1849.
25 - باب بِمَنْ يُبْدَأُ فِي الكِتَابِ
6261 -
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«نَجَرَ خَشَبَةً، فَجَعَلَ الْمَالَ فِي جَوْفِهَا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَحِيفَةً: مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ» . [انظر: 1498 - فتح 11/ 48]
وقال اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ. وقد سلف.
وأخرجه الإسماعيلي عن محمد بن سليمان، ثنا عاصم، ثنا الليث به.
وقال عمر بن أبي سلمة عن أبيه، سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نَجَرَ خَشَبَةً، فَجَعَلَ المَالَ فِي جَوْفِهَا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ صَحِيفَةً: مِنْ فُلَانٍ إِلَى فُلَانٍ".
(ونقر)
(1)
بالنون أي: نقبها بالمنقاب.
أما فقه الباب: فقال الداودي: كتب ابن عمر إلى أبيه رضي الله عنهما فبدأ بنفسه، وسأله رجل كتابًا إلى معاوية في امرأته، فأراد أن يبدأ بنفسه فقيل له: إن بدأت به كان أنجح للحاجة ففعل. وهو جائز عند مالك البداءة بالمكتوب إليه، قال: تطابق الناس اليوم على ذلك، وكان يأباه بعض العراقيين.
(1)
في الأصل أعلاها: كذا.
وقال المهلب: السنة أن يبدأ صاحب الكتاب بذكر نفسه. فلذلك هي في جميع الأشياء؛ إلا أنه قد جاء في الحديث: "صاحب الدابة أولى بمقدمها"
(1)
.
وروى معمر، عن أيوب قال: قرأت كتابًا: من العلاء بن الحضرمي إلى محمد رسول الله.
وقال الشعبي: كتب أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل: من أبي عبيدة، ومعاذ لعبد الله عمر أمير المؤمنين.
وقال نافع: كان عمال عمر رضي الله عنه إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم.
وقال معمر عن أيوب، عن نافع: كان ابن عمر يأمر غلمانه إذا كتبوا إليه أن يبدءوا بأنفسهم، وإلا لم يرد لهم جوابًا
(2)
.
(1)
بهذا اللفظ رواه ابن أبي شيبة 5/ 226 (25466) مقطوعًا عن الشعبي.
ورواه أحمد 1/ 19 عن عمر بن الخطاب قال: قضى النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحب الدابة أولى بصدرها.
ورواه 3/ 32 عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الرجل أحق بصدر دابته .. " الحديث.
قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 61: رواه أحمد، وفيه: إسماعيل بن رافع قال البخاري: ثقة مقارب الحديث، وضعفه جمهور الأئمة، وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه الترمذي (2773)، وأحمد أيضًا 5/ 353 عن بريدة أنه قال: بينا رسول الله يمشي
…
إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا، أنت أحق بصدر دابتك منى إلا أن تجعله لي .. " الحديث.
ورواه ابن حبان في "صحيحه" عن بريدة أيضًا 11/ 36 - 37 (4735)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(2235).
(2)
روى هذِه الآثار عبد الرزاق في "المصنف" 11/ 428 - 429 (20912، 20914 - 20916).
وأجاز قوم أن يبدأ باسم غيره قبله، قال معمر؛ وكان أيوب ربما بدأ باسم الرجل قبله إذا كتب إليه
(1)
.
وروى أشهب أن مالكًا سئل عن الذي يبدأ في الكتاب بأصغر منه، ولعله ليس بأفضل منه، قال: لا بأس بذلك. أرأيت لو أوسع له في المجلس إذا جاء أعطى ماله. وقال: إن أهل العراق يقولون: لا تبدأ بأحد قبلك، وإن كان أباك أو أكبر منك. يعيب ذلك من قولهم. وفي الحديث:"كبر كبر" للذي أراد أن يتكلم قبل صاحبه
(2)
.
فصل:
قال بعضهم: في الحديث الأول دليل على إثبات كرامات الأولياء. وعليه جمهور الأشعرية خلافًا لأبي إسحاق الشيرازي، ووافقه ابن أبي زيد وأبو الحسن القابسي، كذا في ابن التين، فليحرر.
(1)
رواه عبد الرزاق 11/ 428 - 429 (20914).
(2)
سلف برقم (3173)، ورواه مسلم (669).
26 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ»
6262 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ فَجَاءَ، فَقَالَ:«قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» . أَوْ قَالَ: «خَيْرِكُمْ» . فَقَعَدَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ» . قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَي ذَرَارِيُّهُمْ. فَقَالَ:«لَقَدْ حَكَمْتَ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْمَلِكُ» .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: أَفْهَمَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ:"إِلَى حُكْمِكَ". [انظر: 3043 - مسلم: 1768 - فتح 11/ 49]
ذكر فيه حديث أَبِي سَعِيدٍ في قصة أهل قريظة فقال: "قُومُوا إلى سَيِّدِكُمْ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: أَفْهَمَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي، عَنْ أَبِي الوَلِيدِ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ:"إِلَى حُكْمِكَ".
فيه: أمر السلطان والحاكم بإكرام السيد من المسلمين، وجواز إكرام أهل الفضل في مجلس السلطان الأكبر والقيام فيه لغيره من أصحابه، وإلزام الناس كافة للقيام إلى سيدهم.
وأما حديث مسعر عن أبي العنبس، عن أبي العدبس، عن أبي مرزوق، عن أبي غالب، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عصاةٍ فقمنا له، فقال:"لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض"، فضعيف
(1)
.
(1)
رواه أبو داود (5230)، وأحمد 3/ 253، والطبري في "تهذيب الآثار"(833) من الطريق الذي ذكره المصنف. وهو حديث ضعيف، كما ذكر المصنف رحمه الله؛ أعله الطبري كما سيأتي، وأعله العراقي في "تخريج الإحياء" 1/ 508 (1952): بجهالة أبي العدبس. وقال الألباني في "الضعيفة"(346): ضعيف، وفي إسناده اضطراب وضعف وجهالة.
قال الطبري: لا يجوز الاحتجاج به، وذلك أن أبا العدبس وأبا مرزوق غير معروفين، مع اضطراب من ناقليه في سنده، فمن قائل فيه: عن أبي العدبس عن أبي أمامة.
قال: فإن ظن ظان أن حديث عبد الله بن بريدة أن أباه دخل على معاوية فأخبره أنه عليه السلام قال: "من أحب أن يتمثل له الرجال قيامًا وجبت له النار"
(1)
، حجة لمن أنكر القيام للسادة، فقد ظن غير الصواب وذلك أن هذا الخبر إنما يبنى عن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي يقام له بالسرور بما يفعل له من ذلك، لا عن نهيه القائم عن القيام
(2)
. وهو خلاف قول مالك فإنه قال: يكره للرجل أن يقوم (للرجل)
(3)
له الفضل والفقه، فيجلسه في مجلسه
(4)
.
وقد روى حماد بن زيد عن ابن عون قال: كان المهلب بن أبي صفرة يمر بنا -ونحن غلمان- في الكتاب فنقوم، ويقوم الناس سماطين
(5)
.
وقال ابن قتيبة: معنى حديث معاوية وبريدة: من أراد أن يتمثل الرجال على رأسه كما يقام بين يدي الملوك والأمراء. وليس قيام الرجل لأخيه إذا سلم عليه من هذا في شيء؛ لقوله: "من سره أن يقوم له الرجال صفونًا".
والصافن: هو الذي أطال القيام، فاحتاج لطول قيامه أن يرفع إحدى رجليه ليستريح، وكذلك الصافن من الدواب.
(1)
رواه الطبري في "تهذيب الآثار"(838).
(2)
انتهى كلام الطبري من "تهذيب الآثار" السفر الأول ص 567 - 569 بتصرف.
(3)
من (ص 2).
(4)
"الذخيرة" 13/ 299.
(5)
رواه الطبري في "تهذيب الآثار"(844).
وروى النسائي بإسناد جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عليه السلام إذا رأى فاطمة ابنته قد أقبلت رحب بها، ثم قام إليها فقبلها، ثم أخذ بيدها حتى يجلسها في مكانه
(1)
.
وقال ابن التين: قوله: "قوموا إلى سيدكم" هو إجلال له؛ لموضعه من الدين ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمن عليه الفتنة، وقد قام طلحة إلى كعب بن مالك حين تيب عليه
(2)
. فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكره القيام تعظيمًا لأهل الدنيا.
وسئل مالك عن المرأة تبالغ (في بر)
(3)
زوجها فتلقاه، وتنزع ثيابه، وتفليه وتقف بين يديه حتى يجلس، فقال: أما تلقيها ونزعها فلا بأس، وأما قيامها حتى يجلس فلا، وهذا فعل الجبابرة، وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا إليه، فليس هذا من أمر الإسلام. ويقال: إن عمر بن عبد العزيز فُعل ذلك له أول ما ولي حين خرج إلى الناس فأنكره، وقال: إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد، وإنما يقوم الناس لرب العالمين
(4)
.
فصل:
قال الداودي: فيه أيضًا جواز الدعاء بـ (يا سيدي). ومالك يكرهه ويقال: يدعى بما في القرآن ولعله لم يبلغه الحديث، وليس فيه ما يرد قوله بل هو مؤيد لقوله في "جامع المختصر" يقول العبد: يا سيدي قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} [يوسف: 25]، وقال:{وَسَيِّدًا وَحَصُورًا}
(1)
"السنن الكبرى" 5/ 391 (9236).
(2)
سلف برقم (4418)، ورواه مسلم (2769).
(3)
من (ص 2).
(4)
"الذخيرة" 13/ 299.
[آل عمران: 39].
فصل:
قوله: ("بما حكم به الملك") وهو بكسر اللام وفتحها، والأول ضبط الأصيلي، ويوضحه رواية:"بحكم الله"
(1)
ومعنى الثاني جبريل.
(1)
سلف برقم (3804)، ورواه مسلم (1768/ 66).
27 - باب المُصَافَحَةِ
وَقَالَ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه: عَلَّمَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ، وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ. [انظر: 6265] وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: دَخَلْتُ المَسْجِدَ فَإِذَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي. [انظر: 4418]
6263 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَنَسٍ: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. [فتح 11/ 54]
6264 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. [انظر: 3694 - فتح 11/ 54]
ثم ساق حديث قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لأَنَسٍ رضي الله عنه: أَكَانَتِ المُصافَحَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ.
وحديث عَبْدِ اللهِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ ابْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه.
الشرح:
معنى: (يهرول): يسعى، والهرولة: بين المشي والعدو، و (هنأني) مهموز، وما ذكره دالٌّ على جواز ما ترجم له.
والمصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد (استحبها)
(1)
مالك بعد أن كرهها، وقال لما سئل عنها: إن الناس لا يفعلون ذلك، وأنا أفعله. وكره معانقة الرجلين، وقال: قال الله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [يونس: 10] وروي عنه أنه صافح سفيان بن عيينة، وهي
(1)
في (ص 2): (استحسنها).
مما يثبت (الود)
(1)
ويؤكد المحبة
(2)
؛ ألا ترى قول كعب بن مالك في حديثه الطويل حين قام إليه طلحة وصافحه: فوالله لا أنساها لطلحة أبدًا. فأخبر بعظيم قيام طلحة إليه من نفسه، ومصافحته له وسروره له بذلك، وكان عنده أفضل الصلة والمشاركة له.
وقد قال أنس رضي الله عنه: إن المصافحة كانت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الحجة والقدوة للأمة، ثم أتباعهم.
وقد ورد فيها آثار حسان.
روى ابن أبي شيبة عن أبي خالد وابن نمير، عن الأجلح، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا"
(3)
.
وروى حماد، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه، عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أهل اليمن أول من جاء بالمصافحة"
(4)
.
وروى ابن المبارك من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل صافحه لا ينزع يده حتى يكون هو الذي نزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه
(5)
.
وروي: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تذهب الشحناء"
(6)
.
(1)
في الأصل: (البر).
(2)
انظر: "المنتقى" 7/ 216.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 247 - 248 (25708).
(4)
رواه أبو داود (5213)، وأحمد 3/ 212.
(5)
رواه الترمذي (2490).
(6)
رواه مالك في "الموطأ" 2/ 908.
فرع:
في "القنية" من كتب الحنفية: لا بأس بمصافحة المسلم جاره النصراني إذا رجع بعد الغيبة، وينادي بترك المصافحة. وفي "المصنف" عن ابن محيريز أنه صافح نصرانيًّا في مسجد دمشق
(1)
. قال: والسنة في المصافحة بكلتا يديه. ويأتي بعده.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 261 (8776).
28 - باب الأَخْذِ بِالْيَدَيْنِ
وَصَافَحَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ابن المُبَارَكِ بِيَدَيْهِ.
6265 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَيْفٌ قَالَ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ سَخْبَرَةَ أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ- التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ: "التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ". وَهْوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلَامُ. يَعْنِي: عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 831 - مسلم: 402 - فتح 11/ 56]
ورواه ابن سعد عن معنٍ قال: رأيت حمادًا فذكره.
ثم ذكر فيه حديث ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَفِّي بَيْنَ كَفَّيْهِ- التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنِي السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ: "التَّحِيَّاتُ لله .. "
الحديث، وفي آخره فائدة جليلة: وَهوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا، فَلَمَّا قُبِضَ قُلْنَا: السَّلَامُ. يَعْنِي: عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وظاهره أن الإشارة والخطاب بقوله: "السلام عليك". إنما كان في حياته، وأنه يقال بعد وفاته ما ذكره فتنبه (له وقد سلف في بابه، وقد أوضحت ذلك في "شرح "المنهاج" فراجعه منه)
(1)
.
وقوله: (كفِّي بين كفيه). هذا هو مبالغة المصافحة وذلك مستحب عند العلماء، واختلفوا في تقبيل اليد: فأنكره مالك وأنكر ما روي فيه
(2)
، وأجازه آخرون، واحتجوا بأن أبا لبابة وكعب بن مالك قبَّلا يد
(1)
من (ص 2).
(2)
انظر: "رسالة القيرواني" ص 277.
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليهم، وكذا صاحباه، ذكره الأبهري وقال: إنما كرهه مالك إذا كان على وجه (التحية)
(1)
وأما إذا قبل على وجه القربة لدينه أو لعلمه أو لشرفه، فإن ذلك جائز، وتقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يقرب إلى الله. وما كان لدنيا أو لسلطان أو لغيره من وجوه التكبر فهو مكروه.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصة السرية لما قال: "أنتم العكارون"، فقبَّلنا يده
(2)
. حجة أيضًا لما قلناه.
وقد قبَّل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب حين قدم من سفر
(3)
، وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين (أخذ)
(4)
ابن عباس (بركابه)
(5)
. وقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. وقال زيد: هكذا أمرنا أن نفعل بآل رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وروى الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن يهوديين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن تسع آيات بينات، فذكرهن ثم قال:"وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا في السبت" فقبلوا يده ورجله، وقالا: نشهد أنك نبي الله.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح
(6)
. وفي الباب عن زيد بن أسود وابن عمر وكعب بن مالك.
(1)
في (ص 2): (التكبر).
(2)
رواه أبو داود (2646)، والترمذي (1716)، وأحمد 2/ 70.
(3)
رواه ابن أبي شيبة 5/ 293 (26199).
(4)
في الأصل (مس) والمثبت من ابن بطال 9/ 46.
(5)
في الأصل (تبركا به) والمثبت من ابن بطال 9/ 46.
(6)
"سنن الترمذي"(3144).
فائدة:
قوله: (وهو بين ظهرانَيْنَا). أي: حي في وسطنا، قال الجوهري: تقول: فلان نازل بين ظهرانيهم وظهريهم؛ تفتح النون ولا تكسر
(1)
.
(فائدة أخرى:
البخاري روى حديث الباب عن أبي نعيم، عن سيف، زاد مسلم بن أبي سليمان
(2)
، وكذا ساقه أبو نعيم في "مستخرجه" على مسلم
(3)
، ورواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم عن أبي نعيم عن سيف بن أبي سليمان
(4)
، وكذا يقول ابن المبارك، وقال وكيع: سيف أبو سليمان وقال القطان وغيره: سيف بن سليمان.
قاله البخاري في "التاريخ"
(5)
)
(6)
.
(1)
"الصحاح" 2/ 731.
(2)
"صحيح مسلم"(402/ 59) وفيه: سيف بن سليمان.
(3)
"المستخرج" 2/ 26 (894) وفيه: سيف بن أبي سليمان، كما ذكره المصنف رحمه الله.
(4)
رواه النسائي في "السنن"الكبرى، كما في "تحفة الأشراف" 7/ 8.
(5)
"التاريخ الكبير" 4/ 171.
(6)
من (ص 2).
29 - باب المُعَانَقَةِ وَقَوْلِ الرَّجُلِ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ
؟
6266 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيًّا -يَعْنِي: ابْنَ أَبِي طَالِبٍ- خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه خَرَجَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا. فَأَخَذَ بِيَدِهِ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: أَلَا تَرَاهُ؟ أَنْتَ وَاللهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ عَبْدُ الْعَصَا وَاللهِ إِنِّي لأُرَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ، وَإِنِّي لأَعْرِفُ فِي وُجُوهِ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ الْمَوْتَ، فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَسْأَلَهُ فِيمَنْ يَكُونُ الأَمْرُ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا. قَالَ عَلِيٌّ: وَاللهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَمْنَعُنَا لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا، وَإِنِّي لَا أَسْأَلُهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَدًا. [انظر: 4447 - فتح 11/ 57]
ذكر فيه حديث الزُّهْرِيِّ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ ابن عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَبَا حَسَنٍ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا. . الحديث.
قد أسلفنا أن البخاري انفرد برواية الزهري عن عبد الله بن كعب عن الأئمة الخمسة، وقد روى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن جده، (وكذا مسلم وهو الصحيح. وذكر المعانقة عن أبيه، عن جده)
(1)
وكذلك (مسلم)
(2)
وهو الصحيح.
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
وذكر المعانقة مضروب عليه في أصل الدمياطي.
وقال المهلب: ترجم بالمعانقة ولم يذكرها فيه، وإنما أراد أن يدخل فيه معانقة رسول الله صلى الله عليه وسلم للحسن حديث:("أين لكع")
(1)
السالف، من حديث أبي هريرة في باب: ما ذكر في الأسواق، فجاء يشتد حتى عانقه وقبله .. الحديث
(2)
. ولم يجد له سندًا غير السند الذي أدخله به في غير هذا الباب، فمات قبل ذلك وبقي الباب فارغا من ذكر المعانقة. وتحته باب آخر: قول الرجل: كيف أصبحت. وأدخل حديث علي رضي الله عنه فلما وجد ناسخ الكتاب الترجمتين متواليتين ظنهما واحدة؛ إذ لم يجد بينهما حديثًا، وفي كتاب الجهاد من تتابع الأبواب الفارغة مواضع لم يدرك أن يتمها بالأحاديث. ويوضح ذلك أن في بعض الروايات باب: المعانقة قول الرجل: كيف أصبحت؟ بغير واو بينهما، فدل على أنهما بابان جمعهما الناسخ.
وقد اختلف الناس في المعانقة، فكرهها مالك، في المشهور عنه
(3)
، وأجازها غيره، بل هو في رسالته لهارون أن يعانق قريبه حين يقدم من سفره، لكن قال الشيخ أبو محمد: وقيل: لم تثبت هذِه الرسالة لمالك
(4)
.
وفي "المعونة": كره المعانقة؛ لأنها لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف، مع أنها من أخلاق العامة، إلا أن يكون ذلك من طول اشتياق، وقدوم من غيبة أو مع الأهل وشبه ذلك
(5)
.
(1)
كذا في الأصل ولفظه في الحديث: "أثمَّ لكع".
(2)
سلف برقم (2016)، وانظر ما سلف أيضًا برقم (5545).
(3)
"الذخيرة" 13/ 297.
(4)
المصدر السابق 13/ 299.
(5)
"المعونة" 2/ 575.
وروينا بالإسناد إلى علي بن يونس الليثي المدني قال: كنت جالسًا عند مالك إذ جاء سفيان بن عيينة يستأذن الباب، فقال مالك: رجل صاحب سنة. أدخلوه، فدخل فقال: السلام عليكم ورحمة الله فردوا السلام، قال: سلامنا خاص وعام السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته. فقال مالك: وعليك السلام يا أبا محمد ورحمة الله وبركاته. فصافحه ثم قال: يا أبا محمد لولا أنها بدعة لعانقناك. قال سفيان: عانق خير منك، النبي صلى الله عليه وسلم. قال مالك:(جعفر)
(1)
؟ قال: نعم. قال: ذاك حديث خاص يا أبا محمد. قال سفيان: ما يعم جعفر يعمنا وما يخص جعفر يخصنا إذا كنا صالحين، أفتأذن لي أن أحدث في مجلسك؟ قال: نعم حَدِّثنا يا أبا محمد. قال: حدثني عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما قدم جعفر من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل بين عينيه، وقال:"جعفر أشبه الناس بي خلقًا وخلقًا"
(2)
.
وروى عبد الرزاق، عن سليمان بن داود قال: رأيت الثوري ومعمرًا حين التقيا احتضنا وقبل كلُ واحدٍ منهما صاحبه
(3)
.
وقد وردت في المعانقة آثار: ذكر الترمذي، عن ابن إسحاق، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنه قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانًا يجر
(1)
فوقها في الأصل: كذا، ولعله يقصد أن الصواب: جعفرًا.
(2)
"الذخيرة" 13/ 397.
وقال الذهبي في "ميزان الاعتدال" 4/ 83 (5974): هذِه حكايته باطلة وإسنادها مظلم. وانظر: "لسان الميزان" 4/ 269.
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 442.
ثوبه، والله ما رأيته عريانًا قبله ولا بعده فاعتنقه وقبله
(1)
.
وروى سليمان بن داود، عن عبد الحليم بن منصور، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي الهيثم بن التيهان أنه عليه السلام لقيه فاعتنقه وقبله. من حديث قاسم بن أصبغ، عن محمد بن غالب، عن سليمان به.
فصل:
قال المهلب: وفي أخذ العباس بيد علي جواز المصافحة. وفيه: جواز قول الرجل يسأل عن حال العليل: كيف أصبح؟ وإذا جاز أن يقال: كيف أصبح؟ جاز أن يقال: كيف أصبحت؟ ولكن لا يكون هذا إلا بعد التحية المأمور بها في السلام.
فصل:
وقول العباس: (ألا تراه؟ أنت والله بعد الثلاث عبد العصا) يعني بقوله: (ألا تراه ميتًا؟) أي: فيه علامة الموت ثم قال له بعد ثلاث (أنت عبد العصا). فيه: جواز اليمين على ما قام عليه الدليل.
وفيه: أن الخلافة لم تكن مذكورة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي أصلاً؛ لأنه قد حلف العباس أنه مأمور لأمرٍ لما كان يعرف من توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها إلى غيره، وفي سكوت علي على ما قال العباس وحلف عليه دليل على علم علي بما قال العباس أنه مأمور من غيره، وما خشيه علي من أن يصرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرف الخلافة إلى غير بني
(1)
الترمذي (2732)، وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث الزهري إلا من هذا الوجه. وقال الألباني في هامش "مشكاة المصابيح" 3/ 1327 (4682): إسناده ضعيف.
المطلب فلا يمكِّنه أحد بعده منها ليس كما ظن والله أعلم؛ لأنه عليه السلام قد قال: "مروا أبا بكر يصلي بالناس" فقيل له: لو أمرت عمر. فلم يرى ذلك ومنع عمر من التقدم
(1)
، فلم يكن ذلك مُحَرِّمَها على عمر بعده.
وقوله: (وإن كان في غيرنا أمرناه فأوصى بنا) ضبطه بعضهم بمد الهمزة أي: شاورناه، والذي قرأناه (أمرناه) من الأمر، مقصود بغير مد، وفي "الصحاح": آمرناه -بالمد-: شاورناه
(2)
.
فصل:
قال الداودي: أصل (كيف أصبحت؟) من طاعون عمواس، واستبعده غيره وقال: قال الناس لعليٍّ: كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان ذلك قبل طاعون عمواس. قال: والعرب أيضًا كانت تقوله قبل الإسلام.
(1)
سلف برقم (713).
(2)
"الصحاح" 2/ 582.
30 - باب مَنْ أَجَابَ بِلَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ
6267 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ -ثُمَّ قَالَ مِثْلَهُ ثَلَاثًا- «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ على العِبَادِ؟ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» . ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ على اللهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ» .
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ مُعَاذٍ بِهَذَا. [انظر: 2856 - مسلم: 30 - فتح 11/ 60]
6268 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا -وَاللهِ- أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً، اسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ، فَقَالَ:«يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُدًا لِي ذَهَبًا يَأْتِي عَلَيَّ لَيْلَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلاَّ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . وَأَرَانَا بِيَدِهِ. ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «الأَكْثَرُونَ هُمُ الأَقَلُّونَ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا» . ثُمَّ قَالَ لِي: «مَكَانَكَ، لَا تَبْرَحْ يَا أَبَا ذَرٍّ حَتَّى أَرْجِعَ» . فَانْطَلَقَ حَتَّى غَابَ عَنِّي، فَسَمِعْتُ صَوْتًا فَخَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عُرِضَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرَدْتُ أَنْ أَذْهَبَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَبْرَحْ» . فَمَكُثْتُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَمِعْتُ صَوْتًا خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عُرِضَ لَكَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَكَ فَقُمْتُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟!. قَالَ:«وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» . قُلْتُ لِزَيْدٍ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ. فَقَالَ: أَشْهَدُ لَحَدَّثَنِيهِ أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ.
قَالَ الأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَبُو شِهَابٍ، عَنِ الأَعْمَشِ:«يَمْكُثُ عِنْدِي فَوْقَ ثَلَاثٍ» . [انظر: 1237 -
مسلم: 94 سيأتي بعد 991 - فتح 11/ 61]
ذكر فيه حديث قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ مُعَاذٍ قَالَ: أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ثلاثا .. الحديث.
وحديث الأَعْمَشِ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، ثَنَا -والله- أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي حَرَّةِ المَدِينَةِ عِشَاءً، اسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ، فَقَالَ:"يَا أَبَا ذَرٍّ، مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُدًا لِي ذَهَبًا يَأْتِي عَلَيَّ لَيْلَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ عِنْدِي مِنْهُ دِينَار". إلى أن قال: ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ .. الحديث.
وفي آخره: قُلْتُ لِزَيْدٍ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ. فَقَالَ: أَشْهَدُ لَحَدَّثَنِيهِ أَبُو ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ.
قَالَ الأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ نَحْوَهُ. وَقَالَ أَبُو شِهَابٍ، عَنِ الأَعْمَشِ:"يَمْكُثُ عِنْدِي فَوْقَ ثَلَاثٍ".
الشرح:
أبو ذر: اسمه جندب -وقيل: برير- بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد (مناة)
(1)
بن كنانة، مات سنة اثنتين وثلاثين بالرَّبذة.
وأبو الدرداء: اسمه عويمر بن زيد بن قيس بن عائشة بن أمية بن مالك بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج بن حارثة، مات بدمشق سنة اثنتين وثلاثين أيضًا، وله عقب بالشام، شهد فتح مصر.
(1)
في الأصل: (مناف).
وأبو شهاب: اسمه عبد ربه بن نافع الحفاظ المدائني، أصله كوفي، مات بالموصل، وقيل: ببلد سنة إحدى -وقيل: اثنتين- وسبعين ومائة، روى له الجماعة.
وأرصده: -بضم أوله- من أرصد، أي: أعد، قال تعالي:{وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ} [التوبة: 107] ورصد: ثلاثي، أي: ندب.
وقوله فيه: (ثم ذكرت قولك فقمت) أي: تثبت في موضعي، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20]
ومعنى لبيك إلبابٌ بعد إلباب أي: إقامة بعد إقامة.
وقال ابن الأنباري: أنا مقيم على طاعتك من قولهم: لب بالمكان، وألب به: إذا أقام.
ومعنى: سعديك. من الإسعاد والمبالغة، وقال غيره: معنى لبيك: إجابة بعد إجابة، وسعديك: إسعاد لك بعد إسعاد. وبه جزم ابن التين، قال المهلب: والإجابة بنعم وكل ما يفهم منه الإجابة كافٍ، ولكن إجابة السيد والشريف بالتلبية (والإرحاب)
(1)
والإسعاد أفضل.
فصل:
وقوله: ("ما حق الله") إلى قوله: ("ما حق العباد على الله"). المراد به التأكيد لا الإيجاب، وإن ادعاه المرجئة والله لا يجب عليه شيء لعباده، وهذا اللفظ خرج مخرج التزاوج والتقابل؛ لما تقدم من ذكر حق الله تعالى على العباد كقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فسمى الجزاء على السيئة باسم السيئة، فكذلك هنا، وإنما المعني به إنجاز وعده من أن يدخلهم الجنة.
(1)
من (ص 2).
(1)
في هامش الأصل: هذا الباب في كتاب التوحيد لا في الاعتصام، وقد رأيته غير هذِه المرة سمى هذا الكتاب الاعتصام، والذي أعرفه في النسخ التي وقفت عليها أن الاعتصام غير كتاب التوحيد، التوحيد آخر الكتاب.
31 - باب لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ
6269 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ» . [انظر: 911 - مسلم: 2177 - فتح 11/ 62]
ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عَن رِسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ".
32 - باب {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} [المجادلة: 11] الآيَةَ
6270 -
حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يُجْلِسَ مَكَانَهُ. [انظر 911 - مسلم: 2177 - فتح 11/ 62]
ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أيضا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ، ولكن تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا. وَكَانَ ابن عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يُجْلِسَ مَكَانَهُ.
الشرح:
تفسحوا من قولهم: مكان فسيح إذا كان واسعًا، واختلف في المراد بالمجلس المذكور: فقال مجاهد وقتادة: مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأوه مقبلًا ضيقوا مجالسهم فأمرهم الله أن يوسع بعضهم لبعض
(1)
، وقال الحسن وقتادة: في الغزو خاصة
(2)
وقال يزيد بن أبي حبيب: أي: اثبتوا في الحرب، وهذا من مكيدة الحرب، وقيل: هو عام. وقوله: {يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] أي: توسعوا يوسع الله عليكم منازلكم في الجنة.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 17 - 18 (33775، 33776).
(2)
"تفسير الطبري" 12/ 19 (33783).
وقوله: {فَانْشُزُوا} أي: وإذا قيل: ارتفعوا فارتفعوا، وقوموا إلى قتال عدو، أو صلاة، أو عمل خير، قال الحسن: انهِزوا إلى الحرب
(1)
.
وقال قتادة ومجاهد: تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوموا. وقال ابن زيد: انشزوا عنه في بيته؛ فإن له حوائج
(2)
. وقال صاحب "الأفعال": نشز القوم من مجلسهم، قاموا منه
(3)
.
فصل:
واختلف في تأويل نهيه عن أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر. فتأوله قوم على الندب، وقالوا: هو من باب الأدب؛ لأنه قد يجب للعالم أن يليه أهل الفهم (والفطن)
(4)
يوسع لهم في الحلقة حتى يجلسوا بين يديه، وتأوله قوم على الوجوب، وقالوا: لا ينبغي لمن سبق إلى مجلس مباح للجلوس أن يقام منه. واحتجوا بحديث معمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به"
(5)
.
(وقالوا: وقد كان ابن عمر يقوم له الرجل من تلقاء نفسه فما يجلس في مجلسه)
(6)
(7)
قالوا: وابن عمر راوي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أعلم بتأويله.
(1)
انظر: "زاد المسير" 8/ 192.
(2)
رواه الطبري 12/ 18.
(3)
"الأفعال" ص 263.
(4)
في (ص 2): (النهى).
(5)
رواه مسلم (2179).
(6)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 268، وابن خزيمة في "صحيحه" 3/ 160.
(7)
من (ص 2).
وحجة من حمله على الندب أن قالوا: لما كان موضع جلوسه في المسجد أو حلقة العلم غير متملك له، ولم يستحقه أحد قبل الجلوس فيه لم يستحقه أحد بالجلوس فيه، وكان حكم الجلوس كحكم المكان في أنهما غير متملكين، قالوا: وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد تأوله العلماء على وجهين: على الوجوب، والندب، كما تأولوا حديث ابن عمر فقال محمد بن مسلمة: معنى قوله: "فهو أحق به" يريد إذا جلس في مجلس العالم فهو أولى به إذا قام لحاجة، فأما إن قام تاركًا فليس هو أولى به من غيره.
والوجه الثاني: روى أشهب عن مالك عن الذي يقوم من المجلس فقيل له: إن بعض الناس يقول: إذا رجع فهو أحق به. قال: ما سمعت به، وإنه لحسن إذا كانت أوبته قريبة وإن بعد ذلك حتى يذهب فيتغدى فهو لك فلا أرى ذلك له، وإن هذا من مجالس الأخلاق.
وقال الداودي: فيه أن من جلس مجلسًا يجب له الجلوس فيه فهو أحق به حتى يقوم. وظاهر الحديث أن الجالس أحق بموضعه، وقيل: إذا قام ليرجع كان أحق به، وقيل: إن رجع عن قرب كان أحق.
33 - باب مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَوْ بَيْتِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَصْحَابَهُ، أَوْ تَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ لِيَقُومَ النَّاسُ
6271 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ دَعَا النَّاسَ طَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ. قَالَ: فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ، فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ وَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا فَانْطَلَقُوا. قَالَ: فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا، فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ، فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَرْخَى الْحِجَابَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]. [انظر: 4791 - مسلم: 1428 - فتح 11/ 64]
ذكر فيه حديث أَبِي مِجْلَزٍ -لاحق بن حميد- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بنت جَحْشٍ دَعَا النَّاسَ طَعِمُوا، ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ. قَالَ: فَأَخَذَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا .. الحديث.
وجاء في بعض طرقه أنه عليه السلام استحيا أن يقول للذين أطالوا الحديث في بيته: قوموا، ويخرجهم من بيته
(1)
؛ لأنه عليه السلام كان على خلق عظيم، وكان أشد الناس حياءً فيما لم يؤمر فيه ولم ينه، فإذا أمره الله لم يستحي من إنفاذ أمر الله والصدع به وكان جلوسهم عنده بعد ما طعموا للحديث أذى له ولأهله. قال تعالى:{إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} الآية فقد حرم الله عز وجل أذى رسوله فأنزل الله من أجل ذلك الآية.
(1)
راجع حديث (4791) وأطرافه.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف عن أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام ما جلس إليه أحد فقام حتى يقوم، وذكر عن عبد الله بن سلام، والحسن بن أبي الحسن، وأبي مجلز، والنخعي، وسعيد بن جبير، مثله
(1)
.
وفيه: أنه لا ينبغي لأحد أن يدخل بيت غيره إلا بإذن، وأن الداخل المأذون له لا ينبغي له أن يطوِّل الجلوس فيه بعد تمام حاجته التي دخل لها؛ لئلا يؤدي الداخل الذي أدخله (بمنع أهله)
(2)
من التصرف في مصالحهم.
وفيه: أن من أطال الجلوس في دار غيره حتى كره ذلك من فعله، فإن لصاحب الدار أن يقوم بغير إذنه ويظهر التثاقل عليه في ذلك حتى يفطن له، وأنه إذا أقام فإن للداخل القيام منه، وأنه لا يجوز له الجلوس فيه بعده إلا أن يأذن له في ذلك صاحب المنزل.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 243 (25656 - 25662).
(2)
في الأصل: (ويمنع إذنه).
34 - باب الاِحْتِبَاءِ بِالْيَدِ وَهُوَ الْقُرْفُصَاءُ
6272 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا. [فتح 11/ 65]
ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِفِنَاءِ الكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا.
الشرح:
البخاري رواه عن محمد بن أبي غالب، وهو أبو عبد الله القُومَسِيُّ، سكن بغداد، وليس بصاحب هشيم الواسطي، روى عنه البخاري وأبو داود، ومات سنة خمسين ومائتين، وصاحب هشيم أكبر منه، مات سنة أربع وعشرين ومائتين.
والقرفصاء تمد وتقصر، (وبكسر)
(1)
القاف والفاء أيضًا، وبهما يضبط أيضًا
(2)
، وهي جلسة المحتبي بيديه، وقيل: هي جلسة المستوفز، وقيل: هي جلسة الرجل على أليتيه، وقال الفراء: إذا ضممت مددت، وإذا كسرت قصرت. وإنما يجوز الاحتباء لمن جلس في (حبوته)
(3)
، فأما إن تحرك وصنع بيده شيئًا أو صلى فلا يجوز له ذلك؛ لأن عورته تبدو إلا أن يكون احتباؤه على ثوب يستر عورته فذلك جائز.
(1)
من (ص 2).
(2)
في هامش الأصل: هذِه العبارة الصواب: القرفصاء بمد وتقصير، وتقال بضم القاف والفاء وكسرهما.
(3)
في (ص 2): (حبائه).
وقد سلف تفسير الاحتباء في أبواب اللباس في الصلاة.
وعبارة أبي عبيد: القرفصاء: أن يجلس على أليتيه ويلصق فخذيه ببطنه ويحتبي بيديه بعضها على ساقيه كما يحتبي بالثوب تكون يداه مكان الثوب
(1)
، (ونقله في "الصحاح" عنه، ثم قال)
(2)
: وقال (أبو مهدي)
(3)
: هو أن يجلس على ركبتيه متكئًا، ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفَّيه، وهي جلسة الأعراب
(4)
.
وقال الداودي: الاحتباء: هو أن يقيم رجليه ويفرج بين ركبتيه وجوفه شيئًا، ويدير عليه رداء من ظهره إلى عند ركبتيه، ويعقده فإن كان عليه قميص أو إزار أو سراويل لم يكن هو الحديث المنهي عنه، كما سلف، وإذا لم يدر عليه شيئًا فهي القرفصاء، إلا أنه يمسك ساقيه بيديه، والذي ذكره ابن فارس
(5)
وغيره مثل ما في "الصحاح" إلا أن الاحتباء أن يجمع ظهره وساقيه بثوبه.
(1)
"غريب الحديث" 1/ 130.
(2)
من (ص 2).
(3)
في الأصل: (أبو المنذر).
(4)
"الصحاح" 3/ 1051.
(5)
"مجمل اللغة" 2/ 764.
35 - باب مَنِ اتَّكَأَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ
وقَالَ خَبَّابٌ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً قُلْتُ: أَلَا تَدْعُو اللهَ؟ فَقَعَدَ. [انظر: 3612]
6273 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» . قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» . [انظر: 2654 - مسلم: 87 - فتح 11/ 66]
6274 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ مِثْلَهُ: وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ» . فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. [انظر: 2654 - مسلم: 87 - فتح 11/ 66]
ثم ساق حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟ ". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "الإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ". وفي لفظ: وكان متكئا فجلس. الحديث.
قال المهلب: فيه جواز اتكاء العالم بين يدي الناس، وفي مجلس الفتوى، وكذلك السلطان، والأمير في بعض ما يحتاج إليه من ذلك، لراحة يتعاقب فيها في جلسته، أو لألم يجده في بعض أعضائه، أو لما هو أرفق به، ولا يكون ذلك عامة جلوسه؛ لأنه عليه السلام قال:"آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد"، ولم يكن يأكل متكئًا
(1)
.
(1)
رواه أبو يعلى 8/ 318 (4920) من حديث عائشة. وإسناده ضعيف كما قال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" 1/ 645. لكنه روي بإسناد آخر عنها. وانظر: "الصحيحة"(544).
36 - باب مَنْ أَسْرَعَ فِي (مِشْيَتِهِ)
(1)
لِحَاجَةٍ أَوْ قَصْدٍ
6275 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ، فَأَسْرَعَ ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ. [انظر: 851 - فتح 11/ 67]
ذكر فيه حديث عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العَصْرَ فَأَسْرَعَ ثمَّ دَخَلَ البَيْتَ. سلف.
وفيه: جواز إسراع السلطان والعالم في حوائجهم والمبادرة إليها، وقد جاء أن إسراعه عليه السلام في دخوله البيت؛ إنما كان لأنه ذكر أن عنده صدقة فأحب أن يفرقها في وقته (ذلك)
(2)
.
وفيه: فضل تعجيل أفعال البر، وترك تأخيرها، وذكر ابن المبارك بإسناده أنه عليه السلام كان يمشي مشية (السوقى)
(3)
لا العاجز ولا الكسلان، وكان ابن عمر يسرع في المشي ويقول: هو أبعد من الزهو، وأسرع في الحاجة
(4)
، وفيه أيضًا اشتغالٌ عن النظر.
(1)
كذا في الأصل. وفي اليونينية 8/ 62: (مشيه) ليس عليها تعليق.
(2)
من (ص 2).
(3)
في هامش الأصل: إن كانت الكتابة صحيحة فمعناه: الواحد من الرعية لا مشية ملك.
(4)
"الزهد" لابن المبارك ص 288.
37 - باب السَّرِيرِ
6276 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَسْطَ السَّرِيرِ وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، تَكُونُ لِىَ الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلُّ انْسِلَالاً. [انظر: 382 - مسلم: 512، 744 - فتح 11/ 67]
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَسْطَ السَّرِيرِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ، تَكُونُ لِيَ الحَاجَةُ فَأَكْرَهُ أَنْ أَقُومَ فَأَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلُّ انْسِلَالًا. (هذا الحديث سلف في الصلاة)
(1)
.
وفيه: اتخاذ الصالحين الأسرة ونومهم عليها، وجواز الصلاة فيها.
وفيه: جواز الاضطجاع للمرأة بحضرة زوجها.
وفيه: مرور المرأة بين يدي المصلي خلافًا لمن قال: يقطع الصلاة. وجواز الصلاة إلى النائم، ومالك يكرهه خشية أن يخرج منه شيء.
ووسط بالفتح والإسكان. قال ابن التين: قرأناه بالسكون. وهو في مشهور اللغة بفتحها.
(1)
من (ص 2). قلت: سلف برقم (511).
38 - باب مَنْ أُلْقِيَ لَهُ الوِسَادَةُ
6277 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْمَلِيحِ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِيكَ زَيْدٍ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَحَدَّثَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ، وَصَارَتِ الْوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَقَالَ لِي:«أَمَا يَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ؟» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «خَمْسًا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «سَبْعًا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «تِسْعًا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «إِحْدَى عَشْرَةَ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «لَا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ دَاوُدَ، شَطْرَ الدَّهْرِ، صِيَامُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ» . [انظر: 1131 - مسلم:
1159 -
فتح 11/ 68]
6278 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَدِمَ الشَّأْمَ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ذَهَبَ عَلْقَمَةُ إِلَى الشَّأْمِ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي جَلِيسًا. فَقَعَدَ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. قَالَ: أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي كَانَ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ؟ -يَعْنِي: حُذَيْفَةَ- أَلَيْسَ فِيكُمْ -أَوْ كَانَ فِيكُمُ- الَّذِي أَجَارَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّيْطَانِ؟ -يَعْنِي: عَمَّارًا- أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسَادِ؟ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ- كَيْفَ كَانَ عَبْدُ اللهِ يَقْرَأُ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} [الليل: 1]. قَالَ: {الذَّكَرِ وَالأُنْثَى} [الليل: 3]. فَقَالَ: مَا زَالَ هَؤُلَاءِ حَتَّى كَادُوا يُشَكِّكُونِي، وَقَدْ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 3287 - مسلم: 824 - فتح 11/ 68]
ذكر فيه حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أنه صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ لَهُ صَوْمِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ، فَأَلْقَيْتُ لَهُ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَجَلَسَ عَلَى الأَرْضِ، وَصَارَتِ الوِسَادَةُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ .. الحديث.
وحديث يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ، ثَنَا يَزِيدُ (عَنْ شُعْبَةَ)
(1)
عَنْ مُغِيرَةَ -يعني: ابن مقسم الضبي- عَنْ إِبْرَاهِيمَ -يعني: النخعي- عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ قَدِمَ الشَّأْمَ.
وفي رواية: ذَهَبَ عَلْقَمَةُ إِلَى الشَّأْمِ، فَأَتَى المَسْجِدَ فَصلَّى رَكْعَتَيْنِ. إلى أن قال:(أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الذِي كَانَ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ؟ يَعْنِي: حُذَيْفَةَ)
(2)
أَلَيْسَ فِيكُمْ الذِي أَجَارَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ؟ -يَعْنِي: عَمَّارًا- أَوَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالْوِسادِ؟ يَعْنِي ابن مَسْعُودٍ. . الحديث.
و (يحيى)
(3)
شيخ البخاري هو أبو زكريا، والده جعفر بن أعين أزدي بارقي نجاري بيكندي من أفراده عن الخمسة، مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين روى عن يزيد بن هارون وغيره.
فصل:
قال المهلب: فيه: إكرام السلطان والعالم، وإلقاء الوسادة له.
وفيه: أن السلطان والعالم يزور أصحابه، ويقصدهم في منازلهم، ويعلمهم ما يحتاجون إليه من دينهم.
وفيه: جواز رد الكرامة على أهلها إذا لم يردها الذي خص بها؛ لأنه عليه السلام لم يجلس على الوسادة حين ألقيت له وجلس على الأرض.
وفيه: إيثار التواضع على الترفع، وحمل النفس على التذلل.
وفيه: أن خَدمَة السلطان يجب أن يُعرف كل واحد منهم بخطئه.
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
(3)
من (ص 2).
فصل:
المراد بالسِّرِّ -فيما قيل- أنه عليه السلام أسَرَّ إليه بأسماءِ سبعة عشر من المنافقين لم يعلمهم لأحد غيره وكان عمر رضي الله عنه إذا مات من يشك فيه رصد حذيفة فإن خرج لجنازته وإلا لم يَخْرج.
وقوله: (أليس فيكم صاحب السواك والوسادة؟) يريد لم يكن له سواهما جهازًا، وأعطاه إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي غير هذا الموضع زيادة:(صاحب (السرار)
(1)
).
وقال الخطابي: السواد: السرار.
وهو ما روي عنه أنه عليه السلام قال له: "إِذْنُكَ عليَّ أن ترفع الحجاب، وتسمع لسوادي"
(2)
وكان عليه السلام يختص عبد الله اختصاصًا شديدًا، لا يحجبه إذا جاء، ولا يرده إذا سأله
(3)
.
قيل: وكان علقمة سيد تابعي الكوفة، وكان مالك يفضله على صحابة عبد الله وكانت عائشة رضي الله عنها تفضل الأسود، وكان بعضهم يفضل أبا ميسرة.
فائدة: في مناقب عمار:
ما أخرجه ابن سعد عن الحسن قال: قال عمار بن ياسر: قد قاتلت مع رسول الله الإنس والجن، فقيل له: هذا قاتلت الإنس، فكيف قاتلت الجن؟! قال: نزلنا مع رسول الله منزلًا فأخذت قربتي ودلوي لأستقي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما إنه سيأتيك من يمنعك من الماء" فلما كنت
(1)
في (ص 2): (السواد).
(2)
رواه مسلم (2169).
(3)
"أعلام الحديث" 3/ 1640.
على رأس البئر، إذا رجل أسود كأنه مرس فقال: لا والله لا تستقي اليوم منها ذنوبًا واحداً، فأخذته وأخذني، فصرعته، ثم أخذت حجرًا فكسرت به أنفه ووجهه، ثم ملأت قربتي، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"هل أتاك على الماء من أحد؟ " فقلت: عبدٌ أسود. قال: "ما صنعت به؟ " فأخبرته فقال: "أتدري من هو؟ " قلت: لا. قال: "ذاك الشيطان جاء يمنعك من الماء"
(1)
.
(1)
"الطبقات الكبرى" 3/ 251.
39 - باب القَائِلَةِ بَعْدَ الجُمُعَةَ
6279 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا نَقِيلُ وَنَتَغَدَّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ. [انظر: 938 - مسلم: 859 - فتح 11/ 69]
ذكر فيه حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا نَقِيلُ وَنتَغَدى بَعْدَ الجُمُعَةِ. قد سلف في الجمعة
(1)
.
وفيه: أن القائلة بعد الجمعة من الأمر بالمعروف، وذلك -والله أعلم- ليستعان بها على قيام الليل لقصر ليل الصيف، (وفيه حديث)
(2)
.
(1)
سلف برقم (939).
(2)
من (ص 2).
40 - باب القَائِلَةِ فِي المَسْجِدِ
6280 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا دُعِيَ بِهَا، جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ عليها السلام فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْتِ فَقَالَ:«أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟» . فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِنْسَانٍ:«انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟» فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ. فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ فَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَهْوَ يَقُولُ:«قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ» . [انظر: 441 - مسلم: 2409 - فتح 11/ 70]
ذكر فيه حديث سَهْلٍ رضي الله عنه في قصة عليٍّ ونومه في المسجد وتكنيته بأبي تراب.
وفيه كما قال المهلب: جواز النوم بالنهار والليل في المسجد من غير ضرورة إلى ذلك. وقد تقدم من أجاز ذلك، ومن كرهه في باب: نوم الرجل، من كتاب الصلاة.
وفيه: ممازحة (الصهر)
(1)
وتكنيته بغير كنيته ولشيء عرض له كما كنى أبا هريرة بهرة كذلك كنى عليًّا بالتراب الذي احتبس إليه.
وفيه: جواز ممازحة أهل الفضل، وكان عليه السلام يمزح ولا يقول إلا حقًّا.
وفيه: الرفق بالأصهار، وإلطافهم، وترك معاتبتهم على ما يكون منهم لأهلهم؛ لأنه عليه السلام لم يعاتب عليًّا على مغاضبته لأهله، بل قال له "قم " وعرض له بالانصراف إلى أهله.
(1)
في الأصل: (الصبي) وفي هامشها: لعله الصهر، وإلا فليس هو بصبي.
41 - باب مَنْ زَارَ قَوْمًا فَقَالَ عِنْدَهُمْ
6281 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَاريُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ. قَالَ: فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ. قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ مِنْ ذَلِكَ السُّكِّ. قَالَ: فَجُعِلَ فِي حَنُوطِهِ. [مسلم: 2331 - فتح 11/ 70]
6282، 6283 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ -وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- فَدَخَلَ يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ» . أَوْ قَالَ: «مِثْلُ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ» . شَكَّ إِسْحَاقُ. قُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَدَعَا، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الأَسِرَّةِ» . أَوْ: «مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ» . فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: «أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ» . فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ. [انظر: 2788، 2789 - مسلم: 1912 - فتح 11/ 70]
ذكر فيه حديث ثُمَامَةَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ. قَالَ: فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ .. الحديث.
وحديث أَنَسٍ: كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطعِمُهُ -وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- فَدَخَلَ يَوْمًا فَأَطْعَمَتْهُ،
فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ. وذكر الحديث.
فيه: جواز القائلة للإمام والرئيس والعالم عند معارفه وثقات إخوانه، وأن ذلك مما يسقط المؤنة ويثبت المودة ويؤكد المحبة.
وفيه: طهارة شعر ابن آدم (وعرقه)
(1)
.
قال الداودي: كانت أم سليم وأم حرام وأخوهما حرام أخوال النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة. وقال ابن وهب: أم حرام خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل: من الرضاعة، وقد سلف ذلك مبسوطًا فيما مضى.
فصل:
احتج بالحديث من أوجب على النساء الحج في البحر، قال: وهو جائز، أعني: ركوبهن البحر إذا كانت في سرير وشبهه مما تستتر به، وقال مالك في كتاب محمد: ما للمرأة والبر والبحر، هو شديد، والمرأة عورة وأخاف أن تتكشف، وترك ذلك أحب إلي
(2)
.
فصل:
في النطع أربع لغات: كسر النون مع فتح الطاء وسكونها، وفتح النون والطاء، وفتحها وسكون الطاء.
فصل:
أخذت أم سليم شعره وعرقه تبركًا به وجعلته مع (السك)
(3)
؛ لئلا يذهب إذا كان العرق وحده، وجعله أنس في حنوطه تعوذًا به من المكاره، والحنوط بفتح الحاء وحكي ضمها.
(1)
في (ص 2): (وغيره).
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 2/ 320.
(3)
في (ص 2): (المسك).
فصل:
وقوله: " (ملوك على الأسرة" أو "مثل الملوك") يحتمل وجهين:
أحدهما: أن حالهم في الدنيا حين (ذكرهم)
(1)
حال الملوك على الأسرة، في صلاح حالهم، وسعة دنياهم، وكثرة سلاحهم، وأسرتهم، وغير ذلك.
والثاني: أنهم عرضوا، وأعلم بحالهم في الجنة أنهم كذلك، والأسرة قيل: الأرائك يتكئون عليها. ورجح الأول، وأنه أظهر والثاني أرفع.
فصل:
فيه: الغزو بالنساء. وأجازه مالك في الجيوش العظيمة
(2)
.
فصل:
"وثبج البحر": وسطه، ويقال: ظهره، والمعنى متقارب.
فصل:
وقوله: (فركبت البحر في زمن معاوية) قيل: في إمارته ليس في زمن ولايته الكبرى، وظاهر الخبر خلافه، قال ابن الكلبي: كانت هذِه الغزوة لمعاوية سنة ثمان وعشرين.
فصل:
قوله: (فصرعت عن دابتها) هو (بقبرص)
(3)
.
(1)
في (ص 2): (ذكرتهم).
(2)
"النوادر والزيادات" 3/ 34.
(3)
في هامش الأصل: وفي هذا "الصحيح": فنزلوا الشام فقربت إليها دابتها فصرعتها.
42 - باب الْجُلُوسِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ
6284 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ: اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَالاِحْتِبَاءِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِ الإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ. [انظر: 367 - مسلم: 1512 - فتح 11/ 79].
تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ بُدَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. [انظر: 367 - مسلم: 1512 - فتح 10/ 79]
ذكر فيه حديث سُفْيَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ لِبْسَتَيْنِ .. الحديث سلف غير مرة، وموضع الحاجة منه:(الاحتباء في ثوب واحد ليس على فرج الإنسان منه شيء). تابعه معمر ومحمد بن أبي حفصة وعبد الله بن بُديل، عن الزهري.
قال المهلب: هذِه الترجمة قائمة من دليل هذا الحديث؛ وذلك أنه عليه السلام نهى عن حالتين وهما: اشتمال الصماء، والاحتباء، فمفهومه إباحة غيرهما مما تيسر من الهيئات والملابس إذا ستر ذلك العورة. ورأيت لطاوس أنه كان يكره التربع ويقول: هي مملكة
(1)
. وإنما نهى عن هاتين اللبستين في الصلاة، كما قاله ابن بطال
(2)
؛ لأنهما لا يستران العورة عند الرفع والخفض وإخراج اليدين، فأما الجالس لا يصنع شيئًا ولا يتصرف بيديه وتكون عورته مستورة فلا حرج عليه فيهما؛ لأنه قد ثبت عن رسول الله أنه احتبى بفناء الكعبة، كما سلف
(3)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 33 (6138)، 5/ 229 (25517).
(2)
"شرح ابن بطال" 2/ 31.
(3)
برقم (6272).
43 - باب مَنْ نَاجَى بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ، وَمَنْ لَمْ يُخْبِرْ بِسِرِّ صَاحِبِهِ، فَإِذَا مَاتَ أَخْبَرَ بِهِ
6285، 6286 - حَدَّثَنَا مُوسَى، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا فِرَاسٌ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: إِنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهُ جَمِيعًا، لَمْ تُغَادَرْ مِنَّا وَاحِدَةٌ، فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ عليها السلام تَمْشِي، لَا وَاللهِ مَا تَخْفَى مِشْيَتُهَا مِنْ مِشْيَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ قَالَ:«مَرْحَبًا بِابْنَتِي» . ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ -أَوْ عَنْ شِمَالِهِ- ثُمَّ سَارَّهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، فَلَمَّا رَأَى حُزْنَهَا سَارَّهَا الثَّانِيَةَ إِذَا هِيَ تَضْحَكُ. فَقُلْتُ لَهَا -أَنَا مِنْ بَيْنِ نِسَائِهِ-: خَصَّكِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالسِّرِّ مِنْ بَيْنِنَا ثُمَّ أَنْتِ تَبْكِينَ! فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهَا: عَمَّا سَارَّكِ؟
قَالَتْ: مَا كُنْتُ لأُفْشِيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِرَّهُ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ قُلْتُ لَهَا: عَزَمْتُ عَلَيْكِ بِمَا لِي عَلَيْكِ مِنَ الْحَقِّ لَمَّا أَخْبَرْتِنِي. قَالَتْ: أَمَّا الآنَ فَنَعَمْ. فَأَخْبَرَتْنِي قَالَتْ: أَمَّا حِينَ سَارَّنِي فِي الأَمْرِ الأَوَّلِ، فَإِنَّهُ أَخْبَرَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً «وَإِنَّهُ قَدْ عَارَضَنِي بِهِ الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أَرَى الأَجَلَ إِلاَّ قَدِ اقْتَرَبَ، فَاتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي، فَإِنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكَ» . قَالَتْ: فَبَكَيْتُ بُكَائِي الَّذِي رَأَيْتِ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعِي سَارَّنِي الثَّانِيَةَ قَالَ:«يَا فَاطِمَةُ، أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ" أَوْ: "سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ؟» . [انظر: 3623، 3624 - مسلم: 2450 - فتح 11/ 79]
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها في إسراره لفاطمة فبكت، ثم أسر إليها فضحكت وأفشته بعد.
وفيه: ما ترجم له وجواز مسارة الواحد بحضرة الجماعة، وليس ذلك من نهيه عن مناجاة الاثنين دون الواحد
(1)
؛ لأن المعنى الذي
(1)
سيأتي هذا الحديث قريبًا برقم (6290)، ورواه مسلم (2184).
يخاف من ترك الواحد لا يخاف في ترك الجماعة، وذلك أن الواحد إذا تساروا دونه وقع بنفسه أنهما يتكلمان فيه بما يسوؤه، ولا يتفق ذلك في الجماعة، وهذا من حسن الأدب وكرم المعاشرة.
وفيه: أنه لا ينبغي إفشاء السر إذا كانت فيه مضرة على المسر؛ لأن فاطمة رضي الله عنها لو أخبرت بذلك في ذلك الوقت ما أخبرها به من قرب أجله؛ لحزن بذلك حزنًا شديدًا، وكذلك لو أخبرتهن بأنها سيدة نساء المؤمنين لعظم ذلك عليهن واشتد حزنهن، فلما أمنت بعد موته أخبرت بذلك. وفيه اجتماع أزواجه في بيت واحد في مرضه.
ومعنى: (لم تغادَر منا واحدةٌ): لم تترك أن يحضر. وفيه العزم بغير الله، قال في "المدونة": إذا قال: أعزم عليك بالله إلا ما أكلت، فلم يأكل، لا حنث على واحد منهما بمنزلة: أسألك بالله، فإن قال: أعزم بالله إن فعلت، أرى ذلك لا شك في كونه يمينًا
(1)
.
قال ابن حبيب: ينبغي له ألا يحنثه في: أعزم عليك بالله إلا ما فعلت ما لم تكن معصية، وهو من باب قوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1]. قال: يريد أن يسأل بالله وبالرحم، فإن لم يفعل فلا كفارة على واحد منهما
(2)
.
وقولها: (لما (أخبرتني)
(3)
). يحتمل آخر شيء، يحتمل أن تكون اللام بمعنى إلا وما زائدة، هذا مذهب الكوفيين، ويحتمل أن تكون ما مشددة بمعنى (إلا)، ذكره سيبويه
(4)
، وأنكره الجوهري
(5)
.
(1)
"المدونة" 3/ 30.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 16.
(3)
من (ص 2).
(4)
"الكتاب" 3/ 105 - 106.
(5)
"الصحاح" 5/ 2033.
وقوله: ("ألا ترضين .. "). إلى آخره، فيه فضل فاطمة على عائشة، وقيل: ما رأيت فاطمة بعد رسول الله حتى ماتت [مبتسمة]
(1)
إلا حين أريتِ النعشَ كيف يُنصبُ عليها فتبسمت وقالت: سترتِني ستركِ الله
(2)
. وماتت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر وقيل: ثلاثة أشهر (قال مالك)
(3)
: والأول أثبت، ودفنت ليلاً وصلى عليها العباس.
(1)
ليست في الأصل، ومثبتة من مصادر التخريج.
(2)
"المستدرك" 3/ 162.
(3)
من (ص 2).
44 - باب الاسْتِلْقَاءِ
6287 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ مُسْتَلْقِيًا وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى. [انظر: 475 - مسلم: 2100 - فتح 11/ 81]
ذكر فيه حديث عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ مُسْتَلْقِيًا وَاضِعًا إِحْدى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرى.
هذا الحديث سلف في الصلاة مع الجواب عما عارضه
(1)
، وهو رد على من كرهه من العلماء، قال المهلب: إنما فعل ذلك فيه ليرى الناس أن هذا وشبهه خفيف فعله في المسجد.
(1)
راجع حديث (475).
45 - باب لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} . إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 9 - 10] وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} إِلَى قَوْلِهِ: {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: 12 - 13].
6288 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ. وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ» . [مسلم: 2183 - فتح 11/ 81]
ذكر فيه حديث عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانُوا ثَلَاَثةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ".
أي: لا يتسار اثنان ويتركا صاحبهما؛ خشية الإيحاش له فيظن أنهما يتكلمان فيه أو يتجنبان (جهته فيحزنه ذلك.
وقد جاء هذا المعنى بينًا في رواية معمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا)
(1)
: "إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه"
(2)
. ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] الآية.
وقد جاء التغليظ في مناجاة الاثنين دون صاحبهما في السفر، وأن ذلك لا يحل لهما، من حديث ابن لهيعة، عن (ابن)
(3)
هبيرة، عن أبي سالم الجيشاني، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه عليه السلام قال: "لا يحل
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه عبد الرزاق 11/ 26 (19806)، وعنه أحمد 2/ 146 من طريق معمر عن أيوب عن نافع، به.
(3)
في الأصل: (أبي).
لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، أن يتناجى [اثنان]
(1)
منهما دون (صاحبهما)
(2)
؛ فيحزنه ذلك"
(3)
والله أعلم في الفلاة من أجل الخوف فيها أغلب على المرء، والوحشة إليه أسرع، ولذلك نهى الشارع أن يسافر الواحد والاثنان.
قال النووي: ونهي [عن] تناجي اثنين دون (ثلاثة)
(4)
، وكذا ثالث وأكثر بحضرة واحد تحريم، فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم، إلا أن يأذن، قال: ومذهب مالك
(5)
وأصحابنا وجماهير العلماء، أن النهي عام في كل الأزمان وفي السفر، والحضر، وقال بعضهم: هو في السفر خاصة، وادعى بعضهم نسخه، وأنه كان في أول الإسلام فلما فشا الإسلام (وأمن)
(6)
الناس سقط النهي، وكان المنافقون يفعلون ذلك بحضرة المؤمنين ليحزنوهم، أما إذا كانوا أربعة فتناجى اثنان دون اثنين فلا بأس، بالإجماع
(7)
.
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت آية {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10] فقال ابن زيد: في المؤمنين، كان الرجل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الحاجة، فيرى الناس أنه قد ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
(1)
ساقطة من الأصل ومثبتة من مصادر التخريج.
(2)
في الأصل: (صاحبه) والمثبت الصحيح من مصادر التخريج.
(3)
رواه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 176 - 177. قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 63 - 64: فيه ابن لهيعة، وهو لين. وبقية رجاله رجال الصحيح.
وقال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"(6647): إسناده صحيح.
(4)
في الأصل: (ثالث)، والمثبت من "شرح النووي" وهو الصحيح.
(5)
"المنتقى" 7/ 313، "عقد الجواهر الثمنية" 3/ 1304.
(6)
في (ص 2): (وأنس).
(7)
انتهى من "مسلم بشرح النووي" 14/ 167 - 168.
- عليه السلام لا يمنع أحدًا من ذلك، وكانت الأرض يومئذ حربًا، وكان الشيطان يأتي القوم فيقول لهم: إنما يتناجون في جموع قد جَمعت لكم فنزلت.
وقال قتادة: نزلت في المنافقين، كان بعضهم يناجي بعضًا وكان ذلك يغيظ المؤمنين، ويحزنهم، فنزلت:{وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} [المجادلة: 10] أي: ليس التناجي بضارهم أذى الشيطان.
وقال قتادة: في الآية الثانية سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة فقطعهم الله بها، وصبر كثير من الناس، وكفوا عن المسألة، وقال ابن زيد: نزلت؛ لئلا يناجي أهل الباطل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيشق ذلك على أهل الحق فلما ثقل (ذلك)
(1)
على المؤمنين خففه الله عنهم ونسخه
(2)
، واعترض ابن التين فقال: وقع في التبويب: (وإذا تناجيتم) والتلاوة بحذف الواو، والذي قدمته لك هو ما في الأصول.
فائدة:
قوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] قال علي رضي الله عنه: ما عمل بهذا أحد غيري، تصدقت بدينار، وناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخت.
وقال قتادة: ما أقامت إلا ساعة من نهار، وقال علي رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترى أن يكون دينارًا"؟ قلت: لا، قال:"فكم"؟ قلت: حبة من شعير، قال:"إنك لزهيد" فأنزل الله: {أَأَشْفَقْتُمْ} [المجادلة: 13] الآية فخفف الله عن هذِه الأمة
(3)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
روى هذِه الآثار الطبري في "تفسيره" 12/ 16، 20 (33770 - 33771، 33792، 33797).
(3)
رواها الطبري 12/ 20 - 21 (33789، 33793، 33796).
46 - باب حِفْظِ السِّرِّ
6289 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِرًّان فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ، وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ. [مسلم: 2482 - فتح 10/ 82]
ذكر فيه حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِرًّان فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ، وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ.
(هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا في الفضائل)
(1)
وهو مطابق لما ترجمه، فإن السر أمانة، وحفظه واجب، وذلك من أخلاق المؤمنين، وقد روي عن أنس أنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فقال: "احفظ سري تكن مؤمنًا"
(2)
.
وروى ابن أبي شيبة عن بحر بن آدم عن ابن أبي ذئب، عن عبد الرحمن بن عطاء عن عبد الملك، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا التفت المحدث فهي أمانة"
(3)
.
قال المهلب: والذي عليه أهل العلم أن السر لا يبيح به إذا كان على المسر فيه ضرر، فأكثرهم يقول: إذا مات المسر فليس يلزم من كتمانه ما يلزم في حياته، إلا أن يكون عليه فيه غضاضة في دينه.
(1)
من (ص 2). رواه مسلم برقم (2482).
(2)
رواه أبو يعلى 6/ 306 - 307 (3624)، والطبراني في "الأوسط" 6/ 123 - 125 (5991)، وفي "الصغير" 2/ 100 - 103 (856) من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أنس بنحوه.
قال الحافظ في "الفتح" 11/ 82: فيه علي بن زيد وهو صدوق كثير الأوهام.
(3)
"المصنف" 5/ 237 (25589).
وقال الداودي: هذا مما لا ينبغي إفشاؤه بعد موته، بخلاف سر فاطمة؛ لأنه إنما أسر إليها بموته، وسؤال أم سليم لعلها سألته عما قالت له إن لم يكن سرًّا، وفي رواية أخرى: قال لها: أسر إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فقالت: فلا تخبر به.
47 - باب إِذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَا بَأْسَ بِالْمُسَارَّةِ وَالْمُنَاجَاةِ
6290 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى رَجُلَانِ دُونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، أَجْلَ أَنْ يُحْزِنَهُ» . [مسلم: 2184 - فتح 11/ 82]
6291 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ. قُلْتُ: أَمَا وَاللهِ لآتِيَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ وَهْوَ فِي مَلأٍ فَسَارَرْتُهُ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ:«رَحْمَةُ اللهِ عَلَى مُوسَى، أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» . [انظر: 3150 - مسلم: 1062 - فتح 11/ 83]
ذكر فيه حديث أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثنانِ دُونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، أَجْلَ أَنْ يُحْزِنَهُ".
وحديث شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِسْمَةً، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: إِنَّ هذِه لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ. قُلْتُ: أَمَا والله لآتِيَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ وَهْوَ فِي ملأ فَسَارَرْتُهُ، فَغَضِبَ .. الحديث، وقد سلف
(1)
.
وقوله: ("أجل أن يحزنه") أي: (من أجل)
(2)
هو إخبار منه عليه السلام عن السبب في ذلك، وهو أن الواحد إذا بقي فردًا وتناجوا دونه حزن لذلك إذ لم يسارروه فيها؛ ولأنه قد يقع في نفسه أن سرهم في مضرته.
(1)
برقم (3150).
(2)
في (س): (لأجل).
وفي "جامع المختصر": نهى أن يتركوا واحداً اجتناب سوء الظن والحسد والكذب.
قال الخطابي: ابن حرب يقول: إنما يكره ذلك في السفر؛ لأنه مظنة التهمة، فيخاف الثالث أن يكونا قد ساقا إليه غائلةً أو مكروهًا
(1)
، بخلاف أن يخص جماعة وأما مناجاة جماعة دون جماعة، فالجماعة على جوازه؛ لأن الناس معه يشركونه فيما أسر عنهم فيزول الحزن، وفي بعض نسخ ابن (الجلاب)
(2)
، وكذلك يكره أن يتناجى جماعة دون جماعة، وفي بعضها: لا بأس به.
وعن مالك: لا ينبغي ذلك، وحديث فاطمة السالف دال على جوازه، وقيل: إذا (ساررا)
(3)
دون واحد بإذنه فلا بأس، وقد سلف في الحديث.
وروى مالك عن عبد الله بن دينار قال: كان ابن عمر إذا أراد أن يسارر رجلاً -وكانوا ثلاثة- دعا رابعًا ثم قال لاثنين: استأخرا شيئًا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يتناجى اثنان دون واحد". وناجى صاحبه
(4)
. فإذا كانوا أكثر من ثلاثة بواحد جازت، وكلما كثرت الجماعة كان أحسن وأبعد من التهمة والظنة، ألا ترى ابن مسعود سار رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو في ملأ من الناس وأخبره بقول القائل.
(1)
"أعلام الحديث" 3/ 2235.
(2)
كلمة غير مقروءة بالأصل.
(3)
في (ص 2): (تساروا)، وفي الأصل (ساورا) وهو خطأ والمثبت هو الصواب.
(4)
"الموطأ" 2/ 988.
وروى أشهب عن مالك أنه قال: لا يتناجى ثلاثة دون واحد؛ لأنه قد نهي أن يترك واحد، قال: ولا أرى ذلك، ولو كانوا عشرة (لم)
(1)
يتركوا واحداً.
وهذا القول يستنبط من هذا الحديث؛ لأن المعنى في ترك الجماعة للواحد كترك الاثنين له. وهو ما جاء في الحديث: "حتى تختلطوا بالناس أجل أن يحزنه". وهذا كله من حسن الأدب وكرم الأخلاق؛ لئلا يتباغض المؤمنون ويتدابروا، كما سلف
(1)
في الأصل: (أن).
48 - باب طُولِ النَّجْوى
وقوله: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء: 47] مَصْدَرٌ مِنْ نَاجَيْتُ، فَوَصفَهُمْ بِهَا، وَالْمَعْنَى: يَتَنَاجَوْنَ.
6292 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، -عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى. [انظر: 642 - مسلم: 376 - فتح 11/ 85]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَرَجُلٌ يُنَاجِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا زَالَ يُنَاجِيهِ حَتَّى نَامَ أَصْحَابُهُ، فقَامَ فَصَلَّى.
وقد سلف في الصلاة في باب: الإمام تعرض له الحاجة
(1)
، وليس فيه أكثر من جواز طول المناجاة بحضرة الجماعة في الأمر يهم السلطان، ويحتاج إلى تعرفه، وإن كان فيه بعض الضرر على بعض من في الحضرة، وقد جاء ذلك في بعض طرق الحديث.
وقوله: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} . قال الأزهري أي: ذو نجوى. قال: والنجوى اسم يقوم مقام المصدر
(2)
. وقد قيل: نجوى: يتناجون.
وفي الحديث رد على الكوفيين القائلين أنه إذا تحدث بعد الإقامة أعادها.
(1)
سلف برقم (642).
(2)
"تهذيب اللغة" 4/ 3509.
49 - باب لَا تُتْرَكُ النَّارُ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ النَّوْمِ
6293 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ» . [مسلم: 2015 - فتح 11/ 85]
6294 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ» . [مسلم: 2016 - فتح 11/ 85]
6295 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ كَثِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمِّرُوا الآنِيَةَ، وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ، وَأَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتِ الْفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ» . [انظر: 3280 - مسلم: 2012 - فتح 11/ 85]
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ".
ثانيها:
حديث أَبِي مُوسَى قَالَ: احْتَرَقَ بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ هذِه النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ".
ثالثها:
حديث كَثِيرٍ -هو ابن شنظير، أبو قرة الأزدي، ويقال: المازني البصري- عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"خَمِّرُوا الآنِيَةَ، وَأَجِيفُوا الأَبْوَابَ، وَأَطْفِئُوا المَصَابِيحَ، فَإِنَّ الفُوَيْسِقَةَ رُبَّمَا جَرَّتِ الفَتِيلَةَ فَأَحْرَقَتْ أَهْلَ البَيْتِ".
الشرح:
التخمير: التغطية، ومنه سميت الخمر؛ لأنها تغطي العقل، وخمار المرأة، والخَمَر -بالتحريك- ما سُتِر عنك، تقول: توارى الصيد عني في خمر الوادي.
"وأجيفوا": أغلقوا؛ أي: للحفظ من السارق والشيطان.
والفويسقة: الفأرة، سماها بذلك وإن كانت لم تؤمر ولم تنه؛ لأن فعلها فعله في الفساد، ومثله:"خمس فواسق يقتلن في الحرم"
(1)
وكذلك قوله في النار: "إنها عدو لكم" أي: تفعل فعله في الإحراق، وإنما أمر بالتغطية، وكذا إيكاء السقاء كما سيأتي، وهي القربة لما نبه عليه السلام في مسلم: "إن في السنة ليلة ينزل فيها
(2)
وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك"
(3)
. قال الليث: كانت الأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول. قلت: وهو في شهور القبط كيهك.
وفي هذِه الأحاديث الإبانة عن أن من الحق على من أراد المبيت في بيت، ليس فيه غيره وفيه نار، أو مصباح، أن لا يبيت حتى يطفئه، أو يحرزه، بما يأمن به إحراقه وضره، وكذلك إن كان فيه جماعة، فالحق عليهم إذا أرادوا النوم ألا ينام آخرهم حتى يفعل به ما ذكرت؛
(1)
سلف برقم (3314)، ورواه مسلم (1198).
(2)
في (ص 2) زيادة: "من السماء"، وليست في مسلم.
(3)
مسلم (2014).
لأمر الشارع بذلك، فإن فرط فيه مفرط فلحقه ضر في نفس، أو مال، كان لوصيته لأمته مخالفا، ولأدبه تاركًا، وقد روى عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت فأرة (فجرت)
(1)
الفتيلة فألقتها بين يدي رسول الله على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم
(2)
.
(1)
غير واضحة بالأصل، وفي هامشها: لعله فحملت.
(2)
رواه أبو داود (5247)، وصححه ابن حبان 12/ 327 - 328 (5519)، والحاكم 4/ 284 - 285.
50 - باب إِغْلَاقِ الأَبْوَابِ بِاللَّيْلِ
6296 -
حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ، وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ» . -قَالَ هَمَّامٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ:- وَلَوْ بِعُودٍ». [انظر: 3280 - مسلم: 2012 - فتح 11/ 87]
ذكر فيه حديث هَمَّامٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَطْفِئُوا المَصَابِيحَ بِاللَّيْلِ إِذَا رَقَدْتُمْ (وأغلقوا)
(1)
الأَبْوَابَ، وَأَوْكوا الأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ -قَالَ هَمَّامٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ:- وَلَوْ بِعُودٍ (يعرضه)
(2)
".
قد أسلفنا حكمة ذلك.
وفي الأشربة في باب: تغطية الإناء، وأن من جملة أمره لغلق الأبواب ليلاً؛ خشية انتشار الشياطين وتسليطهم على ترويع المؤمنين وأذاهم، وقد جاء في حديث آخر أنه عليه السلام قال: "إذا جنح الليل فاحبسوا أولادكم؛ فإن الله يبث من خلقه بالليل ما لا يبث بالنهار؛ وإن للشياطين انتشارًا و (خطفة)
(3)
"
(4)
.
وقد قال عقيل: يتوقى على المرأة أن تتوضأ عند ذلك. فعلم أمته ما فيه المصلحة لهم في نومهم ويقظتهم.
(1)
كذا في الأصول، وفي اليونينية 8/ 66:(وغلقوا) وفي هامشها: (وأغلقوا) لأبي ذر الكشميهني.
(2)
من الأصول، وهي في هامش اليونينية من رواية أبي ذر الكشميهني.
(3)
في (ص 2): (حفظة).
(4)
سلف برقم (3280)، ورواه مسلم (2012).
وقد روى مالك في حديث جابر رضي الله عنه: "فإن الشيطان لا يفتح غلقًا ولا يحل وكاء ولا يكشف إناء"
(1)
وإن كان قد أعطي منها ما هو أكثر منها من الولوج حيث لا يلج الإنسان.
فائدة:
الوكاء -بالمد-: الخيط الذي يربط به فم السقاء.
(1)
رواه في "الموطأ" 2/ 928 - 929.
51 - باب الخِتَانِ بَعْدَ الكِبَرِ وَنَتْفِ الإِبْطِ
6297 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قُزَعَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ» . [انظر: 5889 - مسلم: 257 - فتح 11/ 88]
6298 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ» . مُخَفَّفَةً.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَقَالَ:«بِالْقَدُّومِ» . [انظر: 3356 - مسلم: 2370 - فتح 11/ 88]
6299 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ. قَالَ: وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ. [6300 - فتح 11/ 88]
6300 -
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا خَتِينٌ. [انظر: 6299 - فتح 11/ 88]
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها:
حديث سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الْفِطرَةُ خَمْسٌ: الخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ".
ثانيها:
حديث أَبُي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ". مُخَفَّفَةً.
حَدَّثنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، وَقَالَ:"بِالْقَدُّومِ" مشددة.
ثالثها:
حديث إِسْرَائِيلَ (عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ)
(1)
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: أَنَا يَوْمَئِذٍ مَخْتُونٌ. قَالَ: وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ.
قال أبو عبد الله: القدوم بالتخفيف موضع، والقدُّوم بالتشديد قدوم النجارين.
وَقَالَ ابن إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ: قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا خَتِينٌ.
الشرح:
الكبر في الترجمة بفتح الباء وكسر الكاف مصدر كبر يكبر كبرًا أي: (أسن)
(2)
ويكبر بكسر الباء، قال الإسماعيلي: وقول من قال: وكانوا إلى آخره. لا يدرى من قول إسرائيل، أو أبي إسحاق، أو من بعدهم. وسلف معنى الفطرة.
والختان واجب عندنا على الرجال والنساء على أظهر الأقوال
(3)
. ثانيها: سنة فيهما. ثالثها: أنه واجب على الرجال دون النساء
(4)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: (رأس).
(3)
انظر: "المجموع" 1/ 348 - 349.
(4)
انظر: "المغني" 1/ 115.
والثاني قول مالك والكوفيين
(1)
؛ لقوله: "الفطرة خمس" فذكر الختان. والفطرة: السنة؛ لأنه عليه السلام جعلها من جملة السنن فأضافها إليها، كذا احتج به ابن القصَّار.
وروي مرفوعًا: "الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء" -قلت: هو ضعيف
(2)
- ولما أسلم سلمان لم يأمره الشارع بالاختتان ولو كان فرضًا لم يترك أمره بذلك، واحتج الشافعي بقوله:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] وكان من ملته الختان؛ لأنه ختن نفسه بالقدوم كما سلف.
وقد يقال: أصل الملة: الشريعة والتوحيد.
وقد ثبت أن في ملة إبراهيم (فرائضًا)
(3)
وسننًا، فيجوز أن يكون الختان من السنن.
والفطرة فطرة الإسلام وهي سننها وهي الفعلة. من قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 1] يعني: خالقهما، وهي علامة لمن دخل في الإسلام، فهي من شعائر المسلمين.
(1)
انظر: "مواهب الجليل" 4/ 395، "المنتقى" 7/ 332، "الاستذكار" 8/ 338، "حاشية الدسوقي" 2/ 126.
(2)
رواه أحمد 5/ 75، والبيهقي 8/ 324 - 325 من طريق أبي المليح بن أسامة عن أبيه مرفوعًا. قال البيهقي: إسناده ضعيف، والمحفوظ موقوفًا وفي الباب عن أبي أيوب وابن عباس وشداد بن أوس. والحديث في الجملة ضعفه المصنف رحمه الله في "البدر المنير" 8/ 743 - 745.
(3)
كذا بالأصل. وهي لغة لبعض العرب صرف ما لا ينصرف مطلقًا في الاختيار وسعة الكلام، انظر:"مع الهوامع" 1/ 119. وذكر ابن جني أن من العرب من يقف على جميع ما لا ينصرف إذا كان منصوبًا بالألف، انظر: "سر صناعة الإعراب" لابن جني 2/ 677.
وقال القزاز: الأولى أن المراد بالفطرة هنا ما جبل الله الخلق وطباعهم عليه، وهو كراهة ما هو في جسمه مما ليس من زينته.
فرع:
اختلف في وقت الختان: فعندنا بعد البلوغ، ويستحب في السابع بعد الولادة
(1)
؛ اقتداء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن والحسين، فإنه ختنهما يوم السابع من ولادتهما، رواه الحاكم في "مستدركه" من حديث عائشة، وقال: صحيح الإسناد
(2)
.
وقال الليث: الختان للغلام ما بين السبع سنين إلى العشر. وقال مالك: عامة ما رأيت الختان ببلدنا إذا اثّغر
(3)
. وقال مكحول: إن إبراهيم خليل الرحمن ختن ابنه إسحاق لسبعة أيام، وختن ابنه إسماعيل لثلاث عشرة سنة. وروي عن أبي جعفر أن فاطمة كانت تختن ولدها اليوم السابع
(4)
، وكره ذلك الحسن البصري، ومالك بن أنس؛ خلافًا لليهود، قال مالك: والصواب في خلافهم
(5)
.
وقال الحسن: هو خطر وهو وجه عندنا. قال المهلب: وليس اختتان إبراهيم بعد ثمانين سنة مما (يوجب علينا)
(6)
مثل فعله، إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما اختتن إبراهيم وقت أوحي إليه بذلك وأمر به ففعل. والنظر يدل أنه ما كان ينبغي إلا قرب
(1)
انظر: "المجموع" 1/ 350.
(2)
"المستدرك" 4/ 237.
(3)
"المنتقى" 7/ 332.
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 113 (24248).
(5)
"المنتقى" 7/ 332.
(6)
في الأصل: (وجب عليه).
وقت الحاجة لاستعمال ذلك العضو بالجماع، كما اختتن ابن عباس عند مناهزة الاحتلام وقال: كانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك؛ لأن الختان تنظيف لما يجتمع من الوضوء تحت الغرلة، ولذلك -والله أعلم- أمر بقطعها واختتان الناس في الصغر -والله أعلم- لتسهيل الألم على الصغير؛ لضعف عضوه؛ وقلة فهمه.
فائدة
(1)
:
من خفف القدوم أراد الحديدة التي اختتن إبراهيم بها، ومن شدد فهو المكان، وقد يجوز أن يجتمع له الأمران، ذكره أجمع ابن بطال
(2)
.
أخرى:
الاستحداد: حلق شعر العانة والأرفاغ بالحديد، وهو استفعال من الحديد، وعن (الأصمعي)
(3)
: استحد الرجل إذا بور ما تحت إزاره. وهو خلاف المعروف.
وتقليم الأظفار: وقصها.
وعبارة ابن التين ما ينجر به مخفف، قال الجوهري: ولا تشديد، ومن شدد قال: موضع.
قال الهروي: يقال: هو مقيل إبراهيم عليه السلام، وقيل: هو قرية بالشام. وقال الداودي: من شدد يقول: بالفأس الصغير.
(1)
ورد بهامش الأصل ما نصه: من قوله: وعبارة ابن التين فيما يأتي إلى قوله: فائدة ينبغي أن ينقل من مكانه إلى بعد قوله: أجمع ابن بطال. ولعل أن المؤلف كتبه كذلك ولكن الناقل ما عرف بنقله، والظاهر أن سببه وسخ في أصل المؤلف، والله أعلم.
(2)
"شرح ابن بطال" 9/ 69.
(3)
في (ص 2): (الشعبي).
وقول ابن بطال وقد يجمع له الأمران يعني به قدوم الذي يختن به في القدوم هو موضع.
فائدة:
قوله: (وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك) يقال: ختنه، يخْتِنه ويختنه، ذكره القزار، والختان: ما ينتهي إليه القطع من الصبي والجارية. ومعنى: أدرك: بلغ. قال الداودي: والذي هنا في سن ابن عباس صحيح. وقيل: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ابن عشر سنين. وهو أصح.
وقوله: (وأنا ختين): أي: مختون، كقتيل: بمعنى: مقتول.
52 - باب كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ عز وجل
-
وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ. وقال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان: 6].
6301 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى. فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ. فَلْيَتَصَدَّقْ» . [انظر: 4860 - مسلم: 1647 - فتح 11/ 91]
ثم ذكر حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالْعُزى. فَلْيَقُلْ: لَا إله إِلَّا اللهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ. فَلْيَتَصَدَّقْ".
وقد سلف.
واختلف المفسرون في اللهو في الآية، فقال الضحاك: الشرك
(1)
. وقال ابن مسعود: الغناء. وحلف عليه ثلاثًا
(2)
. وقال: الغناء ينبت النفاق في القلب
(3)
. وقاله مجاهد، وزاد: إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء، وإلى مثله من الباطل
(4)
وقاله ابن عباس
(5)
وجماعة من أهل التأويل أيضًا أنه الغناء، وقال القاسم بن محمد:
(1)
رواه الطبري 10/ 204 (28064).
(2)
رواه الطبري 10/ 203 (28040)، والبيهقي 10/ 223.
(3)
رواه البيهقي 10/ 223.
(4)
رواه الطبري 10/ 204 (28057).
(5)
السابق 10/ 203 (28042).
الغناء باطل، والباطل في النار
(1)
. ولذلك ترجم البخاري ما سلف. وقيل: المعنى: ما يلهي من الغناء وغيره، فمن قال شيئًا ليريح نفسه ويستعين به على الطاعة مما لا خفاء فيه فهو جائز. وقيل: إذا قل جاز. وكرهه مالك وإن قَلَّ؛ سدًّا للذريعة، وروى ابن وهب عنه ما سيأتي.
وأما قوله: إذا شغله عن طاعة الله. فهو مأخوذ من قوله: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان: 6] فدلت الآية على أن الغناء وجميع اللهو إذا شغل عن طاعة الله. وعن ذكره أنه محرم، وكذلك قال ابن عباس:{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [لقمان: 6] أي: عن قراءة القرآن وذكر الله
(2)
.
ودلت أيضًا أن اللهو إذا كان يسيرًا لا يشغل عن الطاعة، ولا يصد عن ذكره أنه غير محرم، ألا ترى أن الشارع أباح للجاريتين يوم العيد الغناء في بيت عائشة؛ من أجل العيد كما سلف
(3)
، كما أباح لعائشة النظر إلى لعب الحبشة بالحراب في المسجد، وسترها وهي تنظر إليهم حتى شبعت، قال لها:"حسبك"
(4)
، وقال عليه السلام لعائشة وقد حضرت زفاف امرأة إلى رجل من الأنصار:"يا عائشة، ما كان معكم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو"
(5)
.
وقد سلف في باب: (سنة)
(6)
العيدين لأهل الإسلام في كتاب
(1)
القرطبي 14/ 52.
(2)
رواه الطبري 10/ 205 (28066).
(3)
برقم (949).
(4)
سلف برقم (950).
(5)
سلف برقم (5162).
(6)
من (ص 2).
الصلاة ما يرخص فيه من الغناء وما يكره، فدلت هذِه الآثار على ما دلت عليه الآية من أن يسير الغناء واللهو الذي لا يصد عن ذكر الله وطاعته مباح.
وأجاز سماعه أهل الحجاز، وقيل لمالك: إن أهل المدينة يسمعون الغناء قال: إنما يسمعه عندنا الفساق
(1)
.
وقال الأوزاعي: يترك من قول أهل الحجاز سماع الملاهي.
وروى ابن وهب، عن مالك أنه سئل عن ضرب الكير والمزمار، وغير ذلك من اللهو الذي ينالك سماعه وتجد لذته وأنت في طريق أو مجلس: أيؤمر من ابتلي بذلك أن يرجع من الطريق، أو يقوم من المجلس؟ قال: أرى أن يقوم إلا أن يكون جالسًا لحاجة، أو يكون على حالة لا يستطيع القيام، ولذلك يرجع صاحب الطريق، أو يتقدم أو يتأخر.
وقد جاء فيمن نزه سمعه عن قليل اللهو وكثيره ما روى أسد بن موسى، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر قال: بلغنا أن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين عبادي الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أحلهم رياض المسك وأخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني
(2)
.
وسلف اختلاف العلماء في فضائل القرآن قراءة القرآن بالألحان، ومن كرهه ومن أجازه.
(1)
القرطبي 14/ 52.
(2)
رواه ابن الجعد في "مسنده"(1682) من طريق ابن المبارك ومعن كلاهما عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر، به.
فصل:
وإنما أدخل البخاري حديث أبي هريرة في الباب لقوله في الترجمة: ("ومن قال تعالَ أقامرك فليتصدق"). ولم يختلف العلماء في تحريم القمار؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة: 90]. واتفق أهل التأويل أن الميسر هنا القمار.
وكره مالك اللعب بالنرد وغيرها من الباطل
(1)
، وتلا:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}
(2)
[يونس: 32] وقال: من أدمن اللعب بها فلا تقبل له شهادة -وبذلك قال الشافعي- إذا شغله اللعب بها عن الصلاة حتى يفوته وقتها
(3)
.
والأصح عندنا تحريم اللعب بالنرد
(4)
.
وقد قال أبو ثور: من تلاهى ببعض الملاهي حتى تشغله عن الصلاة لم تقبل شهادته. وأمره بالصدقة على الندب عند العلماء؛ لأنه لم يفعل شيئًا (لا)
(5)
الوجوب؛ لأن الله تعالى لا يؤاخذ بالقول في غير الشرك حتى يصدقه الفعل أو يكذبه، حتى لو قال لامرأة: تعالي أزن بك أو أشرب ولم يفعل، لم يلزمه حد في الدنيا ولا عقوبة في الآخرة؛ إذا كان مجتنبًا للكبائر لكن ندب من جرى مثل هذا القول على لسانه ونواه قلبه وبتَّ قوله أن يتصدق خشية أن تكتب عليه صغيرة؛ أو يكون ذلك من اللمم، وكذلك ندب من حلف باللات والعزى أن يشهد شهادة
(1)
"المنتقى" 7/ 287، "الذخيرة" 13/ 283.
(2)
القرطبي 14/ 52.
(3)
"الأم" 6/ 224.
(4)
"روضة الطالبين" 11/ 230.
(5)
في الأصل: إلا، وما أثبتناه مناسب للسياق.
التوحيد والإخلاص فينسخ بذلك ما جرى على لسانه من كلمة الإشراك والتعظيم لها وإن كان غير معتقد لذلك، والدليل على أن ذلك على الندب أن الله لا يؤاخذ العباد من الأيمان إلا بما انطوت الضمائر على اعتقاده وكانت به شريعة لها، وكل محلوف به باطل فلا كفارة وإنما الكفارات في الأيمان المشروعة.
فإن قلت: فما معنى أمره عليه السلام الداعي إلى المقامرة بالصدقة من بين سائر أعمال البر؟
قيل له: معنى ذلك -والله أعلم- أن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جعلًا في المقامرة ويستحقونه منهم، فنسخ الله تعالى أفعال الجاهلية، وحرم القمار، وأمرهم بالصدقة عوضًا عما أرادوا استباحته من الميسر المحرم وكانت الكفارات من جنس الذنب؛ لأن المقامر لا يخلو أن يكون غالبًا أو مغلوبًا، فإن كان غالبًا فالصدقة كفارة لما كان يدخل في يده من الميسر، وإن كان مغلوبًا فإخراجه الصدقة لوجه الله أولى من إخراجه عن يده شيئًا لا يحل له إخراجه.
53 - باب مَا جَاءَ فِي البِنَاءِ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ: إِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ البَهْمِ فِي البُنْيَانِ". [انظر: 50]
6302 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ -هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ- عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَنَيْتُ بِيَدِي بَيْتًا يُكِنُّنِي مِنَ الْمَطَرِ وَيُظِلُّنِي مِنَ الشَّمْسِ، مَا أَعَانَنِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ. [فتح 10/ 92]
6303 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللهِ مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلَا غَرَسْتُ نَخْلَةً، مُنْذُ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ سُفْيَانُ: فَذَكَرْتُهُ لِبَعْضِ أَهْلِهِ، قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ بَنَى [بَيْتًا]. قَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ: فَلَعَلَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ. [فتح 11/ 92]
وقد سلف مسندًا.
ثم ساق حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَنَيْتُ بِيَدِي بَيْتًا يُكِنُّنِي مِنَ المَطَرِ وَيُظِلُّنِي مِنَ الشَّمْسِ، مَا أَعَانَنِي عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ عز وجل. وفي رواية عنه: والله مَا وَضَعْتُ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَلَا غَرَسْتُ نَخْلَةً مُنْذُ قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ سُفْيَانُ: فَذَكَرْتُهُ لِبَعْضِ أَهْلِهِ، قَالَ: والله لَقَدْ بَنَى. قَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ: فَلَعَلَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَ.
الشرح:
أشراط الساعة: علاماتها، جمع: شرط -بفتح الراء- والبهم -بفتح الباء-: جمع بهمة، وهي صغار الضأن، قاله الجوهري
(1)
. وقال أبو عبيد في "مصنفه": البهم: من أولاد المعز، يقال ذلك للذكر
(1)
"الصحاح" 5/ 1875.
والأنثى. وقال ابن فارس: البهم: صغار الغنم
(1)
. ولبنة ككلمة ما يبنى بها، وجمعها: لبن، وقال ابن السكيت: ومن العرب من يقول: لبنة أي: بإسكان الباء.
وقوله: (ما أعانني عليه أحد). يريد لخفة مؤنته، وتأويل سفيان فيما قيل عن ابن عمر، أنه بني بعد أن قال صحيح؛ لأن العالم إذا روي عنه قولان مختلفان أو قول مخالف لفعله ينبغي حملهما على ما لا تناقض فيه؛ ألا ترى أن قريب ابن عمر لم يكذبه في قوله.
وقوله: (ولا غرست نخلة)، ليس الغرس من ذلك في شيء؛ لأن من غرس بنية طلب الكفاف أو لفضل ما ينال منها، ففي ذلك الفضل لا الإثم. قاله الداودي.
وقوله: (يكنُّنِي من المطر)، هو بضم الياء من أكنَّ، قال ابن التين: كذا قرأناه. وفي "الصحاح" عن الكسائي: كننت الشيء: سترته، وصنته من الشمس، وأكننته في نفسي: أسررته. وقال أبو زيد: كننته وأكننته بمعنى واحد في الكن وفي النفس جميعًا تقول: كننت العلم وأكننته، وكننت الجارية وأكننتها
(2)
.
فصل:
والتطاول في البنيان من أشراط الساعة، وذلك أن يبنى ما يفضل عما يكنه من الحر والبرد، ويستره عن الناس، وقد ذم الله تعالى من فعل ذلك فقال:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} [الشعراء: 128 - 129] يعني: قصورًا، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أنفق ابن آدم في التراب فلن يخلف له
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 138.
(2)
"الصحاح" 6/ 2189.
ولا يؤجر عليه"
(1)
. فأما من بني ما يحتاج إليه ليكنه من الحر و (البرد)
(2)
فمباح له ذلك، وكذلك فعل السلف؛ ألا ترى قول ابن عمر رضي الله عنهما:(بنيت بيدي بيتًا يكنني من المطر .. ) إلى آخره، وقد روي مثل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الطبري، عن الحسن، عن حمران بن أبان، عن عثمان بن عفان أنه عليه السلام قال: "كل شيء سوى جلف هذا الطعام - (يعني: كثير الطعام)
(3)
- وهذا الماء وبيت يقله وثوب يستره، فليس لابن آدم فيه حق" فأباح من البناء ما يقيه أذى الشمس والمطر اللذين لا طاقة لأحد باحتمال مكروههما، كما أباح من الغذاء ما به قوام بدنه، من مطعم أو مشرب، ومن الملبس ما يستر عورته، وما زاد على ذلك فلا حق له فيه، يعني: إذا لم يصرفه في الوجوه المقربة له إلى الله تعالى فإذا فعل ذلك فله الحق في أخذه وصرفه في حقه.
وروى ابن وهب وابن نافع عن مالك قال: كان سلمان يعمل الخوص بيده، وهو أمير، ولم يكن له بيت إنما كان يستظل بالجدر والشجر وأن رجلاً قال له: ألا أبني لك بيتًا تسكن فيه؟ فقال: ما لي به حاجة فما زال به الرجل حتى قال: أعرف البيت الذي يوافقك قال: فصفه لي قال: أبني لك بيتًا إذا قمت فيه أصاب رأسك سقفُه وإن أنت مددت فيه رجليك أصابهما الجدار. قال: نعم كأنك كنت في نفسي والله أعلم.
آخر كتاب الاستئذان بحمد الله ومنِّه
(1)
سلف بنحوه برقم (5672).
(2)
في (ص 2): (المطر).
(3)
من (ص 2).
80
كتاب الدعوات
80 - كِتابُ الدَّعَوَاتِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. [فتح 11/ 94]
1 - [باب] وَلِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
6304 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ» . [7474 - مسلم: 198، 199 - فتح 11/ 96]
6305 -
وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: قَالَ مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤْلاً -أَوْ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا- فَاسْتُجِيبَ، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . [مسلم: 200 - فتح 11/ 96]
حدثنا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ"
وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: قَالَ مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ نَبِيٍّ سَأَلَ سُؤْلًا -أَوْ قَالَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا-
فَاسْتُجِيبَ، فَجَعَلْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ".
هذا الباب ذكره ابن بطال في أواخر (شرحه)
(1)
بعد الفتن، -ولا أدري لما فعل ذلك
(2)
- ومعنى الآية: إن شئت (فضلاً مني)
(3)
كقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41].
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من عبد يدعو الله إلا استجاب له، وإن كان الذي دعا به رزقًا له في الدنيا، أعطاه إياه، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ادخر له.
وروي: "ما من داعٍ يدعو الله إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له؛ يعطى ما سأل، أو يصرف عنه به، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه به"
(4)
.
ومعنى داخرين: أذلاء صاغرين.
ثم قال البخاري: وَلِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ. ثم ساق من حديث الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ".
وقال معتمر: سمعت أبي عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كل نبي سأل سؤالًا -أو قال- لكل نبي دعوة قد دعاها فاستجيبت فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".
(1)
في الأصل "صحيحه".
(2)
"شرح ابن بطال" 10/ 72.
(3)
من (ص 2).
(4)
رواه أحمد 3/ 18 من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا وصححه الحاكم في "المستدرك" 1/ 493. والألباني في "صحيح الترغيب" (1633).
الشرح:
هذا التعليق أخرجه مسلم (في الإيمان)
(1)
من حديث محمد بن العلاء، ثنا المعتمر به
(2)
، وعنده في حديث أبي هريرة "وأردت إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة"
(3)
وفي رواية: "فتعجل كل نبي دعوته، وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا"
(4)
، وفي رواية:"لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها فيستجاب فيؤتاها وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة"
(5)
(وفي رواية)
(6)
: "لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب، وأريد أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة"
(7)
.
وهذا من حسن نظره - عليه أفضل الصلاة والسلام -؛ حيث اختار أن تكون دعوته فيما ينبغي، ومن فضل كرمه أن جعلها لأمته شفاعة للمذنبين، فكأنه عليه السلام هيأ النجائب للمنقطعين؛ ليلحقهم بالسابقين. نبه عليه ابن الجوزي.
وقوله: ("دعا بها في أمته") يحتمل وجهين: أن يكون دعا بها لنفسه. وهو فيهم، أو دعا بها فيهم إما لصلاحهم، أو لهلاكهم.
(1)
من (ص 2).
(2)
مسلم (200).
(3)
مسلم (198).
(4)
مسلم (199).
(5)
مسلم (199/ 239).
(6)
في (ص 2)(وإنه).
(7)
مسلم (199/ 240).
ومعنى: "لكل نبي دعوة" أي: أفضل دعائه، وكذا قوله: (كل نبي سأل سؤالًا"
(1)
. والسؤال: ما يسأله المرء، قال تعالى:{قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36] قرئ بالهمز وتركه. ولهم دعوات غير ذلك: فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل ألا تهلك أمته بالسنين فأعطيها، وسأل ألا يسلط عليهم عدوهم، وسأل ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعها، وجعل بأسهم بينهم كفارات
(2)
.
وقوله: " (لكل نبي دعوة مستجابة") هذِه دعوة تخص كل نبي لدنياه، مثل قول نوح عليه السلام:{لَا تَذَرْ على الْأَرْضِ} [نوح: 26]، ومثل قولة زكريا عليه السلام:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5]، ومثل قول سليمان:{وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35] فاختباؤه عليه السلام دعوته لأمته؛ رأفة بهم ورحمة عليهم لوقت شدتهم واحتياجهم وانقطاع أعمالهم، قال عمر بن عبد العزيز: لأنا أخوف من أن أحرم الدعاء من أن أمنع الإجابة. وقال ابن عيينة: لو يسر كفار جهنم إلى الدعاء بالخروج لخرجوا، ولكنهم إنما نادوا {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] وقالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا} الآية [المؤمنون: 107] وقد علم سبحانه أنهم سيعودون لو أخرجوا، فلو لم يشترطوا أنهم لا يعودون وأخلصوا الدعاء لخرجوا.
فصل:
أمر الله عباده بالدعاء وضمن لهم الإجابة في الآية المذكورة. وقيل: المعنى ادعوني بطاعتكم إياي، استجب لكم في الذي التمستم منى بعبادتكم إياي، ومن طاعة العبد ربه دعاؤه إياه، ورغبته في حاجته إليه دون ما سواه، والمخلص له العبادة المتضرع إليه في حاجته،
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه أحمد 3/ 146، 156 وصححه ابن خزيمة (1228)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 314.
موقن أن قضاءها بيده، مفترض لعجزها منه، ومن عبادته إياه تضرعه إليه فيها. وقد روي عن وكيع، عن سفيان، عن صالح -مولى التوأمة- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع الله غضب (الله)
(1)
عليه"
(2)
.
وروى شعبة، عن منصور، عن ذر، عن يُسَيع الحضرمي، عن النعمان ابن بشير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الدعاء هو العبادة" وقرأ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}
(3)
[غافر: 60] فسمى الدعاء عبادة. وروى الأوزاعي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أنه عليه السلام قال:"إن الله يحب الملحين في الدعاء"
(4)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه ابن ماجه (3827)، وأحمد 2/ 443، وابن أبي شيبة 2/ 22 (29160) من طريق وكيع عن أبي المليح المدني عن أبي صالح، به.
وحسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(3085).
(3)
رواه أبو داود (1479)، والبخاري في "الأدب المفرد"(714)، والنسائي في "الكبرى" 6/ 450، والطبراني في "الدعاء"(2).
وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1329).
(4)
رواه العقيلي في "الضعفاء" 4/ 452، وابن عدي في "الكامل" 8/ 500، والطبراني في "الدعاء"(20)، والقضاعي في "مسند الشهاب" 2/ 145، والبيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 38 (1108) من طريق بقية عن الأوزاعي.
قال البيهقي: هكذا قال: ثنا الأوزاعي، وهو خطأ.
ثم رواه (1109) من طريق بقية عن يوسف بن السفر عن الأوزاعي ثم أعله بيوسف بن السفر.
وقال الحافظ في "التلخيص" 2/ 95: تفرد به يوسف بن السفر عن الأوزاعي وهو متروك، وكان بقية ربما دلسه.
وقال الألباني في "إرواء الغليل"(677): هذا إسناده واه جدًّا، بل موضوع؛ آفته يوسف بن السفر فإنه كذاب.
فإن قلتَ: قول أبي الدرداء: يكفي من الدعاء مع العمل ما يكفي من الطعام مع الملح. وقيل لسفيان: ادع الله. قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء، مخالف لما جاء في فضل الإلحاح في الدعاء، والأمر بالدعاء والضراعة إلى الله.
قلتُ: لا؛ لأن الذي جبلت عليه النفوس، أن من طلب حاجة ممن هو ساخط عليه لأمرٍ تقدم منه، استوجب به سخطه، أنه بالحرمان أولى، ممن هو عنه راض لطاعته له واجتنابه سخطه فإذا علم من عبده المطيع له حاجة إليه، كفاه اليسير من الدعاء.
فإن قلتَ: فما علامة الإجابة؟
قلتُ: روى شَهْر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا شهرُ، إن شفق المؤمن في قلبه كسعفة أحرقتها في النار، ثم قالت: يا شهر، ألا تجد القشعريرة؟ قلت: نعم قالت: فادع الله؛ فإن الدعاء يستجاب عند ذلك. وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير أنه سمع أبا رهم السماعي يقول: ما يشعر به عند الدعاء العطاس.
فصل:
فإن قلت: ما معنى قوله: "لكل نبي دعوة مستجابة" وقد قال تعالى للناس كافة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فعم كل الدعاء، وهذا وعد من الله لعباده وهو لا يخلف الميعاد، وإنما خص كل نبي بدعوة واحدة مستجابة فأين فضل درجة النبوة. قيل: ليس الأمر كما ظننت ولا تدل الآية على أن كل دعاء مستجاب لداعيه، وقد قال قتادة: إنما يستجاب من الدعاء ما وافق القدر. وليس الحديث مما يدل أنه
لا يستجاب للأنبياء إلا دعوة واحدة، وقد أجيبت لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوات بأسانيد ثابتة كما سلف، ومنها دعاؤه على المشركين بسبع كسبع يوسف
(1)
، ودعاؤه على صناديد قريش المعاندين له فقتلوا يوم بدر
(2)
، وغير ذلك مما يكثر إحصاؤه مما أجيب من دعائه، بل لم يبلغنا أنه ردَّ من دعائه إلا سؤاله ألا يجعل (الله تعالى)
(3)
بأس أمته بينهم خاصة كما سلف؛ لما سبق في أم الكتاب من كون ذلك، قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
فصل:
قد سلف معنى قوله: "لكل نبي دعوة مستجابة" وعبارة ابن بطال: يريد أن لكل نبي دعوة عند الله من رفيع الدرجة، وكرامة المنزلة أن جعل له أن يدعوه فيما أحب من الأمور، ويبلغه أمنيته فيدعو في ذلك وهو عالم بالإجابة، على ما ثبت عنه أن جبريل قال:"يا محمد إن أردت أن يحول الله لك جبال تهامة ذهبًا فعل"، وخيره الله بين أن يكون نبيًّا عبدًا، ونبيًا ملكًا، فاختار الآخرة على الدنيا
(4)
، وليست هذِه (الدرجة)
(5)
لأحد من الناس، وإنما أمرنا بالدعاء راجين الإجابة (غير)
(6)
قاطعين عليها ليقفوا (بين)
(7)
الرجاء والخوف.
(1)
سلف برقم (1007)، ورواه مسلم (2798).
(2)
سلف برقم (240)، ورواه مسلم (1794).
(3)
من (ص 2).
(4)
رواه الطبراني في "الأوسط" 7/ 88 (6937) وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2044).
(5)
في الأصل (الدار) والمثبت من (ص 2).
(6)
من (ص 2).
(7)
في الأصل (تحت) والمثبت من (ص 2).
فصل:
وفي هذا الحديث بيان فضيلة نبينا على سائر الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- حين آثر أمته بما خصه الله به من إجابة الدعوة بالشفاعة له، ولم يجعل ذلك في خاصة نفسه وأهل بيته، فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء، وصلى الله عليه أطيب الصلاة، (فهو)
(1)
كما وصفه الله {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]
(2)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
"شرح ابن بطال" 10/ 72 - 75.
2 - باب أَفْضَلِ الاسْتِغْفَارِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} ، إلى قوله:{وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12]، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية [آل عمران: 135].
6306 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، اغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ» . قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» . [6323 - فتح 11/ 97]
ثم ساق حديث بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ العَدَوِيِّ عن شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ رضي الله عنه، أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إله إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ". قَالَ: "مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ".
هذا الحديث أخرجه البخاري عن أبي معمر، ثنا عبد الوارث: حدثني الحسين
(1)
-هو ابن ذكوان- ثنا عبد الله بن بريد، عن بشير،
(1)
ورد بهامش الأصل: لما أخرجه المزي قال: إنه حسين المعلم وابن ابن حريث، =
عن شداد به.
وأخرجه الترمذي من حديث الحسين بن حريث، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن كثير بن زيد، عن عثمان بن ربيعة، عن شداد به. ثم قال: حسن غريب من هذا الوجه
(1)
.
وأخرجه النسائي من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت وأبي العوام، عن ابن بريدة، أن ناسًا من أهل الكوفةكانوا في سفر ومعهم شداد. فذكره
(2)
.
وعند أبي داود والنسائي رواه الوليد بن ثعلبة الطائي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قوله
(3)
.
وأخرجه أبو نعيم في "عمل يوم وليلة" عن علي بن هارون، ثنا موسى بن هارون، ثنا علي بن حرب، ثنا يزيد بن الحباب، ثنا كثير بن زيد، عن المغيرة بن شعبة، عن شداد أنه عليه السلام قال له:"يا شداد، ألا أدلك على سيد الاستغفار". الحديث.
ثم قال: رواه الحسين بن ذكوان عن ابن بريدة، عن بشير. ورواه محمد بن حبيب، عن السري، عن يحيى، عن هشام، عن أبي الزهير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
قال: والاستغفار يكفر الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكمًا في نفس ولا مال، وإن كان ذنبه من الكبائر، وأما من أوجب عليه في نفسه وماله حكمًا؛ لارتكابه ذلك الذنب، فالاستغفار لا يجزئه من
= وابن هذا ابن حريث من مشايخ الأئمة سوى ابن ماجه. والله أعلم.
(1)
"سنن الترمذي"(3393).
(2)
"سنن النسائي الكبرى" 6/ 150 (10417).
(3)
"سنن أبي داود"(5070)، "سنن النسائي الكبرى" 6/ 121 (10300).
دون إقامة ذلك الحكم والخروج منه؛ لأن قوله عليه السلام: "من قال: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف"
(1)
. لأن الفرار منه وإن كان من الكبائر فهو من الذنوب التي لا توجب على مرتكبه حكمًا في نفس ولا مال، ولله أن يعفو أو يصفح عن كل ذنب دون الشرك، للآية الكريمة.
فصل:
والمدرار في الآية: المطر، أي: مدر ماء. والآية الثانية روي عن علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، فحدثني أبو بكر رضي الله عنه وصدق أبو بكر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر فيحسن الطهور ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له". ثم تلا هذِه الآية
(2)
.
(1)
رواه أبو داود (1517) والترمذي (3577) من طريق أبي عمر بن مرة، عن بلال بن يسار بن زيد، عن أبيه، عن جده مرفوعًا، قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(1358)، و"صحيح سنن الترمذي"(2831).
ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 58 (29441)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 118 من طريق أبي سنان، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود مرفوعًا، قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(2)
رواه أبو داود (1521)، والترمذي (406)، وابن ماجه (1395)، ولم يذكر الآية، والنسائي في "الكبرى" 6/ 110 (10250) من طريق عثمان بن المغيرة، عن علي بن ربيعة، عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي به.
قال الترمذي: حديث علي حديث حسن، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(1361).
ومعنى: {وَلَمْ يُصِرُّوا} : لم يمضوا، قاله مجاهد، والمعروف أصر إذا دام، وفي الحديث:"ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة"
(1)
. وقيل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} : أي: يعلمون أنهم إن (تابوا)
(2)
تاب الله عليهم.
فصل:
وقوله: ("سيد الاستغفار"): أي: أفضله وأعظمه نفعًا؛ لأن فيه الإقرار بالإلهية والعبودية، وأن الله خالق، وأن العبد مخلوق.
وقوله: ("وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت"). يعني: العهد الذي أخذه الله على عباده في أصل خلقهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟! قالوا: بلى. فأقروا له في أصل خلقهم بالربوبية وأذعنوا له بالوحدانية.
والوعد: ما وعدهم أنه من مات منهم لا يشرك بالله شيئًا وأدى ما افترض (الله)
(3)
عليه أن يدخله الجنة.
فينبغي لكل مؤمن أن يدعو الله عز وجل أن يميته على ذلك العهد، وأن يتوفاه على الإيمان؛ لينال ما وعد عز وجل مَنْ وفي بذلك؛ اقتداء بالشارع في دعائه بذلك، ومثل ذلك سأل الأنبياء ربهم في دعائهم فقال إبراهيم:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وقال يوسف: {تَوَفَّنِي
(1)
رواه أبو داود (1514)، والترمذي (3559)، وأبو يعلى 1/ 124 (137)، والبيهقي 10/ 188. من طريق عثمان بن واقد، عن أبي نصرة، عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر مرفوعًا، قال الترمذي: وهذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نصرة، وليس إسناده بالقوي. وضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود"(267).
(2)
في الأصل "ماتوا" والمثبت من (ص 2).
(3)
مكررة بالأصل.
مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، وقال أيضًا نبينا - عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام -:"وإذا أردت بقوم فتنة قاقبضني إليك غير مفتون"
(1)
.
وأعلم عليه السلام أمته بقوله: "أنا على عهدك ووعدك ما استطعت". أن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما امتن الله عليه، ولا الوفاء بكمال الطاعات، والشكر على النعم، إذ نعمه تعالى كثيرة ولا يحاط بها، ألا ترى قوله:{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] فمن يقدر مع هذا أن يؤدي شكر النعم الظاهرة، فكيف الباطنة! لكن قد رفق الله بعباده فلم يكلفهم من ذلك إلا وسعهم، وتجاوز عما فوق ذلك، وكان عليه السلام يمتثل هذا المعنى في مبايعته للمؤمنين فيقول:"أنا معكم على السمع والطاعة فيما استطعتم"
(2)
.
وقال ابن التين: يريد: أنا على ما عهدتك عليه، وأوعدتك من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك ما استطعت من ذلك. وقد يكون معناه: إني مقيم على ما عهدت إليَّ من أمرك، ومتمسك بك ومنتجز وعدك في المثوبة والأجر عليه. واشتراطه في ذلك الاستطاعة معناه: الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى، (ثم قال: قاله أبو سليمان -يعني الخطابي)
(3)
(4)
-.
(1)
رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 527 (1932) وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري.
(2)
سيأتي برقم (7202) كتاب: الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام الناس، ورواه مسلم برقم (1867) كتاب: الإمارة، باب: البيعة على السمع والطاعة فيما استطاع.
(3)
من (ص 2).
(4)
"أعلام الحديث" 3/ 2236 - 2237.
وقال الداودي: عهد الله الإسلام، ووعده الإقرار بالجزاء يوم الدين. (قال)
(1)
: وقوله "ما استطعت" أي: من قول أو عمل.
فصل:
فإن قلت: أين لفظ الاستغفار في هذا الدعاء، وقد سماه الشارع سيد الاستغفار؟ قيل: الاستغفار في لسان العرب: هو طلب المغفرة من الله. وسؤاله غفران الذنوب السالفة، والاعتراف بها، وكل دعاء كان فيه هذا المعنى فهو استغفار. مع أن في الحديث لفظ الاستغفار، وهو قوله:"فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
فصل:
معنى: "أبوء": أقر بنعمتك وألزمها نفسي، وأصل البواء: اللزوم، يقال: أباء الإمام فلانًا بفلان إذا ألزمه دمه وقتله به، وفلان بواءٌ لفلان إذا قتل به، وهو كقوله: بوأه الله منزلًا. أي: ألزمه الله إياه وأسكنه إياه. وعبارة صاحب "الأفعال": باء بالذنب: أقر
(2)
، أي: أقر بالنعمة والاستغفار والذنب. وقيل: "أبوء بذنبي" أي: أحمله كرهًا، لا أستطيع صرفه عن نفسي، ومنه {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90].
فصل:
(قوله)
(3)
: "من قالها موقنًا بها .. " إلى آخره. يعني: مخلصًا من قلبه، ومصدقًا بثوابها فهو من أهل الجنة، وهذا كقوله عليه السلام: "من قام
(1)
من (ص 2).
(2)
"الأفعال" لابن القوطية ص (132).
(3)
من (ص 2).
رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"
(1)
وقال الداودي: هذا يحتمل أن يكون من قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وعادته التبشير بالشيء، ثم (باء)
(2)
بأفضل منه لا بأقل مع ارتفاع الأول.
ويحتمل أن يكون ذلك ناسخًا، وأن يكون فيمن قاله. و"مات": قبل فعل ما يغفر لديه ذنوبه.
(1)
سلف برقم (37) كتاب: الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان، ورواه مسلم برقم (759) كتاب: صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
(2)
من (ص 2).
3 - باب اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ
6307 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» . [فتح 11/ 101]
ذكر فيه حديث أَبي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "والله إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً".
الشرح: أراد صلى الله عليه وسلم بذلك تعليم أمته وملازمته الخضوع والعبودية، والاعتراف بالتقصير، وإلا فهو مبرأ من كل نقص، قال صلى الله عليه وسلم:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"
(1)
، وقال:"أفلا أكون عبدًا شكورًا"
(2)
، وقال:"إني أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقى"
(3)
، وهذا أولى من قول ابن الجوزي: هفوات الطباع (ما يسلم)
(4)
منها أحد، فالأنبياء وإن عصموا من الكبائر، فلم يعصموا من الصغائر، وتتحدد للطبع غفلات
(5)
تفتقر إلى الاستغفار، فإن المختار عصمتهم منها أيضًا.
(1)
سلف برقم (1044) كتاب الكسوف، باب: الصدقة في الكسوف ورواه مسلم برقم (901) كتاب صلاة الكسوف، باب: صلاة الكسوف.
(2)
سلف برقم (1130) كتاب: التهجد، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل ورواه مسلم برقم (2819) كتاب صفة الجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة.
(3)
سلف برقم (5063) كتاب: النكاح، باب: الترغيب في النكاح، من حديث أنس ورواه مسلم من حديث عائشة برقم (1110) كتاب: الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب.
(4)
مثبتة من هامش الأصل حيث قال: لعله سقط.
(5)
تكرار بالأصل.
وقال بعضهم: إنه لم يزل في الترقي، فإذا ترقى إلى حال، رأى ما قبلها دونه، استغفر منه، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين
(1)
. وما ألطفه، ومثله المراد به عن الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه على الدوام عليه، أو هَمَّه بسبب أمته، وما اطلع عليه من أحوالها بعد، أو سببه اشتغاله بالنظر في مصالح الأمة عن عظيم مقامه، أو شكرًا لما أُولي. ولا شك أن أولى العباد بالاجتهاد في العبادة الأنبياء؛ لما حباهم به من معرفته، فهم دائبون في شكره معترفون له بالتقصير ولا يُدلّون عليه بالأعمال؛ مستكنون خاشعون، قال أبو هريرة رضي الله عنه -فيما رواه مكحول عنه-: ما رأيت أحدًا أكثر استغفارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال مكحول: ما رأيت (أحدًا)
(2)
أكثر استغفارًا من أبي هريرة. وكان مكحول كثير الاستغفار وقال أنس: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة
(3)
.
وروى أبو إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه" مائة مرة قبل أن يقوم
(4)
.
(1)
هذا من قول أبي سعيد الخزاز كما رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" 4/ 276 وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 5/ 137. وظنه بعض الناس حديثًا؛ لذا أورده الشوكاني في "الفوائد المجموعة" ونسبه له وعزاه لابن عساكر.
(2)
من (ص 2).
(3)
رواه الطبراني في "الأوسط" 9/ 183 (9484)، وقال الهيثمي في "المجمع" 10/ 209: فيه: الحسن بن أبي جعفر، وهو متروك.
(4)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(627) وصححه الألباني فيه، ورواه الطبراني 12/ 416 (13532). ولفظهما: يستغفر الله في المجلس مائة مرة "رب اغفر لي، وتب علي، وارحمني، إنك أنت التواب الرحيم".
وروي عن حذيفة أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرب لسانه على أهله، فقال:"أين أنت يا حذيفة من الممحاة؟ " قال: وما هي؟ قال: "الاستغفار، إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة"
(1)
. وقال عليه السلام لعائشة رضي الله عنها وقت الإفك: "إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه"
(2)
.
وروي أن التوبة (من الذنب)
(3)
: الندم والاستغفار، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان عليه السلام قبل أن يموت يكثر من قوله: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه". فسألته عن ذلك، فقال:"أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي، فإذا رأيتها أكثرت من ذلك، فقد رأيتها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1)} "
(4)
.
وقال أبو أيوب الأنصاري: ما من مسلم يقول: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. ثلاث مرات إلا غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر، وإن كان فر من الزحف. وكان ابن عمر رضي الله عنهما كثيراً ما يقول: الحمد لله وأستغفر الله. فقيل له في ذلك، فقال: إنما هي نعمة فأحمد الله عليها، أو خطيئة فأستغفر الله منها.
وقال عمر بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم كأنه في بستان فقلت له: أي عملك وجدت أفضل؟ قال: الاستغفار.
(1)
رواه ابن أبي شيبة 6/ 57 (29432)، والنسائي في "الكبرى" 6/ 117 وأبو نعيم في "حلية الأولياء" 1/ 276.
(2)
سلف برقم (2661) كتاب: الشهادات، باب: تعديل النساء بعضهن بعضًا، ورواه مسلم برقم (2770) كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك، وقبول توبة القاذف.
(3)
من (ص 2).
(4)
رواه مسلم (484) كتاب: الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود.
وروى أبو عثمان عن سلمان رضي الله عنه قال: إذا كان العبد يدعو الله في الرخاء فنزل به البلاء فدعا، قالت الملائكة: صوت معروف من امرئ ضعيف فيشفعون له. وإذا كان لا يكثر من الدعاء في الرخاء فنزل به البلاء فدعا، قالت الملائكة: صوت منكر من امرئ ضعيف فلا يشفعون له.
ولم يزد ابن التين في شرح هذا الحديث على أن قال: في بعض الأثر عنه عليه السلام "من استغفر الله تعالى سبعين مرة غفر له سبعمائة خطيئة"، وأي عبد أو أمة تذنب كل يوم سبعمائة ذنب؟
فائدة:
فوائد الاستغفار: محو الذنوب، وستر العيوب، وإدرار الرزق، وسلامة الخلق، والعصمة في المال، وحصول الآمال، وجريان البركة في الأموال، وقرب المنزلة من الديان، (فالثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور؛ ليزول الأثر؛ وتنشرح الصدور)
(1)
.
(1)
من (ص 2).
4 - باب التَّوْبَةِ
قَالَ قَتَادَةُ: {تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] الصَّادِقَةُ النَّاصِحَةُ.
6308 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ:«إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ على أَنْفِهِ. فَقَالَ بِهِ هَكَذَا -قَالَ أَبُو شِهَابٍ بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ- ثُمَّ قَالَ: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلاً وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي. فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ» . تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَجَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ. وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ: سَمِعْتُ الْحَارِثَ. وَقَالَ شُعْبَةُ وَأَبُو مُسْلِمٍ: عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ. [مسلم: 2744 - فتح 11/ 102]
6309 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنَا هُدْبَةُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ» . [مسلم: 2747 - فتح 11/ 102]
ذكر فيه حديثين:
أحدهما:
حديث أَبي شِهَابٍ -واسمه عبد ربه بن نافع الحناط المدائني، أصله كوفي، ومات بالموصل سنة إحدى أو اثنتين وسبعين ومائة، اتفقا عليه، وعلى عبد ربه بن سعيد، أخي يحيى بن سعيد، وانفرد مسلم بأبي نعامة عبد ربه، سعدي بصري. روى عن النهدي وأبي نضرة- عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ:"إِنَّ المُؤْمِنَ يَرى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِه، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا -قَالَ أَبُو شِهَابٍ بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ- ثُمَّ قَالَ: "لله أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ العبد مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي. فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ".
تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَجَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ. وَقَالَ (أَبُو أُسَامَةَ)
(1)
: ثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ: سَمِعْتُ الحَارِثَ. وَقَالَ شُعْبَةُ وَأَبُو مُسْلِمٍ وهو قائد الأعمش واسمه عبيد الله بن سعيد، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: ثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ.
(1)
في (ص 2)(أبو شامة).
الحديث الثاني:
حدثنا إِسْحَاقُ، ثَنَا حَبَّانُ، أيْ: بفتح الحاء والباء الموحدة، ثَنَا هَمَّامٌ، ثَنَا قَتَادَةُ، عن أَنَس بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنَا هُدْبَةُ، ثَنَا هَمَّامٌ، ثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لله أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ".
الشرح:
الكلام عليه من وجوه:
أحدها:
الذي رواه عن نفسه هو من أوله إلى قوله فوق أنفه، وإن كان روي رفعها، ولكنها واهية، كما نبه عليها أبو أحمد الجرجاني، والمرفوع من قوله:"لله أفرح" إلى آخره.
ومتابعة جرير وأبي أسامة. أخرجها مسلم عن عثمان وإسحاق عنهما، عن الأعمش ثنا الحارث بن سويد
(1)
.
وقال البزار: ثنا يوسف بن موسى، ثنا جرير، عن الأعمش، عن عمارة، عن الحارث، عن عبد الله، وعن الأسود بن يزيد، عن عبد الله بنحوه
(2)
.
(1)
مسلم (2744) كتاب التوبة، باب: في الحض على التوبة والفرح بها، وإسناد مسلم: قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا جرير عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الحارث بن سويد به.
وفي الأصل لم يذكر جرير وعمارة بن عمير. ولعله سقط.
(2)
"مسند البزار" 5/ 82 (1655).
ومتابعة أبي معاوية أخرجها النسائي عن أحمد بن حرب، عنه، عن الأعمش، عن عمارة، عن الحارث والأسود، وعن محمد بن عبيد بن محمد، عن علي بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث، عن عبد الله:"لله أفرح بتوبة عبده". الحديث
(1)
.
وأخرجه الترمذي، عن هناد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عمارة (بن عمير)
(2)
، عن الحارث بن سويد، ثنا عبد الله بحديثين الحديث، ثم قال: صحيح
(3)
.
ومتابعة أبي عوانة، أخرجها الإسماعيلي عن الحسن، ثنا محمد بن المثنى، ثنا يحيى بن حماد عنه.
ثانيها:
مراده بالناصحة التي لا مداهنة فيها، (وقد فسرها البخاري عن قتادة: بأنها الصادقة)
(4)
.
قال صاحب "العين": التوبة النصوحة: الصادقة
(5)
.
وقيل: إنما سيمت بذلك؛ لأن العبد ينصح فيها نفسه ويقيها النار؛ لقوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] وأصل نصوحًا: توبة منصوحًا فيها، إلا أنه أخبر عنها باسم الفاعل للنصح على ما ذكره سيبويه، عن الخليل، في قوله تعالى:{عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 11] أي: ذات رضا وذكر أمثلة لهذا كثيرة عن العرب، كقولهم: ليل نائم
(1)
"سنن النسائي الكبرى" 4/ 415 (7741 - 7742).
(2)
من (ص 2).
(3)
"سنن الترمذي"(2497 - 2498).
(4)
من (ص 2).
(5)
"العين" 3/ 119. وعبارته: التوبة النصوح: أن لا يعود إلى ما تاب عنه.
وهم ناصب، (أي: ينام فيه)
(1)
وينصب
(2)
، وكذلك توبة نصوحًا أي: ينصح فيها.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هي أن يتوب من الذنب ثم لا يعود.
وقال أبو إسحاق: بالغة في النصح، مأخوذ من النصح، وهي الخياطة كأن العصيان يخرق والتوبة ترقع.
والنصاح: الخيط الذي يخاط به، وقيل: مثله في الحديث الآخر: من اغتاب خرق، ومن استغفر رَفَأَ، وقيل: هو مأخوذ من: نصحت الإبل في الشرب أي قصدت.
وقرأ عاصم: (نُصوحًا) بضم النون
(3)
، أي: ذات نصح.
ومعنى "أفرح": أرضى بالتوبة، وأقبل لها.
والمهلَكة والمهلِكة: المفازة. قاله في "الصحاح"
(4)
.
ومعنى: "سقط على بعيره": عثر على موضعه وظفر به، ومنه قولهم: على الخبير سقطت.
وقوله (أضله) قال ابن السكيت: أضللت بعيري: إذا ذهب منى، وضللت المسجد والدار إذا لم تعرف موضعهما
(5)
، وكذلك كل شيء لا يهتدى له.
(1)
من (ص 2).
(2)
"الكتاب" لسيبويه 3/ 382.
(3)
قال في "الحجة للقراء السبعة" 6/ 303: أبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع: (توبة نُصُوحًا) بضم النون. وحفص عن عاصم: {تَوْبَةً نَصُوحًا} بفتح النون، وكذلك قرأ الباقون. وانظر:"الكشف عن وجوه القراءات السبع" 2/ 326.
(4)
"الصحاح" 4/ 1616 مادة [هلك].
(5)
"إصلاح المنطق" ص (268).
الثالث:
التوبة: فرض من الله على كل من علم من نفسه ذنبًا صغيرًا أوكبيرًا؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، وقال:{وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقال تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ على اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] فكل مذنب فهو عند مواقعة الذنب جاهل، وإن كان عالمًا، ومن تاب قبل الموت تاب من قريب.
وقال عليه السلام: "الندم توبة"
(1)
، وقال:"إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة" قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "يكون بين عينيه تائبًا منه فارًّا حتى يدخل الجنة"
(2)
.
وقال سفيان بن عيينة: التوبة نعمة من الله تعالى أنعم بها على هذِه الأمة دون غيرهم من الأمم، وكانت توبة بني إسرائيل القتل.
وقال الزهري: لما قيل لهم: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] قاموا صفين، وقتل بعضهم بعضًا حتى قيل لهم: كفوا فكانت لهم شهادة للمقتول وتوبة للحي، وإنما رفع الله عنهم القتل
(1)
رواه ابن ماجه (4252)، وأحمد 1/ 376 (3568)، والبزار 5/ 310 (1926)، والطبراني في "الأوسط" 7/ 44 (6799)، والحاكم 4/ 243 (7612)(7613)، والبيهقي في "الشعب" 5/ 386 (7029)، وفي "السنن الكبرى" 10/ 154 (20558) من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد بن أبي مريم، عن عبد الله بن معقل، عن ابن مسعود مرفوعًا، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذِه اللفظة، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه"(3429).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد" ص (52)(162) عن ابن فضالة عن الحسن مرسلاً، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(1503).
لما بذلوا المجهود في قتل أنفسهم، فما أنعم الله على هذِه الأمة نعمة بعد الإسلام، هي أفضل من التوبة.
إن الرجل ليفني عمره، وما أفنى منه في المعاصي والآثام، ثم يندم على ذلك ويقلع عنه فيحطها الله عنه، ويقوم وهو حبيب الله. قال تعالى:{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] وقال عليه السلام "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"
(1)
.
وقال ابن المبارك: حقيقة التوبة لها ست علامات:
أولها: الندم على ما مضى، الثانية: العزم على ألا يعود، والثالثة: أن (يعمد)
(2)
إلى كل فرض ضيعه فيؤديه، والرابعة: أن يعمد إلى مظالم العباد فيؤدي إلى كل ذي حق حقه، والخامسة: أن تعمد إلى (البدن)
(3)
الذي ربيته بالسُحت والحرام فتذيبه بالهموم، والأحزان، حتى يلصق الجلد بالعظم، ثم تنشئ بينهما لحمًا طيبًا، إن هو نشأ. والسادسة: أن تذيق البدن ألم الطاعة كما أذقته لذة المعصية.
وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما (قال)
(4)
: كم من تائب يرد يوم القيامة يظن أنه تائب وليس بتائب؛ لأنه لم يحكم أبواب
(1)
رواه ابن ماجه (4250)، والطبراني 10/ 150 (10281). وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 210، والقضاعي في "مسند الشهاب" 1/ 97 (108)، والبيهقي في " السنن الكبرى" 10/ 154 من طريق وهيب بن خالد، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه مرفوعًا، وقد ذكره الهيثمي في "المجمع" 10/ 200 (17526) وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، وحسنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه"(3427).
(2)
في (ص 2)(يعود).
(3)
من (ص 2).
(4)
من (ص 2).
التوبة
(1)
، وقال عبد الله بن سميط: ما دام قلب العبد مصرًّا على ذنب واحدٍ فعمله معلق في الهواء، فإن تاب من ذلك الذنب وإلا بقي عمله أبدًا معلقًا. وروى الأصيلي عن أبي القاسم يعقوب بن محمد بن صالح (المصري)
(2)
إلى عبد الوهاب، عن محمد بن زياد، عن علي ابن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: إذا تاب عبدي إلىّ نسَّيت جوارحه ونسَّيت البِقَاع ونسَّيت حافظيه حتى لا يشهدوا عليه"
(3)
.
فصل:
وفي حديث ابن مسعود الذي حدث عن نفسه أنه ينبغي لمن أراد أن يكون من جملة المؤمنين أن يخشى ذنوبه؛ ويعظم خوفه منها ولا يأمن عقاب الله تعالى فيستصغرها، فإن الله (يعاقب)
(4)
على القليل وله الحجة البالغة في ذلك.
فصل:
أسلفنا معنى فرح الربِّ جل جلاله بتوبة العبد، وهو ما صرح به ابن فورك، حيث قال: الفرح في كلام العرب بمعنى السرور، من ذلك قوله:{وَفَرِحُوا بِهَا} [يونس: 22] أي: سُرُّوا، ولا يليق ذلك بالله؛ لا يقتضي جواز الحاجة (عليه)
(5)
ونيل المنفعة، وبمعنى البطر والأشر ومنه:{إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] وبمعنى: الرضى من
(1)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 436 (7179).
(2)
في (ص 2) البصري.
(3)
لم أقف عليه.
(4)
في (ص 2): (يعذب).
(5)
من (ص 2).
قوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] أي: راضون، ولما كان من يُسَرُّ بالشيء قد رضيه، قيل: إنه فرح به على معنى أنه به راضٍ، وعلى هذا تتأول الآثار؛ لأن البطر والسرور لا يليقان بالرب جل جلاله
(1)
.
فصل:
للتوبة أركان: الندم على ما وقع، والعزم على ألا تعود، والإقلاع عن المعصية، فإن تعلقت بآدمي (توقف على)
(2)
استحلاله منه، وهي فرض على الإنسان إجماعًا في كل وقت وآن، ومن كل ذنب أو غفلة أو تقصير في كمال. وما منا أحد خلا من ذلك بالقلب والجوارح (واللسان)
(3)
، وأصلها الرجوع، وعلامتها حسن الحال، وصدق المقال، وخلق الله لها في الحال، (وتجب في)
(4)
الحرام، وتستحب في المكروه، وتوبة الزهاد عن الشهوات، والمقربين عن الشبهات. فمن لطفه بنا توبة من قبلنا بالقتل بالمحدد، وتوبتنا بإظهار الندم والتجلد، وتلك في لحظة، وتوبتنا مستمرة ولله الحمد.
(1)
"مشكل الحديث وبيانه" لابن فورك ص (202 - 204).
وابن فورك من غلاة أهل التأويل، وقد تقدم التعليق على كلامه هذا مرارًا وسيأتي بتفصيل أكثر في شرحه لكتاب التوحيد من "صحيح البخاري".
وخلاصة القول أن مذهب السلف إثبات صفات الله عز وجل دون تأويل، أو تمثيل أو تشبيه أو تعطيل والاشتراك اللفظي لصفة المخلوق مع صفة الخالق لا يستلزم المشابهة.
(2)
في الأصل (جاز).
(3)
في (ص 2)(والمسالك) وفي حاشية الأصل: في الأصل والمسالك.
(4)
في الأصل: (تجنب).
وفي التوبة والاستغفار معنى لطيف؛ وهو استدعاء محبة الله كما سلف، لا جرم جرى عليها السلف والخلف، والأنبياء أكثروا منها، ومن الاستغفار، والأوبة والإنابة في كل حين، والبراءة من الحوبة استدعاء للمحبة، والاستغفار فيه معني التوبة: قال {لَقَدْ تَابَ اللهُ على النَّبِيِّ} [التوبة: 117]. {وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3].
5 - باب الضَّجْعِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ
6310 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ على شِقِّهِ الأَيْمَنِ، حَتَّى يَجِئَ الْمُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ. [انظر: 626 مسلم: 724، 736 - فتح 11/ 108]
بفتح
(1)
الضاد وإسكان الجيم، ضجع الرجل: وضع جنبه بالأرض يضجع ضجعًا وضجوعًا فهو ضاجع، ومن العرب من يزعم فيقول: اضطجع. وحكي الطَجع (باللام)
(2)
كراهة الجمع بين حرفين مطبقين، فيبدل مكان الضاد أقرب الحروف إليها وهي اللام.
ثم ساق حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها السالف: كَانَ عليه السلام يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِحْدى عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَإِذَا طَلَعَ الفَجْرُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، حَتَّى يَجِيءَ المُؤَذِّنُ فَيُؤْذِنَهُ
(3)
.
الشرح:
هذِه هيئة من الهيئات كان يفعلها عليه السلام -والله أعلم- للأرفق به في الاضطجاع، وإن كان يفعلها لفضل (الميامن)
(4)
على المياسر -ذكره ابن بطال -وهو مباح ليس من باب الوجوب
(5)
.
(1)
بهامش الأصل: لعله سقط: هو، يعني قبل قوله:(بفتح).
(2)
من (ص 2).
(3)
سلف برقم (626) كتاب: الآذان، باب: من انتظر الإقامة.
(4)
في الأصل (المنام).
(5)
"شرح ابن بطال" 10/ 82.
6 - باب إِذَا بَاتَ طَاهِرًا وفضله
6311 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ مَنْصُورًا، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ» . فَقُلْتُ: أَسْتَذْكِرُهُنَّ: وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. قَالَ: «لَا، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» . [انظر: 247 - مسلم: 271 - فتح 11/ 109]
ساق فيه حديث البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وجهي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَهْبَةً وَرَغْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الفِطْرَةِ، واجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَقُولُ". فَقُلْتُ: أَسْتَذْكِرُهُنَّ: وَبِرَسُولِكَ الذِي أَرْسَلْتَ. قَالَ: "لَا، وَبِنَبِيِّكَ الذِي أَرْسَلْتَ".
هذا الحديث أخرجه البخاري، عن مسدد، ثنا (معتمر)
(1)
سمعت منصورًا، عن سعد بن عبيدة، حدثني البراء رضي الله عنه.
قال الإسماعيلي: ورواه إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن الحكم، عن سعد بن عبيدة.
ومعنى: "إذا أتيت مضجعك" يعني: إذا أردت النوم فيه، وهو بفتح
(1)
في الأصل: (معمر) والصواب ما أثبتناه.
الميم، والمقصود: النوم على طهارة، فإن كان على طهارة كفاه، وفائدته: مخافة أن يموت في ليلته فيموت على طهارة؛ لأنه أصدق لرؤياه، وأبعد من لعب الشيطان به في منامه، وترويعه إياه.
وقد بين ابن عباس معنى المييت على طهارة، فيما ذكره عبد الرزاق، عن أبي بكر بن عيَّاش، قال: أخبرني أبو يحيى أنه سمع مجاهدًا يقول: قال لي ابن عباس: لا تنامَنَّ إلا على وضوء؛ فإن الأرواح تبعث على ما قبضت عليه
(1)
.
وهذا معنى قوله: "فإن مت مت على الفطرة".
وذكر عن الأعمش أنه قال: ثم تيمم بالجدار، فقيل له في ذلك، فقال:(إني)
(2)
أخاف أن يدركني الموت، قبل أن أتوضأ
(3)
.
وعن الحكم بن عتيبة أنه سأله رجل: أينام الرجل على غير وضوء؟ قال: يكره ذلك، وإنا لنفعله
(4)
.
وروى معمر، عن سعيد الجُريري، عن أبي السليل، عن أبي توبة العجلي، قال: من أوى إلى فراشه طاهرًا أو نام ذاكرًا، كان فراشه مسجدًا، وكان في صلاة أو ذكر، حتى يستيقظ
(5)
.
وقال طاوس: من بات على طُهرٍ وذِكرٍ، كان فراشه له مسجدًا حتى يصبح. ومثل هذا لا يدرك بالرأي، وإنما يؤخذ بالتوقيف.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 39 (19844).
(2)
من (ص 2).
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 38 (19843).
(4)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 38 (19842).
(5)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 37 (19837).
فصل:
والاضطجاع على الشق الأيمن لشرفه، وقد كان يحب التيامن
(1)
، ولأنه أسرع إلى الانتباه.
فصل:
وقوله: "أسلمت وجهي إليك" روي: "نفسي"
(2)
أي: استسلمت وجعلت نفسي منقادة لك طائعة لحكمك، والوجه والنفس هنا بمعنى الذات كلها يقال: أسلم ويسلم واستسلم بمعنى.
ومعنى: "ألجأت ظهري إليك": توكلت عليك واعتمدتك في أمري كله، كما يعتمد الإنسان بظهره إلى ما يسنده.
وقوله: "رغبة ورهبة" أي: طمعًا في ثوابك وخوفًا من عقابك، و"الفطرة": الإسلام.
فصل:
واختلف العلماء في سبب إنكاره على قائل: (وبرسولك) فقيل: لأن قوله: (وبرسولك) يحتمل غيره من حيث اللفظ كجبريل وغيره من الملائكة. وفيه بُعد؛ لأن الرسول يتضمن النبوة. واختيار المازري
(3)
(1)
روي ذلك عن عائشة فيما سلف برقم (426)، ورواه مسلم (268).
(2)
رواية هذا الباب في المطبوع من "صحيح البخاري": (أسلمت نفسي)، إلا أنه جاء في بعض النسخ في هذا الموضع:(أسلمت وجهي) كما ذكر المصنف وهي رواية أبي ذر الهروي، والحديث سلف برقم (247)، ورواه مسلم 2710/ 56 بلفظ:"أسلمت وجهي".
وسيأتي برقم (6313، 6315، 7488)، ورواه مسلم (2710/ 57) بلفظ:(أسلمت نفسي).
(3)
"المعلم بفوائد مسلم" 2/ 408.
وغيره؛ أن سببه أنه ذِكرٌ ودعاءٌ فينبغي فيه الاقتصار على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء
(1)
بالحروف
(2)
، ولعله أوحي إليه هذِه الكلمات، فيتعين أداؤها بحروفها. وقيل: لأن قوله: ("ونبيك الذي أرسلت") فيه جزالة من حيث صنعة الكلام، وفيه جمع للنبوة والرسالة فإذا غيره فات هذان الامران مع ما فيه من تكرير لفظ رسول وأرسلت، وأهل البلاغة يعيبونه، والمعروف أن الرسالة من لوازمها النبوة بخلاف العكس.
وقال الداودي: في الأول جمع بينهما بخلاف ما إذا قال: (ورسولك) وقد ذكر الله بقوله: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 51] قال: ويظهر لي ثم ذكر الأول.
فصل:
واحتج بعض العلماء بهذا الحديث على منع الرواية بالمعنى، وأجاب المجوزون عنه بأن المعنى يختلف. ولا خلاف في المنع إذا اختلف المعنى.
(1)
في هامش الأصل: كذا في الأصل: بتلك وأنا زدت الباقي: (بالحروف).
(2)
في (ص 2) بتلك الحروف.
7 - باب مَا يَقُولُ إِذَا نَامَ
6312 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: «بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا» . وَإِذَا قَامَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» . [6314، 6324، 7394 - فتح 11/ 113]
6313 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلاً. وَحَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -أَوْصَى رَجُلاً فَقَالَ:«إِذَا أَرَدْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ» . [انظر: 247 - مسلم: 2710 - فتح 11/ 113]
ذكر فيه حديث حُذَيْفَةَ بن اليماني رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: "بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا". وَإِذَا قَامَ قَالَ: "الْحَمْدُ لله الذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ".
ثم ذكر حديث البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً وفي لفظ عن أبي إسحاق الهمداني عنه أنه عليه السلام أَوْصَى رَجُلًا فَقَالَ: "إِذَا أَرَدْتَ مَضْجَعَكَ فَقُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ (نَفْسِي)
(1)
إِلَيْكَ.
الحديث، بزيادة:"وجهت وجهي إليك" ومعنى أوى: انضم، مقصور
(2)
.
(1)
في (ص 2): وجهي.
(2)
ورد بهامش الأصل: حاشية إذا كان أوى لازمًا فالأصح فيه القصر. وإذا كانا متعديًا فالأصح فيه المد. هذِه لغات القرآن.
وقوله في الحديث (الآخر)
(1)
: "وآوانا" ممدود، هذا هو الصحيح المشهور، وحكي القصر والمد فيهما. وقوله:"باسمك أموت وأحيا" معناه: بذكر اسمك أحيا ما حييت، وعليه أموت، وقيل معناه: بك أحيا، أنت تحييني وأنت تميتني، والاسم هنا هو المسمى.
والمراد بالموت هنا: النوم، والنشور: هو الإحياء للبعث يوم القيامة، نبه بإعادة اليقظة بعد النوم الذي هو موت على إثبات البعث بعد الموت.
وحكمة الدعاء عند إرادة النوم -وهو مستحب- أن يكون خاتمة أعماله، وإذا أصبح أن يكون أول عمله بذكر التوحيد والكلم الطيب.
وآخر شيء أنت أول هجعةٍ
…
وأول شيء أنت عند هبوبي
وقد قال: "واجعلهن آخر ما تقول"
(2)
أي: لا تتكلم بعدهن بشيء من أحاديث الدنيا دليل خاتمة عملك، ألا ترى قوله:"فإن مت مت على الفطرة".
(1)
من (ص 2).
(2)
سلف قريبًا برقم (6311) باب: إذا بات طاهرًا وفضله.
8 - باب وَضْعِ اليَدِ تَحْتَ الخَدِّ الأَيْمَنِ
6314 -
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا» . وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» . [انظر: 6312 - فتح 11/ 115]
ذكر فيه حديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ خَدِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا". وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: "الْحَمْدُ لله الذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ".
سلف حديث حذيفة قريبًا
(1)
، وساقه هنا؛ لأجل الزيادة، وهي: وضع اليد تحت الخد، ويحتمل أن يكون ذلك منه تذللًا واستشعارًا بحال الموت، وتمثيله لنفسه لتتأسى أمته بذلك، ولا يأمنوا هجوم الموت عليهم في حال نومهم، ويكونوا على أهبة من مفاجأته فيتأهبوا له في يقظتهم وجميع أحوالهم؛ ألا ترى قوله عند ذلك:"أموت وأحيا"، إلى آخره.
لكنه لم يذكر فيه: الأيمن. قال الإسماعيلي: ليس في حديث أبي عوانة ذلك، وإنما هو تحت خده، وعلى خده. وقد ترجم البخاري بهذا، وهذا إنما ذكره محمد بن جابر وشريك، عن عبد الملك بن عمير فيما أعلم.
(1)
سلف برقم (6312) باب: ما يقول إذا نام.
9 - باب النَّوْمِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ
6315 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا العَلَاءُ بْنُ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِى إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ". وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَهُنَّ ثُمَّ مَاتَ تَحْتَ لَيْلَتِهِ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ» . {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف:116] مِنَ الرَّهْبَةِ، مَلَكُوتٌ مُلْكٌ مَثَلُ: رَهَبُوتٌ خَيْرٌ مِنْ رَحَمُوتٍ، تَقُولُ: تَرْهَبُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرْحَمَ. [انظر: 247 - مسلم: 2710 - فتح 11/ 115]
ذكر فيه حديث العَلَاءِ بْنِ المُسَيَّبِ، عن أبيه، عَنِ البَرَاءِ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوى إِلَى فِرَاشِهِ نَامَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ".
الحديث كما سلف
(1)
، وفي آخره: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قالهن ثم مات تحت ليلته، مات على الفطرة".
({وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} من الرهبة. ملكوت: مثل: رهبوت خير من رحموت تقول: ترهب خير من أن ترحم). وقد سلف فقهه وحكمته.
(1)
سلف قريبًا برقم (6313)، باب: ما يقول إذا نام.
10 - باب الدُّعَاءِ إِذَا انْتَبَهَ من اللَّيْلِ
6316 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى حَاجَتَهُ، غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى القِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ وُضُوءَيْنِ لَمْ يُكْثِرْ وَقَدْ أَبْلَغَ، فَصَلَّى، فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَتَّقِيهِ، فَتَوَضَّأْتُ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِأُذُنِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلَاتُهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ -وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ- فَآذَنَهُ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ:«اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِى نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِى نُورًا، وَفَوْقِى نُورًا، وَتَحْتِى نُورًا، وَأَمَامِى نُورًا، وَخَلْفِى نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا» . قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعٌ فِي التَّابُوتِ. فَلَقِيتُ رَجُلاً مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ، فَذَكَرَ عَصَبِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعَرِي وَبَشَرِي، وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ. [انظر: 117 - مسلم: 304، 763 - فتح 11/ 116]
6317 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ" -أَوْ- "لَا إِلَهَ غَيْرُكَ". [انظر: 1120 - مسلم: 769 - فتح 11/ 116]
ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: بِتُّ عِنْدَ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها -
وحديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ".
وقد سلفا في الصلاة
(1)
.
وكان عليه السلام يدعو في أوقات ليله ونهاره، وعند نومه ويقظته بنوع من الدعاء يصلح لحاله تلك ولوقته ذلك، فمنها: أوقات كان يدعو فيها، ويعين له ما يدعو فيه في أوقات الخلوة، وعند فراغ باله، وعلمه بأوقات الغفلة التي يرجى فيها الإجابة، فكان يلح عند ذلك، ويجتهد في دعائه، ألا ترى سؤاله أنه حين انتبه من نومه أن يجعل في قلبه نورًا، وفي بصره نورًا، وفي سمعه نورًا، وجميع جوارحه؟! ومنها: أوقات كان يدعو فيها بجوامع الدعاء ويقتصر على المعاني دون تعيين وشرح، فينبغي الاقتداء به في دعائه في تلك الأوقات والتأسي به في كل الأحوال.
فصل:
قوله في آخر حديث ابن عباس رضي الله عنهما الأول بعد قوله: "واجعل لي نورًا": (قال كريب: وسبع في التابوت. فلقيت رجلاً من ولد العباس فحدثني بهن فذكر: عصبي، ودمي، ولحمي، وشعري، وبشري، وذكر خصلتين). يعني أنه أنسي سبع خصال من الحديث على ما يقال لمن لم يحفظ العلم: علمه في التابوت، وعلمه مستودع في الصحف. وليس كريب القائل:(فلقيت رجلاً). وإنما قاله سلمة بن كهيل الراوي عن كريب: سأل (العباسي)
(2)
عنهن حين
(1)
الأول سلف برقم (697)، باب: يقوم عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كان اثنين، والثاني سلف برقم (1120)، باب: التهجد بالليل.
(2)
في (ص 2): ابن عباس.
نسيهن كريب، فحفظ سلمة منهن خمسًا ونسي أيضًا خصلتين، كذا في ابن بطال أنه سأل العباسي، والذي في البخاري ما سلف. قال: وقد وجدت الخصلتين (من)
(1)
رواية داود بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه وهما:"اللهم اجعل نورًا في عظامي، ونورًا في قبري"
(2)
.
وقال الداودي أيضًا: قوله: (وسبع في التابوت). يقول: هن في صحيفة في تابوت ولد العباس وأتى بهن كناية جعلهن جوارح قال: والخصلتان العظم والمخ، وقيل: يريد: (في تابوت). أي: في صدره.
فصل:
قوله: (فتمطيت كراهية أن يرى أني كنت أتقيه). وذكره ابن بطال بلفظ: أبغيه. بالغين المعجمة، ثم قال: التمطي: التمدد أي: تمددت، فظهر استيقاظه حينئذٍ، (أرتقبه)
(3)
: أرصده، قال الخليل
(4)
: يقال: بغيت الشيء أبغيه: إذا نظرت إليه ورصدته.
وإنما فعل ابن عباس ذلك ليُري رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أنه كان نائمًا، وأنه لم يرصده؛ إذ كل أحد إذا خلا في بيته قد يأتي من الأفعال ما يحب ألا يطلع عليه أحد، وإنما حمل ابن عباس على ذلك الحرصُ على التعليم ومعرفة حركاته عليه السلام في ليله، وقد أسلفنا في الصلاة أن العباس والده كان أوصاه بذلك
(5)
.
(1)
في (ص 2): في.
(2)
"شرح ابن بطال" 10/ 85 - 86.
(3)
كذا في الأصل.
(4)
"العين" 8/ 453.
(5)
"شرح ابن بطال" 10/ 86 - 87.
وذكره ابن التين بلفظ: (أبقيه)
(1)
كما أسلفناه بالقاف، وقال: قال أبو سليمان: أي: أرقبه وأنتظره، قال: يقال: أبقيت الشيء أبقيه بقيا
(2)
. قال: وذكره الشيخ أبو الحسن في روايته بالغين من بغيت الشيء إذا طلبته.
فصل:
فيه: الحرص على التعليم، والرفق بالعلماء، وترك التعرض إلى ما يعلم أنه يشق عليهم.
فائدة:
روى الطبري عن معقل بن يسار، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (أنه عليه السلام)
(3)
قال: "الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل" فقلت: يا رسول الله، فكيف المنجا أو المخرج من ذلك؟ قال:"ألا أعلمك شيئًا إذا فعلته برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره؟ " قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: "قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك (شيئًا)
(4)
وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم، تقولها ثلاث مرات"
(5)
.
(1)
كذا في الأصل و"أعلام الحديث" وفي اليونينية 8/ 69: (أتنبه) وبهامشها: (أتقيه) كذا في "الفتح" وعزاه للنسفي وطائفة، وقال الخطابي: أي أرتقبه وفي رواية: (أُنَقِّبُهُ) من التنقيب، وهو التفتيش، وفي رواية القابسي (أبغيه) أي: أطلبه وللأكثر (أرقبه)، وهو الأوجه اهـ قسطلاني. و (أرقبه) رواية أبي عمر.
(2)
"أعلام الحديث" 3/ 2239.
(3)
ساقطة من الأصل.
(4)
ساقطة من الأصل.
(5)
انتهى من "شرح ابن بطال" 10/ 87 والحديث رواه البخاري في "الأدب المفرد"(716) قال: حدثنا عباس النرسي قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا ليث قال: أخبرني رجل من أهل البصرة قال: سمعت معقل بن يسار .. فذكره. =
فصل:
في ألفاظ وقعت في الحديث الأول: شناق القربة ما تشد به من رباط أو سير أو خيط ونحوه، وقوله:(فتتامت)، قال الداودي: تقول (تأملت ورعيت)
(1)
. والعصب بفتح الصاد جمع عصبة، وهي: أطناب المفاصل.
فصل:
قوله في حديثه الثاني: (إذا قام من الليل يتهجد) أي: يصلي. هذا هو المراد، وقال ابن التين: أي: يسهر، وهو من الأضداد يقال: هجد وتهجد إذا نام، وهجد وتهجد إذا سهر. قاله الجوهري
(2)
، وقال الهروي: تهجد إذا سهر وألقى الهجود -وهو النوم- عن نفسه، وهجد: نام. وقال النحاس: التهجد عند أهل اللغة: السهر، والهجود: النوم
(3)
. وقال ابن فارس الهاجد: النائم، والمتهجد: المصلي ليلاً
(4)
.
= ورواه أبو يعلى في "مسنده" 1/ 61 (59) دال: حدثنا عمرو بن الحصين، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي محمد، عن معقل ابن يسار .. فذكره، قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 224: رواه أبو يعلى، عن شيخه عمرو بن الحصين العقيلي، وهو متروك.
(1)
كذا بالأصول، ولعل هناك سقطًا أو وهمًا؛ لأن (تتامت) بمعنى: تكاملت، كما في "صحيح مسلم"(763) في رواية شعبة عن سلمة، والله أعلم.
(2)
"الصحاح" 2/ 555 مادة [هجد].
(3)
"معاني القرآن الكريم" 4/ 184.
(4)
"مجمل اللغة" 2/ 899 مادة [هجد].
11 - باب التَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ المَنَامِ
6318 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ فَاطِمَةَ عليهما السلام شَكَتْ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَلَمْ تَجِدْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ. قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ أَقُومُ، فَقَالَ:«مَكَانَكِ» . فَجَلَسَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ:«أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ؟ إِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا -أَوْ أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا- فَكَبِّرَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَهَذَا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» . وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ. [انظر: 3113 - مسلم: 2727 -
فتح 11/ 119]
ذكر فيه حديث عَلِيٍّ، أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها اشَتكَتْ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، فَأَتَت رسول الله صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا، الحديث وفيه:"فَكَبِّرَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فهذا خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ".
وقال ابن سِيرِينَ: التَّسْبِيحُ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ.
وهذا (نوع)
(1)
من الذكر عند النوم غير ما سلف في حديث البراء وحديث حذيفة والأحاديث الأخر.
وقد يمكن أن يكون عليه السلام يجمع ذلك كله عند نومه، وقد يمكن أن يقتصر على بعضها؛ إعلامًا (لأمته)
(2)
أن ذلك معناه الحض والندب لا الوجوب والفرض.
(1)
في (ص 2): (فرع).
(2)
في (ص 2): من أمته.
وفيه: حجة لمن فضل الفقر على الغنى حيث قال: ("ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم") فعلمهما الذكر، ولو كان الغنى أفضل من الفقر لأعطاهما الخادم، وعلمهما الذكر، فلما منعهما الخادم، و (قصرهما)
(1)
على الذكر خاصة علم أنه إنما اختار لهما الأفضل عند الله.
ولم يزد ابن التين في شرح هذا الحديث على قوله: فجاء وقد أخذنا مضاجعنا لعله كان قبل نزول آية الاستئذان.
(1)
في (ص 2): بصرهما.
12 - باب التَّعَوُّذِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَ المَنَامِ
6319 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِي يَدَيْهِ، وَقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ. [انظر: 5017 - فتح 11/ 125]
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنه صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ نَفَثَ فِي يَدَيْهِ، وَقَرَأَ بِالْمُعَوِّذَاتِ، وَمَسَحَ بِهِمَا جَسَدَهُ.
13 - باب
6320 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِى، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ» . تَابَعَهُ أَبُو ضَمْرَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ. وَقَالَ يَحْيَى وَبِشْرٌ: عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [7393 - مسلم: 2714 - فتح 11/ 125]
ذكر فيه حديث زُهَيْرٍ، ثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَوى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عبادك الصَّالِحِينَ". تَابَعَهُ أَبُو ضَمْرَةَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ. وَقَالَ يَحْيَى وَبِشْرٌ: عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
كذا هو في الأصول: باب. ولم يترجم له، وابن بطال أدخله في الباب الأول
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 10/ 88 - 89.
ومتابعة أبي ضمرة: أخرجها مسلم، عن إسحاق بن موسى، عن أنس بن عياض -هو أبو ضمرة- ثنا عبيد الله
(1)
.
ومتابعة ابن عجلان أخرجها الترمذي، عن ابن أبي عمر، عن سفيان
(2)
. والنسائي عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، كلاهما عن ابن عجلان، عن سعيد به، وقال الترمذي: حديث حسن
(3)
.
ومتابعة يحيى أخرجها النسائي عن عمرو بن علي وابن المثنى عنه
(4)
. و (بشر) هذا هو ابن المفضل بن لاحق الرقاشي.
ومتابعة مالك أخرجها الدارقطني
(5)
في كتابه حديث مالك "الغرائب"، عن أبي بكر النيسابوري إلى عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال: حدثني (عبد)
(6)
الله بن عمر العمري، ومالك بن أنس، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أتى أحدكم فراشه فلينفضه بصنفة ثوبه ثلاث مرات فإنه لا يدري ما خلفه عليه". الحديث، قال: ومالك لم يذكر في حديثه: "ما خلفه عليه". ثم قال: هذا حديث غريب من حديث مالك عن المقبري، عن أبي هريرة، ولا أعلم أسنده عنه غير الأويسي. ورواه إبراهيم بن طهمان عن مالك مرسلًا عن سعيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وقال لنا أبو بكر النيسابوري: هذا حديث صحيح عن المقبري.
(1)
مسلم (2714)، كتاب: الذكر والدعاء، باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.
(2)
"سنن الترمذي"(3401).
(3)
"سنن النسائي الكبرى" 6/ 222 (10726).
(4)
"سنن النسائي الكبرى" 6/ 198 (10628).
(5)
في هامش الأصل: هامة: أخرجها البخاري في التوحيد، فلا حاجة إلى إبعاد النجعة. [وقلت (المحقق): سيأتي برقم (7393) كما ذكر الناسخ.]
(6)
في (ص 2): (عبيد).
وأما (عبيد)
(1)
الله بن عمر فاختلفت عليه فئة، فرواه عنه جماعة من أصحابه منهم: أبو بدر شجاع بن الوليد، وعبد الله بن رجاء، وعباد بن عباد المهلبي -واختلف عنه- وحسن بن صالح، وهريم بن سفيان، وجعفر بن زياد الأحمر، وخالد بن حميد، فرووه عن عبيد الله، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة. وخالفهم هشام بن حسان ومعتمر بن سليمان، وعبد الله بن كثير وغيرهم، فرووه عن عبيد الله عن سعيد، عن أبي هريرة، كما رواه مالك.
ورواه النسائي عن محمد بن حاتم، عن سويد، عن ابن المبارك، عن عبيد الله، عن سعيد، عن أبي هريرة قولُهُ، ولم يرفعه
(2)
.
ومتابعة إسماعيل بن زكريا رواها الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" عن يونس بن محمد عنه، وقال الإسماعيلي: رواه عبد الله بن رجاء المكي، سمعت إسماعيل بن أمية، وعبيد الله بن عمر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه -أو عن أخيه- عن أبي هريرة؛ أخبرنيه هارون بن يوسف، ثنا ابن أبي عمر، ثنا ابن رجاء به. قال: وقال هشام بن حسان، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وبشر بن المفضل، وابن المبارك، غير مرفوع. ويحيى بن سعيد، وابن نمير، وكلهم قال: عن سعيد، عن أبي هريرة. ولم يذكروا أباه.
فصل:
وهذِه أنواع أخر غير ما مر من الأحاديث المتقدمة، وفيها استسلام لله عز وجل وإقرار له بالإحياء والإماتة. وهي حديث عائشة رضي الله عنها رد
(1)
عليها في الأصل: كذا.
(2)
"سنن النسائي الكبرى" 6/ 198 (10630).
قول من زعم أنه لا يجوز الرقى واستعمال العوذ إلا عند حلول المرض، ونزول ما يتعوذ بالله منه، ألا ترى أنه عليه السلام نفث في يده، وقرأ المعوذات، ومسح بهما جسده، واستعاذ بذلك من شر ما يحدث عليه في ليلته مما يتوقعه، وهذا من أكبر الرقى.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أدب عظيم علمه الشارع أمته، وذلك أمره بنفض فراشه عند النوم، خشية أن يأوي إليه بعض الهوام الضارة فتؤذيه بسُمِّها.
فصل:
قوله: ("فلينفض فراشه بداخلة إزاره") يريد: بطرف الإزار، ومعناه: استحباب ذلك قبل أن يدخل في الفراش، لئلا يكون فيه حية أو عقرب أو شبههما من المؤذيات، ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره، لئلا يحصل في يده مكروه، إن كان هناك.
وقال الداودي: هو طرف المئزر؛ لأنه يستر الثياب، فيتوارى بما يناله من الوسخ، وإذا قال ذلك بكمه صار غير لون الثياب، والله يحب إذا عمل العبد عملًا أن يحسنه
(1)
.
وفي "الصحاح": داخلة الإزار: أحد طرفيه الذي يلي الجسد
(2)
. وقيل: داخل الإزار: هو الطرف المتدلي الذي يضعه المؤتزر، أو الذي
(1)
روى أبو يعلى 7/ 349 (4386)، والطبراني في "الأوسط" 1/ 275 (897)، والبيهقي في "الشعب" 4/ 334 - 335 (5312، 5314) من طريق مصعب بن ثابت، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا:"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه".
وصححه الألباني في "الصحيحة"(1113).
(2)
"الصحاح" 4/ 1696، مادة:[دخل].
يفضي إلى جلده على حقوه الأيمن. قاله ابن حبيب وغيره، وقال مالك: داخلة الإزار التي تحت الإزار وما يلي الجسد.
فصل:
وقوله: ("نفث"). قال أبو عبيد: النفث بالفم شبيه بالنفخ، وأما التفل فلا يكون إلا ومعه شيء من الريق
(1)
. وكذا قال الجوهري: النفث شبيه بالنفخ، وهو أقل من التفل
(2)
.
فصل:
والمعوذات بكسر الواو، قال الداودي: هن: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)} ، والفلق، والناس. وقال: وسمين معوذات؛ لما في الثنتين من التعوذ، فجعل القليل تبعًا للكثير، ويحتمل أن يكون عبر عن التثنية بالجمع، وذلك جائز شائع.
فصل:
قال الشيخ أبو محمد: في دعائه عليه السلام عند النوم يضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، واليسرى على خده الأيسر، ثم يقول هذا الدعاء. وزاد بعد قوله:"الصالحين من عبادك": "اللهم إني أسلمت نفسي إليك". إلى آخره، قال: ثم يقول: "وقني عذابك يوم تبعث عبادك"
(3)
يرددها.
(1)
"غريب الحديث" 1/ 180.
(2)
"الصحاح" 1/ 295، مادة:[نفث].
(3)
رواه مسلم برقم (709) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب يمين الإمام عن البراء بن عازب.
14 - باب الدُّعَاءِ نِصْفَ اللَّيْلِ
6321 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الأَغَرِّ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ وَمَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» . [انظر: 1145 - مسلم: 758 - فتح 11/ 128]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ ".
هذا وقت شريف مرغب فيه، خصه الله تعالى بالتنزل فيه، وتفضل على عباده بإجابة من دعا فيه وإعطاء من سأله؛ إذ هو وقت خلوة وغفلة واستغراق في النوم واستلذاذ له، ومفارقة الدعة واللذة صعب على العباد لا سيما لأهل الرفاهية في زمن البرد، ولأهل التعب والنصب في زمن قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه والتضرع إليه في غفران ذنوبه وفكاك رقبته من النار وسأله التوبة في هذا الوقت الشاق على خلوة نفسه ولذتها ومفارقة دعتها وسكنها فذلك دليل على خلوص نيته وصحة رغبته فيما عند ربه، فضمنت له الإجابة التي هي مقرونة بالإخلاص وصدق النية في الدعاء، إذ لا يقبل الله دعاء من قلب غافل لاهٍ
(1)
.
(1)
فروى الترمذي (3479)، والطبراني في "الأوسط" 5/ 211 (5109) من طريق صالح المري عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعاً:"ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة. واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ". والحديث رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 493 وقال: حديث مستقيم الإسناد، =
وقد أشار عليه السلام إلى هذا المعنى بقوله: "والصلاة بالليل والناس نيام"
(1)
. فلذلك نبه (عليه السلام)
(2)
على الدعاء في هذا الوقت الذي تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا وعلقها؛ ليستشعر العبد الجد والإخلاص لربه، فتقع الإجابة منه؛ رفقًا من الله بخلقه رحمة له، فله الحمد والشكر دائمًا كثيراً على إلهام ذلك لمصالحهم ومنافعهم.
فصل:
إن قلت: كيف ترجم الدعاء نصف الليل وذكر الحديث أن التنزل في ثلث الليل الآخر؟ قيل: إنما أخذ ذلك من قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)} [المزمل: 2، 3] فالترجمة تقوم من دليل القرآن، والحديث يدل على أن وقت الإجابة ثلث الليل إلا أن ذكر النصف في كتاب الله يدل على تأكيد المحافظة على وقت التنزل قبل دخوله؛ (ليأتي)
(3)
أول وقت الإجابة، والعبد مرتقب له مستعد للإنابة، فيكون ذلك سببًا للإجابة. وينبغي ألا يمر وقت ليلاً كان أو نهارًا إلا أحدث العبد فيه دعاء وعبادة لله تعالى.
= تفرد به صالح المري وهو أحد زهاد البصرة، ولم يخرجاه.
وصححه الألباني في "الصحيحة"(594).
(1)
رواه الترمذي (3233)، وأحمد 1/ 368 (3484) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ابن عباس مرفوعاً. ورواه الترمذي أيضًا (3235)، والطبراني في "الكبير" 20/ 141 - 142 من حديث معاذ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"(2582). ورواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 129، من حديث أبي هريرة، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2)
في (ص 2): الله عباده.
(3)
في الأصل: لباقي.
فصل:
سلف ذكر حديث النزول، فإن كان ملكًا ينزل بأمره، فإن أمره لا يفارقه، وإنما هو مأمور، وإن يظهر فعل عن أمره فيضاف إليه كضرب الأمير، وإنما أمر به، وإذا كان كذلك لم ينكر أن يكون لله تعالى ملائكة يأمرهم بالنزول إلى السماء الدنيا بهذا النداء والدعاء، فيصرف ذلك إليه لاسيما وقد صح الخبر بذلك.
ورواه بعض (الثقات)
(1)
(يُنزل) بضم الياء وهو يؤيد هذا التأويل وقيل: حكمه. وروي عن الأوزاعي أنه سئل عن هذا الخبر فقال: يفعل الله ما يشاء. وهذِه إشارة إلى أن كل ذلك فعل يظهر منه
(2)
.
(1)
في الأصل: النقاد.
(2)
قد تقدم الرد على مثل هذا الموضع، وأن مثل هذا التأويل فيه نظر، ومذهب السلف أن نزول الله سبحانه وتعالى هو نزول على حقيقته كما يليق بكمال وجهه وعظيم سلطانه، دون تمثيل أو تشبيه، والله أعلم.
15 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الخَلَاءِ
6322 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» . [انظر: 142 - مسلم: 375 - فتح 11/ 129]
هو ممدود وأصله المكان الخالي، مأخوذ من الخلوة.
ذكر فيه حديث شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الخَلَاءَ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ".
هذا الحديث سلف في الطهارة واضحًا
(1)
.
والخبث والخبائث: الشيطان الرجيم، قاله الحسن ومجاهد، وفيه أقوال أخر سلفت هناك.
وعبارة الداودي: يحتمل أن يكون الخبث والخبائث: الشيطان أو المعصية، والخبائث: المعاصي كلها، وقد جاء معنى أمره عليه السلام بالاستعاذة عند دخول الخلاء في حديث معمر، عن قتادة، عن النضر بن أنس، (عن أنس)
(2)
رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: "إن هذِه الحشوش (محتضرة)
(3)
فإذا دخلها أحدكم فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"
(4)
فأخبر أن الحشوش مواطن الشياطين، فلذلك أمرنا بالاستعاذة عند دخولها.
(1)
سلف برقم (142) باب: ما يقول عند الخلاء.
(2)
من (ص 2).
(3)
ساقطة من الأصل.
(4)
رواه الطبراني في "الدعاء" 2/ 959 (355) بهذا الإسناد. =
وروى ابن وهب عن حيوة بن شريح، عن أبي عقيل أنه سمع سعيد المقبري يقول: إذا دخل الرجل الكنيف لحاجته ثم ذكر اسم الله كان سترًا بينه وبين الجن، فإذا لم يذكر الله نظر إليه الجن يسخرون ويستهزءون به.
قلت: فيستحب الابتداء بهذا عند إرادة الدخول، كما جاء في رواية سلفت:"إذا أراد"
(1)
.
قال ابن التين: ويقول ذلك في نفسه غير جاهر به.
قلت: لا يسلم له، وينبغي الجهر به.
فائدة:
قال ابن التين: الذي قرأناه: "الخبث" بإسكان الباء، والأظهر أنه بضمها جمع: خبيث، وليس هذا (الكفر كما قيل، وإنما هو)
(2)
موضع الشياطين، وهذا سلف واضحًا.
= ورواه العقيلي في "الضعفاء" 3/ 371، والطبراني في "الأوسط" 3/ 161 - 162 (2803)، وفي "الدعاء"(356)، وابن السني في "العمل"(21)، والحافظ في "نتائج الأفكار" 1/ 195 من طريق قطن بن نسير عن عدي بن أبي عمارة عن قتادة عن أنس بنحوه، بلفظ:"فليقل: بسم الله".
قال الحافظ: حديث غريب من هذا الوجه.
وضعفه الألباني في "الضعيفة"(4738، 5042).
والحديث صح عن زيد بن أرقم؛ فرواه أبو داود (6)، وابن ماجه (296) من طريق شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن زيد بن أرقم.
وهو حديث صححه ابن خزيمة 1/ 38 (69)، وابن حبان 4/ 255 (1408)، والحاكم 1/ 187، والألباني في "صحيح أبي داود"(4)، وفي "تمام المنة" ص (57) قائلاً: إسناده صحيح على شرط البخاري وصححه أيضًا في "الصحيحة"(1070).
(1)
سلف برقم (142).
(2)
من (ص 2).
فرع:
نقل ابن التين عن الشيخ أبي محمد أنه مما يستحب عند الخلاء أن يقول: الحمد لله الذي رزقني لذته، وأخرج عني مشقته، وأبقى في جسمي قوته
(1)
.
قلت: وهذا إنما هو عند الخروج لا جرم.
قال ابن بطال: روي عن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أنه قال: "إذا خرج أحدكم من الغائط فليقل: الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذيني وأمسك ما ينفعني"
(2)
.
(1)
هذا لفظ حديث أخرجه الطبراني في "الدعاء" 2/ 967 (370) عن ابن عمر مرفوعًا وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(25).
(2)
"شرح ابن بطال" 10/ 91.
16 - باب مَا يَقُولُ إِذَا أَصْبَحَ
6323 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ. إِذَا قَالَ حِينَ يُمْسِى فَمَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ -أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ- وَإِذَا قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَهُ". [انظر: 6306 - فتح 11/ 130]
6324 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ: «بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا» . وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» . [6312 - فتح 11/ 130]
6325 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: «اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا» . فَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» . [7395 - فتح 11/ 130]
ذكر فيه حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ" وقد سلف
(1)
، وفي آخره:"إِذَا قَالَ حِينَ يُمْسِي فَمَاتَ دَخَلَ الجَنَّةَ -أَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ- وَإِذَا قَالَ حِينَ يُصْبِحُ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ مِثْلَهُ".
وحديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ: "بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ أَمُوتُ وَأَحْيَا". وَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ: "الْحَمْدُ لله
(1)
سلف قريبًا برقم (6306)، باب: أفضل الاستغفار.
الذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ".
وقد سلف غير مرة
(1)
.
وحديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: "اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَا". وإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: "الْحَمْدُ لله الذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ".
الشرح:
معنى ذكر الله تعالى عند الصباح، ليكون مفتتح الأعمال، وابتداؤها ذكر الله، وكذلك ذكر الله عند النوم ليختم عمله بذكر الله تعالى، فتكتب الحفظة في أول صحيفته عملًا صالحًا وتختمها بمثله، فيرجى له مغفرة ما بين ذلك من ذنوبه.
وروى الطبري من حديث الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: ابن آدم، اذكرني من أول النهار ساعة ومن آخره ساعة أكفك ما بينهما"
(2)
.
وكان الصالحون من السوقة يجعلون أول يومهم وآخره إلى الليل لأمر الآخرة، ووسطه لمعيشة الدنيا، وإنما كانوا يعملون ذلك؛ لترغيبه في الدعاء طرفي النهار.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر التجار فيقول: اجعلوا أول نهاركم لآخرتكم، وما سوى ذلك لدنياكم.
(1)
سلف قريبًا برقم (6312)، باب: ما يقول إذا نام، وبرقم (6314)، باب: وضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 8/ 213 بهذا الإسناد بلفظ "اذكرني بعد الفجر وبعد العصر ساعة
…
".
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على هذا المعنى، قال عليه السلام:"يقول الله عز وجل: يا ابن آدم، لا تعجزن عن أربع ركعات أول النهار أكفك آخره"
(1)
.
(1)
رواه الترمذي (475) من طريق جبير بن نفير، عن أبي الدرداء وأبي ذر، ورواه أحمد 5/ 286، والنسائي في "الكبرى" 1/ 177 (468) والطبراني في "مسند الشاميين" 1/ 173 عن كثير بن مرة عن نعيم بن همَّار الغطفاني.
17 - باب الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ
6326 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي. قَالَ: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .
وَقَالَ عَمْرٌو، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ: إِنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 834 - مسلم: 2705 - فتح 11/ 131]
6327 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُعَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] أُنْزِلَتْ فِي الدُّعَاءِ. [انظر: 4723 - مسلم: 447 - فتح 11/ 131]
6328 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: السَّلَامُ عَلَى اللهِ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ. فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ:«إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ، فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ -إِلَى قَوْلِهِ الصَّالِحِينَ- فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ صَالِحٍ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ» . [انظر: 831 - مسلم: 402 - فتح 11/ 131]
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها:
حديث الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً (أدع)
(1)
بِهِ فِي صَلَاتِي .. الحديث.
(1)
كذا في الأصل، وفي اليونينية 8/ 72 (أدعو) بإثبات الواو عند جميع الرواة.
سلف في الصلاة
(1)
.
وَقَالَ عَمْرو بن الحارث، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ: إِنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصديق رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي يعلى: أنا هارون بن معروف، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو -وهو ابن الحارث- عن يزيد، به سواء
(2)
.
ثانيها:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] أُنْزِلَتْ فِي الدُّعَاءِ. وقد سلف أيضًا
(3)
.
ثالثها:
حديث أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ: السَّلَامُ عَلَى اللهِ .. الحديث سلف
(4)
، وفي آخره:"فليتخير من الثناء ما يشاء".
وفيه من الفقه: أن للمصلي أن يدعو الله في جميع صلاته بما بدا له من حاجات دنياه وأخراه، وذلك أنه عليه السلام علَّم الصديق مسألة ربه المغفرة لذنوبه في صلاته، وذلك من أعظم حاجات العبد إلى ربه، فكذلك حكم مسألته إياه سائر حاجاته.
وقد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: إني لأدعو وأنا ساجد لسبعين أخًا من إخواني أسميهم بأسمائهم وأسماء آبائهم
(5)
.
(1)
سلف برقم (834)، باب: الدعاء قبل السلام.
(2)
قلت: وهو في "مسند أبي يعلى" 1/ 38 (32).
(3)
سلف برقم (4723)، كتاب: التفسير، باب:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} .
(4)
سلف برقم (831)، كتاب: الأذان، باب: التشهد في الآخرة.
(5)
رواه ابن الجعد في "مسنده" ص (169)(1098).
وكان علي رضي الله عنه يقول: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده: اللهم بحولك وقوتك أقوم وأقعد
(1)
. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يلبي في سجوده، ومعنى: لبيك أجبتك يا رب إلى ما دعوتني إليه إجابة بعد إجابة، وأقمت عندك. وقد سلف من قال به من الفقهاء في الصلاة.
وفيه أيضًا: الدليل الواضح على تكذيب مقالة من زعم أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من كان لا خطيئة له ولا جُرْم؛ لأن أهل الإجرام -زعموا- غير مؤمنين وزعموا أن كبائر الذنوب وصغائرها كبائر، وذلك أن الصديق كان من الصديقين من أهل الإيمان. وقد أمره الشارع أن يقول:"اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا فاغفر لي".
وفيه: دليل أن الواجب على العبد أن يكون على حذر من ربه في كل أحواله، وإن كان من أهل الاجتهاد في عبادته في أقصى غاية، إذ كان الصديق مع موضعه من الدين لم يسلم مما يحتاج إلى استغفار ربه منه.
فصل:
في حديث عائشة رضي الله عنها تسمية الصلاة دعاء ولا يكاد يقع ذلك للقراءة.
قال الأعشى:
تقول بنتي وقد أزمعت مرتحلًا
…
يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
…
يوما فإن لجنب المرء مضطجعا
وقيل: إنما قيل للصلاة: دعاء؛ لأنها لا تكون إلا به، والدعاء صلاة سميت باسمه، وقال غيرها: نزلت في القراءة، فإن المشركين كان إذا قرأ عليه السلام سبوا القرآن ومن جاء به ومن أنزله، فصار يخفت به فنزلت.
(1)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى" 2/ 96.
18 - باب الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ
6329 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ سُمَى، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. قَالَ:«كَيْفَ ذَاكَ؟» . قَالَ: صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا، وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا، وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ. قَالَ:«أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَأْتِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ، إِلاَّ مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ؟ تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا» . تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ سُمَيٍّ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سُمَيٍّ وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ. وَرَوَاهُ جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 843 - مسلم: 595 - فتح 11/ 132]
6330 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ وَرَّادٍ -مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- قَالَ: كَتَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ إِذَا سَلَّمَ: «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهْوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُسَيَّبَ. [انظر: 844 - مسلم: 593 - فتح 11/ 133]
حدثنا إسحاق، أنا يزيد، أنا ورقاء، عن سميٍّ، عن أبي صالح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ .. الحديث سلف في الصلاة
(1)
.
ثم قال: تابعه عبيد الله بن عمر عن سمي.
قلت: أخرجها مسلم عن عاصم بن النضر. ثنا معتمر بن سليمان،
(1)
سلف برقم (843)، باب: الذكر بعد الصلاة.
عن عبيد الله، عن سمي
(1)
.
قال: ورواه ابن عجلان، عن سمي ورجاء بن حيوة.
قلت: متابعة ابن عجلان أخرجها مسلم أيضًا عن قتيبة، ثنا ليث، عن ابن عجلان، عن سمي به (1). قال: ورواه جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي الدرداء.
قلت: أخرجها النسائي، عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير به
(2)
. قال الدارقطني: تابعه أبو الأحوص سلام بن سليم
(3)
. قال البخاري: (ورواه سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم).
قلت: أخرجها مسلم أيضًا عن أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن زريع، ثنا روح بن القاسم، عن سهيل
(4)
. قال ابن عساكر: رواه التيمي، عن أبي صالح عن أبي هريرة. ورواه الثوري عن عبد العزيز، عن أبي صالح، عن أبي عمر (الضبي)
(5)
، عن أبي الدرداء ورواه شريك، عن عبد العزيز، عن أبي عمر، عن أم الدرداء عن أبي الدرداء.
وفي "علل الدارقطني": لم يتابع شريك على ذكر أم الدرداء. قال: ورواه الحكم بن عتيبة عن أبي صالح، عن أبي الدرداء قلت:
(1)
مسلم 595/ 142، كتاب: المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته.
(2)
"سنن النسائي الكبرى" 6/ 43 (9975).
(3)
"علل الدارقطني" 6/ 213 (1081).
(4)
مسلم 595/ 143، كتاب: المساجد، باب: استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته.
(5)
كذا في الأصل، والصواب: أبو عمر الصيني، قال ابن حجر في "تقريب التهذيب" (8266): أبو عمر الصيني، بكسر المهملة، وسكون التحتانية بعدها نون، ووهم من قال فيه: الضبي، بالمعجمة والموحدة.
يا رسول الله، ذهب أهل الدثور. الحديث
(1)
.
فقال شعبة ومالك بن مغول، عن الحكم، عن (أبي علي الضبي)
(2)
عن أبي الدرداء. وقال زيد بن أبي أنيسة: عن الحكم، عن أبي عمر، عن رجل، عن أبي الدرداء. ورواه ليث بن أبي سليم عن الحكم فقال: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي الدرداء. وقال (الجياني)
(3)
: عن المحاربي، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الدرداء، وليس هذا من حديث ابن أبي ليلى ولا من حديث مجاهد، والصحيح من ذلك قول شعبة ومالك بن مغول عن الحكم. وقال الثوري عن عبد العزيز. وأبو عمر (الضبي)
(4)
لا يعرف، ولا روي عنه غير هذا الحديث.
إذا تقرر ذلك: ففي حديث الباب الحض على التسبيح والتحميد في أدبار الصلوات، وأن ذلك يوازي في الفضل إنفاق المال في طاعة الله لقوله:"أفلا أخبركم بما تدركون به من كان قبلكم؟ ".
وروي عن رسول الله أنه قال: "وضعت الصلوات في خير الساعات فاجتهدوا في الدعاء دبر الصلوات"
(5)
. وروى الطبري عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إذا أقيمت الصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء
(6)
.
(1)
في "علل الدارقطني" 6/ 213 عن الحكم، عن أبي عمر الصيني، عن أبي الدرداء.
(2)
كذا بالأصل، والصواب: أبو عمر الصيني، كما في "علل الدارقطني".
(3)
كذا في الأصل، وفي "علل الدارقطني":"الحماني".
(4)
كذا بالأصل، والصواب: الصيني كما تقدم.
(5)
رواه ابن حبيب في "الواضحة" كما في "ميزان الاعتدال" 5/ 250.
(6)
رواه عن قتادة عن أنس، النسائي في "السنن الكبرى" 6/ 23 (9900).
وعن جعفر بن محمد قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة لفضل المكتوبة على النافلة. فإن قلت: فقد روى عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال: قال عبد الله بن مسعود: وإنما هذِه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره
(1)
، فأيما أفضل أذكر أو أقرأ؟ قلت: سأل عمرو بن أبي سلمة الأوزاعي عن ذلك فقال له: سل سعيدًا. فسأله، فقال: بل القرآن. فقال الأوزاعي لسعيد: ليس شيء يعدل القرآن، ولكن إنما كان هدي من سلف يذكرون الله قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.
وما قاله الأوزاعي أقرب إلى الصواب كما نبه عليه الطبري؛ لما روى أنس وأبو هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أحب إلى من الدنيا وما فيها، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى بعد العصر إلى أن تغيب الشمس أحب إلى من الدنيا وما فيها"
(2)
.
وقال عبد الله بن عمرو: وذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله، وإعطاء المال سحًّا.
فصل:
ترجم لحديث المغيرة في القدر باب: لا مانع لما أعطى الله. ويأتي الكلام عليه
(3)
.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 126.
(2)
حديث أنس ذكره البيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 409 (559) وأما حديث أبي هريرة فلم أقف عليه.
(3)
سيأتي برقم (6615).
فصل:
احتج بحديث أبي هريرة رضي الله عنه من فضل الغنى على الفقر. ويأتي في الرقاق، وقوله:("تدركون به من كان قبلكم"). يعني: من كان من أهل الصدقات، وكذا في قوله:"من جاء بعدكم".
وفيه: فضل الذكر على الصدقة، وقوله:"إلا من جاء بمثله". أي: وهو في مثل حالكم من القلة، وقيل: من أهل الغنى، فيكون له فضل غناه، ويساويكم في الذكر. وقال بعض من فضل الغنى: إنما خص بثواب ذلك الفقراء؛ لأنهم الذين خاطبهم الشارع فأخبرهم أنهم إن قالوا ذلك أدركوا من سبقهم وليس كما تأول؛ لأنه قال: "إلا من عمل مثله"، لكنه يفضل عنه بأن يكون مثل حالهم فقراء على ما سلف، وهذا فيه تخصيص للعموم ويفتقر إلى دليل.
فصل:
قد سلف ما في الجدّ، وأن فتح جيمه أشهر في المعنى، وقال الداودي: إنه هنا الشرف.
19 - باب قوله عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] وَمَنْ خَصَّ أَخَاهُ بِالدُّعَاءِ دُونَ نَفْسِهِ
.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ ذَنْبَهُ". [انظر: 2884]
6331 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ -مَوْلَى سَلَمَةَ- حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَيَا عَامِرُ، لَوْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ. فَنَزَلَ يَحْدُو بِهِمْ يُذَكِّرُ: تَاللَّهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا. وَذَكَرَ شِعْرًا غَيْرَ هَذَا وَلَكِنِّي لَمْ أَحْفَظْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ هَذَا السَّائِقُ؟» . قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ. قَالَ: «يَرْحَمُهُ اللهُ» . وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْلَا مَتَّعْتَنَا بِهِ. فَلَمَّا صَافَّ الْقَوْمَ قَاتَلُوهُمْ، فَأُصِيبَ عَامِرٌ بِقَائِمَةِ سَيْفِ نَفْسِهِ فَمَاتَ، فَلَمَّا أَمْسَوْا أَوْقَدُوا نَارًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا هَذِهِ النَّارُ؟ على أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟» . قَالُوا: عَلَى حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ. فَقَالَ: «أَهْرِيقُوا مَا فِيهَا، وَكَسِّرُوهَا» . قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُهَرِيقُ مَا فِيهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ:«أَوْ ذَاكَ» . [انظر: 2477 - مسلم: 1802 - فتح 11/ 135]
6332 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ» . فَأَتَاهُ أَبِي فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» . [انظر: 1497 - مسلم: 1078 - فتح 11/ 136]
6333 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرًا قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الخَلَصَةِ؟» . وَهْوَ نُصُبٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ يُسَمَّى الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَةَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي رَجُلٌ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَصَكَّ فِي صَدْرِي فَقَالَ:«اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» . قَالَ: فَخَرَجْتُ فِي خَمْسِينَ مِنْ أَحْمَسَ مِنْ قَوْمِي- وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: فَانْطَلَقْتُ فِي عُصْبَةٍ مِنْ قَوْمِي- فَأَتَيْتُهَا فَأَحْرَقْتُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ مَا أَتَيْتُكَ
حَتَّى تَرَكْتُهَا مِثْلَ الْجَمَلِ الأَجْرَبِ. فَدَعَا لأَحْمَسَ وَخَيْلِهَا. [انظر: 3020 - مسلم: 2475،
2476 -
فتح 11/ 136]
6334 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَسٌ خَادِمُكَ. قَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ» . [انظر: 1982 - مسلم: 2480 - فتح 11/ 136]
6335 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَقْرَأُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ:«رحمه الله، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا فِي سُورَةِ كَذَا وَكَذَا» . [انظر: 2655 - مسلم: 788 - فتح 11/ 136]
6336 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَسَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ. فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ وَقَالَ:«يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» . [انظر: 3150 - مسلم: 1062 - فتح 11/ 136]
وقد سلف مسندًا في الجهاد
(1)
ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
حديث سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: أَي عَامِرُ، لَوْ أَسْمَعْتَنَا مِنْ هُنَيَّاتِكَ. فَنَزَلَ يَحْدُو بِهِمْ يُذَكِّرُ: تالله لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا. وَذَكَرَ شِعْرًا غَيْرَ هذا وَلَكِنِّي لَمْ أَحْفَظْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ هذا السَّائِقُ؟ ". قَالُوا: عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ. قَالَ: "يَرْحَمُهُ اللهُ" .. الحديث، سلف
(2)
.
(1)
سلف برقم (2884) باب: نزع السهم من البدن.
(2)
سلف برقم (4196) كتاب: المغازي، باب: غزوة خيبر.
ثانيها:
حديث ابن أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَدَقَةٍ قَالَ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ". فَأَتَاهُ أَبِي فَقَالَ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى".
الثالث:
حديث جَرِيرٍ رضي الله عنه -قلت: يا رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي رَجُلٌ لَا أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ، فَصَكَّ فِي صَدْرِي فَقَالَ:"اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا". وقد سلف
(1)
.
الرابع:
حديث أَنَسٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أَنَسٌ خَادِمُكَ. قَالَ: "اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ".
الخامس:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي المَسْجِدِ، فَقَالَ:"رحمه الله، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا من سُورَةِ كَذَا وَكَذَا".
السادس:
حديث أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَسْمًا، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هذِه لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ. الحديث سلف
(2)
.
وكلها دالة على دعاء المسلم لأخيه دون نفسه، كما ترجم.
(1)
سلف برقم (3020) كتاب: الجهاد والسير، باب: حرق الدور والنخيل.
(2)
سلف برقم (3150) كتاب: فرض الخمس، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه.
وقد صح عن رسول الله أن دعاء المرء لأخيه مجاب؛ (روى مسلم عن أبي الدرداء مرفوعًا: "دعوة المرء المسلم بظهر الغيب مستجابة)
(1)
عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل"
(2)
.
وفي أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب".
قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وفي إسناده الأفريقي وهو مضعف في الحديث
(3)
.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "خمس دعو ات مستجابات: دعوة المظلوم حتى ينتصر، ودعوة الحاج حتى يصدر، ودعوة المجاهد حتى يقفل، ودعوة المريض حتى يبرأ، ودعوة الأخ لأخيه"
(4)
.
وقد روي عن بعض السلف أنه إذا دعا المرء لأخيه فليبدأ بنفسه. قال سعيد بن يسار: ذكرت رجلًا عند ابن عمر فتراحمت عليه، فلهز في صدري. وقال لي: ابدأ بنفسك. وقال إبراهيم: كان يقال: إذا
(1)
من (ص 1).
(2)
رواه مسلم (2733) كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب.
(3)
أبو داود (1535)، الترمذي (1980)، ولم أعثر عليه في "سنن ابن ماجه"؛ وقد عزاه المري في "التحفة"(8852) إلى أبي داود والترمذي، ولم يذكر ابن ماجه. كما أن الحديث مروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وليس عن أبي هريرة. وقد ضعفه الألباني في "ضعيف سنن أبي داود"(269).
(4)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 46 - 47 (1125). وقال الألباني: موضوع، انظر:"السلسلة الضعيفة"(1364).
دعوت فابدأ بنفسك؛ فإنك لا تدري في أي دعاء يستجاب لك
(1)
.
فصل:
معنى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} : ادع لهم واستغفر، ومعنى:{إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي: دعاؤك تثبت لهم وطمأنينة.
فصل:
آل أبي أوفى هنا نفسه. وقال ابن التين: يعني: عليه وعلى آله. قال: وفيه آل الرجل يقع على أهله وأتباعه، الأهل: أهل الدار خاصة، قال: وعن مالك: لا يقال لفظ الصلاة في غير الأنبياء.
فصل:
الخلصة: بفتح الخاء واللام: نصب يعبد من دون الله، والنصب بضم النون والصاد الساكنة، وفتح النون أيضًا، وقال القتبي: هو صنم أو حجر كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده.
وقوله: يسمى كعبة اليمانية: هو بتخفيف الياء وأصله تشديدها فخففوا ياء النسبة كقولهم: تهامون وأشعرون، وفي "الصحاح": ذو الخلصة: بيت لخثعم كان يدعى الكعبة اليمانية، وكان فيه بيت يدعى الخلصة فهدم
(2)
.
وصك: ضرب، ومنه {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} .
والعصبة من الرجال: ما بين العشرة إلى الأربعين، وقال ابن فارس: نحو العشرة
(3)
.
(1)
رواهما بن أبي شيبة 6/ 29 (29218، 29220).
(2)
"الصحاح" 3/ 1038 مادة: [خلص].
(3)
"مجمل اللغة" 2/ 671 - 672 مادة: [عصب].
فصل:
في حديث أنس رضي الله عنه جواز الدعاء بكثرة المال والولد. قال الداودي: وروي من طريق لا يثبت عنه: "اللهم من آمن بي وصدَّق ما جئت به، فأقلل له من المال والولد"
(1)
. قال: ولا يصح ذلك، كيف والشارع حض على النكاح والتماس الولد.
فصل:
قوله: "أذكرني". يقال ذكرت الشيء بعد النسيان وتذكرته وذكرته غيري وذكرته بمعنى.
(1)
رواه ابن ماجه (4133) والطبراني في "الكبير" 17/ 31، وفي "مسند الشاميين" 2/ 312 - 313 (1406). قال المناوي في "فيض القدير" 2/ 163 - 164 (1499): إن ذا لا يعارضه خبر البخاري أنه دعى لأنس بتكثير ماله وولده لأن فضل التقلل من الدنيا والولد يختلف باختلاف الأشخاص، كما يشير إليه الخبر القدسي:"إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى .. " إلخ، فمن الناس من يخاف عليه الفتنة بها، وعليه ورد هذا الخبر، ومنهم من لا يخاف عليه كحديث أنس، وحديث نعم المال الصالح للرجل الصالح، فكان المصطفى _ صلى الله عليه وسلم _ يخاطب كل إنسان بما يصلحه ويليق به، فسقط قول الداودي: هذا الحديث باطل. اهـ.
هذا وقد ضعف الألباني الحديث في "ضعيف سنن ابن ماجه"(902).
20 - باب (مَا يُكْرَهُ مِنَ)
(1)
السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ
6337 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ أَبُو حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ الخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مِرَارٍ، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلُّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، فَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ. يَعْنِي: لَا يَفْعَلُونَ إِلاَّ ذَلِكَ الاجْتِنَابَ. [فتح 11/ 138]
ذكر فيه من حديث الزُّبَيْرِ بْنِ الخِرِّيتِ -بكسر الخاء المعجمة ثم راء (مهملة)
(2)
مشددة ثم ياء ثم تاء بعد، أخرج له مسلم أيضًا- عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مِرَارٍ، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هذا القُرْآنَ، وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي القَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلُّهُمْ، ولكن أَنْصِتْ، فَإذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، فَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ. يَعْنِي: لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ الاجْتِنَابَ.
هذا الحديث أخرجه الطبراني من هذا الوجه وقال: (لا يفعلون ذلك)
(3)
(4)
وهو أشبه بما في الكتاب من قوله: إلا ذلك.
(1)
ليست في الأصول، وهي في اليونينية 8/ 74 ليس عليها تعليق.
(2)
فوقها في الأصل: كذا.
(3)
في (ص 1): إني لا أحدثك ذلك.
(4)
"المعجم الكبير" 11/ 340 (11943).
والملل: السآمة يقال: ملَّه: إذا سئمه.
و (لا ألفينك) أي: لا أجدنك، أي: لا تفعل ذلك، فألفينك فاعله.
وقوله: (تأتي القوم). إلى قوله: (فتملهم). كله مرفوع أيضًا معطوف على (فتقطع عليهم حديثهم). قاله ابن التين قال: وضبط في بعض الكتب بنصب (فتملَّهم) على أنه جواب النهي. وصوبه بعضهم قال: والصواب أنه معطوف على تأتي.
وقوله: (إلا ذلك): أي لا يفعلون إلا كل ما أمرك به من جميع ما ذكر ته لك، وقيل: لا يفعلون إلا اجتناب ذلك. والمعنى واحد.
ورواية الطبراني السالفة: لا يفعلون ذلك. واضحة.
ومراد ابن عباس بالسجع المستكثر منه وأكثر دعائه وكلامه سجع، قاله الداودي، قال: وهو كثير في القرآن. قال غيره: وإنما ذلك في متكلف السجع، أما الطبع فلا. وهو قول ابن بطال قال: إنما نهي عنه في الدعاء -والله أعلم- لأن طلبه فيه تكلف ومشقة، وذلك مانع من الخشوع وإخلاص التضرع لله، وقد جاء في الحديث:"إن الله لا يقبل من قلب غافل لاهٍ"
(1)
. فطالب السجع في دعائه همته في تزويج الكلام ونسجه، ومن شغل فكره بذلك وكد خاطره بتكلفه فقلبه عن الخشوع غافل لاهٍ؛ لقوله:{مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] ثم قال: فإن قيل: فقد وجد في دعائه نحو ما نهى عنه ابن عباس وهو قوله: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب"
(2)
. وقال في تعويذ حسن أو حسين: "أعيذه من الهامة والسامة وكل عين
(1)
تقدم تخريجه في حديث (6321).
(2)
سلف برقم (2933) كتاب الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة.
لامة"
(1)
. وإنما المراد ملمة فللمقاربة بين الألفاظ وإتباع الكلمة أخواتها في الوزن. قال: "لامة". قيل: هذا يدل أن نهيه عن السجع إنما أراد به من يتكلفه في حين دعائه فيمنعه من الخشوع كما ذكرنا، وأما إذا تكلم به طبعًا من غير مؤنة ولا تكلفة أو حفظه قبل وقت دعائه مسجوعًا فلا يدخل في النهي عنه؛ لأنه لا فرق حينئذٍ بين المسجوع وغيره؛ لأنه لا يتكلف صنعته وقت الدعاء، فلا يمنعه ذلك من إخلاص الدعاء والخشوع.
وفيه من الفقه: أنه يكره الإفراط في الأعمال الصالحة؛ خوف الملل لها والانقطاع عنها، وكذلك كان عليه السلام يفعل، كان يتخول أصحابه بالموعظة في أيام كراهة السآمة عليهم وقال:"اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا"
(2)
.
وفيه: أنه ينبغي ألا يحدث بشيء من كان في حديث حتى يفرغ منه.
وفيه: أنه لا ينبغي نشر الحكمة والعلم ولا الحديث بهما من لا يحرص على سماعهما وتعليمهما، فمتى حدث به من يشتهيه ويحرص عليه كان أحرى أن ينتفع به ويحسن موقعه عنده، ومتى حدث به من لا يشتهيه لم يحسن موقعه، وكان ذلك إذلالًا للعلم وحطًّا له، والله قد رفع قدره حين جعله سببًا إلى معرفة توحيده وصفاته تعالى، وإلى علم دينه، وما يتعبد به خلقه
(3)
.
(1)
رواه ابن سعد كما في "كنز العمال" 10/ 66 (28390) عن ابن عباس، ورواه ابن عساكر في "تاريخه"130/ 224، عن ابن مسعود.
(2)
سلف برقم (5861)، كتاب: اللباس، باب: الجلوس على الحصير ونحوه.
ولمسلم برقم (782) كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره.
(3)
انتهى من "شرح ابن بطال" 10/ 97 - 99.
21 - باب لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ
6338 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ المَسْأَلَةَ، وَلَا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي. فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ» . [7464 - مسلم: 2678 - فتح 11/ 139]
6339 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ. لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ» . [7477 - مسلم: 2679 - فتح 11/ 139]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إِذا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ
المَسْأَلةَ، وَلَا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي. فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ".
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ. لِيَعْزِمِ المَسْأَلةَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ".
معنى: ("ليعزم المسألة"): يجتهد في الدعاء ويلح. كما قاله الداودي. ولا يقل إن شئت كالمستثني، ولكن دعاء البائس الفقير والهاء في قوله:"لا مكره له". يعود على الله تعالى.
وقوله: ("ما لم يعجل")
(1)
. أي: يصير كمن يرى أنه محقوق له أن يجاب، وإذا فعل هذا بطل وجوب الثلاثة السابق بيانها، وهي: الإجابة فيما سأل، أو يكفر عنه، أو يدخر له
(2)
.
(1)
كذا بالأصل، وليس له ذكر في الباب وإنما تأتي في الباب التالي. غير أنه تكلم عليها في الباب التالي بكلام غير ما ذكره هنا، أضف إلى ذلك أنه ذكر في شرحها كلامًا له تعلق بكلام سابق غير مذكور، فيبدو وأنه سقط شيئًا أو نقل من مكان ولم ينقل كل ما فيه. فالله أعلم بالصواب.
(2)
هنا تنتهي الفقرة المقحمة، وما يأتي ينقله من "شرح ابن بطال" فاعلمه.
ومعنى: "لا مكره". أي: إنه يفعل ما يشاء من غير إكراه أحد له على ذلك، فظهر أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء، ويكون على رجاء من الإجابة، ولا يقنط من رحمة الله؛ لأنه يدعو كريمًا، فبذلك تواترت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى شعبة، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دعا أحدكم فلا يقولن: إن شئت أعطني، ولكن ليعظم رغبته؛ فإن الله لا يتعاظم عليه شيء أعطاه"
(1)
. قال الله عز وجل: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني، وإن تقرب منى شبرًا تقربت منه ذراعًا". . الحديث
(2)
.
وروى أبو عاصم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قال:"لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى"
(3)
.
(وأخرجه مسلم بلفظ: أنه سمع النبي _ صلى الله عليه وسلم _ يقول قبل موته بثلاث: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى")
(4)
(5)
.
وقال ابن مسعود: والله الذي لا إله إلا هو ما أُعطي عبد مؤمن قط شيئًا خيرًا من حسن الظن بالله، والله الذي لا إله إلا هو لا يحسن عبد الظن إلا أعطاه الله الذي ظنه؛ وذلك أن الخير في يديه
(6)
.
(1)
رواه مسلم (2679)
(2)
سيأتي برقم (7405) كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} ورواه مسلم (2675). ولفظه في البخاري: "وأنا معه إذا ذكرني".
(3)
رواه عبد بن حميد في "المنتخب"(1039)، ورواه أحمد في "مسنده" 3/ 334 من طريق روح عن ابن جريج به.
(4)
من (ص 2).
(5)
رواه مسلم (2877).
(6)
رواه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله"(83).
وقال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدًا من الدعاء ما يعلم من نفسه؛ فإن الله قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس قال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)}
(1)
[الحجر: 36 - 37].
(1)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 53 (1147).
22 - باب يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَعْجَلْ
6340 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ -مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» . [مسلم: 2735 - فتح 11/ 140]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُسْتَجَابُ (للعبد)
(1)
مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي".
معنى: ("ما لم يعجل"). يسأم الدعاء ويتركه، فيكون كالمانِّ بدعائه، وأنه قد أتى من الدعاء ما كان يستحق به الإجابة فيصير كالمبخل لرب كريم لا تعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء، ولا تضره الذنوب.
وروى ابن وهب، عن معاوية، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قال:"لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل". قيل: يا رسول الله، وما الاستعجال؟ قال:"يقول: لقد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء"
(2)
.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه مرة: "يقول: لقد دعوت فما استجاب أو ما أغنيت شيئًا"
(3)
.
(1)
في (ص 2): لأحدكم.
(2)
رواه مسلم (2735/ 92) كتاب: الذكر والدعاء، باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول: دعوت فلم يستجب لي.
(3)
رواه إسحاق بن راهويه (306) عن أبي هريرة مرفوعًا.
(ومعنى يستحسر)
(1)
عند ذلك: ينقطع قال تعالى: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19]. وقالت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: "ما لم يعجل أو يقنط".
وقال بعضهم: إنما يعجل العبد إذا كان غرضه من الدنيا نيل ما سأل، وإذا لم ينل ما يريد ثقل عليه الدعاء، ويجب أن يكون غرض العبد من الدعاء هو الدعاء لله والسؤال منه والافتقار إليه أبدًا، ولا يفارق سمة العبودية وعلامة الرق، والانقياد للأمر والنهي، والاستسلام لربه تعالى بالذلة والخشوع؛ فإن الله تعالى يحب الإلحاح في الدعاء، وقال بعض السلف: لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة. وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فقد أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، وهو لا يخلف الميعاد.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من داعٍ يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدخر له، وإما أن يكفر عنه".
وقد سلف
(2)
، ففي هذا الحديث دليل أن الدعاء مجاب إما معجلًا وإما مؤجلًا.
وقد روي عن قتادة أنه قال: إنما يجاب من الدعاء ما وافق القدر؛ لأنه عليه السلام قد دعا ألا يجعل الله بأس أمته بينهم فمنعها لما سبق في علمه وقدره من كون الاختلاف والبأس بينهم. وقد سلف ذلك أيضًا.
(1)
في (ص 2): فيستحسر.
(2)
رواه أحمد 3/ 18، والبخاري في" الأدب المفرد"(710)، وأبو يعلى 2/ 296 (1019). والحاكم في "المستدرك" 1/ 493، والبيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 47 - 48 (1128) وتقدم تخريجه.
وقال ابن الجوزي: اعلم أن الله لا يرد دعاء المؤمن غير أنه قد تكون المصلحة في تأخير الإجابة، وقد لا يكون ما سأله مصلحة في الجملة فيعوضه عنه بما يصلحه، وربما أخّر تعويضه إلى يوم القيامة، فينبغي للمؤمن ألا يقطع المسألة لامتناع الإجابة، فإنه بالدعاء متعبد، وبالتسليم إلى ما يراه الحق تعالى مصلحة مفوض.
23 - باب رَفْعِ الأَيْدِي فِي الدُّعَاءِ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. [انظر: 4323] وَقَالَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: رَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ وقال: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ". [انظر: 4339]
6341 -
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَالَ الأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَشَرِيكٍ، سَمِعَا أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. [انظر: 1030 - مسلم: 895 - فتح 11/ 141]
وهذان سلفا بإسناديهما
(1)
.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَالَ الأُوَيْسِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَشَرِيكٍ أنهما سَمِعَا أَنَسًا رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ.
والأويسي: عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أويس، هو أخو عبد الله ابني سعد العامري، الفقيه. انفرد به البخاري، وهو ثقة مكثر.
واختلف العلماء في رفع اليدين في الدعاء في (غير)
(2)
الصلاة، كما قال الطبري: فكان بعضهم يختار إذا دعا الله تعالى في حاجته أن يشير بإصبعه السبابة، ويقول: ذلك الإخلاص.
(1)
حديث أبي موسى سلف برقم (4323) كتاب: المغازي، باب: غزوة أوطاس. وحديث ابن عمر سلف برقم (4339) كتاب: المغازي، باب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة.
(2)
من (ص 2).
ويكره رفع اليدين. روى شعبة (وغيره)
(1)
وخالد عن حصين، عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان رافعًا يديه على المنبر فسبه. قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد على هذا، يعني: أن يشير بالسبابة
(2)
.
وروى سعيد عن قتادة قال: رأى ابن عمر قومًا رفعوا أيديهم فقال: من يتناول هؤلاء؟! فوالله لو كانوا على رأس أطول جبل ما ازدادوا من الله قربًا. وكرهه جبير بن مطعم، ورأى شريح رجلاً رافعًا يديه يدعو فقال: من تتناول بها لا أم لك؟!
وقال مسروق لقوم رفعوا أيديهم: قد رفعوها قطعها الله. وكره ابن المسيب رفعها والصوت في الدعاء
(3)
، وكان قتادة يشير بإصبعه ولا يرفع يديه، ورأى سعيد بن جبير رجلًا يدعو رافعًا يديه فقال: ليس في ديننا تكفير. واعتلوا بحديث عمارة بن رؤيبة السالف.
وكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما.
ثم يختلفون في صفة رفعهما، حذو صدره بطونها إلى وجهه، روي ذلك عن (ابن)
(4)
عمر.
وقال ابن عباس: إذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وكان علي رضي الله عنه يدعو بباطن كفيه، وعن أنس رضي الله عنه مثله.
(1)
كذا بالأصل، وفي "شرح ابن بطال"(وعبثر) وهو أصوب.
(2)
رواه مسلم (874) كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة. وابن خزيمة في "صحيحه" 2/ 352 (1451) عند عبد الله بن إدريس عن حصين به. ورواه البيهقي في "سننه" 3/ 210 بنفس الإسناد ورواه أيضًا من طريق شعبة عن حصين به برقم (5775).
(3)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 251 (3251).
(4)
من (ص 2).
واحتجوا بما رواه صالح بن (حسان)
(1)
، عن محمد بن كعب القرُظي، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا سألتم الله عز وجل فسلوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها، وامسحوا بها وجوهكم"
(2)
.
وكان آخرون يختارون رفع أيديهم إلى وجوههم، روي ذلك عن ابن عمر وابن الزبير، واعتلوا بما رواه حماد بن سلمة عن (بشر)
(3)
بن حرب قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه، ورفعهما فوق ثدييه، وأسفل من منكبيه
(4)
.
وكان آخرون يختارون رفع أيديهم حتى يحاذوا بها وجوههم وظهورهم مما يلي وجوههم، وروى يحيى بن سعيد عن القاسم قال: رأيت ابن عمر عند القاضي يرفع يديه يدعو حتى يحاذي منكبيه ظاهرهما يليانه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا أشار أحدكم بإصبع واحدة فهو الإخلاص، وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه، وظاهرهما مما يلى وجهه فهو الابتهال
(5)
.
(1)
في الأصل: كيسان، والصواب ما أثبتناه، كما في "تحفة الأشراف"(6448).
(2)
رواه ابن ماجه (3866)، والطبراني في" الكبير" 10/ 319 (10779) والحاكم في "المستدرك" 1/ 536 (1968)، وعنده: عن صالح بن حيان، وهو خطأ كما قال الألباني في "إرواء الغليل"(434).
وقد ضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه"(844).
(3)
في الأصل: (بشير).
(4)
رواه أحمد 3/ 85 (11806) وفيه: فوق ثَنْدُوَتِه.
(5)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 250 (3247) عن ابن عيينة، عن عباس بن =
واحتجوا بحديث أبي موسى وابن عمر وأنس رضي الله عنه أنه عليه السلام كان يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه.
والصواب كما قال الطبري أن يقال: كل هذِه الآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة، والعمل بكل ذلك وجه صحيح فأما الدعاء بالإشارة بالأصبع الواحدة فكما قال ابن عباس: إنه الإخلاص، والدعاء ببسط اليدين، والابتهال رفعهما.
وقد روى عمر بن نبهان عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وبباطنهما. ويجوز أن يكون ذلك كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس، وجائز أن يكون إعلامًا منه بسعة الأمر في ذلك، وأن لهم فعل أي ذلك شاءوا في حال دعائه، غير أن أحب الأمر في ذلك أن يكون اختلاف هيئة الداعي على قدر اختلاف حاجته.
وأما الاستعاذة والاستخارة فأحب الهيئات منها هيئة المبتهل؛ لأنها أشد لهيئة المستخير، وقد قال شهر بن حوشب: المسألة ببطن الكف والتعوذ مثل التكبير إذا افتتح الصلاة.
وأما حديث قتادة عن أنس صلى الله عليه وسلم أنه عليه السلام كان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء فكان يرفعهما حتى يرى بياض إبطيه
(1)
،
= عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس موقوفًا.
ورواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 320، والبيهقي في "الكبرى" 2/ 123 من طريق عبد العزيز بن عبد الله، عن سليمان بن بلال، عن عباس بن عبد الله، عن أخيه إبراهيم، عن ابن عباس مرفوعًا.
(1)
سلف برقم (1031) كتاب: الاستسقاء، باب: رفع الإمام يده في الاستسقاء، ورواه مسلم برقم (895) كتاب: صلاة الاستسقاء، باب: رفع اليدين بالدعاء في الاستسقاء.
فيحمل على الرفع البليغ. وقد روى ابن جريج، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: في بدء الصلاة، وإذا رأيت البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجمع، وعند الجمرتين"
(1)
.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع الأيدي مطلقًا من وجوه: منها: حديث أبي موسى وابن عمر وأنس من طرق أثبت من حديث أنس، رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عنه. وذلك أن سعيدًا تغير عقله وحالته في آخر عمره، وقد خالفه شعبة في روايته عن قتادة عن أنس، فقال فيه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه. ولا شك أن شعبة أثبت من سعيد. وقد روى جعفر بن ميمون، عن أبي عثمان، عن سلمان رضي الله عنه مرفوعًا:"إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا"
(2)
.
فإن قلت: قد روي عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم كرهوا رفع الأيدي في دبر الصلاة قائمًا، فإنما قيل: يمكن أن يكون ذلك إذا لم تنزل بالمسلمين نازلة يحتاجون معها إلى الاستغاثة إلى الله بالتضرع والاستكانة، فالقول كما قالوا وإن نزلت احتاجوا معها إلى الاستغاثة
(1)
رواه الشافعي في "مسنده" بترتيب السندي 1/ 339 (875). ورواه البيهقي في "الكبرى" 5/ 72 وقال: هو منقطع؛ ولم يسمع ابن جريج من مقسم. ورواه الطبراني في "الكبير" 11/ 385 من طريق ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم به. قال الهيثمي في "المجمع" 2/ 103 (2595): فيه ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ.
(2)
رواه أبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وابن ماجه (3865).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(237).
إلى الله بالتضرع والاستكانة؛ لكشفها عنهم، فالرفع عند مالك حسن جميل
(1)
. ولكن روى ابن غانم عنه: ليس ذلك من أمر الفقهاء. قال في "المدونة": وعزم عليهم الأمر في الاستسقاء فرفع مالك يديه وجعل بطونهما إلى الأرض وظهورهما إلى السماء، وقال: إن كان الرفع فهكذا
(2)
.
وقيل: أما في الرهبة فكذلك، وأما في الرغبة فيجعل بطون الكفين إلى السماء. وقيل: يجعل بطونهما إلى السماء في كل حال.
قال الداودي: وروي في حديث في إسناده نظر أن الداعي يمسح وجهه بيديه عند آخر دعائه، ورأيت لابن شعبان أنه مكروه. (قلت: أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عمر، وضعفه الترمذي ونقل عنه تصحيحه، وفيه نظر)
(3)
(4)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 10/ 101 - 104.
(2)
"المدونة الكبرى" 1/ 71.
(3)
من (ص 2).
(4)
"سنن الترمذي"(3386)، "المستدرك" 1/ 536.
وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب، وفي بعض النسخ: حديث غريب، وسكت عنه الذهبي في "التخليص".
24 - باب الدُّعَاءِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ القِبْلَةِ
6342 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. فَتَغَيَّمَتِ السَّمَاءُ وَمُطِرْنَا حَتَّى مَا كَادَ الرَّجُلُ يَصِلُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمْ تَزَلْ تُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا، فَقَدْ غَرِقْنَا. فَقَالَ:«اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا» . فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَقَطَّعُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَلَا يُمْطِرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ. [انظر: 932 - مسلم: 897 - فتح 11/ 143]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه السالف في الجمعة
(1)
وهو مطابق لما ترجم له، ثم ترجم.
(1)
سلف برقم (932) باب: رفع اليدين في الخطبة.
25 - باب الدُّعَاءِ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ
6343 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هَذَا الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي، فَدَعَا وَاسْتَسْقَى، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ. [انظر: 1005 - مسلم: 894 - فتح 11/
144]
وساق حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ: خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا المُصَلَّى يَسْتَسْقِي، فَدَعَا وَاسْتَسْقَى، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ.
واعترض الإسماعيلي فقال: هذا الحديث في الباب قبله أدخل مما هنا، ولعل أبا عبد الله أراد أنه كما استقبل القبلة وقلب رداءه دعا حينئذٍ وليس كذلك، قلت: بلى. وقد روى البخاري في باب الاستسقاء في التحويل والجهر، وقال فيهما: فاستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما
(1)
.
قلت: والدعاء حسن كيفما تيسر وبكل حال؛ ألا ترى قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]. فمدحهم الله ولم يشترط في ذلك حالة دون حالة، ولذلك دعا عليه السلام في الحديث الأول في خطبته يوم الجمعة، وهو غير مستقبل القبلة، وفي الاستسقاء استقبلها.
فصل:
في ألفاظ وقعت في الحديث في الباب الأول لا بأس أن ننبه عليها: قوله: (فتغيمت السماء) الغيم: السحاب، يقال: غامت السماء وأغامت وأغيمت وتغيمت بمعنى.
(1)
الأول سلف برقم (1024)، والثاني برقم (1025).
وقوله: (يسقينا)
(1)
تقرأ بضم الياء ويجوز فتحها سقى وأسقى بمعنى، وقيل بالفرق كما سلف في موضعه.
وقوله: (ومطرنا) أي: رحمنا، قال الهروي: وكذا أمطرنا هذا قول أهل اللغة، وفي التفسير: أمطر في العذاب ومطرنا في الرحمة. وفي "الصحاح": وقد مطرنا وناس يقولون: مطرت السماء وأمطرت بمعنى
(2)
. وكذا في كتاب ابن فارس: مطرنا وغرقنا بكسر الراء وقرئ: (ليغرق أهلها) بفتح الياء والراء
(3)
.
فصل:
وفيه: حجة على أبي حنيفة في التحويل وعند الشافعي: ينكسه أيضًا خلافًا لمالك، وقال ابن الجلاب: هو بالخيار. وعُلل بالتفاؤل بالانتقال من حالٍ إلى حال. وأنكره بعضهم وألزم بتحويل الخاتم وغيره مما يسرع تحويله.
فرع:
إذا تحول الإمام تحول الناس وفاقًا لمالك، وقال ابن عبد الحكم: يحول الإمام وحده. وكل هذا سلف مبسوطًا، وأعدناه لبعده.
(1)
في الأصل: (يسقها)، والمثبت هو الثابت في الحديث.
(2)
"الصحاح" 2/ 818 مادة: [مطر].
(3)
هذِه قراءة حمزة والكسائي، انظر:"الحجة للقراءة السبعة" 5/ 158.
26 - باب دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِخَادِمِهِ بِطُولِ العُمُرِ وَبِكَثْرَةِ مَالِهِ
6344 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللهِ، خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللهَ لَهُ. قَالَ:«اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ» . [انظر: 1982 - مسلم: 2480 - فتح 11/ 144]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللهِ، خَادِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللهَ لَهُ. قَالَ:"اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ".
وترجم عليه فيما سيأتي باب: الدعاء بكثرة المال والولد مع البركة
(1)
. ثم ترجم عليه: باب: الدعاء بكثرة الولد مع البركة
(2)
.
فأما ما ترجم له فهو ظاهر خلا طول العمر؛ فلم يذكر فيه هنا وإن كان ورد، ويؤخذ أيضًا من دعوته بكثرة الولد؛ لأنه لا يكون إلا في كثير من السنين، فدعاؤه له بكثرة الولد دعاء له بطول العمر، ويدخل أيضًا في قوله:"وبارك له فيما أعطيته". والعمر مما أعطاه.
فأما كثرة ماله فكانت نخله تطرح في السنة مرتين، وأما كثرة ولده فهو أحد الصحابة الذين لم يموتوا حتى رأى من صلبهم مائة ولد ذكر، وقد قال عن نفسه: أحصيت أنه دخل من بطني الأرض إلى مقدم الحجاج البصرة بضع وعشرون ومائة نسمة. وكان دخوله إياها سنة خمس وسبعين، وولد له بعد قدومه أولاد؛ ببركة دعائه عليه السلام.
وأما عمره فجاوز المائة كما سلف.
(1)
سيأتي برقم (6378).
(2)
سيأتي برقم (6380).
ودعا له (برابعة وهي المغفرة)
(1)
وتُرجى له.
فإن قلت: فما معنى دعائه له بطول العمر وقد علم أن الآجال لا يزاد فيها ولا ينقص منها على ما كتب في بطن أمه؟ قيل: معناه - والله أعلم - أن الله تعالى يكتب أجل عبده إن أطاعه واتقاه كذا وإلا كان أقل منه. يوضحه قوله تعالى في قصة نوح حين قال لقومه: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 3، 4]. أي قضى به لكم إذا أطعتم، فإن عصيتم لم يؤخركم إلى ذلك الأجل، وكل قد سبق في علمه مقدار آخره على ما يكون من فعله.
قال ابن قتيبة: ومثله ما روي أن الصدقة تدفع القضاء المبرم وأن الدعاء يدفع البلاء. وقد ثبت أنه لا راد لقضاء الله، ومعنى ذلك أن المرء قد يستحق بالذنوب قصاص العقوبة، فإن هو تصدق (دفع)
(2)
عن نفسه ما استحق من ذلك، يوضحه قوله:"إن صدقة السر تطفئ غضب الرب"
(3)
.
أفلا ترى أن من غضب الله عليه فقد تعرض لعقابه فإذا زال ذلك
(1)
في (ص 2) بالمغفرة.
(2)
في الأصل: (ودفع).
(3)
رواه الطبراني في "الكبير" 19/ 421، وفي "الأوسط" 1/ 289 والقضاعي في "مسند الشهاب" 1/ 94 (102) عن صدقة، عن الأصبغ، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده.
قال الهيثمي في "المجمع" 3/ 115: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه صدقة بن عبد الله، وثقه دُحيم وضعفه جماعة.
ورواه البيهقي في "الشعب" 3/ 244.
وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3760).
الغضب بالصدقة زال العقاب، وكذلك الدعاء يرفع إلى الله فيوافق البلاء نازلًا من السماء فيزيله ويصرفه، وكل ذلك قد جرى به القلم في علم الله أنه إن تصدق أو دعا صرف عنه غضب الله وبلاءه.
في هذا الحديث حجة لمن فضل الغنى على الفقر، وستكون لنا عودة إليها في كتاب الرقاق.
27 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الكَرْبِ
6345 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ الْكَرْبِ: «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» . [6346، 7426، 7431 - مسلم: 2730 - فتح 11/ 145]
6346 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ:«لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» . وَقَالَ وَهْبٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ. [انظر: 6345 - مسلم: 2730 - فتح 11/ 145]
ذكر فيه حديث مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا هِشَامٌ، عن قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ -رفيع بن مهران- عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ: "لَا إله إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لَا إله إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ (وَالأَرْضِ)
(1)
، ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ".
وفي لفظ عن يَحْيَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ، عَنْ قَتَادَةَ: كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ: "لَا إله إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لَا إله إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لَا إله إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ". وَقَالَ وَهْبٌ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ مِثْلَهُ.
الشرح:
روى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليٌّ بزيادة واختلاف في لفظه، كما رواه ابن أبي شيبة من حديث أبي إسحاق عن عبد الله بن سلمة،
(1)
من (ص 2).
عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك -مع أنه مغفور لك- لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش الكريم، الحمد لله رب العالمين"
(1)
.
ولما خرج النسائي
(2)
حديث ابن عباس عن محمد بن حاتم، عن حبان، ثنا ابن المبارك. عن مهدي بن ميمون، عن يوسف بن عبد الله بن الحارث قال: قال لي أبو العالية: ألا أعلمك دعاء؟ أنبئت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: .. فذكره ولم يسنده
(3)
.
ولابن أبي شيبة في باب: ما كان عليه السلام يقول عند الكرب: حدثنا زيد بن حباب، عن عبد الجليل بن عطية، حدثني جعفر بن ميمون، ثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة، حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلمات للمكروب: "اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت"
(4)
.
وحدثنا محمد بن بشر، ثنا عبد العزيز بن عمر، حدثني هلال مولى عمر بن عبد العزيز، عن مولاه عمر، عن عبد الله بن جعفر أن أمه أسماء بنت عميس قالت: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن:
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 46 (29346).
(2)
ورد في هامش الأصل: أخرجه النسائي في البعوث وفي اليوم والليلة: عن هارون بن عبد الله، عن أبي أحمد، عن علي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة المرادي به. وعن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن شريح بن مسلمة، عن إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، نحوه.
(3)
"سنن النسائي الكبرى" 6/ 168 (10490).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 20 (29145).
"الله ربي لا أشرك به شيئًا"
(1)
.
وروى أحمد بإسناد جيد عن علي رضي الله عنه: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل بي كرب أن أقول: "لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله، وتبارك الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين"
(2)
. وقد سلف أطول من ذلك.
وقال أحمد: حدثنا يزيد، ثنا فضيل بن مروزق، ثنا أبو سلمة الجهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي. إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا"
(3)
.
وفي كتاب "مجابي الدعوة" لابن أبي الدنيا من حديث فهير بن زياد، عن موسى بن وردان، عن الكلبي -وليس بصاحب التفسير- عن الحسن عن أنس رضي الله عنه: كان رجل من الصحابة من الأنصار يكنى أبا معلق
(4)
وكان
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 20 (29147).
(2)
"مسند أحمد" 1/ 91.
قال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"(701): إسناده صحيح.
(3)
"مسند أحمد" 1/ 391.
قال العلامة أحمد شاكر (3712): إسناده صحيح.
(4)
في هامش الأصل ما نصه: قال الذهبي في "تجريد الصحابة" في ترجمة أبي معلق: أن في سند حديثه: الكلبي وأطلق، فمراده صاحب التفسير، وهو كذاب، والله أعلم.
تاجرًا فلقيه لص فأراد قتله، فقال: دعني أصلّ أربع ركعات. فقال: افعل. فصلى ثم قال: يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالا لما تريد، أسألك بعزتك التي لا ترام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني. ثلاث مرات، فإذا هو بملك بيده حربة، فقتل اللص فقال: من أنت؟ قال: ملك من السماء الرابعة، لما دعوت سمعت ضجة أهل السماء فسألت الله أن يوليني قتل اللص ففعل. قال أنس: فاعلم أنه من صلى أربع ركعات ثم دعا بهذا الدعاء استجيب له مكروبًا كان أو غير مكروب
(1)
.
ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب "الوظائف" من حديث عمارة بن صفوان: ثنا محمد بن عبيد الرقي، ثنا يحيى بن زياد، عن موسى بن وردان فلا ندري تصحف فهير (بيحيى)
(2)
أو هو غيره.
فصل:
وكان السلف -كما قال الطبري- يدعون بدعاء ابن عباس، ويسمونه دعاء الكرب. قال أيوب: كتب (إليه)
(3)
أبو قلابة بدعاء الكرب وأمره أن يعلمه ابنه.
فإن قلت: هذا ذكر وليس فيه دعاء، قلت: هو ذكر يستفتح به الدعاء، ثم يدعو بما شاء على ما روى حماد بن سلمة، عن يوسف بن عبد الله بن الحارث، عن أبي العالية، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
"مجابو الدعوة" ص 63 (23).
(2)
من (ص 2).
(3)
في الأصل: (إليّ).
كان إذا حزبه أمر قال: "لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش الكريم". ثم يدعو
(1)
.
توضحه رواية الأعمش عن النخعي قال: كان يقال: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استوجب له، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء.
وقد نبه على هذا المعنى ابن مسعود رضي الله عنه فقال: إذا خشيتم من أمير ظلمًا فقولوا: اللهم رب السموات ورب العرش العظيم، كن لي جارًا من فلان وأشياعه من الجن والإنس أن يفرطوا عليَّ وأن يطغوا، عز جارك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك. فإنه لا يصل إليكم منه شيء تكرهونه
(2)
.
ويحتمل أيضًا ما روي عن حسين المروزي قال: سألت ابن عيينة: ما كان أكثر قوله عليه السلام بعرفة؟ فقال: "لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولله الحمد" ثم قال لي سفيان: إنما هو ذكر وليس فيه
(1)
رواه مسلم (2730/ 83) كتاب: الذكر والدعاء، باب: دعاء الكرب.
(2)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(707) قال: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، حدثنا ثمامة بن عقبة، قال: سمعت الحارث بن سويد يقول: قال عبد الله بن مسعود موقوفًا. وقال الألباني: صحيح.
ورواه الطبراني في "الكبير" 10/ 15 وفي "الدعاء"(1056) قال: حدثنا عبد الرحمن ابن سلم الرازي والحسين بن إسحاق التستري قالا: ثنا سهل بن عثمان، ثنا جنادة بن سلم، عن عبيد الله بن عمر، عن عتبة بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا.
قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 127 (17135): رواه الطبراني، وفيه: جنادة بن سلمى وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2400).
دعاء. ثم قال لي: أما علمت قول الله حيث يقول: "إذا شغل عبدي ثناؤه [علىّ] عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"
(1)
قلت: نعم. حدثتني أنت وابن مهدي بذلك عن منصور بن المعتمر، عن مالك بن الحارث، ثم قال سفيان: أما علمت قول أمية بن أبي الصلت حين أتى ابن جدعان يطلب نائلة وفضله قلت: لا. قال أمية:
أأطلب حاجتي أم قد كفاني
…
ثناؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يومًا
…
كفاه من تعرضه الثناء
قال سفيان: هذا مخلوق حين نسب إلى أن يكتفي بالثناء عليه دون مسألته فكيف بالخالق؟!
قال ابن بطال: وحدثني أبو بكر الرازي قال: كنت بأصبهان عند الشيخ أبي نعيم أكتب الحديث عنه، وكان هناك شيخ آخر يعرف بأبي بكر بن علي، وكان عليه مدار الفتيا، فحسده بعض أهل البلد، فبغّاه عند السلطان فأمر بسجنه، وكان ذلك في شهر رمضان، قال أبو بكر:
(1)
رواه الترمذي (2926) وقال: حسن غريب، والدارمي في "مسنده" 4/ 2112 (3399) عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، بلفظ:"من شغله قراءة القرآن عن مسألتي وذكري .. ". ورواه البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 115 (1879)، والبزار في "مسنده" 1/ 247 (137).
والبيهقي في "الشعب" 1/ 413 (572) من طريق صفوان بن أبي الصهباء، عن بكير بن عتيق، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب مرفوعًا. قال ابن الجوزي في "الموضوعات" 3/ 422 (1654): صفوان يروي عن الأثبات ما لا أصل له من حديث الثقات، فلا يجوز الاحتجاج بما انفرد.
وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" 1/ 296 - 297: فيه صفوان بن أبي الصهباء، ذكره ابن حبان في "الضعفاء" وفي "الثقات" أيضًا. والحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة"(1335).
فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عليه السلام عن يمينه يحرك شفتيه لا يفتر من التسبيح فقال لي عليه السلام: قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في "صحيح البخاري" حتى يفرج الله عنه. فأصبحت إليه وأخبرته بالرؤيا فدعا به فما بقي إلا قليلاً حتى أخرج من السجن. ففي هذِه الرؤيا شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكتاب البخاري بالصحة بحضرة جبريل، والشيطان لا يتمثل بصورته عليه السلام في المنام
(1)
.
فصل:
قوله: ("رب العرش العظيم") وفي رواية: "الكريم" أي: المكرم، وهو صفة العرش.
وقال الداودي: وقد تكون الصفة لله والذي في القرآن أنه صفة للعرش قال تعالى: {اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}
(2)
[المؤمنون: 116]
(3)
.
فصل:
جاء في رواية: إذا حزبه أمر -هو بحاء مهملة ثم زاي ثم باء موحدة ثم هاء
(4)
- أي: نابه وألم به أمر شديد. قال بعض العلماء -فيما حكاه عياض- هذِه الفضائل المذكورة في هذِه الأذكار إنما هي لأهل الشرف في الدين والطهارة من الكبائر دون المصرين وغيرهم، قال: وفيه نظر والأحاديث عامة
(5)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 10/ 108 - 110.
(2)
الاستدلال في بقية الآية في قوله تعالى: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} .
(3)
من (ص 2).
(4)
رواه مسلم (2730).
(5)
"إكمال المعلم" 8/ 226.
28 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ
6347 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي سُمَى، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ.
قَالَ سُفْيَانُ: الْحَدِيثُ ثَلَاثٌ زِدْتُ أَنَا وَاحِدَةً، لَا أَدْرِي أَيَّتُهُنَّ هِيَ. [6616 - مسلم: 2707 - فتح 11/ 148]
ذكر فيه حديث سُفْيَانَ -وهو ابن عيينة- حَدَّثَنِي سُمَى، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ جَهْدِ البَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ.
قَالَ سُفْيَانُ: الحَدِيثُ ثَلَاثٌ زِدْتُ أَنَا وَاحِدَةً، لَا أَدْرِي أَيَّتُهُنَّ.
الشرح:
كل ما أصاب الإنسان من شدة المشقة والجهد فيما لا طاقة له بحمله ولا يقدر على دفعه عن نفسه، فهو من جهد البلاء.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن جهد البلاء فقال: قلة المال وكثرة العيال
(1)
.
قلت: وهو بفتح الجيم أي: مشقته، وعبارة القزاز: هو أقصى ما تبلغ. قال: وتفتح جيمه وتضم.
والبلاء ممدود فإذا كسرت الباء قصرت.
ودرك الشقاء نحفظه بالإسكان
(2)
.
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" ص 125 (466).
(2)
في هامش الأصل: فيه لغتان حكاهما غير واحد، والله أعلم.
وفي "الصحاح": الدرك: التبعة، يسكن ويحرك، يقال: ما لحقك من درك فعلي خلاصُه
(1)
.
وقال القزاز: درك الشقاء إدراكه.
وقال ابن بطال: درك الشقاء ينقسم قسمين في أمر الدنيا والآخرة، وكذلك سوء القضاء هو عام أيضًا في النفس والمال والأهل والخاتمة والمعاد، وشماتة الأعداء مما ينكأ القلب ويبلغ من النفس أشد مبلغ.
وهذِه جوامع ينبغي للمؤمن التعوذ بالله منها كما تعوذ الشارع منها، وإنما دعا بذلك؛ معلمًا لأمته ما تتعوذ بالله منه، فقد كان أمنه الله عز وجل من كل سوء.
وذكر عن أيوب عليه السلام أنه سئل عن أي حال بلائه كان أشد عليه؟ قال: شماتة الأعداء. أعاذنا الله من جميع ذلك بمنه وكرمه. آمين
(2)
.
(1)
"الصحاح" 4/ 1582 مادة: (درك).
(2)
"شرح ابن بطال" 10/ 110.
29 - باب دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى»
6348 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهْوَ صَحِيحٌ: «لَنْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ» . فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي، غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ، ثُمَّ قَالَ:«اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى» . قُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا وَهْوَ صَحِيحٌ. قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى» . [انظر: 4435 - مسلم: 2444 - فتح 11/ 149]
ذكر فيه حديث اللَّيْثِ عن عُقَيْلٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ وَهْوَ صَحِيحٌ: "لَمْ يُقْبَضَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ". فَلَمَّا نُزِلَ بِهِ وَرَأْسُهُ (عَلَى فَخِذِي)
(1)
، غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصرَهُ إِلَى السَّقْفِ، ثُمَّ قَالَ:"اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى" .. الحديث. قال الإسماعيلي: رواه سلامة عن عقيل، وابن المبارك عن معمر، وموسى وابن وهب عن يونس، لم يذكر أحد منهم عروة، ذكروا: سعيدًا في رجال.
والرفيق الأعلى، قال الدوادي: يعني: الجنة. وذكر فيه أنه قال: الرفيق سقف البيت، وأنكر ذلك من حكاه. (وذكر غيره أن الرفيق الأعلى: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين)
(2)
.
(1)
في الأصل: (في حجري).
(2)
من (ص 2).
30 - باب الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ
6349 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا، قَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ. [انظر: 5672 - مسلم: 2681 - فتح 11/ 150]
6350 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ أَتَيْتُ خَبَّابًا وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعًا فِي بَطْنِهِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ. [انظر: 5672 - مسلم: 2681 - فتح 11/ 150]
6351 -
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» . [انظر: 5671 - مسلم: 2680 - فتح 11/ 150]
ذكر فيه حديث خَبَّابٍ رضي الله عنه أنه اكْتَوى سَبْعًا في بطنه وقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ.
وحديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أحدكم المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي".
(هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا
(1)
[والترمذي] في الجنائز، وقال: حسن صحيح
(2)
. والنسائي فيه
(3)
، وفي الطب
(4)
)
(5)
.
(1)
مسلم (2680) كتاب: الذكر والدعاء، باب: كراهية تمنى الموت لضر نزل به.
(2)
"سنن الترمذي"(971).
(3)
"سنن النسائي" 4/ 3.
(4)
"سنن النسائي الكبرى" 4/ 360 (7517).
(5)
من (ص 2).
وقول خباب: إنما ذكره؛ اعتذارًا من كيه، وقال مالك: لا بأس بالاكتواء. وقد اكتوى ابن عمر (من اللَّقوة
(1)
، وأسعد بن زرارة من الذبحة (1)، قال مالك: دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على نفسه)
(2)
حين قال: اللهم كبرت سنين، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مفرط ولا مضيع
(3)
. قال: وقال عمر بن عبد العزيز لبعض من كان يخلو معه: ادع لي بالموت. (وسنه في الأربعين)
(4)
، قاله الداودي.
وقوله: ("فإن كان لا بد متمنيًا") يدل أن من ترك ذلك بغير اشتراط أولى وأفضل، قال: وزعم قوم أن هذا ناسخ لقول يوسف عليه السلام: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] ويوسف لم يتمن الموت، إنما دعا أن يثبت على إسلامه حتى يموت.
قال ابن بطال: ومعنى الحديثين على الخصوص، وقد بين عليه السلام ذلك في الحديث قال:"لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به" فقد يكون له في ذلك الضر خير لدينه ودنياه ومآله، إما تمحيص لذنوب سلفت له وطهور من سيئات، كما قال عليه السلام للشيخ الذي زاره في مرضه، وقد أصابته الحمى فقال له:"لا بأس، طهور إن شاء الله"
(5)
، وقد يكون له في المرض منافع، منها: أن يكون المرض سببًا لامتناعه من سيئات كان يعملها لو كان صحيحًا، وبلاء يندفع عنه في نفسه (وماله)
(6)
، فالله أنظر لعبده المؤمن؛ فينبغي له الرضى عن ربه في مرضه وصحته، ولا يتهم قَدَرَه، ويعلم أنه أنظر له من نفسه، ولا يسأله الوفاة عند
(1)
"الموطأ" ص 586.
(2)
من (ص 2).
(3)
"الموطأ" ص 515.
(4)
من (ص 2).
(5)
سلف برقم (5656).
(6)
من (ص 2).
ضيق نفسه من مرضه، أو تعذر أمور دنياه عليه، وقد جاء وجه سؤال الموت فيه مباح، وهو خوف فتنة تكون سببًا لتلاف الدين، فقد قال:"وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون"
(1)
.
ووجه آخر: وهو عند خوف المؤمن أن يضعف عن القيام بما قلده الله، كما قال عمر فيما سلف، فخشي عمر أن يطول عمره، ويزيد ضعفه، ولا يقدر على القيام بما قلده الله وألزمه القيام به من أمور رعيته، وكان سنه حين دعا بذلك ستين سنة أو نحوها، وكذا ما سلف عن عمر بن عبد العزيز حرصًا على السلامة من التغيير، فهذان الوجهان مباح أن يسأل فيهما الموت، وقد سلف في كتاب المرضى في باب تمني المريض الموت
(2)
.
(1)
رواه الترمذي (3233)، وأحمد 1/ 368 (3484) من حديث ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"(2580).
ورواه الترمذي أيضًا (3235)، وأحمد 5/ 243 (22019)، والطبراني في "الكبير" 20/ 109 - 110، والحاكم في "المستدرك" 1/ 521 من حديث معاذ بن جبل. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"(2582).
(2)
انتهى من "شرح ابن بطال" 10/ 111 - 112.
والحديث المذكور سلف برقم (5671).
31 - باب الدُّعَاءِ لِلصِّبْيَانِ بِالْبَرَكَةِ وَمَسْحِ رُءُوسِهِمْ
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: وُلِدَ لِي غُلَامٌ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْبَرَكَةِ. [انظر: 5467]
6352 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ، عَنِ الجَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ. فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ. [انظر: 190 - مسلم: 2345 - فتح 11/ 150]
6353 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عَقِيلٍ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ هِشَامٍ مِنَ السُّوقِ -أَوْ إِلَى السُّوقِ- فَيَشْتَرِى الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عُمَرَ فَيَقُولَانِ: أَشْرِكْنَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ. فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى المَنْزِلِ. [انظر: 2502 - فتح 11/ 151]
6354 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهُوَ الَّذِي مَجَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَهْوَ غُلَامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ. [انظر: 77 - فتح 11/ 151]
6355 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيَدْعُو لَهُمْ، فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ على ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ. [انظر: 222 - مسلم: 286 - فتح 11/ 151]
6356 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ -وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَسَحَ عَنْهُ- أَنَّهُ رَأَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ. [انظر: 4300 - فتح 11/ 151]
وهذا سلف في العقيقة من حديث بريدة عن أبيه عن جده
(1)
.
ثم ساق أحاديث:
أحدها:
حديث حَاتِمٍ، عَنِ الجَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابن أُخْتِي وَجِعٌ. فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ.
ثانيها:
حديث أَبِي عَقِيلٍ -واسمه زهرة بن معبد بن عبد الله بن هشام القرشي التيمي- أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ هِشَامٍ مِنَ السُّوقِ -أَوْ إِلَى السُّوقِ- فَيَشْتَرِي الطَّعَامَ، فَيَلْقَاهُ ابن الزُّبَيْرِ وَابْنُ عُمَرَ فَيَقُولَانِ: أَشْرِكْنَا فَإِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ فيشركُهم فَرُبَّمَا أَصَابَ الرَّاحِلَةَ كَمَا هِيَ، فَيَبْعَثُ بِهَا إِلَى المَنْزِلِ.
ثالثها:
حديث مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهُوَ الذِي مَجَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَهْوَ غُلَامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ.
رابعها:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيَدْعُو لَهُمْ، فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
(1)
أي تعليق أبي موسى سلف برقم (5467) باب: تسمية المولود.
خامسها:
حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ -وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَسَحَ عَنْهُ- أَنَّهُ رَأى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ.
الشرح:
فيه: الذهاب بالصبيان إلى الصالحين (وسؤالهم الدعاء لهم بالبركة ومسح رءوسهم؛ تفاؤلًا لهم بذلك، وتبركًا بدعائهم. وفي حديث محمود بن الربيع مداعبة الأئمة وأهل الفضل للصبيان، وأن ذلك من أخلاق الصالحين)
(1)
. وفي حديث أبي عقيل رغبة السلف الصالح في الربح الحلال، وحرصهم على بركة التجارة، وأنهم كانوا يتجرون في التجارات ويسعون في طلب الرزق؛ ليستغنوا بذلك عن الحاجة إلى الناس، ولا يكونوا عالة للناس، ولا كلا على غيرهم.
فصل:
الحديث الأولى رواه في فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث حاتم عن الجعيد مصغرًا
(2)
. وبالوجهين، ذكره الكلاباذي وغيره.
والسائب هذا: هو أبو يزيد السائب بن يزيد بن سعيد، المعروف بابن أخت نمر، قيل: إنه ليثي كناني، وقيل: أزدي، وقيل: كندي، حليف بني أمية، ولد في السنة الثانية من الهجرة، وخرج في الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه من تبوك، وشهد حجة الوداع، وعمَّر أربعًا وثمانين، وليس في الصحابة السائب بن يزيد سواه، وأما ابن منده فقال: السائب بن يزيد، قال عطاء مولى السائب:
(1)
من (ص 2).
(2)
سلف برقم (3541) كتاب: المناقب، باب: خاتم النبوة.
أنه كان مقدم رأسه أسود؛ لأنه عليه السلام مسحه
(1)
. كذا فصله عن الذي قبله، وهو هو. وأما السائب: ففي الصحابة خلق فوق العشرين، وشاب رأس السائب بن يزيد كله إلا موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان وضعها على رأسه لما مسحه، وبقي ذلك الموضع أسود حتى مات رضي الله عنه.
فصل:
فسر الترمذي زر الحجلة ببيضة الحمامة، وروى من حديث جابر بن سمرة:(كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم الذي بين كتفيه غدة حمراء مثل بيضة الحمامة)
(2)
، والحجلة على هذا الطائر الذي يسمى القبج، والمشهور أنها واحدة الحجال وهي الستور، وأن الزر واحد الأزرار التي تدخل في العرى، وقال فيه الخطابي: إنه بتقديم الراء على الزاي، أخذه من رز الجراد وهو بيضها
(3)
، فاستعير للطائر.
وذكر البخاري في خاتم النبوة في الفضائل، عن شيخه محمد بن عبيد الله: الحجلة، وحجل الفرس: الذي بين عينيه
(4)
، وقال ابن التين: من رواه بفتح الحاء: (المكحلة)
(5)
، ومن رواه بضمها يعني: محلة الفرس: وهو الشعر الذي يجتمع في مؤخر الرجل في الرسغ، قال: والزر الذي يصنع بالبندقة من خرقة (تدخل)
(6)
في عروة تزر به. وقرأته بفتح الحاء والجيم، وفي "الصحاح": الحجلة
(1)
انظر: "معرفة الصحابة" لابن منده 2/ 743 - 744 (485).
(2)
"سنن الترمذي"(3644) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3)
"أعلام الحديث" 3/ 1591.
(4)
سلف برقم (3541).
(5)
في الأصل: (الملحة).
(6)
في الأصل: (الرجل).
بالتحريك: واحدة حجال العرس وهو بيت يزين بالثياب والأسرة والستور
(1)
.
فصل:
قال الداودي: في دعائه لعبد الله بن هشام بالبركة دليل على فضل الكفاف على الفقر.
فصل:
محمود بن الربيع بن سراقة الخزرجي، مات سنة تسع وتسعين، قال الداودي: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو ابن خمس سنين فحفظ عنه مجه في وجهه، فكانت له بذلك صحبة. ومعنى مجه رمى به.
فصل:
عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير بالعين المهملة له صحبه إن شاء الله، مات سنة سبع وثمانين، وهو حليف بني زهرة.
فصل:
الرواي عن محمود بن الربيع الزهري عده ابن الصلاح في صغار التابعين
(2)
، ورددنا ذلك عليه في "المقنع في علوم الحديث"
(3)
، ووقع في ابن التين: أدرك نحو عشرة من الصحابة
(4)
منهم: أنس، وسهل ابن سعد، وعبد الرحمن بن أزهر، والسائب بن يزيد، ومحمود هذا وعبد الله ابن ثعلبة، قال: ويقال: إنه سمع من عبد الله بن عمر حديثين.
(1)
"الصحاح" 4/ 1667 مادة: (حجل).
(2)
انظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح ص (52، 53).
(3)
انظر: "المقنع في علوم الحديث" 1/ 130 - 131.
(4)
في هامش الأصل: بل أدرك عشرين من الصحابة أعني: الزهري، عددهم شيخنا العراقي فيما قرأته عليه، بل سبعة عشر من صحابي مختلف في صحبته.
فصل:
وقوله (أشركنا) هو رباعي، أي: اجعلنا من شركائك، ومنه {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)} [طه: 32] وضبط ثلاثي في بعض الكتب، والصحيح ما تقدم، وإنما يقال: شركته في الميراث والبيع إذا ثبتت الشركة، وأما إذا سألته الشركة فإنما تقول له: أشركنى رباعيًّا، نبه عليه ابن التين.
فصل:
قوله يوتر بركعة: يريد: أنه لا شفع قبلها وذكر نحوه عن معاوية وذكر لابن عباس فقال: إنه فقيه، ومذهب أكثر الفقهاء استحباب الشفع قبله، واختلف: هل يسقط للعذر؟ فذكر عن سحنون أنه أوتر في مرضه بواحدة، وذكر نحوه في المسافر، وقيل: لا بد من شفع قبله وهو وجه عندنا. وفيه حجة على أبي حنيفة في قوله: الوتر ثلاث ركعات.
32 - باب الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-
6357 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ قَالَ:«فَقُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . [انظر: 3370 - مسلم: 406 - فتح 11/ 152]
6358 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ قَالَ:«قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ» . [انظر: 4798 - فتح 11/ 152]
ذكر فيه حديث ابن أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ رضي الله عنه فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ فقَالَ:"قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
وحديث عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، هذا السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عليك؟ قَالَ:"قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ".
الشرح:
قوله: "اللهم" هو دعاء أدخلت الميم في آخره عوضًا عن (يا) من أوله، هذا قول البصريين، وقال الكوفيون: المعنى: يا الله أمنا بخير، والمسألة مبسوطة في "العربية"
(1)
.
واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هل هي فرض أم لا؟ فعندنا أنها واجبة في الصلاة، ووافق الشافعيَّ على ذلك جماعةٌ من الصحابة
(2)
، ولم ينفرد كما نسب إليه. وهو رواية عن أحمد أيضًا، وحكاه الروياني في "البحر" عن عمر وابنه عبد الله وابن مسعود وأبي مسعود البدري، ونقله الماوردي عن محمد بن كعب القرظي التابعي
(3)
.
ورواه البيهقي عن الشعبي وغيره عن علي بن الحسين
(4)
، وبه قال ابن المواز المالكي فيما حكاه ابن القصار.
ومذهب مالك وأبي حنيفة أنها سنة فيها
(5)
، ووافقهما ابن المنذر والخطابي والطبري، وحكاه ابن بطال عن جمهور العلماء، قال: والمشهور عن أصحابنا أنها واجبة في الجملة على الإنسان أن يأتي بالشهادتين مرة في دهره مع القدرة عليها، ثم قال: وشذ الشافعي فزعم أن ذلك فرض في الصلاة
(6)
، وهذِه العبارة قالها غير واحد من المالكية، ولا أرضاها، فقد علمت أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم سبقوه
(1)
انظر: "أسرار العربية" للأنباري ص 211. ط. دار الجيل.
(2)
انظر: "الحاوي الكبير" 2/ 137.
(3)
"الحاوي الكبير" 2/ 137.
(4)
"سنن البيهقي الكبرى" 2/ 379.
(5)
"الحاوي الكبير" 2/ 137.
(6)
"شرح ابن بطال" 10/ 113.
إليها وابن المواز منهم أيضًا وفي حديث كعب بن عجرة: "وذلك في الصلاة"، أخرجه عن إبراهيم بن محمد (عن)
(1)
سعيد بن إسحاق (عن [ابن أبي ليلى])
(2)
كعب بن عجرة
(3)
.
قال الطحاوي: وكان من حجة من خالفه عليه أن إبراهيم بن محمد ليس ممن يحتج بحديثه، ولو ثبت هنا لم يكن فيه دليل أن ذلك فرض؛ لأنا قد وجدنا مثل ذلك في الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من آي القرآن، ومن الأمر فيه أن يجعل ذلك في الصلاة فلم يكن مراده بذلك الفرض، وهو حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما نزل {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 74] قال: "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1] قال: "اجعلوها في سجودكم"
(4)
وكان من ترك التسبيح في الركوع والسجود غير مفسد صلاته، وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه علمهم التشهد في الصلاة، وليس منه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سلف ذلك في الصلاة
(5)
،
(1)
في الأصل (عن)، والمثبت من "مسند الشافعي".
(2)
في الأصل (بن)، والمثبت من "مسند الشافعي".
(3)
"المسند" للشافعي - ترتيب سنجر 1/ 97 (279).
(4)
رواه أبو داود (869)، وابن ماجه (887)، وأحمد 4/ 155 (17414)، والدارمي 2/ 825 (1344)، وابن حبان 5/ 225 (1898)، والطبراني في "الكبير"7/ 322 والحاكم في "المستدرك" 1/ 225، والبيهقي في "السنن الكبرى" 2/ 86 (2555) كلهم عن موسى بن أيوب الغافقي عن عمه إياس بن عامر عن عقبة بن عامر مرفوعًا، قال الحاكم: هذا حديث حجازي صحيح الإسناد، وقد اتفقا على الاحتجاج برواته غير إياس بن عامر. قال الذهبي في "التلخيص": إياس ليس بالمعروف.
وقد ضعف الألباني الحديث في "ضعيف سنن أبي داود"(152).
(5)
سلف برقم (831) باب: التشهد في الآخرة.
لكن فيه حديث أبي مسعود
(1)
، وفضالة بن عبيد
(2)
نص في ذلك
(3)
.
(1)
رواه مسلم (405) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة على النبي بعد التشهد.
(2)
رواه أبو داود (1481)، والترمذي (3477)، والنسائي 3/ 44 (1284).
(3)
انتهى من "شرح ابن بطال" 10/ 113 - 114.
33 - باب هَلْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-؟
وَقَوْلُه عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103].
6359 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ إِذَا أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَتِهِ، قَالَ:«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ» . فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» . [انظر: 1497 - مسلم: 1078 - فتح 11/ 169]
6360 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ:«قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» . [انظر: 3369 - مسلم: 407 - فتح 11/ 169]
ذكر فيه حديث ابن أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ إِذَا أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَتِهِ، قَالَ:"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ". فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى". وقد سلف
(1)
.
وحديث أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ:"قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".
الشرح:
اسم ابن أبي أوفى: عبد الله، واسم أبي حميد: عبد الرحمن بن
(1)
سلف برقم (1497) كتاب: الزكاة، باب: صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة.
عمرو بن سعد بن سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة، أخي عوف، وجدُّ أبي أسيد بن مالك بن ربيعة بن البدر بن عمرو، وقيل: عامر بن عوف أبي حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر، مات أبو حميد في أول ولاية يزيد وآخر خلافة معاوية، قاله الواقدي.
والصلاة على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم جائزة؛ بدليل الكتاب والسنة؛ ألا ترى أنه عليه السلام كان يصلى على من أتاه بصدقته، وفي حديث أبي حميد: أمرنا بالصلاة على (أزواجه، وذريته)
(1)
، وأزواجه من غير نسبه. وهذا الباب رد لقول من أنكر الصلاة على غير رسول الله.
وروى ابن أبي شيبة من حديث عثمان بن حكيم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أعلم الصلاة تنبغي من أحد على أحد إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
، والحجة في السنة لا فيما خالفها وعندنا يصلى عليهم تبعًا لهذا الحديث.
(1)
من (ص 2).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 255 - 256 (8716).
34 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ آذَيْتُهُ فاجعلها لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً»
6361 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . [مسلم: 2601 - فتح 11/ 171]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ القِيَامَةِ".
هذا الحديث يصدقه ما ذكره الله في كتابه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى قوله: {رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وهو عليه السلام، لا يسب أحدًا ولا يؤذيه ظالمًا له، وإنما يفعل ذلك من الواجب في شريعته، وقد يدع الانتقام لنفسه لما جبله الله عليه من العفو وكرم الخلق. ومعنى هذا الحديث -والله أعلم- التأنيس للمسبوب؛ لئلا يستولي عليه الشيطان، ويقنطه، ويوقع بنفسه أن سيلحقه من ضرر سبه ما يحبط به عمله، إذ سبه دعاء على المسبوب، ودعاؤه مجاب، فسأل الله تعالى أن يجعل سبه للمؤمنين قربة عنده يوم القيامة، وصلاة ورحمة، ولا يجعله نقمة، ولا عذابًا، وهذا مما خُص به، فإنه كان يسب على جهة التأديب غير أنه لا يتجاوز، وربما كان (سبه)
(1)
دعاء يستجاب له، فجعل عوضًا من ذلك دعاؤه لمن دعا عليه ليكون الفضل إليه.
(1)
في (ص 2): (شتمه).
35 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الفِتَنِ
6362 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ الْمَسْأَلَةَ، فَغَضِبَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ:«لَا تَسْأَلُونِي الْيَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ» . فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالَ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ:«حُذَافَةُ» ، ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولاً، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا رَأَيْتُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْيَوْمِ قَطُّ، إِنَّهُ صُوِّرَتْ لِي الْجَنَّةُ وَالنَّارُ حَتَّى رَأَيْتُهُمَا وَرَاءَ الحَائِطِ» . وَكَانَ قَتَادَةُ يَذْكُرُ عِنْدَ الْحَدِيثِ هَذِهِ الآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . [المائدة: 101][انظر: 93 - مسلم: 2359 - فتح 11/ 172].
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ المَسْأَلَةَ، فَغَضِبَ، فَصَعِدَ المِنْبَرَ فَقَالَ:"لَا تَسْأَلُونِي اليَوْمَ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ". فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافًّا رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَإِذَا رَجُلٌ كَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالَ يُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَبِي؟ قَالَ:"حُذَافَةُ" .. الحديث. ويأتي في الفتن
(1)
.
(وأحفوه): أكثروا عليه، يقال: أحفى وألحف، وقال الداودي: يريد سألوا عما يكره الجواب فيه؛ لئلا يضيق على أمته، وهذا في مسائل الدين لا في مسائل المال. وقوله:(لاحى الرجال): تسابوا، وهذا السائل هو عبد الله بن حذافة السهمي، وألحقه بأبيه الذي كان يدعى به، واندفع عنه القيل، ولما رجع إلى أمه قالت: ما حملك على ما صنعت؟ قال: كنا أهل جاهلية، وإن كنت لا أعرف أبي من كان.
(1)
سيأتي برقم (7089) باب: التعوذ من الفتن.
36 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ غَلَبَةِ الرِّجَالِ
(1)
6363 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو -مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَنْطَبٍ- أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي طَلْحَةَ: «الْتَمِسْ لَنَا غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي» . فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» . فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ، وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا، فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّى وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ -أَوْ كِسَاءٍ- ثُمَّ يُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَدَعَوْتُ رِجَالاً فَأَكَلُوا، وَكَانَ ذَلِكَ بِنَاءَهُ بِهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى بَدَا لَهُ أُحُدٌ، قَالَ:«هَذَا جُبَيْلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» . فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ» . [انظر: 371 - مسلم: 1365 - فتح 11/ 173]
ذكر فيه حديث أنسٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي طَلْحَةَ: "الْتَمِسْ لَنَا غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي". فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّمَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ". فَلَمْ أَزَلْ أَخْدُمُهُ حَتَّى أَقْبَلْنَا مِنْ خَيْبَرَ، وَأَقْبَلَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ قَدْ حَازَهَا، فَكُنْتُ أَرَاهُ يُحَوِّي لها وَرَاءَهُ بِعَبَاءَةٍ .. الحديث، وقد سلف
(2)
.
(1)
في هامش الأصل: تجاه هذا الباب بخط الأصل أهمله ابن بطال.
(2)
سلف برقم (371) كتاب: الصلاة، باب: ما يذكر في الفخذ.
ومعنى (يحوي وراءه) أي: يجعل لها حوية، خيفة أن تسقط، وهي التي تعمل حول سنام البعير.
قال القاضي: كذا رويناه يُحَوِّي: بضم الياء، وفتح الحاء، وتشديد الواو، وذكر ثابت والخطابي
(1)
بفتح الياء وإسكان الحاء وتخفيف الواو، ورويناه كذلك عن بعض رواة البخاري، وكلاهما صحيح، وهي أن يجعل لها حوية، وهي كساء محشو بليف يدار حول سنام الراحلة، وهي مركب من مراكب النساء، وقد رواه ثابت يحول باللام، وفسره: يصلح لها عليه مركبًا
(2)
.
أما تعوذه من الهم فهو: الغم والحزن، قال القزاز: ويحتمل أن يكون من همه المرض وأنحله، مأخوذ من هم الشحم إذا أذابه، فيكون تعوذه من المرض الذي ينحل جسمه، والبخل بفتح الباء والخاء وبضم الباء وسكون الخاء كما سيأتي.
والجبن: بضم الجيم والباء وسكونها.
وضلع الدين: ثقله بفتح الضاد واللام، وقد تؤدي ضرورته إلى أن يحدث فيكذب، ويعد فيخلف.
ويقال: ما دخل هم الدين قلب أحد إلا ذهب من عقله ما لا يعود إليه أبدًا، وهذا في الدين الفادح.
فصل:
قوله: (فلم أزل أخدمه). يعني: إلى موته ثم ابتدأ فقال: (حتى إذا أقبلنا)، تقول: فلما أقبلنا.
(1)
"غريب الحديث" للخطابي 1/ 575 - 576.
(2)
انتهى كلام القاضي عياض من "مشارق الأنوار" 1/ 216.
فصل:
العباءة بالمد: ضرب من الأكسية، والصهباء: من أدنى خيبر إلى جهة المدينة، والحيس: تمر يخلط بسمن أو أقط قال الراجز:
الحيس إلا أنه لم يختلط
…
التمر والسمن معًا ثم الأقط
وقال الداودي: هو شيء يصنع من التمر والسويق والسمن أو الزيت، وربما كان مع ذلك أقط.
وقوله: (وكان ذلك بناءه بها)، فيه حجة على من أنكر أن يقال: بني الرجل بأهله، وقال: إنما يقال: بنى عليها. وقوله: ("وبارك لهم في مدهم وصاعهم") أي: فيما يكال بهما.
37 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
6364 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ خَالِدٍ بِنْتَ خَالِدٍ -قَالَ وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. [انظر: 1376 - فتح 11/ 174]
6365 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبٍ: كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ بِخَمْسٍ، وَيَذْكُرُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِنَّ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا -يَعْنِي: فِتْنَةَ الدَّجَّالِ- وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» . [انظر: 2822 - فتح 11/ 174]
6366 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتَا لِي: إِنَّ أَهْلَ الْقُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ. فَكَذَّبْتُهُمَا، وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا، فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: 8/ 98 يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَجُوزَيْنِ. وَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ:«صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَذَابًا تَسْمَعُهُ الْبَهَائِمُ كُلُّهَا» . فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلَاةٍ إِلاَّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. [انظر: 1049 - مسلم: 586 - فتح 11/ 174]
ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
حديث مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ خَالِدٍ بِنْتَ خَالِدٍ -وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهَا- قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
ثانيها:
حديث مُصْعَبٍ قال: كَانَ سَعْدٌ يَأْمُرُ بِخَمْسٍ، وَيَذْكُرُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِهِنَّ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ،
وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا -يَعْنِي: فِتْنَةَ الدَّجَّالِ- وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ".
الثالث:
قال البخاري: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَل عَلَيَّ عَجُوزَانِ مِنْ عُجُزِ يَهُودِ المَدِينَةِ فَقَالَتَا لِي: إِنَّ أَهْلَ القُبُورِ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ. فَكَذَّبْتُهُمَا، وَلَمْ أُنْعِمْ أَنْ أُصَدِّقَهُمَا، فَخَرَجَتَا وَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عَجُوزينِ. وَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ:"صَدَقَتَا، إِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ في قبورهم عَذَابًا تَسْمَعُهُ البَهَائِمُ كُلُّهَا". فَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ فِي صَلَاةٍ إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ.
الشرح:
أم خالد بنت خالد، هو ابن سعيد بن العاصي بن أمية، تأخرت وفاتها، من أفراد البخاري، وفي الصحابة أيضًا أم خالد بنت يعيش بن قيس النجارية، زوجة حارثة بن النعمان، وقال ابن سعد: بايعته
(1)
وليس في الصحابة أم خالد بنت خالد غيرها.
وقال الجياني في حديث عائشة: كذا إسناد هذا الحديث، وفي نسخة أبي ذر عن أبي إسحاق المستملي (جرير، عن منصور، عن أبي وائل ومسروق عن عائشة)، عطف مسروقًا على أبي وائل وهو وهم، وإنما يرويه أبو وائل عن مسروق، ولا أحفظ لأبي وائل رواية عن عائشة
(2)
.
(1)
"الطبقات الكبرى" 8/ 454.
(2)
"تقييد المهمل" 2/ 740.
قلت: صرح عبد الغني وغيره بسماع أبي وائل من عائشة
(1)
.
فائدة:
أرذل العمر: الهرم الذي ينقص القوة والعقل، والعجوز: المرأة الكبيرة، قال ابن السكيت: ولا تقل عجوزةٌ
(2)
، والجمع عجائز، وعجز.
وقولها: (ولم أنعم) هو بضم الهمزة؛ لأنه رباعي، يقال: أنعم له، أي: قال له: نعم.
وقولها: (فما رأيته بعد) .. إلى آخره، يدل على شدة الاعتناء بذلك.
(1)
ورد في هامش الأصل: قال العلائي في "المراسيل" ص 197: قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل-: أبو وائل سمع من عائشة؟ قال: لا أدري، قد أدخل بينها وبينه مسروق إلى غير شيء، وذكر حديث:"إذا أنفقت المرأة".
(2)
"إصلاح المنطق" ص 297.
38 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ
6367 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» . [انظر: 2823 - مسلم: 2706 - فتح 11/ 176]
ذكر فيه حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ". قد سلف الكلام عليه
(1)
.
(1)
سلف برقم (2823) كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يتعوذ من الجبن.
39 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ المَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ
6368 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» . [انظر: 832 - مسلم: 589 - فتح 11/ 176].
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ، وَمِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ وَعَذَابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ عَنِّي خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".
الشرح:
المسيح: بفتح أوله وكسر ثانيه، وكسرهما مشدد السين، فمن شدد فهو ممسوح العين، ومن خفف فهو من المساحة؛ لأنه يمسح الأرض؛ أو لأنه ممسوح العين اليمنى، أي: أعورها، وقال ابن فارس: المسيح الذي أحد شِقَّي وجهه ممسوح، لا عين له، ولا حاجب
(1)
.
(1)
"المجمل" 2/ 830 مادة: (مسح).
والدجال من الدجل وهي التغطية؛ لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير، أو لتغطيته الحق بكذبه، أو لأنه يقطع الأرض.
وذكر "الثلج والبرد"؛ لإنقائهما ولبعدهما من مخالطة النجاسة، وذكر التنقية والإبعاد للتأكيد، وقال الداودي: هو مجاز يعني: كما يغسل ماء الثلج وماء البرد ما يصيبه.
و"الدنس": الوسخ، و"خطاياي": جمع خطيئة، وأصلها: خطائئ، على وزن فعائل، فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء؛ لأن قبلها كسرة ثم استثقلت فقلبت الياء ألفًا ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفاء ما بين الألفين، وقيل: لما سهل صار مثل هدية وهدايا.
و"البرد" بفتح الباء والراء: حب الغمام، يقال: منه بردت الأرض وبرد بنو فلان
(1)
.
(1)
انظر: "لسان العرب" 1/ 249، مادة:(برد).
(40 - باب الاِسْتِعَاذَةِ مِنَ الْجُبْنِ وَالْكَسَلِ
{كُسَالَى} [النساء: 142]. وكسالى واحد.
6369 -
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» . [انظر: 371 - مسلم: 1365 - فتح 11/ 178]
(وكسالى واحد) يعني: بالضم والفتح، ويجوز كسر اللام، كما في الصحاري، وهو جمع كسلان، يقال: كسل بالكسر فهو كسلان، يقال: وفي "موارد الصغاني": الكسالي بالكسر لغة في الكسالى والكسالي. وقرأ: (إلا وهم كسالي)[التوبة: 54]. يحيى والنخعي.
ذكر فيه حديث أنس قَالَ: كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ". وقد سلف)
(1)
(2)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
سلف برقم (5425) كتاب: الأطعمة، باب: الحيس.
41 - باب التَّعَوُّذِ مِنَ الْبُخْلِ
الْبُخْلُ وَالْبَخَلُ وَاحِدٌ، مِثْلُ الحُزْنِ وَالْحَزَنِ.
6370 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه كَانَ يَأْمُرُ بِهَؤُلَاءِ الْخَمْسِ وَيُحَدِّثُهُنَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» . [انظر: 2822 - فتح 11/ 178]
ذكر فيه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه السالف قريبًا
(1)
.
(1)
سلف برقم (6365) باب: التعوذ من عذاب القبر.
42 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ أَرْذَلِ الْعُمُرِ
{أَرَاذِلُنَا} [هود: 27](سقَاطُنَا)
(1)
.
6371 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ» . [انظر: 2823 - مسلم: 2706 - فتح 11/ 179]
(سقاط)
(2)
: جمع ساقط وهو اللئيم في حسبه ونفسه، يقال: قوم سقطى وسقاط.
ثم ذكر حديث أَنَسٍ: كَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ".
وقد سلف
(3)
.
وجميع أبواب الاستعاذة ما سلف، وما يأتي تدل آثارها على أنه ينبغي سؤال الله والرغبة إليه في كل ما ينزل بالمرء من حاجاته، وأن يعين كل ما يدعو به. ففي ذلك إطالة الرغبة إلى الله، والتضرع إليه، وذلك طاعة الله، وكان عليه السلام يتعوذ بالله من كل ذلك، ويعينه باسمه، وإن كان الله قد عصمه من كل شر؛ ليلزم نفسه خوف الله وإعظامه؛ وليسن ذلك لأمته، ويعلمهم كيف الاستعاذة من كل شيء.
وقد روى ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
في (ص 2): (أسقاطنا).
(2)
من (ص 2).
(3)
سلف برقم (2823) كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يتعوذ من الجبن.
"ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع"
(1)
؛ ليستشعر العبد الافتقار إلى ربه في كل أمر، وإن دق، ولا يستحي من سؤاله ذلك.
فالتعوذ من المحيا والممات دعاء جامع لمعان كثيرة لا تحصى، وكذلك التعوذ من المأثم والمغرم، روي عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما تستعيذ من المأثم والمغرم! فقال عليه السلام: "إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف"
(2)
.
و"ضلع الدين": هو الذي لا يجد دينه من حيث يؤديه، وهو مأخوذ من قول العرب: حمل مضلع -أي: ثقيل- ودابة (مضلع)
(3)
: لا تقوى على الحمل. عن صاحب "العين"
(4)
. فمن كان هكذا فلا محالة أنه يوكد ذلك عليه الكذب في حديثه، والخلف في وعده.
فإن قلت: كيف استعاذ من المغرم، وكيف قال:"إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن فيه ما يكره الله"، فيما رواه جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، وكان عبد الله بن جعفر يقول: اذهب فخذ لي بدين؛ فإني أكره أن أبيت ليلة إلا والله معي، بعد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
.
(1)
رواه الترمذي (3604)، وأبو يعلى 6/ 130 (3403)، وابن حبان 3/ 148 (866) والطبراني في "الأوسط" 5/ 373 (5595)، والبيهقي في "الشعب" 2/ 40 (1116). قال الترمذي: هذا حديث غريب، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1362).
(2)
سلف برقم (832) كتاب: الصلاة، باب: الدعاء قبل السلام، ورواه مسلم برقم (589) كتاب: المساجد، باب: ما يستعاذ منه في الصلاة.
(3)
في (ص 2): (مضلعة).
(4)
"العين" 1/ 280 (ضلع).
(5)
رواه ابن ماجه (2409)، والدارمي 3/ 1690 (2637)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" 3/ 204، والبيهقي في "السنن الكبرى" 5/ 355، وصححه الألباني في =
قلت: كلاهما صحيح، ولا تناقض بينهما، فالثاني في المستدين الذي ينوي قضاء دينه، وعنده في الأغلب ما يقضيه، فالله في عونه على قضائه، والأول الذي استدان على ثلاثة أوجه: إما فيما يكرهه الله، ثم يجد سبيلًا إلى قضائه، فحق على الله أن يؤديه، أو فيما لا يكرهه، ولكن لا وجه عنده لقضائه إن طالبه به صاحبه، فهو معرض لهلاك أموال الناس، ومتلف لها، أو نوى ترك القضاء وعزم على الجحد فهو عاصٍ لربه وظالم لنفسه -نبه عليه الطبري- فكل هؤلاء في القضاء مخلفون، وفي حديثهم كاذبون، فكان معلومًا بذلك أن الحال التي كره فيها عليه السلام الدين غير الحال التي ترخَّص لنفسه فيها، وذلك أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بعشرين صاعًا من شعير.
وأما فتنة الغنى فيخشى منها بطر المال وما يئول من عواقب الإسراف في إنفاقه وبذله فيما لا ينبغي، ومنع حقوق الله فيه، ففتنة الغنى متشعبة إلى ما لا يحصى عده، وكذلك فتنة الفقر يخشى منها قلة الصبر على الإقلال والتسخط له وتزيين الشيطان للمرء حال الغنى، وما يئول من عاقبة ذلك لضعف البشرية.
وكذلك الاستعاذة من العجز والكسل؛ لأنهما يمنعان العبد من أداء حقوق الله تعالى وحقوق نفسه وأهله، وتضييع النظر في أمر معاده وأمر دنياه، وقد أمر المؤمنين بالاجتهاد في العمل، والإجمال في الطلب، وألا يكون عالة ولا عيالًا على غيره ما متع بصحة جوارحه وعقله.
وكذلك الجبن مهانة في النفس وذلة، ولا ينبغي للمؤمن أن يكون
= "صحيح سنن ابن ماجه"(1953).
ورواه البزار 6/ 202 (2243)، والحاكم 2/ 23 دون قول جعفر. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ذليلاً، بالإيمان ولزوم طاعة الله التي تؤدي إلى النعيم المقيم، فينبغي للمؤمن أن يكثر التعوذ من ذلك.
"والهرم": هو أرذل العمر الذي ينتهي بصاحبه إلى الخرف وذهاب العقل، فيعود العالم جاهلًا، ويصير إلى حال من لا ميز له، ولا يقدر على أداء ما يلزمه من حقوق الله وحاجة نفسه، ومثل هذا خشي- عمر رضي الله عنه حين قال لما كبر ما سلف، وكان سنه حنيئذٍ -كما قال مالك- ستين سنة، وقيل: خمسة وخمسين. فخشي زيادة الضعف فيضيع مما قلده الله شيئًا، ومن متعه الله بصحته لم يزده طول العمر إلا خيرًا يستكثر من الحسنات ويستغيث من السيئات.
وكذلك الهم والحزن لا ينبغي للمؤمن أن يكون مهمومًا بشيء من أمور الدنيا، فإن الله قد قدر الأمور وأحكمها، وقدر الأرزاق، فلا يجلب الهم للعبد في الدنيا خيرًا، ولا يأتيه بما لم يقدر له، وفي طول الهم قلة الرضا بقدر الله، وسخطه على ربه، وقد كان عمر بن عبد العزيز يقول: اللهم رضني بالقضاء، وحبب إلى القدر، حتى لا أحب تقديم ما أخرت، ولا تأخير ما قدمت.
ومن آمن بالقدر فلا ينبغي له أن يهتم على شيء فاته من الدنيا ولا يتهم ربه، فيما قضى له الخيرة، وإنما ينبغي للعبد الاهتمام بأمر الآخرة، ويفكر في معاده وعرضه على ربه، وكيف ينجو من سؤاله عن الفتيل والنقير والقطمير؛ ولذلك قال عليه السلام:"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"
(1)
فههنا يحسن الهم والبكاء، وغلبة الرجال أشد
(1)
سلف برقم (4621) كتاب: التفسير، باب: قوله {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
من الموت؛ لأن المغلوب يصير كالعبد من غلبة قهره، وكذلك البخل استعاذ منه؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، وقال عليه السلام:"وأي داء أدوى من البخل"
(1)
ومعنى ذلك: أن البخيل يمنع حقوق الله وحقوق الآدميين ويمنع معروفه ورفده، ويسيء عشرة أهله وأقاربه.
فإن قلت: قد دعا عليه السلام بالمفصلات والجوامع، وكان السلف يستحبون الدعاء إلى الله بالجوامع كنحو الرغبة والخوف والعفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، اكتفاء منه بعلم الله بموضع حاجتهم ومبلغًا؟
قيل: لكل نوع من ذلك حالة يختار العمل به فيها على الآخر، فالجوامع تحتاج في حال الحاجة إلى الإيجاز والاقتصاد، والمفصلات بالأسماء والصفات في حالة الحاجة إلى إدامة الرغبة إلى من بيده مفاتيح خزائن السموات والأرض؛ استفتاحًا بذلك مغاليقها، وقد دعا عليه السلام بكل ذلك في مواضعه.
(1)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(296) من حديث جابر، وصححه الألباني، ورواه الحاكم في "المستدرك" 3/ 219 من حديث أبي هريرة، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
43 - باب الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الوَبَاءِ وَالْوَجَعِ
6372 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا» . [انظر: 1889 - مسلم: 1376 - فتح 11/ 179]
6373 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ شَكْوَى أَشْفَيْتُ مِنْهَا عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ:«لَا» . قُلْتُ: فَبِشَطْرِهِ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ» . قُلْتُ: أَأُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ إِلاَّ ازْدَدْتَ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ» . قَالَ سَعْدٌ: رَثَى لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ. [انظر: 56 - مسلم: 1628 - فتح 11/ 179]
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا".
وحديث سعد: عَادَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ شَكْوى أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى المَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَ بِي مَا تَرى مِنَ الوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ .. الحديث.
وقد سلف غير مرة
(1)
، ولم يذكر هنا دعاءه له برفع الوجع، وسلف في المرض في باب: دعاء العائد للمريض، وقال فيه:"اللهم اشف سعدًا"
(2)
.
وفي دعائه عليه السلام برفع الوباء والوجع رد على من زعم أن الولي لا يكره شيئًا مما قضى الله عليه، ولا يسأله كشفه عنه، ومن فعل ذلك لم تصح له ولاية الله، ولا خفاء بسقوط هذا؛ لأنه عليه السلام قال:"اللهم حبب إلينا المدينة وانقل حماها" فدعا بنقلها عن المدينة ومن فيها، وهو داخل في تلك الدعوة، ولا توكل أحد يبلغ توكله، فلا معنى لقولهم، وقد سلف مستقصى في الحج
(3)
.
فصل:
الوباء: مهموز يمد ويقصر، فجمع المقصور: أوباء. والممدود: أوبئة. ولما دعابنقلها إلى الجحفة لم تزل من يومئذٍ أكثر بلاد الله حمى، وأنه يتقى شرب الماء من عينها التي يقال لها: عين حم، وَقلَّ من شرب منها إلا حُمَّ.
(1)
سلف برقم (56) كتاب: الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، وبرقم (1295) كتاب: الجنائز، باب: رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، وبرقم (2742) كتاب: الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، وبرقم (2744) باب: الوصية بالثلث، وبرقم (3936) كتاب: مناقب الأنصار، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم"، وبرقم (4409) كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع، وبرقم (5354) كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل، وبرقم (5668) كتاب: المرضى، باب: ما رخص المريض أن يقول: إني وجع، أو وارأساه، أو اشتد بي الوجع.
(2)
سلف معلقًا قبل حديث رقم (5675).
(3)
سلف برقم (1889) باب: كراهية النبي أن تعرى المدينة.
وقيل: إن أهل الجحفة كانوا مشركين يوم دعا بنقل الحمى إليهم.
فصل:
وقوله: (في حجة الوداع) هو الصواب، وغلط (ابن عيينة)
(1)
حيث قال: كان ذلك يوم الفتح. (وأشفيت): قاربت الموت.
وقوله: (بلغ بي من الوجع ما ترى)، ولم ينكره عليه، ففيه ذكر المرء لما نزل به إذا لم يرد الشكوى، وكان ترجى بركة دعائه، وقد قال عليه السلام:"وا رأساه"
(2)
وقال أيوب عليه السلام: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83].
وقوله: (أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا") احتج به أهل الظاهر أن من أوصى بأكثر من ثلثه لا يجوز، وإن أجازه الوارث. قالوا: ولم يقل: إن أجاز ورثتك جاز
(3)
.
وقوله: ("الثلت كثير") وقال ابن عباس: لو غض الناس من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الثلث والثلث كثير"
(4)
وبه قال سحنون، وقال جماعة: الخمس
(5)
.
(والعالة): الفقراء، أو الفاقة، والمعنى: ذوي فاقة، و"يتكففون": يسألون بأكفهم. وقوله: (أخلف بعد أصحابي؟) قيل معناه: بمكة، يبقى بعدهم لما به من الوجع. وقيل: لما قال له: "لن تنفق نفقة" فهم عنه أنه
(1)
في الأصل: أبو عبيد. والمثبت من (ص 2).
(2)
سلف برقم (5666) كتاب: المرضى، باب: ما رخص المريض أن يقول: إني وجع، أو وارأساه، أو اشتدَّ بي الوجع.
(3)
انظر: "المحلى" 9/ 317.
(4)
سلف برقم (2743) كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث، ولمسلم برقم (1629) كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث.
(5)
انظر: "التمهيد" 8/ 383 - 384.
لا يموت من مرضه، فأجابه وهو:"إنك لن تخلَّف" إلى آخره.
وقوله: ("حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون") قيل: هم من قتلوهم إذ لم يسلموا. وقيل: إن عبيد الله أَمَّر عمر بن سعد ولده على الجيش الذين لقوا الحسين فقتلوه بأرض كربلاء.
وقوله: ("لكن البائس سعد بن خولة") قيل: هو مرفوع. وقيل: من قول الراوي.
والبائس: من أصابه البؤس.
وقول سعد: رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، كذا هو هنا مبين أنه من قول سعد، وقالت جماعة: هو من قول الزهري.
وقد قال ابن مزين: إنما رثى له أنه أسلم وأقام بمكة ولم يهاجر، وأنكر ذلك عليه؛ لأنه معدود عند أهل (الحديث)
(1)
فيمن شهد بدرًا، كما ذكره البخاري وغيره.
واختلفوا متى رجع إلى مكة؟ فقيل: مات بها في حجة الوداع، وإنما رثى له؟ لأنه قال:"كل من يهاجر من بلده يكون له ثواب الهجرة من الأرض التي هاجر منها إلى الأرض التي هاجر إليها إلى يوم القيامة" فحرم ذلك لما مات بمكة.
وقيل: رجع إلى مكة بعد شهوده بدرًا.
وفي البخاري فيما سلف: "يرحم الله ابن عفراء"
(2)
. قيل: هذا هو الذي رثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
في (ص 2): الصحيح.
(2)
سلف برقم (2742) كتاب: الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس.
وقال الداودي: لم يكن للمهاجرين الأولين أن يقيموا بمكة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة أيام بعد الصدر، فدلَّ ذلك أن سعد بن خولة توفي قبل تلك الحجة. وقد أطال المقام بها بغير عذر، ولو كان له عذر لم يأثم؛ لأنه قال حين قيل له: إن صفية حاضت: "أحابستنا هي؟ "
(1)
وليس تلك الحجة حجة الوداع. ومات سعد بن خولة، وكان بدريًّا، وإنما أقام أكثر مما أبيح له من المقام. قال: وقد تحتمل هذِه اللفظة أن يقولها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يحج بعد ذلك، فقرنها المحدث بهذا الحديث؛ لأنها من تكملته. انتهى كلامه.
والمعروف أنه لم يحج بعد أن هاجر إلا حجة واحدة، حجة الوداع.
(1)
سلف برقم (1757) كتاب: الحج، باب: إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت ولمسلم برقم (1211) بعد حديث رقم (1328) كتاب: الحج، باب: وجوب طواف الوداع وسقوطه عند الحائض.
44 - باب الاِسْتِعَاذَةِ مِنْ: أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَفِتْنَةِ النَّارِ
6374 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَعَوَّذُوا بِكَلِمَاتٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ» . [انظر: 2822 - فتح 11/ 181]
6375 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الْخَطَايَا، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» . [انظر: 832 - مسلم: 589 - فتح 11/ 181]
ذكر فيه حديث مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَعَوَّذُوا بِكَلِمَاتٍ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ القَبْرِ".
وحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ وَالْهَرَمِ، وَالمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَفِتْنَةِ النَّارِ وفتنة القبر وَعَذَابِ القَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَاي .. الحديث وقد سلف
(1)
. ثم قال:
(1)
سلف برقم (832) كتاب: الصلاة، باب: الدعاء قبل السلام.
45 - باب الاسْتِعَاذَةِ مِنْ فِتْنَةِ الغِنَى
6376 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سَلاَّمُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَالَتِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . [انظر 832 - مسلم: 587، 589 - فتح 11/ 181]
وذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها المذكور بلفظ: "أَعُوذُ بِكَ مِنْ عذاب النَّارِ". وكذا ما بعده.
ثم ترجم (عليه)
(1)
:
(1)
في (ص 2): له.
46 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ (فِتْنَةِ)
(1)
الفَقْرِ
6377 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ القَبْرِ وَعَذَابِ القَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ قَلْبِي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الخَطَايَا، كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ» . [انظر: 832 - مسلم: 589 - فتح 11/ 181]
وساقه فيه أيضًا، وفي آخره:"اللهم إني أعوذ بك من الكسل والمأثم والمغرم".
(1)
من (ص 2).
47 - باب الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ مَعَ البَرَكَةِ
6378، 6379 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَسٌ خَادِمُكَ ادْعُ اللهَ لَهُ: قَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ» .
وَعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مِثْلَهُ. [انظر: 1982 - مسلم: 2480 - فتح 11/ 182]
ساق فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه. وقد أسلفناه
(1)
.
ثم ترجم له:
(1)
سلف برقم (1982) كتاب: الصوم، باب: من زار قومًا فلم يفطر عندهم.
باب الدُّعَاءِ بِكَثْرَةِ الوَلَدِ مَعَ البَرَكَةِ
6380، 6381 - حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: أَنَسٌ خَادِمُكَ. قَالَ: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتَهُ» . [انظر: 1982 - مسلم: 2480 - فتح 11/ 183]
فراجعه.
48 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الاسْتِخَارَةِ
6382 -
حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَبُو مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَالسُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ: «إِذَا هَمَّ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِىَ الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ. وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ» . [انظر: 1162 - فتح 11/ 183]
ذكر فيه حديث جَابِرٍ رضي الله عنه: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَما يعلمنا السُّورَة مِنَ القُرْآنِ: "إِذَا هَمَّ أحدكم بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هذا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هذا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِيَ الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ. وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ".
الشرح:
معنى: "اقدر لي الخير": يسره، يقال: يقدر له الشيء، أي: يهيأ.
قال الداودي: الخيرة من الاستخارة، بفتح الخاء والياء. والخيرة -بسكون الياء- الموت. وفي "الصحاح": الخيرة: الاسم من قولك: خار الله لك في هذا الأمر. والخِيَرَة مثل العِنَبَة: الاسم من قوله: اختاره الله، يقال: محمد خيرة الله في خلقه، وخيرة الله أيضًا بالتسكين
(1)
.
وفقه هذا الحديث: أنه يجب على (المؤمن)
(2)
رد الأمور كلها إلى الله، وصرف أزمتها والتبرؤ من الحول والقوة إليه، وينبغي له ألا يروم شيئًا من دقيق الأمور وجليلها حتى يستخير الله تعالى فيه، ويسأله أن يحمله فيه على الخير ويصرف عنه الشر، إذعانًا بالافتقار إليه في كل أمر والتزامًا بالذلة والعبودية له، وتبركًا باتباع سنة نبيه في الاستخارة، ولذلك كان عليه السلام يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن؛ لشدة حاجتهم إلى الاستخارة في الحاجات كلها كشدة حاجتهم إلى القراءة في كل الصلوات.
وفيه: حجة على القدرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يخلق الشر، تعالى الله عما يفترون، وقد أبان عليه السلام في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشر والخالق له؛ إذ هو المدعو لصرفه عن العبد، ومحال أن يسأله العبد أن يصرف عنه ما يملكه العبد من نفسه وما يقدر على اختراعه دون تقدير الله عليه، وسيأتي أيضًا في كتاب القدر.
(1)
"الصحاح" 2/ 652.
(2)
ساقطة من الأصل.
49 - باب (الدُّعَاءِ عِنْدَ الوُضُوءِ)
(1)
6383 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ» . وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ» .
[انظر: 2884 - مسلم: 2498 - فتح 11/ 187]
ذكر فيه حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ:"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ". وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ".
الشرح:
فيه: استعمال الوضوء عند الدعاء وعند ذكر الله عز وجل.
وذلك أن كمال أحوال الداعي والذاكر وما يرجى له به الإجابة؛ لتعظيمه الله وتنزيهه له حين لم يذكره إلا على طهارة.
ولهذا المعنى تيمم عليه السلام بالجدار عند بئر جمل حين سلم عليه الرجل، وكذلك رد السلام عليه على تيمم
(2)
، ولم يكن له سبيل إلى الوضوء بالماء.
وعلى هذا مضى عليه السلام، ومضى سلف الأمة.
وكانوا لا يفارقون حال الطهارة ما قدروا؛ لكثرة ذكرهم الله عز وجل وكثرة تنفلهم.
(1)
في الأصول: الوضوء عند الدعاء، والمثبت من اليونينية 8/ 81.
(2)
سلف برقم (337)، ورواه مسلم (369).
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام كان يبول ويتيمم، فأقول: إن الماء قريب. فيقول: "لعلي لا أبلغه"
(1)
.
وفيه: حجة لمن استحب رفع اليدين في الدعاء، وقد سلف ذلك قبل هذا.
(1)
رواه أحمد 1/ 288، وابن المبارك في "الزهد"(292)، والطبراني في "الكبير" 12/ 238 من طريق ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن الأعرج عن حَنَش عن ابن عباس مرفوعًا، قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 263: فيه: ابن لهيعة وهو ضعيف.
50 - باب الدُّعَاءِ إِذَا عَلَا عَقَبَةً
6384 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، وَلَكِنْ تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا» . ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ. فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ، قُلْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ. فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» . أَوْ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ هِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ» . [انظر: 2992 - مسلم: 2704 - فتح 11/ 187]
ذكر فيه حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا .. الحديث. سلف في الجهاد
(1)
.
ومعنى: "اربعوا على أنفسكم": أرفقوا، قال ابن السكيت: ربع الرجل يربع إذا وقف وتحبس
(2)
. ومنه قولهم: اربع على نفسك، أي: أرفق بنفسك.
(1)
سلف برقم (2992) كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يكره من رفع الصوت في التكبير.
(2)
"إصلاح المنطق" ص 362.
51 - باب الدُّعَاءِ إِذَا هَبَطَ وَادِيًا
فِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رضي الله عنه.
يعني: المذكور عنده مسندًا في كتاب: (الصلاة)
(1)
.
(1)
كذا بالأصل وقد تبين بعد البحث أنها محرفة عن (الجهاد)، انظر:"فتح الباري" 11/ 188.
وتمام تخريجه. كتاب: الجهاد، برقم (2993)، باب: التسبيح إذا هبط واديًا.
52 - باب الدُّعَاءِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ رَجَعَ
6385 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ:«لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» . [انظر: 1797 - مسلم: 1344 - فتح 11/ 188]
فيه عن يحيى بن أبي إسحاق، عن أنس رضي الله عنه.
يريد بذلك ما أسنده في الجهاد في باب: ما يقول إذا رجع من الغزو
(1)
.
ثم ساق عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أنه عليه السلام كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ .. الحديث.
وقد سلف فيه أيضًا، فراجعه
(2)
.
(1)
سلف برقم (3086).
(2)
سلف برقم (3084).
53 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُتَزَوِّجِ
6386 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَالَ: «مَهْيَمْ؟» . أَوْ: «مَهْ؟» -قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» . [انظر: 2049 - مسلم: 1427 - فتح 11/ 190]
6387 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ -أَوْ تِسْعَ- بَنَاتٍ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«تَزَوَّجْتَ يَا جَابِرُ؟» . قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟» . قُلْتُ: ثَيِّبًا. قَالَ: «هَلاَّ جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ". أَوْ "تُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ» . قُلْتُ: هَلَكَ أَبِي فَتَرَكَ سَبْعَ -أَوْ تِسْعَ- بَنَاتٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ. قَالَ:«فَبَارَكَ اللهُ عَلَيْكَ» . لَمْ يَقُلِ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرٍو:«بَارَكَ اللهُ عَلَيْكَ» . [انظر: 443 - مسلم: 715 - فتح 11/ 190]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه رَأى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَالَ: "مَهْيَمْ؟ " -أَوْ: "مَهْ؟ "-قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: "بَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْ لِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ".
سلف في النكاح
(1)
.
ثم قال: حدثنا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: هَلَكَ أَبِي وَتَرَكَ سَبْعَ بنات -أَوْ تِسْعَ بَنَاتٍ- فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً. فَقَالَ عليه السلام: "تَزَوَّجْتَ .. " الحديث.
ثم قال: لم يقل ابن عيينة، ومحمد بن مسلم -يعني: الطائفي- عن
(1)
سلف برقم (5072) باب: قول الرجل لأخيه انظر أيَّ زوجةَّ شئت حتى أنزل لك عنها.
عمرو: "بارك الله عليك" يعني بذلك ما تقدم عنده مسندًا
(1)
، وفيه ما ترجم له، وهو الدعاء للمتزوج حيث قال لعبد الرحمن:"بارك الله لك" وقال لجابر: "بارك الله عليك". وجاء في الحديث النهي عن أن يقال: بالرفاء والبنين. وليس إسناده بالقوي.
وفي النسائي عن الحسن: تزوج عقيل بن أبي طالب امرأة من بني جشم فقيل له: بالرفاء والبنين، فقال: قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بارك الله فيكم وبارك عليكم وبارك لكم"
(2)
.
وفي الترمذي: كان عليه السلام إذا رفأ الإنسان إذا تزوج قال: "بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير" ثم قال: حديث حسن
(3)
.
ومعنى: بالرفاء والبنين: حسن الصحبة، والبنون الذكور. وأما الرفاء: الارتفاق والالتئام، وأصله الهمز. قال ابن السكيت: وإن سهل كان معناه: السكون والطمأنينة، فيكون أصله غير الهمز، من قولهم: رفوت الرجل: إذا سكنته
(4)
.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أتى أصحابه يومًا فقال: رفوي
(5)
. و"مهيم؟ " قال الهروي: كلمة يمانية
(6)
.
(1)
حديث ابن عيينة سلف برقم (4052) كتاب: المغازي، باب:{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122].
وأما حديث محمد بن مسلم فقد عزاه المزي في "التحفة"(2563) إلى كتاب المغازي ولم نعثر عليه، وإنما هو في الدعوات معلقًا.
(2)
"سنن النسائي" 6/ 128.
(3)
"سنن الترمذي"(1091).
(4)
"إصلاح المنطق" ص 153.
(5)
في (ص 2): أرفوني.
(6)
"غريب الحديث" 1/ 311.
وفي "الصحاح": هي كلمة يستفهم بها، معناها: ما حالك وما شأنك
(1)
.
والنواة: اسم لمقدار معلوم، قال ابن وهب: كانت خمسة دراهم، ولم يكن ثم ذهب، كما تسمى الأربعون أوقية، والعشرون نشًّا. وقال ابن عيينة: النواة خمسة قراريط. وقال أحمد: وزن نواة من ذهب ثلاثة دراهم وثلث. وقال إسحاق: وزن خمسة دراهم ونصف.
فصل:
وفي الحديث ردٌّ على أبي حنيفة الذي لا يجيز الصداق عنده بأقل من عشرة دارهم.
وقوله: ("أو لم ولو بشاة") ظاهر في الوجوب، وهو قول بعض أصحابنا، والأصح الندب، وهو قول مالك.
وفيه: أن الوليمة تكون بعد البناء، وهو قول ابن الجلاب منهم.
فصل:
وقوله في حديث جابر "هلا جارية تلاعبها وتلاعبك""هلا": استعجال وحث. و"تلاعبها": من اللعب، وقيل: من اللعاب، وقد سلف
(2)
.
(1)
"الصحاح" 5/ 2038.
(2)
سلف برقم (2097) كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير.
54 - باب مَا يَقُولُ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ
6388 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا» . [انظر: 141 - مسلم: 1434 - فتح 11/ 191]
ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ .. " الحديث.
سلف في الطهارة فراجعه
(1)
. وقوله: ("ما رزقتنا"). أي: شيئًا رزقتنا؛ لأن المشهور أن (ما): لما لا يعقل، (ومن): لمن يعقل، وإذا كانت ما بمعنى شيء، وقعت على من يعقل وما لا يعقل، (وقيل: تكون لمن يعقل)
(2)
، والمعروف الأول.
(1)
سلف برقم (141)، باب: التسمية على كل حال عند الوقاع.
(2)
من (ص 2).
55 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً»
6389 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» . [انظر: 4522 - مسلم: 2690 - فتح 11/ 191]
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ".
اختلف المفسرون في تأويل هذِه الآية، فقال الحسن: الحسنة في الدنيا: العلم والعبادة، وفي الآخرة: الجنة. وقال قتادة: في الدنيا: عافية وفي الآخرة: عافية. وقال السدي: في الدنيا: المال، وفي الآخرة: الجنة
(1)
.
"وقنا عذاب النار" اصرفه عنا.
(1)
رواه عنهم الطبري في "تفسيره" 2/ 312 - 313 (3879، 3881، 3886).
56 - باب التَّعَوُّذِ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا
6390 -
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْقَبْرِ» . [انظر: 2822 - فتح 11/ 192]
ذكر فيه حديث مُصْعَبِ عَنْ أَبِيهِ. وقد سلف
(1)
.
(1)
سلف برقم (2822)، كتاب الجهاد والسير، باب: ما يتعوذ من الجبن.
57 - باب تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ
6391 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْذِرٍ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم طُبَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ قَدْ صَنَعَ الشَّيْءَ وَمَا صَنَعَهُ، وَإِنَّهُ دَعَا رَبَّهُ ثُمَّ قَالَ:«أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ قَدْ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟» . فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «جَاءَنِي رَجُلَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِيمَا ذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي ذَرْوَانَ". وَذَرْوَانُ بِئْرٌ فِي بَنِي زُرَيْقٍ» . قَالَتْ: فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عَائِشَةَ فَقَالَ:«وَاللهِ لَكَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وَلَكَأَنَّ نَخْلَهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ» . قَالَتْ: فَأَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهَا عَنِ الْبِئْرِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَهَلاَّ أَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ:«أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» . زَادَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ وَاللَّيْثُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا وَدَعَا. وَسَاقَ الْحَدِيثَ. [انظر: 3175 - مسلم: 2189 - فتح 11/ 192]
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنه عليه السلام طُبَّ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنه صَنَعَ الشَّيْءَ وَمَا صَنَعَهُ، وَإِنَّهُ دَعَا رَبَّهُ (عز وجل)
(1)
ثُمَّ قَالَ: "أَشَعَرْتِ .. " الحديث بطوله.
وفي آخره:
زَادَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ وَاللَّيْثُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُحِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا وَدَعَا.
وَسَاقَ الحَدِيثَ.
(1)
من (ص 2).
وهذِه الزيادة أخرجها في الطب عن إبراهيم بن موسى: ثنا عيسى ابن يونس
(1)
، وفي صفة إبليس فقال: وقال الليث، إلى آخره، كما سلف
(2)
.
وهو ظاهر فيما ترجم له، وتكرير الدعاء حسن عند حال الحاجة إلى إدامة الرغبة فيه في الملمات والشدائد النازلة بالعبد.
وفي تكرير العبد الدعاء إظهار لموضع الفقر والحاجة إلى الله والتذلل له والخضوع، وقد قال عليه السلام:"إن الله يحب الملحين في الدعاء، (وإن الدعاء هو العبادة ومن لم يدعُ غضب الله عليه". وقد سلف ذلك أول الدعاء)
(3)
(4)
.
ومن حديث ابن عيينة أنه عليه السلام أوصى رجلاً فقال: "عليك بالدعاء فإنه لا يدرى متى يستجاب لك"
(5)
.
فصل:
معنى: مطبوب: مسحور، واختلف في لبيد فقيل: كان يهوديًّا، وقيل: منافقًا، وقيل: يحتمل أن يكون يهوديًّا، ثم لعله أظهر الإسلام بعد، وتستر بالنفاق، ذكره ابن التين.
والمشي: ما يمتشط به، والمُشَاطة: ما يسقط من المشط.
و ("جف طلعة"): غلافها.
وقوله: ("رءوس الشياطين") أي: الحيات.
(1)
سلف برقم (5763)، باب: السحر.
(2)
سلف برقم (3268)، كتاب: بدء الخلق.
(3)
من (ص 2).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" 7/ 305.
وقوله: ("أشعرت"): شعرت بالشيء (بالفتح)
(1)
فطنت له، ومنه: ليت شعري. أي: ليتني علمت.
وقال هنا: (أفلا أخرجته؟) وسلف أنه أخرجه، وقال:(فهلا تنشرت)
(2)
(3)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
في (ص 2): فهلا اغتسلت.
(3)
سلف برقم (5765) كتاب: الطب، باب: هل يستخرج السحر، وبرقم (6063)، كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90].
58 - باب الدُّعَاءِ عَلَى المُشْرِكِينَ
وَقَالَ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه: (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)
(1)
: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ". [انظر: 1007].
وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ". [انظر: 240] وَقَالَ ابن عُمَرَ: دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ العَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا". حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]. [انظر: 4069]
6392 -
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَحْزَابِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ» . [انظر: 2818 - مسلم: 1742 - فتح 11/ 193]
6393 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَالَ:«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَنَتَ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» . [انظر: 804 - مسلم: 675 - فتح 11/ 193]
6394 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمُ: الْقُرَّاءُ، فَأُصِيبُوا، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ عَلَى شَيْءٍ مَا وَجَدَ عَلَيْهِمْ، فَقَنَتَ شَهْرًا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَيَقُولُ:«إِنَّ عُصَيَّةَ عَصَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ» . [انظر: 1001 - مسلم: 677 - فتح 11/ 194]
(1)
من (ص 2).
6395 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ الْيَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكَ. فَفَطِنَتْ عَائِشَةُ إِلَى قَوْلِهِمْ فَقَالَتْ: عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» . فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ:«أَوَلَمْ تَسْمَعِي أَنِّي أَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَقُولُ وَعَلَيْكُمْ» . [انظر: 2935 - مسلم: 2165 - فتح 11/ 194]
6396 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا الأَنْصَاريُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَقَالَ:«مَلأَ اللهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا؛ كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ» . وَهْيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ. [انظر: 2931 - مسلم: 627 - فتح 11/ 194]
سلف كل ذلك متصلًا
(1)
ثم أسند أحاديث:
أحدها:
عن ابن أَبِي أَوْفَى: دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَحْزَابِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، سَرِيعَ الحِسَابِ، اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ".
(1)
حديث ابن مسعود الأول سلف برقم (1007) كتاب: الاستسقاء باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ".
والثاني سلف برقم (240) كتاب: الوضوء، باب: إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما سلف برقم (4069) كتاب: المغازي، باب:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} [آل عمران: 128].
ثانيها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ: "سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ العِشَاءِ قَنَتَ: إلى قوله: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ".
ثالثها:
حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً يُقَالُ لَهُمُ: القُرَّاءُ، فَأُصِيبُوا .. الحديث وفي آخره وَيَقُولُ:"إِنَّ عُصَيَّةَ عَصت اللهَ وَرَسُولَهُ".
رابعها:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانت اليَهُودُ يُسَلِّمُونَ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكَ .. الحديث.
خامسها:
حديث عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الخَنْدَقِ: "مَلأَ اللهُ بُيُوتَهُمْ وقُبُورَهُمْ نَارًا؛ كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الوُسْطَى". وَهْيَ صَلَاةُ العَصْرِ.
وكلها سلفت في الاستسقاء والجهاد
(1)
.
(1)
حديث ابن أبي أوفى سلف في الجهاد برقم (2933) باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه سلف في الاستسقاء برقم (1006) باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم "اجعلها عليهم سنين كسني يوسف"، وسلف في الجهاد برقم (2932) باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة. وحديث أنس رضي الله عنه سلف في الجهاد برقم (2801) باب: من يُنْكَب أو يطعن في سبيل الله. وحديث عائشة رضي الله عنها سلف في الجهاد برقم (2935) باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة. وحديث علي رضي الله عنه سلف في الجهاد برقم (2931) باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة.
وإنما كان عليه السلام يدعو على المشركين على حسب ذنوبهم وإجرامهم، فكان يبالغ في الدعاء من اشتد أذاه على المسلمين؛ ألا ترى لما يئس من قومه وقال:"اللهم اشدد وطأتك على مضر" الحديث. وقال مرة: "اللهم أعني عليهم" الحديث.
ودعا على أبي جهل بالهلاك، ودعا على الأحزاب بالهزيمة والزلزلة، فأجاب الله دعاءه فيهم، ودعا على الذين قتلوا القراء شهرًا في القنوت، ودعا على أهل الأحزاب أن يحرقهم الله في بيوتهم وقبورهم، فبالغ في الدعاء عليهم لشدة إجرامهم، (ونهى عائشة عن اليهود باللعنة)
(1)
، وأمرها بالرفق في (المقارضة)
(2)
لهم، والرد عليهم مثل قولهم، ولم يبح لها الزيادة والتصريح، فيمكن أن يكون ذلك منه على وجه التألف لهم والطمع في إسلامهم.
وأما قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما حين لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين في الصلاة. فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] فذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذِه الآية ناسخة للعنة المنافقين في الصلاة والدعاء عليهم، وأنه عوض من ذلك القنوت في الصبح، رواه ابن وهب وغيره.
وأكثر العلماء على أن الآية ليست ناسخة ولا منسوخة، وأن الدعاء على المشركين بالهلاك وغيره جائز، كدعاء الشارع في هذِه الآثار المتواترة الثابتة
(3)
.
(1)
كذا بالأصول، وعند ابن بطال: نهى عائشة عن الرد على اليهود باللعنة، وعنه نقل المصنف.
(2)
في (ص 2): المفاوضة.
(3)
"شرح ابن بطال" 10/ 126 - 127.
فصل:
فيه: حجة على أبي حنيفة في قوله: لا يدعى في الصلاة إلا بما في القرآن، وإن دعا بغيره بطلت.
والوطأة: الأخذ (بالشدة)
(1)
، (وقال الداودي)
(2)
: هي الأرض.
وقوله: ("اللهم أنج سلمة بن هشام") هو عم أبي جهل، كما قاله الداودي
(3)
. فعلى هذا (اسم أبي)
(4)
جهل هشام، واسم جده هشام أيضًا، قال: والوليد بن الوليد
(5)
ابن عمه.
فصل:
وقوله: ("عن صلاة الوسطي" وهي صلاة العصر) ظاهر في ذلك، وبه قال أبو حنيفة
(6)
، وابن حبيب
(7)
، ومذهب الشافعي ومالك أنها الصبح
(8)
، وانفصل ابن القصار عن هذا الحديث، بأنهم شغلوا ذلك اليوم عن الظهر والعصر والمغرب، وأن العصر وسط هذِه الثلاث وقال ابن القابسي: هما وسطان الصبح بالقرآن، والعصر بالسنة. وفيها عدة مذاهب أخر سلفت الإشارة إليها.
(1)
في الأصل: الشديد. والمثبت من هامش الأصل حيث قال: لعله بالشدة.
(2)
مكررة في الأصل.
(3)
ورد بهامش الأصل: سلمة هو أخو أبي جهل وكان ينبغي لشيخنا أن يتعقب كلام الداودي إن كانت الكتابة صحيحة والله أعلم، وأبو جهل اسمه عمرو بن هشام بن المغيرة.
(4)
كذا في الأصول، ولعل الصحيح:(اسم أبي أبي).
(5)
ورد بهامش الأصل: حاشية: الوليد بن الوليد هو أخو خالد بن الوليد.
(6)
انظر: "شرح معاني الآثار" 1/ 176.
(7)
انظر: "المنتقى" 1/ 245.
(8)
انظر: "المنتقى" 1/ 245، "الأم" 1/ 28.
فصل:
فيه: القنوت في الصبح، وبه قال مالك والشافعي، واختلفا في محله، وخالف أبو حنيفة وأحمد ويحيى بن يحيى المالكي
(1)
.
فصل:
قوله: (يقال لهم القراء) كانوا سبعين. وقوله: (ففطِنت عائشة). هو بفتح الطاء.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 215، "المنتقى" 1/ 281 - 282، "المغني" 2/ 585.
59 - باب الدُّعَاءِ لِلْمُشْرِكِينَ
6397 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا. فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ» . [انظر: 2937 - مسلم: 2524 - فتح 11/ 196].
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا. فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ".
هذا الحديث سلف في الجهاد
(1)
، قد نبه البخاري على معناه في الترجمة فقال: باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم، فراجعه.
(1)
سلف برقم (2937).
60 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ»
6398 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكَ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ:«رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِى وَجَهْلِى، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ: وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [6399 - مسلم: 2719 - فتح 11/ 196]
6399 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى وَأَبِي بُرْدَةَ -أَحْسِبُهُ- عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي، وَخَطَاي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي» . [انظر: 6398 - مسلم: 2719 - فتح 11/ 196]
ذكر فيه حديث شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ ابن أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بهذا الدُّعَاءِ:"رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ: ثَنَا أَبِي، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثم ساق من حديث إِسْرَائِيلَ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى وَأَبِي بُرْدَةَ -أَحْسَبُهُ- عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو:"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي، وَخَطَاَيايَ وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي".
الشرح:
ما ذكره عن عبيد الله (بن معاذ)
(1)
يحتمل أن يكون البخاري أخذه عنه في المذاكرة
(2)
. وعبيد الله هذا هو عبيد الله بن معاذ العنبري أبو عمرو، وعنه مسلم وأبو داود، وأخرج له البخاري والنسائي أيضًا، قال أبو داود: كان يحفظ نحو عشرة آلاف حديث، وكان فصيحًا. مات سنة سبع وثلاثين ومائتين، وليس (له)
(3)
في الكتب عبيد الله بن معاذ سواه، وزعم الإسماعيلي أنه سمع من حفاظ الحديث من يقول: لم يسمع هذا الحديث (أبو)
(4)
إسحاق من أبي بردة، إنما سمعه من سعيد بن أبي بردة.
وقوله: " (اللهم اغفر لي") إلى آخره أي: أنا متصف بهذِه الأشياء، فاغفرها (لي)
(5)
، قاله النووي: قيل: إنه قاله؛ تواضعًا وعد على نفسه
(1)
من (ص 2).
(2)
في هامش الأصل: ما رأيتهم عدوه في مشايخه؛ إنما رأيتهم ذكروه فيمن أخذ عمن [أخذ] عنه. والله أعلم.
(3)
من (ص 2).
(4)
في (ص 2): وأبو.
(5)
من (ص 2).
فوات الكمال ذنبًا. وقيل: أراد ما كان عن سهو. وقيل: ما كان قبل النبوة. وعلى كل حال فهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فدعا بهذا وغيره؛ تواضعًا؛ لأن الدعاء عبادة. قال أهل اللغة: الإسراف مجاوزة الحد
(1)
.
قلت: وأظهر مما ذكره أنه قاله تعليمًا لأمته.
وقال الطبري: إن قلت: ما وجه دعائه صلى الله عليه وسلم ربه أن يغفر له خطيئته وجهله وما تقدم من ذنبه، وقد أعلمه الله أنه قد غفر له ذلك كله؟ فما وجه سؤاله ربه مغفرة ذنوبه، وهي مغفورة، وهل يجوز -إن كان كذلك- أن يسأل العبد ربه أن يجعله من بني آدم وهو منهم؟ وأن يجعل له يدين ورجلين وقد جعلهما له، فالجواب أنه عليه السلام كان يسأل ربه في صلاته حين اقترب أجله وبعد أن نزل عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] ناعيًا إليه نفسه، فقال له:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 3] وكان عليه السلام (يقول)
(2)
: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة"
(3)
فكان هذا من فعله في آخر عمره، وبعد فتح مكة، وقد قال تعالى (له)
(4)
: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] باستغفارك منه فلم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يغفر له ذنبًا قد غفر له، وإنما غفر له ذنبًا قد وعده بمغفرته له باستغفاره، وكذلك قال:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} .
(1)
"صحيح مسلم بشرح النووي" 17/ 40.
(2)
من (ص 2).
(3)
سلف برقم (6307)، باب: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة.
(4)
من (ص 2).
قال غير الطبري: وقد اختلف العلماء في الذنوب، هل تجوز على الأنبياء عليهم السلام؟
فذهب الجمهور إلى أنه لا تجوز عليهم الكبائر؛ لوجوب عصمتهم، وتجوز عليهم الصغائر.
وذهبت المعتزلة إلى أنه لا تجوز عليهم الصغائر، كما لا تجوز عليهم الكبائر، وتأولوا قوله تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقالوا: إنما غفر له تعالى ما يقع (منه)
(1)
عليه السلام من سهو، وغفلة، واجتهاد، وفي فعل خير لا يوافق به حقيقة ما عند ربه، فهذا هو الذي غفر له. وسمي ذنبًا؛ لأن صفته صفة الذنب المنهي عنه إلا أن ذلك تَعْمُّدٌ، وهذا بغير قصد، وهذا تأويل بعيد من الصواب، وذلك أنه لو كان السهو والغفلة ذنوبًا للأنبياء يجب عليهم الاستغفار منها: لكانوا أسوأ حالاً من سائر الناس غيرهم؛ لأنه قد وردت السنة المجمع عليها أنه لا يؤاخذ العباد بالخطأ والنسيان، فلا يحتاجون إلى الاستغفار من ذلك، وما لم يوجب الاستغفار، فلا يسمى عند العرب ذنبًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المخبر لنا بذلك عن ربه تعالى أولى بأن يدخل مع أمته في معنى ذلك، ولا يلزمه حكم السهو والخطأ، وإنما يقع استغفاره عليه السلام كفارة للصغائر الجائزة عليه، وهي التي سأل الله غفرانها له بقوله:"اغفر لي ما قدمت وما أخرت" وستأتي هذِه المسألة في حديث الشفاعة في باب قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} في كتاب (الاعتصام)
(2)
إن شاء الله؛ لأن الحديث يقتضي ذلك.
(1)
من (ص 2).
(2)
ورد في هامش الأصل: إنما هو في كتاب التوحيد، وقد وقع له مثل ذلك غير مرة.
وفيها قول آخر: يحتمل -والله أعلم- أن يكون دعاؤه ليغفر الله له ذنبه على وجه ملازمة الخضوع لله، واستصحاب حال العبودية، والاعتراف بالتقصير؛ شكرًا لما أولاه ربه عز وجل مما لا سبيل له إلى مكافأته بعمل، كما كان يصلي حتى ترم قدماه، فيقال له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول:"أفلا أكون عبدًا شكورًا"
(1)
. فكان اجتهاده في الدعاء والاعتراف بالذلل والتقصير والإقرار بالافتقار إلى الله شكرًا لربه، كما كان اجتهاده حتى ترم قدماه شكرًا لربه، إذ الدعاء لله من أعظم العبادة له، وليسُن ذلك لأمته (فيستشعروا)
(2)
الخوف والحذر، ولا يركنوا إلى الأمن، وإن كثرت أعمالهم وعبادتهم إلى الله تعالى، وأشار المحاسبي إلى هذا المعنى فقال: خوف الملائكة والأنبياء لله هو خوف إعظام؛ لأنهم آمنون في أنفسهم.
فائدة:
هل يجوز أن يدعى لسائر المسلمين بالمغفرة، منعه القرافي، وخالفه ابن عبد السلام.
قال القرافي في "قواعده": قول القائل: اللهم اغفر لي ولجميع المسلمين دعاء بالمحال؛ لما ثبت في نصوص الشريعة من كتاب وسنة أن بعض المسلمين وهم أهل الكبائر يدخلون النار، ودخول النار ينافي الغفران، ويرد ما ذكره قول الله تعالى حكاية عن نوح - صلوات الله وسلامه عليه -:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}
(1)
سلف برقم (1130)، أبواب التهجد، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل حتى ترم قدماه. ولمسلم برقم (2819)، كتاب: الجنة والنار، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة.
(2)
في الأصل: (فتستشعر)، والمثبت من (ص 2).
[نوح: 28] ثم دخول النار لا ينافي (المغفرة)
(1)
مطلقًا، وإنما المنافاة للخلد؛ إذ الغفران ضربان: ابتداء من غير عذاب كما قال: "سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم"
(2)
. وخروجه بالشفاعة أو غيرها، وهذا لا يخرج كونه غفرانًا يعم المنكر اللهم اغفر للخلق أجمعين؛ إذ يدخل فيه المخلد قال تعالى:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74)} [الزخرف: 74].
فصل:
الخطئة: الذنب، قال: يقال: خَطِئَ يَخْطَأُ، والاسم: الخطيئة على فعيلة، ولك أن تشدد الياء؛ لأن كل ياء ساكنة قبلها كسرة، أو واو قبلها ضمة، لا للإلحاق ولا من نفس الكلمة، فإنك تقلب الهمزة بعد الياء ياء، وبعد الواو واو أو تدغم فتقول: حيّ حيي، والجد -بكسر الجيم- نقيض الهزل.
(1)
في (ص 2) العذاب، وفي هامش الأصل: كذا في الأصل: العذاب.
(2)
سلف برقم (2441) كتاب: المظالم، باب: قولى الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللهِ على الظَّالِمِينَ} [هود: 18].
ولمسلم برقم (2768) كتاب: التوبة، باب: قبول توبة القاتل وإن كثر قتله.
61 - باب الدُّعَاءِ فِي السَّاعَةِ التِى فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
6400 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ وَهْوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ خَيْرًا إِلاَّ أَعْطَاهُ» . وَقَالَ بِيَدِهِ، قُلْنَا: يُقَلِّلُهَا، يُزَهِّدُهَا. [انظر: 935 - مسلم: 852 - فتح 11/ 199]
ذكر فيه حديث أبي هريرة السالف في الجمعة بذكر أقوال العلماء فيها فراجعه
(1)
.
وقوله في آخره. (قُلْنَا: يُقَلِّلُهَا، يُزَهِّدُهَا). وأغرب ابن التين ففسر (يزهدها): بيقللها، ولا شك أن الزهيد: القليل من كل شيء، (والمزهد)
(2)
: القليل، وفي الحديث "أفضل الناس مؤمن مزهد"
(3)
.
(1)
سلف برقم (935) باب: الساعة التي في يوم الجمعة.
(2)
في الأصل: (والزهد) والمثبت من (ص 2) وهو أقرب.
(3)
رواه الديلمي في "الفردوس" كما في "كنزل العمال" 3/ 188 (6094).
وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2520).
62 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «يُسْتَجَابُ لَنَا فِي الْيَهُودِ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا»
6401 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. قَالَ: «وَعَلَيْكُمْ» . فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ" أَوِ "الْفُحْشَ» . قَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: «أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟! رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ» .
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ اليَهُودَ أَتَوُا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ
…
الحديث. وفي آخره: "فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ". ومعنى الحديث -والله أعلم- أنه إنما يستجاب له في اليهود؛ لضلالتهم عن الهدى، وعنادهم بعد ما تبين لهم الحق بالآيات الباهرة؛ ولذلك يستجاب له فيهم، ولهذا المعنى لم يستجب لهم فيه؛ لأنهم ظالمون في دعائهم عليه.
قال تعالى {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14].
وهذا أصل في دعاء الظالم أنه لا يستجاب فيمن دعا عليه، وإنما يرتفع إلى الله من الدعاء ما وافق الحق وسبيل الصدق.
فائدة: العنف -في الحديث- ضد الرفق.
والفحش
(1)
-بضم الفاء وسكون الحاء-: الإفحاش في المنطق.
(1)
في هامش الأصل: وهو مثلث العين.
63 - باب التَّأْمِينِ
6402 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَاهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . [انظر: 780 - مسلم: 410]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أَمَّنَ القَارِئُ فَقُولُوا".
الحديث سلف في الصلاة
(1)
، وأبعد من قال: معناه إذًا يطلب التأمين بقوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ومشهور مذهب مالك أن الإمام لا يقول: آمين
(2)
، وروى عنه مطرف وابن الماجشون أنه يقولها
(3)
، والمشهور أن معناه: إذا قال: آمين، وفي آمين لغات سلفت، أفصحها المد، ومعناه: اللهم استجب.
وقال الداودي: معناها: أقصد من قوله: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] والموافقة في القول، وقيل: في الإخلاص. والملائكة: الحفظة المتعاقبون، أو أعم، وظاهره يقتضي غفران جميع ما تقدم من ذنوبه، وقيل: إن المتوضئ تغفر ذنوبه، ويكون مشيه إلى الصلاة نافلة، أو يكون هذا القول قبل تبشير الله عباده بالشيء على لسان نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم يزيدهم أو يرفع له درجات إذا لم يكن ثَم ذنوب، ويحتمل أن يصيب ذنبًا فيما بين الوضوء والتأمين.
(1)
سلف برقم (780)، باب: جهر الإمام بالتأمين.
(2)
انظر: "التمهيد" 7/ 11.
(3)
"التمهيد" 7/ 13.
64 - باب فَضْلِ التَّهْلِيلِ
6403 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَى، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ» . [انظر: 3293 - مسلم: 2691 - فتح 11/ 201]
6404 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَنْ قَالَ عَشْرًا كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ مِثْلَهُ. فَقُلْتُ لِلرَّبِيعِ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ. فَأَتَيْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى. فَأَتَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ يُحَدِّثُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَوْلَهُ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ مُوسَى: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ. وَقَالَ آدَمُ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، سَمِعْتُ هِلَالَ بْنَ يَسَافٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَوْلَهُ. وَقَالَ الأَعْمَشُ وَحُصَيْنٌ، عَنْ هِلَالٍ، عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ عَبْدِ اللهِ قَوْلَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 2693 - فتح 11/ 201]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وكتبت لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ به إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ".
ثم روى بإسناده عن عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: مَنْ قَالَ عَشْر مرات كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ مِثْلَهُ. فَقُلْتُ لِلرَّبِيعِ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: مِنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ. فَأَتَيْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ فَقَالَ: مِنِ ابن أَبِي لَيْلَى. فَأَتَيْتُ ابن أَبِي لَيْلَى فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: مِنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ يُحَدِّثُهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(قلت: فهو من هذا الوجه سباعي الإسناد، وهو غريب، ومن الأول سباعي)
(1)
. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قال: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَوْلَهُ.
وَقَالَ: ثنا مُوسَى ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قلت: أخرجه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن يزيد (بن)
(2)
داود، عن عامر
(3)
، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، عن يزيد بن هارون، عن داود
(4)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
كذا بالأصول، وعند المزي في "التحفة" (3471):(عن).
(3)
رواه النسائي في "عمل اليوم والليلة" كما في "تحفة الأشراف"(3471).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 59 (29445).
قال البخاري: (وقال إسماعيل، عن الشعبي، عن الربيع قوله). قلت: إسماعيل هو ابن أبي خالد. أخرجه النسائي، عن (أحمد)
(1)
بن سليمان، عن يعلى بن عبيد، عن إسماعيل، عن عامر، عن الربيع بن خثيم، عن عمرو بن ميمون -فلقيت عَمرًا- عن ابن أبي ليلى -فلقيت ابن أبي ليلى- عن أبي أيوب. قال الدارقطني: ورواه عن علي بن عاصم، عن إسماعيل مرفوعًا، وتابع يعلى على وقفه ابن عيينة، [و]
(2)
يزيد بن عطاء، ومحمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد الأموي
(3)
.
ثم قال البخاري: وَقَالَ آدَمُ: ثَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ، سَمِعْتُ هِلَالَ بْنَ يَسَافٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، وَعَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابن مَسْعُودٍ قَوْلَهُ.
قلت: رواه النسائي عن بندار، عن غندر، عن شعبة به
(4)
.
ووقع في "علل الدارقطني": أن البخاري قال فيه: حدثنا آدم
(5)
. ولا منافاة بين الرفع والوقف؛ لأن العالم يقوله ولا يذكر الرواية فيه.
ثم قال البخاري: (وقال الأعمش وحصين، عن هلال، عن الربيع، عن عبد الله قوله).
قلت: أخرجه النسائي عن حاجب بن سليمان، عن وكيع، عن الأعمش
(6)
، وعن أحمد بن حرب، عن ابن فضيل، عن
(1)
في الأصل: (محمد)، والمثبت من (ص 2) موافق لما في "تحفة الأشراف"(3471).
(2)
ليست في الأصل، والمثبت مناسب للسياق.
(3)
"علل الدارقطني" 6/ 104 (1008).
(4)
"سنن النسائي الكبرى" 6/ 34 (9944).
(5)
"علل الدارقطني" 6/ 106 (1008).
(6)
"سنن النسائي الكبرى" 6/ 34 (9942).
حصين
(1)
، كلاهما عن هلال به. ولما ذكر الدارقطني رواية الأعمش وحصين قال: صحت الروايتان جميعًا
(2)
، وكلهم وقف الحديث.
ثم قال البخاري: (وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قلت: وأبو محمد هذا ذكره الحاكم وأبو عمر وغيرهما فيمن لا يعرف اسمه، وقال أبو زرعة: لا أعلم أحدًا سماه
(3)
، وهو غلام أبي أيوب. وزعم المزي
(4)
أن اسمه: أفلح وعلم له علامة (م) وفيه وقفة؛ لأن أفلح مولى أبي أيوب اسم أبيه كثير وتوفي في الحرة، روى عنه جماعة معه محمد بن سيرين، وعن عثمان وغيره، ولم أر له كنية
(5)
، وادعى أبو عمر في "الاستقصاء" أنه روى عن أبي أيوب حديثين: أحدهما في أعلام النبوة
(6)
، والثاني: أن رجلاً قال خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله
(1)
رواه النسائي في "عمل اليوم والليلة" كما في "تحفة الأشراف"(3471).
(2)
"علل الدارقطني" 6/ 106 (1008).
(3)
"الجرح والتعديل" 9/ 432 (2151)
(4)
"تهذيب الكمال" 34/ 260 (7606).
(5)
في هذا الكلام نظر، حيث اختلط المصنف وترجم لرجلين وجعلهما رجلاً واحداً، فهناك أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري، أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو كثير، روى عن: مولاه وعمر وعثمان، وعنه: محمد بن سيرين، تابعي ثقة، روى له مسلم وأبو داود في "فضائل الأنصار"، انظر ترجمته في:"تهذيب الكمال" 3/ 325. أما الآخر فهو أبو محمد الحضرمي -المقصود بالترجمة هنا- غلام أبي أيوب الأنصاري، ويقال: مولى أبي أيوب، وقيل: اسمه أفلح وإلا فمجهول، روى عن أبي أيوب، وعنه أبو الورد بن ثمامة، ذكره البخاري في كتاب الدعوات هنا وروى له في "الأدب المفرد".
(6)
رواه الطبراني في "الكبير" 4/ 185، قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 303: وفي إسناده من لم أعرفه.
حمدًا كثيراً طيبًا مباركًا
(1)
. وأهمل حديث الباب.
وقال الدارقطني: لا يعرف أبو محمد إلا في هذا الحديث فقط
(2)
. ثم قال البخاري: (قال عمرو: ثنا عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن الربيع بمثله: "كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل") يعني: مثل حديث أبي محمد الحضرمي.
قلت: أخرجه الدارقطني من حديث حماد بن الحسن، ثنا حجاج بن نصير، ثنا (شعبة)
(3)
، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن ابن أبي ليلى، عن أبي أيوب، عن رسول صلى الله عليه وسلم:"من قال: لا إله إلا الله .. " الحديث، وفيه:"كان كعدل عشر رقاب من ولد إسماعيل"، رفعه حجاج وغيره يُوقفه
(4)
.
ثم ذكر في موضع آخر أن عمر بن أبي زائدة رواه عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، عن الربيع، إلا أنه رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم (ساقه)
(5)
من حديث أبي عامر، ثنا عمر بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال:"من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل". قال: والحديث حديث ابن أبي
(1)
رواه البخاري في "الأدب المفرد"(691)، والطبراني في "الكبير" 4/ 184، والبيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 93 - 94، قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 96: إسناده حسن. وقال الألباني في تعليقه على "الأدب المفرد": صحيح لغيره إلا العدد.
(2)
"علل الدارقطني" 6/ 106.
(3)
في الأصل: شعيب، والمثبت من (ص 2). وانظر:"علل الدارقطني": 6/ 106.
(4)
"علل الدارقطني" 6/ 102 - 103.
(5)
من (ص 2).
السفر، عن الشعبي، وهو الذي ضبط الإسناد
(1)
.
وقال الترمذي لما رواه من حديث الشعبى، عن عبد الرحمن قال: وروي هذا عن أبي أيوب (موقوفًا)
(2)
(3)
.
وفي بعض نسخ البخاري: قال أبو عبد الله: والصحيح قول (عمرو)
(4)
في رواية عنه، ورواه النسائي من حديث ابن مهدي، عن سفيان بن سعيد، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي الدرداء قوله، فذكره
(5)
.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" من حديث (ليث)
(6)
، عن طلحة، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء مرفوعًا:"من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. عشر مرات كن له عدل عشر رقاب" (أو "رقبة"
(7)
، وبإسناد جيد عن أبي هريرة مرفوعًا:"من قال في يوم مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. كان له عدل عشر رقاب")
(8)
. الحديث
(9)
.
(1)
"علل الدارقطني" 6/ 104 - 105 بتصرف.
(2)
في الأصل: موقوف، وعليها: كذا.
(3)
"سنن الترمذي"(3553).
(4)
جاء في هامش اليونينية: قال الحافظ أبو ذر الهروي: صوابه عمر وهو ابن أبي زائدة. قال الحافظ في "الفتح" 11/ 205: وهو كما قال.
قال اليونيني: وعلى الصواب ذكره أبو عبد الله البخاري في الأصل كما تراه لا عمرو. انظر: "اليونينية" 8/ 86.
(5)
"السنن الكبرى" 6/ 35 (9947).
(6)
في الأصل: (كثير)، والمثبت من (ص 2).
(7)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 59.
(8)
من (ص 2).
(9)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 61.
فصل:
روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أفضل الذكر التهليل: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله"
(1)
.
وقال عليه السلام: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله"
(2)
كذا أورده ابن بطال
(3)
، وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم.
وذكر الطبري من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن عبد الله بن بابا المكي، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله عملًا حتى يقولها؛ فإذا قال: الحمد لله، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله أحدٌ حتى يقولها
(4)
.
وروى الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"من قال: لا إله إلا الله فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين"
(5)
وقد روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا: "أول من يدخل الجنة الحمادون؛ الذين
(1)
رواه الترمذي (3383) وقال: حسن غريب. وابن ماجه (3800)، والنسائي في "الكبرى" 6/ 208، وابن حبان 3/ 126 (846)، والحاكم 1/ 498 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والبيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 90، وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"(2694).
(2)
رواه الترمذي (3585) من حديث ابن عمر وقال: حديث غريب. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"(2837). ورواه مالك في "الموطأ" ص 150، والبيهقي في "السنن الكبرى" 4/ 284 من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(1102).
(3)
"شرح ابن بطال" 10/ 132.
(4)
رواه الطبراني في "الدعاء"(1602) مختصرًا، ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" 11/ 295 (20579) من طريق معمر، عن قتادة، عن عبد الله بن عمرو.
(5)
رواه الحاكم في "مستدركه" 2/ 438، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
يحمدون الله في السراء والضراء"
(1)
.
وقال عليه السلام: "من قال: أشهدك أن ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد، ولك الشكر، فقد أدى شكر ذلك اليوم"
(2)
.
وكان عليه السلام إذا أتاه أمر يكرهه قال: "الحمد لله على كل حال" وإذا رأى أمرًا يسره قال: "الحمد لله، الذي بنعمته تتم الصالحات"
(3)
.
فصل:
وقوله: ("عدل عشر رقاب") أي: مثل أجرها.
قال ابن التين: وقرأناه بفتح العين، قال الأخفش: العدل -بالكسر- المثل، وبالفتح أصله، مصدر قولك: عدلت لهذا عدلاً حسنًا، تجعله اسمًا للمثل، فتفرق بينه وبين عدل المتاع.
(1)
رواه الطبراني في "الكبير" 12/ 19، و"الأوسط" 3/ 240، و"الصغير" 1/ 181 - 182 (288)، قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 94: رواه الطبراني في الثلاثة بأسانيد، وفي أحدها: قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري وغيرهما، وضعفه يحيى القطان وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(632).
(2)
رواه أبو داود (5073)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 4/ 183 (2163)، والنسائي في "الكبرى" 6/ 5 (9835) والبيهقي في "الشعب"4/ 89 من حديث عبد الله بن غنام رضي الله عنه. ورواه ابن حبان في "صحيحه" 3/ 142 (861)، والطبراني في "الدعاء"(306) من حديث عبد الله بن عباس.
وقد ورد هذا الحديث في الأصول بلفظ: (اللهم ما أصبح)، وبزيادة:(أو بأحد من خلقك).
(3)
رواه الطبراني في "الدعاء"(1769)، والحاكم 1/ 499، والبيهقي في "الشعب" 4/ 91 من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(4640).
وقال الفراء: الفتح: ما عدل الشيء من غير جنسه، والكسر المثل، فإن أردت قيمته من غير جنسه نصبت، وربما كسرها بعض العرب، وكأنه منهم غلط.
فصل:
قوله: "إلا رجل" هو بالرفع، مثل قوله تعالى:{مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] وقرأ ابن (عامر)
(1)
بالنصب على الاستثناء
(2)
، وهو بعيد في النفي.
فصل:
وقوله: ("من قال عشرًا كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل") قيل: يحتمل أن يكون مفسرًا للآخر، وتكون العشرة المتقدم ذكرها من ولد إسماعيل أيضًا، ووجه كونها منهم أن عتق من كان من (ولده له)
(3)
فضل على عتق غيره، وذلك أن محمدًا وإسماعيل وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم بعضهم من بعض.
(1)
كذا في الأصل، وفي هامشها: في الأصل عباس. قرأ الستة: {إِلَّا قَلِيلٌ} بالرفع والتنوين، وابن عامر بالنصب والله أعلم. وفي (ص 2): عباس.
(2)
"الحجة للقراء السبعة" 3/ 168.
(3)
في الأصل: ولد ولده. والمثبت من (ص 2).
65 - باب فَضْلِ التَّسْبِيحِ
6405 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . [مسلم: 2691 - فتح 11/ 206]
6406 -
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ على اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ» . [6682، 7563 - مسلم: 2694 - فتح 11/ 206]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ".
وحديث أبي هريرة أيضًا: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ".
هذا الحديث يأتي خاتمة "الصحيح"
(1)
، ومعنى التسبيح في لغة العرب: التنزيه مما نسب إليه، مما لا ينبغي، من صاحبة وولد وشريك.
قال وهب بن منبه: ما من عبد يقول: سبحان الله وبحمده إلا قال الله تبارك وتعالى: "صدق عبدي سبحاني وبحمدي"
(2)
فإن سأل أعطي ما يسأل، وإن سكت غفر له مالا يحصى.
(1)
سيأتي برقم (7563) كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47].
(2)
رواه الديلمي عن أبي الدرداء، كما في "كنز العمال" 1/ 466 (2029).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الملائكة التسبيح، فأهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة، يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثانية قيام إلى يوم القيامة، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة، يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت"
(1)
.
وروى الليث، عن ابن عجلان قال: جئت إلى القعقاع بن حكيم في السحر أسأله فلم يجبني، فلما فرغ قال: هذِه الساعة يوكل الله الملائكة بالناس، يقولون)
(2)
: سبحان الملك القدوس. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46] سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر
(3)
، وهو قول سعيد بن المسيب
(4)
، ومجاهد
(5)
.
فإن قلت: هل ينوب شيء عن تكرار التسبيح والتحميد؟ قيل: قد روي عن صفية رضي الله عنها قالت: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسبح بأربعة آلاف نواة فقال: "لقد قلت كلمة هي أفضل من تسبيحك" قلت: وما قلت؟ قال: قلت: "سبحان الله عدد ما خلق"
(6)
.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 247 (617).
(2)
من (ص 2).
(3)
"تفسير الطبري" 8/ 230 (23091).
(4)
"تفسير الطبري" 8/ 231 (23094).
(5)
"تفسير الطبري" 8/ 231 (23096).
(6)
رواه الترمذي (3554) وقال: حديث غريب، والطبراني في "الكبير" 24/ 74، وفي "الأوسط" 8/ 236 (8504)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 547، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وعن كريب، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على جويريةَ في مصلاها باكرًا تسبح وتذكر الله، فمضى لحاجته، ورجع إليها بعد ما ارتفع النهار، فقال لها:"ما زلت في مكانك هذا؟ " قالت: نعم، فقال عليه السلام: (لقد تكلمت بكلمات لو وزنت بما قلت لرجحت: سبحان الله عدد ما خلق، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته، والحمد لله مثل ذلك"
(1)
.
وقال بعضهم: هذِه الفضائل التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر له" وما شاكلها، إنما هي لأهل الشرف في الدين، والكمال والطهارة من الجرائم العظام، ولا يظن أن من فعل هذا، وأصر على ما شاء من شهواته وانتهك دين الله وحرماته، أنه يلحق السابقين المطهرين، وينال منزلتهم في ذلك بحكاية أحرف ليس معها تقى ولا إخلاص ولا عمل، ما أظلمه لنفسه من تأول دين الله على هواه!
(1)
رواه مسلم برقم (2726) كتاب: الذكر والدعاء، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم.
66 - باب فَضْلِ ذِكْرِ اللهِ تعالى
6407 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِى لَا يَذْكُرُ مَثَلُ الحَيِّ وَالْمَيِّتِ» . [مسلم: 779 - فتح 11/ 208]
6408 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ -وَهْوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ. قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَا وَاللهِ مَا رَأَوْكَ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا. قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ. قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ. قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَا وَاللهِ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» . رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ. وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 2689 - فتح 11/ 208]
ذكر فيه حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا (يَذْكُرُه)
(1)
مَثَلُ الحَيِّ وَالْمَيِّتِ".
وحديث جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لله مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ .. " الحديث. قَالَ: "هُمُ الجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ" بطوله. ثم قال: رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ. وَرَوَاهُ سُهَيْلٌ بن أبي صالح، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
هذا حديث شريف في فضل ذكر الله تعالى وتسبيحه وتهليله، وقد وردت في ذلك أخبار كثيرة منها: ما رواه زيد بن أسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلت لأبي ذر: يا عم، أوصني. قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سألتني فقال: "ما من يوم ولا ليلة إلا ولله فيه صدقة يمن بها على من يشاء من عباده، وما منَّ الله على عباده بمثل أن يلهمهم ذكره"
(2)
.
وروى شعبة وسفيان عن أبي إسحاق، عن أبي مسلم الأغر أنه شهد على أبي هريرة رضي الله عنه، وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(1)
كذا في الأصل، وفي "اليونينية" 8/ 86:(يذكر) وفي هامشها: عند أبي ذر: (يذكر ربه).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الليالي والأيام" ص 15 (4)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 2/ 231 (987)، ورواه البزار كما في "كشف الأستار" 1/ 334 (694). قال الهيثمي في "المجمع" 2/ 236 - 237: رواه البزار، وفيه: حسين بن عطاء، ضعفه أبو حاتم وغيره، وذكره ابن حبان في "الثقات" 6/ 209 وقال: يخطئ ويدلس. وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(905).
"ما من قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده"
(1)
.
وقال معاذ رضي الله عنه: ليس شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله
(2)
.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما يرفع الحديث: "من عجز منكم عن الليل أن يكابده، وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن العدو أن يجاهده فليكثر من ذكر الله"
(3)
.
وروى أبو سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيروا، سبق المستهترون". قيل: ومن هم يا رسول الله؟، قال:"هم الذين استهتروا، واستهتروا بذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم ويأتون يوم القيامة خفافًا"
(4)
.
(1)
رواه مسلم (2700) عن شعبة، عن أبي إسحاق، في كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.
ورواه الترمذي (3378) عن سفيان، عن أبي إسحاق.
(2)
رواه الترمذي إثر حديث رقم (3377)، وابن ماجه إثر حديث رقم (3790)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 496، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 394.
(3)
رواه عبد بن حميد في "المنتخب"(641)، والبزار 11/ 168 (4904)، والطبراني في "الكبير" 11/ 84 (11121)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 390 - 391 (508).
قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 74 رواه البزار والطبراني، وفيه: أبو يحيى القتات، وقد وثق، وضعفه الجمهور، وبقية رجال البزار رجال الصحيح.
وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(1496).
(4)
رواه الترمذي (3596) بلفظ: "سبق المفردون" قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: "المستهترون في ذكر الله .. " الحديث. وقال: حسن غريب، وكذا عند البيهقي في "الشعب" 1/ 390 (506).
ورواه ابن عدي في "الكامل" 6/ 28 عن أبي سلمة، عن أبي الدرداء بلفظ:"الذين يهترون بذكر الله .. " الحديث.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم" رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري
(1)
.
تِرة -بكسر التاء المثناة: فوق، وتخفيف الراء- نقص، أو تبعة، أو حسرة.
وعن جابر رضي الله عنه رفعه: "ارتعوا في رياض الجنة" قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال:"مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا في ذكر الله، واذكروه في أنفسكم، من أحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، إن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله من نفسه"
(2)
.
وروى الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل لأبي الدرداء: إن رجلاً أعتق مائة نسمة. قال: إن ذلك من مال رجل لكثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، ولا يزال لسان أحدكم رطبًا من ذكر الله
(3)
.
(1)
"سنن الترمذي"(3380)، "المستدرك" 1/ 494 - 495.
(2)
رواه أبو يعلى 3/ 390 (1865) والطبراني في "الأوسط" 3/ 67 (2501) والحاكم 1/ 494 - 495 البيهقي في "الشعب" 1/ 397 - 398 (528) كلهم من طريق بشر بن المفضل، عن عمر بن عبد الله مولى غفرة، عن أيوب بن خالد بن صفوان، عن جابر مرفوعًا، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي في "التلخيص": عمر ضعيف. قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 76: رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في "الأوسط"، وفيه: عمر بن عبد الله مولى غفرة، وقد وثقه غير واحد، وضعفه جماعة، وبقية رجالهم رجال الصحيح.
وضعفه الألباني في "الضعيفة"(6205)، و"ضعيف الترغيب والترهيب"(918).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 60 (29455)، 7/ 179 (35043)، ورواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 219، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 35 (627) من طريق سفيان، عن منصور عن سالم به.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل فقال: رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني
(1)
.
ثم قال ابن عباس: ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يذكرون الله إلا كانوا أضيافًا لله ما داموا فيه، حتى يتصدعوا عليه، وأظلتهم الملائكة بأجنحتها ما داموا فيه
(2)
. ذكر هذِه الآثار كلها الطبري في "آداب النفوس".
وفقه الباب: أن معنى أمر الله تعالى العبد بذكره وترغيبه فيه؛ ليكون ذلك سببًا لمغفرته له، ورحمته إياه، لقوله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وذكر الله العبد رحمة له. قال ثابت البناني: قال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم الساعة التي (يذكرني)
(3)
الله فيها. قيل: ومن أين تعلمها؟ قال: يقول الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}
(4)
.
وقال السدي: ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله، لا يذكره مؤمن إلا ذكره برحمته، ولا كافر إلا ذكره بعذابه
(5)
.
وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما
(6)
.
وقيل: المعنى: اذكروا نعمتي عليكم شكرًا أذكركم برحمتي، والزيادة من النعم.
(1)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 451 (681).
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 448 (671).
(3)
في الأصول: يذكرون. والمثبت من "الطبقات الكبرى".
(4)
"الطبقات الكبرى" 7/ 98.
(5)
رواه الطبري 2/ 40 (2320).
(6)
نقل ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 160 عن ابن عباس وابن جبير: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الذكر ذكران: ذكر الله عند أوامره ونواهيه،، وباللسان، وكلاهما فيه الأجر، إلا أن ذكر الله تعالى عند أوامره ونواهيه إذا فعل الذاكر ما أمر به، وانتهى عما نهي عنه، أفضل من ذكره باللسان مع مخالفة أمره ونهيه، والفضل كله والشرف والأجر في اجتماعهما من الإنسان، وهو أن لا ينسى ذكر الله تعالى عند أمره ونهيه، فينتهي، ولا ينساه من ذكره بلسانه، وسيأتي في كتاب الرقاق في باب: من هم بحسنة أو سيئة
(1)
، هل تكتب الحفظة
الذكر بالقلب؟ وما للسلف فيه، وسيأتي في الاعتصام
(2)
في باب: قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" الحديث
(3)
.
قال الطبري: ومن جسيم ما (يرجى)
(4)
به العبد الوصول إلى رضا ربه تعالى، ذكره إياه بقلبه؛ فإن ذلك من شريف أعماله عندي؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فإن قلت: فهل من أحوال العبد حال يجب عليه فيها ذكر الله فرضًا بقلبه؟
قيل: نعم، هي أحوال أداء فرائضه من صلاة وصيام وزكاة وحج، وسائر الفرائض، فإن على كل من لزمه عمل شيء من ذلك أن يكون
(1)
سيأتي برقم (6491).
(2)
في هامش الأصل: في كتاب التوحيد وقد جرى ذلك له غير مرة، يسمي كتاب التوحيد كتاب الاعتصام، والذي أعرفه أنهما كتابان، والله أعلم.
(3)
سيأتي في التوحيد برقم (7405).
(4)
كذا في الأصول، وفي الأصل عليها: صح.
عند دخوله في كل ما كان من ذلك له تطاول، فابتداء بأول، وانقضاء بآخر أن يتوجه إلى الله بعمله، ويذكره في حال ابتدائه فيه، وما لم يكن له تطاول منه فعليه توجهه إلى الله بقلبه في حال عمله وذكره ما كان مشتغلًا به، وما كان نفلاً وتطوعًا، فإنه وإن لم يكن فرضًا عليه، فلا ينتفع به عامله، وإن لم يرد به وجه الله، ولا ذكره عند ابتدائه فيه
(1)
.
فصل:
قوله: ("تعالوا هلموا إلى حاجتكم"). هذِه لغة أهل نجد، تثنِّي وتجمع، وتقول للنساء: هلمن، (وللواحدة: هلمي)
(2)
، ولغة أهل الحجاز يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع، قال الله تعالى:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18] قال الخليل: أصله (لُمَّا) من قولهم: لم الله شعثه، أي: جمعه، كأنه أراد: لُمَّ نفسك إلينا، أي: أقرب، و (ها) للتنبيه، وإنما حذفت ألفها لكثرة الاستعمال، وجعلا اسمًا واحداً.
وقال ابن فارس: أصلها (هل أم) كلام من يريد إتيان الطعام، ثم كثرت حتى تكلم بها الداعي مثل: تعال وحي، كأنه يقولها من كان (انتقل من مكان إلى مكان)
(3)
فوق. قال: ويحتمل أن يكون معناها: هل لك في الطعام أَمٌّ. أي: قصد وإذن
(4)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 10/ 135 - 138.
(2)
في الأصل: والواحد: هلم، والمثبت من (ص 2).
(3)
كذا بالأصول، وعند ابن فارس (أسفل لمن كان).
(4)
"مجمل اللغة" 2/ 907، مادة:(هلم).
فصل:
قوله: ("فيحفونهم بأجنحتهم") أي: يطوفون بهم، ويقال: حف به القوم، أي صاروا في (أحفته)
(1)
، ومنه:{وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ} [الزمر: 75] ومنه: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} [الكهف: 22].
فصل:
استدل (به)
(2)
بعض الأشاعرة على المعتزلة أن الله تعالى يجوز أن يُرى (بقوله في الحديث: "كيف لو رأوني")
(3)
.
(1)
في الأصل: الأحفية.
(2)
من هامش الأصل وعليها: لعله سقط.
(3)
من نسخة (ص 2).
67 - باب قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللِّه
6409 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عَقَبَةٍ -أَوْ قَالَ: فِي ثَنِيَّةٍ- قَالَ: فَلَمَّا عَلَا عَلَيْهَا رَجُلٌ نَادَى فَرَفَعَ صَوْتَهُ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ. قَالَ: وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا» . ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا مُوسَى -أَوْ يَا عَبْدَ اللهِ- أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ؟» . قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: «لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ» . [انظر: 2992 - مسلم: 2704 - فتح 11/ 213]
ذكر فيه حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه: أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي عَقَبَةٍ -أَوْ قَالَ: فِي ثَنِيَّةٍ- قَالَ: فَلَمَّا عَلَا عَلَيْهَا رَجُلٌ نَادى فَرَفَعَ صَوْتَهُ: لَا إله إِلَّا اللهُ والله أَكْبَرُ. قَالَ: وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ قَالَ: "فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا". ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا مُوسَى -أَوْ يَا عَبْدَ اللهِ بن قيس- أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الجَنَّةِ؟ ". قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ".
الشرح:
الثنية من الأرض المرتفع.
فإن قلتَ: أي أنواع الذكر أفضل، فإن ذلك أنواع كثيرة منها: التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير؟
قلتُ: أفضلها التهليل كما مرَّ، فإنه أشرف الكلام، ولا يصح لأحد العمل إلا بها، ولا إيمان إلا بالإقرار بها.
وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الإيمان بضع وسبعون خصلة أكبرها شهادة أن لا إله إلا الله، وأصغرها إماطة الأذى عن الطريق"
(1)
.
فإن قلتَ: فما معنى قوله للذي رفع صوته بها: "ألا أدلك على كذا" وعلمه ذلك، ولا إله إلا الله تغني عن غيرها، وهي المنجية من النار؟
قلتُ: كان عليه السلام معلمًا لأمته، وكان لا يراهم على حالة من الخير إلا أحب لهم الزيادة عليها، فأحب للذي رفع صوته بكلمة الإخلاص والتوحيد أن يردفها بالتبرؤ من الحول والقوة لله، وإلقاء القدرة إليه، فيكون قد جمع مع التوحيد الإيمان بالقدر، وقد جاء هذا المعنى في حديث عبد الله بن باباه المكي السالف: فإذا كبر فهي كلمة تملأ ما بين السماوات والأرض، فإذا سبح فهي صلاة الخلائق، التي لم يدع الله أحدًا حتى قرره بالصلاة والتسبيح، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: استسلم عبدي
(2)
.
وروي عن سالم بن عبد الله، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه عليه السلام ليلة أسري به مرَّ على إبراهيم خليل الله، فقال له:"مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة". قال له عليه السلام: "وما غراس الجنة؟ " قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله"
(3)
.
(1)
سلف مختصرًا بلفظ "بضع وستون شعبة" رقم (9) كتاب: الإيمان، باب: أمور الإيمان، ولمسلم برقم (35) كتاب: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان. وقد رواه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 147 بلفظه، إلا قوله "بضع وستون".
(2)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه"11/ 295 من طريق معمر، عن قتادة، عن عبد الله بن عمرو. وقد أورده الطبراني في "الدعاء"(1602) من طريق عبد الرزاق مختصرًا.
(3)
رواه أحمد 5/ 418، وابن حبان 3/ 103 (821). =
ومن حديث جابر مرفوعًا: "أكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها تدفع تسعة وتسعين داءً، أدناها الهم"
(1)
.
وقال مكحول: من قالها كشف عنه سبعون بابًا من الضر، أدناها الفقر
(2)
.
= والطبراني في "الكبير" 4/ 132 (3898)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 443 (657).
قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 97 (16898): رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو ثقة، لم يتكلم فيه أحد، ووثقه ابن حبان.
وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(1583).
(1)
ذكره العجلوني في "كشف الخفاء" 2/ 362 وعزاه للطبراني، قال الألباني في "الصحيحة" 4/ 33 - 34: ذكر له السيوطي في الجامعين شاهدًا من حديث جابر وقال: رواه الطبراني في "الأوسط".
قلت: -أي الألباني- وعندي وقفة في ثبوت هذا اللفظ عن جابر في "الأوسط"؛ فإن المنذري ثم الهيثمي لم يذكراه في كتابيهما أصلاً.
وقد رواه ابن حبان في "المجروحين" 1/ 188، والطبراني في "الأوسط" 5/ 187 (5028) وفي "الدعاء"(1674)، وابن عدي في "الكامل" 2/ 165، والحاكم في "المستدرك" 1/ 542، كلهم من طريق بشر بن رافع، عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وبشر بن رافع الحارثي ليس بالمتروك وإن لم يخرجاه.
قال الذهبي في "التلخيص": بشر واهٍ. قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 98 (16901): رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه: بشر بن رافع الحارثي، وهو ضعيف، وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح إلا أن النسخة من الطبراني "الأوسط" سقط منها عجلان والد محمد الذي بينه وبين أبي هريرة، والله أعلم. وقد ضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(6286).
(2)
رواه الترمذي بعد حديث رقم (3601)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 106.
فائدة:
معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله: لا حول عن معاصي الله إلا (بعصمة)
(1)
الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بالله، قال عليه السلام:"كذلك أخبرني جبريل عن الله". وعن علي رضي الله عنه: إنا لا نملك مع الله شيئا، ولا نملك من دونه شيئا، ولا نملك إلا [ما]
(2)
ملكنا مما هو أملك به منا. وحكى أهل اللغة أن معنى لا حول: لا حيلة، يقال: ما للرجل حيلة ولا حول ولا احتيال ولا محتال ولا محالة ولا محال. وقوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] يعني: المكر والقوة والشدة.
(1)
في الأصل: بقضاء، والمثبت من (ص 2).
(2)
ليست في الأصول وأثبتناها من "شرح ابن بطال" 10/ 140 والسياق يقتضيها.
68 - باب لله مِائَةُ اسْمٍ غَيْرَ وَاحِدة
6410 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةً قَالَ:«لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا، لَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» . [انظر: 2736 - مسلم: 2677 - فتح 11/ 214]
ذكر فيه حديث الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رِوَايَةً قَالَ:"لله تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، إِلَّا وَاحِدة، لَا يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَهْوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ".
الشرح:
اختلف العلماء في الاستدلال من هذا الحديث، كما قال المهلب، فذهب قوم إلى أن ظاهره يقتضي: أن لا اسم لله غير ما ذكر، إذ لو كان له غيرها لم يكن لتخصيص هذِه العدة معنى، قالوا: والشريعة متناهية، والحكمة فيها بالغة.
وقال آخرون: يجوز أن يكون له زيادة على ذلك، إذ لا يجوز أن تتناهى أسماؤه؛ لأن مدائحه وفواضله غير متناهية، كما قال تعالى في كلماته وحكمه:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ} [لقمان: 27].
ومعنى ما أخبرنا به الشارع من هذِه الأسماء، وإنما هو في معنى الشرع لنا في الدعاء بها، وغيرها من الأسماء لم يشرع لنا الدعاء بها؛ لأن الحديث مبني على الآية، وهي قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 18] فكأن ذكر هذا العدد إنما هو لشرع الدعاء به.
قال المهلب: وهذا القول أميل إلى النفوس، ونقله النووي عن اتفاق العلماء
(1)
؛ لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يبلغ كنهه الواصفون، ولا ينتهي إلى صفاته المقرظون، دليل لازم أن له أسماء غير هذِه وصفات، وإلا فقد تناهت صفاته تعالى عن ذلك، وهذا قول أبي الحسن الأشعري وجماعة من أهل العلم.
قال ابن الطيب: وليس في الحديث دليل على أنه ليس لله أكثر من ذلك، لكن ظاهره يقتضي أن من أحصاها على وجه التعظيم لله دخل الجنة، وإن كان له أسماء أخر.
وقال القابسي: أسماء الله تعالى وصفاته لا تعلم إلا بالتوقيف، وهو: الكتاب والسنة واتفاق الأمة، وليس للقياس فيه مدخل، وما أجمعت عليه الأمة، فإنما هو عن سمع علموه من بيان الرسول، قال: ولم يذكر في كتاب الله لأسمائه عدد مسمى، وقد جاء حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، وقد أخرج بعض الناس من كتاب الله تسعة وتسعين اسمًا والله أعلم بما خرج من هذا العدد
(2)
إن كان كل ذلك أسماء (أو بعضها أسماء)
(3)
وبعضها صفات، ولا يسلم له ما نقله من ذلك.
وقال الداودي: لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نص على التسعة وتسعين اسمًا.
قال ابن القابسي: وقد روى مالك، عن سمي، عن القعقاع بن
(1)
"صحيح مسلم بشرح النووي" 17/ 5.
(2)
في الأصل: (الحديث)، وما أثبتناه من ابن بطال، وهو المناسب للسياق.
(3)
من (ص 2).
حكيم أن كعب الأحبار أخبر قال: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارًا، فقيل له: ما هن؟ فقال: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر (وبأسمائه)
(1)
الحسنى كلها، ما علمت منها، وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ
(2)
.
فهذا كعب على علمه واتساعه، لم يتعاط أن يحصر معرفة الأسماء مثل ما حصرها، هذا الذي زعم أنه عرفها من القرآن، والدعاء في هذا بدعاء كعب أولى وأسلم من التكلف، وقد كان بعض السادة يدعو به كثيرًا.
وسيأتي تفسير الإحصاء والمراد بهذا الحديث في الاعتصام
(3)
في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "باسم الله الأعظم"، وفي الباب أيضًا بعدُ.
وروى وكيع، عن مالك بن مغول، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه أنه عليه السلام سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، فقال:"لقد دعا باسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى"
(4)
.
(1)
في (ص 2): وبأسماء الله.
(2)
"الموطأ" ص (590).
(3)
سيأتي في التوحيد برقم (7392)، باب: إن لله مائة اسم إلا واحدًا، ولعل المصنف يسمي كتاب التوحيد بكتاب الاعتصام.
(4)
رواه ابن ماجه (3857)، وأحمد 5/ 360، وابن أبي شيبة 6/ 47 والحاكم 1/ 504 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
قال الذهبي في "التلخيص": على شرط مسلم. وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(3111).
وروى شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}
(1)
[البقرة: 163]" وروي عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن مالك مرفوعًا: "اسم الله (الأعظم)
(2)
الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى، ألم تسمع قوله {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} إلى قوله {الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87] فهو شرط الله لمن دعا بها"
(3)
.
قال الطبري: قد اختلف السلف قبلنا في ذلك، فقال بعضهم في ذلك ما قال قتادة: اسم الله الأعظم: اللهم إني (أعوذ)
(4)
بأسمائك الحسنى كلها، ما علمت منها وما لم أعلم، وأعوذ بأسمائك التي إذا دعيت بها أجبت، وإذا سئلت بها أعطيت. وقال آخرون: اسم الله الأعظم هو الله، ألم تسمع قوله:{هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] إلى آخر السورة، وقال آخرون بأقوال مختلفة لروايات رووها عن العلماء.
قال الطبري: والصواب في كل ما روينا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلف أنه صحيح؛ لأنه لم يرو عن أحد منهم أنه قال في شيء من ذلك، لقد دعا باسمه الأعظم الذي لا اسم له أعظم منه، فيكون ذلك من
(1)
رواه أبو داود (1496)، والترمذي (3478) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (3855)، وأحمد 6/ 461. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" (1343).
(2)
من (ص 2).
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 506 من طريق محمد بن يزيد عن سعيد بن المسيب عن سعد بن مالك مرفوعًا.
(4)
في الأصل: أعوذ بك، والمثبت من (ص 2).
روايتهم اختلافًا، وأسماؤه كلها عظيمة جليلة، وليس منها اسم أعظم من اسم.
ومعنى قوله: "لقد دعا باسمه الأعظم": العظيم، كقوله:{وَهُوَ أَهْوَنُ} ، أي: هين يوضحه حديث حفص بن أخي أنس بن مالك، عن أنس رضي الله عنه، أنه عليه السلام قال:"لقد دعا باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب"
(1)
. فقال: "باسمه العظيم" إذا كان معنى ذلك ومعنى الأعظم واحد.
وقال أبو الحسن القابسي: لا يجوز أن يقال في أسمائه وصفاته ما يشبه المخلوقات، ولو كان في أسمائه اسم أعظم من اسم لكان غيره، ومنفصلا منه، والاسم هو المسمى على قول أهل السنة، فلا يجوز أن يكون الاسمان متغايرين.
قال: ومن جعل اسمًا أعظم من اسم، صار إلى قول من يقول: القرآن مخلوق، ومسألة الاسم هل هو المسمى، سلفت واضحة.
قال القشيري: فيه دليل على أنه هو، إذ لو كان غيره لكانت الأسماء لغيره، لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
قال الطبري: فإن قيل: فلو كان -كما وصفت- كل من أسمائه عظيمًا، لا شيء منها أعظم من شيء لكان كل من دعا باسم من أسمائه مجابًا دعاؤه، كما استجيب دعاء صاحب سليمان، الذي أتاه بعرش بلقيس من مسيرة شهر قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه؛ لأنه كان عنده علم من اسم الله الأعظم، وكان عيسى يحيي الموتى، ويبرئ
(1)
رواه أبو داود (1495)، والنسائي 3/ 52، وأحمد 3/ 158 وابن حبان 3/ 175 (893)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(1342).
الأكمه والأبرص، وقد يدعو أحدنا الدهر الطويل بأسمائه فلا يستجاب له، فدل أن الأمر بخلاف ذلك.
قيل: بل الأمر في ذلك كما قلناه، ولكن أحوال الداعين تختلف، فمن داعٍ رَبه لا ترد دعوته، ومن داعٍ محله محل مَن غَضِبَ الله عليهِ، وعَرضَه للبلاءِ والفتنة، فلا يرد كثيرًا من دعائه ليبتليه، ويبتلي به غيره، ومن داع يوافق دعاؤه محتوم قضائه، ومبرم قدره، وقد قال عليه السلام:"ما من مسلم يدعو إلا استجيب له، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، إما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا"
(1)
وقد سلف أيضًا.
وتبين ما قلناه أنا وجدنا أنه يدعو بالذي دعا به الذين عجلت لهم الإجابة، فلا يجاب له، فدل أن الذي أوجب الإجابة لمن أجيب، وترك (الإجابة)
(2)
لمن لم يستجب له، وهو اختلاف أحوال الداعين، لا الدعاء باسم من أسمائه تعالى بعينه.
فصل:
وقع هنا من رواية سفيان، عن أبي الزناد "مائة إلا واحدة" ولا يجوز
(1)
رواه الترمذي (3573) عن عبادة بن الصامت وقال: حسن صحيح. ورواه أحمد في "مسنده" 3/ 18، والبزار كما في "كشف الأستار"(3143)، وعبد بن حميد في "المنتخب"(937)، والبخاري في "الأدب المفرد"(710)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 493، والبيهقي في "شعب الإيمان" 2/ 47 (1128) من حديث أبي سعيد الخدري.
قال الحاكم: صحيح الإسناد، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(1633).
(2)
في الأصل: الاستجابة.
في العربية، وقد جاء في الاعتصام
(1)
"إلا واحداً" من رواية شعيب، عن أبي الزناد
(2)
، وهو الصحيح في العربية؛ لأن الاسم مذكر، فلا يستثنى منه إلا مذكر مثله، نبه عليه ابن بطال
(3)
، وقد روي هنا من طريق الأول "واحدًا".
فصل:
الوِتر بكسر الواو وفتحها، وقرئ بهما، وبالكسر رويناه.
فصل:
قال الخطابي: فيه دليل على أن الله أشهر أسمائه؛ لإضافة هذِه الأسماء إليه، وقد روي أنه الاسم الأعظم. قال اللالكائي: وإليه ينسب كل اسم له، فيقال: الرءوف الرحيم الله، أو من أسماء الله، ولا يقال: من أسماء الرءوف (الرحيم)
(4)
الله.
فصل:
ذهب ابن حزم ومن وافقه إلى القول الأول؛ لأنه لا يجوز الزيادة عليها، ثم قال: والأحاديث في إحصائها مضطربة ولا يصح منها
(1)
ورد في هامش الأصل: بل في التوحيد، قد وقع له هذا غير مرة يعزو إلى الاعتصام ويكون في التوحيد.
(2)
سيأتي برقم (7392) كتاب: التوحيد، باب: إن لله مائة اسم إلا واحدًا.
(3)
"شرح ابن بطال" 10/ 141 - 145، قال الحافظ في "فتح الباري" 11/ 219: وليست الرواية "إلا واحدة"، خطأ، بل وجهوها، وخرج التأنيث على إرادة التسمية، وقال السهيلي: بل أنث الاسم؛ لأنه كلمة، واحتج بقول سيبويه: الكلمة اسم أو فعل أو حرف، فسمى الاسم كلمة، وقال ابن مالك: أنث باعتبار معنى التسمية أو الصفة أو الكلمة. اهـ.
(4)
في (ص 2): الكريم.
شيء البتة -قلت: صحح بعضها ابن خزيمة والحاكم- قال: وإنما تؤخذ من نص القرآن ومما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقد بلغ إحصاؤها إلى ما نذكره، فذكر أربعة وثمانين اسمًا
(1)
.
فصل:
مما يدل على أن المراد الإخبار دخول الجنة بإحصائها لا حصرها، حديث الترمذي:"أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك"
(2)
.
وذكر ابن العربي القاضي عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم، قال: وهذا قليل فيها
(3)
.
(1)
"المحلى" 8/ 31.
(2)
لم أقف عليه عند الترمذي، وقد رواه أحمد 1/ 391، وأبو يعلى 9/ 198 (5297)، والشاشي 1/ 318 (282)، وابن حبان 3/ 253 (972)، والطبراني في "الكبير" 10/ 169 (10352)، وفي "الدعاء"(1035) والحاكم 1/ 509، من طريق فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني، عن القاسم ابن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه، فإنه مختلف في سماعه عن أبيه، قال الذهبي معقبًا: وأبو سلمة لا يدرى من هو، ولا رواية له في الكتب الستة.
ورواه البزار كما في "كشف الأستار"(3122) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن به.
قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 136 (17129): رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني، وقد وثقه ابن حبان.
وصححه الألباني في "الصحيحة"(199).
(3)
"عارضة الأحوذي" 10/ 281.
وأما نفس هذِه الأسماء فقد جاءت مفصلة في الترمذي والحاكم
(1)
وغيرهما، وفي بعض الأسماء خلاف، وقيل: إنها مخفية التعيين كالاسم الأعظم، وليلة القدر، ونظائرهما.
فصل:
واختلفوا في معنى الإحصاء، وفي رواية أخرى (فذكر البخاري)
(2)
وغيره أنه حفظها
(3)
، وهو الصحيح عملًا بالرواية الأخرى:"من حفظها"
(4)
وقيل: معناه: عدها في الدعاء بها، وقيل: أطاقها: أي أحسن المراعاة لها، والمحافظة على ما تقتضيه، وصدق بمعانيها، وقيل: معناه: العمل بها، والطاعة بمعنى كل اسم منها. والإيمان بها لا يقتضي عملًا. وأغرب بعضهم فقال: أراد حفظ القرآن أجمع وتلاوته كله؛ لأنه مستوف لها.
وقال الخطابي: يكون الاحصاء بمعنى العقل والمعرفة، فيكون معناها: من عرفها وعقل معانيها وآمن بها دخل الجنة، مأخوذ من الحصاة: وهو العقل.
قال طرفة بن العبد:
وإن لسان المرء ما لم يكن له
…
حصاة على عوراته لدليل
والعرب تقول: فلان ذو حصاة: أي ذو عقل
(5)
.
(1)
"سنن الترمذي"(3507)، و"المستدرك" 1/ 16 (41).
(2)
من (ص 2).
(3)
سيأتي برقم (7392) كتاب: التوحيد، باب: إن لله مائة اسم إلا واحدة.
(4)
رواها مسلم برقم (2677)، باب: في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها.
(5)
"غريب الحديث" للخطابي 1/ 730.
فصل:
وقوله: ("يحب الوتر") معناه: في حق الله الواحد الذي لا شريك له ولا نظير، ومعنى "يحب"
(1)
: يفضله في الأعمال وكثير من الطاعات، فجعل الصلاة خمسًا، والطهارة ثلاثًا، والطواف سبعًا سبعًا، والسعي سبعًا، ورمي الجمار سبعًا، وأيام التشريق ثلاثة، والاستنجاء ثلاثة، وشبه ذلك.
وقيل: معناه ينصرف إلى من يعبد الله بالوحدانية والتصرف مخلصًا له.
فصل:
لما خرجها البيهقي في "الأسماء والصفات" وابن خزيمة في "صحيحه" من حديث صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم، عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، وعددها
(2)
.
قال وذكر من رواية عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان، قال: -وهو ضعيف- ثنا أيوب بن أبي تميمة، وهشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، فذكر أسماء غير المتقدمة وقال: تفرد بهذِه الرواية عبد العزيز. ويحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة، في حديث الوليد بن مسلم، ولهذا الاحتمال ترك البخاري ومسلم إخراج حديث الوليد هذا في الصحيح، فإن كان محفوظًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
في هامش الأصل: لعله سقط: الوتر.
(2)
"الأسماء والصفات" 1/ 22 (6)، ورواه ابن خزيمة كما في "شرح السنة" للبغوي 5/ 32 (1257).
فكأنه قصد أن من أحصى من أسماء الله تسعة وتسعين اسمًا دخل الجنة، سواء أحصاها مما نقلنا في حديث الوليد، أو مما نقلنا في حديث ابن الترجمان، أو من سائر ما دل عليه الكتاب والسنة.
ولما خرجه الحاكم من حديث صفوان بن صالح، عن الوليد، قال: هذا حديث قد خرجاه في الصحيحين بأسانيد صحيحة دون ذكر الأسامي فيه، والعلة فيه عندهما أن الوليد تفرد بسياقته بطوله، وذكر الأسامي فيه، ولم يذكرها غيره، وليس هذا بعلة، فإني لا أعلم اختلافًا بين أئمة الحديث أن الوليد أوثق، وأحفظ، وأعلم، وأجل من أبي اليمان، وبشر بن شعيب، وعلي بن عياش، وأقرانهم من أصحاب [شعيب]
(1)
، ثم نظرنا فوجدنا الحديث قد رواه ابن الترجمان، عن أيوب، وهشام
(2)
.
وهو حديث محفوظ عنهما مختصر دون ذكر الأسامي الزائدة عنها كلها في القرآن، وابن الترجمان ثقة، وإن لم يخرجها، وإنما خرجته شاهدًا للحديث الأول، ولما خرجه الترمذي من حديث صفوان، قال: هذا حديث غريب حدثنا به غير واحد عن صفوان، ولا نعرفه إلا من حديثه، وهو ثقة عند أهل الحديث.
وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نعلم في كبير شيء من الروايات
(3)
ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.
(1)
ليست في الأصل، والمثبت من "مستدرك الحاكم".
(2)
"المستدرك" 1/ 16 - 17.
(3)
عند الترمذي زيادة فيها: له إسناد صحيح.
وقد روى آدم ابن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه الأسماء، وليس له إسناد صحيح
(1)
.
(1)
"سنن الترمذي" بعد حديث رقم (3507).
69 - باب المَوْعِظَةِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ
6411 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ: كُنَّا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللهِ، إِذْ جَاءَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَقُلْنَا: أَلَا تَجْلِسُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَدْخُلُ فَأُخْرِجُ إِلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ، وَإِلاَّ جِئْتُ أَنَا. فَجَلَسْتُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِهِ، فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَمَا إِنِّي أَخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ، وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ؛ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. [انظر: 68 - مسلم: 2821 - فتح 11/ 228]
ذكر فيه حديث شَقِيقٍ قَالَ: كُنَّا نَنْتَظِرُ عَبْدَ اللهِ، إِذْ جَاءَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ -أي: النخعي الكوفي- فَقُلْنَا: أَلَا تَجْلِسُ؟ قَالَ: لَا، ولكن أَدْخُلُ فَأُخْرِجُ إِلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ، وَإِلَّا جِئْتُ أَنَا. فَجَلَسْتُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِهِ، فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَمَا إِنِّي أَخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ، وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنَ الخُرُوجِ إِلَيْكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ؛ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
معنى (يتخولنا): يتعهدنا وقتًا بعد وقت؛ مخافة الملل، وكان الأصمعي يقول: يتخوننا بالنون: يتعهدنا.
(فائدة: يزيد بن معاوية هذا نخعي، كوفي، عابد، دخل على ابن مسعود فيما ذكره القرنفسي، وقتل غازيًا بفارس، ويزيد بن معاوية غيره خمسة، وذكر "التهذيب" واحداً منهم
(1)
، واستوفيناه في كتابنا)
(2)
.
آخر الدعوات، ولله الحمد والمنَّة.
(1)
هو: يزيد بن معاوية. أبو شيبة، وهو متأخر عن الذي ترجم له المصنف انظر:"تهذيب الكمال" 32/ 247 (7051).
(2)
ما بين القوسين من (ص 2).
81
كتاب الرقاق
بسم الله الرحمن الرحيم
81 - كِتابُ الرِّقَاقِ
(1 - باب مَا جَاءَ فِي الرِّقَاقِ، وَأَنْ لَا عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَةِ)
(1)
6412 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ- عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» .
قَالَ عَبَّاسٌ الْعَنْبَرِيُّ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ. [فتح 11/ 229]
6413 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَأَصْلِحِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ» . [انظر: 2834 - مسلم: 1805 - فتح 11/ 229]
6414 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ،
(1)
من اليونينية.
حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الخَنْدَقِ، وَهْوَ يَحْفِرُ وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ وَيَمُرُّ بِنَا، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ» . تَابَعَهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ. [انظر: 3797 - مسلم: 1804 -
فتح 11/ 229]
كذا في الأصول، وفي بعضها: الرقائق، وفي بعضها: ما جاء في الرقائق، وفي بعضها: ما جاء في الصحة والفراغ، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة، (وفي "شرح ابن بطال": لا عيش إلا عيش الآخرة)
(1)
.
قال ابن سيده: الرقة: الرحمة، ورققت له أرق، ورق وجهه استحياء، والرقة ضد الغلظ، رق يرق رقًّا فهو رقيق ورقاق
(2)
.
وفي "الصحاح": ترقيق الكلام: تحسينه
(3)
، وفي "الجامع": الرقق في المال والعيش: القلة، (فكان في)
(4)
قصد أحد هذِه المعاني، والرقائق غيره مقولة، وإن طبقت كتب العلماء.
ثم ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
أخبرنا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ -ابْنُ أَبِي هِنْدٍ- عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالْفَرَاغُ".
قَالَ عَبَّاسٌ العَنْبَرِيُّ: حَدَّثَني صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدِ، عَنْ أَبِيهِ: سمعت ابن عباس، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
(1)
من (ص 2)، وانظر:"شرح ابن بطال" 10/ 146.
(2)
"المحكم" 6/ 80 - 81.
(3)
"الصحاح" 4/ 1483، مادة: رقق.
(4)
في هامش الأصل: لعله: فكأنه قصد.
قال الإسماعيلي بعد أن أخرجه في "مستخرجه" عن الحسن: ثنا محمد بن بشار، ثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن سعيد به. قال بندار:(ربما)
(1)
حدث به يحيى بن سعيد، ولم يرفعه، وذكره مرفوعًا من حديث ابن المبارك، وإسماعيل بن جعفر، عن عبد الله.
وتعليق عباس أخرجه ابن ماجه في "سننه"
(2)
، وقال الترمذي: رواه غير واحد عن عبد الله بن سعيد، ورفعوه، ووقفه بعضهم
(3)
، وحديث بندار عن يحيى بن سعيد حسن صحيح، وروينا في كتاب المبرد: أنه عليه السلام قال: "كفى بالسلامة داء"
(4)
.
وقال حميد بن ثور الهلالي:
أرى بصري قد رابني بعد صحة
…
وحسبك داء أن تصح وتسلما
ولا يلبث العصران يومًا وليلة
…
إذا طلبا أن يدركا ما تيمما
وقال النمر بن تولب:
تدارك ما قبل الشباب وبعده
…
حوادث أيام تمر وأغفل
يسر الفتى طول السلامة والتقى
…
فكيف ترى طول السلامة يفعل
يرد الفتى بعد اعتدال وصحة
…
ينوء إذا رام القيام ويحمل
فصل:
قال بعض العلماء: إنما أراد بقوله: "نعمتان .. " إلى آخره تنبيه أمته على مقدار عظيم نعمة الله على عباده في الصحة والكفاية؛ لأن المرء
(1)
من (ص 2).
(2)
ابن ماجه (4170).
(3)
الترمذي (2304).
(4)
رواه القضاعي في "مسند الشهاب" 2/ 302 (1409) من حديث أنس وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(4173)، وانظر "السلسلة الضعيفة"(4090).
لا يكون فارغًا حتى يكون مكفيًا مؤنة العيش في الدنيا، فمن أنعم الله عليه فليحذر أن يغبنهما، ومما يستعان به على دفع الغبن: أن يعلم العبد أن الله خلق الخلق من غير ضرورة إليهم، وبدأهم بالنعمة الجليلة من غير استحقاق منهم لها، فمن عليهم بصحة الأجسام، وسلامة العقول، وتضمن أرزاقهم وضاعف لهم الحسنات، ولم يضاعف عليهم السيئات، وأمرهم أن يعبدوه ويعتبروا بما ابتدأهم به من النعم الظاهرة والباطنة، ويشكروه عليها بأحرف يسيرة، وجعل مدة طاعتهم في الدنيا منقضية بانقضاء أعمارهم، وجعل جزاءهم على ذلك خلودًا دائمًا في جنة لا انقضاء لها، مع ما ذخر لمن أطاعه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فمن أنعم النظر في هذا كان حريا أن لا يذهب عنه وقت من صحته وفراغه، إلا وينفقه في طاعة الله تعالى ويشكره على عظيم مواهبه، والاعتراف بالتقصير عن بلوغ تأدية (كنه)
(1)
ذلك، فمن لم يكن هكذا وغفل وسها عن التزام ما ذكرنا، ومرت أيامه عنه في سهو ولهو، وعجز عن القيام بما لزمه لربه تعالى، فقد غبن أيامه، وسوف يندم حيث لا ينفعه الندم.
وفي الترمذي من حديث ابن المبارك، عن يحيى بن عبيد الله بن موهب، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا:"ما أحد يموت إلا ندم" قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: "إن كان محسنًا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون نزع"
(2)
.
(1)
في الأصل: له. والمثبت من "شرح ابن بطال".
(2)
الترمذي (2403).
فصل:
وقوله: "مغبون" هو نقص الرأي، قال ثعلب: غبن الرجل في البيع. يغبن غبنًا، وغبن رأيه غبنًا، وقال مكي: الغبن والغبن أصلهما النقص فبالإسكان: نقص في البيع، وبالفتح: نقص في الرأي وضعف. وفي "نوادر اللحياني": الغبن، والغبن والغبانة واحد، فكأنه قال: هذان الأمران نقص في الرأي كثير من الناس فيهما، فلا يستعملوهما في وقت الاحتياج إليهما، كما في الحديث الآخر، "ومن صحتك لسقمك ومن فراغك لشغلك"
(1)
، فإذا لم ينظر في نفسه في هذين الوقتين، فكأنه غبن فيهما، أي: باعهما ببخس لا تحمد عاقبته، أو ليس له في ذلك رأي البتة، فإن الإنسان إذا لم يعمل الطاعات من صلاة وصيام، وحج، وغزو، وشبهها في زمن صحته وشبابه، فأجدر أن لا يعمل شيئًا من ذلك في زمن الشيخوخة، وعلى هذا يقاس الفراغ.
وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحًا، ولا يكون متفرغًا للعبادة؛ لاشتغاله بأسباب المعاش، وقد يكون متفرغًا من الأشغال ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا للعبد غلب عليه الكسل عن نيل الفضائل، فذاك الغبن، كيف والدنيا سوق الأرباح، والعمر قصير، والعوائق كثير.
الحديث الثاني: حديث أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى اله عليه وسلم - قَالَ:
"اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ
…
فَأَصْلِحِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ"
(1)
رواه الحاكم في "المستدرك 4/ 341، من حديث ابن عباس، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (3355).
الحديث الثالث:
حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِي رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الخَنْدَقِ، وَهْوَ يَحْفِرُ وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ وَيمُرُّ بِنَا، فَقَالَ فذكره إلا أنه قال "فاغفر" بدل "فأصلح".
ونبه بذلك أمته على تصغير شأن الدنيا وتقليلها، و (كدر)
(1)
لذاتها، وسرعة فنائها، وما كان هكذا فلا معنى للشغل به عن العيش الدائم الذي لا كدر في لذَّاته، بل فيه ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين.
(1)
في الأصل: (كذا). والمثبت من (ص 2).
2 - باب مَثَلِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ
وقوله تعالى: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} إلى قوله: {إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]
6415 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . [انظر: 2794 - مسلم: 1881 - فتح: 13/ 232].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث سَهْلٍ هو ابن سعد: "مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
القطعة الثانية سلفت في الجهاد (وفي)
(1)
باب الغدوة والروحة
(2)
.
وقوله في الآية: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} أي: الزرع؛ لأنهم يكفرون البذر، أي: يغطونه، وقيل: هم من كفر؛ لأن الدنيا تعجبهم أكثر.
وقوله: {ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يجف ويبقى حطامًا متحطمًا، وهذا مثل الدينا وزوالها، وقوله:{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: لأعداء الله.
وقوله: "خير من الدنيا وما فيها" سببه: أنه غير فان، ومدة الدنيا منقضية زائلة، فلو قسمت على أقل من موضع السوط لفنيت وبقي الموضع، وقد بين منزلة في الدنيا من الآخرة بأن جعل موضع السوط أو الغدوة أو الروحة خير من الدنيا وما فيها، وأراد ثواب ذلك لينبه أمته على هوان الدنيا عند الله وضعتها، ألا ترى أنه لم
(1)
ورد بهامش الأصل: الظاهر أن الواو زائدة.
(2)
سلف برقم (2794).
يرضها دار جزاءٍ لأوليائه، ولا نقمة لأعدائه، بلى هي كما وصفها:{لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} .
وفي الترمذي من حديث مستورد بن شداد الفهري رضي الله عنه مرفوعًا: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر (بماذا)
(1)
يرجع"
(2)
، ومن حديث سهل رضي الله عنه مرفوعًا:"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة"
(3)
.
(1)
في الأصل: (بم) والمثبت من "سنن الترمذي".
(2)
الترمذي (2323).
(3)
الترمذي (2320).
3 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»
6416 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو الْمُنْذِرِ الطُّفَاوِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. [فتح: 11/ 233].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: أَخَذَ النبي صلى الله عليه وسلم بمَنْكِبِي وَقَالَ: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ". وَكَانَ ابن عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.
قال أبو الزناد: معنى هذا الحديث: الحض على قلة المخالطة، وقلة الاقتناء والزهد في الدنيا، قال ابن بطال: وبيان ذلك: أن الغريب قليل الانبساط إلى الناس، بل هو مستوحش منهم، إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه فيأنس به، ويستكثر بخلطته، فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل لا يبعد في سفره إلا بقوته عليه، وخفيف من الأثقال غير متسبب بما يمنعه من قطع سفره، معه زاد وراحلة يبلغانه إلى بغيته من قصده، وهذا دال على إيثار الزهد في الدنيا، وأخذ البلغة فيها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، وكذلك يحتاج المؤمن في الدنيا إلى أكثر مما يبلغه المحل.
وقوله: "إذا أمسيت .. " إلى آخره، خص منه إلى أن يجعل الموت نصب عينيه، فيستعد له بالعمل الصالح، وحضٌّ له على تقصير
الأمل، وترك الميل إلى غرور الدنيا.
وقوله: "وخذ من صحتك لمرضك" حضه على اغتنام أيام صحته، فيمهد فيها لنفسه؛ خوفًا من حلول مرض به يمنعه
(1)
العمل، وكذلك قوله:"ومن حياتك لموتك" تنبيه على اغتنام أيام حياته، ولا يمر عنه باطلاً في سهو وغفلة؛ لأن من مات فقد انقطع عمله، وفاته أمله، وحضره على تفريطه ندمه، فما أجمع هذا الحديث لمعاني الخير وأشرفه
(2)
، لا جرم أدخله النووي في "أربعينه"
(3)
، وأوضحناه في شرحها
(4)
.
(فائدة:
هذا الحديث رواه البخاري من طريق الأعمش، حدثني مجاهد، عن ابن عمر. ورواه الترمذي بزيادة من طريق سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، فقال "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك في أهل القبور". فقال لي ابن عمر: إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك قبل موتك، فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا. ثم قال: قد روى هذا الحديث الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه)
(5)
.
(1)
في الأصل: يمنعك والمتثبت من (ص 2).
(2)
"شرح ابن بطال" 10/ 148 - 149.
(3)
هو الحديث الأربعون.
(4)
سماه المصنف بـ (المعين على تفهم الأربعين) انظر: "كشف الظنون" 1/ 60.
(5)
من (ص 2)، وانظر:"سنن الترمذي"(2333).
4 - باب الأَمَلِ وَطُولِهِ
وَقَوْله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} الآية {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]. {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} الآية [الحجر: 3]. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ. {بِمُزَحْزِحِهِ} [البقرة: 96] بِمُبَاعِدِهِ.
6417 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُنْذِرٍ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ، مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ وَقَالَ:«هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ -أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ- وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطُطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا» . [فتح: 11/ 235]
6418 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطُوطًا فَقَالَ: «هَذَا الأَمَلُ وَهَذَا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الْخَطُّ الأَقْرَبُ» . [فتح: 11/ 236].
ثم ساق حديث عَبْدِ اللهِ -وهو ابن مسعود- رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطُطًا صِغَارًا إِلَى هذا الذِي فِي الوَسَطِ، مِنْ جَانِبِهِ الذِي فِي الوَسَطِ وَقَالَ: "هذا الإِنْسَانُ، وهذا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ -أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ- وهذا الذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وهذِه
الخُطُطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هذا نَهَشَهُ هذا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هذا نَهَشَهُ هذا".
ثم ساق حديث أَنَس بن مالك أيضًا قَالَ: خَطَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطُوطًا فَقَالَ: "هذا الأَمَلُ وهذا أَجَلُهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ الخَطُّ الأَقْرَبُ".
الشرح:
حديث أنس أخرجه النسائي
(1)
، وليس في السماع، ولم يذكره ابن عساكر
(2)
، (وأخرجه الترمذي من حديث حماد بن سلمة، عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس، عن أنس بلفظ "هذا ابن آدم وهذا أجله" ووضع يده عند قفاه، ثم بسطه، فقال: وثم أمله؟)
(3)
.
ومعنى {زُحْزِحَ} بُوعِدَ ونُحِّيَ.
وقوله {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} [الحجر: 3] يعني: عن عمل الآخرة، وأثر علي أخرجه ابن المبارك في "رقائقه"
(4)
، ورواه نعيم بن حماد، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، مطرف بن عبد الله، عنه؛ وأخرجه ابن الجوزي في كتابه من حديث خلاد، حدثنا سفيان، عن زبيد اليامي، عن مهاجر العامري عنه.
فصل:
الأمل مذموم لجميع الناس إلا العلماء. فلولا أملهم وطوله لما صنفوا، ولما ألفوا، وقد نبه عليه ابن الجوزي.
(1)
رواه النسائي كما في "تحفة الأشراف" 1/ 91 (214).
(2)
المصدر السابق.
(3)
من (ص 2) وانظر: "سنن الترمذي"(2334).
(4)
"الزهد والرقائق"(252).
وآمال الرجال لهم وضوح
…
سوى أمل المصنف ذي العلوم
والفرق بينه وبين الأماني: أن الأمل: ما أملته عن سبب، والتمني: ما تمنيته من غير سبب. قيل لعبد الرحمن بن أبي بكر: أي شيء أطول إمتاعًا؟ قال: المنى
(1)
، ذكره الجاحظ في "كتاب النساء". وقيل: لرقبة بن مصقلة: أنت بعيد الدار من المسجد، وتنصرف بلا مؤنس، قال: إني حين أخرج من المسجد أؤمل تأميلًا فلا أملي ينقضي حتى أبلغ المسجد، وقال بعض الحكماء: الإنسان لا ينفك من أمل، فإن فاته الأمل عول على المنى. وقال يزيد بن معاوية: كثرة المنى تحلق العقل، وتفسد الدين، وتطرد القناعة.
وقال الشاعر:
الله أصدق والآمال كاذبة
…
وجل هذي المنى في الصدر وسواس
فصل:
وهذا صفة ما في الحديث
(2)
................
(1)
في هامش الأصل: لعله: أملي.
(2)
في هامش الأصل: هذا الذي أعرفه، كذا صفته.
وكأنه فهم أن الأغراض جمع غرض بالغين والضاد المعجمتين، حتى فعل ما فعله في الأصل، وإنما هي الأعراض بالعين المهملة، والضاد المعجمة في آخره، جمع عرض، وهو المرض، والله أعلم.
وقوله: (خط خططًا صغارًا)
(1)
، قال ابن التين: رويناه بضم الحاء وكسرها. قال الجوهري: الخط: واحد الخطوط، والخطة: أيضًا من الخطط، كالنقطة من النقط
(2)
.
وقوله: "نهشه" هو بالمعجمة، والمهملة، (قال ابن التين: رويناه بهما)
(3)
، ومعناه: أخذ الشيء بمقدم الأسنان، وسبقه إليه ابن بطال قال: والنهش: تناول بالفم كالنهس، والحية تنهش إذا عضت، والنهس أيضًا: نثر
(4)
اللحم، ونهش ينهش من كتاب "العين"
(5)
، قال: ومثل الشارع أمل ابن آدم وأجله، وأعراض الدنيا التي لا تفارقه بالخطوط، فجعل أجله الخط المحيط، وجعل أمله وأعراضه خارجًا من ذلك الخط، ومعلوم في العقول أن ذلك الخط المحيط به الذي هو أجله، أقرب إليه من الخطوط الخارجة منه.
ألا ترى قوله في حديث أنس: "فبينا هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب"؟ يريد: أجله، وفي هذا تنبيه منه لأمته على تقصير الأمل، واستشعار الأجل خوف تغيبه
(6)
، ومن غيب عنه أجله فهو حري بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه في حال غرة وغفلة -ونعوذ بالله من ذلك-، فليرض المؤمن نفسه على استعمال ما نبه عليه، ويجاهد أمله وهواه، كما قال عليه السلام -في الباب بعد هذا-:"لا يزال قلب الكبير شابًا في حب الدنيا وطول الأمل"
(7)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
"الصحاح"، 3/ 1124، مادة:(خطط).
(3)
من (ص 2).
(4)
في الأصل: من، والمثبت من (ص 2).
(5)
"شرح ابن بطال" 10/ 151، وانظر:"العين" 3/ 402.
(6)
كذا في الأصل، وفي "شرح ابن بطال" 10/ 151: بفتته.
(7)
سيأتي برقم (6420).
وقال الطبري: في قوله {ذَرْهُمْ} [الحجر: 3] الآية يعني: ذر المشركين يا محمد يأكلوا في هذِه الدنيا، ويتمتعوا من لذاتها وشهواتها إلى أجلهم الذي أجلت لهم، ويلههم الأمل عن الأخذ بحظهم من الطاعة فيها، وتزودهم لمعادهم منها بما يقربهم من ربهم، فسوف يعلمون غدًا إذا وردوا عليه وقد هلكوا بكفرهم بالله حين يعاينون عذابه؛ أنهم كانوا في تمتعهم بلذات الدنيا في خراب وتباب
(1)
.
فصل:
روينا له مثالًا آخر من طريق أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ إلى أبي هريرة الصيرفي، حدثنا حرمي، عن عمارة، عن علي بن أبي علي الرفاعي، ثنا أبو المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أعوادًا فغرز عودًا بين يديه، وآخر إلى جنبه، وأما الثالث فأبعده، فقال:"هل تدرون ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال:"هذا الإنسان، وهذا الأجل، وهذا الأمل يتعاطاه ابن آدم يختلجه الأجل دون الأمل"
(2)
.
فصل:
روينا في كتاب أبي الليث السمرقندي، قال عليه السلام:"صلاح أول هذِه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك أخرها بالبخل والأمل"
(3)
، ثم قال: من قصر أمله أكرمه الله بأربع كرامات:
(1)
"تفسير الطبري" 7/ 492.
(2)
رواه أحمد 3/ 17، وابن المبارك في "الزهد والرقائق"(254).
(3)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 345، 427، 428، بلفظ:"صلح أمر هذِه الأمة .. "، وبلفظ:"صلاح .. ".
أحدها: أنه يقويه على طاعته؛ لأنه إذا علم أنه يموت عن قريب، لا يهتم لما يستقبله من المكروه، ويجتهد في الطاعة؛ فكثر علمه.
ثانيها: تقل همومه؛ لأنه إذا علم أنه يموت عن قريب، فإنه لا يهتم بما يستقبله.
ثالثها: يجعله راضيًا بالقليل.
رابعها: ينور قلبه، فينبغي للمسلم أن يقصر أمله، فإنه لا يدري في أي نفس، أو في أي قدم يموت، وينبغي للمسلم أن يكثر ذكر الموت، فإنه لا غنى به عن ست خصال:
علم يدله على الآخرة، ورفيق يعينه على الطاعة، والحذر من عدوه، وعبرة يعتبر بها من آيات الله في اختلاف الليل والنهار، وإنصاف (الحق)
(1)
من نفسه، والاستعداد للموت قبل نزوله.
(1)
في (ص 2): (الخلق).
5 - باب مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ
لِقَوْلِهِ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] يعني: الشيب.
6419 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَعْذَرَ اللهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً» . تَابَعَهُ أَبُو حَازِمٍ وَابْنُ عَجْلَانَ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ. [فتح: 11/ 238].
6420 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الأَمَلِ» . قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ وَابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ. [مسلم: 1046 - فتح: 11/ 239].
6421 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَكْبَرُ ابْنُ آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ الْمَالِ، وَطُولُ الْعُمُرِ» . رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ. [مسلم: 1047 - فتح: 11/ 239].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الغِفَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"أَعْذَرَ اللهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً". تَابَعَهُ أَبُو حَازِمٍ وَابْنُ عَجْلَانَ، عَنِ المَقْبُرِيِّ.
حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، ثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَزَالُ قَلْبُ الكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الأَمَلِ". قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ وَابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابن شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ.
ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا هِشَامٌ، ثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَكْبَرُ ابن آدَمَ وَيَكْبَرُ مَعَهُ اثْنَانِ: حُبُّ المَالِ، وَطُولُ العُمُرِ". رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ.
الشرح:
معنى الآية: أولم نعمركم حتى شبتم، وهذا قول ابن عباس، والأكثر أن {النَّذِيرُ}: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول علي وابن زيد، وجماعة، وفيه قول ثالث: أنه الموت إذا رآه ينزل بغيره، وحجة الثاني: أن الله تعالى بعث الرسل مبشرين ومنذرين إلى عباده قطعًا لحجتهم {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
ومتابعة أبي حازم أخرجها الإسماعيلي من حديث ولده عبد العزيز بن أبي حازم، حدثني أبي، عن سعيد، به. قال: ورواه هارون بن معروف، فقال عن أبيه قال: أنا به أبو يعلى عنه قال: ثنا ابن أبي حازم، عن أبيه، عن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه به؛ ورواه النسائي، عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم سلمة بن دينار، عن سعيد، عن أبي هريرة.
ومتابعة ابن عجلان أخرجها الطبراني في "الأوسط"
(1)
عن عبد الرزاق، عن معمر، عن منصور بن المعتمر عنه.
(1)
ورد في هامش الأصل: سقط واحد، ولعله إسحاق بن إبراهيم الدبري، أو يكون معناه بسنده في عبد الرزاق.
وقوله: (وقال الليث .. ) إلى آخره، كذا في الأصول، وقد وصله الإسماعيلي، فقال: حدثنا الحسن، ثنا حميد بن زنجويه، وحدثنا القاسم، ثنا الرمادي جميعًا عن أبي صالح، عن الليث به.
والتعليق عن شعبة في حديث أنس أخرجه النسائي من حديث ابن المبارك عنه عن قتادة بلفظ: "يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنتان"
(1)
.
فصل:
إذا تقرر ذلك، فلما كان أحب الأشياء إلى ابن آدم نفسه، أحب بقاءها فأحب العمر، وأحب سبب بقائها وهو المال، والهرم إنما يعمل في بدنه لا غير، وإذا أحس بقرب التلف عند الهرم قوى حبه للبقاء لعلمه بقرب الرحيل، وكراهته له، نبه عليه ابن الجوزي.
فصل:
معنى "أعذر .. أخر أجله حتى بلغ ستين" أي: أعذر الله إليه غاية الإعذار الذي لا إعذار بعده، أي: أقام العذر في تطويل العمر، وأبانه له، فلم يبق له عذر، ولا حجة، إذ الستين قريب من معترك المنايا، وهو (سن)
(2)
الإنابة والخشوع، والاستسلام لله تعالى، وترقب المنية، ولقاء الله تعالى، فهذا إعذار بعد إعذار في عمر ابن آدم لطفًا من الله لعباده حين نقلهم من حالة الجهل إلى حالة العلم، وأعذر إليهم مرة بعد أخرى، ولم يعاقبهم إلا بعد الحجج اللائحة المنكية لهم، وإن كانوا قد فطرهم الله على حب الدنيا، وطول الأمل، فلم يتركهم مهملين، دون إعذار إليهم، وأكبر الإعذار إلى بني آدم بعثه
(1)
"الزهد والرقائق"(256).
(2)
في الأصل: (سر). والمثبت من "شرح ابن بطال" 10/ 152.
الرسل إليهم، والأسنان أربعة: سن الصبا: وهو الذي يكون فيه دائم النمو، وهو إلى خمس عشرة سنة، وسن الشباب: وهو الذي يتكامل فيه النمو ومبتدأ الوقوف، كأن القوة وقفت فيه، ومنتهاه في غالب الأحوال خمس وثلاثون سنة، وقد بلغ أربعين ثم منها يأخذ في النقص، قال الشاعر:
كأن الفتى يرقى من العمر سلما
…
إلى أن يجوز الأربعين وينحط
وسن الكهولة وهو الذي قد يبين فيه الانحطاط والنقصان مع بقاء من القوة، ومنتهاه في أكثر الأحوال ستون سنة، فمن بلغ الستين انتهى، وأثر فيه ضعف القوة، وجاءته نذر الموت، ودخل في سن المشايخ، ومن ذلك الزمان يزيد انحطاطه، ويقوى ظهور الضعف إلى آخر العمر، وقد قال يحيى بن يمان: سمعت سفيان بن سعيد يقول: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرتد لنفسه كفنًا.
وروي عن علي وابن عباس وأبي هريرة في الآية السالفة {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] قال: يعني ستين سنة، وعن ابن عباس أيضًا: أربعون، وعن الحسن البصري ومسروق مثله، وحديث أبي هريرة في الباب حجة لقول علي ومن وافقه في تأويل الآية، وقول من قال: أربعون سنة له وجه صحيح أيضًا، والحجة له قوله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] فذكر الله تعالى: أن من بلغ الأربعين فقد آن له أن يعلم مقدار نعم الله عليه، وعلى والديه، ويشكرها.
قال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم، ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس، واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم. فبلوغ الأربعين نَقْلُ
لابن آدمَ من حالة إلى حالة أرفع فيها في الاستعبار، والإعذار إليه، وقد أسلفنا قولاً: أن النذير: الشيب
(1)
، وله وجه، وذلك أنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصِّبا الذي هو سن اللهو واللعب، وهو نذير أيضًا، ألا ترى قول إبراهيم عليه السلام حين رأى الشيب: يا رب ما هذا، فقال له: وقار، قال: رب زدني وقارًا؟ فبان رفق الله تعالى بعباده المؤمنين، وعظيم لطفه بهم، حتى أعذر عليهم ثلاث مرات، الأولى بنبيه، ثم بالأربعين، ثم بالستين لتتم حجته عليهم، وهذا أجل لإعذار الحكام إلى المحكوم عليهم مرة بعد أخرى.
فصل:
ذكر ابن بطال حديث عتبان الآتي في الباب بعده في هذا الباب، وحديث أبي هريرة الآتي فيه، ثم قال: فإن قيل: ما وجه حديث عتبان في هذا الباب؟ قيل: له وجه صحيح المعنى، وذلك أنه لما كان بلوغ الستين غاية الإعذار إلى ابن آدم، خشي البخاري أن يظن من لا يتسع فهمه أن من بلغ الستين وهو غير تائب أن ينفذ عليه الوعيد، فذكر قوله عليه السلام:"لن يوافي عبد يوم القيامة يقول: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله إلا حرم الله عليه النار"
(2)
. وسواء أتى بها بعد الستين، أو بعد المائة لو عمرها.
وقد ثبت بالكتاب والسنة: أن التوبة مقبولة مالم يغرغر ابن آدم
(3)
، ويعاين قبض روحه، وكذلك قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: "ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه
(1)
"تفسير الطبري" 10/ 419.
(2)
سيأتي برقم (6423).
(3)
رواه الترمذي (3537)، وابن ماجه (4253).
إلا الجنة"
(1)
، وهذا عام المعنى في كل عمر ابن آدم بلغ الستين أو زاد عليها، فهو ينظر إلى معنى حديث عتبان في قوله:"ما لعبدي .. " إلى آخره، دليل أن من مات له ولد واحد فاحتسبه أن له الجنة، وهو تفسير قول المحدث: ولم نسأله عن الواحد، حين قال عليه السلام:"من مات له ثلاثة من الولد أدخله الله الجنة". قيل: واثنان يا رسول الله؟ قال: "واثنان"، ولم نسأله عن الواحد. إذ لا صفي أقرب إلى النفوس من الولد، وقد سلف في الجنائز
(2)
.
(1)
سيأتي برقم (6424).
(2)
سلف برقم (1249) باب فضل من مات له ولد فاحتسب. وانظر "شرح ابن بطال" 10/ 153 - 154.
6 - باب العَمَلِ الَّذِي يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ
فِيهِ سَعْدٌ رضي الله عنه.
6422 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ -وَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ. [انظر: 77 - فتح: 11/ 241].
6423 -
قَالَ: سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ قَالَ: غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَبْتَغِى بِهِ وَجْهَ اللهِ، إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ» . [انظر: 424 - مسلم: 33 - فتح: 11/ 241].
6424 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلاَّ الْجَنَّةُ» . [فتح: 11/ 241]. (يريد حديث)
(1)
سعد بن أبي وقاص السالف: "إنك لن تخلف فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله"
(2)
.
ثم ذكر حديث عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وأبي هريرة السالفين في الباب قبله، وسلف الأول في الصلاة
(3)
، والثاني في الجنائز
(4)
.
قال ابن التين: استدل بعضهم بحديث أبي هريرة: على أن من مات له ولد واحد فاحتسبه يدخل به الجنة، ومنصوص الحديث: ثلاثة واثنان، وكأنه يشير بذلك إلى كلام ابن بطال السالف، قال ابن فارس
(1)
في الأصل: هو. والمثبت من (ص 2).
(2)
سلف برقم (56) كتاب الإيمان، باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسنة ولكل امرئ ما نوى.
(3)
سلف برقم (424) باب إذا دخل بيتا يصلي حيث شاء أو حيث أمر ولا يتجسس.
(4)
سلف برقم (1521) باب: فضل من مات له ولد فاحتسب ورواه مسلم (2632).
والجوهري: احتسب فلان ابنه إذا مات كبيرًا، وإن مات صغيرًا قيل: افترطه
(1)
.
(1)
"الصحاح" 1/ 110، مادة: حسب، "مجمل اللغة" 1/ 234، مادة: حسب.
7 - باب مَا يُحْذَرُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا [وَالتَّنَافُسِ فِيهَا]
(1)
6425 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ -وَهْوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، كَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -هُوَ صَالَحَ أَهْلَ البَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِهِ فَوَافَتْهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآهُمْ وَقَالَ:«أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِشَيْءٍ؟» . قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، كَمَا بُسِطَتْ على مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ» . [انظر: 3158 - مسلم: 2961 - فتح: 11/ 243].
6426 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ على المَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى المِنْبَرِ فَقَالَ:«إِنِّي فَرَطُكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ، وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ -أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ- وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا» . [انظر: 1344 - مسلم: 2296 - فتح: 11/ 243].
6427 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ
(1)
من "اليونينية".
اللهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ». قِيلَ: وَمَا بَرَكَاتُ الأَرْضِ؟ قَالَ: «زَهْرَةُ الدُّنْيَا» . فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَلْ يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ جَبِينِهِ فَقَالَ:«أَيْنَ السَّائِلُ؟» . قَالَ: أَنَا. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَقَدْ حَمِدْنَاهُ حِينَ طَلَعَ ذَلِكَ. قَالَ: «لَا يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاَّ بِالْخَيْرِ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ، إِلاَّ آكِلَةَ الخَضِرَةِ، أَكَلَتْ حَتَّى إِذَا امْتَدَّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشَّمْسَ فَاجْتَرَّتْ وَثَلَطَتْ وَبَالَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ. وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ، مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» . [انظر: 921 - مسلم: 1052 - فتح: 11/ 244].
6428 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَمْرَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ: فَمَا أَدْرِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَوْلِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» . [انظر: 2651 - مسلم: 2535 - فتح: 11/ 244].
6429 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَتُهُمْ أَيْمَانَهُمْ وَأَيْمَانُهُمْ شَهَادَتَهُمْ» . [انظر: 2652 - مسلم: 2533 - فتح: 11/ 244].
6430 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ خَبَّابًا وَقَدِ اكْتَوَى يَوْمَئِذٍ سَبْعًا فِي بَطْنِهِ وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِالمَوْتِ، إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَضَوْا وَلَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا بِشَيْءٍ، وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلاَّ التُّرَابَ. [انظر: 5672 - مسلم:
2681 -
فتح: 11/ 244].
6431 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسٌ قَالَ: أَتَيْتُ خَبَّابًا وَهْوَ يَبْنِى حَائِطًا لَهُ فَقَالَ: إِنَّ أَصْحَابَنَا الَّذِينَ مَضَوْا لَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا شَيْئًا وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ شَيْئًا لَا نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلاَّ التُّرَابَ. [انظر: 5672 - مسلم: 2681 - فتح 11/ 244].
6432 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ خَبَّابٍ رضي الله عنه قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 1276 - مسلم: 940 - فتح: 11/ 245].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أنه عليه السلام بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا .. الحديث سلف في الجزية
(1)
.
وحديث عُقْبَةَ بْن عَامِرٍ: "ولكن أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا". وسلف في الجنائز
(2)
.
وحديث أَبِي سَعِيدٍ: "إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكمْ مَا يُخرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ". وسلف في الزكاة، في باب: الصدقة على اليتامى
(3)
.
وحديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: "خَيْرُ القُرُون قَرْنِي" سلف في الفضائل
(4)
.
وكذا حديث ابن مسعود
(5)
.
وحديث خَبَّابٍ، وقد سلف قريبًا
(6)
.
(1)
سلف برقم (3158) كتاب: الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب.
(2)
سلف برقم (1344) باب الصلاة على الشهيد.
(3)
سلف برقم (1465).
(4)
سلف برقم (3650).
(5)
سلف برقم (3651).
(6)
برقم (4082).
وفي هذِه الأحاديث: التنبيه على أن زهرة الدنيا ينبغي أن يخشى سوء عاقبتها، وشر فتنتها من فتح الله عليه الدنيا، ويحذر التنافس فيها، والطمأنينة إلى زخرفها الفاني؛ لأنه عليه السلام خشي ذلك على أمته، وحذرهم منه لعلمه أن الفتنة مقرونة بالغنى.
ودل حديث عمران وعبد الله أن فتنة الدنيا لمن يأتي بعد القرن الثالث أشد، حيث قال في سبق الشهادة وظهور السمن، فجعل ظهور السمن فيهم وشهادتهم بالباطل، وخيانتهم الأمانة، ومنافستهم في الدنيا، وأخذهم لها من غير وجهها، كما قال عليه السلام في حديث أبي سعيد:"ومن أخذه بغير حقه فهو كالذي يأكل ولا يشبع"، وكذلك خشي عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتنة المال، فروي عنه: أنه لما أتي بأموال كسرى بات هو وأكابر الصحابة عليه في المسجد، فلما أصبح وأصابته الشمس (ابتلقت)
(1)
تلك التيجان فبكى، فقال له عبد الرحمن بن عوف: ليس هذا حين بكاء، إنما هو حين شكر، فقال عمر رضي الله عنه: إني أقول: ما فتح الله هذا على قوم قط إلا سفكوا دماءهم، وقطعوا أرحامهم، وقال: اللهم منعت هذا رسولك؛ إكرامًا منك له، وفتحته عليَّ لتبتليني به، اللهم اعصمني من فتنته.
فهذا كله يدل أن الغنى بلية وفتنة، ولذلك استعاذ عليه السلام من شر فتنته، وقد أخبر الله تعالى بهذا المعنى، فقال لرسوله:{لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] وقرن الفتنة به، وقال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الانفال: 28] ولهذا آثر أكثر سلف الأمة التقلل من الدنيا، وأخذ البلغة، إذ التعرض للفتن غرر.
(1)
في (ص 2): أشرقت.
فصل:
قوله في حديث أبي سعيد: "وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطًا أو يلم": هو من أبلغ الكلام في تحذير الدنيا والركون إلى غضارتها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع، فتكثر أكله، فربما تفتقت سمنًا، فهلكت، فضرب عليه السلام هذا المثل للمؤمن أن لا يأخذ من الدنيا إلا قدر حاجته، ولا يروقه زهرتها فتهلكه.
قال الأصمعي: والحبط: هو أن تأكل الدابة فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطنها، وتمرض عنه.
وقوله: ("أو يلم") يعني: يدني من الموت، وحبط بالحاء المهملة. قال الشيخ أبو الحسن: وهو الذي أعرف، ووقع في كتابي بالخاء المعجمة، و "ثلطت": بفتح اللام، ورويناه بكسرها.
وقوله: "إن كل ما أنبت الربيع" قال الداودي: إن كان اللفظ الكل فقد يأتي بمعنى البعض، قال: وهي لغة سائرة، وقد سلف أيضًا في باب: الصدقة على اليتامى من كتاب الزكاة
(1)
.
فصل:
قول خباب رضي الله عنه: (إن أصحاب محمد مضوا ولم تنقصهم الدنيا شيئًا) سببه: إنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتوحات والأموال ما كان بعده، وكان أكثر الصحابة ليس لهم إلا القوت، ولم ينالوا من طيبات العيش ما يخافون أن ينقصهم ذلك من طيبات الآخرة، ألا ترى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين اشترى لحمًا بدرهم: أين تذهب (من)
(2)
(1)
سلف برقم (1465).
(2)
ليست في الأصل، ويقتضيها السياق.
هذِه الآية {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} ؟ [الأحقاف: 20]. فدل أن التنعم في الدنيا، والاستمتاع بطيباتها تنقص كثيرًا من طيبات الآخرة.
وقوله: (وإنا أصبنا من بعدهم شيئًا لا نجد له موضعًا إلا التراب) قال أبو ذر: يعني البنيان، ويدل على صحة هذا التأويل: أن خبابًا قال هذا القول وهو يبني حائطًا له. وقال غيره: أراد كثرة الأموال. وقال الداودي: يعني لا يكاد ينجو من فتنة، إلا من مات وصار إلى التراب. وقد سلف ذلك واضحًا في باب: تمني المريض الموت، من كتاب المرضى
(1)
.
فصل:
قوله في حديث أبي عبيدة: (أجل)، أي: نعم. قال الأخفش: إلا أنه أحسن من نعم في التصديق، ونعم أحسن منه في الاستفهام، فإذا قلت: أنت سوف تذهب؟ قلت: أجل. وكان أحسن من نعم، وإذا قلت: تذهب؟ قلت: نعم، وكان أحسن من أجل.
فصل:
كان قدوم أبي عبيدة سنة عشر، قدم بمائة ألف
(2)
وثمانين ألف ألف درهم، كذا في "جامع المختصر"، وفي غيره: أنهم كانوا مجوسًا. وقال قتادة: كان المال ثمانين ألفًا. قال ابن حبيب: وهو أكثر مال قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الزهري: قدم به ليلاً. قال قتادة: وصبَّ على حصير وفرقه، وما حرم منه سائلاً، وجاء العباس فجعل يحثي في حجره حتى عجز عن حمله، وكان الجمل إذا برك حمله بيديه، وكان استعان في حمله
(1)
سلف برقم (5672).
(2)
ورد في هامش الأصل: لعله سقط من الجملة ألف لقوله وثمانين ألف ألف.
فنهاهم عليه السلام عن ذلك، حتى نقص منه، وقوي على النهوض به.
وفيه من الفوائد:
أخذ الجزية من المجوس، وهو مذهبنا ومذهب مالك
(1)
، خلافًا لعبد الملك.
فصل:
وقوله: (صلى على أهل أُحدٍ صلاته على الميت) ظاهره أنها حقيقة، وبه قال بعضهم، وخولف، وإنما دعا، وهو قول المالكية بناء على أن القبر لا يصلي عليه
(2)
، لكنهم شهداء.
فصل:
قوله: (والفرط) المتقدم وهو فرط بالفتح بمعنى: فارط، يقال: رجل فرط، وقوم فرط، ومنه: اجعله فرطًا لأبويه، أي: أجرًا متقدمًا حتى يرد عليه.
فصل:
قوله: ("خضرة حلوة") يريد أن صورة الدنيا، ومتاعها حسنة مزلقة، والعرب تسمي الشيء المشرق الناضر خضرًا تشبيها له بالنبات الأخضر، ومنه سمي الخضر لحسنه، وخضراء الدمن، فكأنه أراد ظاهرها حسن، وباطنها رديء، وقال الهروي: يعني غضة ناعمة طرية
(3)
.
(1)
انظر: "الأم" 4/ 96، "الذخيرة" 3/ 451.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 219 وفيه قال مالك: وكان الصحابة يصلون فيها. قال غيره: وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبر السوداء، وفي هذا دليل.
(3)
"النهاية في غريب الحديث" 2/ 41.
وقوله: ("لا يأتي الخير إلا بالخير") تقول: ما كان من ذلك خيرًا أخذ بحقه، ووضع في حقه، وأريد به وجه الله، لم يأت إلا بخير.
وقوله: ("هذا المال خضرة حلوة") مثله بالفواكه أول ما تكون طريًّا لم يغيرها ظرف ولا مكيال ولا يد، فلا يكاد من رآها إلا اشتهاها.
فصل:
قوله: ("خيركم قرني") أي: أصحابي. "ثم الذين يلونهم" يعني: التابعين لهم بإحسان، واشتقاقه من الاقتران، وقيل: القرن ثمانون سنة، أو مائة أو أربعون، وقال ابن الأعرابي: القرن: الوقت من الزمان.
فصل:
قوله: ("يشهدون ولا يستشهدون") أي: يبادر بها، وهذا في حق الآدمي لا في حق الله، وقيل: يشهد بما لا يسمع.
وقوله: ("ويخونون ولا يؤتمنون") أي: يخونون فيما لم يؤتمنوا عليه، فكيف لو ائتمنوا؟ كانوا أشد خيانة.
وقوله: ("وينذرون ولا يوفون") هو بفتح الياء، من: ينذرون، ثلاثي من نذر ينذر بالكسر والضم.
وقوله: ("ويظهر فيهم السمن") هو نحو قوله: "ألا أخبركم بأهل النار؟ كل جعظري جواظ"
(1)
، أي: كثير اللحم، وهو قبيح في حق الرجال.
(1)
سلف برقم (6071)، ورواه مسلم (2853).
8 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ} إلى قوله {أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5 - 6]
جَمْعُهُ: سُعُرٌ، قَالَ مُجَاهِدٌ:{الْغَرُورُ} [فاطر: 5] الشَّيْطَانُ.
6433 -
حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُعَاذُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ ابْنَ أَبَانَ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بِطَهُورٍ وَهْوَ جَالِسٌ عَلَى الْمَقَاعِدِ، فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَهْوَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ:«مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هَذَا الْوُضُوءِ، ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَغْتَرُّوا» . [انظر: 159 - مسلم: 226، 232 - فتح: 11/ 250].
ثم ساق حديث مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ ابن أَبَانَ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ رضي الله عنه بِطَهُورٍ وَهْوَ جَالِسٌ عَلَى المَقَاعِدِ، فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ وَهْوَ فِي هذا المَجْلِسِ يتوضأ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأَ مِثْلَ هذا الوُضُوءِ، ثُمَّ أَتَى المَسْجِدَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَغْتَرُّوا".
كذا هو في الأصول:
أن ابن أبان، وكذا عزي إلى رواية أبي زيد.
وفي نسخة أبي محمد، عن أبي أحمد: أن أبان أخبره. بسقوط أبي، والصواب الأول.
وفي رواية ابن السكن: أن حمران بن أبان أخبره قال: أتيت عثمان.
قال أبو علي: والحديث محفوظ لحمران بن أبان، عن عثمان من طرق كثيرة لا لأبان
(1)
.
إذا تقرر ذلك؛ فقد نهى الله عباده عن الاغترار بالحياة الدنيا وزخرفها الفاني، وعن الاغترار بالشيطان، وبين لنا عداوته؛ لئلا نلتفت إلى تسويله وتزيينه لنا الشهوات المردية، وحذرنا تعالى طاعته، وأخبر أن أتباعه وحزبه من أصحاب السعير، أي: النار، فحق على المؤمن العاقل أن يحذر ما حذره منه ربه تعالى ونبيه، وأن يكون مشفقًا خائفًا وجلاً، إن واقع ذنبًا أسرع الندم عليه، والتوبة منه، وعزم أن لا يعود لمثله، وإذا أتى حسنة استقلها، واستصغر عمله، ولم يدل بها.
ألا ترى قول عثمان رضي الله عنه: "ثم أتى المسجد." إلى آخره؟ وهذا لا يكون (إلا)
(2)
من قوله عليه السلام، ثم أتبع ذلك بقوله:"لا تغتروا"، وأفهمهم عثمان من ذلك: أن المؤمن ينبغي له أن لا يتكل على عمله، ويستشعر الحذر، والإشفاق، ويتجنب الاغترار، وقد قال غير مجاهد في تفسير {الْغَرُورُ}: هو أن يغتر بالله، فيعمل المعصية، ويتمنى المغفرة
(3)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: حاشية: قال ابن قرقول: (أن أبان أخبره) كذا للجرجاني، وهو وهم، والصواب لأبي زيد المروزي وأبي ذر والنسفي:(أن أبان .. ) إلى آخر كلامه. [قلت: انظر: "تقييد المهمل" 2/ 741].
(2)
ليست في الأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال" 10/ 158.
(3)
انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 10/ 3171.
9 - باب ذَهَابِ الصَّالِحِينَ
6434 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ مِرْدَاسٍ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ لَا يُبَالِيهِمُ اللهُ بَالَةً» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: يُقَالُ: حُفَالَةٌ وَحُثَالَةٌ. [انظر: 4156 - فتح: 11/ 251].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث مِرْدَاسٍ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوِ التَّمْرِ لَا يُبَالِيهِمُ اللهُ بَالَةً". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: يُقَالُ: حُفَالَةٌ وَحُثَالَةٌ.
الشرح:
سلف في المغازي
(1)
.
ومرداس هذا هو ابن مالك، عداده في الكوفيين، شهد الحديبية، وفي الصحابة مرداس (سبعة)
(2)
سواه.
والحفالة، والحثالة: الرذالة من كل شيء، وهي سفلة الناس، وقيل: هي آخر ما يبقى من الشعير، أو التمر وأردؤه، وأصلها في اللغة: ما تساقط من قشور التمر والشعير، (والحشافة)
(3)
، مثل ذلك، والفاء والثاء يتعاقبان مثل فوم وثوم، وحرث وحرف.
وقال الداودي: هو ما يسقط من الشعير عند الغربلة، وما يبقى من التمر عندما يؤكل، وإنما شك المحدث: أيُّ الكلمتين قال؟
(1)
سلف برقم (4156). وورد بهامش الأصل ما نصه: حاشية: هو في الحديبية.
(2)
في (ص 2): تسعة.
(3)
في الأصل: والحشارة، والمثبت من (ص 2).
وقوله: "لا يباليهم الله بالة" قال الخطابي: أي لا يرفع لهم قدرًا، يقال: باليت بالشيء مبالاة، بالية وبالة
(1)
.
وقال ابن بطال: هو مصدر باليت، محذوف منه الياء التي هي لام الفعل، وكان أصله بالية، فكرهوا (ما)
(2)
قبلها كسرة لكثرة استعمال هذِه اللفظة في نفي كل ما لا يحفل به، وتقول العرب أيضًا في مصدر باليت: مبالاة، كما تقول: بالة
(3)
.
وقال الشيخ أبو الحسن: سمعته بالة في الوقف، ولا أدري كيف هو في الإدراج، قال: وهو بالية بالاة، فلعله عنده لما وقف عليه اجتمع ساكنان، فحذف أحدهما، وهذا غير بين؛ لأنك تقول: معافاة، ومراماة، ولو وقفت عليه كما الجمع بين الساكنين في الوقف جائز، والصحيح ما ذكره الخطابي.
قال ابن التين: ولو علم الشيخ أبو الحسن أن مصدره وقع فيه: بالة ما افتقر إلى اعتذار، ولا إلى غيره.
فصل:
وذهاب الصالحين من أشراط الساعة، إلا أنه إذا بقي في الناس حفالة كحفالة الشعير أو التمر، فذلك إنذار بقيام الساعة وفناء الدنيا.
وهذا الحديث معناه: الترغيب في الاقتداء بالصالحين، والتحذير من مخالفة طريقهم؛ خشية أن يكون من خالفهم ممن لا يباله الله ولا يعبأ به
(4)
.
(1)
"أعلام الحديث" 3/ 2244.
(2)
في "شرح ابن بطال": ياء.
(3)
"شرح ابن بطال" 10/ 158.
(4)
"شرح ابن بطال" 10/ 158.
قال الداودي: وهذا على التكثير، ولا تخلو الأرض من قائم لله بالحجة، فمنهم الراسخون في العلم، قال: والذي جاء في حديث آخر: "يكون في آخر الزمان قوم، المتمسك منهم بدينه كالقابض على الجمر، للعامل منهم أجر خمسين منكم"، قيل: بل منهم يا رسول الله؟ كالمستفهمين، قال:"بل منكم"
(1)
، معناه: إن صح في العمل فللصحابة فضل الصحبة، وفوق ذلك كله؛ لقوله عليه السلام:"لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"
(2)
.
(1)
رواه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، وابن ماجه (4014)، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(869).
(2)
سلف برقم (3673) من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه مسلم (2540) من حديث أبي هريرة، ورواه مسلم (2541).
10 - باب مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ المَالِ
وَقَوْلِ اللهِ عز وجل: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]
6435 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ» . [انظر: 2886 - فتح: 11/ 253].
6436 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . [انظر: 6437 - مسلم: 1049 - فتح: 11/ 253].
6437 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا مَخْلَدٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالاً لأَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ، وَلَا يَمْلأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَا أَدْرِي مِنَ الْقُرْآنِ هُوَ أَمْ لَا. قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى المِنْبَرِ. [انظر: 6436 - مسلم: 1049 - فتح: 11/ 253].
6438 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْغَسِيلِ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَكَّةَ فِي خُطْبَتِهِ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:«لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا مَلأً مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا، أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا، وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . [فتح 11/ 253].
6439 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ
عَلَى مَنْ تَابَ». [مسلم: 1048 - فتح: 11/ 253].
6440 -
وَقَالَ لَنَا أَبُو الْوَلِيدِ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُبَيٍّ قَالَ: كُنَّا نَرَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)} . [التكاثر: 1][فتح: 11/ 253].
ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
حديث أبي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ
…
" الحديث وسلف في الجهاد في باب: الحراسة في الغزو في سبيل الله
(1)
.
و (أبو بكر) هذا هو: ابن عياش بن سالم الأسدي (الحنَّاط)
(2)
. أحد الأعلام، مولى واصل بن حيان، الأحدب الأسدي الكوفي، انفرد به البخاري، روى له الأربعة، مات سنة ثلاث (وتسعين)
(3)
ومائة، ومات عن ست وتسعين. قال أحمد: ربما غلط. وقال أبو حاتم: هو وشريك في الحفظ سواء
(4)
.
ثانيها:
حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا، وَلَا يَمْلأُ جَوْفَ ابن آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ".
وفي رواية: "لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ مِثْلُ وَادٍ مَالًا لأَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ .. ".
(1)
سلف برقم (2886).
(2)
في الأصل: الحافظ. والمثبت من (ص 2).
(3)
في الأصل: وسبعين. والمثبت من (ص 2).
(4)
"الجرح والتعديل" 9/ 351 وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 33/ 132.
قَالَ ابن عَبَّاسٍ: مَا أَدْرِي مِنَ القُرْآنِ هُوَ أَمْ لَا؟ وَسَمِعْتُ ابن الزُّبَيْرِ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى المِنْبَرِ.
ثم ساقه إلى عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابن الزُّبَيْرِ عَلَى مِنْبَرٍ بمَكَّةَ فِي خُطْبَتِهِ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:"لَوْ أَنًّ ابن آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا مَلْآنٌ مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا، وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ ابن آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ".
رابعها:
حديث أَنَسِ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ أَنَّ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ".
وَقَالَ لَنَا أَبُو الوَلِيدِ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنْ أُبَيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَرى هذا مِنَ القُرْآنِ حَتَّى نَزَلَتْ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ
(1)
} [التكاثر: 1] وهذا من أفراده.
الشرح:
تعس: رويناه بكسر العين، وفي "الصحاح": تعَس بالفتح يتعس وأتعسه الله، قال: والتعس: الهلاك، وأصله: الكب، وهو ضد الانتعاش
(2)
. وقيل: التعس: أن يخر على وجهه. ففيه ذم مَنْ فتنه متاع الدنيا الفاني.
وقوله: ("إن أُعطي رضي") أي: إن أعطاه المتولي.
(1)
كذا في اليونينية، وليست في (ص 2)، وعليها في الأصل:(لا .. إلى)، فربما عني بها ما قاله ابن الصلاح أن هذِه العلامة تصلح أن توضع في الروايات على ما صح في رواية وسقط في أخرى، والله أعلم.
(2)
"الصحاح" 3/ 910، مادة: تعس.
وقوله: ("ملآن") كذا هو في الأصول، وذكره ابن التين بلفظ:"ملأ" ثم قال: كذا وقع، وصوابه: ملآن. قال في "الصحاح": يقال: دلو ملآى ماء على (فعلاء)
(1)
، ويجوز: ملآن ماء، والعامة تقول: ملا ماءً
(2)
.
(فصل)
(3)
:
وحماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، والبخاري لا يأتي به إلا في الشواهد. قال أبو جعفر: وإنما أتى به في غير حديث ثابت من قبل ربيبه عبد الكريم بن أبي العوجاء -كان متهمًا بالزندقة- ويقال: إنه كان (يدس)
(4)
في كتاب حماد بن سلمة، وهو من رجال مسلم والأربعة، وكان أحد الأعلام.
قال ابن معين: إذا رأيت من يقع فيه فاتهمه على الإسلام. وقال عمرو بن عاصم: كتب عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألفًا. مات سنة سبع وستين ومائة. وكذا قال خلف الواسطي؟ ليس للبخاري عن ابن سلمة محتجًا به غيره، إنما يقول: قال حماد: استشهادًا
(5)
.
وقال الإسماعيلي: أخبرنيه ابن ناجية على شك فيه: ثنا علي بن مسلم، ثنا عفان، قال: وثنا زهير بن محمد، ثنا أحمد بن إسحاق الحضرمي، أنا حماد بن سلمة .. فذكره.
فصل:
معنى هذا الحديث موجود في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ
(1)
كذا في الأصول، وفي "الصحاح":(فعلى).
(2)
"الصحاح" 1/ 72 - 73، مادة: ملأ.
(3)
من (ص 2).
(4)
في (ص 2): يدرس.
(5)
انظر ترجمته في "التاريخ الكبير" 3/ 22، "الجرح والتعديل" 3/ 140، "تهذيب الكمال" 7/ 253 - 269.
لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8].
ومعنى الفتنة في كلام العرب: الاختبار والابتلاء، ومنه قوله تعالى:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40] أي: اختبرناك. والفتنة: الإمالة عن القصد، ومنه قوله تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] أي: ليميلونك. والفتنة أيضًا: الإحراق من قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أي: يحرقون، هذا قول ابن الأنباري.
والاختبار والابتلاء يجمع ذلك كله، وقد أخبر الله تعالى عن الأموال والأولاد أنها فتنة، وقال تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] وخرج لفظ الخطاب (بذلك)
(1)
على العموم: لأن الله تعالى فطر العباد على حب المال والولد، ألا ترى قوله عليه السلام في الواديين؟! فأخبر عن حرص العباد على الزيادة في المال، وأنه لا غاية له يقنع بها ويقتصر عليها، ثم أتبع ذلك بقوله:"ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" يعني: إذا مات وصار في قبره ملأ جوفه التراب وأغناه بذلك عن تراب غيره حتى يصير رميمًا.
وأشار عليه السلام بهذا المثل إلى ذم الحرص على الدنيا والشره على الازدياد منها؛ ولذلك آثر أكثر السلف التقلل من الدنيا والقناعة بالكفاف؛ فرارًا من التعرض لما لا يعلم كيف النجاة من شر فتنته، واستعاذ عليه السلام من شر فتنة الغنى، وقد علم كل مؤمن أن الله قد أعاذه من شر كل فتنة، وإنما دعاؤه بذلك؛ تواضعًا لله، وتعليمًا لأمته، وحضًا لهم على إيثار الزهد في الدنيا.
(1)
في الأصل: يدلل. والمثبت من (ص 2).
11 - باب قَوْلِه صلى الله عليه وسلم: «هذا المَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ»
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} إلى قوله {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14]. وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ نَفْرَحَ بِمَا زَيَّنْتَ لنَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ أُنْفِقَهُ فِي حَقِّهِ.
6441 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ:«هَذَا المَالُ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ لِي: يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا المَالَ- خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِى يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» . [انظر: 1472 - مسلم: 1053 - فتح: 11/ 258].
ثم ساق حديث حَكِيمٍ رضي الله عنه: سَأَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ .. الحديث. وسلف في الزكاة
(1)
.
وبدأ في الآية بالنساء؛ لأنهن أضر الأشياء على الرجال.
ومعنى {زُيِّنَ} أي: زينها الشيطان، أو أنها لما كانت تعجبه كانت كأنها زينت.
ومعنى {الْمُقَنْطَرَةِ} : المكملة، مثل: ألوف مؤلفة، والقنطار في اللغة: الشيء الكثير، مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه.
وقال ابن عباس رضي الله عنه والحسن: أنه ألف مثقال.
(1)
سلف برقم (1472) باب الاستعفاف عن المسألة.
وقال قتادة: مائة رطل. وقال مجاهد: سبعون ألف دينار. وقال عطاء: سبعة آلاف دينار. وقال معاذ: هو ألف ومائتا أوقية. وقيل: مائة وعشرون رطلًا. وقيل: سكة النور ذهبا.
وأخبر الفاروق بما لا يكاد ينجو منه أحد، وكان من الزهاد، وقيل لبعضهم: من أزهد عمر أو أويس؟، قال: عمر؛ لأنه قدر فزهد.
وقوله: ("اليد العليا خير من اليد السفلى") ليس على عمومه، وقد استطعم موسى والخضر أهل قرية، وقال عليه السلام في لحم بريرة:"هو عليها صدقة ولنا هدية"
(1)
.
وهذا الباب هو في معنى الذي قبله، يدل على أن فتنة المال والغنى مخوفة على من فتحه الله عليه لتزيين الله تعالى له ولشهوات الدنيا في نفوس عباده، فلا سبيل لهم (إلى)
(2)
نقفته إلا بعون الله عليه؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه ما قال، ثم دعا أن يعينه على إنفاقه في حقه، فمن أخذ المال من حقه ووضعه في حقه فقد سلم من فتنته وحصل على ثوابه، وهذا معنى قوله:"فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه"، وفي قوله أيضًا:"ومن أخذه بطيب نفس" تنبيه لأمته على الرضا بما قسم لهم.
وفي قوله: "ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه" إلى آخره: ذم الحرص والشره إلى الاستكثار، ألا ترى أنه شبه فاعل ذلك بالبهائم التي تأكل ولا تشبع؟ وهذا غاية الذم له؛ لأن الله وصف الكفار بأنهم يأكلون كما تأكل الأنعام، يعني أنهم لا يشبعون كهم؛
(1)
سلف برقم (1495) كتاب الزكاة، باب إذا تحولت الصدقة، ورواه مسلم (1504) كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق.
(2)
في الأصل: في. والمثبت من (ص 2).
لأن الأنعام لا تأكل لإقامة أرماقها وإنما تأكل للشره والنهم، فينبغي للمؤمن العاقل الفهم عن الله وعن رسوله أن يتشبه بالسلف الصالح في أخذ الدنيا، ولا يتشبه بالبهائم التي لا تعقل. وقد سلف تفسير "خضرة حلوة"
(1)
.
(1)
سلف برقم (6417).
12 - باب مَا قَدَّمَ مِنْ مَالِهِ فَهْوَ لَهُ
6442 -
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ عَبْدُ اللهِ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ:«فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» . [فتح 11/ 260].
ذكر فيه حديث الحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عن عَبْدِ اللهِ قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ:"فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ".
هذا الحديث رواه البخاري عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش: حدثني إبراهيم التيمي، عن الحارث به. وعند الإسماعيلي: عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه أو الحارث بن سويد عنه، وفيه: قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه. فقال:"اعلموا ما تقولون" فقالوا: ما نعلم إلا ذاك. الحديث وهذا الحديث تنبيه للمؤمن على أن يقدم من ماله لآخرته، ولا يكون خازنًا له وممسكه عن إنفاقه في الطاعة، فيخيب من الانتفاع به يوم الحاجة إليه، وربما أنفقه وارثه في الطاعة فيفوز بثوابه. فإن قلت: هذا الحديث يدل على أن إنفاق المال في وجوه البر أفضل من تركه لوارثه، وهذا يعارض الحديث الآخر وهو قوله لسعد:"إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس"
(1)
.
قيل: لا تعارض بينها، وإنما حضَّ الشارع سعدًا على أن يترك مالاً
(1)
سلف برقم (1295) كتاب الجنائز، باب رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، ورواه مسلم (1628) كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث.
لورثته؛ لأن سعدًا أراد أن يتصدق بماله كله في مرضه، وكان وارثه ابنته، والبنت لا طاقة لها على الكسب، فأمره أن يتصدق منه بثلثه، ويكون باقيه لابنته وبيت المال. وله أجر في كل من يصل إليه من ماله شيء بعد موته.
وحديث الباب إنما خاطب به أصحابه (في صحتهم)
(1)
، ونبه به (من شح على ماله)
(2)
، ولم تشح نفسه بإنفاقه في وجوه البر أن ينفق منه في ذلك؛ لئلا يحصل وارثه عليه كاملًا موفرًا ويخيب هو من أجره، وليس الأمر فيه بصدقة المال كله، فيكون معارضًا لحديث سعد، بل حديث عبد الله مجمل، يفسره حديث سعد، يوضح ذلك ما ذكره أهل السير عن ابن شهاب: أن أبا لبابة قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأنخلع من مالي كله صدقة إلى الله ورسوله، قال:"يجزيك الثلث"، فلم يأمره بصدقة ماله كله.
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: على شح على عامة. والمثبت من "شرح ابن بطال" 10/ 162.
13 - باب المُكْثِرُونَ هُمُ المُقِلُّونَ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} إلى قوله {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 - 16].
6443 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي وَحْدَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ. قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ. قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ فَالْتَفَتَ، فَرَآنِي فَقَالَ:«مَنْ هَذَا؟» . قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ. قَالَ:«يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَالَهْ» . قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ:«إِنَّ المُكْثِرِينَ هُمُ المُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلاَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرًا، فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا» . قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً، فَقَالَ لِي:«اجْلِسْ هَا هُنَا» . قَالَ: فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ، فَقَالَ لِي:«اجْلِسْ هَا هُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ» . قَالَ: فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لَا أَرَاهُ، فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللُّبْثَ، ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهْوَ مُقْبِلٌ وَهْوَ يَقُول:«وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى» . قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الحَرَّةِ؟ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا. قَالَ:«ذَلِكَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الحَرَّةِ، قَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟! "قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ» .
قَالَ النَّضْرُ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، وَحَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَالأَعْمَشُ وَعَبْدُ العَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ بِهَذَا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ لَا يَصِحُّ، إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ. قِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَ: مُرْسَلٌ أَيْضًا لَا يَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ. وَقَالَ: اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا. إِذَا مَاتَ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. عِنْدَ الْمَوْتِ. [انظر: 1237 - مسلم: 94 سيأتي بعد 991 برقم (33) - فتح: 11/ 260].
ثم ذكر حديث زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ المُكْثِرِينَ هُمُ المُقِلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرًا، فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا" الحديث بطوله، وفي آخره:"وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ، وَإِنْ شَرِبَ الخَمْرَ".
ثم قال: قَالَ النَّضْرُ: ثَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ وَالأَعْمَشُ وَعَبْدُ العَزِيزِ بْنُ (رُفَيْعٍ)
(1)
، ثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ بهذا. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ لَا يَصِحُّ، إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ. قِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَ: مُرْسَلٌ أَيْضًا لَا يَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ. وَقَالَ: اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هذا. إِذَا مَاتَ قَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ. عِنْدَ المَوْتِ.
الشرح:
أما الآية فقال فيها سعيد بن جبير: من عمل عملًا يريد به غير الله جوزي عليه في الدنيا. (ومنه: قصة القارئ والمتصدق والمجاهد. وعن أنس: هم اليهود والنصارى إن أعطوا سائلًا أو وصلوا رحمًا عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن. وقيل: هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسهم لهم من الغنائم. وقال الضحاك: يعني: المشركين إذا عملوا عملًا جوزوا عليه في الدنيا)
(2)
. وهذا أبين؛ لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود: 16] ونقله ابن بطال عن أهل التأويل، فقال عنهم: هي عامة في اللفظ خاصة
(1)
في الأصل: زريع.
(2)
من (ص 2).
بالكفار بدليل هذِه الآية؛ وذكرها البخاري هنا لتحذير المؤمنين من مشابهة أفعال الكافرين في بيعهم الآخرة الباقية بزينة الحياة الدنيا الفانية، فيدخلون في معنى قوله:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} الآية
(1)
[الأحقاف: 20].
(و {نُوَفِّ}: نوصل إليهم أجور أعمالهم كاملة وافية من غير بخس، وهي ما يرزقون فيها من الصحة والرزق، وقرئ: (يوفِّ) بالياء على أن الفعل لله، وبالتاء على أن البناء للمفعول، ويوفي بالتخفيف وإثبات الياء؛ لأن الشرط وقع ماضيًا
(2)
. وحبط في الآخرة ما صنعوه أو صنيعهم يعني: لم يكن لهم ثواب؛ لأنهم لا يريدون به الآخرة.
{وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: عملهم في نفسه باطلاً. وقرئ: (وبطل) على الفعل. وعن عاصم: (وباطلاً) قراءة بالنصب أي: باطل كانوا يعملون، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر على وبطل بطلانًا ما كانوا يعملون
(3)
.
فصل)
(4)
:
وقوله: (وقال النضر، أنا شعبة .. ) إلى آخره، قال الإسماعيلي: ليس في حديث شعبة قصة المكثرين والمقلين. إنما فيه قصة: من مات لا يشرك بالله شيئًا، والعجب من أبي عبد الله كيف أطلق فيه الكلام، ثم ساقه (من حديث)
(5)
الحسن: ثنا حميد -يعني:
(1)
"شرح ابن بطال" 10/ 163 - 164.
(2)
انظر: "مختصر شواذ القرآن" ص 64.
(3)
المصدر السابق.
(4)
من (ص 2).
(5)
من (ص 2).
ابن زنجويه- حدثنا النضر بن شُميل به: "إن جبريل أتاني، فبشرني أن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة" قلت: "وإن زنا وإن سرق؟ " قال: "وإن زنا وإن سرق".
قال سليمان: وإنما يروى هذا الحديث عن أبي الدرداء، قال: أما أنا فإنما سمعته من أبي ذر أخبرنيه يحيى بن محمد الجياني، ثنا عبد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا (شعبة)
(1)
، عن حبيب. وبلال والأعمش وعبد العزيز المكي سمعوا زيد بن وهب، عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، قال: ورواه أبو داود عن شعبة فذكرهم ولم يذكر بلالا ولم يزد على هذِه القصة. ثم ساق من حديث أبي داود: ثنا شعبة، عن بلال وهو ابن مرداس، ويقال: ابن معاذ، وتفرد بهذا الحديث عنه. ورواه شعبة أيضًا عن المعرور بن سويد سمع أبا ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قصة من مات لا يشرك بالله شيئًا ثم ساقه بإسناده.
وقوله: (وقال أبو عبد الله: حديث أبي صالح .. ) إلى آخره، وقد أخرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث ابن إسحاق عن عيسى بن مالك، عن زيد، عن أبي الدرداء
(2)
.
ولما ذكر الدارقطني رواية الحسن وعيسى مع رواية من رواه عن أبي ذر قال: يشبه أن يكون القولان صحيحين
(3)
.
وقوله: (وحديث عطاء بن يسار مرسل)، قد أخرجه الطبراني بإسناد جيد مصرحًا بسماعه منه: أخبرني أبو الدرداء أنه عليه السلام قال .. فذكره، ثم ساقه من حديث محمد بن سعد بن مالك، عن أبي الدرداء قال رسول الله
(1)
في الأصل: شعيب. والمثبت من (ص 2).
(2)
"السنن الكبرى" للنسائي 6/ 276 (10964).
(3)
"علل الدارقطني" 6/ 240.
- صلى الله عليه وسلم .. فذكره. وأخرجه أبي محمد بن سعد، وأحذرته أن يكون ابن أبي وقاص.
قال: وثنا معاذ بن المثنى، ثنا ابن المديني، ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن نعيم بن حكيم، عن أبي مريم، عن أبي الدرداء أظنه مرفوعًا .. فذكره. وهذا إسناد جيد، وأخرجه من حديث عمران
(1)
بن داود عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء. ومن حديث بقية، عن صفوان بن عمرو قال: حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير وشريح بن عبيد، عن عمرو بن الأسود، عن أبي الدرداء.
وذكر الدارقطني في حديث الأعمش، عن زيد بن وهب عنه: إن صحت فهي تقدح في صحته، وهي رواية حرير بن حازم عن الأعمش فقال رجل: عن (زيد)
(2)
بن وهب عن أبي ذر
(3)
.
فصل:
هذا الحديث يدل على أن كثرة المال يؤول بصاحبه إلى الإقلال من الحسنات يوم القيامة إذا لم ينفقه في طاعة الله، فإن أنفقه فيها كان غنيًّا من الحسنات يوم القيامة.
فصل:
قد احتج به من فضل الغنى على الفقر؛ لأنه استثنى فيه من المكثرين من نفع بالمال عن يمينه وشماله وبين يديه، وقد اختلف في هذِه المسألة، وسيأتي في باب: من فضل الفقر بعد.
(1)
في الأصل: (عمار).
(2)
مكررة في الأصل.
(3)
"علل الدارقطني" 6/ 240 - 241.
فصل:
وأبو ذر: اسمه جندب بن جنادة. وأبو الدرداء: عويمر.
فصل:
قوله: ("يا أبا ذر تعال"). وروي: "تعاله" أي: جئ، وألحق الهاء ليقف على ساكن؛ لأن العرب لا تقف بمتحرك، وإذا وقف على (اللام)
(1)
جمع بين ساكنين، قاله الداودي.
ومعنى (نفح) بالحاء المهملة: أعطى منه، وصرفه في وجوه البر، قال صاحب "الأفعال": نفح بالعطاء: أعطى، والله نفاح بالخيرات
(2)
.
ولصاحب "العين": نفح بالمال والسيف، ونفحات المعروف: دفعه. ونفحت الدابة: رمت بحافرها الأرض
(3)
.
وقوله: (ووراءه) قيل: معناه: يوصي فيه ويبقيه لوارثه أو حبس يحبسه، والحرة: أرض بركتها حجارة سود كأنها أحرقت بالنار، قاله الجوهري وابن فارس
(4)
، وعبارة ابن الأعرابي: هي حجارة سود بين جبلين. والقاع: المستوي من الأرض.
وقوله: ("وإن زنا وإن سرق") تمثيل يحتمل معنيين: أحدهما: أن هذه الأمة يغفر لجميعها، والثاني: يدخل الجنة من عوقب ببعض ذنوبه فأدخل النار وأخرج منها بإيمانه، وإن عوفوا جميعًا كان (الذي)
(5)
جاء فيهم الخبر أنهم يخرجون من النار المؤمنين غير هذِه الأمة.
(1)
في الأصل: الأمر. والمثبت من (ص 2).
(2)
"الأفعال" لابن القوطية ص 259.
(3)
"العين" 3/ 249، مادة:(نفح).
(4)
"الصحاح" 2/ 626، "مجمل اللغة" 1/ 211.
(5)
في الأصل: (الذي). والسياق يقتضي الذين.
14 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي أُحُدًا ذَهَبًا»
6444 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلاَّ شَيْئًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ، إِلاَّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا» . عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. ثُمَّ مَشَى فَقَالَ: «إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا -عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ- وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» . ثُمَّ قَالَ لِي: «مَكَانَكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ» . ثُمَّ انْطَلَقَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى، فَسَمِعْتُ صَوْتًا قَدِ ارْتَفَعَ، فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِي:«لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ» فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أَتَانِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتًا تَخَوَّفْتُ، فَذَكَرْتُ لَهُ. فَقَالَ:«وَهَلْ سَمِعْتَهُ؟» . قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟! قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» . [انظر: 1237 - مسلم: 94 - فتح: 11/ 263].
6445 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَسَرَّنِي أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ، إِلاَّ شَيْئًا أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ» . [انظر: 2389 - مسلم: 991 - فتح: 11/ 264].
ذكر فيه حديث أبي ذَرٍّ: قال عليه السلام: "مَا أُحِبُّ أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلَّا شَيْءٌ أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا". عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ .. ". الحديث بطوله.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ، ثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، لَسَرَّنِي أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَئ، إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ عليَّ ".
في هذا الحديث: أن المؤمن لا ينبغي له أن يتمنى كثرة المال، إلا بشريطة أن يسلطه الله تعالى على إنفاقه في طاعته اقتداء بالشارع في ذلك.
وفيه: أن المبادرة إلى الطاعة مطلوبة، وهي أفضل من التواني فيها.
ألا ترى أنه عليه السلام لم يحب أن يبقى عنده من مقدار جبل أحد ذهبًا لو كان بعد ثلاث إلا دينار يرصده لدَين؟
وفيه: أنه عليه السلام كان يكون عليه الدين؛ لكثرة مواساته بقوته وقوت عياله وإيثاره على نفسه أهل الرضا والحاجة، والرضا بالتقلل والصبر على خشونة العيش، وهذِه سيرة الأنبياء والصالحين.
وهذا كله يدل على أن فضل المال في إنفاقه في سبيل البر، لا في إمساكه وإدخاره.
فصل:
و ("أرصده") بضم الهمزة، قال الكسائي والأصمعي: أرصدت له: أعددت له ورصدته: ترقبته قال تعالى: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107] أي: عدة.
15 - باب الغِنَى غِنَى النَّفْسِ
وَقَوْلُه تَعَالَى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 55 - 63]. قَالَ ابن عُيَيْنَةَ: لَمْ يَعْمَلُوهَا، لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلُوهَا.
6446 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» . [مسلم: 1051 - فتح: 11/ 271].
قلت: وافقه الحسن وزاد أنها أعمال رديئة. وعبارة مجاهد: لهم خطايا لا بد أن يعملوها
(1)
.
قال قتادة: ورجع إلى أهل البر (فقال)
(2)
: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [المؤمنون: 63] أي: سوى ما عددتم.
قال البخاري: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ -هو ابن عياش السالف قريبا- ثَنَا أَبُو حَصِينٍ -هو عثمان بن عاصم وهو بفتح الحاء- عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيْسَ الغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، ولكن الغِنَى غِنَى النَّفْسِ".
الشرح:
الآية نزلت في الكفار فليست بمعارضة لدعائه لأنس بكثرة المال والولد، والمعنى: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين مجازاة لهم وخيرًا؟ بل هو استدراج؛ ولذلك قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون 63] أي: في غطاء عن المعرفة أن الذي يمدهم به من مال استدراج لهم.
(1)
رواه الطبري في " تفسيره" 9/ 227.
(2)
من (ص 2).
وقال بعض أهل التأويل في قوله: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} هي الخيرات، فالمعنى: نسارع فيه، ثم أظهر فقال:{فِي الْخَيْرَاتِ} أي: نسارع لهم في الخيرات. والخبر محذوف، والمعنى: نسارع لهم به. وقيل: (أنه ما)
(1)
، فالمعنى: نسارع لهم، وقرئ بالياء مضمومة وكسر الراء
(2)
، وهذا على حذف، أي: الإمداد ويسارع لهم به في الخيرات.
والمراد بالحديث: ليس حقيقة الغنى كثرة متاع الدنيا؛ لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه في المال يكون فقير النفس لا يقنع بما أعطى فهو يجهد دائمًا في الزيادة ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير من المال لشدة شرهه وحرصه على الجمع، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس الذي استغنى صاحبه بالقليل وقنع به، ولم يحرص على الزيادة فيه، ولا ألح في الطلب، فكأنه غني واجد
(3)
أبدًا، وغنى النفس: هو باب الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره، علما أن ما عند الله خير للأبرار. وفي قضائه لأوليائه الخيار.
روى الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارض بما قسم لك تكن أشكر الناس"
(4)
.
(1)
في (ص 2): (أما).
(2)
انظر: "مختصر شواذ القرآن" لابن خالويه ص 100.
(3)
في الأصل: واجدًا والمثبت من (ص 2)، وهو الصحيح.
(4)
رواه الترمذي (2305)، وأحمد 2/ 310، بلفظ:"تكن أغنى الناس". قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"(8081): في إسناده ضعف، ولكنه يكون صحيحا لغيره.
وقال الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب"(2349، 2567): صحيح لغيره.
فصل:
العَرض -بفتح الراء -: كل ما ينتفع به من متاعها وحطامها، وهو بالإسكان: الأمتعة التي يتجر فيها، قال الجوهري: العرض بالتحريك ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه، وعرض الدنيا أيضًا: ما كان من مال قل أو كثر، يقال: الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر
(1)
. وقال أبو عبد الملك: أتصل بي عن شيخ من شيوخ القيروان أنه قال: عرض -بتحريك الراء- الواحد من العروض، وهو خطأ؟ قال تعالى:{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} الآية [الأعراف: 169]. ولا خلاف بين أهل اللغة في أنه ما يعرض فيه، وليس بواحد، قال: وهو بإسكان الراء: المتاع لكل شيء سوى الدنانير والدراهم، فإنها عين. وقال أبو عبيد: العروض: الأمتعة التي لا يدخلها كيل ولا وزن ولا تكون حيوانًا، ولا عقارًا.
فصل:
الغنى مقصور، وربما مده الشاعر اضطرارًا، وهو من الصوت ممدود، يقال: غنى غناء، والغناء -بالفتح والمد-: الكفاية.
(1)
"الصحاح" 3/ 1083، مادة:(عرض).
16 - باب فَضْلِ الفَقْرِ
6447 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ:«مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» . [انظر: 5091 - فتح: 11/ 273].
6448 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: عُدْنَا خَبَّابًا فَقَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نُرِيدُ وَجْهَ اللهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَجْرِهِ، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَإِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَنَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدُبُهَا. [انظر: 1276 - مسلم: 940 - فتح: 11/ 273].
6449 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا سَلْمُ بْنُ زَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» . [انظر: 3241 - مسلم: 2738 - فتح: 11/ 273]. تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَعَوْفٌ، وَقَالَ صَخْرٌ وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
6450 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمْ يَأْكُلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ. [انظر: 5386 - فتح: 11/ 273].
6451 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ. [انظر: 3097 - مسلم: 2973 - فتح: 11/ 274].
ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ:"مَا رَأْيُكَ فِي هذا؟ ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ: هذا والله حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وقد سلف
(1)
.
ثانيها:
حديث خباب: (هَاجَرْنَا)
(2)
مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نُرِيدُ وَجْهَ اللهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ .. الحديث، وسلف أيضًا
(3)
.
ثالثها:
حديث سَلْمِ بْنِ زَرِيرٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"اطَّلَعْتُ فِي الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءَ، وَاطَّلعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ".
تَابَعَهُ أَيُّوبُ وَعَوْفٌ، وَقَالَ صَخْرٌ وَحَمَّادُ بْنُ نَجِيحٍ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ.
(1)
سلف برقم (05091) كتاب: النكاح، باب: الأكفاء في الدين.
(2)
في هامش (ص 2): لعله خرجنا.
(3)
سلف برقم (1276) كتاب: الجنائز، باب: إذا لم يجد كفنا إلا ما يواري رأسه أو قدميه غطى به رأسه.
رابعها:
حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمْ يَأْكُلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أَكَلَ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ.
خامسها:
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لَقَدْ تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُوكَبِدٍ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ.
الشرح:
ظاهر هذِه الأحاديث فضل الفقر كما ترجم له، لكن اعترض عليه بأن الشارع إنما فضله باعتبار الأعمال، غير أن الغنى أعز، والفضل في الكفاف، وقد طال تنازع الناس في هذِه المسألة، وأفردت بالتأليف، فذهب قوم إلى تفضيل الفقر، وممن ألف فيه ابن الفخَّار. وذهب آخرون إلى تفضيل الغنى، وممن ألف فيه ابن قتيبة. واحتج من فضل الفقر بهذِه الآثار وغيرها.
فمنها: حديث أنس في الترمذي -وقال: غريب-: أنه عليه السلام كان يقول في دعائه: "اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين"
(1)
.
وأخرجه الحاكم في "مستدركه" من حديث أبي سعيد، ثم قال: صحيح الإسناد
(2)
.
(1)
الترمذي (2352)، والحديث رواه ابن ماجه (4126)، وصححه الألباني في "الإرواء"(861)، وفي "الصحيحة"(308).
(2)
"المستدرك" 4/ 321.
ومنها: أنه عليه السلام قال: "اللهم من آمن بي وصدق ما جئت به فأقلل له من المال والولد"
(1)
.
ومنها قوله عليه السلام: "إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وأصحاب الجد محبوسون" أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، ثم قال: صحيح
(2)
.
واحتج من فضَّل الغنى بقوله عليه السلام: "إن المكثرين هم (الأقلون)
(3)
إلا من قال هكذا أو هكذا"
(4)
.
وبقوله عليه السلام: "لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل أتاه الله مالا فيسلطه الله على هلكته في الحق .. " الحديث
(5)
.
وبقوله عليه السلام لسعد: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"
(6)
.
وقال لأبي لبابة: "أمسك عنك بعض مالك، فإنه خير لك"
(7)
.
وقال في معاوية: "إنه صعلوك لا مال له"
(8)
.
(1)
رواه ابن ماجه (4133)، وانظر:"الصحيحة"(1338).
(2)
الترمذي (2354).
(3)
في الأصل: (المقلون) والمثبت من (ص 2).
(4)
سلف برقم (6444) كتاب: الرقاق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا".
(5)
سلف برقم (73) كتاب: العلم، باب: الاغتباط في العلم والحكمة، ورواه مسلم (816) كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضل من يقوم بالقرآن، ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها.
(6)
سبق تخريجه.
(7)
سبق تخريجه.
(8)
رواه مسلم (1480) كتاب: الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.
ولم يكن عليه السلام يذم حالة فيها الفضل.
قال ابن بطال: وأحسن ما رأيت في هذِه المسألة ما قاله أحمد بن نصر الداودي قال: الفقر والغنى محنتان من الله، وبليتان يبلو بهما خيار عباده؛ ليبدي صبر الصابرين وطغيان البطرين، وإنما أشكل ذلك على غير الراسخين، فوضع قوم الكتب في تفضيل الغنى على الفقر، وعكس آخرون وأغفلوا الوجه الذي يجب الحض عليه والندب إليه.
وأرجو لمن صحت نيته، وخلصت له طويته، وكانت لوجهه مقالته أن (يجازيه)
(1)
الله على نيته ويعلمه، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وقال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا على الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ} الآية [الإسراء: 83]. وقال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)} الآية [المعارج: 19] وقال: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} إلى قوله: {أَهَانَنِ}
(2)
[الفجر 15 - 16] وقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27] وقال: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا} الآية [الزخرف: 33] وقال: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6 - 7] وقال: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8] يعني: لحب المال. وقال رسول الله عليه السلام: "ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخاف أن تفتح الدنيا عليكم .. " الحديث
(3)
. وكان عليه السلام يستعيذ من فتنة الفقر وفتنة الغنى، فدل هذا كله على أن ما فوق الكفاف محنة لا يسلم منها إلا من عصم، وقد قال عليه السلام:"ما قل وكفى خير مما كثر وألهى"
(4)
.
(1)
في الأصل: يحيله. والمثبت من (ص 2).
(2)
في الأصل: أهانني. والمثبت من (ص 2).
(3)
سلف برقم (3158)، وبرقم (6425)، ورواه مسلم (2961).
(4)
رواه أحمد 5/ 197، وصححه ابن حبان 8/ 121 (3329)، والحاكم 2/ 444.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أتي بأموال كسرى: ما فتح الله هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم، وقطعوا أرحامهم. وقال: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، اللهم إنك منعت هذا رسولك؛ إكرامًا له وفتحته علي لتبتليني به، اللهم سلطني على هلكته في الحق واعصمني من فتنته.
فهذا كله يدل على فضل الكفاف لا فضل الفقر كما خيل لهم، بل الغنى والفقر بليتان كأن عليه السلام يستعيذ من فتنتهما، ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية. [الإسراء: 29] وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} الآية. [الفرقان: 67] وقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} إلى قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 5، 6]، وقال:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} الآية [النساء: 9] وقال عليه السلام لأبي لبابة وسعد ما سلف، وهذا من الغنى الذي لا يطغي، ولو كان كلما زاد كان أفضل لنهاه الشارع أن يوصي بشيء، ولقصرت أيدي الناس عن الصدقات، وعن الإنفاق في سبيل الله، وقال لعمرو بن العاصي:"هل لك أن أبعثك في جيش يسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبة من المال؟ " فقال: ما للمال كانت هجرتي، إنما كانت لله ولرسوله. فقال:"نِعْمَ المال الصالح للرجل الصالح"
(1)
. ولم يكن عليه السلام ليحض أحدًا على ما ينقص حظه عند الله.
فلا يجوز أن يقال: إن إحدى هاتين الخصلتين أفضل من الأخرى؛ لأنهما محنتان، وكأن قائل هذا يقول: إن ذهاب يد الإنسان أفضل عند
(1)
رواه أحمد 4/ 197، وصححه ابن حبان 8/ 6 (3210).
الله من ذهاب رجله، وإن ذهاب سمعه أفضل من ذهاب بصره، فليس ها هنا موضع للفضل، وإنما هي محن يبلو الله بها عباده؛ ليعلم الصابرين والشاكرين من غيرهم. ولم يأت في الحديث فيما علمت أنه عليه السلام كان يدعو على نفسه بالفقر، ولا يدعو كذلك على أحد يريد به الخير، بل كان يدعو بالكفاف، ويستعيذ بالله من شر فتنة الفقر وفتنة الغنى، ولم يكن يدعو بالغنى إلا بشريطة يذكرها في دعائه.
فأما ما روي عنه أنه كان يقول: "اللهم أحيني مسكينًا .. ". الحديث فإن ثبت في النقل فمعناه: ألا يجاوز به الكفاف، أو يريد به الاستكانة إلى الله. يوضحه أنه ترك أموال بني النضير وسهمه من فدك وخيبر فغير جائز أن يظن به أن يدعو إلى الله ألا يكون بيده شيء، وهو يقدر على إزالته من يده بإنفاقه.
وما روي عنه أنه قال: "اللهم من آمن بي .. " إلى آخره، فلا يصح في النقل ولا في الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك في قلة المال وحدها، لكان محتملًا أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه في قلة الولد فكيف يدعو أن يقل المسلمون؟ وما يدفعه العيان (فمدفوع)
(1)
عنه عليه السلام، وأحاديثه لا تتناقض، كيف يذم معاوية ويأمر أبا لبابة وسعدًا أن يبقيا ما ذكر من المال؟ ويقول: إنه خير، ثم يخالف في ذلك، وقد ثبت أنه دعا لأنس بكثرة ماله وولده، وأن يبارك له فيما أعطيه، قال أنس: ولقد أحصت ابنتي أني قدمت من صلبي مقدم الحجاج البصرة مائة وبضعة وعشرين نسمة بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سلف، وعاش بعد ذلك ستين سنة، وولد له.
(1)
في الأصل: قد نزع. والمثبت من (ص 2).
فلم يدع له بكثرة المال إلا وقد قرن ذلك بقوله: "وبارك له فيما أعطيته"
(1)
.
فإن قلت: فأي الرجلين أفضل المبتلى بالفقر أو بالغنى إذا صلحت حال كل واحد منهما؟ قيل: السؤال عن هذا لا يستقيم، إذ قد يكون لهذا أعمال سوى تلك المحنة يفضل بها صاحبه وللآخر كذلك، وقد يكون هذا الذي صلح حاله على (الفقر لا يصلح حاله على)
(2)
الغنى، ويصلح حال الآخر على الفقر والغنى.
فإن قلت: فإن كان كل واحد يصلح حاله في الأمرين، وهما في غير ذلك من الأعمال متساويان قد أدى الفقير ما يجب عليه في فقره من الصبر والعفاف والرضا، وأدى الغني ما يجب عليه من الإنفاق والبذل والشكر والتواضع، فأي الرجلين أفضل؟ قيل: عِلْمُ هذا عند الله تعالى.
فصل:
وأما قوله: ("وأصحاب الجد محبوسون") فإنما يحبس لهذا أهل التفاخر والتكاثر: وأما من أدى حق الله في ماله، ولم يرد به التفاخر، وأرصد باقيه لحاجته إليه، فليس أولئك بأولى منه في السبق إلى شيء.
ويدل على هذا الحديث السالف: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق". فيبين أنه لا شيء أرفع من هاتين الحالتين، وهو المبين عن الله (معنى)
(3)
: ما أراد، ولو كان من هذِه
(1)
سلف برقم (6344)، كتاب: الدعوات، باب: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر ويكثر ماله.
(2)
من (ص 2).
(3)
في الأصل جزئت الكلمة إلى كلمتين غير مقروءتين، وما أثبتناه من "شرح ابن بطال" 10/ 172.
حاله مسبوقا في الآخرة لما حضَّ الشارع على أن يتنافس
(1)
في عمله، ولحض أبا لبابة على الحالة التي يسبق بها إلى الجنة، ألا ترى قوله في حديث:"الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فالذي عليه وزر فرجل ربطها فخرًا ورياء ونواء لأهل الإسلام"
(2)
، فهذا من المحبوسين للحساب. والأولان فهو كفافهما، غير أن آفات الغثى أكثر، والناجون من أهل الغنى أقل؛ إذ لا يكاد يسلم من آفاته إلا من عصمه الله؛ فلذلك عظمت منزلة المعصوم فيه؛ لأن الشيطان يسول فيه إما في الأخذ بغير حقه، أو الوضع في غير حقه، أو في منعه من حقه، أو في (التجبر)
(3)
والطغيان من أجله، أو في قلة الشكر عليه، أو المنافسة فيه إلا ما لا يبلغ صفته.
فصل:
قال المهلب: دخول الفقراء قبل الأغنياء بالمدة المذكورة ليس فيه تفضيل للفقر؛ لأن تقديم دخولها لا تستحق به فضيلة؛ ألا ترى أنه عليه السلام أفضل البشر ولا يتقدم بالدخول
(4)
فيها حتى يشفع في أمته، وكذلك صالح المؤمنين يشفعون في قوم دونهم في الدرجة، وإنما ينظر يوم القيامة بين الناس فيتقدم الأقل حسابًا فالأقل. فلذلك قدمت الفقراء؛ لأنه لا غلبة عليهم في حساب الأموال، فيدخلون الجنة قبل الأغنياء، ثم يحاسب أصحاب الأموال فيدخلون الجنة، وينالون فيها من
(1)
من (ص 2).
(2)
سلف برقم (2860) كتاب: الجهاد والسير، باب: الخيل لثلاثة.
(3)
في الأصل: الفخر. والمثبت من (ص 2).
(4)
ورد بهامش الأصل: هذا الكلام فيه نظر، ومع ذلك هو أول من يقرع باب الجنة، والله أعلم.
الدرجات ما قد لا يبلغهم الفقر.
فصل:
وكذلك ليس قوله: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء" لا يوجب فضل الفقير، وإنما معناه أن الفقراء في الدنيا أكثر من الأغنياء فأخبر عن ذلك، كما تقول: أكثر أهل الدنيا الفقراء. لا من جهة التفضيل، وإنما هو إخبار عن الحال، وليس الفقر أدخلهم الجنة، إنما دخلوا بصلاحهم مع الفقر، أرأيت الفقير إذا لم يكن صالحًا فلا فضل له في الفقر.
فصل:
وحديث سهل لا يخلو أن يكون فضل الفقير عليهم لفقره أو لفضله، فإن كان الثاني فلا حجة فيه لهم، وإن كان الأول فكان ينبغي أن يشترط في ملء الأرض مثله لا فقير لهم، ولا دلالة في الحديث على تفضيله عليه مع جهة فقره؛ لأنا نجد الفقير إذا لم يكن صالحًا، فكل غني صالح خير منه.
فصل:
في حديث خباب أن هجرتهم لم تكن لدنيا يصيبونها ولا نعمة يستعجلونها، وإنما كانت لله؛ ليثيبهم عليها في الآخرة بالجنة والنجاة من النار، فمن قتل منهم قبل أن يفتح الله عليهم البلاد قالوا: مَرَّ ولم يأخذ من أجره شيئًا في الدنيا، وكان أجره في الآخرة موفرًا له، وكان الذي بقي منهم حتى فتح الله عليهم الدنيا ونالوا من الطيبات خشوا أن يكون عجل لهم أجر طاعتهم وهجرتهم في الدنيا بما نالوا فيها من النعيم؛ إذ كانوا على نعيم الآخرة أحرص.
فصل:
وتركه عليه السلام الأكل على الخوان وأكل المرقق، فإنما فعل ذلك؛ لأنه رفع الطيبات للحياة الدائمة في الآخرة، ولم يرض أن يستعجل في الدنيا الفانية شيئًا منها، أخذًا منه بأفضل الدارين، وكان قد خيره الله بين أن يكون نبيًّا عبدًا أو نبيًّا ملكًا، فاختار عبدًا
(1)
، فلزمه أن يفي لله بما اختاره. والمال إنما يرغب فيه مع مقارنة الدين، ليستعان به على الآخرة، والشارع مغفور له، فلم يحتج إلى المال من هذا الوجوه، وكان ضمن الله له رزقه بقوله:{نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]
فصل:
وقول عائشة رضي الله عنها: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ) إلى آخره. هو في معنى حديث أنس رضي الله عنه الذي قبله من الأخذ بالاقتصاد وبما يسد الجوعة.
وفيه: بركة الشارع، وأن الطعام المكيل يكون فناؤه معلومًا للعلم بكيله، وأن الطعام غير المكيل فيه البركة؛ لأنه غير معلوم مقداره
(2)
.
(والرف: شبه الطاق، والجمع رفوف، قاله في "الصحاح"
(3)
. وقال في "المطالع": الرف خشب يرفع عن الأرض في البيت يرفأ إليه ما يراد حفظه، وهو الرفوف أيضًا)
(4)
.
فصل:
قد أسلفنا أن ابن قتيبة صنف في تفضيل الغنى على الفقر، وأتى على ذلك بأخبار لا تثبت أسانيدها ولا تصح مرسلاتها، ثم أولها
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
انتهى من "شرح ابن بطال" 10/ 168: 174.
(3)
"الصحاح" 4/ 1366، مادة:(رفف).
(4)
من (ص 2).
بتوهمه أن ذلك تأويلها، ولو صحت لكان تأويلها غير تأويله، بل لا يصح تأويله أصلاً.
ثم أتى بأشعار احتج بها على الشريعة، ثم بحكايات وأوصاف ليست بحجج ولا دلائل؛ بل هي خطب وتواريخ ومحن، فلسنا نقول: أن الغنى مكروه؛ بل هو مباح، وإنما الكلام في الأفضل، فمما قاله: زعم أنه عليه السلام روي عنه -بغير سند ولا إمام- أنه تعوذ من الفقر، ثم فسر ذلك بأنه لا يجوز أن يكون فقر النفس، وإنما هو فقر المال، وادعى أن له على ذلك شواهد كثيرة: منها:
أنه كان يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من غنى يبطر وفقر مرب أو ملب". وهو الملاصق بالأرض.
وكذلك قوله: "لا غنى يطغي ولا فقر ينسي" وفسره فقال: دعا بالتوسط في الحد، فتدبروا قوله.
هذا تأويله، فما أبعده مما قاله واعتقده، وحسب أن هذا له دليلٌ، وهو عليه حجة؛ وذلك أنه ذكر حديثًا لا يعرف، وقصد إلى الشواذ ثم جعله حجة في تفضيل الغنى، ولو صح ما كان في مثل هذا الغنى، ولا في مثل هذا الفقر، وكلاهما مرديان؛ لأن الغني المبطر قد عصى الله به، والفقير المنسي قد نسي الله فعصاه، قال تعالى:{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وإنما الكلام في الغنى الذي لا يبطر، والفقر الذي لا ينسي. فمن قال مثل قوله هذا: هل مَرَّ به من إنعام النظر مثقال ذرة؟!:
ثم فسره أيضًا بأن الفقر الذي استعاذ منه إنما هو فقر المال دون فقر النفس برواية وبغير رواية، والأولى على ظاهر الحديث أن يكون استعاذ من فقر النفس دون المال بدلالة الحديث الثابت:
"ولكن الغنى غنى النفس"
(1)
.
واحتج أيضًا بحديث مرسل لا تثبت به حجة، أنَّ الحسن قال: أنه عليه السلام قال: "كاد الفقر أن يكون كفرًا". وهو غير صحيح، ولو صح لكان تأويله سترًا من النار: لأن معنى كفرت الشيء: سترته، ولو قلنا بتأويله للزم منه الفقر في الدنيا، ودخول النار في الآخرة لكفره. ويدل على أن الفقر أفضل قول عمر في غزوة نهاوند إذ جيء بمالها فصب في المسجد: ما فتح الله هذا على قوم إلا سفكوا عليه دماءهم، وقطعوا أرحامهم. فهل سَفَك الناس دماءهم، وقطعوا أرحامهم على الفقر؟! فكيف يكون المال أفضل على هذا من الفقر، وهو ذريعة إلى قطع الأرحام؟ فإن احتج متوهم بعيد الفهم بقول الله تعالى:{تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] يعني: مالا؛ قلنا: قد قال أيضًا: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8] يعني: المال، فقد عاب محبته مع تسميته خيرًا، وعابه أيضًا في آية أخرى، فقال:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} الآية [الفجر: 15].
واحتج أيضًا بقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت
…
إنما الميتُ ميت الأحياء
ويرده أنه تعالى قال: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] قيل: كان كافرًا فأحييناه بالإسلام، أو ضالًا فهديناه كما قال مجاهد. ولم يقل أحد أن ذلك في الفقر من المال.
قال ابن قتيبة: قبض الله نبينا موسرًا إنما قال عليه، فتأول بذلك أنه لم يكن دعاؤه إذ استعاذ (من الفقر)
(2)
إلا فقر المال.
(1)
سلف برقم (6446) كتاب: الرقاق، باب: الغنى غنى النفس.
(2)
من (ص 2).
وقد قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 8] فالعائل: الفقير.
قال البخاري: عائلاً: ذو عيال
(1)
خلاف قول ابن قتيبة وهو أوفق.
ويقال لابن قتيبة: لو أمعنت النظر لما احتججت بمثل هذا، لأن سورة الضحى مكية، والغنى قد يكون غنى النفس، ويكون من المال كما تقدم عنه، وإنما قال:(فأغنى) ولم يقل: سأغنيك؛ لأن فدك والنضير وخيبر كان فتحها بعد هذِه السورة بسنين، وقال عمر: إن الله خص رسوله في هذا المال بشيء لم يعطه أحدًا غيره
(2)
، فإذا كان مخصوصًا بشهادة عمر، فكيف يجوز أن يكون لمن لم يخص بمثل هذا الخصوص؟!
وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا" كما سيأتي
(3)
.
فإن قلت: إن الغنى أفضل؛ لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] والخيل لا يقوم إلا بالغنى.
قيل له: هذِه حال ضرورة إلى الغنى في هذِه الحال، وإذا دعت الضرورة إلى الغنى في حال يجوز أن يكون الغنى أفضل، كما أن الصلاة على هيئتها هو الغرض الذي لا يجوز غيره، وإذا دعت ضرورة الخوف إلى القصر من هيئتها في تلك الحال لم يجز على الإطلاق؛ إلا أن تكون تلك الصلاة في تلك الهيئة من القصر أفضل،
(1)
سلف في كتاب: التفسير، سورة الضحى.
(2)
سلف برقم (4033) كتاب: المغازي، باب: حديث بني النضير.
(3)
سيأتي برقم (6460) كتاب: الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ..
بل الصلاة على هيئتها من التمام هو الواجب، فكما لم يغير حال الخوف من جواز قصر الصلاة من فرض تأديتها على هيئتها في غير الخوف، كذلك لا تغير الضرورة إلى الغنى في حال الجهاد أنَّ الفقر أفضل من الغنى.
ألا ترى أنه عليه السلام كان يجعل ما أفاء الله عليه بعد نفقته في الكراع والسلاح وما يحتاج الجهاد إليه؛ فإن قيل: إنما نقاتل العدو بالغنى، وهو المال. قيل: ليس كذلك؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} إلى قوله: {مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46] فقد نفى أن يكون المال من صفة القتال، وقال تعالى:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247]، وقال هرقل لأبي سفيان إذا سأله عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكر أن ضعفاءهم اتبعوه، فقال: هم أتباع الرسل
(1)
. فقد أعلمك أن الضعفاء أتباع الرسل، وهم الذين قاتلوا الكفار.
وقال أبو أمامة الباهلي: لقد فتح الفتوح أقوام ما كانت حلية سيوفهم الذهب والفضة إلا العلابي والآنك والحديد
(2)
.
فصل:
المختار عندنا: أن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر؛ لأن الغنى هي الحالة التي توفي عليها الشارع، وهي أكمل الحالات.
وقد سئل سيدي أبو علي الدقاق: أيهما أفضل الغنى أو الفقر؟ فقال: الغنى؛ لأنه وصف الحق، والفقر وصف الخلق، ووصف
(1)
سلف برقم (7) كتاب: بدء الوحي، ورواه مسلم (1773) كتاب: الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 4/ 225 (19454).
الحق أفضل من وصف الخلق، وما أحسن هذا، وأما الكفاف فهي الدرجة الرفيعة؛ لأنه عليه السلام لا يَسأل إلا أفضل الأحوال.
وفي ابن ماجه من حديث أنس مرفوعًا: "ما من غني ولا فقير إلا وَدَّ يوم القيامة أنه أوتي قوتًا"
(1)
.
قال القرطبي: فعلى هذا أهل الكفاف هم -إن شاء الله- صدر كتيبة الفقراء الداخلين قبل الأغنياء بخمسمائة عام؛ لأنهم وسطهم، والوسط: العدل
(2)
؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
فصل:
معنى (حَرِيٌّ) في حديث سهل: حقيق.
والنمرة: في حديث خباب: بردة يلبسها الإماء، أو إزار من صوف مخطط، وقال الجوهري: بردة من صوف يلبسها الأعراب
(3)
، وقال ابن فارس: كساء ملون
(4)
.
والإذْخِر: نبت ريحه طيب، وهو جمع، والواحدة: إذْخِرة
(5)
.
ومعنى (أينعت): أدركت، وكذلك ينع.
قال القزاز: وأينع أكثر من ينع.
(وَيهْدبُهَا): بضم الدال وكسرها أي: يجنيها.
والخوان: بضم الخاء وكسرها: المائدة المعدة لذلك، ويقال فيه أيضًا: الأخوان.
(1)
ابن ماجه (4140)، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(4869).
(2)
"المفهم" 7/ 131 - 132.
(3)
"الصحاح" 2/ 838، مادة:(نمر).
(4)
"مجمل اللغة" 2/ 885، مادة:(نمر).
(5)
"الصحاح" 2/ 663، مادة:(ذخر).
فصل:
قوله: (تابعه أيوب وعوف. وقال صخر وحماد بن نجيح: عن أبي رجاء عن ابن عباس)، أما متابعة أيوب فأخرجها النسائي عن بشر بن هلال، عن عمران بن موسى، عن عبد الوارث، عن أبي أيوب، عن أبي رجاء، عن عمران
(1)
.
وأما متابعة عوف، فذكرها في النكاح عن عثمان بن الهيثم. ثنا عوف، عن أبي رجاء
(2)
.
وقال أبو مسعود الدمشقي: إنما رواه عن أيوب -كما قاله البخاري- عبدُ الوارث، وسائر أصحاب أيوب يقولون: عن أيوب، عن أبي رجاء، عن ابن عباس.
وقد رواه أبو الأشهب وابن أبي عروبة وابن علية والثقفي وعاصم بن هلال وجماعة؛ عن أيوب، عن أبي رجاء، عن ابن عباس.
قلت: رواه النسائي عنه عن أبي رجاء، عن عمران، وأخرجه الترمذي عن ابن بشار، عن ابن أبي عدي وغندر وعبد الوهاب؛ عن عوف، عن أبي رجاء، ثم قال: حسن صحيح.
قال: وهكذا يقول عوف، عن أبي رجاء، عن عمران.
وكذا روى غيره. ويقول أيوب: عن أبي رجاء عن ابن عباس، وكلا الإسنادين ليس فيهما مقال، ويحتمل أن يكون أبو رجاء سمعه منهما
(3)
.
(1)
"السنن الكبرى" للنسائي 5/ 398 - 399 (9260).
(2)
السابق (9259).
(3)
الترمذي (2603).
ومتابعة صخر أخرجها النسائي عن يحيى بن مخلد المقسمي، ثنا المعافى بن عمران عن صخر بن جويرية، عن أبي رجاء
(1)
.
ومتابعة حماد بن نجيح أخرجها النسائي أيضًا عن محمد بن معمر البحراني، ثنا عثمان بن عمر، عن حماد بن نجيح، عن أبي رجاء
(2)
(1)
"السنن الكبرى" للنسائي 5/ 339، (9263).
(2)
السابق (9264).
17 - باب كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، وَتَخَلِّيهِمْ مِنَ الدُّنْيَا
6452 -
حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا على طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ، مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِي، فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي وَمَا فِي وَجْهِي، ثُمَّ قَالَ:«أَبَا هِرٍّ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «الْحَقْ» . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ، فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ:«مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟» . قَالُوا: أَهْدَاهُ لَكَ -فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ-. قَالَ: «أَبَا هِرٍّ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي» . قَالَ: وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلَامِ، لَا يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ، وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا، فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ. قَالَ:«يَا أَبَا هِرٍّ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «خُذْ فَأَعْطِهِمْ» . قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ:«أَبَا هِرٍّ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ» . قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «اقْعُدْ فَاشْرَبْ» . فَقَعَدْتُ
فَشَرِبْتُ. فَقَالَ: «اشْرَبْ» . فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ:«اشْرَبْ» . حَتَّى قُلْتُ: لَا وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا. قَالَ:«فَأَرِنِي» . فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ اللهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الفَضْلَةَ. [انظر:5375 - فتح: 11/ 281].
6453 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدًا يَقُولُ: إِنِّي لأَوَّلُ العَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ، مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلَامِ، خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي. [انظر: 3728 - مسلم: 2966 - فتح: 11/ 282].
6454 -
حَدَّثَنِي عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ. [انظر: 5416 - مسلم: 2970 - فتح: 11/ 282].
6455 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ -هُوَ الأَزْرَقُ- عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلاَّ إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ. [مسلم: 2971 - فتح: 11/ 282].
6456 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَدَمٍ، وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ. [مسلم: 2082 - فتح: 11/ 282].
6457 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، وَقَالَ: كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا، حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ، وَلَا رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ. [انظر: 5385 - فتح: 11/ 282].
6458 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَّ أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ. [انظر: 2567 - مسلم: 2972 (28) - فتح: 11/ 282].
6459 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لِعُرْوَةَ ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ. فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبْيَاتِهِمْ، فَيَسْقِينَاهُ. [انظر: 2567 - مسلم: 2972 (28) - فتح: 11/ 283].
6460 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا» . [مسلم: 1055 - فتح: 11/ 283]
ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هذا الحَدِيثِ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، ثَنَا مُجَاهِدٌ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه .. فذكر حديث اللبن وأهل الصفة مطولا.
وسلف في الاستئذان مختصرًا
(1)
. فقال: حدثنا أبو نعيم: ثنا عمر بن ذر. وعن محمد بن مقاتل، عن ابن المبارك، عن (عمر بن ذر)
(2)
، ثنا مجاهد به، ولعله النصف المشار إليه هاهنا.
وأخرجه النسائي من حديث محمد بن يحيى، ثنا أبو نعيم، عن عمر بن ذر
(3)
. والترمذي عن هناد، عن يونس بن بكير، عن عمر، ثم قال: صحيح
(4)
.
(1)
سلف برقم (6246) باب: إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن.
(2)
في الأصل: عمرو بن دينار. والمثبت من (ص 2).
(3)
رواه النسائي كما في "تحفة الأشراف" 10/ 315 (14344).
(4)
الترمذي (2477).
ثم ساق البخاري بعده أحاديث:
أحدها:
حديث سعد رضي الله عنه: إِنِّي لأَوَّلُ العَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَرَأَيْتُنَا نَغْزُو وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الحُبْلَةِ وهذا السَّمُرُ، وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلَامِ، خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ سَعْيِي.
ثانيها:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: مَا شَبعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ.
ثالثها:
وعنها: مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلَّا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ.
رابعها:
وعنها قالت: كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ.
خامسها:
حديث قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ: كُلُوا، فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأى رَغِيفًا مُرَقَّقًا، حَتَّى لَحِقَ باللهِ عز وجل، وَلَا رَأى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ.
سادسها:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ وَمَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا، إِنَّمَا هُوَ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنْ نُؤْتَى بِاللُّحَيْمِ.
سابعها:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابن أُخْتِي إِنْ كُنَّا
لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أَوْقَدُوا فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَارًا. فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبْيَاتِهِمْ، فَيَسْقِينَا.
ثامنها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا".
الشرح:
قوله في الحديث الأول: (إنَّ أبا هريرة كان يقول: آللهِ الذي لا إله إلا هو) يجوز في الله الخفض والنصب. قال ابن التين: ورويناه بالنصب. قال ابن جني: إذا حذفت حرف القسم نصبت الاسم بعده بالفعل المقدر تقول: الله لأذهبن. قال امرئ القيس:
فقالت: يمين الله ما لك حيلة
…
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
ومن العرب من يجر اسم الله وحده مع حذف حرف الجر، فيقول: اللهِ لأقومن؛ وذلك لكثرة ما يستعملون هذا الاسم، وتقول: أي هاللهِ ذا، فتجر الاسم بها؛ لأنها صارت بدلاً من الواو، وكذلك قولهم في الاستفهام: ألله لتذهبن؟ صارت همزة الاستفهام عوضًا من الواو فجررت الاسم، وتقول في التعجب: لله لأقومن
(1)
!
وقوله: (إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض) الكبد بكسر الباء وسكونها مثل فخذ وفخذ.
وقوله: (وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع) قال الخطابي:
(1)
"اللمع في العربية" ص 185.
أشكل الأمر في شد الحجر على البطن من الجوع على قوم، حتى توهموا أنه تصحيف، فزعموا (أنما هو)
(1)
الحجز جمع الحجزة التي يشد بها المرء وسطه، قال: ومن أقام بالحجاز، وعرف عاداتهم علم أن الحجر واحد الحجارة؛ وذلك أن المجاعة تصيبهم دهرًا، فلما خوى البطن هزم فلم (يمكن معه)
(2)
الانتصاب؛ فيعمد حينئذ إلى صفائح رقاق من طول الكف فتربط على البطن، وتشد (بحجزه)
(3)
فوقها فتعتدل قامة الإنسان بعض الاعتدال
(4)
.
وقوله: (إلا ليشبعني) أي: ليأمرني أن أتبعه.
وقوله: (قال: "الْحَق" ومضى) أي: اتبعني.
قوله: (وأشركهم فيها) قال ابن القوطية: شركك في الأمر شركًا وشركه: ضرب له شريكًا، وفي المال كذلك، وأشرك الكافر بالله: جعل له شريكًا، والنعل: جعلت له شراكًا
(5)
.
وقوله: (فيشرب حتى يروى) هو بفتح الواو في مستقبله، وبكسرها في ماضيه.
فصل:
الحُبْلَةَ بالضم، وسكون الباء: ثمر العضاه قاله الجوهري
(6)
وابن فارس
(7)
.
(1)
في الأصل: يكن منه، والمثبت من "أعلام الحديث".
(2)
في الأصل: أن. والمثبت من (ص 2).
(3)
في الأصل: بحجر، والمثبت من "أعلام الحديث".
(4)
"أعلام الحديث" 3/ 2246 - 2247.
(5)
"الأفعال" ص 80.
(6)
"الصحاح" 4/ 1664، مادة:(حبل).
(7)
"المجمل" 1/ 262، مادة:(حبل).
وقال أبو (عبيد)
(1)
: الحبلة وورق السمر: ضربان من الشجر أو النبات. وقال ابن الأعرابي: الحبلة: ثمر السمر يشبه اللوبياء. وقال الجوهري: السمُرة بضم الميم: من شجر الطلح، والجمع: سمر وسمرات وأسمر في أدنى الجمع
(2)
، والتعزير: التأديب، والبر جمع: برة من القمح. وجوز المبرد أن يجمع على أبرار خلافًا لسيبويه
(3)
.
فصل:
وقوله في سند حديث عائشة الأخير: (حدثني ابن أبي حازم عن أبيه): هو عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار، (ويزيد بن رومان) هو أبو روح مولى آل الزبير بن العوام، مات سنة ثلاثين ومائة.
وحديث سعد رضي الله عنه سلف في الأطعمة، في باب: ما كان عليه السلام وأصحابه يأكلون
(4)
، وتقدم فيه أيضًا الكلام في حديث عائشة وأنس وأبي هريرة رضي الله عنه مع الأحاديث المعارضة لها.
فصل:
قال الطبري: في اختيار الشارع وخيار السلف من الصحابة والتابعين (شظف)
(5)
العيش، والصبر على مرارة الفقر والفاقة، ومقاساة خشونة (خشن)
(6)
الملابس والمطاعم، على خفض ذلك ودعته حلاوة الغنى
(1)
في الأصل: عبيدة.
(2)
"الصحاح" 2/ 689، مادة:(سمر).
(3)
السابق 2/ 588، مادة (برر).
(4)
سلف برقم (5412).
(5)
في هامش الأصل: الشظف: الشدة والضيق.
(6)
من (ص 2).
ونعيمه، ما أبان عن فضل الزهد في الدنيا وأخذ البلغة والقوت خاصة، وكان نبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام - يطوي الأيام، ويعصب على بطنه الحجر من الجوع، إيثارًا منه شظف العيش والصبر عليه، مع علمه بأنه لو سأل ربه أن يسير له جبال تهامة ذهبًا وفضة لفعل، وعلى هذِه الطريقة جرى الصالحون.
ألا ترى قول أبي هريرة رضي الله عنه: أنه كان يشد الحجر على بطنه من الجوع، وخرج يتعرض من يمر به من الصحابة يسأله عن آي من القرآن ليحمله ويطعمه
(1)
.
فصل:
وفيه: أنَّ كتمان الحاجة خير من إظهارها، وأشبه بإخلاص الصالحين والصابرين، وإن كان جائزًا له الإخبار بباطن أمره وحاجته لمن يرجوه لكشف فاقته.
فصل:
وهذا الحديث علم عظيم من أعلام النبوة؛ وذلك أنه عليه السلام عرف ما في نفس أبي هريرة، ولم يعلم ذلك أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما. وفيه: شرب العدد الكثير من اللبن القليل حتى شبعوا ببركة النبوة
(2)
، وذلك من أعلامها أيضًا.
فصل:
وفيه أيضًا: ما كان عليه عليه السلام من إيثار البلغة، وأجود العرب في كرم نفسه؛ وأنه لم يستأثر بشيء من الدنيا دون أمته.
(1)
"شرح ابن بطال" 10/ 176.
(2)
السابق 10/ 176 - 177.
فصل:
وقوله: "اللهم ارزق آل محمد قوتًا" فيه: دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فيما فوق ذلك رغبة في توفيره نعيم الآخرة، وإيثارًا لما يبقى على ما يفنى لتقتدي بذلك أمته، ويرغبوا فيما رغب فيه نبيهم - عليه أفضل الصلاة والسلام -.
فصل:
روى الطبري بإسناده، عن ابن
(1)
مسعود رضي الله عنه قال: حبذا المكروهان: الموت والفقر، والله ما هو إلا الغنى والفقر، ولا أبالي بأيهما ابتليت، إن حق الله في كل واحد منهما واجب، إن كان الغنى ففيه العطف، وإن كان الفقر ففيه الصبر
(2)
. قال الطبري: فمحنة الصابر أشد من محنة الشاكر، وإن كانا شريفي المنزلة غير أني أقول كما قال مطرِّف بن عبد الله: لأن أعافى فأشكر، أحب إلى من أبتلى فأصبر.
فصل:
ومن فضل قلة الأكل: ما روى يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"إنَّ أهل البيت ليقل طعمهم فتستنير بيوتهم"
(3)
.
وروى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن محمد بن علي، عن أبيه أنه عليه السلام قال:"من سره أن يكون حكيمًا فليقل طعمه، فإنه يغشى جوفه بنور الحكمة".
(1)
في الأصل: أبي والمثبت من مصادر التخريج.
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 9/ 92، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 132.
(3)
رواه الطبراني في "الأوسط" 5/ 228 - 229 (5165)؛ قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 263: فيه عبد الله بن المطلب العجلي، ضعفه العقيلي، وبقية رجاله ثقات؛ والحديث أورده الألباني في "الضعيفة" (166) وقال: موضوع.
وقال مالك بن دينار: سمعت عبد الله الرازي يقول: كان أهل العلم بالله والقبول عنه يقولون: إن الشبع يقسي القلب، ويفتر البدن.
فصل:
ومن سيرهم
(1)
في تخليهم من الدنيا ما روى وكيع، عن الأعمش، عن شقيق
(2)
، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال أبو بكر في مرضه الذي مات فيه: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الخلافة، فابعثوا به إلى الخليفة بعدي فإني قد كنت أستحله، وقد كنت أصبت من الودك نحوًا مما كنت أصيب من التجارة، قالت عائشة رضي الله عنها: لما مات نظرنا فإذا عبد نوبي يحمل صبيانه، وناضح كان يسنى عليه فبعثناهما إلى عمر، فأخبرني جدي أن عمر بكى، وقال: رحمة الله على أبي بكر، لقد أتعب من بعده
(3)
.
فصل:
روينا في كتاب "الجوع" لابن أبي الدنيا من حديث خالد بن معدان عن المقدام بن معدي كرب مرفوعًا: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطن"
(4)
(1)
في الأصل: سيره، ولعل ما أثبتناه موافق للسياق.
(2)
في الأصل: سفيان والمثبت من مصادر التخريج.
(3)
رواه ابن سعد في "الطبقات" 3/ 192، وابن أبي شيبة 4/ 469 (22174).
(4)
"الجوع"(1).
والحديث رواه ابن ماجه (3349)، وأحمد 4/ 132، والنسائي في "الكبرى" 4/ 177، وابن حبان 2/ 449 (674).
وصححه الألباني في "الصحيحة"(2265).
ومن حديث المحبر بن هارون، عن أبي يزيد المديني، عن (عبد الرحمن)
(1)
بن المرقع
(2)
؛ ومن حديث موسى الجهني عن زيد بن وهب مثله مرفوعًا
(3)
.
وروينا في كتاب (الجوزي)
(4)
من حديث شقيق البلخي، عن إبراهيم بن أدهم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالسًا فسألته، فقال:"من الجوع". فبكيت، فقال:"لا تبك فإن شدة الحساب لا تصيب الجائع إذا احتسب".
وكان بشر بن الحارث يقول: الجوع يصفي الفؤاد، ويميت الهوى، ويورث العلم الدقيق.
ورأى يحيى بن طاهر العلوي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول: يا طاهر أطعم هؤلاء المتصوفة -يعني: الذين شكوا الجوع- وقيل لهم: من لم يصبر على الجوع (فليخرج)
(5)
من جواري.
وقال عروة بن الزبير: من ضبط نفسه ضبط الأخلاق الصالحة.
(1)
في (ص 2): أبي عبد الرحمن.
(2)
"الجوع"(2).
(3)
السابق (3).
(4)
في (ص 2): ابن الجوزي.
(5)
في الأصل: فلعمري. والمثبت من (ص 2).
18 - باب الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى العَمَلِ
6461 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتِ: الدَّائِمُ. قَالَ: قُلْتُ: فَأَىَّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ. [انظر: 1132 - مسلم: 741 - فتح: 11/ 294].
6462 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. [انظر: 1132 -
فتح: 11/ 294].
6463 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ» . قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ. وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا» . [انظر: 39 - مسلم: 2816 - فتح: 11/ 294].
6464 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ أَدْوَمُهَا إِلَى اللهِ، وَإِنْ قَلَّ» . [1970، 6465، 6467 - مسلم: 782، 2818 - فتح: 11/ 294].
6465 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» . وَقَالَ: «اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ» . [انظر: 1970 - مسلم: 782، 783 - فتح: 11/ 294].
6466 -
حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، عَائِشَةَ قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ
- صلى الله عليه وسلم؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ؟!. [انظر: 1987 - مسلم: 783 - فتح: 11/ 294].
6467 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ» . قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» . قَالَ: أَظُنُّهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ.
وَقَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَدَادًا {سَدِيدًا} [النساء: 9] وَسَدَادًا صِدْقًا.
[انظر: 6464 - مسلم: 2818 - فتح: 11/ 294].
6468 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلَاةَ، ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ:«قَدْ أُرِيتُ الآنَ -مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ- الجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قُبُلِ هَذَا الْجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ» . [انظر: 93 - مسلم: 2359 - فتح: 11/ 295].
ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
حديث مسروق: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَيُّ العَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتِ: الدَّائِمُ. قَالَ: قُلْتُ: فَأَيَّ حِينٍ كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارخَ.
ثانيها:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذِي يَدُومُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
ثالثها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ". قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِهِ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا".
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَدَادًا وتسديدًا: صِدْقًا.
رابعها:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ.
خامسها:
حديثها أَيضًا قَالَتْ: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: "أَدْوَمُه وَإِنْ قَلَّ". وَقَالَ: "اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ".
سادسها:
حديث عَلْقَمَةَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ؟!.
سابعها:
حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ، ثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الجَنَّةَ عَمَلُهُ". قَالُوا:
وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَتِهِ". قَالَ: أَظُنُّهُ عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ.
وَقَالَ عَفَّانُ: ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا". قَالَ مُجَاهِدٌ: سَدَادًا وسَدِيدًا: صِدْقًا.
ثامنها:
حديث أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صَلَّى لَنَا يَوْمًا الصَّلَاةَ، ثُمَّ رَقِيَ المِنْبَرَ فَأَشَارَ بِيَدِهِ قِبَلَ قِبْلَةِ المَسْجِدِ فَقَالَ:"قَدْ رَأَيْتُ الآنَ -مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلَاةَ- الجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قُبُلِ هذا الجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ في الخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ".
الشرح:
حديث عفان كأن البخاري أخذه عنه مذاكرة، وأخرجه مسلم عن محمد بن حاتم، ثنا بهز، ثنا وهيب، عن موسى به
(1)
.
وأغرب ابن مَنده فقال في جزء له: إن البخاري حيث قال: قال فلان، فهو تدليس. وهو بعيد.
وقد قال ابن القطان لما ذكر تدليس الشيوخ قال: لم يصح ذلك عن البخاري قط.
ومعنى: ("يتغمد"): يغمر، ومعناه لغة: الستر. يقال: تغمدت فلانًا أي: سترت ما كان منه وغطيت، ومنه: غمد السيف. قال أبو عبيد: لا أحسب يتغمدني إلا مأخوذًا من غمد السيف؛ لأنك إذا غمدته فقد ألبسته إياه وغشيته به.
(1)
مسلم (2818).
("واغدوا وروحوا") هو مثل ضربه للعمل أي: يعمل ثم (يجمر)
(1)
نفسه فيعمل طرفي النهار ويستريح وسطه لئلا يمل، والدلجة بضم الدال وفتحها مثل: برهة من الدهر وبرهة، وأراد بذلك زيادة صلاة الليل.
وقوله: ("والقصدَ القصدَ") هو منصوب على الإغراء أي: الزموا القصد.
و ("اكلفوا") بفتح اللام. وقال ابن التين: قرأناهما بالضم، وهو بالفتح في كتب أهل اللغة. ويقال: كلف بهذا الأمر بالكسر كلفًا وهو الإبلاغ بالشيء.
وقوله: (ديمة) أي: دائمًا مثل الديمة من المطر، وأصل الديمة: المطر الدائم مع سكون، فشبهت عائشة رضي الله عنها عمله في دوامه مع الاقتصاد وترك الغلو بديمة المطر.
وقال ابن فارس: هو الذي يقيم أيامًا
(2)
، وقال الجوهري: الديمة: المطر الذي ليس فيه رعد ولا برق، أقله ثلث النهار أو ثلث الليل، وأكثره ما بلغ من العدد
(3)
.
وقوله: ("ممثلتين في قبل هذا الجدار") قال الداودي: يريد قدامه. وقال الجوهري: يقال: انزل بقبل هذا الجدار أي: بسفحه
(4)
وهو أسفله حيث يتفسح فيه الماء.
فصل:
قال المهلَّب: إنما حضَّ الشارع أمته على القصد والمداومة على
(1)
في (ص 2): يحمي.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 341، مادة:(ديم).
(3)
"الصحاح" 5/ 1924، مادة:(ديم).
(4)
"الصحاح" 5/ 1795، مادة:(قبل).
العمل وإن قل، خشية الانقطاع عن العمل الكثير، فكأنه رجوع عن فعل الطاعات، وقد ذم الله ذلك، ومدح من أوفى بالنذر.
وقد سلف بيان هذا المعنى في أبواب صلاة الليل من كتاب الصلاة.
فإن قلت: إن قول عائشة رضي الله عنها: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص شيئًا من الأيام بالعمل يعارضه قولها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صيامًا منه في شعبان
(1)
. قيل: لا تعارض بينهما، وذلك أنه عليه السلام كان كثير الأسفار في الجهاد، فلا يجد سبيلًا إلى صيام الثلاثة الأيام من كل شهر، فيجمعهما في شعبان.
ألا ترى إلى قول عائشة رضي الله عنها: كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم
(2)
، فهذا يبين أنه لم يخص شيئًا من الزمان، إنما كان يوقع العبادة على قدر نشاطه وفراغه من جهاده وأسفاره، فيقل مرة ويكثر أخرى، وقد قيل في معنى (كثرة صيامه في شعبان وجوهٌ أخرى)
(3)
، قد ذكرتها في باب: صوم شعبان في كتاب الصيام، فإن قلت: فما معنى ذكر حديث أنس في هذا الباب؟ قيل: معناه أن يوجب ملازمة العمل وإدمانه ما مثل له من الجنة للرغبة، ومن النار للرهبة، فكان في ذلك فائدتان:
إحداهما
(4)
: ينبغي للناس أن يتمثلوا الجنة والنار بين أعينهم إذا وقفوا بين يدي الله تعالى، كما مثلهما الله لنبيه، وشغله بالفكرة
(1)
سلف برقم (1969) كتاب: الصوم، باب: صوم شعبان.
(2)
انظر الهامش السابق.
(3)
في الأصل: إن صيامه في شعبان أجوبة أخر. والمثبت من (ص 2).
(4)
في الأصل: إحداها والمثبت من (ص 2).
فيهما عن سائر الأفكار الحادثة عن تذكير الشيطان بما يسهيه حتى لا يدري كم صلى.
والثانية: أن يكون الخوف من النار الممئلة، والرغبة في الجنة، نصب عيني المصلي، فيكونا باعثين له على الصبر، والمداومة على العمل المبلغ إلى رحمة الله، والنجاة من النار برحمته.
فإن قلت: قوله: "لن يدخل أحدكم الجنة عمله" يعارض قوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 72].
قيل: لا تعارض؛ فإن دخولها هو برحمة الله لا بعمله، والله أخبر أن الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، أي: كما هو مبين في الحديث.
ومعلوم أن درجات العباد فيها متباينة على قدر تباين أعمالهم.
فمعنى الآية في ارتفاع الدرجات وانخفاضها، والنعيم فيها، ومعنى الحديث في الدخول في الجنة والخلود فيها، فلا تعارض.
فإن قلت: فقد قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فأخبر أن دخولها بالأعمال أيضًا.
فالجواب أن قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} كلام مجمل وتقديره ادخلوا منازل الجنة وبيوتها بما كنتم تعملون، فالآية مفتقرة إلى بيان الحديث.
وللجمع بين الحديث وبين الآيات، وجه آخر، هو أن يكون الحديث مفسرًا للآيات، ويكون تقديرها:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 72] و: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)} [الطور: 19]، و {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم؛ لأن فضله عز وجل ورحمته لعباده في اقتسام
المنازل في الجنة، كما هو في دخولها لا ينفك منه حين ألهمهم إلى ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازات الله عباده من رحمته وتفضله، ألا ترى أنه جازى على الحسنة عشرًا وعلى السيئة واحدةً، وأنه ابتدأ عباده بنعم لا تحصى، لم يتقدم لهم فيها سبب ولا فعل، منها: أن خلقهم بشرًا سويا، ومنها: نعمة الإسلام، ونعمة العافية، ونعمة تضمنه لأرزاق عباده، وأنه كتب على نفسه الرحمة، وأن رحمته سبقت غضبه
(1)
، إلى ما لا يهتدى إلى معرفته من ظاهر النعم وباطنها.
فصل:
وقول مجاهد: (سدادًا سديدًا: صدقًا)، كأنه يريد به ما رواه الطبري في "تفسيره" عن موسى بن هارون، ثنا عمرو بن طلحة، ثنا أسباط، عن السدي، عن ابن أبي نجيح، عن ورقاء، عن مجاهد
(2)
.
(1)
سيأتي برقم (7422).
(2)
"تفسير الطبري" 10/ 338 من طريق الحسن عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
19 - باب الرَّجَاءِ مَعَ الْخَوْفِ
وَقَالَ سُفْيَانُ: مَا فِي القُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 68].
6469 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ» . [انظر: 6000 - مسلم: 2752 - فتح: 11/ 301].
هذا مذكور في تفسيره، والمراد: حتى تعملوا بما فيهما (وتقرأوا بما فيهما)
(1)
عن محمد وعيسى عليهما السلام، وقيل: من صفات نبينا، وقال غيره: أخوف آية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].
ثم ساق حديث (عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ)
(2)
أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ بِكُلِّ الذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ بِكُلِّ الذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ العَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ".
(وهذا الحديث سلف في كتاب الأدب من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة)
(3)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
(3)
من (ص 2)، والحديث سلف برقم (6000).
وفيه: بيان أن الرحمة التي جعلها في عباده مخلوقة، وكذلك سائر المائة، بخلاف الرحمة التي هي صفة من صفاته. واليأس: القنوط، يقال: يئس بالكسر: ييأس، وفيه لغة أخرى بكسر الهمزة من مستقبله، وهو شاذ.
قال المبرد: منهم من يبدل في المستقبل الياء الثانية ألفًا؛ فيقول: يائس وآيس، وعلى هذا ما تقدم.
20 - باب الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ عز وجل
-
وقول الله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ.
6470 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ أَعْطَاهُ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ نَفِدَ كُلُّ شَيْءٍ أَنْفَقَ بِيَدَيْهِ:«مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ لَا أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» . [انظر: 1469 - مسلم: 1053 - فتح: 11/ 303].
6471 -
حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عِلَاقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ -أَوْ تَنْتَفِخَ- قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ:«أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» . [انظر: 1130 - مسلم: 2819 - فتح: 11/ 303].
ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا أَعْطَاهُ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ نَفِدَ كُلُّ شَيْءٍ أَنْفَقَ بِيَدَيْهِ:"مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فلم أَدَّخِرْهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفُّهُ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ".
وحديث المُغِيرَةِ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقوم حَتَّى تَرِمَ -أَوْ تَنْتَفِخَ- قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ:"أَفلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟! ".
الشرح:
(معنى حديث أبي سعيد سلف في الزكاة
(1)
، وحديث المغيرة سلف في قيامه عليه السلام)
(2)
.
ومعنى ("يستعف") لا يلحف في المسألة، كذا شرحه ابن التين. وقال ابن بطال: مَنْ يعفه الله يستعفف، وكذا: من نصره الله ينصر ومن يغنه الله يستغن، وهذا مثل قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} الآية، [الليل: 5]، وبين صحة هذا قوله تعالى:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118] فلولا ما سبق في علمه أنه قضى لهم بالتوبة ما تابوا، وكذلك في العفة والغنى والصبر، لولا ما سبق في علمه أنهم ممن يقع ذلك منهم ما قدروا على شيء من ذلك بفعلهم، يبين ذلك قوله عليه السلام:"اعملوا فكل ميسر لما خلق له"
(3)
. وهذا حجة في أن أفعال العباد خلق الله تعالى.
وقوله: ("يعفه الله") أي: يرزقه ما يعفه إما المال أو القناعة.
وقوله: (ترم)، يقال: ورم يرم بالكسر فيهما وهو شاذ مثل: يئس. قال الأصمعي: يقال يئس ييئس، وحسب يحسب، ونعم ينعم بالكسر فيهن. وقال أبو زيد: علياء مضر يكسرون العين فيهن وسفلاها يفتحونها. وقال سيبويه، هذا عند أصحابنا إنما يجيء على لغتين بمعنى، يئس ييأس، وياءس يئس لغتان، ثم ركب منهما، وأما: ورم يرم، وومق يمق و (نفق ينفق)
(4)
، (وولى يلي)
(5)
، وورث يرث فلا يجوز فيهن إلا الكسر لغة واحدة.
(1)
سلف برقم (1469).
(2)
من (ص 2). والحديث سلف برقم (1130).
(3)
سلف برقم (4949)، ورواه مسلم (2647/ 7).
(4)
في (ص 2): (وفق يفق).
(5)
من (ص 2).
فصل:
أرفع الصابرين منزلة عند الله من صبر عن محارم الله، وصبر على العمل بطاعته، ومن فعل ذلك فهو من خالص عباده وصفوته، ألا ترى قوله عليه السلام:"لم تعطوا عطاء خيرًا وأوسع من الصبر".
وسئل الحسن عن قوله عليه السلام حين سئل عن الإيمان، فقال:"الصبر والسماح"
(1)
. فقيل للحسن: ما الصبر والسماح؟ قال: السماح لفرائض
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "الإيمان"(43)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" 7/ 122 (9710) من طريق هشام، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله، مرفوعًا.
قال الألباني في تعليقه على "الإيمان"(35): حديث صحيح؛ رجاله ثقات لولا عنعنة الحسن.
ورواه أبو يعلى 3/ 380 (1854)، وعنه ابن عدي في "الكامل"، 8/ 484، من طريق يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله مرفوعًا. قال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (3291): فيه يوسف بن محمد بن المنكدر؛ ضعفه الجمهور؛ وقال في موضع آخر (3672): فيه يوسف بن محمد ابن المنكدر، ضعيف.
وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 59: فيه يوسف بن محمد بن المنكدر، وهو متروك.
وانظر: "الصحيحة" 2/ 93.
قلت: وفي الباب عن عمرو بن عبسة: رواه أحمد 4/ 385، وعبد بن حميد في "المنتخب"(300)، والبيهقي في "الشعب" 6/ 242 (8015)، من طريق حجاج بن دينار، عن محمد بن ذكوان، عن شهر بن حوشب، عن عمرو بن عبسة، مرفوعًا.
قال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(3291): فيه شهر بن حوشب.
وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 54: في إسناده شهر بن حوشب وقد وثق على ضعف فيه.
وفي الباب أيضًا عن عبادة بن الصامت وعمير بن قتادة الليثي؛ وانظر: "الصحيحة"(1491، 1495).
الله، والصبر عن محارم الله
(1)
. وقال الحسن: وجدت الخير في صبر ساعة.
فصل:
الصبر في حديث المغيرة صبر على العمل بطاعة الله؛ لأنه عليه السلام كان يصلي بالليل حتى ترم قدماه، ويقول:"أفلا أكون عبدًا شكورا؟! " واختلف السلف في حد الشكر كما قال الطبري، فقال بعضهم: شكر العبد ربه على أياديه عنده، ورضاه بقضائه وتسليمه لأمره فيما نابه من خير أو شر. ذكره الربيع بن أنس، عن بعض أصحابه. وقال آخرون: شكر العبد طاعته لربه، روِي ذلك عن السدي ومحمد بن كعب.
وقال آخرون: هو الإقرار بالنعم أنها لله وأنه المتفضل بها، وقالوا: الحمد لله والشكر معنى واحد، روي ذلك عن ابن عباس وابن زيد.
قال الطبري: والصواب في ذلك أن شكر العبد هو إقراره بأن ذلك من الله دون غيره، إقرارًا بحقيقة الفعل ويصدقه العمل، فأما الإقرار الذي يكذبه العمل فإن صاحبه لا يستحق اسم الشاكر بالإطلاق، ولكنه يقال: شكر باللسان، والدليل على صحة ذلك. قوله تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] ومعلوم أنه لم يأمرهم، إذ قال لهم ذلك بالإقرار بنعمته؛ لأنهم كانوا لا يجحدون أن يكون ذلك تفضلا منه عليهم، وإنما أمرهم بالشكر على نعمه بالطاعة له بالعمل. وكذلك قال نبينا حين تفطرت قدماه ما سلف.
فإن قلت: أي: المنزلتين أعلى الصبر أو الشكر؟ قيل: كل رفيع الدرجة شريف المنزلة، وما ذو العافية والرخاء، كذي الفاقة والبلاء
(1)
رواه البيهقي في "الشعب" 7/ 122 (9709).
وفي قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وخصوصه إياهم من الأجر على صبرهم دون سائر من ضمن له ثوابًا على عمله ما يبين عن فضل الصبر، وقد روى الأعمش عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه رفعه:"يود أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم في الدنيا كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب الله لأهل البلاء"
(1)
.
وذكر ابن أبي الدنيا من حديث أم هانئ رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أبشري فإن الله قد أنزل لأمتي الخير كله، إن الحسنات يذهبن السيئات" قلت: بأبي وأمي، وما الحسنات؟ قال:"الصلوات الخمس". ودخل عليَّ فقال: "أبشري فإن الله قد نزل خيرًا لا شر بعده" قلت: بأبي وأمي، ما هو؟ قال:"أنزل الله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، فقلت: يا رب، زد أمتي".
فألْزل الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] فقلت: "يا رب، زد أمتي". فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
(2)
[الزمر: 10].
وروى الطبراني من حديث الحسن، (عن جده)، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة، فلا يرفع لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان، فيصب عليهم الأجر صبًّا" ثم قرأ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
(3)
.
(1)
رواه الترمذي (2402)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(206).
(2)
"شرح ابن بطال" 10/ 183 - 184.
(3)
"المعجم الكبير" 3/ 92 - 93 (2760)؛ قال الهيثمي في "المجمع" 2/ 305: فيه سعد بن طريف؛ وهو ضعيف جدًّا.
21 - باب {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ: فِي كُلِّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ.
6472 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ حُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . [انظر: 3410 - مسلم: 220 - فتح: 11/ 305].
ثم ذكر حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنه: "يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". وقد سلف
(1)
، وكذا أغفله ابن التين وابن بطال فمن بعدهم.
(1)
سلف برقم (5752) كتاب: الطب، باب: من لم يرق.
22 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ
6473 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُغِيرَةُ وَفُلَانٌ وَرَجُلٌ ثَالِثٌ أَيْضًا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ أَنِ اكْتُبْ إِلَيَّ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ: أَنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ: «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ: وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ، وَعُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ الْبَنَاتِ.
وَعَنْ هُشَيْمٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ وَرَّادًا يُحَدِّثُ هَذَا الحَدِيثَ، عَنِ المُغِيرَةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 844 - مسلم: 593 - فتح: 11/ 306].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث المغيرة بطوله، وقد سلف
(1)
، وفيه: وَكَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ.
لا جرم حذفه ابن بطال.
قال أبو عبيد: فيه تجوز غريب، وذلك أنه جعل القال مصدرًا كأنه قال: عن قيل، قال، وقول، يقال، قلت، قولاً، وقيلاً، وقالاً، ومعناه أنه نهى عن الإكثار مما لا يغني من أحاديث الناس، ورويناه منونًا على أنه مصدر فيهما، وروي تركه، وقيل في معناه: إنه يذكر أقوالًا للعلماء في الحادثة، ويرتكب أحدها بغير دليل.
وقوله: (وعن كثرة السؤال) أي: عما لا حاجة فيه، أو السؤال المعروف، أو الإلحاف فيه أو عما لا يعني كان نهى عنه.
(1)
سلف برقم (844، 1477، 2408، 5975).
وقال مالك: والله ما نعرف إن كان هو هذا الذي أنتم فيه من تفريع المسائل
(1)
. وقيل: أراد النهي عن السؤال عن أشياء سألت عنها، وأراد السؤال عنها لئلا يحرم شيئًا كان مسكوتًا عنه.
وقوله: (وإضاعة المال) أي: وضعه في غير محله وحقه.
وقوله: (ومنع وهات) يعني: منع ما يجب من الحقوق وسؤال ما ليس له.
وقوله: (ووأد البنات) هي البنت تدفن حية، كانوا يفعلونه في الجاهلية إذا ولد للفقير منهم بنت دسها في التراب، كما حكى الله عنهم، يقال: وأدت الوائدة ولدها تئده وأدًا، وكل هذا سلف واضحًا.
(1)
انظر: "المنتقى" 7/ 315.
23 - باب حِفْظِ اللِّسَانِ
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ". وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
6474 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، سَمِعَ أَبَا حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» . [انظر: 6807 - فتح: 11/ 308].
6475 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» . [انظر: 5185 - مسلم: 47 - فتح: 11/ 308].
6476 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الخُزَاعِيِّ قَالَ: سَمِعَ أُذُنَاىَ وَوَعَاهُ قَلْبِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ جَائِزَتُهُ» . قِيلَ: مَا جَائِزَتُهُ؟ قَالَ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ» . [انظر: 6019 - مسلم: 48 - فتح: 11/ 308].
6477 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ» . [6478 - مسلم: 2988 - فتح: 11/ 308].
6478 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُنِيرٍ، سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ -يَعْنِي: ابْنَ دِينَارٍ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَرْفَعُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ» . [انظر: 6477 - مسلم: 2988 - فتح: 11/ 308].
ثم ساق أحاديث:
أحدها:
حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ (على الله)
(1)
الجَنَّةَ".
ثانيها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه باللفظ الذي علقه أولا وزيادة: "وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ".
ثالثها: حديث أَبِي شُرَيْحٍ مثله.
رابعها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيْهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ".
خامسها:
حديثه أيضًا رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ العَبْدَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَرْفَعُ اللهُ لَهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ ليَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ".
الشرح:
المراد بحفظ اللسان: عما لا ينبغي. والقول بالحق واجب،
(1)
من (ص 2).
والصمت فيه غير واسع، روِي عنه عليه السلام أنه قال:"أكثر الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضًا في الباطل"
(1)
.
وقال: التقي ملجم لا يتكلم بكل ما يريد، وقال:"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"
(2)
. وقال عيسى صلى الله عليه وسلم: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فيقسي قلوبكم؛ فإن القلب القاسي بعيد من الله
(3)
. قال مالك: من لم يعد كلامه من عمله كثر كلامه، ويقال: إن من علم أن كلامه من عمله قل كلامه. قال مالك: ولم كونوا يهدرون الكلام هكذا، ومن الناس من يتكلم بكلام شهر في ساعة، وذكر عن بعض السلف أنه قال: لو كانت الصحف التي تكتب فيها أعمالنا من عندنا لأقللنا الكلام.
وكان أكثر كلام أبي بكر رضي الله عنه: لا إله إلا الله، يقول: كان الأمر كذا ولا إله إلا الله، وكان كذا ولا إله إلا الله.
فصل:
والآية المذكورة أولاً قال فيها الحسن وقتادة: يكتبان جميع الأشياء، وقال: وخصه عكرمة بالخير والشر
(4)
. ويقوي الأول تفسير أبي صالح في قوله: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، إن الملائكة تكتب كل ما يتكلم به المرء، فيمحو الله تعالى منه ما ليس له ولا عليه، ويثبت ما له وما عليه. والعتيد: الحاضر المهيأ.
(1)
رواه الطبراني 9/ 104 (8547)، والبيهقي في "الشعب" 7/ 416 (1087)؛ وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(1393).
(2)
رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5911).
(3)
رواه مالك في "الموطأ" ص 610.
(4)
رواه الطبري في "تفسيره" 11/ 416 - 417 (31864).
وقال الداودي: هو الحافظ. والمعروف أن الرقيب هو: الحافظ، وأن العتيد عند أهل اللغة هو: الحاضر.
فصل:
وقوله: "من يضمن لي" هو بفتح الميم في مستقبله، وبكسرها في ماضيه، تقول: ضمنت الشيء أي: كفلت به، واللحى بفتح اللام وبكسرها: منبت الشعر من الإنسان وغيره. وما بين لَحْيَيْهِ: هو لسانه. وعلى هذا أورده البخاري هنا وغيره من العلماء.
وقال الداودي: ("ما بين لحيَيْه") يعني: الفم، من ضمن ما يكون منه من الشر من قول أو فعل بأكل أو شرب أو غيرهما.
قال: "وما بين رجليه " يعني: الفرج. فمن حفظ هذين سلم من الشر كله؛ لأنه لم يبق إلا السمع والبصر، فإذا سمع أو رأى صار الفعل إلى الفم أو الفرج، فمن حفظهما كان أصل حفظه أن يحمي سمعه وبصره مما يؤديه إلى فعل الفم والفرج.
فصل:
رواية أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه: "فلا يؤذي جاره"، وليس ذلك في رواية المَقْبُري، عن أبي شريح كما سقناه، ووقع في كلام الداودي أن رواية المقبري عن أبي هريرة:"فليكرم جاره". وليس كذلك فاعلمه، وإنما فيه:"فليكرم ضيفه" كما سقناه.
فصل:
السخط، والسخط خلاف الرضا، ومعنى:"لا يلقي لها بالًا" لا يظن أنها بلغت ما هي بالغته، وقيل: إن أكثر ذلك في مجالس ذوي الأمر المطاع. وقال ابن وهب: يريد من اللفظ بالسوء لم يرد بذلك الحجة
لأمر الله في الدين، وقيل: هي الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها فيما يسخط الله.
وقوله: ("يهوي بها") أي: يسقط، وهو بفتح الياء في مستقبله ثلاثي، ومنه:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)} [النجم: 1].
وقوله: ("يزل بها") أي: يدخل بها.
قال الجوهري: تقول: زللت يا فلان زليلاً، إذا أزل في ظن أو منطق
(1)
.
وقال القزاز: زللت بالكسر يزل زللا، والاسم: الزلة والزليلى، وقرأناه بكسر الزاي.
فصل:
وما أحق من علم أن عليه حفظة موكلين به، يحصون عليه سقط كلامه وعثرات لسانه، أن يحزنه ويقل كلامه فيما لا يعنيه، وما أحراه بالسعي في أن لا يرتفع عنه ما يطول عليه ندمه من قول الزور والخوض في الباطل، وأن يجاهد نفسه في ذلك، ويستعين بالله، ويستعيذ من شر لسانه.
فصل:
وقوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". يعني: من كان يؤمن بهما الإيمان التام، فإنه ستبعثه قوة إيمانه على محاسبة نفسه في الدنيا، والصمت عما يعود عليه حسرة وندامة يوم القيامة، وكان الحسن يقول: ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسن إليه؛ فإنك إن أحسنت إليه ارتحل يحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل يذمك.
(1)
"الصحاح" 4/ 1717، مادة:(زلل).
وقال عمر بن عبد العزيز لرباح بن عبيد: بلغني أن الرجل ليظلم بالمظلمة، فما يزال المظلوم يشتم ظالمه حتى يستوفي حقه ويفضل الظالم عليه، وروى أسدٌ عن الحسن البصري قال: لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى لا يعيب أحدًا بعيب هو فيه، وحتى يبتدئ بصلاح ذلك العيب من نفسه؛ فإنه إن فعل ذلك لم يصلح عيبًا إلا وجد في نفسه عيبًا آخر، فينبغي له أن يصلحه، فإذا كان المرء كذلك كان شغله في خاصته واجبًا، وأحب العباد إلى الله من كان كذلك.
فصل:
قد أسلفنا أن المراد بـ "ما بين لحييه": اللسان، فلم يتكلم بما يكتب عليه صاحب الشمال، وبـ "ما بين رجليه" يعني: فرجه، فلم يستعمله فيما لا يحل، ودل بهذا الحديث أن أعظم البلاء على العبد في الدنيا اللسان والفرج، فمن وفي شرهما فقد وقي أعظم الشر، ألا ترى قوله:"إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يلقى لها بالًا .. " إلى آخره.
وقال أهل العلم: هي الكلمة عند السلطان بالبغي والسعي على المسلم، فربما كانت سببًا لهلاكه، وإن لم يرد ذلك الساعي، لكنها آلت إلى هلاكه؛ فكتب عليه إثم (تلك)
(1)
، [و]
(2)
الكلمة التي يكتب الله له بها رضوانه، الكلمة يريد بها وجه الله بين أهل الباطل، أو الكلمة يدفع بها مظلمة عن أخيه المسلم، ويفرج عنه بها كربة من كرب الدنيا؛ فإن الله يفرج عنه كربة من كرب الآخرة ويرفعه بها درجات يوم القيامة.
(1)
في الأصل: ذلك، وفي الهامش: صوابه تلك، وهو ما أثبتناه.
(2)
ليست في الأصل، والسياق يقتضيها.
فصل:
أفرد ابن أي الدنيا للصمت مصنفًا كبيرًا
(1)
؛ فذكر فيه حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال:"املِك عليك لسانك وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك"
(2)
. ومنها حديث أسود بن أصرم المحاربي: أوصني يا رسول الله. فذكر له بعد أن قال: أملك يدي ولساني، "لا تبسط يدك إلا إلى خير، ولا تقل بلسانك إلا معروفًا"
(3)
.
ومنها حديث معاذ: يا رسول الله، أنؤاخذ بما نقول؟ فقال:"ثكلتك أمك يا ابن جبل، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"
(4)
.
ومنها حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"
(5)
، ومنها حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:"من صمت نجا"
(6)
. وغير ذلك مما يطول.
(1)
في هامش الأصل: رويته عاليا سماعا بحلب، وهو في مجلدة.
(2)
"الصمت"(2)، ط. دار الكتاب العربي؛ تحقيق: أبي إسحاق الحويني. والحديث رواه الترمذي (2406)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(890).
(3)
"الصمت"(5)، والحديث رواه الطبراني 1/ 281 (817)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(1560).
(4)
"الصمت"(6)، والحديث رواه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(412).
(5)
"الصمت"(9)، والحديث رواه أحمد 3/ 198، والبيهقي في "الشعب" 1/ 41، وصححه الألباني "الصحيحة"(2841).
(6)
"الصمت"(10)، والحديث رواه الترمذي (2501)، وأحمد 2/ 159، وصححه الألباني في "الصحيحة"(536).
24 - باب البُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ
6479 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ: رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» . [انظر: 660 - مسلم: 1031 - فتح: 11/ 312].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّه: رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خاليا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".
وقد سلف
(1)
([وسيأتي]
(2)
في باب: فضل من ترك الفواحش، من كتاب: المحاربين)
(3)
.
وفي الباب أحاديث أخر منها: ما رواه أسد بن موسى، عن عمران ابن يزيد، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك مرفوعًا:"أيها الناس، ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، ثم تنقطع الدموع وتسيل الدماء، فتقرح العيون، فلو أن السفن أجريت فيها لجرت"
(4)
.
(1)
سلف برقم (660).
(2)
زيادة ليست في (ص 2) لا يستقيم الكلام بدونها.
(3)
من (ص 2).
قلت: سيأتي برقم (6806).
(4)
رواه أبو يعلى 7/ 161 - 162 (4134)، والبغوي في "شرح السنة" 15/ 252 - 253 (4418)، وفي "معالم التنزيل" 4/ 80 من طريق ابن المبارك عن عمران بن زيد، به.
قال البوصيري في "الإتحاف" 8/ 216 (17816/ 1): فيه يزيد الرقاشي، وهو ضعيف. وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب"(2178).
وكان عليه السلام إذا قام إلى الصلاة سمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء
(1)
، وهذِه كانت سيرة الأنبياء والصالحين، كان خوف الله أشرب قلوبهم واستولى عليهم الوجل حتى كأنهم عاينوا الحساب، وعن يزيد الرقاشي قال: يا لهفاه، سبقني العابدون، وقطع بي نوح يبكي على خطيئته، ويزيد لا يبكي على خطيئته، إنما سمي نوحًا لطول ما ناح على نفسه من البكاء
(2)
.
وذكر ابن المبارك، عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا العشب
(3)
، وكان يبكي من خشية الله ما لو كان النار على عينيه لا تحرقه، ولقد كانت الدموع اتخذت في وجهه مجرى.
وقال ابن عباس مرفوعًا: "كان مما ناجى الله موسى أنه لم يتعبد العابدون بمثل البكاء من خيفتي، أما البكاءون من خيفتي فلهم الرفيق لا يشاركون فيه"
(4)
.
وعن وهيب بن الورد، أن زكريا قال ليحيى ابنه شيئًا، فقال له: يا أبتِ إن جبريل أخبرني أن بين الجنة والنار مغارة لا يقطعها إلا كل بكاء. وقال الحسن: أوحى الله إلى عيسى أن اكحل عينيك بالبكاء إذا رأيت البطالين يضحكون. وعن وهب بن منبه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يزل أخي داود باكيًا على خطيئته أيام حياته كلها، وكان
(1)
رواه أبو داود (904)، والنسائي 3/ 13، وأحمد 4/ 25.
وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(839).
(2)
"حلية الأولياء" 3/ 50 - 51.
(3)
"الزهد"(479).
(4)
رواه الطبراني 12/ 120 - 121 (12650)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 345.
قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 203: فيه جويبر وهو ضعيف جدًّا.
يلبس الصوف، ويفترش الشعر، ويصوم يومًا ويفطر يومًا، ويأكل خبز الشعير بالملح والرماد، ويمزج شرابه بالدموع، ولم ير ضاحكًا بعد الخطيئة، ولا شاخصًا ببصره إلى السماء، حياءً من ربه، وهذا بعد المغفرة، وكان إذا ذكر خطيئته خر مغشيًا عليه، يضطرب كأنه أعجب منه، فقال: وهذِه خطيئة أخرى".
وروي عن محمد بن كعب في قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] قال: الزلفى: أول من يشرب من الكأس يوم القيامة داود وابنه - عليهما الصلاة والسلام -. قال بعضهم: أرى هذِه الخاصية؛ لشربه دموعه من خشية الله. وكان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فيقال له: قد تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه"
(1)
. وقال أبو رجاء: رأيت مجرى الدموع من ابن عباس كالشراك البالي من البكاء
(2)
.
فصل:
ومن أحاديث الباب قوله عليه السلام: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين". يعني: أهل الحجر
(3)
. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا"
(4)
من حديث أبي ذر بزيادة: "ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"
(5)
.
(1)
رواه الترمذي (2308) وابن ماجه (4267) وصححه الألباني في "المشكاة"(132).
(2)
رواه ابن أبي شيبة 7/ 224.
(3)
سلف برقم (433)، ورواه مسلم (2980).
(4)
سيأتي برقم (6637) كتاب: الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم.
(5)
رواه الترمذي (2312) وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي"(401).
ومن حديث يزيد الرقاشي، عن أنس مرفوعًا:"ابكوا"، وقد سلف للترمذي من حديث ابن عباس مرفوعًا:"عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين حرست في سبيل الله". ثم قال: حسن غريب
(1)
.
وبعضهم رواه عن ابن عباس، عن العباس، ذكره أبو موسى المديني. وله من حديث أبي هريرة:"ثلاثة أعين لا تمسها النار"
(2)
فذكرهما، وزاد:"وعين فقئت في سبيل الله". قال المديني: قوله: "فقئت " غريب لا أعرفه إلا من هذا الوجه. وذلك نحو ما روي عن عثمان بن مظعون، وقتادة بن النعمان رضي الله عنهما، وغيرهما، وروي هذا العدد أيضًا عن معاوية بن حيدة وابن عباس وأبي ريحانة إلا أنهم قالوا يدل فقء العين الغض عن محارم الله، وفي حديث أسامة بن زيد مرفوعًا:"كل عين باكية يوم القيامة إلا أربعة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين غضت عن محارم الله، وعين حرست في سبيل الله، وعين باتت ساهرة فباتت ساجدة لله تعالى"
(3)
.
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "لا يدخل النار عين بكت من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع"
(4)
. قال أبو موسى: وهو على شرط الترمذي والنسائي. ومن حديث زيد بن أرقم: قال رجل: يا رسول الله بما أتقي النار؟ قال: "بدموع عينيك فإن عينًا بكت من
(1)
رواه الترمذي (1639)، وصححه الألباني كما في "المشكاة"(3829).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك 2/ 82، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 488، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وضعفه الألباني في "الضعيفة" (5144).
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" 3/ 163.
(4)
"مسند الطيالسي" 1/ 321 (2443).
خشية الله لا تمسها النار أبدًا"
(1)
. وقال: هذا إسناد غريب، ويروى من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا
(2)
.
ومن حديث ابن مسعود مرفوعًا: "ما من عبد مؤمن يخرج من عينيه دموع وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية الله لم تصب شيئًا من خروجه إلا حرمه الله على النار"
(3)
.
ثم قال: هذا الحديث من هذا الوجه يعرف بمحمد بن أبي حميد رواه عنه جماعة، ومن حديث قتادة، عن أنس رفعه:"ما اغرورقت عين بمائها إلا حرمه الله على النار"
(4)
.
قال: ورواه عبيدة بن حسان، عن النضر بن حميد رفعه فزاد فيه:"من خشية الله إلا حرم الله جسدها على النار؛ فإن فاضت على وجهه لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة"
(5)
.
ومن حديث أنس مرفوعًا: "إن العبد ليمرض المرض فيرق قلبه فيذكر ذنوبه التي سلفت منه، فيقطر من عينه مثل رأس الذباب من الدمع، فيطهره الله من ذنوبه؛ فإن بعثه بعث مطهرًا وإن قبضه قبضه مطهرًا"
(6)
.
(1)
رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء" ص 43 (4)، والخطيب في "تاريخ بغداد" 8/ 362، قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 334، 335، (1371): لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1933): موضوع.
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "الرقة والبكاء" ص 44 (5).
(3)
رواه ابن ماجه (4197)، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1562).
(4)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 1/ 189، وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(1937).
(5)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 495.
(6)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" 5/ 240.
ومن حديث ثابت عنه: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وعزتي وجلالي لا تبكين عين عبد في الدنيا من خشيتي إلا أكثرت ضحكها في الجنة"
(1)
.
ومن حديث القاسم، عن أبي أمامة رفعه:"ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دمع من خشية الله، وقطرة دم تراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله"
(2)
. وقال أبو موسى: رواه أبو النضر، عن (أبي)
(3)
الوليد، عن القاسم، عن أبي أمامة موقوفًا.
وذكر ابن منجويه الدينوري في كتاب "الوجل" من حديث العباس مرفوعًا: "إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة اليابسة ورقها"
(4)
. قال أبو موسى: لا أعرفه إلا من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي. قلت: أخرجه ابن منجويه أيضًا من حديث الليث بن سعد أيضًا.
(1)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 489، وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(1941).
(2)
رواه الترمذي (1669)، والطبراني 8/ 235، وحسنه الألباني في "المشكاة"(3837).
(3)
من (ص 2).
(4)
رواه ابن أبي شيبة 7/ 225 والبزار 4/ 148،، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 491، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2342).
25 - باب الخَوْفِ مِنَ اللهِ عز وجل
-
6480 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ، فَقَالَ لأَهْلِهِ إِذَا أَنَا مُتُّ فَخُذُونِي فَذَرُّونِي فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَفَعَلُوا بِهِ، فَجَمَعَهُ اللهُ ثُمَّ قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى الَّذِي صَنَعْتَ؟ قَالَ: مَا حَمَلَنِي إِلاَّ مَخَافَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ» . [انظر: 3452 - فتح: 11/ 312].
6481 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الغَافِرِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رَجُلاً فِيمَنْ كَانَ سَلَفَ أَوْ قَبْلَكُمْ آتَاهُ اللهُ مَالاً وَوَلَدًا -يَعْنِي: أَعْطَاهُ- قَالَ: "فَلَمَّا حُضِرَ قَالَ لِبَنِيهِ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ. قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا -فَسَّرَهَا قَتَادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ- وَإِنْ يَقْدَمْ عَلَى اللهِ يُعَذِّبْهُ فَانْظُرُوا، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي -أَوْ قَالَ: فَاسْهَكُونِي- ثُمَّ إِذَا كَانَ رِيحٌ عَاصِفٌ فَأَذْرُونِى فِيهَا. فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي فَفَعَلُوا، فَقَالَ اللهُ كُنْ. فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: أَيْ عَبْدِي، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ -أَوْ فَرَقٌ مِنْكَ- فَمَا تَلَافَاهُ أَنْ رحمه الله». فَحَدَّثْتُ أَبَا عُثْمَانَ فَقَالَ: سَمِعْتُ سَلْمَانَ غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ "فَأَذْرُونِي فِي الْبَحْرِ". أَوْ كَمَا حَدَّثَ.
وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعْتُ عُقْبَةَ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 3478 - مسلم: 2757 - فتح: 11/ 312].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث حذيفة وأبي سعيد رضي الله عنهما السالفين: كان رجل ممن كان قبلكم قال لأهله: إذا متُّ فأحرقوني وذرّروني في البحر.
وأسلفنا أن القشيري روى في "رسالته" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"بينا رجل ممن كان قبلكم لم يعمل خيرا إلا التوحيد فقال لأهله: إذا متُّ فأحرقوني" وفيه: "ما حملك على ما فعلت قال: استحياء منك يا رب فغفر له"
(1)
.
وذكر البخاري في باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، قال حذيفة: كان نباشا
(2)
فغفر له لشدة مخافته، فأقرب الوسائل إلى الله خوفه، وأن لا يأمن المؤمن مكره. قال (خالد)
(3)
الربعي: وجدت فاتحة زبور داود: رأس الحكمة خشية الرب
(4)
، وكان السلف الصالح قد (أشرب)
(5)
الخوف من الله قلوبهم، واستقلوا أعمالهم ويخافون أن لا تقبل منهم مع مجانبتهم للكبائر.
وروي عن عائشة رضي الله عنها: أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] قال: "يا ابنة الصديق هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويفرقون أن لا يقُبل منهم"
(6)
. وقال مطرف بن عبد الله: كاد خوف النار يحول بيني وبين أن أسأل الله الجنة. وقال بكر لما نظر إلى أهل عرفات: ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت معهم
(7)
. فهذِه صفة العلماء بالله الخائفين له يعدون أنفسهم من الظالمين الخاطئين وهم أنزاه (أبرار)
(8)
مع
(1)
"الرسالة القشيرية" ص 298. وانظر ما سلف برقم (3452).
(2)
سلف برقم (3452)، كتاب الأنبياء.
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 91 (34241).
(4)
في الأصل: أشرأب، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(5)
في الأصل: (خلف)، والمثبت هو الصواب كما في مصادر التخريج.
(6)
رواه الحميدي 1/ 298.
(7)
رواه البيهقي في "الشعب" 6/ 302.
(8)
في الأصل: (براء من).
المقصرين، وهم أكياس مجتهدون لا يدلون عليه بالأعمال، فهم مروعون خاشعون وجلون معترفون.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: وددت أني انقلبت روثة لا أنسب إلا إليها فيقال عبد الله بن روثة وإن الله قد غفر لي ذنبًا واحداً
(1)
.
وقال الحسن البصري: يخرج من النار رجل بعد ألف عام، وليتني كنت ذلك الرجل، لقد شهدت أقوامًا كانوا أزهد فيما أحل لهم منكم فيما حرم عليكم ولهم كانوا أبصر بقلوبهم منكم بأبصاركم، ولهم كانوا أشفق أن لا تقبل حسناتهم منكم أن لا تؤخذوا بسيئاتكم. وقال حكيم من الحكماء: إذا أردت أن تعلم قدرك عند الله فاعلم قدر طاعة الله في قلبك. وقال ميمون بن مهران: ما فينا خير إلا نظرنا إلى أقوام ركبوا الجرائم وعففنا عنها وظننا أن فينا خيرًا وليس فينا خير.
فصل:
فإن قلت: كيف غفر لهذا الذي أوصى أهله بإحراقه، وقد جهل قدرة الله على إحيائه، وذلك أنه قال:"إن يقدر عليه يعذبه". وقال في رواية أخرى: "فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه"؟
قلت: اختلف الناس في تأويل هذا الحديث كما سلف، وعبارة الطبري: اختلف الناس في تأويله، فقال بعضهم: أما ما كان من عفو الله عما كان منه في أيام صحته من المعاصي فلندمه عليها وتوبته منها عند موته؛ ولذلك أمر ولده بإحراقه وتذريره في البر والبحر خشية من عقاب ربه، والندم توبة. ومعنى رواية من روى: " (فوالله)
(2)
لئن قدر الله علي" أي: إن ضيق الله عليه؛ كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}
(1)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 33/ 168 - 169.
(2)
من (ص 2).
[الطلاق: 7] وقوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] لم يرد بذلك وصف بارئه بالعجز عن إعادته حيًّا، يوضحه قوله حين أحياه ربه تعالى فقال:"ما حملك على الذي صنعت" قال: "ما حملني إلا مخافتك".
وفي حديث أبي سعيد: "ما حملك على ما فعلت" قال: "مخافتك" أو "فرق منك" وبالخوف والتوبة نجا من عذابه تعالى.
وقال آخرون في معنى: "لئن قدر الله علي" القدرة التي هي خلاف العجز، وكان عنده أنه إذا أحرق في البر والبحر أعجز ربه عن إحيائه، قالوا: وإنما غفر له جهله بالقدرة؛ لأنه لم يكن تقدم من الله في ذلك الزمان فإنه لا يغفر الشرك به، وليس في العقل دليل على أن ذلك غير جائز في حكمة الله، بل الدليل فيه على أنه ذو الفضل والإحسان والعفو عن أهل الآثام، وإنما نقول: لا يجوز أن يغفر الشرك بعد قوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فأما جواز غفران الله ذلك لولا الخبر في كتابه فهو كان أولى بفضله والأشبه بإحسانه أنه لا يضره كفر كافر، ولا ينفعه إيمان مؤمن.
وقال آخرون: غفر له وإن كان كفرًا من قوله، من أجل أنه قاله على جهل منه بخطئه، وظن أن ذلك صواب، قالوا: وغير جائز في عدل الله وحكمته أن يسوي بين من أخطأ وهو يقصد الصواب، وبين من تعمد الخطأ والعناد للحق في العقاب.
وقال آخرون: إنما غفر له وإن كان كفرًا ممن قصد كفره وهو يعقل ما يقول؛ لأنه قاله وهو لا يعقل ما يقول، وغير جائز وصف من نطق بكلمة كفر وهو لا يعلمها كفرًا بالكفر، وهذا قاله وقد غلب على فهمه من الجزع الذي كان لحقه؛ لخوفه من عذاب الله وهذا نظير
الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي يدخل الجنة آخر من يدخلها، فيقال له: إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها فيقول للفرح الذي يدخله فيقول: يا رب، أنت عبدي
(1)
وأنا ربك مرتين، قالوا: فهذا القول لو قاله على فهم منه بما يقول كان كفرًا، وإنما لم يكن منه كفرًا؛ لأنه قاله وقد استخفه الفرح من بدائه أن يقول: أنت ربي وأنا عبدك، فلم يكن مأخوذًا بما قال من ذلك، ويشهد لصحة هذا المعنى قوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وسيأتي مذهب الأشعري في باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ} [الفتح: 15] من كتاب الاعتصام
(2)
فهو حديث أكثر الناس فيه القول، وادعت المعتزلة أنه إنما غفر له من أجل توبته التي تابها، فوجب على الله قبولها عقلاً، ومذهب أهل السنة أن الرب لا يجب لعبده عليه شيء، وإنما هو من باب التفضل والإحسان. والشيخ أبو الحسن الأشعري يقطع بقبول التوبة سمعًا، ومن سواه من أهل السنة يجوزه كسائر الطاعات، وعلى هذا يجوز الغفران بفضله عليه بقبول توبته. وقال قوم: غفر له بأصل توحيده الذي لا يضر معه معصية، وعُزي إلى المرجئة.
فصل:
قوله: ("فذروني") أي: فرقوني وهو بضم الذال ثلاثي متعد.
(1)
في هامش الأصل: الذي أعرفه أن هذا قاله الذي سقط على بعيره في أرض فلاة، وعليه طعامه وشرابه وأما هذا فإنه قال:"أتسخر مني وأنت الملك" والله أعلم.
(2)
في هامش الأصل: إنما هو في كتاب التوحيد، وهو غير كتاب الاعتصام، وقد وقع له ذلك غير مرة، والذي ظهر لي أن الكتابين عنده واحد، واسمه كتاب الاعتصام، وهذا ليس في روايتنا، والله أعلم.
قال الجوهري وغيره: يقول: ذررت الملح والدواء والحب أذروه ذرًّا، أي: فرقته
(1)
. ومنه الذريرة، ويصح فتح الذال من ذرت الريح الشيء تذروه أي: تفرقه، ومنه قوله تعالى:{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45]. وقال ابن التين: قرأناه بالفتح، ورويناه بالضم.
وقوله: ("فلما حضر") أي: حضره الموت.
وقوله: ("فإنه لم يبتئر عند الله خيرًا". فسرها قتادة: لم يدخر) وهو تفسير صحيح. قال في "الصحاح" وغيره: بأرت الشيء، وابتأرته: ادخرته، (والبئيرة)
(2)
: الذخيرة
(3)
، وكان الأصمعي والكسائي يقولان فيه: لم يقدم خيرًا. وكان غيرهما يقول معناه أنه لم يقدم خيرًا لنفسه حياته. وقال: إن أصل الابتئار: الإخفاء. يقال منه: بأرت الشيء وابتأرته ابتئارًا، ومنه سميت الحفرة البؤرة، وفيه لغتان: ابتأرت وائتبرت، ومصدره ابتئارًا. وقال صاحب "العين":(البئرة بوزن)
(4)
فعلة: ما دخرت من شيء
(5)
.
وقوله: ("إذا مت فأحرقوني"). هو رباعي من أحرق فهو مقطوع الألف. والفحم: جمع فحمة، وقد تحرك حاؤه.
وقوله: ("فاسحقوني"). هو ثلاثي وألفه ألف وصل، وكذلك "فاسهكوني" ثلاثي أيضًا.
قال الخطابي: السهك دون السحق، وهو أن يفت الشيء أو يدق
(1)
"الصحاح" 2/ 663.
(2)
في هامش الأصل: حاشية: على فَعِيلة ..
(3)
"الصحاح" 2/ 583.
(4)
في (ص 2): (التبئرة كون).
(5)
"العين" 8/ 290.
قطعًا صغارًا
(1)
. وقال الجوهري: السهك لغة في السحق
(2)
.
وقوله: ("فإذا كان ريح عاصف فأذروني"). يصح أن يقرأ موصول الألف من ذروت الشيء: فرقته. ويصح أن يكون أصله رباعيًا فتقطع ألفه من قولهم: أذرت العين دمعها، وأذرت الرجل عن (قوسه)
(3)
أي: رميته. ذكره ابن التين. وقال: قرأناه بقطع الهمزة.
وقوله: "فما تلافاه أن رحمه". أي: تلقاه برحمته.
فصل:
روى الحافظ أبو موسى المديني في "ترغيبه وترهيبه" من حديث سليمان بن عمرو، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن واثلة بن الأسقع مرفوعًا:"من خاف الله تعالى خوف الله تعالى منه كل شيء، ومن لم يخف الله تعالى خوفه من كل شيء"
(4)
.
ثم قال: هذا حديث يعرف لسليمان هذا وهو النخعي، وقد رواه عن إسحاق بن وهب العلاف غير محمد بن أحمد بن معدان أيضًا كذلك، ورواه أبو حنيفة الواسطي، عن إسحاق، عن علي بن المبارك، وكان الأول أصح، ثم ساقه من حديث علي مرفوعًا كذلك، ثم قال: قيل: تفرد به القاسم وقد رواه غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد، لم يذكر فيه عليًّا، ويروى بإسناد منقطع أيضًا مرفوعًا، ويروى عن
(1)
"أعلام الحديث" 3/ 2249.
(2)
"الصحاح" 4/ 1592، مادة:(سهك).
(3)
كذا بالأصل، ولعلها: فرسه.
(4)
رواه القضاعي في "مسند الشهاب" 1/ 265 (429) من طريق عامر بن المبارك العلاف، عن سليمان بن عمرو، به. وذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" وعزاه إلى أبي الشيخ في "الثواب" وقال: ورفعه منكر. وكذلك قال الألباني في "ضعيف الترغيب"(1972)، وانظر "السلسلة الضعيفة"(485).
عبد الله بن مسعود موقوفًا.
ثم ساق من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "إنما سلط على ابن آدم من خافه ابن آدم، فلو أن ابن آدم لم يخف إلا الله لم يسلط عليه غيره، وإنما وكل ابن آدم إلى من رجاه، فلو أن ابن آدم لم يرج إلا الله لم يكله إلى غيره"
(1)
.
ثم ساقه من حديث أبي كأهل
(2)
قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعلم يا أبا كأهل أنه لن يغضب الله على من كان في قلبه مخافته، ولا تأكل النار منه هدبة"
(3)
. ثم قال: هذا حديث لا يعرف إلا بهذا الإسناد من حديث الفضل بن عطاء.
فصل:
روى الجُوزي من حديث معاذ مرفوعًا: "يا معاذ، إن المؤمن لا ينام قلبه، ولا يسكن روعه، ولا يطمئن من اضطرابه، يخاف جسر جهنم، المؤمن التقوى رقيته، والقرآن دليله، والخوف محجته، والشوق مطيته، والوجل شعاره"
(4)
. الحديث.
(1)
أورده المتقي الهندي في "كنز العمال"(5865) وعزاه للحكيم الترمذي، وقال الألباني في "الضعيفة": موضوع.
(2)
هو أبو كاهل الأحمسي، ويقال البجلي، قال ابن عبد البر: له صحبة ورواية، ذُكِر له حديث منكر طويل، فلم أذكره. "الاستيعاب" 4/ 301 (3173)، وانظر:"أسد الغابة" 6/ 260 (6186).
(3)
رواه العقيلي في "الضعفاء" 3/ 1502 ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات"(1650) من طريق الفضل بن عطاء، عن الفضل بن شعيب، عن أبي منظور، عن أبي معاذ، عن أبي كاهل، به. قال العقيلي: إسناده مجهول فيه نظر، لا يُعرف إلا من هذا الوجه. أهـ. وذكره الذهبي في "الميزان" 4/ 274 وقال: سند مظلم، والمتن باطل.
(4)
لم أقف عليه.
ومن حديث أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام دخل على شاب وهو في الموت فقال: "كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال عليه السلام:"لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف"
(1)
.
ومن حديث عبد الله بن مصعب بن خالد بن زيد بن خالد الجهني، عن أبيه، عن جده زيد بن خالد رضي الله عنه قال: تلقفت هذِه الخطبة من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، سمعته يقول، فذكر حديثًا طويلًا فيه:"وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين"
(2)
.
فصل:
عند السمرقندي من رواية الحسن، عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقى لا يدري ما الله قاض فيه". الحديث
(3)
.
(1)
رواه الترمذي (983)، وابن ماجه (4261) وقال الترمذي: حسن غريب، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
(2)
عزاه العجلوني في "كشف الخفاء"(1255) للعسكري، وقال: ورواه أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعًا. وأورده المتقي الهندي في "كنز العمال"(43587) وعزاه للبيهقي في "الدلائل"، وابن عساكر عن عقبة بن عامر، وللسجزي في "الإبانة" عن أبي الدرداء، ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود موقوفًا. وانظر:"السلسلة الضعيفة"(2059).
(3)
ذكره الديلمي في "الفردوس"(4261) عن جابر، وقال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار" (3889): ولم يخرجه ولده في "مسند الفردوس". ورواه البيهقي في "الشعب"(10581) من طريق الحسن البصري، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا.
وروي عن منصور بن عمار قال: كنت تحت منبر عدي بن أرطاة فقال: ألا أحدثكم بحديث ما بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن لله تعالى ملائكة في السماء السابعة، سجود منذ خلقهم الله تعالى إلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من مخافة الله". الحديث
(1)
.
فصل:
قال أبو الليث: علامة الخوف من الله تتبين في سبعة أشياء:
أولهن: في لسانه، فيمنعه من الكذب والغيبة وكلام الفضول، ويجعل لسانه مشغولًا بالذكر والتلاوة ومذاكرة أهل العلم.
ثانيها: أن يخاف من أمر بطنه، فلا يدخل بطنه إلا قليلا حلالاً، ويأكل مقدار حاجته.
ثالثها: أن يخاف من أمر بصره، فلا ينظر إلى الحرام ولا إلى الدنيا بعين الرغبة، وإنما يكون نظره إليها على وجه العبرة.
رابعها: أن يخاف من أمر سمعه، حتى لا يسمع ما لا يعنيه.
خامسها: أن يخاف من أمر قدميه، فلا يمشي في غير طاعة الله، وإنما يمشي في طاعته.
سادسها: أن يخاف من أمر يديه، فلا يمد يده إلى الحرام، وإنما يمدها إلى ما فيه طاعة الله.
(1)
رواه ابن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(260) وفيه أن عدي بن أرطاة قال: سمعتُ رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ما بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1988).
سابعها: أن يخاف من أمر قلبه، فيخرج منه العداوة والبغضاء وحسد الإخوان، ويدخل فيه النصيحة، وشفقة المسلمين، حتى يكون خائفًا في أمر طاعته، فيجعل طاعته خالصًا لوجهه، ويخاف الرياء والنفاق، فإذا فعل ذلك فهو من الذين قال الله تعالى فيهم:{وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35].
26 - باب الانْتِهَاءِ عَنِ المَعَاصِي
6482 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَا النَّجَاءَ. فَأَطَاعَتْهُ طَائِفَةٌ فَأَدْلَجُوا عَلَى مَهْلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْهُ طَائِفَةٌ فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ فَاجْتَاحَهُمْ» . [3478 - مسلم: 2757 - فتح: 11/ 316].
6483 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا» . [انظر: 3426 - مسلم: 2284 - فتح: 11/ 316].
6484 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ» . [انظر:10 - مسلم: 40 - فتح: 11/ 316].
ذكر فيه أحاديث:
أحدها: حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فذكر حديث: "وأنا النذير العريان".
ثانيها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الفَرَاشُ وهذِه الدَّوَابُّ التِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا" الحديث.
ثالثها: حديث عبد الله بن عمرو: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ".
وكلها أمثال ضربها الشارع لأمته؛ لينبههم بها على استشعار الحذر خوف التورط في محارم الله والوقوع في معاصيه، ومثل ذلك لهم بما عاينوه وشاهدوه من أمور الدنيا، فيقرب ذلك من إفهامهم، ويكون أبلغ في موعظتهم، فمثل عليه السلام اتباع الشهوات المؤدية إلى النار بوقوع الفراش في النار؛ لأن الفراش من شأنه إتباع (حر)
(1)
النار حتى يقع فيها.
فكذلك متبع شهوته يئول به ذلك إلى عذاب النار، وشبه جهل راكب الشهوات بجهل الفراش؛ لأنها لا تظن أن النار تحرقها حتى تقتحم فيها.
فصل:
و ("العريان"): رجل من خثعم حمل عليه رجل يوم ذي الخلصة.
قال ابن السكيت: هو عوف بن عامر، فقطع يده ويد امرأته
(2)
، فرجع إلى قومه، فضرب عليه السلام المثل لأمته؛ لأنه تجرد لإنذارهم لما يصير إليه من اتبعه من كرامة [الله]
(3)
، وبما يصير إليه من عصاه من نقمته وعذابه، يجرد من رأى من الحقيقة ما رأى النذير العريان المذكور حتى ضرب به المثل في تحقيق الخبر، ولم يذكر ابن بطال غيره
(4)
.
وزعم ابن الكلبي أن النذير العريان هي امرأة رقبة بن عامر بن كعب لما خشي زوجها ابن المنذر بن ماء السماء لقتله أولاد أبي دواد جار
(1)
في (ص 2): (ضوء).
(2)
"إصلاح المنطق" لابن السكيت ص 323.
(3)
ليست في الأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال".
(4)
"شرح ابن بطال" 1/ 194 - 195.
المنذر فركبت جملًا (ولحقت)
(1)
بقومها وقالت: أنا النذير العريان. ويقال: أول من فعله إبرهة الحبشي لما أصابته الرمية بتهامة حين غزا البيت (ورجع إلى اليمن وقد سقط لحمه.
وقال الفضل بن سلمة: إنما يقال النذير العريان)
(2)
؛ لأن الرجل إذا رأى الغارة فجئتهم وأراد إنذار قومه تجرد من ثيابه وأشار بها؛ ليعلم أن قد فجئهم أمر، ثم صار مثلًا لكل أمر يخاف بمفاجأته، وفي "المختلف والمؤتلف" لأبي بشر الآمدي: زنير -بالنون- بن عمرو الخثعمي الذي يقال له النذير العريان، وكان ناكحًا في آل زبيد فأرادت زبيد أن تغزو خثعمًا فخشوا أن ينذر قومه، فحرسه أربعة نفر، فصادف غرة بعد أن رمى ثيابه، وكان من أشد الناس عدوًّا. وقال أبو عبد الملك: هذا مثل قديم، وذلك أن رجلاً لقي جيشًا فجردوه وعروه، فجاء إلى المدينة فقال: إني رأيت الجيش -بعيني- وإني أنا النذير لكم وتروني عريانا، جردني الجيش، فالنجاء النجاء.
فصل:
وقوله: ("العريان") هو بمثناه تحت. قال الخطابي: رواه محمد بن خالد بباء موحدة فإن كان محفوظًا فمعناه: الفصح بالإنذار ولا يكني ولا يوري، يقال: رجل عربان أي: فصيح اللسان ويقال: أعرب الرجل عن حاجة: إذا أفصح عنها. قال: وروي العريان، ومعناه: أن الرَّبيئة
(3)
إذا كان على مركب عال فبصر بالعدو ونزع ثوبه فأشاح به
(1)
غير واضحة بالأصل، والمثبت من "فتح الباري".
(2)
من (ص 2).
(3)
الربيئة: العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمه عدو.
فنذر القوم، فيبقى عريانًا
(1)
.
فصل:
قوله: ("فالنجاء النجاء"): هو ممدود، قال ابن فارس: يقال: نجا الإنسان ينجو نجاة، ومن السرعة نجاء، وناقة ناجية ونجاة: سريعة
(2)
. وهو منصوب على الإغراء أي: الزموا النجاء، والمعنى: أسرعوا.
فصل:
وقوله: ("فادلجوا"): هو بتشديد الدال، كذا ضبطه الدمياطي، قال الجوهري: أدلج إذا سار أول الليل، رباعي
(3)
، وكذلك ذكر الخطابي
(4)
وقال ابن فارس: أدلج القوم، إذا قطعوا الليل كله سيرًا، وادلجوا بتشديد الدال: إذا ساروا من آخره
(5)
.
وقال الداودي: أدلجوا: ساروا في طائفة من الليل. قال ابن التين: ورويناه رباعيًّا على أنه بقطع الهمزة.
فصل:
وقوله: ("على مهلهم") هو بفتح الميم والهاء.
وقوله: ("فصبحهم الجيش") أي: أتاهم صباحًا.
("فاجتاحهم") أي: استأصلهم، ومنه الجائحة التي تفسد الثمار، وأصله من جُحْتُ الشيء أجُوْحُهُ أي: أستأصله.
(1)
"أعلام الحديث" 3/ 2250 - 2251.
(2)
"مجمل اللغة" 2/ 858، مادة (نجو).
(3)
"الصحاح" 1/ 315، مادة (دلج).
(4)
"أعلام الحديث" 3/ 2251.
(5)
"مجمل اللغة" 1/ 333، مادة:(دلج).
فصل:
والفراش، قال النحاس في "معانيه": صغار البق. وفي "تفسير الطبري" نحوه كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضًا
(1)
. وكذا قال الفراء في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)} [القارعة: 4] بزيادة وكذلك الناس يوم القيامة
(2)
. وقال الطبري: ليس هو ببعوض ولا ذبان
(3)
. وهو قول أبي عبيد. وقال ابن سيده في "محكمه": دواب مثل البعوض واحدتها: فراشة
(4)
. وقال أبو نصر: هي التي تطير وتتهافت في السراج، وفي المثل: أطيش من فراشة، والجمع: فراش
(5)
. وقال القزاز: تطير بالليل، ومنه: أحد من فراشة، ويقال للرجل الخفيف فراشة تشبيهًا بذلك، وفي "مجمع الغرائب": هي ما يتهافت في النار من الطيارات، وفي "مغرب المطرزي" هو: غوغاء الجراد، وهو ما يتفرش أي: يبسط جناحيه، وسموا دود القز فراشًا؛ لأنها تطير كذلك إذا خرجت من الفيلق
(6)
.
وقال الداودي: هو طائر فوق البعوض.
فصل:
وقوله: ("وأنا آخذ بحجزكم"): هو جمع حجزة: وهو معقد الإزار وحجزة السراويل التي فيها التكة. وقال الداودي: يعني مرابط
(1)
"تفسير الطبري" 12/ 676.
(2)
"معاني القرآن" 3/ 286.
(3)
"تفسير الطبري" 12/ 676.
(4)
"المحكم" 8/ 38.
(5)
"الصحاح" 3/ 1015.
(6)
"المغرب" 2/ 132.
السراويل، كأنه يأخذ الإنسان بها من ورائه قد أشفى على السقوط فمن بين غالب له مقتحم، ومن بين ناج، والجيم يصح سكونها وفتحها. قال ابن التين: وبالفتح قرأناه.
فصل:
قوله: ("والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه") أي: قطعه وتباعد من فعله، معنى المهاجر: التام الهجرة فلا هجرة أعظم من هجر المحرمات، كما قال عليه السلام:"إن جهاد النفس أكبر من جهاد العدو".
فصل:
تحذلق بعض الشراح فقال: ينظر في دخول قوله عليه السلام: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" في هذا الباب، وقد أغفل منه قوله:"والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" فحذف موضع الحاجة ثم شرع يسأل.
27 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا»
6485 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» . [6637 - فتح: 11/ 319].
6486 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» . [انظر: 93 - مسلم: 2359 - فتح: 11/ 319].
ذكر فيه من طريق أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما.
وروى (سنيد)
(1)
، عن هشيم، عن كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فإذا قوم يتحدثون ويضحكون، فقال:"أكثروا ذكر الموت، أما والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا".
وخشية الله تعالى إنما تكون على مقدار العلم به، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ولما لم يعلم أحد كعلمه عليه السلام لم يخش كخشيته، فمن نور الله قلبه وكشف الغطاء عن بصيرته، وعلم بحب ما هو لله تعالى من النعم، وما تجب عليه من الطاعة والشكر وادكر بما يستقبل من أهوال يوم القيامة، وما يلقى العباد في تلك المواقف من الشدائد، وما يعاينوه من مسائلة الله عباده عن مثاقيل الذر وعن النقير والقطمير، كان حقيقًا بطول الحزن وكثرة
(1)
في الأصل: (شبل).
البكاء، ولهذا قال أبو ذر رضي الله عنه: لو تعلمون العلم لما ساغ لكم طعام ولا شراب، ولا نمتم على الفرش، ولا أحببتم النساء، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون. وقال عبد الله بن عمرو: ابكوا، فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا، فلو تعلمون العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره، ولبكى حتى ينقطع صوته.
وقال الفضيل: بلغني عن طلحة أنه ضحك يومًا فوثب على نفسه فقال: فيم تضحك؟ إنما يضحك من قطع الصراط، ثم قال: آليت على نفسي أن لا أكون ضاحكًا حتى أعلم متى تقع الواقعة. فلم ير ضاحكًا حتى صار إلى الله.
وقال الحسن: يحق لمن عرف أن الموت مورده، والقيامة موعده وأن الوقوف بين يدي الله تعالى مشهده، أن يطول في الدنيا حزنه. وقال سفيان: في قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] قال: الحزن الدائم في القلب
(1)
، وقال: إنما الحزن على قدر البصر، وقال بعضهم: الحزن والخشية من مواريث القلوب التي ينال بها ما قبلها من الأعمال، فمن رام أن يقيم فرضه تامًّا فيصلي لله بكمال الصلاة، ويصوم بكمال الصيام، ويؤدي كذلك سائر الفرائض، ويقوم بالحق على نفسه وأهله ومن يسأل عنه في مخالطته ومداخلته، ويقيم ما أمر به في لسانه وسمعه وبصره وجميع جوارحه حتى يدخل في قوله تعالى:{الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] وجد نفسه عن ذلك عاجزًا مقصرًا، فإذا رأى بعين جلية وعلم قرب أجله وعظم خطيئته، وأن الوقوف بين يدي الله تعالى من ورائه، حزن على
(1)
"تفسير الثوري" ص 205.
نفسه بتخلفه عن السابقة التي يسمعها لغيره، ووجب عليه الجد في أمره واستجلاب معونة الله بالاعتصام به.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
وقال مطرف بن عبد الله: دع أعمال الشر، فإن في الخير شرًّا كثيرًا، فلو لم يكن لنا ذنوب إلا أن الله تعالى يؤاخذنا بصحة أعمالنا وإتقانها وإحكامها وإصلاحها وصوابها؛ لكان في هذا شغل كثير لمن يعقل؛ وقد سلف في كتاب: الإيمان، في باب: خوف العبد من أن يحبط عمله ولا يشعر، ما يشبه هذا المعنى.
28 - باب حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ
6487 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» . [مسلم: 2823 - فتح: 11/ 320].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ".
(هذا الحديث أخرجه مسلم بلفظ: "حفت" بدل: "حجبت"
(1)
، وهو بمعناه أي: بينه وبينها هذا الحجاب، فإذا فعله دخلها، وهو دال على أن احتمال المكاره والمشاق بأمر وراءه الجنة سهل يسير)
(2)
.
وهذا من جوامع الكلم وبديع البلاغة في ذم الشهوات والنهي عنها والحض على طاعة الله وإن كرهتها النفوس وشق عليها؛ لأنه إذا لم يكن يوم القيامة غير الجنة والنار ولم يكن بد من المصير إلى إحداهما فوجب على المؤمنين السعي فيما يدخل الجنة ويبعد من النار وإن شق ذلك عليهم؛ لأن الصبر على النار أشق، فخرج هذا الخطاب منه بلفظ الخبر، وهو من باب النهي والأمر.
(1)
مسلم (2823)، كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها.
(2)
من (ص 2).
29 - باب «الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ»
6488 -
حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْجَنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ» . [فتح: 11/ 321].
6489 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَهُ الشَّاعِرُ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ» . [انظر: 3841 - مسلم: 2256 - فتح: 11/ 321].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وذكره باللفظ المذكور.
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالَهُ
الشاعر: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ".
هذان الحديثان ذكرهما ابن بطال في الباب الذي قبله. وحديث الترجمة والحديث الأول دليل واضح على أن الطاعات الموصلة إلى الجنة، والمعاصي المقربة من النار، وقد تكون في أيسر الأشياء.
ألا ترى قوله عليه السلام: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالا يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه"
(1)
.
(1)
رواه ابن ماجه (3969)، ومالك في "الموطأ" ص 609، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه"(3205).
فينبغي للمؤمن أن لا يزهد في قليل من الخير يأتيه، ولا يستقل قليلا من الشر يجتنيه فيحسبه هينًا وهو عند الله عظيم؛ فإن المؤمن لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها، ولا يعلم السيئة التي يسخط الله عليه بها.
وقد قال الحسن البصري: من تقبلت منه حسنة واحدة دخل الجنة.
فصل:
وقوله: ("أصدق
(1)
بيت .. ") إلى آخره، روينا من طريق ابن إسحاق، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عمن حدثه عن عثمان رضي الله عنه قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه الصحابة من البلاء وهو يغدو أو يروح في أمان من الوليد بن المغيرة رد عليه جواره، ثم انصرف ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في مجلس من مجالس قريش وهو ينشدهم، فجلس عثمان معهم فقال:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
فقال عثمان: صدقت
وكل نعيم لا محالة زائل.
فقال عثمان: كذبت؛ نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: يا معشر قريش والله ما كان يؤتى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: هذا سفيه من سفهائنا فلا تجدن في نفسك من قوله. فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام ذلك الرجل فلطم عينه
(2)
.
وروينا في "الشعراء" تأليف أبي زرعة أحمد بن الحسن الرازي، عن أبي بكر بن يوسف بن إسحاق بن بهلول الأزرق، ثنا جدي، عن أبيه،
(1)
مكررة في الأصل.
(2)
انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 391 - 392.
عن أبي شيبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر حكمًا، وأصدق بيت تكلمت به العرب: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"
(1)
.
فصل:
(لبيد هذا عامري ثم جعفري صحابي شاعر مشهور، وفد في وفد بني جعفر بن كلاب فأسلم وحسن إسلامه، ولم يقل شعرًا منذ أسلم، توفي عام المجاعة)
(2)
.
قال ابن بطال: والمراد بقوله: ("ألا كل شيء .. ") إلى آخره الخصوص؛ لأن كل ما قرب من الله تعالى فليس بباطل، وإنما أراد أن كل شيء ما خلا الله باطل من أمر الدنيا الذي لا يئول إلى طاعة الله، ولا يقرب منه تعالى فهي باطل
(3)
.
وكذا قال الداودي: أراد به ما عدا الأنبياء والرسل والملائكة والكتب والبعث حق، وأراد ما خلا الله: ما لم يكن لله، قال: وقوله: ("بيت") وفي رواية "كلمة" فإن أراد بالبيت كلمة فهي كلمة وإن أراد به الشطر؛ فلأن بعضه يدل على بعض، والزيادة مقبولة والذي في اللغة أن الكلمة بطولها.
(1)
رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 23/ 300.
(2)
من (ص 2).
(3)
"شرح ابن بطال" 10/ 198.
30 - باب لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَلَا يَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ
6490 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ» . [مسلم: 2963 - فتح: 11/ 322].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ".
هذا الحديث جامع لمعاني الخير كما قال الطبري، وذلك أن العبد لا يكون بحال من عبادة ربه مجتهدًا فيها إلا وجد من هو فوقه في ذلك، فمتى طلب نفسه باللحاق بمن هو فوقه استقصر حاله التي هو عليها فهو أبدًا في زيادة تقربه من ربه.
ولا يكون على حالة خسيسة من دنياه إلا وجد من أهلها من هو أخس منه حالاً؛ فإذا تأمل الشخص ذلك وتفكره وتبين نعم الله عليه، علم أنها وصلت إليه، ولم تصل إلى كثير من خلقه، فضله الله تعالى بها من غير أمر أوجب ذلك له على خالقه ألزم نفسه من الشكر عليها؛ أن وفق لها ما يعظم به اغتباطه في معاده.
31 - باب مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ أَوْ بِسيئةٍ
6491 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا جَعْدٌ أَبُو عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِى عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً» . [مسلم: 131 - فتح: 11/ 323].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى قَالَ:"إِنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً".
الشرح:
(هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا في الإيمان
(1)
، وهو حديث عظيم من قواعد الإسلام، وهو من لطف الله بعبده، ورفقه به، واعتنائه بقوله "عنده" ولم يذكر ذلك في السيئة بل قال:"كتبها الله له واحدة" أي: عليه، وأكد بـ "كاملة"؛ لشدة الاعتناء، وكذا في السيئة المتروكة، ولا شك أنه)
(2)
إذا حدث العبد نفسه بالمعصية لم يؤاخذ؛ فإذا عزم
(1)
برقم (131) باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب.
(2)
ما بين القوسين من (ص 2).
فقد خرج عن حديث النفس ويصير من أعمال القلب، فإن عقد النية على الفعل فحينئذٍ يأثم.
وبيان الفرق بين الهم والعزم: أنه لو حدث نفسه في الصلاة وهو فيها بقطعها لم تنقطع، فإذا عزم انقطعت.
وسئل سفيان بن سعيد: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ قال: إذا عزم، والملكان يجدان ريح الحسنات والسيئات إذا عقد القلب.
وحديث الباب حديث شريف بين فيه الشارع مقدار فضل الله تعالى على عباده، كما أسلفناه، بأن جعل هموم العبد بالحسنة وإن لم يعملها حسنة، وجعل همومه بالسيئة إن لم يعملها حسنة، وإن عملها كتبت سيئة واحدة، وإن عمل الحسنة كتبت عشرًا، ولولا هذا التفضل العظيم، لم يدخل أحد الجنة؛ لأن السيئات من العباد أكثر من الحسنات، فلطف الله بعباده بأن ضاعف لهم الحسنات دون السيئات، وإنما جعل الهم بالحسنة حسنة؛ لأن الهم بالخير هو فعل القلب لعقد النية على ذلك.
فإن قلت: فكان ينبغي على ذلك أن تكتب لمن هم بالشر ولم يعمله سيئة؛ لأن الهم بالشر عمل من أعمال القلب للشر.
قيل: ليس كما توهمت، ومن كف عن أعمال الشر فقد فسخ اعتقاده للسيئة باعتقاد آخر نوى به الخير وعصى هواه المريد للشر، فذلك عمل القلب من أعمال الخير فجوزي على ذلك بحسنة، وهذا كقوله عليه السلام:"على كل مسلم صدقة" قالوا: فإن لم يفعل. قال: "فليمسك عن الشر فإنه صدقة".
كما سلف في الأدب في باب: كل معروف صدقة
(1)
.
(1)
سلف برقم (6022).
وحديث ابن عباس معناه مخصوص لمن هم بسيئة فتركها لوجه الله، (كما في "صحيح مسلم":"إنما تركها من جراي")
(1)
، وأما من تركها مكرهًا على تركها؛ بأن يحال بينه وبينها فلا تكتب له حسنة ولا يدخل في معنى الحديث.
قال المازَرِي: مذهب ابن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه مأثوم في اعتقاده وعزمه، وقد يحمل ما وقع من هذِه الأحاديث وشبهها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما مر ذلك على فكره من غير استقرار ويسمي هذا الهم، ويفرق بين الهم والعزم، ويكون معنى قوله في مسلم:"لم تكتب عليه" على هذا القسم الذي هو خاطر غير مستقر، وخالفه كثير من الفقهاء و (المحدثين)
(2)
أخذًا بظاهر الأحاديث ويحتج للقاضي بقوله عليه السلام: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما" الحديث، وفيه:"لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه" فقد جعله مأثومًا بالحرص على القتل، وهذا قد يتأولونه على خلاف هذا. فيقولون: قد قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما"
(3)
فالإثم إنما يتعلق بالفعل والمقاتلة، وهو الذي وقع عليه اسم الحرص، ويتعلق بالكلام على الهم ما في قصة يوسف
وهو قوله: {وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] أما على طريقة الفقهاء فذلك مغفور لهم غير مؤاخذ به إذا كان شرعه كشرعنا في ذلك، وأما على طريقة القاضي فيحمل ذلك على الهم الذي ليس هو بتوطين النفس، ولو حمل على غيره لأمكن أن يقال: هي صغيرة.
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: (والنحويين).
(3)
سلف برقم (31)، كتاب: الإيمان، باب:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} .
وفي الصغائر عليهم فيها خلف
(1)
.
(قال القاضي عياض: وعامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه أبو بكر القاضي؛ للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب، لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب بسيئة، وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله والأمانة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية، فتكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية لله كتبت كما في الحديث:"إنما تركها من جراي"
(2)
فصار تركه لها لخوف الله ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة، فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها، ولا يصحبها عقد ولا نية، وذكر بعض المتكلمين خلافًا فيما إذا تركها لخوف الله، بل لخوف الناس، هل تكتب حسنة؟ قال:(لا)
(3)
لأن ما حمله على تركها الحياء، وهذا ضعيف لا وجه له
(4)
.
قال النووي: هذا كلام القاضي، وهو حسن لا مزيد عليه. وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر، من ذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19] وقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وقد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد واحتقار المسلمين وإرادة
(1)
"المعلم بفوائد مسلم" 1/ 79 - 80.
(2)
مسلم (129)، كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت وإذا هم بسيئة لم تكتب.
(3)
ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص 2).
(4)
"إكمال المعلم" 1/ 425 - 426.
المكروه وغير ذلك من أعمال القلوب
(1)
.
وقال الشيخ عز الدين في "أماليه": الآية وهي: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] مخصوصة بعزائم الأعمال، فإن عملها كتبت له عشر حسنات لا أحد عشر لأنا نأخذها بقيد كونها مهمومًا بها، وكذلك إذا عمل السيئة، فإنه قال: كتبت له سيئة، أي: تكتب له على السيئة المهموم بها سيئة، ولا تكتب عليه واحدة للهم وواحدة للعمل)
(2)
.
فصل:
وفي هذا الحديث تصحيح مقالة من قال: إن الحفظة يكتبون ما يهم به العبد من حسنة أو سيئة، وتعلم اعتقاده كذلك، ورد مقالة من زعم أن الحفظة إنما تكتب ما ظهر من عمل العبد وسمع.
واحتجوا بما روى ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن كثير بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية، عن عائشة قالت: لأن أذكر الله في نفسي أحب إلى من أن أذكره بلساني سبعين مرة؛ وذلك لأن ملكًا لا يكتبها وبشرًا لا يسمعها، ذلك وقد جاء أن نية المؤمن خير من عمله، أي: لأنها مخفية عن الملك والبشر.
والصواب في ذلك كما قال الطبري: ما صح به الحديث عنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - أنه قال: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة". والهم بالحسنة إنما هو فعل العبد بقلبه دون سائر الجوارح كذكر الله بقلبه، فالمعنى الذي يصل به الملكان الموكلان بالعبد إلى علم ما يهم به بقلبه، هو المعنى الذي به يصل إلى علم ذكر ربه بقلبه.
(1)
"صحيح مسلم بشرح النووي" 2/ 151 - 152.
(2)
من (ص 2).
ويجوز أن يكون جعل الله لهما إلى علم ذلك سبيلا، كما يجعل لكثير من أنبيائه السبيل إلى كثير من علم الغيب، وقد أخبر الله تعالى عن عيسى صلى الله عليه وسلم أنه قال لبني إسرائيل {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49]، وقد أخبر نبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام - بكثير من علم الغيب، قالوا: فغير مستنكر أن يكون الكاتبان الموكلان بابن آدم قد جعل لهما سبيل إلى علم ما في قلوب بني آدم من خير أو شر فيكتبانه إذا حدث به نفسه أو عزم عليه، وقد قيل: إن ذلك بريح يظهر لهما من القلب.
سئل أبو معمر عن الرجل يذكر الله بقلبه كيف يكتب الملك، قال: يجد الريح، وسيأتي في كتاب الاعتصام
(1)
في باب قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] اختلاف السلف في أي الذكرين أعظم (ثوابًا)
(2)
، ذكر القلب أو اللسان، قال جماعة بالثاني، روي ذلك عن أبي عبيدة وعبد الله بن مسعود، والصواب في ذلك -كما قال أبو جعفر- الأول، (لمن)
(3)
لم يكن إمامًا يقتدى به لا سيما إن كان في محفل اجتمع أهله لغير ذكر الله أو في سوق، وذلك أنه أسلم له من الرياء، وقد روينا في حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه مرفوعًا:"خير الرزق ما يكفي، وخير الذكر الخفي"
(4)
.
(1)
ورد في هامش الأصل: إنما هذا الباب في كتاب التوحيد، وقد وقع له مثل ذلك مرارا، والله أعلم.
(2)
في الأصل: (تقربا).
(3)
في الأصول: (فمن)، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(4)
رواه أحمد 1/ 172 وابن حبان 3/ 91، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 407. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع" (2887).
وأخرجه العسكري في كتاب "السرائر"
(1)
من حديث زيد بن خالد بلفظ: "خير الذكر ما خفي، وخير الرزق ما كفى" فإن كان خليا فالذكر باللسان والقلب أفضل؛ لأن شغل جارحتين بما يرضي الله أفضل من شغل جارحة واحدة، وكذا ثلاث جوارح أفضل من جارحتين، وكلما زاد فهو أفضل عند الله.
وروى ابن أبي الدنيا من حديث جابر: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اغدوا وروحوا في ذكر الله، واذكروه في أنفسكم" ومن حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "أفضل" أو قال: "تضاعف الذكر الخفي الذي لا تسمعه الحفظة على الذي تسمعه بسبعين ضعفًا"
(2)
وحديث أبي موسى السالف: "اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا"
(3)
.
وروى العسكري في الكتاب السالف من طريق أبي داود الطيالسي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أعمل العمل أسره، فإذا أطلع عليه سرني، فقال:"لك أجران: أجر السر وأجر العلانية"
(4)
، وعن خُصيف أنه قال: إذا عمل رجل عملًا وحدث به قيل: اكتبوه علانية، وإن حدث به هو قيل: اكتبوه مرائيا.
(1)
في هامش الأصل: رويناه عاليًا.
(2)
رواه أبو يعلى 8/ 182. وضعفه الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (3394).
(3)
سلف برقم (2992)، كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يكره من رفع الصوت في التكبير.
(4)
رواه الترمذي (2384)، وابن ماجه (4226) من طريق أبي داود الطيالسي.
وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(927).
فصل:
لما ذكر ابن التين حديث الباب قال: تأول العلماء هذا على أنه ترك عمل السيئة على القدرة عليها، ويزاد في ذلك حسنة من الله، وقد بينه في مسلم، فقال: "فإن تركها فأنا أكتبها له حسنة، إذا تركها من جرائي
(1)
"
(2)
.
وفي حديث آخر: "من هم بالسيئة فلم يعملها لم تكتب"
(3)
. قال: وكثير من الفقهاء والمحدثين على ظاهر هذِه الأخبار؛ فإن هذا تفضل من الله، وأن من هم بسيئة لا إثم عليه، إن لم يعملها، وتكتب له حسنة إذا تركها من خشية الله، ومعنى ما في كتاب مسلم: لم تكتب إذا لم يتركها من خشية الله.
فصل:
قوله: فيما يرويه عن ربه، يقتضي أنه من الأحاديث الإلهية المنسوبة إلى كلام الله عز وجل نحو:"أنا عند ظن عبدي بي"
(4)
وليس المراد ذلك، إنما المراد فيما يحكيه عن فضل ربه أو حكم ربه أو نحو ذلك.
(1)
ورد في هامش الأصل: وفي البخاري: "من أجلي" وهو يعني: من جراي التي في مسلم.
(2)
مسلم (129) كتاب: الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب.
(3)
مسلم (130)، كتاب: الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة، كتبت، وإذا هم بسيئة، لم تكتب.
(4)
سيأتي برقم (7405) كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} ، ورواه مسلم (2675)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: الحث على ذكر الله تعالى.
ومعنى ("كتب") أمر الحفظة بكتابتها، أو كتبها في علم على وفق الواقع فيها. وقوله:("ثم بين ذلك") أي: فصله، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، فصَّل بقوله:"من هم بحسنة .. " إلى آخره ما أجمله بقوله: "إن الله كتب الحسنات والسيئات")
(1)
.
(1)
من (ص 2).
32 - باب مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ
6492 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مَهْدِيٌّ، عَنْ غَيْلَانَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالاً هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُوبِقَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ. [فتح 11/ 329].
ذَكَرَ فِيهِ حَدِيث أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا نعدها عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم المُوبِقَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: يَعْنِي: المُهْلِكَاتِ.
إنما كانوا يعدون الصغائر من الموبقات؛ لشدة خشيتهم لله، وإنه لم يكن لهم كبائر، ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام إذا سئل الشفاعة يوم القيامة يذكر ذنبه بتلك الكلمات الثلاث: في زوجته، وإني سقيم، وفعله كبيرهم. فرأى ذلك من الذنوب، وإن كان لقوله وجه صحيح فلم يقنع من نفسه إلا بظاهر يطابق الباطن، وهذا غاية الخوف، والمحقرات إذا كثرت صارت كبائر؛ للإصرار عليها والتمادي فيها، وقد روى ابن وهب، عن عمرو بن حريث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم
أبي عمران أنه سمع أبا أيوب يقول: إن الرجل ليعمل الحسنة (فيثق)
(1)
بها، ويعمل المحقرات فيلقى الله يوم القيامة، وقد أحاطت به خطيئته، وإن الرجل ليعمل السيئة فما يزال منها مشفقًا حذرًا حتى يلقى الله يوم القيامة آمنًا.
وذكر أسد بن موسى، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إياكم ومحقرات الذنوب، فإنها تجمع حتى تهلك صاحبها، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب لنا مثلًا كمثل ركب نزلوا بأرض فلاة، فلم يجدوا فيها حطبًا؛
(1)
في الأصول: (فيتقي)، ولعل المثبت هو الصحيح كما في "الفتح" 11/ 330.
فانطلق كل واحد منهم فجاء بعود حتى اجتمعت أعواد؛ فأوقدوا نارًا أنضجت ما جعل فيها
(1)
. ورواه سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وقال أبو عبد الرحمن الحُبلي: مثل الذي يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات كرجل لقاه سبع فاتقاه حتى نجا منه، ثم لقيه فحل إبل فاتقاه فنجا منه، فلدغته نملة فأوجعته، ثم أخرى ثم أخرى حتى اجتمعن عليه فصرعنه؛ فكذلك الذي يجتنب الكبائر ويقع في المحقرات.
وقال الصديق رضي الله عنه: إن الله يغفر الكبير فلا تيأسوا، ويعذب على الصغير فلا تغتروا.
(1)
رواه أحمد 1/ 402. وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" (2687).
(2)
رواه أحمد 5/ 331. وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2686).
33 - باب الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ وَمَا يُخَافُ مِنْهَا
6493 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ -الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ- فَقَالَ:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» . فَتَبِعَهُ رَجُلٌ فَلَمْ يَزَلْ على ذَلِكَ حَتَّى جُرِحَ، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ. فَقَالَ بِذُبَابَةِ سَيْفِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ- فِيمَا يَرَى النَّاسُ- عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ -فِيمَا يَرَى النَّاسُ- عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا» . [انظر: 2898 - مسلم: 112 - فتح: 11/ 330].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَجُلٍ يُقَاتِلُ المُشْرِكِينَ -وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ المُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنْهُمْ- فَقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هذا". فَتَبِعَهُ رَجُلٌ الحديث وفي آخره، "وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بالخواتيم".
(الشرح:
هذا الحديث سلف في الجهاد والمغازي
(1)
، ويأتي في القدر، وترجم عليه: العمل بالخواتيم
(2)
.
وأخرجه مسلم في الإيمان
(3)
، والقدر)
(4)
(5)
.
(1)
سلف برقم (2898)، باب: لا يقول: فلان شهيد.
(2)
سيأتي برقم (6607) باب: العمل بالخواتيم.
(3)
برقم (112)، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.
(4)
برقم (2651)، باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه.
(5)
من (ص 1).
والغناء -ممدود- الكفاية من قولهم: أغنيت (كغنى)
(1)
فلان أي: أجزاه عنك مجزاة، ومنه قوله تعالى:{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)} [الحاقة: 28].
وقوله: (فوضعه بين ثدييه). قال ابن فارس: ثندؤة الرجل كثدي المرأة، وهو مهموز إذا ضم
(2)
.
ويقال: خاتم بفتح التاء وكسرها، وخاتام، وخيتام، و (ختام)
(3)
، وختم فهو ست لغات بمعنى، والجمع: الخواتيم.
وفي تغييب الله عن عباده خواتم أعمالهم، حكمة بالغة، وتدبير لطيف، وذلك أنه لو علم أحد خاتمة عمله، لدخل الإعجاب والكسل من علم أنه يختم له بالإيمان، ومن علم أنه يختم له بالكفر يزداد غيًّا وطغيانًا وكفرًا؛ فاستأثر الله بعلم ذلك؛ ليكون العباد بين خوف ورجاء، فلا يعجب المطيع لله بعمله، ولا ييأس العاصي من رحمته؛ ليقع الكل تحت الذل والخضوع لله تعالى والافتقار إليه.
وقال حفص بن حميد: قلت لابن المبارك: أرأيت رجلاً قتل رجلاً فوقع في نفسي أني أفضل منه؛ فقال عبد الله: أمنك على نفسك أشد من ذنبه، أي: أمنك على نفسك أنك من الناجين عند الله من عذابه أشد من ذنب القاتل؛ لأنه لا يدري ما يؤول إليه أمره وعلى ما يموت، ولا يعلم أيضًا حال القاتل إلى ما يصير إليه، لعله يتوب فيموت تائبًا فيصير إلى عفو الله، وتصير أنت إلى عذابه لتغير حالك من الإيمان بالله إلى الشرك به، فالمؤمن في حال إيمانه وإن كان عالمًا بأنه محسن فيه غير
(1)
في الأصل: (بغنى).
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 157.
(3)
في الأصل: (ختم).
عالم على ما هو ميت عليه وإلى ما هو صائر إليه، فغير جائز أن يقضي لنفسه وإن كان محسنًا بالحسنى عند الله ولغيره، وإن كان مسيئًا بالسوء، وعلى ذلك مضى خيار السلف.
34 - باب العُزْلَةُ رَاحَةٌ مِنْ خُلاَّطِ السُّوءِ
6494 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ:«رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» .
تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَالنُّعْمَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ -عَطَاءٍ أَوْ عُبَيْدِ اللهِ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ يُونُسُ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2786 - مسلم: 1888 - فتح: 11/ 330].
6495 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا الْمَاجِشُونُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ خَيْرُ مَالِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمُ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» . [انظر: 19 - فتح: 11/ 331].
حَدَّثنَا أَبُو اليَمَانِ، أنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: ثَنَا الأَوْزَاعِيُّ -هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو، مات سنة سبعٍ وخمسين ومائة- ثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ:"رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ".
تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَالنُّعْمَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ
مَعْمَرٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ -أَوْ عُبَيْدِ اللهِ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ يُونُسُ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَيحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
حَدَّثنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا المَاجِشُونُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَن أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زمَانٌ خَيْرُ مَالِ المُسْلِمِ الغَنَمُ، يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ".
الشرح:
قد سلف اسم الأوزاعي ووفاته.
ومتابعة الزبيدي أخرجها مسلم، عن منصور بن أبي مزاحم، ثنا يحيى بن حمزة، عن الزبيدي
(1)
.
واسم الزبيدي: محمد بن الوليد أبو الهذيل الشامي، اتفقا عليه، مات سنة ثمان وأربعين ومائة.
والنعمان: هو ابن راشد الجزري الرقي أخو إسحاق، ضعفه ابن المديني. وقال البخاري: كثير الوهم
(2)
.
ومتابعة معمر رواها مسلم أيضًا عن ابن حميد، ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد، عن عطاء أو عبيد الله
(3)
.
وقال أبو مسعود الدمشقي: قال عبد الرزاق: كان معمر يشك
(4)
.
(1)
برقم (1888/ 122)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والرباط.
(2)
"التاريخ الكبير" 8/ 80.
(3)
برقم (1888/ 123)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والرباط.
(4)
"المصنف" لعبد الرزاق 11/ 368.
ثم حدث به مرة عن عطاء بغير شك كأنه يريد ما رواه الخطابي عن محمد بن هاشم، ثنا الفربري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عطاء من غير شك
(1)
.
وقوله: (وحدثنا محمد بن يوسف .. ) إلى آخره، أخرجه مسلم أيضًا عن عبد الله بن عبد الرحمن عنه
(2)
. ومتابعة سليمان بن كثير، أخرجها أبو داود، عن أبي الوليد الطيالسي، عن سليمان به
(3)
.
فصل:
ابن مسافر: هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر أبو خالد، وقيل: أبو الوليد (الفهمي)
(4)
المصري، واليها لهشام سنة ثمان عشرة ومائة، وعزل عنها سنة تسع عشرة ومائة، وهو مولى الليث بن سعد من فوق.
والماجشون: هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة دينار، مولى آل المنكدر، أبو عبد الله؛ مات سنة أربع وستين ومائة على الأصح، وصلى عليه المهدي ببغداد، متفق على ثقته.
وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار الأنصاري النجاري المازني، أخو محمد بن عبد الله، انفرد البخاري بهما وأبيهما.
(1)
رواه الخطابي في "العزلة" ص 19. وفيه: الدبري، بدل: الفربري وليس في الرواة عن عبد الرزاق من يسمى الفربري.
(2)
برقم (1888/ 124) كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والرباط.
(3)
أبو داود (2485)، وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(2246).
(4)
في (ص 2): (التميمي).
فصل:
وقوله: ("جاهد بنفسه وماله") أي: وقام بالحقوق الواجبة، كالصلاة وغيرها.
والشعب بكسر الشين: الطريق في الجبل، وكذا صرح به صاحب "العين" أنه ما انفرج بين جبلين
(1)
. وقال الشعبي: هو مواضع الجبل، قال: وقوله: "في شعب من الشعاب" هذا في غير زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الجهاد كان فيه فرضًا على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، إن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا جميعًا إلا من له عذر، وإن خرج قوم بقي معه آخرون.
وقوله: ("شعف الجبال") الشعف بالشين المعجمة وتحريك العين: رأس الجبل، والجمع: شعف، وشعوف، وشعاف، وقال صاحب "العين": شعف الجبال: رءوسها
(2)
. وكذلك شعف الأثافي، وشعفة كل شيء: أعلاه.
("ومواقع القطر"): بطون الأودية.
فصل:
في الحديث: أن اعتزال الناس عند ظهور الفتن والهرب عنهم أسلم للدين من مخالطتهم. ذكر علي بن معبد، عن الحسن بن واقد قال: قال عليه السلام: "إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد أحلت لأمتي الغربة والعزلة، والترهيب في رءوس الجبال"
(3)
وذكر علي بن معبد عن عبد الله بن
(1)
"العين" 1/ 263.
(2)
"العين" 1/ 260.
(3)
انظر: "تذكرة الموضوعات" ص 223.
المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق، وجحر إلى جحر، فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله، فإذا كان ذلك (حلت العزلة". قالوا: يا رسول الله، كيف تحل العزلة وأنت تأمرنا بالتزوج؛ قال:)
(1)
"إذا كان ذلك كان هلاك الرجل على يدي أبويه، فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته، فإن لم يكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده، فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على (يدي)
(2)
القرابات والجيران" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؛ قال: "يعيرونه بضيق المعيشة، ويكلفونه ما لا يطيق، فعند ذلك يورد نفسه المهالك التي يهلك فيها".
وروينا في كتاب "العزلة" للخطابي من حديث الحسن عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود مرفوعًا:"ليأتين على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من قرية إلى قرية، أو من شاهق إلى شاهق، ومن جحر إلى جحر، كالثعلب الذي يروغ"
(3)
.
وفي حديث إسحاق بن راشد عن عمرو بن وابصة الأسدي، عن أبيه قال: حدثني ابن مسعود رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتنة وأيام الهرج
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: (ذوي).
(3)
"العزلة" ص 20.
قال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" 1/ 371: ذكره الخطابي في "العزلة" من حديث ابن مسعود، والبيهقي في "الزهد" نحو من حديث أبي هريرة وكلاهما ضعيف. اهـ.
قال: "حين لا يأمن الرجل جليسه" قلت: فبم تأمرني إن أدركت ذلك الزمان؟ قال: "تكف نفسك ويدك، وادخل دارك" قلت: يا رسول الله، أرأيت إن دخل علي داري؟ قال:"فادخل بيتك"، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن دخل علي بيتي؟ قال:"فادخل في مسجدك، واصنع كذا -وقبض بيمينه على الكوع- وقيل: ربي الله. حتى تموت"
(1)
.
وفي حديث ابن المبارك أنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، أن عمر رضي الله عنه قال: خذوا حظكم من العزلة
(2)
. وفي رواية قال عمر: العزلة راحة من خليط السوء
(3)
.
وفي حديث محمد بن سنان القزاز، أنا أبو بكر، عن بكير بن مسمار قال: سمعت عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كان سعد في إبل وغنم له، فأتاه ابنه عمر، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب. فلما انتهى إليه قال: يا أبة، أرضيت أن تكون أعرابيًّا والناس يتنازعون الملك، فضرب سعد صدر عمر فقال: اسكت يابني، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي"
(4)
.
وفي "مشكل الآثار" للطحاوي عن ابن عباس مرفوعًا: "ألا أخبركم
(1)
رواه أبو داود (4258)، والخطابي في "العزلة" ص 21 - 22، قال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" 1/ 546: رواه أبو داود مختصرًا والخطابي في "العزلة" بتمامه، وفي إسناده عند الخطابي انقطاع، ووصله أبو داود بزيادة رجل اسمه سالم يحتاج إلى معرفته. اهـ.
(2)
"الزهد والرقائق" برواية نعيم بن حماد ص 3 (11).
(3)
رواه ابن أبي شيبة 7/ 117، والخطابي في "العزلة" ص 22.
(4)
رواه مسلم برقم (2965) كتاب: الزهد والرقائق.
بخير الناس منزلًا". قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، وأخبركم بالذي يليه، رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعتزل شرور الناس"
(1)
. الحديث.
فإن قلت: أين ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "المسلم الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"
(2)
، فيجاب بأنه لا تضاد؛ لأن قوله:"رجل آخذ بعنان فرسه". خرج مخرج العموم، والمراد به الخصوص، فالمعنى فيه؛ أنه من خير الناس؛ لأنه قد ذكر غيره بمثل ذلك، فقال:"خير الناس من طال عمره، وحسن عمله"
(3)
وقال: "خياركم من تعلم القرآن وعلمه"
(4)
. وقال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 26] ولم تؤت مما اختص به سليمان شيئًا، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أنه من خير أهلها، وإذا جاز ذلك جاز أن تكون المنزلة التي هو بها بينها وبين المنزلة المذكورة قبلها منزلة (أكمل)
(5)
أو لعلها فوق المنزلة التي هي قبلها أيضًا فيكون من يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم باعتزاله، ويحتمل أن يكون أراد بتفضيله في وقت من الأوقات ولم يرد به كل الأوقات، كما في حديث أبي (ثعلبة)
(6)
: "إذا رأيت شحًّا مطاعًا،
(1)
"تحفة الأخيار بترتيب شرح مشكل الآثار" 7/ 180.
(2)
رواه الترمذي (2507)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 112، وصححه الألباني في "المشكاة"5087.
(3)
رواه الترمذي (2329)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3296).
(4)
سلف برقم (5027) كتاب: فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
(5)
في الأصل: (أخرى).
(6)
في الأصل: (بكرة).
وهوًى متبعًا، فعليك بنفسك، وإياك وأمر العوام"
(1)
فيكون اعتزال الناس في ذلك الزمان أفضل من مخالطتهم، ويكون ما سواه من الأزمنة بخلافه، ويكون المراد بتفضيل مخالطة الناس فيه على ترك مخالطتهم، حتى لا يكون بين الحديثين تضاد، ومما يدل على هذا التأويل في اختلاف الأزمنة قوله عليه السلام:"ستكون فتن المضطجع فيها خير من القاعد"
(2)
. الحديث، وفيه:"من كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"
(3)
.
فصل:
قال (الخطابي)
(4)
: العزلة عزلتان، والفرقة فرقتان: فرقة الآراء والأديان، وفرقة الأشخاص والأبدان، والجماعة جماعتان: الأئمة والأمراء، والعامة والدهماء، فأما الافتراق في الآراء والأديان فإنه محظور في العقول، محرم في قضايا الأصول؛ لأنه داعية الضلال، وسبب التعطيل والإهمال، ولو ترك الناس متفرقين؛ لتفرقت الآراء والنحل؛ ولكثرت الأديان والملل، ولم تكن فائدة في بعثة الرسل، وهذا هو الذي عابه الله من التفرق في كتابه وذمه في آي كثيرة، وعلى هذِه الوتيرة يجري الأمر أيضًا في الافتراق على الأئمة والأمراء؛ لأن في مفارقتهم مفارقة الألفة، وزوال العصمة والخروج من كنف الطاعة
(1)
رواه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 6/ 83، وضعفه الألباني في "المشكاة"(5144).
(2)
مسلم (1849/ 55) كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن.
(3)
رواه الحاكم 4/ 426، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(4)
في الأصل: (الطحاوي).
وظل الأمن، وهو الذي نهى عنه الشارع وأراده بقوله:"من فارق الجماعة فمات، فميتته جاهلية"
(1)
. وذلك أن أهل الجاهلية لم يكن لهم إمام يجمعهم على دين، ويتألفهم على رأي واحد، بل كانوا (طوائف)
(2)
شتى، وفرقًا مختلفين، آراؤهم متناقضة، وأديانهم متباينة، وذلك الذي دعا كثيرًا منهم إلى عبادة الأصنام، وطاعة الأزلام رأيًا فاسدًا اعتقده في أن عندها خيرًا، أو أنها تملك لهم نفعًا أو تدفع عنهم ضرًا.
فأما عزلة الأبدان ومفارقة (الجماعة)
(3)
التي هي العوام، فإن من حكمها أن تكون تابعة للحاجة، وجارية مع المصلحة، وذلك أن عظم الفائدة اجتماع الناس في المدن وتجاورهم في الأمصار، إنما هو أن يتضافروا ويتعاونوا على المصالح ويتوازروا فيها إذ كانت مصالحهم لا تكمل إلا به ومعايشهم لا تزكو إلا عليه، فللإنسان أن يتأمل حال نفسه فينظر في أية طبقة يقع منهم، وفي أي جهة ينحاز من جملتهم؛ فأما من كانت أحواله تقتضي المقام بين ظهراني العامة، لما يلزمه من إصلاح المهنة التي لا غنية له به عنها، ولا يجد بدًّا من الاستعانة بهم فيها. ولا وجه لمفارقتهم في الدار ومباعدتهم في السكن والجوار، فإنه إذا فعل ذلك تضرر بوحدته، وأضر من وراءه من أهله وأسرته، وإن كانت نفسه بكلها مستقلة، وحاله في ذاته وذويه متماسكة فالاختيار له في هذا الزمان اعتزال الناس، ومفارقة عوامهم، فإن السلامة في مجانبتهم، والراحة في التباعد منهم، ولسنا نريد -رحمك
(1)
ابن حبان 13/ 303 (5965).
(2)
في الأصل: (طرائق).
(3)
في (ص 2): (الجوامع).
الله- بهذِه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعة، وترك حقوقهم في العيادات، وإفشاء السلام، ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، ووضائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها على سبيلها ما لم يحل دونها حائل شغل، ولم يمنع عنها مانع عذر، وإنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة ونبذ الزيادة عنها وحظ العلاقة التي لا حاجة بك إليها؛ فإن من جرى في صحبة الناس، والاستكثار من معرفتهم على ما يدعو إليه شغف النفوس، وإلف العادات، وترك الاقتصاد فيها، والاقتصار على القدر الذي تدعو الحاجة إليه كان جديرًا أن لا يحمد غبه، وأن تستوخم عاقبته، وأن سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه، ويأخذ منه فوق قدر حاجته؛ فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مدنفة وأسقام متلفة، وليس من علم كمن جهل، ولا من جرب وامتحن كمن بادر وخاطر، ولله در أبي الدرداء حيث يقول: وجدت الناس اخبر نقلة.
أنشدني ابن (أبي)
(1)
الدق، أنشدنا شكر، أنشدني ابن أبي الدنيا:
من حمد الناس ولم يبلهم
…
ثم بلاهم، ذم من يحمدِ
وصار بالوحدة مستأنسًا
…
بوحشة الأقرب والأبعد
(2)
فصل:
وروينا في كتاب "الطاعة والمعصية" لابن معبد: ثنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن (طاوس)
(3)
، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير
(1)
من (ص 2).
(2)
"العزلة" ص 13 - 15.
(3)
في الأصل: (فارس).
الناس في الفتن رجل معتزل يؤدي حق الله عليه"
(1)
.
ومن حديث كرز بن حبيش الخزاعي أنه عليه السلام، فذكر حديثًا فيه:"وأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقى ربه، ويدع الناس من شره"
(2)
.
ومن حديث عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن عقبة بن عامر مرفوعًا:"يا عقبة، املك عليك نفسك وليسعك بيتك"
(3)
.
ومن حديث عطاء بن يزيد، عن رجل له صحبة أنه قال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال:"مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله". قالوا: ثم من؟ قال: "مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره"
(4)
.
ومن حديث الحسين بن واقد: أظنه من أحاديث بهز بن حكيم رفعه: "إذا كانت سنة ثمانين ومائة"
(5)
. الحديث. وقد سلف.
وعن جبر بن (أبي)
(6)
الأسود وقال: "تفضل صلاة الجماعة على
(1)
رواه الحاكم 4/ 464، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3292).
(2)
جزء من حديث أخرجه أحمد في "المسند" 3/ 477، والحاكم في "المستدرك" 1/ 34، 4/ 454 - 455، قال الحاكم: هذا حديث صحيح وليس له علة، ولم يخرجاه.
(3)
رواه الترمذي (2406) عن القاسم عن أبي أمامة عن عقبة. بلفظ: "أملك عليك لسانك".
(4)
سلف برقم (2786) كتاب: الجهاد والسير، باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله. ورواه مسلم برقم (1888)، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط. كلاهما عن عطاء عن أبي سعيد.
(5)
أخرجه الغسولي في "جزئه" من مرسل الحسن كما في "اللآلئ" للسيوطي 2/ 394 - 395.
(6)
من (ص 2).
صلاة الفذ (خمسًا وعشرين)
(1)
درجة"
(2)
.
وسيأتي (فصل)
(3)
فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ خمس وعشرون درجة.
وعن عباد بن كثير رفعه: "بشِّر الفرارين بدينهم إيمانًا واحتسابًا من قرية إلى قرية أنهم معي ومع إبراهيم يوم القيامة كهاتين"
(4)
. وجمع بين الوسطي والتي تليها.
وكان مكحول. يقول: إن كان الفضل في الجماعة، فإن السلامة في العزلة.
(1)
في الأصول (خمس وعشرون) ولعل الصحيح ما أثبتناه.
(2)
سلف برقم (646)، كتاب الآذان، باب: فضل صلاة الجماعة.
(3)
من (ص 2) وغير مقروءة في الأصل.
(4)
رواه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" وهو منقطع.
35 - باب رَفْعِ الأَمَانَةِ
6496 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» . قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» . [انظر: 59 - فتح: 11/ 333].
6497 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا:«أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ» . وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ على رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلاً أَمِينًا. وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا أَظْرَفَهُ، وَمَا أَجْلَدَهُ. وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ". وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ، وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ الإِسْلَامُ، وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلاَّ فُلَانًا وَفُلَانًا. قَالَ الْفِرَبْرِيُّ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: حَدَّثْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ عَاصِمٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ يَقُولُ: قَالَ الأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو وَغَيْرُهُمَا: جَذْرُ قُلُوبِ الرِّجَالِ، الْجَذْرُ: الأَصْلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْوَكْتُ: أَثَرُ الشَّيْءِ الْيَسِيرُ مِنْهُ، وَالْمَجْلُ: أَثَرُ الْعَمَلِ فِي الْكَفِّ إِذَا غَلُظَ. [انظر: 7086، 7276 - مسلم: 143 - فتح: 11/ 333].
6498 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ الْمِائَةُ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» . [مسلم: 2547، فتح: 11/ 333].
ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ".
ثانيها:
حديث حذيفة رضي الله عنه: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا:"أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ". وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ: "يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ .. " الحديث.
ثالثها:
حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةُ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً".
الشرح:
الجذر بفتح الجيم، وكسرها، وذال معجمة ساكنة أي: أصلها، والجذر: من جذر الحساب، وهو أصل كل شيء.
وحكى الأصمعي: الفتح، وكذا هو في روايتنا، وأبو عمرو الشيباني:(الكسر)
(1)
كما حكاه في "الصحاح"
(2)
، وعبارة أبي عبيد أنه الأصل من كل شيء.
وقال ابن الأعرابي: الجذر: أصل حساب ونسب، وأصل شجرة، والجذر في شعر زهير بن أبي سلمى: قرن البقرة. وقال الداودي: يعني أنها في الأصل، وأول ما نزل في القلب، فمن ذلك النية.
(1)
من (ص 2).
(2)
"الصحاح" 2/ 610.
قال: وقوله: ("ثم علموا من السنة") أي: (جذرهم)
(1)
على ذلك ما جعل في قلوبهم.
وقوله: ("ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة") يعني: تقبض من قوم ثم قوم (ثم قوم)
(2)
شيئًا بعد شيء، ووقتًا بعد وقت، على قدر فساد الدين.
والأمانة الظاهر أن المراد بها: التكاليف اللاتي كلف الله بها عباده، والعهد الذي أخذه عليهم. وعبارة ابن التين في الفتن: الأمانة، إنها كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من (المرء)
(3)
. قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72]. قال ابن عباس: هي الفرائض التي على العباد
(4)
. وقيل: هي ما أمروا به ونهوا عنه، وقيل: هي الطاعة. (ونقله الواحدي عن أكثر المفسرين
(5)
، وقال صاحب "التحرير": الأمانة هنا هي المذكوره في الآية، وهي غير الإيمان، فإذا استمكنت في قلب العبد قام بأداء التكاليف)
(6)
.
وقوله: ("فيظل أثرها") أي: فيصير. وقال الداودي: يعني: يبقى ويقيم، وفي "الصحاح":(ظلت)
(7)
أعمل كذا -بالكسر- إذا عملته بالنهار دون الليل، ومنه قوله تعالى:{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}
(8)
[الواقعة: 65].
(1)
في (ص 2): (حداهم).
(2)
من (ص 2).
(3)
في الأصل: المبسوط.
(4)
رواه الطبري في "تفسيره" 10/ 339.
(5)
"الوسيط" 3/ 484.
(6)
من (ص 2).
(7)
في الأصل: ظللت، والمثبت من (ص 2).
(8)
"الوسيط" 3/ 484.
وقوله: ("مثل الوكت") هو بفتح الواو، وبعد الكاف الساكنة تاء (مثناة)
(1)
فوق. قال أبو [المعاني]
(2)
في "المنتهى": هو الأثر اليسير. وقيل: سواد يسير، وقيل: هو لون يحدث مخالف للون الذي كان قبله، يقال: البسر إذا وقعت فيه نكتة من الإرطاب وقد وكت. قال الهروي: والجمع: وكت، وقال صاحب "العين": الوكت شبه نكتة في العين وتدمع لونه، وعين موكوتة
(3)
والوكت: سواد اللون، وعبارة أبي عبيد: أنه أثر الشيء اليسير منه.
وعبارة ابن التين: الوكتة كالنقطة في الشيء، يقال: في عينه وكتة. أي: أثر، ووكيت البسرة توكيتًا من نقط الإرطاب، وقال الداودي: يعني الخطة الرفيعة.
و ("المجل"): بميم مفتوحة، ثم جيم ساكنة: أثر العمل في اليد، يعالج به الإنسان الشيء، حتى تغلظ جلودها. يقال منه: مجلت يده -بفتح الجيم، وكسرها- لغتان، وذكر الحربي، عن ابن الأعرابي: الرجل: النفط باليد ممتلئ ماء، وقال أبو زيد: إذا كان بين الجلد واللحم ماء قيل: مجلت يده تمجل، ونفطت تنفط نَفْطًا ونِفْطًا. وما قيدناه به هو ما قال ابن دحية: كذا قيدناه، واختار أهل اللغة والنحو فتح الجيم مصدر مجلت يده تمجل مجلًا بفتح الجيم في المصدر، (وحكاهما صاحب أيضًا)
(4)
.
(1)
في الأصل: (ثاء مثلثة)، وبهامشها كتب: هذا تصحيف، وإنما هو بالمثناة فوق ليس غير، والله أعلم.
(2)
في الأصل: المعاني، ولعل الصواب ما أثبتناه كما سلف بيانه.
(3)
"العين" 5/ 397 وعبارة الخليل: عين موكوتة: فيها وكت، وهي نكتة كالنقطة من بياض على سوادها، والاسم من الوكت: الوكتة. اهـ.
(4)
من (ص 2) كذا بغير إضافة إلى (صاحب).
قلت: ومجلت تمجل مجلًا ومجولاً، والجمع: مجل، مجال، (وأمجلها غيرها)
(1)
، وهو أن يكون بين الجلد واللحم، كما سلف، وكذلك: المجلة، يقال: مجلت يده مجلًا إذا انتفطت من العمل بفأس وما أشبهه. فخرج فيها نفخ يشبه البثر. قال ابن سيده: وكذلك الحافر إذا نكبته الحجارة ثم (قوي)
(2)
فصلب
(3)
، وفي الحديث: أن فاطمة شكت إلى علي رضي الله عنهما مجل يديها من الطحن
(4)
.
قال الأصمعي: هو نفخ يشبه البثر من عمل. والجمر جمع: جمرة بسكون الميم.
وقوله: ("فنفط"): هو بكسر الفاء كعلم قال ابن فارس: النفط: قرح يخرج في اليد من العمل
(5)
، ولم يقل: نفطت، (مع أن الرجل مؤنثة، إما يكون نفي إتباعًا للفظ الرجل، وإما أن يكون إتباعًا لمعناه وهو العضو)
(6)
.
وقوله: ("فتراه منتبرا") يعني: مرتفعًا منتفطًا، وأصل هذِه اللفظة من الارتفاع، ومنه انتبر الأمير: إذا صعد على المنبر، ومنه سمي المنبر منبرًا؛ لارتفاعه، والجرح إذا ورم، والنبر نوع من الذباب يلسع الإبل، فيرم مكان لسعته، ومنه سمي الهمز نبرًا لكون الصوت على حال من الارتفاع لا يوجد في غير هذا الحرف وكل شيء ارتفع فقد نبر. قال
(1)
من (ص 2).
(2)
في (ص 2): برئ.
(3)
"المخصص" 1/ 149.
(4)
رواه الترمذي في "سننه"(3408)، وأحمد 1/ 123 والنسائي في "الكبرى" 5/ 373 - 374 (9172).
(5)
"مجمل اللغة" 2/ 880.
(6)
من (ص 2).
الطوسي: انتبر الجرح إذا ورم، ويقال: سمعت نبرات من كلامه أي: ارتفاعات من صوته. وقال أبو عبيد: منتبرا: منتفطًا. ومنه حديث عمر: إياكم والتخلل بالقصب، فإن الفم ينتبر منه. ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما تهمز؟، قال:"إنا معشر قريش لا ننبر". والنبر: الهمز، ولم تكن قريش تهمز في كلامها. وصلى الكسائي مع المهدي؛ فهمز بالمدينة، فأنكر أهل المدينة همزه عليه، وقالوا: تنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
والمعنى: أن الأمانة لم يبق منها في قلوب الرجال إلا مثل هذه الآثار التي ضرب بها المثل، وقد ذهبت، وزال عن القلوب شيئًا فشيئًا، وزال (منها)
(1)
نورها، وخلفه ظلمة كالكوكب، إذا زال منه شيء (آخر)
(2)
صار كالمجل، وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذِه الظلمة فوق التي قبلها.
فصل:
ترجم البخاري على هذا الحديث في كتاب الفتن كما ستعلمه باب: إذا بقي في حثالة من الناس
(3)
. وكأن مراده أن فاعل هذا هو.
والحثالة مذكورة من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه
(4)
. رواه ابن وهب، عن يعقوب بن (عبد الله بن)
(5)
عبد الرحمن، عن عمرو مولى المطلب، عنه، وليس هو على شرطه،
(1)
في الأصل: (يجرمها).
(2)
من (ص 2).
(3)
سيأتي برقم (7086).
(4)
رواه ابن حبان في "صحيحه" 13/ 279، والطبراني في "الأوسط" 8/ 334.
(5)
من (ص 2).
وهي: سفلة الناس، وأصلها عند العرب: ما سقط من قشور التمر والشعير وهي الحفالة بالفاء، وضم الحاء كالأول، (والحسافة)
(1)
أيضًا بالسين المهملة والفاء كما سلف.
فصل:
وقوله: (وما أبالي أيكم بايعت). المراد بالمبايعة: البيع والشراء المعروفان، ومعناه: إني كنت أعلم أن الأمانة لم ترفع، وأن بالناس وفاءً بالعهود، فكنت أقدم على مبايعة من اتفق (غير باحث عن حاله)
(2)
وثوقًا بالناس وبأماناتهم، فإنه إن كان مسلمًا فدينه وأمانته تحمله على أداء الأمانة، وتمنعه من الخيانة، وإن كان كافرًا فساعيه وهو الوالي عليه يقوم بالأمانة ويستخرج ما خفي منه.
وأما اليوم فقد ذهبت الأمانة فما بقي لي وثوق بمن أبايعه، فما أبايع إلا فلانًا وفلانًا -يعني: أفرادًا من الناس أعرفهم وأثق بهم- وقال ابن التين (وغيره)
(3)
: تأوله بعض الناس على بيعة الخلافة، وأكثرهم على خلاف ذلك، وإنما أراد البيع والشراء كما أسلفناه فمعناه قلة الأمانة في الناس، واحتجوا بقوله:(لئن كان نصرانيًّا رده عليَّ ساعيه). وكيف يبايع النصراني، وكذا قال أبو عبيد: حمله كثير من الناس على بيعة الخلافة وهو خطأ في التأويل، وكيف يكون على بيعة الخلافة، وهو يقول: ليِّن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا رده على ساعيه. فهو يبايع على الخلافة اليهودي والنصراني؟! ومع هذا أنه لم يكن يجوز أن يبايع كل واحد فيجعله خليفة، وهو لا يرضى بأحد بعد عمر، فكيف يتأول هذا عليه مع مذهبه فيه؟!
(1)
في الأصل: (والسحافة).
(2)
من (ص 2).
(3)
من (ص 2).
والمراد بالساعي: الوالي الذي يلي عليه ينصفني منه إن لم يكن له إسلام، وكل من ولي على قوم، فهو ساع عليهم، وأكثر ما يقال هذا في ولاة الصدقة.
قال الشاعر:
سعى عقال فلم يترك لنا سيدا
(1)
وقوله: ("ما أظرفه"). الظرف: البراءة وذكاء القلب، تقول منه: ظرف الرجل.
وقوله: ("ما أجلده")، الجلد: الصلابة، تقول منه: جلد الرجل بالضم فهو جلد، وجليد.
فصل:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه وحذيفة من أعلام النبوة؛ لأنه عليه السلام ذكر فيهما فساد أديان الناس، وتغير أماناتهم، وقد ظهر كثير من ذلك.
وقوله: ("إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة")، هو كلام مجمل أخبر الأعرابي السائل رسول الله شرحه له، فقال له: كيف إضاعتها؟ فأجابه بجواب عام، دخل فيه تضييع الأمانة وما كان في معناها مما لا يجري على طريق الحق كاتخاذ العلماء الجهال عند موت أهل العلم، واتخاذ ولاة الجور، وحكام الجور عند غلبة الباطل وأهله.
فصل:
وقد ذكر ابن أبي شيبة
(2)
من حديث المقبري، عن أبي هريرة
(1)
"غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 229 - 230.
(2)
لم أقف عليه في "المصنف" ولا في المطبوع من "مسنده" فلعله في المفقود، لكن رواه عنه ابن ماجه (4036)
مرفوعًا: "سيأتي على الناس زمان
(1)
سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق الرويبضة". قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة".
قال ابن بطال: وقد رأيت أكثر هذِه العلامات وما بقي منها فغير بعيد
(2)
، (ورواه أحمد في مسنده بلفظ:"إنها ستأتي على الناس زمان سنون خداعة". فذكره بمثله، وفي آخره، قيل: وما الرويبضة؟ (قال)
(3)
: "السفيه يتكلم بأمر العامة")
(4)
(5)
.
فصل:
روى ابن عيينة عن عبد العزيز بن رفيع قال: سمعت شداد بن معقل قال: سمعت ابن مسعود يقول: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة
(6)
.
وروى يونس، عن الزهري، عن الصُّنابحي، عن حذيفة قال: لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضه الخشوع
(7)
.
(1)
في هامش الأصل: أحفظه بغير (زمان).
(2)
"شرح ابن بطال" 10/ 207.
(3)
في (ص 2): (قيل)، والمثبت من "مسند أحمد".
(4)
من (ص 2).
(5)
"مسند أحمد" 13/ 291.
(6)
رواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 504، رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 9/ 141، والبيهقي في "الشعب" 4/ 325. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وصححه الألباني في "الصحيحة"(1739).
(7)
رواه الآجري في "الشريعة"(33)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" 3/ 534 (225). ورواه الحاكم 4/ 469 من طريق أخرى: عن حميد بن عبد الله الفلسطيني، حدثني عبد العزيز ابن أخي حذيفة، عن حذيفة رضي الله عنه، به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورويناه مرفوعًا من حديث عوف بن مالك الأشجعي
(1)
.
وللدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أول شيء ينزع من أمتي علم الفرائض"
(2)
. ولا تعارض لأنها من الأعمال الظاهرة، وما سلف من الأعمال الباطنة.
فصل:
وقوله: ("إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة"). يريد عليه السلام أن الناس كثير والمرضي منهم قليل، كما أن المائة من الإبل لا تكاد تصاب فيها الراحلة الواحدة.
وهذا الحديث إنما يراد به القرون المذمومة في آخر الزمان، ولذلك ذكره البخاري هنا، ولم يرد به عليه السلام زمن أصحابه وتابعيهم؛ لأنه قد شهد لهم بالفضل، فقال:"خير الفرون قرني"
(3)
. الحديث. فهؤلاء أراد عليه السلام بقوله: "الناس كإبل بمائة"؟!
وقال ابن التين: قيل يحتمل أن يريد كل الناس، فلا يكون مؤمن إلا في مائة أو أكثر، أو يريد الصلاح في المسلمين، فيكون الكلام عليهم، والراحلة: الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول، ويقال الراحلة: المركب من الإبل ذكرًا كان أو أنثى.
(1)
رواه ابن أبي عاصم الشيباني في "الأوائل"(108).
(2)
"سنن الدارقطني" 4/ 67، ورواه ابن ماجه (2719) قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 1/ 129: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتهم به حفص بن عمر بن أبي العلاف، وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(594)، وفي "الإرواء"(1664)، (1665).
(3)
سلف برقم (2652، 3651، 6429) وسيأتي برقم (6658) بلفظ: "خير الناس قرني".
وقيل: معنى الحديث: أن الناس في أحكام الدين سواء، لا فضل فيها لشريف على مشروف، كالإبل المائة لا يكون فيها راحلة وهي الذلول التي ترحل وتركب، جاءت فاعلة بمعنى مفعولة أي: مرحولة، يريد أنها كلها حمولة تصلح للحمل، ولا تصلح للركوب، والعرب تقول للمائة من الإبل: إبل و (لا)
(1)
يقال: لفلان إبل، أي: مائة من الإبل، وإبلال إذا كان له مائتان.
ووجه آخر:
أن أكثر الناس أهل جهل ونقص فلا يستكثر من صحبتهم، ولا يؤاخي منهم إلا أهل الفضل، وعددهم قليل بمنزلة الراحلة في الإبل المجهولة، وذلك قوله تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]، وقوله:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111].
(1)
كذا في (ص 2)، ويستقيم السياق بدونها.
36 - باب الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
6499 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ. وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -وَلَمْ أَسْمَعْ- أَحَدًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ» . [7152 - مسلم: 2987 - فتح: 11/ 335].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث جندب رضي الله عنه: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ".
معناه: من سمع بعمله الناس، وقصد به اتخاذ الجاه والمنزلة عندهم، ولم يرد به وجه الله؛ فإن الله يسمع به خلقه، أي: يجعله حديثًا عند الناس الذي أراد نيل المنزلة عندهم بعمله، ولا ثواب له في الآخرة عليه، وكذلك من راءى بعمله الناس راءى الله به، أي: أطلعهم على أنه فعل ذلك لهم، ولم يفعله لوجهه عز وجل؛ فاستحق على ذلك سخط الله وأليم عقابه، فهذا على المجازاة، كقوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} [آل عمران: 54] وقوله: {مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] وكذا: من عمل عملًا على غير إخلاص، يريد الرياء جوزي عليه بالشهرة والفضيحة، فيشتهر ما يبطن (قبل)
(1)
، وذلك أن يظهره عليه في القيامة، ويظهر عمله إن كان رياءً وسمعةً. وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقال للعبد يوم القيامة: فعلت كذا وكذا ليقال، فقد قيل؛ اذهبوا به إلى النار
(2)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
يشير إلى حديث أبي هريرة: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه .. " الحديث. مسلم (1905)، كتاب: الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار.
فإن قلت: كيف يسلم من الرياء والسمعة في العمل في الظاهر؟ وقد روي عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنه، وجماعة من السلف أنهم كانوا يتهجدون من الليل في مساجدهم بحيث يعلم ذلك من فعلهم معارفهم، وكانوا (يدركون)
(1)
إظهار المحاسن من أعمالهم مع ما تواترت به الآثار أن أفضل العمل ما استتر به صاحبه.
قلت: الناس فيه نوعان: فأما من كان إمامًا يقتدى به، ويستن بعمله، عالمًا بما لله عليه في فرائضه ونوافله، قاهرًا لكيد عدوه فسواء عليه ما ظهر من عمله وما خفي منه؛ لإخلاصه نيته لله تعالى، وانقطاعه إليه بعمله، بل إظهاره ما يدعو عباد الله إلى الرغبة في مثل حاله من أعماله السالمة أحسن -إن شاء الله- وإن كان ممن لا يقتدى به، ولا يأمن من عدوه قهره، ومن هواه غلبه حتى يفسد عليه عمله؛ فإخفاؤه النوافل أسلم له، وعلى هذا كان السلف الصالح.
وروى حماد عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع رجلاً يقرأ، ويرفع صوته بالقرآن فقال:"أواب" وسمع آخر يقرأ فقال: "مرائي"، فنظروا فإذا الأواب المقداد بن عمرو
(2)
.
وروى الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن عبد الله بن حذافة صلى، فجهر بالقراءة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا ابن حذافة، لا تسمعني، وأسمع الله"
(3)
.
وقال وهب بن الورد: لقي عالم عالمًا هو فوقه في العلم فقال:
(1)
في (ص 2): (يتذكرون).
(2)
رواه ابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 44.
(3)
رواه أحمد 2/ 326، والبيهقي في "السنن" 2/ 162.
يرحمك الله، ما الذي أخفي من عملي؟ [قال: تخفي]
(1)
حتى يظن بك أنك لم تعمل حسنة قط إلا الفرائض قال: يرحمك الله فما الذي أعلن؟ قال: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر
(2)
.
وقال الحسن: لقد أدركت أقوامًا ما كان أحدهم يقدر على أن يسر عمله فيعلنه، وقد علموا أن أحرز العملين من الشيطان عمل السر، قال: وإن كان أحدهم ليكون عنده الزور، وإنه ليصلي وما يشعر به زوره. وكان عمل الربيع بن خثيم سرًّا، كان يقرأ في المصحف، ويدخل عليه الداخل فيغطيه، وقال بشر بن الحارث: لما ودع الخضر داود قال له: ستر الله عليك طاعته
(3)
.
وروي عن ابن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا صلى فقرأ خفض صوته، وكان عمر رضي الله عنه يرفع صوته؛ فقيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ قال: أناجي ربي، وقد علم حاجتي، قيل: أحسنت. وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ فقال: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، قال: أحسنت، فلما نزلت:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} [الإسراء: 110] الآية. قيل لأبي بكر: ارفع شيئًا، وقيل لعمر: اخفض شيئًا
(4)
. فهؤلاء الأئمة المقتدى بهم، وأصل هذا قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى قوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] قال مجاهد: هؤلاء أهل الرياء
(5)
.
(1)
ليست في الأصول، أثبتناها ليستقيم بها المعنى.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 8/ 169.
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد" ص 15.
(4)
"الزهد والرقائق" لابن المبارك ص 18.
(5)
"سنن الترمذي"(2381)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6609).
فصل:
روينا في كتاب "الرقاق" لابن المبارك بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من راءى راءى الله عز وجل به، ومن سمع سمع الله به، ومن تطاول تعظيمًا خفضه الله، ومن تواضع تخشعًا رفعه الله
(1)
.
وفي "جامع الترمذي" صحيحًا عن أبي سعيد مرفوعًا: "من يرائي يرائي الله به، ومن يسمع يسمع الله به"
(2)
.
فصل:
روى الترمذي غريبًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رجل: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا اطلع عليه أعجبه. فقال عليه السلام:"له أجران: أجر السر وأجر العلانية". قال الترمذي: فسره بعض أهل العلم، فقال: معناه: أن يعجبه ثناء الناس عليه لهذا، فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير، فيكرم على ذلك، ويعظم عليه، فهذا رياء، وقال بعضهم: إذا اطلع عليه فأعجبه رجاء أن يعمل بعمله، فيكون له مثل أجرهم، فهذا له مذهب أيضًا
(3)
.
فصل:
وروينا في "الرقاق" لابن المبارك عن كهمس بن الحسن، عن أبي السليل قال: قال رجل لسعيد بن المسيب: الرجل يعطي الشيء، ويصنع المعروف، ويحب أن يؤجر ويحمد، قال: أفتحب أن تمقت
(4)
؟ وأنا
(1)
"الزهد" ص 152.
(2)
"سنن الترمذي"(2384)، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(4344).
(3)
تقدم، وهو عند الترمذي وابن ماجه بسند ضعيف.
(4)
"الزهد" برواية نعيم ص 17.
كهمس عن ابن بجينة المكي أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطي الشيء من مالي، وأحب أن أؤجر عليه وأحمد؛ فلم يرد عليه شيئًا حتى نزلت:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا} الآية [الكهف: 11].
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو أن عبدًا دخل بيتًا في جوف بيت فأمن هناك عملًا يوشك الناس أن يتحدثوا به، وما من عامل يعمل إلا كساه رداء عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر (رواه)
(1)
عن عوف، عن معبد الجهني، عنه. قال: وحدثنا محمد بن مسلم، عن عتبة (الراسبي)
(2)
الرام، عن أبي الجوزاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأهل الجنة وأهل النار؟ أهل الجنة من ملئت مسامعه من الثناء الحسن وهو يسمع، وأهل النار من ملئت مسامعه من الثناء السيئ وهو يسمع"
(3)
.
(1)
في الأصل: (راوية)
(2)
في الأصول (عتبة الرام) غير منقوطة، والمثبت هو الصحيح من مصادر التخريج.
(3)
رواه ابن المبارك في "الزهد" ص 154، من هذا الطريق مرسلاً، وقد رواه ابن ماجه (4224) موصولاً عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، به. وصححه الألباني في "الصحيحة"(1740).
37 - باب مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ تعالى
6500 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:«يَا مُعَاذُ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:«يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟» . قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» . ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ» . قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ؟» . قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ» . [انظر: 2856 - مسلم: 30 - فتح: 11/ 337].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: بينا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ: "يَا مُعَاذُ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:"يَا مُعَاذُ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمَّ سَارَ سَاعَة، ثُمَّ قَالَ:"يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عز وجل .. ".
الحديث، وقد سلف في الاستئذان
(1)
، ويأتي في الاعتصام
(2)
في باب: وكان عرشه على الماء
(3)
.
(1)
سلف برقم (6267)، باب: من أجاب بلبيك وسعديك.
(2)
في هامش الأصل: الحاشية هذا في كتاب التوحيد، وقد وقع له مثل هذا مرارًا، يعزو إلى الاعتصام وهو في التوحيد، والله أعلم.
(3)
هو في كتاب: التوحيد برقم (7373)، باب: ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى.
(وآخرة الرحل): ما يستند إليها الراكب، قال يعقوب: ولا تقل مؤخرة
(1)
. وقال غيره: هي لغة قليلة، وقال الداودي: إنها العود الذي يكون بين وركي الراكب. قال: والرحل: سرج الجمل، وقال الجوهري: الرحل: رحل البعير، وهو أصغر من القتب
(2)
.
وقوله: ("ما حق العباد على الله؟ ") يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون خرج مخرج المقابلة في اللفظ، كقوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} [آل عمران: 54]؛ لأنه قال في أوله: "ما حق الله على عباده؟ " فأتبع الثاني الأول.
والثاني: أن يكون أراد حقًّا شرعيًّا لا واجبًا بالعقل كقول المعتزلة، وكأنه لما وعد تعالى صار حقًّا من هذِه الجهة؛ لأنه لا يخلف الميعاد. وقال الداودي فيه: أنه جعل على نفسه حقًّا بفضله وعدله، خلافًا لقول بعض الناس: إنه لو شاء عذب الخلق جميعًا، وفيهم من لا ذنب له.
قلت: وهذا هو مذهب أهل الحق.
فصل:
(وجه مناسبة هذا الحديث للترجمة مجاهدة النفس بالتوحيد؛ فإنه لا يأمر مخير)
(3)
، وجهاد المرء نفسه: هو الجهاد الأكبر، وحرب العدو الأصغر، قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه وقد انصرفوا من الجهاد "أتيتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، قالوا: وما الجهاد الأكبر يا رسول الله؟ قال:
(1)
"إصلاح المنطق" ص 284.
(2)
"الصحاح" 4/ 1707.
(3)
من (ص 2).
"مجاهدة النفس"
(1)
، وقال سفيان الثوري: ليس عدوك الذي إن قتلته كان لك به أجر، إنما عدوك نفسك التي بين جنبيك، فقاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك، وقال أويس القرني لهرم بن حبان: ادع الله أن يصلح قلبك ونيتك، فإنك لن تعالج شيئًا أشد عليك منهما، بينما قلبك مقبل، إذ هو مدبر، فاغتنم إقباله قبل إدباره، والسلام عليك.
وقال علي رضي الله عنه: أول ما تفقدون من دينكم جهاد أنفسكم. وقد يكون جهاد النفس منعها الشهوات المباحة؛ توفيرًا لها في الآخرة لئلا يدخل في معنى قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} الآية [الأحقاف: 20]. وعلى هذا جرى سلف الأمة، وقال سالم الخواص: أوحى الله إلى داود: لا تقرب الشهوات فإني خلقتها لضعفاء خلقي؛ فإن أنت قربتها أهون ما أصنع بك أسلبك حلاوة مناجاتي، يا داود قل لبني إسرائيل: لا تقربوا الشهوات؛ فالقلب المحجوب بالشهوات حجبت صوته عني
(2)
.
(1)
رواه الخطيب البغدادي في "تاريخه" 13/ 523 - 524 من طريق الحسن بن هاشم، عن يحيى بن أبي العلاء، قال: ثنا ليث، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، به. وقال الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" 2/ 709: إسناده ضعيف. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 11/ 197: لا أصل له، ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله.
قال ابن حجر في "الكاف الشاف" 3/ 168 - 169: فيه ضعف.
وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2460).
(2)
"شرح ابن بطال" 10/ 210 - 211.
38 - باب التَّوَاضُعِ
6501 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةٌ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُسَمَّى العَضْبَاءَ، وَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: سُبِقَتِ العَضْبَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ» .
6502 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ، بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» . [فتح: 11/ 340].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث أَنَسٍ رضي الله عنه كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةٌ.
وفي لفظ: كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُسَمَّى العَضْبَاءَ، وَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ وَقَالُوا: سُبِقَتِ العَضْبَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ".
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عز وجل قَالَ: مَنْ عَادى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَئ أَحَبَّ
إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التِي يَبْطُشُ، بِهَا وَرِجْلَهُ التِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ".
الشرح:
اللفظ الثاني: حديث أنس أخرجه البخاري، عن محمد وهو ابن سلام البيكندي، أنا الفزاري، وهو مروان بن معاوية، وأبو خالد الأحمر، وهو سليمان بن حيان الكوفي أزدي، نزل في بني جعفر بن كلاب.
فصل:
ومعنى: ("آذنته بالحرب"): أعلمته، رباعي، وهو ممدود؛ لأنه رباعي، والتقرب المراد به: قرب المنزلة، وقبول العمل.
وقوله: ("كنت سمعه .. ") إلى آخره، هو من المجاز، يعني: أنه يحفظه كما يحفظ العبد جوارحه لئلا يقع في مهلكة، قاله الداودي، وقال الخطابي: هذِه أمثال، والمعنى: ترقيه في الأعمال التي يباشرها بهذِه الأعضاء، ويسمع الخير له فيها، فيحفظ جوارحه عليه، ويعصمه من مواقعة ما يكره الله من إصغاء إلى لهو، ونظر إلى ما نهي عنه، وبطش إلى ما لا يحل، وسعي إلى باطل. قال: وقد يكون معناه: سرعة إجابة الدعاء، والإلحاح في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان إنما تكون لهذِه الجوارح
(1)
.
(1)
"أعلام الحديث" 3/ 2259.
(فصل)
(1)
:
وفي حديث أنس: بيان الدنيا عند الله من الهوان والضعة. ألا ترى قوله: "إن حقًّا على الله .. " إلى آخره، فنبه بذلك أمته على ترك المباهاة والفخر بمتاع الدنيا، وأن ما كان عند الله في منزل الضعة فحق على كل ذي عقل الزهد فيه، وقلة المنافسة في طلبه، وترك الترفع. والغبطة بنيله؛ لأن المتاع به قليل، والحساب عليه طويل.
(فصل)
(2)
:
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه من معنى الباب: أن التقرب إلى الله بالنوافل حتى يستحق المحبة منه تعالى لا يكون ذلك إلا بغاية التواضع والتذلل له، وهذا وجه مناسبته الباب، وإن كان قال الداودي: إنه ليس من الباب، وقال في حديث أنس أيضًا: إن إدخاله هنا ليس من شكله، وقد يحتمل أن يريد أن قوله:"إلا وضعه". فيه: تواضعه عليه السلام، وإعلامه أن أمور الدنيا ناقصة، ففي مضمونه الأمر بالتواضع، وأن يكون المرء يجتنب التعاظم والكبر، ويستعمل الخضوع.
فصل:
فيه: أن النوافل، إنما يزكو ثوابها عند الله لمن حافظ على فرائضه وأداها. قال ابن بطال: ورأيت لبعضهم أن وجه البصر، وكذا الأذن في رواية، واليد، والرجل أنه لا يحرك جارحة من جوارحه إلا لله وفي الله، فجوارحه كلها تعمل بالحق، فمن كان كذلك لم ترد له دعوة
(3)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
(3)
"شرح ابن بطال" 10/ 212.
فصل:
وفيه: جواز المسابقة بالإبل، وهو الإجماع، ولا بأس بالرهن فيه، ولم يقل مالك بالمحلل، والحديث جاء به. قال الداودي: وليس سبق العضباء ينقص من فضله عليه السلام، ولا يزيد في صاحب القعود.
والعضباء: التي قطع طرف أذنها أو شق، ولم تكن عضباء بل كان علمًا لها، وعبارة ابن فارس: شاة عضباء مكسورة القرن
(1)
.
والقعود: الناقة الكبيرة التي طعنت في السن بفتح القاف. قال في "الصحاح": وهو من الإبل البكر حين تركب، أي يمكن ظهره من الركوب، وأدنى ذلك أن تأتي عليه سنتان، إلى أن يثني، فإذا أثنى سمي جملًا، ولا تكون البكرة قعودًا بل قلوصًا
(2)
.
قال أبو عبيد: القعود من البعير الذي يقتعد الراعي في كل حاجة. قال: وهو بالفارسية وجب، ويقال له: قعدة بضم القاف. وقال ابن فارس: القعود: الدابة المقتعدة للركوب خاصة، والقعود من الإبل كذلك
(3)
.
(فصل)
(4)
:
وقد جاء في فضل التواضع آثار كثيرة، فروى الطبري من حديث شعبة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"ما تواضع رجل إلا رفعه الله بها درجة"
(5)
.
(1)
"مجمل اللغة" 2/ 673.
(2)
"الصحاح" 2/ 525.
(3)
"مجمل اللغة" 2/ 760.
(4)
من (ص 2).
(5)
ورواه مسلم (2588) كتاب: البر والصلة، باب: استحباب العفو والتواضع.
وعن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه:"ما من بني آدم أحد إلا وفي رأسه سلسلتان: إحداهما في السماء السابعة، والأخرى في الأرض السابعة، فإذا تواضع رفعه الله بالسلسلة التي في السماء، وإذا أراد أن يرفع رأسه وضعه الله"
(1)
.
وفي كتاب الجوزي قالت عائشة رضي الله عنها: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة التواضع. وفيه من حديث إسماعيل بن عياش، عن مطعم بن المقدام الصنعاني، وعنبسة بن سعيد، عن نصيح العنسي، عن ركب الحميري
(2)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسكنةٍ"
(3)
. الحديث، ومن حديث الحجاج بن يوسف الأصبهاني، عن بشر بن الحسين، ثنا الزبير بن عدي، عن أنس رفعه:"إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله تعالى"
(4)
.
(1)
رواه البزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار"(3581) وقال: لا نعلمه يُروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 83: رواه البزار وفيه زمعة بن صالح، والأكثر على تضعيفه، وبقية رجاله ثقات. وقال محقق "كشف الأستار": ليس في "كشف الأستار" زمعة بن صالح وإنما فيه ربيعة وهو تحريف زمعة.
(2)
في هامش الأصل: ركب، قال الذهبي: المضري، قال ابن منده: مجهول لا يعرف له صحبة، وقال غيره: له صحبة وقال أبو عمر: هو كندي، له حديث روى عنه نصيح العنسي في مواضع. انتهى.
(3)
رواه الطبراني في "الكبير" 5/ 71، والبيهقي في "الشعب" 3/ 225، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(3835).
(4)
رواه أبو الشيخ الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" وأبو منصور الديلمي في "مسند الفردوس" كما في "تخريج أحاديث الإحياء" 2/ 855، من حديث أنس وضعفه العراقي.
ومن حديث نعيم بن مورق، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا:"من تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله"
(1)
، ومن حديث محمد بن طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبيه، (عن جده)
(2)
، عن طلحة بن عبيد الله بمثله مرفوعًا
(3)
. وعن الحسن: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله إلى أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد"
(4)
. وروينا في "رقائق ابن المبارك"، عن معاذ بن جبل أنه قال: لن يبلغ ذروة الإيمان، حتى تكون الضعة أحب إليه من الشرف، وما قل من الدنيا أحب إليه مما كثر
(5)
.
فصل:
قال الطبري: التواضع من المحن التي امتحن الله بها عباده المؤمنين؛ لينظر كيف طاعتهم فيها إياه، ولما علم تعالى من مصلحة خلقه في ذلك في عاجل دنياهم وآجل أخراهم، فمصلحة الدنيا به لو استعمله الناس لارتفع -والله أعلم- الشحناء بينهم والعدواة،
(1)
رواه الطبراني في "الأوسط" 5/ 139. عن نعيم بن مورع العنبري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 325: فيه: نعيم بن المورع العنبري، وقد وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات، وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(1910).
(2)
من (ص 2).
(3)
رواه البزار كما في "كشف الأستار"(3605) وقال: لا نعلمه إلا بهذا الإسناد، قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 253: وفيه ممن أعرفه اثنان.
(4)
رواه وكيع في "الزهد"(208)، وهو عند مسلم برقم (64/ 2865) عن الفضل بن موسى عن الحسين، عن مطر، عن قتادة، عن مطرف، عن عياض بن حمار مرفوعًا.
(5)
"الزهد والرقائق" ص 52 برواية نعيم بن حماد.
واستراحوا من تعب المباهاة، والمفاخرة والتذوا بما قسم لهم، وكان لهم فيه صلاح ذات البين، وارتفاع الحسد والشح.
روى النعمان بن بشير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للشيطان (مصائد)
(1)
وفخوخ، منها البطر بما أنعم الله، والفخر بعطاء الله، والتكبر على عباد الله"
(2)
.
فصل:
وتواضعه عليه السلام معلوم لا يخفى، ومنه أنه لما دخل مكة جعل الناس يقولون: هو هذا، هو هذا، فجعل يحني ظهره على الرحل، ويقول:"الله أعلى وأجل"
(3)
.
وهذِه سيرة السلف المهديين؛ روى سفيان، عن أيوب الطائي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خفيه، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره؛ فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنعًا عظيمًا عند أهل الأرض فصك في صدره، وقال له: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبون العز في غيره يذلكم الله
(4)
.
(1)
في هامش الأصل: (مضال).
(2)
رواه البيهقي في "الشعب" 6/ 287، والديلمي في "الفردوس" 1/ 208، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2463).
(3)
سلف برقم (3039)، (4043) والروايات التي وقفت عليها توضح أنه صلى الله عليه وسلم قالها في غزوة أحد. والله أعلم.
(4)
رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 61 - 62، 3/ 82، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الألباني في "الصحيحة"(51).
وروى ابن وهب بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أقبل في السوق يحمل حزمة حطب، وهو يومئذ خليفة لمروان، فقال: أوسعوا الطريق للأمير فقيل له: يكفي أصلحك الله، فقال: أوسع الطريق للأمير، فقيل له: يكفي أصلحك الله، فقال: أوسع الطريق والحزمة عليه
(1)
. وعن عبد الله بن سلام أنه خرج من حائط له بحزمة حطب يحملها، فقيل له: قد كان في ولدك وعبيدك من يكفيك هذا قال: أردت أن أجرب قلبي هل ينكر هذا
(2)
. وعن سالم بن عبد الله أنه كان يخرج إلى السوق، فيشتري حوائج نفسه، وكان الربيع بن خثيم يكنس الحش بنفسه، فقيل له: إنك تكفى هذا. فقال: أحب أن آخذ بنصيبي من المهنة
(3)
. واستقصاء ذلك مما يطول.
فصل:
وقوله: ("وما ترددت عن شيء .. ") إلى آخره. أي: ما عطفت وشفقت، والكراهية من الله، والمحبة، والرضا، والسخط، والغضب ما يكون منه من ذلك قد سبق في علمه، فليس هو محتمل الحوادث. وقال الخطابي: هو مثل، والتردد في صفات الله غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير ثابت، وتأويله على وجهين:
أحدهما: أن العبد قد يشرف مرات على المهالك فيدعو الله فيشفيه، يكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرًا، ثم يبدو له ولا مرد له منه إذا بلغ الكتاب أجله؛ فإنه كتب الفناء على خلقه، وهذا على معنى ما ورد: أن الدعاء يرد البلاء.
(1)
رواه أبو داود في "الزهد"(284).
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد" ص 287.
(3)
رواه الإمام أحمد بن حنبل في "الزهد" ص (408)، وهناد في "الزهد" ص 408.
والثاني: ما ترددت رسلي في شيء أنا فاعله ترددي إياهم في ذلك، وكما روي في قصة موسى وملك الموت، وما كان من لطمه وتردده إليه، وحقيقة المعنى في الوجهين بقاء عطف الله على العبيد، وشفقته عليهم
(1)
.
(1)
"أعلام الحديث" 3/ 2259، 2260.
39 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ»
6503 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا» . وَيُشِيرُ بِإِصْبَعَيْهِ فَيَمُدُّ بِهِمَا. [انظر: 4936 - مسلم: 2950 - فتح: 11/ 347].
6504 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ -هُوَ الْجُعْفِيُّ- حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» . [مسلم: 2951 - فتح: 11/ 347].
6505 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» . يَعْنِي: إِصْبَعَيْنِ. تَابَعَهُ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ. [فتح: 11/ 347].
ثم ساق حديث سَهْلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا". وُيشِيرُ بِإِصْبَعَيْهِ فيمدهما.
وحديث أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ". يعني: إصبعين.
وحديث أبي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ". يَعْنِي: إِصْبَعَيْنِ. تَابَعَهُ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ.
الشرح:
قوله: ("كهاتين" يعني: إصبعين)، أي: السبابة والوسطى، والمعنى: أنه ليس بينه وبينها نبي. وقيل: إن بينهما يسيرًا كما بينهما في الطول.
ومن هنا إلى كتاب القدر حذفه ابن بطال، وذكر عقبه باب فضائل القرآن، وقد أسلفناه نحن، وعند الطبري: زيادة في الحديث، وإنما سبقها بما سبقت هذِه هذِه، يعني الوسطى السبابة، قال: وأورده من طرق كثيرة صححها، وأورد معه قوله عليه السلام -يعني: ما رواه من حديث راشد، عن سعد بن أبي وقاص- "لن يعجز الله أن يؤخر هذِه الأمة نصف يوم"
(1)
يعني: خمسمائة عام، وأخرجه أبو داود أيضًا
(2)
. قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، قال: وفي حديث زمل
(3)
الخزاعي حين قص على رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه، وفيها: رأيتك يا رسول الله على منبر سبع درجات، وإلى جنبك ناقة عجفاء، كأنك تنعتها. ففسر له عليه السلام الناقة بقيام الساعة التي أنذر بها، وقال في المنبر ودرجاته:"الدنيا السبعة آلاف سنة بعثت في آخرها".
والحديث وإن كان ضعيف الإسناد، فقد نقل عن ابن عباس من طرق صحاح أنه قال: الدنيا سبعة أيام، كل يوم ألف سنة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها.
(1)
رواه أحمد في "مسنده" 1/ 170، والحاكم في "مستدركه" 4/ 424 - 425 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الذهبي -متعقبًا له-: لا والله، ابن أبي مريم ضعيف، ولم يرويا له شيئًا.
(2)
رواه أبو داود (4350)، من طريق شريح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، به. وصححه العجلوني في "كشف الخفا" 2/ 149، والألباني في "الصحيحة"(1643).
(3)
ورد بهامش الأصل: قال الذهبي في "تجريده": 1/ 191 زمل الخزاعي قص على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه، ولا يصح ذلك، ذكره السهيلي. انتهى.
وصحح الطبري هذا الأصل، وعضده بآثار ثم قال: وهذا في معنى ما قبله يشهد له، وبينه أن الوسطي تزيد على السبابة بنصف سبع، كما أن نصف يوم من سبعة نصف سبع، قال: وليس قوله: "لن يعجز الله أن يؤخر هذِه الأمة نصف يوم"، ما ينفي الزيادة على النصف، ففي قوله:"بعثت أنا والساعة كهاتين". ما يقطع به على صحة تأويلها
(1)
. وقد قيل في تأويله غير هذا، وهو أنه ليس بينه وبين الساعة نبي غيره ولا شرع غير شرعه مع التقريب بحينها، قال تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} و {أَتَى أَمْرُ اللهِ} [النحل: 1]، ولما نزلت هذِه وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] جلس. قال بعضهم: إنما وثب خوفًا أن تكون قد قامت.
فإن قلت: قد ثبت أنه قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل"
(2)
، وهو دال على أنه لم يكن عنده علم منها، وحديث الباب دال على أنه كان عالمًا بها؟
قيل له: قد نطق القرآن بقوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ} [الأعراف: 187] فلم يكن يعلمها هو ولا غيره، وحديث الباب معناه أنه النبي الآخر فلا يليني نبي آخر، إنما تليني القيامة، كما تلي السبابة الوسطي، وليس بينهما إصبع. وهذا لا يوجب أن يكون له علم بها، قال السهيلي: ولكن إذا قلنا إنه بعث في الألف الآخر بعد ما مضت منه سنون، ونظرنا بعده إلى الحروف المقطعة في أوائل السور وجدناها أربعة عشر حرفًا تجمعها:(ألم يسطع نص حق كره)، ثم نأخذ الحساب
(1)
انظر: "الروض الأنف" 2/ 295.
(2)
سلف برقم (50)، كتاب: الإيمان، باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة.
على أبي جاد ولم يسم الله سبحانه في أوائل السور إلا هذِه الحروف، فليس يبعد أن يكون من بعض مقتضياتها، وبعض فوائدها الإشارة إلى هذا العدد من السنين لما قدمناه من حديث الألف السابع الذي بعث فيه، غير أن هذا الحساب يحتمل أن يكون من مبعثه، أو من وفاته، وكل قريب بعضه من بعض، فقد جاء أشراطها، ولكن لا تأتيكم إلا بغتة، وقد روي أن المتوكل العباسي سأل جعفر بن عبد الواحد العباسي عما بقي من الدنيا، فحدثه بحديث رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "إن أحسنت أمتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة، وذلك ألف سنة، وإن أساءت فنصف يوم"
(1)
ففي هذا الحديث تتميم الحديث المتقدم، وبيان له
(2)
. هذا كلامه.
وقد رددنا عليه فيما مضى، وأن قوله:(زملًا) صوابه ابن زمل، وأن العسكري وابن منده وابن حبان
(3)
، سموه عبد الله، وأن الطبري سماه الضحاك، وتبعه أبو نعيم
(4)
، قال ابن الأثير: وأراهما ذهبا غير مذهب، ولعلهما حفظا اسم الضحاك من زمل الذي من أتباع التابعين، فظناه ذاك
(5)
. وقال أبو موسى المديني: أما ابن زمل هذا فلا أعلمه سمي في شيء من الروايات، ثم إنه جعله خزاعيًّا، وإنما هو جهني، كما بينه الكلبي وغيره، وأن قوله: وإن كان حديث زمل ضعيف الإسناد لا يقال فيه.
(1)
الحديث أورده السهيلي في "الروض" 2/ 295، وضعفه العجلوني في "كشف الخفا" 2/ 314.
(2)
"الروض الأنف" 2/ 295.
(3)
"الثقات" 3/ 235.
(4)
"معرفة الصحابة" 3/ 1541.
(5)
"أسد الغابة" 3/ 47.
وقد قال ابن الأثير في كتابه "مثالب الطالبين": إن الفاظه (موضوعة)
(1)
، قال: وذكر بعض الحفاظ أنه موضوع، وقال أبو حاتم: لا أعتمد على إسناده، ولما ذكره ابن الجوزي وصف بعض رواته بالوضع، واحتجاجه بحديث جعفر أعجب منه لقول الدارقطني فيه: كان كثير الوضع.
(1)
في (ص 2): (مصنوعة لفقه).
40 - باب طلوع الشمس من مغربها
6506 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهْوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا» . [انظر: 85 - مسلم: 2954 - فتح: 11/ 352].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تقومن السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ فَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلَانِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ وَلَا يَطْوِيَانِهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلَا يَطْعَمُهُ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهْوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَسْقِي فِيهِ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ الرجل أُكْلَتَهُ إِلَى فِيهِ فَلَا يَطْعَمُهَا".
الشرح:
هذا الحديث سلف في آخر سورة الأنعام مختصرًا
(1)
.
والشمس تجري بقدرة الله {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86]، ثم تبلغ العرش فتسجد، ثم تستأذن؛ فيؤذن لها، فتعود إلى المطلع، فإذا كان تلك الليلة لم يأذن لها إلى ما شاء الله، ثم يؤذن لها، وقد مضى
(1)
سلف برقم (4635) كتاب: التفسير، باب: لا ينفع نفسًا إيمانها.
وقت فتسير سيرًا فيعلم أنها لا تبلغ إلى المطلع في باقي ليلتها فتعود إلى مغربها؛ فتطلع منه فمن كان قبل ذلك كافرًا لم ينفعه إيمانه، ومن كان مؤمنًا مذنبًا لم تنفعه توبته، وروي عنه عليه السلام:"باب التوبة مفتوح من قبل المغرب، وعرضه سبعون ذراعًا، فإذا طلعت الشمس منه لم يقبل من أحد توبة". ثم تلا هذِه الآية
(1)
، وقال ابن مسعود: تطلع الشمس من مغربها مع القمر في وقت واحد، فإنهما يغربان، ثم تلا:{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} [القيامة: 9]
(2)
.
فصل:
قال ابن فارس: اللقيحة: الناقة تحلب
(3)
. وقال ابن السكيت: هي لقحة، ولقوح، وقال غيره: لِقحة، ولقحة، وقد لقحت لقاحًا ولقحًا وهي التي تنجب حديثًا، وقال الجوهري: اللقحة: اللقوح، وقال عن أبي عمرو: إذا نتجت في لقوح شهرين أو ثلاثة ثم هي لبون
(4)
.
فصل:
معنى
(5)
"يليط حوضه": يصلحه، وفي رواية:(يلوط) بالواو
(6)
.
فصل:
قال الجوهري وابن فارس: لطت الحوض بالطين لوطًا، أي: لطته
(1)
رواه الطبراني في "الكبير" 8/ 58 - 59.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 332.
(3)
"مجمل اللغة" 2/ 812.
(4)
"الصحاح" 1/ 401.
(5)
ورد بهامش الأصل: سيأتي في الفصل بعد هذا كلام في (يلوط).
(6)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه" 15/ 259، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(3573).
به وطينته
(1)
. وقال الخطابي: يقال: لاط حوضه إذا مدره، وهو أن يعمل من فخاره تلبيد حصاصه، وبالمدر ونحوه لئلا يتسرب الماء
(2)
. فعلى هذا يكون يُليط: رباعيًا، وذكر القزاز أنها لغة، ومنه حديث ابن عمر رضي الله عنهما كان يُليط أولاد الجاهلية لمن ادعاهم في الإسلام، وأصله اللصوق، ومنه: قيل للشيء إذا لم يوافقك: هذا لا يلتاط بظهري. أي: يلصق بقلبي، ومنه حديث الباب يقال: لاط به، يلوط، ويليط، لوطًا وليطًا، ولياطًا إذا لصق به، أي: الولد ألصق بالقلب،
ومنه قول البحتري: ما أزعم أن عليًّا أفضل من أبي بكر ولا عمر، ولكن أجد له من اللوط مالا أجد لأحد بعد رسول الله.
فصل:
الأكلة بالضم: اللقمة، وهي القرصة أيضًا، وبالفتح: المرة الواحدة حتى تشبع.
فصل:
هذا كله إخبار عن الساعة أنها تأتي فجأة، وأسرع ما فيه دفع اللقمة إلى الفم، وعند مسلم:"ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض"
(3)
وفي لفظ: "بادروا بالأعمال ستًّا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخاصة أحدكم، وأمر العامة"
(4)
. وفي لفظ: "من تاب قبل
(1)
"الصحاح" 3/ 1158، و"مجمل اللغة" 2/ 798.
(2)
"أعلام الحديث" 3/ 2261.
(3)
رواه مسلم برقم (158)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان.
(4)
رواه مسلم برقم (2947)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: في بقية من أحاديث الدجال.
أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه"
(1)
.
وعند البخاري، عن أبي ذر رضي الله عنه يرفعه، وذكر الشمس أنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها، قال:"وكأنها قد قيل لها اطلعي من حيث جئت؛ فتطلع من مغربها"، ثم قرأ في قراءة عبد الله:(وذلك مستقرها)
(2)
.
وعند مسلم: "يقال لها: ارجعي اطلعي من مغربك، فتطلع من مغربها، أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل"
(3)
.
وروى الترمذي وقال: صحيح عن صفوان بن عسال قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة، (منذ)
(4)
سبعين سنة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها"
(5)
.
فائدة: روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: إنما لم تقبل التوبة وقت الطلوع؛ لأنه تكون صيحة يهلك فيها كثير من الناس، فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت، وهلك لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته. ذكره أبو الليث في "تفسيره"
(6)
.
(1)
رواه مسلم برقم (2703) كتاب: الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار والاستكثار فيه.
(2)
سيأتي برقم (7424) كتاب: التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء. وفيه القراءة: (وذلك مُستَقَرٌ لها).
(3)
في (ص 2): مده.
(4)
مسلم (159/ 250) كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان.
(5)
رواه الترمذي برقم (3536)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(3137).
(6)
"تفسير السمرقندي" 1/ 526.
41 - باب «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ»
6507 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» . قَالَتْ عَائِشَةُ -أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ- إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ. قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» . اخْتَصَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَعَمْرٌو، عَنْ شُعْبَةَ. وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 2683، 2684 - فتح: 11/ 257].
6508 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» . [مسلم: 2686 - فتح: 11/ 357].
6509 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهْوَ صَحِيحٌ «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ» . فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ:«اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى» . قُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ. قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى» .
ذكر فيه: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثنا هَمَّامٌ، ثنا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ عُبَادَةَ ابْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ،
وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ". فقَالَتْ عَائِشَةُ -أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ- إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ. قَالَ: "لَيْسَ ذَلكِ، ولكن المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فكَرِهَ لِقَاءَ اللهِ فكره اللهُ لِقَاءَهُ". اخْتَصَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَعَمْرٌو، عَنْ شُعْبَةَ. وَقَالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ساق حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ".
وحديث سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ، أَنَ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَهْوَ صَحِيحٌ "إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرَ". فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ:"اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى". فقُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَدِيثُ الذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ. قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى".
الشرح:
قوله: (اختصره أبو داود، وعمرو، عن شعبة)، كأنه يريد بحديث أبي داود
(1)
ما رواه الترمذي عن محمود بن غيلان، عنه بلفظ حديث أبي موسى سواء من غير زيادة
(2)
.
(1)
الطيالسي في "مسنده" 1/ 468 - 469. كما وضح ذلك ابن حجر في "الفتح" 11/ 360.
(2)
رواه الترمذي (309) وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(5964).
والتعليق عن عمرو المذكور، أخرجه الطبراني في "أكبر معاجمه" عن أبي مسلم الكَشّي، ويوسف بن يعقوب القاضي قالا: ثنا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، فذكره بمثل لفظ أبي داود سواء. وتعليق سعيد إلى آخره أخرجه مسلم، عن محمد بن عبد الله الرُّزِّي، ثنا خالد، وحدثنا ابن يسار، وثنا محمد بن بكر كلاهما عن سعيد به
(1)
.
وفي مسلم عن عائشة: إذا شخص البصر، وحشرج الصدر، واقشعر الجلد، وتشنجت الأصابع، فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله ..
(2)
الحديث. وعنها أيضًا في "تفسير عبد بن حميد": إذا أراد الله بعبد خيرًا قيض له قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يقال: مات فلان بخير ما كان، فإذا حُضِر ورأى ثوابه تهرع نفسه، فذلك حين أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإذا أراد بعبد سوءًا قيض له قبل موته بعام شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقول الناس: مات بشر ما كان عليه فإذا حُضِر ورأى ما نزل به من العذاب تقلع نفسه، فذلك حين يكره لقاء الله، ويكره الله لقاءه.
وروى ابن جريج أنه عليه السلام قال لعائشة رضي الله عنها في تفسير قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون: 99] "إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا له: نرجعك إلى الدنيا؟ فيقول: إلى دار الهموم والأحزان، ثم يقول: قدماني إلى الله، وأما الكافر فيقول:{ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}
(3)
[المؤمنون: 99، 100] وروينا عن ابن المبارك عن حيوة، أخبرنا أبو صخر، عن محمد بن كعب أنه قال: إذا استنقعت
(1)
رواه مسلم (2684)، كتاب الذكر والدعاء، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
(2)
رواه مسلم (2685) كتاب الذكر والدعاء، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
(3)
رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 242.
نفس المؤمن جاء ملك الموت، فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام ثم ينزع بهذه الآية {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ}
(1)
[النحل: 32]. وفي حديث البراء رضي الله عنه: "لا تقبض روحه حتى يسلم عليه"
(2)
. ولابن ماجه بإسناد جيد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا كان الرجل صالحًا قيل له: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب راض غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج"
(3)
.
فصل:
المحبة والكراهية عبارة عما يحل في العبد من رضى أو سخط، قال الخطابي: واللقاء على وجوه منها: الرؤية، والمعاينة، والبعث، والنشور؛ لقوله تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ} [الأنعام: 31] أي: بالبعث، ومنها الموت، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8]، وقوله:{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ} [العنكبوت: 5] أي: يخاف الموت
(4)
.
فصل:
قوله: (فأشخص بصره إلى السقف). قيل: فيه دليل أنه كشف له عن مكانه في الجنة، وفيه: علم عائشة رضي الله عنها أنه يختار الأفضل.
(1)
رواه ابن المبارك في "الزهد" ص 149، والبيهقي في "الشعب" 1/ 361.
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 351 - 352، وصححه، قال الذهبي: عبد الله قال ابن عدي: مظلم الحديث، ومحمد، قال ابن حبان: لا يحتج به. اهـ كلام الذهبي.
(3)
رواه ابن ماجه (4262)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1968).
(4)
"أعلام الحديث" 3/ 2263.
يقال: شخص بالفتح: ارتفع، وشخص بصره: إذا فتح عينيه، وجعل لا يطرف.
وقوله: ("اللهم الرفيق الأعلى") هو دعاء بالرفعة، وعلو المنزلة في الجنة، وهو أن يكون مع الرفيق الأعلى، وهو أفضل موضع في الجنة، وذكر عن الداودي أنه قال: الرفيق: سقف البيت. وهذا غير معروف في اللغة، وقد رددناه عليه فيما مضى، لا جرم قال هنا: إنه الجنة.
وقولها: (إذًا لا يختارنَا). تقرأ برفع الراء من يختار؛ لأنه فعل حال، و (إذًا) إنما تنصب الفعل المستقبل إذا لم يعتمد ما بعدها على ما قبلها، وإذا لم يكن معها حرف عطف، فإن كان معها حرف عطف جاز الوجهان: الرفع، والنصب، وإذا لم يكن للفعل فعل، وهو هنا فعل حال؛ لأنها قالت: إذًا لا يختارنا. أي: هو في هذِه الحالة غير مختار لنا؛ لأن الحال لا تعمل فيها العوامل الماضية.
وقولها: (ورأسه على فخذي). لا يخالف حديثها الآخر: مات بين سحري ونحري. لجواز أن يكون رفع رأسه بعد إليه، ولم يتكلم، ثم مات.
42 - باب سَكَرَاتِ المَوْتِ
6510 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ -أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ، يَشُكُّ عُمَرُ- فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ:«لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ» . ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: «فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى» . حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ. [انظر: 890 - مسلم: 2443 - فتح: 11/ 361].
6511 -
حَدَّثَنِي صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأَعْرَابِ جُفَاةً يَأْتُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَسْأَلُونَهُ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ فَيَقُولُ: «إِنْ يَعِشْ هَذَا لَا يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ» . قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِي: مَوْتَهُمْ. [مسلم: 2952 - فتح: 11/ 361].
6512 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ:«مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ». [انظر: 6513 - مسلم: 950 - فتح: 11/ 361].
6513 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ» . [انظر: 6512 - مسلم: 950 - فتح: 11/ 362].
6514 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ،
وَيَبْقَى عَمَلُهُ». [مسلم: 2690 - فتح: 11/ 362].
6515 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ غُدْوَةً وَعَشِيًّا، إِمَّا النَّارُ وَإِمَّا الْجَنَّةُ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ» . [انظر: 1379 - مسلم: 2866 - فتح: 11/ 362].
6516 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» . [مسلم: 1393 - فتح: 11/ 362].
ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
(وهو أولها ظاهر فيما ترجم له، فيها)
(1)
: حديث ابن أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ أَبَا عَمْرٍو ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ، أَوْ عُلْبَةٌ، فِيهَا مَاءٌ -يَشُكُّ عُمَرُ يعني: ابن سعيد- فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي المَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ:"لَا إله إِلَّا اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ لسَكَرَاتٍ". ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ:"فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى". حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ.
الركوة: بكسر الراء
(2)
، قال ابن سيده: هي شبه تور من أدَم، والجمع: رَكَوَات، ورِكَاء
(3)
. وقال الجوهري: وقولهم في المثل: صارت القوس ركوة، يضرب مثلًا في الإدبار وانقلاب الأمور
(4)
،
(1)
من (ص 2).
(2)
ورد بهامش الأصل: في "المطالع": فيها فتح الراء وكسرها.
(3)
"المحكم" 7/ 102.
(4)
"الصحاح" 6/ 2361.
وعند المطرزي: هي دلو صغير، وقال أبو عبيد: العلبة من الخشب، والركوة من الأدم، وقال العسكري في "تلخيصه": والعلبة: قدح الأعراب تتخذ من جلد جنب البعير، والجمع: علاب، وفي "الموعب" لابن التياني: العلبة على مثال ركوة: القدح الضخم العظيم من جلود الإبل، وعن ابن أبي ليلى: العلبة أسفلها جلد، وأعلاها خشب مدورًا، لها إطار كإطار المنخل والغربال، والجمع: علب. وفي "العين": العلاب بالكسر: جفان، أو عساس تحلب فيها الناقة
(1)
، وقال في "المحكم": هي كهيئة القصعة من جلد، ولها طوق من خشب
(2)
.
وفي "الجامع" للقزاز: العلبة من الخشب كالقدح، وعبارة ابن فارس: العلبة قدح من خشب ضخم يحلب فيه
(3)
، وقال الجوهري: هي من جلد، والجمع علَب، وعلاب، والمعلِّب: الذي يتخذ العُلْبَة
(4)
، وعبارة الداودي: هي شيء كالركوة.
الحديث الثاني:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأَعْرَابِ جُفَاةً يَأْتُونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَيَسْأَلُونَهُ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى أَصْغَرِهِمْ فَيَقُولُ: "إِنْ يَعِشْ هذا لَا يُدْرِكْهُ الهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ". قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِي: مَوْتَهُمْ.
قال الجوهري: ليس الأعراب جمعًا لعرب كما كان الأنباط جمعًا لنبط، وإنما العرب اسم جنس
(5)
.
(1)
انظر: "العين" 2/ 147.
(2)
"المحكم" 2/ 118.
(3)
"مجمل اللغة" 3/ 625.
(4)
"الصحاح" 1/ 189.
(5)
"الصحاح" 1/ 178.
قال الداودي: والذي جاوبهم به هو من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، وقال لهم ذَلِكَ؛ لئلا يرتابوا إذا قال لهم: لا علم لي، فإذا تمكن الإيمان معهم قبلوا ما يقال لهم.
الحديث الثالث:
حديث أَبِي قَتَادَةَ الحارث بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: "مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ
…
" الحديث.
وقد سلف
(1)
، (رواه عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، عن محمد بن عمرو بن حلحلة، عن معبد بن كعب، عن أبي قتادة به، وليس له عن معبد غيره، ورواه مسلم، والنسائي، عن قتيبة، عن مالك
(2)
، وأخرجوه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن ابن حلحلة أيضًا)
(3)
.
وقوله: "المؤمن يستريح من نصب الدنيا" يحتمل أن يريد كل مؤمن، ويحتمل أن يريد السعداء، وقوله:"والعبد الفاجر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب " يحتمل أن يدخل فيه مذنبو المؤمنين.
الحديث الرابع:
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ حَلْحَلَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبٍ بْنِ مالك، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ، المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ".
(1)
قلت: بل سيأتي بعده برقم (6513).
(2)
"صحيح مسلم"(950/ 61)، "المجتبى" 4/ 48، "السنن الكبرى" 1/ 628 (2057).
(3)
من (ص 2).
قال الجياني: كذا روي عن أبي زيد، وأبي ذر عن شيوخه، لم يذكر أبو ذر خلافًا عنهم، وكان في نسخة الأصيلي: يحيى، عن عبد الله بن سعيد، ثم غيره إلى عبد ربه بن سعيد، كما روى أبو زيد، وهذا كله وهم، ورواه ابن السكن، عن الفربري، عن البخاري: ثَنَا مسدد، ثَنَا يحيى، عن عبد الله بن سعيد -وهو ابن أبي هند- عن محمد بن عمرو، وهذا هو الصواب، والحديث محفوظ عنه لا لعبد ربه.
وكذا خرجه مسلم
(1)
، والنسائي
(2)
في حديث يحيى بن سعيد القطان من تأليفه.
وكذا أخرجه ابن السكن في "مصنفه" من حديث عبد الرزاق
(3)
، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند
(4)
.
الحديث الخامس:
حديث أَنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ، يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ".
هذا الحديث أخرجه مسلم
(5)
والترمذي -وقال: حسن صحيح- في الزهد
(6)
، والنسائي هنا، والجنائز
(7)
.
(1)
مسلم (950).
(2)
"النسائي" 4/ 48 (1930).
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 3/ 1443 (6254).
(4)
"تقييد المهمل" 2/ 742 - 743.
(5)
مسلم (2690).
(6)
الترمذي (2379).
(7)
"المجتبى" 4/ 53، "السنن الكبرى" 1/ 630 (2064).
قال الداودي: المراد بالمال: ما يلقى عليه من سريره، وما يلبسه أهله، وما يخرج وراءه من رقيقه.
ومعنى: "ويبقى عمله": يدخل معه القبر، فإن كان سعيدًا مثل له أحسن صورة، فيؤنسه ويبشره ما كان روحه معه في قبره، فيقول: من أنت يرحمك الله؟ فيقول: عملك. وإن كان سيئًا مثل له في أقبح صورة، فيقول له: من أنت؟ فيقول: عملك. ويصحبه كذلك حَتَّى يحشر.
الحديث السادس:
حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ غُدْوَةً وَعَشِيًّا، إِمَّا النَّارُ وَإِمَّا الجَنَّةُ، فَيُقَالُ: هذا مَقْعَدُكَ حَتَّى تُبْعَثَ".
(هذا الحديث سلف في الجنائز
(1)
.
وهو)
(2)
ضرب من العذاب كبير، كما كان يمثل في الدنيا بمن عرض عليه القتل، أو غيره من التهديد من غير أن يرى الآلة، قال تعالى في حق الكافرين:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]، فأخبر تعالى بعرضهم، كما كان أهل السعادة يعرضون على الجنة، قيل: ذَلِكَ مخصوص بالمؤمن الكامل الإيمان، ومن أراد الله نجاته من النار، وأما من أنفذ الله عليه وعيده من المخلطين الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فله مقعدان يراهما جميعًا، كما أن يري عمله شخصين في وقتين، أو في وقت واحد قبيحًا وحسنًا، وقد
(1)
برقم (1379).
(2)
من (ص 2).
يحتمل أن يراد بأهل الجنة كل من يدخلها كيفما كان، وقيل: إنما هذا العرض إنما هو على الروح وحده، ويجوز أن يكون مع جزء من البدن، ويجوز أن يكون عليه مع جميع الجسد، فترد إليه الروح، كما ترد عند المسألة حَتَّى يقعده الملكان، ويقال له: انظر إلى مقعدك من النار، وقد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، وكيفما كان، فإن العذاب محسوس، والألم موجود، والأمر شديد، وقد ضرب بعض العلماء لتعذيب الروح مثلًا في النائم؛ فإن روحه تتنعم، أو تعذب، والجسد لا يحيى بشيء من ذَلِكَ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أرواح آل فرعون في أجواف طير سود، يعرضون على النار كل يوم مرتين يقال لهم: هذِه داركم، فذلك قوله:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] عنه أيضًا: أن أرواحهم في أجواف طير سود تغدوا على جهنم وتروح كل يوم مرتين، فذلك عرضها
(1)
.
وقد قيل: إن أرواحهم في صخرة سوداء تحت الأرض السابعة على شفير جهنم في حواصل طير سود.
فصل:
"عرض عليه مقعده غدوة وعشيًّا" كذا هنا، وفي حديث كعب: إنما يشبهه المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حَتَّى يرجعها إلى جسده يوم القيامة
(2)
، وليس باختلاف يعلق في شجر الجنة سائر الأوقات، ويعرض عليها مقعدها غدوة وعشيًّا.
(1)
انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" 10/ 3267 (18435).
(2)
ابن ماجه (4271).
الحديث السابع:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا".
أي: بلغوه، ووصلوا إليه مشافهة، ومنه: أفضى إلى سره، وأفضى إلى امرأته: أي: باشرها. وقد سلف الكلام عليه في الجنائز.
43 - باب نَفْخِ الصُّورِ
وقَالَ مُجَاهِدٌ: الصُّورُ كَهَيْئَةِ البُوقِ. {زَجْرَةٌ} [الصافات: 19]: صَيْحَةٌ. وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: النَّاقُورُ: الصُّورُ. {الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6]: النَّفْخَةُ الأُولَى. و {الرَّادِفَةُ} [النازعات: 7]: النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ.
6517 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالأَعْرَجِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ، رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: الْمُسْلِمُ وَالَّذِى اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ. فَقَالَ الْيَهُودِىُّ: وَالَّذِى اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ، قَالَ: فَغَضِبَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ فِي أَوَّلِ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مُوسَى فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ» . [انظر: 2411 - مسلم: 2373 - فتح: 11/ 367].
6518 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«يَصْعَقُ النَّاسُ حِينَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ قَامَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ، فَمَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ» .
رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2411 - مسلم: 2373 - فتح: 11/ 367].
ثم ساق حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ، رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ المُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطفَى مُحَمَّدًا عَلَى العَالَمِينَ. فَقَالَ اليَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى العَالَمِينَ، قَالَ: فَغَضِبَ المُسْلِمُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ اليَهُودِيِّ، الحديث إلى أن
قال: "لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ فِي أَوَّلِ مَنْ يُفِيقُ، فَإذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِب العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مُوسَى فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ عز وجل".
وعنه أيضًا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَصْعَقُ النَّاسُ حِينَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ قَامَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ، فَمَا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ". رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
(تعليق أبي سعيد أسنده في مناقب موسى كما سلف
(1)
، وقد سلف حديث أبي هريرة هناك من طريق عنه
(2)
، واللاطم: هو الصديق رضي الله عنه، واليهودي اسمه فنحاص، قاله ابن بشكوال)
(3)
، وما ذكره عن مجاهد، وابن عباس مذكوران في تفسيريهما
(4)
.
والذي عليه المفسرون أن الصور: قرن ينفخ فيه إسرافيل، قال أهل اللغة: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، ينفخ فيها الروح نفخًا، وقرأ الحسن بفتح الواو
(5)
، والصِور بكسر الصاد لغة في الصور: جمع صورة، وأنكره النحاس، وقال: لا يعرف هذا أهل التفسير
(6)
. قال: والحديث على أنه الصور الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. وما ذكره في
(1)
برقم (3398).
(2)
برقم (3408).
(3)
من (ص 2).
قلت: انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 301.
(4)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 304 (35378)، (35380).
(5)
انظر: "زاد المسير" 3/ 69.
(6)
"معاني القرآن" للنحاس 4/ 486.
تفسير الراجفة، والرادفة هو الذي عليه المفسرون، قالوا: وبينهما أربعون سنة، وقيل: الراجفة: الأرض، الرادفة: الساعة.
وقوله: "لا تخيروني على موسى" قيل: إنه كان قبل أن يوحى إليه السيادة، وقوله في الرواية الأولى:"فلا أدري أكان موسى ممن صعق" قال الداودي: هي وهم؛ لأنه إنما يصعق الأحياء، وموسى يومئذٍ ميت فكيف؟ وضبط صُعق بضم الصاد.
قال: وقوله: "أو كان ممن استثنى الله" أي جعله لي ثانيًا، أو كان قبلي، قال: وإن كان المحفوظ أنه جوزي بالصعقة فمعناه: أفاق قبله بفضيلة (أعطيها)
(1)
، أو مجازاة بالصعقة، وقيل معنى:"ممن استثنى الله": (أي: استثنى)
(2)
في قوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} [الزمر: 68]، ولابن ماجه بإسناد جيد: فذكرت ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قال الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بموسي" الحديث
(3)
.
وقيل: إن المستثنى الملائكة، وقيل: الشهداء، وقيل: الأنبياء، واختار الحليمي: الشهداء، قال: وهو يروى عن ابن عباس، واستدل بقوله تعالى:{أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، وضعف غيره من الأقوال
(4)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
(3)
ابن ماجه (4274).
(4)
انظر: "شعب الإيمان" للبيهقي 1/ 310 - 311.
ونقل القرطبي أبو العباس فقال: الصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل
(1)
. قلت: أخرجه البيهقي في "البعث والنشور" بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: أنه سأل جبريل عن هذِه الآية "من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: هم شهداء الله" أخرجه عن الحاكم ثَنَا علي بن عيسى بن إبراهيم، ثَنَا الحسين بن محمد القباني، ثَنَا أبو بكر وعثمان، ابنا أبي شيبة، أنا عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه به
(2)
، وأخرجه ابن معبد في كتاب "الطاعة" أيضًا بلفظ: يا رسول الله، فمن استثنى الله حين قال:{إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} قال: "أولئك الشهداء".
وروى النحاس في "معانيه" من حديث حُجْر المدري عن سعيد بن جبير: هم الشهداء
(3)
.
وقال الحسن بن أبي الحسن: استثنى عز وجل طوائف من السماء يموتون بين النفختين؟ وقال يحيى بن سلام في "تفسيره": بلغني أن آخر من يبقى منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم يموت جبريل وميكائيل وإسرافيل، ثم يقول الله لملك الموت: مت، (فيموت)
(4)
، وقد جاء هذا مرفوعًا أيضًا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل: هم حملة العرش وجبريل وميكائيل وملك الموت، وقال الحليمي: من
(1)
"المفهم" 6/ 231.
(2)
"البعث والنشور" ص 328.
والحديث رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 253 وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(3)
"معاني القرآن" 5/ 149. ووقع فيه: (الهجري) بدل (المدري)، وهو تصحيف، انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 5/ 475 (1136).
(4)
من (ص 2). وانظر كلام يحيى بن سلام في "تفسير ابن أبي زمنين" 4/ 120.
زعم أن الاستثناء لأجل حملة العرش أو جبريل أو ميكائيل أو ملك الموت، أو زعم أنه لأجل الولدان، والحور في الجنة، أو زعم أنه لأجل موسى؛ فإنه عليه السلام قال:"أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأرفع رأسي فإذا موسى". الحديث، فإنه لا يصح شيء فيه
(1)
.
أما الأول: فلأن حملة العرش ليسوا من سكان السماء ولا الأرض؛ لأن العرش فوق السماوات كلها، فكيف تكون حملته في السماوات، وأما جبريل وملك الموت وميكائيل فمن الحافين المسبحين حول العرش، وإذا كان العرش حول السماوات لم يكن الاصطفاف حوله في السماوات، وكذلك القول الثاني؛ لأن الولدان والحور (في الجنة)
(2)
، والجنان وإن كانت بعضها فوق بعض؛ فإن جميعها فوق السماوات ودون العرش، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء، فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله جل وعلا للفناء، وصرفه إلى موسى لا وجه له؛ لأنه مات بالحقيقة فلا يموت عند نفخ الصور ثانية، ولهذا لم يعتد ما ذكر من اختلاف المتأولين في الاستثناء بقول من قال: إلا من شاء الله، أي: الذي سبق موتهم قبل نفخ الصور؛ لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة، فأما من لا يمكن دخوله فيها فلا معنى للاستثناء به، وهذا في موسى موجود، فلا وجه للاستثناء، وقد قال عليه السلام في ذكر موسى ما يعارض الرواية الأولى من قوله:"فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقته". فظاهر هذا أن هذِه صعقة غشي تكون يوم القيامة لا صعقة الموت الحادثة عند نفخ الصور، صرف ذكر يوم القيامة إلى أنه أراد أوائله.
(1)
انظر: "شعب الإيمان" 1/ 310 - 311.
(2)
من (ص 2).
قيل: المعنى أن الصور إذا نفخ فيه أخرى كنت أول من يرفع رأسه، فإذا موسى، فلا أدري أبعثه قبلي كان -وهذا له تفضيل من هذا الوجه كما فضل في الدنيا بالتكليم -أو جوزي بصعقة الطور، أي: قدم بعثه على بعث الأنبياء بقدر صعقته عندما تجلى ربه للجبل، إلى أن أفاق، ليكون هذا جزاءً له بها، وما عدا هذا فلا يثبت.
قال أبو العباس القرطبي: ظاهر الحديث يدل على أن ذَلِكَ إنما هو بعد النفخة الثانية -نفخة البعث- ونص القرآن العظيم يقتضي أن ذَلِكَ الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولما كان هكذا قال بعض العلماء: يحتمل أن موسى عليه السلام ممن لم يمت من الأنبياء، وهذا باطل مما تقدم من ذكر موته عليه السلام
(1)
.
وقال البيهقي: وجه هذا الحديث عندي -والله أعلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن رؤيته جماعة من الأنبياء ليلة المعراج في السماء، وإنما يصح ذَلِكَ على أن الله تعالى رد إليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا فيمن صعق، ثم لا يكون موتًا في جميع معاقبه إلا في ذهاب الاستشعار، فإن موسى فيمن استثنى الله بقوله:"إلا من شاء الله" فإنه تعالى لا يذهب استشعاره في تلك الحالة، ويحاسب بصعقة يوم الطور
(2)
.
وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذِه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات والأرض
(3)
.
قال القرطبي: والذي يزيح هذا الإشكال أن الموت ليس بعدم
(1)
"المفهم" 6/ 232 - 233.
(2)
"شعب الإيمان" 1/ 310.
(3)
"إكمال المعلم" 7/ 357.
محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، يدل على ذَلِكَ أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهذِه صفة الحياة في الدنيا، فإذا كان هذا في الشهداء كان ذَلِكَ في الأنبياء أحق وأولى، بل صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء"
(1)
. وأنه عليه السلام اجتمع بهم ليلة الإسراء في القدس والسماء، خصوصًا بموسى، وأخبرنا عليه السلام بما يقتضي أن الله تعالى يرد عليه روحه حَتَّى يرد السلام على كل من سلم عليه
(2)
إلى غير ذَلِكَ مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أنهم غيبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء وذلك كالحال في الملائكة، فإنهم (موجودين)
(3)
أحياء، ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامته من أوليائه، وإذا تقرر أنهم أحياء فإذا نفخ الصور نفخة الصعق صعق كل من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء فالأظهر أنه غشي، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث، فمن مات حيي، ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال عليه السلام:"فأكون أول من يفيق"
(4)
.
قلت: وإذا كان غيرهم ممن عدده الشارع أحياء، فالأنبياء أولى.
فصل:
قد سلف قوله: "فأكون أول من يفيق" وقد سلف أن موتهم غشي، فالآية حاصلة من ذَلِكَ، وقوله:"فلا أدري" إلى آخره: فضيلة عظيمة في
(1)
رواه أبو داود (1047)، والنسائي 3/ 91، وابن ماجه (1636).
(2)
رواه أبو داود (2041)، وأحمد 2/ 527.
(3)
كذا في الأصل، والجادة: موجودون.
(4)
انتهى من "المفهم" 6/ 233 - 234.
حق موسى عليه السلام، نعم لا يلزم من فضيلته أحد الأمرين المشكوك فيهما أفضلية موسى على نبينا مطلقًا؛ لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمرًا كليًّا، وهذا اختيار الحليمي، حيث قال: فإن حمل عليها الحديث (فذاك)
(1)
قال: وإنما الملائكة الذين ذكرناهم فإنا لم ننف عنهم الموت، ولا أحلناه، وإنما (استبنا)
(2)
أن يكونوا هم المرادين بقوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} من الوجه الذي ذكرناه، ثم قد وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش، وملك الموت، وميكائيل، ثم يميت آخر من يميت جبريل، ويحييه مكانه، ويحيي هؤلاء الملائكة الذين ذكرناهم، وأما أهل الجنة فلم يأت عنهم خبر، والأظهر أنها دار الخلد، والذي يدخلها لا يموت فيها أبدًا (مع كونه قابلًا للموت، فالذي خلق فيها أولى أن لا يموت فيها أبدًا)
(3)
، وأيضًا فإن الموت لقهر المكلفين، ونقلهم من دار إلى دار؛ وأهل الجنة لم يبلغنا أن عليهم تكليفًا؛ فإن أعفوا من الموت كما أعفوا من التكليف لم يكن بعيدًا، وأما قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي: ما من شيء إلا وهو قابل للهلاك فيهلك إن أراد الله به ذَلِكَ إلا وجهه. أي: إلا هو سبحانه؛ فإنه قديم، والقديم لا يمكن أن يفنى، وما عداه محدث، والمحدث إنما يبقى بقدر ما يبقيه محدثه؛ فإذا حبس البقاء عنه فني، ولم يبلغنا في خبر صحيح ولا معلول أنه مهلك العرش، فلتكن الجنة مثله
(4)
.
(1)
في الأصل: (فقال).
(2)
كذا في الأصل، ولعل المراد: استثنينا.
(3)
من (ص 2).
(4)
انظر: "شعب الإيمان" 1/ 311.
فصل:
في "مسند أبي داود الطيالسي" إلى ما عزاه إليه القرطبي؛ وإن لم أره فيه من حديث لقيط بن عامر بن صبرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم يلبثون ما لبثتم، ثم تبعث الصيحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات، والملائكة الذين مع ربك
(1)
تطوف البلاد، وقد خلت عليه البلاد"
(2)
(3)
.
قال العلماء: وهذا تفهيم وتقريب إلى أن جميع من في الأرض يموت، وأن الأرض تبقى خالية، وليس يبقى إلا هو.
فصل:
في فناء الجنة والنار عند فناء جميع الخلائق قولان حكاهما القرطبي وغيره أحدهما: لا، ويبقيان ببقاء الله، والثاني: يفنيهما، ولا يبقى شيء سواه، وهو معنى قوله:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ}
(4)
[الحديد: 3]، وإذا أفناهما فالمخلوق فيهما أولى بالفناء وغيره حكى قولًا ثالثًا بفناء النار فقط. ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذَلِكَ.
فصل:
اختلف في عدد النفخات، والذي في الصحيح نفختان
(5)
، قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} الآية [الزمر: 68] إلى قوله: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى}
(1)
في الأصل بعد هذِه الكلمة: فأصبح ربك.
(2)
ورد بهامش الأصل: هذا حديث مطول في "مسند أحمد" قد رأيته فيه من حديث لقيط بن عامر، والله أعلم.
(3)
" التذكرة" ص 195.
(4)
انظر: "التذكرة" ص 196.
(5)
سلف برقم (4814، 4935)، ورواه مسلم (2955).
[الزمر: 68] وروينا في كتاب "الطاعة" لعلي بن معبد، عن المسيب بن شريك، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن عبد الله بن يزيد، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إن الله عز وجل لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور، وأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش" قلت: يا رسول الله، وما الصور؟ قال:"قرن عظيم، والذي نفسي بيده إن أعظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فينفخ فيه ثلاث نفخات: أول نفخة: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: القيام لرب العالمين، يقول الله لإسرافيل: انفخ نفخة الفزع؛ فيفزع أهل السماء، وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويمدها، ويطولها"، وقد تمها بقول الله:{وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)} [ص: 15]، ويكون ذَلِكَ يوم الجمعة للنصف من رمضان فيسير الله الجبال، فتمر مر السحاب، ثم تكون سرابًا ثم ترتج الأرض بأهلها رجا، وهي التي يقول الله جل ثناؤه:{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)} [النازعات: 6، 7]، وتكون الأرض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج فيمتد الناس على ظهرها، وتذهل المراضع، وتضع الحوامل، ويشيب الولدان، وتتطاير الشياطين هاربة حَتَّى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة تضرب وجوهها فترجع، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضًا، وهي التي يقول الله يوم التناد:{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 133]؛ فبينا هم على ذَلِكَ أن تصدعت الأرض من قطر إلى قطر، ورأوا أمرًا عظيمًا، فأخذهم من الكرب ما الله به عليم، ثم ينظرون إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم انشقت وانخسفت شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت السماء عنهم، قال عليه السلام: "والموتى يومئذٍ
لا يعلمون بشيء من ذَلِكَ، فيمكث بذلك ما شاء الله إلا أنه
(1)
يطول، ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق". ثم ساق الحديث. وفيه:"ثم يهتف بصوته ثلاث مرات: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]، ثم يقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} "[غافر: 16]
(2)
.
وعند الزمخشري: فينادي منادٍ: لمن الملك اليوم، فيجيبه أهل الجنة
(3)
: لله الواحد القهار
(4)
وفيه: "ثم يقول لاسرافيل بعد أن أماته ثم أحياه: انفخ نفخة البعث، فينفخ". الحديث، وعلته إسماعيل بن رافع، ضعفوه، قال العلاء: اجتمعوا على ترك حديثه، وأعجب من ابن العربي حيث قال في "سراجه": يوم الزلزلة: هو الاسم الثاني عشر، يكون عن النفخة الأولى بهذا الحديث الواحد، المنفرد، غريب منه، فأين الصيحة، وكذا قول أبي عبد الله القرطبي: هو حديث صحيح، وادعى عبد الحق في "عاقبته" انقطاعه، فقال: لا يصح مع انقطاعه. وعذره أنه لم يره إلا في "تفسير الطبري"، وقد أخرجه من حديث إسماعيل هذا عن جدته عن محمد بن كعب، وقد أخرجناه موصولاً، والمسيب بن شريك، وعبد الله بن يزيد يبحث عنهما، نعم أخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي في "تفسيره"، عن محمد بن عجلان قال: سمعت محمد بن كعب، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ فذكره. قال القرطبي: وقد قيل إن نفخة الفزع هي نفخة الصعق؛ لأن الأمرين لازمان لها أي: إنهم فزعوا فزعًا ماتوا منه، والسنة الثابتة
(1)
ورد بهامش الأصل: لعله سقط (لا).
(2)
رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" 1/ 84 - 87.
(3)
في المطبوع من "الكشاف": المحشر.
(4)
انظر: "الكشاف" 4/ 77.
على ما سلف من حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما يدل على أنها ثلاث نفخات
(1)
، وهو الصحيح -إن شاء الله- قال تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} [الزمر: 68]، فاستثنى هنا كما استثنى في نفخة الفزع؛ فدل على أنهما واحدة
(2)
.
فصل:
وقد روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "ما بين النفختين أربعون"، قالوا: يا أبا هريرة أربعون يومًا؟ قال أبيت
(3)
. وروى ابن المبارك من حديث الحسن: أنه عليه السلام قال: "بين النفختين أربعون سنة الأولى يميت الله بها كل حي، والأخرى يحيي بها كل ميت"
(4)
.
وقال الحليمي: اتفقت الروايات على أن بين النفختين أربعين سنة، وذلك بعد أن يجمع الله جل وعلا ما تفرق من أجساد الناس من بطون السباع، وحيوانات الماء، وبطن الأرض وغيرها، فإذا جمعها، وأكمل كل بدن منها، ولم يبق إلا الأرواح، جمع الأرواح في الصور، وأمر إسرافيل عليه السلام فأرسلها بنفخة من ثقب الصور، فرجع كل ذي روح إلى جسده.
وجاء في بعض الأخبار ما يبين أن من أكله طائر أو سبع حشر من جوفه، وهو ما رواه الزهري عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة يوم أحد، وقد مثل به، فقال: "لولا أن تجد صفية في نفسها؛
(1)
في المطبوع من "التذكرة": نفختان.
(2)
"التذكرة" ص 209.
(3)
مسلم (2955).
(4)
رواه أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في "الفتن" (722) بنجوه.
لتركته حَتَّى يحشره الله من بطون السباع والطير"
(1)
.
وفي "تفسير أبي نصر" عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري: المراد بنفخة الفزع: النفخة الثانية أي: يجيئون فزعين، يقولون:{مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52]، واختاره الماوردي
(2)
.
فإن قلت: فإذا كانت الصيحة للخروج فكيف يسمعونها وهم أموات، قيل له: إن نفخة الإحياء تمتد وتطول، فيكون أولها للإحياء، وما بعدها للإزعاج، فلا يسمعون ما يكون للإحياء ويسمعون ما للإزعاج ويحتمل أن تتطاول تلك النفخة، والناس يحيون منها أولاً فأولاً، فكلما حي واحد سمع من يحيى بعده إلى أن يتكامل الجميع للخروج.
فصل:
قد أسلفنا الكلام على القرن، وقال القرطبي: إنه قرن من نور يجعل فيه الأرواح، يقال: إن فيه من الثقب عدد أرواح الخلائق
(3)
.
وذكر المفسرون أن الصور ينقر فيه مع النفخ الأول لموت الخلق، فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النفخ والنقر؛ فتكون الصيحة أهدأ وأعظم، فإذا تهيأت الأجسام وكملت نفخ في الصور نفخة البعث من غير نقر؛ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها لابنقيرها من أجسادها، والنفخة الأولى للتنفير، وهي نظير صوت الرعد، الذي قد يقوى؛ فيمات منه.
(1)
انظر: "التذكرة" ص 209 - 210.؟
(2)
"النكت والعيون" 4/ 230.
(3)
"التذكرة" ص 201.
وروى الترمذي محسنًا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: سأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور، قال:"قرن ينفخ فيه"
(1)
، وفي حديث أبي سعيد
(2)
، وقال الحسن مرفوعًا:"كيف أنعم، وصاحب الصور -وهو القرن- قد التقم القرن واستمع الإذن"، وفي "فوائد أبي الحسن صخر" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"ما أطرق صاحب الصور مذ، وكل به مستعدًا، بحذاء العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريان".
ولابن المبارك عن ابن مسعود رضي الله عنه حديثًا قال فيه: "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض، فينفخ فيه، والصور قرن".
قال: وروي أن له رأسين: رأس بالمشرق، ورأس بالمغرب.
قال القرطبي: وليس الصور جمع صورة، كما زعم بعضهم أنه ينفخ في صور الموتى بدليل الأحاديث المذكورة، والتنزيل أيضًا يدل على ذَلِكَ، قال تعالى:{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} ولم يقل فيها، فعلم أنه ليس بجمع صورة، قال الكلبي: لا أدري ما الصور؟ ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، أي: ينفخ في صور الموتى الأرواح، وقرأ الحسن:{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] إلى هذا ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى، وهو مردود بما ذكرنا، وأيضًا لا ينفخ في الصور (للبعث)
(3)
مرتين، بل ينفخ مرة واحدة، فإسرافيل ينفخ في الصور الذي هو القرن، والله هو الذي يحيي الصور، فينفخ فيها الروح كما قال تعالى:{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا}
(1)
"الترمذي"(2430).
(2)
"الترمذي"(2431، 3243).
(3)
في الأصل: للنقر.
[التحريم: 12]{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}
(1)
[الحجر: 29]. وقد أنكر بعض أهل الزيغ أن يكون الصور قرنًا.
قال أبو الهيثم: من قال ذَلِكَ فهو كمن ينكر العرش والميزان، وطلب لها تأويلات.
فصل:
قام الإجماع -كما نقله القرطبي- على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل، وروينا عن أبي نعيم الحافظ، ثَنَا سليمان، ثَنَا أحمد بن القاسم، ثَنَا عفان بن مسلم، ثَنَا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث قال: كنا عند عائشة رضي الله عنها، وعندها كعب الحبر، فقالت: يا كعب، أخبرنا عن إسرافيل. قال: له أربعة أجنحة
…
الحديث، وفيه:"وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه، وقد نصب الأخرى ملتقم الصور، منحنيًا ظهره، شاخصًا ببصره، ينظر إلى إسرافيل، وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور". فقالت عائشة رضي الله عنها: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. ثم قال: غريب من حديث كعب، لم يروه عنه إلا عبد الله بن الحارث، عن كعب، ورواه خالد الحذاء، عن الوليد بن بشر، عن عبد الله بن رباح، عن كعب نحوه
(2)
.
وفي "الأوسط" للطبراني، ثَنَا الوليد بن بيان، ثَنَا محمد بن عمار الداري، ثَنَا مؤمل بن إسماعيل، ثَنَا حماد بن زيد، عن علي بن زيد، عن عبد الله بن الحارث، عن عائشة ترفعه: "ملك الصور جاث على
(1)
"التذكرة" ص 207.
(2)
رواه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 47 - 48 بنحوه.
ركبته، وقد نصب الأخرى، والتقم الصور محنٍ ظهره، شاخص ببصره إلى إسرافيل، وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور". وقال: لم يروه عن حماد إلا مؤمل
(1)
.
وروى ابن ماجه من حديث حجاج عن عطية، عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا:"إن صاحبي الصور بأيديهما -أو في أيديهما- قرنان ملاحظان النظر، متى يؤمران"
(2)
.
وروى أبو داود من حديث العوفي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب القرن، فقال:"عن يمينه جبريل، وعن يساره ميكائيل"
(3)
.
قال بعض العلماء: فلعل لأحدهما قرنًا آخر ينفخ فيه. وذكر أبو السري هناد بن السري، ثَنَا أبو الأحوص، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، قال: فذكر حديثًا فيه: "وملكان موكلان بالصور" وحَدَّثَنَا وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن عبد الله بن ضمرة، عن كعب قال: فذكر حديثًا فيه: "وملكان موكلان بالصور، ينظران متى يؤمران فينفخان"
(4)
.
(1)
"المعجم "الأوسط" 9/ 114 (9283) وإسناده: حدثنا الوليد بن أبان: أنا محمد بن عمار الرازي.
(2)
ابن ماجه (4273).
(3)
أبو داود (3999).
(4)
"الزهد" 1/ 339.