المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

باقي [كتاب الإيمان]   ‌ ‌22 - باب الْمَعَاصِى مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا - التوضيح لشرح الجامع الصحيح - جـ ٣

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

باقي

[كتاب الإيمان]

‌22 - باب الْمَعَاصِى مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ

وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلاَّ بِالشِّرْكِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ". وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

30 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ، عَنِ الْمَعْرُورِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّى سَابَبْتُ رَجُلاً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِىَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ". [2545، 6050 - مسلم: 1661 - فتح: 1/ 84]

ص: 7

‌باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}

[الحجرات: 9]

فَسَمَّاهُمُ الْمُؤْمِنِينَ.

31 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِى أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ:"إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ". [6875، 7083 - مسلم: 2888 - فتح: 1/ 84]

ثنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ المُبَارَكِ، ثنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، ثنَا أَيُّوبُ وُيونُسُ، عَنِ الحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هذا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هذا الرَّجُلَ. قَالَ: ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هذا القَاتِلُ فَمَا بَالُ المَقْتُولِ؟ قَالَ:"إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ".

نَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْب نا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ، عَنِ المَعْرُورِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ".

هكذا وقع في أكثر النسخ بعد الآية الثانية، حديث الأحنف عن أبي

ص: 8

بكرة، ثم حديث أبي ذر

(1)

، ووقع في كثير من نسخه قبل ذِكر الآية الثانيه حديث أبي ذر ثمَّ قَالَ: باب: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} [الحجرات: 9] الآية ثمَّ ساق حديث أبي بكرة

(2)

، والجميع حَسن.

ومقصوده بذلك أن مرتكب المعصية لا يكفر، ولا يخرج بذلك عن اسم الإيمان والإسلام، وهذا مذهب أهل السنة.

فإن قُلْتَ: إنما سمي في الآية مؤمنًا، وفي الحديث مسلمًا حال الالتقاء لا في حال القتال وبعده، قُلْتُ: الدلالة من الآية ظاهرة، فإن قوله تعالى:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] سماهما أخوين بعد القِتال، وأمر بالإصلاح بينهما؛ ولأنهما عاصيان قبل القِتال، وهو من حين سعيا إليه وقصداه. والحديث محمول عَلَى معنى الآية.

وحديث عُبَادة بن الصَّامت صريح في الدلالة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ، فَهُوَ إِلَى اللهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ"

(3)

. والأحاديث بنحو هذا كثيرة (صريحة)

(4)

صحيحة معروفة مع آيات من القرآن العزيز.

ثمَّ الكلام عَلَى الحديت الأول -وهو حديث أبي بكرة- من وجوه:

أحدها:

أخرجه أيضًا البخاري في الفتن عن عبد الله بن عبد الوهاب، نا حمَّاد بن سلمة، عن رجل لم يسمه، عن الحسن قَالَ؟ خَرجتُ

(1)

وهي رواية أبي ذر عن مشايخه الثلاثة كما في هامش "اليونينية" 1/ 15، وعليه جرى شرح ابن حجر رحمه الله 1/ 85. وقد سبق نصه برقم (30).

(2)

وهي رواية الأصيلي كما نبه على ذلك ابن حجر في "الفتح"، وكما في متن "اليونينية".

(3)

سبق برقم (18).

(4)

من (ج).

ص: 9

بسلاحي ليالي الفتنة، فاستقبلني أبو بكرة فقال: أين تُريد؟ قُلْتُ: أريد نصرة ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: عليًّا وهذا بيان للمبهم في الرواية السالفة، ثمَّ ساق الحديث. قَالَ حمَّاد بن زيد: فَذكرتُ هذا الحديث لأيوب، وُيونس بن عبيد، وأنا أريد أن يُحدثاني به، فقالا: إنَّما روى هذا الحسن عن الأحنف عن أبي بكرة.

قَالَ البخاري: ونا سليمان، نا حماد بن زيد، فساقهُ وفيه: فقلتُ، أو قِيل: يا رسول الله، هذا القاتل. والباقي مثلهُ

(1)

، وأخرجه مسلم من طُرق

(2)

.

ثانيها: في التعريف برجاله:

فأيوب سلف، وأمَّا أبو بكرة فهو: نفيع -بالنون- بن الحارث بن كَلَدة -بالكاف واللام المفتوحتين- بن عمرو بن علاج بن سلمة -وهو عبد العزى- بن غِيَرة -بكسر الغين المعجمة وفتح المثناة تحت- ابن عوف بن قَسِي -بفتح القاف وكسر السين المهملة- وهو: ثقيف بن منبه الثقفي، وقيل: نفيع بن مسروح مولى الحارث بن كلدة طبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: اسمه مسروح، وأمه: سمية أَمَةٌ للحارث بن كلدة، وهو أخو زياد لأمه، وهو ممن نزل يوم الطائف إلى رسول الله من حصن الطائف في بكرة، وكُنِّيَ أبا بكرة لذلك.

قَالَ الجوهري: بكرة البئر: ما يستقى عليها، وجمعها بَكَرٌ بالتحريك كحلْقة وحلق وهو من شواذ الجمع

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (7083) كتاب: الفتن، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما.

(2)

"صحيح مسلم"(2888) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما.

(3)

"الصحاح" 2/ 596، مادة:(بكر).

ص: 10

أعتقه رسول الله جييه، وهو معدود في مواليه، وكان أبو بكرة يقول: أنا من إخوانكم في الدين، وأنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنْ أَبَى النَّاس ألا ينسبوني فأنا نفيع بن مسروح

(1)

.

وكان من فضلاء الصحابة وصالحيهم، ولم يزل مُجتهدًا في العبادة حتَّى توفي. قَالَ الحسن: لم يكن بالبصرة من الصَّحابة أفضل منه، ومن عمران بن حصين، رُوِي لَهُ مائة واثنان وثلاثون حديثًا، اتفقا عَلَى ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث.

روى عنه: ابناه عبد الرحمن ومسلم وغيرهما من كِبار التابعين، وكان ممن اعتزل يوم الجمل، ولم يُقاتل مع واحد من الفريقين، مات بالبصرة سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين

(2)

.

وأمَّا الأحنف بن قيس فهو أبو بحر، واسمه الضحاك، وقيل: صخر بن قيمس بن معاوية بن حصين بن حفص بن عبادة بن النزال بن مُرة بن عُبيد بن مُقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وُلِد وهو أحنف، والأحنف: الأعوج، والحنف: الاعوجاج في الرِّجْل

(3)

، وهو أن تقبل إحدى الإبهامين من إحدى الرجلين عَلَى الأخرى، وقيل: هو الذي يمشي عَلَى ظهر قدمه من شقها. أي:

(1)

ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 63، والذهبي في "سير أعلام النبلاء" 3/ 6.

(2)

انظر ترجمته رضي الله عنه: "الطبقات الكبرى" لابن سعد 7/ 15، و"التاريخ الكبير" 8/ 112 (2388)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم 3/ 207 (462)، و"الجرح والتعديل" 8/ 489 (2239)، و"معجم الصحابة" لابن قانع 3/ 142 (1117)، "الثقات" لابن حبان 3/ 411، "الاستيعاب" 4/ 23، (303)، "تهذيب الكمال" 30/ 5 (6465)، "أسد الغابة" 5/ 354 (5282)، "سير أعلام النبلاء" 3/ 5 - 10، "الإصابة" 4/ 23 (144).

(3)

"الصحاح" 2/ 1347، مادة (حنف).

ص: 11

الذي يلي خنصرها، وكانت أمه ترقصه، وتقول:

والله لولا حنف في رجله

ما كان في الحي غلام مثله

وعنه عن رجل من بني ليث أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللهُمَّ اغفر للأحنف" فما شيء أرجى عندي من ذَلِكَ

(1)

.

أدرك زمان النبي جيَخييه، ولم يره، وسمع: عمو وعليًّا والعباس وغيرهم، وعنه: الحسن وغيره.

قَالَ الحسن: ما رأيت شريف قوم كان أفضل من الأحنف. وعنه أنه قَالَ: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة الجواب

(2)

. مات بالكوفة سنة سبع وستين في إمارة ابن الزُبير

(3)

.

وأمَّا الحسن فهو: أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار الأنصاري، مولاهم، البصري، وأمه خيرة مولاة أم سَلَمة أم المؤمنين، وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عمر. قالوا: ربما خرجت أمه في شُغل فيبكي

(1)

رواه أحمد 5/ 372، وابن سعد في "الطبقات" 7/ 93 - 94، والبخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 50، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" 1/ 230 وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 2/ 433 (1225)، والطبراني 8/ 28 (7225) والحاكم 3/ 614، وابن الأثير في "أسد الغابة" 1/ 68 - 69.

قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 2: رجال أحمد رجال الصحيح غير علي بن زيد وهو حسن. اهـ

قلت: بل ضعفه الجمهور.

(2)

رواه ابن سعد في: "الطبقات" 7/ 95.

(3)

انظر ترجمته في: "الطبقات" لابن سعد 95/ 7، "التاريخ الكبير" 2/ 50 (1649)، "الآحاد والمثاني" 2/ 433 (327)، "الثقات" لابن حبان 4/ 55، "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 1/ 367 (266)، "الاستيعاب" 1/ 126، "أسد الغابة" 1/ 68 (51)، "تهذيب الكمال" 2/ 282 - 284، "سير أعلام النبلاء" 4/ 96، "الإصابة" 1/ 100 (429).

ص: 12

فتعطيه أم سلمة ثديها فيدر عليه، فيرون أن الفصاحة (والبركة)

(1)

والحكمة من بركة ذَلِكَ.

نشأ بوادي القرى

(2)

، ورأى طلحة بن عبيد الله وعائشة، ولم يَصح لَهُ سماع منهما، وقيل: لقي عليًّا ولم يصح، وحَضر الدار وله أربع عشرة سنة، فسمع ابن عمر وأنسًا وجندب بن عبد الله وغيرهم من الصحابة وخلقًا من التابعين. وعنه خلقٌ من التابعين فمن بعدهم.

روينا عن الفُضيل بن عياض قَالَ: سألت هِشام بن حسَّان كم أدرك الحسن من الصحابة؟ فقال: مائة وثلاثين. قُلْتُ: فابن سيرين قَالَ: ثلاثين

(3)

.

وسُئِل أبو زرعة عن الحسن، ألقي أحدًا من البدريين؟ قَالَ: رآهم رؤية، رأى عثمان وعليًّا، قيل له: سمع منهما؟ قَالَ: لا، كان الحسن يوم بويع عليٌّ ابن أربع عشرة سنة رأى عليًّا بالمدينةج، ثمَّ خرج عليٌّ إلى الكوفة والبصرة، ولم يلقه الحسن بعد ذَلِكَ

(4)

.

وروينا عنه قَالَ: غزونا خراسان ومعنا ثلاثمائة من الصحابة، وقال ابن سعد: كان جامعًا عالمًا رفيعًا فقيهًا ثقة مأمونًا عابدًا ناسكًا كثير العلم فصيحًا جميلًا وسيمًا، قدم مكة فأجلسوه عَلَى سرير، واجتمع النَّاس إليه فحدثهم، وكان فيمن أتاه مجاهد وعطاء وطاوس وعمرو بن شعيب،

(1)

من (ج).

(2)

هو وادي بين المدينة والشام من أعمال المدينة كثير القرى، فتحها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع عنوة، ثم صولحوا على الجزية. انظر:"معجم البلدان" 5/ 345.

(3)

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 53/ 184.

(4)

انظر: "المراسيل" لابن أبي حاتم ص 31 (54).

ص: 13

فقالوا (أو)

(1)

قَالَ بعضهم: ما رأينا مثل هذا قط

(2)

.

وسُئِل أنس بن مالك عن مسألة (فقال)

(3)

: سلوا مولانا الحسن؛ فإنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا

(4)

. وإمامته وجلالته مُجمع عليها. مات سنة عشر ومائة، ومات ابن سيرين بعده بمائة يوم

(5)

.

فائدة: روى البخاري هذا الحديث هنا عن الحسن عن الأحنف كما سلف، ورواه في: الفتن عن الحسن عن أبي بكرة، وأنكر يحيى بن معين والدارقطني سماع الحسن من أبي بكرة

(6)

. قَالَ الدارقطني: بينهما الأحنف

(7)

، واحتج بما سلف.

وكذا رواه هشام (و)

(8)

المعلى بن زياد عن الحسن

(9)

، وذهب غيرهما إلى صحة سماعه منه كما ساقه في الفتن، واستدل بما أخرجه البخاري أيضًا: في الفتن في باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ابني هذا سيد"

(1)

في (ج): و.

(2)

"الطبقات الكبرى" 7/ 157 - 158.

(3)

في (ف): فقالوا.

(4)

"الطبقات الكبرى" 7/ 176.

(5)

انظر ترجمته في: "الطبقات" لابن سعد 7/ 156، "التاريخ الكبير" 2/ 289 (2503)، "معرفة الثقات" للعجلي 1/ 293 (291)، "الجرح والتعديل" 3/ 40 (177)، "تهذيب الكمال" 6/ 95 - 96 (1216)، "تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 161 (122)، "سير أعلام النبلاء" 4/ 563 (223).

(6)

انظر: "إكمال تهذيب الكمال" 4/ 87.

(7)

"الإلزامات والتتبع" ص 223.

(8)

في (ف): ابن، وفي (ج): عن، والمثبت هو الصواب كما في مصادر التخريج.

(9)

رواه النسائي 7/ 125، عن هشام، ورواه أحمد 5/ 43، وابن أبي عاصم في "الآحاد" ص 208، والطبراني في "الأوسط" 8/ 206، وابن حبان 13/ 319 وذكره البخاري تعليقًا بعد حديث (7083) عن هشام والمعلى بن زياد وغيرهما.

ص: 14

عن علي بن عبد الله، عن سفيان، عن إسرائيل. فذكر الحديث. وفيه: قَالَ الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة قَالَ: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب

(1)

.

قَالَ البخاري: قَالَ علي بن المديني: إنما صح عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث

(2)

.

وقال الباجي: هذا الحسن المذكور في هذا الحديث الذي قَالَ فيه: سمعت أبا هريرة. إنما هو الحسن بن علي، وليس بالحسن البصري

(3)

.

وأثنى علي بن المديني وأبو زرعة عَلَى مراسيل الحسن، وضعفها بعضهم.

وأمَّا يونس فهو: أبو عبد الله يُونس بن عُبيد بن دينار العبدي مولاهم البصري التابعي، رأى أنسًا، وسمع الحسن وابن سيرين وغيرهما من كبار التابعين، وعنه: الأئمة الأعلام، منهم: الثوري وشعبة وآخرون. وجلالتُهُ وفضله وثقته مُجمع (عليها)

(4)

.

قَالَ سعيد بن عامر: ما رأيت رجلًا قط أفضل منه، وأهل البصرة عَلَى ذا. مات سنة تسع وثلاثين ومائة.

قَالَ حمَّاد بن زيد: ووُلِد بعد الجارف

(5)

.

وأمَّا حمَّاد بن زيد فهو: الإمام أبو إسماعيل حمَّاد بن زيد بن درهم

(1)

سيأتي برقم (7109) كتاب: الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي.

(2)

"صحيح البخاري" بعد حديث (2704).

(3)

"التعديل والتجريح" 2/ 486.

(4)

في (ج): عليه، وما أثبتناه هو اللائق بالسياق.

(5)

انظر ترجمته في:

"الطبقات" لابن سعد 7/ 260، "التاريخ الكبير" 8/ 402 (3488)، "الجرح والتعديل" 9/ 242 (1020)، "تهذيب الكمال" 32/ 517.

ص: 15

الأزدي البصري مولئ جرير بن حازم. سمع ثابتًا البناني وغيره من التابعين، وعنه السفيانان وخلق.

قَالَ عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الناس في زمانهم أربعة، الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحمَّاد بن زيد بالبصرة، وما رأيت أعلم من حمَّاد بن زيد، ولا سُفيان ولا مالك.

وقال عبيد الله بن الحسن: إنما هما الحمادان، فإذا طلبتم العلم فاطلبوه منهما

(1)

.

وقال ابن معين: ليس أحد أثبت من حمَّاد بن زيد.

وقال يحيى بن يحيى: ما رأيت أحدًا من الشيوخ أحفظ من حماد بن زيد.

وقال أبو زرعة: حماد بن زيد أثبت من حمَّاد بن سلمة.

وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا حُجة كثير الحديث، وأنشد ابن المبارك فيه:

أيَّها الطالب علمًا

ائتِ حمَّاد بن زيد

فخذ العلم بحلم

ثُمَّ قيَّده بقيد

ودع البدعة من

آثار عمرو بن عُبيد

وإجماع الأئمة والحفاظ من أهل عصره فمن بعده مُنعقد عَلَى جلالته، وعظم علمه، وحفظه، وإتقانه، وإمامته. وُلد سنة ثمان وتسعين، ومات سنة تسع وسبعين ومائة، عن إحدى وثمانين. قَالَ الخطيب: حدث عن حمَّاد بن زيد: إبراهيم بن أبي عبلة، والهيثم بن سهل وبين وفاتيهما مائة وثماني سنين وأكثر. وحدَّث عنهُ الثوري:

(1)

رواه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 1/ 179، 3/ 138.

ص: 16

وبين وفاته ووفاة الهيثم مائة سنة أو أكثر

(1)

.

وأمَّا شيخ البخاري فهو أبو بكر، ويُقال: أبو محمد عبد الرحمن بن المبارك بن عبد الله البصري القيشي -بالمثناة والشين المعجمة- سَمع جمعًا، منهم: خالد الواسطي، وعنهُ جماعة من الأعلام والحفاظ منهم: البخاري وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم وقال: صدوق، وروى النسائي عن رجل عنه، ولم يرو له مسلم شيئًا.

مات سنة ثمان، وقيل: تسع وعشرين ومائتين، وقيل: سنة عشرين.

حكاه النووي في "شرحه"، ولم يذكره المزي، وإنما حكى الأولين فقط، (ووقع في شرح شيخنا الشيخ قطب الدين: مات سنة ثمان وعشرين، وقيل: تسع وعشرين فاعلم ذَلِكَ)

(2)

.

فائدة:

في هذا الإسناد لطيفتان: كل رجاله بصريون، وفيه ثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض، وَهُم: الأحنف والحسن وأيوب مع يونس.

الوجه الثالث:

الآية الأولى دالة (عَلَى مذهب)

(3)

أهل الحق عَلَى أن من مات مُوحدًا لا يُخلد في النار، وإن ارتكب من الكبائر -غير الشرك- ما ارتكب، وقد جاءت به الأحاديث الصحيحة في قوله: "وإن زنى،

(1)

"السابق واللاحق" ص 180 (48).

(2)

ما بين القوسين ساقط من (ج).

وانظر ترجمة عبد الرحمن بن المبارك في: "الطبقات" لابن سعد 7/ 286، "التاريخ الكبير" 3/ 25 (100)، "الجرح والتعديل" 3/ 137 (617)، "تهذيب الكمال" 7/ 239.

(3)

في (ج): لمذهب.

ص: 17

وإن سَرق"

(1)

. والمُراد بالآية: من مات عَلَى الذنوب من غير توبة؛ لأنه لو مات عليها فلا فرق فيه بين الشرك وغيره، وقد تظاهرت الأدلة، وإجماع السلف عليه.

وأما الآية الثانية فهي عمدة أصحابنا وغيرهم من العلماء في قتال أهل البغي. وسيأتي بسط الكلام في ذَلِكَ في بابه، حيث ذكره البخاري، إن شاء الله تعالى.

الرابع:

الطائفة: القطعة من الشيء. قاله أهل اللغة

(2)

. والمراد بالطائفتين في الآية: الفرقتان من المسلمين. وقد تطلق الطائفة عَلَى الواحد، هذا قول الجمهور من أهل اللغة وغيرهم.

وقال الزجاج: الذي عندي أن أقل الطائفة اثنان. وقد حمل الشافعي وغيره من العلماء الطائفة في مواضع من القرآن عَلَى أوجه مختلفة بحسب المواطن، فهي في قوله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]، واحد فأكثر، واحتج به في قبول خبر الواحد، وفي قوله تعالى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} [النور: 2] أربعة. وفي قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] ثلاثة.

وفرقوا في هذِه المواضع بحسب القرائن، أما في الأولى فلأن

الإنذار يحصل به، وفي الثانية؛ لأنها البينة فيه، وفي الثالثة؛ لذكرهم

بلفظ الجمع في قوله: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] .. إلى

(1)

سيأتي برقم (1237) كتاب الجنائز، باب في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله. ورواه مسلم (94) كتاب: الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة.

(2)

"المجمل" 1/ 590، "تهذيب اللغة" 3/ 2155.

ص: 18

آخره، وأقله ثلاثة عَلَى المذهب المختار، وقول جمهور أهل اللغة والفقه والأصول. فإن قُلْتَ: فقد قَالَ تعالى في آية الإنذار: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وهذِه ضمائر جموع.

فالجواب: أن الجمع عائد إلى الطوائف التي تجتمع من الفرق.

الخامس:

الرجل المبهم في هذِه الرواية هو علي بن أبي طالب كما أسلفناه في الرواية الأخرى.

السادس:

قوله: ("إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ") وفي الرواية الأخرى: "إِذَا تواجه المسلمان"

(1)

. ومعنى تواجه: ضرب كل منهما صاحبه أي: ذاته وجملته.

السابع:

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ("فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ") أنهما يستحقانها، وأمرهما إلى الله تعالى، كما هو مصرح به في حديث عبادة، "فإن شاء عفي عنهما، وإن شاء عاقبهما"

(2)

ثمَّ أخرجهما من النار فأدخلهما الجنة، كما ثبت في حديث أبي سعيد وغيره في العصاة الذين يخرجون من النار فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل

(3)

. ونظير هذا الحديث في المعنئ قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] معناه: هذا

(1)

سيأتي برقم (7083) كتاب: الفتن، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما، ورواه مسلم (2888) كتاب: الفتن، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما.

(2)

سبق برقم (18) باب: (11).

(3)

سبق برقم (22) باب: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال.

ص: 19

جزاؤه، وليس بلازم أن يُجازى، ثمَّ هذا الحديث محمول عَلَى غير المتأول، كمن قاتل لعصبية وغيرها.

الثامن:

اختلف العلماء في القتال في الفتنة، فمنع بعضهم القتال فيها وإن دخلوا عليه، عملًا بظاهر هذا الحديث، وبحديث أبي بكرة في "صحيح مسلم" الطويل:"إنها ستكون فتن"

(1)

الحديث. وقال هؤلاء: لا يقاتل وإن دخلوا عليه وطلبوا قتله، ولا تجوز لَهُ المدافعة عن نفسه؛ لأن الطالب متأول، وهذا مذهب أبي بكرة وغيره.

وفي "طبقات ابن سعد" مثله عن أبي سعيد الخدري، وقال عمران بن حصين وابن عمر وغيرهما: لا يدخل فيها فإن قصدوا (دافع)

(2)

عن نفسه. وقَالَ معظم الصحابة والتابعين وغيرهما: يجب نصر الحق وقِتال الباغين؛ لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وهذا هو الصحيح.

وتتأول أحاديث المنع عَلَى من لم يظهر لَهُ الحق، أو عَلَى عدم التأويل لواحد منهما، ولو كان كما قَالَ الأولون لظهر الفساد واستطالوا

(3)

.

والحق الذي عليه أهل السنة الإمساك عن ما شجر بين الصحابة، وحسن الظن بهم والتأويل لهم، وأنهم مجتهدون متأولون، لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، فمنهم المخطئ في اجتهاده والمصيب. وقد رفع الله الحرج عن المجتهد المخطئ في الفروع، وضعَّف أجر

(1)

مسلم (2887) كتاب الفتن، باب نزول الفتن كمواقع القطر.

(2)

في (ج): دفع.

(3)

انظر: "مسلم بشرح النووي" 18/ 10.

ص: 20

المصيب. وتوقف الطبري وغيره في تعيين المحق منهم، وصرح (به الجمهور)

(1)

إذ كان أفضل من كان عَلَى وجه الدنيا حينئذ.

وتأول غيره بوجوب القيام بتغيير المنكر في طلب قتلة عثمان الذين في عسكره، وأنهم لا يعتقدون إمامة، ولا (يعطون)

(2)

بيعة حتَّى نقضوا ذَلِكَ، ولم ير هو دفعهم إذ الحكم فيهم للإمام، وكانت الأمور لم تستقر، وفيهم عدد ولهم منعة وشوكة، ولو أظهر تسليمهم أولًا أو القصاص منهم لاضطرب الأمر، ومنهم جماعة لم يدخلوا في شيء، واحتجوا بالنهي عن التلبس بالفتن، وعذروا الطائفتين بتأويلهم، ولم يروا إحداهما باغية فيقاتلوها

(3)

.

التاسع:

قوله صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ") وفي رواية أخرى: "إنه قَدْ أراد قتل صاحبه"

(4)

فيه حجة للقول الصحيح الذي عليه. الجمهور: أن العزم عَلَى الذنب، والعقد عَلَى عمله معصية يأثم به وإن لم يعمله ولا تكلم به، بخلاف الهم المعفو عنه، وللمخالف أن يقول: هذا فعل أكثر من العزم، وهو المواجهة والقتال

(5)

.

(1)

في (ج): الجمهور به.

(2)

في الأصل: يطيعون، والصواب ما أثبتناه كما في "المفهم" 7/ 213.

(3)

انظر: "إكمال المعلم" 8/ 421 - 422، "المفهم" 7/ 212 - 213، "مسلم بشرح النووي" 18/ 11.

(4)

سيأتي برقم (6875) كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} .

(5)

انظر: "إكمال المعلم" 8/ 421.

ص: 21

الحديث الثاني: حديث أبي ذر.

والكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن سليمان عن شعبة، وأخرجه في: العتق: عن آدم عن شعبة أتم من هذا

(1)

، وفي الأدب: عن عمرو بن حفص بن غياث عن أبيه

(2)

، وأخرجه مسلم في: الإيمان والنذور، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، وعن أحمد بن يونس، عن زهير، وعن (أبي كريب)

(3)

، عن أبي معاوية، وعن (إسحاق بن إبراهيم)

(4)

، عن عيسى بن يونس، كلهم، عن الأعمش، وعن أبي موسى

(5)

وبندار، عن غندر، عن شعبة، عن واصل كلاهما، عن المعرور

(6)

.

الوجه الثاني: في التعريف برواته:

وقد سلف ترجمة شعبة وسليمان.

وأما أبو ذر فهو جُنْدب -بضم الجيم والدال، وحُكي فتح الدال، وعن بعضهم فيه كسر أوله وفتح ثالثه، وكأنه قاله لغة من واحد الجنادب، الذي هو طائر -وقيل: اسمه بُرَير- بضم الموحدة وراء مكررة -بن جندب. والمشهور الأول. (جُندُب)

(7)

بن جُنادة- بضم

(1)

سيأتي برقم (2545) كتاب: العتق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العبيد إخوانكم .. ".

(2)

سيأتي برقم (6050) كتاب: الأدب، باب: ما ينهى من السباب واللعن.

(3)

في الأصول: أبي بكر، والمثبت هو الصواب كما في مسلم.

(4)

في الأصول: إسحاق بن يونس، والمثبت من "صحيح مسلم".

(5)

هو محمد بن المثنى.

(6)

مسلم (1661) كتاب: الأيمان والنذور، باب: إطعام المملوك.

(7)

من (ف).

ص: 22

الجيم- بن سفيان بن عبيد بن الوقيعة بن حرام بن غفار بن مُلَيل -بضم الميم وفتح اللام- بن ضصرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة الغفاري، السيد الجليل.

أسلم قديمًا، جاء عنه أنه قَالَ: أنا رابع أربعة في الإسلام

(1)

.

ويقال: كان خامس خمسة. أسلم بمكة ثمَّ رجع إلى بلاد قومه فأقام بها حتَّى مضت (بدر)

(2)

وأحد والخندق، ثمَّ رجع إلى المدينة.

وحديث إسلامه وإقامته عند زمزم مشهورة في "الصحيح"

(3)

، ومناقبه جمة، وزهده مشهور، وتواضعه وزهده مشبه في الحديث بتواضع عيسى عصيه وزهده

(4)

.

(1)

رواه ابن حبان 16/ 83 (7134)، الطبراني في "الكبير" 2/ 147 (1617، 1618)، الحاكم 3/ 341 - 342، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخَرجاه.

قال الهيثمي في "المجمع" 9/ 327: رواه الطبراني بإسنادين، وأحدهما متصل الإسناد ورجاله ثقات.

(2)

زيادة من (ج).

(3)

سيأتي برقم (3522) كتاب المناقب، باب قصة إسلام أبي ذر.

(4)

رواه الترمذي (3802)، والبزار في "البحر الزخار" 9/ 458 (4072)، والطبراني في "الأوسط" 5/ 223 (5148)، وابن عدي في "الكامل" 6/ 485 (1412)، والحاكم 3/ 342، وابن حبان 16/ 84، من طريق النضر بن محمد، عن عكرمة ابن عمار، عن أبي زميل -سماك بن الوليد- عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذرّ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:" .. أصدق من أبي ذر، شبيه عيسى ابن مريم".

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. اهـ.

وقال البزار: وهذِه الأحاديث التي رواها النضر بن محمد، عن عكرمة لا نعلم أحدًا شاركه فيها عن عكرمة. اهـ.

وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عكرمة بن عمار إلا النضر بن محمد الجرشي. اهـ. =

ص: 23

روي لَهُ مائتا حديث وأحد وثمانون حديثًا، اتفقا منها عَلَى اثني عشر، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بسبعة عشر. روى عنه: ابن عباس وأنس، وعنه خلق من التابعين، مات بالربذة سنة اثنين وثلاثين، وصلى عليه ابن مسعود، وقصته فيها مشهورة.

وقد أوضحت ترجمته في كتابنا المسمى بـ "العدة في معرفة رجال العمدة" فراجعها منه.

ومن مذهبه أنه يُحرم عَلَى الإنسان مازاد عَلَى حاجته من المال، وكان قوالًا بالحق. وسُئل عليٌّ عنه فقال: ذاك رجل وعي علمًا عجز عنه الناس، وأوكأ علمه، ولم يخرج شيئًا منه

(1)

.

وعن أبي ذر قَالَ: تركنا رسول الله، وما يقلب طائرٌ جناحيه في

= وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. اهـ.

والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي".

ورواه ابن سعد في "الطبقات" 4/ 228، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 390 (32257) من طريق أبي أمية بن يعلى، عن أبي الزناد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ، ومن سره أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذر".

قال الذهبي في "السير" 2/ 59: أبو أمية بن يعلى واهٍ. اهـ.

ورواه الطبراني في "الكبير" 2/ 149 (1626) من طريق إبراهيم الهجري رفعه إلى عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بلفظ:"من سره أن ينظر إلى شبيه عيسى ابن مريم خَلْقًا وخُلُقًا فلينظر إلى أبي ذرّ".

قال الهيثمي في "المجمع" 9/ 330: رواه الطبراني. وفيه: إبراهيم الهجري، وهو ضعيف، وإبراهيم مع ضعفه لم يدرك ابن مسعود. اهـ.

والحديث في الجملة صحيح بشواهده عند الألباني كما في "الصحيحة"(2343).

(1)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 354، 4/ 232، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" 2/ 539 - 540، والطبراني في "الكبير" 6/ 213 (6041).

ص: 24

السماء، إلا ذكرنا منه علما

(1)

. وعن أبي مرثد قَالَ: جلست إلى أبي ذر إذ وقف عليه رجل فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا فقال أبو ذر: والله لو وضعتم عَلَى هذِه -وأشار إلى حلقه- أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله لأنفذتها قبل أن يكون ذَلِكَ

(2)

.

كان طوالًا آدم، أبيض الرأس واللحية. روي عنه أنه قَالَ: ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتَّى ما ترك لي الحق صديقًا

(3)

.

(1)

رواه أبو داود الطيالسي 1/ 385 (481)، وأحمد 5/ 153، 162 من طريق الأعمش، عن منذر الثوري، عن أصحاب له عن أبي ذرّ.

ورواه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 354، وأحمد 5/ 162 من طريق فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي ذرّ.

قال البزار في "البحر الزخار"، (3897) ومنذر الثوري لم يدرك أبا ذرّ. اهـ.

ورواه البزار في "البحر الزخار"(3897)، والطبراني في "الكبير" 2/ 155 - 156 (1647)، وابن حبان 1/ 267 (65) من طريق محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن ابن عيينة، عن فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن أبي ذرّ.

قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 263: رواه أحمد والطبراني، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يسم. اهـ.

والحديث صحح إسناده الألباني في "الصحيحة"(1803).

ورواه أبو يعلى في "مسنده"(5109) من طريق فطر بن خليفة، عن عطاء قال: قال أبو الدرداء، ثم ساقه.

وعزاه الحافظ في "المطالب العالية"(3846) لابن منيع، وقال: رواته ثقات إلا أنه منقطع واختلف على فطر. اهـ.

(2)

سيأتي هذا التعليق في كتاب العلم، باب: العلم قبل القول والعمل.

(3)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 4/ 236. وانظر ترجمته في: "الاستيعاب" 1/ 321 - 324، "أسد الغابة"، 1/ 357 (800)، "الإصابة" 4/ 62 (384).

ص: 25

وأما المعرور فهو:-بعين مهملة وراء مكررة- أبو أمية المعرور بن سويد الأسدي الكوفي التابعي. سمع عمر بن الخطاب وغيره، وعنه: واصل والأعمش، وقال: رأيته وهو ابن عشرين ومائة سنة، وهو أسود الرأس واللحية. قَالَ يحيى بن معين وأبو حاتم: ثقة

(1)

.

وأما واصل فهو: ابن حيان -بالمثناة تحت- الأسدي الكوفي الأحدب. سمع جماعة من التابعين، وعنه جمع من الأعلام منهم: الثوري. قَالَ يحيى بن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث. مات سنة عشرين ومائة

(2)

.

الوجه الثالث: في ألفاظه ومعانيه:

الأول: الجاهلية: ما قبل الإسلام. سموا بذلك (لشدة جهالاتهم)

(3)

.

الثاني: الربذة -بفتح الراء ثمَّ موحدة ثمَّ ذال معجمة- عَلَى ثلاث مراحل من المدينة قريبة من ذات عرق

(4)

.

الثالث: الحلة: ثوبان لا يكون ثوبًا واحدًا، قاله أهل اللغة،

ويكونان غير لفيفين، رداء وإزار سميا بذلك؛ لأن كل واحد منهما يحل عَلَى الآخر.

وفي أبي داود قَالَ: رأيت أبا ذر بالربذة، وعليه برد غليظ، وعلى

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات" لابن سعد 7/ 15، "معرفة الثقات" للعجلي 2/ 287 (1757)، "الجرح والتعديل" 8/ 415 (1895)، "الثقات" لابن حبان 5/ 457، "تهذيب الكمال" 28/ 262، "سير أعلام النبلاء" 4/ 174.

(2)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 8/ 171 (2590)، "معرفة الثقات" للعجلي 2/ 338 (1927)، "الجرح والتعديل" 9/ 29 - 30 (133)، "تهذيب الكمال" 30/ 400 - 401، "الكاشف" 2/ 346 (6027).

(3)

في (ج): لكثرة جهالتهم.

(4)

انظر: "معجم البلدان" 3/ 24.

ص: 26

غلامه مثله. فقال القوم: يا أبا ذر لو كنت أخذت الذي عَلَى غلامك فجعلته مع هذا فكانت حلة وكسوت غلامك ثوبًا آخر. فقال أبو ذر: إني ساببت رجلًا. وذكر الحديث وفي آخره: "إنهم إخوانكم، فضلَّكُم الله عليهم، فمَنْ لم يلائمكم فبيعوه، ولا تُعذبوا خَلْقَ الله"

(1)

.

الرابع: قوله: (فسألته عن ذَلِكَ). إنما سأله لأن عادة العرب وغيرهم أن تكون ثياب المملوك دون سيده.

الخامس: قوله صلى الله عليه وسلم: ("إنَّك امرؤٌ فيك جاهِليَّة"). معناه: إنك في التعيير بأُمِّهِ عَلَى خُلُقٍ من أخلاق الجاهلية، ولمستَ جاهليًّا محضًا، وينبغي للمسلم أن لا يكون فيه شيء من أخلاقهم.

قيل: إنه عير الرجل بسواد أمه كما سيأتي، كأنه قَالَ: يا ابن السوداء ونحوه. وقد ذكره البخاري في كتاب: الأدب، فقال فيه: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ كَلَامٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَعْجَمِيَّةً، فَنِلْتُ مِنْهَا، فَذَكَرَنِي للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لِي:"أَسَابَبْتَ فُلَانًا؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "أفَنِلْتَ مِنْ أُمِّهِ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ". قُلْتُ: عَلَى سَاعَتِي هذِه مِنْ كِبَرِ السِّنِّ! قَالَ: "نَعَمْ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ" .. الحديث وفي آخره: "فليُعنه عليه"

(2)

.

وجاء في مسلم في أول هذا الحديث: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وفيه: فقال لَهُ صلى الله عليه وسلم: "إنَّك امرؤٌ فيك جاهلية". فقلت: يا رسول الله من سبَّ الرجال سبوا أباه وأمه. فقال: "يا أبا ذر إنك امرؤٌ فيك جاهلية"

(3)

.

(1)

أبو داود (5157). وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"(2282).

(2)

سيأتي برقم (6050) في الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعن.

(3)

مسلم (1661) كتاب الإيمان، باب: إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه.

ص: 27

وجاء في رواية لمسلم "فليبعه" بدل "فليعنه"، وهي وهم، كما نبَّه عليه القاضي

(1)

.

والصواب ما في البخاري كما رواه الجمهور. وفي غير البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لأبي ذر: "أعيرتَه بأُمِّه؟ ارفع رأسك فما أنت بأفضل ممن ترى من الأحمر والأسود إلا أن تفضل (في دين)

(2)

.

وقد روي أن بلالًا كان هو الذي عيره بأمه، عن الوليد بن مسلم قَالَ: كان بين بلال وبين أبي ذر محاورة فعيره أبو ذر بسواد أمه. فانطلق بلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى إليه تعييره بذلك، فأمره أن يدعوه.

فلما جاء أبو ذر قَالَ له: "أشتمتَ بلالًا وعيرته بسواد أمه؟ " قَالَ: نعم. قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كنتُ أحسب أنه بقي في صدرِك مِنْ أمرِ الجاهلية شيء". فألقى أبو ذر نفسه بالأرض، ثمَّ وضع خده عَلَى التراب، وقال: والله لا أرفع خدي من التراب حتَّى يطأ بلال خدي بقدمه. فوطئ خده.

السادس: قَدْ عرفت الرجل المبهم في هذا الحديث وأنه بلال، وأما الغلام فلا يحضرني اسمه فليتتبع.

(1)

"إكمال المعلم" 5/ 434.

(2)

في (ج): في دين الله، والحديث رواه ابن راهويه 1/ 427 - 428 (493)، والطبراني في "مسند الشاميين"(2343) من طريق كلثوم بن محمد، ثنا عطاء الخراساني، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قلت: فيه كلثوم قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: لا يصح حديثه، وقال ابن عدي: يحدث عن عطاء الخراساني بمراسيل وغيره مما لا يتابع عليه.

وعطاء الخراساني لم يسمع من أبي هريرة، سئل يحيى بن معين هل سمع عطاء الخراساني من أحد من الصحابة؟ قال؟ لا أعلمهُ. انظر:"الكامل في الضعفاء" 7/ 211، "الجرح والتعديل" 7/ 164، "مراسيل ابن أبي حاتم" ص 157 (576).

ص: 28

السابع: قوله صلى الله عليه وسلم: ("إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ"). قَالَ أهل اللغة: الخول: الخدم. سموا بذلك؛ لأنهم يتخولون الأمور أي: يصلحونها، ويقومون بها. يقال: خال المال يخوله إِذَا أحسن القيام عليه، وقيل: إنه لفظ مشترك، تقول: خال المال، والشيء يخول وخلت أخول خولًا إِذَا سست الشيء وتعاهدته، وأحسنت القيام عليه. والخائل: الحافظ، ويقال: خال المال، وخائل مال، وخولي مال، وخوَّله الله الشيء أي: ملَّكه إياه

(1)

.

الثامن: قوله: ("أَعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ؟ ") فيه ردٌّ عَلَى [من] منع أن يقال: عيره بكذا، وإنما يقال: عيره أَمه وردوا عَلَى من قَالَ:

أيها الشامت المعير بالدهر

.................

(2)

والحديث حجة عليهم، والعار: العيب، والمعاير: المعايب.

الوجه الرابع في فوائده:

الأولى: ما ترجم لَهُ البخاري من أن المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بمجرد فعلها، واحترز بارتكابها عن اعتقادها، فإنه إِذَا اعتقد حل محرم معلوم من دين الإسلام ضرورة كالخمر والزنا وشبههما كفر قطعًا، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة عن العلماء، بحيث يجوز أن يَخْفى عليه تحريم ذَلِكَ؛ فإنه حينئذٍ لا يَكْفر، بل يعرف تحريم ذَلِكَ، فإن اعتقد حله بعد ذَلِكَ كفر.

(1)

انظر: "المجمل" 1/ 307، "النهاية في غريب الحديث" 2/ 88.

(2)

عزاه أبو الفرج الأصفهاني في كتابه "الأغاني" 2/ 131 لعدي بن زيد، والشطر الثاني هو:

.................

أأنت المبرأ الموفور

ص: 29

وما ذكرناه من كونه لا يكفر بارتكاب المعاصي الكبائر هو مذهب أهل السنة بأجمعهم، وشذ الخوارج فكفروه، والمعتزلة حيث حكموا بتخليده في النار من غير تكفير، ومذهب أهل الحق أنه لا يخلد في النار، وإن ارتكب من الكبائر غير الشرك ما ارتكب، كما جاءت الأحاديث:"وإن زنى، وإن سرق".

واحتج البخاري بالآية السالفة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وهي صريحة في الدلالة لأهل الحق؛ لأن المراد: من مات عَلَى الذنوب بلا توبة، ولو كان المراد: من تاب لما كان فرق بين الشرك وغيره، وقد تظاهرت الأدلة عَلَى ذَلِكَ، وإجماع السلف عليه.

الثانية: النهي عن سبَّ العبيد وتعييرهم بوالديهم، والحثُّ عَلَى الإحسان إليهم، والرفق بهم، فلا يجوز لأحد تعيير أحد بشيء من المكروه يعرفه في آبائه، وخاصة نفسه، كما نهى عن الفخر بالآباء، ويلحق بالعبد من في معناه من أَجِيرٍ، وخادم، وضعيف، وكذا الدواب، ينبغي أن يحسن إليها، ولا تكلف من العمل ما لا تطيق الدوام عليه، فإن كلفه ذَلِكَ لزمه إعانته (عليه)

(1)

بنفسه أو بغيره.

الثالثة: عدم الترفع عَلَى المسلم، وإن كان عبدًا أو نحوه من الضعفة؛ لأن الله تعالى قَالَ:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وقد تظاهرت الدلائل عَلَى الأمر باللطف بالضعفة، وخفض الجناح لهم، وعلى النهي عن احتقارهم والترفع عليهم.

(1)

من (ج).

ص: 30

الرابعة: استحباب الإطعام مما يأكل، والإلباس مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق الدوام عليه، وسيأتي بسط ذَلِكَ في: العتق، إن شاء الله.

الخامسة: المحافظة عَلَى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

السادسة: إطلاق الأخ عَلَى الرقيق.

السابعة: أن إطعام المملوك من الخبز وما يقتاته إطعام مما يأكله؛ لأن (من) للتبعيض، ولا يلزمه أن يطعمه من كل ما يأكل عَلَى العموم من الأدم، وطيبات العيش، مع أن المستحب أن لا يستأثر عَلَى عياله، ولا يفضل نفسه في العيش عليهم.

ص: 31

‌23 - باب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ

32 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح. قَالَ: وَحَدَّثَنِى بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]. [3360، 3428، 3429، 4629، 4776، 6918، 6937 - مسلم: 124 - فتح: 1/ 87]

ثنَا أَبُو الوَليدِ قَالَ: حَدَّثنَا شُعْبَةُ وَحَدَّثَنِي بِشْرٌ ثنَا غندر، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا، وفي: أحاديث الأنبياء عن أبي الوليد

(1)

كما ترى، وفي: التفسير عن بندار عن ابن أبي عدي عن شعبة

(2)

، وفي أحاديث الأنبياء أيضًا: عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه

(3)

، وعن إسحاق عن عيسى بن يونس

(4)

، وفي التفسير

(5)

أيضًا، واستتابة المرتدين عن قتيبة عن جرير

(6)

.

(1)

سيأتي برقم (3428) باب: قول الله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ} .

(2)

سيأتي برقم (4629) باب: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.

(3)

سيأتي برقم (3360) باب: قول الله تعالى {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} .

(4)

سيأتي برقم (3429) باب: قول الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ} .

(5)

سيأتي برقم (4776) باب: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

(6)

سيأتي برقم (6918) باب: إثم من أشرك بالله، وعقوبته في الدنيا والآخرة.

ص: 32

ورواه مسلم

(1)

هنا عن أبي بكر عن ابن إدريس، وأبي معاوية، ووكيع، وعن إسحاق، وابن خشرم عن عيسى، وعن منجاب عن علي بن مسهر، وعن أبي كريب عن ابن إدريس كلهم عن الأعمش عن إبراهيم به.

وقال فيه البخاري في بعض طرقه: لما نزلت الآية شق ذَلِكَ عَلَى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس كذلك ألا تسمعون إلى قول لقمان {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] "

(2)

ولفظ مسلم قريب من هذا، فإن فيه: قالوا: أينا لم يظلم نفسه. فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس هو كما تظنون إنما هو كما قَالَ لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ".

ثانيها:

مناسبة الحديث للتبويب أن الإيمان تمامه بالعمل، وأن المعاصي تنقصه، ولا تخرجه إلى الكفر.

ثالثها: في التعريف برواته غير ما سلف وهو شعبة.

أما عبد الله بن مسعود

(3)

فهو:

(أبو مسعود)

(4)

عبد الله بن مسعود بن غافل -بالغين المعجمة والفاء- بن حبيب بن شمخ بن مخزوم، ويقال: شمخ بن فار -بالفاء-

(1)

مسلم (124) كتاب: الإيمان، باب: صدق الإيمان.

(2)

سيأتي برقم (6918) كتاب: استتابة المرتدين، باب: إثم من أشرك بالله.

(3)

انظر ترجمته رضي الله عنه في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد 2/ 342، 3/ 150، 6/ 13، "فضائل الصحابة" 2/ 1056، "الاستيعاب" 3/ 110 - 116، "أسد الغابة" 3/ 384 (3177)، "تهذيب الكمال" 16/ 127، "الإصابة" 2/ 368 (4954).

(4)

كذا في الأصول، والصواب: أبو عبد الرحمن، كما في مصادر الترجمة.

ص: 33

ابن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر الهذلي الكوفي السيد الجليل، أسلم بمكة قديمًا، وهاجر إلى الحبشة ثمَّ إلى المدينة، وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كثير الدخول عليه.

روي لَهُ ثمانمائة حديث، وثمانية وأربعون حديثًا. اتفقا منها عَلَى أربعة وستين، وانفرد البخاري بأحد وعشرين، ومسلم بخمسة وثلاثين.

روى عنه جماعة من الصحابة منهم: أنس وخلق من التابعين، ومناقبه جمة، وكذا جلالته وكثرة فقهه، استوطن الكوفة، ومات بها سنة اثنين وثلاثين، وقيل: ثلاث. وقال جماعة: مات بالمدينة، ودفن بالبقيع عن بضع وستين سنة، وترجمته موضحة في "رجال العمدة" تأليفي.

فائدة:

عبد الله بن مسعود في الصحابة ثلاثة، أحدهم هذا، وثانيهم أبو عمرو الثقفي أخو أبي (عبيد)

(1)

، استشهد يوم الجسر كأخيه

(2)

، وثالثهم غفاري. وقيل: أبو مسعود لَهُ حديث

(3)

، وفيهم رابع، اختلف في اسمه فقيل: ابن مسعدة، وقيل: ابن مسعود، فزاري

(4)

.

(1)

في الأصل: عبيدة، والمثبت هو الصواب كما في "الاستيعاب" 3/ 110، "الإصابة" 2/ 370.

(2)

انظر: "الإصابة" 2/ 370 (4955) وفيه عبد الله بن مسعود بن عمرو الثقفي.

(3)

انظر: "أسد الغابة" 3/ 390 (3178)، "الإصابة" 2/ 370 (4956).

(4)

انظر: "أسد الغابة" 3/ 384.

ص: 34

وأما علقمة

(1)

فهو: أبو شبل علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان -بفتح السين المهملة- بن كهيل بن بكر بن عوف بن النخع، النخعي، الكوفي عم الأسود، وعبد الرحمن ابني يزيد بن قيس خالي إبراهيم النخعي.

سمع خلقًا من كبار الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي، وعنه خلق من كبار التابعين منهم: الشعبي والنخعي. وجلالته وإمامته وثقته مجمع عليها، وهو أكبر أصحاب ابن مسعود، وكان يُشَبَّه به هديًا ودلًّا

(2)

. مات سنة اثنين وستين، وقيل سنة اثنين وسبعين، روى لَهُ الجماعة إلا مالكا، قاله في "الكمال" ولم يستثنه المزي.

وأما إبراهيم فهو إمام أهل الكوفة، أبو عمران، إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود

(3)

بن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن سعد بن مالك بن

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات" لابن سعد 6/ 86، "التاريخ الكبير" 7/ 41 (177)، "الجرح والتعديل" 6/ 404 (2258)، "الثقات" لابن حبان 5/ 207، "تهذيب الكمال" 20/ 300 (4017)، "سير أعلام النبلاء" 4/ 53 (14).

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 6/ 86، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" 2/ 553 - 554.

(3)

قال العلامة علاء الدين مغلطاي في "إكمال تهذيب الكمال" 1/ 313 - 314: إبراهيم بن يزيد بن الأسود بن عمرو بن ربيعة. كذا نسبه يعقوب بن سفيان الفسوي في "تاريخه الكبير"، والحافظ إسحاق القراب في "تاريخه" وقال: يزيد بن الأسود ابن عمرو بن ربيعة.

والمنتجالي، ويحيى بن معين فيما ذكره عباس، وأبو العرب القيرواني، وأبو زرعة النصري في كتاب "التاريخ"، وابن حبان، وأبو داود، ومحمد بن سعد في كتاب "الطبقات الكبير"، وخليفة ابن خياط في كتابيه "الطبقات"، و"التاريخ"، والكلبي في كتاب "الجمهرة" و"جمهرة الجمهرة"، و"الجامع لأنساب العرب"، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وابن دريد في كتاب "الاشتقاق الكبير"، وصاعد =

ص: 35

النخع، النخعي، الكُوفي، التابعي، المُجمَع عَلَى إمامته وجلالته وصلاحه. دخل عَلَى عائشة ولم يثبت لَة منها سماع، وهو ابن أخت الأسود، وعبد الرحمن ابني يزيد بن قيمس، أمه: مليكة بنت يزيد ابن قيس.

سمع علقمة وخاليه، وخلائق من كبار التابعين، وعنه جماعات من التابعين منهم: السبيعي والأعمش والحكم وآخرون. قَالَ الشعبي: ما ترك أحدًا أعلم منه أو أفقه منه ولا الحسن ولا ابن سيرين، وقال الأعمش: كان صيرفي الحديث

(1)

، وقال أحمد بن عبد الله

(2)

: كان مفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمنهما، وكان رجلًا صالحًا ثقة. مات سنة خمس أو ست وتسعين، عن تسع وأربعين، مختفيًا من الحجاج، وقيل: عن ست وأربعين، وقيل: عن تسع، وقيل: ثمان وخمسين

(3)

.

وأما سليمان

(4)

الراوي عن إبراهيم فهو: الإمام الجليل، أبو محمد

سليمان بن مهران، الأسدي الكاهلي الكوفي التابعي، الأعمش مولى

= اللغوي، والبرقي في "تاريخه الكبير"، وابن أبي خيثمة في "تاريخه الكبير"، و"الأوسط"، وغيرهم من المؤرخين والنسابين، وفي كتاب "الأمالي" للسمعاني: إبراهيم بن يزيد بن عمرو بن ربيعة، وكذا ذكره البخاري في "تاريخه الكبير"، وابن حبان، وأبو حاتم الرزاي، وأبو نصر الكلاباذي، والباجي.

والذي قاله المزي: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود لم أر معتمدًا قاله. اهـ.

(1)

رواه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" 2/ 607.

(2)

"معرفة الثقات" 1/ 209 (45).

(3)

انظر ترجمته في: "الطبقات" لابن سعد 6/ 270، "الجرح والتعديل" 6/ 144 (473)، "تهذيب الكمال" 2/ 233 (265)، "الكاشف" 1/ 277 (221).

(4)

انظر ترجمته في: "الطبقات" ابن سعد 6/ 342، "التاريخ الكبير" 4/ 37 (1886)، "الثقات" للعجلي 1/ 432 (676)، "تهذيب الكمال" 12/ 76 (2570)، "سير أعلام النبلاء" 6/ 226 (110).

ص: 36

بني كاهل، وكاهل هو ابن أسد بن خزيمة، رأى أنسًا، قيل: وأبا بكرة

(1)

.

وروى عن (ابن)

(2)

أبي أوفي (ولم يثبت لَهُ سماع من واحد منهما)

(3)

.

سمع خلقًا من كبار التابعين، وعنه خلق منهم فمن بعدهم، وهو: ثقة جليل إمام بالإجماع وورعه كذلك.

قَالَ يحيى القطان: كان من النساك، وعلامة الإسلام

(4)

.

وقال عيسى بن يونس: لم نر نحن ولا القرن الذي قبلنا مثله، وما رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر منهم عند الأعمش (مع)

(5)

فقره وحاجته

(6)

، وقال وكيع: مكث الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى

(7)

يعني: في صلاة الجماعة، وعن زهير: كان حليمًا في غضبه

(8)

، وعن شعبة: أنه كان إِذَا ذكر الأعمش قَالَ: المصحف

(1)

عزا هذا القول المزي في "تهذيب الكمال" 12/ 84 لأبي الحسين ابن المنادي.

قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 2/ 111: وقول ابن المنادي الذي سلف: أن الأعمش أخذ بركاب أبي بكرة الثقفي غلط فاحش؛ لأن الأعمش ولد إما سنة إحدى وستين أو سنة تسع وخمسين على الخُلف في ذلك، وأبو بكرة مات سنة إحدى أو اثنتين وخمسين، فكيف يتهيأ أن يأخذ بركاب من مات قبل مولده بعشر سنين أو نحوها؟ وكأنه كان -والله أعلم- أخذ بركاب ابن أبي بكرة فسقطت "ابن" وثبت الباقي، وإني لأتعجب من المؤلف مع حفظه ونقده كيف خفي عليه هذا. اهـ.

(2)

ساقط من (ج).

(3)

من (ف).

(4)

رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" 9/ 8.

(5)

في الأصول: (عند)، والمثبت هو الصواب.

(6)

رواه أبو نعيم في "الحلية" 5/ 47 - 48، والخطيب في "تاريخ بغداد" 9/ 8.

(7)

المصدران السابقان.

(8)

أورده البخاري في "التاريخ الكبير" 4/ 38 (1886).

ص: 37

المصحف في صدقه

(1)

.

يقال إن أصله من طبرستان من قرية يقال لها: دباوند

(2)

ناحية منها، جاء به أبوه حميلًا إلى الكوفة فاشتراه لَهُ رجل من بني أسد فأعتقه. وقال الترمذي في "جامعه" في باب: الاستتار عند الحاجة، عن الأعمش أنه قَالَ: كان أبي حَميلًا فَوَرَّثَهُ مسروق

(3)

. فالحميل عَلَى هذا أبوه، والحميل: الذي يحمل من بلده صغيرًا، ولم يولد في الإسلام.

وظهر للأعمش أربعة آلاف حديث، ولم يكن لَهُ كتاب، وكان فصيحًا لم يلحن قط، وكان أبوه من سبي الديلم يقال: إنه شهد قتل الحسين، وإن الأعمش ولد يوم قتل الحسين يوم عاشوراء سنة إحدى وستين. وقال البخاري: ولد سنة ستين، مات سنة ثمان وأربعين ومائة.

فائدة:

نُسب الأعمشُ إلى التدليس

(4)

، وقد عنعن في هذا الحديث عن إبراهيم، وذكر الخطيب عن بعفالحفاظ أنه يدلس عن غير ثقة، بخلاف سفيان، لكن قَدْ أسلفنا أن حديثه في "الصحيح" محمول عَلَى السماع.

(1)

رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" 9/ 11.

(2)

دباوند أو دنباوند، كلاهما صحيح انظر:"معجم البلدان" 2/ 436.

(3)

أورده الترمذي في إثر حديث رقم (14).

(4)

وصفه بالتدليس الكرابيسي، والنسائي، والدارقطني كما في "تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس" لابن حجر ص 67. قال الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال" 2/ 414: وهو يدلس، وربما دلّس عن ضعيف، ولا يدري به، فمتى قال: حدثنا، فلا كلام، ومتى قال: عن، تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم، كإبراهيم، وابن أبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال. اهـ.

ص: 38

وأما غندر فهو: أبو عبد الله محمد بن جعفر الهذلي، مولاهم البصري، صاحب الكراديس، اشتهر بغندر، سمع ابن جريج وخلقًا من الكبار، منهم: شعبة، وجالسه نحو عشرين سنة، وكان شعبة زوج أمه، وعنه خلق من الحفاظ والأعلام منهم: الإمام أحمد، وابن معين، وقال: كان منذ خمسين سنة يصوم يومًا، ويفطر يومًا، وأراد بعضهم أن يخطئه فلم يقدر عليه، وكان من أصح الناس كتابا.

وقال ابن وهب: غندر في شعبة أثبت مني. وقال أبو حاتم: صدوق وهو في شعبة ثقة. وغندر لَقَّبَهُ به ابن جريج لما قدم البصرة، وحدث بحديث عن الحسن فجعل محمد يكثر التشغيب عليه فقال: اسكت يا غندر، وأهل الحجاز يسمون المشغب غندرًا، وزعم أبو جعفر النحاس في كتاب "الاشتقاق" أنه من الغدر، وأن نونه زائدة والمشهور في داله الفتح، وحكى الجوهري ضمها

(1)

. مات سنة ثلاث وتسعين ومائة قاله أبو داود، وقيل: سنة أربع، وقال ابن سعد: سنة أربع ومائتين

(2)

.

فائدة:

جماعة من يلقب بغندر عشرة، أوضحتهم في كتاب "المقنع" تأليفي في علوم الحديث

(3)

.

وأما أبو الوليد فسلف.

(1)

"الصحاح" مادة (غدر).

(2)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 296، "التاريخ الكبير" 1/ 57 (119)، "تهذيب الكمال" 25/ 5 - 9 (5120)، "سير أعلام النبلاء" 9/ 98، "شذرات الذهب" 1/ 333.

(3)

"المقنع" 2/ 585 - 587.

ص: 39

وأما بشر بن خالد فهو أبو محمد العسكري الفرائضي، روى عن جماعة من الحفاظ، وعنه الأئمة: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن خزيمة، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين

(1)

.

فائدة: هذا الإسناد اجتمع فيه رواية ثلاثة من التابعين من أهل الكوفة بعضهم عن بعض: الأعمش، وإبراهيم، وعلقمة، أئمة فضلاء.

الوجه الرابع: في ألفاظه وفوائده:

الأولى: معنى {وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: 82] لم يخلطوا. يقال: لبست الأمر مخففًا، ألبسهُ بالفتح في الماضي، وكسره في المستقبل إِذَا خلطته، وفي لبس الثوب بضده.

الثانية: هل الظلم في الآية الشرك أو سائر أنواع الظلم؟

فيه قولان حكاهما الماوردي، ونقل الأول عن أُبي وابن مسعود عملا بهذا الحديث.

قَالَ: واختلفوا عَلَى الثاني فقيل: إنها عامة، ويؤيده ما رواه عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي أن رجلًا سال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت حتَّى جاء رجلٌ فأسلم فلم يلبث قليلًا حتَّى استشهد. فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا منهم: من {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}

(2)

[الأنعام: 82] وقيل: إنها خاصة، نزلت في إبراهيم عليه السلام، وليس لهذِه الأمة فيها شيء، قاله علي رضي الله عنه، وقيل: إنها فيمن هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة

(3)

.

(1)

انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 2/ 356 (1356)، "الثقات" لابن حبان 8/ 145، "تهذيب الكمال" 4/ 117 (686)، "الكاشف" 1/ 267 (576).

(2)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 3/ 50 وعزاه لعبد بن حميد.

(3)

"تفسير الماوردي" 2/ 138.

ص: 40

الثالثة: ذكر البخاري هذا الحديث هنا، وفي كتاب: التفسير

(1)

هكذا، ورواه مرة وفيه:"إنه ليس كذلك ألا تسمعون إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} "

(2)

[لقمان: 13] ولفظ مسلم

(3)

قريب من ذَلِكَ كما سلف.

فهاتان الروايتان تفسر إحداهما الأخرى، وإنه لما شق ذَلِكَ عليهم أنزل الله الآية فقال صلى الله عليه وسلم بعد ذَلِكَ: ليس ذَلِكَ الظن الذي وقع لكم كما تظنون، إنما المراد بالظلم كما قَالَ لقمان لابنه.

قَالَ الخطابي

(4)

: إنما شق عليهم؛ لأن ظاهر الظلم: الافتيات بحقوق الناس، وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي، فظنوا أن المراد به هنا معناه الظاهر فشق عليهم، وأصل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، ومن جعل العبادة لغير الله تعالى وأثبت الربوبية فهو ظالم بل أظلم الظالمين.

الرابعة والخامسة: أن المفسَّر يقضي عَلَى المجمل، وأن العام يطلق ويراد به الخاص، بخلاف قول أهل الظاهر لحمل الصحابة ذَلِكَ عَلَى جميع أنواع الظلم، فبين الله تعالى أن المراد نوع منه.

السادسة: إثبات العموم.

(1)

سيأتي برقم (4629) كتاب: التفسير، باب:{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ، ورواه مسلم (122) كتاب: الإيمان، باب: الإسلام يهدم ما قبله.

(2)

سيأتي برقم (6918) كتاب: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب: إثم من أشرك.

(3)

مسلم (124) كتاب: الإيمان، باب: صدق الإيمان وإخلاصه.

(4)

"أعلام الحديث" 1/ 162.

ص: 41

السابعة: عموم النكرة في سياق النفي (لفهم)

(1)

الصحابة، وتقرير الشارع عليه، وبين لهم التخصيص. وأما القاضي فقال: حملوه عَلَى أظهر معانيه فإنه وإنْ كان ينطلق عَلَى الكفر وغيره لغة وشرعًا، فعرف الاستعمال فيه العدول عن الحق في غير الكفر، كما أن لفظ الكفر يطلق عَلَى معانٍ: من جحد النعم، والستر، لكن الغالب عند مجرد الإطلاق حمله عَلَى ضد الإيمان، فلما ورد لفظ الظلم من غير قرينة حمله الصحابة عَلَى أظهر وجوهه فليس فيه دلالة عَلَى العموم

(2)

.

الثامنة: تأخير البيان إلى وقت الحاجة، كذا استنبطه الماوردي والنووي وغيرهما، ونازع في ذَلِكَ القاضي عياض؛ لأنه ليس في هذِه القضية تكليف عمل بل تكليف اعتقاد بتصديق الخبر عن المؤمن، واعتقاد التصديق لازم لأول وروده، فما هي الحاجة المؤخرة إلى البيان، لكنهم لما أشفقوا بين لهم المراد

(3)

.

التاسعة: أن المعاصي لا تكون كفرًا، وهو مذهب أهل الحق، وأن (الظلم)

(4)

عَلَى ضربين كما ترجم له.

(1)

في (ج) تعم لفهم.

(2)

"إكمال المعلم" 1/ 417 - 418.

(3)

"إكمال المعلم" 1/ 418.

(4)

في (خ): الظالم.

ص: 42

‌24 - باب: عَلَامَات المُنَافِقِ

33 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ". [2682، 2749 - مسلم: 59 - فتح:1/ 89]

34 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأعمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". تَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنِ الأعْمَشِ. [2459، 3178 - مسلم: 58 - فتح: 1/ 89]

ثنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ نَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَان".

نَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، ثنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وِاذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ". تَابَعَهُ شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ.

ص: 43

الكلام عليهما من وجوه:

أحدها:

حديث أبي هريرة أخرجه البخاري في الوصايا عن أبي الربيع أيضا

(1)

، وفي الشهادات عن قتيبة

(2)

، وفي: الأدب، عن ابن سلَّام

(3)

.

وأخرجه مسلم

(4)

هنا عن قتيبة ويحيى بن أيوب، كلهم عن إسماعيل به، وحديث ابن عمرو أخرجه البخاري في: الجزية: عن قتيبة عن جرير عن الأعمش به

(5)

، وأخرجه مسلم

(6)

هنا عن أبي بكر عن عبد الله بن نُمير، وعن ابن نُمير، ثنا أبي، ثنا الأعمش ح، وثنا زهير، ثنا وكيع، ثنا سفيان عن الأعمش به.

الوجه الثاني: في التعريف برواته:

وقد سلف منهم أبو هريرة وعبد الله بن عمرو، والأعمش وشعبة.

وأمَّا مسروق فهو: أبو عائشة مسروق بن الأجدع -بالجيم ثمَّ دال مهملة- بن مالك بن أُميّة بن عبد الله بن مُر بن (سلمان)

(7)

بن الحارث بن سعد بن عبد الله بن وداعة بن عمرو بن عامر الهَمْداني الكوفي التابعي الكبير، صلَّى خلف الصِّديق، وسمع عمر وعائشة

(1)

سيأتي برقم (2749) كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} .

(2)

سيأتي برقم (2682) كتاب: الشهادات، باب: من أمر بإنجاز الوعد.

(3)

سيأتي برقم (6095) كتاب: الأدب، باب: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} .

(4)

مسلم (59) كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق.

(5)

سيأتي برقم (3178) كتاب: الجزية والموادعة، باب: كيف ينبذ إلى أهل العهد.

(6)

مسلم (58) كتاب: الإيمان، باب: بيان خصال المنافق.

(7)

في (ج) سليمان.

ص: 44

وغيرهما، وعنهُ خلق من التابعين فمن بعدهم منهم: أبو وائل وهو أكبر منه، وإمامته وثقته وجلالتهُ مُتفق عليها.

قَالَ الشعبي: ما علمت أنَّ أحدًا كان يطلب العلم في أُفق من الآفاق مثله. وقال مُرَّة الهَمْداني: ما ولدت همدانية مثله.

وقال ابن المديني: ما أقَدِّم عليه واحدًا من أصحاب عبد الله، وكان أفرس فارس باليمن وهو ابن أُخت معدي كرب، وقال لهُ عمر: ما اسمك؟ قلتُ: مسروق بن الأجدع، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الأجدع شيطان" أنت مسروق بن عبد الرحمن

(1)

، قَالَ الشعبي: فرأيته في الديوان مسروق بن عبد الرحمن

(2)

.

وقال العجلي: كان أصحاب. عبد الله الذين يقرءون القرآن ويعلمون السُّنة: علقمة، والأسود، وعَبيدة، ومسروق، والحارث بن قيس، وعمرو بن شرحبيل

(3)

. مات سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وستين

(4)

.

وأمَّا الراوي عنهُ فهو عبد الله بن مُرة الهمداني الكوفي التابعي الخارفي بالخاء المعجمة والفاء، نسبةً إلى خارف، وهو: مالك بن عبد الله بن كثير بن مالك بن جشم بن خَيْوان بن نوف بن همدان،

(1)

رواه أبو داود (4957)، وابن ماجه (3731)، وابن أبي شيبة 5/ 263 - 264.

وأحمد 1/ 31، والبزار 1/ 451، من حديث عمر بن الخطاب. قال البزار: هذا الحديث لا نعلم رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر، ولا نعلم له طريقًا عن عمر إلا هذا الطريق. اهـ. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(2271).

(2)

رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" 13/ 232 - 233.

(3)

"معرفة الثقات" 1/ 230.

(4)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 76، "التاريخ الكبير" 8/ 35 ترجمة (2065)، "تهذيب الكمال" 27/ 451 ترجمة (5902)، "سير أعلام النبلاء" 4/ 454، "تاريخ بغداد" 13/ 232.

ص: 45

روى عن (ابن عمر)

(1)

وغيره، وعنه: الأعمش ومنصور. مات سنة مائة.

قَالَ ابن سعد: في خلافة عُمر بن عبد العزيز. قَالَ يحيى بن معين وأبو زرعة: ثقة

(2)

.

وأمَّا الراوي عنهُ فهو: الإمام الكبير العالم الرباني القائم في الله، أبو عبد الله، سفيان

(3)

بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن ملكان بن ثور بن عبد مَناة بن أد بن طابخة -بطاء مهملة ثم باء موحدة ثم خاء معجمة- بن إلياس بن مضر بن نزار، الثوري الكوفي. إمام أهل الكوفة بل إمام العراق، وهو من تابعي التابعين، سمع خلقا من التابعين منهم: السبيعي، والأعمش، وأبا حَصين، وعنهُ: محمد بن عجلان، وهو تابعي، ومن شيوخه، وغيرهم من الأعلام. ومناقبه جمَّة.

قَالَ أحمد بن عبد الله: أحسن إسناد الكوفة سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله

(4)

. وقال أبو عاصم: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. وقال ابن المبارك: كتبتُ عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل منه، وعنهُ قَالَ: ما استودعت نفسي شيئًا فخانني

(5)

.

(1)

في (ج): علي، وهو خطأ، والمثبت من "الجمع بين رجال الصحيحين" 1/ 259.

(2)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 290، "الجرح والتعديل" 5/ 165 ترجمة (763)، "تهذيب الكمال" 16/ 114.

(3)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 371، "التاريخ الكبير" 4/ 92 (2077)، "تهذيب الكمال" 11/ 154 ترجمة (2407)، "سير أعلام النبلاء" 7/ 229.

(4)

"معرفة الثقات" 1/ 411.

(5)

ذكره النسائي في "الكبرى" 6/ 156 (10444).

ص: 46

وقال أحمد بن جَواش: كان ابن المبارك يتأسف على سفيان ويقول: لِمَ لَمْ أطرح نفسي بين يدي سفيان ما أصنع بفلان وفُلان.

وقال يونس بن عُبيد: ما رأيت أفضل من سفيان الثوري فقال له رجل: تقول هذا، وقد رأيت سعيد بن جبير وعطاء ومجاهدًا؟! فقال: هو والله ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان.

وُلد سنة سبع وتسعين، ومات سنة ستين ومائة، وقيل: إحدى بالبصرة، وادعى ابن سعد الإجماع عليه.

قَالَ ابن معين: كل مَنْ خالف الثوري فالقول قول الثوري، ولَمْ يكن أحد أعلم بحديث ابن إسحاق منه، وكان يُدلس

(1)

، وعن عبد الرزاق قَالَ: بَعث أبو جعفر الخشابين قُدامه حين خرج إلى مكة، وقال: إذا رأيتم سُفيان فاصلبوه فوصلوا مكة، ونصبوا الخَشبة، ونودي سفيان فماذا رأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجله في حجر ابن عيينة، فقالوا: لا تشمت بنا الأعداء، فأخذ بأستار الكعبة وقال: برئت منه إن دخلها، فمات أبو جعفر قبل أَنْ يدخل مكة

(2)

.

فائدة:

سُفيان هذا أحد أصحاب المذاهب المتبوعة كما أسْلفته أوائل الكتاب.

(1)

وصفه بالتدليس النسائي وغيره، وقال البخاري: ما أقل تدليسه.

انظر: "تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس" للحافظ ص 64.

(2)

رواه أبو نعيم في "الحلية" 7/ 41 - 42، والخطيب في "تاريخ بغداد" 9/ 159 (4763).

ص: 47

وأمَّا الراوي عنهُ فهو: قبيصة

(1)

بن عقبة بن محمد بن سفيان بن عُقبة بن ربيعة بن (جنيدب)

(2)

بن رباب

(3)

بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة، أبو عامر السوائيُّ، الكوفي، أخو سُفيان بن عُقبة، روى عن الثوري وغيره من الكِبار، وليس له عن ابن عيينة شيء، وعنه الأعلام، منهم: أحمد، والذهلي، والبخاري، وكان من الصالحين.

وهو مختلف في توثيقه وجرحه، واحتجاج البخاري به في غير موضع كاف، وقال يحيى بن معين: ثقة في كل شيء إلا في حديث سُفيان الثوري ليس بذاك القوي.

وقال يحيى بن آدم: كثير الغلط في سفيان كأنهُ كان صغيرًا لم يضبط، وأمَّا في غيره فهو ثقة رجل صالح، وعَنْ قبيصة أنَّهُ قَالَ: جالستُ الثوري وأنا ابن لست عشرة سنة ثلاث سنين.

وروى مسلم في: الجنائز حديثًا واحدًا عن ابن أبي شيبة عنهُ عن الثوري

(4)

، وروى أبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي بواسطة، والبخاري في "الأدب" عن يحيى بن بشر عنه

(5)

، ومسلم في مقدمته

(1)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 403، "التاريخ الكبير" 7/ 177 ترجمة (792)، "الجرح والتعديل" 7/ 126 ترجمة (722)، "تهذيب الكمال" 23/ 481 ترجمة (4843).

(2)

في الأصول: جندب، والمثبت هو الصواب كما في مصادر الترجمة.

(3)

وفي بعض المصادر: رئاب.

(4)

مسلم (977) كتاب: الجنائز، باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه.

والحديث "كنت نهيتكم عن زيارة القبور .. ".

(5)

"الأدب المفرد"(543) ونصه "إذا أحب الرجل الرجل .. "، وقال الألباني: حسن صحيح وكذا في "الصحيحة"(418).

ص: 48

عن الحلواني، عن الحماني، عن قبيصة وأخيه سفيان

(1)

، والنسائي عن ولده عقبة عن أبيه في:"أفطر الحاجم"

(2)

.

مات في المُحرم سنة ثلاث عشرة ومائتين كذا في شرح شيخنا قطب الدين، وقال النووي في "شرحه": مات سنة خمس عشرة ومائتين، وهما قولان حكاهما المزي في "تهذيبه" حكى الأول عن معاوية، وحكى الثاني عن جماعة

(3)

.

وأما الإسناد الأول فالراوي عَنْ أبي هريرة مالك بن أبي عامر، أبو أنس الأصبحي المدني

(4)

، جدّ مالك الإمام، ووالد أنس والربيع ونافع، وأويس، حليف عثمان بن عبد الله أخي طلحة التميمي القرشي. سمع عُمر وغيره، وعنهُ سُليمان بن يسار، وغيره. مات سنة اثنتي عشرة ومائة وهو ابن سبعين أو اثنتين وسبعين.

فائدتان:

الأولى: أخرج مسلم لأبي أنس عن عثمان حديثًا في الوضوء من طريق وكيع عَنْ سُفيان عَنْ أبي النضر عن أبي أنس عن عثمان

(5)

، وحديثًا في الرِّبا من حديث سليمان بن يسار عنهُ

(6)

.

(1)

مسلم 1/ 20.

(2)

النسائي في "الكبرى" 2/ 229 (3194).

(3)

"تهذيب الكمال" 23/ 488 - 489.

(4)

انظر ترجمته في: "الطبقات" لابن سعد 5/ 63، "التاريخ الكبير" 7/ 305 (1297)، "ثقات" العجلي 2/ 261 (1673)، "الجرح والتعديل" 8/ 214 (951)، "ثقات" ابن حبان 5/ 383، "الكاشف" 2/ 235 (5254)، قال ابن حجر في "التقريب" ثقة، من الثانية.

(5)

مسلم (230) كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه.

(6)

مسلم (1585) كتاب: المساقاة، باب: الربا.

ص: 49

فاستدرك الدارقطني وغيره الأول فقالوا: خالف وكيعًا لعلها زيادة أصحاب الثوري الحفاظ حيث رووه عَنْ الثوري، عَنْ أبي النضر، عن بسر بن سعيد، عن عثمان وهو الصواب

(1)

، وقال مالك في "الموطأ" في الحديث الثاني أنَّهُ بلغهُ عن جده أن عثمان

(2)

.

الثانية: صرح مالك في: الإيمان بسماع جده مِنْ طلحة بن عُبيد الله

(3)

، وكذا صرَّح به ابن سعد

(4)

، وفيه نظر، كما نبَّه عليه المنذري حيث قَالَ: كيف يصح سماعه منه وأنَّه توفي سنة اثنتي عشرة ومائة وهو ابن سبعين أو اثنتين وسبعين، وعلى هذا يكون مولده سنة أربعين مِنْ الهجرة، ولا خلاف أن طلحة قتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين من الهجرة.

والإسناد صحيح أخرجه الأئمة، وفيه أنَّهُ سَمع طلحة بن عبيد الله، فلعلَّ السَّبعين صوابها التِّسعين وتصحفت بها، وقد ذَكر أبو عمر أنَّهُ توفِّيَ سنة مائة أو نحوها، فعلى هذا يكون مولده سنة ثمان وعشرين، ويمكن سماعه منه.

قُلْتُ: وعلى الأول روايته عن عمر أشكل؛ فإنه مات سنة ثلاث وعشرين فكيف يصح له قوله: شهدت عمر عند الجمرة، وأصابه حجر فدماه وذكر الحديث وفيه: فلمَّا كان مَنْ قابل أُصيب عمر. رواه ابن سعد فقال: أخبرنا يزيد بن هارون، أنا جرير بن حازم، عن عمه

(1)

"العلل" 3/ 17 - 19 (259).

(2)

"الموطأ" ص 392 رواية يحيى. ونصه "لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين".

(3)

سيأتي برقم (46) كتاب: الإيمان، باب: الزكاة في الإسلام.

(4)

"الطبقات الكبرى" لابن سعد 2/ 370.

ص: 50

جرير بن زيد، عَنْ مالك بن أبي عامر قَالَ: شهدت عمر، الحديث

(1)

، فتنبه لذلك، وتبعه النووي في "شرحه".

(وقد نبه المزي أيضًا على هذا الوهم في الوفاة في أنها سنة اثنتي عشرة ومائة كما أسلفناه، مع السن المذكور، والناقل لذلك هو صاحب "الكمال" عن الواقدي، رواه عنه ابن سعد، وقال المزي في حاشية "تهذيبه": إنه خطأ لا شك فيه، فإنه قد سمع من عمر فمن بَعْدَه، ونقل في أصل "تهذيبه" عن ولده الربيع أن والده هلك حين اجتمع الناس على عبد الملك، يعني: سنة أربع وسبعين

(2)

، وجزم به في "الكاشف" فاتضح ذَلِكَ)

(3)

وأمَّا ولده نافع فهو أبو سُهيل المدني

(4)

عم الإمام مالك، سمع أنس بن مالك الصحابي، وأباه، وجمعًا من التابعين، وعنة: الزهري ومالك وآخرون.

قَالَ أحمد وأبو حاتم: ثقة.

وأمَّا إسماعيل

(5)

فهو: أبو إبراهيم، إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي، مولاهم المدني، قارئ أهل المدينة، وهو أخو محمد، ويحيى، وكثير، ويعقوب بن جعفر، سَمع جمعًا من التابعين منهم: عبد الله بن دينار، وغيرهم، وعنهُ جمع مِنْ الأعلام منهم: قُتيبة.

(1)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 5/ 63 - 64 ترجمة مالك بن أبي عامر.

(2)

"تهذيب الكمال" 27/ 149 - 150.

(3)

"الكاشف" 2/ 235 (5254)، وما بين القوسين ساقط من (ج).

(4)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 9/ 216، "تهذيب الكمال" 9/ 290، "سير أعلام النبلاء" 5/ 283.

(5)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 7/ 327، "تاريخ بغداد" 6/ 218 (3274)، "تهذيب الكمال" 3/ 56.

ص: 51

مات ببغداد سنة ثمانين ومائة.

قَالَ يحيى بن معين: ثقة مأمون قليل الخطأ صدوق.

وقال أبو زرعة وأحمد وابن سعد: ثقة.

قَالَ ابن سعد: كان من أهل المدينة قدم بغداد فلمْ يزل بها حتى مات

(1)

.

وأما سليمان فهو أبو الربيع، سليمان بن داود الزهراني

(2)

[العتكي، سكن بغداد، وسمع كبار الأئمة منهم مالك، وعنهُ الحفاظ: أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وروى النسائي عَنْ رجل عنهُ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو يعلى الموصلي، والبغوي. وثقه ابن معين وغيره، ومات بالبصرة سنة أربع وثلاثين ومائتين

(3)

.

فائدة:

في الإسناد الأول لطيفة، وهي أنهم كلهم مدنيون إلا أبا الربيع.

وفي الإسناد الثاني لطيفة، وهي أنهم كلهم كوفيون إلا عبد الله بن عمرو، وفيه لطيفة ثانية، وهي رواية ثلاثة من الأتباع بعضهم عن بعض: الأعمش، وابن مُرة، ومسروق.

الوجه الثالث:

مُراد البخاري رحمه الله بإيراد هذين الحديثين هنا أنَّ المعاصي تنقص الإيمان كما أَنَّ الطاعات تزيده.

(1)

"الطبقات" 7/ 327.

(2)

من هنا يبدأ سقط من (ج).

(3)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 7/ 307، "التاريخ الكبير" 4/ 11 (1791)، "الجرح والتعديل" 4/ 113 (493)"تهذيب الكمال" 11/ 423 (2513)، "سير أعلام النبلاء" 10/ 676.

ص: 52

الوجه الرابع: في بيان ألفاظه ومعانيه:

فقوله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق" أي علامته، وقد فسَّر البخاري الحديث بالترجمة حيث قَالَ: باب علامات المنافق.

والنِّفاق زَعَم ابن سيده أنَّه الدخول في الإسلام من وجه، والخروج عنه من وجه، مُشتق من نافقاء اليربوع، إسلامية، وقد نافق منافقة ونفاقًا، والنَّافقاء والنُّفَقة جحر الضب واليربوع، وقيل: هما موضع يرققه اليربوع من جحره فإذا أُتي من القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فخرج

(1)

.

وقال القزاز: يُقال: نافق اليربوع ينافق فهو منافق إذا فعل ذَلِكَ، وكذلك نَفقَ يُنفقُ فهو مُنافق من هذا. وقيل: المنافق مأخوذ من النفق وهو السِّرب تحت الأرض، يراد أنه يتستر بالإسلام كما سُتر صاحب النفق فيه، وجمع النفق: أنفاق، وجاء على فَعال، وأكثر ما يجيء على فِعال ما كان من اثنين، وإنما جاء على هذا عندهم؛ لأنه بمنزلة خادع وراوغ، وقيل: بل؛ لأنه يقابل بقبول الإسلام منه، فإِنْ علم أنَّهُ مُنافق فقد صار الفعل مِنْ اثنين، وسُمِّيَ الثاني باسم الأول مجازًا؛ للازدواج كقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194].

وقال ابن الأنباري: في تسمية المُنافق ثلاثة أقوال:

أحدها: لأنه يستر كفره فأشبه داخل النفق للستر.

ثانيها: لشبهه باليربوع كما سلف، فالمنافق يخرج من الإيمان من غير الموضع الذي دخل فيه.

(1)

"المحكم" 6/ 275.

واعلم أن لليربوع جحران جحر يسمى القاصعاء، وآخر يسمى النافقاء فإذا أخذ عليه من أحدهما خرج بن الآخر. انظر:"المفهم" 1/ 249.

ص: 53

ثالثها: أنَّ اليربوع يخرق الأرض حتى يرق تراب ظاهرها، فإذا رابه أمرٌ رفعه وخرج. فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر، فكذلك المنافق باطنه الكفر وظاهره الإيمان، فشبه به.

قَالَ مالك فيما حكاه القرطبي: النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة عندنا اليوم

(1)

.

والكذب نقيض الصِّدق، وله مصادر ليس هذا موضع استقصائها.

والوعد، قَالَ الفراء: يُقال: وعدته خيرًا، ووعدته شرًّا بإسقاط الألف فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته، وفي الخير: الوعد والعِدَة، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، فإذا قالوا: أوعدته بالشر أُثبت الألف مع الباء.

وقال ابن الأعرابي: أوعدته خيرًا وهو نادر.

وقال الجوهري: تواعد القوم أي: وعد بعضهم بعضًا، هذا في الخير، وأمَّا في الشر فيُقال: اتعدوا، والاتعاد أيضًا: قبول الوعد، وناس يقولون: ائتعد يأتعد فهو مُؤتعد بالهمز. كذا في "الصحاح"

(2)

، وقال ابن بري: الصواب ترك الهمزة. وكذا ذكره سيبويه وأصحابه وجميع النحويين.

والخيانة: أنْ يؤتمن الإنسان فلا ينصح، قاله ابن سيده

(3)

.

والغدر: ترك الوفاء. قَالَ الجوهري: غَدَر به فهو غادر وَغُدَرُ أيضًا، وأكثر ما يُستعمل هذا في النداء بالشتم

(4)

. وقال صاحب "المجمل":

(1)

"المفهم" 1/ 249.

(2)

"الصحاح" 2/ 551، مادة:(وعد).

(3)

"المحكم" 5/ 183.

(4)

"الصحاح" 2/ 766، مادة:(غدر).

ص: 54

الغدر: نقض العهد وتركه

(1)

.

قلت: وفتح الدال من غدَر أفصح من كسرها، وفي المضارع الضم والكسر.

ومعنى: (فجر): مال عن الحق وقال الباطل والزور، وأصله: الميل عن القصد، والخصلة: الخلة. كما جاء في مسلم -بفتح الخاء فيها- وأما الخُلة -بضم الخاء- فهي: الصداقة.

الوجه الخامس: في فقهه:

حصل من مجموع الروايتين أن خصال المُنافق خمس: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإن كانت الخصلة الرابعة داخلة في الثالثة؛ لأن الغدر خيانة ممن ائتمن عليه من عهده، ولا مُنافاة بين الروايتين، فإن الشيء الواحد يكون له علامات كل واحدة منها تحصل بها صفته ثم قد تكون تلك العلامة شيئًا واحدًا وقد تكون أشياء.

وروى أبو أمامة موقوفًا: وإذا غنم غل وإذا أُمر عصى، وإذا لقي جَبُن

(2)

.

ثم هذا الحديث عَدَّه جماعة من العلماء مشكلًا من حيث أن هذِه الخصال قد توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك، وقد أجمعت الأمة على أن من كان مصدقًا بقلبه ولسانه وفعل هذِه الخصال لا يُحكم عليه بكفرٍ، ولا هو مُنافق يُخلَّد في النار؛ قالوا: وقد جمعت إخوة يوسف عليه السلام هذِه الخصال (

)

(3)

لبعضهم بعضها أو كلها وانفصلوا عنه بأوجه:

(1)

"المجمل" 2/ 692، مادة:(غدر).

(2)

رواه الفريابي في "صفة المنافق" ص 51 (20).

(3)

مقدار كلمة غير واضحة بالأصل.

ص: 55

أظهرها: أن هذِه خصال نفاق وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذِه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن [النفاق]

(1)

إظهار ما يبطن خلافه وهذا المعنى موجود في صاحب هذِه الخصال، ويكون نفاقه خاصًّا في حق من حدثه ووعده وائتمنه وعاهده وخاصمه من الناس، لا أنه منافق في الإسلام يظهره ويبطن الكفر، فهذا هو المراد لا أنه أراد نفاق الكفار الذي يخلد صاحبه في الدرك الأسفل من النار

(2)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا" معناه: شديد الشبه بالمنافقين؛ بسبب هذِه الخصال، وقد روي عن عمار موقوفًا: ثلاث إذا كن في عبد فلا تتحرج أن تشهد عليه أنه منافق

(3)

، ومن كان إذا حدَّث صدق، وإذا وعد أنجز، وإذا اؤتمن أدى فلا تتحرج أن تشهد أنه مؤمن

(4)

.

قَالَ الخطابي: وقد روي: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ"

(5)

وإنما هو كفر دون كفر وفسوق دون فسوق، وكذلك يكون نفاق دون نفاق

(6)

.

قَالَ بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذِه الخصال غالبة عليه، فأما

(1)

كلمة يقتضيها السياق، من "مسلم بشرح النووي" 2/ 47.

(2)

انظر: "مسلم بشرح النووي" 2/ 47.

(3)

كذا بالأصل، وباقي الحديث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان.

(4)

لم أقف عليه من حديث عمار، ورواه الفريابي في "صفة المنافق" 50 (17). عن عبد الله بن عمرو.

(5)

سيأتي برقم (48) كتاب: الإيمان، باب: خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

(6)

"أعلام الحديث" 1/ 166.

ص: 56

من ندر ذَلِكَ منه فليس داخلًا فيه. وقد نقل الترمذي معناه عن العلماء مطلقًا فقال: إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل

(1)

. وأجاب هؤلاء عن قصة إخوة يوسف بأن هذا لم يكن عادة لهم إنما حصل منهم مرة واستغفروا وحللهم صاحب المظلمة.

الوجه الثاني: أن المراد: المنافقون الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وسلم، الذين حدثوا بإيمانهم فكذبوا، وائتمنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في النصرة فخالفوا، وفجروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء، ورجع إليه الحسن بعد أن كان على خلافه.

وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس، ويروى عنهما مرفوعًا:"ما لكم ولهن إنما خصصت به المنافقين أما قولي: إذا حدث كذب فذلك فيما أنزل الله عليَّ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] الآية أفأنتم كذلك؟ " قلنا: لا. قَالَ: "فلا عليكم، أنتم من ذَلِكَ براء، وأما قولي: إذا وعد أخلف فذلك قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ} [التوبة: 75] الآيات الثلاث، أفانتم كذلك؟ " قلنا: لا. قَالَ: "لا عليكم أنتم براء، وأما قولي: إذا ائتمن خان، فذلك فيما أنزله الله عليَّ {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الآية، فكل إنسان مؤتمن على دينه، فالمؤمن يغتسل من الجنابة ويصلي ويصوم في السر والعلانية، والمنافق لا يفعل ذَلِكَ إلا في العلانية أفأنتم كذلك؟ " قلنا: لا. قالَ: "لا عليكم أنتم من ذَلِكَ براء"

(2)

.

قَالَ القاضي: وإلى هذا القول مال كثير من أئمتنا

(3)

.

(1)

"جامع الترمذي"، عقب حديث رقم (2632).

(2)

ذكره القرطبي في "تفسيره" 8/ 213 - 214.

(3)

"إكمال المعلم" 1/ 315.

ص: 57

الوجه الثالث: أنه وارد في منافق بعينه، وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بالصريح من القول وإنما يشير إليهم بالإشارة والعلامة.

وقال حذيفة: ذهب النفاق، وإنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه الكفر بعد الإيمان، فإن الإسلام شاع وتوالد الناس عليه، فمن نافق فهو مرتد

(1)

.

رابعها: إنه محمول على من غلبت هذِه الخصال عليه وهذا سلف، فحذر المسلم من اعتياد هذِه الخصال؛ خوفًا من إفضائها إلى النفاق.

قَالَ الخطابي: وكلمة (إذا) تقتضي تكرار الفعل

(2)

.

وسُئل مالك رحمه الله عمن جرب عليه كذب، فقال: أي نوع من الكذب؟ لعله إذا حدث عن غضادة عيش سلف زاد في وصفه وأفرط في ذكره، أو عما رآه في سفره، فهذا لا يضره، إنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه عامدًا للكذب.

قَالَ الخطابي وقد جاء في حديث: "التاجر فاجر"

(3)

و"أكثر منافقي أمتي قراؤها"

(4)

، ومعناه: التحذير من الكذب، إذ هو في معنى الفجور

(1)

رواه ابن بطة في "الإبانة"(913)، أبو نعيم في "الحلية" 1/ 280 والفريابي في "صفة المنافق" ص 138 - 140 (114 - 116)، الهروي في "ذم الكلام"(95).

عن أبي الشعثاء، عن حذيفة.

(2)

"أعلام الحديث" 1/ 168.

(3)

رواه الترمذي (1210)، وابن ماجه (2146) عن اسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه"(467).

(4)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(451)، ومن طريق أحمد 2/ 175، والبخاري في "التاريخ الكبير" 1/ 257 (822)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 363 (6959) عن عبد الرحمن بن شريح، عن شراحيل بن يزيد، عن محمد بن هدية، عن عبد الله =

ص: 58

فلا يوجب أن يكون التجار كلهم فجارًا، والقراء قد يكون من بعضهم قلة إخلاص للعمل وبعض الرياء ولا يوجب أن يكونوا كلهم منافقين

(1)

.

فرع:

يستحب الوفاء بالوعد بالهبة وغيرها استحبابًا مؤكدًا، ويكره إخلافه كراهة تنزيه لا تحريم؛ لأنه هبة لا تلزم إلا بالقبض، قَالَ الغزالي في "الإحياء": وإخلاف الوعد إنما يكون كذبًا إذا لم يكن في عزمه حين الوعد الوفاء به، أما لو كان عازمًا عليه ثم بدله فليس بكذب.

= ابن عمرو به. ورواه أحمد 2/ 175 من طريق ابن لهيعة عن درّاج، عن عبد الرحمن ابن جبير، عن عبد الله بن عمرو به.

قال الهيثمي في "المجمع" 6/ 229: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات، وكذلك رجال أحد إسنادي أحمد ثقات. اهـ.

ورواه أحمد 4/ 151، والخطيب في "تاريخه" 1/ 357 من طريق ابن لهيعة عن فشرح بن هاعان، عن عقبة بن عامر به.

ورواه الطبراني في "الكبير" 17/ 305 (841) من طريق ابن لهيعة عن أبي عشانة، عن عقبة، ورواه أحمد 4/ 155، والبيهقي في "الشعب" 5/ 363 (6960) من طريق الوليد بن المغيرة، عن مشرح، عن عقبة بن عامر به. قال الهيثمي في "المجمع" 6/ 229: رواه أحمد والطبراني، وأحد أسانيد أحمد ثقات أثبات. اهـ.

ورواه الطبراني 17/ 178 (471) من طريق الفضل بن المختار، عن عبد الله بن موهب، عن عصمة بن مالك به. قال الهيثمي في "المجمع" 6/ 230: رواه الطبراني وفيه الفضل بن المختار وهو ضعيف. اهـ.

ورواه العقيلي في "الضعفاء" 1/ 275 (338) من طريق حفص بن عمر العدني، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس به.

قال العقيلي: ولا يتابع على هذا أيضًا من حديث ابن عباس، وقد روي هذا عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صالح. اهـ.

والحديث صحيح بمجموع طرقه عند الشيخ الألباني كما في "الصحيحة"(750).

(1)

"أعلام الحديث" 1/ 165.

ص: 59

فرع:

يستحب أن يعقب الوعد وغيره من الأخبار المستقبلة بالمشيئة؛ ليخرج عن صورة الكذب.

فرع:

يستحب إخلاف الوعيد إذا كان المتوعد به جائزًا ولا يترتب على تركه مفسدة.

فائدة:

عن وهب الذماري: صفة المنافق: تحيته لعنة، وطعامه سحت، وغنيمته غلول، صخب النهار، خشب الليل

(1)

.

وعن الحسن: المنافق إذا صلى راءى بصلاته، وإذا فاتته لم يأسَ عليها، ويمنع زكاة ماله

(2)

.

(1)

رواه الفريابي في "صفة المنافق" ص 64 (62).

(2)

رواه الفريابي في "صفة المنافق" ص 66 (69)، وابن جرير في "تفسيره" 12/ 711.

ص: 60

‌25 - باب قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الإِيمَانِ

35 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأعرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". [37، 38، 1901، 2008، 2009، 2014 - مسلم: 760 - فتح: 1/ 91]

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ أَبنا شُعَيْبٌ نَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في الصيام مطولًا

(1)

وأخرجه

(2)

.

ثانيها: في التعريف برجاله:

وقد سلف ذكرهم.

ثالثها: في ألفاظه:

معنى: قوله: ("إيمانًا") أي: تصديقًا بأنه حق فصدق بفضل صيامه وقيامه.

وقوله: ("احتسابًا") أي: يريد به وجه الله تعالى بريئًا من رياء وسمعة، فقد يفعل ما يعتقد صدقه لا مخلصًا، بل رياء أو خوفًا من قاهر أو من فوات منزلة ونحو ذَلِكَ.

(1)

سيأتي برقم (1901) كتاب: الصوم، باب: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية.

(2)

كذا في الأصل، ولعلها: وأخرجه مسلم، كما في "عمدة القاري" 1/ 259.

ص: 61

رابعها: في فوائده:

الأولى: الحث على قيام رمضان، سيأتي بسطه في بابه إن شاء الله.

الثانية: الحث على الإخلاص واحتساب الأعمال.

الثالثة: وقع هنا فعل الشرط مضارعًا والجواب ماضيًا والنحاة يستضعفونه، ومنهم من منعه إلا في ضرورة الشعر وأجازوا عكسه كما في قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} [هود: 15]، ومن أجاز الأولى احتج بهذا الحديث وشبهه، ومنه: قول عائشة في الصديق: متى يقم مقامك رق

(1)

، وكذا جاء في بعض طرق الحديث.

(1)

سيأتي برقم (3384)، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)} .

ص: 62

‌26 - باب: الْجِهَادُ مِنَ الإِيمَانِ

36 -

حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنِا عُمَارَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"انْتَدَبَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبيلِهِ -لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي- أَنْ أُرْجعَهُ بمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قعَدْتُ خَلفَ سَرِيَّةٍ، وَلوَدِدْتُ أنِّي أقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ أحْيَا، ثمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ". [2787، 2797، 2972، 3123، 7226، 7227، 7457، 7463 - مسلم: 1876 - فتح: 1/ 92]

نَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ نَا عَبْدُ الوَاحِدِ نَا عُمَارَةُ نَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرو بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "انْتَدَبَ اللهُ عز وجل لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي أَو تَصْدِيقٌ بِرُسُلِي أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تخلفت خَلْفَ سَريَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أقْتَلُ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

أخرج البخاري في الجهاد عن أبي هريرة مرفوعًا: "مَثَلُ المُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ -والله أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِهِ- كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ، وَتَوَكَّلَ اللهُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِهِ بِأَنْ يَتَوَفَّاهُ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ سَالِمًا مَعَ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ"

(1)

.

(1)

سيأتي برقم (2787) كتاب: الجهاد، باب: أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله.

ص: 63

وأخرجه مسلم

(1)

في الجهاد عن زهير، عن جرير، وعن أبي بكر وأبي كريب، عن ابن فضيل عن عمارة به.

وفي لفظ مسلم: "يضمن الله" وفي بعضها: "يكفل الله".

الوجه الثاني:

ترجم البخاري لهذا الحديث بأن الأعمال من الإيمان؛ أنه لما كان الإيمان هو المُخْرج له في سبيله كان الخروج إيمانًا، تسمية للشيء باسم سببه كما قيل للمطر: سماء لنزوله منها وللنبات: نوء، لأنه ينشأ عنه.

الوجه الثالث: في التعريف برواته:

أما أبو هريرة فسلف، وأما أبو زرعة فاختلف في اسمه على أقوال أشهرها: هرم، وقيل.: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عمرو بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، سمع خلقًا من الصحابة منهم جده، وعنه جمع من التابعين بالاتفاق

(2)

.

وأما عُمارة فهو -بضم العين- ابن القعقاع -بقافين- بن شبرمة ابن أخي عبد الله بن شبرمة الكوفي الضبي ثقة، عنه الأعمش وغيره، وروى عن جماعة

(3)

.

وأما عبد الواحد فهو: أبو بسر، ويقال: أبو عبيدة، عبد الواحد بن زياد العبدي مولاهم البصري؛ سمع جماعات من التابعين وغيرهم، وعنه: أبو داود الطيالسي وغيره، وثقوه، مات سنة سبع وقيل: ست

(1)

مسلم (1876) كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله.

(2)

انظر ترجمته في: "تهذيب الكمال" 33/ 323 - 326 (7370)، "الكاشف" 2/ 427 (6628)، "التقريب"(8103).

(3)

انظر نرجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 351، "التاريخ الكبير" 6/ 501 (3114)، "تهذيب الكمال" 21/ 262 (4196)، "سير أعلام النبلاء" 6/ 140.

ص: 64

وسبعين ومائة

(1)

.

وأما حرمي فهو: أبو علي، حرمي -بفتح الحاء والراء- بن حفص ابن عمر العتكي، القسملي، البصري.

روى عن: حماد بن سلمة وغيره، وعنه: المقدمي وغيره، وانفرد به البخاري عن مسلم، وروى أبو داود والنسائي عن رجل عنه، وأطلق النووي في "شرحه" أنهما رويا عنه كما أطلقنا أيضًا قريبًا، مات سنة ثلاث وقيل: ست وعشرين ومائتين

(2)

.

فائدة:

القَسْمَلي -بفتح القاف والميم وسكون السين منها- نسبة إلى القساملة قبيلة من الأزد نزلت البصرة فنسبت المحلة إليهم أيضًا، وهذا منسوب إلى القبيلة كذا قَالَ السمعاني: إنها نسبة إلى القساملة؛ واعترض ابن الأثير في "مختصره"

(3)

فقال: ليس كذلك؛ فإنها القبيلة وإنما النسبة إلى الجد وهو: قسملة واسمه معاوية بن عمرو بن مالك بن فهر بن غنم بن دوس بن عدنان، ووقع في القطعة التي على هذا الكتاب للنووي أن القسملي -بكسر القاف والميم- وكأنه سبق قلم، وصوابه: فتحهما.

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 289، "التاريخ الكبير" 6/ 59، الترجمة:(1706)، "الجرح والتعديل" 6/ 20، الترجمة:(108)، "الثقات" 7/ 123، "تهذيب الكمال" 18/ 450 - 455 (3585).

(2)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 289، "التاريخ الكبير" 6/ 59، الترجمة:(1706)، و"الجرح والتعديل" 6/ 20 الترجمة:(108)، و"الثقات" 7/ 123، و"تهذيب الكمال" 18/ 450 - 455 (3585).

(3)

انظر "اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 37.

ص: 65

الوجه الرابع: في ألفاظه ومعانيه:

وقد أوضحته في "شرح العمدة"

(1)

أكمل إيضاح، ونذكر هنا نبذة منه:

الأولى: معنى: ("انْتَدَبَ اللهُ"): ضمن وتكفل كما جاء في رواية أخرى وقيل: أجاب رغبته يقال: ندبه لأمر فانتدب. أي: دعاه فأجاب، وقال ابن بطال: أوجب وتفضل أي: حقق وأحكم أن ينجز له ذَلِكَ لمن أخلص

(2)

، وقيل: معناه: سارع بثوابه وحسن جزائه. حكاه القاضي

(3)

.

وما ذكرنا أن انتدب -بالنون- هو المشهور في رواية بلادنا، وحكاه القاضي عن رواية أبي داود، وحكي عن القابسي ائتدب بهمزة صورتها باء من المأدبة

(4)

؛ يقال: دبه القوم -مخففًا- إذا دعاهم ومنه: "القرآن مأدبة الله في أرضه"

(5)

ومعناه: أجاب الله من دعاه إلى غفرانه وكل ذَلِكَ عبارة عن تحقيق هذا الموعود من الله تعالى على وجه التفضل والامتنان.

(1)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 10/ 290.

(2)

"شرح ابن بطال" 1/ 95.

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 294، "مشارق الأنوار" 2/ 7.

(4)

وعزا ابن حجر هذِه الرواية إلى الأصيلي ثم قال: وهو تصحيف، وقد وَجَّهوه بتكلف، لكن إطباق الرواة على خلافه مع اتحاد المخرج كاف في تخطئته ا. هـ "الفتح" 1/ 93.

(5)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 375 (6017)، وابن أبي شيبة في "المصنف" 6/ 126 (29999)، والدارمي 4/ 2083، 2084 (3350)، والحاكم 1/ 555، والبيهقي في "الشعب" 2/ 324، 325 (1933) من حديث عبد الله بن مسعود.

قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: صالح ثقة خرج له مسلم. لكن إبراهيم بن مسلم ضعيف. وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب"(867).

ص: 66

وهذا الضمان لعله المشار إليه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 111] الآية، قَالَ بعض الصحابة: ما أبالي قُتلْتُ في سبيل الله أو قَتَلْتُ، ثم تلى هذِه الآية.

الثانية: قوله: ("لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي") وهو بالرفع فيهما؛ لأنه فاعل يخرجه والاستثناء مفرغ، وهو في مسلم بالنصب في جميع نسخه ووجهه على أنه مفعول له، التقدير: لا يخرجه المخرج ويحركه المحرك إلا الإيمان والتصديق، ومعناه: لا يخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى.

الثالثة: معنى قوله: ("إِيمَانٌ بِي") أي: إيمان بوعدي لمجازاتي له بالجنة على جهاده وتصديق رسولي في ذَلِكَ.

الرابع: عدوله عن ضمير الغيبة في قوله: إيمان به وتصديق برسوله إلى الحضور يحتاج إلى تقدير كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] أي: يقال لهم: أكفرتم؟ ونظائره.

الخامس: ("أرجعه") -بفتح الهمزة- أي أرده ثلاثي، وهذيل تقول: أرجع رباعيًا، والنيل: العطاء.

السادس: (أو) في قوله "أو غنيمة" للتقسيم بالنسبة إلى الغنيمة وعدمها، فيكون المعنى: أنه يرجع مع نيل الأجر إن لم يغنموا ومعه إن غنموا، ويحتمل أن يكون (أو) هنا بمعنى الواو مع أجر وغنيمة، وكذا وقع بالواو في مسلم

(1)

في رواية يحيى بن يحيى، و"سنن أبي

(1)

مسلم (1876/ 104) كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله وفيه: (أو)، وليس (و) كما نقل المصنف.

ص: 67

داود"

(1)

.

وقد قيل في قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] معناه: ودين، وقيل: من وصية ودين أو دين دون وصية.

السابع: قوله: ("أَوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ") يحتمل دخولها إثر موته كما قَالَ في الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم:"أرواح الشهداء في الجنة"

(2)

.

ويحتمل أن يكون المراد: دخوله عند دخول السابقين والمقربين لها دون حساب ولا عقاب ولا مؤاخذة بذنب، وأن الشهادة كفارة لذنوبه، كما ثبت في الحديث الصحيح:"القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين"

(3)

.

الثامن: قوله: ("وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تخلفت خَلْفَ سَرِيَّةٍ").

سبب المشقة صعوبة تخلفهم بعده، ولا يقدرون على المسير معه لضيق حالهم ولا قدرة له على حملهم كما جاء مبينًا في حديث آخر.

الوجه الخامس: في فوائده:

الأولى: فضل الجهاد وفضل القتل في سبيل الله تعالى.

الثانية: الحث على حسن النية.

(1)

أبو داود (2494). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 6/ 6: أخرجه أبو داود بسند صحيح. وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(2253).

(2)

رواه مسلم (1887) كتاب الإمارة، باب: بيان أن أرواح الشهداء في الجنة. بلفظ: "أرواحهم في جوف طيرٍ خضرٍ لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت .. ".

(3)

رواه مسلم (1886/ 120) كتاب: الإمارة، باب: من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين.

ص: 68

الثالثة: بيان]

(1)

شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم.

الرابعة: استحباب طلب القتل في سبيل الله.

الخامسة: جواز قول الإنسان: وددت كذا من الخير الذي يعلم أنه لا يحصل، وهو أحد التأويلات في قوله:"نيَّةُ المؤمنِ خيرٌ مِنْ عملِه"

(2)

.

السادسة: البداءة بأهم المصلحتين عند التعارض وترك بعض المصالح لمصلحة أرجح منها أو لخوف مفسدة تزيد عليها.

السابعة: تمني الشهادة وتعظيم أجرها.

الثامنة: عدم نقصان الأجر بالغنيمة؛ فإنها بفضل الله، والأجر على القتال، وأهل بدر أفضل المجاهدين ولم ينقصهم أخذهم الغنيمة.

فإن قُلْتَ: فما نعمل في الحديث الآخر الثابت في الصحيح: "ما من غازية أو سرية تغزو وتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجرهم، وما من غازية أو سرية تخفق أو تصاب إلا تم أجورهم"

(3)

والإخفاق أن تغزو فلا تغنم شيئًا.

قلتُ: عنه أجوبة:

أحدها: الطعن في هذا فإن في إسناده حميد بن هانئ

(4)

وليس

(1)

نهاية السقط من (ج) وقد أشرنا عند بدايته.

(2)

سبق تخريجه في حديث رقم (1).

(3)

رواه مسلم (1906) كتاب: الإمارة، باب: بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم.

(4)

هو حميد بن هانئ، أبو هانئ الخولاني المصري، قال أبو حاتم: صالح، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات". انظر ترجمته في:"التاريخ الكبير" 2/ 353 (2720)، "الجرح والتعديل" 3/ 321 (1012)، "الثقات" 4/ 149، "تهذيب الكمال" 7/ 401 (1541)، قال ابن حجر في "التقريب" ص 182 (1562): لا بأس به.

ص: 69

بالمشهور لكن أخرج له مسلم في "صحيحه"وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجه، وذكره ابن يونس في "تاريخه"، وقال يحيى بن سعيد: حدَّث عنه الأئمة وأحاديثه كثيرة مستقيمة

(1)

.

ثانيها: إن التي تخفق تزداد من الأجر بالأسف على ما فاتها من المغنم وتضاعف لها كما تضاعف لمن أصيب بأهله وماله.

ثالثها: حمل الأول على من أخلص النية لقوله: "لا يخرجه إلا إيمان بي"، وحمل الثاني على من خرج نيته الجهاد والمغنم.

قَالَ القاضي: والأوجه استعمال كل حديث على وجهه، فأجر من لم يغنم أعظم من أجر من غنم

(2)

.

وقال النووي: الصواب أنه لا تعارض بينهما فإن الذي لا يجوز غيره في معنى الحديث أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم.

وإن الغنيمة في مقابلة جزء من أجر غزوهم فإذا حصلت فقد تعجلوا ثلثي أجرهم، وهذا موافق للأحاديث الصحيحة عن الصحابة، ومنها قولهم: فمنَّا من مات لم يأكل من أجره شيئًا، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدِبُها

(3)

أي: يجتنيها

(4)

فهذا هو الصواب.

(1)

قال النووي في "شرحه على مسلم" 13/ 52: وأما قولهم أبو هانئ مجهول، فغلط فاحش، بل هو ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد، وحيوة، وابن وهب، وخلائق من الأئمة، ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه. اهـ.

(2)

"إكمال المعلم" 6/ 294.

(3)

سيأتي الحديث مفصلا برقم (1276) كتاب: الجنائز، باب: إذا لم يجد كفنًا.

(4)

انظر: "النهاية" لابن الأثير 5/ 249.

ص: 70

ولم يأتِ حديثٌ صريحٌ يخالف هذا، وقد اختار القاضي معنى هذا بعد حكايته أقوالًا فاسدة فلا تعارض إذًا؛ لأن الحديث الأول لم يقل فيه: إن الغنيمة تنقص الأجر فهو مطلق، والثاني مقيد.

وأما الاستدلال بغزوة بدر فليس فيه أنهم لو لم يَغْنموا لكان أجرُهم على قدر أجرهم مع الغنيمة، وكونهم مغفورًا لهم مرضيًّا عنهم لا يلزم منه أن لا يكون فوقه مرتبة أخرى هي أفضل

(1)

. ثم ضعف بقية الأقوال التي حكاها القاضي؛ لمعارضتها لصريح الحديث.

(1)

"مسلم بشرح النووي" 13/ 52.

ص: 71

‌27 - باب تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنَ الإِيمَانِ

37 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ حُمَيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". [انظر: 35 - مسلم 759 و 760 - فتح 1/ 92]

نَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولً اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في التعريف (برواته)

(1)

وقد سلف خلا حميد بن عبد الرحمن بن عوف وهو: (أبو)

(2)

إبراهيم، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عثمان القرشي الزهري المدني، أخو أبي سلمة بن عبد الرحمن، وأمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، أخت عثمان بن عفان لأمه وكانت من المهاجرات.

أخرج له البخاري هنا، وفي العلم، وغير موضع، عن الزهري وسعد بن إبراهيم وابن أبي مليكة عنه، عن أبي هريرة وأبي سعيد وميمونة

(3)

، وأخرج له (أيضًا)

(4)

عن عثمان وسعيد بن زيد

(5)

وغيرهما.

(1)

في (ج): برجاله.

(2)

من (ج).

(3)

لم أقف على ما يدل على أنّ حميد بن عبد الرحمن بن عوف روى عن ميمونة، ولم يذكر ذلك أيضًا ابن طاهر المقدسي في "الجمع بين رجال الصحيحين" كما في 1/ 88 - 89، ولا المزيّ في "تهذيبه" كما في 7/ 379 - 380، فلعله وهم من المصنف، والله أعلم بالصواب.

(4)

في (ف): هنا، والمثبت من (ج)، وهو الصواب.

(5)

ظاهر كلام المصنف يوهم أنَّ البخاري قد أخرج في "صحيحه" لحميد بن =

ص: 72

سمع جمعًا من كبار الصحابة منهم أبواه وابن عباس وأبو هريرة، وعنه الزهري وخلائق من التابعين.

وثقه أبو زرعة وغيره، وكان كثير الحديث. مات سنة خمس وتسعين بالمدينة عن ثلاث وسبعين سنة، وقيل: سنة خمس ومائة وهو غلط

(1)

.

فائدة:

روى مالك عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن أن عمر وعثمان كانا يصليان المغرب في رمضان ثم يفطران

(2)

، ورواه يزيد بن هارون، عن أبى ذئب، عن الزهري، عن حميد قَالَ: رأيت عمر وعثمان فذكره

(3)

.

قَالَ الواقدي: أثبتها حديث مالك وأن حميدًا لم يسمع من عمر ولا رآه وسنهُ وموته يدلان على ذَلِكَ، ولعله سمع من عثمان؛ لأنه كان خاله لأمه؛ لأن أم كلثوم أخت عثمان، وكان يدخل على عثمان كما يدخل ولده

(4)

.

= عبد الرحمن بن عوف، عن عثمان بن عفان، وسعيد بن زيد، وليس الأمر كذلك، فإنه لم يخرج له عنهما في "صحيحه"، ومما يدل على ذلك أن ابن طاهر المقدسي لم يذكر في كتابه "الجمع بين رجال الصحيحين" 1/ 88 - 89 أنه روى عنهما، وكذلك فعل المزيّ في "تهذيبه" 7/ 379، بل ذكر أن الذي أخرج له عن سعيد بن زيد هو الترمذي، والنسائي، والذي أخرج له عن عثمان هو النسائي فقط، والله أعلم بالصواب.

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات" 5/ 153، "تاريخ البخاري الكبير" 2/ 345 (2696)، "الجرح والتعديل" 3/ 225 (989)، "الثقات" 4/ 146، "تهذيب الكمال" 7/ 378 - 381 (1532).

(2)

رواه مالك في "الموطأ" ص 193 رواية يحيى.

(3)

رواه ابن سعد في "طبقاته" 5/ 154 وأورده المزي في "تهذيب الكمال" 7/ 380.

(4)

انظر ترجمته في: "الطبقات" 5/ 154، "تهذيب الكمال" 7/ 381.

ص: 73

فائدة ثانية:

أخرج البخاري أيضًا ومسلم لحميد بن عبد الرحمن الحميري

(1)

البصري، التابعي، الفقيه، ولا يلتبس بهذا، وإن روى هذا عن ابن عباس وأبي هريرة أيضًا وغيرهما فاعلمه.

وما جزمت به من كون البخاري أخرج لهذا هو ما جزم به الكلاباذي في كتابه، والمزي في "تهذيبه"

(2)

، ونقل شيخنا قطب الدين في "شرحه" عن الحاكم، والحميدي صاحب "الجمع"، وعبد الغني، وغيرهم أنهم قالوا: لم يخرج له شيئًا ولم يخرج مسلم في "صحيحه" عنه عن أبي هريرة غير حديث: "أفضل الصيام بعد رمضان"

(3)

الحديث فقط وما عداه فهو من رواية ابن عوف.

قَالَ: وقد غَلَّطوا الكلاباذي في دعواه إخراج البخاري له ووهَّموه وقال: ومما يدل على ذَلِكَ أنه لم يعين أين روى عنه كعادته في غيره، بل قَالَ روى عنه محمد بن سيرين وأهل البصرة لم يزد على ذَلِكَ، ولم يذكره أبو مسعود الدمشقي من رواية البخاري.

ولما ذكر النووي في "شرحه لمسلم" حديثه عن أبي هريرة قَالَ:

اعلم أن أبا هريرة يروي عنه اثنان كل منهما حميد بن عبد الرحمن أحدهما هذا الحميري، والثاني الزهري

(4)

.

(1)

انظر: "الطبقات الكبرى" 7/ 147، "التاريخ الكبير" 2/ 346 (2697)، "الجرح والتعديل" 3/ 225 (990)، "الثقات" 4/ 147، "تهذيب الكمال" 7/ 381 - 383 (1533).

(2)

"تهذيب الكمال" 7/ 382 - 383.

(3)

مسلم (1163) كتاب: الصيام، باب: فضل صوم المحرم.

(4)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 1/ 143.

ص: 74

قَالَ الحميدي في "جمعه": كل ما في البخاري ومسلم حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة فهو الزهري إلا في هذا الحديث خاصة، فإن راويه عن أبي هريرة الحميري وهذا الحديث لم يذكره البخاري في "صحيحه" قَالَ: ولا ذكر للحميري في البخاري أصلًا ولا في مسلم إلا هذا الحديث

(1)

، هذا كلامه. ودعواه أن البخاري لم يذكره في "صحيحه" قد علمت ما فيه، وقوله: ولا في مسلم إلا هذا الحديث ليس بجيد فقد ذكره مسلم في ثلاثة أحاديث:

أحدها: أول الكتاب حديث ابن عمر في القدر، عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري قالا: لقينا ابن عمر .. وذكر الحديث

(2)

.

ثانيها: في الوصايا عن (عمرو)

(3)

بن سعيد عن حميد الحميري عن ثلاثة من ولد سعد أن سعدًا .. فذكر

(4)

.

ثالثها: فيها

(5)

عن محمد بن سيرين عنه عن ثلاثة من ولد سعد بن

هشام عن عائشة قالت: كان ستر فيه تمثال طير .. فذكر الحديث

(6)

.

ثانيها: هذا الإسناد كلهم مدنيون.

(1)

"الجمع بين رجال الصحيحين" للحميدي 3/ 322 (2773).

(2)

مسلم (8/ 2) كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام ..

(3)

في (ج): عمر، والمثبت هو الصوَاب كما في مسلم.

(4)

مسلم (1628/ 9) كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث.

(5)

أي كتاب الوصايا.

(6)

كذا بالأصل، والعبارة فيها خلط شديد، سندًا ومتنًا، فقد أخرج مسلم (1628/ 9) كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، عن محمد بن سيرين، عن حميد بن عبد الرحمن، عن ثلاثة من ولد سعد بن مالك كلهم يحدثنيه بمثل حديث صاحبه فقال: مرض سعد بمكة، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده .. =

ص: 75

ثالثها: في فوائده:

الأولى: المُراد بالقيام في الحديث صلاة التراويح كذا قاله أصحابنا وغيرهم من العلماء، والتحقيق كما نبه عليه النووي

(1)

أن يُقال: التراويح محصلة لفضيلة قيام رمضان، ولكن لا تنحصر الفضيلة فيها ولا المراد بها، بل في أي وقت من الليل صلى تطوعًا حصل هذا الغرض، ومحل الخوض في التراويح في وقتها وعددها في بابه، وستمر بك إن شاء الله تعالى واضحة.

الثانية: سبق بيان معنى الإيمان والاحتساب قريبًا في باب: قيام ليلة القدر.

الثالثة: دل هذا الحديث على غفران ما تقدم من الذنوب بقيام رمضان، ودل الحديث الماضي على غفرانها بقيام ليلة القدر ولا تعارض بينهما، فإن كل واحد منهما صالح للتكفير، وقد يقتصر الشخص على قيام ليلة القدر بتوفيق الله له فيحصل له ذَلِكَ.

= وأخرج مسلم أيضًا (2107) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان .. عن عزرة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت: كنا لنا سِتْر فيه تمثال طائر .. الحديث، فدمج الإسنادين معًا، وأتى بحديث عائشة في كتاب الوصية، فلعل هذا الوهم من الناسخ، والله أعلم.

وقد ورد بهامش الأصل في هذا الموضع أيضًا تعليق نصه: ورابع: ذكره قبيل الحدود من حديث قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، وعن رجل آخر في نفسي أفضل من عبد الرحمن -عن أبي بكرة، ثم ساقه من حديث قرة به، قال: وسمى الرجل حميد بن عبد الرحمن عن أبي بكرة: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أي يوم هذا .. الحديث.

قلت: وهو في مسلم برقم (1679/ 31).

(1)

"مسلم بشرح النووي" 6/ 39.

ص: 76

الرابعة: فيه حجة لمن جوز قول رمضان بغير إضافة شهر إليه، وهو الصواب، وستعرف الخلاف فيه في بابه.

الخامسة: ظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر، وفضل الله واسع، لكن المشهور من مذاهب العلماء في هذا الحديث وشبهه كحديث غفران الخطايا بالوضوء

(1)

، وبصوم عرفة ويوم عاشوراء

(2)

ونحوه، أن المراد غفران الصغائر فقط، كما في حديث الوضوء "مما لم يؤت كبيرة"

(3)

، "ما اجتنبت الكبائر"

(4)

، وفي التخصيص نظر، كما قاله النووي

(5)

. لكن قام الإجماع على أن الكبائر لا تسقط إلا بالتوبة أو بالحد.

فإن قُلْتَ: قد ثبت في "الصحيح" هذا الحديث في: قيام رمضان والآخر: في صيامه

(6)

والآخر: (في)

(7)

قيام ليلة القدر

(8)

والآخر: في صوم عرفة أنه كفارة سنتين

(9)

، وفي عاشوراء أنه كفارة سنة،

(1)

رواه مسلم (251) كتاب: الطهارة، باب: فضل إسباغ الوضوء.

(2)

رواه مسلم (1162) كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام وصوم يوم عرفة وعاشوراء، من حديث أبي قتادة.

(3)

رواه مسلم (228/ 7) كتاب: الطهارة باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه.

(4)

رواه مسلم (233/ 16) كتاب: الطهارة، باب: الصلوات الخمس والجمعة ..

(5)

"مسلم بشرح النووي" 6/ 40.

(6)

سيأتي برقم (38) كتاب: الإيمان، باب: صوم رمضان، ورواه مسلم (759) كتاب: صلاة المسافرين، باب: الترغيب في الدعاء والذكر.

(7)

من (ج).

(8)

سبق برقم (35) كتاب: الإيمان باب: قيام ليلة القدر من الإيمان، ورواه مسلم (759) في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في الدعاء والذكر.

(9)

رواه مسلم (1162) كتاب: الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة.

ص: 77

والآخر: "رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما"

(1)

، والآخر:"إذا توضأ خرجت خطايا فيه" إلى آخره

(2)

، والآخر:"مثل الصلوات الخمس كمثل نهر" إلى آخره

(3)

، والآخر:"مَنْ وافَقَ تأمينه تأمين الملائكةِ كفر له ما تَقدم مِنْ ذنبِهِ"

(4)

، وفي أحاديث أخر نحو هذا. فكيف الجمع بينهما؟

فالجواب: أن المراد أن كل واحد من هذِه الخصال صالحة لتكفيرِ الصغائر، فإن صادفتها غفرتها، وإن لم تصادفها فإن كان فاعلها سليمًا من الصغائر لكونه صغيرًا غير مكلف، أو موفقًا لم يعمل صغيرة، أو فعلها وتاب، أو فعلها وعقّبها بحسنة أذهبتها، كما قَالَ تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فهذا يكتب له بها حسنات، ولرفع له بها درجات.

قَالَ بعض العلماء: ويرجى أن يخفف عنه بعض الكبيرة أو الكبائر.

(1)

قوله في العمرة سيأتي برقم (1773) من حديث أبي هريرة، وأما قوله في رمضان والجمعة فرواه مسلم (233) من حديث أبي هريرة أيضًا.

(2)

رواه مسلم (832) كتاب: الصلاة، باب: إسلام عمرو بن عبسة.

(3)

رواه مسلم (668) كتاب: المساجد، باب: المشي إلى الصلاة.

(4)

سيأتي برقم (780) كتاب: الأذان، باب: جهر الإمام بالتأمين.

ص: 78

‌28 - باب صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الإِيمَانِ

38 -

حَدَّثَنَا ابن سَلَامٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". [انظر: 35 - مسلم: 759 و 760 - فتح: 1/ 92].

نَا ابن سَلَامٍ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، ثنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "منْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

هذا الحديث سلف الكلام عليه، وسلف أيضًا رجاله خلا محمد بن فضيل، وهو أبو عبد الرحمن محمد بن فضيل بن غزوان بن جرير الضبي، مولاهم الكوفي، سمع السبيعي والأعمش وغيرهما من التابعين، وخلقًا من غيرهم، وعنه: الثوري وأحمد وخلق من الأعيان، قَالَ أبو زرعة: صدوق من أهل العلم. مات سنة تسع وخمسين ومائة

(1)

. ومحمد بن سلام هو البيكندي كما أسلفناه وأن الجمهور على تخفيف لامه

(2)

.

(1)

كذا في (ف) و (ج) وهو خطأ، مات سنة تسع وخمسين، والصحيح أنه مات سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة، وانظر ترجمته في:"الطبقات" لابن سعد 6/ 389، "التاريخ الكبير" 1/ 207 (652)، "الجرح والتعديل" 8/ 58 (263)، "تهذيب الكمال" 26/ 293 (5548)، "سير أعلام النبلاء" 9/ 173 (52).

(2)

سبقت ترجمته في حديث (20)، وورد في (ف): آخر الجزء السادس من تجزئه المصنف وبالله التوفيق.

ص: 79

‌29 - باب: الدِّينُ يُسْرٌ

وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ".

31 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَليٍّ، عَنِ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدِ الغِفَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الَمقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ الدَّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ". [5673، 6463، 7235 - مسلم: 2816 - فتح: 1/ 93]

ثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ نَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الغِفَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيء مِنَ الدُّلْجَةِ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

التعليق الأول أسنده أحمد من حديث ابن عباس بإسناد لا بأس به

(1)

، وكذا ابن أبي شيبة في "مسنده"

(2)

وأسنده الطبراني بنحوه بإسناد ضعيف من حديث عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة

(3)

، ومن حديث عفير بن معدان، عن

(1)

أحمد 1/ 236، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 60: فيه ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالسماع، وقال الحافظ في "الفتح" 1/ 94: إسناده حسن.

وقال الألباني: حسن لغيره. انظر: "الصحيحة"(881).

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "مسنده" كما في "إتحاف الخيرة المهرة" 1/ 115.

(3)

"المعجم الكبير" 8/ 222 - 223 (7883).

ص: 80

سليم بن عامر عنه

(1)

.

ثانيها:

أخرج البخاري طرفًا من الحديث الثاني في الرقاق عن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رفعه:"لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ". قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللهُ بِرَحْمَته، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالْقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا".

(2)

وله في حديث آخر: "وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"

(3)

.

ثالثها: في التعريف برواة الحديث:

أما أبو هريرة فسلف.

وأما سعيد فهو أبو سعد -بإسكان العين- سعيد بن أبي سعيد، واسمه كيسان المقبري المدني، والمقبري يقال: بضم الباء وفتحها نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاورًا لها، وقيل: كان منزله عند المقابر وهو بمعنى الأول، وقيل: جعله عمر على حفر القبور؛ فلذلك قيل له: المقبري، حكاه الحربي وغيره، ويحتمل أنه اجتمع فيه ذَلِكَ كله فكان على حفرها و (كان)

(4)

نازلًا عندها، والمقبري صفة لأبي سعيد، وكان مكاتبًا لامرأة من بني ليث بن بكر.

سمع جمعًا من الصحابة منهم. أبو هريرة وابن عمر وخلقًا من التابعين منهم أبوه، وعنه يحيى الأنصاري، وغيره من التابعين،

(1)

"المعجم الكبير" 8/ 170 (7715).

(2)

سيأتي برقم (6463) باب: القصد والمداومة على العمل.

(3)

سيأتي برقم (6464) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

من (ج).

ص: 81

ومالك، وغيره من الأعلام. قَالَ أبو زرعة: ئقة. وقال أحمد: لا بأس به.

وقال (محمد)

(1)

بن سعد: كان ثقة كثير الحديث، ولكنه كبر وبقي حتى اختلط قبل موته، وقدم الشام مرابطًا وحدث ببيروت. وقال غيره: اختلط قبل موته بأربع سنين.

قُلْتُ: فلعل معن بن محمد سمع من سعيد قبل اختلاطه؛ فلذا أخرج البخاري عنه. مات سنة خمس وعشرين ومائة، وقيل: سنة ست وعشرين

(2)

.

وأما معن فهو ابن محمد بن معن بن نضلة الغفاري الحجازي، سمع جمعًا، وعنه جمع منهم: ابن جريج، أخرج له البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه، وذكره ابن حبان في "ثقاته"

(3)

.

وأما عمر فهو أبو حفص عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المُقَدَّمِي البصري، سمع جمعًا من التابعين منهم: هشام بن عروة، وعنه خلق من الأعلام منهم: ابنه عاصم، وعمرو بن علي، وهو أخو أبي بكر وكان مدلسًا.

قَالَ أحمد: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة يدلس تدليسًا شديدًا يقول: سمعت وحدثنا، ثم يسكت ثم يقول: هشام بن عروة، الأعمش. وقال عفان: كان رجلًا صالحًا، ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس، ولم

(1)

في (ف) و (ج): أحمد. والصواب ما أثبتناه.

(2)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" القسم المتمم (53)، "التاريخ الكبير" 3/ 474 (1585)، "الجرح والتعديل" 4/ 57 (251)، "تهذيب الكمال" 10/ 466 (2284)، "سير أعلام النبلاء" 5/ 216 (88).

(3)

انظر: "التاريخ الكبير" 7/ 390 (1699)، "الجرح والتعديل" 8/ 277 (1268)، "الثقات" لابن حبان 7/ 490، "تهذيب الكمال" 28/ 341 (6118).

ص: 82

أكن أقبل منه حتى يقول: ثنا

(1)

.

قَالَ البخاري: قَالَ ابنه عاصم: مات سنة تسعين ومائة. وقيل: سنة اثنتين وتسعين

(2)

.

قُلْت فلعل البخاري ثبت عنده سماع (عمر)

(3)

(من)

(4)

معن وإن أتى فيه بالعنعنة.

وأما عبد السلام (خ. د) فهو أبو ظَفَر -بفتح الظاء المعجمة والفاء- ابن مُطَهَّر بن حسام بن مِصَكّ بن ظالم بن شَيْطان الأزدي البصري، روى عن جمع من الأعلام منهم شعبة، وعنه الأعلام: البخاري وأبو داود.

قَالَ أبو حاتم: صدوق. مات في رجب سنة أربع وعشرين ومائتين

(5)

.

فائدة: هذا الإسناد ما بين مدني وبصري.

رابعها: في ألفاظه:

قوله: ("الدِّينُ يُسْرٌ") أي: ذو يسر. كما قَالَ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157]، واليسر -بإسكان السين وضمها: نقيض العسر، ومعناه: التخفيف.

(1)

"الطبقات الكبرى" 7/ 291.

قال الحافظ في "تعريف أهل التقديس" ص 130 - 131 (123).

وصفه بذلك أحمد وابن معين والدارقطني وغير واحد، ثم ساق كلام ابن سعد ثم قال: وهذا ينبغي أن يسمى تدليس القطع. اهـ.

(2)

انظر: "التاريخ الكبير" 6/ 180 (2098)، "الجرح والتعديل" 6/ 124 (678)، "تهذيب الكمال" 21/ 470 (4290).

(3)

من (ج).

(4)

في (ج): عن.

(5)

انظر: "الطبقات" لابن سعد 7/ 308، "التاريخ الكبير" 6/ 67 (1732)، "الجرح والتعديل" 6/ 48 (255)، "تهذيب الكمال" 18/ 91 (3426).

ص: 83

وقوله: ("وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ إِلَّا غَلَبَهُ") هكذا وقع للجمهور من غير لفظة "أحد"، وأثبتها ابن السكن وهو ظاهر، والدين على هذا منصوب، وأما على الأولى فروي بنصبه، وهو ضبط أكثر أهل الشام على إضمار الفاعل في "يشاد" للعلم به، ورفعه وهو رواية الأكثر كما حكاه صاحب "المطالع"، وهو مبني لِمَا لَمْ يسم فاعله.

قَالَ أهل اللغة: المشادة: المغالبة

(1)

، يقال: شاده يشاده مشادة إذا غالبه وقاواه (ومعنا 5)

(2)

: لا يتعمق أحد في الدين ويترك الرفق إلا غلبه الدين، وعجز ذَلِكَ المتعلم وانقطع عن عمله كله أو بعضه.

ومعنى "سَدِّدُوا": اقصدوا السداد في الأمور، وهو: الصواب، "وَقَارِبُوا" في العبادة، "وَأَبْشِرُوا": أي بالثواب على العمل وإن قَلَّ، والغدوة: السير أول النهار.

قَالَ في "المحكم": الغدوة البكرة، وكذا الغداة

(3)

.

قَالَ الجوهري: (الغدوة)

(4)

ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، يُقال: أتيته غدوة غير مصروفة؛ لأنها معرفة مثل سَحَر إلا أنها من الظروف المتمكنة، تقول: سِيْرَ على فرسك غُدوةَ وغُدوةً وغُدوةُ وغدوةٌ فما نُوِّنَ من هذا فهو نكرة، وما لم ينون فهو معرفة، والجمع: غُدًا. والغدو: نقيض الرواح

(5)

.

وفي شرح شيخنا قطب الدين أن الغدو: السير أول النهار إلى الزوال.

(1)

انظر: "العين" 232/ 3 مادة: (شدد).

(2)

من (ج).

(3)

"المحكم" 6/ 29.

(4)

من (ف).

(5)

"الصحاح" 6/ 2444 مادة: (غدو).

ص: 84

والروحة: آخر النهار؛ وذكر ابن سيده: أنه العشي

(1)

. وقيل: من لدن زوال الشمس إلى الليل، ورحنا رواحًا وتروحنا: سرنا ذَلِكَ الوقت أو عملنا.

"والدُّلْجَة" -بضم الدال وإسكان اللام- هكذا الرواية، ويجوز في اللغة فتحها، ويقال: بفتح اللام أيضًا، وهي بالضم: سير آخر الليل، (وبالفتح سير الليل)، وأدلج بالتخفيف: سير الليل كله، وبالتشديد: سير آخر الليل، هذا هو الأكثر، وقيل: يقال (فيهما بالتخفيف والتشديد.

قَالَ ابن سيده: الدُّلجة: سير السحر، والدَّلْجة: سير الليل كله، والدَّلَج والدَّلْجة والدَّلَجة -الأخيرة عن ثعلب- الساعة)

(2)

من آخر الليل. وأدلجوا: ساروا الليل كله، وقيل: الدلج: الليل كله من أوله إلى آخره، وأي ساعة سرت من الليل من أوله إلى آخره فقد أدلجت على مثال أخرجت.

والتفرقة بين أدلجت وادَلَجت قول جميع أهل اللغة إلا الفارسي

(3)

، فقد حكى أدْلَجْت وادَّلَجْت لغتان في المعنيين جميعًا

(4)

.

(1)

"المحكم" 3/ 393 مادة: (روح).

(2)

ما بين قوسين من (ف).

(3)

هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي، ولد بمدينة فسا واشتغل ببغداد، وكان إمام وقته في علم النحو ومن تصانيفه:"التذكرة" و"المقصور والممدود" توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. ترجم له ابن خلكان في "وفيات الأعيان" 2/ 80، وابن النديم في "الفهرست" ص 64 والخطيب في "تاريخ بغداد" 7/ 275 وياقوت في "معجم الأدباء" 7/ 232.

(4)

"المحكم" 7/ 233 - 234.

ص: 85

وفي "جامع القزاز"

(1)

: الدُّلجة والدَّلجة لغتان بمعنى وهما: سير السحر.

وقال قوم: الدُّلجة: سير السحر، والدَّلجَة بالفتح سير

(2)

[أول الليل، كلاهما بمعنى عند أكثر العرب، كما تقول: مضت بُرهة من الدهر وبَرهة، وغلَّط ابن درستويه ثعلبًا

(3)

في تخصيص ادَّلج بالتشديد بسير أول الليل، وبالتخفيف بسير آخره، قَالَ: وإنما هما عندنا جميعًا: سير الليل في كل وقت، من أوله ووسطه وآخره

(4)

.

خامسها: في معنى الحديث:

ومعناه كالأبواب قبله، أن الدين اسم يقع على الأعمال، والدين والإيمان والإسلام بمعنى، والمراد بالحديث: الحث على ملازمة

(1)

القزاز القيرواني: محمد بن جعفر بن أحمد التميمي أبو عبد الله النحوي المعروف بالقزاز القيرواني ولد سنة 342 وتوفي سنة 412. له من الكتب: "أدب السلطان"، "جامع اللغة"، "شرح مثلثات قطرب"، "شرح المقصورة لابن دريد"، "ضرائر الشعر"، "العشرات في اللغة"، "كتاب التعريض فيما دار بين الناس من المعاريض"، "كتاب الضاد والظاء"، "كتاب المعترض"، "كتاب المفترق في النحو"، "ما أخذ على المتنبي"، وغير ذلك. انظر: "معجم الأدباء" 18/ 105، "هدية العارفين" 2/ 61. وهو مترجم في "السير" 17/ 326.

(2)

من هنا يبدأ سقط من (ف).

(3)

هو أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار النحوي الشيباني بالولاء المعروف بثعلب، كان إمام الكوفيين في النحو واللغة وكان ثقة حجة صالحًا مشهورًا بالحفظ وصدق اللهجة والمعرفة بالعربية ورواية الشعر القديم، ولد سنة مائتين وتوفي سنة إحدى وتسعين ومائتين. ومن تصانيفه:"الدر المصون" و"اختلاف النحويين" و"معاني القرآن". ترجم له الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" 5/ 204، وابن خلكان في "وفيات الأعيان" 1/ 102، والنديم في "الفهرست" ص 74، وياقوت في "معجم الأدباء" 5/ 102.

(4)

"تصحيح الفصيح" لابن درستويه ص 123 - 124.

ص: 86

الرفق في الأعمال، والاقتصار على ما يطيق العامل ويمكنه المداومة عليه، وأن من شادّ الدين وتعمق انقطع وغلبه الدين وقهره.

ثم أكد صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى فقال: "سددوا") إلى آخره، أي: اغتنموا أوقات نشاطكم وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدوام لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط واستعينوا بها على تحصيل السداد والوصول إلى المراد، كما أن المسافر إذا سار الليل والنهار عجز وانقطع عن مقصده، وإذا سار غدوة -وهي أول النهار- وروحة -وهي آخره- ودلجة -وهي آخر الليل- حصل له مقصوده بغير مشقة ظاهرة، وأمكنه الدوام على ذَلِكَ.

وهذِه الأوقات الثلاثة هي أفضل أوقات المسافر للسير، فاستعيرت هذِه الأوقات لأوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، قَالَ صلى الله عليه وسلم:"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"

(1)

فشبه صلى الله عليه وسلم الإنسان في الدنيا بالمسافر، وكذا هو في الحقيقة؛ لأن الدنيا مطية الآخرة، فنبه صلى الله عليه وسلم على اغتنام أوقات الفراغ، وإنما قَالَ:"وشيء من الدلجة" ولم يقل: والدلجة؛ تخفيفًا عنه لمشقة عمل الليل، اللهُمَّ هون علينا هذِه الأعمال في التبكير والآصال.

(1)

سيأتي برقم (6416) كتاب: الرقاق، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

ص: 87

‌30 - باب الصَّلَاةُ مِنَ الإِيمَانِ

وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يَعْنِى صَلَاتَكُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ

40 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ -أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ- مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا -أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا- وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلاَّهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ، وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ. فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ فِى حَدِيثِهِ هَذَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]. [399، 4486، 4492، 7252 - مسلم:525 - فتح: 1/ 95]

حَدَّثنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، نا زُهَيْرٌ، نَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ -أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ- مِنَ الأَنْصَارِ، إلى قوله: فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} .

الكلام عليه من وجوه بعد أن تعرف أن البخاري أخرجه أيضًا في الصلاة

(1)

، وإجازة خبر الواحد الصدوق في الصلاة

(2)

والتفسير

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (399) باب: التوجه نحو القبلة حيث كان.

(2)

سيأتي برقم (7252) كتاب: أخبار الآحاد.

(3)

سيأتي برقم (4486) باب: قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} .

ص: 88

أحدها: في التعريف برواته:

أما البراء فهو بتخفيف الراء وبالمد على المشهور، وقيل: بالقصر، وهو أبو عُمارة بضم العين، ويقال: أبو عمرو، ويقال: أبو الطفيل

(1)

، البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن مَجْدَعة -بفتح الميم وإسكان الجيم وفتح الدال المهملة- بن الحارث بن حارثة بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاري الأوسي الحارثي المدني.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة حديث وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين وانفرد البخاري بخمسة عشر ومسلم بستة.

استصغر يوم أحد مع ابن عمر ثم شهد الخندق والمشاهد كلها، وعنه: ما قدم علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى قرأت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1] في سور من المفصل

(2)

، وغزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة غزوة

(3)

، وقيل: ثماني عشرة ما رأيته ترك فيها ركعتين حين تزيغ الشمس في حضر ولا سفر

(4)

.

مات أيام مصعب بن الزبير]

(5)

وقُتِل مصعب سنة اثنتين وسبعين

(6)

.

(1)

زاد أبو عمر ابن عبد البر في "الاستيعاب" 1/ 239 أنه يكنى أيضًا أبا عمر. وقال: والأشهر والأكثر أبو عمارة وهو أصح إن شاء الله تعالى. ورواه ابن سعد في "الطبقات" 4/ 365 عن أبي إسحاق أن البراء بن عازب كان يكنى أبا عمارة.

(2)

سيأتي برقم (3925) كتاب: مناقب الأنصار، مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة.

(3)

سيأتي برقم (4472) كتاب: المغازي، باب: كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

رواه أبو داود (1222)، والترمذي (550) وقال: حديث البراء حديث غريب، ثم قال: سألت محمدًا عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بُسْرة الغفاري، ورآه حسنًا. اهـ. وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(122).

(5)

هنا ينتهي سقط من (ف) بمقدار صفحة منها.

(6)

انظر ترجمة البراء في: "معرفة الصحابة" 1/ 384 (276)، "أسد الغابة" 1/ 205 (389)، "الإصابة" 1/ 142 (618).

ص: 89

فائدة:

أبوه صحابي أيضًا ذكره ابن سعد في "طبقاته"

(1)

و (قَلّ)

(2)

من ذكره ولم يسمع له ذكر في شيء من المغازي، وقد جاء حديثه في الرجل الذي اشترى منه الصديق بثلاثة عشر درهمًا

(3)

، وليس في الصحابة عازب غيره

(4)

، ولا فيهم البراء بن عازب سوى ولده.

وأما أبو إسحاق فهو السبيعي -بفتح السين المهملة وكسر الموحدة نسبة إلى السبيع جد القبيلة وهو السبيع بن الصعب، وأبعد من قَالَ: عرف بذلك لنزوله فيهم

(5)

، وأغرب المزي حيث ذكره في الألقاب

(6)

- ابن معاوية بن كثير بن مالك بن جشم بن حاشد بن جشم بن حيوان بن نوف بن همدان.

وهو أبو إسحاق عمرو بن عبد الله بن علي، وقيل: عمرو بن عبد الله بن ذي يُحمد الهمداني السبيعي الكوفي التابعي الجليل الكبير المتفق على جلالته وتوثيقه.

(1)

"الطبقات" لابن سعد 4/ 365.

(2)

بياض في (ف)، وهي (ج).

(3)

ستأتي هذِه القصة برقم (3652) كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين.

(4)

انظر ترجمة عازب في: "معرفة الصحابة" 4/ 2236 (2344)، "أسد الغابة" 3/ 110 (2659)، "الإصابة" 2/ 244 (4340).

(5)

قاله يعقوب بن أبي شيبة فيما نقله عنه المزي في "تهذيب الكمال" 22/ 103.

(6)

"تهذيب الكمال" 35/ 62. والعلة في استغراب المصنف رحمه الله من ذكر المزي للسبيعي في الألقاب، أن السبيعي هذِه نسبة، فكيف يذكر في الألقاب؟

والجواب: أن المزي قد ذكره في الأنساب أولًا كما في 35/ 12 ثم ذكره في الألقاب، على اعتبار أن الأنساب من الألقاب، وقد عنون بذلك الحافظ في "تهذيب التهذيب" 4/ 642، فقال: الأنساب من الألقاب.

ص: 90

ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ورأى عليًّا وأسامة والمغيرة ولم يصح سماعه منهم، وسمع ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومعاوية وخلفا من الصحابة وآخرين من التابعين، وعنه: التيمي وقتادة والأعمش وهم من التابعين، والثوري وهو أثبت الناس فيه، وخلق من الأئمة.

قَالَ العجلي: سمع ثمانية وثلاثين من الصحابة، وقال ابن المديني: روى عن سبعين أو ثمانين لم يرو عنهم غيره. مات سنة ست، وقيل: سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع وعشرين ومائة

(1)

.

وأما زهير فهو أبو خيثمة زهير بن معاوية بن حُديج -بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وبالجيم- بن الرُّحَيل -بضم الراء وفتح الحاء المهملة- بن زهير بن خيثمة الجعفي الكوفي.

سكن الجزيرة، سمع السبيعي وحميدًا الطويل وغيرهما من التابعين وخلقًا من غيرهم، وعنه يحيى القطان وجمع من الأئمة، و (اتفقوا)

(2)

على جلالته وحسن حفظه وإتقانه.

قَالَ أبو زرعة: هو ثقة إلا أنه سَمِع من أبي إسحاق بعد الاختلاط.

وقال أحمد: ثبت بخ بخ لكن في حديثه عن أبي إسحاق لين سمع منه بآخره، قَالَ أبو حاتم:(هم)

(3)

ثلاثة إخوة: زهير وحديج ورحيل،

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات" لابن سعد 6/ 313، "التاريخ الكبير" 6/ 347 (2594)، "معرفة الثقات" 2/ 179 (1394)، "تهذيب الكمال" 22/ 102 (4400).

(2)

في (ج): وأجمعوا.

(3)

من (ف).

ص: 91

(أَعْدَلُهم زهير ثم حُديج)

(1)

.

مات سنة اثنتين وسبعين، وقيل: سنة ثلاث، وقيل: سنة سبع وسبعين ومائة، وقال أبو داود عن النفيلي: فُلج قبل موته بسنة، ولم أسمع منه شيئًا بعدما فلج، وقال أبو حاتم: زهير أحب إلينا من إسرائيل في كل شيء إلا في حديث أبي إسحاق، وزهير ثقة متقن صاحب سنة، تأخر سماعه من أبى إسحاق.

قَالَ الخطيب: حدث عنه ابن جُريج وعبد السَّلام بن عبد الحميد الحراني وبين وفاتيهما بضع وتسعون سنة، وحدث عنه محمد بن إسحاق وبين وفاتيهما قريب من ذَلِكَ

(2)

.

فائدة:

يجاب عن إخراج البخاري له عن أبي إسحاق أنه لعله ثبت عنده سماعه منه قبل الاختلاط كما سلف في الفصول.

وأما عمرو (خ، ق) بن خالد فهو أبو الحسن عمرو بن خالد بن فروخ بن سعيد بن عبد الرحمن بن واقد -بالقاف- بن ليث بن واقد بن عبد الله الحنظلي الجزري الحراني، سكن مصر.

روى عن الليث وابن لهيعة وغيرهما من الأئمة، وعنه البخاري وانفرد به، وأبو زرعة وغيرهما من الأئمة، وروى ابن ماجه، عن

(1)

كذا في (ف)، (ج) وهو خطأ والصواب كما في "الجرح والتعديل" 3/ 588، 596: أوثقهم زهير ثم رحيل. وكذا في "التعديل والتجريح" للباجي 2/ 596، و"تهذيب الكمال" 9/ 173.

(2)

"السابق واللاحق" ص 204 (70).

وانظر ترجمة زهير في: "التاريخ الكبير" 3/ 427 (1419)، "الجرح والتعديل" 3/ 588 (2674) 6/ 337، "تهذيب الكمال" 9/ 420 (2019).

ص: 92

رجل عنه واسمه عمرو -بزيادة الواو- ويقع في بعض النسخ بإسقاطها والصواب الأول

(1)

.

قَالَ أبو حاتم: صدوق، وقال العجلي: مصري ثبت ثقة، مات بمصر سنة تسع وعشرين ومائتين

(2)

.

فائدة:

لهم عمرو بن خالد الواسطي المتروك

(3)

انفرد بالإخراج له ابن ماجه، وعمرو بن خالد الكوفي منكر الحديث

(4)

.

(1)

قال أبو علي في "تقييد المهمل" 2/ 567: كان في نسخة أبي زيد المروزي: حدثنا عمر بن خالد. هكذا نقله عنه أبو الحسن القابسي وأبو الفرج عبدوس بن محمد الطليطلي وذلك وهم، والصواب: عمرو. بفتح العين وسكون الميم. وهو عمرو بن خالد الحراني الجزري، وليس في شيوخ البخاري من يقال له: عمر بن خالد. اهـ.

(2)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 327 (2542)، "معرفة الثقات" للعجلي 2/ 175 (1376)، "الجرح والتعديل" 6/ 230 (1278)، "تهذيب الكمال" 21/ 601 (4356). وقد سبقت ترجمته في حديث رقم (12).

(3)

عمرو بن خالد الواسطي أبو خالد القرشي مولى بني هاشم، أصله كوفي وانتقل إلى واسط، روى عن زيد بن علي بن الحسين وسعيد بن زيد بن عقبة والثوري وغيرهم، قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: متروك، وقال ابن معين: كذاب، وقال النسائي: ليس بثقة ويحكى عن وكيع، قال: كان في جوارنا يضع الحديث فلما فُطن له تحول إلى واسط. انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 328 (2543)، "الجرح والتعديل" 6/ 230 (1277)، "المجروحين" لابن حبان 2/ 76، "تهذيب الكمال" 21/ 603 (4357).

(4)

عمرو بن خالد الكوفي أبو حفص، روى عن سليمان الأعمش وهشام بن عروة وغيرهما. قال ابن حبان: يروي عن "الثقات" الموضوعات، لا تحل الرواية عنه، وقال الحافظ: منكر الحديث من التاسعة، ويقال: هو عمرو بن خالد أبو يوسف الأسدي وفرق بينهما ابن عدي. انظر ترجمته في "المجروحين" لابن حبان 2/ 79، و"الكامل" لابن عدي 6/ 225 (1291)، "تهذيب الكمال" 21/ 607 (4358).

ص: 93

الوجه الثاني: في ألفاظه ومعانيه:

قوله: (يَعْنِي: صَلَاتُكُمْ عِنْدَ البَيْتِ) كذا وقع في الأصول، والمراد إلى البيت، يعني: بيت المقدس أو الكعبة؛ لأن صلاتهم إليها إلى جهة بيت المقدس.

وقوله: (أَوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ) يعني: في الهجرة، ولها أسماء كثيرة ذَكَرتُ منها في "الإشارات للغات المنهاج"

(1)

تسعة وعشرين اسمًا مفصلة فراجعها منه.

وقوله: (أَجْدَادِهِ -أَوْ قَالَ: أَخْوَالِهِ- مِنَ الأَنْصَارِ) هو شك من الراوي وهم أخوال وأجداد مجازًا؛ لأن هاشمًا جد أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج من الأنصار وقصته مشهورة، وقد سلف في أول الكتاب شأن الأنصار المذكور في السير أن أول ما نزل صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، ثم على أبي أيوب الأنصاري خالدٍ ولَيْسَا ولا واحد منهما من أخواله ولا أجداده، وإنما أخواله وأجداده في بني عدي بن النجار وقد مر بهم، ونزل على بني مالك أخي عدي فلعل ذَلِكَ وقع تجوزًا لعادة العرب في النسبة إلى الأخ أو لقرب ما بين داريهما.

وقوله: (وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ): أي متوجهًا إليه، وقوله:(بيت المقدس) هو -بفتح الميم وإسكان القاف، وفيه لغة أخرى ضم الميم وفتح القاف والدال المشددة- أي المطهر، وعلى الأول هو مصدر كالمرجع، أو مكان ومعناه: بيت مكان الطهارة، قاله أبو علي الفارسي.

(1)

الكتاب قيد التحقيق بدار الفلاح.

ص: 94

وقال الزجاج: أي المكان الذي يطهر فيه من الذنوب، ويقال: البيت المقدس على الصفة. والمشهور بيت المقدس على إضافة الموصوف إلى صفته كصلاة الأولى، ومسجد الجامع وبابه، وله أسماء أخر ذكرتها في (الكتاب)

(1)

المشار إليه قريبًا.

وقوله: (سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا- أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا). كذا وقع هنا على الشك، وكذا هو في أكثر الروايات، وفي رواية في "صحيح مسلم" وغيره عن البراء الجزم بالأولى

(2)

فيتعين (اعتمادها)

(3)

كما قاله النووي.

وقال الداودي: إنه الصحيح، قبل بدر بشهرين، وهو قول ابن عباس والحربي؛ لأن بدرًا كانت في رمضان في السنة الثانية.

وخالف القاضي فقال: الثاني أصح وهو قول مالك وابن إسحاق وابن المسيب

(4)

، وفي "سنن أبي داود": ثمانية عشر شهرًا

(5)

.

وحكى المحب الطبري: ثلاثة عشر شهرًا، ورواية أخرى: سنتين، وأغرب منهما: تسعة أشهر، وعشرة أشهر، وهما شاذان.

وقال أبو حاتم بن حبان: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام سواء؛ لأن قدومه صلى الله عليه وسلم من مكة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، وحولت يوم الثلاثاء نصف شعبان

(6)

.

(1)

في (ف): المكان.

(2)

مسلم (525/ 11) كتاب: المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.

(3)

كذا في (ف) وفي (ج): إعمالها.

(4)

"إكمال المعلم" 2/ 449.

(5)

"سنن أبي داود" برقم (507). وفيه: ثلاثة عشر شهرًا. من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(6)

"صحيح ابن حبان" 4/ 620.

ص: 95

وفي "تفسير ابن الخطيب" عن أنس أنها حولت بعد الهجرة بتسعة أشهر، وهو غريب. وعلى هذا القول يكون التحويل في ذي القعدة إن عدّ شهر الهجرة، وهو ربيع الأول، أو ذي الحجة إن لم يعد وهو أغرب.

وفي ابن ماجه أنها صرفت إلى الكعبة بعد دخوله المدينة بشهرين

(1)

.

وقال إبراهيم بن إسحاق: حولت في رجب. وقيل: في جمادى فحصل في تعيين الشهر أقوال)

(2)

.

والشهر سمي بذلك لشهرته عند الناس كلهم لاحتياجهم إلى معرفته في عبادتهم ومعايشهم. يُقال: شهرت الشيء إذا أظهرته، وفي لغة رديئة أشهرته، حكاها الزبيدي.

وقوله: (وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ). أي: كان يحب ذَلِكَ كما صرح به البخاري في رواية أخرى في باب: التوجه نحو القبلة

(3)

.

وقوله: (صَلَاةَ العَصْرِ) هو بدل من قوله: (أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا).

وقوله: (مَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ) إلى آخره، هؤلاء ليسوا أهل قباء بل أهل مسجد بالمدينة وهو مسجد بني سلمة ويُعرف بمسجد القبلتين، ومر عليهم المار في صلاة العصر. وأما أهل قباء فأتاهم الآتي في صلاة الصبح، كما صرح به البخاري ومسلم في موضعه من حديث ابن عمر

(4)

.

(1)

ابن ماجه (1010) من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق.

قال الحافظ في "الفتح" 1/ 96: أبو بكر سيِّئ الحفظ وقد اضطرب فيه.

وقال الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(212): منكر.

(2)

ما بين المعقوفين ساقط من (ف).

(3)

سيأتي برقم (399) كتاب: الصلاة.

(4)

سيأتي برقم (403) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القبلة

، ومسلم (526/ 13) كتاب: المساجد، باب: تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة.

ص: 96

ويجوز أن تحمل الأولى على أن المراد: أن أول صلاة صلاها كاملة إلى الكعبة العصر، وقيل: كان التحويل في ركوع الثانية من الظهر في المسجد السالف فاستدار واستدارت الصفوف، فأنزل الله تعالى:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} [البقرة: 144] الآية. وذكر القرطبي أن الآية نزلت في غير صلاة

(1)

.

وقوله: (وَأَهْلُ الكِتَابِ) هو: برفع اللام معطوف على اليهود، ولعل المراد بهم النصارى؛ فإن اليهود أيضًا أهل كتاب.

فائدة:

هذا (المار)

(2)

هو عباد بن نهيك بن إساف الخطمي، صلى القبلتين مع النبي صلى الله عليه وسلم بركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة يوم صرفت، قاله ابن عبد البر

(3)

.

وقال ابن بشكوال: هو عباد بن بشر الأشهلي

(4)

، [و]

(5)

ذكره الفاكهي في "أخبار مكة" عن خويلة بنت أسلم وكانت من المبايعات، وفيه قول ثالث: أنه عباد بن وهب.

الوجه الثالث: في فوائده:

وهي جمة مفرقة في الأبواب ذكرت منها جملة في "شرح العمدة"

(6)

ونذكر منها هنا عشر فوائد:

(1)

"تفسير القرطبي" 2/ 149.

(2)

في (ج): المشار إليه.

(3)

"الاستيعاب" 2/ 354 (1376).

(4)

"غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 223.

(5)

زيادة يقتضيها السياق.

(6)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 487 - 504.

ص: 97

ونقدم عليها أن التحويل كان في السنة الثانية قطعًا، واختلف في الشهر الذي حولت فيه على ثلاثة أقوال سلفت:

أحدها: في الظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان، قاله محمد بن حبيب الهاشمي، وحكاه عنه النووي في "الروضة" في كتاب السير وأقره

(1)

.

وثانيها: في رجب في نصفه في صلاة الظهر يوم الاثنين، ونقله بعضهم عن الأكثرين كما حكاه صاحب "المطلب".

قَالَ: وفي رواية شاذة أن ذَلِكَ كان في جمادى الآخر، وهذا هو الثالث.

الأولى: ما ترجم له وهو كون الصلاة من الإيمان، وقد اتفق المفسرون وغيرهم على أن المراد به هنا الصلاة، وكذا ذكره البراء في حديث الباب بفحواه وإن لم يصرح به، والآية إنما نزلت في صلاتهم إلى بيت المقدس.

وقال ابن إسحاق وغيرُه: {لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} بالقبلة الأولى، وتصديقكم بنبيكم واتباعكم إياه إلى القبلة الأخرى، أي: ليعطينكم أجرهما جميعًا

(2)

.

وما زاده زهير في حديث البراء، أخرجه أبو داود والترمذي من

حديث ابن عباس، قَالَ: لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا:

يا رسول الله، كيف إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت

المقدس؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}

(3)

[البقرة: 143].

(1)

"روضة الطالبين" 10/ 206.

(2)

انظر: "سيرة ابن هشام" 2/ 177.

(3)

"سنن أبي داود"(4680)، "سنن الترمذي" (2964) وقال: حديث حسن صحيح.

ص: 98

الثانية: جواز النسخ ووقوعه ولا عبرة بمن أحاله. قَالَ ابن عباس: أُول ما نُسخ من القرآن شأن القبلة والصيام

(1)

، وأول مَن صَلَّى إلى الكعبة البراء بن معرور

(2)

.

الثالثة: قبول خبر الواحد (كما ترجم له فيما مضى)

(3)

وقد يقال: إنه احتف به قرائن ومقدمات أفادت العلم؛ لأنهم كانوا متوقعين التحويل.

الرابعة: استحباب إكرام القادم أقاربه بالنزول عليهم دون غيرهم.

الخامسة: أن محبة الإنسان الانتقال من طاعة إلى أكمل منها ليس قادحًا في الرضا بل هو محبوب.

السادسة: أن النَّسْخَ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه، لأن أهل المسجد وأهل قباء صلوا إلى بيت المقدس بعض صلاتهم بعد النسخ، لكن قبل بلوغه إليهم وهو الصحيح في الأصول

(4)

، وتظهر فائدة الخلاف في الإعادة، ويتعلق بذلك أن الوكيل هل ينعزل من حين العزل أو من بلوغ الخبر؟ والأصح عندنا الأول بخلاف القاضي، والفرق تعلق المصالح الكلية به بخلاف الوكيل، ويتعلق به أيضًا أن الأمة لو صلت مكشوفة الرأس ثم علمت بالعتق في أثناء الصلاة، هل تبني أو تستأنف؟

(1)

رواه النسائي في "المجتبى" 6/ 187، 212، وفي "الكبرى" 3/ 386، والطبراني في "مسند الشاميين" 3/ 326، والحاكم في "المستدرك" 2/ 267 - 268، والبيهقي في "الكبرى" 2/ 12.

(2)

رواه البيهقي 3/ 384 عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، قال: وكان البراء بن معرور أول من استقبل القبلة حيًّا وميِّتًا.

قال البيهقي: وهو مرسل جيد.

(3)

من (ج).

(4)

انظر: "المستصفى" 1/ 229.

ص: 99

السابعة: جواز الصلاة الواحدة إلى جهتين بدليلين، فمن صلَّى بالاجتهاد إلى جهة ثم تغير اجتهاده في أثنائها، فظن أن القبلة في جهة أخرى ولم يتيقن ذَلِكَ، يتحول إلى الجهة الثانية ويبني على صلاته ويجزئه، وإن كانت إلى جهتين وثلاث وأربع حتى لو صلى الرباعية إلى الجهات الأربع كل ركعة إلى جهة بالاجتهاد أجزأه، وهو الأصح عند أصحابنا

(1)

.

الثامنة: جواز نسخ السُّنة بالكتاب، والأصح عند الجمهور نعم، وللشافعي فيه قولان:

قَالَ مرة: لا يجوز، كما لا يجوز عنده نسخ القرآن بالسنة قولًا واحدًا

(2)

، والأصح عند الجمهور: نعم بشرط كونها متواترة

(3)

.

قَالَ القاضي عياض: أجازه الأكثر عقلًا وسمعًا، ومنعه بعضهم عقلًا، وأجازه بعضهم عقلًا، ومنعه سمعًا

(4)

.

وقال ابن الخطيب: قطع الشافعي وأكثر أصحابنا وأهل الظاهر وأحمد في رواية بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، وأجازه أبو حنيفة ومالك والجمهور

(5)

.

واستدل المجوزون على الأولى بأن التوجه نحو بيت المقدس لم

(1)

انظر كلام الشافعي في "الرسالة" ص 106 - 113.

(2)

انظر: "المجموع" 3/ 206.

(3)

انظر: "المستصفى" 1/ 236 - 237، "الغيث الهامع" 2/ 436 - 437، "إرشاد الفحول" 2/ 809 - 815.

(4)

"إكمال المعلم" 2/ 545.

(5)

انظر: "الرسالة" ص 106، "الواضح في أصول الفقه" 1/ 228، "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم ص 518 - 520، "البحر المحيط" 4/ 108 - 109.

ص: 100

يكن (ثابتًا)

(1)

بالكتاب، وقد نسخ به، وبقوله تعالى:{فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] فنسخ العهد والصلح على ردهن، وبقوله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] نسخ تحريم المباشرة وليس في القرآن، وصوم عاشوراء برمضان، وعلى الثانية بأنه نُسِخَت الوصية للوالدين والأقربين بقوله:"لا وصية لوارث"

(2)

ونسخ الإمساك في البيوت بالرجم والجلد الثابت بالسنة.

وأجاب المانعون عن قصة القبلة بأنها نسخ قرآن بقرآن، وأن الأمر أولًا كان يخير المصلي أن يولي وجهه حيث شاء بقوله:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ثم نسخ باستقبال القبلة.

التاسعة: جواز النسخ بخبر الواحد، وهو ما مال إليه القاضي أبو بكر وغيره من المحققين، كما نقله القاضي عياض عنهم

(3)

، واختاره الغزالي

(4)

والباجي

(5)

وأهل الظاهري

(6)

، ووجهه أن العمل بخبر الواحد مقطوع به كما أن العمل بالقرآن والسنة المتواترة مقطوع به، وأبعد بعضهم فقال: النسخ به كان جائزًا في زمنه، وإنما منع بعده.

والمختار كما قَالَ الغزالي: وقوع نسخ السنة المتواترة بالآحاد عقلًا

(1)

من (ف).

(2)

رواه أبو داود (2870)، (3565)، والترمذي (2120) وقال: حديث حسن صحيح، وأحمد 5/ 267، والطيالسي 2/ 450 (1223)، وعبد الرزاق 4/ 148 - 149 (7277)، والطبراني 8/ 137 (7621) من حديث أبي أمامة، وصححه الألباني في "الإرواء"(1655).

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 445.

(4)

"المستصفى" 1/ 240 - 241.

(5)

"إحكام الفصول" ص 417.

(6)

"الإحكام في أصول الأحكام" ص 518 - 524.

ص: 101

لو تعبد به وسمعًا في زمانه صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء، وأما بعده فممنوع بإجماع الصحابة على أن خبر الواحد لا يرفع قاطعًا

(1)

.

العاشرة: أن من لم يعلم بفرض الله، ولم تبلغه الدعوة، ولا أمكنه استعلام ذَلِكَ من غيره، فالفرض غير لازم له، والحجة غير قائمة عليه.

وقد اختلف العلماء فيما حكاه القاضي فيمن أسلم في دار الحرب أو أطراف بلاد الإسلام حيث لا يجد من يستعلمه الشرائع، ولا علم أن الله فرض شيئًا من الشرائع، ثم علم بعد ذَلِكَ هل يلزمه قضاء ما مر عليه من صيام وصلاة لم يعلمها؟

فذهب مالك والشافعي (في آخرين)

(2)

إلى إلزامه، فإنه قادر على الاستعلام والبحث والخروج إلى ذلك، وذهب أبو حنيفة أن ذَلِكَ يلزمه إن أمكنه أن يستعلم فلم يستعلم وفرط، وإن كان لا يحضره من يستعلمه فلا شيء عليه. قَالَ: وكيف يكون لله فرض على من لم [يعلم]

(3)

بفرضه

(4)

.

(1)

"المستصفى" 1/ 240.

(2)

في (ف): وآخرين.

(3)

زيادة يقتضيها السياق، من "الإكمال".

(4)

"إكمال المعلم" 2/ 448.

ص: 102

‌31 - باب حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ

41 -

قَالَ مَالِكٌ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ، أنَهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ يُكَفِّرُ اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ القِصَاصُ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهَا". [فتح: 1/ 98]

42 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا". [مسلم: 129 - فتح: 1/ 100]

قَالَ مَالِكٌ: أَخْبَرَنِي زيدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ:"إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ يُكَفِّرُ اللهُ عَنْهُ كُلَّ سَيئَةٍ كَانَ زَلّفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ القِصَاصُ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهَا".

حَدَّثنَي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ثنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا"

(1)

.

(1)

ذكر في هامش (ف) ما نصه: بلغ الشيخ برهان الدين الحلبي قراءة على

وسمعه الشيخ شمس الدين

والصفدي والعاملي والباسطي والفخر الرازي. المصنف والبغوي وابن

ونور الدين

محمد بن

وسمعه آخرون

والصفدي سمعه بتدريسه قاله إبراهيم الحلبي القارئ.

ص: 103

الكلام عليهما (من وجوه)

(1)

:

أما حديث أبي سعيد فمن وجوه:

الأول:

هذا الحديث أخرجه هنا معلقًا فإن بينه وبين مالك واسطة؛ لأنه لم يسمع منه، وقد وصله أبو ذر الهروي في بعض النسخ.

فقال أبو ذر: (أنا)

(2)

النضروي، ثنا الحسين بن إدريس، (ثنا)

(3)

هشام بن (خالد)

(4)

، (ثنا)

(5)

الوليد بن مسلم، (ثنا)

(6)

مالك، فذكره.

وأسنده النسائي، عن أحمد بن المعلى بن يزيد، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن مالك

(7)

.

وقد وصله الإسماعيلي بزيادة فيه فقال: أخبرني الحسن بن سفيان، (ثنا)

(8)

حميد بن قتيبة الأسدي قَالَ: قرأت على عبد الله بن نافع الصائغ، أن مالكًا أخبره قَالَ:(وأخبرني)

(9)

عبد الله بن محمد بن مسلم

(10)

، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى، حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير، نا عبد الله بن وهب، أنبأنا مالك بن أنس -واللفظ لابن نافع-

(1)

من (ج).

(2)

كذا في (ف) وفي (ج): أخبرنا.

(3)

في (ف): نا.

(4)

في (ف)، (ج): خلف، والمثبت من "تغليق التعليق" 2/ 44، "فتح الباري" 1/ 99، "عمدة القاري" 1/ 286.

(5)

في (ف): نا.

(6)

في (ف): نا.

(7)

النسائي 8/ 105 - 106.

(8)

في (ف): نا.

(9)

في (ف): أخره.

(10)

انظره في "المعجم" للإسماعيلي 2/ 695.

ص: 104

عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إذا أسلم العبد كتب الله له كل حسنة قدمها ومحى عنه كل سيئة زلفها، ثم قيل له: ائتنف العمل، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، والسيئة بمثلها إلا أن يغفر الله"

أنبأنا به (غير واحد منهم)

(1)

شيخنا قطب الدين الحلبي، أنبأنا محمد بن عبد المنعم المؤدب، أنبأنا أبو بكر بن باقا

(2)

(أنبأنا)

(3)

يحيى بن ثابت، أنبأنا أبو بكر أحمد البرقاني، أنبأنا أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي فذكره.

قَالَ ابن بطال: هذا الحديث أسقط البخاري بعضه، وهو حديث مشهور من رواية مالك في غير "الموطأ" ونصه:"إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله له بكل حسنة كان زلفها ومحى عنه كل سيئة كان زلفها" وذكر باقيه بمعناه، قَالَ: وذكره الدارقطني في "غرائب حديث مالك" من تسعة طرق، وأثبت فيها كل ما أسقطه البخاري:

"إن الكافر إذا حسن إسلامه يُكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما يشاء" وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلفت من خير"

(4)

.

(1)

من (ف).

(2)

هو الشيخ الأمين المرتضى المسند، صفي الدين، أبو بكر عبد العزيز ابن أبي الفتح أحمد بن عمر بن سالم بن محمد بن باقا البغدادي الأصل، الحنبلي التاجر السّفّار نزيل مصر. ولد سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وتوفي سنة ثلاثين وستمائة. انظر ترجمته في:"سير أعلام النبلاء" 22/ 351 - 352، "الذيل" لابن رجب 2/ 187، "شذرات الذهب" 5/ 135 - 136.

(3)

في (ف): أنا.

(4)

سيأتي برقم (1436) كتاب: الزكاة، باب: من تصدق في الشرك ثم أسلم.

ص: 105

قَالَ: ومعنى "حسن إسلامه" ما جاء في حديث جبريل صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه"

(1)

. أراد مبالغة الإخلاص لله تعالى بالطاعة والمراقبة، هذا آخر كلام ابن بطال

(2)

.

وقال الدارقطني في كتاب "غرائب مالك": اتفق هؤلاء التسعة: ابن وهب، والوليد بن مسلم، وطلحة بن يحيى، ورزين بن شعيب، وإسحاق الفروي، وسعيد الزبيري، وعبد الله بن نافع، وإبراهيم بن المختار، وعبد العزيز بن يحيى، فرووه عن مالك عن زيد، عن عطاء، عن أبي سعيد، وخالفهم معن بن عيسى فرواه عن مالك، عن زيد، عن عطاء، عن أبي هريرة.

الوجه الثاني: (في)

(3)

التعريف برجاله: وقد سلف.

الثالث: في ألفاظه وأحكامه:

قوله: ("زلّفها") هو بتشديد اللام كما ضبطه النووي، يُقال: زلَّفه يزلِّفه تزليفًا إذا قدمه، وأزلفه إزلافًا مثله، ويقع في بعض النسخ: أزلفها.

قَالَ ابن سيده: زلف الشيء وزلفه: قدمه. عن ابن الأعرابي، وأزلف الشيء: قربه

(4)

.

وفي "الجامع": الزلفة تكون القربة من الخير والشر، وفي "الصحاح": الزلف: التقدم عن أبي عبيد. وتزلفوا وازدلفوا أي: تقدموا

(5)

، وفي "الجمهرة": الزليف -بياء مثناة تحت قبل الفاء- ثم

(1)

سيأتي برقم (50) باب: سؤال جبريل عن الإيمان و ....

(2)

"شرح ابن بطال" 1/ 99.

(3)

من (ج).

(4)

"المحكم" 9/ 41، 42.

(5)

"الصحاح" 4/ 1370، مادة (زلف).

ص: 106

فسره بالتقدم من موضع إلى موضع

(1)

. قُلْتُ: فمعنى أزلفها هنا: اكتسبها وقدمها وقربها قربة إلى الله تعالى، وازدلفت مثل أزلفت، وازدلفت القوم:(جَمَعْتُهم)

(2)

، ومنه سميت المزدلفة؛ لجمعها الناس، وقيل: لقرب أهلها من منازلهم.

مفتعلة من زلفت أبدلت التاء دالًا، وقوله تعالى:{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)} [التكوير: 13] أي: قربت وأدنيت

(3)

{وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)} [الشعراء: 64] أي: قَرَّبْنَاهم

(4)

.

قَالَ أهل اللغة: هذا من باب ما جاء على فعل وأفعل لاختلاف معنى. وقوله تعالى: {عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: 37] فهي هنا اسم مصدر كأنه قَالَ: ازدلافًا، وأما زلف زلفى ثلاثيًا فبمعنى: تقدم، والزلفة والزلفي: القربى والمنزلة

(5)

.

وقوله: ("فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ") أي: أسلم إسلامًا محققًا بريئًا من الشكوك، ولا يشترط في تكفير سيئات زمن الكفر وكتب حسناته أن يكثر من الطاعات في الإسلام، ويلازم المراقبة والإخلاص في أفعاله كما (سلف)

(6)

.

ثم اعلم أن هذا الحديث مع حديث حكيم بن حزام السالف مما اختلف في معناه، فقال أبو عبد الله المازري ثم القاضي وغيرهما:

(1)

"جمهرة اللغة" 2/ 821 مادة: زلف.

(2)

في (ف)، (ج): جميعهم، والمثبت هو الصواب، كما في "الأفعال" لابن القوطية ص 173.

(3)

انظر: "تفسير الطبري" 12/ 466 (36473).

(4)

انظر: "تفسير الماوردي" 4/ 175.

(5)

انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1548 مادة: (زلف).

(6)

في (ج): سبق.

ص: 107

الجاري على القواعد والأصول أنه لا يصح من الكافر (التقرب فلا يثاب على طاعة)

(1)

، ويصح أن يكون مطيعًا غير متقرب (كنظيره)

(2)

في الإيمان؛ فإنه مطيع (فيه)

(3)

من حيث إنه موافق للأمر، والطاعة عندنا موافقة الأمر، ولا يكون متقربًا؛ لأن من شرط التقرب أن يكون عارفًا بالمتقرَّب إليه، فيتأول حديث حكيم على أنه اكتسب أخلاقًا جميلة ينتفع بها في الإسلام أو أنه حصل له ثناء جميل، أو أنه يزاد في حسناته في الإسلام بسبب ذَلِكَ، أو أنه سبب لهدايته إلى الإسلام

(4)

.

وتعقبهم النووي في "شرحه" فقال: هذا الذي قالوه ضعيف بل الصواب الذي عليه المحققون -وقد ادُّعِي فيه الإجماع- أنّ الكافر إذا فعل (أفعالًا جميلة)

(5)

على جهة التقرب إلى الله تعالى كصدقة وصلة رحم وإعتاق وضيافة ونحوها من الخصال الجميلة ثم أسلم يكتب له كل ذَلِكَ ويثاب عليه إذا مات على الإسلام.

ودليله حديث أبي سعيد السالف فهو نص صريح فيه، وحديث حكيم بن حزام ظاهر فيه، وهذا أمر لا يحيله العقل، وقد (ورد)

(6)

الشرع به فوجب قبوله.

وأما دعوى: كونه مخالفًا للأصول فغير مقبولة، وأما قول الفقهاء: لا تصح العبادة من كافر ولو أسلم لم يعتد بها، فمرادهم: لا يعتد بها في

(1)

في (ج): القرب ولا يثاب عليها.

(2)

في (ف)، (ج): به. والمثبت هو الصواب، كما في "المعلم"، و"إكمال المعلم".

(3)

في (ف)، (ج): كنظره، وهو خطأ، والمثبت هو الصواب كما في "شرح مسلم" للنووي 2/ 142.

(4)

"المعلم" 1/ 76، "إكمال المعلم" 1/ 415.

(5)

في (ج): فعلا جميلًا.

(6)

في (ج): ولا ورد.

ص: 108

أحكام الدنيا وليس فيه تعرض لثواب الكافر

(1)

، فإن أقدم قائل عَلَى التصريح بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الآخرة فهو مجازف، فَيُرَدُّ قوله بهذِه السنة الصحيحة، وقد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا، فقد قَالَ الفقهاء: إذا لزمه كفارة ظهار وغيرها فكفَّر في حال كفره أجزأه ذَلِكَ، وإذا أسلم لا يلزمه إعادتها.

واختلفوا فيما لو أجنب واغتسل في كفره ثم أسلم هل يلزمه إعادة الغسل؟ والأصح: اللزوم، وبالغ بعض أصحابنا فقال: يصح من كل كافر كل (طهارة)

(2)

غسلًا كانت أو وضوءًا أوا تيممًا وإذا أسلم صلى بها

(3)

.

ثم حديث الباب حجة لمذهب أهل الحقِّ أن أصحاب المعاصي لا يُقطع عليهم بالنار، بل هم في المشيئة، ومناسبة التبويب زيادة الحسن على الإسلام واختلاف أحواله بالنسبة إلى الأعمال.

وأما الحديث الثاني: وهو حديث أبي هريرة:

فالكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه مسلم مطولًا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به

(4)

.

ثانيها: في التعريف برجاله غير (ما)

(5)

سلف.

(1)

أي في الآخرة، كما في "شرح مسلم".

(2)

في (خ): طاهرة.

(3)

"شرح النووي على مسلم" 2/ 141.

(4)

(129) في الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب.

(5)

في (خ): من.

ص: 109

أما همام فهو أبو عقبة همام بن منبه بن كامل بن سَيج، بسين مهملة مفتوحة، ثم ياء مثناة تحت ساكنة، وقيل: بكسر السين وفتح الياء ثم جيم، اليماني الصنعاني الذماري، بكسر الذال المعجمة، ويقال: بفتحها، وذِمار على مرحلتين من صنعاء

(1)

، الأبناوي، بفتح الهمزة ثم باء موحدة ساكنة ثم نون ثم ألف ثم واو.

قَالَ أبو علي الغساني: نسبة إلى الأبناء وهم قوم باليمن من (ولد)

(2)

الفرس الذين جهزهم كسرى مع سيف بن ذي يزن إلى ملك الحبشة باليمن، فغلبوا الحبشة وأقاموا باليمن، فولدهم يقال لهم: الأبناء

(3)

.

وقال أبو حاتم بن حبان: كل من ولد باليمن من أولاد الفرس وليس من العرب يقال له: أبناوي وهم الأبناء.

وهمام هذا أخو وهب بن منبه وهو أكبر من وهب، سمع ابن عباس وأبا هريرة، وعنه أخوه وآخرون، وهو ثقة مات سنة إحدى، وقيل: اثنتين وثلاثين ومائة

(4)

.

(فائدة:

همام بن منبه من الأفراد وإن كان في الصحابة والتابعين من يشترك معه في الاسم دون الأب.

(1)

"تقييد المهمل" 1/ 96.

(2)

في (ج): أبناء.

(3)

انظر: "معجم البلدان" 3/ 7.

(4)

انظر ترجمة همام في: "الطبقات الكبرى" 5/ 544، "التاريخ الكبير" 8/ 236 (2847)، "الثقات" 5/ 510، "تهذيب الكمال" 30/ 298 (6600)، وانظر "الثقات" 5/ 510 وقد سبق في المقدمة.

ص: 110

فائدة أخرى:

لا يلتفت إلى تضعيف الفلاس له فإنه من فرسان الصحيحين)

(1)

.

وأما عبد الرزاق فهو أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم اليماني الصنعاني. سمع خلقًا من الأعلام: مالكًا وغيره، وعنه خلق من الأئمة والحفاظ: أحمد وابن معين وغيرهما. وأحواله ومناقبه مشهورة، مات سنة إحدى عشرة ومائتين. قَالَ معمر: خليق أن تضرب إليه أكباد الإبل، وقال أحمد: ما رأيت أحسن منه.

وأما ابن عدي: فنقل عن ابن معين أنه ليس بقوي، وعن ابن معين أنه قيل له: تركت حديث عبد الرزاق؟ فقال: لو ارْتَدَّ ما تركته

(2)

.

ونسبه العباس بن عبد العظيم إلى الكذب وأن الواقدي أصدق منه

(3)

، قَالَ ابن عدي: ونسب إلى التشييع، وقد روى أحاديث في

(1)

من (ج).

(2)

"الكامل" 6/ 538.

(3)

رواه العقيلي في "الضعفاء" 3/ 109 وفيه: والله الذي لا إله إلا هو إن عبد الرزاق كذاب، ومحمد بن عمر الواقدي أصدق منه. اهـ.

قال الذهبي في "السير" 9/ 571 - 572.

قلت: بل والله ما بَرَّ عباس في يمينه، وبئس ما قال، يَعْمد إلى شيخ الإسلام ومحدث الوقت، ومن احتج به كل أرباب الصحاح -وإن كان له أوهام مغمورة، وغيره أبرع في الحديث منه- فيرميه بالكذب ويُقَدم عليه الواقدي الذي أجمعت الحفاظ على تركه، فهو في مقالته هذِه خارق للإجماع بيقين. اهـ.

وقال في "الميزان" 3/ 325: هذا ما وافق العباس عليه مُسْلِمُ، بل سائر الحفاظ وأئمة العلم يحتجون به إلا تلك المناكير المعدودة في سعة ما روى. اهـ.

قال الحافظ في "تهذيب التهذيب" 2/ 574 معقبًا على كلام الذهبي: وهذا إقدام على الإنكار بغير تثبُّت، فقد ذكر الإسماعيلي في "المدخل عن الفرهياني أنه قال: وحدثنا عباس العنبري عن زيد بن المبارك قال: لم يخرج أحد من هؤلاء الكبار من ها هنا إلا وهو مجمع أن لا يحدث عنه انتهى. =

ص: 111

فضائل أهل البيت ومثالب غيرهم مما لم يوافقه عليها أحد من الثقات، فهذا أعظم ما ذمُّوه به من روايته للمناكير

(1)

، وقال النسائي في "ضعفائه": فيه نظر لمن كتب عنه بآخره

(2)

.

وزاد بعضهم عن النسائي: كتبت عنه أحاديث مناكير، وقال البخاري في "تاريخه الكبير": ما حدَّث به عبد الرزاق من كتابه فهو أصح

(3)

.

وأما إسحاق بن منصور فهو أبو يعقوب إسحاق (خ، م، ت، س، ق) بن منصور بن بهرام -بكسر الموحدة- الكوسج من أهل مرو سكن نيسابور، ورحل إلى الحجاز والعراق والشام وسمع الأعلام منهم ابن عيينة، وعنه البخاري ومسلم وبقية الجماعة إلا أبا داود، وروى الترمذي أيضًا عن رجل عنه في آخر "جامعه".

قَالَ مسلم: ثقة مأمون، أحد الأئمة من أصحاب الحديث. وقال النسائي: ثقة ثبت. وقال الخطيب: كان فقيهًا عالمًا، وهو الذي دوَّن عن أحمد وابن راهويه المسائل

(4)

. مات في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين ومائتين

(5)

.

= قال الحافظ: وهذا وإن كان مردودًا على قائله فغرض من ذكره الإشارة إلى أن للعباس بن عبد العظيم موافقًا. اهـ.

(1)

"الكامل" 6/ 538.

(2)

"الضعفاء" للنسائي ص 70 (379).

(3)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 130 (1933)، "الكامل" 6/ 538 (1463)، "تهذيب الكمال" 18/ 52 (3415)، قال ابن حجر في "تقريب التهذيب" ص 354 (4064): ثقة حافظ مصنف شهير، عمي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع.

(4)

"تاريخ بغداد" 6/ 362، والكتاب طبع في مجلدين باسم:"مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه رواية الكوسج".

(5)

انظر: "التاريخ الكبير" 1/ 404 (1291)، "تهذيب الكمال" 2/ 474 (383)، "سير أعلام النبلاء" 12/ 258 (98)، "تهذيب التهذيب"(1268).

ص: 112

ثالثها:

أَخَذَ بظاهر هذا الحديث بعض العلماء وقال: التضعيف لا يتجاوز سبعمائة، حكاه الماوردي عن بعضهم، والجمهور -كما حكاه النووي عنهم- (على)

(1)

خلافه وهو أنه لا يقف على سبعمائة بل يضاعف الله لمن يشاء أضعافًا كثيرة زائدة على ذَلِكَ، ويدل عليه ما أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، والبخاري في كتاب الرقاق من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قَالَ:"إِنَّ اللهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا وعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ"

(2)

.

فقوله: "إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ" دال عَلَى الزيادة على (سبعمائة)

(3)

.

وفي كتاب "العلم" لأبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل: (نا)

(4)

شيبان الأيلي، (نا)

(5)

سويد بن حاتم، نا أبو العوام الجزار، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قَالَ:"إنَّ الله تعالى يعطي بالحسنة أَلفي ألف حسنة"

(6)

.

(1)

في (ج): في.

(2)

سيأتي برقم (6491) باب: من هم بحسنة أو سيئة، ورواه مسلم (131) باب: إذا هم العبد بحسنة.

(3)

في (ج): السبعمائة.

(4)

في (ج): حدثنا.

(5)

في (ج): ثنا. وكذا التي بعدها.

(6)

رواه أحمد 2/ 521، البيهقي في "الزهد الكبير" 2/ 78 (713)، أورده الهيثمي في "المجمع" 10/ 145 وقال: رواه أحمد بإسنادين والبزار بنحوه، وأحد إسنادي أحمد جيد. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(3975) لأن مداره على عليّ بن زيد وهو ابن جدعان وطريق المصنف مختلفة.

ص: 113

‌32 - باب أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ

43 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن الُمثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا اَمْرَأةٌ، قَالَ:"مَنْ هذِه؟ ". قَالَتْ: فُلَانَةُ. تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا. قَالَ: "مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا". وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيهِ مَا دَامَ عَلَيهِ صَاحِبُهُ. [1151 - مسلم:785 - فتح: 1/ 101]

ثنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، ثنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَام قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا أمْرَأَةٌ قَالَ:"مَنْ هذِه". قَالَتْ: فُلَانَةُ. تَذْكُرُ مِنْ صلَاتِهَا. قَالَ: "مَهْ، عَلَيْكُمْ (من العمل)

(1)

بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا". وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاومَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في كتاب الصلاة، وقال فيه: كانت عندي امرأة من بني أسد

(2)

، وسماها في مسلم، لكن قَالَ فيه: إن الحولاء بنت (تويت)

(3)

بن حبيب بن أسد بن عبد العزى مرت بها وعندها رسول الله. فقلت: هذِه الحولاء بنت تويت، وزعموا أنها لا تنام الليل. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تنام الليل! خذوا من العمل ما تطيقون

(1)

كذا في (ف)، (ج)، وليست في اليونينية، ولم أقف على من أشار إليها إلا الشيخ زكريا الأنصاري في "منحة الباري بشرح صحيح البخاري" 1/ 209 بتحقيقنا، ط الرشد، والله أعلم.

(2)

سيأتي برقم (1151) أبواب التهجد، باب: ما يكره من التشديد.

(3)

في (ف): تويب.

ص: 114

فوالله ما يسأم الله حتى تسأموا"

(1)

.

وذكره مالك في "الموطأ" وفيه: فقيل له: هذِه الحولاء لا تنام الليل.

فكره ذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفت الكراهية في وجهه

(2)

.

وذكره مسلم من رواية الزهري عن عروة

(3)

ثم ذكر حديث هشام عن أبيه عروة

(4)

.

كما أورده البخاري هنا، وفي الصلاة، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة. فيحتمل أن تكون هذِه واقعة أخرى.

الثاني: في التعريف برجاله:

وقد سلف، (وهشام سيأتي في الباب بعده)

(5)

.

الثالث:

هذِه المرأة هي الحولاء كما سلف، وهي -بحاء مهملة والمد- بنت تويت بتائين مثناتين من فوق مُصغّر، وهى امرأة صالحة مهاجرة عابدة

(6)

.

الرابع: في ألفاظه:

(قولها:)

(7)

(تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا): -هو بالمثناة أول- تذكر مفتوحة

(1)

"مسلم"(785/ 220) صلاة المسافرين وقصرها، باب: أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك.

(2)

"الموطأ" برواية يحيى ص 93.

(3)

هي الرواية السابقة.

(4)

مسلم (785/ 221).

(5)

ما بين المعقوفين من (ج).

(6)

هي الحولاء بنت تويت بن حبيب بن أسد بن عبد العزى بن قصي أسلمت وبايعت الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت من المجتهدات في العبادة، انظر:"الطبقات" 8/ 244، "حلية الأولياء" 2/ 65، "الاستيعاب" 4/ 377 (3342)، "الإصابة" 4/ 278 (315).

(7)

من (ج).

ص: 115

على المشهور، كما قَاله النووي قَالَ: وروي بالمثناة تحت مضمومة (على)

(1)

ما لم يسم فاعله، و"مه": كلمة زجر وكف

(2)

.

قَالَ الجوهري: مه: كلمة بنيت على السكون، وهي اسم سُمي به الفعل، ومعناه: اكفف. فإن وصلت نونت فقلت: مهٍ مهٍ، ويقال: مهمهت به أي: زَجَرْتَهُ

(3)

.

فأراد صلى الله عليه وسلم زجرها بالسكوت، ثم ابتدأ بقوله:"عَلَيْكُمْ من العمل بِمَا تُطِيقُونَ". أي: الزموا ما تطيقون الدوام عليه.

(قال القاضي: يحتمل الندب إلى تكلف ما لنا به طاقة، ويحتمل النهي عن تكلف ما لا نطيق، والأمر بالاقتصار على ما نطيق، قال: وهو أنسب للسياق)

(4)

والعمل يحتمل أن يراد به صلاة الليل على سببه، ويحتمل حمله على العموم، كما نبه عليه الباجي

(5)

.

قَالَ أبو الزناد والمهلب: إنما قَالَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ خشية الملال اللاحق، ويمل -بفتح الياء- وكذا تملوا - (هو)

(6)

بفتح التاء والميم- ومعنى: الملالة: السآمة والضجر، واختلف العلماء في المراد به هنا؛ لأن الملال من صفة المخلوقين، وهو ترك الشيء استثقالًا وكراهة له بعد حرص ومحبة فيه، وهذِه غير لائقة بالرب تعالى، فالأصح أن معناه: لا يترك الثواب على العمل حتى يترك العمل

(7)

.

(1)

من (ف).

(2)

انظر: "المجمل" 2/ 814 مادة: (مهه).

(3)

"الصحاح" 6/ 2250 مادة: (مهه).

(4)

ما بين المعقوفين من (ج).

(5)

"المنتقى" 1/ 213، "إكمال المعلم" 3/ 147.

(6)

من (ج).

(7)

سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن هذا الحديث، هل يفهم منه أن الله =

ص: 116

وقيل: معناه: لا يمل إذا مللتم. قاله ابن قتيبة

(1)

وغيره، وحكاه الخطابي

(2)

وآخرون وأنشدوا عليه شعرًا، ومثله قولهم في البليغ: فلان لا ينقطع حتى تنقطع خصومه. أي: لا ينقطع إذا انقطعت خصومه، إذ لو كان المعنى ينقطع إذا انقطعت خصومه، لم يكن له

= يوصف بالملل؟

فأجاب قائلًا: من المعلوم أن القاعدة عند أهل السنة والجماعة أننا نصف الله تبارك وتعالى بما وصف به نفسه من غير تمثيل، ولا تكييف، فإذا كان هذا الحديث يدل على أن لله مللًا فإن ملل الله ليس كمثل مللنا نحن بل هو ملل ليس فيه شيء من النقص، أما ملل الإنسان فإن فيه أشياء من النقص؛ لأنه يتعب نفسيًّا وجسميًّا مما نزل به لعدم قوة تحمله، وأما ملل الله إن كان هذا الحديث يدل عليه فإنه ملل يليق به عز وجل ولا يتضمن نقصًا بوجه من الوجوه.

وعن سؤال آخر قال: جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: "فإن الله لا يمل حتى تملوا" فمن العلماء من قال إن هذا دليل على إثباث الملل لله، لكن ملل الله ليس كملل المخلوق، إذ أن ملل المخلوق نقص؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري فيه كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالًا.

ومن العلماء من يقول إن قوله: "لا يمل حتى تملوا" يراد به بيان أنه مهما عملت من عمل فإن الله يجازيك عليه فاعمل ما بدا لك فإن الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا فيكون المراد بالملل لازم الملل.

ومنهم من قال: إن هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقًا؛ لأن قول القائل: لا أقوم حتى تقوم، لا يستلزم قيام الثاني وهنا أيضًا "لا يمل حتى تملوا" لا يستلزم ثبوت الملل لله عز وجل.

وعلى كل حال يجب علينا أن نعتقد أن الله -تعالى- منزه عن كل صفة نقص من الملل وغيره وإذا ثبت أن هذا الحديث دليل على الملل فالمراد به ملل ليس كملل المخلوق.

انظر: "مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين" 1/ 174 - 175.

(1)

"تأويل مختلف الحديث" ص 486.

(2)

"أعلام الحديث" 1/ 173.

ص: 117

فضل على غيره

(1)

، وقيل: إن حتى بمعنى الواو، أو بمعنى حين. حكاه المازري

(2)

، وفيه ضعف.

وإنما كان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه

(3)

، لأن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع؛ لأن بدوام القليل تدوم الطاعة وتثمر.

الخامس: في أحكامه وفوائده:

الأول: مراد البخاري بالباب أن الدين يطلق على الأعمال وقد سبق أن الدين والإسلام والإيمان يكون بمعنى، وقد تفترق، وموضع الدلالة:(وكان أحب الدين ما داوم عليه صاحبه) أي: أحب الأعمال كما جاء مصرحًا (به)

(4)

في غير هذِه الرواية

(5)

.

الثاني: الدين هنا: الطاعة، ومنه الحديث في الخوارج "يمرقون من الدين"

(6)

. أي: من طاعة الإمام، ويحتمل أن يريد أعمال الدين. وفي "المحكم": الدين: الإسلام. وقد دنت به، وفي حديث علي: محبة العلماء دين يدان به

(7)

والدينة كالدين

(8)

، وفي "الجامع": الدين: العبودية والذل، والدين: الملة والدين: (الخالص)

(9)

.

(1)

انظر: "شرح ابن بطال" 1/ 100 - 101.

(2)

"المعلم" 1/ 222.

(3)

في (ف): صاحب العمل.

(4)

من (ج).

(5)

سيأتي من حديث عائشة (5861) كتاب اللباس، باب الجلوس على الحصير.

(6)

سيأتي برقم (3344) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} .

(7)

قطعة من أثر رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 79 - 80، والخطيب في "تاريخ بغداد" 6/ 379 (3413)، والمزي في "تهذيب الكمال" 24/ 220 - 221، والذهبي في "تذكرة الحفاظ" 11/ 1. باختلاف في اللفظ.

(8)

"المحكم" 10/ 106.

(9)

في (ج): الحال.

ص: 118

قُلْتُ: والدين الخالص في الآية: التوحيد

(1)

، والحكم في قوله:"في دين الله" والدين اسم لجميع ما يتعبد الله تعالى به خلقه.

الثالث: استعمال المجاز، وموضع الدلالة إطلاق الملال عليه تعالى

(2)

.

الرابع: جواز الحلف من غير استحلاف، وأنه لا كراهة فيه إذا كان (فيه)

(3)

تفخيم أمر أوجب عليه، أو تنفير عن أمر محذور، ونحو ذَلِكَ.

قَالَ أصحابنا: يُكره اليمين إلا في مواضع منها ما ذكرنا، ومنها إذا كانت في طاعة كالبيعة (على)

(4)

الجهاد ونحوه، ومنها إذا كانت في دعوى فلا تكره إذا كان صادقًا

(5)

.

الخامس: فضيلة الدوام على العمل والحث على العمل الذي يدوم.

السادس: بيان شفقته ورأفته بأمته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة؛ لأن النفس تكون فيه أنشط، والقلب منشرح، فتستمر العبادة، ويحصل مقصود الأعمال، وهو الخضوع فيها واستلذاذها، والدوام عليها، بخلاف من تعاطى من الأعمال ما لا يمكنه الدوام، وما يشق عليه، فإنه مُعَرَّض لأن يتركه كله أو بعضه، أو يفعله بكلفة أو بغير انشراح القلب فيفوته الخير العظيم.

(1)

انظر: "تفسير الطبري" 10/ 611.

(2)

اعلم رحمك الله أن المجاز قد اختلف في أصل وقوعه، هل في اللغة مجاز أم لا؟

ثم أعلم أن كل ما يسميه القائلون بالمجاز مجازًا فهو عند القائلين بنفي المجاز أسلوب من أساليب اللغة العربية، وسوف يأتي إن شاء الله تعالى الكلام على المجاز في مواضعه.

(3)

من (ف).

(4)

في (ج): في.

(5)

انظر: "روضة الطالبين" 11/ 20.

ص: 119

وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم في الحديث: "ليصلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد"

(1)

وقد ذمَّ الله تعالى من اعتاد عبادة ثم فرط فيها فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} إلى قوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، والأحاديث الصحيحة دالة عليه في قوله:"لا تكن كَفُلَان كان يقوم الليل فتركه"

(2)

، وقد ندم عبد الله بن عمرو بن العاص على تركه قبول رخصته صلى الله عليه وسلم في التخفيف في العبادة.

السابع: كراهة قيام جميع الليل، وهو مذهبنا ومذهب الأكثرين، وعن جماعة من السلف أنه لا بأس به

(3)

.

قَالَ القاضي عياض: كرهه مالك مرة، وقال: لعله يصبح مغلوبًا وفي رسول الله أسوة، ثم قَالَ: لا بأس به ما لم يضر ذَلِكَ بصلاة الصبح، فإن كان يأتيه الصبح وهو نائم فلا، وإن كان به فتور و (كسل)

(4)

فلا بأس به

(5)

.

(1)

سيأتي برقم (1150) في الصلاة، باب: ما يكره من التشديد في العبادة، ورواه مسلم (784/ 218) في صلاة المسافرين، باب: أمر من نعس في صلاته ..

(2)

سيأتي برقم (1152) كتاب: الصلاة، أبواب التهجد، باب: ما يكره من التشديد، ورواه مسلم (1159/ 185)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر.

(3)

انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم" 6/ 71، 73، "المجموع" 3/ 537، "الفروع" 1/ 561.

(4)

في (ج): كلُّ.

(5)

"إكمال المعلم" 3/ 150.

ص: 120

‌33 - باب زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] وقوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 3] وَقَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ.

44 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مِنْ إِيمَانٍ". مَكَانَ: "مِنْ خَيْرٍ". [4476، 6565، 7410، 7440، 7509، 7510، 7516 - مسلم: 193 - فتح: 1/ 103]

45 -

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِى نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. [4407، 4606، 7268 - مسلم: 3017 - فتح: 1/ 105]

ثنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنَا هِشَامٌ، ثنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ، وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ، وَفي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ". وقَالَ أَبَانُ: نَا قَتَادَةُ، ثنَا أَنَسٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مِنْ إِيمَانٍ". مَكَانَ "مِنْ خَيْرٍ".

ص: 121

ثنَا الحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ، سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ، ثنَا أَبُو العُمَيْسِ، ثنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَاب، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا.

قَالَ أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ وَالْمَكَانَ الذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في التعريف برواة الحديثين:

وقد (سلف)

(1)

التعريف بعمر وأنس وقتادة.

أما حديث أنس فبقي منه هشام ومسلم بن إبراهيم.

أما هشام فهو ابن أبي عبد الله (سَنْبر)

(2)

الدَّسْتوائي بفتح الدال وإسكان السين المهملة وفتح التاء، واقتصر السمعاني في "أنسابه"

(3)

على ضمها ثم واوًا وآخره همزة ممدودة بلا نون، وقيل: الدستواني بالقصر والنون، والصحيح: المشهور الأول، ودستوا: كورة من كور الأهواز، كان يبيع الثياب التي تجلب منها فنسب إليها

(4)

.

سمع جمعًا من التابعين منهم أبو الزبير، وعنه الحفاظ منهم: شعبة وأبو داود الطيالسي وقال: كان أمير المؤمنين في الحديث، وقال أحمد:

(1)

في (ج): سبق.

(2)

في (ف)، (ج): سندر، وهو خطأ، والمثبت من مصادر التخريج.

(3)

"الأنساب" 5/ 310.

(4)

"معجم البلدان" 2/ 455.

ص: 122

لا يسأل عنه، ما أرى الناس يَرْوُون عن أثبت منه.

وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتًا في الحديث حجة إلا أنه كان يرى القدر. وقال العجلي: لم يكن داعية إليه. مات سنة أربع، وقيل: ثلاث. وقيل: سنة اثنتين. وقيل: إحدى وخمسين ومائة

(1)

.

وأما مسلم بن إبراهيم فهو أبو عمرو البصري القصاب الأزدي الفراهيدي مولاهم، وفراهيد -بفتح الفاء وبالدال المهملة، ووقع في شرح شيخنا قطب الدين بالمعجمة- بن شبابة بن مالك بن فهم بن عمرو بن أوس بطن من الأزد، ومنهم الخليل بن أحمد الإمام النحوي.

سمع خلقًا من الكبار منهم: شعبة وهشام، وعنه الأعلام منهم: ابن معين والذهلي والبخاري وأبو داود، وروى مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن رجل عنه.

قَالَ أبو زرعة: سمعته يقول: ما أتيت حرامًا ولا حلالًا قط، وكان أتى عليه نيف وثمانون سنة، وقال أحمد بن عبد الله: سمع من سبعين امرأة، وكان ثقة عمي بآخره

(2)

.

وقال يحيى بن معين: هو ثقة مأمون وقال أبو حاتم: ثقة صدوق.

مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين بالبصرة، وكان مولده سنة ثلاث (وثلاثين)

(3)

ومائة

(4)

.

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 279، "التاريخ الكبير" 8/ 198 (2690)، "معرفة الثقات" 2/ 330 (1903)، "تهذيب الكمال" 30/ 215 (6582).

(2)

"معرفة الثقات" 2/ 276.

(3)

في (ج): وثمانين.

(4)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 304، "التاريخ الكبير" 7/ 254 (1079)، "الجرح والتعديل" 8/ 180 (788)، "تهذيب الكمال" 27/ 487 (5916)، "السير" 10/ 314 - 318.

ص: 123

فائدة:

سند حديث أنس هذا كله بصريون.

وأما أبان فهو ابن يزيد أبو يزيد البصري العطار سمع قتادة وغيره، وعنه (الأعلام)

(1)

: الطيالسي وغيره، أخرج له البخاري متابعة هنا، وقال في كتاب الصلاة: وقال موسى: حدثنا أبان عن قتادة. وأخرج له مسلم استقلالًا في البيوع وغيره، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي.

قَالَ أحمد: هو ثبت في كل المشايخ، ووثقه يحيى بن معين والنسائي

(2)

.

وقول البخاري: (وقَالَ أَبَانُ: حَدَّثنَا قَتَادَةُ، ثنَا أَنَسٌ). إنما أتى به لتصريح قتادة بالسماع؛ فإنه (يدلس)

(3)

، وإن عنعن في الأول، وإن كان كل ما في الصحيحين من هذا النوع يحمل على الاتصال كما سلف في الفصول السابقة أول الكتاب، وأتى به لزيادة أيضًا في المتن (وهي)

(4)

قؤله: "من إيمان" وكان "خير" يعني: قَالَ في روايته: "يخرج من النار من قَالَ: لا إلة إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان"، و"وزن برة من إيمان"، و"وزن ذرة من إيمان" وهو دال على زيادة الإيمان ونقصه وتفاوته.

(1)

من (ج).

(2)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 1/ 454 (1452)، "معرفة الثقات" للعجلي 1/ 199 (18)، "الثقات" 6/ 68، "تهذيب الكمال" 2/ 24 (143).

(3)

في (ج): مدلس.

(4)

في (ج): وهو.

ص: 124

فائدة:

في أبان لغتان: الصَّرْفَ؛ على أنه فعال كغزال ونظائره، والهمزة أصل وهي فاء الكلمة، ومَنْعُهْ على أن الهمزة زائدة والألف بدل من ياء وجعله أفعل فمنع صرفه؛ لوزن الفعل مع العلمية.

والصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون صرفه، وغلط (بعضهم)

(1)

من منع صرفه حتى قَالَ بعضهم: لا يَمْنَعُ صَرفَ أبان إلا أتان. قَالَ ابن مالك: أبان لا ينصرف لأنه على وزن أفعل من أبان يبين، ولو لم يكن منقولًا لوجب أن يقال فيه: أبين. بالتصحيح

(2)

.

وأما حديث عمر فالراوي عنه طارق بن شهاب بن عبد شمس بن سلمة بن هلال بن عوف بن جُشْم بن زفر بن عمرو بن لؤي بن رُهم بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار أبو عبد الله البجلي الأحمسي -بطن منها- الكوفي الصحابي.

رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأدرك الجاهلية وغزا في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثلاثًا وثلاثين، أو ثلاثًا وأربعين من بين غزوة وسرية، روى عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة، سكن الكوفة، مات سنة ثلاث وثمانين، وقيل: سنة اثنتين. وقيل: سنة أربع. وجزم شيخنا قطب الدين في "شرحه" بأنه مات سنة ثلاث وعشرين ومائة، وهو ما حكاه ابن أبي خيثمة عن ابن معين

(3)

، وهو وهمٌ كما نبَّه عليه المزي

(4)

.

(1)

كذا في (ف) وفي (ج): أكثرهم.

(2)

"شواهد التوضيح" ص 213.

(3)

"تاريخ ابن أبي خيثمة" 3/ 51 (3780).

(4)

"تهذيب الكمال" 13/ 343، وانظر ترجمته في:"تاريخ ابن أبي خيثمة" 3/ 49 (3772)، "الطبقات الكبرى" 6/ 323، "التاريخ الكبير" 4/ 353 (3115)، =

ص: 125

قُلْتُ: وأخرج له البخاري عن أبي بكر

(1)

وابن مسعود

(2)

، ومسلم عن أبي سعيد

(3)

، وأبو داود

(4)

والنسائي

(5)

عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فائدة:

قَالَ أبو داود: رأى طارق النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئًا

(6)

.

فائدة أخرى:

بجيلة هي أم ولد أنمار بن أراش، وهي بنت صعب بن سعد العشيرة

(7)

.

وأما قيس فهو أبو عمرو قيس بن مسلم الجدلي الكوفي العابد، سمع طارق بن شهاب ومجاهد وغيرهما، وعنه الأعمش ومسعر وغيرهما.

مات سنة عشرين ومائة

(8)

، وأهمله شيخنا في "شرحه".

وأما أبو العُمَيْس فهو بعين مهملة مضمومة ثم ميم مفتوحة ثم ياء مثناة تحت ساكنة، ثم سين مهملة، وهو عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الهذلي المستوردي الكوفي، أخو عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي.

= "الجرح والتعديل" 4/ 485 (2130)، "تهذيب الكمال" 13/ 341 - 343 (2950).

(1)

سيأتي برقم (3952) كتاب المغازي.

(2)

سيأتي برقم (7221) كتاب الأحكام، باب الاستخلاف.

(3)

برقم (49) كتاب الإيمان.

(4)

"سنن أبي داود"(1067).

(5)

"المجتبى" 1/ 172 - 173.

(6)

"سنن أبي داود" 1/ 644.

(7)

بجيلة بنت صعب بن علي بن سعد العشيرة ذكرها ابن عبد البر في "الاستيعاب" 1/ 308 (308).

(8)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 317، "التاريخ الكبير" 7/ 154 (691)، "الجرح والتعديل" 7/ 103 (588)، "تهذيب الكمال" 24/ 81 (4921).

ص: 126

سمع جمعًا من التابعين منهم: الشعبي وقيس، وعنه ابن إسحاق وهو تابعي وشعبة وخلق، وثَّقوه، مات سنة عشرين ومائة

(1)

.

وأما جعفر فهو أبو عون جعفر بن عون بن جعفر بن (عمرو)

(2)

بن حريث القرشي المخزومي الكوفي، سمع جمعًا من التابعين، منهم يحيى الأنصاري، وعنه ابن راهويه وغيره.

قَالَ ابن معين: ثقة. وقال أحمد: صالح، ليس به بأس. مات سنة ست، وقيل: سنة سبع ومائتين. قيل: عن سبع وتسعين وقيل: عن سبع وثمانين

(3)

.

وأما الحسن فهو أبو علي الحسن بن الصباح بن محمد البزار -آخره راء مهملة- الواسطي سكن بغداد، وكان من الثقات الخيار، صاحب سُنَّة، سمع وكيعًا وغيره، وعنه البخاري

(4)

، وروى الترمذي أيضًا عن رجل عنه، مات ببغداد سنة تسع وأربعين ومائتين

(5)

، قَالَه الكلاباذي وغيره

(6)

.

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 366، "التاريخ الكبير" 6/ 527 (3211)، "الجرح والتعديل" 6/ 372 (2054)، "تهذيب الكمال" 19/ 309 (3776).

(2)

في (ج): عمر.

(3)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 396، "التاريخ الكبير" 2/ 197 (2179)، "معرفة الثقات" للعجلي 1/ 270 (220)، "تهذيب الكمال" 5/ 70 (948).

(4)

ورد بهامش (ف) ما نصه: وأبو داود والترمذي، زاد صاحب "الكمال" النسائي، وهو ما في

لابن عساكر.

(5)

انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 3/ 19 (71)، "الثقات" 8/ 177، "تاريخ بغداد" 7/ 330 (3485)، "تهذيب الكمال" 6/ 191 (1236).

(6)

انظر: "الجمع بين رجال الصحيحين" لابن القيسراني 1/ 83.

ص: 127

وقال ابن عساكر وغيره: سنة ستين ومائتين. فعلى هذا تكون وفاته (بعد)

(1)

البخاري بأربع سنين.

الوجه الثاني: في ضبط الألفاظ الواقعة فيه:

"يَخْرُج". يجوز فيه ضم الياء وفتحها، والذرة -بفتح الذال وتشديد الراء- واحدة الذر المعروف، وهي أقل الأشياء الموزونات، قاله المهلب

(2)

، وهي هنا: التصديق الذي لا يجوز أن يدخله النقص، وما في البرة والشعيرة من الزيادة على الذرة إنما هو بزيادة الأعمال، وسيأتي ذَلِكَ أيضًا.

وقال عياض: الذر: النمل الصغير. وعن بعض نقلة الأخبار أنه الهباء الذي يظهر في شعاع الشمس مثل رءوس الإبر، ويروى عن ابن عباس: إذا وضعت كفك على التراب ثم نفضتها فما سقط من التراب فهو ذرة.

قَالَ: وحكي أن أربع ذرات خردلة، وقيل الذرة من ألف وأربعة وعشرين جزءًا من شعيرة، وقد صحفها شعبة فضم الذال وخفف الراء

(3)

.

والمعشر: سلف بيانه في قصة هرقل. والجمعة بضم الميم، وإسكانها، وفتحها، حكى الفتح الفراء والواحدي وغيرهما قالوا: لأنه يجمع الناس

(4)

كما يقال: رجل حطمة.

(1)

في (ف)، (ج): قبل، وهو خطأ فاحش، فالبخاري توفي سنة ست وخمسين ومائتين، فيكون الحسن بن الصباح قد مات بعده لا قبله على هذا القول.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 1/ 102.

(3)

"مشارق الأنوار" 1/ 268 - 269 مادة: ذرا.

(4)

"معاني القرآن" 3/ 156، "الوسيط" 4/ 296.

ص: 128

وقوله: (لاتخذنا ذَلِكَ اليوم عيدًا معناه: لعظمناه وجعلناه)

(1)

عيدًا لنا في كل سنة؛ لعظم ما يحصل فيه من كمال الدين.

وقول عمر رضي الله عنه: (قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ وَالْمَكَانَ الذِي نَزَلَتْ فِيهِ).

معناه: أنا لم نهمل هذا، ولا خفي علينا زمن نزولها ومكانها، ولا تركنا تعظيم ذَلِكَ اليوم والمكان:

أما المكان وهو عرفات فهو معظم (الحج)

(2)

الذي هو أحد أركان الإسلام.

وأما الزمان فيوم الجمعة ويوم عرفة، وهو يوم اجتمع فيه فضلان وشرفان، ومعلوم تعظيمنا لكل واحد منهما، فإذا اجتمعا زاد التعظيم، فقد اتخذنا ذَلِكَ اليوم عيدًا وأي عيد، فعظمناه وعظمنا مكان النزول، وهذا كان في حجة الوداع، وعاش صلى الله عليه وسلم بعدها ثلاثة أشهر.

ومعنى {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الفرائض والسنن واستقر الدين، وأراد الله تعالى قبض نبيه، وكمال الدين إنما يحصل بتمام الشريعة، فتصور الكمال يقتضي تصور النقصان وليس المراد: التوحيد، لوجوده قبل نزول الآية، فالمراد الأعمال، فمن حافظ عليها فإيمانه أكمل من إيمان من قصر.

وقوله: ("وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ") وفي الرواية الأخرى "من إيمان" قَالَ المهلب فيما نقله ابن بطال: المراد بالشعيرة والبرة والذرة: زيادة الأعمال التي يكمل بها التصديق؛ (لا أنها)

(3)

من نفس التصديق

(4)

،

(1)

من (ج).

(2)

من (ج).

(3)

في (ف): لأنها.

(4)

"شرح ابن بطال" 1/ 102.

ص: 129

وهذا موافق للرواية الأخرى في "الصحيح" أنه قَالَ بعد ذكره الذرة: "ثم يخرج من النار من لم يعمل خيرًا قط"

(1)

يعني غير التوحيد.

وقال غيره: يحتمل أن تكون الشعيرة وما بعدها من نفس التصديق؛

لأن قول: لا إله إلا الله لا ينفع حتى ينضم إليه تصديق القلب، والناس

يتفاضلون على قدر علمهم ومعاينتهم، فمن زيادته بالعلم قوله تعالى:

{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124].

ومن المعاينة قوله تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)} [التكاثر: 7] فجعل له مزية على علم اليقين، وهذا التأويل هو الصحيح المختار كما قَالَه النووي

(2)

.

الوجه الثالث: في فقهه:

وهو دال على ما ترجم البخاري له وهو زيادة الإيمان ونقصه، وقد سبق تقريره في أول كتاب الإيمان.

وفيه: دخول طائفة من عصاة الموحدين النار.

وفيه: أن أصحاب الكبائر من الموحدين لا يكفرون بفعلها ولا يخلدون في النار.

وفيه: أنه لا يكفي في الإيمان معرفة القلب دون النطق بكلمتي الشهادة ولا النطق من غير اعتقاد. وهذا مذهب أهل السنة في هذِه المسائل

(3)

.

(1)

"صحيح مسلم"(183/ 302) كتاب: الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية.

(2)

"شرح النووي على مسلم" 3/ 31.

(3)

ورد بهامش (ف) ما نصه: بلغ بقراءة الشيخ برهان الدين الحلبي على مؤلفه في

وسمعه الصفدي والبستاني والسحوري والعاملي

وابن المصنف والباسطي

والكرخي ....

ص: 130

‌34 - باب الزَّكَاةُ مِنَ الإِسْلَامِ

وَقَوْل الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} [البينة: 5].

46 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَصِيَامُ رَمَضَانَ". قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ". [1891، 2678، 6956 - مسلم: 11 - فتح: 1/ 106]

ثنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَصِيَامُ رَمَضَانَ". قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ. قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: والله لَا أَزِيدُ عَلَى هذا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ".

ص: 131

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا وفي الشهادات

(1)

عن إسماعيل كما ترى، وفي: الصوم

(2)

، وترك الحيل عن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل

(3)

.

وأخرجه مسلم هنا عن قتيبة عن مالك

(4)

، وعن يحيى بن أيوب وقتيبة عن إسماعيل به. وقال مسلم: في حديث يحيى: وقال صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه إن صدق"

(5)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم غير طلحة وهو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي.

أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأب السابع (كعب)

(6)

مثل الصديق، أسلمت أمه وهاجرت، شَهِد المشاهد كلها إلا بدرًا كسعيد بن زيد، وقد ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره فيها، وكان الصديق إذا ذكر أُحدًا قَالَ: ذَلِكَ يوم كله لطلحة.

(1)

سيأتي برقم (2678) باب: كيف يُسْتَحلف.

(2)

سيأتي برقم (1891) باب: وجوب صوم رمضان.

(3)

سيأتي برقم (6956) كتاب: الحيل.

(4)

مسلم (11/ 8) كتاب: الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.

(5)

مسلم (11/ 9) كتاب: الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.

(6)

من (ج).

ص: 132

وقد وهم البخاري في قوله: إن سعيد بن زيد ممن حضر بدرًا، وهو أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، والخمسة الذين أسلموا على يد الصديق، والستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.

وهو ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ووقاه بيده ضربة قصد بها فشلت، رماه مالك بن زهير يوم أحد، فالتقاها طلحة بيده عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابت خنصره فشلت، فقال حين أصابته الرمية: حس. فقال صلى الله عليه وسلم: "لو قَالَ: بسم الله لدخل الجنة"

(1)

والناس ينظرون.

وقيل: إنه جُرح في ذَلِكَ اليوم خمسًا وسبعين جراحة وشلت إصبعاه، وذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم نهض ليعلو صخرة وقد كان تترس وظاهر بين درعين، فلم يستطع، فجلس طلحة تحته فنهض به حتى استوى عليها، فقال صلى الله عليه وسلم:"أوجب طلحة حين فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم مافعل"

(2)

.

وسماه النبي صلى الله عليه وسلم: طلحة الخير وطلحة الجود.

روي له ثمانية وثلاثون حديثًا، اتفقا منها على حديثين، وانفرد البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة.

قتل يوم الجمل أتاه سهم لا يدرى من رماه واتهم به مروان، لعشر خلت من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين عن أربع وستين، وقيل:

(1)

رواه ابن سعد في "طبقاته" 3/ 217، الحاكم في "المستدرك" 3/ 369.

(2)

رواه الترمذي (1692)، وقال: وهذا حديث حسن غريب، وابن سعد في "طبقاته" 3/ 218، وأحمد 1/ 165، وأبو يعلى 2/ 33 (670)، والحاكم في "المستدرك" 3/ 373 - 374، وحسنه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"(1783).

ص: 133

اثنتين وستين. وقيل: ثمان وخمسين. (وقبره)

(1)

بالبصرة

(2)

.

روى عنه السائب بن يزيد الصحابي وجمع من التابعين، روينا عن عائشة مرفوعًا:"طلحة ممن قضى نحبه، وما بدلوا تبديلا"

(3)

.

فائدة:

طلحة في الصحابة جماعة، وطلحة بن عبيد الله (اثنان)

(4)

، هذا أحدهما، وثانيهما: التيمي

(5)

، وكان يسمى أيضًا: طلحة الخير، فأشكل على الناس.

فائدة:

قد أسلفنا نكتة في سماع جد مالك من طلحة في باب: علامات (المنافق)

(6)

، فراجعها.

(1)

في (ج): وقبر.

(2)

انظر ترجمته في:

"الطبقات الكبرى" 3/ 214 - 225، "فضائل الصحابة" 2/ 928 - 935، "التاريخ الكبير" 4/ 344 (3069)، "أسد الغابة" 3/ 85 (2625)، "تهذيب الكمال" 13/ 412 - 426، "الإصابة" 2/ 229 (4266). وأثر أبى بكر رواه الطيالسى 1/ 8 - 9 (6)، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 87.

(3)

رواه الترمذي (3740)، وابن ماجه (126)، وابن أبي عاصم في "السنة" 2/ 598 - 599 (1399)، والطبراني في "الكبير" 19/ 324 - 325 (739)، "الأوسط" 5/ 178 (5000)، والحاكم 2/ 415، قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث معاوية إلا من هذا الوجه. اهـ. وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3916).

(4)

في (ج): اسمان.

(5)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة" 3/ 90 (2626)، "الإصابة" 2/ 230 (4267).

(6)

في (ج): (المنافقين).

ص: 134

ثالثها:

هذا النجدي هو ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر

(1)

قاله القاضي

(2)

مستدلًّا بأن البخاري سماه في حديث الليث، يريد ما أخرجه في باب: القراءة والعرض على المحدث. عن شريك عن أنس قَالَ: بينما نحن جلوس في المسجد إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد. وفيه: ثم قَالَ: أيكم محمد؟ وذكر الحديث

(3)

. وقال فيه: وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر. فجعل حديث طلحة هذا وحديث أنس هذا له، وتبعه ابن بطال وغيره

(4)

.

وفيه نظر لتباين ألفاظهما ومساقهما كما نبه عليه القرطبي

(5)

، وأيضًا فابن إسحاق فمن بعده كابن سعد وابن عبد البر لم يذكروا لضمام غير حديث أنس

(6)

.

رابعها: في ألفاظه ومعانيه:

{حُنَفَاءَ} : في الآية -جمع: (حنيف)

(7)

. وهو: المائل، وقيل: المستقيم. والمراد هنا: المائل عن الشرك وغيره من أنواع الضلالة إلى الإسلام والهداية.

(1)

انظر ترجمته في: "الاستيعاب" 2/ 304 (1270)، "أسد الغابة" 3/ 57 (2568)، "الإصابة" 2/ 210 (4177).

(2)

"إكمال المعلم" 1/ 216.

(3)

سيأتي برقم (63) كتاب: العلم، باب: ما جاء في العلم ....

(4)

"شرح ابن بطال" 1/ 143.

(5)

"المفهم" 1/ 162 - 165.

(6)

"الطبقات" 1/ 299، "الاستيعاب" 2/ 304 - 305.

(7)

في (ف): حنيفة.

ص: 135

وقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] أي: دين الملة المستقيمة

(1)

. و (نجد): بلاد معروفة، وهو ما بين جَرْس وسواد الكوفة، وحدّه من الغرب الحجاز.

و (ثائر الرأس): منتفش شعر رأسه. و (نسمع) و (نفقه) -بالنون المفتوحة وبالياء المضمومة- روايتان، والنون أشهر وأكثر وعليها الاعتماد، والدَّوي: بفتح الدال على المشهور، وحكى صاحب "المطالع" ضمها أيضًا، ومعناه: بعده في الهوى وخلوه. أي: بحيث لا يفهم، ولهذا لما دنا فهم كلامه وأنه يسأل عن الإسلام.

و (إذا): للمفاجأة، و"تطَوَّع" بتشديد الطاء والواو على إدغام أحد التائين في الطاء، ومنهم من جوَّز تخفيف الطاء على الحذف، والأول هو المشهور.

ومعناه: إلا أن تفعله بطواعيتك. وفي ماضيه لغتان: تطوع، واطوَّع وكلاهما تفعل، إلا أن إدغام التاء في الطاء أوجب جلب ألف الوصل ليتمكن من النطق بالساكن، فأما المضارع للمخاطب فيجوز فيه: تطَّوَّع بالتشديد على الإدغام، وتتطوع بتائين من غير إدغام، وتطوع بالتخفيف على حذف إحدى التائين، وأي التائين هي المحذوفة فيه خلاف ليس هذا موضعه.

والفلاح: الفوز والبقاء. أي: يبقى في النعيم. والعرب تقول لكل من أصاب خيرًا: (مفلح)

(2)

. قَالَ ابن دريد: أفلح الرجل وأنجح: إذا أدرك مطلوبه

(3)

.

(1)

انظر: "زاد المسير" 9/ 199.

(2)

في (ج): أفلح.

(3)

"جمهرة اللغة" 1/ 555.

ص: 136

وقوله: (فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَن الإِسْلَامِ). أي: عن شرائعه، كما ذكره البخاري في كتاب: الصيام

(1)

، بخلاف حديث جبريل فإنه (سأله)

(2)

عن حقيقة الإسلام

(3)

، وإنما أجابه بها؛ لأنه كان مسلمًا، وكان صلى الله عليه وسلم فهم عنه أنه إنما سأل عن ما يتعين عليه فعله.

ويحتمل أنه سمَّى الأفعال إسلامًا كما سميت إيمانًا في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي: صلاتكم كما مضى في موضعه.

خامسها: في فوائده وأحكامه:

الأولى: ما ترجم له وهو كون الزكاة من الإسلام وموضع الدلالة قوله: (فإذا هو يسأل عن الإسلام). فذكر الصوم والصلاة والزكاة وهذا ظاهر في كونها من الإسلام، وهو والإيمان بمعنًى كما سلف. وكذا قوله تعالى:{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] فإنه إشارة إلى الصلاة والزكاة.

الثانية: أن (الصلوات)

(4)

الخمس واجبة على كل مكلف في كل يوم وليلة، وخرج بالمكلف الحائض والنفساء، وكذا الصبي والمجنون، والكافر مكلف بها على المذهب الصحيح أنهم مخاطبون بالفروع كما في التوحيد، وفيه قولٌ ثان: أنهم غير مخاطبين بها، وفيه قول ثالث: أنهم مخاطبون بالنواهي كالخمر والزنا؛ لأنه يصح منهم تركه دون

(1)

سيأتي برقم (1891) باب: وجوب صوم رمضان.

(2)

في (ج): سأل.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

في (ف): الصلاة.

ص: 137

الأوامر، ومحل الخوض في ذَلِكَ كتب الأصول

(1)

.

الثالثة: عدم وجوب قيام الليل، وهو إجماع في حق الأمة وكذا في حق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأصح

(2)

، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله وقدره.

الرابعة: عدم وجوب الوتر

(3)

والعيدين

(4)

، وهذا مذهب الجمهور فيهما.

وقال أبو حنيفة وطائفة: الوتر واجب

(5)

. وقال الإصطخري من الشافعية: صلاة العيد فرض كفاية

(6)

.

الخامسة: عدم وجوب صوم عاشوراء وغيره سوى رمضان

(7)

، وهذا مجمع عليه الآن، وكان فيه خلاف في صوم عاشوراء قبل رمضان، فقال أبو حنيفة وبعض أصحابنا: كان فرضًا. وقال أكثر أصحابنا: كان ندبًا.

(1)

انظر: "تخريج الفروع على الأصول" ص 98 - 99، "التمهيد" للإسنوي ص 126 - 127.

(2)

انظر "الإقناع في مسائل الإجماع" 2/ 511 - 512 (949 - 951).

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 224 - 225 (163)، و"عقد الجواهر الثمينة" 1/ 133، "روضة الطالبين" 1/ 328، "المقنع" 4/ 105.

(4)

انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 1/ 173، "البيان" 2/ 624 - 625، "المغني" 3/ 253.

وذهب الحنفية إلى وجوب صلاة العيد على من تجب عليه الجمعة. انظر: "الهداية" 1/ 92.

(5)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 224 - 225 (163)، "المحيط البرهاني " 2/ 476 - 477.

(6)

انظر: "البيان" 2/ 625.

(7)

انظر: "المحيط البرهاني" 3/ 362 - 363، و"عقد الجواهر الثمينة" 1/ 259 - 260، "المغني" 4/ 438 - 442.

ص: 138

السادسة: جواز قول: رمضان. من غير ذكر شهر، وسيأتي بسط ذَلِكَ في كتاب الصيام، حيث ذكره البخاري إن شاء الله تعالى.

(السابعة)

(1)

: أنه ليس في المال حق سوى الزكاة.

الثامنة: جواز الحلف بالله تعالى من غير استحلاف ولا ضرورة؛ لأن الرجل حلف هكذا بحضرته الشريفة ولم ينكر عليه، وقد سلف ما في هذِه المسألة من التفصيل في باب: أحب الدين إلى الله أدومه.

التاسعة: اختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا أن تَطَوَّعَ" فقال الشافعي وأصحابه وغيرهم ممن يقول لا تلزم النوافل بالشروع: هو استثناء منقطع (تقديره: لكن إن تطوعت فهو خير لك. وهؤلاء يقولون: من شرع في صوم تطوع أو صلاة تطوع استُحِب له إتمامها ولا يجب، بل يجوز قطعهما. وقال آخرون: هو استثناء متصل)

(2)

.

وهؤلاء يقولون: يلزم التطوع بالشروع؛ لأنه الأصل في الاستثناء، وقد قَالَ تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وبالقياس على حج التطوع وعمرته.

العاشرة: قيل: الفلاح في قوله: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ". راجع إلى قوله: (ولا أنقص). خاصة، والأظهر أنه راجع إليه وإلى الزيادة بمعنى أنه إذا لم يزد ولم ينقص كان مفلحًا؛ لأنه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه كان مفلحًا، وليس فيه أنه إذا أتى بزائد على ذَلِكَ لا يكون مفلحًا؛ لأن هذا مما يعرف بالضرورة، فإنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى.

(1)

من (ف).

(2)

ما بين المعقوفين ساقط من (ج).

ص: 139

الحادية عشرة: إن قُلْتَ: كيف قَالَ: (لا أزيد على هذا) وليس فيه جميع الواجبات ولا المنهيات ولا السنن المندوبات، وأقره الشارع وزاده بقوله:"أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"؟.

فالجواب: أنه جاء في رواية البخاري في أول كتاب الصيام زيادة توضح ذَلِكَ قَالَ: فَأَخْبَرَهُ صلى الله عليه وسلم بشَرَائِعِ الإِسْلَام. فقَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئًا، وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ

(1)

.

فعلى عموم قوله: بشرائع الإسلام وقوله: مما فرض الله. يزول الإشكال في الفرائض، وأما النوافل فيحتمل أن هذا كان قبل شرعها، ويحتمل أن المراد أنه لا يزيد في الفرض لتغيير صفته كأنه قَالَ: لا أصلي الظهر خمسًا. وهذا ضعيف جدًا، لأنه قَالَ -فيما أسلفناه-: لا أتطوع.

والجواب الصحيح أنه على ظاهره، وأنه أراد أنه لا يُصلي النوافل بل يحافظ على كل الفرائض. وهذا مفلح بلا شك وإن كانت مواظبته على ترك النوافل (مذمومة)

(2)

وترد بها الشهادة إلا أنه غير آثم بل هو مفلح ناج، وإن كان فاعل النوافل أكمل فلاحًا منه.

الثانية عشرة: لم يأت في هذا الحديث ذكر الحج ولا جاء ذكره في حديث جبريل عليه السلام من رواية أبي هريرة

(3)

، وكذا غيرهما من الأحاديث لم يذكر في بعضها الصوم ولم يذكر في بعضها الزكاة، وذكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس، ولم يذكر في بعضها الإيمان.

(1)

سيأتي برقم (1891) كتاب: الصيام، باب: وجوب صوم رمضان.

(2)

في (ج): مفهومة.

(3)

سيأتي قريبًا برقم (50) باب: سؤال جبريل النبي عن الإيمان

ص: 140

فتفاوتت هذِه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصًا (وإثباتًا وحذفًا)

(1)

.

والجواب: أن هذا ليس اختلافًا صادرًا من الشارع، وإنما هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر فاقتصر على حفظه فأداه ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وإن كان اقتصاره على ذَلِكَ يشعر بأنه الجميع، فقد بان بما أثبته (غيره)

(2)

من الثقات أن ذَلِكَ ليس بالجميع، وإن كان اقتصاره عليه كان لقصور ضبطه؛ ولهذا يختلف نقلهم القضية الواحدة كحديث جبريل، فإنه جاء في رواية عمر إثبات الحج، وفي رواية أبي هريرة حذفها.

وقصة النعمان بن قَوْقَل في "صحيح مسلم"

(3)

اختلفت الرواة فيها زيادة ونقصًا مع أن راويها واحد وهو جابر بن عبد الله رضي الله عنه، ثم لا يمنع هذا كله من ذكر هذِه الروايات في "الصحيح" لما تقرر من مذهب الجمهور أن زيادة الثقة مقبولة، ويحتمل أن الحج لم يكن فُرضَ بَعدُ، فإنه فرض سنة ست أو خمس على المشهور.

الثالثة عشرة: قوله صلى الله عليه وسلم: ("أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"). جاء في موضع آخر من البخاري ومسلم: "أفلح وأبيه إن صدق"

(4)

وفي أخرى: "أفلَحَ إِنْ صَدَقَ" أو: "دخل الجنة إن صدق"

(5)

.

(1)

من (ج).

(2)

من (ف).

(3)

مسلم (15/ 16) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان الذي يُدْخَل به الجنة وأن من تمسك بما أُمِرَ به دخل الجنة.

(4)

رواه مسلم (11/ 8) كتاب: الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.

(5)

سيأتي برقم (1891) كتاب: الصوم، باب: وجوب صوم رمضان.

ص: 141

وفي الجمع بين هذا وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفًا فليحلف بالله"

(1)

، وقوله:"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"

(2)

أوجه:

أصحها: أن هذا ليس حلفًا إنما هي كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المخلوف به ومضاهاته به الله تعالى.

ثانيها: أنه يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى. وهو بعيد؛ لأنه (ادعاءٌ للنسخ)

(3)

ولا يصار إليه إلا إذا تعذر التأويل وعلمنا التاريخ كما تقرر في فن الأصول وليس هنا واحدًا منهما.

ثالثها: أنه على حذف مضاف أي: ورب أبيه، فأضمر ذَلِكَ فيه. قَالَ البيهقي في "سننه": وغيره لا يُضمِر، بل يذهب فيه

(4)

. وسمعت بعض مشيختنا يجيب بجوابين آخرين:

أحدهما: أنه يحتمل أن يكون الحديث: أفلح والله. فقصر الكاتب اللامين فصارت: وأبيه.

ثانيهما: خصوصية ذَلِكَ بالشارع دون غيره، وهذِه دعوى لا برهان عليها، وأغرب القرافي حيث قَالَ: هذِه اللفظة وهي: "وأبيه" اختلف في

(1)

سيأتي برقم (2679) كتاب: الشهادات، باب: كيف يستحلف؟.

(2)

رواه مسلم (1646/ 4) كتاب: الإيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، والترمذي (1533)، والنسائي 7/ 4، وابن ماجه (2094)، وأحمد 2/ 7.

(3)

في (ج): ادعى النسخ.

(4)

كذا في (ف)، (ج)، والكلام ناقص، ونصه كما في "السنن الكبرى" 10/ 29: وغيره لا يُضْمر بل يذهب فيه مذهب التعظيم لأبيه.

ص: 142

صحتها، فإنها ليست في "الموطأ"، وإنما (فيه)

(1)

: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"

(2)

وهذا عجيب؛ فالزيادة ثابتة لا شك في صحتها ولا مرية.

الرابعة عشرة: صحة الاكتفاء بالاعتقاد من غير نظر ولا استدلال، لكنه يحتمل أن ذَلِكَ صح عنده بالدليل وإنما أشكلت عليه الأحكام.

الخامسة عشرة: استعمال الصدق في خبر المستقبل. وقال ابن قتيبة: الكذب مخالفة الخبر في الماضي، والخلف في مخالفته في المستقبل

(3)

.

فعلى هذا يكون الصدق في الخبر عن الماضي والوفاء في المستقبل، وهذا الحديث يرد عليه مع قوله تعالى:{ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].

السادسة عشرة: الرد على المرجئة؛ إذ شَرطَ في فلاحه أن لا ينقص من الأعمال والفرائض المذكورة.

(1)

في (ف): فيها.

(2)

"الموطأ" ص 126.

(3)

"أدب الكاتب" ص 28.

ص: 143

‌35 - باب اتِّبَاعُ الجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَانِ

47 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلِّي الَمنْجُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الَحسَنِ وَمُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنِ اتَبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجعُ مِن الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ". تَابَعَهُ عُثْمَانُ الُمؤَذِّنُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، نَحْوَهُ. [1324، 1323، 1325 - مسلم 945 - فتح: 1/ 108]

ثنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَلِيٍّ المَنْجُوفِيُّ، ثنَا رَوْحٌ، ثنَا عَوْفٌ، عَنِ الحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنِ اتَبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ".

تَابَعَهُ عُثْمَانُ المُؤَذِّنُ قَالَ: حَدَّثنَا عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، نَحْوَهُ.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في التعريف برواته غير من سلف، وهو أبو هريرة والحسن، وهو البصري.

وأما محمد فهو ابن سيرين وهو أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري، مولاهم البصري التابعي الجليل، أخو أنس ومعبد ويحيى وحفصة وكريمة أولاد سيرين، وسيرين مولى أنس من سبي عين التمر، وإذا أطلق ابن سيرين فهو محمد هذا، وهؤلاء الستة كلهم تابعيون.

ص: 144

ذكر أبو علي الحافظ: خالدًا بدل: كريمة قَالَ: وأكبرهم معبد وأصغرهم حفصة.

قُلْتُ: ومن أولاد سيرين أيضًا عمرة وسودة، قَالَ ابن سعد: أمهما أم ولدٍ كانت لأنس

(1)

. وذكر بعضهم من أولاده: أشعث أيضًا، فهؤلاء عشرة.

وروى (محمد، عن يحيى، عن أنس، عن أنس بن مالك)

(2)

حديثًا.

قَالَ ابن الصلاح: وهذِه غريبة عايا بها بعضهم فقال: ثلاثة إخوة يروي بعضهم عن بعض

(3)

. وكانه تبع الرامهرمزي فإنه ذكره في "فاصله" كذلك وزاد: ثلاثة إخوة (فقهاء)

(4)

.

وزاد ابن طاهر أخًا رابعًا فيه وهو: معبد بين يحيى وأنس، فاستفد ذَلِكَ. وقد أوضحته في "المقنع في علوم الحديث"

(5)

.

كَاتَبَ أنسُ سيرينَ على عشرين ألف درهم فأدَّاها وعتق. وأم محمد وإخوته صفية مولاة الصديق، طيبها ثلاث من أمهات المؤمنين ودَعَوْنَ لها، وحضر إِمْلاكها ثلاثة عشر بدريًّا، منهم: أبي بن كعب يدعو وهم يُؤَمِّنُون.

سمع جمعًا من الصحابة وخلقًا من التابعين. قَالَ هشام بن حسان: أدرك ثلاثين صحابيًّا. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وهو أكبر من

(1)

"الطبقات الكبرى" 7/ 139.

(2)

في (ف): (محمد بن يحيى، عن أنس بن مالك). وهو خطأ، والمثبت من (ج)، وهو الصواب كما سيتضح مما يلي.

(3)

"علوم الحديث" ص 312.

(4)

"المحدث الفاصل" ص 624 (904)، وما بين القوسين من (ف).

(5)

"المقنع" 2/ 525 - 528.

ص: 145

أخيه أنس، وعنه خلق من التابعين: الشعبي وقتادة وأيوب وغيرهم. مات سنة عشر ومائة بعد الحسن بمائة يوم

(1)

.

وقد أسلفنا أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، فلهذا قرنه البخاري بمحمد لأنه سمع منه، فالاعتماد عليه إذن.

وأما عوف فهو أبو سهل بن أبي جميلة بندويه الأعرابي -ولم يكن أعرابيًّا- العبدي الهَجَري البصري. سمع (جمعًا)

(2)

من كبار التابعين منهم: الحسن، وعنه الأعلام: الثوري وشعبة وغيرهما. وثقته مجمع عليها. وُلد سنة تسع وخمسين، ومات. سنة ست، وقيل: سبع وأربعين ومائة. ونسب إلى (التشيع)

(3)

.

وأما روح (ع) فهو أبو محمد روح بن عبادة بن العلائي حسان بن عمرو بن مرثد القيسي البصري. سمع خلقًا من الأعلام أشعث ومالكًا وغيرهما، وعنه أحمد وغيره من الأعلام.

قَالَ الخطيب: كان كثير الحديث، وصنف الكتب في السنن والأحكام والتفسير، وكان ثقة. وقال ابن المديني: نظرت لروح في أكثر من مائة ألف حديث، كتبت منها عشرة آلاف. وقال يحيى بن معين: لا بأس به صدوق. مات سنة خمس ومائتين

(4)

.

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 193، "التاريخ الكبير" 1/ 90 (251)، "ثقات ابن حبان" 5/ 348 - 349، "تهذيب الكمال" 25/ 344، "سير أعلام النبلاء" 4/ 606 (246).

(2)

في (ج): خلقا.

(3)

في (ج): التشييع، وانظر ترجمته في:"طبقات ابن سعد" 7/ 258، "ثقات ابن حبان" 7/ 296، "تهذيب الكمال" 22/ 437 (4545).

(4)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 3/ ترجمة 1052، "تاريخ بغداد" 8/ 401، "سير أعلام النبلاء" 9/ 402، "تهذيب الكمال" 9/ 238 (1930) ..

ص: 146

وأما أحمد شيخ البخاري فهو أبو بكر أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف -بفتح الميم ثم نون ساكنة ثم جيم ثم فاء- السدوسي المنجوفي البصري، سمع ابن مهدي وغيره، وعنه البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم. مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين

(1)

.

وأما عثمان المذكور في المتابعة فهو أبو عمرو عثمان بن الهيثم بن جهضم بن عيسى بن حسان بن المنذر البصري العبدي مؤذن جامعها، سمع عوفًا وغيره، وعنه الذهلي وآخرون، وروى البخاري عنه في مواضع، وروى هو والنسائي عن رجل عنه، وروى البخاري عن محمد غير منسوب وهو الذهلي عنه، مات في رجب سنة عشرين ومائتين

(2)

.

الوجه الثاني:

قوله: (تَابَعَهُ عُثْمَانُ) أي: تابع روحًا في الرواية عن عوف، فالهاء عائدة على روح، فالحديث من رواية عثمان رباعي، ومن رواية المنجوفي خماسي، وذكر هذا أولًا؛ لأنه أتم سياقًا؛ ولهذا قَالَ: تابعه عثمان نحوه.

الوجه الثالث: في ألفاظه ومعانيه:

الجنازة -بفتح الجيم وكسرها-: اسم للميت وللسرير أيضًا، والكسر أفصح، وقيل: بالفتح للميت وبالكسر للنعش وعليه الميت.

وقيل: عكسه. مشتقة من جنز إذا ستر.

(1)

انظر ترجمته في: "تهذيب الكمال" 1/ 365 (58).

(2)

انظر: "التاريخ الكبير" 6/ الترجمة 2330، "ثقات ابن حبان" 8/ 453، "تهذيب الكمال" 19/ 502 (3869).

ص: 147

ومعنى: اتبعها: مشى معها وحضرها. يُقال: تبعت الشيء تبعًا وتباعة -بفتح التاء- وتبع وأتْبَع (واتَّبع)

(1)

واحد، وقيل: أتْبعه: لحقه ومشى خلفه، واتَّبعه: حذا حذوه.

وتقدم تفسير قوله: ("إيمانًا واحتسابًا")، وقوله:("ويُفْرَغ") هو بضم أوله وفتح ثالثه وهو أعم.

والقيراط: اسم لمقدار من الثواب يقع على القليل والكثير، بيَّن في هذا الحديث أنه مثل أُحُد، وفي رواية للحاكم:"القيراط أعظم من أُحُد" ثم قَالَ: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه

(2)

.

وفي رواية للحاكم من حديث أُبي بن كعب مرفوعًا: "والذي نفس محمد بيده لهو في الميزان أثقل من أحد"

(3)

في إسناده الحجاج بن أرطاة، (حالته)

(4)

معلومة.

وفي "السنن الصحاح المأثورة"

(5)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "من أوذن بجنازة فأتى (أهلها)

(6)

فعزاهم كتب الله له قيراطًا، فإن شيَّعها كتب الله له قيراطين، فإن صلى عليها كتب الله له ثلاثة قراريط، فإن شهد

(1)

من (ف).

(2)

"المستدرك" 3/ 510 - 511.

(3)

الحديث ليس في "المستدرك"، وهو بنصه عند أحمد 5/ 131 من حديث أبي بن كعب، وكذا عزاه لأحمد المصنف في "شرح العمدة" 4/ 530، ورواه ابن ماجه (1541)، والضياء في "المختارة"(1167)، (1170) وليس فيه موضع الشاهد، والحديث فيه الحجاج بن أرطاة وحالته معروفة كما قال المصنف.

قال البوصيري في "زوائد ابن ماجه"(514): إسناد حديث ابي بن كعب ضعيف لتدليس حجاج بن أرطاة.

(4)

في (ج): حاله.

(5)

للحافظ ابن السكن.

(6)

في (ف): لها.

ص: 148

دفنها كتب الله له أربعة قراريط. القيراط مثل أحد"

(1)

.

الوجه الرابع: في أحكامه وفوائده:

الأولى: الحث على الصلاة على الميت واتباع جنازته وحضور دفنه. وسيأتي بسط هذا كله في موضعه إن شاء الله تعالى وقدره.

قَالَ أبو الزناد: حضَّ الشارع على التواصل في الجنازة بقوله: "صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك"

(2)

، و"لا تقاطعوا ولا تدابروا"

(3)

وعلى التواصل بعد الموت بالصلاة والتشييع إلى القبر والدعاء له.

قُلْتُ: والتشييع من حقوق المسلم على المسلم. كما أخرجه الترمذي من حديث (

)

(4)

: "للمسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمِّته إذا عطس، ويعوده إذا

(1)

رواه ابن حبان في "المجروحين" 3/ 40 - 41 مرفوعًا.

ورواه أبو يعلى في "مسنده" 11/ 336 (6453) موقوفًا على أبي هريرة بألفاظ مختلفة وإسنادهما ضعيف؛ لضعف معدي بن سليمان، ومعدي بن سليمان قال فيه ابن حبان: كان ممن يروي المقلوبات عن الثقات، والملزقات عن الأثبات لا يجوز الاحتجاج به.

وقال أبو زرعة: واهي الحديث، يحدث عن ابن عجلان بمناكير. وضعفه النسائى.

انظر: "الجرح والتعديل" 8/ 438 (1997)، "التقريب"(6788).

(2)

رواه أحمد 4/ 148، 158، والطبراني 17/ 270 (740)، وابن عدي في "الكامل" 6/ 281، والحاكم 4/ 161 - 162، وقال الهيثمي في "المجمع" 8/ 188: رواه أحمد والطبراني وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات. وصححه الألباني في "الصحيحة"(891).

(3)

سيأتي برقم (6065) كتاب: الأدب، باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ورواه مسلم (2559/ 24) كتاب: البر والصلة، باب: تحريم التحاسد

(4)

بياض في (ج)، (ف) بمقدار كلمة قد تكون اسم راوي الحديث وهو عليٌّ.

ص: 149

مرض، ويشيع جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه"

(1)

.

الثانية: القيراط الأول يحصل بالصلاة إذا انفردت، فإن ضُمّ إليها اتِّباعه وحضوره حتى يفرغ من دفنه حصل له قيراط ثان.

ولا يقال: يحصل بالصلاة مع الدفن ثلاثة كما قد يتوهم من ظاهر بعض الأحاديث، فالمطلق والمجمل محمول على هذا المصرح، وممن صرح بحصولهما فقط أبو الحسن علي بن عمر القزويني

(2)

وابن الصباغ، من أصحابنا.

قَالَ -أعني: ابن الصباغ-: وأما رواية: "ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان"

(3)

(فمعناها)

(4)

: فمن تبعها حتى تدفن فله تمام قيراطين بالمجموع، قَالَ: ونظيره قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 9 - 10]، (أي: تمام أربعة)

(5)

. ثم قال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}

(6)

.

(1)

الترمذي (2736)، ورواه ابن ماجه (1433)، والدارمي 3/ 1720 (2675) وقال الألباني في "صحيح ابن ماجه" (1179): صحيح دون زيادة "ويحب له .. " وهي ثابتة في حديث آخر.

(2)

هو الإمام العارف شيخ العراق أبو الحسن عليّ بن عمر بن محمد، المعروف بابن القزويني البغدادي الحربي الزاهد. مات ابن القزويني في ليلة الأحد لخمس خلون من شعبان سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.

انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" 12/ 43، "سير أعلام النبلاء" 17/ 609 - 613، "طبقات الشافعية الكبرى" 5/ 260 - 266.

(3)

سيأتي برقم (1323) كتاب: الجنائز، باب: فضل اتباع الجنائز، ورواه مسلم (945/ 52) كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة.

(4)

في (ف): فمعناه.

(5)

من (ف).

(6)

انظر كلام ابن الصباغ في "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي 5/ 265 - 266.

ص: 150

الثالثة: في (الدفن الذي يحصل به)

(1)

القيراط الثاني وجهان:

أصحهما: بالفراغ منه. أي: من تسوية القبر، والثاني: يحصل إذا ستر الميت في القبر باللبن وإن لم يُلْق عليه التراب.

وفي وجه ثالث بعيد أنه يحصل بمجرد الوضع في اللحد وإن لم يلق عليه التراب، ورواية مسلم:"حتى يوضع في اللحد"

(2)

تدل عليه، لكنها تؤول بالفراغ من الدفن جمعًا بين الروايتين، وسيكون لنا عودة -إن شاء الله تعالى- إلى هذا الموضع في بابه.

الرابعة: الحديث (دلَّ)

(3)

على أن حصول القيراطين إذا اتَّبعها وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ منها، ومن سبقها إلى الصلاة أو إلى القبر فأجره دون ذَلِكَ؛ لأنه ليس معها

(4)

. وكره أشهب اتِّباعها والرجوع قبل الصلاة.

الخامسة: حكى ابن عبد الحكم عن مالك أنه لا ينصرف بعد الدفن إلا بإذن، وإطلاق هذا الحديث وغيره يخالفه.

(1)

من (ج).

(2)

(945) كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها.

(3)

في (ج): دال.

(4)

وجد بهامش (ف) تعليق نصه: قال الكرماني: وهذا -يعني القيراط- لا يحصل من الصلاة فقط بل لابد أن يكون معه ومتبعًا له بقرينة (يرجع)، إذ الرجوع عنه مسبوق بالذهاب معه، أو بقرينة ما تقدم.

ثم قال عن النووي: في الحديث تنبيه على أن القيراط الثاني مقيد لمن اتبعها وكان معها في جميع الطريق حتى تدفن، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده ومكث حتى جاءت الجنازة، وحضر الدفن لم يحصل له القيراط الثاني، وكذا لو حضر الدفن ولم يصل أو تبعها ولم يصل فليس في الحديث حصول القيراط له، إنما جعل القيراط لمن تبعها بعد الصلاة، لكن له أجر في الجملة، والله أعلم. انتهى. انظر:"البخاري بشرح الكرماني" 1/ 185 - 186، وانظر:"مسلم بشرح النووي" 7/ 14.

ص: 151

السادسة: قد يستدل بلفظ الاتباع من يرى أن المشي وراء الجنازة أفضل من أمامها، وهو مذهب أبي حنيفة

(1)

، والجمهور على خلافه، وبه قَالَ باقي الأئمة الأربعة

(2)

، وقال الثوري وطائفة: هما سواء

(3)

.

ولا فرق عندنا بين الراكب والماشي، خلافًا للثوري، حيث قَالَ: إن الراكب يكون خلفها

(4)

. وتبعه الرافعي في "شرح المسند"

(5)

، وكانه قلد الخطابي؛ فإنه كذا ادعى

(6)

.

وفيه حديث صححه الحاكم على شرط البخاري من حديث المغيرة بن شعبة

(7)

، وقال به من المالكية أيضًا أبو مصعب

(8)

.

السابعة: الحديث دالٌّ على أن الثواب المذكور إنما يحصل لمن تبعها إيمانًا واحتسابًا، فإنّ حضورها على ثلاثة أقسام: احتساب، ومكافاة، ومخافة.

والأول: هو الذي يجازى عليه الأجر ويحط الوزر، والثاني: لا يبعد ذَلِكَ في حقه، والثالث: الله أعلم بما فيه.

الثامنة: إنما كان الجزاء بالقيراط دون غيره؛ لأنه أقلُّ مقابلٍ عادةً، وإنما خص بأُحُدٍ؛ لأنه أعظم جبال المدينة، والشارع كان يحبه وهو يحبه.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 404، "المحيط البرهاني" 3/ 7.

(2)

انظر: "الذخيرة" 2/ 465، و"البيان" 3/ 90 - 91، و (المغني" 3/ 397.

(3)

انظر: "التمهيد" 3/ 91.

(4)

انظر: "البيان" 3/ 90 - 91.

(5)

"شرح مسند الشافعي" حديث (1615).

(6)

"معالم السنن" 1/ 268.

(7)

"المستدرك" 1/ 363 ونصه: "الراكب خلف الجنازة، والماشي قريبًا منها، والطفل يصلى عليه".

(8)

انظر: "الذخيرة" 2/ 465 - 466.

ص: 152

التاسعة: وجوب الصلاة على الميت ودفنه وهو إجماع.

العاشرة: الحض على (الاجتماع)

(1)

لهما والتنبيه على عظم ثوابهما وهي مما خصت بها هذِه الأمة، وفيه غير ذَلِكَ مما أوضحته في "شرح العمدة"

(2)

فراجعه منه.

(1)

في (ج): الإجماع.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 4/ 539.

ص: 153

‌36 - باب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ:

مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذَّبًا.

وَقَالَ ابن أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ. وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ؛ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. [فتح: 1/ 109]

48 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ: سَأَلْت أَبَا وَائِلٍ عَنِ الُمرْجِئَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ". [6044، 7076 - مسلم: 64 - فتح: 1/ 110]

49 -

أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْن جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ:"إِنِّي خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَانٌ، وَفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُون خَيْرًا لَكُمُ، التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالْخَمْسِ". [2023، 6049 - فتح: 1/ 113]

المراد بالحبط: نقصان الإيمان وإبطال بعض العبادات لا الكفر، فإن الإنسان لا يكفر ويخرج عن الملة إلا بما يعتقده أو يفعله عالمًا بأنه يوجب الكفر.

ص: 154

وأما حديث: "الشرك فيكم أخفي من دبيب النمل"

(1)

المراد به: الرياء لا الكفر، كما نبه عليه ابن بطال

(2)

.

قَالَ البخاري رحمه الله:

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذَّبًا. وَقَالَ ابن أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كلّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُول: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائيلَ.

وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِن، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِق. وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لِقَوْلِه تَعَالَى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .

حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ، ثنَا شعْبَة، عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ

عَنِ المُرْجِئَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سِبَابُ

المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ".

حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، ثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يُخْبِرُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ:"إِنِّي خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ، وَإِنَّهُ تَلَاحَى فُلَان وَفُلَان فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمُ، التَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ وَالخَمْسِ".

(1)

رواه البزار كما في "كشف الأستار"(3566)، الحاكم في "المستدرك" 2/ 291، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو نعيم في "الحلية" 9/ 253، وقال الهيثمي في "المجمع" 10/ 223: رواه البزار وفيه عبد الأعلى بن أعين وهو ضعيف.

(2)

"شرح ابن بطال" 1/ 112، 113.

ص: 155

الكلام عَلَى ذَلِكَ من وجوه:

الأول: في تخريج هذِه الآثار التي ذكرها البخاري معلقة.

أما أثر إبراهيم فأخرجه أبو القاسم اللالكائي في "سننه" بإسناد جيد عن القاسم بن جعفر. (أنا)

(1)

محمد بن أحمد بن حماد، ثنا العباس بن عبد الله، ثنا محمد بن يوسف، عن سفيان، عن أبي حيان، عن إبراهيم به

(2)

.

وأما أثر ابن أبي مليكة فأخرجه (

)

(3)

. وأما أثر الحسن فأخرجه الفريابي عن قتيبة، ثنا جعفر بن سليمان، عن المعلى بن زياد: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن

(4)

، وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق.

قَالَ: وحَدَّثنَا أبو قدامة عبيد الله بن سعيد، ثنا مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن الحسن: والله ما أصبح ولا أمسى مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه.

وثنا عبد الأعلى بن حماد، ثنا حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد أن الحسن كان يقول: إن القوم لما رأوا هذا النفاق يغول الإيمان لم يكن لهم هَمٌّ غير النفاق.

(1)

في (ف): أبنا.

(2)

"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" 4/ 929 (1580).

(3)

بياض بالأصل، والتعليق وصله ابن أبي خيثمة في "التاريخ الكبير" 1/ 221 (651)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(688).

(4)

رواه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" 2/ 634 (687).

ص: 156

وحَدَّثنَا هشام بن عمار، ثنا أسد بن موسى، عن أبي الأشهب، عن الحسن: لما ذُكِرَ أن النفاق يغول الإيمان لم يكن شيء أخوف عندهم منه.

وثنا هشام، ثنا أسد بن موسى، ثنا محمد بن سليمان قَالَ: سأل أبان الحسن فقال: تخاف النفاق؟ (قال)

(1)

: وما يؤمنني وقد خافه عمر بن الخطاب.

وثنا (شيبان، ثنا أبو الأشهب)

(2)

، عن طريف قَالَ: قُلْتُ للحسن: إن ناسًا يزعمون ألا نفاق أو لا يخافون (النفاق)

(3)

شك أبو الأشهب فقال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إليَّ من طلاع الأرض ذهبًا

(4)

.

الوجه الثاني:

الحديث الأول أخرجه البخاري هنا كما ترى، وأخرجه مسلم هنا أيضًا عن محمد بن بكار وعون بن سلام قالا: ثنا محمد بن طلحة، وثنا محمد بن المثنى، (ثنا غندر)

(5)

، ثنا شعبة، وثنا ابن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا سفيان، كلهم عن زبيد، عن أبي وائل

(6)

.

(1)

من (ج).

(2)

في (ف): شهاب بن الأشهب.

وفي (ج): شهاب ثنا ابن الأشهب. وكلاهما خطأ والمثبت هو الصواب كما في "صفة المنافق".

(3)

من (ج).

(4)

انظر هذِه الآثار في "صفة المنافق" للفريابي ص 71 - 73.

(5)

في (ف)، (ج): وثنا غندر، وهو خطأ والمثبت من "صحيح مسلم".

(6)

برقم (64) كتاب: الإيمان، باب: بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".

ص: 157

والحديث الثاني أخرجه البخاري هنا عن قتيبة كما سقناه وفي الصوم

(1)

عن أبي موسى، عن خالد بن الحارث، وفي الأدب

(2)

عن مسدد، عن بشر بن المفضل ثلاثتهم عن حميد به.

الوجه الثالث: في التعريف برواتهما:

وقد سلف منهم التعريف بعبد الله، وهو ابن مسعود، وعبادة وأنس وشعبة وإسماعيل بن جعفر وقتيبة.

وأما أبو وائل الراوي عن عبد الله فهو شقيق بن سلمة الأسدي، أسد خزيمة، كوفي تابعي، أدرك زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، قَالَ: أدركت سبع سنين من سني الجاهلية.

وقَالَ: كنت قبل. مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشر سنين أرعى إبلًا لأهلي.

وسمع عمر بن الخطاب وعثمان وعليًّا وابن مسعود وعمارًا وغيرهم من الصحابة والتابعين، وعنه خلق من التابعين وغيرهم.

وأجمعوا على جلالته وصلاحه وورعه وتوثيقه، وهو من أجَلِّ أصحاب ابن مسعود، وكان ابن مسعود يثني عليه، مات سنة اثنتين وثمانين على المحفوظ، وقال الواقدي وأبو نعيم: في خلافة عمر بن عبد العزيز. وفي "الكمال" أنه توفي سنة سبع وتسعين -وعلى سبع عَلامَةُ إِصْلاحٍ- وقال النووي في (شرحه)

(3)

في القطعة التي (له)

(4)

على هذا الكتاب: مات سنة مائة.

(1)

سيأتي برقم (2023) كتاب: فضل ليلة القدر، باب: رفع معرفة ليلة القدر؛ لتلاحي الناس.

(2)

سيأتي برقم (6049) باب: ما ينهى من السباب واللعن.

(3)

من (ج).

(4)

من (ف).

ص: 158

وقيل: سنة تسع وتسعين، وهو ماش على قول الواقدي وأبي نعيم السالفين، فإن عمر بن عبد العزيز مات سنة إحدى ومائة في رجب.

وقيل: سنة اثنتين ومائة، وكانت خلافته سنتين ونصفًا. وقيل: سنتين وخمسة أشهر وخمسة عشر يومًا

(1)

.

وأما زُبَيد الراوي عنه فهو -بزاي مضمومة ثم باء موحدة ثم مثناة تحت- بن الحارث بن عبد الكريم أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الله اليامي بمثناة تحت، جد القبيلة، بطن من همدان- ويقال: الأيامي الكوفي، روى عن أبي وائل وجمع من التابعين، وعنه: الأعمش وغيره من التابعين، وجلالته متفق عليها، مات سنة اثنتين وعشرين ومائة

(2)

.

فائدة:

في الصحيحين زُبيد بضم الزاي ثم موحدة إلا هذا، كما سلف التنبيه عليه في الفصول السالفة.

وأما زبيد بن الصلت

(3)

: فليس له ذكر فيهما، ذاك في "الموطأ".

وأما محمد (خ. م. د) بن عَرْعَرة الراوي عن شعبة فهو بفتح العينين المهملتين، وبالراء المكررة الأولى ساكنة، وهو أبو إبراهيم، ويقال: أبو عبد الله محمد بن عرعرة بن البِرِند -بموحدة ثم راء مكسورتين، ويقال بفتحهما، والأول أصح وأشهر، ثم نون ثم دال مهملة-

(1)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 96، "التاريخ الكبير" 4/ 245 (2681)، "تهذيب الكمال" 12/ 548 (2767).

(2)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 309، "التاريخ الكبير" 3/ 450 (1499)، "الجرح والتعديل" 3/ 623 (2818)، "تهذيب الكمال" 9/ 289 (1957).

(3)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 3/ 447 (1496)، "ثقات ابن حبان" 4/ 270.

ص: 159

(ابن النعمان)

(1)

القرشي السامي -بالسين المهملة- (ولد)

(2)

سامة بن لؤي بن غالب البصري، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين عن خمس وسبعين سنة.

قَالَ شيخنا قطب الدين في "شرحه": انفرد به البخاري عن مسلم.

قُلْتُ: لا، فقد روى له معه، وكذا أبو داود. كما نبه عليه الحافظ جمال الدين المزي في "تهذيبه"

(3)

.

وأما حميد الراوي عن أنس فهو أبو عبيدة حميد بن أبي حميد تِير -ويقال: تِيرويه، بكسر المثناة فوق. ويقال: غير ذَلِكَ- الخزاعي البصري مولى طلحة الطَّلْحات، سمع أنسًا وغيره من التابعين، وعنه يحيى الأنصاري وغيره من الأعلام.

وحميد هذا هو الطويل (تمييزًا له)

(4)

، قيل: كان قصيرًا طويل اليدين، فقيل له ذَلِكَ. وقال الأصمعي: لم يكن بذاك الطويل لكن كان في جيرانه رجل يقال له: حميد القصير. فقيل: حميد الطويل تمييزًا له.

وقال البخاري عن الأصمعي: رأيتُه ولم يكن بطويل، ولكن كان طويل اليدين. مات سنة ثلاث وأربعين ومائة عن خمس وسبعين سنة.

وقيل: سنة اثنتين وأربعين. وقيل: سنة أربعين

(5)

.

(1)

من (ج).

(2)

في (ف): وله.

(3)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 7/ 305، "التاريخ الكبير" 1/ 203 (628)، "الجرح والتعديل" 8/ 50 (230)، "تهذيب الكمال" 26/ 108 (5463).

(4)

من (ج).

(5)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 7/ 252، "التاريخ الكبير" 2/ 342 (2704)، "الجرح والتعديل" 3/ 219 (961)، "تهذيب الكمال" 355/ 7.

ص: 160

فصل:

وقع في أوائل الباب ذكر إبراهيم التيمي وعبد الله بن أبي مليكة والحسن. أما إبراهيم فهو ابن يزيد بن شريك التيمي -تيم الرباب- الكوفي أبو أسماء. روى عن أنس وغيره، وعنه الثوري وغيره، قتله الحجاج بن يوسف، وقيل: مات في سجنه لما طلب الإمام إبراهيم النخعي فوقع الرسول به فأخذه وحبسه، فقيل له: ليس إياك أراد، فقال: أكره أن أدفع عن نفسي، وأكون سببًا لحبس رجل مسلم بريء الساحة فصبر في السجن حتى مات.

وثقه يحيى بن معين، وقال أبو زرعة: ثقة مرجئ قتله الحجاج.

وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ومن غرائبه ما رواه الأعمش عنه: إني لأمكث ثلاثين يومًا لا آكل. مات سنة اثنتين وتسعين ولم يبلغ أربعين سنة

(1)

.

فائدة:

تيم الرباب: بكسر الراء، قَالَ الحازمي: وهو تيم بن عبد مناة بن ود بن طابخة، وقال معمر بن المثنى: هو ثور وعدي وعكل ومزينة بنو عبد مناة وضبة بن ود، قيل: سموا به، لأنهم غمسوا أيديهم في رب وتحالفوا عليه.

قَالَ الحازمي: هذا قول ابن الكلبي، وقال غيره: سموا به؛ لأنهم ترببوا، أي: تحالفوا على بني سعد بن زيد مناة.

(1)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 285، "الجرح والتعديل" 2/ 145 (474)، "تهذيب الكمال" 2/ 232 (264).

ص: 161

وأما ابن أبي مليكة فهو عبد الله بن (عبيد الله)

(1)

بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان بن (عمر)

(2)

بن كعب بن تيم بن مرة القرشي، كان قاضيًا لابن الزبير ومؤذنًا. جلالته متفق عليها. سمع العبادلة، ومات سنة سبع عشرة ومائة

(3)

. وأما الحسن فهو البصري، وقد تقدم حاله

(4)

.

الوجه الرابع:

فيما فيه من المبهمات: الرجلان المذكوران في قوله: (فتلاحى رجلان). مكثت مدة فلم أعثر على من سماهما إلى أن رأيت ابن دحية في كتابه "العَلَم المشهور". قَالَ: هما كعب بن مالك وعبد الله بن أبي حدرد.

قُلْتُ: وحديثهما ذكره البخاري في الخصومات

(5)

وغيره كما ستعلمه.

الوجه الخامس: في ألفاظه ومعانيه:

معنى قول إبراهيم التيمي أنه خشي أن يكون قصر في العمل، وكذا ينبغي أن تغلب الخشية المؤمن، كما قَالَ الحسن: ما خافه إلا مؤمن.

وقد ذم الله تعالى من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصر في

عمله. فقال: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ

(1)

في (ف): عبيد.

(2)

في (ج): عمرو.

(3)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 5/ 472، "التاريخ الكبير" 5/ 137 (412)، "تهذيب الكمال" 15/ 256 (3455).

(4)

سبقت ترجمته في حديث (31).

(5)

سيأتي برقم (2418) باب: كلام الخصوم بعضهم في بعض.

ص: 162

{تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف:2 - 3]. وهذا على المختار في ضبط قوله: (مكذبًا) أنه بكسر الذال، وقد ضبط بفتحها. ومعناه: خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفًا قولي ويقول: لو كنت صادقًا ما فعلت هذا الفعل.

ومعنى قول ابن أبي مليكة عن الصحابة: (أنهم)

(1)

خافوا أن يكونوا في جملة من داهن ونافق. قَالَ ابن بطال: وإنما خافوا؛ لأنهم طالت أعمارهم حتى رأوا من التغير ما لم يعهدوه ولم يقدروا على إنكاره، فخافوا أن يكونوا داهنوا أو نافقوا

(2)

.

وروي عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] فقال: "هم الذين يُصلُّون ويصومون ويتصدقون ويَفْرَقون أن لا تقبل منهم"

(3)

.

وقال بعض السلف في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] أعمال كانوا يحسبونها (حسنات)

(4)

بُدِّلت سيئات وقوله: (ما منهم من يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل) هو على ما تقدم أن الإيمان يزيد وينقص، (فإنّ)

(5)

إيمان جبريل وميكائيل أكمل من إيمان آحاد الناس خلافًا للمرجئة.

وقول الحسن: (مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ). يعني: الله تعالى، وقد قَالَ تعالى:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] وقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ

(1)

من (ج).

(2)

"شرح ابن بطال" 1/ 109.

(3)

رواه الترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، والحميدي 1/ 298 (277)، وأبو يعلى 8/ 315 (4917)، وصححه الألباني في "الصحيحة"(162).

(4)

من (ج).

(5)

في (ف). وأن.

ص: 163

{جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46] وقال: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] ونظائره كثيرة. والسب في اللغة: الشتم والتكلم في العرض بما يعيبه

(1)

. والفسق: الخروج لغة، وشرعًا: الخروج عن الطاعة

(2)

.

وقوله: ("وقتاله كفر") لابد من تأويله فإن قتاله بغير حق لا يخرجه عن الملة عند أهل الحق ولا يكفر به، وفيه أقوال:

أصحها: أن المراد به (كفران)

(3)

الحقوق، فإن للمسلم حقوقًا على أخيه كما تظاهرت به الأحاديث الصحيحة منها:"كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"

(4)

الحديث. فإذا قاتله فقد كفر تلك الحقوق.

ثانيها: أن المراد به: من استحله (من غير)

(5)

موجب ولا تأويل.

أشار إليه الخطابي

(6)

وهو محتمل على بُعد، والأصح الأول وبه يحصل الزجر عن انتهاك حرمات المسلمين فهو أكثر فائدة.

ثالثها: أنه شابه فعل الكفار.

رابعها: أن المراد بالمقاتلة: المشادة والتناول باليد والتطاول عليه.

قَالَ ابن بطال: العرب تسمي المشادة: المقاتلة. كما قَالَ صلى الله عليه وسلم في المار

(1)

انظر: "لسان العرب" 4/ 1909.

(2)

انظر: "المجمل" 2/ 721 مادة: (فسق).

(3)

في (ف): كفر.

(4)

رواه مسلم (2564/ 32) كتاب: البر والصلة، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله.

(5)

في (ج): بغير.

(6)

"أعلام الحديث" 1/ 176.

ص: 164

بين يدي المصلي: "فليقاتله"

(1)

أي: فليدفعه بالقوة ولم يرد قتله

(2)

.

وإيراد البخاري حديث التلاحي في الباب رمز إلى هذا المعنى، وقد ترجم عليه في كتاب: الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"

(3)

.

وقد سلف أيضًا باب: كفر دون كفر وذكر كفران العشير، ثم هذا كله فيمق لا تأويل (له)

(4)

(أما)

(5)

المتأول فلا يكفر ولا يفسق كالبغاة والخارجين على الإمام بتأويل وغيرهم، وقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق

(6)

. فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم لما كان فعل حاطب يشبه فعل المنافقين، وكما قَالَ معاذ للمنصرف من الصلاة: نافقت

(7)

. وأشباه ذَلِكَ.

والمرجئة -بضم الميم، وجيم ثم همزة- مشتقة من الإرجاء، وهو التأخير، ومنه قوله تعالى:{أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111] أي: أخره، والمرجئ مَنْ أخر العمل عن الإيمان، وقيل: من الرجاء: لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وقيل: من الإرجاء، بمعنى: تأخير حكم الكبيرة، فلا يقضى بها بحكم في الدنيا، وهم أضداد الخوارج والمعتزلة.

(1)

رواه مسلم (506) كتاب: الصلاة، باب: منع المار بين يدي المصلى.

(2)

"ابن بطال" 1/ 111 بتصرف.

(3)

سيأتي برقم (7077) كتاب: الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا

".

(4)

في (ج): معه.

(5)

في (ف): إنما.

(6)

سيأتي برقم (3007) كتاب: الجهاد والسير، باب: الجاسوس.

(7)

رواه مسلم (465/ 178) كتاب: الصلاة، باب: القراءة في العشاء.

ص: 165

فالخوارج تكفر بالذنب، والمعتزلة يفسقون به وكلهم يوجب الخلود في النار. والمرجئة تقول: لا يضر الذنب مع الإيمان، وغلاتهم تقول: يكفي التصديق بالقلب وحده ولا يضر عدم غيره.

ومنهم من يقول: لابد مع ذَلِكَ من الإقرار باللسان حكاه القاضي، ومنهم من وافق القدرية كالخالدي

(1)

، ومنهم من لم يوافقهم وهم خمس فرق كفر بعضهم (بعضًا)

(2)

، وهؤلاء هم مراد البخاري في الرد عليهم.

وقوله: (فَتَلَاحَى رَجُلَانِ). أي: تخاصما وتنازعا. والملاحاة: المخاصمة والمنازعة والسباب، والاسم اللِّحاء مكسور ممدود. وجاء في رواية لمسلم:"يحْتَقَّان معهما الشيطان فَنُسِّيتُها"

(3)

أي: يطلب كل منهما حقه ويدعي أنه محق في دعواه.

ومعنى "رُفِعَت": رفع بيانها، وإلا فهي باقية إلى يوم القيامة بدليل قو له:"التمسوها".

وقوله: ("الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ وَالتِّسْعِ") كذا هو في أكثر النسخ بتقديم السبع على التسع وفي بعضها تقديم التسع.

(1)

ذكره الشهرستاني في "الملل والنحل" ص 139.

(2)

من (ج).

وذكر البغدادي في "الفَرق بين الفِرق" ص 202 أن المرجئة ثلاثة أصناف: منهم من قال بالإرجاء في الإيمان والقدر على مذاهب القدرية المعتزلة كغيلان وأبي شمر، ومنهم من قال بالإرجاء في الإيمان، وبالجبر في الأعمال على مذهب جهم بن صفوان، ومنهم خارجون عن الجبرية والقدرية وهم فيما بينهم خمس فرق: اليونسية، والغسانية، والثوبانية، والتومنية، والمريسية، وإنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان. ثم قال: والفرق الخمس التي ذكرناها من المرجئة تضلل كل فرقة منها أختها ويضللها سائر الفرق. اهـ.

(3)

مسلم (1167/ 217) كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر.

ص: 166

الوجه السادس: في أحكامه:

الأول: مقصود البخاري بهذا الباب الرد على المرجئة في قولهم الباطل: إن الله تعالى لا يعذب على شيء من المعاصي مَنْ قَالَ: لا إله إلا الله، ولا يحبط شيء من أعمالهم بشيء من الذنوب، وإن إيمان العاصي والمطيع سواء.

فذكر في صدر الباب أقوال أئمة التابعين وما نقلوه عن الصحابة، وهو كالمشير إلى أنه لا خلاف بينهم في هذا، وأنهم مع اجتهادهم وفضلهم المعروف خافوا أن لا ينجوا من العذاب، وبهذا المعنى استدل أبو وائل لما سأله

(1)

عن المرجئة: أمصيبون أم مخطئون في قولهم: إن سباب المسلم وقتاله وغير ذَلِكَ لا يضر إيمانهم؟ فروى حديث: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" وأراد أبو وائل الإنكار عليهم وإبطال قولهم المخالف لصريح الحديث.

الثاني: أدخل البخاري حديث عبادة في هذا الباب-والله أعلم-؛ لأن رفع ليلة القدر كان بسبب تلاحِيهما ورفعهما الصوت بحضرة الشارع، ففيه ذم الملاحاة ونقص صاحبها.

الثالث: حرمة سب المسلم، وهو حرام بغير حق بالإجماع وفاعله فاسق.

الرابع: ذم المخاصمة والمنازعة وأنها سبب العقوبة للعامة بذنب الخاصة، فإن الأمة حرمت إعلام هذِه الليلة بسبب التلاحي بحضرته الشريفة. لكن في قوله:"وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا" بعض التأنيس لهم.

(1)

أي: زُبَيد. كما في حديث الباب.

ص: 167

الخامس: اختلفت الأحاديث في سبب النسيان، ففي حديث عبادة هذا أن سببه التلاحي، وفي "صحيح مسلم" في حديث أبي هريرة:"فجاء رجلان يحتقان"

(1)

. كما سلف، فيحتمل أن السبب المجموع. وسيأتي الكلام في ليلة القدر في كتاب: الاعتكاف، حيث ذكره البخاري إن شاء الله

(2)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

ورد في هامش (ف) ما نصه: بلغ الشيخ برهان الدين الحلبي قراءة على

وسمعه الصفدي

والبستاني ....

ص: 168

‌37 - باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِيمَانِ وَالإِسْلَامِ وَالإِحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ

وَبَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ، ثُمَّ قَالَ:"جَاءَ جِبْرِيلُ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ". فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، وَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنَ الإِيمَانِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85].

50 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: "الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ". قَالَ: مَا الإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ". قَالَ: مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ، فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللهُ". ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الآيَةَ. ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ: "رُدُّوهُ". فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَقَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الإِيمَانِ. [4777 - مسلم:9،10 - فتح: 1/ 114]

ثَنَا مُسَدَّدٌ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: "الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ باللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ".

ص: 169

قَالَ: مَا الإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّيَ الزكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ". قَالَ: مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَّنكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا، إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ البُهْمُ فِي البُنْيَانِ، فِي خَمْسِ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ".

ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] الآيَةَ. ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ: "رُدُّوهُ". فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ:"هذا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الإِيمَانِ.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن مسدد كما ترى، وفي الزكاة مختصرًا عن محمد بن عبد الرحيم، عن عقيل، عن وهيب، عن أبي حيان [وعن مسدد، عن يحيى، عن أبي حيان]

(1)

به

(2)

، وفي التفسير عن إسحاق، عن جرير

(3)

.

وأخرجه مسلم هنا عن أبي بكر وزهير، عن ابن علية

(4)

، وعن ابن نمير عن ابن بشرٍ

(5)

، وعن أبي بكر بن إسحاق، عن عفان، عن وهيب

(6)

، كلهم عن أبي حيان، وعن زهير، عن جرير، (عن

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من (ف).

(2)

سيأتي برقم (1397) كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة.

(3)

سيأتي برقم (4777) كتاب: التفسير، باب: قوله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} .

(4)

مسلم (9/ 5) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان

(5)

مسلم (9/ 6).

(6)

مسلم (14/ 15).

ص: 170

عمارة)

(1)

، كلاهما عن أبي زرعة

(2)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلفوا غير أبي حيان، وهو يحيى بن سعيد بن حيان الكوفي التيمي -تيم الرباب-.

سمع أباه والشعبي وغيرهما، وعنه أيوب والأعمش، وهما تابعيان وليس هو بتابعي، وجماعات من الأعلام، واتفقوا على الثناء عليه وتوثيقه

(3)

.

وإسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية.

وأبو زرعة اسمه: هرم بن عمرو كما سلف.

ثالثها:

هذا الحديث مشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة راجعة إليه والأحكام منطبقة عليه، فلنذكر نبذًا منه:

الأولى: البروز: الظهور، فمعنى (كان بارزًا): ظاهرًا لهم جالسًا معهم. قَالَ ابن سيده: بَرَزَ يبرز بروزًا: خرج إلى البَرَاز -وهو الفضاء- وبَرزَه إليه وأبرزه، وكل ما ظهر بعد خفاء فقد بَرَز

(4)

.

(1)

من (ف).

(2)

مسلم (10/ 7).

(3)

انظر ترجمة أبي حيان في: "الطبقات" لابن سعد 6/ 353، "التاريخ الكبير" 8/ 276 (2981)، "معرفه الثقات" للعجلي 2/ 352 (1976)، "الجرح والتعديل" 9/ 149 (622)، "الثقات" لابن حبان 7/ 592، "الكاشف" 2/ 366 (6173).

(4)

"المحكم": 9/ 32 - 33.

ص: 171

قَالَ تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47]. قَالَ الهروي: ظاهرة ليس فيها مُسْتَظَل ولا منقبًا. وحكى صاحب "الواعي" عن "أفعال ابن طريف": برز الشيء برزًا (ولم أره)

(1)

فيها.

الثانية: اختلف في الجمع بين الإيمان باللقاء والبعث، فقيل: اللقاء يحصل بالانتقال إلى دار الجزاء، والبعث بعده عند قيام الساعة، وقيل: اللقاء ما يكون بعد البعث عند الحساب، ثم ليس المراد باللقاء رؤية الله تعالى، فإن أحدًا لا يقطع لنفسه بها؛ فإنها مختصة بمن مات مؤمنًا، ولا يدري الإنسان ما يختم له.

الثالثة: رواية مسلم: البعث الآخِر

(2)

-بكسر الخاء المعجمة- وقيده بذلك مبالغة في الإيضاح لشدة الاهتمام به. وقيل: إن خروج الإنسان إلى الدنيا بعث من الأرحام، وخروجه من القبر إلى المحشر بعث من الأرض. فَقُيِّد البعث بالآخِر؛ ليتميز.

الرابعة: العبادة: الطاعة مع خضوع، وتذلل قَالَ الهروي: يُقال: طريق معبَّد. إذا كان مذللًا للسالكين، وكل من دان لملك فهو عابد له.

وفي "المحكَم": عبد الله تعالى يعبده، ويعبُدُه عِبَادةً (ومعبَدة ومعبُدة)

(3)

: تألَّه له

(4)

.

وفي "الصحاح": التَّعَبُّد: التنسك

(5)

.

فيحتمل أن يكون المراد هنا معرفة الله تعالى والإقرار بوحدانيته،

(1)

في (ف): برازة.

(2)

مسلم (9/ 5) كتاب: الإيمان، باب: الإيمان ما هو؟ وبيان خصاله.

(3)

في (ف): مَعْبُدة، وفي "المحكم": ومَعْبَدًا ومَعْبَدَة.

(4)

"المحكم" 2/ 20.

(5)

"الصحاح" 2/ 503 مادة: (عبد).

ص: 172

ويكون عطف الصلاة والزكاة والصوم عليها؛ لإدخالها في الإسلام؛ لأنها لم تكن دخلت في لفظ العبادة، واقتصر على هذِه الثلاث؛ لكونها من أظهر شعائر الإسلام وأركانه، والباقي مُلحق بها، وترك الحج إما لأنه لم يفرض إذن، أو أن بعض الرواة لم يجوده وأسقطه.

ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة: الطاعة مطلقًا كما هو حَدُّها ومقتضى إطلاقها، فيدخل جميع وظائف الإسلام فيها. وعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيهًا على شرفه ومزيته كقوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] ونظائره.

الخامسة: الإيمان (بالله)

(1)

: هو التصديق بوجوده تعالى وأنه لا يجوز عليه العدم، (وأنه)

(2)

تعالى موصوف بصفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر والحياة

(3)

، وأنه تعالى مُنزه عن صفات النقص التي هي أضداد تلك

(1)

من (ج).

(2)

في (ف): والله.

(3)

ما ذكره المصنف من أن الله تعالى متصف بصفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر والحياة هو مذهب الأشاعرة، فهم يثبتون لله تعالى سبع صفات فقط والباقي ينكرونه تحريفًا لا تكذيبًا وهذِه الصفات السبع مجموعة في قول السفاريني:

له الحياة والكلام والبصر

سمع إرادة وعلم واقتدار

فآمنوا ببعض الصفات وأنكروا الباقي، وهذا مذهب باطل مردود، وأما مذهب أهل السنة -كما سوف يمر معك مرارًا- الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف وتمثيل، على ما يليق به سبحانه وتعالى، مصداقًا لقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

ص: 173

الصفات، وعن صفات الأجسام والمتحيزات، وأنه واحد حق صمد فرد خالق جميع المخلوقات متصرف فيها بما شاء من التصرفات، يفعل في ملكه ما يريد ويحكم في خلقه ما يشاء.

السادسة: في "صحيح البخاري" في كتاب: التفسير

(1)

، ومسلم هنا زيا دة:"وكتبه". بعد: "وملائكته" وفي بعضها: "وكتابه"

(2)

. والإيمان بكتب الله هو التصديق بأنها كلام الله ومن عنده، وأن ما تضمنته حق وأن الله تَعَبَّدَ خَلْقَهُ بأحكامها وفهم معانيها.

السابعة: (الملائكة) جمع: مَلَك. فقيل: لا اشتقاق له. وقيل: وزنه فعل.

وقيل: مفعل من لاك أي: أرسل. وقيل: مأخوذة من الألوكة التي هي الرسالة، فأصله على هذا: مالك؛ فالهمزة فاء الفعل، لكنهم قلبوها إلى عينه فقالوا:(ملأك)

(3)

. وقيل: هو مثل سمأل.

الثامنة: يجب الإيمان بجميع ملائكة الله تعالى، فمن ثبت تعيينه كجبريل وميكائيل وإسرافيل وجب الإيمان به، ومن لم يثبت آمنَّا به إجمالًا، وكذلك الأنبياء والرسل، وما ثبت من ذَلِكَ بالنص والتواتر كَفَرَ مَنْ يَكْفُر به.

التاسعة: الإيمان برسل الله هو بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، وأن الله تعالى أيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، وأنهم بَلّغوا عن الله رسالته وبينوا للمكلفين ما أمرهم ببيانه، وأنه يجب احترامهم، وأن لا نفرق بين أحد منهم.

(1)

سيأتي برقم (4777) باب: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} .

(2)

مسلم (9/ 5) كتاب: الإيمان، باب: الإيمان ما هو؟ وبيان خصاله.

(3)

في (ف): أملاك، وهو خطأ.

ص: 174

العاشرة: قوله: ("وَلَا تُشْرِكَ بِهِ"). وفي مسلم: "لا تشرك به شيئًا"

(1)

. إنما ذكر بعد العبادة؛ لأن الكفار كانوا يأتون بصورة عبادة الله تعالى في بعض الأشياء، ويعبدون الأوثان وغيرها يزعمون أنها شركاء فنفي هذا.

الحادية عشرة: جاء هنا وفي كتاب التفسير

(2)

: "تَعْبُدَ اللهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ"، وجاء في حديث ابن عمر في مسلم فيه:"أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"

(3)

فكان أبا هريرة نقل الحديث بالمعنى، وابن عمر نقله باللفظ.

الثانية عشرة: جاء في حديث ابن عمر: "ويحج البيت" ولم يأت في رواية أبي هريرة ولا في حديث طلحة بن عبيد الله، وقد سلف الجواب عنه قريبًا

(4)

.

الثالثة عشرة: المراد بإقامة الصلاة فعلها بحدودها، وقَيَّدَها في رواية مسلم بالمكتوبة تبركًا بقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].

وقد اشتهر في غير ما حديث صحيح تسميتها مكتوبة كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"

(5)

و"خمس صلوات كتبهن الله

(1)

مسلم (9/ 5) كتاب: الإيمان، باب: الإيمان ما هو؟ وبيان خصاله.

(2)

سيأتي برقم (4777) باب: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} .

(3)

مسلم (8/ 1) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان

(4)

انظر 3/ 140.

(5)

مسلم (710/ 63) كتاب: صلاة المسافرين، باب: كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن، وأبو داود (1266)، والترمذي (421)، والنسائي 2/ 116 - 117، وابن ماجه (1151)، وأحمد 2/ 517.

ص: 175

(على العبد)

(1)

"

(2)

و"أفضل الصلاة بعد المكتوبة"

(3)

.

فيحتمل تقييدها بالمكتوبة؛ للاحتراز من النافلة، فإنها وإن كانت من وظائف الإسلام فليست من أركانه، ويحتمل أن تكون لمراعاة الأدب مع لفظ القرآن، وكان صلى الله عليه وسلم يُلازم هذا الأدب كما هو مشهور في الأحاديث، ومنها تنكيره المقام في قوله:"وابعثه مقامًا محمودًا"

(4)

وهو معين؛ لتوافق الآية وهي مقامًا محمودًا.

الرابعة عشرة: تقييد الزكاة بالمفروضة لتخرج صدقة التطوع؛ فإنها زكاة لغوية. وقيل: للاحتراز من الزكاة المعجلة قبل الحول، فإنها زكاة وليست مفروضة الآن.

الخامسة عشرة: إنما فرق بين الصلاة والزكاة في التقييد. فقال في الأولى: المكتوبة، وفي الثانية: المفروضة للبلاغة.

السادسة عشرة: جواز قول القائل رمضان من غير إضافة لفظِ الشهرِ إليه، وهو الصواب.

السابعة عشرة: الإحسان مصدر أحسن يُحسن إحسانًا، وهو بمعنيين:

(1)

من (ج).

(2)

رواه أبو داود (1420) وابن ماجه (1401)، وعبد الرزاق 3/ 5 - 6 (4575)، وابن حبان 5/ 23 (1732)، والبيهقي 1/ 361، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه"(1150).

(3)

رواه مسلم (1163، 203) كتاب: الصيام، باب: فضل صيام المحرم، وأبو داود (2429)، والترمذي (438)، والنسائي 3/ 207، وأحمد 2/ 342، وأبو يعلى 11/ 282 - 283 (6395)، والبيهقي 4/ 291.

(4)

سيأتي برقم (614) كتاب: الأذان، باب: الدعاء عند النداء.

ص: 176

أحدهما: متعد بنفسه، كأحسنت كذا وحسنته: إذا أكملته، منقول بالهمزة من حسن الشيء.

والثاني: متعد بحرف الجر، كأحسنت إليه: إذا أوصلت إليه النفع، والإحسان في هذا الحديث بالمعنى الأول؛ فإنه يرجع إلى إتقان العبادات ومراعاة حق الله ومراقبته.

فمعنى: "تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" أن تعبد عبادة من يرى الله تعالى ويراه الله تعالى، فإنك لا تستبقي شيئًا من الخضوع والخشوع والإخلاص وحِفْظِ القلب والجوارح، ومراعاةِ الآداب الظاهرة والباطنة مادمت في عبادته، وإن عرض عارض فنادر وإنما تراعي الآداب المذكورة إذا رأيته ورآك؛ لكونه يراك لا لكونك تراه، وهذا المعنى موجود وإن لم تره لأنه يراك.

وحاصله الحث على كمال الإخلاص في العبادة ومراقبة الله تعالى في جميع أنواعها مع قيام الخشوع والخضوع والحضور.

فحال من غلب عليه مشاهدة الحق كأنه يراه. ولعل هذِه الحالة هي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"

(1)

.

والثاني: حال من يغلب عليه اطلاع الحق عليه، وإليه الإشارة بقوله

تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)} [الشعراء: 218].

(1)

رواه النسائي 7/ 62، وأحمد 3/ 128، وابن أبي عاصم في "الزهد"(234)، وأبو يعلى 6/ 199 - 200 (3482)، والطبراني في "الأوسط" 5/ 241 (5203)، والحاكم 2/ 160، والبيهقي 7/ 78، وقال ابن حجر في "التلخيص" 3/ 116: إسناده حسن، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3098).

ص: 177

فائدة: الألف واللام في: (مَا الإِحْسَانُ؟) إلى المعهود في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] و {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ولتكراره في القرآن ولترتب الثواب عليه سأل عنه جبريل عليه السلام.

الثامنة عشرة: أصل الساعة مقدار من الزمان غير معين لقوله تعالى: {مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] والمراد بها هنا يوم القيامة، وقد يطلق في عرف الميقاتيين على جزء من أربعة وعشرين جزءًا.

التاسعة عشرة: قوله: ("مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ") فيه أن الأدب للمفتي والعالم إذا سئل عن ما لا يعلم أن يقول: لا أعلم.

العشرون: (أشراطها) بفتح الهمزة وسكون الشين واحدها: شَرَط بفتحهما: علاماتها، ومنه سمي الشرط؛ لأنهم يعلمون لأنفسهم علامات وقيل: أوائلها ومقدماتها. وقيل: صغار أمورها، واحدها: شرط كما سلف.

وجزم صا حب "المحكم" و"الجامع" بأنه أوائلها، وفي "الغريبين" عن الأصمعي: ومنه الاشتراط الذي يشترط بعض الناس على بعض إنما هي علامة يجعلونها بينهم

(1)

.

قَالَ النووي في ("شرحه")

(2)

: والمراد -والله أعلم- بأشراطها السابقة لا أشراطها المضايقة لها كطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ونحوهما.

الحادية بعد العشرين: قوله صلى الله عليه وسلم: ("أن تلد الأَمَةُ رَبَّهَا")، وفي رواية

(1)

انظر: "غريب الحديث" 1/ 34.

(2)

من (ف).

ص: 178

لمسلم: "ربتها"

(1)

، وفي رواية:"بعلها"

(2)

.

ومعنى الأولتين: السيد. كما يُقال: رب الدار، وهو إخبار عن كثرة السراري وأولادهن، فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها؛ لأن مال الإنسان صائر إلى ولده غالبًا، وقد يتصرف فيه في حياته تصرف المالكين إما بإذن أبيه له فيه أو بقرينة الحال أو عرف الاستعمال، وهذا ما عليه الأكثرون.

وعبر بعضهم عنه بأن المراد استيلاء المسلمين على الكفرة فتكون الأَمَة من سيدها بمنزلة سيدها، والعلامة على هذا كثرة الفتوح والتسري، وقيل: معناه: أن الإماء تلدن الملوك فتكون أمه من جملة رعيته وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته وولي أمورهم، وهذا قول إبراهيم الحربي.

وقيل: معناه: أنه تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان، فيكثر تردادها في أيدي المشترين حتى يشتريها ابنها وهو لا يدري.

وعلى هذا القول لا تختص بأمهات الأولاد بل يتصور في غيرهن، فإن الأمة قد تلد حرًّا بوطءِ غير سيدها بشبهة، أو ولدًا رقيقًا بنكاح أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعًا صحيحًا وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها وبنتها؛ وعلى هذا يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحريم بيع أمهات الأولاد، وقيل: إن أم الولد لما عتقت بولدها فكأنه سيدها.

(1)

مسلم برقم (8/ 1) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ..

(2)

مسلم برقم (9/ 6) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ..

ص: 179

وقيل: معناه: أن يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة. وقيل: غير ذَلِكَ مما فيه ضعف

(1)

.

وأما رواية: "بعلها" فالصحيح في معناها: أن البعل هو السيد أو المالك، فيكون بمعنى ربها على ما سلف.

قَالَ أهل اللغة: بَعْلُ الشيء: ربُّه ومالكه

(2)

. قَالَ تعالى: {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)} [الصافات: 125] أي: ربَّا؛ قاله ابن عباس والمفسرون

(3)

، وقيل: المراد هنا: الزوج.

وعلى هذا معناه نحو ما سبق: أنه يكثر بيع السراري حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري، وهذا أيضًا معنى صحيح إلا أن الأول أظهر؛ لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى واحد كان أولى.

ومع هذا فللقائل بأن المراد الزوج أن يقول: ليس في هذا ترجيح هنا؛ لأن المراد هنا بيان علامات من علامات الساعة وهي غير منحصرة في هذا المذكور، فإن من جملتها: رفع العلم، وظهور الجهل، وظهور الزنا، وقلة الرجال، وكثرة النساء، وكثرة الهرج، وتوسيد الأمر إلى غير أهله، وغير ذَلِكَ مما تظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة، وهذِه العلامات قد وقع أكثرها وتزايدت. ونسأل الله حسن الخاتمة.

الثانية بعد العشرين: ليس في الحديث دلالة على إباحة بيع أمهات الأولاد، ولا منع بيعهن، وقد استدل به إمامان جليلان أحدهما: على

(1)

انظر هذِه الأقوال في "المفهم" 1/ 148.

(2)

انظر: "تهذيب اللغة" 1/ 362.

(3)

انظر: "تفسير الطبري" 1/ 520 - 521 (29570 - 29571 - 29572 - 29573).

ص: 180

الإباحة، والآخر: على المنع

(1)

.

وهو عجيب منهما، وليس كل ما أخبر الشارع بكونه من العلامات يكون محرمًا أو مذمومًا، فإن تطاول الرعاء في البنيان وفشو المال وكون خمسين امرأة لهن قيم واحد ليس بحرام بلا شك وإنما هذِه علامة، والعلامة قد تكون بالخير والشر والحرام والواجب والمباح وغير ذَلِكَ

(2)

.

الثالثة بعد العشرين: "الرعاة" -بضم الراء وبالهاء في آخره- جمع: راع، كقاض وقضاة، وداع ودعاة ونحوه، ويُقال أيضًا: رعاء -بكسر الراء وبالمد من غير هاء- كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار. يقال: راع ورعيان ورعاة ورعاء؛ لأن فاعلًا إذا كان اسمًا فجمعه على فواعل قياسًا كحائط وخاتم وكاهن وشبهها. وإن كان صفة استعمل استعمال الأسماء كراع ويجمع على فعلان بضم الفاء -كرعيان، وعلى فعال- بكسر الفاء، وعلى فُعَلَة كرُعَاة وقُضَاة وغُزَاة؛ فإن أصلها رُعيَة وقُضوَة وغُزَوَة قلبت لام الكلمة ألفًا، لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت رُعاة وقُضاة وغزاة، وأصل الرعي: الحفظ.

الرابعة بعد العشرين: قوله: ("وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ البُهْمُ فِي البُنْيَانِ") كذا في رواية البخاري وفي مسلم حذف الإبل؛ لأنهم أضعف أهل البادية؛ لأن أهل الإبل أصحاب الفخر والخيلاء، وفي رواية:"وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان"

(3)

.

والبهم -بضم الباء بلا خلاف، وروي بجر الميم ورفعها، فمن جر

(1)

هو الإمام أحمد كما ذكره الحافظ ابن رجب في "فتح الباري" 1/ 28.

(2)

انظر: "مسلم بشرح النووي" 1/ 159.

(3)

مسلم (8/ 1) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام ..

ص: 181

جعله وصفًا للإبل -أي: رعاة الإبل السود- قالوا: وهي شرها، ومن ضم جعله صفة للرعاة، ومعناه: الرعاة السود.

وقَالَ الخطابي: معناه: الرعاة المجهولون الذين لا يُعرفون. جمع: بهيم، ومنه أبُهم الأمر، وقيل: الذين لا شيء لهم، ومنه:"يحشر الناس حفاة عراة بُهمًا"

(1)

أي: لا شيء معهم، ومعناه: أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة يبسط لهم في الدنيا حتى يتباهوا في البنيان وإطالته

(2)

.

وقولي: إن باء البُهم بالضم بلا خلاف هو كذلك، وصرح به النووي في "شرحه"

(3)

، وقال القاضي عياض: إنه الصواب

(4)

. ورواه الأصيلي بالفتح أيضًا، ولا وجه له.

الخامسة بعد العشرين: "البُهم": صغار الضأن والمعز، هذا قول الجمهور، وقال الزبيدي في "مختصر العين": البُهمة اسم لولد الضأن والمعز والبقر، وجمعه: بهم وبهام، وأما البهيمة فهي ذوات الأربع من دواب البر والبحر

(5)

.

(1)

رواه أحمد 3/ 495، والبخاري في "الأدب المفرد"(970)، و"التاريخ الكبير" 7/ 169 - 170 (761)، "زوائد"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 4/ 79 (2034)، والطبراني في "مسند الشاميين" 1/ 104 (156)، والحاكم في "مستدركه" 2/ 437 - 438، والخطيب في "الرحلة"(31)، و"الجامع لأخلاق الراوي" 2/ 225 (1686). والبيهقي في "الأسماء والصفات"(131)(600)، وحسن إسناده ابن حجر في "الفتح" 1/ 174، والألباني في تعليقه على "الأدب المفرد"(970).

(2)

"أعلام الحديث" 1/ 183 بمعناه.

(3)

انظر "مسلم بشرح النووي" 1/ 164.

(4)

"الإكمال" 1/ 211 بمعناه.

(5)

انظر هذا الكلام في: "العين" 4/ 62.

ص: 182

وذكر التيَّاني

(1)

في "الموعب": أن البهم صغار الضأن، الواحدة بهمة للذكر والأنثى والجمع بهم، وجمع البهم: بهام وبهامات. وفي "المخصص": تكون بعد العشرين يومًا بهمة من الضأن والمعز إلى أن تفطم

(2)

.

وفي "المحكم": وقيل: هو بَهْمَة إذا شَبَّ، والجمع: بَهْم وبُهْم وبهام، وبهامات جمع الجمع، وقال ثعلب: البهم: صغار المعز

(3)

.

وفي "الجامع" للقزاز: بَهْمة مفتوحة الباء ساكنة الهاء، يقال لأولاد الوحش من الظباء، وما جانس الضأن والمعز: بهم.

وفي "الصحاح": البِهَام جمع بَهْم. والبَهْم جمع بَهمْة. والبَهْمَة للمذكر والمؤنث للضأن خاصة، والسِّخَال أولاد المعز، وإذا اجتمعت البِهَام والسخال قُلْتَ لهما جميعًا: بِهَام وبَهْم أيضًا

(4)

. وفي "المغيث" لأبي موسى المديني: وقيل: البَهْمة: السَّخْلة.

وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ للراعي: "ما ولدت" قَالَ: بَهْمة. قَالَ: "اذبح مكانها شاة"

(5)

فلولا أن البهمة اسم لجنس خاص لما كان في سؤاله الراعي وإجابته عنه بِبَهْمة كثير فائدة، إذ يعرف [أن]

(6)

ما تلد الشاة إنما يكون ذكرًا أو أنثى فلما أجاب عنه ببهمة وقال: "اذبح مكانها شاة" دل على أنه اسم للأنثى دون الذكر، أي: دَعْ هذِه الأنثى

(1)

سبقت ترجمته.

(2)

"المخصص" 2/ 232، مادة:(بهم).

(3)

"المحكم" 4/ 242.

(4)

"الصحاح" 5/ 1875، مادة: بهم.

(5)

أبو داود (142)، وأحمد 4/ 33، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" 1/ 241 (130).

(6)

ساقطة من (ف)، (ج) ومثبتة من "المجموع المغيث".

ص: 183

في الغنم للنسل واذبح مكانها ذكرًا

(1)

.

السادسة بعد العشرين: قوله: ("فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللهُ"). أي: استأثر بعلمها، وفي الكلام حذف تقديره: في خمس، أي: هي في خمس انفرد الله تعالى بعلمها، أي: هي في عدد خمس ولا مطمع لأحد في علم شيء من هذِه الخمس إلا أن يعلمه الله تعالى به.

السابعة بعد العشرين: قوله: (ثم أدبر (الرجل)

(2)

فقال: "ردوه"، فلم يروا شيئًا، فقال صلى الله عليه وسلم:"هذا جبريل") الحديث. وفي "الصحيح" أيضًا: فلبثت مليًّا، ثم قَالَ لي: يا عمر، "أتدري من السائل؟ ". وفيه: فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم"

(3)

.

وفي أبي داود والترمذي قَالَ عمر: ثم انطلق فلبثت ثلاثًا ثم قال: "يا عمر أتدري من السائل؟ " الحديث

(4)

، وظاهر هذِه الرواية أنه قَاله: بعد ثلاث ليالٍ، وهو مغاير لما تقدم من قوله: فلبثت مليًّا.

فيحتمل أن عمر لم يحضر قوله صلى الله عليه وسلم أولا "هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم" في الحال، بل (كان)

(5)

قام من المجلس فأخبر صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال وأخبر عمر بعد ثلاث.

الثامنة بعد العشرين: قوله: ("هذا جِبْرِيلُ"). فيه دلالة على تشكل الملائكة في صور بني آدم كقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وقد كان جبريل يتمثل بصورة دحية، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم على خلقته

(1)

"المجموع المغيث" 1/ 203 - 204.

(2)

من (ج).

(3)

مسلم (8/ 1) كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام

(4)

رواه أبو داود (4695)، والترمذي (2610).

(5)

من (ج).

ص: 184

التي خُلق عليها غير مرتين كما تقدم في بدء الوحي.

التاسعة بعد العشرين: قوله: ("جَاءَ يُعَلَّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ") أي: قواعد دينهم وكلياتها، وهذا دال على أنه إنما عرفه صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر. وقد جاء مبينًا في الدارقطني في آخر هذا الحديث:"هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم فخذوا عنه، فوالذي نفسي بيده ما شبه عليَّ مذ أتاني قبل مرتي هذِه وما عرفته حتى ولَّى"

(1)

.

الثلانون: زاد سليمان التيمي في الحديث من طريق ابن عمر: "وتغتسل وتتم الوضوء". قَالَ ابن حبان: تفرد بها

(2)

.

قُلْتُ: وهو ثقة بإجماع، وفيه بَعْدُ "وتحج البيت وتعتمر"، وصححها الحاكم

(3)

وغيره.

الحادية بعد الثلاثين: أخرج هذا الحديث الثاني النسائي من طريق أبي ذر وأبي هريرة أيضًا بزيادة حسنة: كان صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه فيَجيء الغريب فلا يدري أهو هو حتى يَسأل، فطلبنا أن نجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، فَبَنَيْنَا له دكانًا من طين يجلس عليه، [و]

(4)

إنَّا لجُلُوسٌ عنده ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمجلسه إذ أقبل أحسن الناس وجهًا وأطيبهم رائحة كان ثيابه لم يمسها دنس

(1)

"سنن الدارقطن" 2/ 282 - 283، وقال: إسناد ثابت صحيح، أخرجه مسلم بهذا الإسناد.

(2)

رواه ابن خزيمة في "صحيحه" 1/ 3 (1)، 4/ 356 (3065)، وأبو نعيم في "مستخرجه" 1/ 102 (82) وابن حبان في "صحيحه" 1/ 397 (173)، وقال الهيثمي في "موارد الظمآن" (16): رواه مسلم باختصار، وقال الألباني في "صحيح موارد الظمآن" 1/ 104: صحيح.

(3)

"المستدرك" 1/ 51.

(4)

ساقطة من (ف)، (ج)، ومثبتة من "المجتبى".

ص: 185

حتى سلم من طرف البساط، قال: السلام عليك يا محمد. فردَّ عليه السلام، فقال: أَدْنُو يا محمد؟ فقال: "ادنُ" فما زال يقول: أَدْنُو؟ مرارًا، ويقول:"ادنُ" حتى وضع يديه على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر نحوه

(1)

.

الثانية بعد الثلانين: في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سلوني" فهابوا أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ الحديث

(2)

.

كأنه لما كثر سؤالهم وخيف التعنت به غضب صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] فانكف الناس. فأرسل الله إليهم جبريل فسأل فقال: "هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا"

(3)

.

الثالثة بعد الثلاثين: ظاهر الحديث تغاير (الإسلام والإيمان)

(4)

وقد قدمت الكلام على ذَلِكَ في أوائل كتاب الإيمان، ومراد البخاري أنهما واحد، وَيَرُدُّ ما وقع من الفرق بينهما في حديث جبريل إلى ما جاء في حديث وفد عبد القيس من إطلاق لفظ الإيمان على الإسلام والأعمال

(5)

. وقد قَالَ بمثل قوله جماعة، منهم البغوي

(6)

.

الرابعة بعد الثلاثين: قد جمع هذا الحديث أنواعًا من القواعد ومهمات من الفوائد، وقد أشرنا إلى جمل منها:

(1)

"المجتبى" 8/ 101.

(2)

مسلم (10/ 7) كتاب: الإيمان، باب: الإسلام ما هو؟ وبيان خصاله.

(3)

التخريج السابق.

(4)

في (ف): الإيمان للإسلام.

(5)

سيأتي برقم (53).

(6)

"شرح السنة" 1/ 10.

ص: 186

ومنها: وجوب الإيمان بهذِه المذكورات، وعظم مرتبة هذِه الأركان التي فسر الإسلام بها، وجواز قول: رمضان بلا شهر كما سلف، وعظم محل الإخلاص والمراقبة.

ومنها: لا أدري من العلم، ولا يعبر بعبارات مترددة بين الجواب والاعتراف بعدم العلم، وأن ذَلِكَ لا ينقصه ولا يزيل ما عُرف من جلالته، بل ذَلِكَ دليل على ورعه وتقواه ووفور علمه وعدم تكثره وتبجحه بما ليس عنده.

وبيَّن البغوي ما أراده البخاري من التبويب، حيث قَالَ: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسمًا لما بَطن من الاعتقاد، وجماعها الدين

(1)

. وقد قدمنا ذَلِكَ عنه في أوائل كتاب الإيمان.

(1)

"شرح السنة" 1/ 10.

ص: 187

‌38 - باب

51 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ. [انظر:7 - مسلم: 1773 - فتح: 1/ 125]

ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسِ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَألْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ، لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ.

هذا الحديث سبق شرحه مبسوطًا أول الكتاب

(1)

، وبيان رجاله إلا إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن عبد الله ابن الزبير بن العوام القرشي الأسدي المدني، روى عن جماعة من الكبار، وعنه البخاري وأبو داود وغيرهما، وروى النسائي عن رجل عنه. قَالَ ابن سعد: ثقة صدوق. مات سنة ثلاثين ومائتين بالمدينة

(2)

.

(1)

سبق برقم (7) كتاب: بدء الوحي، باب:(5).

(2)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 5/ 421، "التاريخ الكبير" 1/ 283 (912)، "الجرح والتعديل" 2/ 95، "سير أعلام النبلاء" 11/ 60 "شذرات الذهب" 2/ 68.

ص: 188

ثم اعلم أن هذا الحديث وقع هكذا مفردًا بباب، وهو ظاهر، فإن مقصود البخاري به أنه سماه دينًا وإيمانًا، ووقع في بعض النسخ مدرجًا مع الحديث الذي قبله من غير تخصيصه بباب، وليس بجيد؛ إذ ليس مطابقًا للترجمة.

قَالَ ابن بطال: سماه مَرَّةً بالدّين، ومَرةً بالإيمان، فهي أسماء متعاقبة لمعنى واحد بخلاف قول المرجئة

(1)

وإنما اعْتُبِرَ قول هرقل وإن كان كافرًا لا يوثق بقوله؛ لأنه (يأثر)

(2)

هذِه الأشياء عن الكتب المتقدمة، وتداولت الصحابة وسائر العلماء قوله ولم ينكروه بل استحسنوه.

(1)

"شرح ابن بطال" 1/ 115.

(2)

في (ج): باشر.

ص: 189

‌39 - باب فَضْلِ مَنِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ

52 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمِ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعِ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهِيَ القَلْبُ". [2051 - مسلم: 1599 - فتح: 1/ 126]

ثنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "الْحَلَالُ بَيِّن وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاع يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في البيوع عن علي وعبد الله بن محمد، عن سفيان، عن أبي فروة، وعن محمد بن المثنى، عن ابن (أبي)

(1)

عدي [عن ابن عون]

(2)

، كلهم عن الشعبي.

(1)

من (ج).

(2)

ساقط من (ف)، (ج): ومثبتة من "صحيح البخاري".

ص: 190

وقال فيه في البيوع: "وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتتانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَتَانَ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكْ أَنْ يُوَاقِعَهُ"

(1)

.

وأخرجه مسلم في البيوع، عن ابن نمير، عن أبيه، عن زكريا، وعن أبي بكر، عن وكيع، عن زكريا. وعن إسحاق [عن]

(2)

عيسى، عن زكريا.

وعن إسحاق، عن جرير، عن مطرف وأبي فروة الهمداني. وعن عبد الملك بن شعيب، عن أبيه، عن جده.

وعن خالد بن زيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عون بن عبد الله.

وعن قتيبة، عن يعقوب، عن ابن عجلان، عن عبد الرحمن بن سعيد، كلهم عن الشعبي به

(3)

.

وفي الباب عن ابن عمر وواثلة.

أما حديث ابن عمر فأخرجه ابن حذلم

(4)

في "جزئه" من جهة عبد الله بن رجاء، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا:"الحلال بين والحرام بين، وبين ذَلِكَ مشتبهات، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك"

(5)

.

(1)

سيأتي برقم (2051) باب: الحلال بين والحرام بين وبينهما مشبهات.

(2)

في (ف)، (ج): بن، وهو خطأ، والمثبت من (مسلم).

(3)

مسلم (1599/ 107) كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات.

(4)

هو الإمام العلامة، مفتي دمشق، وبقية الفقهاء الأوزاعية، القاضي أبو الحسن أحمد بن سليمان بن أيوب بن داود بن عبد الله بن حذلم الأسدي الدمشقي الأوزاعي. توفي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة.

انظر ترجمته في: "سير أعلام النبلاء" 15/ 514، "الوافي بالوفيات" 6/ 405.

(5)

رواه العقيلي في "الضعفاء" 2/ 253، وابن الأعرابي في "معجمه" 2/ 754 (1528)، =

ص: 191

وأما حديث واثلة فأخرجه (الجوزي)

(1)

من حديث العلاء بن ثعلبة الأسدي، عن أبي المليح، عن واثلة مرفوعًا:"لتفتك نفسك" قُلْتُ: وكيف لي بذلك؟ قَالَ: "دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المفتون" قُلْتُ: وكيف لي بذلكِ؟ قَالَ: "تضع يدك على قلبك، فإن الفؤاد يسكن إلى الحلال ولا يسكن إلى الحرام، وإن الوَرعَ المسلم يدع الصغيرة مخافة أن يقع في الكبيرة"

(2)

.

= والطبراني في "الأوسط"(2868)، و"الصغير"(32)، والرامهرمزي في "الأمثال" ص 13 من طريق إبراهيم بن محمد الشافعي عبد الله بن رجاء بالسند المذكور.

قال الإمام أحمد كما في "ضعفاء العقيلي" 2/ 252: هذا حديث منكر، ما أرى هذا بشيء. اهـ.

وقال الهيثمي في "المجمع" 4/ 74: في إسناد "الأوسط" سعد بن زنبود، قال أبو حاتم: مجهول، وإسناد "الصغير" حسن. اهـ.

ورواه البيهقي في "الزهد الكبير"(875) من طريق أبي حاتم الرازي، عن إبراهيم ابن محمد وأحمد بن شبيب، ثنا عبد الله بن رجاء، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر.

قال البيهقي: يشبه أن تكون رواية أبي حاتم عنهما عن ابن رجاء، عن عبد الله بن عمر أصح من رواية من قال: عبيد الله. اهـ.

(1)

كذا في (ج)، وغير واضحة ب (ف).

(2)

رواه أبو يعلى في "مسنده" 13/ 476 (7492)، والطبراني 22/ 78 (193)، وأبو نعيم في "الحلية" 9/ 44 بمعناه وضعفه الهيثمي في "المجمع" 10/ 294، وقال: رواه الطبراني وفيه عبيد بن القاسم وهو متروك، وقال ابن حجر في "الأمالي المطلقة" (198): هذا حديث حسن غريب أخرجه أبو يعلى في "مسنده" كذا ورجاله رجال الصحيح إلا العلاء بن ثعلبة. فقال أبو حاتم الرازي: إنه مجهول، وإنما حسنته؛ لأن لجميع ما تضمنه المتن شواهد مفرقة. والله أعلم. اهـ.

قلت: والعلاء بن ثعلبة، قال ابن حبان في "المجروحين" 2/ 175: كان ممن يروي المعضلات عن الثقات، روى عن هشام بن عروة بنسخة موضوعة، لا يحل كتابة حديثه إلا على جهة التعجب.

ص: 192

الوجه الثاني: في التعريف برواته:

أما النعمان فهو أبو عبد الله النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن خَلّاس -بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام- الأنصاري الخزرجي، وأمه عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وعنها.

وُلد بعد أربعة عشر شهرًا من الهجرة، وهو أول مولود وُلد للأنصار بعد الهجرة، والأكثرون يقولون: وُلد هو وعبد الله بن الزبير في العام الثاني من الهجرة.

وقال ابن الزبير: هو أكبر مني. روي له مائة حديث وأربعة عشر حديثًا. قُتِل بقرية عند حمص سنة أربعة وستين، وقيل: سنة ستين

(1)

.

تنبيه: نقل عن يحيى بن معين وأهل المدينة أنه لا يصح للنعمان سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو باطل يرده هذا الحديث، فإن فيه التصريح بسماعه، وكذا رواية مسلم: وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه

(2)

.

وهو ما صححه أهل العراق.

فائدة:

ليس في الصحابة من اسمه النعمان بن بشير غير هذا فهو من الأفراد، وفيهم النعمان جماعات فوق الثلاثين.

وأما عامر فهو الشعبي، وقد تقدمت ترجمته

(3)

، وكررها شيخنا قطب الدين في "شرحه".

(1)

انظر ترجمته في: "معرفة الصحابة" 5/ 2658 (2858)، "الاستيعاب" 4/ 60 (2643)، "أسد الغابة" 5/ 326، (5230)، "الإصابة" 3/ 559 (8728).

(2)

مسلم (1599/ 107).

(3)

سبق ترجمته في حديث (10).

ص: 193

وأما زكريا فهو أبو يحيى زكريا بن أبي زائدة خالد بن ميمون بن فيروز الهمداني الوادعي الكوفي، سمع جمعًا من التابعين منهم الشعبي، والسبيعي، وعنه الثوري وشعبة وخلق. مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وأربعين ومائة

(1)

.

وأما أبو نعيم فهو الفضل بن دكين -بضم الدال المهملة ثم كاف مفتوحة- وهو لقب، واسمه عمرو بن حماد بن زهير القرشي التيمي الطلحي المُلائي. مولى آل طلحة بن عبيد الله، وكان يبيع المُلاء فقيل له: المُلائي -بضم الميم والمد- سمع الأعمش وغيره من الكبار، وقل من يشاركه في كثرة الشيوخ، وعنه أحمد وغيره من الحفاظ الأعلام.

قال أبو نعيم: شاركت الثوري في أربعين شيخًا، أو خمسين شيخًا.

واتفقوا على الثناء عليه ووصفه بالحفظ والإتقان، ومناقبه جمة. وُلِد سنة ثلاثين ومائة، ومات سنة ثمان أو تسع عشرة ومائتين.

وكان أتقن أهل زمانه، قاله ابن منجويه. قَالَ أبو نعيم: أدركت ثمانمائة شيخ منهم الأعمش فمن دونه، فما رأيت أحدًا يقول بخلق القرآن، وما تكلم أحد بهذا إلا رُمي بالزندقة. روى عنه البخاري بغير واسطة، وهو ومسلم (والأربعة)

(2)

(بواسطة)

(3)

.

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 3/ 421 (1396)، "الجرح والتعديل" 3/ 593 (2685)، "ثقات ابن حبان" 6/ 334، "تهذيب الكمال" 9/ 359 (1992).

(2)

من (ف).

(3)

في (ف): بها، وانظر ترجمته في:"التاريخ الكبير" 7/ 118 (526)، "الجرح والتعديل" 7/ 61 (353)، "ثقات ابن حبان" 7/ 319، "تهذيب الكمال" 23/ 197 (4732).

ص: 194

ووقع للبخاري هذا الحديث رباعيًّا من جهة شيخه هذا، ووقع له من طريق غيره خماسيًّا كما أسلفناه، وكذا وقع لمسلم في أعلى طرقه خماسيًّا كما سلف.

الوجه الثالث:

هذا الحديث حديث عظيم حفيل جليل، وهو أحد قواعد الإسلام بل هو مدارها وأُسّها، وإن جعله بعضهم ثلثها وبعضهم ربعها كما سلف في الكلام على حديث:"إنما الأعمال بالنيات"

(1)

فإنه متضمن لأحكام الشريعة لذكر الحلال والحرام والمتشابهات، وما يصلح القلوب وما يفسدها وتعلق أعمال الجوارح بها؛ فيستلزم معرفة تفاصيل الأحكام كلها أصلًا وفرعًا.

ولنذكر نبذة منه على وجه الاختصار، فإنا قد بسطنا شرحه في "شرح العمدة"

(2)

و"شرح الأربعين".

الأولى: ذكر صلى الله عليه وسلم أن الأشياء على أضرب: ضرب لا شك في حله، وضرب لا شك في تحريمه، وضرب ثالث مشكوك فيه مشتبه، فمن اجتنبه فقد برَّأ نفسه من المعصية، ومن خالطه وقع في الحرام، وفي هذا المشكوك فيه تفاصيل معروفة في كتب الفروع، فمنه ما يُرَدُّ إلى أصله من حِلٍّ وحرمة وغيرهما، ومنه ما يحكم فيه بالظاهر من ذَلِكَ، ومنه ما يغلب فيه الإباحة، ومنه ما يحكم فيه بالتحريم احتياطًا، فمعاملة من كان في ماله شبهة أو خالطه ربا مكروهة.

الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: ("وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ") كذا في البخاري هنا، وفيه

(1)

سبق برقم (1) كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 10/ 59 - 73.

ص: 195

في البيوع: "أمور مشتبهة"

(1)

، وجاء أيضًا "مشتبهات"

(2)

و"متشبهات"، وذلك كله بمعنى: مشكلات؛ لما فيه من شبه طرفين (مخالفين)

(3)

، وتشتبه: تفتعل، أي: تشكل. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] وأما قوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23] فمعناه: في الصدق والحكمة غير متناقض.

الثالثة: اختلف في المراد بالمتشابهات التى ينبغى اجتنابها على أقوال:

أحدها: أنه الذي تعارضت فيه الأدلة فاشتبه أمره، وبه جزم القرطبي ثم ذكر في حكمه أقوالًا:

أحدها: حرمته؛ لأنه يوقع في الحرام.

وثانيها: كراهته، والورع تركه.

ثالثها: يتوقف فيه. وصوب الثاني؛ لأن الشرع أخرجها من الحرام فهي مرتاب فيها

(4)

، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"

(5)

. وهذا هو الورع.

وقول من قَالَ: إنها حلال يتورع عنها ليس بجيد؛ لأن أقل مراتب

(1)

سيأتي برقم (2051) باب: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن".

(2)

مسلم (1599/ 107).

(3)

في (ف): متخالفين.

(4)

"المفهم " 4/ 488.

(5)

رواه الترمذي (2518) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي 8/ 327، 328، أحمد 1/ 200، والدارمي في "مسنده" 3/ 1648، 1649 (2574)، والطبراني في "الكبير" 3/ 75 (2708)، 76 (2711)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 13 وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في "الإرواء"(12).

ص: 196

الحلال استواء الفعل والترك؛ وهذِه الأقوال حكاها القاضي عياض

(1)

أيضًا عن أهل الأصول.

قَالَ النووي: والظاهر أنها مخرجة على الخلاف المعروف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه مذاهب: أصحها: لا يحكم بشيء، والثاني: الإباحة، والثالث: المنع

(2)

.

القول الثاني: أن المراد بها المكروهات، قاله الخطابي والمازري وغيرهما

(3)

.

الثالث: أنها المباح وهو مردود كما سلف، وزُهْدُ الأولين فيه محمول على موجب شرعي اقتضى ذَلِكَ خوف الوقوع فيما يُكره إما من الميل إلى الدنيا، وإما من الحساب عليه وعدم القيام بالشكر؛ (لأن)

(4)

حقيقة المباح التساوي.

الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: ("لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ") أي: بسبب اشتباهها على بعضهم دون بعض لا أنها في أنفسها مشتبهة مستبهمة على كل الناس لا بيان لها، فإن العلماء يعرفونها؛ لأن الله تعالى جعل عليها دلائل يعرفها بها أهل العلم ولكن كل أحد لا يقدر على تحقيق ذَلِكَ؛ ولهذا نفي علمها عن كثير من الناس، ولم يقل: لا يعلمها كل الناس أو أحد من الناس.

الخامسة: لما ذكر البخاري في البيوع، باب تفسير (المشتبهات)

(5)

(1)

"الإكمال" 5/ 284 - 290.

(2)

"مسلم بشرح النووي" 11/ 28.

(3)

"أعلام الحديث" 2/ 977 - 1000، "المعلم بفوائد مسلم" 2/ 33 بمعنى.

(4)

في (ج): لا.

(5)

في (ج): المتشبهات، والمثبت من "الصحيح"، ومن "الإعلام" 10/ 72.

ص: 197

ذكر هذا الحديث عقبه بقول حسان بن أبي سنان: ما رأيت شيئًا أهون من الورع، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.

ذكر فيه حديث المرأة السوداء في الرضاع وقال: "كيف وقد قيل؟ "

(1)

، وحديث:"احتجبي منه"

(2)

، وحديث عدي بن حاتم في الصيد:"لا تأكل"

(3)

.

ثم ترجم باب: ما يتنزه من الشبهات، وذكر فيه حديث التمرة الساقطة وتَرْكُهَا خشية الصدقة

(4)

، عَقَّبَه بباب آخر فيما لا يُجتنب فقال: باب: من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات. ثم ذكر فيه حديث الرجل (الذي)

(5)

يجد الشيء في الصلاة، وقوله:"لا ينصرف حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا"

(6)

وحديث عائشة: إن قومًا يأتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: "سموا عليه (وَكلُوه)

(7)

"

(8)

وسيأتي الكلام على ذَلِكَ في موضعه إن شاء الله تعالى.

السادسة: اختلف أصحابنا في ترك الطيب وترك لبس الناعم. هل هو طاعة أم لا؟

فقال القاضي أبو الطيب: إنه طاعة لما علم من أمور السلف من

خشونة العيش، وخالف الشيخ أبو حامد واستدل بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ

(1)

سيأتي برقم (2052).

(2)

سيأتي برقم (2053).

(3)

سيأتي برقم (2054).

(4)

سيأتي برقم (2055) باب: ما يتنزه من الشبهات.

(5)

من (ج).

(6)

سيأتي برقم (2056) باب: من لم ير الوساوس ونحوها من المشبهات.

(7)

في (ف): وكلوا.

(8)

سيأتي برقم (2057).

ص: 198

حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ} [الأعراف: 32] الآية. وقال ابن الصباغ: يختلف ذَلِكَ باختلاف الناس وتفرغهم للعبادة، وقصحورهم، واشتغالهم بالضيق والسعة، وصوبه الرافعي.

السابعة: ما يخرج إلى الوسوسة من تجويز الأمر البعيد ليس من الشبهات المطلوب اجتنابها بل وسواس شيطاني، وسبب الوقوع في ذَلِكَ عدم العلم بالمقاصد الشرعية، وقد نبه الشيخ أبو محمد الجويني على جملة من ذَلِكَ منها غسل الثياب الجدد، وغسل القمح، وغير ذَلِكَ من التنطع البارد.

الثامنة: معنى ("اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ") سلم دينه مما يفسده أو ينقصه، وعرضه مما يشينه، واستبرأ لنفسه طلب البراءة من الإثم فبرأها. فمن لم يتق الشبهات المختلف فيها وانتهك حرمتها فقد أوجد السبيل على عرضه فيما رواه أو شهد به، كما نبه عليه ابن بطال

(1)

.

التاسعة: معنى: "يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ" وفي رواية أخرى: "وقع في الحرام" أي: يقع فيه ولا يدري، أو إذا اعتادها فأدته إلى الوقوع فيه متعمدًا فيتجاسر عليه ويواقعه غالبًا ومتعمدًا؛ لخفة الزاجر به عنده، ولما قد ألفه من المساهلة.

العاشرة: ("يُوشِكُ") -بكسر الشين- أي: يسرع ويقرب، وماضيه: أوشك، ولا عبرة بمن أنكره. وفي "الصحاح": الكلمة بفتح الشين، وهي لغة رديئة

(2)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 1/ 117.

(2)

"الصحاح" 4/ 1615 (مادة: وشك).

ص: 199

الحادية عشرة: قوله فيما مضى: ("فَمَنِ اتَقَى المُشَبَّهَاتِ"). قَالَ النووي في "شرحه": ضُبط على وجهين: بفتح الباء المشددة، وبكسرها مع التخفيف والتشديد، وكله صحيح، فمعناه: مُشْبِهات أنفسها بالحلال أو مُشْبِهات الحلال، وعلى رواية الفتح فمعناه:(مُشَبهات)

(1)

بالحلال.

الثانية عشرة: قوله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى". هذا مثل ضربه صلى الله عليه وسلم وذلك أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها، وتتوعد من يقربها؛ (فيبعد)

(2)

عنها خوف ذَلِكَ، (ويحمي)

(3)

أيضًا ما يحيط بها ويقاربها، والله تعالى ملك الملوك وله حمى، وهي المحرمات التي ورد الشرع بها كالزنا وغيره فهي حمى الله تعالى التي منع من في خوله والتعرض له ولمقدماته وأسبابه، فمن خالف شيئًا من ذَلِكَ استحق العقوبة. نسأل الله تعالى العفو والحماية عما يكره.

الثالثة عشرة: المضغة: القطعة من اللحم، سُميت به؛ لأنها تمضغ في الفم لصغرها. وجمعها: مُضَغ

(4)

.

الرابعة عشرة: قوله: ("إِذَا صَلَحَتْ"، "وَإِذَا فَسَدَتْ") هو بفتح اللام والسين، ويضمان في المضارع، ويُقال صَلُح وفسُد -بالضم- إذا صار الصلاح والفساد هيئة لازمة كظرف وشَرُف والمعنى: صارت تلك المضغة ذات صلاح وفساد.

الخامسة عشرة: القلب سُميَّ بذلك؛ لتقلبه وسرعة الخواطر فيه

(1)

في (ف): مشتبهات.

(2)

في (ج): وبعد.

(3)

في (ج): ويحتمي.

(4)

انظر: "لسان العرب" 8/ 451 مادة: (مضغ).

ص: 200

وترددها عليه، وأصله المصدر ثم نقل إلى هذا العضو، والتزمت العرب

التفخيم في قافه للفرق بينه وبين أصله، وقد قَالَ بعضهم: ليحذر اللبيب

سرعة انقلاب قلبه؛ إذ ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

السادسة عشرة: قوله صلى الله عليه وسلم: ("إِذَا صَلَحَتْ") إلى قوله: ("أَلَا وَهِيَ القَلْبُ") هذا أصل عظيم. فحق على كل مكلف السعي التام في إصلاح قلبه ورياضة نفسه وحملها على الأخلاق الجميلة المحصلة لطهارة قلبه وصلاحه. أعاننا الله تعالى على ذَلِكَ.

السابعة عشرة: استدل بهذا ابن بطال على أن العقل في القلب، وأن ما في الرأس فهو من سبب العقل

(1)

، وهو مذهب أصحابنا، وذهب آخرون إلى أنه في الرأس

(2)

، ولا دلالة في الحديث لواحد من المذهبين كما نبَّه عليه النووي في "شرحه".

الثامنة عشرة: استدل به بعض أصحابنا على أحد الوجهين فيما إذا حلف لا يأكل لحمًا، فأكل قلبًا أنه يحنث به. وإليه مال أبو بكر الصيدلاني المروزي، والأصح أنه لا يحنث به؛ لأنه لا يُسمَّى لحمًا عرفًا.

(1)

"شرح ابن بطال" 1/ 117.

(2)

"شرح النووي على صحيح مسلم" 11/ 29.

ص: 201

‌40 - باب أَدَاءُ الخُمُسِ مِنَ الإِيمَانِ

53 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْث أَقْعُدُ مَعَ ابن عَبَّاسِ، يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي. فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ القَوْمُ" أَوْ "مَنِ الوَفْدُ؟ ". قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ بالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى". فَقَالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إَلَّا فِي شَهْرِ الَحرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هذا الَحيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُل بِهِ الجَنَّةَ. وَسَأَلُوهُ عَنِ الأشرِبَةِ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ باللهِ وَحْدَهُ، قَالَ:"أتدْرُونَ مَا الإِيمَانُ باللهِ وَحْدَهُ؟ ". قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إله إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ". وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنِ الَحنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالنَّقِيرِ، وَالُمْزَفَّتِ. وَرُبَّمَا قَالَ: الُمقَيَّرِ. وَقَالَ: "احْفَظُوهُنَّ، وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ". [87، 523، 1398، 3095، 3510، 4368، 4369، 6176، 7556 - مسلم:18 - فتح: 1/ 129]

ثنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ نَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابن عَبَّاسٍ، فيُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَمهْمًا مِنْ مَالِي. فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ القَوْمُ أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟ ". قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي الشَهْرِ الحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هذا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ، نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ.

وَسَأَلهُ عَنِ الأَشرِبَةِ فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ باللهِ وَحْدَهُ قَالَ:"أتدْرُونَ مَا الإِيمَانُ باللهِ وَحْدَهُ؟ ". قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ

ص: 202

أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إلة إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ".

وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَع: عَنِ الحَنْتَمِ، وَالدُّبَّاءِ، وَالمقِيرِ، وَالْمُزَفَّتِ. وَرُبَّمَا قَالَ: المُقَيَّرِ. وَقَالَ: "احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه، لبخاري في عشرة مواضع من "صحيحه" هنا كما ترى، وفي خبر الواحد: عن علي بن الجعد، عن شعبة، وعن إسحاق، عن النضر، عن شعبة

(1)

.

وفي كتاب: العلم عن بندار، عن غندر، عن شعبة

(2)

، وفي: الصلاة عن قُتيبة، عن عبَّاد بن عبَّاد

(3)

، وفي: الزكاة عن حجَّاج بن المنهال، عن حمَّاد

(4)

، وفي الخمس عن أبي النعمان، عن حمَّاد

(5)

، وفي مناقب قريش عن مسدد، عن حمَّاد

(6)

، وفي المغازي عن سُليمان بن حَرْب، عن حماد، و

(7)

عن إسحاق، عن أبي عامر العقدي، عن قرة

(8)

، وفي الأدب: عن عمران بن ميسرة، عن

(1)

سيأتي برقم (7266) باب: وصاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفود العرب أن يبلغوا من وراءهم.

(2)

سيأتي برقم (87) باب: تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم.

(3)

سيأتي برقم (523) باب: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)} .

(4)

سيأتي برقم (1398) باب: وجوب الزكاة.

(5)

سيأتي برقم (3095) باب: أداء الخمس من الدين.

(6)

سيأتي برقم (3510).

(7)

الواو: من (ف).

(8)

سيأتي برقمي (4368، 4369) باب: وفد عبد القيس.

ص: 203

عبد الوارِث، عن أبي التياح

(1)

، وفي التوحيد: عن عَمْرو بن علي، عن أبي عاصم، عن قُرَّة

(2)

.

وأخرجه مسلم في: الإيمان والأشربة: عن خَلَف بن هشام، عن حمَّاد، وعن يحيى بن يحيى، عن عباد

(3)

، وفي: الإيمان وحده، عن أبي موسى، وأبي بكر بن أبي شيبة، وبندار، عن غندر، عن شعبة

(4)

، وعن ابن معاذ، عن أبيه، عن قرة، وعن نصر بن علي، عن أبيه، عن قرة، كلهم عن أبي جمرة به

(5)

، ولم يذكر البخاري في شيء من طرقه قصة الأشج وذكرها مسلم في الحديث فقال صلى الله عليه وسلم للأشج -أشج عبد القيس-:"إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة"

(6)

.

الوجه الثاني: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بابن عباس وشعبة، وأما أبو جمرة فهو -بالجيم والراء- وليس في "الصحيحين" من (يكنى)

(7)

بهذِه الكنية غيره ولا من اسمه جمرَة بل ولا في باقي الكتب الستة أيضًا، ولا في "الموطأ"، وفي كتاب الجياني أنه وقع في نسخة أبي ذر عن أبي الهيثم -بالحاء والزاي- وذلك وهم

(8)

، واسمه نصر بن عمران بن عصام، وقيل: ابن عاصم بن واسع الضبعي البصري.

(1)

سيأتي برقم (6176) باب: قول الرجل مرحبًا.

(2)

سيأتي برقم (7556)، باب: قول الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} .

(3)

مسلم (17/ 23) كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله

، (17/ 39) بعد حديث (1995) كتاب: الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ في المزفت .. مختصرًا.

(4)

مسلم (17/ 24).

(5)

مسلم (17/ 25).

(6)

مسلم (17/ 25) كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله.

(7)

من (ف).

(8)

"تقييد المهمل" 1/ 157.

ص: 204

سمع: ابن عباس وابن عمر وغيرهما من الصحابة وخلقًا من التابعين، وعنه: أيوب وغيره من التابعين وغيرهم. كان مقيمً بنيسابور ثم خرج إلى مرو، ثم انصرف إلى سرخس وبها تُوفيَّ سنة ثمان وعشرين ومائة، وثَقِتُهُ مُتفقٌ عليها. والضبعي -بضم الضاد المعجمة ثم باء موحدة ثم عين مهملة- نسبة إلى ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. قال أبو أحمد الحاكم: ليس في المحدثين أبو جمرة غيره وما عداه أبو حمزة بالحاء المهملة

(1)

.

وقد روى مسلم عن أبي حمزة -بالحاء المهملة- (عمران)

(2)

بن أبي عطاء القصاب -بياع القصب- الواسطي حديثًا واحدًا عن ابن عباس فيه ذكر معاوية وإرسال النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس خلفه

(3)

.

قَالَ بعض الحفاظ: يروي شعبة عن سبعة يروون عن ابن عباس كلهم أبو حمزة -بالحاء والزاي- إلا هذا ويعرف هذا من غيره منهم أنه إذا أطلق عن ابن عباس أبو حمزة فهو هذا، وإذا أرادوا غيره ممن هو بالحاء قيدوه بالاسم والنسب أو الوصف

(4)

كأبي حمزة القصاب في

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 235، "التاريخ الكبير" 8/ 104 (2352)، "الجرح والتعديل" 8/ 465 (2130)، "الثقات" 5/ 476، "تهذيب الكمال" 29/ 362، 365 (6408).

(2)

في (ف): عمر. والمثبت من (ج) وهو الصواب.

(3)

مسلم (2604) كتاب: البر والصلة، باب: من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه.

(4)

انظر: "مقدمة ابن الصلاح" ص 363، و"صيانة صحيح مسلم" ص 149.

قال العراقي في "التقييد والإيضاح" ص 394:

وفيه نظر من حيث أن شعبة قد يروي عن غير نصر بن عمران ويطلقه فلا يذكر اسمه ولا نسبه مثاله ما رواه أحمد في "مسنده" ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي حمزة سمعت ابن عباس يقول: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان =

ص: 205

آخر "صحيح مسلم" في قصة معاوية كما أسلفناه.

وأما علي بن الجعد (خ، د) فهو: الإمام أبو الحسن علي بن الجعد بن عبيد الجوهري الهاشمي مولاهم البغدادي، سمع: الثوري ومالكًا وغيرهما من الأعلام، وعنه: أحمد والبخاري وأبو داود وغيرهم.

قَالَ موسى بن داود: ما رأيت أحفظ منه، وكان أحمد يحض على الكتابة عنه. وقال يحيى بن معين: هو رباني العلم ثقة (ثقة)

(1)

فقيل له: هذا الذي (قد)

(2)

كان منه -يعني: أنه كان يتهم بالجهم- فقال: ثقة صدوق، وقيل: إن الذي كان يقول بالجهم ولده الحسن قاضي بغداد، وأقوالهم في الثناء عليه والحفظ والإتقان مشهورة. وبقي ستين سنة أو سبعين سنة يصوم يومًا ويفطر يومًا، وُلِد سنة ست وثلاثين ومائة، ومات سنة ثلاثين ومائتين، ودفن بمقبرة باب حرب ببغداد

(3)

.

= فاختبأت من خلف باب .. الحديث فهذا شعبة قد أطلق الرواية عن أبي حمزة وليس هو نصر بن عمران وإنما هو أبو حمزة بالحاء المهملة والزاي القصاب واسمه عمران بن أبي عطاء.

ثم قال: وقد يروي شعبة أيضًا عن أبي جمرة، عن ابن عباس وهو نصر بن عمران وينسبه، مثاله ما رواه مسلم في الحج من رواية محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة قال: سمعت أبا جمرة الضبعي يقول: تمتعت فنهاني ناس عن ذلك فأتيت ابن عباس

الحديث فهذا شعبة لم يطلق الرواية عن أبي جمرة بل نسبه بأنه الضبعي، وهذا لا يرد على عبارة المصنف ولكن أردت بإيراده أنه ربما نسب أبا جمرة الذي بالجيم وربما لم ينسب أبا حمزة الذي بالحاء كما تقدم من "مسند أحمد" والله أعلم. أهـ.

_________

(1)

من (ج).

(2)

من (ج).

(3)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 266 (2362)، "الجرح والتعديل" 6/ 178 (974)، "الثقات" 8/ 466، "تهذيب الكمال" 2/ 341 - 352 (4034).

ص: 206

الوجه الثالث: في بيان ألفاظه ومعانيه وفوائده:

الأولى: قوله: (كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابن عَبَّاسٍ). يعني زمن ولايته البصرة من قِبلَ علي رضي الله (عنهما)

(1)

وللبخاري في كتاب العلم عنه: كنت أترجم بين ابن عباس والناس

(2)

، ولمسلم: كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس

(3)

. قيل: إن لفظة يدي زائدة؛ لتتفق الروايات.

وقيل: التقدير بينه وبين الناس.

والترجمة: التعبير بلغة عن لغة لمن لا يفهم، وقيل: كان يتكلم بالفارسية، وكان يترجم لابن عباس عمن تكلم بها.

قَالَ ابن الصلاح: وعندي أنه كان يترجم عن ابن عباس إلى من خفي عليه من الناس لزحام أو لاختصار يمنع من فهمه، وليست الترجمة مخصوصة بتفسير لغة بأخرى، فقد أطلقوا على (قولهم)

(4)

باب كذا اسم الترجمة لكونه يعبر عما يذكره بعد.

قَالَ النووي: والظاهر أنه يفهمهم عنه ويفهمه عنهم

(5)

. وفي لفظ: فجاءته امرأة فسألته عن نبيذ الجر فقال: الحديث

(6)

.

الثانية: فيه جواز الترجمة والعمل بها، وجواز المترجم الواحد؛ لأنه من باب الخبر لا من باب الشهادة على المشهود، وبوب عليه

(1)

في (ج): عنه.

(2)

سيأتي برقم (87) باب: تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم.

(3)

مسلم (17) كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين والدعاء إليه

(4)

من (ف).

(5)

"مسلم بشرح النووي" 1/ 186 وما قبله أيضًا من كلام النووي.

(6)

مسلم (17).

ص: 207

البخاري في بعض طرقه: باب الترجمة بين يدي الحاكم

(1)

.

الثالثة: السرير: معروف وجمعه: سُرُر -بضم الراء- كما جاء به القرآن الكريم، ويجوز فتحها، وكذا ما أشبهها من المضعف كجديد وجُدُد ودليل ودُلُل ونظائره، ويجوز فيها ضم الثاني وفتحه، والضم أشهر، والفتح حكاه الواحدي والجوهري وغيرهما

(2)

، ولا وجه لمن أنكره.

الرابعة: فيه استحباب إكرام كبير القدر من جلسائه، ورفع مجلسه (وتخصيصه)

(3)

فيه على غيره.

الخامسة: معنى قوله: (أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي) أقم عندي لتساعدني على فهم كلام السائلين، فإنه كان يترجم له كما سلف، ويخبره بمراد السائل الأعجمي ويخبر السائل بقول ابن عباس.

السادسة: الوفد: الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم في لقى العلماء، والمصير إليهم في المهمات. واحدهم: وافد. قَالَ ابن سيده: يُقال: وفد عليه وإليه وفدًا ووُفُودًا، ووِفَادة وإِفَادة على البدل: قَدِمَ، وأوفده عليه، وهم الوفد والوفود.

فأما الوفد: فاسم (للجمع)

(4)

، وقيل: جمع. وأما الوفود فجمع (وافد)

(5)

وفد أوفده إليه

(6)

.

(1)

سيأتي معلقًا قبل حديث (7196) كتاب: الأحكام.

(2)

"الصحاح" 682/ 2، مادة:(سرر).

(3)

في (ف): تخصصه.

(4)

في (ج): لجمع.

(5)

في (ف): واحد، وفي (ج): وفد، والمثبت من "المحكم".

(6)

"المحكم" 10/ 140.

ص: 208

وفي "الجامع" للقزاز: ووفوده والقوم يفدون وأوفدتهم أنا إيفادًا وواحد الوفد: وافد.

وفي "الصحاح": وفد فلان على الأمير رسولًا، والجمع: وُفُد، وجمع الوُفُد: أوفاد، والاسم: الوفادة وأوفدته أنا إلى الأمير: أرسلته

(1)

.

وفي "المغيث" و"مجمع الغرائب": الوفد قوم يجتمعون فيردون البلاد

(2)

. وما ذكرته أولًا هو قول صاحب "التحرير" وجزم به النووي في "شرحه" لهذا الكتاب

(3)

، وقال القاضي: هم القوم يأتون الملك ركبانًا

(4)

، ويؤيد ما ذكره أن ابن عباس فسَّر قوله تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85] قَالَ: ركبانًا

(5)

.

السابعة: وفد عبد القيس تقدموا قبائل عبد القيس للمهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أربعة عشر راكبًا رئيسهم الأشج العصري واسمه: المنذر بن عائذ -بالذال المعجمة، وقال الكلبي: المنذر بن الحارث ابن زياد، وقيل: المنذر بن عامر، وقيل: ابن عبيد، وقيل: عبد الله بن عوف، قاله ابن سعد

(6)

، ولُقّب بالأشج؛ لأثر كان في وجهه

(7)

وسبب

(1)

"الصحاح" 2/ 553، مادة:(وفد).

(2)

"المجموع المغيث" 3/ 438.

(3)

وذكره أيضًا النووي في "شرح مسلم" 1/ 181.

(4)

"مشارق الأنوار" 2/ 292 مادة (و. ف. د).

(5)

رواه الطبري في "تفسيره" 8/ 380 (32931).

(6)

"الطبقات الكبرى" 5/ 558 - 559.

(7)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" 3/ 103، "معرفة الصحابة" 1/ 358، "الاستيعاب" 1/ 226، "أسد الغابة" 1/ 116 - 117، 5/ 267.

ص: 209

وفادتهم؛ أن منقذ بن (حيان)

(1)

أحد بني غنم بن وديعة كان متجره إلى يثرب بملاحف وتمر من هجر بعد الهجرة فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فنهض منقذ إليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمنقذ بن حيان: "كيف جمع قومك؟ " ثم سأله عن أشرافهم (وتسميتهم)

(2)

. فأسلم منقذ وتعلم الفاتحة وأُقْرِأَ ثم رحل إلى هجر. فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جماعة عبد القيس فكتمه، ثم اطَّلَعَتْ عليه أمرأته -وهي بنت المنذر بن عائذ -بالذال المعجمة- (بن المنذر)

(3)

بن الحارث بن النعمان بن زياد بن عصر بن عوف بن عمرو بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن (عمرو)

(4)

بن وديعة بن لُكَيْز -بالزاي- بن قصي بن عبد القيس بن أفصى -بالفاء ثم صاد مهملة- بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار (بن معد بن عدنان)

(5)

، والمنذر هذا هو: الأشج -كما سلف- سماه صلى الله عليه وسلم به؛ لأثر كان في وجهه -كما سلف- وكان منقذ (يُصلي ويقرأ)

(6)

، فذكرت لأبيها فتلاقيا، فوقع الإسلام في قلبه ثم ثار الأشج إلى قومه عصر ومحارب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه عليهم فوقع الإسلام في قلوبهم، وأجمعوا على السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار الوفد، فلما دنوا من

(1)

في (ج): حبان والمثبت هو الصواب كما في "الطبقات الكبرى" 5/ 563، "التاريخ الكبير" 8/ 18 (1994)، "الجرح والتعديل" 8/ 367 (1678)، وقال ابن حبان في "الثقات" 7/ 511 (11221): وقد قيل: منقذ بن حبان. اهـ.

(2)

في (ف): يسميهم.

(3)

من (ف).

(4)

في (ف): عمر. والمثبت هو الصواب كما في "معجم الصحابة" 3/ 103، "أسد الغابة" 5/ 267.

(5)

من (ج).

(6)

في (ج): يقرأ ويصلي.

ص: 210

الوديعة قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق وفيهم الأشج العصري غير ناكبين ولا مبدلين ولا مرتابين" إذ لم يسلم قوم حتى وتروا

(1)

.

قَالَ القاضي: وكان وفودهم عام الفتح قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة

(2)

.

فائدة:

القيس في اللغة: الشدة، وبه سُميَّ امرؤ القيس. أي: رجل الشدة

(3)

.

الثامنة: قوله: قَالَ: ("مَنِ القَوْمُ" أَوْ "مَنِ الوَفْدُ؟ ") هو شك من بعض الرواة قالوا: ربيعة هذا نسبة إلى جدهم الأعلى فإن عبد القيس هو ابن (أفصى)

(4)

بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة كما سلف.

التاسعة: قوله: ("قَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ") هو من الرُّحب -بضم الراء- وهو: السعة، والرَّحب بالفتح: الشيء الواسع. ومرحبًا منصوب بفعل مضمر لا يظهر أي: صادفت رحبًا، وأتيت رحبًا وسعة فاستأنس. وقال الفراء: معناه: رحب الله بك مرحبًا كأنه وضع موضع الترحيب، والعرب أيضًا تقول: يرحبك الله ويسهلك، ومرحبًا بك وسهلًا. ذكره الهروي وغيره، وأكثرت العرب منه ومرادها: البر والإكرام وحسن اللقاء.

العاشرة: قوله: ("غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى") هكذا وقع هنا، وجاء في

(1)

انظر: "مسلم بشرح النووي" 1/ 181.

(2)

"إكمال المعلم" 1/ 229.

(3)

انظر: "لسان العرب" 6/ 188.

(4)

في (ج): قصي.

ص: 211

غير ذا الموضع "غَيْرَ الخَزَايَا وَلَا النَدَامَى"

(1)

بالألف (واللام)

(2)

فيهما، وفي رواية لمسلم:"غَيْرَ خَزَايَا وَلَا النَدَامَى"

(3)

وكله صحيح و"غير" منصوب على الحال. هكذا الرواية، وتُؤيده رواية البخاري في موضع آخر:"مرحبًا بالقوم الذين جاءوا غير خزايا ولا ندامى"

(4)

. وأشار صاحب "التحرير" إلى أنه روي بالكسر على الصفة للقوم، والمعروف الأول، وأما معناه: فالخزايا جمع خزيان كحيران وحيارى، والخزيان: المستحيي.

وقيل: الذليل المهان (وبه جزم ابن التين في المغازي فقال: أي غير أذلاء ولا مهانين، يقال: خزي الرجل يخزى خزيًا إذا هلك، وخزي إذا استحيا قال: ويحتمل أن يريد: أنكم لن تقعوا في بلية، قال ابن السكيت

(5)

: خزي إذا وقع في بلية)

(6)

.

وأما الندامى فقيل: جمع ندمان، بمعى: نادم وهي لغة في نادم حكاها القزاز والجوهري وغيرهما

(7)

وعلى هذا هو على بابه، وقيل: جمع نادم اتباعًا للخزايا، وكان الأصل نادمين فأُتْبع لخزايا تحسينًا للكلام، وهذا الإتباع كثير في كلام العرب، وهو فصيح.

(1)

رواها ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 3/ 254 (1616)، والمروزي في "تعظيم قدر الصلاة" 1/ 400 (391)، وأبو نعيم في "مستخرجه على مسلم" 1/ 111 (105)، والبيهقي في "الشعب" 4/ 60.

(2)

من (ج).

(3)

مسلم (17/ 24) كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله.

(4)

سيأتي برقم (6176).

(5)

"إصلاح المنطق" ص 373.

(6)

من (ج).

(7)

"الصحاح" 5/ 2040، "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 36، وانظر:"لسان العرب" 7/ 4386، مادة:(ندم).

ص: 212

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ارجعن مأزورات غير مأجورات"

(1)

أتبع مأزورات لمأجورات، ولو أفرد ولم يتبع لقال: موزورات. كذا قاله الفراء وجماعات، قالوا: ومنه قول العرب: إني لآتيه بالغدايا والعشايا. جمعوا الغداة: غدايا؛ إتباعًا لعشايا، وأصله: غدوات.

وأما معنى "غير ندامى" فالمقصود: أنه لم يكن منهم تأخُر عن الإسلام ولا عناد، ولا أصابكم إسار ولا سبيًا ولا ما أشبه ذَلِكَ مما يستحيون بسببه أو يذلون أو يهانون أو يندمون، فهذا إظهار لشرفهم حيث دخلوا في الإسلام طائعين من غير خزي ثم لما أسلموا احترموا.

(1)

روي من حديث علي بن أبي طالب وأنس بن مالك ومورق العجلي، أما حديث علي فرواه ابن ماجه (1578) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في اتباع النساء الجنائز، والبزار في "مسنده" 2/ 249 (653)، والبيهقي في "السنن" 4/ 77 كتاب: الجنائز، باب: ما ورد في نهي النساء عن اتباع الجنائز، وابن الجوزي في "العلل" 2/ 420 (1507)، وجوَّد إسناده، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" 2/ 44: هذا إسناد مختلف فيه من أجل دينار، وإسماعيل بن سلمان أورده ابن الجوزي في "العلل المتناهية" ورواه الحاكم من طريق إسرائيل، ومن طريق الحاكم رواه البيهقي.

أما حديث أنس بن مالك، فرواه أبو يعلى 7/ 109 (4056)، 7/ 268 (4284) والخطيب في "تاريخ بغداد" 6/ 201، وقال الهيثمي في "المجمع" 3/ 28: رواه أبو يعلى، وفيه الحارث بن زياد، قال الذهبي: ضعيف.

وقال المناوي في "فيض القدير" 1/ 605 بعدما أورد كلام ابن الجوزي والهيثمي: وقال الدميري: حديث ضعيف تفرد به ابن ماجه وفيه إسماعيل بن سليمان الأزرق ضعفوه. ثم قال: وبهذا التقرير انكشف أن رمز المصنف لصحته صحيح في حديث علي لا في حديث أنس فَخُذْه منقحًا. اهـ. بتصرت، ورد الألباني قول المناوي وضعف الحديث كما في "الضعيفة"(2742).

وأما حديث مورق العجلي، فرواه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 456 - 457 (6298) عن الثوري، عن رجل عنه مرسلًا. وقد صح النهي عن اتباع النساء الجنائز كما في "صحيح مسلم"(938).

ص: 213

الحادية عشرة: قوله: (إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي شَهْرِ الحَرَامِ).

المراد: جنس الأشهر الحرم، وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وفي رواية لمسلم:(في أشهر الحرم)

(1)

. أي: في أشهر الأوقات الحرم، وإنما مكنوا في هذِه الأشهر دون غيرها؛ لأن العرب كانت لا تقاتل فيها، وما ذكرناه من عد الأشهر الحرم هو المستحسن في عدها وتظاهرت عليه الأخبار، وقيل: تعد من سنة واحدة.

الثانية عشرة: قوله: (وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هذا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ). أي: في طريقنا من المدينة نمر عليهم. وأصل الحي: منزل القبيلة ثم سُميت به اتساعًا؛ لأن بعضهم يحيا ببعض، قاله في "المطالع"، وقال ابن سيده: إنه بطن من بطون العرب

(2)

.

قَالَ الكلبي: وأول العرب شعوب ثم قبائل ثم عمائر ثم بطون، ثم أفخاذ، ثم فصائل، ثم عشائر

(3)

. وقدم الأزهري العشائر على الفصائل قَالَ: وهم الأحياء.

(1)

مسلم (18) كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله

من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

"المحكم" 3/ 303.

(3)

وقد نظمها بعضهم، قال العلامة محمد بن عبد الرحمن الغرناطي:

الشعْبُ ثم قبيلةٌ وعِمَارة

بطْنٌ وفخذٌ فالفصيلة تابِعَهْ

فالشعبُ مجتمعُ القبيلةِ كُلّها

ثم القبيلة للِعمارةِ جامِعَهْ

والبطنُ تَجْمَعُه العمائِرُ فاعلَمَنْ

والفَخْذُ تَجْمَعُه البطونُ الواسِعَهْ

والفخْذُ يجمع للفصائل هَاكَها

جاءت على نَسَق لها متتابِعَهْ

فخزيمةٌ شَعْبٌ وإنّ كِنانةً

لقبيلةٌ منها الفضائلُ نابِعَهْ

وقريشها تُسْمَى العِمَارةَ يا فتى

وقُصيُّ بطنٌ للأَعَادي قَامِعَه

ذا هاشمُ فَخِذٌ وذا عَبّاسُهَا

كَنْزُ الفصيلةِ لا تُناطُ بِسَابِعَهْ

انظر: "تاج العروس" 2/ 114 مادة (شعب).

ص: 214

وذكر الجواني

(1)

في "الفاضلية" أن العرب على طبقات عشر أعلاها الجذم ثم الجمهور ثم الشعوب -واحدها: شعب- ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم العشيرة، ثم الفصيلة، ثم الرهط.

وقال ابن دريد: الحي: الشعب العظيم من الناس

(2)

.

الثالثة عشرة: قوله: (فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ). أي: بين واضح ينفصل به المراد ولا يشكل. قاله الخطابي وغيره

(3)

.

الرابعة عشرة: قوله: (نُخْبِر) هو بالرفع على الصفة لأمر، قَالَ القرطبي: كذا قيدناه على من يوثق.

وقوله: (وَنَدْخُلْ بِهِ الجَنَّةَ) يجوز رفعه على الصفة وجزمه على (جواب)

(4)

الأمر.

قَالَ القرطبي: قيدناه بهما كأنه قال إن أمرتنا بأمر واضح فعلناه ورجونا دخول الجنة به

(5)

.

(1)

هو محمد بن أسعد بن عليّ بن معمر بن عمر بن عليّ بن الحسين بن أحمد بن عليّ ابن إبراهيم بن محمد بن الحسن محمد الجواني، الشريف أبو علي، ولد سنة خمس وعشرين وخمسمائة. وكان علامة النسب في عصره، وولي نقابة الأشراف مدة بمصر، من مصنفاته: كتاب "طبقات الطالبيين"، و"تاج الأنساب ومنهاج الصواب"، و"المقدمة الفاضلية في الأنساب"، و"ديوان العرب وجوهرة الأدب في إيضاح النسب"، توفي سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.

انظر ترجمته في: "تاريخ الإسلام" 41/ 307 - 308، "الوافي بالوفيات" 2/ 202، "هدية العارفين" ص 747.

(2)

الذي ذكره في "جمهرة اللغة" 1/ 343: أن الشعب: الحي العظيم من الناس نحو حِمير وقُضاعة وجُرْهُم.

(3)

"أعلام الحديث" 1/ 185.

(4)

في (ف): جواز.

(5)

"المفهم" 1/ 174.

ص: 215

وقوله: (وَنَدْخُل)، كذا هو هنا بالواو وفي البخاري أيضًا ومسلم بحذفها

(1)

.

الخامسة عشرة: قوله: (فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ باللهِ وحده) إلى آخره. وعدَّ خمسة ويجاب: بأنه أمرهم بالأربع التي وعدهم ثم زادهم خامسة وهي أداء الخمس؛ لأنهم كانوا مجاورين كفار مضر فكانوا أهل جهاد، ويكون قوله:("وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ"). معطوفًا على أربع أي: أمرهم باربع وبأن يعطوا، والشهادتان في حكم واحد. وجواب ثانٍ وهو أن أول الأربع إقام الصلاة، وذكر كلمة التوحيد؛ لأنها الأساس، وقد رواه البخاري في كتاب: الأدب وفيه: "أقيموا الصلاة"

(2)

إلى آخره وليس فيه ذكر الشهادة، وفي بعض طرقه حذف الصوم

(3)

.

السادسة عشرة: هذا الحديث موافق لحديث: "بُني الإسلام على خمس"

(4)

ولتفسير الإسلام بخمسة في حديث جبريل عليه السلام

(5)

وقد سلف أن ما يُسمى إسلامًا يُسمى إيمانًا. قيل: وإنما لم يذكر هنا

(1)

البخاري (6176): كتاب: الأدب، باب: قول الرجل مرحبًا، و (7266) كتاب: أخبار الآحاد، باب: وصاة النبي صلى الله عليه وسلم وفود العرب أن يبلغوا من وراءهم، ومسلم (17) كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله.

(2)

سيأتي برقم (6176) كتاب: الأدب، باب: قول الرجل مرحبًا.

(3)

سيأتي برقم (253) كتاب: مواقيت الصلاة، باب:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)} ، و (1398) كتاب: الزكاة، باب: وجوب الزكاة. و (3510) كتاب: المناقب، و (4369) كتاب: المغازي، باب: وفد عبد القيس.

(4)

سبق برقم (8) كتاب: الإيمان، باب:{دُعَاؤُكُمْ} : إيمانكم.

(5)

سبق برقم (50) باب: سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 216

الحج؛ لأنه لم يكن فُرِضَ بعد، وفيه نظر؛ لأن هذا كان عام الفتح، والحج فُرض قبل ذَلِكَ إما سنة خمس أو سنة ست.

قَالَ القاضي: والجهاد لم يكن فُرِضَ أيضًا لأن فرضه العام نزل في سورة براءة سنة ثمان بعد الفتح. قَالَ: وجاء في بعض طرق هذا الحديث حذف الصوم وهو إغفال من الراوي؛ لعدم الحفظ من بعضهم

(1)

.

السابعة عشرة: الخُمس -بضم الميم وتسكن- وكذا الثلث والربع إلى العشر يُضم ثانيه ويسكن.

الثامنة عشرة: فيه دلالة على وجوب الخمس في الغنيمة قلَّت أم كَثُرت وإن لم يكن الإمام في السرية (الغازية)

(2)

. وسيأتي بسطه في موضعه إن شاء الله تعالى (ذَلِكَ)

(3)

وقدره.

التاسعة عشرة: (الحَنتم) -بفتح الحاء المهملة وإسكان النون ثم مثناة فوق مفتوحة- جرار خضر على أصح الأقوال، وقد جاء في "صحيح مسلم" في كتاب الأشربة تفسيره بها

(4)

.

ثانيها: أنها الجرار مطلقًا.

ثالثها: أنها جرار مقيرات الأجواف يؤتى بها من مضر، زاد بعضهم أنها حُمْر.

رابعها: أنها جرار حمر أعناقها، وقيل: أفواهها في جنوبها يُجلب فيها الخمر من مضر، وقيل: من الطائف، وكان ناس ينتبذون فيها يضاهون به الخمر.

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 229.

(2)

في (ف): المغازية.

(3)

من (ف).

(4)

مسلم (1993) كتاب: الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ قي المزفت والدباء والحنتم.

ص: 217

خامسها: أنها جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم

(1)

، وعبارة "المحكم" أنها جرار خضر تضرب إلى الحمرة

(2)

. وعبارة الخطابي إنها جرار مطلية بما يسد مسام الخزف ولها التأثير في الانتباذ؛ لأنها كالمزفت

(3)

. وعبارة ابن حبيب: هي الجر وكل ما كان من فخار أبيض أو أخضر. وردَّ عليه بأنها ما طلي من الفخار بالحنتم المعمول من الزجاج وغيره.

وأما (الدباء): بالمد فهو: اليقطين اليابس أي الوعاء منه، وهو بضم الدال وقد تكسر وقد يقصر.

وأما (النقير): فهو جذع ينقر وسطه (وينبذ)

(4)

فيه كما جاء في "صحيح مسلم" مبينًا مرفوعًا

(5)

.

وأما (المقير): فهو المزفت وهو المطلي بالقار وهو الزفت، وقيل: الزفت: نوع من القار. والصحيح الأول، وفي "صحيح مسلم"

(6)

عن ابن عمر قَالَ: المزفت هو المقير. وعبارة ابن سيده وغيره: أنه شيء أسود تطلى به الإبل والسفن

(7)

. وقال أبو حنيفة

(8)

: إنه شجر مر.

(1)

انظر: "مسلم بشرح النووي" 1/ 185.

(2)

"المحكم" 4/ 54.

(3)

في "أعلام الحديث" 1/ 185 قال: والحناتم: الجرار، وفي "معالم السنن" 4/ 248 قال: أما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر.

(4)

في (ج): وينتبذ.

(5)

مسلم (18) كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله ورسوله وشرائع الدين.

(6)

مسلم (1997) كتاب: الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير.

(7)

"المحكم" 6/ 309.

(8)

هو أحمد بن داود الدنيوري النحوي، تلميذ ابن السكيت. انظر "سير أعلام النبلاء" 13/ 422.

ص: 218

العشرون: النهي عن الانتباذ في هذِه الأربع، وهو أن يجعل في الماء حبات من تمر أو زبيب أو نحوهما؛ ليحلو (ويشرب)

(1)

؛ لأنه يسرع فيها الإسكار فيصير حرامًا وتبطل ماليته، ففيه إضاعة المال، وربما شربه بعد أن صار مسكرًا ولا يدري.

ولم يُنْه عن الانتباذ في أسقية الأدم بل أذن فيها؛ لأنها لرقتها لا يبقى فيها المسكر بل إذا صار مسكرًا شقها غالبًا، ثم إن هذا النهي كان في أول الإسلام ثم نسخ، ففي "صحيح مسلم" من حديث بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قَالَ)

(2)

: "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا"

(3)

.

هذا مذهب الشافعي والجمهور، وذهبت طائفة إلى أن النهي باقٍ، منهم: مالك وأحمد وإسحاق حكاه الخطابي عنهم قَالَ: وهو مروي عن (ابن عمر)

(4)

وابن عباس

(5)

، وذِكْرُ ابن عباس هذا الحديث لما اسْتُفْتي

(1)

في (ف): أو يشرب.

(2)

من (ف).

(3)

مسلم (977) كتاب: الجنائز، باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه.

(4)

في الأصول: عمر، والمثبت هو الصواب، كما في "معالم السنن".

(5)

"معالم السنن" للخطابي 4/ 248، وحديث ابن عمر رواه مسلم (1997) كتاب: الأشربة، باب: النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير، وبيان أنه منسوخ وأنه اليوم حلال، ما لم يصر مسكرًا، وأبو داود (3690، 3691) كتاب: الأشربة، باب: في الأوعية، والترمذي (1868) كتاب: الأشربة، باب: ما جاء في كراهية أن ينبذ في الدباء والنقير والحنتم، والنسائي 8/ 303 - 304 كتاب: الأشربة، باب: ذكر الأوعية التي نهي عن الانتباذ فيها دون ما سواها مما لا تشتد أشربتها كاشتداده فيها، وابن ماجه (3402) كتاب: الأشربة، باب: النهي عن نبيذ الأوعية، وأحمد 1/ 27.

وحديث ابن عباس هو حديث الباب وفي بعض رواياته أنه استفتي في ذلك فأجاب بهذا الحديث.

ص: 219

دليلٌ على أنه يعتقد النهي ولم يبلغه الناسخ، والصواب الجزم بالإباحة؛ لصريح النسخ

(1)

.

الحادية بعد العشرين: قوله صلى الله عليه وسلم: ("وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ") فيه دلالة على قبول خبر الواحد، وقد أخرجه البخاري فيه

(2)

، كما سلف، وقوله:"مَن". هو بفتح الميم، ورواه مسلم مرة كذلك ومرة بكسرها

(3)

والهمز في "وراءكم"، وقوله أولا:(مَن وراءنا). لا خلاف أنه مفتوح الميم.

الثانية بعد العشرين: قد اشتمل هذا الحديث على أنواع من العلوم وقد أشرنا إلى بعضها، ومنها: وفادة الفضلاء والرؤساء إلى الأئمة عند الأمور المهمة.

ومنها: تقديم الاعتذار بين يدي المسألة.

ومنها: بيان مهمات الإسلام وأركانه سوى الحج.

ومنها: أن الأعمال تُسمى إيمانًا وهو مراد البخاري هنا.

ومنها: ندب العَالِم إلى إكرام الفاضل.

ومنها: استعانة العالم في تفهيم الحاضرين والفهم عنهم كما (فعل)

(4)

ابن عباس.

(1)

انظر هذِه المسألة في: "شرح معاني الآثار" 4/ 223 - 229، "المنتقى" 3/ 148، "مسلم بشرح النووي" 1/ 185 - 186، "المغني" 12/ 514 - 515، "نيل الأوطار" 5/ 416.

(2)

سيأتي برقم (7266) كتاب: أخبار الآحاد، باب: وصاة النبي صلى الله عليه وسلم وفود العرب أن يبلغوا من وراءهم.

(3)

"صحيح مسلم"(17/ 24) كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله ورسوله.

(4)

في (ج): فعله.

ص: 220

ومنها: استحباب قول الرجل لزواره وشَبَهِهِم: مرحبًا

(1)

.

ومنها: أنه ينبغي للعالم أن يحث الناس على تبليغ العلم وإشاعة أحكام الإسلام.

ومنها: أنه لا كراهة في قول رمضان من غير تقييد بالشهر.

ومنها: أنه لا (عيب)

(2)

على طالب العلم والمستفتي إذا قَالَ للعالم: أوضح لي الجواب. ونحو هذِه العبارة.

ومنها: جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا لم يخف (فتنة وإعجابًا)

(3)

ونحوه.

ومنها: الترجمة في الفتوى وقبول خبر الواحد كما سلف.

ومنها: وجوب الخمس في الغنيمة.

خاتمة: جاء في هذا الخبر أن وفد عبد القيس لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقام الأشج فجمع رحالهم وعقل ناقته ولبس ثيابًا جددًا، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقربه وأجلسه إلى جانبه، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ لهم:"تبايعوني على أنفسكم وقومكم؟ " فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله، إنك إن تزايل الرجل عن شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا وترسل معنا من يدعوهم، فمن اتبع كان منا، ومن أبى قاتلناه. قَالَ:"صدقت، إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة"

(4)

.

(1)

قال الحافظ في "الفتح" 1/ 131: وأفاد العسكري أن أول من قال مرحبًا سيف بن ذي يزن. اهـ.

(2)

في (ج): عتب.

(3)

في (ف): فتنة وإعجاب، وفي (ج): فيه بإعجاب.

(4)

ذكر هذا الخبر بتمامه النووي في "مسلم بشرح النووي" 1/ 189.

ص: 221

وجاء في مسند أبي يعلى

(1)

: فقال: يا رسول الله، كانا فِيَّ أم حَدَثًا؟

قَالَ: "بل قديم". قَالَ: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.

والأناة: بفتح الهمزة مقصور هي: تربصه حتى نظر في مصالحه

وهي الأناة، والثانية: الحلم وهي هذِه الأخيرة الدالة على صحة عقله

وجودة نظره للعواقب.

(1)

12/ 242 (6848).

ص: 222

‌41 - باب مَا جَاءَ أَنَّ الأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى

فَدَخَلَ فِيهِ الإِيمَانُ، وَالْوُضُوءُ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالْحَجُّ، وَالصَّوْمُ، وَالأَحْكَامُ. وَقَالَ اللهُ تَعَالَى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]: عَلَى نِيَّتِهِ. وَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "ولكن جِهَادٌ وَنِيَّةٌ". [انظر: 1349].

54 -

حَدُّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْن مَسْلَمَةَ قَالَ: أَخبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصِ، عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ". [انظر: 1 - مسلم: 1907 - فتح: 1/ 135].

55 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْن مِنْهَالٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَى عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ". [4006، 5351 - مسلم: 1002 - فتح: 1/ 136]

56 -

حَدَّثَنَا الَحكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرٌ بْنُ سَعْدِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص أنَهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيّ امْرَأَتِكَ". [1295، 2742، 2744، 3936، 4409، 5354، 5659، 5668، 6373، 6733 - مسلم:1628 - فتح: 1/ 136]

حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمة نَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ، عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ

ص: 223

وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ أمْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ".

حَدَّثنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ ثنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ نفقة يَحْتَسِبُهَا فَهُي لَهُ صَدَقَةٌ".

حَدَّثنَا الحَكَمُ بْنُ نَافِع أَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:"إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِم امْرَأَتِكَ".

الكلام على ذَلِكَ من وجوه:

أحدها:

حديث: "ولكن جِهَادٌ وَنِيَّةٌ". علقه هنا بصيغة جزم وقد أسنده في: الحج

(1)

، والجهاد

(2)

، والجزية

(3)

كما ستعلمه، أخرجه في الحج عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس مرفوعًا:"لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا". وأخرجه مسلم أيضًا في الجهاد

(4)

.

وحديث عمر رضي الله عنه سلف أول الكتاب بتعداد طرقه وهذا ثاني موضع منها.

(1)

سيأتي برقم (1834) كتاب: جزاء الصيد، باب: لا يحل القتال بمكة.

(2)

سيأتي برقم (2783) باب: فضل الجهاد والسير.

(3)

سيأتي برقم (3189) باب: إثم الغادر للبر والفاجر.

(4)

مسلم (1353/ 85) كتاب: الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام ..

ص: 224

وحديث أبي مسعود رضي الله عنه أخرجه هنا كما ترى، وفي المغازي

(1)

عن مسلم، وفي النفقات

(2)

عن آدم.

وأخرجه مسلم

(3)

في الزكاة عن ابن معاذ، عن أبيه، وعن محمد بن بشار وأبي بكر بن (نافع)

(4)

، عن غندر. وعن أبي كريب، عن وكيع كلهم، عن شعبة به. فوقع للبخاري عاليًا خماسيًّا، ولمسلم من جميع طرقه سداسيًّا.

وحديث سعد بن أبي وقاص قطعة من حديثه الطويل المشهور، أخرجه البخاري هنا كما ترى، وفي الجنائز

(5)

عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وفي المغازي

(6)

عن أحمد بن يونس، عن إبراهيم.

وفي الهجرة

(7)

عن يحيى، عن قزعة، عن إبراهيم.

وفي الدعوات

(8)

عن موسى، عن إبراهيم بن سعد.

وفي الطب

(9)

عن موسى بن إسماعيل عن شعيب، وأخرجه مسلم في الفرائض: عن يحيى بن يحيى، عن إبراهيم. وعن قتيبة وأبي بكر، عن

(1)

سيأتي برقم (4006) كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة.

(2)

سيأتي برقم (5351) كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل.

(3)

مسلم (1002) كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة.

(4)

في (ف)، (ج): رافع، والصواب ما أثبتناه من "صحيح مسلم".

(5)

سيأتي برقم (1295) كتاب: الجنائز، باب: رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة.

(6)

سيأتي برقم (4409) كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع.

(7)

سيأتي برقم (3936) كتاب: مناقب الأنصار، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم".

(8)

(6373) كتاب: الدعوات، باب: الدعاء برفع الوباء والوجع.

(9)

سيأتي برقم (5668) عن موسى بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، وليس عن شعيب، وانظر "التحفة"(3890).

ص: 225

سفيان. وعن إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، كلهم عن الزهري به

(1)

.

وأورده البخاري في الفرائض أيضًا مطولًا وفيه: "لن تُخَلَّفَ بعدي فَتَعْمَلَ عملًا تريد به وجه الله إلا ازددت به رفعة ودرجة"

(2)

. وهو أعم من لفظ النفقة التي أوردها هنا.

الوجه الثاني: في التعريف برجاله:

أما حديث: "الأعمال بالنيات" فتقدم الكلام على رجاله مفرقًا، وأما حديث سعد فكذلك أيضًا.

وأما حديث أبي مسعود فسلف من رجاله شعبة فقط، وأما باقي رجاله فأبو مسعود هو: عقبة (ع) بن عمرو بن ثعلبة بن أَسِيرة -بفتح الهمزة وكسر السين وقيل: بضمها، وقيل: يسيرة بضم أوله بن عَسيرة -بفتح العين وكسر السين- بن عطية بن جِدارة -بكسر الجيم، وقال ابن عبد البر: بكسر الخاء المعجمة- بن عوف بن الخزرج الأنصاري الخزرجي البدري. شهد العقبة مع السبعين وكان أصغرهم، وشهد أحدًا. ثم الجمهور على أنه لم يشهد بدرًا وإنما سكنها، وقال المحمدون: ابن شهاب الزهري وابن إسحاق -صاحب المغازي- والبخاري في "صحيحه": شهدها

(3)

، وكذا الحكم بن عتيبة.

وقال ابن سعد: قَالَ محمد بن عمر وسعد بن إبراهيم وغيرهما: لم يشهد بدرًا

(4)

، وقال الحكم وغيره من أهل الكوفة: شهدها وأهل المدينة أعلم بذلك.

(1)

مسلم (1628) كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث.

(2)

سيأتي برقم (6733) كتاب: الوصية، باب: ميراث البنات.

(3)

انظر حديث (4007) كتاب المغازي، باب منه (12).

(4)

"الطبقات الكبرى" لابن سعد 6/ 16.

ص: 226

روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث وحديثان، اتفقا منها على تسعة، وللبخاري حديث ولمسلم سبعة.

روى عنه: عبد الله بن يزيد الخطمي وابنه بشير وغيرهما. سكن الكوفة ومات بها، وقيل: بالمدينة قبل الأربعين، قيل: سنة إحدى وثلاثين، وقيل: بعد الستين، وقيل: سنة إحدى أو اثنتين وأربعين

(1)

.

فائدة:

في الصحابة أبو مسعود هذا، وأبو مسعود الغفاري

(2)

، قيل: اسمه عبد الله وثالث الظاهر أنه الأول

(3)

.

وأما الراوي عنه فهو أبو موسى عبد الله بن يزيد بن زيد بن حصين بن عمرو بن الحارث بن خطمة -واسمه عبد الله؛ لأنه ضرب رجلًا على خَطمه أي: على مقدم أنفه فسميَّ بذلك -بن جُشَم بن مالك بن

(1)

انظر ترجمته في "معجم الصحابة" لابن قانع 2/ 272 (795)، "الاستيعاب" 3/ 184 (1846)، "أسد الغابة" 4/ 57 (3711)، "الإصابة" 2/ 490 - 491 (5606).

(2)

هو عبد الله بن مسعود الغفاري، وقيل: أبو مسعود الغفاري، روي عنه حديث طويل في فضائل رمضان، سماه بعضهم في الرواية عبد الله، وأكثر ما يُروى عنه لا يُسمى. وقال ابن الأثير في "أسد الغابة" 6/ 287 (6243): اختلف في هذا الصحابي، وأكثر ما يجيء عنه بابن مسعود، وقيل: اسمه عبد الله.

وانظر ترجمته في: "معرفة الصحابة" 6/ 3029 (3459)، "أسد الغابة" 3/ 392 (3178)، 4/ 33 (3653)، "الإصابة" 4/ 180 (1048).

(3)

قال ابن الأثير: أبو مسعود غير منسوب. أورده أبو بكر بن أبي علي، إن لم يكن البدري فغيره ثم قال: وقد جعله أبو موسى ترجمة غير أبي مسعود البدري، والذي يغلب على ظني أنه هو، فإن أبا مسعود البدري هو ابن عمرو بن ثعلبة، ثم من بني عوف بن الحارث بن الخزرج، فبأي شيء علم ابن أبي علي أنه غيره حتى جعلهما ترجمتين انظر:"أسد الغابة" 6/ 287 - 288 (6244).

ص: 227

الأوس أخي الخزرج بن حارثة بن ثعلبة العنقاء -لطول عنقه- بن عمرو بن مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد الأنصاري الخطمي الصحابي.

سكن الكوفة وكان أميرًا عليها (في عهد ابن الزبير)

(1)

شَهِد الحديبية وهو ابن سبع عشرة سنة، وشهد صفين والجمل (والنهروان)

(2)

مع علي رضي الله عنه، وكان الشعبي كاتبه، وكان من أفاضل الصحابة، وقيل: إن لأبيه يزيد صحبة.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة وعشرون حديثًا، أخرج البخاري منها حديثين أحدهما في: الاستسقاء موقوفًا

(3)

، وفي المظالم حديث النهي عن النُهْبَى والمُثْلَةِ

(4)

، ومسلم أحدهما

(5)

وأخرجا له عن البراء

(6)

وأبي مسعود

(7)

وزيد بن ثابت

(8)

. مات زمن ابن الزبير قاله الواقدي

(9)

.

(1)

من (ج).

(2)

في (ف): النيروان.

(3)

سيأتي برقم (1022) باب: الدعاء في الاستسقاء قائمًا.

(4)

سيأتي برقم (2474) باب: النهبى بغير إذن صاحبه.

(5)

مسلم (894) كتاب: صلاة الاستسقاء.

(6)

البخاري (690) كتاب: الأذان، باب: متى يسجد من خلف الإمام، ومسلم (474) كتاب: الصلاة، باب: متابعة الإمام والعمل بعده.

(7)

البخاري حديث الباب، ومسلم (1022) كتاب: الزكاة، باب: فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين.

(8)

البخاري (1884) كتاب: فضائل المدينة، باب: المدينة تنفي الخبث، ومسلم (1384) كتاب: الحج، باب: المدينة تنفي شرارها.

(9)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 18، "الاستيعاب" 3/ 123 - 124 (1703)، "أسد الغابة" 3/ 416 - 417 (3245)، "الإصابة" 2/ 382 - 383 (5033).

ص: 228

(وأخرج له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه)

(1)

.

فائدة: في الصحابة عبد الله بن يزيد جماعة هذا أحدهم، وثانيهم: عبد الله بن يزيد القارئ

(2)

له ذكر في حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم سمع قراءته

(3)

، وثالثهم: عبد الله بن يزيد النخعي

(4)

، ورابعهم: عبد الله بن

(1)

من (ج).

(2)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة" 3/ 417 (3246)، "الإصابة" 2/ 383 (5034).

(3)

الحديث رواه البخاري (2655)، وأحمد 6/ 62 وقال البخاري عقب هذِه

الرواية: وزاد عباد بن عبد الله، عن عائشة تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فسمع صوت عباد يصلي في المسجد فقال:"يا عائشة أصوت عباد هذا؟ " قلت: نعم. قال: "اللهم ارحم عبادًا".

وقال ابن حجر: في "الفتح" 5/ 265 عند شرحه للحديث: وظاهر الحال أن المبهم في الرواية التي قبل هذِه هو المفسر في هذِه الرواية؛ لأن مقتضى قوله "زاد" أن يكون المزيد فيه والمزيد عليه حديثًا واحدًا فتتحد القصة. لكن جزم عبد الغني بن سعيد في "المبهمات" بأن المبهم في رواية هشام، عن أبيه، عن عائشة هو عبد الله بن يزيد الأنصاري. اهـ.

وكذا قال ابن طاهر المقدسي في "إيضاح الإشكال" ص 101 (137) والخطيب البغدادي في "الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة" ص 178 (91) وساق الحديث بإسناده إلى عمرة، عن عائشة وسمى القارئ في الحديث بعبد الله بن يزيد الأنصاري.

(4)

قال ابن الأثير في "أسد الغابة" 3/ 417 - 418 (3248): عبد الله بن يزيد النخعي، والد موسى، أورده العسكري في الأفراد. وروى محمد بن الفضل بإسناده إلى موسى بن عبد الله بن يزيد النخعي، عن أبيه أنه كان يصلي للناس، فكان الناس يرفعون رءوسهم ويضعونها قبل أن يضع، فقال: أيها الناس، إنكم تأثمون ولو تستقيمون لصليت بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أخرم منها شيئًا.

ورواه أحمد بن خُلَيد الحلبي، عن أبي نعيم، عن محمد بن موسى الأنصاري، عن موسى بن عبد الله، عن أبيه ولم يقل النخعي، وأورده الطبراني في ترجمة عبد الله ابن يزيد الخطمي، وهو أنصاري لا نخعي، وهو به أشبه، أخرجه أبو موسى، قلت: هو الخطمي لا شبهة فيه، وابنه موسى يروي عنه، ولعل الراوي قد رآه مصحفًا فإن النخعي قريب من الخطمي في الكتابة -والله أعلم-. اهـ.

ص: 229

يزيد البجلي

(1)

له حديث: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" أورده ابن قانع

(2)

.

وخامسهم: غلط فيه ابن المبارك

(3)

في حديث ابن مربع: "كونوا على مشاعركم"

(4)

.

(1)

انظر ترجمته في "الإصابة" 2/ 383 (5035).

(2)

"معجم الصحابة" لابن قانع 2/ 101 في ترجمة: عبد الله بن يزيد البجلي.

(3)

روى يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ" 2/ 210 - 211 هذا الحديث عن الحميدي، ثنا سفيان، ثنا عمرو أنه سمع عبد الله بن صفوان بن أمية، قال: أخبرني يزيد بن شيبان الأزدي، قال: كنا وقوفًا بعرفة

الحديث.

ثم قال: وروى ابن المبارك، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن عبد الله بن صفوان، عن عبد الله بن يزيد، قال: كنا وقوفًا

قال يعقوب: فذكرت ذلك لصدقة بن الفضل، فقال: هذا من ابن المبارك، غلط فيه. قلت: فإن عليّ بن الحسن بن شقيق قال: سمعته من سفيان مثله. فقال صدقة: اتكل على سماع غيره. اهـ.

وعلق الحافظ على ذلك ففال: الحديث مخرج في السنن من طرق اتفقت على قوله عن يزيد بن شيبان. اهـ.

"الإصابة" 3/ 144 - 145 (6654).

تنبيه: كذا وقع في "المعرفة والتاريخ" أنه سمع عبد الله بن صفوان، وهو خطأ وصوابه: عمرو بن عبد الله بن صفوان كما في مصادر تخريج الحديث.

(4)

رواه أبو داود (1919)، والترمذي (883)، وقال: حديث ابن مربع الأنصاري حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، والنسائي 5/ 255، وفي "الكبرى" 2/ 424 (4010)، وابن ماجه (3011)، وأحمد 4/ 137 (17233)، والحميدي 1/ 491 (587)، والبخاري في "التاريخ الكبير" 8/ 446، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 236 (13873) كتاب: الحج، باب من قال: عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 4/ 168 (2149) ويعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" 2/ 210 وابن خزيمة في "صحيحه" 4/ 255 (2819) والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 3/ 298 (1775) والمحاملي في "أماليه"(345) وابن قانع في "معجم الصحابة" =

ص: 230

فائدة:

هذا الحديث في إسناده من الطرف رواية صحابي عن صحابي.

وأما عدي بن ثابت

(1)

فهو أنصاري كوفي سمع جده لأمه عبد الله بن يزيد الخطمي والبراء بن عازب وغيرهما من الصحابة، وعنه: شعبة والأعمش وغيرهما. قَالَ أحمد: ثقة.

وأما الحجاج فهو أبو محمد حجاج بن منهال السلمي مولاهم

البصري الأنماطي سمع شعبة وغيره من الكبار، وعنه الأعلام: البخاري وغيره واتفقوا على الثناء عليه، وكان صاحب سنة يظهرها، وُلِد سنة أربعين ومائة، ومات سنة ست عشرة، وقيل: سبع عشرة ومائتين.

قَالَ المزي في "تهذيبه": روى له الستة

(2)

ولم يعدد أولًا فيمن روى عنه منهم غير البخاري، وقال النووي في "شرحه": روى عنه: البخاري ومسلم (وأبو داود)

(3)

.

وقال شيخنا قطب الدين في "شرحه": روى له البخاري، وروى

= 1/ 230، والحاكم في "المستدرك" 1/ 462 وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في "التلخيص": صحيح.

والحديث صححه الألباني كما في "صحيح أبي داود"(1675)، و"صحيح الجامع"(4394).

(1)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 7/ 308، "التاريخ الكبير" 7/ 44 (196)، "الثقات" 2/ 132 (1222)، "الجرح والتعديل" 7/ 2 (5)، "الثقات" لابن حبان 5/ 270، "تهذيب الكمال" 19/ 522 - 524 (3883).

(2)

"تهذيب الكمال" 5/ 459 (1128).

(3)

من (ف).

ص: 231

مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن رجل عنه

(1)

(والصواب الأول)

(2)

.

فائدة:

ليس في الكتب الستة حجاج بن منهال سواه.

الوجه الثالث:

فسّر الشاكلة في الآية بالنية. وفسرها الزجاج بالطريقة والمذهب والليث: بما يوافق فاعله، فالكافر ييأس عند الشدة بخلاف المؤمن ويدل عليه قوله:{فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء: 84].

ومعنى: "يحتسبها" يبتغي بها وجه الله.

وقوله: "فم" هو: بالميم وروي بحذفها وإثبات الياء وهو أصوب، والأول لغة قليلة.

الوجه الرابع:

في هذِه الأحاديث أحكام كثيرة نشير إلى بعضها هنا؛ لأنها ستأتي في مواضعها مبسوطة. وأما حديث "إنما الأعمال بالنيات" فسلف الكلام عليه مبسوطًا كما نبهنا عليه.

ومنها: الحث على الإخلاص وإحضار النية في جميع (الأعمال)

(3)

الظاهرة والخفية.

(1)

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 1/ 307، "التاريخ الكبير" 2/ 380 (2841)، "معرفة الثقات" 1/ 286 - 287 (269)، "الجرح والتعديل" 3/ 167 (711).

(2)

في (ف): فاعلم ذلك.

(3)

في (ج): الأفعال.

ص: 232

ومنها: الرد على قول المرجئة: إن الإيمان إقرار باللسان دون الاعتقاد بالجنان. وهو مراد البخاري بهذا الباب وقد سلف بسط ذَلِكَ، وهو مردود بالنصوص والإجماع في أن المنافقين من أهل الدرك الأسفل من النار.

ومنها: أن النفقة على العيال وإن كانت من أفضل الطاعات فإنما تكون طاعة إذا نوى بها وجه الله، وكذا نفقته على نفسه وضيعته ودابته وغير ذَلِكَ إذا نوى بها ذَلِكَ، وإلى ذَلِكَ الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِم امْرَأَتِكَ" ولو حصل فيه حظ نفس في ضمنه من لذة وغيرها فإن الوضع يكون غالبًا لحظ النفس من شهوة وغيرها، ونبَّه بذلك على الأعلى من كسوة وغيرها.

ص: 233

‌42 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ

".

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]

57 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وِايتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِم. [58، 524، 1401، 2157، 2714، 2715، 7204 - مسلم:56 - فتح:1/ 137]

58 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ الُمغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَامَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ. ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لأمِيرِكمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ العَفْوَ. ثمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلَامِ. فَشَرَطَ عَلَيَّ: "وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ". فَبَايَعْتُهُ عَلَى هذا، وَرَبِّ هذا الَمسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ. ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ. [انظر: 57 - مسلم: 56 فتح: 1/ 139]

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ نَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ البجلي قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.

حَدَّثَنَا أَبُو النّعْمَانِ نَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَوْمَ مَاتَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَامَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: عَلَيْكُمْ باتِّقَاءِ اللهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيَكُمُ الآنَ.

ثُمَّ قَالَ: اسْتَعْفُوا لأَمِيرِكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ العَفْوَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ،

ص: 234

فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلَامِ. فَشَرَطَ عَلَيَّ: وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلمٍ. فَبَايَعْتُهُ عَلَى هذا، وَرَبِّ هذا المَسْجِدِ إِنِّي لنَاصِح لَكُمْ. ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنزَلَ.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث خرجه البخاري هنا كما ترى، وخرَّجه في كتاب البيوع

(1)

بلفظ: بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والسمع والطاعة، والنصح لكل مسلم. وأخرجه مسلم بلفظين: أحدهما كلفظ البخاري الأول

(2)

، والثاني بلفظ: بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقَّنني: "فِيمَا اسْتَطَعْتَ". وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ

(3)

.

الوجه الثاني: في التعريف برجاله:

أما الإسناد الأول فمسدد، ويحيى، وهو ابن سعيد القطان، وإسماعيل وهو ابن أبي خالد التابعي فسلف بيانهم.

وأما جرير (ع) فهو أبو عبد الله -أو أبو عمرو- جرير بن عبد الله بن جابر وهو الشليل

(4)

بن مالك بن نصر بن ثعلبة البجلي الأحمسي -بالحاء والسين المهملتين- الكوفي.

(1)

سيأتي برقم (2157) كتاب: البيوع، باب: هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر.

(2)

مسلم (56/ 97) كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة.

(3)

مسلم (56/ 99) كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة.

(4)

ورد في بعض المصادر: السليل.

انظر: "تهذيب الكمال" 4/ 533، "تهذيب التهذيب" 1/ 296.

ص: 235

وبجيلة قبيلة معروفة نسبوا إلى بجيلة بنت (صعب)

(1)

بن سعد العشيرة. قَالَ ابن إسحاق: جرير سيد قبيلته. يعني: بجيلة. قَالَ: وبجيلة بن أنمار بن نزار بن معد بن عدنان.

نزل جرير الكوفة، ثم تحول إلى قرقيسيا

(2)

وبها توفي سنة إحدى وخمسين. وقيل غير ذَلِكَ. له مائة حديث اتفقا منها على ثمانية، وانفرد البخاري بحديثٍ ومسلم بستة، كذا في شرح شيخنا قطب الدين، وفي شرح النووي: روي له (مائتا)

(3)

حديثٍ، انفرد البخاري بحديثٍ، وقيل: بستةٍ. ولعل صوابه: ومسلم بستةٍ بدل: وقيل: بستة.

كان قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في رمضان، (فبايعه وأسلم وقيل أسلم)

(4)

قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين يومًا، وكان يصلي إلى سنام البعير، وكانت نعله ذراعًا، واعتزل الفتنة، وكان يدعى يوسف هذِه الأمة لحسنه.

روى عنه بنوه: عبد الله، والمنذر، وإبراهيم، وابن ابنه أبو زرعة هرم، ومناقبه جمة، ومنها أن وكيله اشترى له فرسًا بثلاثمائة، فتخيل جرير أنها تساوي أربعمائة، قَالَ لصاحبها: أتبيعها بأربعمائة؟ قَالَ:

(1)

في الأصول (صعبة)، والصواب ما أثبتناه كما في "الاستيعاب" 1/ 308، "أسد الغابة" 1/ 333، "عمدة القاري" 1/ 370.

(2)

قَرْقِيْسِيا: بفتح أوله، وإسكان ثانيه، بعده قاف أخرى مكسورة، وياء ساكنة وسين مكسورة وياء أخرى وألف ممدودة ويقال بياء واحدة، بلد على نهر الخابور قرب رحبة مالك بن طوق على ستة فراسخ وعندها مصب الخابور في الفرات فهي في مثلث بين الخابور والفرات. انظر:"معجم ما استعجم" 3/ 1066، "معجم البلدان" 4/ 328.

(3)

في (ف): روى له مائتي.

(4)

في (ج): فبايعه وأسلم، وقيل: أسلم.

ص: 236

نعم. ثم تخيل أنها تساوي خمسمائة قَالَ: أتبيعها بخمسمائة؟ قَالَ: نعم.

قَالَ: فلم يزل كذلك حتى اشتراها منه بثمانمائة وقال: بايعت رسول الله على النصح لكل مسلم

(1)

.

فائدة:

ليس في الصحابة جرير بن عبد الله البجلي إلا هذا، وفيهم: جرير بن عبد الله الحميري

(2)

فقط، وقيل: ابن عبد الحميد. وفيهم جرير بن الأرقط

(3)

، وجرير بن أوس الطائي، وقيل: خريم

(4)

، وجرير أو أبو جرير، يُروى (حديثه)

(5)

عن أبي ليلى الكندي عنه

(6)

.

وأما الراوي عنه فهو أبو عبد الله قيس بن أبي حازم. واسم أبي حازم عبد عوف بن الحارث، ويُقال: عوف بن عبد الحارث بن عوف الأحمسي البجلي الكوفي التابعي المخضرم.

أدرك الجاهلية، وجاء ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم فقُبض وهو في الطريق -ووالده صحابي- سمع خلقًا من الصحابة منهم: العشرة المشهود لهم بالجنة، وليس في التابعين من يروي عنهم غيره. وقيل: لم يسمع عبد الرحمن بن عوف، وعنه جماعة من التابعين، وجلالته متفق

(1)

انظر ترجمة جرير في: "معرفة الصحابة" 2/ 591 - 599 (483)، "الاستيعاب" 1/ 308 - 310 (326)، "أسد الغابة" 1/ 333 - 334 (730)، "الإصابة" 1/ 232 (1136).

(2)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة" 1/ 332 (729)، "الإصابة" 1/ 232 (1137).

(3)

انظر ترجمته في: "معرفة الصحابة" 1/ 599 (484)، "أسد الغابة" 1/ 332 (727)، "الإصابة" 1/ 231 (1134).

(4)

انظر: "أسد الغابة" 1/ 332 (728)، "الإصابة" 1/ 231 (1135).

(5)

في (ف): حديث.

(6)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة" 1/ 334.

ص: 237

عليها، وهو أجود الناس إسنادًا كما قاله أبو داود

(1)

.

ومن طرف أحواله أنه روى عن جماعة من الصحابة لم يرو عنهم غيره منهم (أبوه، ودكين)

(2)

بن سعيد، والصنابحي بن الأعسر، ومرداس الأسلمي رضي الله عنهم. مات سنة أربع، وقيل: سبع وثمانين، وقيل: سنة ثمان وتسعين

(3)

.

وأما الإسناد الثاني: فالراوي عن جرير زياد وهو: أبو مالك زياد بن عِلاقة -بكسر العين المهملة- بن مالك الثعلبي -بالثاء المثلثة- الكوفي، سمع: جريرًا وعمه قطبة بن مالك وغيرهما من الصحابة وغيرهم، وعنه جماعات من التابعين منهم الأعمش، وكان يخضب بالسواد، وثقوه

(4)

.

وأما الراوي عنه فهو: أبو عوانة -بفتح العين المهملة- الوضاح بن عبد الله اليشكري الواسطي سلفت ترجمته واضحة، وكررها النووي، وهي من آخر ما انتهى إليه "شرحه" رحمه الله.

وأما الراوي عنه فهو: أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي البصري المعروف بعَارِم وكان بعيدًا منه، لأن العرامة: الشراسة والفساد، يُقال: عَرِمَ يَعْرم عَرامة -بالفتح- وصبي عارم أي: شرس، من (العُرَام)

(5)

بضم العين. قَاله الجوهري

(6)

.

(1)

"سؤالات الآجري" ص 113 (45).

(2)

في (ف): أبو ود كثير.

(3)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 67، "التاريخ الكبير" 7/ 145 (648)، "الجرح والتعديل" 7/ 102 (579)، "تهذيب الكمال" 24/ 10 - 16 (4896).

(4)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 316، "التاريخ الكبير" 3/ 364، (1234)، "معرفة الثقات" 1/ 373 (511)، "الجرح والتعديل" 3/ 540، (2437)، "الثقات" 4/ 258، "تهذيب الكمال" 9/ 498 - 500 (2061).

(5)

في (ف): العرامة.

(6)

"الصحاح" 5/ 1983، مادة:(عرم).

ص: 238

سمع ابن المبارك وخلائق، وعنه: البخاري وغيره من الأعلام.

قَالَ أبو حاتم: إذا حدثك عارم فاختم عليه.

وكان سليمان بن حرب يقدمه على نفسه إذا خالفه في شيء رجع إلى ما يقول.

وقال عبد الرحمن: سمعت أبي يقول: اختلط أبو النعمان في آخر عمره وزال عقله، فمن سمع منه قبل الاختلاط فسماعه صحيح، وكتبتُ عنه قبل الاختلاط سنة أربع عشرة

(1)

.

وقد أسلفنا أن البخاري روى عنه بغير واسطة، وروى مرة عنه بواسطة

(2)

، وكذا مسلم والأربعة

(3)

.

مات سنة أربع وعشرين ومائتين

(4)

.

الوجه الثالث:

ذكر البخاري في الباب ثلاثة أحاديث: حديثين مسندين عن جرير، والثالث حديث:"الدين النصيحة" ذكره معلقًا كما تراه، وقد أخرجه مسلم في "صحيحه" مسندًا من حديث سهيل، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الدِّينُ النَّصِيحَةُ"(ثلاثة)

(5)

قلنا:

(1)

"الجرح والتعديل" 8/ 59 (267).

(2)

سيأتي برقم (4620) كتاب: التفسير، باب:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} .

(3)

أي بواسطة فإن مسلم والأربعة لم يرووا عنه إلا بواسطة.

(4)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 305، "التاريخ الكبير" 1/ 208 (654)، "معرفة الثقات" 2/ 250 (1634)، "المجروحين" 2/ 294 - 295، "تهذيب الكمال" 26/ 287 - 292 (5547)، "التقريب" ص 502 (6226).

(5)

من (ج).

ص: 239

لِمن؟ قَالَ: "لله وَبكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ"

(1)

. وليس (لهم)

(2)

في "صحيح مسلم" سواه، ولا أخرج البخاري (لهم)

(3)

شيئًا، لأن سهيلًا ليس على شرطه.

قَالَ الخطابي: ترجم البخاري على حديث: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ" ولم يسنده؛ لأن راوي الحديث تميم، وأشهر طرقه سهيل بن أبي صالح وليس من شرطه، وروي أيضًا عن ابن عمر من طرق لا بأس بها

(4)

.

قُلْتُ: فقوي إذن. وقد أخرج له البخاري مقرونًا

(5)

.

وقال البخاري أيضًا: سمعت عليًّا -يعني: ابن المديني- يقول: كان سهيل له أخ (تَوَجَّد)

(6)

عليه؛ فنسي كثيرًا من الأحاديث

(7)

.

وقَالَ الحاكم: اجتهد مسلم وأكثر إخراجه (عنه)

(8)

في الشواهد مقرونًا في أكثر روايته بحافظ لا يدافع، فسلم بذلك من نسبته إلى سوء الحفظ. وأغرب بعض شيوخنا فقال في تعليقه على هذا الصحيح: حديث جرير في النصح شبيه بحديث تميم المذكور عند ابن

(1)

مسلم (55) كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة.

(2)

في (ج): لتميم.

(3)

في (ج): لتميم.

(4)

"أعلام الحديث" 1/ 187.

(5)

سيأتي برقم (2840) كتاب: الجهاد، باب: فضل الصوم في سبيل الله.

قال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 2/ 129: وعاب ذلك عليه النسائي، فقال السلمي: سألت الدارقطني: لم ترك البخاري حديث سهيل في كتاب "الصحيح"؟ فقال: لا أعرف فيه عذرًا، فقد كان النسائي إذا مرّ بحديث سهيل، قال: سهيل -والله- خير من أبي اليمان، ويحيى بن بكير وغيرهما. اهـ.

(6)

في (ج): فوجد.

(7)

انظر: "تهذيب التهذيب" 2/ 129.

(8)

من (ج).

ص: 240

خزيمة في كتابه: "السياسة"، ثم ساقه بسياقة مسلم ولا شك أن عزوه إليه أولى.

الوجه الرابع:

النصح نقيض الغش. نَصَحَ له ونَصَحَه يَنْصَح نُصْحًا ونُصوحًا ونِصاحة ونَصاحة قاله ابن سيده

(1)

، وقال صاحب "الجامع": النصح: بذل المودة والاجتهاد في المشورة.

وقال ابن طريف: نَصُحَ قلبُ الإنسان خَلُصَ من الغش، قَالَ الجوهري: وهو باللام أفصح

(2)

.

وفي "الغريبين": نصحته: صدقته.

الوجه الخامس:

هذا الحديث عظيم جليل حفيل عليه مدار الإسلام لا كما قيل: إنه ربعه؛ فإن النصيحة كلمة جامعة معناها: حيازة الحظ للمنصوح له، وهو من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، ويقال: إنه ليس في كلام العرب كلمة مفردة تستوفي بها العبارة على معنى هذِه الكلمة كما قالوا في الفلاح: ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه.

وقيل: النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه. والنصاح: الخيط، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط فيما يسده من خلل الثوب.

(1)

"المحكم" 3/ 113.

(2)

"الصحاح" 1/ 410، مادة:(نصح).

ويقصد الجوهري بقوله: وهو باللام أفصح، قول الذبياني الذي أنشده:

نَصَحْتُ بني عوفٍ فلم يَتَقَبَّلوا

رسولي ولم تَنْجَح لديهم وسائلي

أي: نَصَحْت لِبَني.

ص: 241

وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع. شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط.

ومعنى الحديث: عماد الديق وقوامه النصيحة كقوله: "الحج عرفة"

(1)

أي: عماده ومعظمه، كما يُقال: الناس تميم، والمال الإبل.

وإنما استفصلت (الكلمة)

(2)

؛ لأنها من باب المضاف فقال:

" (لله)

(3)

ولكتابه" حلها شائعة في كل سهم من سهام الدين، وفي كل طبقة من طبقات أهله.

فأما النصيحة لله فمعناها منصرف إلى الإيمان به ونفي الشرك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال (والجلال)

(4)

كلها، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن جميع أنواع النقائص وصفات المحدث، والقيام بطاعته واجتناب مخالفته، والحب فيه والبغض فيه، وموالاة من والاه ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف (بنعمه)

(5)

التي لا تُحصى وشكره عليها، والإخلاص له في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع هذِه الأوصاف، وحث الناس عليها، والتلطف في جمعهم وإرشادهم إليها، وحقيقة هذِه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه؛ (فالله)

(6)

تعالى غني عن نصح الناصح وعن العالمين.

(1)

رواه أبو داود (1949)، والترمذي (889)، والنسائي 5/ 256، وابن ماجه (3015) من حديث عبد الرحمن بن يعمر.

وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(705).

(2)

من (ف).

(3)

من (ج).

(4)

من (ج).

(5)

في (ف): بنعمته.

(6)

في (ج): فإنه.

ص: 242

وأما النصيحة لكتابه تعالى فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام (الخلق)

(1)

، ولا يقدر الإنس والجن لو اجتمعوا على الإتيان بسورة مثله، ثم تعظيمه وتلاوته حقها وتحسينها والخشوع عندها وإقامة ألفاظه، والذب عنه لتأويل الملحدين وتحريف المحرفين وتعرض (الطاعنين)

(2)

، والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والإيمان بمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه، والعمل بما اقتضى منه عملًا، ودوام تدبره، والتصديق بوعده ووعيده إلى غير ذَلِكَ.

وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم فمعناها تصديقه في إرساله، وقبول ما جاء به ودعا إليه، والطاعة له فيما سن وحكم وشرَّع وبيَّن من أمر الدين، وإعظام حقه، وتوقيره، ومؤازرته، وإحياء طريقته في بث الدعوة، وإشاعة السنة ونفي التهمة عنه فيما قَالَه، فإنه كما قَالَ تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم: 3]، وقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].

وأما النصيحة لأئمة المسلمين فهم الخلفاء الراشدون ومن بعدهم ممن يلي أمر الأمة ويقوم، ومن نصحهم: بذل الطاعة لهم في المعروف، والصلاة خلفهم، وجهاد الكفار معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج عليهم بالسيف إذا ظهر منهم سوء سيرة، وتنبيههم عند الغفلة، وألا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى بصلاحهم، وقد يتأول ذَلِكَ في الأئمة الذين هم علماء الدين، ومن

(1)

في (ج): الناس.

(2)

في (ف): طاعن.

ص: 243

نصحهم: قبول ما رووا إذا انفردوا، وتقليدهم، ومبايعتهم، وحسن الظن بهم.

وأما نصيحة عامة المسلمين: فتعليمهم ما يجهلونه، وإرشادهم إلى مصالحهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة كما قَالَ تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ} [النحل: 125]، وكقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ} ، و {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء: 72] الآيتين.

قَالَ الآجري: ولا يكون ناصحًا إلا من بدأ بالنصيحة لنفسه فعلمها؛ ليعلم ويحذر من مكائد الشيطان ويخالف النفس في هواها

(1)

.

قَالَ عيسى صلوات الله وسلامه عليه: الناصح لله الذي يبدأ بحقه قبل حق الناس، ويبدأ بأمر الآخرة قبل الدنيا

(2)

.

قَالَ الحسن البصري: مازال لله نصحاء ينصحون الناس في عباده، وينصحون لعباد الله في حق الله (عليهم)

(3)

، ويعملون له في الأرض بالنصيحة، أولئك خلفاء الله في الأرض.

(1)

قال الأجري في كتاب "الأربعين حديثًا" ص 446 بعد إيراده حديث: "الدين النصيحة" هذا: قد سألنا سائل عن هذا الحديث فقال: تخبرني كيف النصيحة لله عز وجل، وكيف النصيحة لكتاب الله جل ثناؤه، وكيف النصيحة لرسوله .. ؟ فأجبناه فيه كيف النصيحة على هذا الترتيب الذي سأل عنه بجزء ينبغي لكل مؤمن عاقل أديب يطلبه ويتعلمه.

(2)

رواه أحمد في "الزهد" ص 73 باب: من مواعظ عيسى عليه السلام، ونعيم بن حماد في "زوائده على الزهد لابن المبارك" ص 34 (134).

(3)

في (ف): عليكم.

ص: 244

الوجه السادس:

مراد البخاري بهذا الباب: وقوع الدين على العمل؛ فإنه سَمى النصيحة دينا وإسلامًا، وبايعه على النصح لكل مسلم كما بايعه على الصلاة والزكاة، فالنصح معتبر بعد الإسلام.

وظن ابن بطال في "شرحه"

(1)

أن مقصود البخاري الرد على من زعم أن الإسلام القول دون العمل، وهو ظاهر العكس؛ لأنه لما بايعه على الإسلام فشرط عليه:"والنصح" فلو دخل في الإسلام لما استأنف له بيعة.

السابع:

النصيحة فرض على الكفاية لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي فهو في سعة، فيجب على من علم بالمبيع عيبًا أن يبينه بائعا كان أو أجنبيًّا، ويجب على الوكيل والشريك والخازن النصح.

الثامن:

قد تكون عامة وقد تكون خاصة، وقد سلف ذَلِكَ عند حديث عبادة إثر باب علامة الإيمان حب الأنصار، وكان المغيرة واليًا على الكوفة لعمر بن الخطاب ثم لمعاوية بعده، ومات بها وهو والٍ عليها سنة خمسين.

التاسع:

قول جرير: (عليكم بالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ). أي: الزموهما.

(1)

"شرح ابن بطال" 1/ 129.

ص: 245

ويؤخذ منه أن العالم إذا رأى أمرًا يخشى منه الفتنة على الناس أن (يعظهم)

(1)

في ذَلِكَ ويرغبهم في الألفة وترك الفرقة.

ومعنى قوله: ("حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ") أي: يقوم بأمركم وينظر في مصالحكم.

وقوله: ("فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ العَفْوَ") جعل الوسيلة إلى عفو الله بالدعاء بأغلب خلال الخير عليه وما كان يحبه في حياته من العفو عمن أذنب إليه، وكذلك يُجْزى كل أحد يوم القيامة

(2)

(بأحسن خلقه وعمله في الدنيا)

(3)

.

(1)

في الأصول: يعظم، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(2)

هنا انتهى الجزء الأول من المخطوط (ف) ويبدأ بعد ذلك جزء آخر وهو بخط مختلف وبترقيم جديد.

(3)

من (ج).

ص: 246

3

كِتابُ العِلْمِ

ص: 247

بسم الله الرحمن الرحيم

‌3 - كتاب العلم

‌1 - باب فَضْلِ العِلْمِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]. وَقَوْلِهِ عز وجل: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]. [فتح: 1/ 140]

استفتح البخاري رحمه الله هذا الباب بآياتٍ من القرآن العظيم تبركًا.

قَالَ ابن مسعود: مدح الله تعالى العلماء في هذِه الآية أي: يرفع الله الذين آمنوا وأوتوا العلم عَلَى الذين آمنوا ولم يؤتوه درجات في دينهم

(1)

أي: وفي الآخرة إِذَا فعلوا ما أُمروا به.

وقيل: يرفعهم في الثواب والكرامة.

(1)

أورده بمعناه البغوي في "تفسيره" 8/ 58 - 59. والقرطبي في "تفسيره" 17/ 299.

وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 271 لابن المنذر.

ص: 249

وقيل: في الفضل في الدنيا والمنزلة، وقيل: إن المراد بالعلم في الآية الثانية القرآن

(1)

.

وكان كلما نزل شيء منه ازداد به عليه السلام علمًا، وقيل: ما أمر الله رسوله بزيادة الطلب في شيء إلا في العلم، وقد طلب موسى عليه السلام الزيادة فقال:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] وكان ذَلِكَ لما سُئِلَ: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليها

(2)

.

وجاء في كثير من (الآثار)

(3)

أن درجات العلماء تتلوا درجات الأنبياء ودرجات أصحابهم، فالعلماء ورثة الأنبياء

(4)

وإنما ورثوا العلم وبينوه للأمة وذبوا عنه وحموه من تحريف الجاهلين و (انتحال)

(5)

المبطلين

(6)

.

وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] قَالَ: بالعلم

(7)

.

(1)

ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 327 ونسبه لمقاتل.

(2)

سيأتي برقم (74) كتاب: العلم، باب: ما ذكره في ذهاب موسى عليه السلام في البحر إلى الخضر.

(3)

في (ف): الآيات.

(4)

جزء من حديث أورد البخاري بعضه في كتاب العلم ضمن عنوان، باب: العلم قبل القول والعمل، فقال:"وإن العلماء هم ورثة الأنبياء" وسيأتي كلام المصنف عليه هناك.

(5)

في (ف): إبطال، والمثبت من (ج).

(6)

مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين وتأويل الغالين" وسوف يأتي تخريج هذا الحديث موسعًا إن شاء الله.

(7)

رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 4/ 1335 (7550)، وعزاه السيوطي في "الدر =

ص: 250

وجاء في فضل العلم وآدابه أحاديث صحيحة منتشرة وآثار مشهورة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ". وسيأتي -حيث ذكره البخاري

(1)

- قريبًا جملة منها فإنه ذكرها متفرقة فيما سيأتي، وقد أفرده العلماء بالتصنيف كالحافظ أبي بكر الخطيب

(2)

وغيره

(3)

فلا نطول به.

= المنثور" 3/ 51 لأبي الشيخ.

(1)

سيأتي برقم (71) كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.

(2)

له أكثر من مصنف منها "الرحلة في طلب الحديث"، و"الفقيه والمتفقه"، و"شرف أصحاب الحديث"، و"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع".

(3)

كابن عبد البر كتاب "جامع بيان العلم وفضله".

ص: 251

‌2 - باب مَنْ سُئِلَ عِلْمًا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأَتَمَّ الْحَدِيثَ، ثُمَّ أَجَابَ السَّائِلَ

59 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ ح. وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الُمنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن فُلَيْحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ ابْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسِ يُحَدِّثُ القَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: "أَيْنَ -أُرَاة- السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ ". قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: "إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". [6496 - فتح: 1/ 141]

ثنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانِ، ثنَا فُلَيْحٌ وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ، ثنَا مُحَمَّدُ ابْنُ فُلَيْحٍ، ثَنا أَبِي ثنا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ، فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: "أَيْنَ -أُرَاهُ- السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ ". قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "فَإذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ". قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: "إِذَا وُشَدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في التعريف برجاله:

أما أبو هريرة فسلف، وأما الراوي عنه فكذلك، وهو: عطاء بن يسار وإن كرره شيخنا قطب الدين في "شرحه"، وأما الراوي عنه فهو

ص: 252

هلال (ع)، بن أبي ميمونة، وقيل: ابن أبي هلال علي قاله البخاري

(1)

، وقيل: هلال بن أسامة، نسبة إلى جده الفهري، سمع أنسًا وغيره. قَالَ أبو حاتم: يكتب حديثه وهو شيخ. قَالَ الواقدي: مات في آخر خلافة هشام

(2)

.

وأما الراوي عنه فهو فليح (ع) بن سليمان العدوي مولاهم (المدني)

(3)

روى عن نافع وغيره، وعنه ابنه محمد وغيره. قَالَ ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: هو عندي لا بأس به

(4)

. وقد اعتمده البخاري في "صحيحه"، وقال الحاكم: اجتماعه مع مسلم في إخراجهما عنه (في الأصول)

(5)

يؤكد أمره ويسكن القلب فيه إلى تعديله، مات سنة ثمان وستين ومائة

(6)

.

(1)

"التاريخ الكبير" 8/ 204 (2720).

(2)

انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 9/ 76 (300)، "الثقات" 5/ 505، "تهذيب الكمال" 30/ 343 (6626)، "تهذيب التهذيب" 4/ 290.

(3)

من (ج).

(4)

"الكامل" 7/ 144.

(5)

من (ج).

(6)

قال ابن حجر في "هدي الساري" ص 435: لم يعتمد عليه البخاري اعتماده على مالك وابن عيينة وأضرابهما، وإنما أخرج له أحاديث أكثرها في المناقب وبعضها في الرقاق. وفليح: لقب غلب عليه، واسمه: عبد الملك.

وقال في: "تهذيب التهذيب" 3/ 404: وقال ابن القطان: أصعب ما رمي به ما روي عن يحيى بن معين، عن أبي كامل قال: كنا نتهمه؛ لأنه كان يتناول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. كذا ذكر هذا، وهكذا ابن القطان في كتاب:"البيان" له، وهو من التصحيف الشنيع الذي وقع له. والصواب ما تقدم.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 5/ 415، "التاريخ الكبير" 7/ 133 (601)، "الجرح والتعديل" 7/ 84 - 85 (479)، "الثقات" 7/ 324، "الكامل" 7/ 144 (1575)، "تهذيب الكمال" 23/ 317 - 322 (4775).

ص: 253

وأما الراوي عنه فهو: ولده محمد (خ. س. ق) روى عن هشام ابن عروة، وغيره وعنه: هارون بن موسى الفروي وغيره، لينه ابن معين.

وقال أبو حاتم: ما به بأس، ليس بذاك القوي

(1)

مات سنة سبع وتسعين ومائة

(2)

.

وأما الراوي عنه فهو إبراهيم (خ. د. ت. ق) بن المنذر الحزام -بالحاء والزاي- الأسدي أحد العلماء بالمدينة، روى عن ابن وهب وابن عيينة وعدة، وعنه خلق. منهم: البخاري وابن ماجه، وروى البخاري، عن محمد بن غالب عنه، وروى النسائي عن رجل عنه، وأخرج لَهُ الترمذي أيضًا، صدوق، قَالَ النسائي: ليس به بأس، مات سنة ست، وقيل: خمس وثلاثين ومائتين

(3)

.

(1)

"الجرح والتعديل" 8/ 59.

(2)

قال ابن حجر في "هدي الساري" ص 442: أخرج له البخاري نسخة من روايته عن أبيه، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة، وبعضها عن هلال، عن أنس بن مالك، توبع على أكثرها عنده وله نسخة أخرى عنده بهذا الإسناد، لكن عن عبد الرحمن بن أبي عمرة بدل عطاء بن يسار وقد توبع فيها أيضًا وهي ثمانية أحاديث والله أعلم.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 1/ 209 (657)، "الجرح والتعديل" 8/ 59 (269)، "ثقات ابن حبان" 7/ 440، "تهذيب الكمال" 26/ 299 - 301 (5549)، "ميزان الاعتدال" 5/ 135 (8063).

(3)

هو إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، القرشي، الحزامي، أبو إسحاق المدني وجدُّه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام.

قال يحيى بن معين والدارقطني: ثقة. وقال صالح بن محمد: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سئل أبي عنه فقال: صدوق. وقال الساجي: بلغني أن أحمد كان يتكلم فيه ويذمُّه، وكان قدم إلى ابن أبي دؤاد قاصدًا من =

ص: 254

وأما محمد بن سنان (خ. د. ت. ق) فهو: أبو بكر العوقي -بفتح العين المهملة وقبل الياء قاف، ولم يكن من العوقة وهم حي من عبد القيس، وإنما نزل فيهم، كانت لهم محلة في البصرة فنزل عندهم فنسب إليهم.

روى عن فليح و (همام)

(1)

وغيرهما وعنه: البخاري وأبو داود وخلق.

قَالَ أبو حاتم: صدوق. وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه عن رجل عنه، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين

(2)

.

ثانيها:

هذا الأعرابي لا يحضرني اسمه فليبحث عنه.

ثالثها:

تأخيره عليه السلام جواب السائل إلى أن قضى حديثه يحتمل؛ لأنه قَدْ شرع في جواب سائل سأله متقدم فكان أحق بتمامه ولو قطعه قَدْ لا يحصل للسائل فائدة جوابه أو كانت الحاجة إليه أمس فخاف فوته.

= المدينة، عنده مناكير.

وقال الخطيب: أما المناكير فقلما توجد في حديثه إلا أن يكون عن المجهولين، ومع هذا فإن يحيى بن معين، وغيره من الحفاظ كانوا يرضونه ويوثقونه.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 1/ 331 (1043)، "الجرح والتعديل" 2/ 139 (450)، "الثقات" 8/ 73، "تاريخ بغداد" 6/ 179 - 181، "تهذيب الكمال" 2/ 207 - 211 (249)، "سير أعلام النبلاء" 1/ 689 - 291 (255)، "التقريب" ص 94 (253).

(1)

في (ف): هشام، والمثبت من (ج) وهو الصواب.

(2)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 302، "التاريخ الكبير" 1/ 109 (310)، "الجرح والتعديل" 7/ 279 (1516)، "الثقات" 9/ 79، "تهذيب الكمال" 25/ 320 (5267)، "تهذيب التهذيب" 3/ 581.

ص: 255

رابعها:

معنى: "إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ" أي: تولاه غير أهل الدين والأمانة ومن يعينهم عَلَى الظلم والفجور، وعند ذَلِكَ يكون الأئمة قَدْ ضيعوا الأمانة التي فرض الله عليهم حتَّى يؤتمن الخائن ويُسْتَخْوَن الأمين وهذا إنما يكون عند غلبة الجهل وضعف أهل الحق عن القيام به، نسأل الله العافية.

خامسها: في أحكامه:

الأول: أن من آداب المتعلم أن لا يسأل العالم مادام مشتغلًا بحديث أو غيره؛ لأن من حق القوم الذين بدأ بحديثهم أن لا يقطعه عنهم حتَّى يتمه.

الثاني: الرفق بالمتعلم وإن جفا في سؤاله أو جهل؛ لأنه عليه السلام لم يوبخه عَلَى سؤاله قبل إكمال حديثه.

الثالث: وجوب تعليم السائل والمتعلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أين السائل؟ " ثم أخبره عن الذي سأل عنه.

الرابع: مراجعة العالم عند عدم فهم السائل كقوله: كيف إضاعتها؟

الخامس: جواز اتساع العالم في الجواب، وأن يبقي منه إِذَا كان ذَلِكَ لمعنى.

ص: 256

‌3 - باب مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْعِلْمِ

60 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاة وَنَحْن نَتَوَضَّأ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادى بِأَعْلَى صَوْتِهِ:"وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. [96، 163 - مسلم: 241 فتح: 1/ 143]

حدثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍ وقَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سفرة سافرناها، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادئ بِأَعْلَى صَوْتِهِ:"وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه قريبًا في العلم عن مسدد، وفيه: وقد أرهقنا الصلاة صلاة العصر

(1)

. وفي الطهارة عن موسى، وفيه: فأدركنا وقد أرهقنا العصر

(2)

، وأخرجه مسلم في: الطهارة عن شيبان، وأبي كامل عن أبي عوانة به

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (96) كتاب: العلم، باب: مَن أعاد الحديث ثلاثًا؛ ليفهم عنه.

(2)

سيأتي برقم (163) كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين.

(3)

مسلم (241/ 27) كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما.

ص: 257

ثانيها: في التعريف برجاله:

أما أبو النعمان: محمد، وأبو عوانة: الوضاح فقد سلفا، وكذا عبد الله بن عمرو.

وأما الراوي عنه فهو: يوسف (ع) بن ماهك -بفتح الهاء والكاف، لا ينصرف؛ للعجمة والعلمية فارسي مكي تابعي ثقة، سمع ابن عمر وعائشة وغيرهما، وسمع والده ماهك. واسم أمه: مسيكة. وقال الدارقطني: بل ماهك ويذكر عن أبي داود وعلي بن المديني أن يوسف بن ماهك ويوسف بن ماهان واحد، مات سنة ثلاث عشر ومائة، وقيل: سنة عشر ومائة

(1)

.

وأما الراوي عنه فهو أبو بشر جعفر (ع) بن أبي وحشية واسمه إياس، واسطي بصري ثقة، كثير الحديث، لقي من الصحابة عباد بن شرحبيل اليشكري، وهو من قومه، روى عنه: شعبة وهشيم، مات سنة خمس وعشرين ومائة

(2)

.

(1)

هو يوسف بن ماهك بن بهزاذ الفارسي المكي، مولئ قريش، وقيل: يوسف بن مهران، والصحيح أنه غيره. قال ابن معين والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن خراش: ثقة عدل.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 5/ 470، "التاريخ الكبير" 8/ 375 (3379)، "الجرح والتعديل" 9/ 229 (961)، "الثقات" 5/ 549، "تهذيب الكمال" 32/ 451 - 454 (7150)، "تهذيب التهذيب" 4/ 459 - 460.

(2)

هو جعفر بن إياس بن أبي وحشيَّة اليشكري أبو بشر الواسطي بصري الأصل.

روى عن: خالد بن عرفطة، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران، ونافع مولى ابن عمر، وأبي عمير بن أنس بن مالك.

وروى عنه: أيوب السختياني وخلف بن خليفة وأبو عوانة.

وثقَّه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم وأحمد بن عبد الله =

ص: 258

ثالثها:

لما ذكر ابن ماجه من حديث جابر: "ويل للعراقيب"

(1)

قَالَ: هذا أعجب إليَّ من حديث عبد الله بن عمرو

(2)

، وهو الذي ذكره البخاري ومسلم. وقد أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا لم يغسل عقبه فقال:"وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ"

(3)

وقد أخرجه البخاري عنه في الطهارة كما سيأتي

(4)

.

رابعها:

هذِه السفرة قد جاءت مبينة في بعض طرق روايات مسلم: رجعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حتَّى إِذَا كنا في الطريق تعجل قوم عند العصر فتوضئوا وهم عجال فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، أسبغوا الوضوء"

(5)

.

= العجلي، والنسائى. وكان شعبة يضعف حديث أبى بشر عن مجاهد وعن حبيب ابن سالم.

انظر ترجمته في: "الطبقات" 7/ 253، "التاريخ الكبير" 2/ 186 (2141)، "الجرح والتعديل" 2/ 483 (1927)، "الثقات" 6/ 133، "تهذيب الكمال" 5/ 10 (932)، "تهذيب التهذيب" 1/ 300 - 301.

(1)

"سنن ابن ماجه"(454) كتاب: الطهارة وسننها، باب: غسل العراقيب.

(2)

مقتضى السياق أن هذا القول قول ابن ماجه، ولم أقف عليه، بل وقفت عليه من قول الدارمي كما في "مسنده" 1/ 552 (734)، بعد روايته حديث أبي هريرة المذكور بعدُ.

(3)

مسلم (242) كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما.

(4)

سيأتي برقم (165) كتاب: الوضوء، باب: غسل الأعقاب.

(5)

مسلم (241/ 26) كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما.

ص: 259

خامسها:

قوله: (وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصُّلَاةُ)، هو برفع الصلاة عَلَى أنها الفاعل أي: أعجلتنا؛ لضيق وقتها، وروي: أرهقنا الصلاة

(1)

بالنصب عَلَى أنها مفعولة أي: أخرنا الصلاة حتَّى كادت تدنو من الأخرى. قَالَ القاضي: وهذا أظهر

(2)

.

قَال صاحب "الأفعال": أرهقت الصلاة: أخرتها، وأرهقته: أدركتْهُ

(3)

. وقال الخليل: أرهقنا الصلاة: استأخرنا عنها

(4)

. وقال أبو زيد: رهقتنا الصلاة إِذَا حانت. وقال أبو عبيد: رَهَقْتُ القومَ غشيْتُهم ودنوتُ منهم

(5)

. وقال ابن الأعرابي: رهقته وأرهقته بمعنى دنوت منه.

وقال الجوهري: رهقه -بالكسر- يرهقه رهقا غشيه، قَالَ تعالى:{وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]

(6)

وقال أبو زيد: أرهقه عسرا إِذَا كلفه إياه، يقال: لا ترهقني لا أرهقك الله أي: لا تعسرني لا أعسرك الله.

وقيل في قوله تعالى: {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73] أي: تلحق بي، من قولهم: رهقه الشيء إِذَا غشيه، وقيل: لا تعجلني، ويجيء عَلَى قول أبي زيد: لا تكلفني.

(1)

ستأتي هذِه الرواية برقم (96) كتاب: العلم، باب: من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 300 - 301.

(3)

"الأفعال" 2/ 29.

(4)

"العين" 3/ 367، مادة:(رهق).

(5)

في "غريب الحديث" 2/ 387.

(6)

"الصحاح" 4/ 1486، مادة:(رهق).

ص: 260

سادسها:

("ويل") من المصادر التي لا أفعال لها وهي كلمة عذاب وهلاك، وهي مقابل ويح يقال

(1)

لمن وقع فيما لا يستحقه: ويحه ترحمًا عليه، وعن أبي سعيد الخدري: ويل: واد في جهنم لو أرسلت (عليه)

(2)

الجبال لماعت من حره

(3)

. وقيل: ويل صديد أهل النار

(4)

.

سابعها:

("الأعقاب"): جمع: عقب، وهي مؤخر القدم، وعقب كل شيء: آخره، وهي مؤنثة، وقال الأصمعي: العقب هو: ما أصاب الأرض من مؤخر الرجل إلى موضع الشراك. وقال ثابت: العقب هو: ما فضل من مؤخر القدم إلى الساق. ويقال: عقِب وعقْب بكسر القاف وسكونها.

ثامنها:

خص صلى الله عليه وسلم الأعقاب بالعِقَاب؛ لأنها التي لم تغسل، ويحتمل أن يريد صاحبها، ففيه حذف المضاف، والألف واللام في الأعقاب الظاهر أنها عهدية، ويحتمل أن تكون للعموم.

(1)

وقع في (ف) بعدها: ويحه. والكلام يستقيم بدونها.

(2)

في (ج): فيه.

(3)

أخرجه ابن المبارك في "الرقائق" ص 95 (332)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 153 (800)، وابن جرير في "تفسيره" أيضًا 1/ 423 (1399)، والبيهقي في "البعث والنشور" ص 259 (516). عن عطاء بن يسار، وليس عن أبي سعيد الخدري، ولفظه: لو سُيرت فيه الجبال لماعت من حره.

(4)

رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(799) 1/ 153، وابن جرير (1386/ 1387) 1/ 422 عن أبي عياض.

ص: 261

تاسعها:

هذا الحديث مما ورد عَلَى سبب وفيه كثرة يحتمل إفراده بالتأليف.

عاشرها: في أحكامه:

الأول: وجوب استيعاب غسل الرجلين، وأن المسح غير كافٍ ولا يجب مع الغسل المسح، وهو إجماع من يعتد به

(1)

.

وقد ترجم عليه البخاري في الطهارة، باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين، ففهم منه أن القدمين لا يمسحان، بل يغسلان، لكن رواية مسلم السالفة: وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء

(2)

. قَدْ تفسر الرواية هنا: فجعلنا نمسح عَلَى أرجلنا، ولا شك أن هذا موجب للوعيد بالاتفاق وقد يؤول عَلَى أن المراد: لم يمسها الماء للغسل وإن مسها بالمسح، فيكون الوعيد وقع عَلَى الاقتصار عَلَى المسح فقط. وفي "صحيح ابن خزيمة" من حديث عمرو بن عنبسة الطويل:"ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله تعالى"

(3)

وهو دالٌّ عَلَى أنّ الله تعالى أمر بغسلهما فلا عبرة إذًا بقول الشيعة: إن الواجب المسح

(4)

، ولا بقول ابن جرير، والجُبّائي -من المعتزلة- إنه: مخير بينه وبين الغسل

(5)

، ولا بإيجاب بعض الظاهرية الجمع بينهما

(6)

، وقراءة الجر في الآية محمولة عَلَى النصب أو من باب عطف الجوار.

(1)

انظر: "المجموع" 1/ 447.

(2)

مسلم (241) كتاب: الطهارة، باب: وجوب غسل الرجلين بكمالهما.

(3)

1/ 85 (165).

(4)

انظر: "البحر الزخار" 2/ 106، "نيل الأوطار" 1/ 263.

(5)

انظر: "الحاوي" 1/ 123، "المجموع" 1/ 447، "المغني" 1/ 184، "البحر الزخار" 2/ 106.

(6)

انظر: "المجموع" 1/ 447، "نيل الأوطار" 1/ 263.

ص: 262

الثاني: وجوب تعميم الأعضاء (بالمطهر)

(1)

وأن ترك البعض منها غير مجزئ.

الثالث: تعليم الجاهل وإرشاده.

الرابع: أن الجسد يعذب، وهو مذهب أهل السنة

(2)

.

(1)

في (ج): الطهر.

(2)

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن عذاب القبر، هل هو على النفس والبدن أو على النفس دون البدن؟ فقال: الحمد لله رب العالمين بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذِه الحال مجتمعين، كما يكون للروح منفردة عن البدن. وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة والكلام، وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان؛ وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم: الذين يقولون: لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور.

وقول من يقول: إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام، من المعتزلة، وأصحاب أبي الحسن الأشعري، كالقاضي أبي بكر، وغيرهم؛ وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن.

وهذا قول باطل؛ خالفه الأستاذ أبو المعالي الجويني وغيره؛ بل قد ثبت في الكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وأنها منعمة أو معذبة.

والفلاسفة الإلهيون يقولون بهذا، لكن ينكرون معاد الأبدان، وهؤلاء لا يقرون بمعاد الأبدان؛ لكن ينكرون معاد الأرواح، ونعيمها وعذابها بدون الأبدان؛ وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام، وإن كان قد يوافقهم عليه من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام، بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف، والتحقيق والكلام.

والقول الثالث: الشاذ. قول من يقول إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل =

ص: 263

الخامس: جواز رفع الصوت في المناظرة بالعلم.

السادس: أن العالم يُنكر ما يرى من التضييع للفرائض والسنن ويُغْلظ القول في ذَلِكَ ويرفع صوته للإنكار، كما ذكرنا.

السابع: تكرار المسألة توكيدًا لها، ومبالغة في وجوبها، وسيأتي ذكره في باب: من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم. واعْلم أن الصحابة إنما أخروا الصلاة عن الوقت الفاضل طمعًا في صلاتها مع الشارع فلما خافوا فوتها استعجلوا فأنكر عليهم نقصهم الوضوء.

= لا يكون ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة، ونحوهم، الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه، بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب.

فجميع هؤلاء الطائفتين ضلال في أمر البرزخ، لكنهم خير من الفلاسفة؛ لأنهم يقرون بالقيامة الكبرى.

فإذا عرفت هذِه الأقوال الثلاثة الباطلة: فلتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانًا، فيحصل له معها النعيم والعذاب. اهـ. "مجموع الفتاوى" 2/ 282 - 284.

ص: 264

‌4 - باب قَوْلِ المُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا أَوْ أَخبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا

وَقَالَ لَنَا الحُمَيْدِيُّ: كَانَ عِنْدَ ابن عُيَيْنَةَ: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَاَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا. وَقَالَ ابن مَسْعُودٍ: حَدَّثنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ. وَقَالَ شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ. وَقَالَ أَبُو العَالِيَةِ: عَنِ ابن عَبَّاسِ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبهِ. وَقَالَ أَنَسٌ: عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فيما يَرْوِيهِ عَنْ رَبهِ عز وجل. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبكُمْ عز وجل[فتح: 1/ 144].

61 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابن عُمَرَ قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُط وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِم، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ ". فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ". [62، 72، 131، 2209، 4698، 5444، 5448، 6122، 6144 مسلم: 2811 - فتح: /145]

حَدَّثَني قُتَيْبَةُ، نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابن عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ، فَحَدِّثونِي مَا هِيَ؟ ". فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي.

قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ".

ص: 265

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

حديث ابن عمر، أخرجه البخاري في العلم في مواضع: عن قتيبة كما ترى، وعن خالد بن مخلد، عن سليمان، عن ابن دينار به

(1)

، وعن علي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد

(2)

، وعن إسماعيل، عن مالك، عن ابن دينار به، وفيه فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها

(3)

.

وأخرجه في البيوع في باب: بيع الجمار وأكله عن أبي الوليد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر

(4)

.

وفي الأطعمة عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش، عن مجاهد به

(5)

، وعن أبي نعيم، عن محمد (بن)

(6)

طلحة، عن زبيد، عن مجاهد به

(7)

، ولفظ رواية عمر بن حفص: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ إِذْ أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكتُهُ كَبَرَكَةِ المُسْلِمِ". فَظَنَنْتُ أَنَهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ التَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هِيَ النَّخْلَةُ".

(1)

سيأتي برقم (62) باب: طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم.

(2)

سيأتي برقم (72) كتاب: العلم، باب: الفهم في العلم.

(3)

سيأتي برقم (131) كتاب: العلم، باب: الحياء في العلم.

(4)

سيأتي برقم (2209) كتاب: البيوع، باب: بيع الجمار وأكله.

(5)

سيأتي برقم (5444) كتاب: الأطعمة، باب: أكل الجمار.

(6)

في (ف): عن.

(7)

سيأتي برقم (5448) كتاب: الأطعمة، باب: بركة النخل.

ص: 266

وفي أول بعض طرقه: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل الجمار

(1)

.

وأخرجه في: الأدب في باب: لا يستحيا من الحق، عن آدم عن شعبة، عن محارب، عن ابن عمر مرفوعًا: (مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَلَا يَتَحَاتُ". فَقَالَ القَوْمُ: هِيَ شَجَرَةُ كَذَا، هِيَ شَجَرَةُ كَذَا. فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ -وَأَنَا غُلَامٌ شَابٌّ فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ".

وَعَنْ شُعْبَةَ، عن خُبَيْبُ، عَنْ حَفْصِ، عَنِ ابن عُمَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ عُمَرَ فَقَالَ: لَوْ كُنْتَ قُلْتَهَا لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا

(2)

.

وأخرجه في التفسير عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر

(3)

، وأخرجه مسلم تلو كتاب التوبة عن محمد بن عبيد، عن حماد، عن أيوب، عن أبي الخليل، وعن أبي بكر وابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، وعن (ابن نمير)

(4)

، عن أبيه، عن سيف بن سليمان -يقال ابن أبي سليمان- كلهم عن مجاهد به

(5)

.

وعن قتيبة وابن أيوب وابن حجر، عن إسماعيل به

(6)

. وفي بعضها: قَالَ ابن عمر: فألقى الله في روعي أنها النخلة الحديث. وفيه من رواية

(1)

سيأتي برقم (2209) كتاب: البيوع، باب: بيع الجمار وأكله، ولفظه: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل جمارًا.

(2)

سيأتي برقم (6122) كتاب: الأدب، باب: ما لا يستحيا من الحق للتفقه في الدين.

(3)

سيأتي برقم (4698) كتاب: التفسير، باب: قوله: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} .

(4)

في (ف): بشير، والصواب ما أثبتناه من (ج) ويوافق ما في "صحيح مسلم"(2811).

(5)

(2811/ 64) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: مثل المؤمن مثل النخلة.

(6)

(2811/ 63) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: مثل المؤمن مثل النخلة.

ص: 267

مجاهد عن ابن عمر: "فأَخْبِرُوني" وقد سلف، وعند البخاري "فحدثوني".

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلفوا، وفيه من الأسماء غير ما مر: حذيفة بن اليمان حِسْل -بكسر الحاء وإسكان السين المهملتين- العبسي حليف بني عبد الأشهل من الأنصار، حديثه ليلة الأحزاب مشهور فيه معجزات، ومناقبه جمة، مات بالمدائن سنة ست وثلاثين بعد قتل عثمان بأربعين ليلة، أخرجا لَهُ اثني عشر حديثًا بالاتفاق، وانفرد البخاري بثمانية ومسلم بسبعة عشر

(1)

.

وليس في الصحابة حذيفة بن اليمان سواه وإن كان فيهم حذيفة ستة

(2)

.

(1)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" للبغوي 2/ 20 - 26، "معجم الصحابة" لابن قانع 1/ 191 - 192 (215)، "الاستيعاب" 1/ 393 - 394 (510)، "أسد الغابة" 1/ 468 - 470 (1113)، "الإصابة" 1/ 317 - 318 (1647).

(2)

وهم: حذيفة بن أسيد الغفاري أبو سريحة، واسمه: حذيفة بن أسيد بن الأعور وقيل الأغوز، وقيل: ابن عمَّار بن واقعة بن حزام بن غفار. كان من أصحاب الشجرة، من أهل الصفة، ونزل الكوفة ومات بها، أخرج له مسلم وأصحاب السنن. انظر:"معجم الصحابة" للبغوي 2/ 27، "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 2/ 691 (567)، "الاستيعاب" 1/ 394 (511)، "أسد الغابة" 1/ 466 (1108)، "الإصابة" 1/ 317 (1644).

حذيفة البارقي: له ذكر فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن جنادة الأزدي، يحدث عنه

أبو الخير اليزني. انظر: "أسد الغابة" 1/ 467 (1110) و"الإصابة" 1/ 318 (1649).

حذيفة بن أوس: انظر: "أسد الغابة" 1/ 466 (1109)، "الإصابة" 1/ 317 (1645). =

ص: 268

وفيه شقيق (ع) بن سلمة أبو وائل الأسدي وقد سلف أيضًا، (سمع عمه)

(1)

، وليس في الكتب الستة شقيق بن سلمة سواه، وإن كان فيهم من يسمى بهذا الاسم أربعة غيره.

وفيه أبو العالية (خ. م. س) البرّاء -بالراء المشددة- واسمه زياد بن فيروز، أو أذينة، أو كلثوم، أو زياد بن أذينة -أقوال- البصري القرشي مولاهم التابعي (الثقة)

(2)

.

سمع ابن عمر وغيره. مات سنة تسعين. وإنما قيل لَهُ: البراء؛ لأنه كان يبري النبل

(3)

.

= حذيفة بن عبيد المرادي: انظر: "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 2/ 694 (569). "أسد الغابة" 1/ 467 (1111)، "الإصابة" 1/ 375 (1962).

حذيفة القلعاني: "أسد الغابة" 1/ 467 (1112)، وفي "الإصابة" 1/ 317 (1646): العلقائي.

حذيفة الأزدي: قال البغوي: يشك في صحبته. جعله ابن منده هو والبارقي واحدًا، واستدركه أبو موسى على ابن منده وقد ردَّ هذا الاستدراك ابن الأثير فقال: فقد أخرج أبو موسى حذيفة الأزدي مستدركًا على ابن منده ..

فبات بهذا السياق أن كل بارقي أزدي، وقد تابع ابن حجر ابن منده في جعلهما واحدًا فقال: حذيفة البارقي الأزدي.

انظر: "معجم الصحابة" للبغوي 2/ 30 - 31، "أسد الغابة" 1/ 365 (1107)، "الإصابة" 1/ 375 (1963).

(1)

من (ف).

(2)

من (ف).

(3)

قال عنه أبو زرعة: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: مات في شوال سنة تسعين. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة. وقال ابن سعد: كان قليل الحديث.

انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 237. "معرفة الثقات" للعجلي 2/ 412 (2190)، "الجرح والتعديل" 3/ 541 - 542 (2446)، "الثقات" لابن حبان 4/ 258، "تهذيب التهذيب" 5/ 545.

ص: 269

ومثله أبو معشر البراء واسمه يوسف

(1)

وكان يبري النبل وقيل: العود، ومن عداهما البراء مخفف وكله ممدود كما سلف في القواعد أول هذا الشرح بزيادة.

ثالثها:

اختلف العلماء في هذِه المسألة التي عقد لها البخاري الباب عَلَى ثلاثة مذاهب:

أحدها: ما ذكره البخاري وهو جواز إطلاق (نا، وأنا)

(2)

في قراءة الشيخ والقراءة عليه، وهو مذهب جماعة من المحدثين، منهم: الزهري، ومالك، وابن عيينة، ويحيى القطان، وجماعة من المتقدمين، وقيل: إنه قول معظم الحجازيين والكوفيين.

وقال القاضي عياض: لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ الشيخ أن يقول السامع فيه: (نا، وأنا)

(3)

، وأنبأنا، وسمعتهُ يقول، وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان

(4)

.

(1)

وقع في (ف): أبو يوسف. وهو خطأ. فهو يوسف بن يزيد البصري أبو معشر البراء العطَّار. قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ضعيف. وقال أبو داود: ليس بذاك. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وذكره ابن حبان في "الثقات". روى له البخاري ومسلم. وقال الذهبي: صدوق. وقال ابن حجر: صدوق، ربما أخطأ، له في البخاري ثلاثة أحاديث وليس له عند مسلم سوى حديث واحد وهذا جميع ما له في الصحيحين، وما له في السنن الأربعة شيء.

انظر ترجمته قي: "التاريخ الكبير" 8/ 385 (3412)، "الجرح والتعديل" 9/ 234 - 235 (986)، "الثقات" 7/ 637، "تهذيب الكمال" 32/ 477 - 479 (7165)، "الكاشف" 2/ 401 (6458)، "ميزان الاعتدال" 6/ 149 (9890)، "التقريب" ص 612 (7894)، "مقدمة فتح الباري" ص 454.

(2)

في (ج): ثنا وأنبا.

(3)

في (ج): ثنا، وأنبا.

(4)

"إكمال المعلم" 1/ 188.

ص: 270

وكذا قَالَ الطحاوي: لم يفرق القرآن بين الخبر والحديث، ولا السنةُ، قَالَ تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23]، وقال:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)} [الزلزلة: 4] فجعل الحديث والخبر واحدًا، وقال تعالى:{قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94]، وهي الأشياء التي كانت بينهم، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)} [البروج: 17]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42].

وقال عليه السلام: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ؟ "

(1)

، و"أخبرني تميم الداري" وذكر قصة الجن

(2)

وقال هنا: "فحدثوني: ما هي؟ "، وفي رواية:"فأخبروني"

(3)

، وقال في الحديث السالف:"وأخبروا به من ورائكم"

(4)

. وصحح هذا المذهب ابن الحاجب الأصولي

(5)

، ونقل هو وغيره عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة

(6)

.

(1)

سيأتي برقم (1481) كتاب: الزكاة، باب: خرص التمر.

(2)

جاءت هذِه القصة في حديث رواه مسلم (2942) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قصة الجساسة. وأبو داود (4326، 4327). والترمذي (2253). وابن حبان 15/ 193 - 199 (6787 - 6789) من حديث فاطمة بنت قيس.

(3)

ستأتي برقم (4698) كتاب: التفسير، باب: قوله: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} .

(4)

سبق برقم (53).

(5)

هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي الدويني الأصل الأسناوي، يلقب بجمال الدين، ويُكنَّى بأبي عمرو، وشهرته بابن الحاجب؛ لأن أباه كان حاجبًا للأمير عز الدين موسك الصلاحي فعرف ولده بذلك.

اشتغل بالقراءات على الشاطبي وغيره، وبرع في الأصول والعربية وتفقه في مذهب مالك، وكان محبًا ملازمًا للشيخ عز الدين بن عبد السلام توفي سنة 646 هـ.

انظر ترجمته في "وفيات الأعيان" 3/ 248، "مرآة الجنان" 4/ 114، و"شذرات الذهب" 5/ 234.

(6)

انظر: "شرح مختصر ابن الحاجب" 1/ 727.

ص: 271

المذهب الثاني: المنع فيهما في القراءة عليه إلا مقيدًا مثل: حَدَّثنَا فلان قراءة عليه، وأخبرنا قراءة عليه، وهو مذهب ابن المبارك، ويحيى بن يحيى التميمي، وأحمد بن حنبل، والمشهور عن النسائي، وصححه الآمدي

(1)

والغزالي

(2)

، وهو مذهب المتكلمين.

والمذهب الثالث: الفرق: فالمنع في حدثنا والجواز في أخبرنا وهو مذهب الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق، ونقل عن أكثر المحدثين منهم: ابن جريج، والأوزاعي، والنسائي، وابن وهب، وقيل: إنه أول من أحدث هذا الفرق بمصر وصار هو الشائع الغالب عَلَى أهل

(3)

الحديث، وخير ما يقال فيه: إنه اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين وخصصوا قراءة الشيخ بحدثنا، بقوة إشعاره بالنطق والمشافهة

(4)

.

رابعها:

معنى قوله: (فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي): ذهبت أفكارهم إِلى ذَلِكَ وذهلوا عن النخلة، وقوله "مَثَلُ المُسْلِمِ" هو بفتح الثاء، ويجوز إسكانها.

خامسها: في فوائده:

الأولى: استحباب إلقاء العالم المسائل؛ ليختبر أفهامهم، وضرب الأمثال، وتوقير الأكابر كما فعل ابن عمر، أما إِذَا لم يتنبه لها الكبار فللصغير أن يقولها.

(1)

"الأحكام" 1/ 120 - 121.

(2)

"المستصفى" 1/ 309 - 310.

(3)

في (ف) هنا كلمة: هذا.

(4)

انظر: "معرفة علوم الحديث" للحاكم 256 - 260، "مقدمة ابن الصلاح" 138 - 140، "المقنع في علوم الحديث" 1/ 299 - 301، "فتح الباقي" 295 - 301.

ص: 272

الثانية: فضل النخل، وقد قَالَ المفسرون في قوله تعالى:{كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} : إنها النخلة {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} في الأرض {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أي: رأسها {تُؤْتِي أُكُلَهَا} أي: ثمرها {كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 24 - 25] فشبه عمل المؤمن في كل وقت كالنخلة التي تؤتي أكلها كل وقت.

الثالثة: أشبهت النخلة المسلم في كثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجوده عَلَى الدوام، فإنه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتَّى ييبس وبعده، ويتخذ منه منافع كثيرة من خشبها، وورقها، وأغصا نها فتستعمل جذوعًا، وحطبًا، وعصيًا، وحصرًا، ومخاصر

(1)

، وحبالًا، وأواني، وغير ذَلِكَ، ثمَّ ينتفع بنواها علفًا للإبل وغيرها، ثمَّ كمال نباتها، وحسن ثمرته، وهي كلها منافع وخير وجمال، والمؤمن خير كله من كثرة طاعاته، ومكارم أخلاقه ومواظبته عَلَى عبادته وصدقته وسائر الطاعات.

هذا هو الصحيح في وجه الشبه للمسلم وقد جاء في حديث ذكره الحارث بن أبي أسامة (أنه صلى الله عليه وسلم)

(2)

قَالَ: "هي النخلة لا تسقط لها أنملة وكذلك المؤمن لا يسقط لَهُ دعوة"

(3)

.

وفيه وجه ثانٍ: أن النخلة إِذَا قطع رأسها ماتت بخلاف باقي الشجر.

وثالث: من كونها لا تحمل حتَّى تلقح، وفيهما نظر؛ لأن التشبيه إنما وقع بالمسلم وهذان المعنيان يشملان المسلم والكافر، وقيل:

(1)

مخاصر: جمع مخصرة وهي ما يتوكأ عليه كالعصا ونحوه، وما يأخذه الملك يشير به إذا خاطب، والخطيب إذا خطب راجع "القاموس المحيط" مادة: خصر.

(2)

من (ج).

(3)

"بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث" ص 319 (1074).

ص: 273

لأنها فضل تربة آدم عَلَى ما يروى، وإن كان لا يثبت. وعلو فروعها كارتفاع عمل المؤمن، وقيل: لأنها شديدة الثبوت كثبوت الإيمان في قلب المؤمن

(1)

.

(1)

ورد في حاشية (ف): فائدة: روى أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" من حديث لقيط بن أبي رزين أنه عليه السلام قَالَ: "مثل المؤمن مثل النخلة، لا تأكل إلا طيبًا، ولا تضع إلا طيبا".

ص: 274

‌5 - باب طَرْحِ الإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ

.

62 -

حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَة لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ ". قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَقَعَ في نَفْسِي أنَهَا النَّخلَةُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ". [انظر: 61 - مسلم: 2811 - فتح: 1/ 147]

ثنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، نَا سُلَيْمَانُ، نَا عَبْدُ اللهِ بْن دِينَارٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شجَرَةً لَا يَسْقُط وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ ". قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِى شَجَرِ البَوَادِي.

قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، ثمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: قَدْ ذكرت لك طرقه في الباب الماضي فراجعه.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلفوا إلا خالد بن مخلد أبو الهيثم القطواني -بفتح القاف والطاء المهملة- البجلي مولاهم الكوفي، وقطوان موضع بالكوفة، روى عن: مالك وغيره، وعنه: البخاري، وروى مرة عن ابن كرامة عنه

(1)

.

قَالَ أحمد وأبو حاتم: لَهُ أحاديث مناكير، وقال يحيى بن معين:

(1)

سيأتي آخر الصحيح برقم (6502) كتاب: الرقاق، باب: التواضع. وابن كرامة اسمه: محمد بن عثمان بن كرامة.

ص: 275

ما به بأس، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه

(1)

، وقال ابن عدي: هو من المكثرين في محدثي الكوفة، وهو عندي -إن شاء الله- لا بأس به

(2)

، وروى مسلم والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن رجل عنه مات في (المحرم)

(3)

سنة ثلاث عشر ومائتين

(4)

.

ثالثها: في فوائده:

وقد سلفت في الباب قبله وسبب استحيائه تأدبًا مع الأشياخ كما سلف، فإنه كان أحدثهم، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم:"كبر كبر"

(5)

، ويقال: استحييت واستحيت بمعنى.

و (البوادي) بالياء وفي نسخة بحذفها وهي لغة، ومعنى: فوقع الناس في شجر البوادي. أي: (ذهبت)

(6)

أفكارهم إلى أشجار البوادي، فكان كل إنسان يفسر بنوع من (أنواع)

(7)

أشجار البوادي وذهلوا عن النخلة

(8)

.

(1)

"الجرح والتعديل" 3/ 354 (1599).

(2)

"الكامل" 3/ 466 (595).

(3)

في (ف): (الحرم)، والمثبت من (ج).

(4)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 406، "التاريخ الكبير" 3/ 174 (595)، "معرفة الثقات" 1/ 332 (394)، "تهذيب الكمال" 8/ 163 - 167 (1652)، "شذرات الذهب" 2/ 29، و"مقدمة الفتح" ص 400.

(5)

سيأتي برقم (7192) كتاب: الأحكام، باب: كتاب الحاكم إلى عماله والقاضي إلى أمنائه.

(6)

في (ف): دبت.

(7)

من (خ).

(8)

رود بهامش (ف) توثيق نصه: بقراءة إبراهيم الحلبي على الحسن، بلغ من أول كلتاب العلم، فأسمعه السادة: الحاصري، والسلاوي، والبيجوري، وعلى، والعملي، وحلذ العقاد وعلى ولد المصنف كلتبه على ابن الأنصاري الشافعي.

ص: 276

ومعنى طرح المسائل عَلَى التلاميذ؛ لترسخ في القلوب، وتثبت؛ لأن ما جرى منه في المذاكرة لا يكاد ينسى، وفيه ضرب الأمثال بالشجر وغيرها.

ص: 277

‌6 - باب مَا جَاءَ فِى الْعِلْمِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِى عِلْمًا} [طه: 114]

الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى المُحَدِّثِ. وَرَأى الحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ القِرَاءَةَ جَائِزَةً، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي القِرَاءَةِ عَلَى العَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: فهذِه قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى القَوْمِ فَيَقُولُونَ: أَشْهَدَنَا فُلَانٌ. وُيقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ، وَيُقْرَأُ عَلَى المُقْرِئِ، فَيَقُولُ القَارِئُ: أَقْرَأَنِي فُلَانٌ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الَحسَنِ الوَاسِطِيُّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الَحسَنِ قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى العَالِمِ.

وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفِرَبْرِيُّ، وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيل البُخَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: إِذَا قُرِئَ عَلَى الُمحَدِّثِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي. قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ عَنْ مَالِكِ وَسُفْيَانَ: القِرَاءَةُ عَلَى العَالِمِ وَقرَاءَتُهُ سَوَاءٌ.

63 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ -هُوَ الَمقْبُرِيُّ- عَنْ شَرِيكُ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الَمسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الَمسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم متَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. فَقُلْنَا: هذا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ الُمتَّكِئُ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابن عَبْدِ الُمطَّلِبِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَجَبْتُكَ". فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الَمسْأَلَةِ، فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكُ. فَقَالَ:"سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ". فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرِّبكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللهُ أَرْسَلَكَ إِلَى

ص: 278

النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ: أَنْشُدُكَ باللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الَخمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ:"اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ: أَنْشُدُكَ باللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هذا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ:"اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ: أَنْشُدُكَ باللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هذِه الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ نَعَمْ". فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكرٍ. رَوَاهُ مُوسَى، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الَحمِيدِ، عَنْ سُلَيمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. بهذا. [مسلم: 12 - فتح: 1/ 148]

نَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، نَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيُّ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ. فَقُلْنَا: هذا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِئُ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابن عَبْدِ المُطَّلِبِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ أَجَبْتُكَ". فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِني سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ، فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ:"سَلْ عَمَّا بَدَا لَك". فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ:"اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ: أَنْشُدُكَ باللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ:"اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ: أَنْشُدُكَ باللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هذا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ:"اللَّهُمَّ نَعَمْ". قَالَ: أَنْشُدُكَ باللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأخُذَ هذِه الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ نَعَمْ". فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. رَوَاهُ مُوسَى، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. بهذا.

ص: 279

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث قَدْ أخرجه البخاري من حديث شريك وثابت، عن أنس كما سترى، وقد علقه أولًا وأسنده ثانيًا، وأخرجه مسلم، عن عبد الله بن هاشم، عن بهز بن أسد، عن سليمان به

(1)

.

ورواه الترمذي، عن البخاري، عن علي بن عبد الحميد، ثمَّ قَالَ: حسن غريب

(2)

، ورواه النسائي، عن محمد بن معمر، عن العقدي، عن سليمان

(3)

.

ثانيها: في التعريف برواته غير (من)

(4)

سلف:

وقد سلف التعريف بأنس، وكرره شيخنا قطب الدين في "شرحه"، وأما الراوي عنه فهو أبو عبد الله شريك (ع) بن عبد الله بن أبي نمر المدني القرشي أو الليثي أو الكناني -أقوال- وجده أبو نمر.

شهد أحدا مع المشركين، ثمَّ اهتدى للإسلام، ذكره ابن سعد في مسلمة الفتح، سمع أنسًا وغيره، وعنه سليمان بن بلال، وغيره، قَالَ ابن سعد: كان ثقة كبيرا

(5)

، وقال يحيى بن معين: ليس به بأس، وقال ابن عدي: مشهور من أهل الحديث، حدث عنه الثقات، وحديثه إِذَا روى عنه ثقة فلا بأس به، إلا أن يروي عنه ضعيف

(6)

.

(1)

مسلم (12/ 11) كتاب: الإيمان، باب: السؤال عن أركان الإسلام.

(2)

الترمذي (619).

(3)

"المجتبى" 4/ 121 - 121.

(4)

في (ف): ما.

(5)

"الطبقات الكبرى" القسم المتمم ص 278 (163).

(6)

"الكامل" 5/ 9 (887).

ص: 280

مات سنة أربعين ومائة. أخرجوا لَهُ إلا الترمذي، ففي "الشمائل"

(1)

.

وقوله: رواه موسى لعله ابن إسماعيل التبوذكي الحافظ، فإنه سمع سليمان بن المغيرة

(2)

، وعنه البخاري في: بدء الوحي كما سلف.

وأما علي بن عبد الحميد فهو: أبو الحسين علي (م. س) بن عبد الحميد بن مصعب بن يزيد الأزدي المَعْنِيّ -نسبة إلى معن- وهو ابن أخي عبد الرحمن بن مصعب القطان، وقال ابن أبي خيثمة هو: ابن عم معاوية بن عمر.

وروى عن: سليمان وغيره، وعنه: البخاري تعليقًا، وأبو حاتم،

وغيرهما. ثقة فاضل، وكان ضريرا. مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين

ومائتين، وروى له: الترمذي، والنسائي، وأهمله الكلاباذي. لَهُ هذا

الحديث، وحديث آخر عن سليمان، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا:

"ألا أخبرك بأفضل القرآن" فتلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}

(3)

.

(1)

قال النسائي وابن الجارود: ليس بالقوي. وكان سعيد بن يحيى القطان لا يحدث عنه. وقال الساجي: كان يرمى بالقدر. وقال ابن حجر: احتج به الجماعة إلا أن في روايته عن أنس لحديث الإسراء مواضع شاذة. انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 4/ 236 - 237 (2645)، "معرفة الثقات" 1/ 453 (726)، "الجرح والتعديل" 4/ 363 - 364 (1592)، "تهذيب الكمال" 12/ 475 - 477 (2737)، "سير أعلام النبلاء" 6/ 159 - 160 (73). "مقدمة فتح الباري" ص 409 - 410.

(2)

"تهذيب الكمال" 21/ 50.

(3)

رواه النسائي في "الكبرى" 5/ 11 (8011)، وابن حبان في "صحيحه"(774) 3/ 51، والحاكم 1/ 560، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2358) 2/ 444 - 445، والضياء في "المختارة" 5/ 98 - 100 (1718 - 1720)، والمزي في "تهذيب الكمال" 21/ 50.

وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وسكت عنه =

ص: 281

قَالَ المزي: هذا جميع ما له عندهم

(1)

.

وأما سليمان (ع) بن المغيرة فهو أبو سعيد القيسي البصري مولى بني قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل، سمع الحسن وثابت البناني وغيرهما، وعنه: الثوري، وشعبة، وتوثيقه مجمع عليه وهو سيد أهل البصرة، مات سنة خمس وستين ومائة.

روى لَهُ البخاري مع هذا التعليق حديثه عن حميد بن هلال، عن أبي صالح السمان، عن أبي سعيد في المرور

(2)

.

وأما ثابت (ع) فهو أبو أحمد ثابت بن أسلم البناني البصري العابد، وبنانة هم بنو سعد بن لؤي بن غالب، وأم سعد بنانة، قاله الخطيب.

وقال الزبير بن بكار: وكانت بنانة أمة لسعد بن لؤي حضنت بنيه فنسبوا إليها.

سمع أنسًا وغيره من الصحابة والتابعين، وعنه خلق، وهو ثقة

= الذهبي، وقال الألباني في "الصحيحة" (1499): وأقول: المَعْنِيُّ لم يخرج له مسلم شيئًا، ولكنه ثقة فالحديث صحيح فقط، وله شواهد تجدها في أول "تفسير ابن كثير".

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 408، "التاريخ الكبير" 6/ 287 (2421)، "معرفة الثقات" 2/ 156 (1306)، "الجرح والتعديل" 6/ 195 (1073)، "الثقات" 8/ 465، "تهذيب الكمال" 2/ 46 - 50 (4100)، "الكاشف" 2/ 43 (3941)، "التقريب" ص 403 (4764).

(2)

سيأتي هذا الحديث برقم (509) كلتاب: الصلاة، باب: يرد المصلي من مر بين يديه.

وسليمان بن المغيرة: انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 280، "التاريخ الكبير" 4/ 38 (1887)، "الجرح والتعديل" 4/ 144 (626)، "الثقات" 6/ 390، "تهذيب الكمال" 12/ 69 - 73 (2567)، "إكمال التهذيب" لمغلطاي 6/ 88 - 89 (223).

ص: 282

بإجماع، مات سنة ثلاث وعشرين ومائة

(1)

.

وفي الباب من الأسماء محمد بن سلام، وقد تقدم، وكرره شيخنا قطب الدين في "شرحه".

ومحمد بن الحسن الواسطي المزني القاضي الثقة، أخرج لَهُ

البخاري هذا الأثر خاصة، ونقل في "تاريخه" عن ابن معين توثيقه، مات سنة تسع وثمانين ومائة.

وروى لَهُ الترمذي وابن ماجه أيضًا

(2)

.

وعوف هو: ابن أبي جميلة، وقد سلف وكرره شيخنا أيضًا. وكذا كرر ترجمة عبيد الله بن موسى العبسي.

وأبو عاصم هو: الضحاك (ع) بن مخلد بن الضحاك بن مسلم بن رافع بن الأسود بن عمرو بن زالان بن ثعلبة بن شيبان الشيباني البصري النبيل الحافظ العالم الزاهد، روى عن ابن عجلان وغيره من الكبار، وعنه: البخاري والدوري وخلق.

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 232، "معرفة الثقات" 1/ 259 (188)، "التاريخ الكبير" 2/ 159 - 160 (2052)، "الثقات" 4/ 89، "تهذيب الكمال" 4/ 342 - 351 (811).

(2)

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ليس به بأس. وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكره أيضًا في "المجروحين" وقال: يرفع الموقوف ويسند المراسيل.

وقال الذهبي: ثقة. وقال ابن حجر: ما له في البخاري سوى أثر واحد ذكره في كتاب: العلم، موقوفًا على الحسن البصري. انظر ترجمته في:"الطبقات الكبرى" 7/ 315، "التاريخ الكبير" 1/ 67 (155)، "الجرح والتعديل" 7/ 226 (1250)، "الثقات" 7/ 411، "المجروحين" 2/ 275، "تهذيب الكمال" 25/ 71 - 74 (5151)، "الكاشف" 2/ 164 (4797)، "هدي الساري" ص 438.

ص: 283

قَالَ عن نفسه: ما دلست قط، ولا اغتبت أحدًا منذ عقلت تحريم الغيبة، مات في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة

(1)

ومائتين عن تسعين سنة وستة أشهر، سمي نبيلًا؛ لأن ابن جريج لما قُدِمَ بالفيل البصرة ذهب الناس ينظرون إليه فقَالَ له: مَالَكَ، ألا تنظر؟! فقال: لا أجد منك عوضًا، فقال: أنت نبيل. وقيل: لأنه كان يلبس الخز وجيد الثياب فإذا أقبل قَالَ ابن جريج: جاء النبيل

(2)

.

ثالثها:

ضمام هذا هو: ابن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر كما سلف، وكان قدومه سنة تسع فيما قاله أبو عبيدة، والطبري، وابن إسحاق، وقال الواقدي: سنة خمس

(3)

.

رابعها: في ألفاظه.

قوله: (بينا). أي: بين أوقات كذا ثمَّ حذف المضاف، وقوله:(مُتَّكِئ). هو مهموز، يقال: اتكأ عَلَى الشيء فهو متكئ، والموضع: مُتَّكَأ، كله مهموز الآخر، وكذا توكأت عَلَى العصا، وكل من استوى عَلَى وطاء فهو متكئ وهذا المعنى هو المراد في الحديث.

(1)

في (ف): اثنتى عشر.

(2)

قال عثمان بن سعيد الدارمي عن يحيى بن معين: ثقة. وقال العجلي: ثقة كثير الحديث، وكان له فقه. وقال أبو حاتم: صدوق، وهو أحب إليَّ من روح بن عبادة.

وقال محمد بن سعد: كان ثقة فقيهًا، روى له الجماعة.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 295، "التاريخ الكبير" 4/ 336 (3038)، "معرفة الثقات" 1/ 472 (776)، "الجرح والتعديل" 4/ 463 (2042)، "تهذيب الكمال" 13/ 281 - 291 (2927).

(3)

انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 221، "الطبقات الكبرى" 1/ 299، "تاريخ الطبري" 2/ 192 - 193، "البداية والنهاية" 5/ 65، 66.

ص: 284

وقوله: (بين ظهرانيهم) -هو بفتح الظاء والنون- أي: بينهم، قَالَ الأصمعي وغيره يقال: بين ظهريهم وظهرانيهم

(1)

.

خامسها:

مراد البخاري رحمه الله بالعرض: القراءة عَلَى الشيخ، سميت بذلك؛ لأن القارئ يعرض عَلَى الشيخ ما يقرأه كما يعرض القارئ عَلَى المقرئ، وسواء قرأت أو قرأ غيرك وأنت تسمع من كتاب أو حفظٍ حفظ الشيخ ما تقرأه عليه أم لا، لكن يمسك أصله هو أو ثقة غيره.

ولا خلاف أنها صحيحة إلا ما حكي عن بعض من لا يعتد بخلافه، فيحتمل أن البخاري أراد بعقد هذا الباب الرد عَلَى هؤلاء، واحتج عليهم بقول الحسن وغيره، وهذا المذهب محكي عن أبي عاصم النبيل، فيما حكاه الرامهرمزي عنه

(2)

.

قَالَ ابن سعد: أخبرنا مطرف بن عبد الله قَالَ: سمعت مالك بن أنس يقول لبعض من يحتج عليه في العرض أنه لا يجزئه إلا المشافهة، فيأبى ذَلِكَ ويحتج بالقراءة عَلَى المقرئ وهو أعظم من الحديث

(3)

.

ثمَّ اختلفوا بعد ذَلِكَ في مساواتها للسماع من لفظ الشيخ في الرتبة أو دونه أو فوقه عَلَى ثلانة أقوال:

(أولها)

(4)

: إنها أرجح من قراءة الشيخ وسماعه، قاله أبو حنيفة

(1)

انظر: "الصحاح" 23/ 731، "لسان العرب" 5/ 2767 مادة:(ظهر).

(2)

"المحدث الفاصل" ص 420.

(3)

"الطبقات الكبرى" القسم المتمم ص 438.

(4)

في (ج): أحدها.

ص: 285

وابن أبي ذئب وغيرهما ومالك في رواية، واستحب مالك القراءة عَلَى العالم، وذكر الدارقطني في كتاب "الروايات عن مالك" أنه كان يذهب إلى أنها أئبت من قراءة العالم.

وذكر فيه أيضًا أنه لما قدم أمير المؤمنين هارون المدينة حضر مالك، فسأله أن يسمع منه محمد والمأمون، فبعثوا إلى مالك فلم يحضر، فبعث إليه أمير المؤمنين، فقال: العلم يؤتى إليه ولا (يأتي)

(1)

، فقال: صدق أبو عبد الله سيروا إليه، فساروا إليه ومؤدبهم، فسألوه أن يقرأ عليهم فأبى.

وقال: إن علماء هذا البلد قالوا: إنما يُقرأ عَلَى العالم ويفتيهم مثل ما يُقرأ القرآن عَلَى المعلم ويرد، سمعت ابن شهاب بحر العلماء يحكي عن سعيد وأبي سلمة وعروة والقاسم وسالم وغيرهم أنهم كانوا يقرأون عَلَى العلماء، وما احتج به مالك في الصك يقرأ فيقولون: أشهدنا فلان، حجة ظاهرة؛ لأن الإشهاد أقوى بخلاف الإخبار، وكذلك القراءة عَلَى المقرئ.

القول الثاني عكسه: إن قراءة الشيخ بنفسه أرجح من القراءة عليه، وهذا ما عليه الجمهور، وقيل: إنه مذهب جمهور أهل المشرق.

القول الثالث: إنهما سواء، وهو قول ابن أبي الزناد وجماعة -كما حكاه عنهم ابن سعد، وقيل: إنه مذهب معظم علماء الحجاز، والكوفة، ومذهب مالك وأشياعه من علماء المدينة، ومذهب البخاري وغيرهم

(2)

.

(1)

في (ف): يؤتى.

(2)

انظر: "المحدث الفاصل" ص 420 - 430، "الكفاية في علم الرواية" ص 380 - 394، "مقدمة ابن الصلاح" ص 137 - 150، "المقنع في علوم الحديث" 1/ 297 - 314، "فتح الباقي" ص 295 - 319.

ص: 286

سادسها: في فوائد الحديث وأحكامه:

الأولى: قبول خبر الواحد؛ فإنه لم ينقل أن قومه كذبوه فيما أخبرهم به.

الثانية: جواز الاتكاء بين الناس.

الثالثة: التواضع؛ فإنه عليه السلام كان يجلس مختلطًا بهم، وهو من تواضعه.

الرابعة: جواز إدخال البعير المسجد وعقله، كذا استنبطه ابن بطال.

وليس صريحًا فيه بل في رواية ابن إسحاق أنه أناخ بعيره عَلَى باب المسجد وعقله

(1)

. ثمَّ شرع يستنبط منه طهارة روثه، معللًا بأنه لا يؤمن ذَلِكَ من البعير مدة إقامته

(2)

. وقد علمت أن ذَلِكَ كان خارج المسجد فلا دلالة فيه إذن.

الخامسة: التعريف بالشخص؛ فإنه قَالَ: أيكم محمد؟ وقال: ابن عبد المطلب.

السادسة: النسبة إلى الأجداد، فإنه قَالَ: ابن عبد المطلب، وجاء في "صحيح مسلم": يا محمد

(3)

. فإن قُلْتَ: لِمَ لَمْ يخاطب بالنبوة ولا بالرسالة وقد قَالَ تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]؟ قُلْتُ: يحتمل أوجهًا:

أحدها: أنه لم يؤمن بعد.

ثانيها: أنه باقٍ عَلَى جفاء الجاهلية، لكنه لم ينكر عليه ولا رد عليه.

ثالثها: لعله كان قبل النهي عن مخاطبته صلى الله عليه وسلم بذلك.

(1)

انظر: "سيره ابن هشام" 4/ 241 - 242.

(2)

"شرح ابن بطال" 1/ 144.

(3)

مسلم (12) كتاب: الإيمان، باب: السؤال عن أركان الإسلام.

ص: 287

رابعها: لعله لم يبلغه.

السابعة: أن السكوت كالإقرار، فإنه لما قَالَ: ابن عبد المطلب، قَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم:"قد أجبتك"، ولم يتلفظ بالجواب، فجعل السكوت عند قول أصحابه ما قالوه جوابًا منه عما سألوه عنه، عَلَى أنه جاء في "سنن أبي داود" في هذا الحديث من طريق ابن عباس أنه قَالَ: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب"، فقال: يا ابن عبد المطلب

(1)

وساق الحديث.

وأجاب بعضهم عن عدم جوابه لفظًا عَلَى الرواية الأولى؛ بأنه عليه السلام كره ما دعاه به حيث لم ينسبه إلى ما شرفه الله به من النبوة والرسالة، ونسبه إلى جده.

وأما قوله عليه السلام يوم حنين: "أنا ابن عبد المطلب"

(2)

فلم يذكره افتخارًا؛ لأنه كان يكره الانتساب إلى الكفار، لكنه أشار إلى رؤيا رآها عبد المطلب مشهورة كانت إحدى دلائل نبوته فذكرهم بها، وبخروج الأمر عَلَى الصدق فيها.

الثامنة: استنبط منه الحاكم أبو عبد الله طلب الإسناد العالي، ولو كان الراوي ثقة، إذ البدوي لم يقنعه خبر الرسول عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتَّى رحل بنفسه، وسمع ما بلغه الرسول عنه، وما ذكره إنما يتم إِذَا كان ضمام قَدْ بلغه ذَلِكَ أولًا

(3)

، وقد جاء ذَلِكَ مصرحًا به في رواية مسلم

(4)

.

(1)

"سنن أبي داود"(487).

(2)

سيأتي برقم (2864) كتاب: الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره في الحرب.

(3)

"معرفة علوم الحديث" للحاكم ص 5، 6.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 288

التاسعة: جواز الاستحلاف على الخبر، ليحكم باليقين. وفي مسلم: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض -ونصب هذِه الجبال- آلله أرسلك؟ قَالَ:"نعم"، والظاهر أن هذِه الأيمان هنا للتأكيد وتقرير الأمر فقط، كما أقسم الله تعالى عَلَى أشياء كثيرة كقوله:{قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53]، وكقوله:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وقوله:{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7].

العاشرة: فيه أن الرجل يعرف بصفته من البياض والحمرة والطول والقصر؛ لقولهم: فقلنا هذا الرجل الأبيض.

الحادية عشر: تقديم الإنسان بين (يدي)

(1)

حديثه مقدمة يعتذر فيها؛ ليحسن موقع حديثه عند المحدث واختير لَهُ عَلَى ما يأتي منه، وهو من حسن التوصل، وإليه الإشارة بقوله: إني سائلك فمشدد عليك.

واعلم أنه قد تقدم في باب الزكاة من الإسلام في الكلام عَلَى حديث طلحة بن عبيد الله ما لَهُ تعلق بحديث أنس هذا، وقد عقبه مسلم بحديث طلحة، وفيه زيادة ذكر الحج، وسياقه له عقبه يدل عَلَى أن الحديثين عنده لضمام؛ لأن هذا الثاني لم يختلف فيه أنه لضمام، وقد ساقه ابن إسحاق من حديث ابن عباس بزيادات، وفيه أن بني سعد بن بكر بعثوا ضمام بن ثعلبة وافدًا إلى رسول الله.

وفيه: وكان ضمام رجلًا جلدًا أشعر ذا غديرتين، وفيه: آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئًا وأن نخلع هذِه الأنداد؟ ثمَّ ذكر الصلاة، ثمَّ جعل يذكر لَهُ فرائض الإسلام، فريضة فريضة، الصيام والزكاة والحج والشرائع كلها، ينشده عن كل واحد، حتَّى إِذَا فرغ

(1)

من (ج).

ص: 289

قَالَ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وسأؤدي هذِه الفرائض، واجتنب ما نهيتني عنه، ثمَّ لا أزيد ولا أنقص، فقال صلى الله عليه وسلم:"إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة".

وفيه: فأتى قومه فقال: بئست اللات والعزى، فقالوا: مه، اتق الجذام، اتق البرص.

وفيه: وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.

وفيه: فوالله ما أمسى في ذَلِكَ اليوم في حاضرته أحد إلا مسلمًا

(1)

.

وظاهر هذا السياق أنه لم يأت مسلمًا، وإنما أسلم بعد، وقد بوَّب عليه أبو داود باب: في المشرك يدخل المسجد، لا جرم

(2)

.

قَالَ القاضي: الظاهر أنه (لم يأت إسلامه بعدُ)

(3)

وأنه جاء (مستفتيًا)

(4)

. ويدل عليه قوله في مسلم: وزعم رسولك، وقوله في حديث ابن عباس: فلما فرغ تشهد.

وأما قول بعضهم: الظاهر أن البخاري فهم إسلامه قبل قدومه، وأنه جاء يعرض عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا بوب عليه: العرض عَلَى المحدث؛ ولقوله آخر الحديث: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي. فضعيفٌ؛ لأنه لا يلزم ذَلِكَ منه، وكذا قوله: آمنت بما جئت به، يحتمل أنه ابتداء إيمان لا إخبار بإيمان سالف.

(1)

"سيرة ابن هشام" 4/ 241 - 242.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

في "إكمال المعلم" 1/ 220: والظاهر أنه لم يأا إلا بعد إسلامه.

(4)

انظر: "إكمال المعلم" 1/ 220، وفيه مستثبتًا بدلا من مستفيًا، وهو الأليق بالسياق.

ص: 290

‌7 - باب مَا يُذْكَرُ فِى الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ

وَقَالَ أَنَسٌ: نَسَخَ عُثْمَانُ المَصَاحِفَ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآفَاقِ [انظر: 3506]. وَرَأى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَمَالِكٌ ذَلِكَ جَائِزًا. وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحِجَازِ فِي المُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَيْثُ كَتَبَ لأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ:"لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا". فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [فتح: 1/ 153]

64 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ البَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَينِ إِلَى كِسْرى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ. فَحَسِبْتُ أَنَّ ابن الُمسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. [2939، 4424، 7264 - فتح: 1/ 154]

65 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الَحسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ قَالَ: أَخبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا -أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ- فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا. فَاتُّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةِ نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ. فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ مَنْ قَالَ نَقْشُهُ مُحَمَّد رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: أَنَسٌ. [2938، 3106، 5870، 5872، 5874، 5875، 5877، 5879، 7162 - مسلم: 2092 - فتح: 1/ 155]

ثم ساق البخاري حديث ابن عباس وأنس في ذلك.

ص: 291

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

أثر أنس ساقه البخاري في فضائل القرآن عن أنس مطولا كما سنقف عليه -إن شاء الله تعالى- في موضعه

(1)

، وفي غير البخاري أن عثمان بعث مصحفًا إلى الشام، وآخر إلى الحجاز، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وأبقى عنده مصحفصا منها؛ ليجمع الناس عَلَى قراءة ما يعلم ويتيقن.

قَالَ أبو عمرو الداني: أجمع العلماء عَلَى أن عثمان كتب أربع نسخ فبعث بإحداهن إلى البصرة، والأخرى إلى الكوفة، وبالثالثة إلى الشام، وحبس آخر عنده، وقال أبو حاتم السجستاني: كتب سبعة، فبعث إلى مكة واحدًا، وإلى الشام آخر، وإلى اليمن آخر، وإلى البحرين آخر، وإلى البصرة آخر، وإلى الكوفة آخر، [وحبس بالمدينة واحدًا]

(2)

.

الثاني:

أمير السرية هذا هو عبد الله بن جحش بن رئاب أخو أبي أحمد، وزينب أم المؤمنين، وأم حبيبة، وحمنة، وأخوهم (عبيد)

(3)

الله تنصر بأرض الحبشة، وعبد الله وأبو أحمد كانا من المهاجرين الأولين، وعبد الله يقال له: المجدع في الله، شهد بدرًا وقتل يوم أحد بعد أن قطع أنفه وأذنه رضي الله عنه

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (4987) كتاب: فضائل القرآن، باب: جمع القرآن.

(2)

زيادة من "المصاحف" لابن أبي داود السجستاني ص (34) وبها يتم العدد الذي ذكره.

(3)

في (ف): عبد، والمثبت من (ج) وهو الصواب.

(4)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" للبغوي 3/ 524 - 526. "معجم الصحابة" =

ص: 292

قَالَ ابن إسحاق: كانت هذِه السرية أول سرية غنم فيها المسلمون، وكانت في رجب (من)

(1)

السنة الثانية قبل بدر الكبرى، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثمانية رهط من المهاجرين، وكتب لَهُ كتابًا وأمره ألا ينظر إليه حتَّى يسير يومين، ثمَّ ينظر فيه فيمضي لما أمر به، ولا يستكره من أصحابه أحدًا، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه:"إِذَا نظرت في كتابي هذا فامض حتَّى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشًا وتعلم لنا أخبارهم"، فقال عبد الله وأصحابه: سمعًا وطاعة. فمضوا ولقوا عيرًا لقريمش، فقتلوا عمرو بن الحضرمي في أول يوم من رجب كافرًا، واستأسروا اثنين، وغنموا ما كان معهم.

فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، وقالت قريش: قَدْ استحل محمد الشهر الحرام فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} [البقرة: 217] الآية

(2)

. فهذِه أول غنيمة، وأول أسير، وأول قتيل قتله المسلمون.

الثالث:

لما ذكر البخاري أولًا قراءة الشيخ ثمَّ تلاه بالقراءة والعرض عليه، وهو يشمل السماع والقراءة، ثمَّ تلاه بالمناولة والمكاتبة، وكل منهما قَدْ يقترن به الإجازة وقد لا يقترن، ولم يصرح بالإجازة المجردة، ويحتمل أنه يرى أنها من أنواع الإجازة، فبوب عَلَى أعلاها رتبة عَلَى جنسها.

= لابن قانع، 2/ 109 - 110 (563)، "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 6/ 1603 - 1608 (1592)، "الاستيعاب" 3/ 14 - 16 (1502)، "أسد الغابة" 3/ 194 - 196 (2856)، "الإصابة" 2/ 286 - 287 (4583).

(1)

في (ف): في.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 293

والخطيب الحافظ أطلق اسم الإجازة عَلَى ما عدا السماع، وجعل المناولة والعرض من أنواعها، واستدل عَلَى الإجازة (بعين)

(1)

ما استدل به البخاري عَلَى المناولة، وهو حديث عبد الله بن جحش، فإنه عليه السلام ناوله الكتاب فقرأه عَلَى الناس، ويجوز لهم روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كتابته إليهم تقوم مقامه، وجائز للرجل أن يقول: حَدَّثَنِي فلان كتابة إِذَا كتب إليه

(2)

.

والمناولة المقرونة بالإجازة لها صور:

إحداها: أن يدفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه أو فرعًا مقابلًا به، ويقول: هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه، أو أجزتُ لك روايته عني، ثمَّ يملكه لَهُ أو يأذن له في نسخه ويقابله به.

ثانيها: أن يدفع (إليه)

(3)

الطالب سماعه فيتأمله وهو عارف به متيقظ، ثمَّ يعيده إليه ويقول: هو حديثي أو روايتي فاروه عني، أو أجزت (لك)

(4)

روايته، وهذا سماه غير واحد من أئمة الحديث عرضا.

وقد أسلفنا أن القراءة عليه تسمى عرضا أيضًا، فليسم هذا عرض المناولة وذاك عرض القراءة، وهذِه المناولة كالسماع في القوة عند الزهري ومالك وآخرين، والصحيح أنها منحطة عَلَى السماع والقراءة، وهو قول جماعة منهم باقي الأربعة.

(1)

في (ف): بغير.

(2)

انظر: "الكفاية في علم الرواية" ص 466 - 471.

(3)

في (ج): إلى.

(4)

في (ف): له.

ص: 294

ثالثها: أن يناول الشيخ الطالب سماعه ويجيزه لَهُ ثمَّ يمسكه الشيخ عنه ولا يمكنه منه، وهذا دون ما سبق، ويجوز روايته إِذَا وجده أو فرعًا مقابلًا به موثوقًا بموافقته لما تناوله الإجازة، والمناولة المجردة عن الإجازة بأن يناوله مقتصرًا عَلَى: هذا سماعي، فلا تصح الرواية بها، وجوزها جماعة وذلك كله مبسوط في مختصري في علوم الحديث فراجعه

(1)

، فإنه يعز نظيره.

وأما الكتابة (المعتبرة)

(2)

بالإجازة فكالمناولة وكذا الكتابة المجردة عند الأكثرين، وأما الإجازة فالأصح جواز الرواية والعمل بها، وقد أوضحتها بأقسامها في الكتاب المشار إليه، فراجعه

(3)

.

الرابع: معنى (كتب): أمر بالكتابة، وسيأتي الخوض في ذَلِكَ في موضعه إن شاء الله تعالى.

قال البخاري رحمه الله:

نَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودِ أَنَّ عَبْدَ اللهِ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيم البَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ البَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ. فَحَسِبْت أَنَّ ابن المُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.

(1)

انظر: "المقنع" 1/ 325 - 330.

(2)

في (ج): المقترنة.

(3)

"المقنع" 1/ 314 - 325.

ص: 295

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم أخرجه في مواضع هنا عن إسماعيل: هو الأويسي، عن إبراهيم كما ترى، وفي المغازي (عن إسحاق، عن يعقوب بن إبراهيم)

(1)

عن أبيه، عن صالح به، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي

(2)

، وفي خبر الواحد عن ابن بكير، عن ليث، عن يونس

(3)

، وفي: الجهاد: عن عبد الله بن يوسف، عن (الليث، عن عقيل)

(4)

، عن الزهري به

(5)

.

ثانيها:

هذا الرجل هو: عبد الله بن حذافة السهمي كما سقته لك مبينًا، وهو: عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن (هصيص)

(6)

بن كعب بن لؤي.

أخو خنيس بن حذافة، زوج حفصة أصابته جراحة بأحد فمات منها، خلف عليها بعده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله الذي قَالَ: يا رسول الله من

(1)

في (ج): (عن إسحاق بن يعقوب، عن إبراهيم) والصواب ما أثبتناه. البخاري (4072).

(2)

سيأتي برقم (4424) كتاب: المغازي، باب: كتابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر.

(3)

سيأتي برقم (7264) كتاب: أخبار الآحاد، باب: ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء واحدًا بعد واحدٍ.

(4)

في (ف)، (ج): الليث، عن يونس، عن عقيل، والصواب: ما أثبتناه كما في كتاب: الجهاد من "صحيح البخاري"(2939).

(5)

سيأتي برقم (2939) كتاب: الجهاد والسير، باب: دعوة اليهود والنصارى.

(6)

في (ف)، (ج): هصص، وما أثبتناه كما في "الثقات" 3/ 216، "أسد الغابة" 3/ 211.

ص: 296

أبي؟ قَالَ: "أبوك حذافة"

(1)

.

أسلم قديمًا وكان من المهاجرين الأولين، وكانت فيه دعابة، وقيل: إنه شهد بدرًا. ولم يذكره الزهري، ولا موسى بن عقبة، ولا ابن إسحاق في البدريين، أسره الروم في زمن عمر، وأرادوه عَلَى الكفر، وله في ذَلِكَ قصة طويلة، وآخرها أنه قَالَ لَهُ ملكهم: قبل رأسي وأطلقك، قَالَ: لا. قَالَ له: وأطلق من معك من أسرى المسلمين، فقبل رأسه، فأطلق معه ثمانين أسيرًا، فكان الصحابة يقولون له: قبلت رأس علج، فيقول: أطلق الله بتلك القبلة ثمانين أسيرًا من المسلمين، توفي عبد الله في خلافة عثمان

(2)

.

ثالثها: في التعريف برجاله، وقد سلف مفرقًا.

رابعها:

البحران: تثنية بحر وهو ملك مشهور بين البصرة وعمان

(3)

، صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهله وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث أبا عبيدة فأتى بجزيتها

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (7294) كتاب: الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه.

(2)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" للبغوي 3/ 540 - 541، "معجم الصحابة" لابن قانع 2/ 98 - 99 (547)، "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 3/ 1615 - 1617 (1602)، "الاستيعاب" 3/ 24 - 26 (1526)، "أسد الغابة" 3/ 211 - 213 (2889)، "الإصابة" 2/ 296 - 297 (4622).

(3)

انظر: "معجم ما استعجم" 1/ 228. "معجم البلدان" 1/ 346.

(4)

سيأتي في الحديث رقم (3158) كتاب: الجزية والموادعة، باب: الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب.

ص: 297

خامسها:

(عظيم البحرين) لعله المنذر بن ساوى العبدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي إليه وكان ملك البحرين فصدق وأسلم

(1)

.

سادسها:

كسرى -بكسر الكاف وفتحها- قَالَ ابن الجواليقي: والكسر أفصح.

وهو فارسي معرب، وهو أنوشروان بن هرمز الكافر، وهو الذي ملك النعمان بن المنذر عَلَى العرب، وهو الذي قصده سيف بن ذي يزن يستنصره عَلَى الحبشة، فبعث معه قائدًا من قواده فنفوا السودان، وكان ملك كسرى سبعًا وأربعين سنة وسبعة أشهر.

وذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة السهمي، وهو أحد الستة الذين بعثوا إلى الملوك كسرى وغيره [يدعوه] إلى الإسلام، وكتب معه كتابًا، قَالَ عبد الله: فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ عليه ثمَّ أخذه فمزقه.

فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قَالَ: "اللهم مزق ملكه"، وكتب كسرى إلى باذان عامله في اليمن أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فليأتيا بخبره، فبعث باذان قهرمانه ورجلًا آخر، وكتب معهما كتابًا، فقدما المدينة ومعهما كتاب باذان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهما إلى الإسلام، وفرائصهما ترعد.

وفيه فقال: "أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه كسرى في هذِه الليلة"

لسبع ساعات مضت منها وهي ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى

(1)

انظر ترجمته في "معجم الصحابة" 3/ 10 (1070)، "الاستيعاب" 4/ 10 (2515)، "أسد الغابة" 5/ 226 (5098)، "الأصابة" 3/ 459 (8216).

ص: 298

الأولى سنة سبع، وأن الله سلط عليه ابنه شيرويه فقتله

(1)

. أي: وتمزق ملكه كل ممزق، وزال بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن هشام: أنه لما مات وِهرز الذي كان باليمن عَلَى جيش الفرس أسر كسرى ابنه يعني: ابن وِهرز، ثمَّ عزله وولى باذان فلم يزل بها حتَّى بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم.

قَالَ: فبلغني عن الزهري أنه قَالَ: كتب كسرى إلى باذان أنه بلغني أن رجلًا من قريش يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه، فإن تاب وإلا فابعث إليَّ برأسه، فبعث باذان بكتابه إلى رسول الله، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تعالى وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا ومن شهر كذا وكذا"، فلما أتى باذان الكتاب قَالَ: إن كان نبيًّا سيكون ما قَالَ، فقتل الله كسرى في اليوم الذي قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قَالَ ابن هشام: قتل عَلَى يدي ابنه شيرويه. قَالَ الزهري: فلما بلغ باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس

(2)

.

سابعها:

قَدْ أسلفنا في الكلام عَلَى حديث هرقل أن كل من ملك الفرس يقال لَهُ كسرى وأولنا حديث: "إذا هَلَكَ كِسْرى فَلَا كِسْرى بَعْدَهُ"

(3)

، فراجعه من ثَمَّ.

ثامنها:

فيه من الفقه ما أسلفناه من الكتابة، وفيه أيضًا الاكتفاء بواحد في حمل كتاب الحاكم إلى حاكم آخر إِذَا لم يشك في الكتاب ولا أنكره،

(1)

"الطبقات الكبرى" 1/ 259 - 260.

(2)

"سيرة ابن هشام" 1/ 73 - 74.

(3)

سيأتي برقم (3120) كتاب: فرض الخمس، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحلت لكم الغنائم".

ص: 299

واعتماد الحكام الآن عَلَى اثنين للاحتياط، وسيأتي بسط ذَلِكَ في كتاب: الأحكام -إن قدر الله الوصول إليه وشاءه.

قال البخاري رحمه الله:

نَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الحَسَنِ، أَنَا عَبْدُ اللهِ أَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا -أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكتُبَ- فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إلَّا مَخْتُومًا. فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ. كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ. فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ مَنْ قَالَ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: أَنَسٌ.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في أبواب هنا، والجهاد

(1)

واللباس عن ابن مقاتل

(2)

، عن ابن المبارك

(3)

. وفي الأحكام عن ابن بشار، عن غندر

(4)

. وله عنه طرق أخرى.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم خلا محمد بن مقاتل، وهو مروزي ثقة صدوق، كنيته أبو الحسن، انفرد به البخاري عن باقي الكتب، روى

(1)

سيأتي برتم (2938) كتاب: الجهاد والسير، باب: دعوة اليهود والنصارى.

(2)

كلام المصنف يوهم أن طرق الرواية في كتاب: الجهاد، وكتاب: اللباس والزينة من طريق محمد بن مقاتل عن ابن المبارك وليس كذلك، بل هذِه الطريق هنا فقط، فأما الجهاد فعن علي بن الجعد، وأما في اللباس والزينة فعن آدم بن أبي إياس كلاهما عن ابن المبارك.

(3)

سيأتى برقم (5875) كتاب: اللباس، باب: اتخاذ الخاتم ليختم به الشيء.

(4)

سيأتى برقم (7162) كتاب: الأحكام، باب: الشهادة على الخط المختوم.

ص: 300

عن ابن المبارك، ووكيع، وعنه مع البخاري أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم، مات آخر سنة ست وعشرين ومائتين

(1)

.

ثالثها:

الخاتم: بفتح التاء وكسرها وفيه أربع لغات أخر خاتام وخيتام وختام وختم.

رابعها: في فوائده وأحكامه:

الأولى: اتخاذ خاتم الفضة، وهو إجماع

(2)

، ولا عبرة بمن شذ فيه من كراهة لبسه إلا لذي سلطان

(3)

، ومن كراهته للنساء؛ لأنه من زي الرجال

(4)

.

وأما خاتم الذهب: فقام الأجماع عَلَى تحريمه

(5)

، ولا عبرة بقول أبي بكر (بن)

(6)

محمد بن عمرو بن حزم أنه مباح

(7)

. ولا بقول

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 1/ 242 (767)، "الجرح والتعديل" 8/ 105 (448)، "الثقات" 9/ 81، "تهذيب الكمال" 26/ 491 - 493 (5626).

(2)

انظر: "التمهيد" 17/ 99، "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان الفاسي 4/ 2028، "المجموع" 4/ 304.

(3)

انظر: "التمهيد" 17/ 100، "المجموع" 4/ 304 - 341، "أحكام الخواتم" لابن رجب ص 53. قال النووي: وأما ما نقل عن بعض علماء الشام المتقدمين من كراهة لبسه لغير ذي سلطان، فشاذ مردود بالنصوص واجماع السلف. اهـ.

قلت: من أراد مزيد بيان فليراجع المسالة في "شرح معاني الآثار" 4/ 265 - 266.

(4)

انظر: "المجموع" 4/ 340، وعزاه للخطابي، قال النووي: هذا الذي قاله باطل لا أصل له. اهـ.

(5)

انظر: "مسلم بشرح النووي" 14/ 32.

(6)

في الأصل: أبو بكر محمد بن عمرو، والصواب ما أثبتناه كما في "الجرح والتعديل" 9/ 337، "الثقات" 5/ 561، "تهديب التهذيب" 4/ 494.

(7)

انظر: "تهذيب سنن أبي داود" لابن القيم 6/ 112. قال ابن القيم: وقد روي عن =

ص: 301

بعضهم أنه مكروه

(1)

، وقد كان صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتمًا من ذهب، وجعل فصه مما يلي بطن كفه فاتخذ الناس مثله فرماه، وقال:"لا ألبسه أبدًا"

(2)

ثمَّ اتخذ الخاتم من فضة فنسخ لبسه.

وأما حديث أنس (خ م) أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ورق يومًا واحدًا فطرحه وطرح الناس خواتيمهم

(3)

فهو وهم من الزهري، وإن كان رواه عنه خمسة وصوابه من ذهب

(4)

.

الثانية: جواز نقش الخاتم ونقش اسم صاحبه، وجواز نقش اسم الله تعالى عليه، وهو قول مالك

(5)

وابن المسيب

(6)

وغيرهما، وكرهه ابن سيرين

(7)

.

= البراء بن عازب، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنهم لبسوا خواتيم الذهب. وهذا إن صح عنهم فلعلهم لم يبلغهم النهي، وهم في ذلك كمن رخص في لبس الحرير من السلف، وقد صحت السنة بتحريمه على الرجال وإباحته للنساء والله أعلم. اهـ.

(1)

انظر: "شرح معاني الآثار" 4/ 260 - 261.

(2)

سيأتي برقم (5867) كتاب: اللباس، باب: خاتم الفضة.

(3)

سيأتي برقم (5868) كتاب: اللباس، باب: خاتم الفضة، ومسلم (2093) كتاب: اللباس والزينة، باب: في طرح الخواتم.

(4)

قلت: ذكر ابن رجب في "أحكام الخواتم" ص 56 - 60 إلى جانب هذا السبب، أسباب أُخر، أحدها: أن الخاتم الذي رمى به النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كله من فضة، وإنما كان من حديد عليه فضة. الثاني: أن طرحه إنما كان لئلا يظن أنه سنة مسنونة، فإنهم اتخذوا الخواتيم لما رأوه قد لبسه فتبين بطرحه أنه ليس بمشروع ولا سنة وبقى أصل الجواز بلُبْسه. الثالث: أن طرحه كان بسبب نقش الناس على نقشه لنهيه عن ذلك.

(5)

انظر: "الذخيرة" 13/ 265.

(6)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 1/ 346 (1351)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 192 (25114).

(7)

انظر: "المنتقى" 7/ 254.

ص: 302

وأما رواية البخاري فيما سيأتي: "إنِّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا، وَنَقَشْنَا عليه نَقْشًا، فَلَا يَنْقُشْ عَلَيْهِ أَحَدٌ"

(1)

فالنهي محن نقش مثله خوف حصول المفسدة والخلل، فإنه إنما فعل ذَلِكَ؛ ليختم به كلتب الملوك، فإذا نقش مثله خيف وقوع ذَلِكَ.

الثالثة: ختم كتاب السلطان والقضاة والحكام، وهو سنة متبعة، وإنما كانوا لا يقرءون كتابًا إلا مختومًا خوفًا عَلَى كشف أسرارهم وإذاعة تدبيرهم، فصار الختم للكتاب سنة، وقد قيل في قوله:{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29]: أنه كان مختومًا

(2)

.

الرابعة: معنى (كَتَبَ): أراد أن يكتب كما سلف.

واعلم أن البخاري ذكر أحاديث الخاتم في مواضع من كتابه في كتاب اللباس وغيره كما سنمر عليه -إن شاء الله تعالى-، وهناك يأتي الكلام -إن شاء الله تعالى- في كيف وضع فصه؟ وأنه من داخل، وصفة فصه، وهل يلبسه في يمينه أو في يساره؟ إن شاء الله.

واستحب مالك لبسه في يساره وكرهه في يمينه

(3)

، والأصح عند الشافعية عكسه، وكان نقش خاتم الإمام مالك: حسبي الله ونعم الوكيل

(4)

، وكان نقش خاتم الشافعي: الله ثقة محمد بن إدريس، ونقل الربيع عنه أنه كان يتختم في يساره.

(1)

سيأتي برقم (5874) كتاب: اللباس، باب: الخاتم في الخنصر.

(2)

ذكره الطبري في "تفسيره" 9/ 513.

(3)

انظر: "المنتقى" 7/ 254، "عقد الجواهر الثمينة" 3/ 1291.

(4)

انظر: "المنتقى" 7/ 254، "عقد الجواهر الثمينة" 3/ 1291، "الذخيرة" 13/ 265.

ص: 303

‌8 - باب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِى بِهِ الْمَجْلِسُ، وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِى الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا

66 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ -مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي وَاقِدِ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ. فِي الَمسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اَثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأى فُرْجَةً فِي الَحلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاَثةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَآوى إِلَى اللهِ، فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْة، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَغرَضَ اللهُ عَنْهُ". [474 - مسلم 2176 - فتح: 1/ 156]

لو أخر البخاري هذا الباب رحمه الله إلى ما بعد الباب الذي يليه وهو باب قوله صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ" لكان أولى؛ لأن فيه معنى التحمل عن غير العارف وغير الفقيه.

نَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ -مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- أخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرِ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَآوى إِلَى اللهِ، فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ".

ص: 304

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا كما ترى، وفي الصلاة في باب: الحلق والجلوس في المسجد عن عبد الله بن يوسف

(1)

.

وأخرجه مسلم في الأدب عن قتممة كلاهما عن مالك، وعن أحمد بن المنذر، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حرب (بن)

(2)

شداد، عن يحيى بن أبي كثير، وعن إسحاق بن منصور، عن حبان، عن أبان العطار، عن ابن أبي كثير كلاهما عن إسحاق، عن أبي مرة يزيد مولى عقيل، عن أبي واقد

(3)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

أما أبو واقد فهو -بالقاف- مشهور بكنيته، وفي اسمه أقوال: أصحها: الحارث بن عوف قاله الكلبي، وصححه أبو عمر

(4)

، وثانيها: عكسه.

ثالثها:

الحارث بن مالك -قاله الواقدي- ابن أسيد بن جابر بن عويرة

(5)

بن

(1)

سيأتي برقم (474) كتاب الصلاة.

(2)

في (ج): عن. وما أثبتناه هو الصحيح، مسلم (2176).

(3)

(2176) كتاب: السلام، باب: مَنْ أتى مجلسًا فوجد فرجة فجلس فيها، وإلا وراءهم.

(4)

"الاستيعاب" 1/ 360.

(5)

كذا بالأصول عندنا: عويرة، ووقع في "معجم البغوي": عوثرة. وسقطت من "الإصابة" لابن حجر و"معجم ابن قانع"، ووقع في مطبوع "الاستيعاب": عوثرة، وذكر المحقق أنه وقع في مخطوط: عنورة، ووقع في "أسد الغابة": عويرة بمثل ما ذكر عندنا، ووقع في "معرفة الصحابة" لأبي نعيم: عتوارة.

ص: 305

عبد مناف

(1)

بن شجع

(2)

بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن علي بن كنانة بن خزيمة الليثي.

قَاَل أبو عمر عن بعضهم: شهد بدرًا، ولم يذكر موسى بن عقبة ولا ابن إسحاق فيهم، وذكر بعضهم أنه كان قديم الإسلام.

وقال غيره: أسلم يوم الفتح، وأخبر عن نفسه أنه شهد حنينًا، قَالَ: وكنت حديث عهد بكفر، وهذا يدل عَلَى تأخر إسلامه، وشهد اليرموك، ثمَّ جاور بمكة سنة ومات بها ودفن بمقبرة المهاجرين.

لَهُ أربعة وعشرون حديثًا اتفقا منها عَلَى هذا الحديث، وليس لَهُ في "صحيح البخاري" غيره، وانفرد مسلم بحديث آخر، وهو ما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في الأضحى

(3)

.

وقيل: إنه ولد في العام الذي ولد فيه ابن عباس، وفي هذِه وشهوده نظر كما قاله الحافظ عبد الغني، مات سنة ثمان وستين عن خمس وسبعين سنة

(4)

.

(1)

كذا بالأصول عندنا: عبد مناف، زكذا وقع في "معجم البغوي"، ووقع في "معجم ابن قانع"، و"الاستيعاب"، والطبوع في "أسد الغابة": عبد مناة، وذكر محقق "أسد الغابة" أنه وقع في أصوله الخطية: عبد مناف، ووقع في "الإصابة": عبد مناة. وكذا بهامشة لابن عبد البر، وكذلك في "معرفة الصحابة" لأبي نعيم.

(2)

كذا بالأصول عندنا: شجع، وكذا وقع في "معجم البغوي"، "أسد الغابة"، "معرفة الصحابة"، ووقع في "معجم ابن قانع"، "و"الاستيعاب"، "الإصابة": أشجع.

(3)

مسلم (891) كتاب: صلاة العيدين، باب: ما يقرأ به في صلاة العيدين.

(4)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" للبغوي 2/ 42 - 45، "معجم الصحابة" لابن قانع 1/ 172 - 173 (185)، "معرفة الصحابة" للبغوي 2/ 42 - 45، "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 2/ 752 (630)، "الاستيعاب" 4/ 337 (3247)، "أسد الغابة" 1/ 409 (940)،

"الإصابة" 4/ 215 - 216 (1211).

ص: 306

فائدة:

في الصحابة من يكنى بهذِه الكنية ثلاثة هذا أحدهم، وثانيهم أبو واقد

(1)

مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

، روى عنه أبو عمر زاذان

(3)

، وثالثهم أبو واقد النميري

(4)

، روى عنه نافع بن سرجس

(5)

.

وأما الراوي عنه فهو أبو مرة واسمه يزيد كما سلف، مولى عقيل بن أبي طالب كما ذكره البخاري، وقيل: مولى أخيه، وقيل: مولى أختهما أم هانئ، وكان يلزم عقيلا فنسب إلى ولائه، روى عن عمرو بن العاص وأبي واقد وغيرهما، قَالَ ابن منجويه: كان شيخًا قديمًا، وروى عنه زيد بن أسلم وأبو حازم وغيرهما

(6)

.

وأما الراوي عنه فهو: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة زيد بن

(1)

وقع في "الاستيعاب" أن اسمه: (واقد) وذكره في أسماء من تبدأ أسماؤهم بحرف الواو.

(2)

انظر ترجمته في: "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 6/ 3041 (3484)، "الاستيعاب" 4/ 112 (2744)، "أسد الغابة" 6/ 326 (6328)، "الإصابة" 4/ 216 (1212).

(3)

انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 6/ 178، "التاريخ الكبير" 3/ 437 (1455)، "معرفة الثقات" للعجلي 1/ 366 (488)، "الكامل" لابن عدي 4/ 209 (728)، "الثقات" 4/ 265، و"تهذيب الكمال" 9/ 263 (1945).

(4)

انظر ترجمته في: "أسد الغابة" 6/ 326 (6329)، "الإصابة" 4/ 216 (1214)، وقال ابن حجر في ترجمته: ذكره ابن شاهين في الصحابة وأخرج من طريق جشم، عن نافع بن سرجس، عن أبي واقد النميري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة على الناس وأدومها على نفسه.

(5)

انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 5/ 477، و"التاريخ الكبير" 8/ 84 (2263)، و"الجرح والتعديل" 8/ 452 (2071)، و"الثقات" لابن حبان 5/ 468.

(6)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 177/ 5، "معرفة الثقات" 2/ 425 (2247)، "الجرح والتعديل" 9/ 299 (1277)، "تهذيب الكمال" 32/ 290 - 291 (7068)، "تقريب التهذيب" ص 606 (7797).

ص: 307

سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري النجاري ابن أخي أنس لأمه.

كان يسكن دار جده بالمدينة، وهو تابعي سمع أباه وعمه أنس بن مالك وغيرهما، وثقته متفق عليها، وهو أشهر إخوته وأكثرهم حديثًا وهم: عبد الله، ويعقوب، وإسماعيل، وعمر، وعبد الله، وكان مالك لا يقدم عَلَى إسحاق في الحديث أحدًا، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة

(1)

.

وأما الراوي عنه فهو: إسماعيل الأودي وقد سلف.

ثالثها: تتبع أسماء هؤلاء الثلاثة فإني لم أظفر بها.

رابعها: في ألفاظه:

(النفر) -بفتح الفاء- عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة قاله الجوهري

(2)

. و (الفرجة) -بضم الفاء وفتحها لغتان- الخلل بين شيئين، واقتصر الجوهري وغيره عَلَى الضم

(3)

. وقد فرج لَهُ في الصف والحلقة ونحوهما بالتخفيف، يفرج -بضم الراء- وأما الفرجة بمعنى الراحة من الغم فهي بفتح الفاء، وحكى الأزهري وغيره تثليثها

(4)

. وقد أوضحت ذَلِكَ في "الإشارات للغات المنهاج".

و (الحلقة) بإسكان اللام عَلَى المشهور، وحكي فتحها، وقوله:"فَآوى إِلَى اللهِ" فهو مقصور، وقوله:"فَآوَاهُ الله" فهو ممدود هكذا

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" القسم المتمم لتابعي أهل المدينة. ومن بعدهم ص 288 - 289 (177)، "التاريخ الكبير" 1/ 393 - 394 (1255)، "معرفة الثقات" 1/ 219 (70)، "تهذيب الكمال" 2/ 444 - 446 (366).

(2)

"الصحاح" 2/ 833، مادة:(نفر).

(3)

"الصحاح" 1/ 334، "المجمل" 3/ 719، مادة:(فرج).

(4)

"تهذيب اللغة" 3/ 2759، "المجمل" 3/ 719، مادة:(فرج).

ص: 308

الرواية، وبه جاء القرآن القصر في اللازم والمد في المتعدي، قَالَ الله تعالى:{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف: 10]، {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ} [المؤمنون: 50]، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)} [الضحى: 6]، وحكى بعضهم فيهما اللغتين القصر والمد، كما حكاه القاضي

(1)

.

والمشهور الفرق.

وقوله: "فَآوى إِلَى اللهِ، فَآوَاهُ اللهُ" هو من باب المقابلة، وكذا:"فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ"، وكذا:"فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ"، كله من باب المقابلة والمماثلة في اللفظ، ومثله في القرآن:{مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14 - 15]{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] والمعنى: جازاهم الله عَلَى أفعالهم، فسمى مجازاتهم بمثل أسماء أفعالهم استعارة ومجازا

(2)

.

(1)

انظر: "إكمال المعلم" 7/ 66.

(2)

اعلم أن صفة المكر والاستهزاء والحياء من صفات الكلمال المقيدة التي لا يجوز أن يتصف الله بها إلا مقيدة.

قال العلامة محمد الصالح العثيمين في "شرح العقيدة الواسطية" 1/ 109 - 110: الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صفة كمال على الإطلاق، وصفة كمال بقيد، وصفة نقص.

أما صفة الكمال على الإطلاق: فهي ثابتة لله كالمتكلم والفغال وغير ذلك وأما صفة كمال بقيد: فهذِه لا يوصف الله بها على الإطلاق إلا مقيدَا مثل: المكر والخداع والاستهزاء، وما أشبه ذلك، فهذِه صفات كمال بقيد إذا كانت في مقابلة من يفعلون ذلك فهي كمال، وإن ذكرت مطلقة فلا تصح بالنسمة لله عز وجل، ولهذا لا يصح إطلاق وصفه بالماكر أو المستهزئ أو الخادع، بل تقيد، فتقول: ماكر بالماكرين، مستهزئ بالمنافقين، خاح للمنافقين، كائد للكافرين، فتقيدها لأنها لم تأت إلا مقيدة.

الثالث: ما دلّ على نقص، فهذا لا يوصف الله به مطلقًا، وبأيّ حال من الأحوال كالعاجز والأعمى والأصم، فهذا لا يوصف الله به مطلقًا؛ لأنه نقص =

ص: 309

ومعنى: "فَآوى إِلَى اللهِ" لجا إليه، قَالَ القاضي: وعندي أن معناه: دخل مجلس ذكر الله

(1)

. و"آواه الله" أي: قبله وقربه، أو آواه إلى جنته، وقوله:"فاستحيا" اْي: ترك المزاحمة والتخطي حياءً من الله ورسوله والحاضرين، أو استحياءً منهم أن يعرض ذاهبًا فاستحيا الله منه، أي: رحمه ولم يعاقبه، وقوله:"فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ" أي: لم يرحمه وسخط عليه، وحمله بعضهم عَلَى من ذهب معرضًا لا لعذر، فمن أعرض عن نبيه صلى الله عليه وسلم وزهد فيه فليس بمؤمن، وإن كان هذا مؤمنًا وذهب لحاجة دنيوية أو ضرورية فإعراض الله عنه ترك رحمته وعفوه، فلا تثبت له حسنة ولا تمحو عنه سيئة، نبه عَلَى ذَلِكَ القاضي

(2)

.

خامسها: فيه من الآداب جمل مستكثرة منها:

حلق العلم والذكر في المسجد، واستحباب القرب من الكبير في الحلقة ليسمع كلامه، واستحباب الثناء عَلَى من فعل جميلًا، وأن الإنسان إِذَا فعل قبيحًا أو مذمومًا وباح به جاز أن ينسب إليه.

وفيه أيضًا: أن من جلس إلى حلقة فيها ذكر أو علم فهو في كنف الله (وجواره)

(3)

وإيوائه، وهو ممن تضع لَهُ الملائكة أجنحتها. وأن العالم يؤوي المتعلم؛ لقوله عليه السلام:"فآواه الله" وأن من قصد المعلم ومجالسته فاستحيا من قصده، ولم يمنعه الحياء من التعلم ومجالسة

= على الإطلاق. اهـ.

قلت: إذ علم ذلك سهل علينا فَهْمُ كثير من آيات وأحاديث الصفات دون الحاجة إلى تحريف أو تعطيل أو تمثيل أو تكييف.

(1)

انظر: "إكمال المعلم" 7/ 66.

(2)

انظر التخريج السابق.

(3)

من (ج).

ص: 310

العلماء، أن الله يستحي منه ولا يعذبه جزاءً باستحيائه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين

(1)

.

فالحياء المذموم في الفعل هو الذي يبعث عَلَى ترك التعلم. وفيه أيضًا أن من قصد العلم ومجالسه ثمَّ أعرض عنها فإن الله يعرض عنه، ومن (أعرض)

(2)

عنه فقد تعرض لسخطه، ألا ترى قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175]، وهذا انسلخ من إيواء الله بإعراضه عنه.

وفيه: سد الفُرج في حلق الذكر، وقد جاء في سدها في صفوف الصلاة وفي الصف في سبيل الله توغيب وآثار

(3)

، ومعلوم أن حلق الذكر في سبيل الله، وفيه أن التزاحم بين يدي العالم أفضل من أعمال البر، ألا ترى قول لقمان لابنه: يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء

(4)

.

(1)

رواه مسلم (332/ 69) كتاب: الحيض، باب: استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم.

(2)

في (ف): يعرض.

(3)

من ذلك ما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أقيموا الصفوت وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفًّا قطعه الله".

رواه أبو داود (666)، ابن خزيمة (1549)، الحاكم 1/ 213. وقال: هذا صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والحديث صححه الألباني. انظر:"صحيح أبي داود"(672).

(4)

ذكره مالك في "الموطأ"رواية يحيى ص 619 بلاغًا، ورواه ابن المبارك في "الزهد" ص 487 (387) عن عبد الوهاب بن بخت المكي، قال: قال لقمان =

ص: 311

وفيه: أن من حسن الأدب أن يجلس المرء حيث انتهى به مجلسه ولا يقيم أحدًا، وقد روي ذَلِكَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وفيه: ابتداء العالم جلساءه بالعلم، قبل أن يسئل عنه. وفيه: مدح الحياء والثناء عَلَى صاحبه.

وفيه: ذم من زهد في العلم؛ لأنه لا يحرم أحد عن حلقة رسول الله وفيه خير.

= لابنه:

فذكره، ورواه الطبراني 8/ 199 - 205 (7810)، والرامهرمزي في

"أمثال الحديث" ص 90 من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لقمان قال لابنه: يا

بني عليك بمجالسة العلماء، واستماع كلام الحكماء، فإن الله عز وجل يحيى القلوب بنور الحكمة كما يحيى الأرض بوابل المطر. قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 125: وفيه عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد وكلاهما ضعيف لا يحتج به، وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب والترهيب"(78).

(1)

ستأتي هذِه الرواية برقم (6269) كتاب: الاستئذان، باب: لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه.

ص: 312

‌9 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ

"

67 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابن عَوْنٍ، عَنِ ابن سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ -أَوْ بِزِمَامِهِ- قَالَ:"أَيُّ يَوْمٍ هذا؟ ". فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوى اسْمِهِ. قَالَ: "أَليْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ ". قُلْنَا بَلَى. قَالَ: "فَأَيُّ شَهْرٍ هذا؟ ". فَسَكتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: "أَليْسَ بِذِي الحِجَّةِ؟ ". قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، فِي شَهْرِكُمْ هذا، فِي بَلَدِكُمْ هذا. لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ". [105، 1741، 3197، 4406، 4662، 5550، 7078، 7448 - مسلم: 1679 - فتح: 1/ 157]

نَا مُسَدَّدٌ نَا بِشْرٌ هو ابن المفضل نَا ابن عَوْنٍ، عَنِ ابن سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ -أَوْ بِزِمَامِهِ- قَالَ:"أَيُّ يَوْمٍ هذا؟ ". فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوى اسْمِهِ. قَالَ: "ألَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ ". قُلْنَا بَلَى. قَالَ: "فَأَيُّ شَهْرٍ هذا؟ ". فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: "أَليْسَ بِذِي الحِجَّةِ؟ ". قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: "فَإِنَّ دِمَاءَكمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كحُرْمَةِ يَوْمِكمْ هذا، فِي شَهْرِكُمْ هذا، فِي بَلَدِكُمْ هذا. لِيُبَلِّغِ الشَّاهِذ الغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ".

ص: 313

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا كما ترى، وفي العلم

(1)

والتفسير عن عبد الله بن عبد الوهاب، عن حماد بن زيد، عن أيوب

(2)

. وفي بدء الخلق

(3)

، وحجة الوداع

(4)

، والتوحيد عن أبي موسى محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب

(5)

.

وفي الأضاحي عن محمد بن سلام، عن الثقفي، وعن عبد الوارث

(6)

، وفي الفتن عن مسدد، عن يحيى القطان، عن قرة

(7)

.

وفي الحج: عن عبد الله بن محمد، عن أبي عامر العقدي، عن قرة

(8)

.

وأخرجه مسلم في الحدود عن أبي بكر بن أبي شيبة، ويحيى بن حبيب ابن عربي، عن عبد الوهاب، عن أيوب، وعن نصر بن علي، عن ابن زريع، عن ابن عون، وعن أبي موسى، عن حماد بن مسعدة، عن ابن عون، وعن محمد بن حاتم، عن يحيى القطان، عن قرة، وعن محمد بن عمر وأحمد بن الحسن بن خراش، عن أبي عامر العقدي، عن قرة كلهم عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن عن أبيه به

(9)

.

(1)

سيأتي برقم (105) كتاب: العلم، باب: ليبلغ العلم الشاهد الغائب.

(2)

سيأتي برقم (4662) كتاب: التفسير، باب: قوله {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} .

(3)

سيأتي برقم (3197) كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين.

(4)

سيأتي برقم (4406) كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع.

(5)

سيأتي برقم (7447) في التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} .

(6)

سيأتي برقم (5550) كتاب: الأضاحي، باب: من قال: الأضاحي يوم النحر.

(7)

سيأتي برقم (7078) كتاب: الفتن، باب:"لا ترجعوا بعدي كفارًا".

(8)

سيأتي برقم (1741) كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى.

(9)

(1679) كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.

ص: 314

وفي حديث العقدي عن قرة، عن محمد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، وحميد بن عبد الرحمن الحميري، عن أبي بكرة

(1)

.

وأخرجه البخاري من حديث ابن عباس

(2)

وابن عمر

(3)

بنحوه، وله طرق تأتي -إن شاء الله تعالى- وذكره ابن منده في "مستخرجه" من حديث سبعة عشر صحابيًا.

الثاني:

لفظ ترجمة البخاري رواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرأ سمع (منا شيئًا)

(4)

فبلغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع" ثمَّ قَالَ: هذا حديث حسن صحيح

(5)

.

قُلْتُ: وكأنه لم يعبأ بما قيل في عدم سماع عبد الرحمن من أبيه لصغره، قَال يحيى بن معين: لم يسمع منه. وقال أحمد: مات عبد الله ولعبد الرحمن ابنه ست سنين أو نحوها.

وأخرج البخاري لعبد الرحمن، عن مسروق فكان هذا عذر البخاري، حيث جعله في الترجمة

(6)

واستشهد لَهُ مما ساقه من قوله: "فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى لَهُ منه".

(1)

مسلم (1679)31.

(2)

سيأتي برقم (1739) كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى.

(3)

سيأتي برقم (1742) كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى.

(4)

في (ج): مقالتي منا شيئًا.

(5)

"سنن الترمذي"(2657).

(6)

قلت: بل لفظ الترجمة جاء عند البخاري في إحدى رواياته ستأتي برقم (1741).

ص: 315

وقد أخرج أبو داود والترمذي في "جامعه" وابن ماجه وابن حبان والحاكم في "صحيحهما" من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها فأداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".

قَالَ الترمذي: حسن، وقال الحاكم: صحيح عَلَى شرط الشيخين

(1)

.

و (نضر) -بالتشديد أكثر من التخفيف- أي: حسن، ويقال: أنضر الله وجهه، و (نضر) بالضم والكسر حكاهما الجوهري

(2)

.

ثالثها: في التعريف برواته:

أما أبو بكرة فسلف، وأما ولده عبد الرحمن فهو أبو عمرو الثقفي البصري أخو عبيد الله، ومسلم، وورَّاد وهو أول مولود ولد في الإسلام بالبصرة سنة أربع عشرة، حين بنيت، سمع أباه وعليًّا وغيرهما، وعنه ابن سيرين وغيره، مات سنة ست وتسعين

(3)

.

وأما ابن سيرين فسلف.

(1)

قلت: ليس عند الحاكم من حديث زيد بن ثابت، بل من حديث جبير بن مطعم، انظر:"المستدرك" 1/ 86 - 88، وأما حديث زيد فهو عند الترمذي (2656)، ابن حبان 2/ 270 (67)، كما قال. ورواه أيضًا أبو داود (3660)، وابن ماجه (230)، وأحمد 5/ 183، والدارمي 1/ 302 (235) وغيرهم.

(2)

"الصحاح" 2/ 830، مادة:(نضر).

(3)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 190، "التاريخ الكبير" 5/ 260 (838)، "معرفة الثقات" 2/ 73 (1023)، "الثقات" 5/ 77، "تهذيب الكمال" 17/ 5 - 6 (3771)، "التقريب" ص 337 (3816).

ص: 316

وأما ابن عون فهو: الإمام أبو عون عبد الله (ع) بن أرطبان البصري مولى عبد الله بن مغفل المزني، أحد الأعلام، رأى أنسًا ولم يثبت لَهُ منه سماع، وسمع (أنسًا)

(1)

وابن سيرين وغيرهما، وعنه الأعلام: شعبة والثوري والقطان وغيرهم، وورعه ودينه مشهور.

قال خارجة: صحبته أربعًا وعشرين سنة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة. وقال أبو حاتم: ثقة، وقال الأوزاعي: إِذَا مات ابن عون وسفيان استوى الناس، مات سنة إحدى وخمسين ومائة عن خمس وثمانين

(2)

.

وأما الراوي عنه فهو أبو إسماعيل بشر بن المفضل بن لاحق الرقاشي البصري، سمع ابن عون وغيره، وعنه الإمام أحمد وغيره، وهو ثقة، (كثير)

(3)

الحديث كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة ويصوم يومًا. ويفطر يومًا قَالَ أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة. وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث عثمانيا

(4)

، مات سنة ست، وقيل: سبع وثمانين

(5)

(ومائة)

(6)

.

وأما مسدد فقد سلف.

(1)

في (ج): الحسن.

(2)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 261 - 268، "التاريخ الكبرى" 5/ 163 (512)، "معرفة الثقات" 2/ 49 (943)، "الجرح والتعديل" 5/ 130 - 131 (605)، "تهذيب الكمال" 15/ 394 - 395 (3466).

(3)

في (ف): كتب.

(4)

"الطبقات الكبرى" 7/ 290.

(5)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 2/ 84 (1769)، "معرفة الثقات" 1/ 247 (158)، "الجرح والتعديل" 2/ 366 (1410)، "تهذيب الكمال" 4/ 147 - 151 (707).

(6)

من (ج).

ص: 317

رابعها:

(ذو الحجة): -بكسر الحاء أفصح من فتحها-، وذو القعدة -بالعكس-، والخطام والزمام بكسر أولهما، واسم هذا الممسك:(أبو بكرة راوي الحديث)

(1)

.

خامسها:

عقد البخاري هذا الباب لينبه عَلَى أنه يجوز التحمل من غير فقيه إِذَا ضبط ما يحدث به ويعد في زمرة أهل العلم -إن شاء الله- أو فيه أحكام وفوائد أخر:

أولها: جواز القعود عَلَى الدابة وغيرها لحاجة لا للأشر، والنهي عن اتخاذ ظهورها منابر}

(2)

مخصوص بغير الحاجة، والحاجة هنا إسماع الناس.

ثانيها: البعير: اسم جنس بمنزلة الإنسان من الناس، يقال للجمل بعير وللناقة بعير، وإنما يقال له بعير إِذَا جذع.

ثالثها: صون البعير عن اضطرابه وتهويشه عَلَى راكبه بإمساك خطامه أو زمامه.

رابعها: وجوب تبليغ العلم وتبيينه، وهو الميثاق الذي أخذه الله عز وجل عَلَى العلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].

خامسها: أنه قَدْ يأتي في الزمن الأخير من يكون لَهُ فهم في العلم ما ليس لمن يقدمه إلا أنه يكون قليلًا؛ لأن رب للتقليل وعسى (للطمع)

(3)

وليست موضوعة (لتحقيق)

(4)

الشيء.

(1)

من (ج).

(2)

ما بين المعقوفين زيادة من (ف).

(3)

في (ج): للمطمع.

(4)

في (ف): لتحقق.

ص: 318

سادسها: تأكيد التحريم وتغليظه بأبلغ ما تجد مرة وثنتين وثلاثًا، كلما فعل صلى الله عليه وسلم في قوله:"كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، فِي شَهْرِكُمْ هذا، فِي بَلَدِكُمْ هذا" ثمَّ اعلم أنه لم يذكر هنا السؤال عن البلد، وقد ذكره في الحج

(1)

فلعله من تقصير وقع هنا من بعض (الرواة)

(2)

.

وذكره أيضًا من طريق ابن عمر وابن عباس كما ستعلمه في موضعه -إن شاء الله تعالى- لكن في حديث ابن عباس أنهم أجابوه بقولهم: هذا يوم حرام وبلد حرام وشهر حرام

(3)

، وهو مخالف للمذكور هنا من حديث أبي بكرة، وحديث ابن عمر أيضًا أنهم سكتوا حتَّى ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه

(4)

، ويحتاج إلى جمع (متين)

(5)

بينهما.

وقد يقال: ييحسمل أن تكون الخطبة متعددة، وأجاب في الثانية من علم في الأولى، وسؤاله عليه السلام عما هو معلوم وسكوته المراد به: التعظيم والتنبيه عَلَى عظم مرتبة هذا اليوم والشهر والبلد.

وقولهم في حديث ابن عباس: قلنا: الله ورسوله أعلم. فيه دلالة عَلَى حسن أدبهم؛ لأنهم علموا أنه صلى الله عليه وسلم لا يخفي عليه جواب ما سأل عنه، فعرفوا أنه ليس المراد الإخبار عما يعرفون.

(1)

سيأتي برقم (1741) كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى.

(2)

في (ف): الرواية.

(3)

سيأتي برفم (1739) كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى.

(4)

سيأتي برقم (1742) كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى.

(5)

من (ف).

ص: 319

‌10 - باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ

لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] فَبَدَأَ بِالْعِلْم، وَأَنَّ العُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَرَّثُوا العِلْمَ، مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ. وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَقَالَ: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} [الملك: 10] وَقَالَ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَهِّمْهُ فِي الدِّينِ" و: "إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّم".

وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هذِه -وَأَشَارَ إِلى قَفَاهُ- ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لأَنْفَذْتُهَا. وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] عُلَمَاءَ

(1)

فُقَهَاءَ. وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ: الذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ. [فتح: 1/ 159]

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه:

وقد سلف التعريف بابن عباس وبأبي ذر، وكرره شيخنا قطب الدين.

(1)

كذا في (ج)، (ف) وفي "اليونينية" 1/ 25: حلماء، وفي هامشها أنه وقع في بعض النسخ حكماء.

ص: 320

ثانيها:

الخطاب في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره، ويجوز كما قَالَ الواحدي: أن يكون المعنى: أقم عَلَى ذَلِكَ العلم واثبت عليه، ويجوز أن يكون متعلقًا بما قبله عَلَى معنى: إِذَا جاءتهم الساعة فاعلم ذَلِكَ وأنه لا مُلْكَ لأحدٍ إلا له

(1)

.

وسئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ بـ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، فأمر بالعمل بعد العلم

(2)

، وقال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28]، ثم قَالَ:{فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، وقال تعالى:{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، فالنظر الموصل إلى المعارف واجب وهو أول (الواجبات)

(3)

ويكفي (فيه)

(4)

الاعتقاد الجازم وإن لم يعرف الأدلة عَلَى المختار.

ثالثها:

قوله: ("وإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنبِيَاءِ ورَّثُوا العِلمَ فمَنْ أخذه أخَذَ بحظٍ وافِر") هذا حديث مطول أخرجه الترمذي من حديث مَحْمْود بْن خِدَاشٍ، عن مُحَمَّد بْن يَزِيدَ الوَاسِطِيّ عن عَاصِم بْن رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ كَثيرٍ عن أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يطلبُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّل اللهُ له طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا

(1)

"تفسير الوسيط" 4/ 125.

(2)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" 7/ 285.

(3)

في (ف): الواجب.

(4)

في (ج): به.

ص: 321

لِطَالِبِ العِلْمِ رِضَاءً، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الحِيتَانُ فِي المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، وإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظً وَافِرٍ".

ثمَّ قَالَ: كذا حَدَّثَنَاه محمود، وَإِنَّمَا يُرْوى عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ دَاوُدَ (ابن)

(1)

جَمِيلٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وهذا أَصَحُ ولا يعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم، وليس إسناده عندي بمتصل

(2)

.

وأما ابن حبان: فأخرجه في "صحيحه" من حديث عاصم عن داود به

(3)

، وقال في "ضعفائه": روي: "العلماءُ ورثة الأنبياء" بأسانيد صالحة

(4)

. والتزم الحاكم صحته

(5)

. وحسنه حمزة مع الغرابة

(6)

. وأما الدارقطني فضعفه

(7)

.

والحق: أن إسناده مضطرب وقد سقتُ لك بعضه، ورواه الأوزاعي، عن كئير بن قيس، عن يزيد بن سمرة، عن أبي الدرداء، قَالَ الدارقطني في "علله": وليس بمحفوظ

(8)

.

(1)

في (ف): عن.

(2)

"سنن الترمذي"(2682).

(3)

"صحيح ابن حبان" 1/ 289 (88).

(4)

لم أقف على هذِه العبارة في كتب ابن حبان وهي بنصها في "العلل المتناهية" لابن الجوزي 1/ 70 ساقها في كلامه على الحديث المذكور، وقبلها مباشرة كلام ابن حبان في تجريح أحد رواته مما يوهم أن كلا العبارتين لابن حبان.

(5)

لم أقف عليه في "المستدرك" وعزاه له الحافظ في "الفتح" 1/ 160 وأنه صححه.

(6)

"جامع بيان العلم" 1/ 162.

(7)

"علل الدارقطني" 6/ 216 - 217.

(8)

"علل الدارقطني" 6/ 217.

ص: 322

وقال ابن عبد البر: لم يقمه الأوزاعي، وقد خلط فيه. وقال حمزة: رواه الأوزاعي، عن عبد السلام بن سليم، عن يزيد بن سمرة وغيره من أهل العلم عن كثير بن قيس.

قَالَ ابن عبد البر: وعاصم بن رجاء هذا ثقة مشهور، وقال الدارقطني: عاصم بن رجاء ومن فوقه إلى أبي الدرداء ضعفاء، وقَالَ؟ وداود بن جميل مجهول

(1)

.

وقال البزار: لا يعلم إلا في هذا الحديث. وكذا كثير بن قيس، قَالَ: ولا يعلم روى عن كثير غير داود والوليد بن مرة، ولا يعلم روى عن داود غير عاصم

(2)

.

وذكر ابن القطان: أنه اضطرب عاصم فيه فرواه عبد الله بن داود، عن عاصم كما سلف، ورواه أبو نعيم، عن عاصم عمن حدثه، عن كثير، ورواه محمد بن يزيد الواسطي، عن عاصم، عن كثير لم يذكر بينهما أحدا، قَالَ: والمتحصل من علة هذا الخبر هو الجهل بحال راويين من رواته، والاضطراب فيه ممن لم تثبت عدالته

(3)

.

قُلْتُ: وقد رواه عن محمد، عن قيس بن كثير كما سلف، وقيل: الوليد بدل داود، وقيل جميل بن قيس، ذكره ابن عبد البر في "بيان العلم" له، ثمَّ قَالَ: والقلب إلى ما قاله محمد بن يزيد، عن عاصم، عن كثير، أميل

(4)

.

وزعم ابن قانع أن كثير بن قيس صحابي وأنه راوي هذا الحديث

(1)

"علل الدارقطني" 6/ 216 - 217، "جامع بيان العلم" 1/ 164.

(2)

انظر "مسند البزار" 10/ 80 (4145).

(3)

"بيان الوهم والإيهام" 4/ 28 - 29.

(4)

"جامع بيان العلم" 1/ 162.

ص: 323

وتبعه ابن الأثير، وهو غريب فتنبه لذلك كله

(1)

.

وسموا ورثة الأنبياء لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] وسيأتي قريبًا حديث ابن عمر في الرؤيا لأبيه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوله بالعلم

(2)

.

رابعها:

قوله: "وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ"، قَدْ علمت أن هذا أول الحديث المذكور، لكنه ثابت في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة في حديث طويل أوله: "من نفس عن مؤمن كربة .. ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله لَهُ (به)

(3)

طريقًا إلى الجنة"

(4)

.

خامسها:

معنى (يخشى): يخاف، قَالَ ابن عباس: إنما يخاف الله من خلقه من علم جبروته وعزته وسلطانه، وقال مقاتل: أشد الناس لله خشية أعلمهم به. وقال مسروق: كفئ بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلًا.

وقال مجاهد والشعبي: العالم من خاف الله، وقال ابن عباس: من

خشي الله فهو عالم، ومعنى قوله:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}

(1)

انظر: "معجم الصحابة" لابن قانع 2/ 387 - 388 (939)، "أسد الغابة" 4/ 461 (4428).

(2)

سيأتي برقم (82) كتاب: العلم، باب: فضل العلم.

(3)

من (ج).

(4)

(2699) كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.

ص: 324

[العنكبوت: 43] أي: وما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله، وروى جابر أنه صلى الله عليه وسلم لما تلى هذِه الآية قَالَ:"العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه"

(1)

.

ومعنى قوله: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك: 10] الآية أي: لو كنا نسمع سمع من يعي أو يفكر أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار، قاله الزجاج.

وروى أبو سعيد الخدري مرفوعًا: "إن لكل شيء دعامة، ودعامة المؤمن عقله فبقدر ما يعقل يعبد ربه، ولقد ندم الفجار يوم القيامة فقالوا: "{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} "

(2)

الآية.

وروى أنس مرفوعًا: "إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدًا في الدرجات، وينالون الزلفى من ربهم عَلَى قدر عقولهم"

(3)

.

(1)

رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "بغية الباحث" ص 260 (845)، "المطالب العالية" 13/ 715 (3305)، والواحدي في "الوسيط" 3/ 420، والبغوي في "معالم التنزيل" 6/ 243.

قال الحافظ في "المطالب" 13/ 725: هذِه الأحاديث من كتاب: "العقل" لداود بن المحبر كلها موضوعة ذكرها الحارث في "مسنده" عنه.

(2)

رواه الديلمي في "الفردوس" 3/ 333 (4999)، الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "بغية الباحث" ص 261 (849).

(3)

رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "بغية الباحث" ص 255 (822).

قال الألباني في "الضعيفه" 1/ 53 - 54: ومما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء، وهي تدور بين الضعف والوضع .. وقد قال العلامة ابن القيم في "المنار" ص 25: أحاديث العقل كلها كذب.

ص: 325

سادسها:

قوله: "إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُمِ" هذا قد ورد في حديث مرفوع بإسناد منقطع رواه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقه" من حديث مكحول، عن معاوية ولم يسمع منه، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس، إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه"

(1)

.

سابعها:

قوله: (وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَهِّمْهُ فِي الدِّينِ")، هذا التعليق قَدْ أسنده قريبًا من حديث معاوية رضي الله عنه

(2)

.

ثامنها:

قوله: (وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمُ الصَّمْصَامَةَ) إلى آخره

(3)

روشاه من حديث الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن مرثد بن أبي مرثد

(4)

، عن

(1)

"الفقيه والمتفقه" 1/ 79 (12)، ورواه أيضًا الطبراني 19/ 395، قال الحافظ في "الفتح" 1/ 161: هو حديث مرفوع أيضًا أورده ابن أبي عاصم والطبراني من حديث معاوية .. إسناده حسن إلا أن فيه مبهمًا اعتضد بمجيئه من وجه آخر. اهـ.

والحديث حسنه لغيره الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" 1/ 136 (67).

(2)

سيأتي برقم (71) كتاب: العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.

(3)

أسنده الدارمي في "سننه" 1/ 456 (562)، وإسحاق بن راهويه كما في "المطالب العالية" 12/ 679 (3069)، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 190، وقال العيني في "عمدة القاري" 1/ 421: ورواه أحمد بن منيع. قال الحافظ في "المطالب" 12/ 679: هذا حديث صحيح.

(4)

الصواب أنه مالك بن مرثد، والذي وقع في مصادر التخريج: أبو كثير، وهي كنيته كذا عند الدارمي: حدثنا الأوازعي، حدثني أبو كثير، حدثني أبي. ووقع في "الحلية": حدثني مرثد أبو كبير، ولعله تحريف الطابع، وفي "المطالب": حدثني أبو كثير أنه سمع أباه.

لكن الحافظ بينه في "الفتح" 1/ 161 فقال: رويناه موصولًا في "مسند الدارمي" =

ص: 326

أبيه قَالَ: جلست إلى أبي ذر الغفاري إذ وقف عليه رجل فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فقال أبو ذر: والله لو وضعتم (هذِه)

(1)

الصمصامة عَلَى هذِه -وأشار إلى حلقه- عَلَى أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنفذتها قبل أن يكون ذَلِكَ.

أنبأنيه شيخنا قطب الدين عبد الكريم الحلبي، حَدَّثَنِي الحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطي، أنبأنا الحسين الخليلي، أنا ابن كاره، أنا ابن عبد الباقي، عن ابن حيوية، عن ابن معروف، عن الحسين بن فهم، عن محمد بن منيع، عن سليمان، (عن)

(2)

عبد الرحمن، عن الوليد به.

تاسعها:

الصَّمصامة -بفتح الصادين المهملتين-: السيف بحد واحد، قَالَ ابن سيده والجوهري وغيرهما: الصمصامة والصمصمام: السيف الصارم

= وغيره من طريق الأوزاعي: حدثني أبو كثير -يعني: مالك بن مرثد- عن أبيه. فجزم الحافظ أنه مالك بن مرثد، وقبله المزي في "تهذيب الكمال" 27/ 155 (5750) ثم ذكر اضطراب الأوزاعي في اسمه، فقال: وروى عنه الأوزاعي فقال مرة: مرثد بن أبي مرثد، وقال مرة: عن ابن مرثد، أو أبي مرثد.

قلت: يؤيد هذا ما قاله ابن عبد البر في "التمهيد" 2/ 213 في شرح حديث أبي ذر في تعيين ليلة القدر وسنده مثل هذا السند، فقال: هكذا قال الأوزاعي: عن مرثد بن أبي مرثد وهو خطأ، وإنما هو مالك بن مرثد، عن أبيه ولم يقم الأوزاعي إسناد هذا الحديث ولا ساقه سياقة أهل الحفظ له.

ومما يحسن التنبيه إليه أن محقق الدارمي صماه: يزيد بن عبد الرحمن بن أزينة لاشتراكهما في الكنية ورواية الأوزاعي عنهما وروايتهما عن أبويهما، عن أبي ذر، ومن ثم ضعف حديثنا هذا، ولعله لم يمعن النظر أثناء التحقيق فوقع في هذا الوهم.

(1)

من (ج).

(2)

في (ج): بن.

ص: 327

الذي لا ينثني

(1)

.

ومعنى قوله: (قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ)، أي: تقطعوا رأسي، أراد رضي الله عنه بذلك الحض عَلَى العلم والاغتباط بفضله، حيث سهل عليه قتل نفسه في جنب ما يرجو من ثواب نشره وتبليغه.

ويؤخذ منه: أنه يجوز للعالم أن يأخذ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالشدة ويحتمل الأذى ويحتسبه رجاء ثواب الله، ويباح له أن يسكت إِذَا خاف الأذى كما قَالَ أبو هريرة: لو حدثتكم بكل ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطع (مني)

(2)

هذا البلعوم

(3)

. وعنه: لو حدثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر

(4)

. قَالَ الحسن: صدق. وكأنه أراد والله أعلم عنى به ما يتعلق بالفتن مما لا يتعلق بذكره مصلحة شرعية.

عاشرها:

قوله: (وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] عُلَمَاءَ

(5)

فُقَهَاءَ)، هذا التعليق رواه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقه" بإسناد صحيح عن أبي بكر الجيري، (ثنا)

(6)

أبو محمد

(1)

انظر: "المحكم" 8/ 185، "الصحاح" 5/ 1968، "تهذيب اللغة" 2/ 2060، "لسان العرب" 4/ 2503، مادة:(صمم).

(2)

من (ج).

(3)

سيأتي في رواية البخاري برقم (120) باب: حفظ العلم عنه: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم.

(4)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 4/ 331.

(5)

كذا في (ج)، (ف) وفي "اليونينية" 1/ 25: حلماء، وفي هامشها أنه وقع في بعض النسخ حكماء.

(6)

في (ف): نا.

ص: 328

حاجب بن أحمد الطوسي، (ثنا)

(1)

عبد الرحيم بن منيب، (نا)

(2)

الفضيل بن عياض، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عنه

(3)

.

ورواه ابن أبي عاصم في كتاب "العلم" عن المقدمي، (ثنا)

(4)

أبو داود عن معاذ، عن سماك، عن عكرمة، عنه.

الحادي عشر:

الرباني: المتأله العارف بالله تعالى، قاله الجوهري وغيره

(5)

، وربيت القوم: سستهم أي: كنت فوقهم. وقال أبو نصر: من الربوبية أي: معرفتها، كما قاله صاحب "العين"

(6)

.

وقال الإسماعيلي: منسوب إلى الرب كأنه الذي يقصد قصد ما أمره الرب، وقال أحمد بن يحيى: إنما قيل للعلماء: الربانيون؛ لأنهم يربون العلم، أي: يقومون به، وقيل: لأنهم أصحاب العلم وأربابه، وزيدت الألف والنون للمبالغة. وقيل: أصله من رب الشيء إِذَا ساسه وقام به ثمَّ زيد ياءً. وقيل: من معنى التربية، كانوا يربون المتعلمين بصغار العلم قبل كباره وهو ما حكاه البخاري، وقال ابن الأعرابي: لا يقال للعالم رباني حتَّى يكون عاملًا معلمًا

(7)

.

وفي موضع آخر: هو العالي الدرجة في العلم. وقال مجاهد فيما

(1)

في (ف): نا.

(2)

في (ج): ثنا.

(3)

"الفقيه والمتفقه" 1/ 185 (178)، وفيه اأنتهى السند إلى سعيد بن جبير ولم يذكر ابن عباس، ولفظه: حكماء فقهاء. وهي إحدى نسخ البخاري.

(4)

في (ف): نا.

(5)

"الصحاح" 1/ 130.

(6)

"العين" 8/ 256.

(7)

"الفقيه والمتفقه" 1/ 185 (180).

ص: 329

حكاه الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقه": الربانيون: الفقهاء وهم فوق الأحبار

(1)

.

وقال أبو عبيد: أحسب الكلمة ليست بعربية وذلك أن أبا عبيدة

زعم أن العرب لا تعرف الربانيين، سمعت وجلًا عالمًا بالكتب يقول: الربانيون: العلماء بالحلال والحرام.

وفي "جامع القزاز" الرِّبي: والجمع الربيون هم: العباد الذين يصحبون الأنبياء ويصبرون معهم، وهم الربانيون، نسبوا إلى عبادة الرب سبحانه وتعالى. وقيل: هم العلماء الصُبَّر. وقال القزاز: وأنا أرى أن يكون عربيًا.

الثاني عشر:

مقصود البخاري رحمه الله فيما ترجمه أن العمل لا يكون إلا مقصودًا به معنى متئقدمًا وهو العلم بما يفعله وما يترتب عليه من الثواب، فعند ذَلِكَ يخلص فيه ويقصد به الثواب، ومتى خلى العمل عن ذلكَ فليس بعمل.

(1)

"الفقيه والمتفقة" 1/ 184 (177).

ص: 330

‌11 - باب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَىْ لَا يَنْفِرُوا

68 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابن مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوعِظَةِ في الأيًّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَينَا. [70، 6411 - مسلم: 2821 - فتح: 1/ 162]

69 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ، عَن أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تنفِّرُوا". [6125 - مسلم: 1734 - فتح: 1/ 163]

ذكر فيه حديث ابن مسعود وحديث أنس.

أما حديث ابن مسعود فقال في سياقته: نَا مُحَمَّدُ بْن يُوسُفَ، نَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابن مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه (إثر)

(1)

الباب الذي بعده، عن عثمان بن أبي

شيبة، (نا)

(2)

جرير، عن منصور، عن أبي وائل

(3)

. وأخرجه في

الدعوات عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش به

(4)

.

(1)

من (ج).

(2)

في (ج): ثنا.

(3)

سيأتي برقم (70) كتاب: العلم، باب: من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة.

(4)

سيأتي برقم (6411) كتاب: الدعوات، باب: الموعظة ساعة بعد ساعة.

ص: 331

وأخرجه مسلم في التوبة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع وأبي معاوية وعلي بن نمير، عن أبي معاوية، وعن الأشج، عن (ابن)

(1)

إدريس، وعن منجاب، عن علي بن مسهر، وعن إسحاق بن إبراهيم، وابن خشرم، عن (يونس)

(2)

، وعن ابن أبي عمر، عن سفيان، (كلهم)

(3)

عن الأعمش، زاد الأعمش

(4)

في رواية ابن مسهر: وحَدَّثَنِي عمر بن مرة، عن (شقيق)

(5)

، عن عبد الله مثله

(6)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلفوا غير محمد بن يوسف، وهو الإمام الثقة أبو عبد الله محمد (ع) بن يوسف بن واقد الفريابي (الضبي)

(7)

، مولاهم سكن قيسارية من ساحل الشام

(8)

.

أدرك الأعمش وروى عنه، وعن السفيانين وغيرهم، وعنه: أحمد والذهلي وغيرهما، أكثر عنه البخاري، وروى في الصداق عن إسحاق غير منسوب عنه، وروى مسلم والأربعة عن رجل عنه.

(1)

في (ج)، (ف): أبي، وهو خطأ فهو عبد الله بن إدريس.

(2)

كذا في (ج)، (ف) والصواب: عيسى بن يونس كما عند مسلم (2821/ 82) انظر ترجمته في "التهذيب" 23/ 16 (4673).

(3)

من (ج).

(4)

وقع في "صحيح مسلم": وزاد منجاب في روايته عن ابن مسهر: قال الأعمش ..

(5)

في (ف): سفيان.

(6)

"صحيح مسلم"(2821) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: الاقتصار في الموعظة.

(7)

من (ج).

(8)

قيسارية: بالفتح ثم السكون، وسين مهملة وبعد الألف راء ثم ياء مشددة: بلد على ساحل بحر الشام تعد من أعمال فلسطين، قديمًا كانت من أعيان أمهات المدن واسعة الرقعة طيبة البقعة كثيرة الخير والأهل، أما الآن فهي ليست كذلك. انظر:"معجم ما استعجم" 3/ 1106. "معجم البلدان" 4/ 421.

ص: 332

وقال البخاري: كان من أفضل أهل زمانه. وقال أحمد: كان رجلًا صالحًا. ووثقه النسائي وغيره. مات في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومائتين

(1)

.

ثالثها:

معنى (يتخولنا) -بالخاء المعجمة-: يصلحنا ويقوم علينا، يقال: خال المال يخول خولًا إِذَا ساسه وأحسن القيام عليه. والخائل المتعاهد للشيء المصلح له. وقال الخطابي: يتخولنا: يتعهدنا ويراعي الأوقات في وعظنا ويتحرى منها ما كان مظنة القبول، ولا يفعله كل يوم لئلا نسأم، ومثله: التخون بالنون

(2)

.

وقال أبو عمرو الشيباني فيما حكاه صاحب "الغريبين": الصواب يتحولنا -بالحاء المهملة- أي: يطلب أحوالهم التي ينشطون فيها للموعظة فيعظهم ولا يكثر عليهم فيملوا. وكان الأصمعي يرويه يتخوننا -بالنون والخاء المعجمة- أي: يتعهدنا. وحكاه صاحب "مجمع الغرائب" وابن الأثير

(3)

.

رابعها:

السآمة: الملل، يقال: سئمت أسأم سأمًا وسآمًا وسآمة إِذَا مللته، ورجل سئوم.

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 489، "الجرح والتعديل" 8/ 119 - 120 (533)، "التاريخ الكبير" 1/ 33 - 34 (844)، "معرفة الثقات" 2/ 257 (2163)، "المعرفة والتاريخ" 1/ 197 - 198. "الثقات" 9/ 57، "تهذيب الكمال" 27/ 52 - 61 (5716).

(2)

"أعلام الحديث" 1/ 194.

(3)

"النهاية في غريب الحديث" 2/ 88.

ص: 333

خامسها:

أراد النبي صلى الله عليه وسلم الرفق بأمته؛ ليأخذوا الأعمال بنشاطٍ (وحرص)

(1)

عليها، وقد وصفه تبارك تعالى بذلك حيث قَالَ:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] الآية.

وأما الحديث الثاني فقال في سياقته: نَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نَا يَحْيَى بْنُ سعِيدٍ، نَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاح، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا".

الكلام عليه من وجوه:

أولها:

هذا الحديث أخرجه هنا كما ترى، وفي الأدب، عن آدم، عن شعبة به، وفيه:"وسكنوا" بدل: "ويسروا"

(2)

، وكذا جاء في مسلم فإنه أخرجه في المغازي، عن عبد الله بن معاذ، عن أبيه وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبيد بن سعيد، وعن محمد بن الوليد، عن غندر، كلهم عن شعبة به

(3)

.

فوقع للبخاري عاليا رباعيًا من طريق آدم، وآدم مما انفرد به عن مسلم.

ثانيها: في التعريف برواته غير ما سلف:

فأبو التياح (ع) اسمه: يزيد بن حميد الضبعي، من أنفسهم، سمع أنسًا وعمران بن حصين وخلقًا من التابعين، ومن بعدهم، قَالَ أحمد:

(1)

في (ف): وحرض.

(2)

سيأتي برقم (6125) كتاب: الأدب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بشروا ولا تنفروا .. ".

(3)

(1734) كثاب: الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير.

ص: 334

هو ثبت ثقة. وقال ابن المديني: معروف ثقة. مات سنة ثمان وعشرين ومائة

(1)

.

ومحمد بن بشار: هو الإمام أبو بكر محمد بن بشار بن عثمان بن داود بن كيسان العبدي البصري بندار، لقب بذلك لأنه كان بندار الحديث، جمع حديث بلده، والبندار الحافظ البارع، الثقة، ولا عبرة بمن لينه.

قَالَ أبو داود: كتبت عنه نحوًا من خمسين ألف حديث. روى عنه البخاري ومسلم والأربعة وخلق منهم: الرازيان وابن خزيمة، وعنه قَالَ:(كتبت عن)

(2)

خمسة قرون، وسألوني الحديث وأنا ابن ثمان عشرة سنة، وولدت سنة سبع وستين ومائة. قَالَ البخاري: ومات في رجب سنة اثنتين وخمسين. يعني: ومائتين

(3)

.

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 238، "التاريخ الكبير" 8/ 326 (3188)، "معرفة الثقات" 2/ 362 (2012)، "الثقات" 5/ 234، "تهذيب الكمال" 32/ 109 - 112 (6978).

(2)

في (ج): كتب عني.

(3)

قال ابن حجر: أحد الثقات المشهورين، روى عنه الأئمة الستة وضعفه عمرو بن علي الفلاس، ولم يذكر سبب ذلك ذلك فما عرجوا على تجريحه. وقال القواريري: كان يحيى بن معين يستضعفه. وقال أبو داود: لولا سلامة فيه لترك حديثه، يعني: أنه كانت فيه سلامة فكان إذا سها أو غلط يحمل علي أنه لم يتعمد، وقد احتجَّ به الجماعة ولم يكثر البخاري من تخريج حديثه؛ لأنه من صغار شيوخه، وكان بندار يفتخر بأخذ البخاري عنه.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 1/ 49 (98)، "معرفة الثقات" 2/ 233 (1573)، "الجرح والتعديل" 7/ 214 (1187)، "الثقات" 9/ 111، "تهذيب الكمال" 24/ 511 - 518 (5086)، "مقدمة فتح الباري" ص 437.

ص: 335

ثالثها:

إنما جمع بين هذِه الألفاظ وهي: "يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا". فذكر الشيء وضده؛ لأنه قد يفعلها في وقتين، فلو اقتصر عَلَى يسروا صدق ذَلِكَ عَلَى من يسر مرة أو مرات وعسر في معظم الحالات، فلما قَالَ:"ولا تعسروا" انتفي التعسير من كل وجه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في:"بشروا ولا تنفروا"، ثمَّ إن المحل قابل للإسهاب وكثرة الألفاظ؛ لشبهه بالوعظ. والبشارة بكسر الباء وضمها: الخبر الذي يغير البشرة، وهي عند الإطلاق للخير.

رابعها:

فيه الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف، وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، فيتألف التائب ويتلطف به، ويدرج في أنواع الطاعة قليلًا قليلًا، وقد كانت أمور الإسلام في التلطف عَلَى التدريج، ومتى يسر عَلَى المريد للطاعة سهلت عليه وتزايد فيها، ومتى عسرت عليه أوشك أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك عدم دوامه عليها.

ص: 336

‌12 - باب مَنْ جَعَلَ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً

70 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُل خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أنَكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أتَخَوَّلُكُمْ بِالَمْوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِهَا، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا. [انظر: 2821 - فتح: 1/ 163]

نَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمِ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يتَخَوَّلُنَا بِهَا، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

قدمت لك في الباب الماضي تعداد البخاري لَهُ في مواضع منها هذا.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بأبي وائل وعبد الله، وأما منصور (ع) فهو بن المعتمر بن عبد الله بن ربيعة، ويقال: ابن المعتمر بن عتاب بن عبد الله بن ربيعة -بضم الراء- أبو عتاب السلمي من أئمة الكوفة.

روى عن أبي وائل وزيد بن وهب، وعنه: السفيانان وخلق.

وهو (ثبت)

(1)

ثقة أريد عَلَى القضاء فامتنع، قيل: صام أربعين سنة وقام ليلها. وقيل: ستين سنة. وعمش من البكاء. مات سنة ثلاث، وقيل:

(1)

من (ج).

ص: 337

اثنتين وثلاثين ومائة

(1)

.

وأما جرير (ع) فهو: ابن عبد الحميد الضبي القاضي محالم أهل الري ذو التصانيف، روى عن منصور وحصين وغيرهما. وعنه: أحمد وابن معين وغيرهما. وهو ثقة كثير العلم يرحل إليه، ولد سنة مات الحسن سنة عشر ومائة، ومات سنة ثمان أو سبع وثمانين ومائة، ونسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ

(2)

.

وأما عثمان بن أبي شيبة: فهو الحافظ أبو الحسن عثمان بن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة بن عثمان بن خواستي -بضم الخاء المعجمة وبسين مهملة (ثمَّ مثناة)

(3)

فوق- العبسي الكوفي.

أخو أبي بكر وقاسم، وهو أكبر من أبي بكر بثلاث سنين، وأبو بكر أجل منه، والقاسم ضعيف، رحل وكتب. وعنه: الذهلي والبخاري،

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 337، "التاريخ الكبير" 6/ 347 (1491)، "معرفة الثقات" 2/ 299 (1795)، "الجرح والتعديل" 8/ 177 - 178 (878)، "تهذيب الكمال" 28/ 546 - 555 (6201).

(2)

قال علي بن المديني: كان جرير صاحب ليل. وقال أبو خيثمة: لم يكن يدلس.

وقال النسائي: ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة. وقال أبو القاسم اللالكائي: مجمع على ثقته.

وقال ابن حجر: وقال أبو خيثمة: لم يكن يدلس، وروى الشاذكوني عنه ما يدل على التدليس، لكن الشاذكوني فيه مقال. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالذكي، وقال البيهقي: نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، ولم أر ذلك لغيره بل احتجَّ به الجماعة.

انظر: ترجمته في "الطبقات الكبرى" 7/ 381، "معرفة الثقات" 1/ 267 (215)، "التاريخ الكبير" 2/ 214 (2235)، "الثقات" لابن حبان 6/ 145، "تهذيب الكمال" 4/ 540 - 551 (918)، "مقدمة فتح الباري" ص 395.

(3)

من (ج).

ص: 338

ومسلم، وأبو داود، وابن ماجة، وروى النسائي في "اليوم والليلة" عن رجل، عنه. وهو ثقة.

قَالَ أحمد: ما علمت إلا خيرًا. وأثنى عليه، وكان ينكر عليه أحاديث حدث بها، منها: حديث جرير، عن الثوري، عن ابن عقيل، عن جابر قَالَ: شهد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا للمشركين

(1)

. مات سنة تسع وثلاثين ومائتين

(2)

.

(1)

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: عرضت على أبي حديثًا حدثنا عثمان، عن جرير، عن شيبة بن نعامة، عن فاطمة بنت حسين، عن فاطمة الكبرى، عن النبي صلى الله عليه وسلم في العصبة، وحديث جرير، عن الثوري، عن ابن عقيل، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد عيدًا للمشركين. فأنكرها جدًّا، وعدة أحاديث من هذا النحو فأنكرها جدًا.

وقال: هذِه أحاديث موضوعة، أو كأنها موضوعة: وقال: ما كان أخوه -يعني عبد الله بن أبي شيبة- تَطيب نفسه لشيء من هذِه الأحاديث؛ ثم قال: نسأل الله السلامة في الدين والدنيا. وقال: نراه يتوهم هذِه الأحاديث نسأل الله السلامة اللهم سلِّم سلِّم. انظر: "العلل ومعرفة الرجال" 1/ 559 (1333).

(2)

وثقة يحيى بن معين وابن نمير والعجلي وجماعة. وقال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" 6/ 167: كان أكبر من أخيه أبي بكر إلا أن أبا بكر ضعيف وعثمان صدوق.

وتتبع الخطيب الأحاديث التي أنكرها أحمد على عثمان وبيَّن عذره فيها. وذكر له الدارقطني في كتاب: التصحيف أشياء كثيرة صحفها من القرآن في "تفسيره".

وأورد له ابن الجوزي في "آفة أصحاب الحديث" بعض تصحيفاته، والراجح أن أكثرها كان من جهة الدعابة والمزاح، وقال ابن حجر: أحد الحفاظ الكبار .. روى له الجماعة سوى الترمذي.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 250 (2308)، "معرفة الثقات" 2/ 130 (1218)، "الجرح والتعديل" 6/ (913)، "الثقات" 8/ 454، "تاريخ بغداد" 11/ 283 - 288 (6054). "تهذيب الكمال" 19/ 478 - 487 (3857)، "مقدمة فتح الباري" ص 424.

ص: 339

ثالثها: في ضبط لفظه وفوائده، وقد سلفت في الباب قبله.

وفيه: بيان ما كانت الصحابة عليه من الاقتداء بفعله، والمحافظة عَلَى استعمال (سننه)

(1)

، وتجنب مخالفته لعلمهم بما في موافقته من عظيم الأجر وما في مخالفته من الوعيد والزجر، أعاننا الله عَلَى ذَلِكَ.

(1)

في (ج): سنته.

ص: 340

‌13 - باب مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ

71 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابن وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابن شِهَابِ قَالَ: قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ مُعَاوَيةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ والله يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هذِه الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأتِيَ أَمْرُ اللهِ". [3116، 3641، 7312، 7460 - مسلم: 1037 - فتح: 1/ 164]

نَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، نَا ابن وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابن شِهَاب قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ والله يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هذِه الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا عن سعيد كما ترى، وأخرجه في الاعتصام عن إسماعيل بن أبي أويس

(1)

كلاهما عن ابن وهب، وفي الخمس عن حبان بن موسى، عن ابن المبارك

(2)

. وأخرج مسلم في الزكاة الفصلين الأولين، عن حرملة، عن ابن وهب

(3)

(1)

سيأتي برقم (7312) كتاب: الاعتصام، باب، قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين".

(2)

سيأتي برقم (3116) كتاب: فرض الخمس، باب: قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} .

(3)

رواه مسلم برقم (1037/ 100) كتاب: الزكاة، باب: النهي عن المسألة.

ص: 341

كلاهما

(1)

عن يونس، عن الزهري، عن حميد.

والفصل الثالث وهو قوله: "ولن تزال" إلى آخره عن عمير بن هانئ عن معاوية بألفاظ

(2)

. وفي البخاري فقال معاذ: بالشام

(3)

.

ولمسلم أيضًا: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين عَلَى الحق حتَّى يأتي أمر الله"

(4)

.

ورواه غير معاوية من الصحابة ستة: عمر وابنه عبد الله وابن مسعود، وأبو هريرة، وابن عباس، وأنس، ذكرهم الخطيب في كتاب "الفقيه والمتفقه"

(5)

.

رواه عن معاوية جماعة عدَّدهم هو وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"، منهم معبد الجهني بزيادة:"ويزهده في الدنيا ويبصره بعيوبه"

(6)

.

ثانيها:

قوله: (عن ابن شهاب قَالَ حميد بن عبد الرحمن) كذا وقع هنا في جميع النسخ بلفظ (قَالَ) لم يذكر فيه لفظ السماع، وجاء في "صحيح مسلم" فيه عن ابن شهاب، حَدَّثَنِي حميد بلفظ التحديث (وأثبت الدمياطي)

(7)

.

(1)

يعني ابن وهب، وابن المبارك.

(2)

مسلم (1037/ 174) كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي .. ".

(3)

سيأتي برقم (7460) كتاب: التوحيد، باب: قول الله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} .

(4)

(1925) كتاب: الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم "لا تزال طائفة من أمتي .. ".

(5)

انظر: "الفقيه والمتفقه" 1/ 72 - 85 (1 - 25).

(6)

انظر: "الفقيه والمتفقه" 1/ 77 - 84 (9 - 23)، "جامع بيان العلم" 1/ 95 - 98 (83 - 89).

(7)

من (ف).

ص: 342

وقد اتفق أصحاب الأطراف وغيرهم عَلَى أنه من حديث ابن شهاب، عن حميد فتنبه لذلك، وقد وقع للبخاري مثل هذا في كتاب التوحيد في باب: قوله عليه السلام: "رجل آتاه الله القرآن" فقال فيه: (حدثنا)

(1)

علي بن عبد الله، (ثنا)

(2)

سفيان، قَالَ الزهري. وذكر الحديث، ثمَّ قَالَ

(3)

: سمعت من سفيان مرارًا لم أسمعه يذكر الخبر وهو من صحيح حديثه

(4)

. لكن يمكن أن يقال: سفيان مدلس. فنبه عليه البخاري لأجل ذَلِكَ.

ثالثها: في التعريف برواته غير من سلف:

أما معاوية (ع) فهو خال المؤمنين، أبو عبد الرحمن بن أبي سفيان صخر بن حرب الخليفة الأموي كاتب الوحي، أسلم عام الفتح، وعاش ثمانيًا وسبعين سنة، ومات سنة ستين في رجب

(5)

. ومناقبه جمة، وليس في الصحابة معاوية بن صخر غيره، وفيهم: معاوية فوق العشرين

(6)

.

(1)

في (ف): نا.

(2)

في (ف): نا.

(3)

القائل هو: على بن المديني وهو الراوي عن سفيان بن عيينة.

(4)

سيأتي برقم (7529) كتاب: التوحيد، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رجل آتاه الله القرآن .. ".

(5)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" للبغوي 5/ 363 - 378، "معجم الصحابة" لابن قانع 3/ 72 (1026)، "معرفة الصحابة" 5/ 2496 - 2499 (2654)، "الاستيعاب" 3/ 470 - 475 (2464)، "أسد الغابة" 5/ 209 - 212 (4977)، "الإصابة" 3/ 433 - 434 (8068).

(6)

منهم معاوية بن ثعلبة، معاوية بن ثور، معاوية بن جاهمة، معاوية بن خديج، معاوبة بن الحكم، معاوية بن حيدة، معاوية بن سويد، معاوية بن صعصعة، معاوية بن عبد الله بن أبي أحمد، معاوية بن عبد الله، معاوية بن عياض، معاوية بن قرمل، معاوية الليثي، معاوية بن محصن، معاوية بن معاوية، معاوية بن نفيع، معاوية بن نوفل، معاوية الهذلي، معاوية بن أنس السلمي، معاوية بن الحارث بن =

ص: 343

وأما حميد فقد سلف.

وأما ابن وهب: فهو الإمام أبو محمد عبد الله (ع) بن وهب الفهري مولاهم المصري، أحد الأعلام طلب للقضاء فختن نفسه وانقطع، وهو أفقه من ابن القاسم، روى عن: يونس وابن جريج وغيرهما، وعنه: أحمد بن صالح والربيع وخلق، مات سنة سبع وتسعين ومائة، وولد سنة خمس وعشرين، وقيل: سنة أربع وفيها مات الزهري، ولم يكتب مالك الفقيه لأحد إلا إليه.

وقال ابن أبي حاتم: نظرت في نحو ثمانين ألف حديث من حديثه فلا أعلم أني رأيت حديثًا لا أصل له، وقال أحمد بن صالح: حدث بمائة ألف حديث، قَالَ الخليلي: و"موطؤه" يزيد عَلَى كل من روى عن مالك، وعنده الفقه الكثير، ونظر الشافعي في كتبه ونسخ منها

(1)

.

= المطلب، معاوية بن حزن القشيري، معاوية بن أبي ربيعة الجرمي، معاوية بن سفيان بن عفيف المزني، معاوية بن عمرو الكلَّاع، معاوية بن مرداس، معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، معاوية بن مقرن المزني، معاوية الثقفي، معاوية العذري، معاوية الهذلي.

انظر ترجمتهم في: "معجم الصحابة" للبغوي 5/ 379 - 396، "معرفة الصحابة" لابن قانع 3/ 70 - 77 (1025 - 1031)، "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 5/ 2500 - 2509 (2655 - 2666)، "الاستيعاب" 3/ 468 - 477 (2459 - 2469)، "أسد الغابة" 5/ 205 - 216 (4970 - 4988)، "الإصابة" 3/ 430 - 438 (8058 - 8088).

(1)

انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 7/ 518، "التاريخ الكبير" 5/ 218 (710)، "معرفة الثقات" 2/ 65 (990)، "الجرح والتعديل" 5/ 189 - 190 (879)، "الثقات" 8/ 346، "تهذيب الكمال" 16/ 277 - 287.

ص: 344

فائدة:

ليس في الصحيحين عبد الله بن وهب غيره فهو من أفرادهما، وفي الترمذي وابن ماجه عبد الله بن وهب الأسدي تابعي، وفي (النسائي)

(1)

عبد الله بن وهب، عن تميم الداري وصوابه ابن موهب، وفي الصحابة عبد الله بن وهب خمسة فاعلم ذَلِكَ

(2)

.

وأما سعيد بن عفير فهو الحافظ أبو عثمان سعيد بن كثير بن عفير -بالعين المهملة المضمومة ثمَّ فاء- الأنصاري المصري يروي عن مالك والليث، وعنه البخاري، وروى مسلم والنسائي عن رجل عنه، قَالَ أبو حاتم: صدوق ليس بالثبت، كان يُقرئ من كتب الناس

(3)

، عاش ثمانين سنة ومات سنة ست وعشرين ومائتين

(4)

.

(1)

في (ف): الثاني.

(2)

عبد الله بن وهب الدوسي، عبد الله الأكبر بن وهب بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن الأسد بن عبد العزى، عبد الله بن وهب الأسلمي، عبد الله بن وهب الزهري، عبد الله بن وهب أبو سنان الأسدي.

انظر ترجمتهم في: "أسد الغابة" 3/ 413 - 415 (3239 - 3241)، "الإصابة" 2/ 381 - 382 (5025 - 5030).

(3)

"الجرح والتعديل" 4/ 56 - 57 (248).

(4)

ذكره ابن حبان في "الثقات". وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ثقة لا بأس به.

وقال النسائي: سعيد بن عفير صالح، وابن أبي مريم أحبُّ إليَّ منه. وقال الحاكم: يقال: إن مصر لم تخرج أجمع للعلوم منه، وقال ابن عدي: سمعت ابن حماد يقول: قال السعدي: سعيد بن عفير فيه غير لون من البدع، وكان مخلطًا غير ثقة، وهذا الذي قاله السعدي لا معنى له ولم أسمع أحدًا ولا بلغني عن أحدٍ من الناس كلام في سعيد بن كثير بن عفير، وهو عند الناس صدوق ثقة، وقد حدث عنه الأئمة من الناس إلا أن يكون السعدي أراد به سعيد بن عفير غير هذا. وقال ابن حجر: لم يكثر عنه البخاري، وروى له مسلم والنسائي. انظر ترجمته في:"الثقات" 8/ 266، "الكامل" 4/ 471 - 473 (839)، "تهذيب التهذيب" 2/ 39. "مقدمة ابن حجر" ص 406.

ص: 345

رابعها:

(الفقه)

(1)

الفهم، يقال فقه -بفتح القاف- إِذَا سبق غيره إلى الفهم، وبكسرها إِذَا فهم، وبضمها إِذَا صار له سجية، ومنه فقيه فعيل بمعنى: فاعل، وقوله:("من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين") هو شرط وجزاؤه، وهما مجزومان، ومن لا يريد به خيرًا فلا يفقهه فيه وأتى بالخير منكرًا؛ لأنه أبلغ، فكأنه قَالَ: عَلَى النفي لا يريد به خيرًا من الخير، والمراد (بالدين): الإسلام، ومنهم من فسر الفقه في الدين بالفقه في القواعد الخمس ويتصل بها الفروع.

خامسها:

معنى قوله عليه السلام: ("وإنما أنا قاسم"): لم أستأثر بشيء من مال الله، وهو كقوله في الحديث الآخر:"ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود عليكم"

(2)

، وإنما قَالَ ذَلِكَ؛ تطييبًا لقلوبهم لمفاضلته بالعطاء، فالمال لله، والعباد لله وأنا قاسم بإذنه ماله بينكم وهو معنى قوله بعده:"والله يعطي فمن قسمت لَهُ قليلًا أو كثيرًا فبقضاء الله" وفيه إيماء كما قَالَ الداودي إلى أنه يعطي بالوحي، ويجوز أن يكون باجتهاده ولا يخطَّأ اجتهاده.

سادسها:

قوله: ("وَلَنْ تَزَالَ هذِه الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ") يريد أن هذِه الأمة آخر الأمم وأن عليها تقوم الساعة، وإن ظهرت أشراطها، وضعف الدين فلابد أن يبقى من

(1)

في (ج): الفَقِيه.

(2)

هذِه الرواية سلف تخريجها.

ص: 346

أمته من يقوم به، لقوله:"ولا يضرهم من خالفهم"، والمراد بامر الله: قيل: إنه الريح إذ في "الصحيح" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ اليَمَنِ أَلْيَنَ مِنَ الحَرِيرِ فَلَا تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مثقال حبة إيمان"

(1)

.

وأما الحديث الآخر: "لا تقوم الساعة حتَّى لا يقال في الأرض: الله، الله"

(2)

، وحديث:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق"

(3)

فالمراد حتَّى يقرب قيامها، وهو خروج الريح، وجوز الطبري أن نضمر في هذين الحديثين بموضع كذا، فالموصوفون بأنهم شرار الخلق غير الموصوفين بأنهم عَلَى الحق، ويؤيده أنه جاء في بعض طرق الحديث قيل: من هم يا رسول الله؟ قَالَ: "ببيت المقدس أو أكناف بيت المقدس"

(4)

.

(1)

رواه مسلم (117) كتاب: الإيمان، باب: في الريح التي تكون قرب القيامة.

(2)

رواه مسلم (148) كتاب: الإيمان، باب: ذهاب الإيمان آخر الزمان من حديث أنس.

(3)

رواه مسلم (2949) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قرب الساعة.

(4)

روي من حديث أبي أمامة الباهلي.

رواه عبد الله بن أحمد في "المسند" 5/ 269، وجادة بخط أبيه، والطبراني 20/ 145 (7643)، من طريقين عن ضمرة بن رببعة، عن يحيى بن أبي عمرو، عن عمرو بن عبد الحضرمي، عن أبي أمامة به. قال الهيثمي في "المجمع" 7/ 288: رواه عبد الله وجادة عن خط أبيه، والطبراني ورجاله ثقات.

وقال الألباني في "الصحيحة" 4/ 599: وهذا سند ضعيف لجهالة عمرو بن عبد الله الحضرمي، ثم ذكر كلام الهيثمي متعجبًا.

روري نحوه من حديث مرة البهزي.

رواه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" 2/ 298، والطبراني 20/ 317 - 318 (754)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 210. قال الهيثمي في "المجمع" 7/ =

ص: 347

وقد سلف قول معاذ في البخاري أنهم بالشام، وقال مطرف: كانوا يرون أنهم أهل الشام، ورواية مسلم السالفة:"لا يزال أهل الغرب" قَالَ ابن المديني: المراد بهم: العرب؛ لأنهم من أهل الغرب. وهو: الدلو، وقيل: المراد: الغرب من الأرض، وقيل المراد بهم أهل الشدة والجلد، وغرب كل شيءٍ: حده.

وفي "الصحيح" أيضًا: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عَلَى الحق"، قَالَ البخاري: هم أهل العلم

(1)

. وقال أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فما أدري من هم

(2)

؟

قَالَ عياض: وأراد أحمد بأهل الحديث أهلَ السنة والجماعة ومن يعتقد مذهبهم

(3)

.

= 288 - 289: رواه الطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم، فقال الألباني في "الصحيحة" 4/ 600 - تعليقًا على قول الهيثمي-: كذا قال ومن لم يعرفهم مترجمون في "تاريخ البخاري" و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم .. فالصواب أن يقال: وفيه من لم يوثق إلا من ابن حبان، فإنه وثق أحدهم -والله أعلم-.

وروي أيضًا نحوه من حديث أبي هريرة.

رواه أبو يعلى في "مسنده" 11/ 302 (6407)، والطبراني في "الأوسط" 1/ 19 - 20 (47)، وابن عدي في "الكامل" 8/ 368 في ترجمة الوليد بن عباد (2008)، وتمام في "الفوائد" 2/ 289 - 290 (1773)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 1/ 254 وعزاه المتقي في "الكنز" لـ"تاريخ داريا" لعبد الجبار، ولابن عساكر أيضًا.

قال ابن عدي: وهذا الحديث بهذا اللفظ ليس يرويه غير ابن عياش، عن الوليد بن عياد، وقال الهيثمي في "المجمع" 7/ 288: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه: الوليد بن عباد، وهو مجهول.

(1)

سيأتي برقم (1920) كتاب: الإمارة، قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم"، من حديث ثوبان.

(2)

رواه الخطيب البغدادي في: "شرف أصحاب الحديث" ص 61 (43).

(3)

"إكمال المعلم" 6/ 350.

ص: 348

قَالَ النووي: ويحتمل أن تكون هذِه الطائفة متفرقة من أنواع المؤمنين فمنهم: شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، ومنهم آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع من الخير، ولا يلزم اجتماعهم بل يكونوا متفرقين

(1)

.

ويؤيد ما ذكره ما جاء في بعض الروايات: "لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون"

(2)

وشبهه.

وقيل: معنى قوله: "ولن تزال هذِه الأمة .. " إلى آخره أن الله يحمي إجماعها عن الخطأ حتَّى يأتي أمر الله، ولا يسمى أمة إلا من يعتد بإجماعه.

سابعها: في فوائده:

الأولى: فضل العلماء عَلَى سائر الناس، وفضل الفقه عَلَى سائر العلوم؛ لأنهم الذين يخشونه تعالى من عباده فيتجنبون معاصيه، ويديمون طاعته؛ لمعرفتهم بالوعد والوعيد وعظم النعمة، وقَالَ ابن عمر للذي قَالَ له فقيه: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة

(3)

.

الثانية: أن الإسلام لا يذل وإن كثر مطالبوه.

(1)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 13/ 67.

(2)

سلف تخريج هذِه الرواية.

(3)

لم أقف عليه من كلام ابن عمر، ولكن وجدته من كلام الحسن البصري رواه عنه الدارمي في "مسنده" 1/ 337 (302)، ونعيم بن حماد في "زوائده" على كتاب "الزهد" لابن المبارك 1/ 8 (30)، وأحمد في "الزهد" ص 327، وأبو نعيم في "الحلية" 2/ 147.

ص: 349

الثالثة: أن الإجماع حجة، وحديث:"لا تجتمع أُمَّتي عَلَى ضلالة" ضعيف

(1)

(1)

قلت: في إطلاق المصنف لفظة (ضعيف) نظر، فقد جاءت هذِه القطعة في عدة أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر وأنس وأبي بصرة الغفاري وأبي مالك الأشعري وكعب بن عاصم وابن عباس ورواية موقوفة على أبي مسعود.

1 -

أما حديث ابن عمر فرواه الترمذي في "سننه"(2166) وفي "علله" 2/ 817، وابن أبي عاصم في "السنة"(80)، والطبراني 12/ 447 (1323، 3224)، والحاكم 1/ 115 - 116، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" 1/ 118 (154)، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 37، وأبو عمرو المقرئ في "السنن الواردة في الفتن" 3/ 747 (368)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 33 (701) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة .. " ومداره على معتمر بن سليمان وقد اختلف عليه في إسناده، فمرة يُروى عنه، عن أبيه كما عند اللالكائي، والحاكم وأبي نعيم- عن عبد الله بن دينار عنه. قال الحاكم: خالد بن يزيد القرني- يقصد الراوي عن معتمر- هذا شيخ قديم للبغداديين ولو حفظ هذا الحديث لحكمنا له بالصحة.

ومرة يُروى عنه، عن أبي سفيان -أو أبو عبد الله- سليمان بن سفيان المدني- كما عند الترمذي وابن أبي عاصم والطبراني والحاكم وأبي عمرو المقرئ والبيهقي- عن عبد الله بن دينار عنه.

قال الترمذي في "العلل": سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: سليمان المدني هذا منكر الحديث.

وقال الحاكم: قال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق: لست أعرف سفيان وأبا سفيان هذا.

ومرة يُروى عنه، عن سلم بن أبي الذيال -كما عند الحاكم- عن عبد الله بن دينار عنه.

قال الحاكم: وهذا ولو كان محفوظًا من الراوي لكان من شرط "الصحيح".

ومرة يُروى عنه، عن مرزوق مولى آل طلحة -كما عند الطبراني- عن عمرو ابن دينار، عن ابن عمر به.

قال الهيثمي في "المجمع" 5/ 218: رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما =

ص: 350

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ثقات رجال "الصحيح" خلا مرزوق مولى آل طلحة وهو ثقة.

وقال الألباني في "تخريج السنة" ص 40: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات.

2 -

وأما حديث أنس فرواه ابن ماجه (3950)، وعبد بن حميد في "المنتخب" 3/ 112 (1218)، وابن أبي عاصم في "السنة"(83، 84)، وابن عدي في "الكامل" 8/ 38، والحاكم 6/ 111 - 117، والضياء في "المختارة" 7/ 128 - 129 (2559)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن أمتي لا تجتمع على ضلالة .. "، روي عن أنس من ثلاث طرق: الأولى عند ابن ماجه وعبد بن حميد وابن أبي عاصم وابن عدي من طريق معان بن رفاعة، عن أبي خلف الأعمى عنه.

قال ابن عدي: ومعان بن رفاعة عامة ما يرويه لا يتابع عليه.

وقال البوصيري في "الزوائد" ص 510: وهذا إسناد ضعيف لضعف خلف الأعمى.

الطريق الثانية عند الحاكم من طريق مبارك بن سحيم مولى عبد العزيز بن صهيب، عن عبد العزيز بن صهيب، عنه. قال الحاكم: أما مبارك بن سحيم فإنه ممن لا يمشي في مثل هذا الكتاب ولكني ذكرته اضطرارًا.

الطريق الثالثة: عند ابن أبي عاصم والضياء من طريق مصعب بن إبراهيم، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عنه.

قال الألباني في "تخريج السنة" ص 41: إسناده ضعيف، مصعب بن إبراهيم منكر الحديث.

3 -

وأما حديث أبي بصرة الغفاري فرواه أحمد 6/ 396، والطبراني 2/ 280 (2171) عن أبي هانئ الخولاني عن رجل عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سألت ربي .. وأن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها .. " قال الهيثمي في "المجمع" 7/ 221 - 222: رواه أحمد والطبراني وفيه راو لم يسم.

4 -

وأما حديث أبي مالك الأشعري فرواه أبو داود (4253)، والطبراني 3/ 292 (3440) من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي عياش، عن أبيه، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله أجاركم من ثلاث .. وأن لا تجتمعوا على ضلالة". قال الحافظ في "التلخيص" 3/ 141: في إسناده انقطاع .. =

ص: 351

الرابعة: فيه إخباره عليه السلام بالمغيبات، وقد وقع ما أخبر به، ولله الحمد، فلم تزل هذِه الطائفة من زمنه وهلم جرا، ولا تزول حتَّى يأتي أمر الله تعالى.

= 5 - وأما حديث كعب بن عاصم رواه ابن أبي عاصم في "السنة"(82)، (92) من طريقين عنه. أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة".

الطريق الأول عن يزيد بن هارون، عن سعيد بن زربي، عن الحسن، عنه.

قال الألباني في "تخريج السنة" ص 41: إسناده ضعيف: سعيد بن زربي منكر الحديث، والحسن مدلس وقد عنعنه.

الطريق الثانية: هي نفس طريق حديث أبي مالك الأشعري السابق، وقد قيل: إن كعب بن عاصم وأبا مالك الأشعري صحابي واحد، ولكن المزي قال في "التهذيب" 24/ 177: الصحيح أنه غير أبي مالك الأشعري. ومال إليه الحافظ في "تهذيب التهذيب" 3/ 469.

6 -

وأما حديث ابن عباس فرواه الحاكم 1/ 116، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 136 (702) من طريق حسان بن محمد الفقيه، عن محمد بن سليمان، عن سلمة بن شبيب، عن عبد الرزاق، عن إبراهيم بن ميمون، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يجمع الله أمتي على ضلالة أبدًا .. ".

قال الحاكم: فإبراهيم بن ميمون العدني هذا قد عدَّله عبد الرزاق وأثنى عليه، وعبد الرزاق إمام أهل اليمن وتعديله حجة.

7 -

وأما الموقوف عن أبي مسعود فرواه ابن أبي عاصم في "السنة"(85) أنه قال: عليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمة محمد على ضلالة.

قال الحافظ في "التلخيص" 3/ 141: إسناده صحيح، ومثله لا يقال من قبل الرأي.

قلت: تحصل مما سبق أنها رويت بأسانيد كثيرة بعضها رجالها ثقات، كرواية ابن عمر عند الطبراني ورواية ابن عباس عند الحاكم والموقوف على أبي مسعود.

وقد قال العجلوني في "الكشف" 2/ 350: وبالجملة فالحديث مشهور المتن، وله أسانيد كثيرة. اهـ وأورده الألباني في "الصحيحة"(1331)، فعُلِمَ ما في إطلاق المصنف لكلمة ضعيف.

ص: 352

‌14 - باب الْفَهْمِ فِى الْعِلْمِ

72 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ لِي ابن أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَحِبْتُ ابن عُمَرَ إِلَى الَمدِينَةِ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ المُسْلِمِ". فَأَرَدْتُ أَنْ أقولَ هِيَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ القَوْمِ فَسَكَتُّ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هِيَ النَّخْلَةُ". [انظر: 61 - مسلم: 2811 - فتح: 1/ 165]

الفَهْم: الفِقه، ولا يتمُّ العلمُ إلا بالفَهْمِ.

ولذلك قال علي رضي الله عنه: أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُؤْمِن.

(1)

وقال مالك: ليس العلم بكثرةِ الرواية، إنما هو نورٌ يضعه الله في القلوب.

(2)

يعني بذلك فهم معانيه واستنْباطه، وقد نفى صلى الله عليه وسلم العلمَ عمَّن لا فهم له حيثُ قال:"رُبَّ حامِل فقهٍ ليس بفقيه"

(3)

.

نا عَلِيٌّ -هو ابن عبد الله- نَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ لِي ابن أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَحِبْتُ ابن عُمَرَ إِلَى المَدِينَةِ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلا حَدِيثًا وَاحِدًا: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ المُسْلِمِ". فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ القَوْمِ فَسَكَتُّ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"هِيَ النَّخْلَةُ".

(1)

سيأتي برقم (111) باب: كتابة العلم.

(2)

ذكره البغوي في "شرح السنة" 1/ 284.

(3)

رواه أبو داود (3660) والترمذي (2656) وأحمد 5/ 183 من حديث زيد بن ثابت. قال الترمذي: حديث حسن.

قال الألباني في "السلسلة الصحيحة"(404): وهذا سند صحيح، رجاله كلهم ثقات.

ص: 353

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في تعداد طرقه وقد سلف قريبًا.

ثانيها: في التعريف برواته غير من سلف:

أما مجاهد (ع): فهو الإمام المتفق عَلَى جلالته، وبراعته، وإمامته، وثقته، وتفننه في الفقه والتفسير، والقراءات، والحديث، أبو الحجاج، مجاهد بن جبر -بفتح الجيم، وإسكان الباء- وقيل: جبير المخزومي مولى عبد الله بن السائب من الطبقة الثانية من تابعي أهل مكة.

روى عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وأخرج لَهُ البخاري في باب: إثم من قتل معاهدًا بغير جُرم، عن الحسن بن عمرو، عنه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا:"مَنْ قَتَلَ معاهِدًا لم يَرَح رائحةَ الجنَّة"

(1)

وهو مرسل كما قَالَ الدارقطني، فمجاهد لم يسمع من عبد الله بن عمرو وإنما سمعه من جنادة بن أبي أمية، عن ابن عمرو، كذلك رواه مروان عن الحسن بن عمرو عنه به

(2)

.

وأنكر شعبة وابن أبي حاتم سماعه من عائشة، وكذا ابن معين

(3)

لكن حديثه عنها في الصحيحين.

وقال مجاهد: قَالَ لي ابن عمر: وددت أن نافعًا يحفظ كحفظك، وقال يحيى القطان: مرسلات مجاهد أحب إليَّ من مرسلات عطاء.

وقال مجاهد: عرضتُ القرآن عَلَى ابن عباس ثلاثين مرة.

(1)

سيأتي برقم (3166) كتاب: الجزية والموادعة.

(2)

"الإلزامات والتتبع" ص 153 - 154.

(3)

"الجرح والتعديل" 8/ 319، "المراسيل" لابن أبي حاتم (203)، "نصب الراية" 3/ 94، "تحفة التحصيل"(294).

ص: 354

مات سنة مائة، وقيل: واثنين، وقيل: وثلاث، وقيل: وأربع عن ثلاث وثمانين (سنة)

(1)

، وقد رأى هاروت وماروت وكاد يتلف

(2)

.

فائدة:

ليس في الكتب الستة مجاهد بن جبر غير هذا، وفي مسلم والأربعة:

مجاهد بن موسى الخوارزمي شيخ ابن عيينة

(3)

وفي الأربعة: مجاهد بن وردان عن عروة

(4)

.

(1)

من (ج).

(2)

قلت: أما قول المصنف رأى هاروت وماروت، فاعتمادهُ على ما رواه أبو نعيم في "الحلية" 3/ 288، وعلقه الذهبي في "السير" 4/ 456 لكنه من طريق محمد بن حميد الرازي وهو ضعيف، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" 4/ 450 (7453): هو ضعيف، قال يعقوب بن شيبة: كثير المناكير.

وقال البخاري: فيه نظر. وكذبه أبو زرعة، وقال ابن خراش حدثنا ابن حميد -وكان والله يكذب. وجاء عن غير واحد أن ابن حميد كان يسرق الحديث. وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب من ابن حميد ومن ابن الشاذكوني. اهـ.

وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 7/ 411 (1805). "الجرح والتعديل" 8/ 319 (1469)"حلية الأولياء" 3/ 279 - 310 (243). "تهذيب الكمال" 27/ 228 - 236 (5783)، "سير أعلام النبلاء" 4/ 449 - 457 (175)، "تهذيب التهذيب" 4/ 25 - 26، "شذرات الذهب" 1/ 125.

(3)

مجاهد بن موسى بن فروخ الإمام الزاهد، أبو علي الخوارزمي نزيل بغداد، حدَّث عن هشيم، وأبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة والوليد بن مسلم، وحدث عنه الجماعة، سوى البخاري. وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم، وإبراهيم الحربي، وموسى بن هارون، وثقه ابن معين، مات في شهر ربيع الأول سنة أربع وأربعين ومائتين، فعاش ستًّا وثمانين سنة.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 7/ 413 (1813)، "التاريخ الصغير" 2/ 380، "الجرح والتعديل" 8/ 312، "تاريخ بغداد" 13/ 265 - 266، "سير أعلام النبلاء" 11/ 495، 496 (133).

(4)

مجاهد بن وردان المدني، عن عروة، عن عائشة في الفرائض. =

ص: 355

(وأما ابن أبي نجيح فهو: عبد الله بن أبي نجيح، واسمه يسار الثقفي أبو يسار المكي مولى الأخنس بن شريق، روى عن مجاهد وطاوس وغيرهما، وعنه شعبة وغيره وهو ثقة، رمي بالقدر، وقال علي: سمعت يحيى يقول: إنه من رؤساء الدعاة، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل: سنة اثنتين)

(1)

.

وأما علي: فهو الإمام الحافظ علي بن عبد الله بن جعفر بن المديني، روى عن أبيه وحماد وخلق، وعنه: أبو داود والبخاري والبغوي وخلق، وأخرج مسلم والنسائي عن رجل عنه.

قَالَ البخاري: ما استصغرت نفسي قط عند أحد إلا عنده، وقال ابن أبي حاتم: كان أبو زرعة ترك الرواية عنه؛ من أجل ما كان منه في المحنة، وكان أبي يروي عنه؛ لنزوعه عما كان عليه، ولد سنة إحدى وستين ومائة بسامراء ومات بالعسكر سنة أربع وثلاثين ومائتين، حدث هو وأبوه وجده

(2)

.

= قال الذهبي: ردَّ ابن حزم خبره وهو جيد حسن.

قال الكوسج، عن ابن معين: لا أعرفه. وقال أبو حاتم: ثقة.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 7/ 412 (1808)، "الثقات" 7/ 499، "ميزان الاعتدال" 4/ 360 (7074).

(1)

من (ف). وعبد الله بن أبي نجيح، قال إسحاق بن منصور وعباس الدوري عن يحيى بن معين وأبو زرعة والنسائي: ثقة. وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 5/ 483. "معرفة الثقات" للعجلي 2/ 64 (983). "تهذيب الكمال" 16/ 215 (3612)، "سير أعلام النبلاء" 6/ 125، 126 (38)، و"تهذيب التهذيب" 2/ 444 - 445، "شذرات الذهب" 1/ 182.

(2)

انظر ترجمته في "التاريخ الكبير" 6/ 284 (2414)، "التاريخ الصغير" 2/ 363، "الثقات" 8/ 469، "تاريخ بغداد" 11/ 458 - 473، "تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 350، 351 (431)، "تهذيب الكمال" 21/ 5 - 35 (4096)، "سير أعلام =

ص: 356

فائدة:

المديني -بإثبات الياء؛ لأن أصله من المدينة ونزل البصرة، والأصل فيمن ينسب إلى المدينة النبوية مدني بحذف الياء، وإلى غيرها مديني بإثباتها، واستثنوا هذا فقالوا: المديني بإثباتها

(1)

.

ثالثها: في فقهه:

وقد سلف قريبًا في موضعين، وفهم ابن عمر رضي الله عنه من بساط القصة أنها النخلة لسؤاله عليه السلام عنها حين أتي بالجمار، وقوي ذَلِكَ عنده بقوله:{مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] وأنها النخلة كما سلف.

رابعها:

إنما لم يحدث ابن عمر مجاهدًا في مسيره معه إلا حديثًا واحدًا؛ لعدم سؤاله له، أو لعدم النشاط؛ للاشتغال بأعباء السفر، وقال ابن بطال: إنما ذَلِكَ والله أعلم؛ لأنه كان متوقيًا للحديث، وقد كان علم قول أبيه: أقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم

(2)

. وفيما ذكره نظر، فإنه كان مكثرًا فيه.

= النبلاء" 11/ 41 - 60، "تقريب التهذيب" (4760)، "شذرات الذهب" 2/ 81.

قال الحافظ ابن حجر في "التقريب"(4760): علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم، أبو الحسن بن المديني، بصري، ثقة ثبت إمام أعلم أهل عصره بالحديث وعلله، حتى قال البخاري: ما استصغرت نفسي إلا عند علي بن المديني، وقال فيه شيخه ابن عيينة: كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني، وقال النسائي: كان الله خلقه للحديث، عابوا عليه إجابته في المحنة، لكنه تنصل وتاب، واعتذر بأنه خَاف على نفسه. اهـ.

(1)

"اللباب" 3/ 184، 185، "تهذيب الأسماء واللغات" 3/ 135.

(2)

"شرح ابن بطال" 1/ 157 - 158.

ص: 357

‌15 - باب الاغْتِبَاطِ فيِ العِلْمِ وَالْحِكْمَةِ

وَقَالَ عُمَرُ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا.

73 -

حَدَّثَنَا الُحمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ - عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ- قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُل آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ، فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا". [1409، 7141، 7316 - مسلم: 816 - فتح: 1/ 165]

حَدَّثنَا الحُمَيْدِيُّ، نا سُفْيَانُ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ -عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثنَاهُ الزُّهْرِيُّ- قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُل آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُل آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ، فَهْوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: في التعريف برواته: وقد سلف التعريف بهم أجمع.

ثانيها:

هذا الحديث ترجم عليه البخاري هنا كما ترى، وفي الزكاة، باب إِنْفَاقِ المَالِ فِي حَقِّهِ

(1)

، وفي الأحكام، باب أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ

(2)

، وفي الاعتصام، مَا جَاءَ فِي اجْتِهَادِ القُضَاةِ

(3)

، أخرجه في الزكاة عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد

(4)

، وفي البابين عن شهاب بن

(1)

سيأتي برقم (1409).

(2)

سيأتي برقم (7141).

(3)

سيأتي برقم (7316).

(4)

سيأتي برقم (1409) باب: إنفاق المال في حقه.

ص: 358

عباد، عن إبراهيم بن حميد، وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر، ووكيع، وعن ابن نمير، عن أبيه، وعن محمد بن بشر كلهم عن إسماعيل، عن قيس به

(1)

.

ثالثها:

أثر عمر رواه ابن عون، عن ابن سيرين، عن الأحنف، عنه أخرجه البيهقي في "مدخله" عن الروذباري، عن الصفار، عن سعدان بن نصر، ثنا وكيع، عن ابن عون به

(2)

. وابن عبد البر، عن أحمد بن محمد، ثنا محمد بن عيسى، ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو عبيد، أنا ابن علية ومعاذ، عن ابن عون به

(3)

.

ورواه الجوزي

(4)

عن إسحاق بن الفيض، ثنا بشر بن أبي الأزهر، ثنا خارجة بن مصعب، عن ابن عون به. ورواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن ابن عون به

(5)

.

(ثالثها)

(6)

واعلم أن في بعض النسخ بعد قول عمر: (تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تسَوَّدُوا)، قَالَ أبو عبد الله: وبعد أن تُسوَّدوا، وقد تعلَّم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم في كِبر سنهم

(7)

.

(1)

مسلم رقم (816) كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضل من يقوم بالقرآن.

(2)

"المدخل إلى السنن الكبرى" ص 265 (273)، وفي "الشعب" 2/ 255 (1669) قال الحافظ في "الفتح" 1/ 166: إسناده صحيح.

(3)

"جامع بيان العلم" 1/ 366 - 367 (508 - 509).

(4)

كذا بالنسخة، ولعل الصواب (الجورجيري) وهو المحدث أبو جعفر محمد بن عمر بن حفص الأصبهاني الجورجيري ت 330، سمع إسحاق بن الفيض، ومحمد بن عاصم الثقفي، انظر "سير أعلام النبلاء" 15/ 375.

(5)

"المصنف" 5/ 285 (26107). قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 1/ 166: إسناده صحيح.

(6)

من (ف).

(7)

انظر: "اليونينية" 1/ 25.

ص: 359

ومطابقة هذا الأثر للتبويب أنه جعل السيادة من ثمرات العلم فأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة، فإنه إِذَا كان العلم سببًا للسيادة فهو جدير أن يغتبط به صاحبه؛ لأنه سبب لسيادته.

رابعها:

معنى: (قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا): تعظموا، يقال: ساد قومه يسودهم سيادة وسؤددا فهو سيدهم، وسوده قومه فهو أسود من فلان، أي: أعظم منه، والمعنى: تعلموا العلم مادمتم صغارًا قبل أن تصيروا سادة رؤساء ينظر إليكم، فإن لم تتعلموا قبل ذَلِكَ استحييتم أن تتعلموا بعد الكبر فبقيتم جهالًا.

قَالَ مالك: من عيب القاضي أنه إِذَا عُزل لم يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه. قَالَ: وكان الرجل إِذَا قام من مجلس ربيعة إلى خطة أو حكم لم يرجع إليه بعدها. وقال يحيى بن معين: من عاجل الرئاسة فاته علم كثير.

وقال الشافعي: إِذَا تصدر الحدث فاته علم كثير

(1)

، وقال أيضًا: تفقه قبل أن ترأس فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه، وفيه قول ثان: أن معنى قول عمر (لا تأخذوا)

(2)

عن الأصاغر فيزرى بكم ذَلِكَ، ويؤيده حديث عبد الله:"لن يزال الناس بخيرٍ ما أَخَذوا العلمَ عن أكابرهم"

(3)

.

(1)

أورده الحافظ ابن حجر في "الفتح" 1/ 166.

(2)

في (ف): لا تأخذونه.

(3)

رواه ابن المبارك في "الزهد"(815) باب: ما جاء في قبض العلم. وعبد الرزاق 11/ 246، 257 (20446، (20483). والطبرانى 9/ 114 - 115 (8589 - 8592). وفي "الأوسط" 7/ 311 (7590) وقال: لم يرو هذِه الأحاديث عن =

ص: 360

وفيه قول ثالث أن معناه: قبل أن تزوجوا فتصيروا سادة بالحكم عَلَى الأزواج، والاشتغال بهن لهوًا ثمَّ تمحلًا للتفقه، ومنه الاستياد وهو طلب السيد من القوم، حكاه صاحب "مجمع الغرائب" احتمالًا وهو متجه، وجزم به البيهقي في "مدخله" ولم يذكر غيره فقال: معناه: قبل أن تتزوجوا فتصيروا أربابا، قَالَه شمر

(1)

.

خامسها:

قوله: (عَلَى غَيْرِ مَا حَدَّثنَاهُ الزُّهْرِيُّ) القائل هو: سفيان بن عُيينة، يقول سفيان: هو عَلَى خلاف حديثي عن الزُّهْرِي وقد أخرجه البخاري في كتاب التوحيد

(2)

نبَّهَ عليه القاضي عِياض.

سادسها:

معنى قوله: (إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ)، أي: خصلتين أو طريقتين، ويجوز في رجل ثلاثة أوجه: البدل، وإضمار أعني، والرفع عَلَى تقدير خصلتين إحداهما خصلة رجل.

سابعها:

أصل الحسد: تمني الرجل أن تتحول إليه نعمة الآخر ويسلبها هو، يقال: حسده يحسُده ويحسَده حسدًا، ورجل حاسِدٌ من قوم حُسَّدٍ، والأنثى بغير هاء وهم يتحاسدون، وحَسَدَه عَلَى الشيء وحَسَدَه إياه،

= حمزة الزيات إلا زياد أبو حمزة، تفرد بها عامر بن إبراهيم. واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" 1/ 94 (100). وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" 1/ 616 - 617 (1057 - 16060). وأورده الهيثمي في "مجمع الزاوئد" 1/ 135 (569) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ورجاله موثقون.

(1)

"المدخل إلى السنن الكبرى" ص 265 (374).

(2)

سيأتي برقم (7529)، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رجل آتاه الله القرآن".

ص: 361

وقال ابن الأعرابي: هو مأخوذ من الحسدل وهو القراد فهو يقشر القلب كما يقشر القراد الجلد فيمص الدم.

ومعنى الحسد هنا: شدة الحرص والرغبة من غير تمني زوالها عن صاحبها وهو المنافسة، وأطلق الحسد عليه؛ لأنهما سببه

(1)

، وسماه البخاري اغتباطًا؛ لأن من أوتي مثل هذا ينبغي أن يغبط به وينافس فيه، قَالَ تعالى:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32].

ثمَّ قَالَ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وقد جاء في بعض طرق الحديث ما يبين ذَلِكَ فقال فيه: "فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل" ذكلره البخاري في فضائل القرآن في باب: اغْتِبَاطِ صَاحِبِ القُرْآنِ من حديث أبي هريرة

(2)

، فلم يتمنَّ السلب، وإنما تمنى أن يكون مثله، وقد تمنى ذَلِكَ الصالحون والأخيار.

وفيه قول ثان: أنه تخصيص لإباحة نوع من الحسد وإخراج له عن جملة ما حظر منه، كما رخص في نوع من الكذب، وإن كانت جملته محظورة فالمعنى لا إباحة لشيء من الحسد إلا فيما كان هذا سبيله، أي: لا حسد محمود إلا هذا، وقيل: إنه استثناء منقطع بمعنى لكن في اثنتين.

ثامنها:.

قوله: (عَلَى هَلَكَتِهِ) أي: (إهلاكه)

(3)

، أي: إنفاقه في الطاعات كما سيأتي، والحكمة المراد بها القرآن والله أعلم، كما جاء في حديث

(1)

"تهذيب اللغة" 1/ 812، "لسان العرب" 2/ 868، مادة:[حسد].

(2)

سيأتي برقم (5026).

(3)

في (ف) هلاكه.

ص: 362

أبي هريرة السالف: "لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ علمه اللهُ القُرْآنَ فَهْوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَهْوَ يهلكه"، وفي رواية "ينفقه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل"

(1)

. وفي مسلم نحوه من حديث ابن عمر

(2)

.

تاسعها: في أحكامه:

أولها: حرمة الحسد وهو إجماع وهو المذموم، وأما المباح وهو الاغتباط كما سلف فمحمود، فإذا أنعم الله عَلَى أخيك نعمة فكرهتها وأحببت زوالها فحرام. قَالَ بعضهم: إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر أو من يستعين بها عَلَى فتنة وإفساد.

ثانيها: أن الغني إِذَا قام بشرط المال وفعل فيه ما يرضي الله كان أفضل من الفقير.

ثالثها: تمني الطاعات.

(1)

سيأتي برقم (7528) في التوحيد، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رجلٌ آتاه الله القرآن".

(2)

مسلم برقم (815) باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه.

ص: 363

‌16 - باب مَا ذُكِرَ فِى ذَهَابِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم فِى الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ

(1)

وقوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]. [فتح: 1/ 167]

74 -

حَدَّثَنَي مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ حَدَّثَ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارى هُوَ وَالُحرُّ بْنُ قَيسٍ بْنِ حِصْنِ الفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى قَالَ ابن عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ. فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابن عَبَّاسِ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيتُ أَنَا وَصَاحِبِي هذا فِي صَاحِبِ مُوسَى الذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلإٍ مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا. فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ. فَسَأَل مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَارْجِعْ، فَإنَّكَ سَتَلْقَاهُ، وَكَانَ يَتَّبعُ أثَرَ الحُوتِ فِي البَحْرِ، فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)} [الكهف: 64]، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الذِي قَصَّ اللهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ". [78، 122، 2267، 2728، 3278، 3400، 3401، 4726، 4727، 6672، 7478 - مسلم: 2380 - فتح: 1/ 168]

(1)

من هنا بدأت نُسخة سبط والتي نُسخت من خط المؤلف وراجع منها قسما كبيرا، وعلَّق عليها سبط، وجعلناها الأصل، وقد لا نثبت كل الفروق الغير هامة بينها وبين غيرها من النسخ التي تصرف فيها النساخ، وبخاصة في مقدمة الأبواب وعرض الأحاديث؛ حيث اختصر بعضها طريقة المصنف في عرض أحاديث الباب.

ص: 364

حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ، ثنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ حَدَّثَ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فقَالَ ابن عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ. فَمَرَّ بِهِمَاَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابن عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هذا فِي صَاحِبِ مُوسَى الذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا. فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ. فَسَأَل مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَارْجِعْ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، وَكَانَ يَتَّبعُ أثَرَ الحُوتِ فِي البَحْرِ، فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوينَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)} [الكهف: 64]، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الذِي قَصَّ اللهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع فوق العشرة، أخرجه هنا كما ترى، وفي أحاديث الأنبياء عن عمرو بن محمد

(1)

، وفي العلم أيضًا عن خالد بن خَلِيّ، عن محمد بن حرب

(2)

، وفي التوحيد عن عبد الله بن محمد، عن أبي عمرو كلاهما عن الأوزاعي، عن الزهري به

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (3400) باب: حديث الخضر مع موسى.

(2)

سيأتي برقم (78) باب: الخروج في طلب العلم.

(3)

سيأتي برقم (7478) باب: في المشيئة والإرادة.

ص: 365

وفي أحاديث الأنبياء أيضًا، عن علي بن المديني

(1)

، وفي النذور، والتفسير عن الحميدي

(2)

، وفي التفسير أيضًا عن قُتيبة

(3)

، وفي العلم أيضًا عن عبد الله بن محمد، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد (بن جبير)

(4)

عن ابن عباس مختصرًا

(5)

، وفي التفسير، والإجارة، والشروط عن إبراهيم بن موسى، عن هشام بن يوسف، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، وعمرو بن دينار عن سعيد به

(6)

.

وأخرجه مسلم في أحاديث الأنبياء عن حرملة، عن ابن وهب عن يونس، عن الزهري به

(7)

، وعن عمرو الناقد وابن راهويه، وعبيد الله بن (سعيد)

(8)

وابن أبي عمر عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن جبير

(9)

، وعن الناقد أيضًا، وعن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر، عن أبيه، عن رقبة، عن أبي إسحاق، عن ابن جبير به

(10)

.

(1)

سيأتي برقم (3401) باب: حديث الخضر مع موسى عليه السلام.

(2)

سيأتي برقم (6672) باب: إذا حنث ناسيًا. و (4725) كتاب: التفسير، باب:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ} .

(3)

سيأتي برقم (4727) باب قول الله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} .

(4)

ساقطة من (ج).

(5)

سيأتي برقم (122) باب: ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله.

(6)

سيأتي برقم (4726) باب: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} . و (2267) باب: إذا استأجر أجيرًا على أن يقيم حائطًا. و (2728) باب: الشروط مع الناس بالقول.

وورد بهامش الأصل، (ف): أخرجه في "المناقب" أيضًا.

(7)

مسلم رقم (2380/ 174) باب: فضائل الخضر.

(8)

في (ج): سعد.

(9)

مسلم برقم (2380/ 170) كتاب: الفضائل، باب: فضائل الخضر.

(10)

المصدر السابق رقم (2380/ 171) كتاب: الفضائل، باب: فضائل الخضر.

ص: 366

الوجه الثاني: في التعريف برواته غير ما سلف:

فاما يعقوب بن إبراهيم فهو: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الورع الحجة، روى عن أبيه وشعبة، وعنه أحمد وغيره، مات سنة ثمانٍ ومائتين بفم الصِّلْح

(1)

.

وأما محمد بن غرير فوالده -بغين معجمة ثمَّ راء مهملة مكررة بينهما ياء مثناة تحت- وهو أبو عبد الله محمد بن غرير بن الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني يعرف بالغريري.

قَالَ البخاري: هو مدني، وقال غيره. هو من أهل سمرقند، روى عن يعقوب بن إبراهيم الزهري، ومطرف بن عبد الله، وعنه: البخاري وغيره.

قَالَ الكلاباذي: أخرج لَهُ البخاري في ثلاثة مواضع: هنا، وفي الزكاة، وفي بني إسرائيل ولم يخرج لَهُ باقي الكتب الستة (شيئًا)

(2)

فهو من الأفراد

(3)

.

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 8/ 396 (3459). "الثقات" لابن حبان 9/ 284. "تهذيب الكمال" 32/ 308 (7082)، "سير أعلام النبلاء" 9/ 491 - 493 (184)، "شذرات الذهب" 2/ 22.

وفم الصلح: وهو نهر كبير فوق واسط بينها وبين جبُّل، عليه عدة قرى. انظر:"معجم البلدان" 4/ 276.

وورد بهامش الأصل: نهر ميسان، وميسان موضع من أرض البصرة، قاله البكري.

(2)

من (ج).

(3)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 1/ 207 (651). "تهذيب الكمال" 26/ 268 (5539)، "الكاشف" 2/ 210 (5108)، "التقريب"(6226).

ص: 367

الوجه الثالث: في الأسماء الواقعة في أثنائه:

أما موسى -صلوات الله وسلامه عليه- فهو: موسى بن عمران ابن يصهر بن قاهث بن لاوي، وقيل: عمران، وهو: عمرم بن قاهث ابن يصهر بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - صلى الله عليهم - وموسى مفعل فهو مصروف في النكرة، قاله أبو عمرو ابن العلاء.

وقال الكسائي: هو فعلى والنسبة إليه موسوي وموسي فيمن قَالَ: يمني. وكان عمر عمران حين توفي مائة وسبعة وثلاثين سنة قَالَ أهل التاريخ: لما ماتَ الريان بن الوليد فِرعون مصر الأول صاحب يوسف الذي ولاه الخزائن، وأسلم عَلَى يده ومَلَكَ قالوس صاحب يوسف الثاني، دعاه يوسف عليه السلام فلم يسلم.

ثمَّ هلك فمَلَكَ بعده أخوه الوليد بن مصعب، وكان أَعْتَى من أخيه، وكثر أولاد بني إسرائيل بعد يوسف، وأقاموا بمصر تحت أيدي العمالقة وهم عَلَى بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم شرعوه لهم متمسكين به، حتَّى كان فرعون موسى الذي بعثه الله إليه، ولم يكن في الفراعنة أعتى منه ولا أطول عمرًا في الملك منه، عاش فيهم أربعمائة سنة.

ومر صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به عَلَى موسى في السماء السادسة، ووصفه فقال:"هو آدَم طُوَال جَعْد، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ" كما هو ثابت في الصحيحين

(1)

، وشنوءة: من الأزد سموا به؛ لأنهم تشانئوا أي:

(1)

سيأتي برقم (3239) كتاب: بدء الخلق، باب: إذا قال أحدكم آمين، ورواه مسلم (165) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات.

ص: 368

تباعدوا وتباغضوا، وفي "الصحيح" أيضًا في صفته أنه ضرب من الرجال أي: جسمه ليس بالضخم ولا بالضئيل

(1)

.

والجعد المراد به جعودة الجسم لا الشعر، وقد قيل في قوله تعالى:{فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23] أي: لقاء موسى ليلة الإسراء، قاله قتاده

(2)

، والهاء عَلَى هذا عائدة عَلَى موسى. وقال الحسن: المعنى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [السجدة: 23] فأوذي وكذب {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ} إنك ستلقى مثل ما لقيه من ذَلِكَ

(3)

.

وفي الصحيحين: "يرَحِم اللهُ أخي مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هذا فَصَبَر"

(4)

، والآيات التسع المذكورة في القرآن هي العصا واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، وفلق البحر، يجمعها:

عَصا يدٍ وجراد قُمَّل ودَم

طُوفان ضفدع جدبُ نَقْص تثمير

قَالَ الثعلبي

(5)

: وكان عمر موسى عليه السلام حين توفي مائة وعشرين

(1)

سيأتي برقم (3394) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب:{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} .

(2)

انظر "تفسير الطبري" 15/ 249. "زاد المسير" 6/ 343.

(3)

انظر "زاد المسير" 6/ 343.

(4)

سيأتي برقم (3150) كتاب: فرض الخمس، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه، ورواه مسلم برقم (1062) كتاب: الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام.

(5)

هو أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري، أبو إسحاق مفسر، مقرئ، واعظ، أديب، حدث عنه أبو الحسن الواحدي وجماعة، كان صادقا موثقا، بصيرا بالعربية. من تصانيفه:"الكشف والبيان عن تفسير القرآن"، "العرائس في قصص الأنبياء" وفيه كثير من الإسرائيليات والأخبار الواهيات والغرائب. قال ابن كثير: وكان كثير الحديث، واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه من الغرائب شيء كثير.

انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 17/ 436، "البداية والنهاية" 6/ 485.

ص: 369

سنة، ولما كبر موسى قتل القبطي، ثمَّ خرج خائفًا فلما ورد ماء مدين جرى لَهُ ما قص الله في كتابه. قَالَ بعضهم: ولم يقرب امرأة للاستمتاع من حين سمع كلام الرب جل جلاله ومكث بعد أن كلم أربعين ليلة لا يراه أحد إلا مات من النور.

وأما الخضر فالكلام عليه في مواضع:

أحدها: في ضبطه وهو: بفتح أوله وكسر ثانيه، ويجوز كسر أوله، وإسكان ثانيه كما في (كبد)

(1)

.

ثانيها: في سبب تسميته بذلك وسيأتي في "صحيح البخاري" من حديث همامِ بن منبه عن أبي هريرة مرفوعًا: "إِنَّمَا سُمِّيَ الخَضِرُ؛ لأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فرْوَةٍ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ"

(2)

.

والفروة: الأرض اليابسة أو الحشيش اليابس، قَالَ ابن فارس: الفروة: كل نبات مجتمع إذا يبس

(3)

.

وقال الخطابي: الفروة: وجه الأرض أنبتت واخضرت بعد أن كانت جرداء

(4)

. وفيه قول آخر؛ لأنه إِذَا جلس اخضر ما حوله قاله عكرمة، وقول آخر: أنه إِذَا صلى اخضر ما حوله

(5)

.

ثالثها: في اسمه وفيه خمسة أقوال:

(1)

انظر: "لسان العرب" 2/ 1185، مادة:[خضر].

(2)

سيأتي برقم (3402) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى عليهما السلام.

(3)

"مجمل اللغة" 3/ 719.

(4)

"أعلام الحديث" 3/ 1553.

(5)

ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 168.

ص: 370

أحدها: بليا

(1)

-بباء موحدة مفتوحة ثمَّ لام ساكنة ثم مثناة تحت- بن ملكان -بفتح الميم وسكون اللام- بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام، حكاه ابن قتيبة عن وهب بن منبه

(2)

.

وحكاه ابن الجوزي عن وهب: إيليا بدل بليا، فهذا قول آخر، وكان أبوه من الملوك.

ثانيها: الخضر بن عاميل، قَالَه كعب الأحبار

(3)

.

ثالثها: أرميا

(4)

بن خلقيا، قاله ابن إسحاق ووهاه الطبري بأن أرميا كان في زمن بختنصر وبين عهد موسى وبختنصر زمن طويل

(5)

.

رابعها: إلياس، قاله يحيى بن سلام، ووهاه ابن الجوزي

(6)

.

خامسها: اليسع، قاله مقاتل وسمي بذلك؛ لأن علمه وسع ست سموات وست أرضين ووهاه ابن الجوزي أيضًا

(7)

، واليسع: اسم أعجمي ليس بمشتق.

وفيه قول سادس: أن اسمه أحمد حكاه القشيري ووهاه ابن دحية، بأنه لم يتسمَّ أحد قبل نبينا صلى الله عليه وسلم بذلك.

(1)

ورد بهامش الأصل: قال المصنف: بخط الدمياطي يليا، بياءين من تحت بينهما لام.

(2)

"المعارف" ص 42.

(3)

"الإصابة" 1/ 430.

(4)

ورد بهامش (س): قال المصنف في الهامش بخط الدمياطي: أروميا، من ولد عيص بن إسحاق.

(5)

"تاريخ الطبري" 1/ 220.

(6)

أورده القرطبي في "التفسير" 6/ 16.

(7)

ذكره الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 1/ 429 وقال: هو بعيد أيضًا.

ص: 371

وسابع: أن اسمه عامر حكاه ابن دحية في كتابه: "مرج البحرين".

وثامن: أنه (حضرون)

(1)

بن قابيل بن آدم حكاه هو أيضًا

(2)

، وقيل: إنه أبو العباس

(3)

.

رابعها: في أي وقت كان؟

روى الضحاك عن ابن عباس قَالَ: الخضر بن آدم لصلبه

(4)

، وقال الطبري:(قيل)

(5)

إنه الرابع من أولاده

(6)

. وقيل: إنه من ولد عيص، حكاه ابن دحية

(7)

.

وروى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه من سبط هارون، وكذا قَالَ ابن إسحاق

(8)

. وروى محمد بن أيوب، عن ابن لهيعة أنه ابن فرعون موسى وهذا بعيد، ابن لهيعة، وابن أيوب مطعون فيهما

(9)

.

وقال عبد الله بن شوذب: إنه من ولد فارس

(10)

.

(1)

في (ف) خصرون.

(2)

ذكره ابن كثير في "قصص الأنبياء" 2/ 658، وابن حجر "الإصابة" 1/ 429 وقال: هذا مفصل.

(3)

ذكره الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 1/ 365.

(4)

رواه الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 16/ 399.

وقال الحافظ ابن كثير في "قصص الأنبياء" 2/ 658: وهذا منقطع وغريب.

وقال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 1/ 429: فيه رواد ضعيف ومقاتل متروك.

(5)

من (ف).

(6)

"تاريخ الطبري" 1/ 220.

(7)

ذكره الحافظ ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 16/ 399.

(8)

ذكره الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 1/ 429 وقال: هو بعيد وأعجب.

(9)

ذكره الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 1/ 364.

(10)

رواه الحافظ ابن جرير الطبري في "تاريخه" 1/ 220. قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 1/ 429: أخرجه الطبري بسندٍ جيد.

ص: 372

وقال الطبري: كان في أيام أفريدون، قَالَ: وقيل: كان عَلَى مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان أيام إبراهيم الخليل عليه السلام

(1)

.

وذو القرنين عند قوم هو أفريدون. وقال بعض أهل الكتاب: إنه ابن خالة ذي القرنين ووزيره، وأنه شرب من ماء الحياة، وذكر الثعلبي أيضًا اختلافًا هل كان في زمن إبراهيم الخليل أم بعده بقليل أو بكثير؟ وذكر بعضهم أنه كان (في)

(2)

زمن سليمان، وأنه المراد بقوله:{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل: 40] حكاه الداودي.

خامسها: اختلف هل كان وليًّا أو نبيًّا؟ عَلَى قولين: وبالأول جزم القشيري.

واختلف أيضًا هل كان مرسلًا أم لا؟ عَلَى قولين، وأغرب ما قيل: إنه من الملائكة، والصحيح أنه نبي، وجزم به جماعة.

وقال الثعلبي: هو نبي عَلَى جميع الأقوال معمر محجوب عن الأبصار وصححه ابن الجوزي أيضًا في كتابه فيه

(3)

، لقوله تعالى حكاية عنه:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] فدل عَلَى أنه نبي أوحي إليه، ولأنه أعلم من موسى -أي: في علم مخصوص- ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي، وإن كان يحتمل أن يكون أوحي إلى نبي في ذَلِكَ العصر (يأمر)

(4)

الخضر بذلك.

سادسها: في حياته وقد أنكرها جماعة منهم: البخاري وإبراهيم الحربي وابن المنادى، وأفردها ابن الجوزي بالتأليف، والمختار بقاؤها.

(1)

ذكره الطبري في "التاريخ" 1/ 220.

(2)

من (ف).

(3)

يقصد المؤلف بكتاب ابن الجوزي "عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر" كما قال الحافظ ابن كثير في "قصص الأنبياء" 2/ 683 ولم نقف على هذا الكتاب.

(4)

في (ف): فأمر.

ص: 373

قَالَ ابن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم في ذَلِكَ، وإنما شذ بإنكارها بعض المحدثين

(1)

.

(1)

ومن هؤلاء المحدثين البخاري وإبراهيم الحربي وأبو الحسين بن المناوي والشيخ أبو الفرج بن الجوزي، وقد انتصر لذلك وألفَّ فيه كتابًا اسماه "عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر"؛ فيحتج لهم بأشياء كثيرة:

منها: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] فالخضر إن كان بشرًا؛ فقد دخل في هذا العموم لا محالة، ولا يجوز تخصيصه إلا بدليل صحيح، والأصل عدمه حتى يثبت، ولم يذكر فيه دليل على التخصيص عن معصوم يجب قبوله.

ومنها: أن الله تعالى قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} [آل عمران: 81].

قال ابن عباس: ما بعث الله نبيًّا، إلا أخذ عليه الميثاق؛ لئن بعث محمد وهم أحياء؛ ليؤمنن به ولينصرنه.

فالخضر إن كان نبيًّا أو وليًّا؛ فقد دخل في هذا الميثاق؛ فلو كان حيًّا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه، ويؤمن بما أنزل الله عليه، وينصره أن يصل أحدٌ من الأعداء إليه؛ لأنه إن كان وليًا، فالصديق أفضل منه، وإن كان نبيًّا، فموسى أفضل منه.

روى الإمام أحمد بإسناده عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده؛ لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني" قال الحافظ ابن كثير في "القصص" 1/ 359: إسناد صحيح.

وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة، فإذا علم هذا -وهو معلوم عند كل مؤمن-؛ علم أنه لو كان الخضر حيًّا، لكان من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وممن يقتدي بشرعه، لا يسعه إلا ذلك.

ومن ذلك ما ثبت في الصحيح وغيرهما عن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ليلة العشاء، ثم قال:"أرأيتم ليلتكم هذِه؟ فإنه إلى مائة سنة لا يبقى ممن هو على وجه الأرض اليوم أحد". فهذا الحديث يقطع دابر دعوى حياة الخضر. اهـ. انظر: "قصص الأنبياء" 2/ 683 - 688 لابن كثير.

ص: 374

ونقله النووي عن الأكثرين

(1)

، وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن، وفي "صحيح مسلم" في حديث الدجال أنه يقتل رجلًا ثمَّ يحييه. قَالَ إبراهيم بن سفيان راوي كتاب مسلم: يقال: إنه الخضر

(2)

. وكذلك قَالَ معمر في "مسنده"

(3)

.

وأما الحر بن قيس فهو: -بحاء مهملة- بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري ابن أخي عيينة، لَهُ وفادة وكان من جلساء عمر، واستأذن لعمه

(4)

.

وأما أبي بن كعب بن قيس، فهو أبو المنذر، أقرأ الأمة

(5)

.

الوجه الرابع:

فتى موسى هو: يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف كذا ذكره القتبي، وقال مقاتل: يوشع بن نون بن اليشامع بن عيهود بن عيزار بن شوتلخ بن أفرايم بن يوسف

(6)

.

(1)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 15/ 135 - 136.

(2)

مسلم (2938) كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: صفة الدجال وتحريم المدينة عليه وقتله المؤمن وإحيائه.

(3)

"مصنف عبد الرزاق" 11/ 393 (20824). وانظر قصة الخضر في: "صحيح مسلم بشرح النووي" 15/ 135 - 136. و"قصص الأنبياء" لابن كثير 2/ 657 - 689.

(4)

انظر ترجمته في: "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 2/ 896 (773). و"الاستيعاب" 1/ 451 - 452 (586). و"أسد الغابة" 1/ 471 - 472 (1118). و"الإصابة" 1/ 324 (1692).

(5)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" للبغوي 1/ 3 - 15 (1). "معجم الصحابة" لابن قانع 1/ 3 - 4 (1). "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 1/ 214 - 219 (79).

و"الاستيعاب" 1/ 161 - 164 (6). "أسد الغابة" 1/ 61 - 63 (34). "الإصابة" 1/ 19 - 20 (32).

(6)

انظر قصته في: "قصص الأنبياء" لابن كثير 2/ 639 - 657.

ص: 375

والصخرة: هي التي دون نهر الرين بالمغرب.

الوجه الخامس:

مراد البخاري بالتبويب الرحلة والسفر في طلب العلم برَّا وبحرًا، فإن موسى صلى الله عليه وسلم اتبع الخضر للتعلم منه حال ركوب السفينة ودونها.

السادس: في ألفاظه ومعانيه:

المماراة: المجادلة، يقال: ماريت الرجل أماريه مراء، وهي هنا: الاختلاف، يقال: تماريا إذا اختلفا.

وقوله: (فَدَعَاهُ ابن عَبَّاسٍ) فسره بعضهم بأنه قام إليه، ويحتمل أن يكون المراد به النداء.

وقوله: (فِي مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، قَالَ القاضي: أي: في جماعتهم

(1)

.

وقال غيره: الملأ: الأشراف ومعناهما صحيح.

وقوله: (هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا). وجاء في كتاب التفسير وغيره: "فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا" فعتب الله عليه إِذ لم يردَّ العلم إلية

(2)

. وكذا جاء في مسلم، وفيه أيضًا: "بينا موسى في قومه يذكرهم بأيام الله -أي: (نعمائه)

(3)

وبلائه- إذ قَالَ: ما أعلم في الأرض رجلًا خيرًا وأعلم مني؟ فأوحى الله إليه أن في الأرض رجلًا هو أعلم منك"

(4)

.

(1)

"مشارق الأنوار" 1/ 379.

(2)

سيأتي برقم (4725) باب: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)} .

(3)

في (ج): بإنعامه.

(4)

برقم (2380/ 172) كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر عليه السلام.

ص: 376

أما عَلَى رواية: "هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا"

(1)

. فلا عتب عليه إذ أخبر عما يعلم، وأما عَلَى رواية:"أيّ الناسِ أَعْلم؟ فقال: أنا"

(2)

فهو راجع إلى ما اقتضاه شهادة الحال، ودلالة النبوة، وكان منها بالمكان الأرفع والمرتبة العليا من العلم.

فالعتب إذًا إنما وقع لأجل الإطلاق وإن كان الأولى إطلاق: الله أعلم، وقد قالت الملائكة:{إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم لما سُئِلَ عن الروح وغيره: "لا أدري حتَّى أسأل الله"

(3)

، وقد قَالَ تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]

وقيل: المراد بقوله: (أنا) أي: بوظائف النبوة، وأمور الشريعة، وسياسة الأمة، والخضر أعلم منه بأمور أخر من علوم غيبية كما ذكر من خبره، وكان موسى أعلم عَلَى الجملة والعموم مما لا يمكن جهل الأنبياء بشيء منه، والخضر أعلم عَلَى الخصوص بما أُعْلِمَ من الغيوب وحوادث القدر مما لا يعلم الأنبياء منه إلا ما أُعلموا من غيبه.

ولهذا قَالَ لَهُ الخضر: "إنك عَلَى علم من علم الله (علمكه الله)

(4)

لا أعلمه، وأنا عَلَى علم من علم الله علمنيه لا تعلمه". ألا تراه لم يعرف موسى بني إسرائيل حتَّى عرفه بنفسه إذ لم يعرفه الله به، وهذا مثل قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "إني لا أعلم إلا ما علمني ربي"

(5)

.

(1)

وهي رواية الباب وسيأتي برقم (3400) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى عليهما السلام.

(2)

سيأتي برقم (122) كتاب: العلم، باب: ما يستحب للعالم إذا سُئِلَ: أيُّ الناس أعلم؟ فيكل العلم إلى الله.

(3)

لم نقف على هذه الرواية فيما بين أيدينا من كتب السنة المعتبرة.

(4)

ساقطة من (ج).

(5)

رواه الطبري في "تاريخه" 2/ 184.

ص: 377

ومعنى قوله فيما أوردناه: "فعَتب الله عليه وآخَذَه به" وأصل العتب المؤاخذة، يقال فيه: عتب عليه، إذا واخذه وذكره لَهُ والمؤاخذة والعتب في حق الله تعالى محال، فالعتب هنا عدم رضا قوله شرعًا ودينًا

(1)

، وقد عتب الله عليه إذ لم يرد رد الملائكة {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].

(1)

مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله تعالى وصفاته يتضمن إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه وما أثبته له نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة على الوجه اللائق به سبحانه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي؛ بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه؛ لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف، والدلالة والإرشاد.

وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء، لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة فكذلك له صفات حقيقة وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصًا أو حدوثًا فإن الله منزه عنه حقيقة، إنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم؛ ولافتقار المحدث إلى محدِث، ولوجب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى.

ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله؛ فيعطلوا أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسماء الله وآياته.

انظر: "مجموع الفتاوى" 26/ 5 - 27.

ص: 378

وقيل جاء هذا؛ تنبيهًا لموسى وتعليمًا لمن بعده ودليلًا يقتدي به غيره في تزكية نفسه والعجب بحاله فيهلك، وإنما ألجئ موسى للخضر للتأديب لا للتعليم. قَالَ أُبي: أعجب موسى بعلمه فعاقبه الله بما لقي من الخضر.

السابع: في فوائده:

الأولى: الرحلة والسفر لطلب العلم برًّا وبحرًا وهو المراد بالتبويب كما سلف، وسيأتي أيضًا رحلة جابر، والمراد: التنبيه عَلَى شرف العلم حتَّى جازت المخاطرة في طلبه بركوب البحر، وركبه الأنبياء في طلبه، بخلاف ركوبه في طلب الدنيا فهو مكروه عند بعضهم واستثفله الكل.

الثانية: الازدياد في العلم وقصد طلبه، ومعرفة حق من عنده زيادة علم.

الثالثة: جواز التماري في العلم، إِذَا كان كل واحد يطلب الحقيقة غير متعنت.

الرابعة: الرجوع إلى أهل العلم عند التنازع.

الخامسة: لزوم التواضع في العلم وكل الأحوال.

السادسة: حمل الزاد وإعداده في السفر خلافًا لمن منعه، وستكون لنا عودة إلى هذا الحديث في موضع آخر من المواضع التي كرره فيها البخاري إن شاء الله تعالى ذَلِكَ وقدره

(1)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: آخر الجزء الأول من الجزء الثاني من تجزئة المصنف.

ص: 379

‌17 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ

"

75 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ". [143، 3756، 7270 - مسلم 2477 - فتح: 1/ 169]

حَدَّثنَا أَبُو مَعْمَرٍ، ثنَا عَبْدُ الوَارِثِ، ثنَا خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا كما ترى، وفي فضائل الصحابة عن أبي معمر، ومسدد عن عبد الوارث، وعن موسى عن وهيب كلاهما عن خالد بلفظ:"اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمة"

(1)

قَالَ أبو مسعود الدمشقي: هو عند القواريري عن عبد الوارث.

وأخرجه في الطهارة عن عبد الله بن محمد، ثنا هاشم بن القاسم، عن ورقاء، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضع لَهُ وضوءًا فقال:"اللهمَّ فقهه في الدين"

(2)

.

وأخرجه مسلم في (فضل)

(3)

ابن عباس: ثنا زهير وأبو بكر بن أبي النضر، ثنا هاشم به، ولفظه:"اللهمَّ فقهه"

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (3756) باب: ذكر ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

سيأتي برقم (143) باب: وضع الماء عند الخلاء.

(3)

في (ج): فضائل.

(4)

مسلم (2477) كتاب: فضائل الصحابة.

ص: 380

ثانيها: في التعريف برجاله:

أما ابن عباس فقد سلف.

وأما عكرمة فهو: أبو عبد الله المدني مولى ابن عباس أصله من البربر من أهل المغرب، سمع مولاه، وابن عمر، وخلفا من الصحابة، وكان من العلماء في زمانه بالعلم والقرآن، وعنه: أيوب وخالد الحذاء وخلق، وتكلم فيه لرأيه، وأطلق نافع وغيره عليه الكذب.

وروى لَهُ مسلم مقرونًا بطاوس وسعيد بن جبير، واعتمده البخاري في أكثر ما يصح عنه من الروايات، وربما عيب عليه إخراج حديثه، ومات ابن عباس وعكرمة مملوك، فباعه علي ابنه من خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فقال له عكرمة: بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار فاستقاله فأقاله وأعتقه، وكان جوالًا في (البلاد)

(1)

.

ومات بالمدينة ودفن بها سنة خمس أو ست أو سبع ومائة، ومات معه في ذَلِكَ اليوم كثير الشاعر، فقيل: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس. وقيل: مات عكرمة سنة خمس عشرة ومائة، وقيل: بلغ ثمانين.

واجتمع حفاظ ابن عباس عَلَى عكرمة فيهم: عطاء وطاوس، وسعيد بن جبير، فجعلوا يسألون عكرمة عن حديث ابن عباس، فجعل يحدثهم وسعيد كلما حدث بحديث وضع إصبعيه الإبهام عَلَى السبابة أي سواء، حتَّى سألوه عن الحوت وقصة موسى فقال عكرمة: كان يسايرهما في ضحضاح من الماء. فقال سعيد: أشهد عَلَى ابن عباس أنه قَالَ: كان يحملانه في مكتل -يعني: الزنبيل- فقال أيوب:

(1)

في (ف): المدينة.

ص: 381

وأرى -والله أعلم- أن ابن عباس حدث بالخبرين جميعًا

(1)

.

وأما الراوي عنه فهو خالد بن مهران الحذاء (ع) أبو المنازل -بضم الميم- البصري التابعي مولى آل عبد الله بن عامر القرشي.

قَالَ عبد الغني: ما كان من منازل فهو بضم الميم، إلا يوسف بن منازل (خ)(فإنه)

(2)

بفتحها، وحكى غيره فيه الفتح -أعني في خالد- وكذا في سائر الباب، والضم أظهر، ولم يكن بحذاء للنعال إنما كان يجلس إليهم أو إلى صديق له حذاء، وقيل: كان يقول: أحذ عَلَى هذا النحو، فلقب به.

رأى أنسًا، ووثقه أحمد، ويحيى بن معين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. مات سنة إحدى وأربعين ومائة في خلافة المنصور

(3)

.

وأما الراوي عنه فهو أبو عبيدة عبد الوارث (ع) بن سعيد بن ذكوان التميمي البصري الحافظ المقرئ الثبت الصالح، روى عن أيوب وغيره، وعنه مسدد وغيره.

ورمي بالقدر، ونفاه عنه ولده عبد الصمد فيما حكاه عنه البخاري، مات سنة ثمانين ومائة

(4)

.

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 2/ 385 - 386، 5/ 287 - 293. "التاريخ الكبير" 7/ 49 (218). "تهذيب الكمال" 20/ 264 - 292 (4009)، "سير أعلام النبلاء" 5/ 12 - 36 (9)، "شذرات الذهب" 1/ 130.

(2)

في (ف): فهو.

(3)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 3/ 173 (592). "الجرح والتعديل" 3/ 352 (1593). "تهذيب الكمال" 18/ 177 (1655)، "سير أعلام النبلاء" 6/ 190 - 193، "شذرات الذهب" 1/ 210.

(4)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 118 (1891). "الجرح والتعديل" 6/ 75 =

ص: 382

وأما شيخ البخاري فهو أبو معمر (ع) عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ميسرة البصري المقعد المنقري الحافظ الحجة، روى عن عبد الوارث وغيره، وعنه البخاري وأبو داود، وهو والباقون عن رجل عنه، ورمي بالقدر أيضًا، مات سنة أربع وعشرين ومائتين

(1)

.

فائدة:

هذا الإسناد عَلَى شرط الأئمة الستة وكلهم بصريون خلا ابن عباس وعكرمة، وفيه رواية تابعي عن تابعي أيضًا.

الوجه الثالث: في فوائده:

الأولى: المراد بالكتاب هنا: القرآن وكذا كل موضع ذكر الله تعالى فيه الكتاب، والمراد بالحكمة أيضًا: القرآن كما في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].

وأما قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129] فالمراد بها السنة وكذا قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] فالقرآن أحكمت آياته بين حلالها وحرامها وأوامرها ونهيها، والسنة بينت المجمل وغيره، والرواية الأخرى:"اللهم فقهه" أي: فهمه الكتاب والسنة، ودعا لَهُ أيضًا أن يعلمه التأويل أي: تفسير القرآن؛ فكان فيه من الراسخين حتَّى كان يُدعى ترجمان القرآن.

= (386)، "الثقات" لابن حبان 7/ 140، "تهذيب الكمال" 18/ 478 (3595). "مقدمة فتح الباري" ص 422، "شذرات الذهب" 1/ 293.

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 5/ 155 (475). "معرفة الثقات" للعجلي 2/ 428 (2258). "الجرح والتعديل" 5/ 119 (549). "الثقات" 8/ 353 - 354 "تهذيب الكمال" 15/ 353 (3449).

ص: 383

الثانية: بركة دعائه صلى الله عليه وسلم وإجابته.

الثالثة: فضل العلم والحض عَلَى تعلمه، وعلى حفظ القرآن والدعاء بذلك.

الرابعة: استحباب الضم وهو إجماع للطفل والقادم من سفر، ولغيرهما مكروه عند البغوي، والمختار (جوازه)

(1)

ومحل ذَلِكَ إِذَا لم يؤد إلى تحريك شهوة.

فائدة: معنى اللَّهُمَّ: يا الله، والميم المشددة عوض من حرف النداء، قَالَه الخليل وسيبويه، وقال الفراء: كان الأصل يا الله أمنا بخير فهي مضمنة ما يسأل بها، ونظيره قول العرلب: هلم، والأصل: هل، فضمت الميم إليها، ولو كانت الميم بدلًا عنها لما اجتمعا وقد قَالَ الشاعر:

وما عليك أن تقولي كلما

سبحت أو هللت يا اللَّهُمَا

اردد علينا شيخنا مسلما

وقد استدل الأول بهذا على أنها عوض ولا يُجمع بينهما إلا في الشعر

(2)

.

(1)

في (ف): جوازها.

(2)

"تفسير الطبري" 3/ 220، "زاد المسير" 1/ 368 - 369.

ص: 384

‌18 - باب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ

؟

76 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَؤمَئِذٍ قَدْ نَاهَزتُ الاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ. [493، 861، 1857، 4412 - مسلم 504 - فتح: 1/ 171]

77 -

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي- وَأَنَا ابن خمسِ سِنِينَ- مِنْ دَلْوٍ. [189، 839، 1185، 6354، 6422 - مسلم: 33 سيأتي 657 - فتح: 1/ 172]

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُويْسٍ، ثنا مَالِكٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسِ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ.

حدثنا محَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، ثنا الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ: عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي- وَأَنَا ابن خَمْسِ سِنِينَ- مِنْ دَلْوٍ.

ذكر البخاري رحمه الله في الباب حديث ابن عباس وحديث محمود ابن الربيع.

ص: 385

أما حديث ابن عباس: فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا كما ترى، وفي الصلاة في باب: سترة الإمام سترة لمن خلفه: عن ابن يوسف، والقعنبي عن مالك

(1)

، وفي الحج في باب: حج الصبيان، عن إسحاق، عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهري

(2)

، وفي المغازي، وحجة الوداع، وقال الليث: حَدَّثَني يونس

(3)

. كلهم عن ابن شهاب.

وأخرجه مسلم في الصلاة: عن يحيى بن يحيى، عن مالك، وعن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس، وعن يحيى بن يحيى، والناقد، وإسحاق، عن ابن عيينة، وعن إسحاق وعبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر

(4)

، خمستهم

(5)

عن الزهري به.

وزاد البخاري في الحَج فيه: أقبلت أسير عَلَى أتان لي حتَّى سرت بين يدي بعض الصف، ثمَّ نزلت عنها. ولمسلم: فسار الحمار بين يدي بعض الصف.

الوجه الثاني: في التعريف برواته، وقد سلف.

(1)

سيأتي برقم (493) عن ابن يوسف، وبرقم (861) عن القعنبي، باب: وضوء الصبيان.

(2)

سيأتي برقم (1857).

(3)

سيأتي برقم (4412).

(4)

رواه مسلم عنهم (504/ 254 - 257) باب: سترة المصلي.

(5)

المراد جملة من رواه عن الزهري عند البخاري ومسلم معًا وهم: مالك، وابن أخي الزهري -وهو محمد بن عبد الله بن مسلم- ويونس، وابن عيينة، ومعمر.

ص: 386

الثالث: في ألفاظه:

الأول: قوله: (عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ)، الحمار: اسم جنس للذكر والأنثى، كلفظ الشاة والإنسان، وربما قالوا للأتان: حمارة. حكاه الجوهري

(1)

.

والأَتَان -بفتح الهمز- الأنثى من جنس الحمر، ولا تقل: أتانة.

وحكي عن يونس وغيره: أتانة، وحمار أتان بتنوينهما إما عَلَى البدل أو عَلَى الوصف، وقال بعضهم: هو وصف لحمار عَلَى معنى صلب قوي مأخوذ من الأتان وهي الحجارة الصلبة.

والمراد بالبدل: بدل الغلط أو بدل البعض من الكل، إذ الحمار اسم جنس (يشمل)

(2)

الذكر والأنثى كما قالوا: بعير. وضبط بالإضافة أيضًا أي: حمار أنثى. وقال ابن الأثير: إنما قَالَ: حمار أتان؛ ليعلم أن الأنثى من الحمر لا تقطع الصلاة فكذا لا تقطعها المرأة

(3)

.

الثاني: معنى (نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ): قاربته ودانيته، يقال: ناهز الصبي البلوغ. أي: داناه، ويقال: يتناهزان إمارة كذا. أي: يتبادران إلى طلبها، قَالَ صاحب "الأفعال": ناهز الصبي الفطام: دنا منه، ونهز الرجل: ضربه، ونهز الشيء: دفعه، ونهزت إليه: نهضت إليه.

(4)

الثالث: الاحتلام معروف وهو البلوغ، وحدُّه عندنا بالسن خمس عشرة سنة كاملة، وهو رواية عن مالك، وثانية: سبع عشرة (سنة)

(5)

(1)

"الصحاح" 2/ 636.

(2)

في (ف): يشتمل.

(3)

"النهاية في غريب الحديث" 1/ 21.

(4)

"الأفعال" ص 259.

(5)

من (ج).

ص: 387

وأشهرها: ثماني عشرة، وأما الإنبات عندنا فهو علامة عَلَى البلوغ في حق الكافر دون المسلم

(1)

، وفي مذهب مالك ثلاثة أقوال. ثالثها: يعتبر في الجهاد ولا يعتبر في غيره

(2)

.

الرابع: قوله: (قَدْ نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ) يصحح قول الواقدي وغيره أن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وأنه ابن ثلاث عشرة عند موته صلى الله عليه وسلم، ويرد قول من قَالَ: إنه ابن عشر سنين إذ ذاك، وصوب الإمام أحمد أن عمره إذ ذاك خمس عشرة سنة

(3)

.

الخامس: معنى (ترتع): ترعى، يقال: رتعت الإبل: إِذَا رعت.

السادس: (منى) الأجود صرفها، وكتابتها بالألف وتذكيرها، سميت بذلك لما يمنى بها من الدماء، أي: يراق، ومنه قوله تعالى:{مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)} [القيامة: 37].

السابع: في هذِه الرواية: أنه رآه يصلي بمنى، وفي رواية في "الصحيح": بعرفة

(4)

. وهو محمول عَلَى أنهما (قضيتان)

(5)

.

(1)

"الأوسط" 4/ 388 - 389.

(2)

"النوادر والزيادات" 1/ 269 - 270.

(3)

روى الخطيب في "تاريخه" من كلام ابن عباس عن نفسه قال: ولدت قبل الهجرة بثلاث سنين ونحن في الشعب، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة. وقال غير واحد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين. وقيل عن سعيد بن جبير عنه: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل عن ابن عباس: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ختين. وعنه: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا ابن خمس عشرة سنة.

انظر: "الطبقات الكبري" 2/ 365 - 372. "تاريخ بغداد" 1/ 173 - 174. "تهذيب الكمال" 15/ 161.

(4)

رواه مسلم (504/ 256) كتاب: الصلاة، باب: سترة المصلي.

(5)

في (ف): قصتان.

ص: 388

الوجه الرابع: في فوائده:

الأولى: جواز ركوب المميز الحمار، وما في معناه وأن الولي لا يمنعه من ذَلِكَ.

الثانية: صحة صلاة الصبي.

ثالثها: جواز صلاة الإمام إلى غير سترة، وهو دال عَلَى أن الصلاة لا يقطعها شيء، كذا ذكره ابن بطال في "شرحه"

(1)

، لكن البخاري بوب عليه: سترة الإمام سترة لمن خلفه. كما سلف، وحكى ابن عبد البر وغيره فيه الإجماع

(2)

.

قَالَ: وقد قيل: إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه؛ وقد قَالَ: (فلم ينكر ذَلِكَ عَلَيّ أحدٌ)

(3)

، نعم البيهقي ترجم عليه باب: من صلى إلى غير سترة، ثمَّ ذكر عن الربيع، عن الشافعي أن قول ابن عباس: إلى غير جدار يعني: -والله أعلم- إلى غير سترة

(4)

- قُلْتُ: ويؤيد هذا رواية البزار في حديث ابن عباس: وهو يصلي المكتوبة ليس شيء يستره يحول بيننا وبينه

(5)

. ورجاله رجال الصحيح -ثمَّ قَالَ البيهقي: وهذا يدل عَلَى خطأ من زعم أنه صلى الله عليه وسلم صلى إلى سترة، وأن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وأيده بما روى ابن أبي وداعة قَالَ: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه ليس

(1)

"شرح ابن بطال" 1/ 161 - 162.

(2)

"التمهيد" 4/ 197.

(3)

"الاستذكار" 6/ 162 - 163.

(4)

"معرفة السنن والآثار" 3/ 194 (4237، 4238، 4239).

(5)

رواه البزار في "مسنده" 11/ 201 - 202 (4951)، وابن خزيمة 2/ 25، 26 (838، 839).

ص: 389

بينه وبين الطواف سترة

(1)

.

رابعها: أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة، وعليه بوب أبو داود في "سننه"

(2)

، وما ورد من قطعه محمول عَلَى قطع الخشوع، وقوله:(قد نَاهَزْتُ الاحْتِلَامَ)، فيه ما يقتضي تاكيد عدم البطلان بمروره؛ لأنه استدل عَلَى ذَلِكَ بعدم الإنكار، وعدمه عَلَى من هو في مثل هذِه السن أدلَّ عَلَى هذا الحكم، وأنه لو كان في سن عدم التمييز لاحتمل أن يكون عدم الإنكار عليه لعدم مؤاخذته؛ لصغر سنه، فعدم الإنكار دليل عَلَى جواز المرور، والجواز دليل عَلَى عدم إفساد الصلاة.

خامسها: جواز إرسال الدابة من غير حافظ، أو مع حافظ غير مكلف.

سادسها: احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح منها، فإن المرور أمام المصلين مفسدة، والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة، فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار.

(1)

رواه أبو داود (2016)، والنسائي 2/ 67، 5/ 235، وابن ماجه (2958)، وأحمد 6/ 399، وأبو يعلى 13/ 119 (7173)، وابن خزيمة 2/ 15 (815)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 461، وفي "شرح مشكل الآثار""تحفة" 2/ 305 - 307 (948 - 950)، وابن حبان 6/ 127 - 129 (2363، 2364)، والبيهقي 2/ 273.

قال الحافظ المنذري في "مختصر سنن أبي داود" 2/ 434: في إسناده مجهول.

قال الحافظ في "الفتح" 1/ 576: رجاله موثقون إلا أنه معلول ثم أخذ في بيانها، وضعفه كذلك الألباني في "ضعيف أبي داود"(344)، و"السلسلة الضعيفة"(928).

(2)

"سنن أبي داود"(715) حيث قال: باب: من قال: الحمار لا يقطع الصلاة.

ص: 390

سابعها: أن عدم الإنكار حجة عَلَى الجواز؛ لكنه مشروط بانتفاء الموانع من الإنكار، وبالعلم بالاطلاع عَلَى الفعل.

ثامنها: إجازة من علم الشيء صغيرًا وأداه كبيرًا ولا خلاف فيه كما قَالَ ابن عبد البر

(1)

-ومن منع فقد أخطأه، وكذا العبد والفاسق إِذَا أديا في حال الكمال.

تاسعها: جواز الركوب إلى صلاة الجماعة، قَالَ المهلب: وفيه أن التقدم إلى القعود لسماع الخطبة إِذَا لم يضر أحدًا والخطيب يخطب جائز، بخلاف إِذَا تخطى رقابهم.

ثمَّ اعلم أن حديث ابن عباس هذا خصه ابن عبد البر بالمأموم

(2)

، وحديث أبي سعيد (الخدري)

(3)

الآتي في بابه: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَئءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ"

(4)

الحديث عام في الإمام والمنفرد، وسيأتي لنا عودة إلى ذَلِكَ والكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.

واختلف أصحاب مالك فيما إِذَا صلئ إلى غير سترة في فضاء يأمن أن يمر أحد بين يديه.

فقال ابن القاسم: يجوز ولا حرج عليه.

وقال ابن الماجشون ومطرف: السنة أن يصلي إلى سترة مطلقًا

(5)

.

والأول قول عطاء وسالم والقاسم وعروة والشعبي والحسن.

(1)

"التمهيد" 9/ 21.

(2)

"التمهيد" 9/ 20.

(3)

من (ف).

(4)

سيأتي برقم (509) كتاب: الصلاة، باب: يرد المصلي من مرّ بين يديه.

(5)

انظر: "الذخيرة" 2/ 155.

ص: 391

وأما حديث محمود بن الربيع: فالكلام عليه من وجوهٍ:

أحدها:

هذا الحديث من أفراده

(1)

، أخرجه هنا، وفي الوضوء والدعوات

(2)

.

ثانيها: في التعريف برواته غير من سلف:

أما محمود (ع) فهو ابن الربيع بن سراقة بن عمرو بن زيد بن عبدة بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري

(1)

هكذا قال المصنف رحمه الله، وكأنه تبع في ذلك الحميدي حيث جعله في "الجمع بين الصحيحين" 3/ 478 من أفراد البخاري، وكذا المزي في "الأطراف"(11235) حيث أوهم أن البخاري انفرد بالتخريج لمحمود بن الربيع، ولم ينبه على أن مسلمًا أخرجه، وأيضًا ابن كثير فلما ذكر سند محمود بن الربيع في "جامع المسانيد" 5/ 428 (9279) وساق الحديث لم يعزه أيضًا لمسلم، وفي "الأطراف بأوهام الأطراف" للعراقي لم أجده كذلك، وقد نحا هذا النحو غير واحد إلا أن الحافظ ابن حجر تَنَبَّه لذلك -ومن قبله ابن القيسراني في "الجمع بين رجال الصحيحين" (1963) - وبَيَّن أنه وهم فقد أخرجه مسلم في "صحيحه" (33/ 265) بعد حديث (657) فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، عن محمود بن الربيع قال: إني لأعقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من دلو في دارنا. قال محمود: فحدثني عتبان بن مالك قال: قلت: يا رسول الله إن بصري قد ساء .. وساق قصة أخرى. ينظر كلام الحافظ في "النكت الظراف" 8/ 363 (11235)، و"الفتح" 11/ 151 - 152.

فائدة: قال الحافظ -مبينًا سبب ذلك الوهم-: قد أورد مسلم حديث عتبان بن مالك من طرق عن الزهري منها للأوزاعي عنه قصة محمود في المجة، ولم يتنبه لذلك الحميدي في جمعه فترجم لمحمود بن الربيع في الصحابة الذين انفرد البخاري بتخريج حديثهم، وساق له حديث المجة المذكورة، وكأنه لما رأى البخاري أفراده ولم يفرده مسلم ظن أنه حديث مستقل. اهـ "الفتح" 11/ 152.

(2)

سيأتي برقم (189)، باب: استعمال فضل وضوء الناس. و (6354) باب: الدعاء للصبيان بالبركة.

ص: 392

الخزرجي، أبو نعيم وقيل: أبو محمد مدني، مات سنة تسع وتسعين عن ثلاث وتسعين سنة

(1)

.

وأما الزبيدي (خ، م، د، س، ق) فهو: أبو الهذيل محمد بن الوليد الحمصي قاضيها الثقة الحجة المفتي الكبير، روى عن مكحول، والزهري، وغيرهما، وعنه محمد بن حرب، ويحيى بن حمزة، وهو أثبت أصحاب الزهري.

مات سنة سبع، وقيل: ثمان وأربعين ومائة وهو شاب. قاله أحمد بن محمد بن عيسى البغدادي، وقال ابن سعد: ابن سبعين سنة، روى لَهُ الجماعة سوى الترمذي

(2)

. ولم يستثن شيخنا قطب الدين في "شرحه" الترمذي، واستثناؤه هو الصواب.

فائدة:

الزبيدي -بضم الزاي- نسبة إلى زبيد، قبيلة من مذحج -بفتح الميم وسكون الذال المعجمة- ذكر الحازمي فيها اختلافًا، وإنما قيل لَهُ زبيد؛ لأنه قَالَ: من يزبدني فأجيب. يقال: زبدت الرجل. أي: أرضخته بمال

(3)

، وفي الحديث:"إنا لا نقبل زبد المشركين"

(4)

.

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 7/ 402 (1761). "الجرح والتعديل" 8/ 289 (1328). "تهذيب الكمال" 27/ 301 - 302 (5815)، "سير أعلام النبلاء" 3/ 519، 520 (126)، "شذرات الذهب" 1/ 116.

(2)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 465. "التاريخ الكبير" 1/ 254 (811). "الجرح والتعديل" 8/ 11 - 12 (494). "تهذيب الكمال" 26/ 586 - 591 (5673)، "سير أعلام النبلاء" 6/ 281 - 284 (122).

(3)

"لسان العرب" 3/ 1803، 1804، مادة:[زبد].

(4)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 10/ 447 (19659). وأبو عبيد في "الأموال" ص 111 (630)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 520 (33434)، وابن زنجويه =

ص: 393

وأما محمد بن حرب (ع) فهو الأبرش الخولاني الحمصي، سمع الأوزاعي وغيره، وتقضى دمشق، وهو ثقة، مات سنة أربع (وتسعين)

(1)

ومائة، روى لَهُ الجماعة إلا مسلمًا، (كذا استثناه في "الكمال"

(2)

والمزي أثبته

(3)

.

الوجه الثالث:

المج: إرسال الماء من الفم مع نفخ، وقيل: لا يكون مجًّا حتَّى يباعد به. وفعل صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأجل البركة منه صلى الله عليه وسلم.

والدلو -بفتح الدال- وفيه لغتان التذكير والتأنيث.

وفيه: جواز سماع الصغير وضبطه بالسن وهو مقصود الباب، وحديث محمود ظاهر فيه دون حديث ابن عباس، فإن من ناهز الاحتلام لا يسمى صغيرًا عرفًا.

وقد اختلف العلماء في أول سن يصح فيه سماع الصغير، فقال

= في "الأموال" 2/ 587 - 588 (963 - 965)، والطحاوي في "مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 6/ 194 - 195 (4125 - 4126)، والطبراني في "الكبير" 17/ 364 (998)، كلهم من طريق الحسن عن عياض بن حمار.

ورواه: أبو داود (3057). والترمذي (1577). والطيالسي 8/ 409 (1178)، 2/ 410 (1179). والبزار 8/ 424 (3494). والطبراني في "الكبير" 17/ 364 (999). والبيهقي 9/ 216. وابن عبد البر في "التمهيد" 2/ 11 - 12. كلهم من طريق يزيد بن عبد الله الشخير عن عياض بن حمار، وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(1281).

(1)

في (ف): وسبعين.

(2)

من (ف).

(3)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 470. "التاريخ الكبير" 1/ 69 (161). "الجرح والتعديل" 7/ 237 (1299). "تهذيب الكمال" 44/ 25 (5138)، "سير أعلام النبلاء" 9/ 57، 58 (17)، "شذرات الذهب" 1/ 341.

ص: 394

موسى بن هارون الحافظ: إِذَا فرق بين البقرة والدابة.

وقال أحمد بن حنبل: إِذَا عقل وضبط. فذكر لَهُ عن رجل أنه قَالَ: لا يجوز سماعه حتَّى يكون لَهُ خمس عشرة سنة فأنكر قوله وقال: بئس القول. وقال القاضي عياض: حدد أهل الصنعة ذَلِكَ أن أقله سن محمود بن الربيع ابن خمس، كما ذكره البخاري في رواية أخرى، أنه كان ابن أربع.

قَالَ ابن الصلاح: والتحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث من المتأخرين، فيكتبون لابن خمس سنين فصاعدا: سمع، وَلِدُونَ خمس: حضر أو أُحْضر، والذي ينبغي في ذلك اعتبار التمييز، فإن فهم الخطاب ورد الجواب كان مميزًا صحيح السماع، وإن كان دون خمس، وإن لم يكن كذلك لم يصح سماعه، وإن كان ابن خمس بل ابن خمسين.

قُلْتُ: وهذا نحو قول أحمد وموسى، وقد بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قَالَ: رأيت صبيًّا ابن أربع سنين قد حمل إلى المأمون قد قرأ القرآن ونظر في الرأي، غير أنه إِذَا جاع بكى

(1)

، وحفظ القرآن أبو محمد عبد الله بن محمد الأصبهاني وله خمس سنين، فامتحنه فيه أبو بكر بن المقرئ، وكتب له بالسماع، وهو ابن أربع سنين.

وحديث محمود لا يدل عَلَى التحديد بمثل سنه، وقال أبو عبد الله بن

أبي صفرة: أخرج البخاري في هذا الباب حديث ابن عباس ومحمود بن

(1)

ورد بهامش (س): روى هذِه الحكاية الخطيب في "الكفاية" بإسناده، وفي سندها أحمد بن كامل القاضي، وكان يعتمد على حفظه فيهم أهـ. وقال الدارقطني: كان متساهلًا، نقله عنه الذهبي في "المغني".

ص: 395

الربيع، وأصغر في السن منهما عبد الله بن الزبير -ولم يخرجه- يوم رأى أباه يختلف إلى بني قريظة في غزوة الخندق، قَالَ لأبيه: يا أبتاه، رأيتك تختلف إلى بني قريظة فقال: يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن آتيه بخبرهم، والخندق عَلَى أربع سنين من الهجرة، وعبد الله أول مولود وُلد في الهجرة

(1)

.

قُلْتُ: حديث عبد الله هذا أخرجه البخاري كما سيأتي، وكذا مسلم

(2)

.

وعبد الله ولد في السنة الأولى، وقيل: عَلَى رأس عشرين شهرًا من الهجرة.

واختلف في غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب؛ فقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس، وكذا قَالَ ابن سعد وابن عبد البر

(3)

، وقال موسى بن عقبة: في شوال سنة أربع، ذكره البخاري كما سيأتي في موضعه.

وقال النووي: إنه الأصح

(4)

؛ لحديث ابن عمر: عرضت عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم

(1)

انظر في هذا: "المحدث الفاصل" 185 - 200، "الكفاية في علم الرواية" 103 - 118، "مقدمة ابن الصلاح" 128 - 131، "المقنع" 1/ 288 - 292، و"فتح المغيث" 2/ 3 - 17.

(2)

سيأتي برقم (3720) كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب الزبير بن العوام رضي الله عنه. ورواه مسلم (2416) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل طلحة والزبير رضي الله عنهما.

(3)

"سيرة ابن هشام" 3/ 229، "الطبقات الكبرى" 2/ 65، "الدرر في اختصار المغازي والسير" ص 179.

(4)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 8/ 177.

ص: 396

الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني

(1)

، ولا خلاف أن أحدًا في الثالثة، فيكون عُمر عبدِ الله بن الزبير أربعَ سنين عَلَى القول بأنه ولد في السنة الأولى من الهجرة، وأن الخندق كانت سنة خمس عَلَى القول الآخر، وهو المشهور في مولده، وأن الخندق في شوال سنة أربع، فيكون عمره سنتين وشهرًا، وهو دال لمن اعتبر التمييز ولم يقيده بالسنين.

(1)

سيأتي برقم (2664) كتاب: الشهادات، باب: بلوغ الصبيان وشهادتهم، ورواه مسلم (1868) كتاب: الإمارة، باب: بيان صن البلوغ، وأبو داود (2957)، والترمذي (1361)، والنسائي (3431)، وابن ماجه (2543)، وأحمد 2/ 17، وأبو عوانة (6475) واللفظ له.

ص: 397

‌19 - باب الْخُرُوجِ فِى طَلَبِ الْعِلْمِ

وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ.

78 -

حَدَّثَنَا أَبُو القَاسِمِ خَالِدُ بْنُ خَليٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْب قَالَ: قَالَ الأوزَاعِيُّ: أَخبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابن عَبَّاسِ، أَنَّهُ تَمَارى هُوَ وَالُحرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابن عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّى تَمَارَيتُ أَنَا وَصَاحِبِي هذا فِي صَاحِبِ مُوسَى الذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذكُرُ شَأنَهُ؟ فَقَالَ أُبَيُّ: نَعَمْ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأنَهُ يَقُولُ:"بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَتَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى. لَا. فَأَوْحَى اللهُ عز وجل إِلَى مُوسَى: بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ. فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الُحوتَ آيَةً، وَقيلَ لَهُ اِذَا فَقَدْتَ الُحوتَ فَارْجِعْ، فَإنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم يَتَبعُ أثَرَ الحُوتِ فِي البَحْرِ. فَقَالَ فَتَى مُوسَى لِمُوسَى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. قَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ". [انظر: 74 - مسلم 2380 - فتح: 1/ 173]

حدثنا أَبُو القَاسِمِ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ قاضي حمص، ثنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، ثنا الأَوْزَاعِيُّ: أَخْبَرَني الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى .. الحديث، كما سلف قريبا سواء، وأراد به الرحلة في طلب العلم برًّا وبحرًا، وترجم عليه فيما تقدم الذهاب في البحر

(1)

.

(1)

سبق برقم (74).

ص: 398

وفيه من الأسماء مما لم يسبق: عبد الله بن أنيس، والأوزاعي، وخالد بن خَلِيّ.

فأما عبد الله بن أنيس (م، 4) فهو: جهني، أنصاري حليفهم، عقبي، روى عنه أولاده: عطية، وعمرو، وضمرة، وغيرهم، شهد أُحدًا وما بعدها، واختلف في شهوده بدرًا، وهو الذي رحل إليه جابر فسمع منه حديث القصاص، وهو الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن (نُبيح)

(1)

العنزي فقتله.

لَهُ خمسة وعشرون حديثًا، روى له مسلم حديثًا واحدًا في ليلة القدر، وأخرج لَهُ أصحاب السنن الأربعة، ولم يذكره الكلاباذي وغيره فيمن روى لَهُ البخاري، وقد ذكر البخاري في كتاب: الرد عَلَى الجهمية فقال: ويذكر عن جابر بن عبد الله، عن عبد الله بن أنيس فذكره

(2)

. مات سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية

(3)

.

فائدة:

في أبي داود والترمذي عبد الله بن أنيس الأنصاري عنه ابنه عيسى، ولعله الأول، وفي الصحابة عبد الله بن أنيس، أو أنس، قيل: هو الذي رمى ماعزًا لما رجموه فقتله، وعبد الله بن أنيس قتل يوم اليمامة، وعبد الله بن أنيس العامري له وِفادة، وهو من رواية يعلى بن

(1)

في (ج): فليح.

(2)

سيأتي بعد رقمِ (7481) كتاب التوحيد والرد على الجهمية، باب قول الله {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} .

(3)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" للبغوي 4/ 66، "معجم الصحابة" لابن قانع 2/ 135 - 136 (603). "الاستيعاب" 3/ 7 (1485). "أسد الغابة" 3/ 179 (2822)، "الإصابة" 2/ 278 (4550).

ص: 399

الأشدق، وعبد الله بن أبي أنيسة قَالَ الوليد بن مسلم: حَدَّثَنَا داود بن عبد الرحمن المكي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قَالَ: سمعت حديثًا في القصاص لم يبق أحد يحفظه إلا رجل بمصر يقال له: عبد الله بن أبي أنيسة

(1)

.

وأما الأوزاعي: فهو أحد الأعلام، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد، وقيل: كان اسمه عبد العزيز، فسمى نفسه عبد الرحمن، أحد أتباع التابعين، كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس، ثمَّ تحول إلى بيروت فسكنها مرابطًا إلى أن مات، وقيل: إن الأوزاع قرية بقرب دمشق، سميت بذلك؛ لأنه سكنها في صدر الإسلام قبائل شتى، وقيل: الأوزاع: بطن من حمير، وقيل: من أوزاع. أي: فرق وبقايا مجتمعة من قبائل شتى، وقيل: كان ينزل الأوزاع فغلب ذلك عليه، وقال ابن سعد: الأوزاع بطن من هَمْدان

(2)

، والأوزاعي من أنفسهم.

روى عن عطاء ومكحول وغيرهما، ورأى ابن سيرين.

وعنه قتادة ويحيى بن أبي كثير، وهما من شيوخه وأمم، وكان رأسًا في العلم والعبادة، وكان أهل الشام والمغرب عَلَى مذهبه قبل انتقالهم إلى مذهب مالك، وسئل عن الفقه -يعني: استفتي- وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقيل: إنه أفتى في ثمانين ألف مسألة، مات بالحمام سنة سبع وخمسين ومائة في آخر خلافة أبي جعفر، وولد سنة ثمان وثمانين

(3)

.

(1)

انظر ترجمتهم جميعًا في: "أسد الغابة" 3/ 178 - 181 (2821 - 2825)، "الإصابة" 2/ 278 - 279 (4547 - 4551).

(2)

"الطبقات الكبرى" 7/ 488.

(3)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 5/ 326 (1034)، "معرفة الثقات" 2/ 83 =

ص: 400

وأما خالد بن خَلي: فهو: أبو القاسم الحمصي الكلاعي، انفرد به البخاري (عن مسلم)

(1)

وهو قاضي حمص، صدوق، أخرج له هنا، وفي التعبير، روى عن بقية وطبقته، وعنه ابنه محمد، وأبو زرعة الدمشقي، وأخرج لَهُ من أهل السنن النسائي فقط

(2)

.

وأما الحديث الذي رحل إليه جابر فهو في القصاص كما تقدم، وتد

ذكره البخاري في كتاب: الرد عَلَى الجهمية

(3)

آخر الكتاب، فقال:

ويذكر عن جابر بن عبد الله، عن عبد الله بن أنيس: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم

يقول: "يحشر (الله)

(4)

العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كلما

يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان"

(5)

لم يزد البخاري عَلَى

هذا، وقد ذكره كما ترى غير مجزوم به، وذكره هنا مجزومًا به،

فكأنه جزم بالرحلة دون الحديث (وألا)

(6)

يشكل عَلَى ما تقرر من

تعليفات البخاري كما سلف في الفصول أول الكتاب، وقد رواه

عبد الله بن عقيل عن جابر، وفيه أنه سمعه من عبد الله بن أنيس

بالشام ولفظه: "يُحْشَرُ العِبَادُ -أو النَّاسُ- عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا فيُنَادِيهِمْ

بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَن بَعُدَ كما يَسْمعه مَنْ قَرُبَ: أَنَا المَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ،

= (1063)، "الجرح والتعديل" 5/ 226 (1257)، "تهذيب الكمال" 17/ 307 - 308 (3918)، "سير أعلام النبلاء" 7/ 107 - 134 (48).

(1)

ساقطة من (ج).

(2)

انظر ترجمته في "التاريخ الكبير" 3/ 146 (498)، "الجرح والتعديل" 3/ 327 (1469)، "الثقات" لابن حبان 8/ 225، "تهذيب الكمال" 8/ 50 - 53 (1603)، "سير أعلام النبلاء" 10/ 640 - 641 (224).

(3)

سيأتي معك في ثنايا الكتاب (الرد على الجهمية) ويراد به (كتاب التوحيد) آخر الصحيح، وقوله (الرد على الجهمية) رواية صحيحة للمستلمي وأبي ذر.

(4)

ساقطة من (ف).

(5)

سبق تخريجه.

(6)

في (خ): ولا.

ص: 401

لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى يقْتصه مِنْهُ حَتَّى اللَّطْمَةُ" قَالَ: وكَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي عُرَاةً غُرْلًا؟ قَالَ: "بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ"

(1)

.

ومعنى: "فيناديهم" يأمر ملكا ينادي، أو يخلق صوتًا يسمعه الناس، وإلا فكلامه ليس بحرف ولا صوت

(2)

. وفي رواية أبي ذر: "فينادى" عَلَى ما لم يسم فاعله

(3)

.

(1)

رواه أحمد 3/ 495، والبخاري في "التاريخ الكبير" 7/ 169 - 170 (761)، وفي "الأدب المفرد"(970)، وابن أبي عاصم في "السنة"(514)، وفي "الآحاد والمثاني" 4/ 79 - 80 (2034)، والطبراني في "الأوسط" 8/ 265، 266 (8593)، والحاكم 2/ 437 وصحح إسناده، والبيهقي في "الأسماء والصفات" 1/ 196 - 197 (131)، 2/ 29 (600)، والخطيب في "الرحلة في طلب الحديث" ص 109 - 118 (31 - 33)، وفي "الجامع لأخلاق الراوي" 2/ 225 - 226 (1686)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" 1/ 389 - 390 (565)، والمزي في "تهذيب الكمال" 23/ 393، 394، قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 133: عبد الله بن محمد ضعيف -يعني: ابن عقيل. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 1/ 174: إسناده صالح. وحسنه الألباني في "الأدب المفرد"(970).

(2)

قلت: هذا الكلام من مذهب الأشاعرة المخالف لعقيدة أهل السنة والجماعة في الصفات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرسالة البعلبكية" ص 174 قوله:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقوله:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)} [مريم: 52] وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)} [طه: 11 - 13].

الآيات دليلٌ على تكليم سمعهُ موسى والمعنى المجرد لا يُسمع بالضرورة، ومن قال إنه يسمع فهو مكابر.

ودليل على أنه ناداه، والنداء لا يكون إلا صوتًا مسموعًا، لا يعقل في لغة العرب لفظ النداء لغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازًا. اهـ.

(3)

هكذا ذكر المصنف، ولم تُذْكر هذه الرواية في "اليونينية" 9/ 141.

ص: 402

(ومعنى: "غُرلا" غير مختونين و"بهما": أصحاء)

(1)

.

وهذا الطريق الذي سقناه أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده "

(2)

وغيره. ورواه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتاب "الرحلة"

(3)

من (حديثه)

(4)

عنه قَالَ: قدمت عَلَى أنيس مصر، ورواه كذلك من طريق أبي جارود العبسي عن جابر وهي ضعيفة

(5)

.

وذكر ابن يونس أيضًا قدومه إلى مصر في حديث القصاص، لكن لعقبة بن عامر، فيحتمل تعدد الواقعة، ووقع في كتاب ابن بطال أن الحديث الذي رحل بسببه جابر إلى عبد الله بن أنيس هو حديث الستر عَلَى المسلم

(6)

، وليس كذلك، فذاك رحل فيه أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر.

أخرجه الحاكم بإسناده، وأنه لما أتى إلى عقبة قَالَ: ما جاء بك؟ قَالَ: حديث لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري وغيرك، في ستر المؤمن؛ فقال عقبة: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ سَتَر مُؤمنًا في الدُّنيا عَلَى خزية سَتَرَهُ الله يومَ القِيامة" فقال أبو أيوب: صدقتَ، ثمَّ انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعًا إلى المدينة

(7)

.

(1)

ساقطة من (ج).

(2)

كما في "بغية الباحث" ص 32 (39) باب: الرحلة في طلب العلم.

قلت: إسناده ضعيف جدًّا: فيه الواقدي شيخ الحارث قال عنه الحافظ ابن حجر في "التقريب"(6175): متروك مع سعة علمه.

(3)

في هامش (س): رحلة جابر إلى الشام، أخرجها الإمام أحمد في "المسند" وقال: حدثنا يزيد بن هارون، أنا عمار بن يحيى

[باقي الكلام غير واضح بالأصل].

(4)

في (ف): حديث.

(5)

"الرحلة في طلب الحديث" ص 109 - 118 (31 - 33).

(6)

"شرح ابن بطال" 1/ 159.

(7)

"معرفة علوم الحديث" للحاكم ص 7 - 8.

ص: 403

فائدة:

رحل جماعات إلى حديث واحد من أماكن شاسعة. قَالَ عمرو بن أبي سلمة للأوزاعي: أنا ألزمك منذ أربعة أيام ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثًا. فقال: وتستقل ثلاثين حديثًا في أربعة أيام؟! لقد سار جابر إلى مصر واشترى راحلة يركبها حتَّى سأل عقبة عن حديث واحد وانصرف، وهذا قَدْ قدمناه.

وعن مالك أن رجلًا خرج إلى مسلمة بن مخلد بمصر في حديث سمعه

(1)

.

وعن ابن بريدة، أن رجلًا من الصحابة رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر في حديث سمعه. وعن سعيد بن المسيب: لقد كنت أسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد.

ورحل عُبيد الله بن عدي بن الخيار إلى عليّ بن أبي طالب بالعراق لحديثٍ واحدٍ، وأبو عثمان النهدي من العراق إلى المدينة في حديثٍ واحدٍ عن أبي هريرة، وابن الديلمي رَحَلَ من فلسطين إلى عبد الله بن عمرو بالطائف لحديثٍ واحدٍ، وأبو معشر من الكوفة إلى البصرة لحديث واحد بَلَغَه عن أبان بن أبي عياش، وشُعبة من البصرة إلى مكة -شرَّفها الله تعالى- ولم يرد الحج لحديث واحد، وعلي بن المبارك من مَرو إلى هارون بن المغيرة بالبصرة لحديث واحد،

(1)

رواه أحمد 4/ 104، والطبراني في "الكبير" 19/ (1067)، وفي "الأوسط" 6/ 72 (5827)، وفي "مسند الشاميين" 4/ 341 (3502)، قال الهيثمي في "المجمع" 1/ 134 رجال "الكبير" رجال الصحيح.

تنبيه: والرجل الذي رحل إلى مسلمة بن مخلد كما ذكر في الحديث هو: عقبة بن عامر.

ص: 404

وزيد بن الحباب رحل من البصرة إلى المدينة في حديث واحد، ومن المدينة إلى موسى بن علي بمصر، وصالح بن محمد جزرة رحل إلى خراسان بسبب حديث عن الأعمش

(1)

.

فائدة أخرى:

ذكر البخاري قريبًا الرحلة في المسألة النازلة وذكر فيه حديث المرضعة

(2)

ومن الدليل على الرحلة أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقًا يطلب به علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة"

(3)

الحديث بطوله. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الناسَ لكم تبعٌ وإنَّ رجالًا يأتونَكم مِنْ أقطارِ الأرضِ يَتَفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاسْتوصو ابهم خيرًا" أخرجه الترمذي، وفيه:"رجال مِنْ قِبل المشرق يتعلمون، فإذا جاءوكم فاسْتَوصوا بهم خَيْرا" قَالَ: وكان أبو سعيد إِذَا رآنا يقول: مرحبًا بوصيةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

وقال الشعبي: لو أن رجلًا سافر من أقصى الشام إلى أقْصَى اليمن، فحفظ كلمةً تنفعه فيما بقي من عمره، لم أر سفره يضيع

(5)

.

وقيل في قوله تعالى حكاية عن موسى صلى الله عليه وسلم: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60] جمع حقب وهو ثمانون سنة.

(1)

انظر في ذلك: "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" ص 229 - 233. "الرحلة في طلب الحديث" ص 109 - 165 (31 - 66). "جامع بيان العلم" 1/ 388 - 400 (563 - 578).

(2)

سيأتي برقم (88).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

رواه الترمذي (2650)، وابن ماجه (249)؛ وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(50).

(5)

رواه أبو نعيم في "الحلية" 4/ 313.

ص: 405

‌20 - باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ

71 -

حَدَّثَنَا مُحَمُّدُ بْنُ العَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ وَالْعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدى اللهِ الذِي أُرْسِلْتُ بِهِ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ إِسْحَاق: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَة قَيَّلَتِ الَماءَ. قَاعٌ: يَعْلُوهُ الَماءُ، وَالصَّفْصَفُ: الُمسْتَوِي مِنَ الأرْضِ. [مسلم: 2282 - فتح: 1/ 175]

حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ ثنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلُ مَا بَعَثَني اللهُ بِهِ مِنَ الهُدى وَالْعِلْم كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ وَالْعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَني اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَع بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدى اللهِ الذِي أُرْسِلْتُ بهِ". قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَان مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتِ المَاءَ. قَاعٌ: يَعْلُوهُ المَاءُ، وَالمُصطَفُّ:

(1)

المُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ.

(1)

في الأصل: وَالصَّفْصَفُ. وكذا باليونينية، وصوبها في الهامش إلى المصطف، وسيأتي تعليق المصنف على هذا الاختلاف.

ص: 406

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه مسلم في الفضائل من حديث حماد أيضًا

(1)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم خلا شيخ البخاري وشيخ شيخه. أما شيخه فهو: محمد بن العلاء (ع)، أبو كريب الهمداني الكوفي. روى عنه: مسلم أيضًا والأربعة وغيرهم وهو صدوق لا بأس به، وهو مكثر. قَالَ أبو العباس بن سعيد: ظهر لَهُ بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين

(2)

.

وأما شيخ شيخه فهو: أبو أسامة، (ع) حمَّاد بن أسامة بن زيد الهاشمي القرشي الكوفي، مولى الحسن بن علي أو غيره.

روى عن بريد وغيره، وأكثَرَ عن هشام بن عروة، لَهُ عنه ستمائة حديث. وعنه الشافعي وأحمد وغيرهما.

وكان ثقة ثبتًا صدوقًا. رُوي عنه أنه قَالَ: كتبت بأصبعي هاتين مائة ألف حديث.

مات سنة إحدى ومائتين وهو ابن ثمانين سنة فيما قيل، وليس في الصحيحين من هو بهذِه الكنية سواه

(3)

.

(1)

رواه مسلم (2282) باب: بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم.

(2)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 1/ 205 (244). "الجرح والتعديل" 8/ 52 (239). "تهذيب الكمال" 26/ 243 (5529)، "سير أعلام النبلاء" 11/ 394 - 398 (86)، "شذرات الذهب" 2/ 119.

(3)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 28/ 3 (113). "الجرح والتعديل" 3/ 132 (600). "تهذيب الكمال" 7/ 217 (1471). "مقدمة فتح الباري" ص 399.

ص: 407

وفي النسائي: أبو أسامة الرقي النخعي زيد بن علي بن دينار صدوق

(1)

. وليس في الكتب الستة من اشتهر بهذِه الكنية سواهما.

وبُريد -بضم أوله- وأبو بُردة، اسمه: عامر، عَلَى الأصح كما سلف.

وأبو موسى اسمه: عبد الله بن قَيْس كما سلف كل ذَلِكَ في باب: أي الإسلام أفضل؟.

ثالثها: قوله: (قَالَ إسحاق): كذا وقع في البخاري غير منسوب في غير ما موضع منه، وهو من المواضع المشكلة في البخاري، وهو يروي عن إسحاق جماعة، وقيل: إنه ابن راهويه.

قَالَ أبو علي الجياني: روى البخاري عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وإسحاق بن إبراهيم السعدي، وإسحاق بن منصور الكَوْسَج، عن حمَّاد بن أسامة. وروى مسلم أيضًا عن إسحاق بن منصور الكوسج، عن حماد أيضًا هذا كلامه

(2)

. وإسحاق هذا لا يخرج عن أحد هؤلاء ويظهر أن يكون ابن راهويه؛ لإكثار البخاري عنه. وقد حكى الجيَّاني عن ابن السكن الحافظ أن ما كان في كتاب البخاري عن إسحاق غير منسوب، فهو ابن راهويه.

رابعها: في ضبط ألفاظه ومعانيه:

فـ "الغيث": المطر وغِيثت الأرض فهي مغيثة ومَغْيُوثة، يقال: غاث الغيث الأرض إِذَا أصابها، وغاث الله البلاد يغيثها غيثًا.

(1)

انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 1/ 569 (2579). "الثقات" لابن حبان 8/ 251. "تهذيب الكمال" 10/ 99 (2122). "الكاشف" 1/ 418 (1750).

(2)

"تقييد المهمل" 3/ 973 - 974.

ص: 408

قوله: "نَقِيَّة" هو- بنون مفتوحة ثمَّ قاف مكسورة ثمَّ ياء مثناة تحت- أي: طيبة كما جاء في رواية مسلم

(1)

.

ورواه الخطابي وغيره بثاء مثلثة، ثمَّ غين معجمة، ثمَّ باء موحدة.

قَالَ: وهو: مستنقع الماء في الجبال والصخور

(2)

.

قَالَ القاضي: وهو تصحيف ولم نَرْوه إلا "نقية" -بالنون

(3)

- والذي ذكره الخطابي فيه قلب للمعنى؛ لأن الثغاب لا تنبت، وإنما يمكن حمله عَلَى الطائفة الثانية دون الأولى، وذكر بعضهم:"بقعة" بدل ذلك، والصحيح الأول وهو الرواية.

وقوله: (قَبِلَتِ المَاءَ) هو بالموحدة بعد القاف (والْكَلأَ): مقصور مهموز، يقع عَلَى الرطب واليابس من النبات كما قاله الجوهري وغيره

(4)

، ويطلق العشب والخلا عَلَى الرطب منه. وقال الخطابي

(5)

وابن فارس

(6)

: يقع الخلا عَلَى اليابس. وهو شاذ ضعيف، كما قاله النووي

(7)

.

ويقال لليابس: الهشيم والحشيش. قَالَ الجوهري: ولا يطلق الحشيش عَلَى الرطب

(8)

. وهو ما نقله البطليوسي في "أدب الكاتب" عن الأصمعي، ونقل عن أبي حاتم إطلاقه عليه.

(1)

برقم (2282) كتاب: الفضائل، باب: مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم.

(2)

"أعلام الحديث" 1/ 198.

(3)

"إكمال المعلم" 7/ 250.

(4)

"الصحاح" 1/ 69. و"لسان العرب" 7/ 3909.

(5)

"أعلام الحديث" 1/ 215.

(6)

"مجمل اللغة" 1/ 298.

(7)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 15/ 46.

(8)

"الصحاح" 3/ 1001.

ص: 409

وقوله: "أَجَادِبُ": هو: -بالجيم والدال المهملة- جمع جدب عَلَى غير قياس، وقياسه أن يكون جمع أجدب كما قالوا في جمع حسن: محاسن، وقياسه أن يكون جمع محسن، وفيه رواية ثانية: أنها بالمعجمة، حكاها القاضي، والخطابي وقال: هي صلاب الأرض التي تمسك الماء

(1)

.

قَالَ القاضي: لم يرو هذا الحرف في مسلم وغيره إلا بالدال المهملة من الجدب الذي هو ضد الخِصَب. وعليه شرح الشارحون وصحفه، فقال بعضهم: أحارب -بالحاء والراء المهملتين

(2)

- وليس بشيء كما قاله الخطابي.

وقال بعضهم: أجارد -بالجيم والراء والدال- وهو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية. قَالَ الأصمعي: الأجارد من الأرض: التي لا تنبت الكلأ، معناه: أنها جرداء بارزة لا يسترها النبات. وقال بعضهم: إنما هي أخاذات -بالخاء والذال المعجمتين سقط منها الألف- جمع أخاذة وهي: المساكات التي تمسك الماء كالغدران

(3)

.

وقوله: (وَسَقَوْا)(يقال)

(4)

: سقى وأسقى بمعنى، وقيل: سقاه: ناوله (ليشرب)

(5)

وأسقاه: جعل لَهُ سقيا.

وقوله: (طَائِفَةً أُخْرى) أي: قطعة أخرى.

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 249 - 250. "أعلام الحديث" 1/ 198.

(2)

لا حاجة إلى تقييد الراء بالإهمال، إذ لا نظير لها، كما يأتي تنبيه سبط بن العجمي على ذلك مرارًا.

(3)

ذكره المازري في "المعلم" 2/ 350.

(4)

في (ج): (يعني).

(5)

في (ف): الشرب.

ص: 410

و"القيعان" -بكسر القاف- جمع قاع وهي الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها. ويجمع أيضًا عَلَى قوع وأقواع.

والقيعة: -بكسر القاف- بمعنى القاع، والفقه: الفهم كما سلف.

وقوله: (مَنْ فَقِهَ): ضم القاف فيه أشهر من كسرها، والوجهان مرويان.

وقوله: (قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قيَلَتِ المَاءَ) قيده الأصيلي: بالمثناة تحت. قَالَ: وهو تصحيف منه، وإنما هو بالباء الموحدة. وقال غيره: معناه: شربت القيل، وهو شرب نصف النهار، يقال: قيلت الأبل: إِذَا شربت نصف النهار. وقيل معناه: جمعت وحبست.

قَالَ القاضي: ورواه سائر الرواة غير الأصيلي: قبلت

(1)

. يعني: -بالموحدة- في الموضعين أول الحديث. وفي قول إسحاق، فعلى هذا إنما خالف إسحاق في لفظ (طائفة) جعلها مكان (نقية).

قوله: (والمصطف): المستوي من الأرض، كذا وقع في نسخ والصواب (وَالصَّفْصَفُ): المستوي من الأرض وكذا ذكره البخاري في كتاب التفسير في سورة طه، وهذا إشارة إلى تفسير قوله تعالى:{قَاعًا صَفْصَفًا} [طه: 106].

خامسها: هذا الحديث من بديع كلامه ووجيزه وبليغه صلى الله عليه وسلم في السَّبْر والتقسيم ورد الكلام بعضه عَلَى بعض، فإنه ذكر ثلاثة أمثلة ضربها في الأرض، اثنان منها محمودان، ثمَّ جاء بعده بما تضمنه ذَلِكَ فقال:"فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ" إلى آخره، فهو جامع لمراتب الفقهاء والمتفقهين، فالأول: مثل الأرض التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 249.

ص: 411

والعشب الكثير، فانتفعت بالري والتريي في نفسها، وانتفع الناس بالرعي بما أنبتت، فهذا كالذي فقه في نفسه، وكان قلبه نقيًّا من الشكوك، فعلم ما يحمله وعلمه الناس.

والثاني: مثل الأرض التي أمسكت الماءَ، فانتفع الناس به فشربوا وسقوا وزرعوا، فهذا كالذي حمل علما وبلغه غيره، فانتفع به ذَلِكَ الغير.

قَالَ القاضي: قوله: (وزرعوا) راجع إلى المثال الأول أيضًا؛ إذ ليس في المثال الثاني أنها أنبتت شيئًا

(1)

.

قُلْتُ: لكن المراد أنهم انتفعوا بالماء فزرعوا عليه، فلا حاجة إلى كونها أنبتت.

والثالث: مثل الأرض السباخ التي لا تنبت كلأً ولا تمسك ماءً، فهذا كالذي سمع العلم فلم يحفظه ولم يعه، فلم ينتفع ولم ينفع غيره.

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 250.

ص: 412

‌21 - باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ

وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ عِنْدَهُ شَيءٌ مِنَ العِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ.

80 -

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ، وَيَثْبُتَ الجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا". [81، 5231، 5577، 6808 - مسلم 2671 - فتح: 1/ 178]

81 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لأُحُدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأةً القَيِّمُ الوَاحِدُ". [انظر: 80 - مسلم: 2671 - فتح: 1/ 178]

حدثنا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، ثنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ العِلْمُ، وَيَثْبُتَ الجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا".

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لأحُدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرَّجَالُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ أمْرَأةً القَيِّمُ الوَاحِدُ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

ص: 413

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا في العلم عن شيبان، عن عبد الوارث به

(1)

، وأخرج الثاني عن محمد بن المثنى وبندار، عن غندر، عن شعبة (به)

(2)

، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر، [و]

(3)

عن أبي كريب، عن أبي أسامة (وعبدة)

(4)

؛ كلهم عن شعبة به ولفظه: "ويفشو الزنا ويذهب الرجال ويبقى النساء"

(5)

.

وفي بعض طرق "الصحيح": "ويكثر الجهل ويكثر الزنا" وفي أخرى: "ويكثر شرب الخمر"

(6)

.

ثانيها: في التعريف برجاله: وقد سلف التعريف بهم خلا عمران بن ميسرة وأبا التياح، ويحيى هو ابن سعيد القطان.

فأما أبو التياح فهو: بمثناة فوق ثمَّ مثناة تحت ثمَّ ألف ثمَّ حاء مهملة، واسمه يزيد بن حميد الضبعي من أَنْفَسِهم، وليس في الستة من يشترك معه في هذِه الكنية، وربما كني بأبي حماد، وهو ثقة ثبت صالح. وعنه ابن علية وغيره، مات سنة ثمانٍ وعشرين ومائة

(7)

.

(1)

برقم (2671/ 8) باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان.

(2)

ساقطة من (ج).

(3)

زيادة يقتضيها السياق؛ لأن أبا كريب شيخ الإمام مسلم.

(4)

في (ف): وعنه.

(5)

رواه مسلم (2671/ 9) كتاب: العلم، باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان.

(6)

ستأتي برقم (5231) كتاب: النكاح، باب: يقلُّ الرجال ويكثر النساء.

(7)

هو الإمام الحجة أبو التياح يزيد بن حميد الضبعي البصري. حدث عن أنس بن مالك، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، ومطرف بن الشخير، وأبي عثمان النهدي، وحمران بن أبان، وغيرهم. وعنه: سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، وهمام، وحماد بن سلمة وغيرهم، وثقه أحمد ويحيى بن معين، والنسائي.

مات سنة ثمان وعشرين ومائة، وقيل: بل توفي سنة ثلاثين ومائة. =

ص: 414

وأما عمران فهو: أبو الحسين المنقري البصري، روى عنه البخاري وأبو داود وأبو زرعة، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين

(1)

.

ثالثها: مناسبة قول ربيعة للتبويب في رفع العلم (أن من كان فيه فهم وقبول للعلم فلا يضيع نفسه بإهماله بل يقبل عليه ويهتم به، فإنه إِذَا لم يفعل ذَلِكَ أدى إلى رفع العلم)

(2)

؛ لأن البليد لا يقبل العلم فهو عنه مرتفع، فلو لم تصرف الهمة إليه أدى إلى رفعه مطلقًا.

ويحتمل أن المراد به أن العالم ينبغي له تعظيم العلم بأن لا يأتي أهل الدنيا؛ إجلالًا له، فإنه إِذَا أكثر منهم أداه ذَلِكَ إلى قلة الاشتغال والاهتمام به، ويحتمل معنى ثالثًا أن من هذا حاله لا يضيع نفسه بأن يجعله للأغراض الدنيوية، بل يقصد به الإخلاص؛ لتحصل له الثمرات الأخروية فيكون جامعًا للعلم والعمل به.

رابعها: في ألفاظه ومعانيه:

الأشراط: العلامات كما تقدم الكلام عليه في حديث جبريل،

= انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 238، "طبقات خليفة" ص 216، "التاريخ الكبير" 8/ 326 (3188)، "تهذيب الكمال" 32/ 109 - 112 (6978)، "سير أعلام النبلاء" 5/ 251 - 252 (115)، "شذرات الذهب" 1/ 175.

(1)

عمران بن ميسرة المنقري، أبو الحسن البصري الأدمي.

روى عن: نجادة بن سلم، وحفص بن غياث، وعباد بن العوام، وعبد الله بن إدريس، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، وعبد الوارث بن سعيد.

روى عنه، وأبو بكر محمد بن هانئ الأثرم، مات سنة ثلاث عشرين ومائتين.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 429 (2883)، "الجرح والتعديل" 6/ 306 (1699)، "الثقات" لابن حبان 8/ 498، "تهذيب الكمال" 22/ 363 - 364 (4508)، "الكاشف" 2/ 95 (4278).

(2)

ساقط من (ج).

ص: 415

والشَّرَط أيضًا: رذال المال، والأشراط:(الأرذال)

(1)

؛ فعلى هذا يكون المعنى: ما ينكره الناس من صغار أمورها قبل قيامها. ونقل الجوهري، عن يعقوب أن الأشراط: الأشراف أيضًا

(2)

. فهو إذن من الأضداد.

والمراد برفع العلم قبض أهله كما سيأتي قريبًا في باب: كيف يقبض العلم، وكذا قلته بموتهم لا بمحوه من الصدور، فيتخذ الناس عند ذَلِكَ رءوسًا جهالًا يتحملون في دين الله برأيهم، ويفتون بجهلهم. قَالَ القاضي عياض: وقد وجد ذَلِكَ في زمننا كما أخبر صلى الله عليه وسلم فنسأل الله السلامة والعافية في القول والعمل

(3)

.

قُلْتُ: فكيف لو أدرك زماننا؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقوله: (وَيَثْبُتَ الجَهْلُ) هو من الثبوت. قَالَ النووي: وكذا هو في أكثر نسخ مسلم

(4)

، وفي بعضها:"يبث" بمثناة تحت في أوله ثمَّ باء موحدة ثمَّ ثاء مثلثة أي: ينتشر.

وقوله: (وَيُشْرَبَ الخَمْرُ) أي: يشرب شربًا فاشيًا كما جاء في رواية: "ويكثر شرب الخمر"

(5)

.

والزنا: يمد ويقصر، والأولى: لغة أهل نجد، والثانية: لغة أهل الحجاز

وقوله: (لأحَدِّثَنَّكُمْ) كذا في البخاري، وفي "صحيح مسلم":

(1)

في (خ): الأراذل.

(2)

"الصحاح" 3/ 1136.

(3)

"إكمال المعلم" 8/ 167.

(4)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 16/ 221.

(5)

سيأتي برقم (5231) كتاب: النكاح، باب: يقل الرجال ويكثر النساء.

ص: 416

ألا أحدثكم

(1)

، بـ (ألا) التي للاستفتاح. وفيه أيضًا: لا يحدثكموه

(2)

.

ومراد أنس بذلك أن الصحابة انقرضوا ولم يبق من يحدث به غيره.

ويمكن أن يكون قَالَ ذَلِكَ لما رأى من نقص العلم فوعظهم بما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في نقصه وأنه من أشراط الساعة؛ ليحثهم عَلَى طلبه.

وقوله: (وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ وَيَقِلَّ الرِّجَالُ) قلة الرجال بكثرة القتل وذلك عند فتح القسطنطينية وما شابهها من الملاحم، فتكثر النساء إذ ذاك ويكثر الفساد.

و (القيم) والقيام: القائم بالأمر، أراد قبض المال فيكسب الإماء فيكون للرجل الواحد الإماء الكثيرة، أو بسبب قتل الرجال يكثر النساء (فيقل)

(3)

من يقوم بمصالحهن، أو إِذَا قل الرجال وغلب الشبق عَلَى النساء يتبع الرجل الواحد ما ذكر من النساء، كل واحدة تقول: انكحني.

وهذا الحديث علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم؛ حيث أخبر بقلة الرجال في آخر الزمان وكثرة النساء.

(1)

رواه مسلم برقم (2671/ 9) كتاب: العلم، باب: رفع العلم وقبضه.

(2)

سيأتي برقم 5231)، (6808) كتاب: الحدود، باب: إثم الزناة. ورواه مسلم (2671/ 9).

(3)

في (ج): فيقتل.

ص: 417

‌22 - باب فَضْلِ الْعِلْمِ

82 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدُّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ ابن عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لأَرى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الخَطَابِ". قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْعِلْمَ". [3681، 7006، 7007، 7027، 7032 - مسلم: 2391 - فتح: 1/ 180]

حَدَّثنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ ثنا اللَّيْثُ، حَدَّثَيي عُقَيْلٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ ابن عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لأَرى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِيَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ". قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْعِلْمَ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

الحديث أخرجه البخاري في التعبير عن يحيى بن بكير وعن قتيبة؛ كلهم

(1)

عن الليث، وعن عبدان وغيره من طرق

(2)

. وأخرجه مسلم في: فضائل عمر، عن قتيبة، عن ليث به، وعن غيره

(3)

.

ثانيها:

وجه مناسبة التبويب أنه عبر عن العلم بأنه فضلة النبي صلى الله عليه وسلم وناهيك به فضلًا، فإنه جزء من أجزاء النبوة.

(1)

بإضافة سعيد بن عفير، كما هنا، إليهم.

(2)

سيأتي برقم (7006) باب: الحلم من الشيطان.

(3)

رواه مسلم (2391) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر.

ص: 418

ثالثها: في التعريف برواته:

وقد سلفوا خلا حمزة وهو: أبو عمارة حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، تابعي سمع أباه وعائشة، وأمه أم ولد، وهي أم سالم وأم عبيد الله، وكان ثقة قليل الحديث

(1)

.

رابعها: قوله: (حَتَّى إِنِّي لأَرى الرِّيَّ) يحتمل أن يكون من باب النظر وبمعنى العلم فالري -بكسر الراء- يقال روي من الماء والشراب -بكسر الواو-، وَيرْوى -بفتحها-، رِيًّا -بالكسر- في الاسم والمصدر، وحكى القاضي عن الداودي الفتح في المصدر

(2)

.

وقال الجوهري: رِيًّا ورَيًّا، ورِوى مثل رِضى

(3)

. ومثله: رويت الأرض من المطر، وأما من الراوية فعكسه تقول: رويت الحديث أرويه رواية بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل، والرَّواء ما يروي من الماء إِذَا مددت فتحت الراء، وإذا كسرت قصرت.

وقوله: (فِي أَظْفَارِي) كذا رواه هنا ورواه في التعبير: "من أطرافي"

(4)

و"من أظافيري"

(5)

والكل واحد، والتأويل: ما يئول إليه الشيء، والتأويل: التعبير.

خامسها: رؤية اللبن في النوم يدل عَلَى الفطرة والسنة والعلم والقرآن؛ لأنه أول شيء يناله المولود من طعام الدنيا وبه تقوم حياته

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 5/ 203. "التاريخ الكبير" 3/ 47 (178). "معرفة الثقات" للعجلي 1/ 322 (358). "الجرح والتعديل" 3/ 212 (930)."تهذيب الكمال" 7/ 330 - 332 (1507).

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 303.

(3)

"الصحاح" 6/ 2364.

(4)

سيأتي برقم (7007) باب: إذا جرى اللبن في أطرافه أو أظافره.

(5)

سيأتي برقم (7006).

ص: 419

كما تقوم بالعلم حياة القلوب، فهو مناسب للعلم من هذِه الجهة، وقد يدل عَلَى الحياة وعلى الثواب؛ لأنه من نعيم الجنة إِذَا رأى نهرًا من لبن، وقد يدل عَلَى المال الحلال، وإنما أوله الشارع بالعلم في عمر؛ لعلمه بصحة فطرته ودينه والعلم زيادة في الفطرة.

ص: 420

‌23 - باب الفُتْيَا

وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا

83 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقتُ قَبْلَ أَنْ أذبَحَ؟ فَقَالَ:"اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ". فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ:"ارْمِ وَلَا حَرَجَ". فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ". [124، 1736، 1737، 1738، 6665 مسلم: 1306 - فتح: 1/ 180]

حدثنا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَيي مَالِكٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسألُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَقَالَ:"اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ". فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ:"ارْم وَلَا حَرَجَ". فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: "افْعَل وَلَا حَرَجَ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا قريبًا عن أبي نعيم، عن عبد العزيز، عن الزهري به

(1)

. وأخرجه في الحج عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، وعن سعيد بن يحيى، عن أبيه، عن ابن جريج، عن الزهري به

(2)

.

(1)

سيأتي برقم (124) كتاب: العلم، باب: السؤال والفتيا عند رمي الجمار.

(2)

سيأتي برقم (1736)، (1737) باب: الفتيا على الدابة عند الجمرة.

ص: 421

وأخرجه مسلم في المناسك من طرق، منها: عن يحيى بن يحيى، عن مالك

(1)

.

ثانيها: في التعريف برجاله:

وقد سلف التعريف بهم خلا عيسى وهو: أبو محمد عيسى بن طلحة بن عبيد الله القرشي، تابعي، ثقة، كثير الحديث من أفاضل أهل المدينة وعقلائهم أخو موسى ومحمد، مات سنة مائة

(2)

.

ثالثها:

مراد البخاري بهذا التبويب الاستدلال عَلَى جواز سؤال العالم وإن كان مشتغلًا، راكبًا وماشيًا وواقفًا وعلى كل أحواله ولو كان في طاعة، ولم يذكر هنا أنه كان عَلَى دابة؛ ليطابق ما بوب عليه لكنه ذكره في الحج، وفيه أنه كان عَلَى ناقته عندما سُئِلَ.

رابعها:

ذكر البخاري في روايته هنا أنه كان إذ ذاك بمنى، وذكر في موضع آخر أن ذاك (كان)

(3)

حال (خطبته)

(4)

يوم النحر، وفي موضع آخر: رأيته عند الجمرة؛ فيحتمل أن تكون الواقعة واحدة، وأن تكون متعددة بأن يكون السؤال وقع مرة عند الجمرة ومرة عند الخطبة، وللبخاري في

(1)

رواه مسلم (1306) باب: من حلق قبل النحر.

(2)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 385 (2719). "الجرح والتعديل" 6/ 279 (1550). "تهذيب الكمال" 22/ 615 - 617 (4631)، "سير أعلام النبلاء" 4/ 367، 368 (144)، "شذرات الذهب" 1/ 119. وورد بهامش الأصل: قال الذهبي في ترجمة عيسى: مات سنة مائة ظنًّا.

(3)

من (ج).

(4)

في (ج): خطبة.

ص: 422

موضع آخر من حديث ابن عباس: رميت بعدما أمسيت. قَالَ: "لا حرج"

(1)

. وهو دال على تعدد السؤال.

خامسها:

معنى (لَمْ أَشْعُرْ): لم أفطن، والحرج هنا: الإثم. أي: لا إثم عليك فيما فعلت، وهو إجازة لَهُ أيضًا.

سادسها:

وظائف يوم النحر أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثمَّ النحر، ثمَّ الحلق، ثمَّ طواف الإفاضة، هذا هو السنة في ترتيبها، فإن خالف صح ولا شيء عليه، ويروى عن الحسن وجماعة وجوب الدم وهو شاذ، وانفرد ابن الجهم المالكي فقال: القارن لا يجوز لَهُ الحلق قبل الطواف

(2)

.

ومنع مالك وأبو حنيفة من تقديم الحلق عَلَى الرمي

(3)

، ولأصحابنا وجه مثله منع من تقديم الحلق عَلَى الرمي والطواف معًا بناء عَلَى أنه استباحة محظور

(4)

، وعن أحمد أنه إِذَا قدم بعض هذِه الأشياء عَلَى بعض لا شيء عليه إن كان جاهلًا وإن كان عالمًا ففي وجوب الدم روايتان

(5)

. وقال ابن الماجشون فيمن حلق قبل الذبح بوجوب الفدية. وسيكون لنا عودة إلى الخوض في ذَلِكَ قريبًا، وفي كتاب الحج إن شاء الله تعالى ذَلِكَ وقدره، وقد بسطتُ القول فيه في "شرح

(1)

سيأتي برقم (1723) كتاب: الحج، باب: الذبح قبل الحلق.

(2)

"المنتقى" 3/ 30.

(3)

"التفريع" 1/ 343. "عيون المجالس" 2/ 840 - 841. "الهداية" 1/ 181 - 182.

(4)

"روضة الطالبين" 3/ 102 - 103.

(5)

"المغني" 5/ 320 - 323.

ص: 423

العمدة"

(1)

نفع الله به.

والفتيا والفتوى: الاسم، ولم يجئ من المصادر عَلَى فُعلى غير الفُتيا والرُّحبى وبُقْيَا ولُقْيَا

(2)

.

(1)

"شرح العمدة" 6/ 344 وما بعدها.

(2)

"تهذيب اللغة" 3/ 2731، مادة:[فتو]، "لسان العرب" 6/ 3348.

ص: 424

‌24 - باب مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ

84 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ فِي حَجُّتِهِ، فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ: "وَلَا حَرَجَ". قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَأَؤمَأَ بِيَدِهِ: "وَلَا حَرَجَ". [1721، 1722، 1723، 1734، 6666 - مسلم: 1307 - فتح: 1/ 181]

85 -

حَدَّثَنَا الَمكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَالمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يُقْبَضُ العِلْمُ، وَيَظْهَرُ الجَهْلُ وَالفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الهَرْجُ؟ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ القَتلَ. [1036، 1412، 3608، 3609، 4635، 4636، 6037، 6506، 6935، 7061، 7115، 7121 - مسلم: 157 - فتح: 1/ 182]

86 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَت: أَتَيْتُ عَائِشَةَ -وَهِيَ تُصَلِّي- فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ: سُبحَانَ اللهِ! قُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ: نَعَمْ - فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الغَشيُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأسِي الَماءَ، فَحَمِدَ اللهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ:"مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي حَتَّى الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ -مِثلَ أَوْ- قَرِيبَ- لَا أَدْرِي أي ذَلِكَ قَالَت أَسْمَاءُ- مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَجَّالِ، يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بهذا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ -أَوِ الُموقِنُ لَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ. ثَلًاثا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ. وَأمَّا المُنَافِقُ- أَوِ الُمرْتَابُ لَا أَدْرِي أي ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ". [184، 922، 1053، 1054، 1061، 1235، 1373، 2519، 2520، 7287 - مسلم: 905 - فتح: 1/ 182]

ص: 425

ذكر فيه ثلائة أحاديث:

الأول: حديث ابن عباس وهذا سياقته:

حَدَّثنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثنَا وُهَيْبٌ، ثنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ، فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ: "وَلَا حَرَجَ". قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: "وَلَا حَرَجَ".

وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الحج عن موسى، عن وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس

(1)

.

وأخرجه مسلم فيه عن محمد بن حاتم، عن بهز، عن وهيب به

(2)

.

وقد سلف التعريف برواته وفقهه.

الحديث الثاني:

حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"يُقْبَضُ العِلْمُ، وَيَظْهَرُ الجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الهَرْجُ؟ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ القَتْلَ.

الكلام عليه من أوجه:

أولها:

هذا الحديث أخرجه مسلم في العلم أيضًا عن ابن نمير وغيره؛ عن إسحاق بن سليمان؛ كلاهما عن حنظلة هو ابن أبي سفيان الجمحي به

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (1721) باب: الذبح قبل الحلق.

(2)

برقم (1307) باب: من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي.

(3)

برقم (2272) باب: رفع العلم وقبضه.

ص: 426

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم خلا مكي بن إبراهيم وهو: أبو السكن مكي (ع) بن إبراهيم بن بشير-بفتح الباء- ابن فرقد البلخي الحنظلي الحافظ، أخو إسماعيل ووالد الحسن ويعقوب.

سمع حنظلة وغيره من التابعين، وهو أكبر شيوخ البخاري من الخراسانيين؛ لأنه روى عن التابعين وروى مسلم والأربعة عن رجل عنه، وعنه روى أيضًا أحمد وغيره، وهو ثقة ثبت. روي عنه أنه قَالَ: حججت ستين حجة، وتزوجت ستين امرأة، وجاورت بالبيت عشر سنين، وكتبت عن سبعة عشر من التابعين، ولو علمت أن الناس يحتاجون إليَّ (لما)

(1)

كتبت عن أحد دون التابعين.

قَالَ: خرج بي أبي وأنا ابن إحدى عشرة سنة لم أعقل الطلب، فلما بلغت سبع عشرة سنة أخذت في الطلب ولد سنة ست وعشرين ومائة، ومات سنة أربع عشرة أو خمس عشرة ومائتين ببلخ

(2)

. وليس في الكتب الستة مكي بن إبراهيم غيره.

ثالثها: قَدْ سلف أن معنى قبض العلم: قبض أهله. وفي رواية لمسلم "وينقص العلم"

(3)

وكأنه -والله أعلم- قبل قبضه.

و (الْهَرْجُ) بإسكان الراء، وأصله الاختلاط والقتال، وكذا التهارج، ومنه يتهارجون تهارج الحمر أي: يختلطون رجالًا ونساء، ويتناكحون

(1)

في (ج): ما.

(2)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 8/ 71 (2199). "الجرح والتعديل" 8/ 441 (2011). "تهذيب الكمال" 28/ 476 - 482 (6170)، "سير أعلام النبلاء" 9/ 549 - 253 (214)، "شذرات الذهب"2/ 35.

(3)

برقم (157/ 12) بعد (2672) كتاب: العلم، باب: رفع العلم وقبضه.

ص: 427

مزاناة يقال: هرجها يهرجها مثلث الراء إِذَا نكحها.

وقيل: أصله الكثرة في الشيء، ومنه قولهم في الجماع: بات يهرجها ليلة جمعا. وقال ابن دريد: الهرج: الفتنة آخر الزمان

(1)

.

وقوله: (فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ القَتْلَ). جاء في رواية مسلم: قالوا: وما الهرْج؟ قَالَ: "القتل"

(2)

.

رابعها: فيه وفيما قبله وفي الحديث الذي بعده، فإن فيه الإشارة أيضًا دلالة عَلَى أن الإشارة كالنطق، وسيأتي في كتاب الطلاق -إن شاء الله وقدره- حكم الإشارة بالطلاق وبسط هذِه القاعدة وما يستثنى منها في حق من لا قدرة لَهُ عَلَى النطق، وفي حديث أسماء الآتي دلالة عَلَى جواز الإشارة في الصلاة والعمل القليل فيها، ومنه استنبط البخاري الفتيا بالإشارة.

الحديث الثالث:

حَدَّثنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثنا وُهَيْبٌ، ثنا هِشَامٌ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ -وَهِيَ تُصَلِّي- فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللهِ! قُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ برَأسِهَا، أَيْ: نَعَمْ- فقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الغَشْيُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأسِي المَاءَ، فَحَمِدَ اللهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: "مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي حَتَّى الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ -مِثْلَ أَوْ-قَرِيبَ- لَا أَدْرِي أي ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بهذا

(1)

"جمهرة اللغة" 1/ 469.

(2)

مسلم (176/ 11) بعد (2672).

ص: 428

الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ -أَوِ المُوقِنُ لَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدى، فَأَجَبْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ، وهُوَ مُحَمَّدٌ. ثَلًاثا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ. وَأَمَّا المُنَافِقُ- أَوِ المُرْتَابُ لَا أَدْرِي أي ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ- فَيَقُولُ لَا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع، هنا كما ترى، وفي الطهارة عن إسماعيل عن مالك

(1)

، وفي الكسوف عن عبد الله بن يوسف عن مالك

(2)

، وفي الاعتصام عن القعنبي عن مالك

(3)

، وفي الجمعة في باب: من قَالَ في الخطبة: أما بعد، وقال فيه محمود: ثنا أبو أسامة

(4)

.

وفي الخسوف: وقال أبو أسامة

(5)

، وفي السهو في باب الإشارة في الصلاة عن يحيى بن سليمان، عن ابن (وهب)

(6)

، عن الثوري مختصرًا

(7)

. وفي الخسوف مختصرًا: عن الربيع بن يحيى، عن زائدة

(8)

، وعن موسى بن مسعود، عن زائدة مختصرًا، وتابعه علي

(1)

سيأتي برقم (184) كتاب: الوضوء، من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل.

(2)

سيأتي برقم (1053) باب: صلاة النساء مع الرجال في الكسوف.

(3)

سيأتي برقم، (7287) باب: الاقتداء بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم.

(4)

سيأتي برقم (922).

(5)

سيأتي برقم (1061) باب: قول الإمام في خطبة الكسوف أما بعد.

(6)

في الأصل: وهيب.

(7)

سيأتي برقم (1235).

(8)

سيأتي برقم (1054) باب: من أحب العتاقة في كسوف الشمس.

ص: 429

عن الدراوردي

(1)

وعن محمد المقدمي، عن عثَّام في العتاقة

(2)

.

وأخرجه مسلم في الخسوف عن أبي كريب، عن ابن نمير، وعن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، عن أبي أسامة، كلهم عن هشام به

(3)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم غير أسماء وفاطمة.

أما أسماء فهي: بنت الصديق، وأم ابن الزبير من المهاجرات، هاجرَتْ إلى المدينة وهي حامل بعبد الله.

روى عنها ابناها عروة وعبد الله، وحفيدها عباد. عُمِّرَت نحو المائة، ولم يسقط لها سن ولم يتغير لها عقل، وقصتها مع الحجاج مشهورة، وعاشت بعد صلب ابنها عشر ليالٍ، ماتت بمكة سنة ثلاث وسبعين.

وهي ذات النطاقين، وكان مولدها قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة.

وأسلمت بعد سبعة عشر إنسانًا. وطلقها الزبير، قيل: لكبر سنها. وقيل: لأنه ضربها فصاحت بابنها عبد الله، فلما رآه قَالَ: أمك طالق إن دخلت. فقال عبد الله: تجعل أمي عرضة ليمينك، ودخل وخلصها فبانت منه. وقيل: إن عبد الله قَالَ لأبيه: مثلي لا توطأ أمه. فطلقها، وفيه نظر.

وروى مسلم عنها ويأتي في البخاري أيضًا في الغيرة، قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه، فكنت أعلفه وأكفيه مؤنته وأسوسه وأدق النوى لناضحه وأعلفه

(1)

سيأتي برقم (2519) باب: ما استحب من العتاقة في الكسوف.

(2)

سيأتي برقم (2520) باب: ما استحب من العتاقة في الكسوف.

(3)

رواه مسلم (905) كتاب: الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.

ص: 430

وأستقي الماء وأخرز غربه

(1)

وأعجن، وكنت أنقل النوى عَلَى رأسي من أرضه وهي عَلَى ثلثي فرسخ وفي طريق، ولم يكن علي أشد من سياسة الفرس

(2)

.

روي لها ستة وخمسون حديثًا، انفرد البخاري بأربعة، ومسلم بمثلها، واتفقا عَلَى أربعة عشر

(3)

.

وأما فاطمة: فهي بنت المنذر بن الزبير بن العوام زوج هشام بن عروة، روت عن جدتها أسماء. وعنها زوجها هشام ومحمد بن إسحاق، وأنكر عليه ونسب إلى الكذب في ذَلِكَ ولكنه ممكن، وهي تابعية ثقة، قَالَ هشام: هي أكبر مني بثلاث عشرة سنة. وقال مرة: أدخلت علي وهي بنت تسع سنين، فليحرر

(4)

.

ثالثها: في فقهه ومعانيه.

فيه: جواز الإشارة في الصلاة كما تقدم، والعمل القليل فيها.

و (الْغَشْيُ): قَالَ القاضي: رويناه في مسلم وغيره بكسر الشين مع تشديد الياء، وإسكان الشين والياء، وهما بمعنى الغشاوة. ورواه بعضهم بالعين المهملة، وليس بشيء كما نبه عليه صاحب "المطالع".

(1)

الغرب: الدلو العظيم. انظر: "الفائق في غريب الحديث" 3/ 61. "لسان العرب" 3/ 3227. "النهاية في غريب الحديث" 3/ 349، مادة:[غرب].

(2)

سيأتي برقم (5224) كتاب: النكاح، باب: الغيرة. ورواه مسلم (2182) كتاب: السلام، باب: جواز إرداف المرأة الأجنبية على الطريق.

(3)

انظر ترجمتها في: "الطبقات الكبرى" 8/ 249 - 255. "حلية الأولياء" 2/ 55 - 57 (138). "الاستيعاب" 4/ 344 - 346 (3259). "أسد الغابة" 7/ 9 - 10 (6698). "الإصابة" 4/ 229 - 230 (46).

(4)

انظر ترجمتها في: "معرفة الثقات" للعجلي 2/ 458 (2349). "الثقات" 5/ 301. "تهذيب الكمال" 35/ 265 - 266 (7956).

ص: 431

ومعنى (تَجَلاَّني): علاني، وأصله تجللني، وجُلُّ الشيء وجلالُهُ: ما غطي به، وذلك لطول القيام وكثرة الحر، ولذلك قالت: فجعلت أصب عَلَى رأسي الماء.

وفيه: أن الغشي الخفيف لا ينقض الطهارة. وقد عقد لَهُ البخاري بابًا كما ستعلمه في الطهارة.

وقوله: (إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي حَتَّى الجَنَّةُ وَالنَّارُ) يحتمل أن الرؤية رؤيا عين ولا مانع منه، ويحتمل أن يكون رؤية علم ووحي ممثلًا له، ويدل لَهُ رواية أنس في البخاري:"الجنة والنار ممثلنين في قبلة هذا الجدار"

(1)

.

وفي مسلم: "صوِّرتا لي فرأيتُهما"

(2)

، والأول أشبه لقوله في بعضها:"فتناولت منها عنقودًا" وتأخره مخافة أن تصيبه النار.

وفيه: أن الجنة والنار مخلوقتان الآن؛ وهو مذهب أهل السنة، وسيأتي بسط ذَلِكَ في باب صفة الجنة والنار -إن شاء الله ذَلِكَ وقدره- وهي خارجة عن أقطار السموات والأرض وسقفها عرش الرحمن، والمراد بعرضها في قوله تعالى:{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] السعة، كما قيل، لا ضد الطول.

وقوله: (مِثْلَ أوْ- قَرِيبَ) كذا في كثير من نسخ البخاري. قَالَ القاضي: وكذا رويناه عن الأكثر في "الموطأ"، ورويناه عن بعضهم:"مثلًا أو قريبًا"، (ولبعضهم "مثل، أو قريبا"، وهو الوجه وقال ابن مالك: يروى في البخاري "أو قريب" بغير تنوين والمشهور "أو قريبًا"

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (749) كتاب: الأذان، باب: رفع البصر إلى الأمام في الصلاة.

(2)

رواه مسلم برقم (2359/ 13) كتاب: الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم.

(3)

ساقطة من (ج).

ص: 432

ووجهه أن يكون أصله مثل فتنة الدجال أو قريبًا من فتنة الدجال، فحذف ما كان مثل مضافًا إليه، وترك عَلَى هيئته قبل الحذف، وجاز الحذف لدلالة ما بعده، والمعتاد في صحة هذا الحذف أن يكون مع إضافتين كقول الشاعر:

أَمامُ وخَلْفُ المَرْءِ مِنْ لُطْفِ ربِّهِ

يذرِي عَنْهُ مَا هُوَ يَحْذَرُ

(1)

وجاء أيضًا في إضافة واحدة كما هو في الحديث.

وأما رواية "قريب" بغير تنوين فأراد مثل فتنة الدجال، أو قريب الشبه من فتنة الدجال، فحذف المضاف إليه، وبقي "قريب" عَلَى هيئته، وهذا الحذف في المتأخر لدلالة المتقدم عليه قليل مثل قراءة ابن محيصن (لا خوفُ عليهم)

(2)

أي: لا خوف شيء وكقول الشاعر:

أَقُولُ لمّا جَاءَنِي فَخْرُهُ

سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الفَاخِرِ

(3)

أراد سُبحان الله فحذف المضاف إليه، وترك المضاف بحاله.

(1)

"شواهد التوضيح" ص 162.

(2)

انظر: "إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر" ص 134.

(3)

البيت للأعشى ضمن قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة العامري، ويمدح عامر بن الطفيل، لما تنازعا في الجاهلية على الرياسة في بني كلاب. وقد مات عامر مشركا، وأسلم علقمة، ولهذا ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن رواية القصيدة. يقول: أقول لما جاءني فخر علقمة على عامر: (سبحان من علقمة الفاخر)، أي أتعجب، سبحان الله منه، كذا خرجه بعضهم، وخرجه ابن فارس: بمعنى: ما أبعده، وبعضهم قال معنى (سبحان) في البيت: البراءة والتنزيه، وللراكب في "مفرداته" أقوال أخرى: ص 221.

وقد ورد البيت في "الكتاب" 1/ 324، "مجاز القرآن" 1/ 36، "معجم مقاييس اللغة"(سبح) 3/ 125، "الزاهر" 1/ 144، و"الطبري" 1/ 211، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 78، "الخصائص" 2/ 197، 435، "شرح المفصل" لابن يعيش 1/ 37، 120، "الديوان": ص 93.

ص: 433

يقول الشاعر: العجب منه إذْ يفخر.

وقولى: (مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ كُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي)، وفي حديث عائشة في مسلم:"رأيت في مقامي هذا كل شيء وُعدتم"

(1)

، وفي حديث جابر:"عرض علي كل شيء تولجونه"

(2)

وفي لفظ: "توعدونه"

(3)

. وهذا مبين لراوية أسماء.

ومعنى: (تُفْتَنُونَ) أي: تُمْتَحَنُونَ.

وفيه: دلالة عَلَى إثبات عذاب القبر، وهو مذهب أهل السنة، وفيه المساءلة في القبر. قَالَ أبو المعالي: تواترت الأخبار ولم يزل ذَلِكَ مستفيضًا قبل ظهور أهل البدع، والسؤال يقع عَلَى أجزاء يعلمها الله تعالى من القلب وغيره يحييها الله تعالى ويوجه السؤال عليها.

و"الْمَسِيحِ": -بفتح الميم كما في المسيح عيسى عليه السلام- فهو مسيح الهدى، والدجال مسيح الضلالة. وفرق بعضهم بينهما فقال في الدجال: المسيح بكسر الميم مع التشديد والتخفيف بخلاف (عيسى)

(4)

النبي عليه السلام.

وقيل: إن الدجال بالخاء المعجمة: الممسوخ العين، يقال: مسحه الله -بالمهملة- إِذَا خلقه خلقًا حسنًا بخلاف مسخه -بالمعجمة- فإنه عكسه، وقيل: سُميّ بالمهملة لمسح إحدى عينيه فيكون بمعنى ممسوح. وقيل: لمسحه الأرض فيكون بمعنى فاعل.

(1)

رواه مسلم (905) صلاة الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار.

(2)

رواه مسلم (9/ 904) الكسوف، باب: ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

رواه مسلم (904/ 10).

(4)

من (ج).

ص: 434

وأما عيسى عليه السلام فسمي بذلك لمسحه الأرض. وقيل: لأنه كان ممسوح الرجل لا أخمص له. وقيل: إن زكريا عليه السلام مسحه؛ فعلى الأول مسيح بمعنى فاعل، وعلى الثاني بمعنى مفعول.

وأما الدجال: فهو الكذاب سمي به؛ لتمويهه عَلَى الناس وتلبيسه عليهم. والدجل: طلي البعير بالقطران. فهو يموه بباطله، وسحره الملبَّس به. وقيل: لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير مثل دجلة تغطي الأرض بمائها.

والدجل: التغطية. يقال: دجل فلان الحق بباطله، أي: غطاه.

وقيل: سمي به لضربه نواحي الأرض، وقطعه لها. يقال: دجل الرجل بالتخفيف والتشديد مع فتح الجيم، ودجل بالضم أيضًا مخففًا.

وقوله: (يُقَالُ: مَا عِلْمُكَ بهذا الرَّجُلِ؟) إنما قَالَ الملكان ذَلِكَ ولم يقولا: رسول الله، امتحانًا وإغرابًا عليه؛ لئلا يتلقن منهما إكرام النبي صلى الله عليه وسلم ورفع مرتبته فيعظمه هو تقليدًا لا اعتقادًا، ولهذا يقول المؤمن: هو رسول الله، والمنافق: لا أدري، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت

وقوله: (قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ) هو بكسر (إن) مخففة من الثقيلة. وقيل: المعنى: إنك مؤمن كما قَالَ تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]. قَالَ القاضي: والأظهر أنها عَلَى بابها. والمعنى: إنك كنت موقنًا. وقد يكون المعنى: لموقنًا. أي: في علم الله كما قيل في قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] وكما قيل في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} .

وقوله: (نَمْ صَالِحًا) أي: لا روع عليك مما روع به الكفار من العرض عَلَى النار، أو غيره من عذاب القبر.

ص: 435

‌25 - باب تَحْرِيضِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الإِيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الحُوَيْرِثِ: قَالَ لنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ". [انظر: 628]

87 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابن عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَنِ الوَفْدُ"-أَوْ- "مَنِ القَوْمُ؟ ". قَالُوا: رَبِيعَةُ. فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى". قَالُوا: إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةِ بَعِيدَةٍ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُ هذا الَحيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكُ إِلَّا فِي شَهْرِ حَرَامٍ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِر بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، نَدْخُلُ بِهِ الَجنَّةَ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ باللهِ عز وجل وَحْدَهُ. قالَ:"هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ باللهِ وَحْدَهُ؟ ". قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إله إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَتُعْطُوا الخُمُسَ مِنَ المَغْنَمِ". وَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحنْتَمِ وَالمُزَفَّتِ. قَالَ شُعْبَةُ: رُبَّمَا قَالَ: النَّقِيرِ، وَرُبَّمَا قَالَ: الُمقَيَّرِ. قَالَ: "احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكمْ". [انظر: 53 - مسلم: 17 - فتح: 1/ 183].

حدثنا محمدُ بْنُ بَشَّارٍ ثنا غُنْدَرٌ ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابن عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَنِ الوَفدُ" -أوْ- "مَنِ القَوْمُ؟ ". قَالُوا: رَبِيعَةُ. فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى". قَالُوا: إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هذا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، نَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ. فَأْمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ .. الحديث. وفيه: قَالَ شُعْبَةُ: رُبَّمَا

ص: 436

قَالَ: النَّقِيرِ، وَرُبَّمَا قَالَ: المُقَيَّرِ. قَالَ: "احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ".

هذا الحديث تقدم الكلام عليه واضحًا في باب: أداء الخمس من الإيمان

(1)

فراجعه. وتقدم أن وفادتهم كانت عام الفتح قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة.

وأما حديث مالك بن الحويرث فأخرجه البخاري مسندًا في الصلاة، والأدب، وخبر الواحد -كما سيأتي إن شاء الله

(2)

- وأخرجه مسلم أيضًا

(3)

.

ومالك بن الحويرث جده حشيش فيه أقوال: أحدها: أنه بالحاء المهملة من الحشيش الذي يرعى. ثانيها: بالمعجمة المضمومة.

ثالثها: بالجيم. ووالده عوف بن جناع، واختلف في نسبه إلى ليث بن بكر بن عبد الله بن كنانة بن خزيمة. قدم مالك في ستة من قومه فأسلم، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا، ثمَّ أذن لَهُ في الرجوع إلى أهله. روي له خمسة عشر حديثًا، اتفقا عَلَى حديثين هذا أحدهما، والآخر في الرفع والتكبير، وانفرد البخاري بحديث.

نزل البصرة ومات بها سنة أربع وتسعين

(4)

.

وفيه من الفقه: تبليغ العلم وتعليم المؤمن أهله الإيمان والفرائض.

(1)

سلف برقم (53) كتاب: الإيمان.

(2)

سيأتي برقم (628) كتاب: الأذان، باب: من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد. (6008) كتاب: الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم. (7246) كتاب: أخبار الآحاد، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق.

(3)

رواه مسلم (674) كتاب: المساجد، باب: من أحق بالإمامة.

(4)

"معجم الصحابة" للبغوي 9/ 205. "معجم الصحابة" لابن قانع 3/ 45 (989).

"معرفة الصحابة" لأبي نعيم 5/ 2460 (2598). "الاستيعاب" 3/ 405 (2289).

"أسد الغابة" 5/ 20 (4580). "الإصابة" 3/ 342 (7617).

ص: 437

‌26 - باب الرِّحْلَةِ فِى الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ وَتَعْلِيمِ أَهْلِهِ

الرِّحْلة بكسر الراء: الارتحال، وبالضم: الوجه الذي يريد.

88 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلِ أَبُو الَحسَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ قَالَ: أَخبَرَنَا عُمَرُ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الَحارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابنةً لَأبِي اِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امرَأةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ [بِهَا]. فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلَا أَخْبَرْتنِي. فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ ". فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَت زَوْجًا غَيْرَهُ. [2025، 2640، 2659، 2660، 5140، -فتح: 1/ 184]

حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِل أَبُو الحَسَنِ أَنَا عَبْدُ اللهِ أَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابنة لأَبِي إِهَابِ بْنِ عَزِينر، فَاَتَتْهُ آمْرَأَ" فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ وَالَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا. فَقَالَ لَهَا عُقْبَةُ: مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي وَلَا أَخْبَرْتِنِي. فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ ". فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ، وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، وانفرد بعقبة بن الحارث أيضًا. أخرجه هنا كما ترى عن ابن مقاتل، عن عبد الله -هو ابن المبارك. وأخرجه في الشهادات عن حبان، عن ابن المبارك. وعن أبي عاصم، كلاهما عن عمر به

(1)

. وفي البيوع عن محمد بن كثير،

(1)

سيأتي برقم (2640) باب: إذا شهد شاهد، و (2660) باب: شهادة المرضعة.

ص: 438

عن الثوري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين

(1)

. وفي الشهادات أيضًا عن علي (عن)

(2)

يحيى بن سعيد، عن ابن جريج؛ ثلاثتهم عن ابن أبي مليكة به

(3)

.

وفي النكاح عن علي، عن ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن أبي مريم، ثمَّ قَالَ ابن أبي ملكية: وسمعته من عقبة ولكني لحديث عبيد أحفظ

(4)

.

ثانيها: في التعريف برجاله:

وقد سلف التعريف بهم غير عمر بن سعيد، وعقبة بن الحارث.

فأما عقبة فهو: ابن الحارث بن عامر بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي المكي أبي سروعة بكسر السين المهملة، وحكي فتحها.

أسلم يوم الفتح وسكن مكة، هذا قول أهل الحديث، وأما جمهور أهل النمسب فيقولون: عقبة هذا هو أخو أبي سروعة، وأنهما أسلما جميعًا يوم الفتح. قَالَ الزبير بن بكار: وأبو سروعة هو قاتل خبيب بن عدي.

أخرج لعقبة مع البخاري أبو داود والترمذي والنسائي، أخرج له البخاريُّ ثلاثةَ أحاديث في العلم، والحدود، والزكاة عن ابن أبي ملكية عنه أحدها هذا، ووافقه أبو داود والترمذي والنسائي.

وذكره بَقي بن مخلد فيمَنْ رَوى سبعةَ أحاديث، وقال أبو عمر: لَهُ حديث واحد ما أحفظ لَهُ غيره في شهادة المرأة عَلَى الرضاع. روى عنه

(1)

سيأتي برقم (2052) باب: تفسير المشبهات.

(2)

في (ج): بن وهو خطأ.

(3)

سيأتي برقم (2640) كتاب: الشهادات، باب: إذا شهد شاهد.

(4)

سيأتي برقم (5104) كتاب: النكاح، باب: شهادة المرضعة.

ص: 439

عبيد بن أبي مريم وابن أبي مليكة. وقيل: إن ابن أبي ملكية لم يسمع منه، وأن بينهما عبيد بن أبي مريم

(1)

.

تنبيه:

إيراد صاحب "العمدة"

(2)

هذا الحديث في كتابه يوهم أنه من المتفق عليه، وقد نبهناك عَلَى أنه من أفراد البخاري فاستفده.

تنبيه آخر:

ابنة أبي إهاب هي: أم يحيى بنت أبي إهاب -بكسر الهمزة- واسمها غنية -بغين معجمة مفتوحة ثمَّ نون ثمَّ مثناة تحت ثمَّ هاء- بنت أبي إهاب -ولا يعرف اسمه- ابن عزير-بفتح العين المهملة وكسر الزاي، وليس في البخاري عُزير بضم العين ثمَّ زاي- بن

(1)

"معجم الصحابة" لابن قانع 2/ 273 (298). "معرفة الصحابة" 4/ 2154 (2242). "الاستيعاب" 3/ 182 (1841). "أسد الغابة" 4/ 50 (3698). "الإصابة" 2/ 488 (5592).

(2)

يقصد به: الإمام الحافظ الكبير الصادق القدوة العابد الأثري المتبع عالمُ الحفاظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن رافع بن حسن بن جعفر المقدسي الجُمَّاعيلي ثم الدمشقي المنشأ الصالحي الحنبلي، صاحب "الأحكام الكبرى" و"الصغرى" ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة بجماعيل. سمع أبا الفتح ابن البطي، وأبا الحسن علي بن رباح الفراء، والشيخ عبد القادر الجيلي وهبة الله بن هلال الدقاق، وأبا زرعة المقدسي وغيرهم كثير. وحدَّث عنه الشيخ موفق الدين، والحافظ عز الدين محمد، والحافظ أبو موسى عبد الله الفقيه، والفقيه أبو سليمان وأولاده، والشيخ الفقيه محمد اليونيني، والزين بن عبد الدائم. وغيرهم كثير. توفي سنة ستمائة. انظر ترجمته في:"التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد" ص 370 (473)، "التكملة لوفيات النقلة" 2/ 17 - 19 (778)، "سير أعلام النبلاء"، "تذكرة الحفاظ" 4/ 1372 - 1374 (1112)، "البداية والنهاية" 13/ 46 - 47، "شذرات الذهب" 4/ 345 - 346.

ص: 440

قيس بن سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي.

تزوجها بعد عقبةَ ضريبُ

(1)

بن الحارث، فولدت لَهُ أم قتال زوجة جبير بن مطعم، فولدت له محمدًا، ونافعا.

وأم أبي إهاب: فاختة بنت عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي، وهو حليف لبني نوفل، روى أبو إهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الأكل متكئا، أخرجه أبو موسى في الصحابة، وأغفله أبو عمر وابن منده

(2)

.

وأما عمر فهو: ابن سعيد بن أبي حسين النوفلي. روى عن طاوس، وعطاء وعدة. وعنه يحيى القطان، وروح، وخَلْقٌ، وهو ثقة.

روى له مع البخاري مسلم والترمذي والنسائي (وابن ماجه)

(3)

، وأبو داود في "المراسيل"، وهو ابن عم عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين

(4)

.

ثالثها:

هذِه المرأة لا يحضرني اسمها بعد البحث عنه.

رابعها:

من أخذ بشهادة المرضعة وحدها أخذ بظاهر الحديث، ومن منع حمله عَلَى الورع دون التحريم، كما بوب عليه البخاري في البيوع

(1)

ورد بهامش (س): ثبت بخط الدمياطي نافع بن طريب بن عمرو بن نوفل.

(2)

"معرفة الصحابة" لأبي نعيم 6/ 3577 (4202). "أسد الغابة" 7/ 410 (7622). "الإصابة" 4/ 506 (1546).

(3)

ساقطة من (ج).

(4)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 159 (202). "الجرح والتعديل" 6/ 110 (583). "الثقات" لابن حبان 7/ 166. "تهذيب الكمال" 21/ 364 - 366 (4242)، "الكاشف" 2/ 61 (4560).

ص: 441

باب: تفسير الشبهات، ويشعر به قوله صلى الله عليه وسلم:"كيف وقد قيل؟ " والورع فيه ظاهر.

وقبلها ابن عباس والحسن وإسحاق وأحمد وحدها، وتحلف مع ذلك

(1)

.

ولم يقبلها الشافعي وحدها، بل مع ثلاث نسوة أخريات

(2)

، وقبلها مالك مع أخرى

(3)

.

ولم يقبل أبو حنيفة فيه شهادة النساء المتمحضات من غير ذكر

(4)

.

وقال الإصطخري: إنما يثبت بالنساء المتمحضات.

وفي الحديث شهادة المرضعة عَلَى فعل نفسها. وقال أصحابنا: لا تقبل، وكذا إن ذكرت أجرة عَلَى الأصح للتهمة.

وقيل: تقبل في ثبوت المحرمية دون الأجرة، وإن لم تذكر أجرة فالأصح قبول شهادتها، فإنها لم تجرَّ لنفسها نفعًا، ولم تدفع ضررًا.

وقيل: لا تقبل أيضًا كما لو قالت: أشهد أني ولدته

(5)

.

وادعى ابن بطال الإجماع عَلَى أن شهادة المرأة الواحدة لا تجوز في الرضاع وشبهه

(6)

.

وهو غريب عجيب فقد قبلها جماعة كما أسلفناه، وقبلها مالك وحدها، بشرط أن يفشو ذَلِكَ في الأهل والجيران فإن شهدت امرأتان

(1)

"المغني" 11/ 340.

(2)

"روضة الطالبين" 9/ 36.

(3)

"عيون المجالس" 3/ 1392.

(4)

"الهداية" 1/ 246.

(5)

"الشرح الكبير" 24/ 274. "روضة الطالبين" 9/ 36.

(6)

"شرح ابن بطال" 7/ 202 - 203.

ص: 442

شهادة فاشية فلا خلاف في الحكم بها عنده، وإن شهدتا من غير فشو أو شهدت واحدة مع الفشو ففيه قولان.

وفيه أيضًا: الرحلة في المسألة النازلة كما ترجم له، وهو دال على حرصهم على العلم وإيثارهم ما يقربهم من الله تعالى، والازدياد من طاعته؛ لأنهم إنما كانوا يرغبون في العلم للعمل به، ولذلك شهد الله تعالى لهم أنهم خير أمة أخرجت للناس.

ص: 443

‌27 - باب التَّنَاوُبِ فِى الْعِلْمِ

89 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ (ح). قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَالَ ابن وَهْبِ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارً لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ -وَهْيَ مِن عَوَالِي الَمدِينَةِ- وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإذَا نَزَلْتُ جِئتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِه، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكُ، فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ: طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: "لَا". فَقُلْتُ: الله أَكْبَرُ. [2468، 4913، 4914، 4915، 5191، 5218، 5843، 7256، 7263 - مسلم: 1479 - فتح: 1/ 185]

حدثنا أَبُو اليَمَانِ، أَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ ابن وَهْبٍ: أنا يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبِي ثَوْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ -وَهْيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ- وَكُنَّا نتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ، فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا، فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: لَا أَدْرِي. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمْ: أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: "لَا". قُلْتُ: اللهُ أَكْبَرُ.

ص: 444

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في المظالم والنكاح

(1)

.

وأخرجه مسلم في الطلاق

(2)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم خلا عبيد الله (ع) بن عبد الله بن أبي ثور، وهو قرشي نوفلي مولاهم.

روى عن ابن عباس، وعنه الزهري وكيره، وثق، وليس في الصحيحين لَهُ سوى هذا الحديث، وحديث ابن عباس: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر .. الحديث بطوله

(3)

. وهما في المعنى حديث واحد.

قَالَ البخاري: قَالَ مصعب: أبو ثور عداده في بني نوفل، وهو من الغوث بن (مُر بن أد)

(4)

بن طابخة بن إلياس بن مضر

(5)

.

(1)

سيأتي برقم (2468) كتاب: المظالم، باب: الغرفة المشرفة في السطوح. وبرقم (5218) كتاب: النكاح، باب: حب الرجل بعض نسائه أفضل من بعض.

(2)

برقم (1479) باب: في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، وقوله تعالى:{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} .

(3)

سيأتي برقم (2468) كتاب: المظالم، باب: الغرفة المشرفة في السطوح وغيرها.

رواه مسلم (1479) كتاب: الطلاق، باب: في الإيلاء واعتزال النساء.

(4)

في الأصل: (معد بن نزار) وورد بهامش الأصل: (مُر بن أد بن طابخة) وهو الأقرب للصواب، ففي كتب الأنساب: الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

(5)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 5/ 386 (1240). "الجرح والتعديل" 5/ 320 (1519). "الثقات" لابن حبان 5/ 65. "تهذيب الكمال" 19/ 68 - 69 (3650).

ص: 445

ثالثها:

قوله: (نتَنَاوَبُ)، يقال: ناب لي ينوب نوبا ومنابا، أي: قام مقامي. ويتناوب يتفاعل، والنوبة واحدة النوب

(1)

.

رابعها: في أحكامه وفوائده:

الأولى: الحرص عَلَى طلب العلم.

الثانية: أن طالب العلم ينظر في معيشته، ويحصل ما يستعين به في طلب العلم.

الثالثة: التناوب في العلم، وهو ما ترجم لَهُ البخاري.

الرابعة: قبول خبر الواحد، وأن الصحابة يخبر بعضهم بعضًا بما يسمع ويسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مرسل الصحابي، وسيأتي الكلام عَلَى الحديث (مبسوطًا في موضعه إن شاء الله ذلك وقدره)

(2)

.

(1)

"تهذيب اللغة" 4/ 3476، "لسان العرب" 8/ 4569، مادة:[نوب].

(2)

ساقطة من (ج).

ص: 446

‌28 - باب الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ

90 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِم، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ. فَمَا رَأَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظِةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَؤمِئِذٍ، فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ المَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الحَاجَةِ". [702، 704، 6110، 7159 - مسلم: 466 - فتح: 1/ 186]

91 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْن محَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْن بِلَالٍ الَمدِينِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ -يَزِيدَ مَوْلَى الُمنْبَعِثِ- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الُجهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلة رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ:"اعْرِفْ وِكَاءَهَا -أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا- وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ". قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاة -أَوْ قَالَ اَحْمَرَّ وَجْهُهُ- فَقَالَ:"وَمَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ المَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا". قَالَ: فَضَالَّةُ الغَنَمِ قَالَ: "لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ". [2372، 2427، 2428، 2429، 2436، 2438، 5292، 6112 - مسلم 1722 - فتح: 1/ 186]

92 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أَكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثمَّ قَالَ لِلنَّاسِ:"سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ". قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ". فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: "أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ". فَلَمَّا رَأى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللهِ عز وجل. [7291 - مسلم: 2360 - فتح: 1/ 187]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَني سُفْيَانُ، عَنِ ابن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ

ص: 447

قَيْسِ بْنِ أبِي حَازِمٍ، عَنْ أبِي مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا أَكَادُ أدْرك الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ. فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ المَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الحَاجَةِ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا كما ترى، وفي الصلاة عن محمد بن يوسف، عن سفيان. وعن أحمد بن يونس عن زهير

(1)

. وفي الأدب عن مسدد، عن يحيى

(2)

. وفي الأحكام في باب: الفتوى وهو غضبان، عن محمد بن مقاتل، عن عبد الله

(3)

.

وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى، عن هشام. وعن أبي بكر، عن هشام، ووكيع وعن ابن نمير، عن أبيه. وعن ابن أبي عمر، عن ابن عيينة كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس به

(4)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم خلا شيخ البخاري، وأبو مسعود: عقبة بن عمرو سلفت ترجمته وكررها شيخنا قطب الدين في "شرحه".

وشيخ البخاري هو: أبو عبد الله محمد بن كثير العبدي البصري، أخو سليمان بن كثير، وسليمان أكبر منه بخمسين سنة.

(1)

سيأتي برقم (702) كتاب: الأذان، باب: تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود. وبرقم (704) كتاب: الأذان، باب: من شكا إمامه إذا طوَّل.

(2)

سيأتي برقم (6110) باب: ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله.

(3)

سيأتي برقم (7159) باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان.

(4)

رواه مسلم (466) باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة.

ص: 448

روى عن أخيه سليمان وشعبة والثوري. وعنه البخاري وأبو داود، وغيرهما، وروى مسلم والترمذي والنسائي عن رجل عنه. مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين عن تسعين سنة.

قَالَ أبو حاتم: صدوق. وقال يحيى بن معين: لا تكتبوا عنه، لم يكن بالثقة. أخرج لَهُ مسلم حديثًا واحدًا في الرؤيا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه:"مَنْ رَأى مِنْكُم رُؤْيا" عن الدارمي عنه عن أخيه سليمان

(1)

.

فائدة:

ليس في الصحيحين محمد بن كثير غير هذا، وفي أبي داود والترمذي والنسائي محمد بن كثير الصنعاني. روى عن الدارمي، وهو ثقة اختلط بأَخِرِهُ

(2)

.

ثالثها:

معنى قوله: (لَا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلَانٌ) أنه كان رجلًا

(3)

ضعيفًا، فكان إِذَا طول به الإمام في القيام لا يبلغ الركوع

(1)

رواه مسلم (2269) باب: في تأويل الرؤيا.

ومحمد بن كثير انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 8/ 70 (311). "الثقات" لابن حبان 9/ 77 - 78. "تهذيب الكمال" 26/ 334 - 336 (5571). "تهذيب التهذيب" 3/ 683.

(2)

ضعفَّه أحمد بن حنبل وقال: هو منكر الحديث، يروي أشياء منكرة. وقال: لم يكن عندي ثقة. وقال يحيى بن معين: كان صدوقًا. وعنه قال: ثقة. وقال البخاري: ليِّن جدًّا. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يخطئ، ويغرب. مات سنة ست عشرة ومائتين. وقيل: سبع عشرة ومائتين. وقيل: ثماني عشرة أو تسع عشرة ومائتين.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 1/ 218 (684). "الثقات" 9/ 70. "تهذيب الكمال" 26/ 329 - 334 (5570). "تهذيب التهذيب" 3/ 682 - 683.

(3)

في هامش الأصل:

فائدة: الرجل الذي قال: يا رسول الله لا أدرك الصلاة. الحديث في "مسند أحمد" =

ص: 449

أو السجود إلا وقد ازداد ضعفًا عن اتباعه، فلا يكاد يركع معه ولا يسجد، كذا قاله أبو الزناد.

واستشكل القاضي ظاهرها وقال: لعل الألف زيدت بعد (لا) وقد رواه الفريابي: إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر

(1)

، وجاء في غير البخاري: إني لأدع الصلاة

(2)

، وفي لفظ: إني لأدع المسجد

(3)

، إن فلانًا يطيل بنا القراءة. والروايات يفسر بعضها بعضًا.

رابعها:

فيه الأمر بالتخفيف، وما ورد من إطالته صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان محمول عَلَى تبيين الجواز أو أنه علم من حال من وراءه في تلك الصلاة إيثار التطويل، وسيأتي بسط ذَلِكَ في موضعه إن شاء الله تعالى.

الحديث الثاني:

حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ المسندي، ثنَا أَبُو عَامِرٍ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ المَدِينِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ -يَزِيدَ مَوْلَى المُنْبَعِثِ-

= من حديث معاذ بن رفاعة عن رجل من بني سلمة يقال له: سليم، فقال: يا رسول الله إن معاذ بن جبل يأتينا بعد ما ننام، ونكون في أعمالنا بالنهار، فينادي للصلاة إلى قوله: فقال: "يا معاذ، لا تكن فتانًا" وهو القائل: لا أحسن دندنتك ولا دندة معاذ .. وهو بقية هذا الحديث، وفي "المسند" من حديث أنس قال: كان معاذ يؤم قومه، فدخل حرام يريد أن يسقي نخله، إلى أن قال: فتجوز في صلاته، ولحق بنخله يسقيه، فقال: إنه منافق، وفي آخره:"أفتان أنت؟ " كذا قال في الحديث مرتين، فقال: اقرأ باسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها ونحو ذلك.

وقال ابن شيخنا العلامة البلقينى في "مبهماته": لم أره مثبتًا، لكن في "مسند أبي يعلى" ما يدل على أن الإمام أُبي بن كعب، وسنبسطه في تراجمه.

(1)

سيأتي برقم (704) كتاب: الأذان، باب: من شكا إمامه إذا طول.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 175 (7782).

(3)

لم أعثر على هذِه الرواية.

ص: 450

عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ:"اعْرِفْ وِكَاءَهَا -أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا- وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدهَا إِلَيْهِ". قَالَ: فَضَالَّةُ الإِبِلِ، فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ -أَوْ قَالَ احْمَرَّ وَجْهُهُ- فَقَالَ:"وَمَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ المَاءَ، وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا". قَالَ: فَضَالَّةُ الغَنَمِ قَالَ: "لَكَ، أَوْ لأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه في نحو عشرة مواضع، هنا كما ترى، وفي الشرب، في شرب الناس والدواب من الأنهار، عن إسماعيل، عن مالك

(1)

.

وفي اللقَطَة في مواضع، عن عبد الله بن يُوسف، عن مالِك

(2)

. وعن قُتيبة عن إسماعيل

(3)

. وعن عَمْرو بن العباس، عن ابن مهدي. وعن محمد بن يوسف؛ كلاهما عن سُفيان

(4)

. وفي الأدب عن محمد (عن)

(5)

إسماعيل بن جَعْفر؛ كلهم عن ربيعة

(6)

.

وفي الطلاق، في باب حُكْمِ المَفْقُودِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ، عن علي بن عبد الله، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن يزيد به

(7)

. وأخرجه

(1)

سيأتي برقم (2372).

(2)

سيأتي برقم (2429) باب: إذا لم يوجد صاحب اللقطة.

(3)

سيأتي برقم (2436) باب: إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة.

(4)

سيأتيان برقم (2427)، (2438).

(5)

في (س)، (ج): بن، والمثبت الموافق لما في "الصحيح".

(6)

سيأتي برقم (6112) باب: ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله.

(7)

سياقى برقم (5292).

ص: 451

في اللقطة أيضًا عن إسماعيل بن عبد الله، عن (سليمان)

(1)

، عن يحيى، عن يزيد به

(2)

.

وأخرجه مسلم في القضاء من طرق منها: عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن ربيعة

(3)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

أما زيد بن خالد، فهو: أبو طَلْحَةَ وقيل: أبو عبد الرحمن المدني من جهينة ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم -بضم اللام- بن الحاف بن قضاعة، شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح. ومات سنة ثمان وسبعين عن خمس وثمانين سنة بالمدينة، أو بمصر، أو بالكوفة، أقوال. وليس في الصحابة زيد بن خالد سواه

(4)

.

وأما الراوي عنه فهو: يزيد مولى المنبعث المدني. روى عن أبي هريرة، وزيد بن خالد. وعنه ربيعة، ويحيى بن سعيد، ثقة

(5)

.

وأما الراوي عنه، فهو: الإمام العلامة أبو عثمان ربيعة بن أبي

(1)

في الأصل: سفيان، والصواب ما أثبتناه كذا في مصادر التخريج.

(2)

سيأتي برقم (2428) كلتاب: اللقطة، باب: ضالة الغنم.

(3)

رواه مسلم (1722) كتاب: اللقطة.

(4)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" للبغوي 2/ 480. و"معجم الصحابة" لابن قانع 1/ 224 (249). و"معرفة الصحابة" لأبي نعيم 3/ 1189 (1029). و"الاستيعاب" 2/ 119 (850). و"أسد الغابة" 2/ 284 (1832). و"الإصابة" 1/ 565 (2894).

(5)

يزيد هذا قد سأل البرقانيُّ عنه الدارقطنيَّ، فقال: ثقة. وذكره ابن حبان في "ثقاته". وروى له الجماعة وأبو جعفر الطحاوي. وقال الذهبي: ثقة. وقال ابن حجر: صدوق من الثالثة. انظر ترجمته في: "الثقات" 5/ 533. و"الكاشف" 2/ 392 (6373). و"التقريب" ص 606 (7798). و"مغاني الأخيار" 3/ 110. و"سؤالات البرقاني" ص 40 (255).

ص: 452

عبد الرحمن، فروخ، مولى آل المنكدر، فقيه المدينة، صاحب الرأي، القرشي، مولاهم، التابعي.

روى عن: السائب بن يزيد وأنس وابن المسيب.

وعنه: مالك، والليث وخلق.

وهو ثقة، إمام صاحب معضلات أهل المدينة ورئيسهم في الفتيا، وهو أستاذ مالك، وحظي به، فقيل لَهُ: كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت نفسك؟ فقال: أما علمتم أن مثقالًا من دولة خيرٌ من حمل علم. وإذا قَالَ مالك: وعليه أهل بلدنا والمجتمع عليه عندنا، فإنه يعنيه.

قَالَ يونس بن يزيد: رأيت أبا حنيفة عند ربيعة وكان مجهوده أن يحفظ ما قاله ربيعة، تركه أبوه حملًا، ثمَّ عاد بعد سبع وعشرين سنة فوجده إمامًا، وله معه عند عوده قصة مشهورة، أَقْدَمه السفاحُ عليهِ الأنبارَ؛ ليوليه القضاء فلم يفعل وعرض عليه العطاء فلم يقبل. ومات بالمدينة. وقيل: بالأنبار سنة ست وثلاثين ومائة، في خلافة أبي العباس أول خلفائهم

(1)

. وباقي السند تقدم التعريف بهم

(2)

.

ثالثها:.

قوله: (اعْرِفْ وِكَاءَهَا -أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا) كذا جاء هنا عَلَى الشك وجاء في موضع آخر منه بغير شك: "اعْرِفْ عِفَاصَهَا ووِكَاءَهَا"

(3)

وفيه من حديث أُبي: وجدت صرة مائة دينار، فقال صلى الله عليه وسلم:"عرفها حولًا" فعرفتها

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 3/ 286 (976). و"معرفة الثقات" 1/ 358 (446). و"الجرح والتعديل" 3/ 475 (2131). و"تهذيب الكمال" 9/ 123 (1881)، "سير أعلام النبلاء" 6/ 89 - 96، "شذرات الذهب" 1/ 194.

(2)

ورد بهامش (س): واسم أبي عامر: عبد الملك.

(3)

سيأتي برقم (2372).

ص: 453

فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته، فقال:"عرفها حولًا" فعرفتها، فلم أجد، ثم أتيته ثلاثًا فقال:"احفظ وعاءها وعددها ووكاءها" الحديث. قَالَ الراوي: فلقيت، يعني: أبي بن كعب فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولًا واحدًا

(1)

.

وفي بعض طرق حديث زيد "اعْرِفْ وِكَاءهَا وَعِفَاصَهَا، وَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَإِلَّا فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ"

(2)

. وفي بعضها: "عرِّفها سنة، ثمَّ اعرف وِكاءها وعِفاصها، ثمَّ استنفق بها، فإن جاءَ ربُّها فأدِّها إليه"

(3)

وفي مسلم: "فإن جاء صاحبها فعَرِف عفاصها وعددها ووِكاءها، فأعْطِها إياه، وإلا فهي لك"

(4)

وفيه أيضًا: "ثمَّ عَرِّفها سنةً، فإنْ لم تعرف، فاستنفقها، ولتكن وديعةً عندك"

(5)

.

رابعها:

اللقطة: -بضم اللام وفتح القاف- وهو: الشيء الملقوط. قَالَ القاضي: لا يجوز غيره

(6)

. وقال النووي: إنه المشهور

(7)

.

قَالَ الأزهري، عن الخليل: إنها بالإسكان، وبالفتح: الرجل الملتقط.

قَالَ: والذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة ورواه الأخيار

(1)

سيأتي برقم (2426) كتاب: اللقطة، باب: إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه.

ورواه مسلم (1723) كتاب: اللقطة.

(2)

سيأتي برقم (5292).

(3)

سيأتي برقم (2436).

(4)

برقم (2722/ 6).

(5)

رواه مسلم برقم (1722/ 5).

(6)

انظر: "مشارق الأنوار" 1/ 362.

(7)

انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي" 12/ 20.

ص: 454

فتحها

(1)

. كذا قَالَ الأصمعي والفراء وابن الأعرابي. وفيه لغة ثالثة لقاطة بضم اللام، ولقط بفتحها، فهذِه أربع لغات، وقد جمعها ابن مالك في بيت فقال:

لُقاطة ولُقْطة ولُقَطَهْ

ولقَط ما لاقِطٌ قَدْ لَقَطَهْ

والالتقاط: وجود الشيء من غير طلب، وهي مختصة بغير الحيوان كما قاله الأزهري

(2)

، والحيوان يسمى ضالَّة وهوامي وهوافي بالفاء. قَالَ البيهقي: وظن مطرف أنهما بمعنى -أعني: الضالة واللقطة- واستشكل حديث الجارود: "ضالة المؤمن حرق النار"

(3)

ولا إشكال ولا نسخ لما لا من الفرق.

خامسها:

الوِكَاء -بكسر الواو وبالمد- الخيط الذي تُشد به الصُّرة وغيرها.

يقال: أوْكَيته إيكاءً، فهو مُوكى مقصور، والفعل منه مُعتل اللام بالياء، يقال: أوكى عَلَى ما في سقائه أي: شده بالوكاء، ومنه: أوكو قربكم، ومن أمثالهم بذاك أوكا وأوكي يوكي كأعطى يعطي إعطاء.

وأما المهموز، بمعنى آخر، تقول: أوكأت الرجل: أعطيته ما يتوكأ

(1)

انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3286 - 3287، مادة:"اللقط".

(2)

المصدر السابق.

(3)

رواه أحمد 5/ 8، والدارمي 3/ 1695 - 1696 (2643 - 2644)، والنسائي في "الكبرى" 3/ 414 (5792 - 5797)، وعبد الرزاق في "المصنف" 10/ 131 (18603)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 3/ 463 - 464 (1637 - 1641)، وأبو يعلى 3/ 109 (1539)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 133، وابن قانع في "معجم الصحابة" 1/ 154 ترجمة:(164). وابن حبان 11/ 248 (4887). والطبراني في "الصغير" 2/ 95 (846)، والبيهقي 6/ 190. والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" (620).

ص: 455

عليه، واتكأ عَلَى الشيء بالهمز فهو متكئ

(1)

.

سادسها:

الوِعاء بكسر الواو، ويجوز ضمها، وهي قراءة الحسن:{وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76] وهي لغة. وقرأ سعيد بن جبير: (إعاء أخيه)، بقلب الواو همزة، ذكره الزمخشري

(2)

.

والعِفاص: بكسر العين المهملة ثمَّ فاء، وهو: الوعاء من جلد أو غيره. ويقال أيضًا للجلد الذي يكبس رأس القارورة؛ لأنه كالوعاء لَهُ وهو المسمى بالصمام بكسر الصاد المهملة.

والسداد: بكسر السين المهملة، وهو بالفتح: القصد في الدين والسبيل. وقيل العفاص: ما يدخل فيه رأس القارورة ونحوها، والسداد والصمام: ما يدخل فيها، حكاه البطليوسي في "شرح أدب الكاتب".

سابعها:

الوَجنة: ما علا من لحم الخدين، وهي مثلثة الواو وفيها لغة رابعة أجنة بضم الهمزة، حكاهن الجوهري وغيره

(3)

.

والسِّقاء والحذاء، بكسر أولهما وبالمد، والحذاء: الخف. واستعار صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لها تشبيهًا بالمسافر الذي معه الحذاء والسقاء فإنه يقوى عَلَى قطع المفاوز، وذلك لأنها تشرب وتملأ أكراشها لما يكفيها الأيام.

(1)

انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3948، مادة:[وكي]، "لسان العرب" 8/ 4911، 4912، مادة:[وكأ].

(2)

انظر: "الكشاف" 2/ 485، "المحتسب" لابن جني 348/ 1.

(3)

انظر: "تهذيب اللغة" 4/ 3841 في مادة: [وجن]، "الصحاح" 6/ 2212.

ص: 456

ثامنها:

إنما أمره بمعرفة العفاص والوكاء؛ ليعرف صدق واصفها من كذبه، ولئلا يختلط بماله، ويستحب التقييد بالكتابة (خوف النسيان)

(1)

.

وعن ابن داود من الشافعية: أن معرفتهما قبل حضور المالك مستحب، وقال المتولي: يجب معرفتهما عند الالتقاط، ويعرف أيضًا الجنس والقدر وكيل المكيل وطول الثوب وغير ذلك ودقته وصفاقته.

تاسعها:

قوله: (ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً) الإتيان بـ "ثم" هنا دال عَلَى المبالغة وسعة التثبت في معرفة العفاص والوكاء، إذ كان وضعها للتراخي والمهلة، فكأنه عبارة عن قوله: لا تعجل وتثبت في عرفان ذَلِكَ، وهو مؤيد لما أسلفناه عن ابن داود.

العاشر:

الأمر بالاستمتاع بها أمر إباحة لا وجوب.

الحادي عشر:

قوله: (فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ) الرب، هنا المالك. أي: إذا تحقق صدق واصفها إما بوصفه لها بأمارة وإما ببينة وجب ردها إليه بعد تعريف الملتقط إياها، وفي التحليف عند وصفها قولان في مذهب مالك.

الثاني عشر:

غضبه صلى الله عليه وسلم، إنما كان استقصارًا لعلم السائل، وسوء فهمه، إذ لم يراع المعنى المشار إليه ولم يتنبه له فقاس الشيء عَلَى غير نظيره، فإن اللقطة إنما هي اسم للشيء الذي يسقط من صاحبه ولا يدري أين

(1)

في (ج): خوفا من النسيان.

ص: 457

موضعه، وليس كذلك الإبل، فإنها مخالفة اللقطة اسمًا وصفة، فإنها غير عادمة أسباب القدرة عَلَى العود إلى ربها لقوة سيرها.

وكون الحذاء والسقاء معها؛ لأنها ترد الماء ربعًا وخمسًا، وتمتنع من الذئاب وغيرها من صغار السباع، ومن التردي وغير ذلك، بخلاف الغنم، فإنها بالعكس، فجعل سبيل الغنم سبيل اللقطة.

الثالث عشر:

قوله: (قَالَ: فَضَالَّةُ الغَنَمِ؟ قَالَ: "لَكَ" .. ) إلى آخره أي: إنها مضيعة إن لم تأخذها أنتَ أخذها أخوك. أي: غيرك. أو أكلها السبع، وأبعد من قَالَ: المراد به هنا: صاحبها. ونبه بقوله: "أو للذئب" أنها كالتالفة عَلَى كل حالٍ.

الرابع عشر: في أحكامه:

وستأتي مبسوطة في بابه حيث ذكره إن شاء الله.

ونقدم هنا مسائل:

الأولى: جواز أخذ اللقطة، وهل هو مستحب أو واجب؟ فيه خلاف، وتفصيل محله كتب الفروع، والأصح عدم الوجوب.

ثانيها: وجوب التعريف سنة، وهو إجماع، كما حكاه القاضي، قَالَ: ولم يشترط أحد تعريف ثلاث سنين، إلا ما روي عن عمر، ولعله لم يثبت عنه

(1)

.

قُلْتُ: وقد روي عنه أنه يعرفها ثلاثة أشهر، وعن أحمد: يعرفها شهرًا، حكاه المحب الطبري في "أحكامه" عنه. وحكي عن آخرين: أنه يعرفها ثلاثة أيام، وحكاه عن الشاشي.

(1)

انظر: "إكمال المعلم" 6/ 10 - 11.

ص: 458

وحديث أُبي السالف مخالف لباقي الأحاديث، فيحمل عَلَى زيادة الاحتياط، ثمَّ هذا إِذَا أراد تملكها، فإن أراد حفظها عَلَى صاحبها فقط؛ فالأكثرون من أصحابنا عَلَى أنه لا يجب التعريف والحالة هذِه، والأقوى الوجوب

(1)

.

الثالثة: ظاهر الحديث أنه لا فرق بين القليل والكثير في وجوب التعريف وفي مدته، والأصح عند الشافعية أنه لا يجب التعريف في القليل سنة، بل يعرفه زمنًا يظن أن فاقده يعرض (عنه)

(2)

غالبًا، والأصح في ضابط الحقير من الأوجه الخمسة أنه ما يَقِل أسف فاقده عليه غالبًا

(3)

.

الرابعة: وجوب ردها إلى صاحبها بعينها أو ما يقوم مقامه بعد تعريفها، وأغرب الكرابيسي من الشافعية فقال: لا يلزمه ردها ولا رد بدلها

(4)

، وهو قول داود في البدل وقول مالك في الشاة.

الخامسة: لا فرق في إباحة الاستمتاع بها بعد التعريف بين الغني والفقير

(5)

، وأباحه أبو حنيفة للفقير

(6)

، وعن علي وابن عباس: يتصدق بها ولا يأكلها، وهو قول ابن المسيب، والثوري. وقال مالك: يستحب أن يتصدق بها مع الضمان

(7)

. وقال الأوزاعي في المال الكثير: يجعله في بيت المال بعد السنة.

(1)

انظر: "روضة الطالبين" 5/ 409.

(2)

في (ج): عليه.

(3)

انظر: "روضة الطالبين" 5/ 410.

(4)

انظر: "روضة الطالبين" 5/ 413.

(5)

انظر: "البيان" 7/ 531 - 532.

(6)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 140.

(7)

انظر: "المعونة" 2/ 224.

ص: 459

السادسة: امتناع التقاط ضالة الإبل إِذَا استغنت بقوتها عن حفظها، وخالف أبو حنيفة فقال: يجوز التقاطها مطلقًا

(1)

.

وعند الشافعية: يجوز للحفظ فقط، إلا أن توجد بقرية أو بلد فيجوز للتملك عَلَى الأصح

(2)

.

وعند المالكية ثلاثة أقوال في التقاط الإبل ثالثها: يجوز في القرى دون الصحراء.

قيل: نهي عن التقاطها إذ بقاؤها حيث ضلت أقرب لأن يجدها ربها من أن يطلبها في أملاك الناس أو للمنع من التصرف فيها بعد التعريف أو لأكلها أو لركوبها.

قالوا: وكان هذا أول الإسلام وعليه استمر الأمر في زمن أبي بكر، وعمر، فلما كان زمن عثمان وكثر فساد الناس واستحلالهم رأوا التقاطها وضمها والتعريف بها، وإن لم يأت لها صاحب بيعت ووقف ثمنها إلى أن يأتي صاحبها، وبه قَالَ مالك في رواية: لا يأخذها ولا يعرفها قبل ذَلِكَ؛ لما رأى من جور الأئمة

(3)

، وقال الليث: إن وجدها في القرى عرفها، وفي الصحراء لا يعرفها.

السابعة: في معنى الإبل كل ما امتنع بقوته (عن)

(4)

صغار السباع كالفرس والأرنب والظبي، وعند المالكية خلاف في ذَلِكَ، (ثالثها)

(5)

: (لابن القاسم)

(6)

يلحق البقر دون غيرها إِذَا كانت بمكان لا يخاف

(1)

انظر: "الهداية" 2/ 471.

(2)

انظر: "روضة الطالبين" 5/ 402 - 403.

(3)

انظر: "المنتقى" 6/ 139 - 140.

(4)

في (ج): من.

(5)

كذا بالأصل.

(6)

ساقطة من (ج).

ص: 460

عليها فيه من السباع

(1)

.

الثامنة: جواز التقاط الشاة إِذَا خيف إتلاف ماليتها عَلَى مالكها، وفي معناها كل ما يسرع إليها الفساد من الأطعمة فيأكله ويضمنه، وقال ابن القاسم: إِذَا وجدها في مفازة أو فلاة أكلها من غير تعريف ولا ضمان

(2)

، واستدل المازَري له بقوله:"هي لك" وظاهره التمليك والملك لا يعرَّف، وأجاب الأول بأن اللام للاختصاص.

التاسعة: التعريف يكون عَلَى العادة كما أوضحناه في كتب الفروع.

العاشرة: فيه جواز قول: رب المال ورب المتاع، ورب الماشية، بمعنى صاحبها، وأبعد من كره إضافته إلى ما له روح، دون الدار والمال ونحوه.

الحادية عشرة: جواز الحكم (والفتوى)

(3)

في حال الغضب، وتعوده وهو مكروه في حقنا بخلافه؛ لأن غضبه لله وهو مأمون، وقد حكم أيضًا للزبير في شراج الحرة في حال غضبه.

الثانية عشرة: إِذَا عرفها سنة لم يملكها حتَّى يحتازه بلفظ عَلَى (أصح الأوجه)

(4)

عندنا، وقيل: يكفي النية. وقيل: يملك بمضي السنة، وإن لم يرض بالتملك إِذَا كان قصد عند الأخذ التملك بعد التعريف

(5)

لأنه جاء في رواية لمسلم: "وإلا فهي لك"

(6)

.

(1)

انظر: "عقد الجواهر الثمينة" 3/ 989.

(2)

انظر: "المنتقى" 6/ 139.

(3)

في (خ): والفتيا.

(4)

في (خ): الأصح الأوجه.

(5)

انظر: "البيان" 7/ 531.

(6)

رواه برقم (1722/ 6).

ص: 461

الحديث الثالث:

ثنا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ:"سَلُونِي عَمَا شِئْتُمْ". قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ". فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: "أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ". فَلَمَّا رَأى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللهِ عز وجل.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع

(1)

: هنا كما ترى.

ثانيها: في الاعتصام في باب: ما يُكْره مِنْ كثرةِ السؤال، وفيه: فلمَّا رَأى عُمَرُ ما في وجهِهِ من الغضبِ؛ عن يوسف بن موسى

(2)

.

ثالثها

(3)

: في الفضائل، عن أبي كريب وعبد الله بن براد؛ كلهم عن أبي أسامة به

(4)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف، وحُذافة ولده عبد الله وهو السائل، وقد ذكره البخاري في الباب بعده أصرح منه.

ثالثها:

فيه النهي عن كثرة السؤال، وسيأتي حديث سعد: "إِنَّ أَعْظَمَ

(1)

بل في موضعين، كما عند المزي في "التحفة"(9052).

(2)

سيأتي برقم (7291).

(3)

الأولى أن يكتب هنا (ومسلم) كما عند المزي.

(4)

ليس في البخاري، ورواه مسلم (2360) كتاب: الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله.

ص: 462

المُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَل عَنْ شَيْءٍ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْل مَسْأَلتِهِ"

(1)

. وحديث المغيرة: النهي عن كَثْرَةِ السؤال

(2)

. وحديث أنَس أيضًا

(3)

، وكلها محمولة عَلَى السؤال تكلُّفًا وتعنتًا، وما لا حاجة لَهُ به كسؤال اليهود.

أما من سألَ لحادثة وقعت لَهُ فلا ذمُّ عليه بل هو واجب. قَالَ تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].

وأما قوله: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] فالنهي عن السؤال عما لا فائدة فيه، كما سيأتي -إن شاء الله- في كتاب التفسير عن ابن عباس قَالَ: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فنزلت الآية

(4)

.

ويجوز أن يكون (النهي)

(5)

عما لم يذكر في القرآن مما عفا عنه، فحرم من أجل ذَلِكَ كما سلف في الحديث، وربما كان في الجواب ما يسوء السائل، كما في الآية.

رابعها:

سبب غضبه صلى الله عليه وسلم كثرة السؤال وإحفاؤهم في المسألة وفيه إيذاء له، قَالَ تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] فلما أكثروا عليه قَالَ: "سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ" وأخبر بما سألوه، وسكوته عند قول عمر دليل عَلَى أنه إنما قَالَ ذَلِكَ غضبًا،

(1)

سيأتي برقم (7289) كتاب: الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه.

(2)

سيأتي برقم (2408) كتاب: في الاستقراض، باب: ما ينهى عن إضاعة المال.

(3)

انظر الحديث الآتي.

(4)

سيأتي برقم (4622) كتاب: التفسير، باب:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .

(5)

في (ج): للنهي.

ص: 463

وكأنه صلى الله عليه وسلم أجاز لهم ترك تلك المسائل، فلما سألوه أجابهم، ولما رأى عمر حرصهم وقدر ما علمه الله خشي أن يكون ذَلِكَ كالتعنت له، والشك في أمره؛ فقال: إنا نتوبُ إلى الله.

وقال في الحديث الأتي: (رضينا بالله ربًّا) .. إلى آخره، فخاف أن تحل بهم العقوبة لتعنتهم له، ولقوله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] ولهذا قَالَ لذلك السائل أين أبي؟ "هو في النار"؛ لأنه كان منافقًا مستوجبًا لها أو عاصيًا، وأبعد من قَالَ: إنه قاله عقابًا؛ لتعنته بسؤاله، فاستوجب ذلك.

خامسها:

قول الرجل: (مَنْ أبي؟) إنما سأله عن ذَلِكَ -والله أعلم- لأنه كان ينتسب إلى غير أبيه إِذَا لاحى أحدًا فنسبه صلى الله عليه وسلم إلى أبيه. قَالَ ابن بطال: وفي الحديث فهم عمر، وفضل علمه، وأن العالم لا يسأل إلا فيما يحتاج إليه

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 1/ 171 - 172.

ص: 464

‌29 - باب مَنْ بَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإِمَامِ أَوِ الْمُحَدِّثِ

93 -

حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ، فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ". ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: "سَلُونِي". فَبْرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيهِ فَقَالَ: رَضِينَا باللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا فَسَكَتَ. [540، 749، 4621، 6362، 6468، 6486، 7089، 7090، 7091، 7294، 7295 - مسلم: 2359 - فتح: 1/ 187]

حَدَّثنَا أَبُو اليَمَانِ قَالَ: أَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خرَجَ، فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: "أَبُوكَ حُذافَةُ". ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: "سَلُونِي". فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا باللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا فَسَكَتَ.

هذا الحديث تقدم الكلام عليه في الحديث قبله، وبرك عمر رضي الله عنه على ركبتيه أدب منه وإكرام للنبي صلى الله عليه وسلم، وشفقة عَلَى المسلمين؛ لئلا يؤذي أحد النبي صلى الله عليه وسلم فيهلك، وقد ظهر أثر ذَلِكَ بسكوته صلى الله عليه وسلم إذ ذاك. وفي بعض الروايات: فسكن غضبه

(1)

، فلم يزل موفقًا في رأيه ينطق الحق عَلَى لسانه. ورجال السند تقدم التعريف بهم.

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 5/ 83 (12806) من حديث أبي هريرة.

ص: 465

‌30 - باب مَنْ أَعَادَ الْحَدِيثَ ثَلَاثًا لِيُفْهَمَ عَنْهُ

فَقَالَ: "أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ". فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا. وَقَالَ ابن عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ بَلَّغْتُ؟ ". ثَلَاثًا. [انظر: 1742]

94 -

حَدَّثَنَا عَبْدَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ المثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْن عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا. [95، 6244 - فتح: 1/ 188]

95 -

حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا. [انظر: 94 - فتح: 1/ 188]

96 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ:"وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. [انظر: 60 - مسلم: 241 - فتح: 1/ 189]

حَدَّثَنَا عَبْدَةُ ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ المثَنَّى ثَنَا ثُمَامَةُ بْن عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا.

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ:"وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ". مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.

ص: 466

الكلام عَلَى ذَلِكَ من أوجه:

أحدها:

أما الحديث الأول وهو قوله: "أَلَا وَقَوْلُ الزورِ". هو حديث أبي بكرة، وسيأتي في كتاب: الأدب إن شاء الله بطوله

(1)

.

وأما الحديث الثاني فيأتي في خطبة الوداع إن شاء الله تعالى

(2)

.

وأما حديث أنس، فأخرجه البحاري في الاستئذان أيضًا عن إسحاق بن منصور، عن عبد الصمد به

(3)

، وهو من أفراده.

وأما حديث عبد الله بن عمرو فسلف في باب مَنْ رَفَعَ صوتَه بالعلم

(4)

.

ثانيها: في التعريف برواتب غير من سلف التعريف به:

وقد سلف التعريف بإسناد حديث عبد الله بن عمرو.

وأما حديث أنس، فثمامة -بضم الثاء المثلثة- أبو عمرو ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري، قاضيها.

روى عن جده، والبراء. وعنه عبد الله بن المثنى، ومعمر، وغيره.

وثقه أحمد والنسائي، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وأشار ابن معين إلى تضعيفه، وقيل: إنه لم يحمد في القضاء

(5)

.

(1)

سيأتي برقم (5976) باب: عقوق الوالدين من الكبائر.

(2)

سيأتي برقم (4403) كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع.

(3)

سيأتي برقم (6244) باب: التسليم والاستئذان ثلاثًا.

(4)

سلف برقم (60) كتاب: العلم.

(5)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 239، "التاريخ الكبير" 2/ 177 (2116)، "الجرح والتعديل" 2/ 466 (1839)، "تهذيب الكمال" 4/ 405 - 409 (854)، "سير أعلام النبلاء" 5/ 204، 205 (78)، "التقريب" (853). وقال: صدوق.

ص: 467

وذكر حديث الصدقات لابن معين فقال: لا يصح، يرويه ثمامة عن أنس، وهو في "صحيح البخاري" كما سيأتي

(1)

. وانفرد بحديث: كان قيس بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، وهو في البخاري أيضًا كما سيأتي

(2)

.

وروى حماد عنه، عن أنس، أنه صلى الله عليه وسلم صلى على صبي فقال:"لو نجا أحدٌ من ضمة القبر لنجا هذا الصبي" وهذا منكر

(3)

.

وأما الراوي عنه، فهو: أبو المثنى عبد الله (خ، ت، ق) بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، والد محمد، القاضي بالبصرة.

روى عن عمومته والحسن. وعنه ابنه وغيره.

قَالَ أبو حاتم وغيره: صالح. وقال أبو داود: لا أخرج حديثه

(4)

.

وأما الراوي عنه فهو أبو سهل عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان البصري التميمي العنبري، الحافظ الحجة. روى عن

(1)

سيأتي برقم (1448) كتاب: الزكاة، باب: العرض في الزكاة.

(2)

سيأتي برقم (7155) كتاب: الأحكام، باب: الحاكم يحكم بالقتل على من وجب عليه.

(3)

رواه الطبراني في "الأوسط" 3/ 146 (2753). وابن عدي 2/ 321 - 322. والضياء في "المختارة" 5/ 200 - 201 (1824 - 1826). كلهم من حديث أنس. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 47 (4260) وقال: رجاله موثقون. ورواه الطبراني 4/ 121 (3858) من حديث أبي أيوب، وصحح الألباني هذِه الرواية في:"الصحيحة"(2164).

(4)

أبو المثنى هذا: وثقة الترمذي والدارقطني. وسئل عنه أبو زرعة فقال: هو صالح.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 8/ 205 (659). "الجرح والتعديل" 5/ 177 (830). "تهذيب الكمال" 16/ 25 - 27 (3521). "مقدمة فتح الباري" ص 416.

ص: 468

شعبة وغيره. وعنه ابنه، وعبدة، والذهلي. مات سنة سبع ومائتين

(1)

.

وأما الراوي عنه، فهو: عبدة (خ، الأربعة) بن عبد الله بن عبدة الخزاعي الصفار.

روى عن عبد الصمد وغيره. وعنه البخاري والأربعة وابن خزيمة، وخَلْق.

وثقه النسائي، وقال أبو حاتم: صدوق. مات سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين

(2)

.

فائدة:

سلف لنا أيضًا عبدة بن سليمان.

وفي الكتب الستة: عبدة ثلاثة أخر: ابن سليمان المروزي، روى لَهُ أبو داود

(3)

، وابن عبد الرحيم (س) المروزي، روى له النسائي

(4)

، وابن

(1)

أبو سهل هذا: قال عنه ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. وقال أبو حاتم: صدوق صالح الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 300. "التاريخ الكبير" 6/ 1054 (1848). "الجرح والتعديل" 6/ 50 - 51 (269). "الثقات" لابن حبان 8/ 414. "تهذيب الكمال" 18/ 99 - 102 (3431). "سير أعلام النبلاء" 9/ 516 - 517 (198).

(2)

انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 6/ 90 (426). "الثقات" 8/ 437. "تهذيب الكمال" 18/ 537 - 539 (3616)، 1/ 677 (3528)، "التقريب" (4272).

(3)

هو عبدة بن سليمان المروزي، أبو محمد، ويقال: أبو عمرو، صاحب ابن المبارك نزل المصيصة، قال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مستقيم الحديث. انظر ترجمته في "التاريخ الكبير" 6/ 115 (1880). "الجرح والتعديل" 6/ 89 (458). "الثقات" 8/ 437. "تهذيب الكمال" 18/ 534 (3614).

(4)

هو عبدة بن عبد الرحيم بن حسان المروزي، أبو سعيد، نزيل دمشق. قال أبو حاتم: صدوق. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: شيخ صالح. وقال النسائي: ثقة. =

ص: 469

أبي لبابة (خ، م، ت، س، ق) رووا له خلا أبي داود

(1)

.

فائدة ثانية:

في الكتب الستة: عبد الصمد ثلاثة: هذا أحدهم، وثانيهم: ابن حبيب العوذي، أخرج لَهُ أبو داود وفيه لين

(2)

. وثالثهم: ابن سليمان (ت) البلخي الحافظ، عنه الترمذي

(3)

.

= وقال في موضع آخر: صدوق لا بأس به. وذكره ابن حبان في "الثقات". انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 6/ 90 (461). "الثقات" 8/ 436. "تهذيب الكمال" 18/ 539 (3617)، "التقريب" (4273).

(1)

هو عبدة بن أبي لبابة الأسدي الغاضري، مولاهم، ويقال: مولى قريش، أبو القاسم الكوفي البزار، نزيل دمشق، وهو خال الحسن بن الحر. قال يعقوب بن سفيان، وأبو حاتم، والنسائي، وابن خراش: ثقة. وزاد يعقوب: من ثقات أهل الكوفة. انظر ترجمته في: "الطبقات" 6/ 328. "التاريخ الكبير" 6/ 114 (1877). "معرفة الثقات" 2/ 108 (1149). "الجرح والتعديل" 6/ 89 (455). "تهذيب الكمال" 18/ 541 (3618).

(2)

عبد الصمد هذا ضعفه أحمد. وقال يحيى بن معين عندما سئل عنه: ليس به بأس. وليَّن حديثه أبو حاتم والبخاري وأحمد. انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 106 (1853). "الجرح والتعديل" 6/ 51 (271).

"الضعفاء الكبير" للعقيلي 3/ 83 (1052). "الكامل" 7/ 32 (1491). "تهذيب الكمال" 18/ 94 (3428). "تهذيب التهذيب" 2/ 579.

(3)

عبد الصمد هذا هو ابن سليمان بن أبي مطر العتكي، أبو بكر البلخي الأعرج الحافظ، لقبه عبدوس. ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: كان ممن يتعاطى الحفظ. قال ابن حجر: ثقة حافظ. انظر: ترجمته في "الثقات" 8/ 415. "تهذيب الكمال" 18/ 96 (3429). "تقريب التهذيب" 356 (4078). "تهذيب التهذيب" 2/ 580.

ص: 470

فائدة ثالثة:

ليس في الستة ثمامة بن عبد الله غير هذا، وفيهم ثمامة ستة غيره

(1)

.

ثالثها:

كرر صلى الله عليه وسلم الكلام ثلاثًا ليفهم عنه كما سلف ويحفظ أيضًا، فينقل عنه، قَالَ أبو الزناد: إنما كان كان يكرر الكلام والسلام إِذَا خشي أن لا يفهم عنه، أو لا يسمع كلامه، أو أراد الإبلاغ في التعليم والزجر في الموعظة.

وفي الحديث دلالة عَلَى أن الثلاث غاية ما يقع به البيان، إذ لم يتعده وقد جاء في حديث أبي موسى في الاستئذان:"إذا استأذنَ أحدُكم ثلاثًا"

(2)

الحديث، واختلف فيما إِذَا ظن أنه لم يسمع هل يزيد عَلَي الثلاث؟ فقيل: لا، عملًا بظاهر الحديث، وقيل: نعم.

(1)

هم:

1 -

ثمامة بن حزن بن عبد الله بن سلمة بن قشير القشيري البصري.

2 -

ثمامة بن شراحيل اليماني.

3 -

ثمامة بن شُفيّ الهمداني.

4 -

ثمامة بن عقبة المحملي الكوفي.

5 -

ثمامة بن كلاب.

6 -

ثمامة بن وائل بن حصين بن حمام.

انظر ترجمتهم في "تهذيب الكمال" 4/ 401 - 411 (851 - 857).

(2)

سيأتي برقم (6245) باب: التسليم والاستئذان ثلاثًا.

ص: 471

‌31 - باب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أَمَتَهُ وَأَهْلَهُ

17 -

أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ -هُوَ ابن سَلَامٍ- حَدَّثَنَا الُمحَارِبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاَثةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَبْدُ المَمْلُوكُ إِذَا أَدى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ [يَطَؤُهَا]

(1)

فَأَدَّبَهَا، فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ". ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ: أَعْطيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى الَمدِينَةِ. [2544، 2547، 2551، 3011، 3446، 5083 - مسلم: 154 - فتح: 1/ 190]

حدثنا مُحَمَّدٌ -هُوَ ابن سَلَامٍ - ثنَا المُحَارِبِيُّ ثنَا صَالِحُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ عَامِرٌ الشَعْبِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالْعَبْدُ المَمْلُوكُ إِذَا أَدى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَأَدَّبَهَا، فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ". ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ: أَعْطَيْنَاكَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى المَدِينَةِ.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع هذا أحدها. ثانيها: في العتق مختصرًا عن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن فضيل، عن

(1)

هذِه اللفظة ليست في "اليونينية" وفي هامشها مصححا أنها من رواية أبي ذر وابن عساكر وأبي الوقت والأصيلي. وستأتي في نص ابن الملقن.

ص: 472

مطرف، عن الشعبي

(1)

. وفيه أيضًا عن محمد بن كثير، عن الثوري، عن صالح

(2)

. ثالثها: في الجهاد، عن علي عن ابن عيينة

(3)

. رابعها: في النكاح عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد بن زياد كلاهما عن صالح به

(4)

. وفيه في رواية: "أعتقها ثمَّ أصدقها"

(5)

وأخرجه مسلم في الإيمان من طرق إلى الشعبي

(6)

. وفي النكاح مختصرًا أيضًا

(7)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم خلا صالح بن حيان، والمحاربي.

أما صالح: فهو أبو الحسن صالح بن صالح بن مسلم بن حيان.

ويقال: صالح بن حي -وحي لقب- الهمداني الكوفي الثوري ثور همدان، وهو ثور بن مالك بن معاوية بن دومان بن بكيل بن جشم بن خيوان (بن)

(8)

نوف بن همدان- وهو والد الحسن وعلي.

أخرج لَهُ البخاري في العتق والجهاد والنكاح والأنبياء من حديث الثوري، وابن عيينة، وغيرهما عنه، عن الشعبي، ونسبه هنا إلى جده

(1)

سيأتي برقم (2544) باب: فضل من أدب جاريته وعلمها.

(2)

سيأتي برقم (2547) باب: العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح سيده.

(3)

سيأتي برقم (3011) باب: فضل من أسلم من أهل الكتابين.

(4)

سيأتي برقم (5083) باب: اتخاذ السراري.

(5)

ذكره البخاري معلقًا بعد حديث (5083) كتاب: النكاح، باب: اتخاذ السراري ومن أعتق جاريته ثم تزوجها.

(6)

رواه برقم (154) كتاب: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

(7)

برقم (154/ 86) بعد (1365) كتاب: النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمته ثمَّ يتزوجها.

(8)

من (ج).

ص: 473

الأعلى. فقال: صالح بن حيان، وليس بصالح بن حيان القرشي الكوفي الذي يحدث عن أبي وائل وابن بريدة. وعنه يعلى بن عبيد، ومروان بن معاوية، فإن فيه نظرًا، قاله البخاري في "تاريخه"، نبه عَلَى ذَلِكَ الكلاباذي، وابن طاهر وغيرهما

(1)

.

وقال الدارقطني: هما رجلان أخرج لهما البخاري: صالح بن حي الهمداني وصالح بن حيان. وقال أحمد ويحيى: صالح بن صالح بن مسلم ثقة. وقال سفيان بن عيينة: ثنا صالح بن صالح بن حي وكان خيرًا من ابنيه علي والحسن، وكان علي خيرهما.

وقال العجلي: ثنا صالح بن صالح الثوري من ثور همدان، كان ثقة يروي عن الشعبي أحاديث يسيرة، وما نعرف عنه في المذاهب إلا خيرًا.

وقال في موضع آخر: جائز الحديث، يكتب حديثه، وليس بالقوي في أعداد الشيوخ. قَالَ الكلاباذي: مات هو وابنه علي سنة ثلاث وخمسين، وابنه الحسن سنة سبع وستين ومائة

(2)

.

وأما المحاربي فهو عبد الرحمن بن محمد بن زياد. عنه محمد بن سلام وغيره. قَالَ يحيى بن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق إِذَا حدث عن الثقات، ويروي عن المجهولين أحاديث منكرة فيفسد

(1)

صالح بن حيان القرشي، ويقال: الفراسي، ضعفه يحيى بن معين وأبو داود، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، شيخ. وقال النسائي: ليس بثقة. انظر ترجمته في "التاريخ الكبير" 4/ 275 (2789). "ضعفاء العقيلي" 2/ 200 (725). "الجرح والتعديل" 4/ 398 (1729). "تهذيب الكمال" 33/ 13 (2802)، "سير أعلام النبلاء" 7/ 373 - 374 (173).

(2)

انظر ترجمته في "معرفة الثقات" 1/ 464 (749). "الثقات" 6/ 461. "تهذيب الكمال" 13/ 54 (2816)، "الكاشف" 1/ 495 (3242).

ص: 474

حديثه بروايته عنهم. مات سنة خمس وتسعين ومائة

(1)

.

الوجه الثالث:

قوله: "يطؤها" هو مهموز، وكان القياس:"يوطؤها" مثل يوجل؛ لأن الواو إنما تحذف إِذَا وقعت بين الياء ونظائرها. قَالَ الجوهري: إنما سقطت الواو لأن فعل يفعل مما اعتل فاؤه لا يكون إلا لازمًا، فلما جاءا من بين أخواتهما متعديين خولف بهما نظائرهما

(2)

.

وقول الشعبي: (أعطيناكها بغير شيء)، فيه تعريف المتعلم قدر ما أفاده من العلم، وما خصه به ليكون ذَلِكَ أدعى لحفظه وأجلب لحرصه.

وقوله: (قَدْ كَانَ يُرْكَبُ فِيمَا دُونَهَا إِلَى المَدِينَةِ). فيه: إثبات فضل المدينة، وأنها معدن العلم وموطنه، وإليها كان يرحل في طلبه ويقصد في اقتباسه.

الرابع:

نطق الشارع بأن هؤلاء الثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، والمراد بالكتابي: من كان عَلَى الحق في شرعه، ثمَّ تمسك به إلى أن جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، فله أجران باتباع الحق الأول والحق الثاني، فأما من لم يكن عَلَى الحق في شرعه، ثمَّ أسلم فلا يؤجر إلا عَلَى الإسلام خاصة، وإليه يرشد تبويب البخاري في الجهاد باب: فضل

(1)

وثقه النسائي وقال في موضع آخر: لا بأس به. وقال ابن حجر في "التقريب": لا بأس به وكان يدلس، قاله أحمد. انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" 5/ 282 (1342). "تهذيب الكمال" 17/ 386 (3949)، "سير أعلام النبلاء" 9/ 136 - 138 (46)، "التقريب" 349 (3999).

(2)

"الصحاح" 1/ 81.

ص: 475

من أسلم من أهل الكتابين، وقال في الحديث:"وَمُؤْمِنُ أَهْلِ الكِتَابِ الذِي كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَهُ أَجْرَانِ"

(1)

، وقيل ذَلِكَ في كعب وعبد الله بن سلام.

وقال الداودي: يريد النبي صلى الله عليه وسلم النصارى خاصة الذين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وهم عَلَى دين عيسى، ولا يصح أن يرجع إلى اليهود؛ لأنهم كفروا بعيسى، ولا ينفع معه الإيمان بموسى ولا إلى غيرهم ممن كان عَلَى غير الإسلام، وإنما يوضع عنه بالإسلام ما كان عليه من الكفر.

قَالَ: ويحتمل أن يكون ذَلِكَ في سائر الأمم فيما فعلوه من خير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "أسلمت عَلَى ما أسلفت من خير"

(2)

، وقوله:"إِذَا أَسْلَمَ الكافر فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كتب له بكل حسنة كَانَ زَلَفَهَا"

(3)

.

وقال المهلب: فيه دليل عَلَى أن من أحسن في معنيين من أي فعل كان من أفعال البر فله أجره مرتين والله يضاعف لمن يشاء، وحصول الأجر مرتين بكونه أدى حق الله وحق مواليه كما نطق به الحديث.

وفي رواية: "ونصح لسيده"

(4)

وحصول الأجر مرتين في حق الأمة بأجر التأديب والتعليم والعتق والتزويج إِذَا قارنتها النية.

والمعنى فيه: أن الفاعل لهذا بريء من الكبر والمباهاة إِذَا لم ينكح

(1)

سيأتي برقم (3011)

(2)

سيأتي برقم (2220) كتاب: البيوع، باب: شراء المملوك من الحربي.

ورواه مسلم برقم (123) كتاب: الإيمان، باب: بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.

(3)

سبق برقم (41) كتاب: الإيمان، باب: حسن إسلام المرء.

(4)

رواه أحمد 4/ 405، والطبري في "تفسيره" 11/ 95 (33697)، والجرجاني في "تاريخ جرجان" 1/ 413، والخطيب في "تاريخ بغداد" 6/ 229.

ص: 476

ذات شرف ومنصب. والرواية (السالفة)

(1)

: "أعتقها ثمَّ أصدقها"

(2)

لا ينافيه. وفي أخرى: "ومن كانت عنده جارية فعالها وأحسن إليها، ثمَّ أعتقها وتزوجها"

(3)

.

وفي مسلم: "فغذاها وأحسن غذاءها، ثمَّ أدبها"

(4)

وفي أوله: أن رجلًا من أهل خراسان سأل الشعبي، فقال: يا أبا عمرو، إن من قبلنا من أهل خراسان يقولون في الرجل إذا أعتق أمته ثمَّ تزوجها فهو كالراكب بدنته. وفي طريق: كالراكب هديه

(5)

. كأنهم توهموا في العتق التزوج، والرجوع بالنكاح فيما خرج عنه بالعتق، فأجابه الشعبي بما يدل عَلَى أنه محسن إليها إحسانًا بعد إحسان، وأنه ليس من الرجوع في شيء فذكر لهم الحديث.

(1)

في (ج): الثانية.

(2)

سيأتي برقم (5083).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه.

(5)

رواه أبو عوانة في "مسنده" 3/ 67 (4222)، وابن حبان 9/ 360 (4053).

ص: 477

‌32 - باب عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ

98 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ: سَمِعْتُ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ عَطَاءٌ: أَشهَدُ عَلَى ابن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَظَنَّ أَنَّهُ يُسْمِعِ [النِّسَاءَ] فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الَمرْأَةُ تُلْقِي القُرْطَ وَالْخَاتَمَ، وَبِلَالٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَقَالَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [863، 962، 964، 975، 977، 979، 989، 1431، 1449، 4895، 5249، 5880، 5881، 5883، 7325 - مسلم: 884 - فتح: 1/ 192]

حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَيُّوبَ: سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ: سَمِعْتُ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ عَطَاءٌ: أَشْهَدُ عَلَى ابن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي القُرْطَ وَالْخَاتَمَ، وَبِلَالٌ يَأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَقَالَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه مسلم في العيدين عن أبي بكر وابن أبي عمر، عن سفيان، عن أيوب

(1)

. وعن ابن رافع، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج كلاهما عن عطاء

(2)

، وسيأتي من حديث جابر في العيد

(1)

رواه برقم (884/ 2).

(2)

فأما الأول فنعم. وأما الثاني فرواه مسلم (884/ 1)، عن رافع، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج قال: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس.

وما ذكره المصنف هو إسناد حديث جابر (885) التالي لحديث ابن عباس.

ص: 478

إن شاء الله

(1)

.

وفيه: (فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها

(2)

. وفي مسلم: فجعلن يلقين الفتخ (والخواتيم)

(3)

. وفي بعضها: قُلْتُ لعطاء: زكاة الفطر؟ قَالَ: لا، ولكن صدقة تصدقنَ بها حينئذ

(4)

. وفي حديث جابر قَالَ: "تصدقنَ فإن أكثركنَّ حطب جهنم". وفيه فقالت امرأة: لم يا رسول الله؟ قَالَ: "لأنكنَّ تُكْثرن الشكاةَ وتَكْفُرنَ العَشِير" قَالَ: فجعلن يتصدقن من أقرُطِهن وخَواتيمِهِنَّ

(5)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم خلا عطاء، وهو الإمام الجليل أبو محمد عطاء بن أبي رباح، واسم أبي رباح أسلم المكي القرشي، مولى ابن خثيم الفهري، وابن خثيم عامل عمر بن الخطاب عَلَى مكة.

ولد عطاء في آخر خلافة عثمان. وروي عنه أنه قَالَ: أعقل قتل عثمان. ويقال: إنه من مولدي الجند من مخاليف اليمن، ونشأ بمكة وصار مفتيها. وهو من كبار التابعين.

روى عن العبادلة وعائشة وغيرهم. وروى عنه الليث حديثًا واحدًا.

وجلالته وبراعته وثقته وديانته متفق عليها، وحج سبعين حجة، وكانت الحلقة بعد ابن عباس له.

(1)

سيأتي برقم (978) باب: موعظة الإمام النساء يوم العيد.

(2)

سيأتي معلقًا قبل حديث (1448) كتاب: الزكاة، باب: العرض في الزكاة.

(3)

في مسلم: الخواتم.

(4)

سيأتي برقم (978) كتاب: الجمعة، باب: موعظة الإمام النساء يوم العيد، ومسلم (885) كتاب: العيدين، وابن خزيمة في "صحيحه" 2/ 348 (1444) من حديث جابر بن عبد الله، واللفظ لابن خزيمة.

(5)

رواه مسلم (885).

ص: 479

مات سنة خمس عشرة وقيل: أربع عشرة ومائة. عن ثمانين سنة.

وكان حبشيًا أسود أعور أفطس أشل أعرج لامرأة (له)

(1)

، من أهل مكة، ثم عمي بآخره، ولكن العلم والعمل به رفعه.

ومن غرائبه أنه: إِذَا أراد الإنسان سفرًا لَهُ القصر قبل خروجه من بلده، ووافقه طائفة من أصحاب ابن مسعود، وخالفه الجمهور. ومن غرائبه أيضًا أنه: إِذَا وافق يوم عيد يوم جمعة يصلي العيد فقط ولا ظهر ولا جمعة في ذَلِكَ اليوم

(2)

.

ثالثها: القرط: ما كان في شحمة الأذن ذهبًا كان أو غيره، قاله ابن دريد. والخاتم: بفتح التاء وكسرها وخَاتَام وخِيتَام وخِتَام وخَتَم هذِه ست لغات تقدمت

(3)

.

والخرص: بضم الخاء المعجمة، حلقة صغيرة من الحلي تكون في الأذن كما قاله عياض

(4)

، وفي "البارع": هو القرط يكون فيه حبة واحدة في حلقة واحدة.

والسخاب: قلادة من طيب أو مسك قاله البخاري

(5)

.

(1)

من (ج).

(2)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 463 - 464 (2999). "معرفة الثقات" 2/ 135 (1236).

"الجرح والتعديل" 6/ 330 (1839). "تهذيب الكمال" 20/ 69 (3933)، "سير أعلام النبلاء" 5/ 78 - 88 (29)، "جامع التحصيل" رقم (520)، "شذرات الذهب" 1/ 147.

(3)

انظر: "الجمهرة" 1/ 389، وراجع كلام المصنف في الحديث رقم (65).

(4)

انظر: "مشارق الأنوار" 1/ 233.

(5)

ذكره البخاري قبل حديث (5881) كتاب: اللباس، باب: القلائد والسخاب للنساء.

ص: 480

قَالَ ابن الأنباري: هي خيط تنظم فيه خرزات ويلبسه الصبيان والجواري. وقيل: قلادة من قرنفل ومسك ليس فيها من الجوهر شيء.

والفتخ بالخاء المعجمة، قَالَ البخاري عن عبد الرزاق: هي خواتيم عظام

(1)

. وأطلق غيره: أنها الخواتيم، واحدها فتخة. وقال الأصمعي: هي خواتيم لا فصوص لها. وفي "الجمهرة": الفتخة: حلقة من ذهب أو فضة لا فصوص لها، وربما اتخذلها فص كالخاتم

(2)

.

وقوله فيما مضى: "أقرطتهن": قَالَ القاضي: صوابه قِرَطتهن؛ لأن القرط يجمع عَلَى قرطة مثل خرج وخرجة، وعلى أقراط وقراط وقروط، ولا يبعد أن يكون جمع الجمع لاسيما وقد صح في لفظ الحديث.

رابعها: في أحكامه:

الأول: افتقاد

(3)

الإمام رعيته وتعليمهم ووعظهم الرجال والنساء في ذَلِكَ سواء لقوله: (فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن).

الثاني: عدم افتقار صدقة التطوع إلى إيجاب وقبول، بل يكفي فيها المعاطاة؛ لأنهن ألقين الصدقة في ثوب بلال من غير كلام منهن ولا من بلال ولا من غيره، وهذا هو الصحيح عندنا، وأبعد من قَالَ بافتقاره.

الثالث: جواز صدقة المرأة من مالها بغير إذن زوجها، ولا يتوقف ذَلِكَ عَلَى الثلث من مالها وهو مذهب الشافعي والجمهور، وقال مالك: لا تجوز الزيادة عَلَى الثلث من مالها إلا برضا زوجها. وجه الدلالة للجمهور: أنه صلى الله عليه وسلم لم يسألهن هل استأذنَّ أزواجهن في ذَلِكَ أم لا؟

(1)

سيأتي برقم (979) كتاب: العيدين، باب: موعظة الإمام النساء يوم العيد.

(2)

"الجمهرة" 1/ 389.

(3)

في "اللسان" 6/ 3444: وافتقد الشيء: طلبه.

ص: 481

وهل هو خارج عن الثلث أم لا؟ ولو اختلف الحكم بذلك لسأل، وأجاب القاضي: بأن الغالب حضور أزواجهن. وإذا كان كذلك فتركهم الإنكار رضا منهم بفعلهن، وهو ضعيف كما قَالَ النووي؛ لأنهن معتزلات لا يعلم الرجال المتصدقة منهن من غيرها، ولا قدر ما يتصدقن به ولو علموا فسكوتهم ليس إذنًا

(1)

.

وأما حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا يجوز لامرأةٍ أمر في مالها إِذَا ملك زوجها عصمتها" رواه أبو داود

(2)

وله وللنسائي وابن ماجه عن عمرو بن شعيب، أن أباه أخبره عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا تحل لامرأة عطية إلا بإذن زوجها"

(3)

. قَالَ البيهقي: الطريق إلى عمرو بن شعيب صحيح، فمن أثبت أحاديث عمرو بن شعيب لزمه إثباته

(4)

.

فالجواب عنه من أوجه: أحدها: معارضته بالأحاديث الصحيحة الدالة عَلَى الجواز عند الإطلاق، وهي أقوى منه فقدمت عليه، وقد يقال: هي واقعة حال؛ فيمكن حملها عَلَى أنها كانت قدر الثلث.

ثانيها: عَلَى تسليم الصحة، أنه محمول عَلَى الأولى والأدب والاختيار، ذكره الشافعي في البويطي، قَالَ: وقد أَعْتَقَتْ ميمونة فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم عليها.

(1)

انظر: "صحيح مسلم بشرح النووي" 6/ 173.

(2)

رواه برقم (3546) كتاب: البيوع، باب: في عطية المرأة بغير إذن زوجها، والحاكم 2/ 47، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(825).

(3)

رواه أبو داود (3547). والنسائي 5/ 65 - 66. وابن ماجه (2388)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (825).

(4)

"السنن الكبرى" 6/ 60.

ص: 482

ثالثها: الطعن فيه، قَالَ الشافعي: هذا الحديث سمعناه وليس بثابت فيلزمنا أن نقول به، والقرآن يدل عَلَى خلافه، ثمَّ الأثر، ثم المنقول، ثمَّ المعقول. قيل: أراد بالقرآن قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237]، وقوله:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، وقوله:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وقوله:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، وقوله:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] الآية ولم يفرق، فدلت هذِه الآيات عَلَى نفوذ تصرفها في مالها دون إذن زوجها، وقال صلى الله عليه وسلم لزوجة الزبير:"ارضخي ولا توعي فيوعي الله عليك"

(1)

متفق عليه.

وقال: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة"

(2)

. واختلعت مولاة لصفية بنت أبي عبيد من زوجها بكل شيء فلم ينكر ذَلِكَ ابن عمر.

وأما أبو محمد بن حزم فإنه طعن في حديث عمرو بن شعيب بأن قَالَ: صحيفة منقطعة وقد علمت أن شعيبًا صرح بعبد الله بن عمرو (فلا)

(3)

انقطاع

(4)

، وقد أخرجه الحاكم من حديث حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند وحبيب المعلم عن عمرو به، ثمَّ قَالَ: صحيح الإسناد

(5)

.

(1)

سيأتي برقم (1434) كتاب: الزكاة، باب: الصدقة فيما استطاع. ومسلم برقم (1029) كتاب: الزكاة، باب: الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء.

(2)

سيأتي برقم (2566) كتاب: الهبة، باب: فضل الهبة. ومسلم (1030) كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة من حديث أبي هريرة.

(3)

في (ج): بلا.

(4)

انظر: "المحلى" 11/ 151.

(5)

في "المستدرك" 2/ 47.

ص: 483

ثمَّ ذكره ابن حزم من حديث ابن عمر: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حق الزوج عَلَى زوجته؟ قَالَ: "لا تصدق إلا بإذنه، فإنْ فعلتْ كان له الأجْر وكان عليها الوِزر".

ثمَّ قَالَ: هذا خبر هالك؛ لأن فيه موسى بن أعين، وهو مجهول، وليث بن أبي سليم، وليس بالقوي.

وهو غريب منه فإن موسى بن أعين روى عن جماعة، وعنه جماعة، واحتج به الشيخان ووثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي

(1)

، نعم فيه الحسن بن عبد الغفار

(2)

وهو مجهول فليته أعله به.

ثمَّ ذكر حديث إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة رفعه:"لا تنفق المرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذنه" قيل: يا رسول الله، ولا الطعام. قَالَ:"ذَلِكَ أفضل أموالنا" ثمَّ قَالَ: إسماعيل ضعيف وشرحبيل مجهول لا يدرى من هو

(3)

.

وهذا عجيب منه، فإسماعيل حجة فيما يروي عن الشاميين، وشرحبيل شامي وحاشاه من الجهالة.

روى عنه جماعة، وقال أحمد: هو من ثقات الشاميين، ووثقه.

(1)

هو موسى بن أعين الجزري، أبو سعيد الحراني مولى بني عامر ابن لؤي، وهو والد محمد بن موسى بن أعين، وعم الحسن بن محمد بن أعين. قال الجوزجاني وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، كما ذكره ابن حبان في "الثقات"، قدم مصر وكتب بها وكتب عنه، وقال أبو سعيد بن يونس مات سنة خمس وسبعين ومائة، وقال ابن حجر: ثقة عابد. سنة خمس أو سبع وسبعين ومائة. انظر ترجمته في "التاريخ الكبير" 7/ 280 - 281 (1190). "الجرح والتعديل" 8/ 136 - 137 (616).

"تهذيب الكمال" 29/ 27 - 29 (6236).

(2)

ورد بهامش (س): الحسن بن عبد الغفار لم أر له ترجمة في الميزان.

(3)

انظر: "المحلى" 8/ 315 - 319 بتصرف.

ص: 484

نعم ضعفه ابن معين

(1)

.

وقد أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن

(2)

.

الرابع: أن الصدقة تنجي من النار، فإنه صلى الله عليه وسلم أمرهن بها لما رآهن أكثر أهل النار، وقيل: إنما أمرهن بها؛ لأنه كان وقت حاجة إلى المواساة وكانت الصدقة يومئذ أفضل وجوه البر.

(1)

شرحبيل بن مسلم بن حامد. قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ضعيف لكن نقل عباس الدوري عنه أنه ثقة. وقال العجلي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن حجر: صدوق فيه لين، من الثالثة. انظر ترجمته في:"التاريخ الكبير" 4/ 252 (2700). و"معرفة الثقات" 1/ 451 (722). "الجرح والتعديل" 4/ 340 (1495). "ثقات ابن حبان" 4/ 363. "التقريب" 265 (2771).

(2)

الترمذي (670)، ابن ماجه (2295).

ص: 485

‌33 - باب الْحِرْصِ عَلَى الْحَدِيثِ

99 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيمَانُ، عَن عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ سَعِيِدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الَمقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هذا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ -أَوْ- نَفْسِهِ". [6570 - فتح: 1/ 193]

حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ عَمْرٍو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ الناسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلنِي عَنْ هذا الحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ -أَوْ- نَفْسِهِ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه هنا عن عبد العزيز، عن سليمان بن بلال.

وأخرجه في صفة الجنة عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر كلاهما عن عمرو به، وفيه: قُلْتُ: (يا رسول الله)

(1)

. والحديث من أفراد البخاري لم يخرجه مسلم.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف التعريف بهم خلا شيخ البخاري، وعمرو بن أبي عمرو.

(1)

سيأتي برقم (6570) كتاب: الرقاق.

ص: 486

أما عمرو (ع): فهو أبو عثمان عمرو بن أبي عمرو ميسرة، وميسرة مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي القرشي المدني.

عن أنس بن مالك وغيره. وعنه: مالك، والدراوردي.

قَالَ أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وأما يحيى بن معين فقال: ضعيف ليس بالقوي وليس بحجة. وقال ابن عدي: لا بأس به؛ لأن مالكًا روى عنه، ولا يروي إلا عن صدوق ثقة. مات في أول خلافة المنصور وكانت أول سنة ست وثلاثين ومائة وزياد بن (عبيد)

(1)

الله عَلَى المدينة

(2)

.

وأما شيخ البخاري فهو أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله بن يحيى بن عمرو بن أويس بن (سعد)

(3)

بن أبي سرح بن حذيفة بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن فهر أبو القاسم القرشي العامري الأويسي المديني الثقة.

روى عنه البخاري بغير واسطة، وأبو داود والترمذي عن رجل عنه، وروى البخاري في الإصلاح عن محمد بن عبد الله مقرونًا بالفروي عنه، عن محمد بن جعفر. قَالَ أبو حاتم: مديني صدوق. وعنه قَالَ: هو أحب إلي من يحيى بن بكير

(4)

.

(1)

في (ج): عبد.

(2)

انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" 6/ 252 (1398). "الكامل" لابن عدي 6/ 205 (1282). "تهذيب الكمال" 22/ 168 (4418)، "ميزان الاعتدال" 4/ 201 (6414)، "جامع التحصيل"(579).

(3)

في الأصل: سعيد، وهو خطأ. انظر ترجمته من "التعديل والتجريح" 2/ 898.

(4)

انظر ترجمته في "الثقات" 8/ 369. "الجرح والتعديل" 5/ 387 (1804). "تهذيب الكمال" 18/ 160 (3457)، "سير أعلام النبلاء" 10/ 389 (106)، "الكاشف" 1/ 656 (3397).

ص: 487

ثالثها:

قوله: (قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ): كذا وقع في رواية أبي ذر، والصواب حذف قيل كما جاء عند الأصيلي والقابسي

(1)

؛ لأن السائل هو أبو هريرة نفسه، وقد أسلفنا أن البخاري رواه مرة بلفظ:(قُلْتُ: يا رسول الله).

رابعها:

قوله: "أَوَّلُ مِنْكَ" يجوز في أول الرفع عَلَى الصفة والنصب عَلَى الظرف، والرواية بالرفع. وذكر بعضهم أنه روي بالنصب أيضًا، أي: قبلك.

قَالَ سيبويه: معنى أول منك: أقدم منك. وقال السيرافي: يقال:

هذا أول منك، ورأيت أول منك، ومررت بأول منك، فإذا حذفوا منك قالوا: هو الأول، ولا يقولوا: الأول منك؛ لأن الألف واللام تعاقب منك.

وقال أبو علي الفارسي: أول تستعمل اسمًا وصفة، فإن استعملت صفة كانت بالألف واللام أو بالإضافة أو بـ (من) ظاهرة أو مقدرة، فإن كانت بـ (من) جرت في الأحوال كلها عَلَى لفظ واحد تقول: هذا أول من زيد. والزيدان أول من العمرين، ولا ينصرف لوزن الفعل والصفة.

قَالَ: وإن شئت نصبت أول عَلَى الظرف، وإن كان معناه الصفة تقول: رأيت زيدًا أول، تريد أول من عامنا، فأول بمنزلة قبل، كانك قُلْت: رأيت زيدًا عامًا قبل عامنا، فحكم له بالظرف، حتَّى قالوا: ابدأ بهذا أوله، وبنوه عَلَى الضم. كما قالوا: ابدأ به قبل. فصار كأنه

(1)

"اليونينية" 1/ 31.

ص: 488

قطع عن الإضافة، ومن النصب عَلَى الظرف قوله تعالى:{وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 42] كما تقول: الركب أمامك، وأصله الصفة، وصار أسفل ظرفًا، والتقدير: والركب في مكان أسفل من مكانكم، ثمَّ حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، فصار أسفل منكم بمنزلة تحتكم، ومن لم يجعل أولًا صفة صرفه، يقول: ما ترك لنا أولًا ولا آخرًا.

وأما أصله، فقال الجوهري: أَوْأَلْ بهمزة متوسطة فقلبت الهمزة واوًا وأدغمت، يدل عليه قولهم: هذا أول منك، والجمع الأوائل، والأوائل: عَلَى القلب، وهذا مذهب البصريين، وقال الكوفيون: وزنه فوعل أصله وَوْأَل فنقلوا الهمزة إلى موضع الفاء، ثمَّ أدغموا الواو في الواو، وهو من وَأَلَ إِذَا نجا، كأن في الأول النجاة.

خامسها: في فوائده:

الأولى: الحرص عَلَى العلم والخير، فإن الحريص يبلغ بحرصه إلى البحث عن الغوامض، ودقيق المعاني؛ لأن الظواهر يستوي الناس في السؤال عنها؛ لاعتراضها أفكارهم، وما لطف من المعاني لا يسأل عنها إلا الراسخ، فيكون ذلك سببًا للفائدة، ويترتب عليه أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

الثانية: تفرس العالم في متعلمه وتنبيهه عَلَى ذَلِكَ؛ ليكون أبعث عَلَى اجتهاده.

الثالثة: سكوت العالم عن العلم إِذَا لم يُسأل حتَّى يُسأل، ولا يكون ذَلِكَ كتمًا؛ لأن عَلَى الطالب السؤال، اللَّهُمَّ إلا إِذَا تعين عليه فليس لَهُ السكوت.

ص: 489

الرابعة: أن الشفاعة إنما تكون في أهل التوحيد، وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم:"لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، وإني اختبأت دَعْوَتي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَة، فهي نائلة - إن شاء الله تعالى- من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا"

(1)

.

الخامسة: ثبوت الشفاعة، والأحاديث جارية مجري القطع في ذَلِكَ، وهو مذهب أهل السنة، وأنها جائزة عقلًا وواجبة بصريح الآيات والأخبار التي بلغ مجموعها التواتر لمذنبي المؤمنين، وهو إجماع السلف ومن بعدهم منهم.

ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتأولت الأحاديث عَلَى زيادات الدرجات والثواب، واجتمعوا بقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} [المدثر: 48] وقوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]. وهذا إنما جاء في الكفار، والأحاديث مصرحة بها في (الموحدين)

(2)

المؤمنين.

ثمَّ هي أقسام:

أحدها: الإراحة من هول الموقف.

الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب.

الثالثة: عدم دخول النار لمن استوجبها بذنبه.

الرابعة: في إخراجهم منها، ويشفع في هذِه المؤمنون أيضًا.

الخامسة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها.

السادسة: في تخفيف العذاب كما في حق أبي طالب.

(1)

سيأتي برقم (7474) كتاب: التوحيد، باب: في المشيئة والإرداة. رواه مسلم برقم (199) كتاب: الإيمان، باب: اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته.

(2)

من (ج).

ص: 490

السابعة: فيمن مات بالمدينة كما صح في الحديث.

وقد أوضحتُ هذِه الأقسام في كتابي "غاية السّوْل في خصائص الرسول"

(1)

، وقد عُرف بالاستفاضة سؤال السلف الصالح الشفاعة، ولا التفات إلى من كره سؤالها؛ لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فقد تكون لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات، ثمَّ كل عاقل معترف بالتقصير مشفق من الأمر الخطير، ويلزم هذا القائل أن لا يدعي بالمغفرة والرحمة؛ لأنهما لأصحاب الذنوب وهذا كله خارج عن المطلوب. اللَّهُمَّ لا تحرمنا شفاعة رسولك يا علام الغيوب.

(1)

ص 180: ص 184.

ص: 491

‌34 - باب كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ

؟

(1)

وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْم وَذَهَابَ العُلَمَاءِ، وَلَا تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلْتُفْشوا العِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ، فَإنَّ العِلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا.

حَدَّثَنَا العَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الجَبَّارِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ بِذَلِكَ يَعْنِي: حَدِيثَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى قَوْلهِ: ذَهَابَ العُلَمَاءِ.

100 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولكن يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا". قَالَ الفِرَبْرِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ. [7307 - مسلم: 2673 - فتح: 1/ 194]

حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ عَبْدِ الثهِ بْن عَمْرِو بْنِ العَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ العِلمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولكن يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا،. فَأَفتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا". قَالَ الفِرَبْرِيُّ: حَدَّثنَا عَبَّاسٌ قَالَ: حَدَّثنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ، نَحْوَهُ.

الكلامُ عَلَى ذَلِكَ من وجوهٍ:

(1)

ورد بهامش (س): ثم بلغ في الثاني بعد الثلاثين كتبه مؤلفه، غفر الله له.

ص: 492

أحدها:

حديث عبد الله بن عمرو أخرجه هنا كما ترى، وفي الاعتصام عن سعيد بن تليد، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شريح وغيره، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة به

(1)

.

وأخرجه مسلم هنا عن قتيبة، عن جرير وغيره، عن هشام، وعن حرملة، عن ابن وهب، عن أبي شريح، عن أبي الأسود به

(2)

. وفي بعض طرق البخاري: "فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ"

(3)

. وفي بعض طرق الحديث: "لكن يقبضُ العلماءَ فيرفع العِلم مَعَهم"

(4)

.

ثانيها:

قوله: (حَدَّثَنَا العلاء) إلى قوله: (ذِهاب العلماء). وقوله: (قَالَ الفربري) إلى قوله: (نحوه) سقط عند الكُشْمِيْهَني، وذكره البرقاني عن الإسماعيلي: حَدَّثنَا العلاء كما ذكره البخاري سواء.

ثالثها: في التعريف برواته غير من سلف.

أما ابن حزم: فهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمر بن عبد عوف بن مالك بن النجار الأنصاري المدني.

قَالَ الخطيب: إن اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمد. ومثله أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أحد الفقهاء السبعة، كنيته أبو عبد الرحمن. قَالَ: ولا نظير لهما. أي: ممن اسمه أبو بكر وله كنية، وأما من اشتهر بكنيته ولم يعرف لَهُ اسم غيره فكثير، ذكر ابن عبد البر وغيره

(1)

سيأتي برقم (7307) باب: ما يذكر من ذم الرأي.

(2)

سيأتي برقم (2673) كتاب: العلم، باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل.

(3)

سيأتي برقم (7307).

(4)

رواه مسلم برقم (2673).

ص: 493

منهم جماعة كثيرة. وقد قيل في أبي بكر بن محمد: أنه لا كنية لَهُ غير أبي بكر اسمه. وقال ابن عبد البر: قيل اسم أبي بكر بن عبد الرحمن هذا المغيرة. ولا يصح.

وَلِي القضاء والإمرة والموسم لسليمان بن عبد الملك. وعمر بن عبد العزيز، وكان يخضب بالحناء والكتم ويتختم في يمينه. مات سنة عشرين ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك. ابن أربع وثمانين سنة.

سُئِلَ يحيى بن معين عن حديث عثمان بن حكيم، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عرضت عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مرسل

(1)

.

وأما عبد العزيز بن مسلم: فهو القسملي مولاهم أخو المغيرة بن مسلم الخراساني المروزي، نسبه إلى القساملة، وقيل لهم ذَلِكَ؛ لأنهم من ولد قسملة، واسمه معاوية بن عمرو بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان، وهم محلة بالبصرة معروفة بالقسامل، وقيل: نزل فيهم فنسب إليهم.

وكان عبد العزيز هذا من الأبدال

(2)

، وثقه يحيى بن معين وغيره.

مات سنة سبع وستين ومائة

(3)

.

(1)

انظر ترجمته في: "الطبقات" 5/ 069. "الجرح والتعديل" 9/ 337 (1492). "الثقات" 5/ 561. "تهذيب الكمال" 33/ 137 (7254)، "التقريب" (7988).

(2)

انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 5/ 394 (1831). "الثقات" 7/ 116. "تهذيب الكمال" 18/ 202 (3473)، "سير أعلام النبلاء" 8/ 192 - 193 (30)، "التقريب" (4122).

(3)

سئل شيخ الإسلام عن الأبدال وغيرها من الأسماء التي تسمى بها أقوام مثل غوث الأغواث، وقطب الأقطاب وغيرها. فقال: هذه أسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى، ولا هي أيضًا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، ولا ضعيف يحمل عليه ألفاظ الأبدال. "مجموع الفتاوى" 11/ 433.

ص: 494

وأما العلاء (خ. ت. ق) فهو أبو الحسن العلاء بن عبد الجبار البصري العطار الأنصاري مولاهم، سكن مكة، روى لَهُ البخاري هنا عن عبد العزيز، عن إبن دينار هذا الأثر، لم يخرج عنه غيره. وثقه أبو حاتم والعجلي، مات سنة اثنتي عشرة ومائتين، روى الترمذي وابن ماجه، والنسائي في "اليوم والليلة" عن رجل عنه ولم يخرج لَهُ مسلم شيئًا

(1)

.

رابعها:

معنى كتاب عمر بن عبد العزيز الحض على اتباع السنن وضبطها إذ هي الحجة عند الاختلاف والتنازع، وإنما يسوغ الاجتهاد عند عدمها، وإنه ينبغي للعالم نشر العلم وإذاعته.

ومعنى: "إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا": أن الله لا يهب العلم لخلقه ثمَّ ينتزعه بعد تفضله عليهم، ولا يسترجع ما وهب لهم من العلم المؤدي إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون انتزاعه بتضيعهم العلم فلا يوجد من يخلف من مضى فأنذر صلى الله عليه وسلم بقبض الخير كله، قال الداودي: فالحديث خرج مخرج العموم، والمراد به الخصوص كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفه من أمتي ظاهرين علي الحق حتَّى يأتي أمر الله"

(2)

وقد تقدم الكلام عَلَى هذا الحديث مع الجمع بينه وبين ما خالفه في باب: من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين.

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 518 (3173). "الجرح والتعديل" 6/ 358 (1977). "ثقات العجلي" 2/ 150 (1281). "تهذيب الكمال" 22/ 517 (4576)، "سير أعلام النبلاء" 11/ 402 (90).

(2)

رواه مسلم (1920) كتاب: الإمارة، باب: قوله: (لا تزال طائفة).

ص: 495

‌35 - باب هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّسَاءِ يَوْمٌ عَلَى حِدَةٍ فيِ العِلْمِ

101 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شعْبَة قَالَ: حَدَّثَنِي ابن الأصبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: غَلَبَنَا عَلَيْكُ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكُ. فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُن، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ:"مَا مِنْكُنَّ امْرَأة تُقَدِّمُ ثَلَاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ". فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: "وَاثْنَتَيْنِ". [1249، 7310 - مسلم: 2633 - فتح: 1/ 195]

102 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الُخدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:"ثَلَاَثةً لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ". [1250 - مسلم: 3634 - فتح: 1/ 196]

حدثنا آدَمُ ثنا شُعْبَةُ حَدَّثَنِي ابن الأَصْبَهَانِيِّ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ. فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ:"مَا مِنْكُنَّ امْرَأةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ". فَقَالَتِ امْرَأَة: وَاثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: "وَاثْنَتَيْنِ".

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثنا غُنْدَرٌ ثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:"ثَلَاثةً لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ".

ص: 496

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع: هنا كما ترى، وفي الجنائز عن مسلم، عن شعبة به

(1)

. وعن بُندار، عن غندر، عن شعبة به، وزاد غندر طريق أبي هريرة. قَالَ البخاري: وقال شَريك، عن ابن الأصبهاني: حَدَّثَنِي أبو صالحٍ، عن أبي سعيد، وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ أبو هريرة:"ثَلَاَثَةَ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ"

(2)

.

ورواه في كتاب الاعتصام عن مسدد، عن أبي عوانة، عن ابن الأصبهاني، عن أبي صالح، عن أبي سعيد

(3)

.

وأخرجه مسلم في الأدب عن أبي كامل، عن أبي عوانة، وعن أبي موسى وبُندار، عن غندر، عن شعبة. وعن عبد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة كلاهما عن ابن الأصبهاني، عن أبي سعيد به، وزاد في حديث شعبة طريق البخاري عن أبي هريرة

(4)

.

وسيأتي في الجنائز من حديث أنس مرفي عًا: "مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ"

(5)

. ورواه مسلم بلفظ: "لا يَمُوتَن ثلائةٌ من الولدِ فتحتسِبُهُ إلا دَخَلَتِ الجنَّةَ"

(6)

.

(1)

سيأتي برقم (1249) باب: فضل من مات له ولد فاحتسب.

(2)

سيأتي برقم (1250، 1251) باب: فضل من مات له ولد فاحتسب.

(3)

سيأتي برقم (7310) باب: تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء.

(4)

رواه برقم (2634) كتاب: البر والصلة، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه.

(5)

سيأتي برقم (1248) باب: فضل من مات له ولد فاحتسب.

(6)

برقم (2632) كتاب: البر والصلة، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه، من حديث أبي هريرة.

ص: 497

وفيهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لَا يَمُوتُ لِمُسْلِم ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ، فَتمسهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ"

(1)

.

وأخرج في الرقاق من حديثه أيضًا: "يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الجَنَّةُ"

(2)

.

ثانيها: في التعريف برواته غير من سلف التعريف به:

فأبو حازم (ع) اسمه: سلمان الأشجعي، مولئ عزة الأشجعية. مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وهو كوفي تابعي ثقة

(3)

.

قُلْتُ: وأبو حازم (ع) سلمة بن دينار الزاهد آخر يروي عن سهل بن سعد. وعنه: مالك وغيره، وهو ثقة. مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وقيل: سنة ثلاث. وقيل: بعد الأربعين

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (1251) باب: فضل من مات له ولد .. وفي مسلم برقم (2632) كتاب: البر والصلة.

(2)

سيأتي برقم (6424) باب: العمل الذي يبتغي به وجه الله.

(3)

وثقه أبو داود، وابن معين، والعجلي، وابن حجر.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 4/ 137 (2240). "معرفة الثقات" 1/ 423 (652). "الجرح والتعديل" 4/ 297 - 298 (1293). "التقريب" 246 (2479).

(4)

سلمة بن دينار أبو حازم الأعرج الأفزر التمار المدني القاضي الزاهد الحكيم، مولى الأسود بن سفيان المخزومي. قال يحيى بن معين: ثقة. وقد اختلف في وفاته، فقيل مات سنة ثلاث وثلاثين، وقيل فيما بين الثلاثين والأربعين، وقال يحيى بن معين: مات سنة أربع وأربعين ومائة، وقال خليفة: مات سنة خمس وثلاثين، وقال العجلي عنه: ثقة تابعي رجل صالح.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 4/ 78 (2016). "معرفة الثقات" 1/ 420 (641). "الجرح والتعديل" 4/ 59 (701). "تهذيب الكمال" 11/ 272 (2450)، "سير أعلام النبلاء" 6/ 96، "شذرات الذهب" 1/ 208.

ص: 498

وابن الأصبهاني (ع): عبد الرحمن بن عبد الله الكوفي مولى لجديلة قيس- وهم بطن من قيس غَيْلان وهم: فهم وعدوان ابنا عمر بن قيس، أمهم جَديلة بفتح الجيم نُسبوا إليها، أصله من أصبهان، خرج منها حين افتتحها أبو موسى الأشعري. قَالَ أبو حاتم: لا بأس به. مات في إمارة خالد عَلَى العراق، قاله ابن منجويه

(1)

.

ثالثها: في ألفاظه:

المراد بالحِنْث: الإثم، المعنى: أنهم ماتوا قبل بلوغهم التكليف، فلم تكتب عليهم الآثام، وخص الحكم بالذين لم يبلغوا الحنث -وهم الصغار- لأن قلب الوالدين عَلَى الصغير أرحم وأشفق دون الكبير؛ لأن الغالب عَلَى الكبير عدم السلامة من مخالفة والديه وعقوقهم.

وقوله: "إِلَّا كَانَ لَهَا" كذا جاء هنا: "كان" وفي كتاب الاعتصام ومسلم: "إلا كانوا لها". وفي البخاري في الجنائز: "إلا كن لها" وأتى بلفظ التأنيث عَلَى معنى النسمة والنفس كقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)} [الفجر: 29].

وقوله: "وَاثْنَتَيْنِ" قاله بوحي عقب السؤال ويجوز أن يكون قبله.

والمراد: بالحِدَةِ في تبويب البخاري: الناحية، يعني: منفردات وحدهن، والهاء في آخر الكلمة عوض من الواو المحذوفة من أول الكلمة، كما فعلوا في عدة وزنة أصلها وعدة ووزنة من الوعد والوزن.

(1)

وقال يحيى بن معين، وأبو زرعة، والعجلي، والنسائي، وابن حجر: ثقة. قال ابن حجر: مات في إمارة خالد القسرى على العراق، وذكره ابن حبان في الثقات.

انظر ترجمته في: "معرفة الثقات" 2/ 80 (1051). "الجرح والتعديل" 5/ 255 (1207). "تهذيب الكمال" 17/ 242 - 243 (7379). "التقريب" 345 (3926).

ص: 499

رابعها: في فوائده:

الأولى: فضل تقديم الأولاد، وقد جاء في الترمذي وقال: غريب. وابن ماجه ذكر الواحد من حديثما ابن مسعود مرفوعًا: "من قدَّمَ ثلاثةً مِنَ الوَلَد لم يبلغوا الحِنْثَ كانوا لَهُ حصنًا حصينًا من النار" فقال أبو ذر: قدمت اثنين قَالَ: "واثنين". قَالَ أبي بن كعب: قدمت واحدًا قَالَ: "وواحدًا"

(1)

.

واستنبط القابسي وغيره الواحد من حديث أبي هريرة السالف في الرقاق، وهذا صريح فيه.

الثانية: ما ترجم لَهُ وترجم عليه في الجنائز: فضل من مات لَهُ ولد فاحتسب. والاحتساب والحسبة والحسبان بالكسر: ادخار الأجر عند الله، وأن يعتبر بمصابه ويحتسبه من حسناته، فهذا الثواب حاصل لمن احتسب أجره عَلَى الله وصبر.

الثالثة: إن مفهوم العدد لا يدل عَلَى الزائد ولا عَلَى الناقص؛ لقولها: (واثنتين يا رسول الله؟) وهي من أهل اللسان، كذا قاله عياض

(2)

وابن بطال

(3)

وغيرهما، وفيه نظر.

الرابعة: أن أولاد المسلمين في الجنة؛ لأنه إِذَا أدخل الآباء الجنة بفضل رحمة الأبناء فالأبناء أولى بها.

قَالَ المازري: وهو إجماع في حق أطفال الأنبياء، وقول الجمهور في أولاد من سواهم من المؤمنين وبعضهم لا يحكي خلافا، ويحكي

(1)

رواه الترمذي (1061). وابن ماجه (1606). وضعفه الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه"(351).

(2)

انظر: "إكمال المعلم" 8/ 115.

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 1/ 246.

ص: 500

الإجماع عَلَى دخولهم الجنة، ويستدل بظاهر الأحاديث والآيات وبعض الآثار، قَالَ تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا}

(1)

[الطور: 21] الآية.

وبعض المتكلمين يقف فيهم ولا يرى نصًا مقطوعًا به بكونهم فيها ولم يثبت الإجماع (عندهم)

(2)

.

قُلْتُ: وما أبعده! فالصواب القطع بالإجماع.

الخامسة: سؤال النساء عن أمر دينهن، وجواز كلامهن مع الرجال في ذَلِكَ وفيما تمس الحاجة إليه، وقد أُخذ العلم عن أمهات المؤمنين وعن غيرهن من نساء السلف.

(1)

قرأها كذلك أبو عمرو، انظر:"الحجة" للفارسي 6/ 224، "الكشف" لمكي 2/ 290.

(2)

ساقطة من (ج).

ص: 501

‌36 - باب مَنْ سَمِعَ شَيْئًا فَرَاجَعَ حَتَّى يَعْرِفَهُ

103 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابن أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ -زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- كَانَتْ لَا تَسْمَع شَيْئَا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} ؟ [الانشقاق: 8] قَالَتْ: فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكَ العَرْضُ، ولكن مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكْ". [4939، 6536، 6537 - مسلم: 2876 - فتح: 1/ 196]

حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أنا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي ابن أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ -زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْت: أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} ؟ قَالَتْ: فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكَ العَرْضُ، ولكن مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكْ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع: هنا كما ترى، وفي التفسير والرقاق عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن عثمان بن الأسود

(1)

، وفي الرقاق أيضًا عن عبيد الله بن موسى، عن عثمان بن الأسود

(2)

، وفي التفسير عن سليمان بن حرب، عن حماد، عن أيوب

(3)

، وقال عقب حديث عمرو بن علي: تا ابعه ابن جريج،

(1)

سيأتي برقم (4939) كتاب: التفسير، باب:{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} .

(2)

سيأتي برقم (6536) باب: من نوقش الحساب عذب.

(3)

سيأتي برقم (4939).

ص: 502

ومحمد بن سليم، وأيوب، وصالح بن رستم، عن ابن أبي ملكية: سمعت عائشة

(1)

.

وأخرجه مسلم في أواخر الكتاب عن أبي بكر، وابن حجر، عن ابن عُلَية، عن أيوب، وعن أبي الربيع، وأبي كامل، عن حماد، عن أيوب، وعن عبد الرحمن بن بشر، عن يحيى القطان، عن عثمان بن الأسود كلاهما عن ابن أبي مليكة

(2)

.

وأخرجه في التفسير عن مسدد، عن يحيى

(3)

، وفي الرقاق عن إسحاق بن منصور، عن روح

(4)

.

وأخرجه مسلم أيضًا عن عبد الرحمن بن بشر، عن يحيى كلاهما عن أبي يونس حاتم، عن ابن أبي ملكية، عن القاسم، عن عائشة، زاد فيه القاسم: بينهما

(5)

.

ثانيها: في التعريف برواته غير من سلف التعريف بهم.

فأما نافع (ع) فهو نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل بن عامر (بن خثيم بن سعيد بن عامر)

(6)

بن حذيم بن سلامان بن ربيعة بن سعد بن جمح القرشي الجمحي المكي، وهو ثبت حجة، مات سنة تسع وستين ومائة

(7)

.

(1)

سيأتي برقم (6536).

(2)

رواه برقم (2876) كتاب: الجنة وصفة نعيمها، باب: إثبات الحساب.

(3)

سيأتي برقم (4939).

(4)

سيأتي برقم (6537).

(5)

رواه مسلم (2876/ 80).

(6)

كذا في الأصل، و (ج)، لكني لم أقف عليها في ترجمته.

(7)

قال أحمد: ثبتٌ ثبتٌ، صحيح الحديث، ووثقه يحيى بن معين، والنسائي، وأبو حاتم، وقال ابن سعد: ثقة. انظر: "الطبقات الكبرى" 5/ 494. "الجرح والتعديل" =

ص: 503

وأما سعيد: فهو أبو محمد (ع) سعيد بن الحكم بن محمد بن أبي مريم الجمحي البصري.

سمع مالكًا وغيره، وعنه البخاري هنا وغيره، وروى مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن رجل عنه، وروى البخاري في تفسير سورة الكهف عن محمد بن عبد الله عنه. قَالَ الحاكم: يقال: إنه الذهلي محمد بن يحيى، وكان فقيهًا مصريًّا ثقة، مات سنة أربع وعشرين ومائتين.

قَالَ أحمد بن عبد الله: كان لَهُ دهليز طويل، يأتيه الرجل يقف يسلم عليه فيرد عليه: لا سلم الله عليك ولا حفظك. فأقول: ما لهذا؟ فيقول: قدري. ويقول مثله لآخر، فأقول: ما لهذا؟ فيقول: رافضي خبيث. لا يظن إلا ردَّ عليه سلامه.

وكان عاقلًا، لم أر بمصر أعقل منه. وأتاه رجل فسأله أن يحدثه فامتنع، وسأله آخر فأجابه، فقال لَهُ الأول: سألتك فلم تجبني، وسألك فأجبته؟ فقال: إن كنتَ تعرف الشيباني من السيناني، وأبا جمرة من أبي حمزة، وكلاهما عن ابن عباس حدثناك

(1)

.

= 8/ 456 (2088). "تهذيب الكمال" 29/ 287 (6367)، "سير أعلام النبلاء" 7/ 433 - 434 (163)، "شذرات الذهب" 1/ 270.

(1)

قال عنه الحسين بن الحسن الرازي: سألت أحمد بن حنبل، عمّن أكتب بمصر؟ فقال: عن ابن أبي مريم. وقال أبو داود: ابن أبي مريم عندي حجة. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: ثقة. وقال أبو سعيد بن يونس: ولد سنة أربع وأربعين ومائة، ومات سنة أربع وعشرين ومائتين. انظر ترجمته في:"التاريخ الكبير" 3/ 465 (1547). "ثقات العجلي" 1/ 396 (581). "الجرح والتعديل" 4/ 13 (49). "تهذيب الكمال" 10/ 391 (2253)، "سير أعلام النبلاء" 10/ 327 - 330 (80)، "شذرات الذهب" 2/ 53.

ص: 504

ثالثها:

استدرك الدارقطني هذا الحديث عَلَى الشيخين وقال: اختلفت الرواية فيه عن ابن أبي مليكة فروى عنه عن عائشة، وعنه عن القاسم عنها

(1)

.

والجواب أن هذا ليس علة لجواز أن يكون سمعه منها ومن القاسم عنها.

رابعها:

قوله: (كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئًا لَا تَعْرِفُهُ إِلَّا رَاجَعَتْ فِيهِ): انفرد به البخاري عن مسلم، وفي بعض طرقه:"ليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب"

(2)

. وذكره البخاري في التفسير بلفظ: "إلا هلك"

(3)

قَالَ الهروي: انتقشت منه حقي: استقضيته منه، ومنه نقش الشوكة استخرجها

(4)

.

ومعنى الحديث: أنه مفض إلى استحقاق العذاب، إذ لا حسنة للعبد يعملها إلا من عند الله وبفضله وإقداره لَهُ عليها وهدايته لها، وأن الخالص من الأعمال قليل، ويؤيده قوله:"يهلك" مكان "يعذب".

ويحتمل كما قَالَ القاضي: أن نفس مناقشة الحساب يوم عرض الذنوب والتوقيف عَلَى قبيح ما سلف له تعذيب وتوبيخ

(5)

. وسيأتي إيضاح هذا الحديث في سورة الانشقاق من التفسير إن شاء الله تعالى.

(1)

انظر: "الإلزمات والتتبع" 348 - 349 (190).

(2)

سيأتي برقم (6537).

(3)

سيأتي برقم (4939).

(4)

انظر: "غريب الحديث" 1/ 124 - 125.

(5)

انظر: "إكمال المعلم" 8/ 407.

ص: 505

‌37 - باب لِيُبَلِّغِ العِلْمَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ

قَالَهُ ابن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

104 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهْوَ يَبْعَث البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَاي، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَاي حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فَقُولُوا: إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ". فَقِيلَ لأبِي شُرَيْحِ مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، لَا يُعِيدُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. [1832، 4295 - مسلم 1354 - فتح: 1/ 197]

105 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابن أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -قَالَ مُحَمَّد: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ- عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا فِي شَهْرِكُمْ هذا، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ". وَكَانَ مُحَمَّد يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ "ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ " مَرَّتَيْنِ. [انظر: 67 - مسلم 1679 - فتح: 1/ 199]

حدثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ -هو ابن أبي سَعِيد- عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهْوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الغَدَ مِنْ يَوْمِ الفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَاي، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَاي حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا،

ص: 506

وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، فَقُولُوا: إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بالأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الغَائِبَ". فَقِيلَ لأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ مِنْكَ يَاَ أَبَا شُرَيْحٍ، لَا يُعِيذُ عَاصِيًا، وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ، يعني: السرقة.

حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، ثنا حَمَّادٌ، عَنْ أَيّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابن أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ -قَالَ مُحَمَّدٌ: أَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ- عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا فِي شَهْرِكُمْ هذا، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ". وَكَانَ مُحَمَّد يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ "ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ " مَرَّتَيْنِ.

الكلام عليهما من وجوه:

أحدها:

أما حديث ابن عباس فقد أسنده في كتاب: الحج في باب: الخطبة أيام منى. عن علي بن عبد الله، عن يحيى بن سعيد، عن فضيل بن غزوان، عن عكرمة، عنه مطولًا

(1)

.

وأما حديث أبي شريح: فأخرجه هنا كما ترى، وفي الحج عن قتيبة

(2)

. وفي المغازي عن سعيد بن شرحبيل

(3)

.

وأخرجه مسلم في الحج عن قتيبة، كلهم عن الليث، به

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (1739).

(2)

سيأتي برقم (1832) باب: لا يعضد شجر الحرم.

(3)

سيأتي برقم (4295) كتاب: المغازي.

(4)

مسلم (1354) كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلَّا لمنشد على الدوام.

ص: 507

وأخرجاه بمعناه من حديث ابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهم

(1)

، وأخرجه في كتاب الحج -أعني: حديث أبي شريح- وفيه: "إن الحرم لا يعيذ"، إلى آخره

(2)

.

وفي حديث ابن إسحاق، عن أبي شريح، في أوله: لما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة عَلَى رجل من هذيل (فقتلوه)

(3)

وهو مشرك، فقام عليه السلام خطيبًا، فقال:"إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة"، وفيه:"لا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تَحْلُلْ لي إلا هذِه الساعة غضبًا عَلَى أهلها ألا ثمَّ رجعت لحرمتها بالأمس"، وفيه:"يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم من القتل، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين"، وذكر الحديث

(4)

.

وأخرجاه من حديث أبي هريرة: أن خزاعة قتلوا قتيلًا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه. وفي رواية: بقتيل لهم في الجاهلية، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب راحلته، فخطب فقال: "إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنها أحلت لي ساعة من

(1)

حديث ابن عباس سيأتي برقم (1349) كتاب: الجنائز، باب: الإذخر والحشيش في القبر. من حديث ابن عباس، رواه مسلم (1355) كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها، وحديث أبي هريرة سيأتي برقم (1353) كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها.

(2)

سيأتي برقم (1832) كتاب: جزاء الصيد، باب: لا يعضد شجر الحرم.

(3)

في الأصل: قتلوه، والمثبت من (ج).

(4)

رواه أحمد 4/ 32، والطحا وي في "شرح معا ني الآثار" 3/ 327 - 328 والطبراني 22/ 185 - 186 (485)، والبيهقي في "الدلائل" 5/ 83 - 84.

ص: 508

نهار، ألا وإنها ساعتي هذِه" الحديث وسيأتي قريبًا

(1)

.

وأما حديث أبي بكرة: فتقدم الكلام عليه في باب: رب مبلغ أوعى من سامع

(2)

. ثمَّ اعلم أنه وقع في البخاري فيه اضطراب من الرواة عن الفربري.

قَالَ أبو علي الغساني: وقع في نسخة أبي ذر الهروي فيما قيده عن الحموي وأبي الهيثم، عن الفربري، عن محمد، عن أبي بكرة فأسقط ابن أبي بكرة، ورواه سائر رواة الفربري بإثبات ابن أبي بكرة بينهما، ووقع الخلل فيه أيضًا في كتاب بدء الخلق والمغازي

(3)

، وقال أبو الحسن القابسي في نسخة أبي زيد: أيوب عن محمد بن أبي بكرة، وفي نسخة الأصيلي: محمد عن أبي بكرة على الصواب.

وذكر الدارقطني في "علله" أن إسماعيل بن علية وعبد الوارث روياه، عن أيوب، عن محمد، عن أبي بكرة

(4)

، ورواه قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين قَالَ: حَدَّثَنِي عبد الرحمن بن أبي بكرة ورجل آخر أفضل منه

(5)

، وسماه أبو عامر العقدي: حميد بن عبد الرحمن الحميري

(6)

.

(1)

سيأتي برقم (112) باب: كتابة العلم، ورواه مسلم برقم (1355) كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها.

(2)

سلف برقم (67)، كتاب: العلم.

(3)

سيأتي في بدء الخلق برقم (3197) باب: ما جاء في سبع أرضين، وسيأتي في المغازي برقم (4406)، باب: حجة الوداع.

(4)

"علل الدارقطني" 7/ 151 - 157.

(5)

سيأتي برقم (1741) كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى، (7078) كتاب: الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا".

(6)

مسلم (1679) كتاب: القسامة والمحاربين، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.

ص: 509

قَالَ الغساني: واتصال هذا الإسناد وصوابه: أن يكون عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه. وعن محمد بن سيرين، أيضًا عن حميد بن عبد الرحمن الحميري، عن أبي بكرة

(1)

.

الوجه الثاني: في الكلام عَلَى رجالهما غير من سلف.

أما حديث أبي شريح فسلف التعريف بهم، وأبو شريح خزاعي عدوي كعبي، وفي اسمه أقوال وصلتها في "شرح العمدة" إلى ستة

(2)

، وأصحها كما قَالَ ابن عبد البر: خويلد

(3)

بن عمرو بن صخر بن عبد العزى بن معاوية بن المحترش

(4)

بن عمرو بن زمَّان

(5)

بن عدي بن عمرو بن ربيعة. أسلم قبل الفتح وحمل لواء من ألوية بني كعب بن خزاعة يومئذ. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرين حديثًا، اتفقا عَلَى حديثين، هذا أحدهما، والآخر:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"

(6)

، وانفرد البخاري بحديث:"والله لا يؤمن -ثلاثًا- من لا يأمن جاره بوائقه"

(7)

روى عنه: نافع بن جبير وغيره.

(1)

"تقييد المهمل" 2/ 569 - 572 بتصرف، وانظر في ذلك كتاب "اختلاف رواة البخاري عن الفربري" لابن عبد الهادي ص 21 - 24.

(2)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 6/ 98 - 99.

(3)

وقع في (ج): حرملة.

(4)

وقع في الأصل: المحتوش، والمثبت من كتب التراجم، انظر:"تهذيب الكمال" 33/ 400 (7424).

(5)

ورد في "أسد الغابة" 2/ 152، "تهذيب التهذيب" 4/ 536: ابن مازن.

(6)

سيأتي برقم (6019) كتاب: الأدب، باب: من كان يؤمن بالله.

"صحيح مسلم"(48) كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير.

(7)

سيأتي برقم (6016) كتاب: الأدب، باب: إثم من لا يأمن جاره بوائقه.

ص: 510

قَالَ الواقدي: وكان من عقلاء أهل المدينة، وكان يقول: إِذَا رأيتموني أبلغ من أنكحته أو نكحت إليه (السلطان)

(1)

فاعلموا أني مجنون فاكووني، وإذا رأيتموني أمنع جاري أن يضع خشبة في حائطي، فاعلموا أني مجنون فاكووني، ومن وجد لأبي شريح سمنًا أو لبنًا أو جداية

(2)

فهو لَهُ حل

(3)

.

مات سنة ثمان وستين بالمدينة، وقيل: سنة (ثمان)

(4)

وخمسين، حكاه العسكري

(5)

.

فائدة:

في الصحابة من يشترك معه في كنيته اثنان: أبو شريح هانئ بن يزيد الحارثي

(6)

، وأبو شريح راوي حديث:"أعتى الناس عَلَى الله عز وجل"

(7)

الحديث

(8)

.

(1)

في (ج): للسلطان.

(2)

الجَدَايةُ والجِدَايةُ: الذكر والأنثى من أولاد الظباء إذا بلغ ستة أشهر وسبعة وعدا وتشدَّد، والجداية، بمنزلة العناق من الغنم.

انظر: "الصحاح" 6/ 2299، و"لسان العرب" 1/ 583 مادة:[جدا].

(3)

"الاستيعاب" 4/ 250 - 251 (3063).

(4)

في الأصول: ثماني.

(5)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" للبغوي 5/ 121 - 123، "أسد الغابة" 2/ 152 (1500)، "الإصابة" 4/ 101 (613).

(6)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" لابن قانع 3/ 201 (1179)، "الاستيعاب" 4/ 250 (3061)، "أسد الغابة" 6/ 165 (5998)، "الإصابة" 3/ 569 (8927).

(7)

انظره في "الاستيعاب" 4/ 250 (3062)، "أسد الغابة" 6/ 166 (5999)، "الإصابة" 4/ 102 (615). قال ابن حجر بعد أن ذكر أنه روى هذا الحديث: وهذا من حديث أبي شريح الخزاعي.

(8)

رواه البخاري في "التاريخ الكبير" 7/ 277 (1172)، وأحمد 4/ 31 - 32، 32.

والفسوي في "المعرفة والتاريخ" 1/ 397 - 398. وابن أبي عاصم في "الآحاد =

ص: 511

قالوا: هو الخزاعي، وقالوا غيره، وفي الرواة أيضًا أبو شريح المعافري

(1)

وآخر أخرج لَهُ ابن ماجه

(2)

.

وأما عمرو بن سعيد فهو: الأشدق، أرسل

(3)

. ووالده مختلف في

= والمثاني" 4/ 283 (2303 - 2304) (697)، والطبراني 22/ 190 - 191، والحاكم 4/ 349 كتاب: الحدود، والبيهقي 8/ 26 قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، إلا أن يونس بن يزيد رواه عن الزهري، وقال الذهبي: صحيح، لكن اختلف على الزهري فيه،. وذكره الهيثمي في "المجمع" 7/ 174، وقال: هو في الصحيح غير قوله: "أو بصر عينيه" رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح.

وقال الألباني في "إرواء الغليل" 7/ 276 - 279 (2220): أخرجه أحمد والبيهقي عن يونس عن الزهري عنه ورجاله ثقات رجال الشيخين غير مسلم بن يزيد وهو مقبول عند ابن حجر.

(1)

هو: عبد الرحمن بن شريح بن عبيد الله بن محمود المعافري أبو شريح الإسكندراني، قال أحمد ويحيى بن معين والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: لا بأس به. وقال أبو سعيد بن يونس: توفي بالإسكندرية سنه سبع وستين ومئة، وكانت له عبادة وفضل. وروى له الجماعة.

انظر: ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 516، "التاريخ الكبير" 5/ 296 (966)، "المعرفة والتاريخ" 1/ 154، "الجرح والتعديل" 5/ 243 (1161)، "تهذيب الكمال" 17/ 167 (3845).

(2)

هو: أبو شريح الذي روى عن أبي مسلم مولى زيد بن صوحان، وروى عنه قتادة، ومحمد بن زيد العبدي قاضي مرو، وذكره ابن حبان في كتاب "الثقات"، وقال ابن حجر: مقبول من السادسة. انظر ترجمته في: "الثقات" 7/ 660، "تهذيب الكمال" 33/ 401 (7425)، "التقريب" ص 648 (8159).

(3)

هو عمرو بن سعيد بن العاص أبو أمية المدني، المعروف بالأشدق، وهو عمرو

الأصغر؛ لأن الأكبر عم أبيه. وعمرو هذا يقال: له رؤية من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال البخاري: كان غزا ابن الزبير ثم قتله عبد الملك بن مروان. وقال ابن حجر: وقد أخطأ من زعم أن له رؤية؛ فإن أباه لا تصح له صحبة، بل يقال: إن له رؤية، وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان له نحو ثماني سنين. وقال أبو حاتم: ليست له صحبة. =

ص: 512

صحبته، وترجمته موضحة في شرحي للعمدة فراجعها منه

(1)

.

وأما حديث أبي بكرة فسلف التعريف برجاله خلا عبد الله بن عبد الوهاب (خ، س) وهو أبو محمد الحجبي البصري، روى عن مالك، وأبي عوانة. وعنه البخاري منفردًا به، وروى النسائي عن رجل عنه، ولم يخرِّج لَهُ مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. وهو ثقة ثبت، مات سنة ثمانٍ وعشرين ومائتين

(2)

.

الوجه الثالث: في فوائدها:

أما حديث ابن عباس فسيأتي إن شاء الله في موضعه. وأما حديث أبي بكرة فسلف الكلام عليه فيما مضى.

وأما حديث أبي شريح فالكلام عليه من وجوه:

أحدها:

البعوث: جمع بعث بمعنى: المبعوث، وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر، والمراد بالبعوث: القوم المرسلون للقتال ونحوه.

=روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن أبيه وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، وعنه: أولاده ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم. قال أبو سعيد بن يونس: قتل سنة سبعين، وذلك ما رجحه ابن حجر.

انظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" 5/ 237، "التاريخ الكبير" 6/ 338 (2570)، "الجرح والتعديل" 6/ 236 (1308)، "تهذيب التهذيب" 3/ 272.

(1)

"الإعلام بفوائد الأحكام" 6/ 100 - 101.

(2)

هو أبو محمد الحَجَبي، وعند ابن سعد الجُحَني، وذكره البخاري في "تاريخه الكبير" 5/ 141 (425) وقال: الجمحِي. وثقه يحيى بن معين وأبو داود، وقال أبو حاتم: صدوق. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال ابن حجر: ثقة من العاشرة.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد 7/ 307، "الثقات" 8/ 353، و"تهذيب الكمال" 15/ 246 (3400)، "التقريب" ص 312 (3449).

ص: 513

ويعني بها: الجيوش التي وجهها يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن الزبير، وذاك أنه لما توفي معاوية وجه يزيد إلى عبد الله يستدعي منه بيعته، فخرج إلى مكة ممتنعًا من بيعته، فغضب يزيد وأرسل إلى مكة يأمر واليها يحيى بن حكيم بأخذِ بيعة عبد الله، فبايعه، وأرسل إلى يزيد ببيعته، فقال: لا أقبل حتَّى يؤتى به في وثاق، فأبى ابن الزبير، وقال: أنا عائذ بالبيت. فأبى يزيد وكتب إلى عمرو بن سعيد أن يوجه إليه جندًا، فبعث هذِه البعوث.

قَالَ ابن بطال: وابن الزبير عند علماء أهل السنة أولى بالخلافة من يزيد وعبد الملك؛ لأنه بويع لابن الزبير قبل هؤلاء، وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قَالَ مالك: إن ابن الزبير أولى من عبد الملك

(1)

.

ثانيها:

مكة سيأتي إن شاء الله في الحج بيان أسمائها مستوفاة، سميت بذلك لقلة مائها، أو لأنها تمك الذنوب.

ومن أسمائها أيضًا بكة بالباء، وهي لغة فيها: لأنها تبك أعناق الجبابرة أي: تدقها. والبك: الدق، أو لازدحام الناس ما يبك بعضهم بعضا أي: يدفعه في زحمة الطواف.

وقال آخرون: إن مكة غير بكة، فقيل: الأولى الحرم كله، والثانية المسجد خاصة. وقيل: الأولى البلد، والثانية البيت. قيل: وموضع الطواف أيضًا

(2)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 1/ 180.

(2)

"معجم ما استعجم" 1/ 269، و"معجم البلدان" 5/ 182، و"تهذيب الأسماء" 3/ 39.

ص: 514

ثالثها:

أصل (ائذن) اأذن بهمزتين همزة وصل وفاء الكلمة، فقلبت الثانية ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فبقيت ائذن.

وقوله: (أيها الأمير)، الأصل يا أيها، فحذف حرف النداء.

رابعها:

فيه حسن التلطف في الإنكار، لاسيما مع الملوك فيما يخالف مقصودهم، لأنه أدعى لقبولهم، لاسيما من عرف منهم بارتكاب هواه، وأن الغلظة عليهم قد تكون سببًا لإثارة نفسه ومعاندته، فاستأذنه (في ذلك)

(1)

لأجل ذَلِكَ في التحديث.

خامسها:

فيه النصيحة لولاة الأمور، وعدم الغش لهم والإغلاظ عليهم.

سادسها:

فيه تبليغ الدين ونشر العلم، وذكر ابن إسحاق في آخره أنه قَالَ لَهُ عمرو بن سعيد: نحن أعلم بحرمتها منك. فقال لَهُ أبو شريح: إني كنتُ شاهدًا وكنتَ غائبًا، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ شاهدنا لغائبنا، وقد أبلغتك، فأنت وشأنك

(2)

.

قَالَ ابن بطال: كل من خاطبه الشارع بالعلم فتبليغه عليه متعين، وأما من بعدهم ففرض كفاية.

وقال ابن العربي: التبليغ عنه فرض كفاية، وقد كان عليه السلام إِذَا نزل عليه الوحي والحكم لا يبوح به في الناس، لكن يخبر به من حضره،

(1)

من (ج).

(2)

ذكره ابن هشام في "سيرته" 4/ 35 عن ابن إسحاق.

ص: 515

ثمَّ عليهم التبليغ إلى من وراءهم قوما بعد قوم، فالتبليغ فرض كفاية، والإصغاء فرض عين، والوعي والحفظ يترادان

(1)

عَلَى معنى ما يستمع، فإن كان مما يخصه تعين عليه، وإن كان يتعلق به وبغيره، أو بغيره، فالعمل فرض عين والتبليغ فرض كفاية

(2)

.

وذلك عند الحاجة إليه ولا يلزمه أن يقوله ابتداءً ولا بعضه، فقد كان قوم يكثرون الحديث فحبسهم عمر حتَّى مات وهم في سجنه

(3)

.

(1)

كذا بالأصل، وفي "عارضة الأحوذي ": يتركبان.

(2)

"عارضة الأحوذي" 10/ 125.

(3)

هذا الأثر رواه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" ص 553 (745) عن أبي عبد الله بن البري، عن عبد الله بن جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، عن معن بن عيسى، عن مالك بن أنس، عن عبد الله بن إدريس، عن شعبة بن الحجاج، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه أن عمر بن الخطاب حبس بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابن مسعود وأبو الدرداء، فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو عبد الله بن البري: يعني منعهم الحديث، ولم يكن لعمر حبس. ورواه أيضًا الطبراني في "الأوسط" 3/ 378 (3449) وقال: لم يحدث به إلا إسحاق بن موسى الأنصاري.

وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 149: رواه الطبراني في "الأوسط" وهذا أثر منقطع، وإبراهيم ولد سنة عشرين ولم يدرك من حياة عمر إلا ثلاث سنين، وابن مسعود كان بالكوفة، ولا يصح هذا عن عمر.

- ولقد ناقش ابن حزم هذا الخبر ورده حيث قال في "الإِحكام في أصول الأَحكام" 2/ 139: هذا مرسل ومشكوك فيه ولا يجوز الاحتجاج به، ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد؛ لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث، وعن تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وألزمهم كتمانها وجحدها وأن لا يذكروها لأحد، فهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، ولئن كان سائر الصحابة متهمين بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فما عمر إلا واحد منهم، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلا، ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين لقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذِه =

ص: 516

سابعها:

يوم الفتح هو: فتح مكة، وكان في عشرين رمضان في السنة الثامنة من الهجرة

(1)

.

ثامنها:

قوله: (سَمِعَتْهُ أُذُنَاي) إلى آخره. هو إشارة منه إلى مبالغته في حفظه من جميع الوجوه، ففي قوله:(سَمِعَتْة أُذُنَاي). نفي أن يكون سمعه من غيره، كما جاء في حديث النعمان بن بشير: وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه

(2)

.

(وَوَعَاهُ قَلْبِي): تحقيق لفهمه والتثبت في تعقل معناه.

(وَأَبْصَرَتْة عَيْنَاى حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ)، زيادة في تحقيق السماع والفهم عنه بالقرب منه والرؤية، وأن سماعه منه ليس اعتمادًا عَلَى الصوت دون حجاب، بل بالرؤية والمشاهدة.

والهاء، في قوله:(تكلم به) عائدة عَلَى قوله: (أحدثك قولًا).

تاسعها:

يؤخذ من قوله: (وَوَعَاهُ قَلْبِي). أن العقل محله القلب لا الدماغ،

= الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء، ولا بد له من أحدهما .. ثم قال: وقد حدث عمر بحديث كثير، فإنه قد روى خمسمائة حديث ونيفا على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كثير الرواية، وليس في الصحابة أكثر رواية منه إلا بضعة عشر منهم.

(1)

ورد في هامش الأصل: اختلف في تاريخ الفتح

(2)

سبق حديثه برقم (52) كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، واللفظة هذِه رواها مسلم برقم (1599) كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، وابن ماجه (3984).

ص: 517

وهو قول الجمهور

(1)

.

لأنه لو كان محله الدماغ لقال: ووعاه رأسي. وفي المسألة قول ثالث: أنه مشترك بينهما.

عاشرها:

قوله: (حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ): يؤخذ منه استحباب الحمد والثناء بين تعليم العلم وتبيين الأحكام، وقد يؤخذ منه وجوب الحمد والثناء عَلَى الله تعالى في الخطبة

(2)

.

(1)

قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 12/ 77 في معرض حديثه عن قوله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46] أضاف العقل إلى القلب؛ لأنه محله، كما أن السمع محله الأذن. وقد قيل: إن العقل محله الدماغ؛ وروي عن أبي حنيفة، وما أراها عنه صحيحة.

وانظر: "زاد المسير" لابن الجوزي 8/ 22. وكتاب "ذم الهوى" ص 5 حيث يقول فيه:

أكثر أصحابنا يقولون: محله القلب. وهو مروي عن الشافعي رحمه الله، ودليلهم قوله تعالى:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} ، وقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] قالوا: المراد: لمن كان له عقل فعبر بالقلب عن العقل؛ لأنه محله.

ونقل الفضل بن زياد عن أحمد أن محله الدماغ، وهو اختيار أصحاب أبي حنيفة.

وذهب ابن القيم رحمه الله إلى أن شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم والاعتناء بتطهير قلبه وحشوه إيمانًا وحكمة دليل على أن محل العقل القلب. انظر: "بدائع الفوائد" 3/ 721.

(2)

قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" 1/ 186: وكان لا يخطُب خُطبة إلا افتتحها بحمد الله. وأما قولُ كثير من الفقهاء: إنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وخطبة العيدين بالتكبير، فليس معهم فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة، وسنته تقتضي خلافه، وهو افتتاحُ جميع الخطب بـ"الحمد لله"، وهو أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب أحمد، وهو اختيار شيخنا قدَّس الله سِرَّه.

ص: 518

الحادي عشر:

يؤخذ منه أيضًا الخطبة للأمور المهمة والأحكام العامة.

الثاني عشر:

قوله: ("إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ") معناه: تفهيم المخاطبين تعظيم قدر مكة بتحريم الله تعالى إياها، ونفي ما يعتقده (الجاهلون)

(1)

وغيرهم من أنهم يحرموا ويحللوا

(2)

كما حرموا أشياء من قبل أنفسهم، وأكد ذَلِكَ المعنى بقوله:"وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ".

فتحريمها ابتدائي من غير سبب يُعزى لأحد، لا مدخل فيه لا لنبي ولا لعالم، ثمَّ بين التحريم بقوله:"فَلَا يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا" إلى آخره لأن من آمن بالله لزمه طاعته، ومن آمن باليوم الآخر لزمه القيام بما وجب عليه، واجتناب ما نهي عنه مخلصًا خوف الحساب عليه.

الثالث عشر:

فيه أن التحريم والتحليل من عند الله تعالى لا مدخل لبشر فيه، وأن الرجوع في كل حالة دنيوية وأخروية إلى الشرع، وأن ذَلِكَ لا يعرف إلا منه فعلًا وقولًا وتقريرًا.

الرابع عشر:

فيه عظم مكة وشرفها، زادها الله شرفًا وتعظيمًا.

الخامس عشر:

يقال: امرؤ، ومرء. وسمي يوم القيامة اليوم الآخر لأنه لا ليل

(1)

في الأصل: الجاهلية، والمثبت مناسب للسياق.

(2)

ورد في هامش الأصل: الجادة: يحرمون ويحللون.

ص: 519

بعده، ولا يقال يوم إلا لما تقدمه ليل.

السادس عشر:

قَدْ يتوهم من قوله: "واليوم الآخر" أن فيه دلالة على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة

(1)

، وليس كذلك، بل هذا من خطاب

(1)

قال النووي رحمه الله في "المجموع" 3/ 5:

وأما الكافر الأصلي فاتفق أصحابنا في كتب الفروع على أنه لا يجب عليه الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من فروع الإسلام.

فأما في كتب الأصول فقال جمهورهم: هو مخاطب بالفروع كما هو مخاطب بأصل الإيمان، وقيل: لا يخاطب بالفروع. وقيل: يخاطب بالمنهي عنه كتحريم الزنا والسرقة والخمر والربا وأشباهها دون المأمور به كالصلاة.

والصحيح الأول، وليس هو مخالفا لقولهم في الفروع؛ لأن المراد هنا غير المراد هناك، فمرادهم في كتب الفروع أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم، وإذا أسلم أحدهم لم يلزمه قضاء الماضي، ولم يتعرضوا لعقوبة الآخرة، ومرادهم في كتب الأصول أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعا لا على الكفر وحده، ولم يتعرضوا للمطالبة في الدنيا فذكروا في الأصول حكم أحد الطرفين وفي الفروع حكم الطرف الآخر، والله أعلم.

وهو ما ذهب إليه جمهور المالكية من أنهم مخاطبون بفروع الشريعة، ومعاقبون على المخالفات في أحكام الشرائع، وهو قول الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وذهب إليه العراقيون من أصحاب أبي حنيفة.

وإليه ذهب أكثر المعتزلة واحتجوا في ذلك بعموم من القرآن، كقوله تعالى:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)} [المدثر: 42، 43]. وأيضًا قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7]

وقال أبو حنيفة وجماهير أصحابه، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد: إنهم غير مخاطبين، واحتجوا في ذلك بأن قالوا: لو وجبت الصلاة على الكافر مثلًا، لوجبت إما في حال كفره، أو بعده، والأول: باطل؛ لامتناع الصلاة من الكافر حال كفره، والثاني: أيضًا باطل؛ لاتفاقنا على أن الكافر إذا أسلم لا يؤمر بقضاء =

ص: 520

التهييج وهو معلوم عند علماء البيان، فاستحلال ذَلِكَ لا يليق بمن يؤمن بالله واليوم الآخر، بل ينافيه، هذا هو المقتضي لذكر هذا الوصف

(1)

، ومثله قوله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] وغير ذلك.

السابع عشر:

("يسفك") بكسر الفاء وحكي ضمها، وهي قراءة شاذة في قوله تعالى:{وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}

(2)

[البقرة: 30] والسفك لغة: صب الدم.

قَالَ المهدي: ولا تستعمل إلا فيه، وقد تستعمل في نشر الكلام إِذَا نشره

(3)

.

الثامن عشر:

سياق الحديث ولفظه يدلان عَلَى تحريم القتال لأهل مكة، وبه قَالَ القفال من أصحابنا، وهو أحد القولين في قوله تعالى:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] أي: من الغارات وهو ظاهر قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وهو منقول من عادة العرب في احترامهم مكة.

= الصلوات الفائتة في أيام الكفر. انظر: "لباب المحصول في علم الأصول" 1/ 256، "تخريج الفروع على الأصول" ص 98، "الوصول إلى الأصول" 1/ 91.

وفي المسألة أقوال أخرى: أنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر، وهو رواية عن الإمام أحمد. وقال بعضهم: إنهم مكلفون فيما عدا الجهاد. "شرح الكوكب المنير" 1/ 501، "روضة الناظر" ص 50.

(1)

انظر: "إحكام الأحكام" ص 459.

(2)

أوردها ابن خالويه في "مختصر شواذ القرآن" ص 12 وعزاها لطلحة بن مصرف.

(3)

"لسان العرب" 4/ 2030 مادة (سفك)، وقيل: الإراقة، وفيه: سفك الكلام: نثره، بالثاء.

ص: 521

وقال الماوردي

(1)

في "أحكامه": من خصائص حرم مكة ألا يحارب أهله، فلو بغى أهله عَلَى أهل العدل، فإن أمكن ردهم عن البغي بغير قتال لم يجز قتالهم، وإن لم يمكن ردهم عنه إلا به فقال جمهور الفقهاء: يقاتلون؛ لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها

(2)

.

وقال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم، ويضيق عليهم حتَّى يرجعوا إلى الطاعة، ويدخلوا في أحكام أهل العدل

(3)

.

قَالَ النووي في "شرح مسلم": والأول هو الصواب المنصوص عليه في "الأم"(و)

(4)

في "اختلاف الحديث"، و"سير الواقدي"، وقول القفال غلط، وأجاب الشافعي في "سير الواقدي"

(5)

عن الأحاديث

(1)

الماوردي: الإمام العلامة قاضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب، البصري الماوردي الشافعي، صاحب التصانيف في الأصول والفروع والتفسير:"الأحكام السلطانية" و"أدب الدنيا والدين"، قال: بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة. يعني "الإقناع" وله "الحاوي" قال الأسنوي: ولم يصنف مثله. و"قانون الوزارة".

قال الخطيب: كان ثقة من وجوه الفقهاء الشافعيين، وُلِّي القضاء ببلدان شتى ثم سكن بغداد. وقال ابن خيرون: كان رجلًا عظيم القدر متقدمًا عند السلطان. وقال ابن كثير: وكان حليمًا وقورًا أديبًا، لم يرَ أصحابه ذراعه يومًا من الدهر من شدة تحرزه وأدبه. وفي وفاته قال الخطيب: مات في ربيع الأول سنة خمسين وأربع مئة، وقد بلغ ستًا وثمانين سنة.

انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" 12/ 102، و"سير أعلام النبلاء" 18/ 64، و"البداية والنهاية" 12/ 539، و"شذرات الذهب" 3/ 285.

(2)

"الأحكام السلطانية" ص 193 - 194.

(3)

انظر: "إحكام الأحكام" ص 458.

(4)

زيادة ليست في الأصول والسياق يقتضيها.

(5)

هذا الكتاب أحد الأبواب في كتاب "الأم"، والنص بمعناه في "الأم" 4/ 202.

ص: 522

بأن معناها: تحريم نصب القتال عليهم، وقتالهم بما يعم، كالمنجنيق وغيره إِذَا لم يكن إصلاح الحال بدون ذَلِكَ، بخلاف ما إِذَا تحصن الكفار ببلد آخر، فإنه يجوز قتالهم عَلَى كل وجه، وبكل شيء

(1)

.

ونازع الشيخ تقي الدين القشيري

(2)

في ذَلِكَ وقال: إنه خلاف الظاهر القوي الذي دل عليه عموم النكرة في سياق النفي، والمأذون له فيه هو مطلق القتال ولم يكن بما يعم

(3)

. وهو كما قَالَ، فالحديث نص في الخصوصية، وقد اعتذر فيه عما أبيح لَهُ من ذَلِكَ وهو ما فهمه راوي الحديث، وما أبعد من ادعى نسخ الحديث بقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ذكرتها لأنبه عَلَى وهنها.

(1)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 9/ 125.

(2)

"إحكام الأحكام" ص 458 - 459 حيث قال:

هذا التأويل على خلاف الظاهر القوي، الذي دل عليه عموم النكرة في سياق النفي، في قوله صلى الله عليه وسلم:"فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا" وأيضَا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين خصوصيته؛ لإحلالها له ساعة من نهار وقال: "فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" فأبان بهذا اللفظ: أن المأذون للرسول صلى الله عليه وسلم فيه لم يؤذن فيه لغيره.

والذي أذن للرسول فيه: إنما هو مطلق القتال، ولم يكن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بمنجنيق وغيره مما يعم، كما حمل عليه الحديث في هذا التأويل.

وأيضًا فالحديث وسياقه يدل على أن هذا التحريم لإظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها وسفك الدم. وذلك لا يختص بما يستأصل.

وأيضا فتخصيص الحديث بما يستأصل ليس لنا دليل على تعيين هذا الوجه بعينه؛ لأن يحمل عليه الحديث. فلو أن قائلًا أبدى معنى آخر، وخص به الحديث لم يكن بأولى من هذا.

(3)

انظر: "إحكام الأحكام" ص 458.

ص: 523

التاسع عشر:

الحديث دال دلالة واضحة عَلَى تحريم مكة، وأبعدَ مَنْ قال: إن إبراهيم - عليه السلا - أول من افتتح ذَلِكَ، والصواب أنها لم تزل محرمة من يوم خلق الله السماوات والأرض، وإضافة التحريم إلى إبراهيم في بعض الأحاديث؛ إما لأنه أول من أظهر ذَلِكَ بعد خفائه وبلَّغه، أو أنه حرمها بإذن الله فأضيف التحريم إليه، أو أنه دعا لها فكان تحريم الله لها بدعوته

(1)

.

العشرون:

ربما استدل به أبو حنيفة عَلَى أن الملتجئ إلى الحرم إِذَا وجب عليه قتل لا يقتل به؛ لأن قوله: "لَا يَحِلُّ لاِمْرِئٍ .. أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا" عام يدخل فيه صورة النزاع.

قَالَ أبو حنيفة: بل يلجا إلى أن يُخرج من الحرم، فيقتل خارجه وذلك بالتضييق عليه

(2)

.

وهو قول عمر بن الخطاب وجماعات. وقال أبو يوسف ومالك وجماعة: يُخرج فيقام عليه الحد

(3)

وحكاه القاضي عن الحسن وغيره، ولم يخالف أبو حنيفة في إقامة الحدود بالحرم. غير حد القتل خاصة، وقد أخرج ابن الزبير قومًا من الحرم إلى الحل فصلبهم.

(1)

دل على ذلك ما رواه البخاري برقم (2129) كتاب: البيوع، باب: بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده.

(2)

انظر: "أحكام القرآن للجصاص" 1/ 73، "بدائع الصنائع" 7/ 114.

(3)

انظر: "المحلى" 7/ 262.

ص: 524

وقال حماد بن أبي سليمان: من قتل ثمَّ لجأ إلى الحرم يخرج منه فيقتل، وأما من تعدي عليه في الحرم فليدفع عن نفسه، قَالَ تعالى:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 191] الآية

(1)

.

وحكى ابن بطال، عن ابن عباس، وعطاء، والشعبي فيمن أصاب حدًا من قتل أو زنا أو سرقة، أنه إن أصابه في الحرم أقيم عليه الحد، وإن أصابه في غيره لا يجالس ولا يؤوى حتَّى يخرج فيقام عليه الحد

(2)

.

وقال ابن الجوزي: انعقد الإجماع عَلَى أن من جنى في الحرم يقاد منه فيه ولا يؤمِّن؛ لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان

(3)

.

واختلف فيمن ارتكب جناية خارج الحرم، ثمَّ لجأ إليه، فروي عن أبي حنيفة

(4)

وأحمد: أنه يلجأ إلى الخروج فيقام عليه الحد

(5)

.

قُلْتُ: ومذهب الشافعي

(6)

ومالك: يقام فيه

(7)

.

ونقل ابن حزم عن جماعة من الصحابة المنع، ثمَّ قَالَ: ولا مخالف لهم من الصحابة.

ثمَّ نقل عن جماعة من التابعين موافقتهم، ثمَّ شنع عَلَى مالك والشافعي فقال: قد خالفا في هذا هؤلاء الصحابة والكتاب

(1)

انظر: "المحلى" 7/ 262، وروى هذا الأثر ابن أبي شيبة 5/ 549 (28909).

(2)

"شرح ابن بطال" 4/ 498 - 499.

(3)

"زاد المسير" 1/ 427.

(4)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 73، "حاشية رد المحتار" 6/ 547، "بدائع الصنائع" 7/ 114.

(5)

انظر: "الكافي" 5/ 180 - 182، "الإقناع" 4/ 214.

(6)

انظر: "تقويم النظر" 4/ 433، "روضة الطالبين" 9/ 224.

(7)

انظر: "التفريع" 2/ 217، "عيون المجالس" 5/ 2019، "عقد الجواهر الثمينة" 3/ 1106.

ص: 525

والسنة

(1)

. وليس كما قَالَ.

وأما قصة ابن خطل وقوله عليه السلام: "اقتلوه"

(2)

. فأجيب عنها (بأوجه)

(3)

:

أحدها: أنه ارتد وقتل مسلمًا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيها: أنه لم يدخل في الأمان، فإنه استثناه وأمر بقتله وإن وجد متعلقًا بأستار الكعبة.

ثالثها: أنه كان ممن التزم الشرط وقاتل.

وأجاب بعضهم: بأنه إنما قتل في تلك الساعة التي أبيحت له، وهو غريب، فإن الساعة للدخول حتَّى استولى عليها وأذعن أهلها، وقتل ابن خطل كان بعد ذَلِكَ، وبعد قوله:"من دخل المسجد فهو آمن"

(4)

وقد دخل لكنه استئني مع جماعة غيره.

الحادي بعد العشرين:

قوله: "فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم" فيه دلالة عَلَى أن مكة -شرفها الله تعالى- فُتحت عَنْوة، وهو قول الأكثرين

(5)

.

(1)

انظر: "المحلى" 7/ 262 بتصرف.

(2)

سيأتي برقم (1846) كتاب: جزاء الصيد، باب: دخول الحرم ومكة.

(3)

في (ج): بأجوبة.

(4)

رواه أبو داود (3022).

ورواه الطبراني 8/ 12 (7264). والبيهقي 9/ 119.

وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 167 (10234)، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(2671).

(5)

قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" 3/ 429 - 432.

وفيها [أي: في قصة فتح مكة] البيانُ الصريح بأن مكة فُتحت عَنْوَة كما ذهب إليه جمهور أهل العلم، ولا يُعرف في ذلك خلاف إلا عن الشافعي وأحمد في أحد =

ص: 526

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قوليه، وسياق القصة أوضحُ شاهد لمن تأمله لقول الجمهور، ولما استهجن أبو حامد الغزالي القول بأنها فُتحت صلحًا، حكى قول الشافعي أنها فُتحت عَنوة في "وسيطه"، وقال: هذا مذهبُه.

قال أصحاب الصلح: لو فتحت عَنوة، لقسمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين الغانمين كما قسم خيبر، وكما قسم سائر الغنائم من المنقولات، فكان يُخمسها ويقسمها، قالوا: ولما استأمن أبو سفيان لأهل مكة لما أسلم، فأمنهم، كان هذا عقد صلح معهم، قالوا: ولو فُتحت عَنوة، لملك الغانمون رباعها ودورها، وكانوا أحق بها من أهلها، وجاز إخراجهم منها، فحيث لم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بهذا الحُكم، بل لم يرد على المهاجرين دورهم التي أخرجوا منها، وهي بأيدي الذين أخرجوهم، وأقرهم على بيع الدور وشرائها وإجارتها وسكناها، والانتفاع بها، وهذا مناف لأحكام فتوح العَنوة، وقد صرح بإضافة الدور إلى أهلها، فقال:"دخل دار أبي سُفيان، فهو آمن، ومن دخل داره، فهو آمن".

قال أرباب العَنوة: لو كان قد صالحهم لم يكن لأمانه المقيد بدخول كل واحد داره، وإغلاقه بابه، وإلقائه سلاحه فائدة، ولم يُقاتهلم خالد ابن الوليد حتى قتل منهم جماعة، ولم يُنكر عليه، ولما قتل مقيس ابن صُبابة وعبد الله بن خَطَل ومن ذُكر معهما، فإن عقد الصلح لو كان قد وقع، لاستثنى فيه هؤلاء قطعًا، ولنقل هذا وهذا، ولو فُتحت صُلحًا، لم يُقاتلهم، وقد قال:"فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم".

ومعلوم أن هذا الإذن المختص برسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو الإذن في القتال لا في الصلح، فإن الإذن في الصلح عام. وأيضًا فلو كان فتحها صلحًا، لم يقل: إن الله قد أحلها له ساعة من نهار، فإنها إذا فُتحت صُلحًا كانت باقية على حرمتها، ولم تخرج بالصلح عن الحرمة، وقد أخبر بأنها في تلك الساعة لم تكن حرامًا، وأنها بعد انقضاء ساعة الحرب عادت إلى حُرمتها الأولى.

وأيضًا فإنها لو فُتحت صلحًا لم يعبئ جيشه: خيالتَهم ورجالتهم مَيمنةً ومَيسرة، ومعهم السلاح، وقال لأبي هريرة:"اهتف لي بالأنصار"، فهتف بهم، فجاءوا، فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم"، ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى:"احصدوهم حصدًا حتى توافوني على الصفا"، حتى قال =

ص: 527

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أبو سفيان: يا رسول الله أبيحت خضراءُ قريش، لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أغلق بابه، فهو آمن". وهذا محال أن يكون مع الصلح، فإن كان قد تقدم صلح -وكلا- فإنه ينتقضُ بدون هذا.

وأيضًا فكيف يكون صلحًا، وإنما فتحت بإيجاف الخيل والركاب، ولم يحبس الله خيل رسوله وركابه عنها، كما حبسها يوم صُلح الحُديبية، فإن ذلك اليوم كان يوم الصلح حقًا، فإن القصواء لما بركت به، قالوا: خلأت القصواءُ، قال:"ما خلأت وما ذاك لها بخُلُقٍ، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والله لا يسألوني خطة يُعظمون فيها حرمة من حرمات الله إلا أعطيتهموها".

وكذلك جرى عقدُ الصلح بالكتاب والشهود، ومحضر ملإٍ من المسلمين والمشركين، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة، فجرى مثل هذا الصلح في يوم الفتح، ولا يُكتب ولا يُشهد عليه، ولا يحضره أحد، ولا ينقل كيفيته والشروط فيه! هذا من الممتفع البين امتناعه.

وتأمل قوله: "إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين"، كيف يفهم منه أن قهر رسوله وجنده الغالبين لأهلها أعظم من قهر الفيل الذي كان يدخلها عليهم عَنوة، فحبسه عنهم، وسلط رسوله والمؤمنين عليهم حتى فتحوها عنوة بعد القهر، وسلطان العنوة، وإذلال الكفر وأهله، وكان ذلك أجل قدرًا، وأعظم خطرًا، وأظهر آية، وأتم نصرة، وأعلى كلمة من أن يدخلهم تحت رقِّ الصلح، واقتراحِ العدو وشروطهم، ويمنعهم سلطان العَنوة وعِزها وظفرها في أعظم فتح فتحه على رسوله، وأعز به دينه، وجعله آية للعالمين.

قالوا: وأما قولكم: أنها لو فتحت عنوة، لقُسمت بين الغانمين، فهذا مبني على أن الأرض داخلة في الغنائم التي قسمها الله سبحانه بين الغانمين بعد تخميسها، وجمهور الصحابة والأئمة بعدهم على خلاف ذلك، وأن الأرض ليست داخلة في الغنائم التي تجب قسمتها، وهذِه كانت سيرة الخُلفاء الراشدين، فإن بلالًا وأصحابه لما طلبوا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقسم بينهم الأرض التي افتتحوها عَنوة وهي الشام وما حولها، وقالوا له: خذ خمسها واقسمها، فقال عمر: هذا غير المال، ولكن أحبسه فيئًا يجري عليكم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه رضي الله عنهم: اقسمها بيننا، فقال عمر:"اللهم اكفني بلالًا وذويه"، فما حال الحول ومنهم =

ص: 528

وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والأوزاعي، لكنه مَنّ عَلَى أهلها وسوغهم أموالهم ودورهم ولم يقسمها ولا جعلها فيئا

(1)

.

قَالَ أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد، وقال الشافعي وغيره: فُتِحَتْ صلحًا

(2)

، وتأولوا الحديث بأن القتال كان جائزًا له لو احتاج إليه، لكن يضعفه قوله:(فإن ترخص أحد لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم) فإنه يقتضي وجود قتال منه ظاهرًا

(3)

وقوله: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"

(4)

إلى غيره من الأمان المعلق عَلَى أشياء مخصوصة، وتوسط الماوردي في المسألة فقال:

= عين تطرف، ثم وافق سائر الصحابة رضي الله عنهم عمر رضي الله عنه على ذلك، وكذلك جرى في فتوح مِصر والعراق، وأرض فارس، وسائر البلاد التي فُتحت عَنوة لم يَقسم منها الخلفاء الراشدون قريةً واحدة.

ولا يَصح أن يقال: إنه استطاب نفوسهم، ووقفها برضاهم، فإنهم قد نازعُوه في ذلك، وهو يأبى عليهم، ودعا على بلالٍ وأصحابه رضي الله عنهم وكان الذي رآه وفعله عين الصواب ومحض التوفيق، إذ لو قُسمت، لتوارثها ورثة أولئك وأقاربهم، فكانت القرية والبلد تصير إلى امرأة واحدة، أو صبي صغير، والمقاتلة لا شيء بأيديهم، فكان في ذلك أعظمُ الفساد وأكبره، وهذا هو الذي خاف عمر رضي الله عنه منه، فوفقه الله سبحانه لترك قسمة الأرض، وجعلها وقفًا على المقاتلةِ تجري عليهم فيئًا حتى يغزو منها آخرُ المسلمين، وظهرت بركةُ رأيه ويُمنه على الإسلام وأهله، ووافقه جمهور الأئمة.

(1)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 12/ 33.

(2)

انظر المرجع السابق.

(3)

انظر: "إِحكام الأحكام" ص 460.

(4)

رواه مسلم (1780)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فتح مكة، وأبو داود (3024)، والنسائي في "الكبرى" 6/ 382 - 383 (11298)، والطيالسي 4/ 188 (2564)، وأحمد 2/ 292، وابن خزيمة 4/ 230 (2758)، وابن حبان 11/ 75 (4760)، والبيهقي في "السنن" 9/ 117، وفي "دلائل النبوة" 5/ 55 - 56، من حديث أبي هريرة.

ص: 529

عندي أن أسفلها دخله خالد بن الوليد عَنْوةَ، وأعلاها دخله الزبير بن العوام صلحًا، ودخلها الشارع من جهته (فصار حكم جهته الأغلب)

(1)

، ولم يغنم أسفل مكة؛ لأن القتال كان عَلَى جبالها ولم يكن فيها.

قَالَ الخطابي: وتأول غيرهم الإذن لَهُ في ساعة من نهار عَلَى معنى دخوله إياها من غير إحرام. لأنه صلى الله عليه وسلم دخلها وعليه عمامة سوداء، وقيل: إنما أُحل لَهُ في تلك الساعة إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائر ما حَرُمَ عَلَى الناس

(2)

.

الثاني بعد العشرين:

قوله: ("وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً") أي: يقطع بالمُعْضَد وهو: سيف يمتهن في قطع الشجر. ويقال: المعضاد أيضًا فهو معضود يقال منه: عَضَدَ بالفتح يَعْضِد بالكسر كضرب يضرب، ويعضُد بالضم إِذَا أعان؛ والمعاضَدة: المعاونة، فقوله:"وَلَا يَعْضِدَ" هو بكسر الضاد فقط أي: لا يقطع أغصانها.

قَالَ المازري: ويقال: عضد واستعضد

(3)

.

وقال الطبري: معنى "لَايَعْضِدَ": لا يفسد ويقطع، وأصله من عَضَد الرجل إِذَا أصاب عضده، لكنه يقال منه: عضده يعضده بالضم في المضارع كما سلف فيما إذا أعانه، بخلاف العضد بمعنى: القطع، والشجر: ما كان عَلَى ساق

(4)

.

(1)

في (ج): فصار الأغلب من جهته.

(2)

"أعلام الحديث" 1/ 210.

(3)

انظر: "المعلم بفوائد مسلم" 1/ 375.

(4)

"تهذيب الآثار" مسند ابن عباس: السفر الأول ص 44.

ص: 530

الثالث بعد العشرين:

فيه دليل عَلَى تحريم قطع شجر الحرم، وهو إجماع

(1)

فيما لا يستنبته الآدميون في العادة، وسواء الكلأ وغيره، وسواء كان لَهُ شوك يؤذي أم لا.

وقال جمهور الشافعية: لا يحرم قطع الشوك، لأنه مؤذ فأشبه الفواسق الخمس، ويخصون الحديث بالقياس، وصحح المتولي منهم التحريم مطلقا وهو قوي دليلًا لقوله صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" أيضًا:"ولا يعضد شوكه"

(2)

وفي لفظ: "ولا يخبط شوكها"

(3)

والخبط: ضرب بالعصا؛ ليسقط الورق. ولأن غالب شجر الحرم ذو شوك.

والقياس المذكور ضعيف؛ لقيام الفارق، وهو أن الفواسق الخمس تقصد الأذى بخلاف الشجر

(4)

.

وقال الخطابي: أكثر العلماء عَلَى إباحة الشوك، ويشبه أن يكون المحظور منه ما يرعاه الإبل، وهو ما رق منه دون الصلب الذي لا ترعاه، فيكون ذَلِكَ كالحطب وغيره

(5)

.

أما ما يستنبته الآدميون فالأصح عند الشافعية إلحاقه بما لا يستنبت

(6)

خلافًا للمالكية

(7)

ولأصحاب أبي حنيفة.

(1)

نقل الإجماع النووي في "المجموع" 7/ 451، وابن قدامة في "المغني" 5/ 185.

(2)

سيأتي برقم (1834) كتاب: جزاء الصيد، باب: لا يحل القتال بمكة.

(3)

رواه مسلم برقم (1354) كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام، وابن حزم في "المحلى" 8/ 258، والبيهقي في "السنن الكبرى" 5/ 195.

(4)

انظر: "البيان" 4/ 258، "المجموع" 7/ 451.

(5)

"معالم السنن" 2/ 190.

(6)

انظر: "البيان" 4/ 258.

(7)

انظر: "التفريع" 1/ 331.

ص: 531

فرع: لو قطع ما يحرم قطعه هل يضمنه؟ قَالَ مالك: لا، ويأثم

(1)

.

وقال الشافعي وأبو حنيفة: نعم. ثمَّ اختلفا، فقال الشافعي: في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة

(2)

. كما جاء عن ابن عباس وابن الزبير، وبه قَالَ أحمد

(3)

. وقال أبو حنيفة: الواجب في الجميع القيمة

(4)

. قَالَ الشافعي: ويضمن الخلى بالقيمة

(5)

، والخَلَى والعشب: اسم للرطب، والحشيش: اسم لليابس منه عَلَى الأشهر، والكلأ يطلق عليهما.

فرع: يجوز عند الشافعي ومن وافقه رعي البهائم في كلأ الشجر

(6)

.

وقال أبو حنيفة

(7)

وأحمد

(8)

ومحمد: لا يجوز.

الرابع بعد العشرين:

قوله: ("وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ") فيه صراحة بنقل العلم وإشاعة السنن والأحكام، وهو إجماع، وقد أسلفنا ذَلِكَ، وكل من حضر شيئًا وعاينه فقد شهده، وقيل: لَهُ شاهد. والغائب: من غاب عنه، وهذا اللفظ قَدْ جاء في عدة أحاديث، وقد ذكر البخاري منها ثلاثة

(9)

.

(1)

انظر: "عيون المجالس" 2/ 880، "الذخيرة" 3/ 337.

(2)

انظر: "البيان" 4/ 260، "المجموع" 7/ 455.

(3)

انظر: "المغني" 5/ 188، "الفروع" 3/ 478.

(4)

انظر: "بدائع الصنائع" 2/ 210، "البحر الرائق" 3/ 77.

(5)

انظر: "البيان" 4/ 261.

(6)

"البيان" 4/ 261، "المجموع" 7/ 457.

(7)

"بدائع الصنائع" 2/ 210.

(8)

وللحنابلة وجهان: أحدهما: لا يجوز، والآخر: يجوز. انظر: "الكافي" 2/ 396، "المغني" 5/ 187 - 188.

(9)

منها حديث هذا الباب وحديث ابن عباس يأتي برقم (1739) كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى.

ص: 532

الخامس بعد العشرين:

قول عمرو لأبي شريح: (أنا أعلم منك يا أبا شريح) إلى آخره. هو كلامه ولم يسنده إلى رواية، وقد شنع عليه ابن حزم في ذَلِكَ في "محلاه" في كتاب الجنايات، فقال: لا كرامة للطيم الشيطان الشرطي الفاسق، يريد أن يكون أعلم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وهذا الفاسق هو العاصي لله ولرسوله ومن ولَّاه أو قلده، وما حامل الخَرْبة في الدنيا والآخرة إلا هو ومن أمره وأيده وصوب قوله

(1)

.

وكان ابن حزم إنما ذكر ذَلِكَ؛ لأن عمرًا ذكر ذَلِكَ عَلَى اعتقاده في ابن الزبير، وقد اعترض عليه أيضًا غير واحد في ذَلِكَ.

قَالَ ابن بطال: ما قاله ليس بجواب؛ لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حدًّا في غير الحرم ثمَّ لجأ إلى الحرم هل يقام عليه، وإنما أنكر عليه أبو شريح بعثه البعوث إلى مكة واستباحة حرمتها بنصب الحرب عليها، فحاد عمرو عن الجواب، واحتج أبو شريح بعموم الحديث، وذهب إلى أن مثله لا يجوز أن يستباح بعد ولا ينصب الحرب عليها بقتال بعدما حرمها الشارع

(2)

.

وقال القرطبي: قول عمرو ليس بصحيح للذي تمسك به أبو شريح، وحاصل كلام عمرو أنه تأويل غير معضود بدليل

(3)

.

فرع: هل تأويل الصحابي للحديث أولى ممن يأتي بعده؛ لأنه أعلم بمخرجه أم لا إِذَا لم يصبه؟ خلاف.

(1)

"المحلى" 10/ 498.

(2)

"شرح ابن بطال" 1/ 180.

(3)

"المفهم" 3/ 475.

ص: 533

قَالَ المازري في "شرح البرهان": مخالفة الراوي لما رواه مخالفة كلية أو ظاهرة عَلَى وجه التخصيص، أو لتأويل محتمل أو مجمل كله، فيه خلاف. وعند الشافعي: العبرة بما روى لا بما رأى خلافًا لأبي حنيفة

(1)

.

وقال الرازي: ظاهر مذهب الشافعي أنه إن كان تأويله مخالفًا للظاهر رجع إلى الحديث، وإن كان أحد محتملاته الظاهرة رجع إليه

(2)

.

السادس بعد العشرين:

معنى "لا يعيذ": لا يعصم. والاستعاذة: الاستجارة بالشيء والاعتصام به. والفار: الهارب. والخَرْبَة: بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء عَلَى المشهور في جميع الروايات غير الأصيلي فقال: بضم الخاء أي: الفعلة الواحدة

(3)

.

ورواه بعضهم كما ذكره ابن بَزيزة: بخزية -بالمثناة تحت- وأصلها: سرقة الإبل وكذا الخرابة، وتطلق عَلَى كل جناية سواء كانت في الإبل أو غيرها. والحرابة -بالحاء المهملة- تقال في كل شيء، وقد سلف تفسيرها بالسرقة، وفي موضع آخر منه: بالبلية، ذكره في المغازي

(4)

.

والأول رواية المستملي. وقال الخليل: هي الفساد في الدين من الخارب: وهو اللص المفسد، وقيل: هي العيب

(5)

.

(1)

"إيضاح المحصول من برهان الأصول" للمازري ص 328.

(2)

"المحصول" للرازي 4/ 631.

(3)

انظر: مادة (خرب) في "الصحاح" للجوهري 1/ 118، "غريب الحديث" 2/ 314، "النهاية في غريب الحديث" 2/ 17.

(4)

سيأتي برقم (4295) كتاب: المغازي، باب: منزل النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

ورد بهامش الأصل (س): ثم بلغ في الثالث بعد الثلاثين كتبه مؤلفه غفر الله له.

ص: 534

‌38 - باب إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم

-

106 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْصُورٌ قَالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ". [مسلم: 1 - فتح: 1/ 199]

107 -

حَدَّثَنَا أَبُو الوَليدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: إِنيِّ لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ ولكن سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". [فتح: 1/ 200]

108 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ، قَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ تَعَمَّدَ عَلَى كَذِبًا فَلْيَتبوَّأْ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ". [مسلم: 2 - فتح: 1/ 201]

109 -

حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتبوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". [فتح: 1/ 201]

110 -

حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تَسَمَّوْ ابِاسْمِي، وَلَاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي، وَمَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". [3539، 6188، 6197، 6993 - مسلم: 3/ 2134، 2266 - فتح: 1/ 202]

حدثنا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ أَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي مَنصُورٌ قَالَ: سَمِعْتُ رِبعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ".

حَدَّثنَا أَبُو الوَليدِ ثنا شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ

ص: 535

ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ: إِنِّي لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ ولكن سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتبوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".

حَدَّثنَا أَبُو مَعْمَرٍ، ثنا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ، قال: قَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثيرًا أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتبوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".

حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".

حَدَّثنَا مُوسَى، ثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تَسَمَّوْا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي، وَمَنْ رَآنِي فِي المَنَام فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتبوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".

الكلام عَلَى هذِه القطعة من وجوه:

أحدها:

حديث علي رضي الله عنه، أخرجه مسلم في المقدمة من حديث غُنْدر، عن شعبة به

(1)

. وحديث (ابن الزبير)

(2)

من أفراده.

وزاد أبو داود فيه: "متعمدًا"

(3)

والمحفوظ في البخاري والنسائي

(1)

"صحيح مسلم"(1) المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

بهامش الأصل تعليق نصه: صوابه حذف ابن؛ لأن الحديث من مسند الزبير لا من مسند ابنه.

(3)

"سنن أبي داود"(3651) كتاب: العلم، باب: التشديد في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 536

حذفها

(1)

.

وحديث أنس أخرجه مسلم عن زهير، عن ابن عُلَيَّة، عن عبد العزيز به

(2)

. ودعوى الحميدي في "جمعه"

(3)

أنه من أفراد مسلم غريب، فإنه في البخاري كما تراه.

وحديث سلمة من ثلاثيات البخاري، وهو من أفراده. وحديث أبي هريرة سيأتي واضحًا في الأدب إن شاء الله

(4)

، وأخرجه مسلم أيضًا

(5)

، وأخرجه مع البخاري أيضًا من حديث المغيرة أيضًا

(6)

.

الوجه الثاني: (في)

(7)

التعريف برواتها كير من سلف:

أما حديث علي فراويه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -واسمه عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم- ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة، كناه النبي صلى الله عليه وسلم أبا تراب، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أول هاشمية ولدت هاشميًّا، أسلمت وهاجرت إلى المدينة، وتوفيت وصلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ونزل قبرها -وكان علي أصغر من جعفر وعَقِيل وطالب، وهو أول الناس إسلامًا في قول جماعة، قيل: إنه أسلم وهو ابن عشر سنين وقيل: خمس عشرة.

(1)

"السنن الكبرى" 3/ 457 (5912) كتاب: العلم، باب: من تعلم؛ ليقال: فلان تعلم.

(2)

"صحيح مسلم"(2) المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)

"الجمع بين الصحيحين" 2/ 652 (2153).

(4)

سيأتي برقم (6188) كتاب: الأدب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "تسموا باسمي

".

(5)

"صحيح مسلم"(3) المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(6)

سيأتي برقم (1291) كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت. وفي "صحيح مسلم"(4) المقدمة، باب: تغليظ الكذب.

(7)

زائدة من (ج).

ص: 537

وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا والمشاهد كلها إلا تبوكًا، فإنه صلى الله عليه وسلم خلفه عَلَى أهله، وآخاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وقال في كل منهما:"أنت أخي في الدنيا والآخرة"

(1)

وفضائله مشهورة، وسيأتي بعضها حيث ذكره البخاري إن شاء الله

(2)

.

وحديث: "أنا مدينة العلم"

(3)

وفي لفظ: "أنا دار الحكمة وعلي

بابها"

(4)

منكر كما قاله الترمذي. ولي الخلافة خمس سنين وقيل:

(1)

رواه الترمذي (3720) كتاب: المناقب، باب: مناقب علي. وابن عدي في "الكامل" 2/ 510 ترجمة حكيم بن جبير. والحاكم 3/ 14 كتاب: الهجرة كلهم من حديث ابن عمر. قال الألباني في "السلسة الضعيفة"(351): موضوع.

(2)

ستأتي برقم (3701 - 3707) كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب علي.

(3)

رواه ابن عدي في "الكامل" 4/ 473 (840)، 6/ 130 (1244). والطبراني 11/ 65 - 66. والحاكم 3/ 126 كتاب: معرفة الصحابة. والخطيب في "تاريخ بغداد" 11/ 48 ترجمة عبد السلام بن صالح، وفي إسناده عبد السلام بن صالح. قال ابن حبان في "المجروحين" 2/ 151 ترجمة عبد السلام بن صالح يروي عن حماد بن زبد وأهل العراق العجائب في فضائل علي وأهل بيته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، وهو الذي روى عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، فذكره. وقال: هذا لا أصل له، ليس من حديث ابن عباس ولا مجاهد ولا الأعمش ولا أبي معاوية حدث به.

وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي فقال: بل موضوع، وقال: أبو الصلت لا ثقة ولا مأمون. وقال الهيثمي في "المجمع" 9/ 114: رواه الطبراني وفيه عبد السلام بن صالح وهو ضعيف. وقال ابن الجوزي في "الموضوعات" 2/ 110 - 118 (654 - 666): في ذكر مدينة العلم: وفيه عن علي، وابن عباس، وجابر

ثم ذكر طرق كل حديث وأوضح ما بها من علل وذكر ما فيها من وضع.

وقاو الألباني في "الضعيفة"(2955): موضوع.

(4)

رواه الترمذي (3723) كتاب: المناقب، باب: مناقب علي بن أبي طالب. وراجع التخريج السابق.

ص: 538

إلا شهرًا، بويع لَهُ بعد عثمان لكونه أفضل الصحابة حينئذ.

روي لَهُ خمسمائة حديث وستة وثمانون حديثا، اتفقا منها عَلَى عشرين، وانفرد البخاري بتسعة ومسلم بخمسة عشر. روى عنه بنوه الثلاثة: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفية، وخلق.

ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي -وهو من حمير- بسيف مسموم فأوصله دماغه في ليلة الجمعة ومات بالكوفة ليلة الأحد تاسع عشر رمضان سنة أربعين.

ولما ضربه ابن ملجم قَالَ: فزت ورب الكعبة، ولما فرغ من وصيته قَالَ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثمَّ لم يتكلم إلا بلا إله إلا الله حتَّى مات عن ثلاث وستين سنة في قول الأكثر. وكان آدم اللون، أصلع ربعة أبيض الرأس واللحية وربما خضب لحيته.

وأولاده: الحسن، والحسين، ومحسن، وأم كلثوم من فاطمة، ومحمد بن الحنفية وغيره من غيرها. وليس في الصحابة من اسمه علي بن أبي طالب غيره. وإن كان في الرواة علي بن أبي طالب ثمانية سواه ذكرتهم في "العدة في معرفة رجال العمدة" وبسطت فيه ترجمته وقد أُفردت بالتأليف

(1)

.

وأما الراوي عنه فهو ربعي بن حراش-بكسر الحاء المهملة- بن جحش بن عمرو بن عبد الله بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن قيس (بن)

(2)

سعد بن غيلان بن مضر

(1)

انظر: "معرفة الصحابة" 4/ 1968 (2026)، "الاستيعاب" 3/ 197 (1875)، "أسد الغابة" 4/ 91 (3783) - "الإصابة" 2/ 507 (5688).

(2)

زائدة من (ج)، (ف).

ص: 539

الغطفاني العبسي -بالموحدة- أبو مريم الكوفي، أخو مسعود الذي تكلم بعد الموت

(1)

، وأخوهما ربيع.

قَالَ الكلبي: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى حراش بن جحش، فحرق كتابه، وليس لربعي عقب، والعقب لأخيه مسعود.

قَالَ ابن سعد: روى عن عمر وعلي، وخرشة بن (الحر)

(2)

، قَالَ: قيل لشعبة: أدرك ربعي عليًّا؟. قَالَ: نعم حدّث عن علي. ولم يقل: سمع

(3)

. وعن أبي الحسن القابسي أنه لم يصح لربعي سماع من علي غير هذا الحديث، وقدم الشام وسمع خطبة عمر بالجابية.

قَالَ العجلي: تابعي ثقة، لم يكذب كذبة قط، وكان لَهُ ابنان يعصيان عَلَى الحجاج، فقيل للحجاج: إنه لم يكذب كذبة قط، فلو أرسلت إليه فسألته عنهما، فأرسل إليه. فقال: أين ابناك؟ فقال: هما في البيت. فقال: قد عفونا عنهما بصدقك

(4)

.

وقيل: إنه آلى أن لا يفتر ضاحكًا حتَّى يعلم أين مصيره، فما ضحك إلا بعد موته. توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقيل: توفي سنة أربع ومائة

(5)

.

(1)

كذا في "تهذيب الكمال" 9/ 54 (1850) في ترجمة ربعي بن حراش، في "الحلية" 4/ 367 أن الذي تكلم بعد الموت الربيع، وفي "سير أعلام النبلاء" 4/ 359 (139) في ترجمة ربعي، ذكر أنه العبد الصالح مسعود، ثم ذكر رواية أبي نعيم المثبت فيها الربيع، والله أعلم بالصواب.

(2)

في (ج): الحسن، والذي في "الطبقات": الحر.

(3)

"طبقات ابن سعد" 6/ 127.

(4)

"معرفة الثقات" 1/ 350 (447).

(5)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 3/ 327 (1106)، "الجرح والتعديل" 3/ 509 (2307)، "تاريخ بغداد" 8/ 433، "تهذيب الكمال" 9/ 54 (1850).

ص: 540

وأما الراوي عنه فهو منصور بن المعتمر بن عبد الله بن رُبيعة -بضم الراء- أبو عتاب. ويقال: ابن المعتمر بن عتاب بن عبد الله. ويقال: ابن المعتمر بن عباد بن فرقد الكوفي السلمي، المجمع عَلَى جلالته وتوثيقه وفضله وصلاحه وعبادته.

روى عن أبي وائل وغيره، وعنه السفيانان وخلق. قَالَ: ما كتبت حديثًا قط. ومناقبه جمة. وهو أتقن من الأعمش، أُكْره عَلَى قضاء الكوفة، وكان فيه تشيع.

ويقال: إنه صام أربعين سنة وقام ليلها وعمش من البكاء. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة

(1)

.

وأما حديث الزبير: فراويه حواري النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمته الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأب الخامس وهو أول من سلَّ سيفه في سبيل الله، وأمه صفية بنت عبد المطلب، هاجرت إلى المدينة، وهو أحد العشرة، وأحد الستة الشورى.

آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الله بن مسعود من المهاجرين، وبينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش من الأنصار، شهد بدرًا والمشاهد كلها واليرموك وفتح مصر، وهاجر الهجرتين، وأسلم وهو ابن ست عشرة سنة. وكان أسمر. وقيل: أبيض. ربعة معتدل اللحم أشعر الكتف طويلًا تخط رجلاه بالأرض إِذَا ركب الدابة.

روى عنه ابناه عبد الله، وعروة، ونافع بن جبير. استشهد يوم الجمل

في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وكان ترك القتال وانصرف بوادي

(1)

تقدمت ترجمته في حديث (70).

ص: 541

السباع بناحية البصرة، فقتله عمرو بن جرموز بغيًا وظلما، وقبره هناك، وسنه بضع وستون. وقيل: خمس وسبعون. وكان لَهُ ألف مملوك يؤدون الخراج إليه، فيتصدق به في مجلسه، ما يقوم منه بدرهم، روي لَهُ ثمانية وثلاثون حديثًا، اتفقا منها عَلَى حديثين، وانفرد البخاري بسبعة

(1)

.

وراويه عنه ولده عبد الله (ع) أبو بكر وأبو خبيب أمير المؤمنين، روى عنه أخوه عروة، وابنه عامر وكان نهاية في الشجاعة، غاية في العبادة، استخلف سنة أربع وستين. ومات شهيدًا في حصر الحجاج له بالبيت العتيق سنة ثلاث وسبعين

(2)

.

وراويه عنه ولده عامر (ع) بن عبد الله أبو الحارث المدني أخو عباد وحمزة وثابت وخبيب وموسى وعمر كان عابدًا فاضلًا ثقة. مات قبل هشام أو بعده بقليل، ومات هشام سنة أربع وعشرين ومائة

(3)

.

والراوي عنه جامع بن شداد المحاربي أبو صخرة، وقيل: أبو صخر الكوفي الثقة روى عنه شعبة وغيره، وهو قليل الحديث، لَهُ نحو عشرين

(1)

انظر ترجمته في: "معرفة الصحابة" 1/ 104 (6)، "الاستيعاب" 2/ 89 (811)، "أسد الغابة" 2/ 249 (1732)، "الإصابة" 1/ 545 (2789).

(2)

وانظر ترجمته في: "الطبقات" 3/ 100، "معرفة الصحابة" 3/ 131 (1000)، و"الاستيعاب" 2/ 89، "أسد الغابة" 2/ 249 (1732)، و"الإصابة" 1/ 545.

(3)

سمع من أنس بن مالك وأبيه، وعمرو بن سليم، وعنه بيان بن بشر وخارجة وسلمة بن دينار وابن جريج وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: ثقة، من أوثق الناس.

وقال ابن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة. قال مالك: كان يغتسل كل يوم طلعت شمسه. روى له الجماعة.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" القسم المتمم ص 110، "التاريخ الكبير" 6/ 448 (2951)، "معرفة الثقات" 2/ 14 (826)"الجرح والتعديل" 6/ (1810)، "ثقات" ابن حبان 5/ 186، "تهذيب الكمال" 14/ 57 (3049).

ص: 542

حديثًا، مات سنة ثماني عشرة ومائة، وقيل: سنة ثمانٍ وعشرين

(1)

.

وأما حديث أنس: ففيه عبد العزيز بن صهيب البُنَاني مولاهم الأعمى التابعي الحجة، وعنه شعبة وغيره، مات سنة ثلاثين ومائة، وقد سلف أيضًا.

وأما حديث سلمة فراويه سلمة (ع) بن عمرو بن الأكوع

(2)

سنان الأسلمي أحد من بايع تحت الشجرة. عنه ابنه إياس، ومولاه يزيد بن أبي عبيد، وكان راميًا محسنًا يسبق الفرس، مات سنة أربع وسبعين عن ثمانين سنة، أحاديثه سبعة وسبعون حديثًا، اتفقا منها عَلَى ستة عشر، وانفرد البخاري بخمسة ومسلم بتسعة، كلمه الذئب، وقيل: إنه شهد مؤتة، ولما قتل عثمان خرج إلى الربذة، فتزوج هناك وأقام بها إلى قبل موته بليال، فنزل المدينة ومات بها

(3)

.

والراوي عنه يزيد (ع) بن أبي عبيد مولاه، كنيته أبو خالد، روى عنه مكي وغيره، ومات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة

(4)

.

(1)

قال عنه يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي: ثقة. وقال العجلي: هو شيخ عالٍ ثقة وهو من قدماء شيوخ سفيان وكان شيخًا عاقلًا ثقة ثبتًا.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 318، "التاريخ الكبير" 2/ 240 - 241 (2322)، "معرفة الثقات" 1/ 265 (209)، "الجرح والتعديل" 2/ 529 (2201)، "تهذيب الكمال" 4/ 486 (889).

(2)

ورد بهامش الأصل: واسم الأكوع: سنان بن عبد الله بن قشير، وكنية سلمة أبو إياس وأبو مسلم.

(3)

انظر: "معرفة الصحابة" 3/ 1339 (1219)، "الاستيعاب" 2/ 198 - 199 (1021)، "أسد الغابة" 2/ 423 (2154)، "الإصابة" 2/ 66 - 67 (3389).

(4)

يزيد بن أبي عبيد الحجازي الأسلمي مولى سلمة بن الأكوع، روى عن مولاه، وعمير مولى لأبي اللحم، وهشام بن عروة. وروى عنه بكير بن الأشج ويحيى القطان وأبو عاصم وغيرهم. قال أبو داود: ثقه. وذكره ابن حبان في "الثقات". =

ص: 543

وأما حديث أبي هريرة: ففيه موسى وهو: ابن إسماعيل التبوذكي، سلف، وأبو عَوَانة، واسمه: الوضاح. وقد سلف أيضًا.

وأبو حصين بفتح الحاء -كما سلف في الفصول أول الكتاب- واسمه: عثمان بن عاصم بن حصين الكوفي، سمع ابن عباس وأبا صالح وغيرهما، وعنه: شعبة، والسفيانان، وخلق، وكان ثقة ثبتًا صاحب سنة، من حفاظ الكوفة، مات سنة سبع أو ثمان وعشرين ومائة

(1)

.

الوجه الثالث: في فوائده:

وهو حديث جليل حفيل متواتر مقطوع به لا يوجد لَهُ مشابه في طرقه وكثرتها. قَالَ الحافظ أبو بكر البزار: رواه مرفوعًا نحو من أربعين صحابيًا

(2)

.

وقال ابن الصلاح: إنه حديث بلغ عدد التواتر، رواه الجم الكبير من

= وقال ابن معين: ثقة. وقال العجلي: حجازي تابعي ثقة.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 8/ 348 - 349 (3278)، "معرفة الثقات" 2/ 366 (2026)، "الجرح والتعديل" 9/ 280 (1177)، "الثقات" 5/ 353، "تهذيب الكمال" 32/ 206 (7028).

(1)

ويقال: عثمان بن عاصم بن كثير بن زيد بن مرة، أبو حصين الأسدي، قال أبو حاتم: يقال: إنه من ولد عبيد بن الأبرص الشاعر. قال عبد الرحمن بن مهدي: أربعة بالكوفة لا يختلف في حديثهم، فمن اختلف عليهم فهو مخطئ، ليس هم، منهم: أبو حصين الأسدي. وأثنى عليه أحمد بن حنبل، وقال العجلي: كان شيخًا عاليًا وكان صاحب سنة، وقال أيضًا: كوفي ثقة. وقال يحيى وأبو حاتم ويعقوب بن شيبة والنسائي وابن خِراش: ثقة.

انظر ترجمته في: "طبقات ابن سعد" 6/ 321، "التاريخ الكبير" 6/ 240 (2277)، "معرفة الثقات" 2/ 129 (1213)"تهذيب الكمال" 19/ 401 (3828).

(2)

"مسند البزار" 3/ 188.

ص: 544

الصحابة، قيل: إنهم يبلغون ثمانين نفسًا، ولم يزل في اشتهار وكثرة طرق في هذِه الأزمان

(1)

.

وحكى أبو بكر الصيرفي

(2)

في "شرح الرسالة": إنه رواه أكثر من ستين صحابيًا، وجمع الحافظ أبو الحجاج يوسف بن خليل الدمشقي

(3)

طرقه في جزء ضخم بلغ رواته فوق سبعين صحابيًا، وذكر في جملة من رواه العشرة إلا عبد الرحمن بن عوف.

وبلغ بهم الطبراني

(4)

وابن منده سبعة وثمانين، منهم العشرة، ويجتمع من كلام ابن منده في "مستخرجه" وكلام ابن خليل نحو المائة.

وقال بعضهم: رواه مائتان من الصحابة، ولم يزل في ازدياد. وقال ابن دحية

(5)

في كلامه عَلَى رجب بعد أن قَالَ روي من نحو تسعين صحابيًّا: قد أخرج من نحو أربعمائة طريق. قَالَ بعضهم: ولا يُعْرَف حديثٌ اجتمع عَلَى روايته العشرة سواه. وليس كما ذكر، فقد اجتمع ذَلِكَ في رفع اليدين والمسح عَلَى الخفين، كما أوضحته في تخريج أحاديث الرافعي

(6)

ولله الحمد.

(1)

"علوم الحديث" ص 269.

(2)

سبق ترجمته في المقدمة.

(3)

هو ابن قراجا عبد الله الإمام المحدث الصادق، الرحال النقال، شيخ المحدثين. ولد سنة خمس وخمسين وخمسمائة، طلب العلم في قرابة الثلاثين، كان حسن الخلق مرضي السيرة، قال ابن الحاجب: متقن، حافظ ثقة، سمع من البوصيري وإسماعيل بن ياسين وجماعة، وعنه الدمياطي وابن الظاهري وآخرون. توفي سنة ثماني وأربعين وست مائة.

انظر ترجمته في: "تاريخ الإسلام" 47/ 406 (542)، "سير أعلام النبلاء" 23/ 15، "تذكرة الحفاظ" 4/ 1410، "شذرات الذهب" 5/ 243.

(4)

في "طرق حديث من كذب عليّ متعمدًا" ط: المكتب الإسلامي.

(5)

ورد بهامش الأصل: نقله النووي في "شرح مسلم" في المقدمة.

(6)

"البدر المنير" 3/ 5، 3/ 459.

ص: 545

إِذَا تقرر ذَلِكَ فالكلام عليه من وجوه:

أحدها: معنى: "فَلْيَتَبَوَّأْ (مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)

(1)

" فليتخذ، وقال الخطابي: تبوأ بالمكان إِذَا أخذه موضعًا لمقامه، وأصله من مباءة الإبل، وهي أعطانها

(2)

.

والمعنى بالحديث: لينزل منزله منها، وإن كان بلفظ الأمر فمعناه:

الخبر. أي: أن الله يبوؤه مقعده من النار، أو أنه استوجب ذَلِكَ واستحقه فليوطن نفسه عليه. ويوضحه ما جاء في بعض طرق مسلم

(3)

، وفي حديث علي السالف:"فليلج النار" وقيل: معناه: التهديد والوعيد.

وقال الطبري: هو عَلَى معنى الدعاء منه صلى الله عليه وسلم أي: بوأه الله ذَلِكَ والمعنى: أنَّ هذا جزاؤه وقد يعفي عنه، وكل ما جاء من الوعيد بالنار لأهل الكبائر غير الكفر ينزل عَلَى هذا ومنه:"لا يدخل الجنَّةَ نَمَّام"

(4)

أي: جزاؤه أن لا يدخل الجنة.

ثانيها: الكذب عند الأشاعرة: الإخبار عن الشيء عَلَى خلاف ما هو عليه، وإن كان سهوًا، واشترطت فيه المعتزلة العمدية، ودليل الخطاب في هذِه الأحاديث عليهم؛ لأنه يدل عَلَى أن من لم يتعمد يقع عليه اسم

(1)

زيادة من (ج).

(2)

"أعلام الحديث" 1/ 212.

(3)

"صحيح مسلم"(3) المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(4)

رواه مسلم (105) كتاب: الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم النميمة.

وأحمد 5/ 391، 396، وابن أبي الدنيا في "الصمت" ص 153 (251)، والبزار في "مسنده" 7/ 301 (2898)، والدولابي في "الكنى" 1/ 184 (625) ترجمة: محمد بن أبي إسماعيل. والبيهقي في "الشعب" 7/ 492 - 493 (11101).

- والخطيب في "تاريخ بغداد" 6/ 263 (3295) ترجمة: إسماعيل بن إبراهيم الخراساني.

ص: 546

الكذب

(1)

، وقيد بالعمد في رواية لبيان أنه يكون سهوًا وعمدًا، والإجماع منعقد عَلَى أن الناسي لا إثم عليه، والمطلق محمول عَلَى المقيد في الإثم.

ثالثها: الأحاديث دالة عَلَى تعظيم حرمة الكذب عليه صلى الله عليه وسلم، وأنه كبيرة؛ والمشهور أن فاعله لا يكفر إلا أن يستحله خلافًا للجويني حيث قَالَ: يكفر ويراق دمه. وضعفه ولده الإمام، وجعله من هفوات والده. نعم من كذب في حديث واحد عمدًا فسق وردت رواياته كلها وإن تاب، وبه قَالَ أحمد بن حنبل

(2)

وغيره.

وهو نظير ما قاله مالك في شاهد الزور إِذَا تاب، أنه لا تقبل شهادته.

وما قاله الشافعي

(3)

وأبو حنيفة فيمن ردت شهادته بالفسق أو العداوة ثمَّ تاب وحسنت (توبته و)

(4)

حالته

(5)

، لا يقبل منه إعادتها لما يلحقه من التهمة في تصديق نفسه، وما قاله أبو حنيفة من أن قاذف المحصن إِذَا تاب لا تقبل شهادته أبدا

(6)

.

وما قاله أيضًا من أنه إِذَا ردت شهادة أحد الزوجين بالآخر ثمَّ مات لا تسمع للتهمة، ولأنها مفسدة عظيمة؛ لأنه يصير شرعًا مستمرًّا إلى يوم القيامة. فجعل ذَلِكَ تغليظًا وزجرًا من الكذب عليه بخلاف غيره.

(1)

ورد بهامش الأصل: ثبت من خط المصنف: لم يصح التقييد بالعمد من طريق الزبير في أبي داود.

(2)

انظر: "الأخبار العلميه من الاختيارات الفقهية" ص 517.

(3)

انظر: "البيان" 322/ 13.

(4)

من (ج).

(5)

انظر: "الاختيار لتعليل المختار" 2/ 175.

(6)

انظر: "الاختيار لتعليل المختار" 2/ 176.

ص: 547

قَالَ عبد الله بن المبارك: من عقوبة الكذاب أنه يرد عليه صدقه.

وخالف النووي فقال: المختار القطع بصحة توبته من ذَلِكَ وقبول روايته بعد صحة التوبة بشروطها، وقد أجمعوا عَلَى قبول رواية من كان كافرًا ثمَّ أسلم، وأجمعوا عَلَى قبول شهادته، ولا فرق بين الرواية والشهادة

(1)

.

رابعها: لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام وغيره، كالترغيب والترهيب، فكله حرام من أكبر الكبائر بإجماع من يعتد به، ولا عبرة بالكرَّامية في تجويزهم الوضع في الترغيب والترهيب، وتشبثهم برواية:"مَنْ كَذَبَ عليَّ متعمدًا ليُضل به"

(2)

بهذِه الزيادة، ولأنه كذب لَهُ لا عليه.

وهو من الأعاجيب، فهذِه زيادة باطلة باتفاق الحفاظ، أو أنها

(1)

وانظر ما قاله النووي في "شرح مسلم" 1/ 70 - 71.

(2)

رواه بهذِه الزيادة البزار في "مسنده" 5/ 262 (1876)، والشاشي في "المسند" 2/ 212 (779)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" 7/ 415 (5440، 5442) وابن عدي في "الكامل" 1/ 84، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 147، والقضاعي في "مسند الشهاب" 1/ 329 (560) من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعًا.

قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أسنده عن الأعمش، عن طلحة إلا يونس بن بكير وقد رواه غير يونس، عن الأعمش مرسلًا. وقال الطحاوي: وهذا حديث منكر، وليس أحدٌ يرفعه بهذا اللفظ غير يونس بن بكير

وقال ابن عدي: وهذا الحديث اختلفوا فيه على طلحة بن مصرف: فمنهم من أرسله ومنهم من قال: عن علي بدل عبد الله، ويونس بن بكير جود إسناده.

وقال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث طلحة والأعمش لم يروه مجودًا مرفوعًا إلا يونس بن بكير.

وأورده الهيثمي في "المجمع" 1/ 144 وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.

قلت: وهو عند الترمذي والنسائي دون قوله: ليضل به الناس. اهـ.

ص: 548

للتكثير لقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} [الأنعام: 144]، أو أن اللام في "ليُضِلَّ" ليست للتعليل بل للصيرورة والعاقبة، والمعنى عَلَى هذا يصير كذبه إلى الإضلال، والكذب لَهُ لما بما لم يخبر به كذب عليه

(1)

. ثمَّ الواضع عَلَى أقسام بينتها في كتابي "المقنع في علوم الحديث" فليراجع منه

(2)

.

خامسها: من روى حديثًا علم أو ظن أنه موضوع فهو داخل في هذا الوعيد، إِذَا لم يبين حال رواته وضعفهم، ويدل عليه أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حدَّث عنِّي بحديثٍ يرى أنه كَذِب فهو أحد الكاذِبين"

(3)

ومن روى حديثًا ضعيفًا، لا يذكره بصيغة الجزم بخلاف الصحيح والحسن.

تنبيه:

ينعطف عَلَى ما مضى: قَالَ أبو العباس القرطبي في "المفهم":

استجاز بعض فقهاء العراق نسبة الحكم الذي دل عليه القياس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة قولية وحكاية نقلية، فنقول في ذَلِكَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا.

(1)

انظر في ذلك "شرح مشكل الآثار" 7/ 416، "شرح مسلم" للنووي 1/ 70 - 71، "السلسلة الضعيفة"(1011). فقد بسط الألباني الكلام على هذِه الزيادة بما يكفي.

(2)

"المقنع" النوع الحادي والعشرون 1/ 233 - 235 وانظر: "مقدمة ابن الصلاح" في النوع الحادي والعشرون ص 99.

(3)

رواه الترمذي (2662)، وابن ماجه (41)، وأبو داود الطيالسي 2/ 69 (725)، وأحمد 4/ 250، وابن أبي الدنيا في "الصمت" ص 256 (533)، وابن حبان في "المجروحين" 1/ 7، والطبراني 20/ 422 - 423، وأبو نعيم في "الحليه" 4/ 378. وابن عبد البر في "التمهيد" 1/ 41، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" 2/ 98 (1287). والبغوي في "مسند الجعد" ص 93 (541) من حديث المغيرة بن شعبة. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"(2144).

ص: 549

قَالَ: ولذلك ترى كتبهم مشحونة بأحاديث موضوعة (تشهد)

(1)

متونها بأنها موضوعة؛ لأنها تشبه فتاوى الفقهاء، ولا تليق بجزالة كلام سيد المرسلين، مع أنهم لا يقيمون لها سندًا صحيحًا، فهؤلاء شملهم النهي والوعيد

(2)

.

سادسها: ذهب قوم إلى أن هذا الحديث ورد في رجل بعينه، كذب على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وادعى لقوم أنه رسوله إليهم، فحكم في دمائهم وأموالهم، فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله إن وجد حيًّا وبإحراقه إن وجد ميتًا.

والصواب عمومه في كل خبر تعمد به الكذب عليه في الدين والدنيا، ولا يخص بالدين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ كذبًا عليَّ ليس ككذبٍ عَلَى أحدِكم"

(3)

. ومما يؤيد عمومه استدلال عمر والزبير بهذا الوعيد لتوقفهم عن (التحديث)

(4)

، ولو كان في رجل بعينه أو مقصورًا عَلَى سبب لما حذروا، وذكر ابن الجوزي سبب وروده من طرق في مقدمة كتابه "الموضوعات"

(5)

.

سابعها: فيما يظن دخوله في النهي: اللحن وشبهه، ولهذا قَالَ العلماء: ينبغي للراوي أن يعرف من النحو واللغة والأسماء ما يسلم به من قول ما لم يقل.

قَالَ الأصمعي: أخوف ما أخاف عَلَى طالب العلم إِذَا لم يعرف

النحو أن يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي .. " الحديث؛ لأنه صلى الله عليه وسلم

(1)

في الأصول: تشبه، والمثبت من "المفهم".

(2)

"المفهم" 1/ 115.

(3)

سيأتي برقم (1291) كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت.

(4)

في (ج): الحديث.

(5)

"الموضوعات" 1/ 50 - 53.

ص: 550

لم يكن يلحن فمهما لحن الراوي فهو كذب عليه

(1)

.

وكان الأوزاعي يعطي كتبه إِذَا كان فيها لحن لمن يصلحها، فإذا صح في روايته كلمة غير مقيدة فله أن يسأل عنها أهل العلم ويرويها عَلَى ما يجوز فيه، روي ذَلِكَ عن أحمد وغيره، قَالَ أحمد: يجب إعراب اللحن؛ لأنهم كانوا لا يلحنون

(2)

.

وقال النسائي فيما حكاه القابسي: إِذَا كان اللحن شيئًا تقوله العرب -وإن كان في غير لغة قريش- فلا يغير لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكلم الناس بلسانهم، وإن كان لا يوجد في كلامهم فالشارع لا يلحن

(3)

.

قَالَ الأوزاعي: كانوا يعربون، وإنما اللحن من حملة الحديث فأعربوا الحديث

(4)

. وقيل للشعبي: أسمع الحديث ليس بإعراب، أفأعربه؟ قَالَ: نعم.

فرع:

لو صح في الرواية ما هو خطأ، فالجمهور عَلَى روايته عَلَى الصواب، ولا يغيره في الكتاب، بل يكتب في الحاشية: كذا وقع، وصوابه كذا وهو الصواب. وقيل: يغيره ويصلحه، روي ذَلِكَ عن الأوزاعي وابن المبارك وغيرهما، وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قَالَ: كان أبي إِذَا مر به لحن فاحش غيره، وإن كان سهلًا تركه

(5)

.

(1)

ذكره المزي في "تهذيب الكمال" 18/ 388.

(2)

رواه بمعناه الخطيب في "الكفاية" ص 286.

(3)

انظر التخريج السابق.

(4)

رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" 1/ 339 (454، 455) والخطيب في "الكفاية" 1/ 296.

(5)

رواه الخطيب في "الكفاية" ص 286 - 287.

ص: 551

وعن أبي زُرعة أنه كان يقول: أنا أصلح كتابي من أصحاب الحديث إلى اليوم

(1)

.

ومحل بسط ذَلِكَ "علوم الحديث"، وكذا ما يتعلق به من استفهام الكلمة الساقطة عَلَى الراوي من المستملي، وكذا رواية الحديث بالمعنى، وغير ذلك، وقد أوضحت ذَلِكَ في "علوم الحديث"

(2)

.

ثانيها: توقى جماعة

(3)

من الإكثار في الرواية خوف دخول الوهم عليهم ولقيام غيرهم به.

وأما حديث أبي هريرة:

"تسموا باسمي .. " إلى آخره، فاختلف في هذا النهي، هل هو عام أو خاص أو منسوخ؟ عَلَى أقوال.

ومذهب الشافعي وأهل الظاهر المنع مطلقًا، ومنع قوم تسمية الولد بالقاسم؛ لكيلا يكون سببًا للتكنية، وقيل: يجوز لمن ليس اسمه محمدًا دون غيره، وفيه حديث

(4)

صحيح، ووقع في بعض نسخ "الروضة" التعبير عنه بعكسه، وهو أنه يجوز لمن اسمه محمد دون غيره

(5)

، وهو سهو فاحذره، فإن أحدًا لم يقل به.

(1)

رواه الخطيب في "الكفاية" ص 371.

(2)

"المقنع في علوم الحديث" 1/ 378 وما بعده.

(3)

ورد بهامش الأصل: بخط المصنف في الهامش: منهم عمر وعلي والزبير وسعد.

(4)

ورد بهامش الأصل ما نصه:

المصنف بقوله: (وفيه حديث

) الذي رواه أحمد وأبو داود

من حديث أبي الزبير، عن جابر

"من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي، ومن تكنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي". وقال الترمذي: حسن غريب.

والبيهقي بعد إخراجه

هذا إسناد صحيح

أيضًا ابن حبان وابن السكن

مذهب أبي حاتم بن حبان.

(5)

انظر: "روضة الطالبين" 7/ 15.

ص: 552

ومذهب مالك أنه يجوز التكني به مطلقًا، وجعل النهي مختصًّا بحياته

(1)

؛ لأن الحديث ورد عَلَى سبب، فإن اليهود تكنوا به، وكانوا ينادون يا أبا القاسم، فيلتفت صلى الله عليه وسلم فيقولون: لم نَعْنِكَ؛ إظهارًا للإيذاء، وقد زال ذَلِكَ المعنى. قَالَ في "الروضة": وهذا المذهب أقرب

(2)

.

ومنع قوم، كما قَالَ القاضي التسمية بالقاسم، كيلا يكون سببًا للتكنية

(3)

ويؤيد هذا قوله فيه: "إنما أنا قاسِم"

(4)

فأخبر بالمعنى الذي اقتضى اختصاصه بهذِه الكنية.

وذهب قوم إلى أن النهي منسوخ بالإباحة في حديث علي وطلحة

(5)

، ونقل عن الجمهور وسمى جماعة أبناءهم محمدًا وكنوهم بأبي القاسم.

وفي "سنن أبي داود" من حديث محمد بن الحنفية قَالَ: قَالَ علي: يا رسول الله، إن ولد لي من بعدك ولد أسميه باسمك ونكنيه بكنيتك؟ قَالَ:"نعم"

(6)

.

قَالَ أحمد بن عبد الله: ثلاثة تكنوا بأبي القاسم، رخص لهم: محمد بن الحنفية، ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، وسيأتي لنا عودة إلى هذِه المسألة في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى ذلك وقدره، وقد أوضحتها في كتابي "الخصائص"

(7)

أيضًا.

(1)

انظر: "المنتقى" 7/ 296، "الذخيرة" 13/ 338.

(2)

انظر: "روضة الطالبين" 7/ 16.

(3)

انظر: "إكمال المعلم" 7/ 8.

(4)

سلف برقم (71) كتاب: العلم، باب: من يرد الله بن خيرًا.

(5)

سيأتي في شرح حديث (6187 - 6189) كتاب: الأدب، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي".

(6)

"سنن أبي داود"(4967).

(7)

"خصائص النبي صلى الله عليه وسلم" ص 203 - 207.

ص: 553

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ("وَمَنْ رَآنِي فِي المَنَام فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي"). وجاء في موضع آخَر: "ومن راَني فقد رأى الحق"

(1)

.

وجاء أيضًا: "فسيراني في اليقظة"

(2)

وجاء أيضًا: "فكأنما رآني في اليقظة"

(3)

. وجاء أيضًا: "فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي"

(4)

وهو تفسير للأولى واختلف في تأويله، فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: إنها صحيحة وليست بأضغاث أحلام

(5)

.

وقال غيره: معناه: رآه حقيقة

(6)

. وفي قول ثالث: إنه إن رآه عَلَى صفته فهو حقيقة، وإن رآه عَلَى غيرها فهو رؤيا تأويل لا حقيقة، قاله ابن العربي والقاضي وضعفه النووي وصوب الثاني

(7)

.

ومعنى: "فسيراني" أي: يرى تفسيره؛ لأنه حق، أو يراه في القيامة، أو المراد أهل عصره ممن لم يهاجر فتكون الرؤية في المنام علمًا لَهُ عَلَى رؤيته في اليقظة أقوال. وخص صلى الله عليه وسلم بذلك لئلا يكذب عَلَى لسانه في النوم، كما منعه أن يتصور في صورته في اليقظة؛ إكرامًا له، وقد ذكرت فروعًا فقهية تتخرج عَلَى ذَلِكَ في "الخصائص"

(8)

فراجعها منه.

(1)

سيأتي برقم (6996) كتاب: التعبير، باب: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.

(2)

سيأتي برقم (6993) كتاب: التعبير، باب: مَنْ رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام.

(3)

رواه مسلم (2266) كتاب: الرؤيا، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام".

(4)

رواه مسلم (2268) كتاب: الرؤيا، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام".

(5)

و

(6)

انظر: "البخاري بشرح الكرماني" 117/ 2.

(7)

انظر: "عارضة الأحوذي" 9/ 130، و"إكمال المعلم" 7/ 218 - 221، و"صحيح مسلم بشرح النووي" 2/ 24.

(8)

ص 214.

ص: 554

فائدة:

اختلف في حقيقة الرؤيا هل هي اعتقادات أو إدراكات يخلقها الله تعالى في قلب العبد؟ عَلَى قولين: وبالأول قَالَ القاضي أبو بكر، وبالثاني قَالَ الشيخ أبو إسحاق.

ومنشأ الخلاف كما قَالَ ابن العربي إن الشخص قَدْ يرى نفسه بهيمة أو ملكًا أو طيرًا، وهذا ليس إدراكًا، لأنه ليس حقيقة، فصار القاضي إلى أنها اعتقادات، لأن الاعتقاد قَدْ يأتي عَلَى خلاف المعتقد

(1)

. قَالَ: وذهل القاضي عن أن هذا المرئي مثل، والإدراك إنما يتعلق بالمثل

(2)

وسيأتي إيضاح ذَلِكَ في موضعه إن شاء الله ذلك وقدره.

(1)

"عارضة الأحوذي" 9/ 130 - 132 وانظر: "الفتح" 12/ 352 - 353.

(2)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 9/ 125 - 126، "طرح التثريب" 7/ 205 - 206، "عارضة الأحوذي" 9/ 130 - 132.

ص: 555

‌39 - باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ

111 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابُ اللهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هذِه الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هذِه الصَّحيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسَيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. [1870، 3047، 3172، 3179، 6755، 6903، 6915، 7300 - مسلم: 1370 - فتح: 1/ 204]

113 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمِ الفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحٍ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَكِبَ رَاحِلَتَة، فَخَطَبَ فَقَالَ:"إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ القَتْلَ -أَوِ الفِيلَ شَكَّ أَبُو عَبْدِ اللهِ- وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَم تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، أَلا وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هذِه حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ القَتِيلِ". فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: "اكْتُبُوا لأَبِي فُلَانٍ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِلَّا الإِذْخِرَ، إِلَّا الإِذْخِرَ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: يُقَالُ: يُقَادُ بِالْقَافِ. فَقِيلَ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: أَيُّ شَيءٍ كَتَبَ لَهُ؟ قَالَ: كَتَبَ لَة هذِه الُخطْبَةَ. [2434، 6880 - مسلم: 1355 - فتح: 5/ 201]

113 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْروٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكتُبُ وَلَا أَكْتبُ. تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. [فتح: 206/ 1]

114 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابن وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ،

ص: 556

عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُة قَالَ: "ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ". قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَط. قَالَ: "قُومُوا عَنِّي، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التّنَازُعُ". فَخَرَجَ ابن عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ كِتَابِهِ. [3053، 3168، 4431، 4432، 5669، 7366 - مسلم: 1637 - فتح: 1/ 208]

ذكر فيه رحمه الله أربعة أحاديث:

الحديث الأول:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَام، أنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا كِتَابُ اللهِ، أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أَوْ مَا فِي هذِه الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا فِي هذِه الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَسِيرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.

الكلام عليه من (أوجه)

(1)

:

أحدها:

هذا الحديث خرجه البخاري أيضًا في الجهاد عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن مطرف

(2)

، وفي الديات عن صدقة بن الفضل، عن ابن عيينة، عن مطرف

(3)

.

قَالَ أبو مسعود الدمشقي: يقال: إن حديث وكيع، عن سفيان هو ابن عيينة، ولم ينبه البخاري عليه قَالَ: وقد رواه يزيد العدني عن

(1)

في (ج): وجوه.

(2)

سيأتي برقم (3047) كتاب: الجهاد والسير، باب: فكاك الأسير.

(3)

سيأتي برقم (6903) كتاب: الديات، باب: العاقلة.

ص: 557

الثوري أيضًا.

قَالَ الغساني: هو محفوظ من حديث سفيان بن عيينة.

وانفرد به البخاري عن مسلم من طريق أبي جحيفة، واتفقا عَلَى معناه بدون بيان ما في الصحيفة من حديث إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي

(1)

.

ورواه أبو داود من حديث قيس بن عباد عن علي

(2)

، ورجاله رجال الصحيح.

ثانيها: في التعريف برواته غير من سلف:

أما أبو جحيفة فهو وهب (ع) بن عبد الله السُوَائي -بضم السين وفتح الواو- ويقال: وهب بن وهب. ويقال: وهب الخير، من بني حرثان بن سواءة بن عامر بن صعصعة، كان من صغار الصحابة، قيل: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الحلم. نزل الكوفة، (روي لَهُ خمسة وأربعون حديثًا، اتفقا عَلَى حديثين، وانفرد البخاري باثنين، ومسلم بثلاثة، وكان علي رضي الله عنه يكرمه ويحبه ويثق به، وجعله عَلَى بيت المال بالكوفة)

(3)

وشهد مشاهده كلها. مات سنة أربع وسبعين في خلافة بشر بن مروان

(4)

.

وأما مُطَرِّف (ع) فهو أبو بكر ويقال: أبو عبد الرحمن مطرِّف بن طريف الكوفي الحارثي نسبة إلى بني الحارث بن كعب بن عمرو،

(1)

سيأتي برقم (1870) كتاب: فضائل المدينة، باب: حرم المدينة، ومسلم برقم (1370) كتاب: الحج، باب: فضل المدينة ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالبركة.

(2)

"سنن أبي داود"(4530).

(3)

ساقط من (ج).

(4)

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" لابن قانع 3/ 179 (1154)، "الاستيعاب" 4/ 121 (2761)، "أسد الغابة" 5/ 460 (5486)، "الإصابة" 3/ 642 (9166).

ص: 558

ويقال: الخارفي -بالخاء المعجمة والفاء- نسبة إلى خارف بن عبد الله.

وثقه أحمد وغيره، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وقيل: سنة اثنتين وأربعين

(1)

.

وأما وكيع فهو أحد الأعلام الثقات أبو سفيان وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي بن فرس بن حمحمة، وقيل: غيره. أصله من قرية من قرى نيسابور، الرؤاسي الكوفي، من قيس غيلان، روى عن الأعمش وغيره، وعنه أحمد، وقال: إنه أحفظ من ابن مهدي.

وقال حماد بن زيد: لو شئت قُلْتُ: إنه أرجح من سفيان. ولد سنة ثمان وعشرين ومائة، ومات بفيد سنة سبع وتسعين ومائة

(2)

.

ثالثها: في فوائده:

الأولى: كتابة الحديث: وقد اختلف الصدر الأول في ذَلِكَ، فمنهم من كره كتابته وكتابة العلم وأمروا بحفظه، ومنهم من جوز ذَلِكَ

(3)

.

(1)

وثقه أحمد وأبو حاتم وأبو داود.

وقال الشافعي: ما كان ابن عينية بأحد أشد إعجابًا منه بمطرف، وقال علي بن المديني: كان ثقة. وقال عبد الرحمن ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: ثقة.

وذكره ابن حبان في الثقات. وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 8/ 313 (1448)، و"الثقات" 7/ 493، و"تهذيب الكمال" 28/ 62 (600).

(2)

وقال أحمد: ما رأيت أوعى للعلم من وكيع ولا أحفظ. وقال: كان مطبوع الحفظ، وكان حافظًا حافظًا، وقال: عليكم بمصنفات وكيع. وقال ابن معين: ما رأيت أفضل من وكيع. وقال نوح بن حبيب القومسي: رأيت الثوري ومعمرًا ومالكًا فما رأت عيناي مثل وكيع. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا عاليًا رفيع القدر كثير الحديث حجة. وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 9/ 37 (168)، و"تهذيب التهذيب" 4/ 311 - 315.

(3)

انظر: "علوم الحديث" لابن الصلاح النوع الخامس والعشرون من ص 181 - 208 و"المقنع" 1/ 337 - 367.

ص: 559

وجاء في النهي حديث: "لا تكتبوا عني شيئًا (إلا القرآن)

(1)

ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" أخرجه مسلم

(2)

.

وفي الإباحة الحديث الأتي: "اكتبوا لأبي شاة"

(3)

ولعل الإذن لمن خيف نسيانه، والنهي لمن أمن وخيف اتكاله، أو نهى حين خيف اختلاطه بالقرآن، وأذن حين أمن، ثم إنه زال ذَلِكَ الخلاف وأجمعوا عَلَى الجواز، ولولا تدوينه لدرس في الأعصار الأخيرة

(4)

.

(1)

ساقطة من (ج).

(2)

"صحيح مسلم"(3004) كتاب: الزهد والرقائق، باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة الحديث.

(3)

سيأتي برقم (2434) كتاب في اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة.

(4)

اختلف السلف من الصحابة والتابعين في كتابة الحديث على ثلاثة أقوال:

القول الأول: كراهة الكتابة. وإليه ذهب ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وآخرون.

القول الثاني: إباحة الكتابة. وإليه ذهب عمر وعلي وابنه الحسن وابن عمرو وأنس وجابر وابن عمر والحسن وعطاء وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز.

وحكاه القاضي عن أكثر الصحابة والتابعين.

القول الثالث: الكتابة ثم المحو بعد الحفظ. وهذا القول حكاه الرامهرمزي في كتابه "المحدث الفاصل".

قلت: وقيل بخلاف ما ذكره المصنف من تعليل الكراهة والإباحة ما يلي:

1 -

أن المراد النهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معها، فنهوا عن ذلك لخوف الاشتباه.

2 -

أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه، والإذن في غيره.

3 -

أن حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: لا تكتبوا عني شيئًا ..... الحديث.

معل، والصواب وقفه عليه، كما قاله البخاري وغيره.

انظر: المحدث الفاصل ص 379 - 383، "تقييد العلم" ص 30 - 63، "مقدمة ابن الصلاح" ص 181 - 183، "التقييد والإيضاح" ص 190 - 191، "المقنع" 1/ 337 - 342، "تدريب الرواي" 2/ 105 - 107.

ص: 560

الثانية: فيه إبطال ما يخترعه الرافضة والشيعة من قولهم: إن عليًّا رضي الله عنه أوصى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأسرار العلم، وقواعده وعلم الغيب ما لم يطلع عليه غيره، وإنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم، وهي دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها.

الثالثة: فيه دلالة لمالك والشافعي والجمهور في أن المسلم لا يقتل بكافرٍ قصاصًا

(1)

، وروي ذَلِكَ عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وبه قَالَ جماعة من التابعين

(2)

، وهو مذهب الأوزاعي أيضًا والليث والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور

(3)

، إلا أن مالكًا والليث قالا: إن قتله غيلة قتل. والغيلة: أن يقتله عَلَى ماله كما يصنع قاطع الطريق

(4)

.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى أنه يُقتل المسلم بالذمِّي ولا يُقتل بالمستأمن والمعاهد

(5)

، وهو قول سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي، واحتجوا بحديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قتل مسلمًا بمعاهد، وقال:"أنا كرم من وَفَّى بذمته" أخرجه الدارقطني ووهاه فقال: لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك، والصواب إرساله، وابن البيلماني ضعيف لا تقوم به حجة إِذَا وصل الحديث،

(1)

انظر: "التفريع" 2/ 216، "عيون المجالس" 5/ 1977، "البيان" 11/ 305 - 306، "روضة الطالبين" 9/ 150، "المحلى" 10/ 223.

(2)

روى هذِه الآثار عبد الرزاق في "مصنفه" 10/ 98 - 102، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 408 - 409، والبيهقي في "الكبرى" 8/ 28 - 29، 32 - 34.

(3)

انظر: "عيون المجالس" 5/ 1977، "البيان" 11/ 305 - 306، "الكافي" 5/ 127، "المحلى" 10/ 223.

(4)

انظر: "الكافي" لابن عبد البر ص 587، "جامع الأمهات" ص 319.

(5)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 230، "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 157 - 159.

ص: 561

فكيف إِذَا أرسله

(1)

؟!

واحتجوا أيضًا بالإجماع عَلَى أن المسلم تقطع يده إِذَا سرق مال الذمي، وبحديث علي في أبي داود:"ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"

(2)

أي: بكافر، وجعلوه من باب عطف الخاص عَلَى العام، وأنه يقتضي تخصيصه؛ لأن الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي دون المساوي له والأعلى وهو الذمي فلا يبقى أحد يقتل به المعاهد إلا الحربي، فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه.

والجواب: أما القياس فهو في مقابلة النص وهو باطل، وأما الحديث فجوابه من أوجه:

أحدها: أن الواو ليست للعطف بل للاستئناف، وما بعد ذَلِكَ جملة مستأنفة فلا حاجة إلى الإضمار، فإنه خلاف الأصل فلا يقدر فيه بكافر.

ثانيها: سلمنا أنه من باب العطف لكن المشاركة بواو العطف وقعت في أصل النفي لا في جميع الوجوه كما في قول القائل: مررت بزيد منطلقًا وعمرٍو. فإن المنقول كما قَالَ القرافي عن أهل اللغة والنحو أن ذَلِكَ لا يقتضي أنه مر بالمعطوف منطلقًا بل الاشتراك في مطلق المرور.

(1)

"سنن الدارقطني" 3/ 134 - 135 (165) كتاب: الحدود والديات.

وكذا قال البيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 30 وزاد أيضًا:

والحمل فيه على عمار بن مطر الرهاوي، فقد كان يقلب الأسانيد ويسرق الأحاديث حتى كثر ذلك في رواياته وسقط عن الاحتجاج به. اهـ.

(2)

"سنن أبي داود"(4530) كتاب: الديات، باب: أيقاد المسلم بالكافر؟ والحديث صححه الألباني في "صحيح الجامع"(6666).

ص: 562

ثالثها: أن المعنى لا يقتل ذو عهد في عهده خاصة إزالة لتوهم مشابهة الذمي، فإنه لا يقتل ولا ولده الذي لم يعاهد؛ لأن الذمة تنعقد له ولأولاده.

الرابعة: الكلام عَلَى العقل وفكاك الأسير يأتي إن شاء الله في الجهاد

(1)

.

الحديث الثاني:

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ ثنا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَخَطَبَ فَقَالَ:"إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ -أَوِ القَتْلَ قال أبو نُعَيمٍ: وجعلوه على الشَّك؟ الفِيلَ أَوِ القَتْلَ، وغيره يقول: الفِيلَ- وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَم تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، أَلَا وَإِنَّهَا أُحَلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هذِه حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ القَتِيلِ". فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: "اكْتُبُوا لأَبِي فُلَانٍ". فَقَالَ رَجُلٌ مِن قُرَيْشٍ: إِلَّا الإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِلَّا الإِذْخِرَ، إِلَا الِاذْخِرَ".

(1)

سيأتي برقم (3047) كتاب: الجهاد، باب: فكاك الأسير.

ص: 563

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الديات عن أبي نعيم به وقال فيه: "فمن قتل له قتيل"

(1)

وهو الصواب، خلاف ما وقع هناا. وأخرجه أيضًا في اللقطة عن يحيى بن موسى، عن الوليد، عن الأوزاعي

(2)

، وفي الديات، وقال عبد الله بن رجاء: حَدَّثنَا حرب

(3)

.

وأخرجه مسلم في المناسك: عن زهير و (عبيد)

(4)

الله بن سعيد، عن الوليد، عن الأوزاعي، وعن إسحاق بن منصور، عن (عبيد)

(5)

الله بن موسى، عن شيبان ثلاثتهم عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة به

(6)

.

ثانيها: في التعريف برجاله غير من سلف.

أما يحيى فهو: أبو نصر يحيى بن أبي كثير صالح بن المتوكل، ويقال: نشيط. ويقال: دينار. ودينار مولى على اليمامى الطائى مولاهم العطار أحد الأعلام الثقات العباد.

روى عن أنس وجابر مرسلًا، وعن أبي سلمة، وعنه هشام الدستوائي وغيره. قَالَ أيوب: ما بقي عَلَى وجه الأرض مثله. مات

(1)

سيأتي برقم (6880) كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين.

(2)

سيأتي برقم (2434) كتاب: اللقطة، باب: كيف تُعرَّف لقطة أهل مكة.

(3)

سيأتي برقم (6880).

(4)

في الأصول: عبد، والمثبت من "صحيح مسلم"(1355)، "تهذيب الكمال" 19/ 164 (3689).

(5)

في الأصول: عبد، والمثبت من "صحيح مسلم"(1355)، "تهذيب الكمال" 19/ 50 (3639).

(6)

"صحيح مسلم"(1355) كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها.

ص: 564

سنة تسع وعشرين ومائة. وقيل: سنة اثنتين وثلاثين بعد أيوب بسنة

(1)

.

وليس في الكتب الستة يحيى بن أبي كثير غيره، نعم فيها يحيى بن كثير العنبري

(2)

، وفي أبي داود يحيى بن كثير الباهلي

(3)

، وابن ماجه:

يحيى بن كثير صاحب البصري

(4)

وهما ضعيفان.

(1)

عن أحمد قال: قال أيوب السختياني: ما أعلم أحدًا بالمدينة بعد الزهري أعلم من يحيى بن أبي كثير. وكان شعبة يقدمه على الزهري، وقال أحمد: يحيى من أثبت الناس وقال العجلي ثقة، كان يعد من أصحاب الحديث، وقال أبو حاتم: إمام لا يحدث إلا عن ثقة، وقال ابن حجر: ثقة ثبت.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 5/ 555، "التاريخ الكبير" 8/ 301 (3087)، "معرفة الثقات" 2/ 357 (1994) و"الجرح والتعديل" 9/ 141 (599)، و"تهذيب الكمال" 31/ 504 (6907)، و"تهذيب التهذيب" 4/ 383.

(2)

يحيى بن كثير بن درهم العنبري، مولاهم، أبو غسان البصري خراساني الأصل، وهو الذي يقال له: السعيري قال عباس العنبري: كان ثقة وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس وذكره ابن حبان في "الثقات". انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 8/ 300 (3084)، "الجرح والتعديل" 9/ 183 (760)، و"الثقات" 9/ 255، و"تهذيب الكمال" 31/ 499 (6904).

(3)

كذا في الأصول: [الباهلي] وما في ترجمته: الكاهلي. وهو يحيى بن كثير الكاهلي الأسدي الكوفي، روى عن: صالح بن ضباب الفزاري ومسور بن يزيد الكاهلي، وروى عنه: مروان بن معاوية الفزاري. قال أبو حاتم: شيخ وقال النسائي ضعيف وذكره ابن حبان في "الثقات" وقد روى له البخاري في "القراءة خلف الإمام" وقال ابن حجر: لين الحديث من الخامسة.

انظر: ترجمته في "الجرح والتعديل" 9/ 183 (761)، "الثقات" 5/ 527. و"تهذيب الكمال" 31/ 501 (6905)، و"تقريب التهذيب" ص 595 (7635).

(4)

هو يحيى بن كثير أبو النضر صاحب البصري، روى عن أيوب السختياني وعاصم الأحول وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن السائب الكلبي وروى عنه شيبان بن فروخ وفضيل بن حسين الجحدري ومحمد بن مرداس.

قال يحيى بن معين: ضعيف، وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ضعيف، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال العقيلي منكر الحديث. =

ص: 565

وأما شيبان (ع) فهو أبو معاوية (شيبان بن عبد الرحمن)

(1)

النحوي المؤدب البصري الثقة مولى بني تميم، سمع الحسن وغيره. وعنه ابن مهدي وغيره، وكان صاحب حروف وقراءات.

قَالَ أحمد: هو ثبت في كل المشايخ، وشيبان أثبت في يحيى بن أبي كثير من الأوزاعي، مات ببغداد سنة أربع وستين ومائة في خلافة المهدي

(2)

.

فائدة:

النحوي نسبة إلى قبيلة، وهم ولد النحو بن شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن زهران، وليس في هذِه القبيلة من يروي الحديث سواه ويزيد بن أبي سعيد (م، د)، وأما من عداهما فنسبه إلى النحو علم العربية كأبي عمرو بن العلاء النحوي وغيره

(3)

.

= انظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 9/ 182 (759)، "المجروحين" 3/ 130، و"ضعفاء العقيلي" 4/ 424 (2052)، "تهذيب الكمال" 31/ 502 (6906)، "تقريب التهذيب"(7631).

(1)

في الأصول: شيبان بن معاوية بن عبد الرحمن، والصواب ما أثبتناه من "تهذيب الكمال" 12/ 592 (2784)، "التاريخ الكبير" 4/ 254 (2709)، "جامع الترمذي"(2822).

(2)

شيبان هو التميمي سكن الكوفة، ثم انتقل إلى بغداد. قال يحيى بن معين: شيبان أحب إليَّ من معمر في قتادة، ثقة وهو صاحب كتاب. وقال محمد بن سعد وأحمد بن عبد الله العجلي والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: حسن الحديث، صالح الحديث، يكتب حديثه.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 377، "التاريخ الكبير" 4/ 254 (2709)، "الجرح والتعديل" 4/ 355 (1561)، "تاريخ بغداد" 9/ 17، "تهذيب الكمال" 12/ 592 (2784).

(3)

ورد في هامش الأصل: قاله ابن السمعاني.

ص: 566

فائدة ثانية:

ليس في "صحيح البخاري" من اسمه شيبان غيره، وفي مسلم: هو وشيبان بن فروخ

(1)

، وفي أبي داود: شيبان أبو حذيفة القتباني

(2)

، وليس في الكتب الستة غير ذَلِكَ.

ثالثها: في فوائده:

وقد تقدم جملة من معناه في حديث أبي شريح الخزاعي في باب: ليبلغ الشاهد الغائب، ونذكر هنا نبذًا منه:

الأولى: خزاعة قبيلة وكذا بنو ليث، وقد أسلفنا هناك أن المقتول كان في الجاهلية، فقتلوا هذا به.

وعند ابن إسحاق أنه بقتيل منهم قتلوه وهو مشرك. وذكر القصة:

وهو أن خراش بن أمية من خزاعة قتل ابن الأكوع الهذلي، وهو مشرك

بقتيل قتل في الجاهلية يقال له: أحمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر

(1)

هو شيبان بن أبي شيبة الحبطي مولاهم، أبو محمد الأُبُلِّي قال أبو زرعة: صدوق.

وقال أبو حاتم: كان يرى القدر واضطر الناس إليه بأخرة وقال ابن حجر: صدوق يهم رمي بالقدر من التاسعة، ولد في حدود سنة أربعين ومئة ومات سنة ست وقيل: سنة خمس وثلاثين ومائتين.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 4/ 254 (2711)، "الجرح والتعديل" 4/ 357 (1562)، "تهذيب الكمال" 12/ 598 (2785)، "الكاشف" 1/ 491 (2317).

(2)

هو شيبان بن أمية ويقال: ابن قيس، القتباني، أبو حذيفة المصري، روى عن رويفع بن ثابت الأنصاري، وقال أبو سعيد بن يونس في "تاريخ مصر": شهد فتح مصر. وذكره أبو عبد الله بن خلفون في "الثقات" وخرج الحاكم حديثه في "المستدرك" وقال ابن حجر: مجهول من الثالثة.

وانظر ترجمته في: "تهذيب الكمال" 12/ 591 (2783)، "الكاشف" 1/ 491 (2315)، و"إكمال تهذيب الكمال" 6/ 307 (2425).

ص: 567

خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل .. "

(1)

الحديث كما ذكرناه هناك.

وقال الدارقطني فيه أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لو كنتُ قاتِل مسلم بكافر لقتلت خراشًا بالهذلي"

(2)

. قَالَ بعضهم: لو كان القتل قبل الإسلام لهدر النبي صلى الله عليه وسلم كما هدر دماء الجاهلية.

الثانية: "الفيل" هو بالفاء ثمَّ مثناة تحت، وشك أبو نعيم بينه وبين القتل -بالقاف ثم مثناة فوق كما سلف- وصوب الأول، والمراد بحبس الفيل أهله، ويجوز أن يكون المراد نفسه كما ورد في قصته كما هي مشهورة في السير والتفاسير

(3)

.

الثالثة: في خطبته صلى الله عليه وسلم راكبًا دلالة عَلَى استحبابها في موضع عال منبرًا كان أو غيره، جمعة كانت أو غيرها.

الرابعة: استدل بالتسليط من يرى أن مكة فتحت عنوة، وأن التسليط وقع له صلى الله عليه وسلم مقابل الحبس الذي وقع لأصحاب الفيل وهو الحبس عن القتال، وقد تقدمت المسألة في الحديث المشار إليه قريبًا.

قَالَ ابن بطال: ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم منَّ عَلَى أهل مكة وعفا عن أموالهم

(4)

.

(1)

سبق تخريجه عند ابن إسحاق.

(2)

"سنن الدارقطني" 3/ 137 (170).

(3)

انظر: في ذلك "المغازي" لابن إسحاق ص 38 باب: حديث الفيل. و"أخبار مكة" للأزرقي 1/ 134 وما بعدها باب: ذكر مبتدأ حديث الفيل، و"البداية والنهاية" لابن كثير 2/ 565 وما بعدها. و"تفسير الطبري" 12/ 691 - 699 تفسر سورة الفيل. و"تفسير ابن أبي حاتم" 10/ 3464 - 3466. تفسير سورة الفيل. و"زاد المسير في علم التفسير" 9/ 231 - 237. تفسير سورة الفيل.

(4)

انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 557.

ص: 568

وذهب مالك والكوفيون إلى أن الغنائم لا تملك ملكًا مستقرًا بنفس الغنيمة، بل للإمام أن يمنَّ ويعفو عن جملة الغنائم كما منَّ عَلَى الأسارى وهم من جملة الغنائم.

الخامسة: قَالَ الطحاوي: الذي أحل له صلى الله عليه وسلم وخص به دخوله مكة بغير إحرام، ولا يجوز لأحد يدخله بعده بدونه

(1)

.

وهو قول ابن عباس، والقاسم، والحسن البصري، وأبي حنيفة، وصاحبيه

(2)

، ولمالك

(3)

والشافعي

(4)

قولان فيمن لم يرد الحج والعمرة. وقال الطبري: الذي أحل لَهُ قتال أهلها ومحاربتهم. وقد سلف شيء من ذَلِكَ في الحديث المشار إليه.

السادسة: قوله: ("ولَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا") هو بمعنى: "لا يعضد" وقد سلف هناك يقال: خليت الخلا أخليه: إِذَا قطعته، والخلا بفتح الخاء مقصور: الرطب من الكلأ.

السابعة: قوله: "وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ" وجاء: "ولا تحل لقطتها إلا لمنشد"

(5)

. وجاء: "ولا تلتقط لقطتها إلا من عرفها"

(6)

.

والمنشد: المعرف. وأما الطالب فيقال له: ناشد. يقال: نشدت الضالة إِذَا طلبتها، وأنشدتها إِذَا عرفتها.

وأصل الإنشاد رفع الصوت، ومنه إنشاد الشعر. والمعنى عَلَى هذا:

(1)

"شرح معاني الآثار" 3/ 329.

(2)

"تبيين الحقائق" 2/ 7.

(3)

انظر: "عيون المجالس" 2/ 831 - 832، "حاشية الدسوقي" 2/ 25.

(4)

انظر: "البيان" 4/ 15، "روضة الطالبين" 3/ 77.

(5)

سيأتي برقم (2433) كتاب: في اللقطة، باب: كيف تعرَّف.

(6)

سيأتي برقم (1349) كتاب: الجنائز، باب: الإذخر والحشيش.

ص: 569

لا تحل لقطتها إلا لمن يريد أن يعرفها أبدًا من غير (توقيت)

(1)

بسنة، ثم يملكها كغيره من البلاد. وبه قَالَ الشافعي

(2)

، وابن مهدي، وأبو عبيد

(3)

، والداودي، والباجي، وابن العربي، والقرطبي

(4)

.

وذهب مالك وبعض الشافعية إلى أنها كغيرها في التعريف والتمليك

(5)

. وحمل المازري الحديث عَلَى المبالغة في التعريف؛ لأن الحاج يرجع إلى بلده وهو لا يعود إلا بعد أعوام، فتدعو الضرورة لإطالة التعريف بها بخلاف غير مكة.

وعن ابن راهويه والنضر بن شميل: تقديره: إلا من سمع ناشدًا يقول: من أضل كذا. فحينئذ يجوز رفعها إِذَا رآها ليردها (على)

(6)

صاحبها. وقيل: لا تحل إلا لربها الذي يطلبها. قَالَ أبو عبيد: وهو جيد في المعنى، لكن لا يجوز في العربية أن يقال للطالب: منشد

(7)

.

قُلْتُ: قد حكاه بعضهم فجعل الناشد: المعرف، والمنشد: الطالب، عكس ما سلف حكاه عياض في "مشارقه" عن الحربي

(8)

.

الثامنة: قوله: ("إما أن يعقل، (وإما أن)

(9)

يقاد أهل القتيل")، كذا رواه هنا. وقال في الديات: "إما يودي و (أو)

(10)

يقاد"

(11)

قَالَ: وقال عبيد الله: "وإما أن يقاد أهل القتيل": والمعنى: إما أن يعقل المقتول

(1)

في الأصل: التوقت.

(2)

انظر: "الحاوي" 8/ 4.

(3)

انظر: "زاد المعاد" 3/ 453.

(4)

انظر: "الذخيرة" 9/ 114.

(5)

انظر: "عيون المجالس" 4/ 1840، "الحاوي" 8/ 5، "روضة الطالبين" 5/ 412، "مواهب الجليل" 8/ 43.

(6)

في (ج): إلى.

(7)

"غريب الحديث" 1/ 279.

(8)

"مشارق الأنوار" 2/ 28.

(9)

في (ج): أو.

(10)

في (ج): وإما.

(11)

سيأتي برقم (6880) كتاب: الديات، باب: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين.

ص: 570

بالدية، وإما أن يقاد، أي: يقتل القاتل. وحكى بعضهم عن رواية مسلم: "يفادى"

(1)

بالفاء. والصواب: بالقاف، لأن العقل هو الفداء، فيختل المعنى. وسميت الدية عقلًا بالمصدر لأنها تعقل بفنائه.

التاسعة: فيه أن ولي القتيل بالخيار بين أخذ الدية وبين القتل، وليس لَهُ إجبار الجاني عَلَى أي الأمرين شاء، وبه قَالَ الشافعي

(2)

وأحمد

(3)

.

وقال مالك في المشهور عنه: ليس لَهُ إلا القتل أو العفو، وليس لَهُ الدية إلا برضا الجاني

(4)

. وبه قَالَ الكوفيون

(5)

، وهو خلاف نص الحديث، وأوّله المهلب بأنه صلى الله عليه وسلم حض الولي عَلَى أن ينظر إن كان القصاص خيرًا من الدية اقتص، وإن كانت الدية خيرًا قبلها من غير أن يجبر عليها.

العاشرة: فيه أن القاتل عمدًا يجب عليه أحد الأمرين من القصاص (أو) الدية، وهو أحد قولي الشافعي، وأصحهما عنده أن الواجب القصاص، والدية تدل (عند)

(6)

سقوطه

(7)

، وهو مشهور مذهب مالك

(8)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1355) كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وخلاها وشجرها. بلفظ (يُفدى).

(2)

انظر: "الأم" 6/ 10، "روضة الطالبين" 9/ 239.

(3)

انظر: "الإقناع" 4/ 123، "المبدع" 8/ 297.

(4)

روي عن الإمام مالك قولان أحدهما هذا، والآخر أن الولي بالخيار في القصاص أو الدية، وإن كره القاتل. انظر:"عيون المجالس" 5/ 1991، "الذخيرة" 12/ 413.

(5)

انظر: "الهداية" 4/ 501.

(6)

في (ج): رجال، وهو خطأ.

(7)

انظر: "روضة الطالبين" 9/ 239 وانظر القول الثاني في "إِحكام الأحكام" 631 وهو أن القصاص عينًا.

(8)

انظر: "الذخيرة" 12/ 413.

ص: 571

وعلى القولين للولي العفو عَلَى الدية ولا يحتاج إلى رضا الجاني، ولو مات أو سقط الطرف المستحق وجبت الدية. وبه قَالَ أحمد

(1)

.

وعن أبي حنيفة ومالك: أنه لا يعدل إلى المال إلا برضى الجاني، وأنه لو مات الجاني سقطت الدية، وهو قول قديم للشافعي

(2)

، ووقع في شرح الشيخ تقي الدين و"العمدة" ترجيحه

(3)

.

الحادية عشرة: الإذن في كتابة العلم وقد سلف في الحديث ما فيه، ومعنى قوله:"اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ" أراد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمكة قَالَه الأوزاعي، كما حكاه عنه الوليد بن مسلم في الصحيح

(4)

.

وقوله: فقال: "اكْتُبُوا لأَبِي فُلَانٍ" هو: أبو شاه، كما جاء في رواية أخرى في "الصحيح"

(5)

ولا يعرف اسمه، وهو بالهاء درجًا ووقفًا، وعن ابن دحية أنه بالتاء منصوبًا، وقال في "المطالع": أبو شاه مصروفًا، ضبطه وقراءته

(6)

أبا، معرفة ونكرة.

وقال النووي: وهو بهاء في آخره؛ درجًا ووقفًا

(7)

، قَالَ: وهذا لا خلاف فيه ولا يغتر بكثرة من يصحفه ممن لا يأخذ العلم عَلَى وجهه ومن مظانه.

الثانية عشرة: قوله: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا الإِذْخِرَ) هو العباس

(1)

انظر: "الكافي" 5/ 184 - 185.

(2)

وفي الجديد: إذا مات القاتل وجبت الدية للولي. انظر: "تقويم النظر" 4/ 429.

(3)

انظر: "إحكام الأحكام" ص 631.

(4)

البخاري (2434) كتاب: الحج، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة.

(5)

سيأتي برقم (2434) كتاب: في اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة.

(6)

في (ج) وصوابه.

(7)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 9/ 129.

ص: 572

كما جاء مبينًا في رواية أخرى في "الصحيح"

(1)

.

الثالثة عشرة: "الإذخر" بكسر الهمزة، والخاء والذال المعجمتين: نبت معلوم طيب الريح، واحده إذخرة.

الرابعة عشرة: المراد بالبيوت: المعلومة، وأبعد من قَالَ: المراد بها القبور: لقوله بعده: (وقبورنا).

وفي كتاب: الحج من حديث ابن عباس: لصاغتنا وقبورنا

(2)

. وفي أخرى: لقينهم

(3)

أي: لصائغهم، والقَيْن: الحداد، ومنه قوله: كان خباب قينا، والقينة أيضًا: المغنية، والماشطة

(4)

، ويجمع بين الروايات أنهم كانوا يستعملونه في هذِه الأمور؛ لمسيس الحاجة إليه، وكانوا يخلطونه؛ لئلا يتشقق ما بني به كما يفعل بالتبن، وكانوا يسقفون به فوق الخشب.

الخامسة عشرة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" هو استثناء من قوله: (لا يختلَى شوكها" وهو بعض من كل، وقد استدل به الأصوليون عَلَى أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدًا باجتهاده فيما لا نص فيه، وهو الأصح.

وتوقف أكثر المحققين فيه وفي وقوعه، وجوزه بعضهم في أمر الحرب دون غيره، ومثل هذا الحديث "لو سمعت ما قتلت" لأخت النضر

(5)

بن

(1)

سيأتي برقم (2434) كتاب: في اللقطة، باب: كيف تعرف لقطة أهل مكة.

(2)

سيأتي برقم (1349) كتاب: الجنائز، باب: الأذخر والحشيش.

(3)

سيأتي برقم (1834) كتاب: جزاء الصيد، باب: لا يحل القتال بمكة.

(4)

انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/ 135.

(5)

ورد بهامش الأصل: قوله: أخت النضر. هو الصواب، وقال في "منهاج البيضاوي": ابنة النضر. وهو وهم فاجتنبه، وأصل ذلك أن قومًا رووه: أخت. وغالب ظني أن السهيلي في "الروض" وهَّم (أخت).

ص: 573

الحارث

(1)

. "ولو قُلْتُ: نعم لوجبت"

(2)

في تكرار الحج، وبقوله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} الآية [الأنفال: 67] في أسارى

(3)

بدر وغير ذَلِكَ

(4)

.

وأجاب المانعون بأنه يجوز أن يقارن بها نص أو يتقدم عليها وحي، أو كان جبريل حاضرًا فأشار به، فليس ذَلِكَ من باب الاجتهاد، ويجوز أن الله تعالى أعلم رسوله بتحليل المحرمات عند الاضطرار، فلما سأل العباس ذَلِكَ أجاب به.

وقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] قيل: إنه مخصوص بالحرب

(5)

.

الحديث الثالث

حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ ثنا سُفْيَانُ ثنا عَمْرٌو أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ. تَابَعَهُ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وهذا الحديث من أفراده، ولم يخرجه إلا هنا، وسبب قلة رواية

(1)

ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" 4/ 457 - 458.

(2)

رواه مسلم (1337) كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة واحدة.

والنسائي 5/ 110 - 111، وأحمد 2/ 508، وابن خزيمة 4/ 129 - 130 (2508)، وابن حبان 18/ 9 - 20 (3704 - 3705) كتاب: الحج، باب: فرض الحج، والدارقطني 2/ 281 - 282، والبيهقي 4/ 325 - 326.

(3)

في (ج): أسرى.

(4)

رواه مسلم (1763) كتاب: السير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، وأبو داود (2690)، وأحمد 1/ 30، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 357 (36673)، والطبري في "تفسيره" 6/ 287 - 288، وابن حبان في "صحيحه" 11/ 114.

(5)

وراد بهامش الأصل: ثم بلغ في السابع بعد الثلاثين كتبه مؤلفه غفر الله له.

ص: 574

عبد الله بن عمرو أنه سكن مصر وكان الواردون إليها قليلًا، بخلاف أبي هريرة فإنه توطن المدينة، وهي المقصد من كل جهة، وانتصب للرواية، لا جرم روى فوق الخمسة آلاف (حديث)

(1)

، ووجد لعبد الله بن عمرو سبعمائة حديث كما ذكرته في ترجمتهما

(2)

.

وأخو وهب هو همام، وهو أكبر من وهب، وهم أربعة إخوة:

وهب، ومعقل أبو عقيل، وهمام، وغيلان، وكان أصغرهم. وكان آخرهم موتًا همام. ومات وهب ثمَّ معقل ثمَّ غيلان ثمَّ همام. ووالدهم منبه بن كامل (بن)

(3)

سيج -بسين مهملة كما سلف، وقيل: معجمة ثمَّ مثناة تحت ساكنة ثمَّ جيم- بن ذي كبار وهو الأسوار الصنعاني اليماني الذماري -بكسر الذال المعجمة، وقيل: بفتحها، وذمار عَلَى مرحلتين من صنعاء

(4)

- الأبناوي نسبة إلى الأبناء -بباء موحدة ثمَّ نون- وهم كل من ولد من أبناء الفرس الذين وجههم كسرى مع سيف بن ذي يزن، كما سلف في باب حسن إسلام المرء.

ولم يذكر البخاري وهب بن منبه إلا في هذا الموضع كما نبه عليه الباجي، وسمع في غير البخاري جابرًا، وأبا هريرة وغيرهما من الصحابة، وثقوه خلا الفلاس فإنه ضعفه، وكان إخباريًّا قاضيًا صاحب (ليث)

(5)

. مات سنة أربع عشرة ومائة، ابن ثمانين سنة فيما قيل، أخرجوا لَهُ خلا ابن ماجه

(6)

.

(1)

من (ج).

(2)

سبقت ترجمته في شرح حديث رقم (11).

(3)

ساقطة من الأصول، والصواب ما أثبتناه كما في مصادر التخريج.

(4)

انظر: "معجم ما استعجم" 2/ 614، و"معجم البلدان" 3/ 7.

(5)

كذا في الأصل، ولعل الصواب: ليل، كما يحكى عنه في كتب التراجم.

(6)

وقال العجلي: تابعي ثقة، وقال أبو زرعة والنسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في =

ص: 575

وأخوه همام أبو عقبة، أخرج لَهُ الجماعة، وهو تابعي يروي عن ابن عباس أيضًا. مات سنة إحدى أو اثنتين وثلاثين ومائة، وقد سلف في الباب السالف المشار إليه ترجمته واضحة.

الحديث الرابع:

حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابن وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قَالَ: "ائْتُونِي بكِتَابٍ أَكْتُبُ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ". قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَه الوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا. فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ. قَالَ: "قُومُوا عَنِّي، وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَنَازُعُ". فَخَرَخ ابن عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُل الرَّزِّيَةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبَيْنَ كِتَابِهِ.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الطب

(1)

والاعتصام عن

= الثقات. وقال ابن حجر في "مقدمة فتح الباري": وهب بن منبه الصنعاني من التابعين، وثقه الجمهور وشذ الفلاس فقال: كان ضعيفا وكان شبهته في ذلك أنه كان يتهم بالقول بالقدر وصنف فيه كتابا، ثم صح أنه رجع عنه، قال حماد بن سلمة عن أبي سنان: سمعت وهب بن منبه يقول: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئا من المشيئة فقد كفر، فتركت قولي. وليس له في البخاري سوى حديث واحد عن أخيه همام عن أبي هريرة في كتابة الحديث، وتابعه عليه معمر عن همام.

وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 5/ 543، "التاريخ الكبير" 8/ 164 (2565)، "معرفة الثقات" 2/ 345 (1957)"الجرح والتعديل" 9/ 24 (110)، "تهذيب الكمال" 31/ 140 (6767)، "هدي الساري" ص 450.

(1)

سيأتي برقم (5669) كتاب: المرضى، باب: قول المريض: قوموا عني.

ص: 576

إبراهيم بن موسى، عن هشام، عن معمر

(1)

. وفي المغازي عن علي

(2)

، وفي الطب عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق، عن معمر

(3)

.

وأخرجه مسلم في الوصايا عن محمد بن رافع وعبد

(4)

، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري به

(5)

.

ثانيها: في التعريف برواته: وقد سلف مفرقًا.

ثالثها: في فوائده:

الأولى: قوله: (لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ)، هو المراد بقوله في كتاب الطب: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه: واختلف أهل البيت فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده. ومنهم من يقول ما قَالَ عمر.

وفي بعض طرقه في "الصحيح""ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا"

(6)

.

الثانية: اختلف العلماء في الكتاب الذي همَّ صلى الله عليه وسلم بكتابته ما هو؟

قَالَ الخطابي: يحتمل وجهين:

أحدهما: أنه أراد أن ينص عَلَى الإمامة بعده فترتفع تلك الفتن العظيمة كحرب الجمل وصفين.

(1)

سيأتي برقم (7366) كتاب: الاعتصام، باب: كراهية الاختلاف.

(2)

سيأتي برقم (4432) كتاب: المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

سيأتي برقم (5669) كتاب: المرض، باب: قول المريض قوموا عني.

(4)

هو عبد بن حميد.

(5)

"صحيح مسلم"(1637) كتاب: الوصية، باب: ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصى فيه.

(6)

سيأتي برقم (3168) كتاب: الجزية والموادعة باب: إثم من قتل معاهدًا.

ص: 577

وثانيهما: أنه أراد أن يبين كتابًا فيه مهمات الأحكام ليحصل الاتفاق عَلَى المنصوص عليه، ثمَّ ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم أن المصلحة تركه، أو أوحي إليه به

(1)

.

الثالثة: لا شك في عصمته صلى الله عليه وسلم من تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته ومرضه، وليس هو معصومًا من الأمراض العارضة للأجسام مما لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقد سحر ولم يصدر منه في هذِه الحالة حكم مخالف لما قرره من الأحكام.

إِذَا تقرر ذَلِكَ فقول عمر رضي الله عنه: أنه غلبه الوجع .. إلى آخره معناه: أنه خشي أن يكتب أمورًا قد يعجزوا عنها فيستحقوا العقوبة عليها؛ لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، وقصد التخفيف عليه حين غلبه الوجع، ولو كان المراد كتابة ما لا يستغنى عنه لما تركه لاختلافهم.

وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله: أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب استخلاف الصديق ثمَّ ترك ذَلِكَ اعتمادًا عَلَى ما علمه من تقدير الله تعالى

(2)

.

وذلك كما همَّ في أول مرضه حين قَالَ: "وارأساه" وترك الكتاب. وقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"

(3)

، ثمَّ قدمه في الصلاة، ورأى عمر الاقتصار عَلَى ما سبق، لئلا ينسد باب الاجتهاد والاستنباط، وقد كان سبق منه قوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

"أعلام الحديث" 1/ 217 - 218.

(2)

ذكر ذلك النووي في "صحيح مسلم بشرح النووي" 11/ 90 - 91.

(3)

سيأتي برقم (5666) في المرضى، باب: ما رخص للمريض أن يقول: إني وجع.

ص: 578

"إِذَا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر"

(1)

. وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار عَلَى عمر دلالة عَلَى استصوابه.

فإن قُلت: كيف ساغ لعمر الاعتراض؟ قُلْتُ: أجاب عنه الخطابي حيث قَالَ: لا يجوز أن يحمل قوله أنه توهم (الغلط)

(2)

عليه أو ظن به غير ذَلِكَ مما لا يليق به بحال، لكنه لما رأى ما غلب عليه من الوجع وقرب الوفاة خاف أن يكون ذَلِكَ القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة لَهُ فيه، فيجد المنافقون بذلك سبيلًا إلى الكلام في الدين.

وقد كانت الصحابة يراجعونه صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها، كما راجعوه يوم الحديبية في الحلاق وفي الصلح بينه وبين قريش، فإذا أمر بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد.

قَالَ: وأكثر العلماء، عَلَى أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه فيه وحي، وأجمعوا كلهم عَلَى أنه لا يقر عليه.

قَالَ: ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فلم ينزهه من العوارض البشرية، فقد سها في الصلاة، فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذِه الأمور في مرضه، فيتوقف في مثل هذِه الحال حتَّى يتبين حقيقته، فلهذه المعاني وشبهها توقف عمر رضي الله عنه

(3)

.

وأجاب المازري بنحوه حيث قَالَ: لا خلاف أن الأوامر قد يقترن بها قرائن تصرفها من الندب إلى الوجوب، وعكسه عند من قَالَ: إنها للوجوب

(1)

سيأتي برقم (7352) كتاب: الاعتصام، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.

(2)

في (ج): اللغط.

(3)

"أعلام الحديث" 1/ 223 - 225. بتصرف.

ص: 579

وإلى الإباحة وغيرها من المعاني، فلعله ظهر من القرائن ما دل عَلَى أنه لم يوجب ذَلِكَ عليهم، بل جعله إلى اختيارهم، ولعله اعتقد أنه صدر ذَلِكَ منه صلى الله عليه وسلم من غير قصد جازم، فظهر ذَلِكَ لعمر دون غير

(1)

.

الرابعة: معنى قول عمر رضي الله عنه: (وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا)، أي: كافينا في ذَلِكَ مع ما تقرر في الشريعة، قَالَ تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].

وزعم الداودي أن معناه: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر كلامًا لم يذكر في الحديث، فأما أن يكون حضهم عَلَى كتاب الله والأخذ بما فيه. فقال عمر: عندنا كتاب الله، تصديقًا لقوله.

وسيكون لنا عودة إن شاء الله إلى هذا الحديث في موضع من المواضع السالفة بيانها، فإن فيه زيادة في بعض الطرق نتكلم عليها، ومن تراجمه عليه في الاعتصام، باب: النهي عَلَى التحريم إلا ما تعرف إباحته.

الخامسة: في قوله: "ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبُ لَكُمْ" دلالة عَلَى أن للإمام أن يوصي عند موته بما يراه نظرًا للأمة، وفي تركه الكتاب إباحة الاجتهاد كما سلف؛ لأنه وكلهم إلى أنفسهم واجتهادهم.

(1)

"المعلم بفوائد مسلم" 2/ 74.

ص: 580

‌40 - باب السَّمَرِ في العلم

(1)

116 -

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ:"أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هذِه؟ فَإِن رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ". [564، 601 - مسلم 2537 - فتح: 1/ 211]

117 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا الَحكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ فِي بَيتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الَحارِثِ -زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ:"نَامَ الغُلَيِّمُ". أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ -أَوْ خَطِيطَهُ- ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ. [138، 183، 697، 698، 699، 726، 728، 859، 992، 1198، 4569، 4570، 4571، 4572، 5919، 6215، 6316، 7452 - مسلم: 763 - فتح: 1/ 212]

ذكر فيه رحمه الله حديثين:

الحديث الأول:

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ بن مُسافِر، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ:"أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكمْ هذِه؟ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ".

(1)

كذا الترتيب في الأصل، وسيأتي باب العلم والعظة بالليل، حديث (115) في الباب التالي.

ص: 581

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الصلاة، عن عبد الله، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري به

(1)

، وعن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري به

(2)

.

وأخرجه مسلم في الفضائل عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي اليمان، وعن ابن رافع وعبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر.

قَالَ: ورواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد

(3)

.

ثانيها: في التعريف برواته غير من سلف:

أما أبو بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، واسم أَبِي حَثْمَةَ: عبد الله بن حُذيفة، وقيل: عدي بن كعب بن حذيفة بن غانم بن عبد الله بن عويج بن عدي بن كعب القرشي.

قَالَ ابن عبد البر وغيره: أبو بكر هذا ليس له اسم. أخرج لَهُ البخاري هذا الحديث مقرونًا بسالم كما ترى، ومسلم غير مقرون.

وكان من علماء قريش. روى عن سعيد بن زيد، وأبي هريرة أيضًا. وعنه: الزهري وغيره. أخرجوا لَهُ خلا ابن ماجه

(4)

.

(1)

سيأتي برقم (564) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ذكر العشاء والقسمة ومن رآه واسعًا.

(2)

سيأتي برقم (601) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: السمر في الفقه والخير.

(3)

"صحيح مسلم"(2537) كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم "لا تأتي مئة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم".

(4)

ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال ابن حجر: ثقة، عارف بالنسب. انظر: ترجمته في "الطبقات الكبرى" 5/ 223، "الجرح والتعديل" 9/ 341 (1518). و"الثقات" 5/ 566 - 567. و"تهذيب الكمال" 33/ 93 (7234). و"التقريب" 623 (7967).

ص: 582

وأما عبد الرحمن: فهو أبو خالد، وقيل: أبو الوليد. عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ بن مُسافِر بن ظاعِن الفهمي، مولى الليث بن سَعْد أمير مصر لهشام بن عبد الملك.

قَالَ يحيى بن معين: كان عَلَى مصر، وذكر عنه حداثة. وكان عنده عن الزهري كتاب فيه مائتا حديث أو ثلاثمائة كان الليث يحدث بها عنه، وكان جده شهد فتح بيت المقدس مع عمر.

وقال أبو حاتم: صالح. وقال ابن يونس: كان ثبتًا في الحديث.

وكانت ولايته عَلَى مصر سنة ثماني عشرة ومائة، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة. ومات الزهري سنة أربع وعشرين ومائة. روى لَهُ مع البخاري مسلم والترمذي والنسائي

(1)

.

ثالثها:

السمر -في كلام البخاري- بفتح الميم: هو الحديث بعد العشاء، وبالإسكان اسم للفعل، قَالَ القاضي عياض: والأول هو الرواية

(2)

.

وقال ابن سراج: الإسكان أولى. وضبطه بعضهم به، وأصله: لون القمر؛ لأنهم كانوا يتحدثون إليه، ومنه سُمي الأسمر لشبهه بذلك اللون.

وقال غيره: السمر بالفتح: الحديث بالليل، وأصله: لا أكلمه السمر والقمر، أي: الليل والنهار

(3)

.

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 5/ 277 (900) و"الجرح والتعديل" 5/ 229 (1083)"الثقات" 7/ 83، و"تهذيب الكمال" 17/ 76 (3805).

(2)

"مشارق الأنوار" 2/ 220.

(3)

انظر: مادة سمر في "الفائق في غريب الحديث" 2/ 198، "النهاية في غريب الحديث" 2/ 399 - 400، و"لسان العرب" 4/ 2090 - 2091.

ص: 583

رابعها:

معنى "أَرَأَيْتَكُمْ" الاستفهام والاستخبار، وهي كلمة تقولها العرب إِذَا أرادت الاستخبار، وهي بفتح التاء للمذكر والمؤنث والجمع والمفرد، تقول: أرأيتكَ وأرأيتَكِ وأرأيتكما وأرأيتكم، والمعني: أخبرني أو أخبريني، وكذا باقيهن، فإن أردت معنى الرؤية أنثت وجمعت.

خامسها:

استدل بعض أهل اللغة بقوله: "فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا" عَلَى أن (من) تكون لابتداء الغاية في الزمان كمذ، وهو مذهب كوفي.

وقال البصريون: لا تدخل (من) إلا عَلَى المكان (ومنذ) في الزمان نظير (من) في المكان، وتأولوا ما جاء عَلَى خلافه مثل قوله تعالى:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] أي: من أيام وجوده كما قدره الزمخشري

(1)

، أو من تأسيس أول يوم كما قدره أبو علي الفارسي، وضعف بأن التأسيس ليس بمكان.

ومثله قول عائشة: ولم يجلس عندي من يوم قيل ما قيل

(2)

. وقول أنس: فما زلت أحب الدباء من يومئذ

(3)

. وقول بعض الصحابة: مطرنا من الجمعة إلى الجمعة

(4)

.

سادسها:

الحديث دال عَلَى ما ترجم لَهُ من جواز السمر في العلم والخير بعد

(1)

"الكشاف" 2/ 332.

(2)

سيأتي برقم (4750) كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} .

(3)

سيأتي برقم (2092) كتاب: البيوع، باب: ذكر الخياط.

(4)

سيأتي برقم (1016) كتاب: الاستسقاء، باب: من اكتفى بصلاة الجمعة في الاستسقاء.

ص: 584

العشاء، وهو مخصص لحديث أبي برزة الآتي في بابه، أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره الحديث بعدها

(1)

.

وأما الكلام بعدها في غير ذَلِكَ فمكروه. وإليه ذهب الأكثرون منهم: أبو هريرة، وابن عباس

(2)

.

وكتب عمر أن لا ينام قبل أن يصليها، فمن نام فلا نامت عينه

(3)

، وهو قول عطاء وطاوس، وإبراهيم، ومجاهد

(4)

، ومالك، والشافعي، وأهل الكوفة

(5)

.

ورخص فيه طائفة. روي ذَلِكَ عن علي رضي الله عنه أنه كان ربما (غفا)

(6)

قبل العشاء

(7)

.

(1)

سيأتي برقم (568) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما يكره من النوم قبل العشاء.

(2)

"فتح الباري" لابن رجب 3/ 183 - 185، 375 - 378، وأثر ابن عباس رواه ابن أبي شيبة 2/ 121 (7183) في الصلاة، باب من كره النوم بين المغرب والعشاء.

(3)

رواه مالك في "الموطأ" 1/ 6 (6) باب: وقوت الصلاة. وعبد الرزاق 1/ 563 (2142) كتاب: الصلوات، باب: النوم قبلها والسمر بعدها. وابن أبي شيبة 2/ 121 (7178) كتاب: الصلاة، باب: من كره النوم.

(4)

هذِه الآثار رواها ابن أبي شيبة 2/ 121 - 122 (7184، 7186، 7187) كتاب: الصلاة، باب: من كره النوم بين المغرب والعشاء.

(5)

"مختصر اختلاف العلماء" 1/ 317، "الاستذكار" 2/ 92، "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 2/ 261، "المجموع" 3/ 44.

(6)

ورد بهامش الأصل: غفا لغة والأكثر أغفا.

(7)

رواه عبد الرزاق 1/ 564 (2147) كتاب: الصلوات، باب: النوم قبلها والسمر بعدها.

وابن أبي شيبة 2/ 122 (7190) كتاب: الصلاة، باب: من رخص في النوم بعدها. وأحمد 1/ 111، وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 314: رواه أحمد وفيه: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف لسوء حفظه وفيه راوٍ لم يسم.

ص: 585

وكان ابن عمر ينام ويوكل به من يوقظه

(1)

، وعن أبي موسى مثله.

وعن عروة وابن سيرين أنهما كانا ينامان نومة قبل العشاء

(2)

. واحتج لهم بأن الكراهة لمن خشي عليه تفويتها أو تفويت الجماعة فيها.

وقال ابن بطال: اختلف قول مالك، فقال مرة: الصلاة أحب إلي من مذاكرة الفقه. وقال مرة: العناية بالعلم إِذَا صحت فيه النية أفضل.

وقال سحنون: يلتزم أفضلهما عليه

(3)

.

سابعها:

هذا الحديث ورد مبينًا أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أرأيتكم" ذَلِكَ آخر حياته، وفي "الصحيح" أيضًا من حديث جابر قَالَ: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر: "تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما عَلَى الأرض من نفس منفوسة -أي مولودة- يأتي عليها مائة سنة". وفي رواية "وهي حية يومئذ"

(4)

. وهو علم من أعلام نبوَّته.

ومعنى الحديث: أن كل نفس منفوسة كانت تلك الليلة عَلَى الأرض لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة سواء قل عمرها (قبل)

(5)

أم لا، وليس

(1)

سيأتي معلقا بعد حديث (570) كتاب: النوم قبل العشاء لمن غلب. ورواه عبد الرزاق 1/ 564 (2146) كتاب: الصلوات، باب: النوم قبلها. وابن أبي شيبة 2/ 122 (7194) كتاب: الصلاة، باب: من رخص في النوم بعدها.

(2)

أثر عروة رواه ابن أبي شيبة 2/ 122 (7195) كتاب: الصلاة، باب: من رخص في النوم وبعدها. وأثر ابن سيرين رواه ابن أبي شيبة 2/ 123 (7199) كتاب: الصلاة، باب: من رخص في النوم بعدها.

(3)

"شرح صحيح البخاري" لابن بطال 1/ 192.

(4)

"صحيح مسلم"(2538) كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس

".

(5)

في (ج): بعد.

ص: 586

فيه نفي عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة.

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم وعظهم بقصر أعمارهم بخلاف غيرهم من سالف الأمم، وقد بين صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ في حديث آخر فقال:"أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجاوز ذَلِكَ". رواه الترمذي وحسنه مع الغرابة

(1)

.

وقد احتج به البخاري ومن قَالَ بقوله عَلَى موت الخضر.

وأجاب الجمهور عنه بأوجه:

أحدها: قد يجوز أن لا يكون عَلَى ظهرها إِذ ذاك.

ثانيها: أن المعنى: لا يبقى ممن ترونه وتعرفونه.

ثالثها: أنه أراد بالأرض: البلدة التي هو فيها، وقد قَالَ تعالى:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} [النساء: 97] المراد بالأرض: المدينة

(2)

، وخرج بظهر الأرض الملائكة.

الحديث الثاني:

حَدَّثَنَا آدَمُ ثنا شُعْبَةُ ثنا الحَكَمُ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بنْتِ الحَارِثِ -زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ، ثمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ:"نَامَ الغُلَيِّمُ؟ ". أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ فَقمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ

(1)

"سنن الترمذي"(2331) من حديث أبي هريرة، وصححه الألباني في "الصحيحة"(757).

(2)

"تفسر البغوي" 2/ 273. و"زاد المسير" 2/ 178.

ص: 587

غَطِيطَهُ -أَوْ خَطِيطَهُ- ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع من "صحيحه" من حديث كريب، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وأبي جمرة، وطاوس وغيرهم عن ابن عباس

(1)

.

ثانيها:

إن قُلْتَ: ما وجه إدخال البخاري هذا الحديث في باب: السمر في العلم؟

قُلْتُ: أجاب بعضهم عنه بأنه إنما يأتي من فعل ابن عباس لأنه السامر، وقد ارتقب أفعاله صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين التعلم بالقول وبين التعلم بالفعل، وفيه نظر، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم اطلع عليه وأقره، لا جرم قَالَ الإمام أبو بكر الإسماعيلي: دخول هذا الحديث فيما نحن فيه مما يبعد لأنه ليس فيه ذكر قول ولا حديث إلا قوله: "نَامَ الغُلَيِّمُ؟ ".

فإن أراد مبيت ابن عباس وسهره عنده؛ ليحفظ ما يفعله صلى الله عليه وسلم فذلك

(1)

كذا قال المصنف أن البخاري أخرجه من حديث كريب، وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، وأبي جمرة، وطاوس وغيرهم عن ابن عباس، وتبعه العيني في "عمدة القاري" 2/ 145 وليس كذلك، بل رواه هنا وبأرقام (697، 699، 5919) عن سعيد بن جبير، وبأرقام (183، 698، 726، 859، 992، 1198، 4569، 4570، 4571، 4572، 6215، 6316، 7452) عن كريب وبرقم (728) عن الشعبي وبرقم (1138) رواية تصلح طرفًا عن أبي جمرة أما حديث عطاء وطاوس وغيرهم عن ابن عباس فلم أقف عليه عند البخاري.

ص: 588

سهر لا سمر، والسمر لا يكون إلا (عن)

(1)

حديث، ثمَّ السمر مأذون فيه لمن أراد الصلاة بالليل.

وأجاب شيخنا قطب الدين في "شرحه" بجواب حسن وهو أن من أنواع تبويب البخاري رحمه الله أن يذكر حديثًا في باب ليس فيه من تلك الطريق ما يدل عَلَى المراد، بل فيه من طريق آخر ما يدل لَهُ فينبه عَلَى تلك الطويق بتبويبه.

وهذا التبويب من هذا النوع، فإنه جاء في رواية في "الصحيح" من حديث كريب، عن ابن عباس أنه قَالَ: رقدت في بيت ميمونة ليلة لأنظر كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، قَالَ: فتحدث النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله

(2)

. وابن عباس حاضر، وهذا من باب السمر، وكلامه صلى الله عليه وسلم لا يخلو من فائدة تترتب عليه، فذكر البخاري في الباب حديثين:

أحدهما: ما هو مطابق للترجمة صريحًا.

وثانيهما: ما فيه إيماء إلى أن السمر مع الأهل والضيف وما أشبهه من فعل الخير ملحق بالسمر في العلم كما بوب عليه فيما يأتي: باب: السمر في الفقه والخير

(3)

، وأورد فيه الحديث الأول

(4)

.

ثالثها: في التعريف برواته:

وقد سلف خلا الحكم بن عتيبة أبو عبد الله، وقيل: أبو عمر

(1)

في (ج): عند.

(2)

سيأتي برقم (7452) كتاب: التوحيد، باب: ما جاء في تخليق السموات والأرض.

(3)

وانظر: "فتح الباري" لابن رجب 5/ 164 - 175.

(4)

سيأتي برقم (601) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: السمر في الفقه والخير بعد العشاء.

ص: 589

الحكم بن عتيبة -بالمثناة فوق- بن النهاس، واسمه عبدل الكندي الكوفي مولى عدي بن عدي، ويقال: مولى امرأة من كندة فقيه الكوفة.

روى عن ابن أبي أوفي، وابن أبي جحيفة. وعنه: مسعر، وشعبة، وكان عابدًا قانتًا ثقة صاحب سنة. قَالَ المغيرة: كان الحكم إِذَا قدم المدينة أخلوا له سارية النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إليها. وقال الأوزاعي: قَالَ يحيى بن أبي كثير: ونحن بمنى لقيت الحكم بن عتيبة؟ قُلْتُ: نعم. قَالَ: إنه ما بين لابتيها أفقه منه. قال: وبها عطاء وأصحابه.

مات سنة أربع عشرة، وقيل خمس عشرة ومائة. روى لَهُ الجماعة، وما سقناه في هذِه الترجمة تبعنا فيه صاحب "الكمال"، وأما صاحب "التهذيب" فقال: الحكم بن عتيبة الكندي، وليس بالحكم بن عتيبة بن النهاس العجلي، قاضي الكوفة، فإنه لم يرو عنه شيء من الحديث، وهو تابع للدارقطني والخطيب عَلَى البخاري، وخلق بعده فوق العشرة حفاظ أثبات جزموا بأنه هو كما أوضحته فيما أفردته في رجال هذا الكتاب

(1)

.

فائدة:

ميمونة هذِه هي: إحدى أمهات المؤمنين بنت الحارث بن حزن الهلالية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ست، وقيل:(سنة)

(2)

سبع. قَالَ

(1)

وذكره ابن حبان في "الثقات" 4/ 144 وقال: كان يدلس، وقال ابن حجر: ثقة، ثبت فقيه إلا أنه ربما دلس.

وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 331، "التاريخ الكبير" 2/ 332 (2654)، "معرفة الثقات" 1/ 312 (337)، "الجرح والتعديل" 3/ 123 (567)، "تهذيب الكمال" 7/ 114 (1438)، "التقريب" 175 (1453).

(2)

من (ج).

ص: 590

الواقدي: وهي آخر أزواجه وفاة

(1)

، ماتت سنة إحدى وخمسين

(2)

عَلَى أحد الأقاويل الثمانية عن ثمانين سنة أو إحدى وثمانين

(3)

.

رابعها:

(الغطيط) بالغين المعجمة ثمَّ طاء مهملة: صوت يخرجه النائم مع نفسه عند استثقاله

(4)

.

وأما قوله: (أو خَطِيطَهُ) بالخاء المعجمة، وهو شك من الراوي، فقال القاضي عياض: لا معنى للخاء هنا، والصواب الأول.

وحكي عن الداودي: أن الغطيط والخطيط واحد وهو: النفخ عند

الخفقة. واعترض عليه بأن الخطيط لم يذكره أهل اللغة. قَالَ ابن بطال: لم أجدها عند أهل اللغة بالخاء

(5)

. واليسار: بفتح الياء وكسرها.

خامسها: في فوائده: وهي كثيرة:

الأولى: أن السنة أن يقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، وإذا

(1)

ورد بهامش الأصل: في قول الواقدي نظر، أم سلمة توفيت سنة ستين على الصحيح، والله أعلم.

(2)

كذ بالأصل، وقد نقله ابن سعد عن الواقدي حيث قال: توفيت سنة إحدى وستين في خلافة يزيد بن معاوية وهي آخر من مات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكان لها يوم توفيت ثمانون أو إحدى وثمانين سنة وكانت جلدة.

وانظر ترجمتها في: "معرفة الصحابة" 6/ 3234 - 3235 (3756)، "الاستيعاب" 4/ 467 - 470 (3533)، "أسد الغابة" 7/ 272 - 274 (7297)، "الإصابة" 4/ 411 - 413 (1026).

ونقله عنه أيضا ابن حجر في "الإصابة".

(3)

"طبقات ابن سعد" 8/ 140. "الإصابة" 4/ 413.

(4)

انظر: "لسان العرب" 6/ 3271.

(5)

"شرح ابن بطال" 1/ 193.

ص: 591

وقف عن يساره يحول، وإذا لم يتحول يحوله الإمام

(1)

.

الثانية: أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة ولا يسجد لسهوه.

الثالثة: صحة صلاة الصبي المميز

(2)

، فإن سنه إذ ذاك عشر سنين، كما رواه أحمد

(3)

.

الرابعة: أن موقفه مع الإمام كالبالغ

(4)

.

الخامسة: صحة الجماعة في غير المكتوبة، وأن أقلها اثنان

(5)

.

السادسة: صحة الائتمام بمن لم ينو الإمامة خلافًا لبعضهم. وقال قوم: المؤذن والإمام إِذَا أذَّن ودعا الناس إلى الصلاة فصلئ وحده ثمَّ دخل رجل فجائز دخوله ويكون إمامه؛ لأنه قد دعا الناس إلى الصلاة ونوى الإمامة

(6)

.

السابعة: جواز نوم الرجل مع امرأته في غير مواقعة بحضرة بعض محارمها وإن كان مميزًا، وجاء في بعض الروايات أنها كانت (حائضًا)

(7)

، ولم يكن ابن عباس ليطلب المبيت في ليلة فيها حاجة

(1)

"المجموع" 4/ 186، "الاستذكار" 5/ 378، "بداية المجتهد" 1/ 286، "المغني" 3/ 53.

(2)

"حلية العلماء" 2/ 8، "الكافي" 1/ 199، "مواهب الجليل" 2/ 137.

(3)

"المسند" 1/ 364.

(4)

"روضة الطالبين" 1/ 359، "المغني" 3/ 53.

(5)

قال ابن تيمية: والاجتماع على صلاة النفل أحيانا مما تستحب فيه الجماعة، إذا لم يتخذ راتبة، وكذا إذا كان لمصلحة، مثل أن لا يحسن أن يصلي وحده، أو لا ينشط وحده، فالجماعة أفضل، إذا لم يتخذ راتبة. انظر:"الدرر المضية" ص 86.

(6)

"البيان" 2/ 367، "بداية المجتهد" 1/ 285، "المغني" 3/ 75.

(7)

رواه ابن خزيمة 2/ 149 (1093). والطبراني: 11/ 135 (11277) وفي "الأوسط" 7/ 186 (7229) وفي "معجم الشامين" 1/ 417 (734)، 1/ 419 (737) من طريق أيوب بن سويد، عن عتبة بن أبي حكيم، عن طلحة بن نافع، عن =

ص: 592

إلى أهله، ولا يرسله أبوه العباس، فإنه جاء أنه أرسله، وروى الحاكم مصححًا أنه صلى الله عليه وسلم وعد العباس بذودٍ من الإبل فأرسل عبد الله إليه؛ (يستخبره)

(1)

فبات عند خالته.

الثامنة: أن نومه صلى الله عليه وسلم مضطجعًا لا ينقض؛ لأن قلبه لا ينام بخلاف عينه كما ثبت في "الصحيح"، وكذا سائر الأنبياء، كما أخرجه البخاري في حديث الإسراء

(2)

، فلو خرج منه حدث لحس به بخلاف غيره من الناس.

وفي رواية أخرى في "الصحيح": (فنام حتَّى نفخ، فخرج فصلى الصبح ولم يتوضأ)

(3)

.

وأما نومه صلى الله عليه وسلم في الوادي إلى أن طلعت الشمس

(4)

، فلا يعارض هذا، لأن الفجر والشمس إنما يدركان بالعين لا بالقلب، وأبعد مَنْ قَالَ: إنه كان في وقت ينام قلبه، فصادف ذَلِكَ نومه في الوادي، وكذا من قَالَ: أن ذَلِكَ كان غالب حاله.

= ابن عباس. وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عتبة بن أبي حكيم إلا أيوب ابن سويد. قلت فيه عتبة بن أبي حكيم قال ابن حجر في "التقريب" ص 380 (4427): صدوق يخطئ كثيرًا، من السادسة.

وأيوب بن سويد الرملي: قال أحمد: ضعيف وعن يحيى بن معين: ليس بشيء، يسرق الأحاديث. وقال البخاري في "تاريخه" 1/ 417 (1333): يتكلمون فيه.

ونقل ابن عدي في "الكامل" 2/ 23 عن يحيى بن معين: كان يدعي أحاديث الناس. وعن النسائي: أيوب بن سويد ليس بثقة. وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 2/ 249 - 250 (891) سمعت أبي يقول: أيوب بن سويد لين الحديث.

(1)

في (ج): لينجزه.

(2)

سيأتي برقم (3570) كتاب: المناقب، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه.

(3)

سيأتي برقم (138) كتاب: الوضوء، باب: التخفيف في الوضوء.

(4)

سيأتي برقم (595) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الأذان بعد ذهاب الوقت.

ص: 593

التاسعة: فضل ابن عباس وحذقه عَلَى صغر سنه ومراصدته للشارع طول ليلته كما هو ظاهر الحديث، وقد سلف أن سنه حينئذ عشرة أعوام، وأما ابن التين فذكره في باب: الوتر، حيث قَالَ: لأنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة في ذي القعدة من السنة السابعة من الهجرة. وكان حينئذ سنه نحو ما تقدم وهو سن يمنع -إن بلغه- أن يرقد مع أحد من الأجانب أو ذوي المحارم دون حائل.

ثمَّ اعلم أنه جاء في هذا الحديث من هذا الوجه أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى عشرة ركعة أربعًا ثمَّ خمسًا ثمَّ ركعتين

(1)

.

وجاء في مواضع من البخاري فكانت صلاته ثلاث عشرة ركعة

(2)

، وجاء في باب: قراءة القرآن بعد الحدث وغيره: أنها كانت ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر

(3)

، فإن فيه: فصلى ركعتين ثمَّ ركعتين ثمَّ ركعتين ثمَّ ركعتين ثمَّ ركعتين ثمَّ ركعتين ثمَّ أوتر، ثمَّ اضطجع حتَّى أتاه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثمَّ خرج فصلى الصبح. وهذا هو الأكثر في الرواية.

ويجمع بينهما بأن من روى إحدى عشرة أسقط الأوليين وركعتي

الفجر، ومن أثبت الأوليين عدها ثلاث عشرة (ركعة)

(4)

، وقد وقع هذا الاختلاف في "صحيح مسلم" في حديث واصل وغيره

(5)

،

(1)

سيأتي برقم (697) كتاب: الأذان، باب: يقوم عن يمين الإمام.

(2)

سيأتي برقم (698) كتاب: الأذان، باب: إذا قام الرجل عن يسار الإمام.

(3)

سيأتي برقم (183) كتاب: الوضوء، باب: قراءة القرآن بعد الحدث وغيره.

(4)

من (ج).

(5)

"صحيح مسلم"(763) كتاب: صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه.

ص: 594

وأجاب القاضي عياض في الجمع بمثله.

وقد استدرك الدارقطني حديث واصل عَلَى مسلم؛ لكثرة اختلافه

(1)

.

وقال الداودي: أكثر الروايات أنه لم يصل قبل النوم وأنه صلى بعده ثلاث عشرة، فيحتمل أن نوم ابن عباس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دفوعًا، فذكر ذَلِكَ بعض من سمعه. قُلْتُ: فيه بُعْدٌ، فإن الظاهر أنها كانت واقعة واحدة.

(1)

"الإلزامات والتتبع" 324، 325، 326 (170).

ص: 595

‌41 - باب العِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ

(1)

115 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ هِنْدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَعَمْرٍو، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ هِنْدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ! مَاذَا أنزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتَنِ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الحُجَرِ، فَرُبَّ كاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ". [1126، 3599، 5844، 6218، 7069 - فتح: 1/ 210]

حدثنا صَدَقَةُ، أَنا ابن عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ هِنْدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. وَعَمْرٍو وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ امرأة

(2)

، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ! مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتَنِ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِب

(3)

الحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ".

الكلام عليه من وجوه:

أحدها: هذا الحديث أخرجه البخاري هنا كما ترى. وفي صلاة الليل عن محمد بن مقاتل، عن ابن المبارك، عن (معمر)

(4)

. وفي

(1)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الخامس بعد الثلاثين كتبه مؤلفه غفر الله له.

(2)

كذا الرواية عند المصنف: امرأة، وكذلك عند ابن حجر في "الفتح"، وفي هامش "اليونينية" أنها رواية أبي ذر والأصيلي والمستملي وأبي الوقت ونسخة لم يعلم صاحبها، وأشار إلى صحتها عند المرموز لهم، أما في "اليونينية" فالرواية:(هند) بدل (امرأة)، وكذلك في الطريق الأول.

(3)

كذا الرواية عند المصنف: (صواحب)، وكذلك عند ابن حجر في "الفتح"، وفي هامش "اليونينية" أنها رواية أبي ذر والأصيلي والمستملي وأبي الوقت، أما في "اليونينية" فالرواية:(صواحبات).

(4)

في الأصول: عمرو، وما أثبتناه مطابق "لليونينية" رقم (1126) كتاب: التهجد، باب: تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل.

ص: 596

اللباس عن عبد الله بن محمد، عن هشام بن يوسف، عن معمر

(1)

. وفي علامات النبوة

(2)

. وموضعين من الأدب عن أبي اليمان، عن شعيب

(3)

وفي الفتن عن إسماعيل، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن أبي عتيق كلهم عن الزهري، عن هند به

(4)

. وذكر الحميدي أنه من أفراد البخاري عن مسلم

(5)

.

ثانيها:

قوله: (وَعَمْرٍو، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) هما معطوفان عَلَى معمر، والقائل ذَلِكَ ابن عيينة، يقول: عن معمر وعمرو بن دينار ويحيى بن سعيد القطان، نبه عَلَى ذَلِكَ القاضي عياض.

ثالثها:

قوله: (عن امرأةٍ، عن أمِّ سَلَمَة) هي: هند، كما صرح به في الرواية الأولى وغيرها مما سيأتي في الأبواب المشار إليها فيما سلف.

رابعها: في التعريف برواته:

فأما أم سَلَمَة: فهي: أم المؤمنين هند، وقيل: رملة بنت أبي أمية حذيفة، وقيل: سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.

كانت عند أبي سَلَمَة، فتوفي عنها، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم. روي لها ثلاثمائة حديث وثمانية وسبعون حديثًا، اتفقا منها عَلَى ثلاثة عشر.

(1)

سيأتي برقم (5844) كتاب: اللباس، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوز من اللباس والبسط.

(2)

سيأتي برقم (3599)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام.

(3)

سيأتي برقم (6218) كتاب: الأدب، باب: التكبير والتسبيح عند التعجب.

(4)

سيأتي برقم (7069) كتاب: الفتن، باب: لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه.

(5)

"الجمع بين الصحيحين" 4/ 234.

ص: 597

هاجرت إلى الحبشة وإلى المدينة. قَالَ ابن سعد: هاجر بها أبو سلمة إلى الحبشة الهجرتين جميعا، فولدت لَهُ هناك زينب ثمَّ ولدت لَهُ (بعدها)

(1)

سلمة وعمر ودرة

(2)

.

تزوجها صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع، وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل: في خلافة يزيد بن معاوية، وكانت خلافته في رجب سنة ستين. ومات في ربيع الأول سنة أربع وستين.

وقال ابن عساكر: الصحيح أنها توفيت سنة إحدى وستين حين جاء نعي (الحسين)

(3)

، وكان عمرها حين توفيت أربعًا وثمانين سنة، وصلى عليها أبو هريرة في الأصح، ودفنت بالبقيع قطعًا. قَالَ ابن المسيب: وكانت من أجمل الناس

(4)

.

وأما هند: فهي بنت الحارث الفراسية، ويقال: القرشية، وعند الداودي: الفارسية ولا وجه له، كانت زوجة لمعبد بن المقداد، ووقع في "التذهيب"

(5)

إسقاط معبد، وهو وهم. روى لها الجماعة إلا مسلمًا

(6)

.

(1)

في الأصول: بعده، وأثبتنا ما يقتضيه السياق.

(2)

"طبقات ابن سعد" 8/ 87.

(3)

في الأصل الحسن، والمثبت من (ج)، وورد بهامش الأصل ما نصه: صوابه: الحسين بالتصغير؛ لأن الحسن مكبرًا توفي سنة خمسين، فاعلمه.

(4)

انظر ترجمتها في: "الاستيعاب" 4/ 493 (3594)، "أسد الغابة" 7/ 340 (7464). "معرفة الصحابة" 6/ 3218 (3750)، "الإصابة" 4/ 458 (1309).

(5)

ورد بهامش الأصل: وكما في "التذهيب" وقع في "الكاشف" لمؤلفه.

(6)

وروت عن أم سلمة وكانت من صواحباتها، وروى عنها الزهري وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن حجر: ثقة. انظر ترجمتها في: "الثقات" 5/ 517، و"تهذيب الكمال" 35/ 320 (7942)، "الكاشف" 9/ 512 (7088)، و"التقريب" 754 (8695).

ص: 598

وأما صدقة فهو: أبو الفضل صدقة بن الفضل المروزي، انفرد بالإخراج لَهُ البخاري عن الستة. روى عن معتمر، وابن عيينة، وكان حافظًا إماما. مات سنة ثلاث، وقيل: ست وعشرين ومائتين

(1)

.

خامسها:

المراد بـ ("صواحب الحجر"): أزواجه رضي الله عنهن يعني: للصلاة والاستعاذة، وقد جاء ذَلِكَ مبينَا في "الصحيح":"من يوقظ صواحب الحجر"

(2)

يريد أزواجه حتَّى يصلين ويستعذن مما نزل، وهو موافق لقوله تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} الآية [طه: 132].

ففيه أن للرجل أن يوقظ أهله ليلًا للصلاة وللذكر، ولاسيما عند آية تحدث أو إثر رؤيا مخوفة، وقد أمر صلى الله عليه وسلم من رأى رؤيا مخوفة يكرهها أن ينفث عن يساره ويستعيذ من شرها

(3)

.

سادسها:

قوله: ("وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ "): قَالَ المهلب: فيه دلالة عَلَى أن الفتن تكون في المال وفي غيره؛ لقوله: "مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتَنِ؟ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ؟ ".

(1)

ووثقه النسائي وابن حبان وقال: كان صاحب حديث وسنة، وكان من المذكورين بالعلم والفضل والسنة.

وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 4/ 298 (2896)، "الجرح والتعديل" 4/ 434 (1906) و"الثقات" 8/ 321، و"تهذيب الكمال" 13/ 144 (2867).

(2)

سيأتي برقم (6218) كتاب: الأدب، باب: التكبير والتسبيح عند التعجب.

(3)

سيأتي ما يدل عليه برقم (3292) كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده.

من حديث أبي قتادة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلمًا يخافه فليبصق عن يساره وليتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره".

ص: 599

ويؤيده قول حذيفة رضي الله عنه: فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصدقة

(1)

.

وقال الداودي: الثاني هو الأول، وقد يعطف الشيء عَلَى نفسه تأكيدًا لأن ما يفتح من الخزائن يكون سببًا للفتنة.

سابعها:

قوله: ("فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ"). يحتمل أوجهًا:

رب كاسية في الدنيا في غير بيتها وعند غير زوجها عارية في الآخرة من الثواب. رب كاسية لا يسترها الرقيق من الثياب التي تصفها معاقبةً في الآخرة بالتعرية والفضيحة. رب كاسية في الدنيا لها المال تكتسي به من رفيع الثياب عارية في الآخرة منها. ندبهن إلى الصدقة بأن يأخذن بالكفاية ويتصدقن بما بعد ذَلِكَ. رب كاسية من نعم الله عارية من الشكر، فكأنها عارية في الآخرة من نعيمها الذي يكون الشكر سببه، أو أنها تستر جسدها وتشد الخمار من ورائها فتكشف صدرها.

قُلْتُ: وهذا نحو الحديث الصحيح من طريق أبي هريرة مرفوعًا:

"صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِياتٌ، مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا. وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا". أخرجه مسلم منفردًا به

(2)

.

(1)

جزء من حديث سيأتي برقم (525) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة كفارة.

(2)

رواه مسلم (2128) كتاب: اللباس والزينة، باب: النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات. وأحمد 2/ 356، وأبو يعلى 12/ 46 (6695)، وابن حبان 16/ 500 - 501 (7461). والبيهقي 2/ 234. وفي "الشعب" 4/ 348 - 349 (5357). وفي "الدلائل" 6/ 532 - 533.

ص: 600

وسياق الحديث يقوي الوجه الثاني، فهن إذًا كاسيات في الظاهر عاريات حقيقة؛ لأن الستر إِذَا لم يقع به الامتثال يكون وجوده كعدمه.

ثامنها:

المراد بـ (ربَّ) هنا: التكثير، أي: المتصف بهذا من النساء كثير، ولذلك لو جعل موضع (رب)(كم) لحسن، قَالَ ابن مالك: أكثر النحاة يرون أن (رب) للتقليل، ورجح هو أن معناها في الغالب التكثير، واستدل بهذا الحديث وشبهه

(1)

.

تاسعها:

يجوز كسر (عارية) عَلَى النعت، ورفعه عَلَى أنه خبر مبتدأ مضمر.

(1)

"شواهد التوضيح" ص 104.

ص: 601

‌42 - باب حِفْظِ العِلْمِ

118 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنِ الأعرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ {الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160] إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الُمهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأسوَاقِ، وإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ العَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضرُونَ، وَيحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ. [119، 2047، 2350، 3648، 7354 - مسلم: 2492 - فتح: 1/ 213]

119 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابن أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الَمقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ. قَالَ:"ابْسُطْ رِدَاءَكَ" فَبَسَطْتُهُ. قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "ضُمُّهُ" فَضَمَمْتُة فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ.

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الُمنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابن أَبِي فُدَيْكٍ بهذا، أَوْ قَالَ: غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ. [انظر: 118 - مسلم: 2492 - فتح: 1/ 215]

120 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنِ ابن أَبِي ذِئْبٍ، عَن سَعِيدٍ الَمقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُة، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُة قُطِعَ هذا البُلْعُومُ. [فتح: 1/ 216]

حدثنا عَبْدُ العَزِيزِ بْن عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلَا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ {الرَّحِيمُ} [البقرة: 159 - 160] إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ المُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وِإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمُ العَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ

ص: 602

- صلى الله عليه وسلم بشِبَعِ بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لَا يَحْفَظُونَ.

حَدَّثنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابن أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ. قَالَ:"ابْسُطْ رِدَاءَكَ" فَبَسَطْتُهُ. قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "ضُمَّهُ" فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ.

حَدَّثنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثنَا ابن أَبِي فُدَيْكٍ بهذا، أَوْ قَالَ: غَرَفَ بِيَدهِ فِيهِ.

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنِ ابن أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هذا البُلْعُومُ.

قَالَ أبو عبد الله: البُلْعُومُ مَجْرى الطَّعَامِ.

الكلام عَلَى ذَلِكَ من أوجه:

أحدها:

الحديث الأول أخرجه البخاري أيضًا في المزارعة عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم

(1)

. وفي الاعتصام عن علي، عن سفيان

(2)

.

وأخرجه مسلم في الفضائل عن قتيبة وأبي بكر وزهير عن سفيان.

وعن عبد الله بن جعفر بن يحيى، عن مالك. وعن عبد الرزاق، عن معمر، كلهم عنه

(3)

، وله طرق من غير رواية الأعرج.

(1)

سيأتي برقم (2350) كتاب: المزارعة، باب: ما جاء في الغرس.

(2)

سيأتي برقم (7354) كتاب: الاعتصام.

(3)

قلت أخرجه مسلم (2492) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي هريرة الدوسي، عن قتيبة بن سعيد وأبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، عن سفيان. =

ص: 603

والحديث الثاني:

أخرجه في علامات النبوة

(1)

كما ستعرفه.

ثانيها: في التعريف برواته غير من سلف: وعبد العزيز سلف، وكرره شيخنا قطب الدين في "شرحه".

وأحمد بن أبي بكر: هو أبو مصعب الزهري العوفي قاضي المدينة وعالمها، سمع مالكًا وطائفة، وعنه الستة لكن النسائي بواسطة، وأخرج لَهُ مسلم حديث أبي هريرة:"السفر قطعة من العذاب" فقط

(2)

.

واسم أبي بكر: القاسم، وقيل: زرارة بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف. وهو أحد من حمل "الموطأ" عن مالك. مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين عن اثنتين وتسعين سنة

(3)

.

وأما ابن أبي ذئب: فهو الإمام محمد (ع) بن عبد الرحمن بن

= وعن عبد الله بن جعفر بن يحيى، عن معن، عن مالك، وعن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق عن معمر كلهم، عن الزهري، عن الأعرج به.

(1)

سيأتي برقم (3648) كتاب: المناقب، باب: سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر.

(2)

رواه مسلم (1927) كتاب: الإمارة، باب: السفر قطعة من العذاب واستحباب تعجيل المسافر إلى أِهله بعد قضاء شغله.

(3)

وقال الزبير بن بكار: مات وهو فقيه أهل المدينة من غير مدافعة ولاه القضاء عبيد الله بن الحسن، وقال أبو زرعة وأبو خاتم صدوق. قال الحاكم: كان فقيها متقشفًا عالمًا بمذاهب أهل المدينة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ونقل ابن حجر قول أبي خيثمة لابنه: لا تكتب عنه ثم قال: يحتمل أن يكون مراد أبي خيثمة دخوله في القضاء أو إكثاره من الفتوى بالرأي.

وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 2/ 5 - 6 (1506)، "الجرح والتعديل" 2/ 43 (16)، و"الثقات" 8/ 21، "تهذيب الكمال" 1/ 278 - 281 (17)، و"تهذيب التهذيب" 1/ 18.

ص: 604

المغيرة بن أبي ذئب، أبو الحارث المدني العامري الثقة كبير الشأن. روى عن عكرمة وخلق. وعنه: معمر وخلق. مات سنة تسع وخمسين ومائة، وولد سنة ثمانين.

قَالَ الشافعي: ما فاتني أحد فأسفت عليه ما أسفت عَلَى الليث وابن أبي ذئب. وعن بعضهم: في حديثه عن الزهري شيء. قيل: للاضطراب.

وقيل: إن سماعه منه عرض. وهذا ليس بقادح

(1)

.

وأما محمد (خ) بن إبراهيم بن دينار: فهو المدني الحمصي، الثقة الفقيه، مفتي المدينة بعد مالك ومعه. روى عن موسى بن عقبة وجماعة.

وعنه أبو مصعب، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة

(2)

.

(1)

وقال ابن حجر في مقدمة "فتح الباري" ص 440: ابن أبي ذئب أحد الأئمة الأكابر العلماء الثقات لكن قال ابن المديني كانوا يوهنونه في الزهري، وكذا وثقه أحمد ولم يرضه في الزهري، رمي بالقدر ولم يثبت عنه بل نفي ذلك عنه مصعب الزبيري وغيره، وكان أحمد يعظمه جدا حتى قدمه في الورع على مالك وإنما تكلموا في سماعه من الزهري لأنه كان وقع بينه وبين الزهري شيء فحلف الزهري أن لا يحدثه ثم ندم فسأله ابن أبي ذئب أن يكتب له أحاديث أرادها فكتبها له فلأجل هذا لم يكن في الزهري بذاك بالنسبة إلى غيره، وقد قال عمرو بن علي الفلاس: هو أحب إليَّ في الزهري من كل شامي انتهى احتج به الجماعة، وحديثه عن الزهري في البخاري في المتابعات.

وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 1/ 152 (455)، "الجرح والتعديل" 7/ 313 (1704)، "الثقات" 7/ 390، و"تهذيب الكمال" 25/ 630 (5408).

(2)

ويقال له: أبو عبد الله الجهني، قال البخاري: ويقال: الأنصاري لقبه صندل. قال البخاري: معروف الحديث. وقال أبو حاتم: كان من فقهاء المدينة نحو مالك، وكان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات. وانظر ترجمته في "التاريخ الكبير" 1/ 25 (25). و"الجرح والتعديل" 7/ 184 (1044). و"ثقات ابن حبان" 9/ 93. و"تهذيب الكمال" 24/ 306 (5024).

ص: 605

ثالثها: في ألفاظه ومعانيه:

قوله: (يَشْغَلُهُمُ) هو بفتح الياء ثلاثي، وحكي ضمها وهو ضعيف.

قَالَ الهروي: يقال: أصفق القوم عَلَى الأمر وصفقوا بالبيع والبيعة. قَالَ غيره: أصله من تصفيق الأيدي بعضها عَلَى بعض من المتبايعين عند العقد.

و (السوق) يذكر ويؤنث، سميمت بذلك لقيام الناس فيها عَلَى سوقهم.

وكان أبو هريرة من ضعفاء المسلمين ومن أهل الصفة كما سلف في ترجمته.

وقوله: (فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ). وفي غير "الصحيح": فغرف فيه بيديه. ثمَّ قَالَ: "ضمه" .. الحديث. وفي بعض طرقه عند البخاري: "لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي هذِه، ثُمَّ يَجْمَعَهُ إِلَى صَدْرِهِ، فَيَنْسَى مِن مَقَالَتِي شَيْئًا أَبَدًا". فَبَسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْبٌ غَيْرَهَا، حَتَّى قَضَى مَقَالَتَهُ، ثُمَّ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَتِهِ تِلْكَ إِلَى يَوْمِي هذا

(1)

.

وفي مسلم: "أيكم يبسط ثوبه فيأخذ"

(2)

فذكره بمعناه، ثمَّ قَالَ: فما نسيت بعد ذَلِكَ اليوم شيئًا حَدَّثَنِي به. وهذِه الرواية دالة عَلَى العموم، وأنه بعد ذَلِكَ لم ينس شيئًا سمعه منه، لا أنه خاص بتلك المقالة كما تشعر به الرواية السالفة، فإنه شكى النسيان، ففعل ذَلِكَ ليزول عنه.

وفيه: فضيلة ظاهرة لأبي هريرة، وفيه: حفظ العلم والدءوب عليه

(1)

ستأتي برقم (2350) كتاب: المزارعة، باب: ما جاء في الغرس.

(2)

"صحيح مسلم"(2492) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي هريرة الدوسي.

ص: 606

والمواظبة عَلَى طلبه. وفيه: ظهور بركة دعائه. وفيه: فضل التقليل من الدنيا وإيثار طلب العلم عَلَى طلب المال.

وفيه: أنه يجوز للإنسان أن يخبر عن نفسه بفضله إِذَا اضطر إلى ذَلِكَ لاعتذار عن شيء أو ليبين ما لزمه تبيينه إِذَا لم يقصد بذلك الفخر.

وقوله: ("ضمه"): يجوز ضم ميمه وفتحها وكسرها. وقال بعضهم: لا يجوز إلا الضم لأجل الهاء المضمومة بعده. واختاره الفارسي، وجوزه صاحب "الفصيح" وغيره.

والوعاء: بكسر الواو ويجوز ضمها، وما حفظ رضي الله عنه من السنن المذاعة لو كتب لاحتمل أن يملأ منها وعاء، وما كتمه من أخبار الفتن كذلك.

ومعنى (بثثته): أذعته وأشهرته، قيل: هو أشراط الساعة، وفساد الدين، وتضييع الحقوق، وتغيير الأحوال لقوله صلى الله عليه وسلم:"يكون فساد الدين عَلَى يد أغيلمة من قريش"

(1)

، وكان أبو هريرة يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم، لكنه خشي عَلَى نفسه ولم يصرح.

وجاء في غير البخاري: حفظت ثلاثة جرب، بثثت منها جرابين، ولو بثثت الثالث لقطع (هذا)

(2)

. يعني: البلعوم -وهو بضم الباء الموحدة- وهو مجرى النفس إلى الرئة، وقال الجوهري والقاضي: مجرى الطعام في الحلق، وهو المريء

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (3605) كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة. من حديث أبي هريرة بلفظ: "هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش".

(2)

في (ج): مني.

(3)

"الصحاح" 5/ 1874. و"مشارق الأنوار" 1/ 89.

ص: 607

وقد فسره البخاري به كما سلف، وجاء: خمسة. يعني: أجرب

(1)

وفيه: أن كل من أمر بمعروف إِذَا خاف عَلَى نفسه في التصريح أن يعرض، ولو كانت الأحاديث التي لم يحدث بها من الحلال والحرام ما وسعه كتمها؛ لأنه قَالَ: لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت شيئًا ثمَّ يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة: 159] كما سلف.

(1)

ورد بهامش الأصل: رواية (خمسة أجرب) رواها الرامهرمزي.

وبعده تعليق آخر نصه: فسره الرواة في الجزء السادس، فقال: حدثنا عبدان، ثنا عمر بن عبد الله البصري (

) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمسة جرب أحاديث وقال: (

) لو أخرجت الثالث لرميتموني بالحجارة.

ص: 608

‌43 - باب الإِنْصَاتِ للْعُلَمَاءِ

121 -

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ:"اسْتَنْصِتِ النَّاسَ" فقال: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". [4405، 6869، 7080 - مسلم: 65 - فتح: 1/ 217].

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ ثنا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ جَرِيرِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ:"اسْتَنْصِتِ النَّاسَ" فقال: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في أربعة مواضع: هذا أحدها.

وثانيها: في المغازي عن حفص بن عمر

(1)

.

ثالثها: في الفتن عن سليمان، كلاهما عن شعبة به

(2)

.

رابعها: في الديات عن بندار، عن غندر، عن شعبة

(3)

، وعن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة به، وهذا أنزل من الأول بدرجة

(4)

.

وأخرجه مسلم في الإيمان عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن غندر، عن

(1)

سيأتي برقم (4405) باب: حجة الوداع.

(2)

سيأتي برقم (7080) باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا".

(3)

سيأتي برقم (6869) كتاب: الديات، باب: قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} .

(4)

لم يروه البخاري عن عبيد الله بن معاذ، بل لم يرو عنه إلا بواسطة، وعلق عنه بصيغة الجزم. وبهذا السند رواه مسلم (65/ 118).

ص: 609

شعبة، وعن ابن المثنى، وابن بشار، عن غندر به

(1)

.

وهو قطعة من حديث أبي بكرة الطويل، ذكره البخاري في الخطبة أيام منى

(2)

، ومسلم في الجنايات

(3)

، وقد سلف قطعة من حديث أبي بكرة في باب: رب مبلغ أوعى من سامع وغيره

(4)

.

ثانيها: في التعريف برواته غير من سلف.

وحجاج هو ابن منهال

(5)

، وأبو زرعة هو هرم

(6)

، وعلي بن مدرك هو أبو مدرك النخعي الكوفي الصالح الصدوق ثقة، عنه شعبة، مات سنة عشرين ومائة

(7)

.

(1)

مسلم (65/ 118) كتاب: الإيمان، باب: بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارًا".

(2)

سيأتي برقم (1741) كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى.

(3)

مسلم (1679/ 29) كتاب: القسامة، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض.

(4)

سلف برقم (67) كتاب: العلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رب مبلغ أوعى من سامع"، وبرقم (105) كتاب: العلم، باب:"ليبلغ العلم الشاهد الغائب".

(5)

هو حجاج بن المنهال الأنماطي أبو محمد السلمي وقيل: البرساني مولاهم البصري، روى عن حماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، روى عنه البخاري ومسلم، وثقه النسائي، وقال أبو حاتم: ثقة، وقال خلف بن محمد كردوس الواسطي: توفي سنة ست عشرة ومائتين وكان صاحب سنة.

انظر: "طبقات ابن سعد" 7/ 301، "الجرح والتعديل" 3/ 167 (711)، "تهذيب الكمال" 5/ 457 (1128).

(6)

سبقت ترجمته في حديث رقم (36).

(7)

علي بن مُدْرك النخعي ثم الوهبيلي: روى له الجماعة، وقال عنه إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة. وكذا قال النسائي. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: صالح صدوق، ثم قال: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات".

وانظر ترجمته في "طبقات ابن سعد" 6/ 311، "التاريخ الكبير" 6/ 294 (2446)، "معرفة الثقات" 2/ 157 (1310)، "الجرح والتعديل" 6/ 203 (1116)، "الثقات" 5/ 165، "تهذيب الكمال" 21/ 126 (4133).

ص: 610

ثالثها: في معانيه وضبط ألفاظه:

سميت حجة الوداع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودعهم فيها وعلمهم أمر دينهم وأوصاهم بتبليغ الشرع لمن غاب عنه بقوله: "ليُبلغ الشاهدُ الغائبَ" والقياس في الحجة الفتح؛ لكونه اسمًا للمرة لا للهيئة، والمسموع: الكسر، قَالَ الهروي وغيره: هو المسموع في واحده

(1)

.

وحضور جرير حجة الوداع يدل عَلَى تقدم إسلامه، فإنه قيل: أسلم في رمضان سنة عشر

(2)

، وقد أسلفنا أنه قيل: أسلم قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأربعين يومًا.

ومعنى "لا تَرْجِعوا": لا تصيروا. قَالَ ابن مالك: رجع هنا بمعنى: صار

(3)

.

وقوله: "بَعْدي" أي: بعد فراقي من موقفي هذا، قاله الطبري

(4)

.

وقال غيره: "بَعْدِي" أي: خلافي، أي: لا تخلفوني في أنفسكم بعد الذي أمرتكم به، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم أن هذا لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد وفاته.

وقوله: "يضرب" هو برفع الباء عَلَى الصواب، وهو الرواية أي: لا تفعلوا فعل الكفار. فتشبهوا بهم في حالة قتل بعضهم بعضًا، ومحاربة بعضهم بعضًا، وهذا أولى الوجوه في تأويله كما قاله القاضي

(5)

.

(1)

انظر: "الصحاح" 1/ 304 مادة: (حجج)، "النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 340 - 341.

(2)

انظر: "معجم الصحابة" للبغوي 1/ 560.

(3)

"شواهد التوضيح" ص 138.

(4)

"تفسير الطبري" 6/ 65 (15137).

(5)

"إكمال المعلم" 1/ 324.

ص: 611

وقد جرى بين الأنصار كلام بمحاولة اليهود حتَّى ثار بعضهم إلى بعض في السلاح، فأنزل الله:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ}

(1)

[آل عمران: 101]. أي: تفعلون فعل الكفار، وسياق الخبر دال عَلَى أن النهي عن ضرب الرقاب، وعما قبله بسببه كما جاء في حديث أبي بكرة:"إنَّ دماءَكُم وأمْوَالَكُم عليكُم حَرَام" وذكر الحديث، ثمَّ قَالَ:"ليُبلغ الشاهدُ الغائبَ، لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا" الحديث

(2)

.

فهو شرح لما تقدم من تحريم بعضهم عَلَى بعض، وفيه ستة أقوال أخر:

أحدها: أنه كُفر عَلَى بابه في حق المستحل لغير الحق.

وثانيها: أن المراد: كفر النعمة وحق الإسلام.

ثالثها: أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه.

رابعها: لا تكفروا حقيقة، بل دوموا مسلمين.

خامسها: أن المراد بالكفار: المتكفرون في السلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه، إِذَا لبسه، حكاه الخطابي

(3)

.

سادسها: لا يُكَفِّر بعضكم بعضًا، فتستحلوا قتال بعضكم بعضًا،

(1)

روى الطبري في "تفسيره" 3/ 375 (7533) عن ابن عباس قال: كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر، فبينما هم جلوس إذ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلت هذِه الآية:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} إلى آخر الآيتين، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} ، إلى آخر الآية.

ورواه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" 3/ 720 (3898)، والواحدي في "أسباب النزول" 121 (234).

(2)

سيأتي برقم (105) كتاب: العلم، باب:"ليبلغ العلم الشاهد الغائب".

(3)

"أعلام الحديث" 3/ 1781.

ص: 612

ومن سكن الباء

(1)

أحال المعنى؛ لأن النهي عَلَى هذا التقدير يكون عن الكفر مجردًا، وضرب الرقاب جواب النهي ومجازاة الكفر، وسياق الخبر كما سلف يأباه، وجوزه أبو البقاء وابن مالك

(2)

عَلَى تقدير شرط مضمر أي: إن ترجعوا يضرب.

رابعها: في فوائده:

فيه: التصريح بما بوب عليه البخاري من الإنصات للعلماء فإنه توقير لهم، وكيف لا وهم ورثة الأنبياء؟! وقد أمر الله تعالى أن لا يرفع الصوت فوق صوت النبي؛ خوف حبوط العمل

(3)

.

وفيه أيضًاة تحذير الأمة من وقوع ما يحذر فيه.

وتعلق به بعض أهل البدع في إنكار حجية الإجماع كما قَالَه المازري؛ لأنه نهى الأمة بأسرها عن الكفر، ولولا جواز إجماعها عليه لما نهاها.

والجواب: أن الامتناع إنما جاء من جهة خبر الصادق لا من الإمكان، وقد قَالَ تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ومعلوم أنه معصوم

(4)

.

ص: 613

‌44 - باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ: أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللهِ

122 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا البِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم[قَالَ]: "قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَني إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ. فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَيهِ، فَأَوْحَى الله إِلَيْهِ أَن عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَل فَإِذَا فَقَدْتَهُ فهْوَ ثَمَّ. فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلَا حُوتًا فِي مِكَتَلِ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا، فَانْسَل الحُوتُ مِنَ المِكْتَلِ، {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف: 61]، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62]، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَب حَتَّى جَاوَزَ المَكَانَ الذِي أُمِرَ بهِ. فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} [الكهف: 63]. قَالَ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ -أَوْ قَالَ: تَسَجَّى بِثَوْبِهِ- فَسَلَّمَ مُوسَى. فَقَالَ الخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى. فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)} [الكهف: 66، 67]، يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْم مِن عِلْمِ اللهِ عَلّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْم عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ. قَال:{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69]. فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِل البَحْر لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ

ص: 614

يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي البَحْرِ. فَقَالَ الخَضِرُ: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلا كَنَقْرَةِ هذا العُصْفُورِ فِي البَحْرِ. فَعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحٍ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ. فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَىَ سَفِينَتِهِمْ فخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا! {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 72، 73]. فَكَانَتِ الأولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. فَانْطَلَقَا، فَإِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلَاهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ مُوسَى:{قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} ؟! [الكهف: 74]{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)} [الكهف: 75]- قَالَ ابن عُيَيْنَةَ: وهذا أَوْكَدُ- {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77]. قَالَ الخَضِرُ بِيَدِهِ فَأقَامَة. فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 77، 78]. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا". [انظر: 74 - مسلم: 2380 - فتح: 1/ 217]

حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا سُفْيَانُ، ثنَا عَمْرٌو: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا البِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ، حَدَّثَني أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خطِيبًا فِي بَني إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ .. الحديث بطوله.

ص: 615

والكلام عليه من وجوه:

أحدها:

هذا الحديث سلف قريبًا في موضعين: مختصرًا من كتاب العلم

(1)

، وأتى به في كتاب الأنبياء أتم

(2)

، وقد سلف في باب: ما ذكر من ذهاب موسى في البحر إلى الخضر تعداد طرقه

(3)

.

ثانيها: في التعريف برواته: وقد سلف.

ثالثها: في ألفاظه ومعانيه:

الأولى: نَوف: بفتح النون، والبِكَالي -بكسر الباء الموحدة وفتح الكاف المخففة وفي آخره لام- نسبة إلى بني بكال بطن من حمير، وهو نوف بن فضالة، قَالَ أبو العباس أحمد بن عمر: وعند أبي بحر والخشني بفتح الباء وتشديد الكاف، قَالَ: ونسبه بعضهم في حمير، وآخرون في همدان. قَالَ: وكان نوف عالمًا فاضلًا إمامًا لأهل دمشق

(4)

.

قَالَ ابن التين: وكان حاجبًا لعلي، وكان قاصًّا، وهو ابن امرأة كعب الأحبار عَلَى المشهور، وقيل: ابن أخته، وكنيته: أبو زيد، وقيل: أبو رشيد.

(1)

سبق برقم (78) باب: الخروج في طلب العلم.

(2)

سيأتي برقم (3400 - 3401) باب: حديث الخضر مع موسى عليهما السلام.

(3)

سبق برقم (74).

(4)

"المفهم" 6/ 193. وقال الحافظ في "الفتح" 1/ 219: البكالي بفتح الموحدة وكسرها وتخفيف الكاف، ووهم من شددها منسوب إلى بكال بطن من حمير، ووهم من قال: إنه منسوب إلى بكيل -بكسر الكاف- بطن من همدان لأنهما متغايران. اهـ.

ص: 616

وقال ابن العربي في "الأحوذي": لعله منسوب إلى بكيل: بطن من همدان

(1)

. وليس كما قَالَ، فالمنسوب إلى ما ذكر هو أبو الوداك جبر بن نوف

(2)

وغيره، وأما نوف هذا فمنسوب إلى بكال: بطن من حمير كما سلف، وهو المذكور في كتب الأنساب

(3)

.

الثانية قوله: (كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ). هذا قاله عَلَى سبيل الإغلاظ عَلَى القائل بخلاف قوله، فإنه ليس غيره وألفاظ الغضب تجيء عَلَى غير الحقيقة غالبًا

(4)

.

الثالثة: السائل هنا هو سعيد بن جبير، وابن عباس هو المخبر، ووقع فيما مضى أن ابن عباس تمارى هو والحر بن قيس في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب فسأله ابن عباس، فأخبره، فيحتمل أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس بعد

(1)

"عارضة الأحوذي" 2/ 12.

(2)

هو جبر بن نوف الهمداني البكالي، أبو الوداك الكوفي روى عن شريح بن الحارث القاضي، وأبي سعيد الخدري. قال ابن معين: ئقة، وقال النسائي: صالح. روى له مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه. انظر ترجمته في "التاريخ الكبير" 2/ 243، "الجمع بين رجال الصحيحين" 1/ 80، "تهذيب الكمال" 4/ 495 - 496.

(3)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 452، "التاريخ الكبير" 8/ 129 (2451)، و"الجرح والتعديل" 8/ 505 (2311)، "الثقات" 5/ 483، "الأنساب" 2/ 269، "تهذيب الكمال" 30/ 65 (6498)، "تقريب التهذيب"(7213).

(4)

قال الحافظ في "الفتح" 1/ 219: قال ابن التين: لم يرد ابن عباس إخراج نوف عن ولاية الله، ولكن قلوب العلماء تنفر إذا سمعت غير الحق، فيطلقون أمثال هذا الكلام لقصد الزجر والتحذير منه، وحقيقته غير مراده. قلت -أي: ابن حجر-: ويجوز أن يكون ابن عباس اتّهم نوفًا في صحة إسلامه، فلهذا لم يقل في حق الحر بن قيس هذِه المقالة مع تواردهما عليها، وأما تكذيبه فيستفاد منه أن للعالم إذا كان عنده علم بشيء فسمع غيره يذكر فيه شيئًا بغير علم أن يكذبه.

ص: 617

الواقعة الأولى المتقدمة لابن عباس مع الحر، فأخبره ابن عباس لمَّا سأله عن قول نوف أن موسى ليس موسى بني إسرائيل.

وجاء أن السائل غير ابن جبير، روي عن سعيد قَالَ: جلست إلى ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب. فقال بعضهم: يا أبا عبد الله، إن نوفًا ابن امرأة كعب يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العلم إنما هو موسى بن ميشا، فقال ابن عباس: كذب نوف، حَدَّثَنِي أُبَيّ وذكر الحديث.

الرابعة: قوله: "فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ". تقدم الكلام عليه في باب: ذهاب موسى إلى الخضر

(1)

. فينبغي لمن سُئِلَ عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم. وقد قَالَ مالك: جُنة العالم: لا أدري، فإذا أخطأها أصيبت مقاتله

(2)

.

وقال ابن المنير: ظن الشارح -يعني: ابن بطال- أن المقصود من الحديث التنبيه عَلَى أن الصواب من موسى كان ترك الجواب، وأن يقول: لا أعلم

(3)

، وليس كذلك. بل رد العلم إلى الله تعالى متعين، أجاب أولم يجب، فإن أجاب قَالَ: الأمر كذا والله أعلم. وإن لم يجب قَالَ: الله أعلم، ومن هنا تأدب المُفْتون في أجوبتهم بقولهم: والله أعلم. فلو قَالَ موسى: أنا والله أعلم، لكان صوابًا، وإنما وقعت المؤاخذة باقتصاره عَلَى:(أنا أعلم)

(4)

.

الخامسة: "مجمع البحرين" هما: بحر الروم مما يلي (المغرب)

(5)

(1)

سبق برقم (74).

(2)

انظر: "سير أعلام النبلاء" 8/ 77.

(3)

"شرح ابن بطال" 1/ 198.

(4)

"المتواري" ص 64.

(5)

في الأصل: الغرب. والمثبت من (ف)، (ج).

ص: 618

وبحر فارس مما يلي (المشرق)

(1)

. قاله قتادة

(2)

. وحكى الثعلبي عن أُبي بن كعب أنه بإفريقية

(3)

. وقيل: بحر الأردن وبحر القُلْزُم. قَالَ السهيلي: وقيل: بحر المغرب وبحر الزقاق، قَالَ ابن عباس: اجتمع البحران: موسى والخضر بمجمع البحرين.

السادسة: (الحوت): السمكة، وكا نت مالحة، و (المكتل) -بكسر الميم وفتح المثناة فوق-: القفة والزِّنبيل

(4)

، و (فتاه): صاحبه: يوشع بن نون

(5)

. سلف.

السابعة: قوله: "حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا، فَانْسَلَّ الحُوتُ مِنَ المِكْتَلِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبًا" وفي رواية للبخاري "وفي أصل (الصخرة)

(6)

عين يقال لها: الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر"

(7)

.

وفي رواية أخرى له: "فَقَالَ فَتَاهُ: لَا أُوقِظُهُ. حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ، وأمسك الله عن الحوت (جِرْية)

(8)

الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي يوشع أن يخبره"

(9)

.

(1)

في الأصل: الشرق. والمثبت من (ف)، (ج).

(2)

انظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 341 (1693)، "تفسير الطبري" 8/ 245 (23168)، "تفسير البغوي" 5/ 185، "زاد المسير" 5/ 164، "تفسير ابن كثير" 9/ 161.

(3)

وكذا ذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 185، وابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 164.

(4)

يسع خمسة عشر صاعًا، انظر:"الصحاح" 5/ 1809 مادة (كتل).

(5)

وقع بهامش الأصل تعليق نصه: في خط المصنف في الهامش: ونون مصروف كنوح.

(6)

في الأصل: شجرة، والصواب ما أثبتناه.

(7)

ستأتي برقم (4727) كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا} .

(8)

في (ج): الجرية، والمثبت من الأصل.

(9)

سيأتي برقم (4725)، (4726) كتاب: التفسير.

ص: 619

فنسي يوشع وحده ونسب النسيان إليهما، فقال تعالى:{نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] كما قَالَ تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح، وقيل: نسي موسى أن يتقدم إلى يوشع في أمر الحوت، ونسي يوشع أن يخبره بذهابه {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف: 61] صار عليه الماء مثل الطاق، والطاق: عقد البناء وهو الأزج، وهو ما عُقد أعلاه بالبناء، وترك تحته خاليًا

(1)

.

(والصخرة): هي التي دون نهر الزيت بالمغرب

(2)

، قَالَ أُبي بن كعب: إفريقية. وقال مجاهد: بين البحرين

(3)

.

الثامنة: انتصب (سربًا) عَلَى المفعول كما قَالَ الزجاج، أو عَلَى المصدر كأنه قَالَ: سرب الحوت سربًا.

قَالَ ابن عباس: أحيا الله الحوت فاتخذ سبيله في البحر سربا، والسرب: حفير تحت الأرض. وجاء: "فجعل الماء لا يلتئم حتَّى صار كالكوة"

(4)

.

التاسعة: الضمير للحوت ويؤيده قوله: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} وكان لموسى وفتاه عجبًا -ويبعد أن يكون لموسى- أي: اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر سربًا- أي: مذهبًا ومسلكًا- فإنه اتبع أثره ويبس الماء في ممره، فصار طريقًا.

(1)

انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2231، "المجمل" ص 590.

(2)

ذكره البغوي في "تفسيره" 5/ 187 عن معقل بن زياد.

(3)

هذا الأثر رواه الطبري في "تفسيره" 8/ 247 (32179)، وذكره ابن أبي حاتم 7/ 2376 (12889).

(4)

رواه الطبري في "تفسيره" 8/ 248 (23185) من حديث أبي بن كعب.

ص: 620

العاشرة: قوله: "فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهِمَا" كذا جاء هنا، وفي كتاب التفسير

(1)

ومسلم

(2)

: "بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا ولَيْلَتِهِمَا" وهي الصواب لقوله: "فلما أصبح" وفي رواية: "حتَّى إِذَا كان من الغد"

(3)

قَالَ النووي: وضبطوه، -يعني: في مسلم- بنصب "ليلتهما" وجرها

(4)

.

الحادية عشرة: قوله: ({فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا})[الكهف: 64] أي: يقصان قصصا، أي: فرجعا يقصان آثارهما حتَّى أتيا الصخرة، وفي مسلم:"فأراه مكان الحوت، فقال: ها هنا وصف لي"

(5)

وفيه: "فأتيا جزيرة فوجدا الخضر قائمًا يصلي عَلَى طنفسة خضراء عَلَى كبد البحر"

(6)

أي: وسطه، وفي البخاري:"فلما انتهى إلى الصخرة إِذَا رجل مسجى بثوب، أو قَالَ: تسجى بثوبه"

(7)

أي: مغطى به كله كتغطية الميت وجهه ورجليه وجميعه. كما جاء في رواية أخرى له: "قَدْ جعل طرفه تحت رجله، وطرفه تحت رأسه فسلم عليه موسى، فكشف الخضر عن وجهه"

(8)

.

الثانية عشرة: قوله: (فَقَالَ الخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟) قَالَ عياض: تجيء أنَّى بمعنى: أين ومتى وحيث وكيف، قَالَ: وهذا يدل

(1)

رقم (4725) باب: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} .

(2)

مسلم (2380) كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر عليه السلام.

(3)

وهي رواية البخاري السابقة رقم (4725).

(4)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 15/ 138.

(5)

مسلم (2380/ 172) كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر عليه السلام.

(6)

سيأتي برقم (4726)، ولم أجد هذا اللفظ عند مسلم.

(7)

حديث الباب.

(8)

سيأتي برقم (4726) كتاب: التفسير، باب:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} .

ص: 621

عَلَى أن السلام لم يكن معروفًا عندهم إلا في خاصة الأنبياء والأولياء، أو كان موضع بلاد كفر وهم ممن لا يعرف السلام

(1)

.

الثالثة عشرة: معنى {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67]: إنك سترى شيئًا ظاهره منكر ولا تصبر عليه، "يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَة لَا أَعْلَمُه أنا". وفي رواية أخرى لَهُ: ": فَمَا شَأْنُكَ؟ وَأَنَّ الوَحْيَ يَأْتِيكَ؟ يَا مُوسَى، إِنَّ لِي عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ، وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَة"

(2)

ولم يسأله موسى عن شيء من دينه؛ لأن الأنبياء لا تجهل شيئًا من دينها التي تعبدت به أمتها، وإنما سأله عما لم يكن عنده علمه مما ذكر في السورة.

الرابعة عشرة: (السفينة) فعيلة بمعنى: فاعلة كأنها تسفن الماء، أي تقشره.

و (النول): -بالواو- والمنال والمنالة كله: الجُعل، وأما النيل والنوال: فالعطية ابتداءً، يقال: رجل نال إِذَا كان كثير النوال، كما قالوا: رجل مال أي: كثير المال، تقول: نلت الرجل أنوله نولًا، ونلت الشيء أناله نيلًا.

وقال صاحب "العين": أنلته المعروف ونلته ونولته، والاسم النول والنيل يقال: نال ينال منالًا ومنالة

(3)

، والنولة

(4)

: اسم

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 371 - 372 وورد بهامش الأصل تعليق نصه: بلغ في السادس بعد الثلاثين كتبه مؤلفه.

(2)

سيأتي برقم (4726) كتاب: التفسير، باب:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} .

(3)

"العين" 8/ 333، مادة:(نول).

(4)

في (ج): والنيلة.

ص: 622

للقبلة

(1)

. و"العصفور"؟ بضم العين.

الخامسة عشرة: قوله: "فَقَالَ الخَضِرُ: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلَّا كَنَقْرَةِ هذا العُصْفُورِ فِي البَحْرِ" اعلم أن لفظ النقص هنا ليس عَلَى ظاهره؛ فإنَّ علم الله لا يدخله الزيادة ولا النقصان، وإنما هذا عَلَى جهة التمثيل.

والمعنى: أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما نقر العصفور من البحر، فإنه لقلته وحقارته لا يظهر، فكأنه لم يأخذ شيئًا وهذا كقوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي}

(2)

الآية [الكهف: 109].

قَالَ القاضي عياض: أو يرجع ذَلِكَ في حقهما أي: ما نقص علمنا مما جهلنا من معلومات الله إلا مثل هذا في التقدير، وجاء في البخاري:"ما علمي وعلمك في جنب علم الله (- أي: معلومه- إلا كما أخذ هذا العصفور" وقال بعضهم أن "إلا" هنا بمعنى: ولا، كأنه قال: ما نقص

(1)

انظر: "لسان العرب" 3/ 4583، مادة:(نول).

(2)

قال شيخ الإسلام في "الفتاوى الكبرى" 1/ 369 - 370: ومن المعلوم أن علم الله القائم بنفسه لا يزول منه شيء بتعلم العباد، وإنما المقصود أن نسبة علمي وعلمك إلى علم الله كنسبة ما علق بمنقار العصفور إلى البحر، ومن هذا الباب كون العلم يورث كقوله:"العلماء ورثة الأنبياء". ومنه قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، ومنه توريث الكتاب أيضًا كقوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ} [فاطر: 32]، ومثل هذِه العبارة من النقص ونحوه تستعمل في هذا وإن كان العلم الأول ثابتًا، كما قال سعيد بن المسيب لقتادة، وقد أقام عنده أسبوعًا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه وقال: نزفتني يا أعمى.

وإنزاف القليب ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقى فيه شيء، ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يُزل علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب. اهـ

ص: 623

علمي وعلمك من علم الله)

(1)

ولا ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر لما تقدم من أن علم الله تعالى لا ينقص بحال، ولا حاجة إلى هذا التكلف؛ لما بيناه من التمثيل

(2)

.

السادسة عشرة: قوله: "فَعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ" قَالَ المفسرون: قلع لوحين مما يلي الماء. وفي البخاري: "فوَتَدَ فِيهَا وَتدًا"

(3)

، وفيه:"فعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى قَدُومٍ فَخَرَقَ به".

السابعة عشرة: في خرقه السفينة -كما قَالَ القاضي- مخافة أخذ الغاصب، حجة للنظر في المصالح ودفع أخف الضررين، والإغضاء عَلَى بعض المنكرات مخافة أن يتولد من عدم (تغييرهما)

(4)

ما هو أشد، وجواز إفساد بعض المال لإصلاح باقيه، وخصاء الأنعام لسمنها، وقطع بعض آذانها للتمييز

(5)

.

الثامنة عشرة: قوله: "فَعَمَدَ" هو بفتح العين والميم، يقال: عَمَد بفتح الميم في الماضي، يعمد بكسرها في المستقبل.

التاسعة عشرة: معنى: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73] أي: غفلتُ، وقيل: لم ينس ولكنه ترك، والترك يسمى نسيانًا. وفي البخاري:"فكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا" وفي موضع آخر منه: "وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا" وقيل: نسي في الأولى فاعتذر، ولم ينس في

(1)

ما بين المعقوفين ساقط من (ج).

(2)

"إكمال المعلم" 7/ 377.

(3)

سيأتي برقم (4726) كتاب: التفسير، باب:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} .

(4)

كذا في الأصل، (ج)، والأولى: تغييرها.

(5)

"إكمال المعلم" 7/ 372.

ص: 624

الثانية فلم يعتذر

(1)

.

العشرون: معنى: {وَلَا تُرْهِقْنِي} [الكهف: 73]: لا تغشني

(2)

، وقيل: لا تلحق بي وهمًا، يقال: رهقه الشيء بالكسر يرهقه بالفتح رهقًا بالتحريك إِذَا غشيه، وأرهقته: كلفته ذَلِكَ، يقال: لا ترهقني لا أرهقك الله أي: لا تعسرني لا أعسرك الله.

الحادية بعد العشرين: قوله: ("فَإِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلَاهُ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ") وجاء فيه في بدء الخلق: "فَأَخَذَ الخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَقَطَعَهُ بيده هكذا"

(3)

وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئًا، وفيه في التفسير:"فَبَيْنَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، إِذْ أَبْصَرَ الخَضِرُ غُلَامًا مَعَ الغِلْمَانِ فَاقْتَلَعَ رأسه فَقَتَلَهُ"

(4)

. وجاء: "فوجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ، فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا ظَرِيفًا فَأَضْجَعَهُ، ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ"

(5)

.

وقال الكلبي: صرعه ثمَّ نزع رأسه من جسده فقتله، فقال له موسى:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74] أي: طاهرة. وفي مسلم: "فَذُعِرَ مُوسَى (ذَعْرَةَ مُنْكِرٍ)

(6)

عندها". وفيه أيضًا: "وَأَمَّا الغُلَامُ فَطُبعَ يَوْمَ طُبعَ كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ، فَلَوْ أَنَّهُ أَدْرَكَ أَرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا"

(7)

،

(1)

سيأتي (4725) كتاب: التفسير، باب:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)} ، وبرقم (4726) كتاب: التفسير، باب:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} .

(2)

انظر: "زاد المسير" 5/ 171 وورد بهامش الأصل تعليق نصه: من خط المؤلف في الهامش: وقيل: تكلفني، وقيل: تحملني.

(3)

سيأتي برقم (4726) كتاب: التفسير، باب:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} .

(4)

سيأتي برقم (4725) كتاب: التفسير، باب:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} .

(5)

سيأتي برقم (4726) كتاب: التفسير، باب:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} .

(6)

كذا في الأصل بالإضافة، وفي (ج): ذعرةً منكرةً.

(7)

رقم (2380/ 172) كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر عليه السلام.

ص: 625

وهو معنى قوله: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80] والطغيان: الزيادة في الإضلال.

قَالَ البخاري: وكان ابن عباس يقرؤها: (وكان أبواه مؤمنين وكان هو كافرًا)

(1)

. وعنه: وأما الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين

(2)

.

وأوَّل ابن بطال قوله: "كان كافرًا" باعتبار ما يئول إليه لو عاش.

قَالَ: ووجه (استباحة)

(3)

القتل لا يعلمه إلا الله، ولله تعالى أن يميت من شاء من خلقه قبل البلوغ وبعده، ولا فرق بين قتله وموته، وكل ذَلِكَ لا اعتراض عليه فيه:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]

(4)

.

فائدة: الغلام جيسور كما ذكره في التفسير

(5)

، وهو بجيم وسين وراء مهملة، قاله ابن ماكولا

(6)

. وغيره ذكر أنه اسم الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصبًا، وهو عجيب، ومنهم من أبدل الراء بنون، وسيأتي فيه زيادة في التفسير.

وقال ابن جرير: أخذ الخضر صخرة فثلغ بها رأسه

(7)

.

واسم أبيه: كازيري، وأمه: سهوى، وقيل: اسم أبيه: ملاس، واسم أمه: رحمى.

(1)

سيأتي برقم (4726) في التفسير، باب:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} .

(2)

سيأتي برقم (4725) كتاب: التفسير، باب: وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح

(3)

في الأصل، ج، ف: استنجائه. والمثبت من "شرح ابن بطال".

(4)

"شرح ابن بطال" 1/ 199 - 200.

(5)

سيأتي برقم (4726) كتاب: التفسير، باب:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} ، وبرقم (4727) كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} ، وانظر "تفسير ابن أبي حاتم" 7/ 2380 (12923).

(6)

"الإكمال" 2/ 377.

(7)

"تفسير الطبري" 8/ 253.

ص: 626

الثانية بعد العشرين: في إخباره عن حال السفينة لو لم تخرق، والغلام لو لم يقتل دلالة لمذهب أهل الحق أن الله عالم بما كان وبما يكون أن لو كان كيف يكون

(1)

، ويدل عليه قوله تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، وقوله:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام: 9] الآية.

الثالثة بعد العشرين: قوله: "غلامًا" يدل عَلَى أنه كان غير بالغ، والغلام: اسم للمولود إلى أن يبلغ

(2)

، وزعم قوم أنه كان بالغًا يعمل الفساد، واحتجوا بقوله:{بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74]. والقصاص إنما يكون في حق البالغ.

وأجاب الجمهور عن ذَلِكَ بأنا لا نعلم كيف كان شرعهم، فلعله كان يجب عَلَى الصبي في شرعه كما يجب في شرعنا عليهم غرامة المتلفات.

الرابعة بعد العشرين: قوله: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} [الكهف: 77] قَالَ ابن عباس: هي: أنطاكية. وقال ابن سيرين: (أيلة)

(3)

، وهي أبعد

(1)

قال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين" 1/ 72: قد يتوهم بعض من

قصُر علمه أن الله سبحانه لا يعلمِ الشيء حتى يقع، وهذا غير صحيح فالله يعلم

الأشياء قبل وقوعها كما قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} [الحج: 70].

ومن ادّعى أن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه فإنه مكذب لهذِه الآية وأمثالها من الآيات الدالة على أن الله تعالى قد علم الأشياء قبل وقوعها. اهـ.

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: في "المطالع": ويقال للرجل المستحلم الفره غلام. انتهى. ومما يدل لما قاله في حديث الإسراء: قال موسى عليه السلام حين جاوزه النبي صلى الله عليه وسلم. بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ربِّ هذا الغلامُ -يعني به النبي صلى الله عليه وسلم- يدخل الجنة من أمته أفضل مما يدخل من أمتي.

(3)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: في كلام النووي: (الأيلة).

ص: 627

الأرض من السماء. وجاء: أنهم كانوا من أهل قرية لئام، وقيل: من

برقة

(1)

.

الخامسة بعد العشرين: قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]، أي: يسقط بسرعة، قَالَ الكسائي: إرادة الجدار هنا: ميله، وقيل: عَلَى مجاز كلام العرب لأنه لما قرب الحائط من الانقضاض كان كمن يريد أن يفعل ذَلِكَ، وكان أهل القرية يمرون تحته عَلَى خوف. وفي رواية للبخاري:"مائل فقال بيده هكذا"

(2)

. وفي رواية قَالَ: "فمسحه بيده"

(3)

.

وذكر الثعلبي أن سمك الجدار مائتا ذراع بذلك الذراع الذي لذلك القرن، وطوله عَلَى وجه الأرض خمسمائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعًا، قيل: إنه مسحه كالطين فاستوى.

وجاء في كتاب الأنبياء: "فأومأَ بيدِهِ هكذا" وأشار سفيان كأنه يمسحُ شيئًا إلى فوق

(4)

، وهذِه آية عظيمة تشبه آية الأنبياء.

وذكر الطبري عن ابن عباس قَالَ: كان قول موسى في الجدار لنفسه ولطلب شيء من الدنيا، وفي السفينة والغلام لله

(5)

.

السادسة بعد العشرين: قوله: {لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] أي: تأكله كما قاله سعيد. والتاء: فاء الفعل، يقال: تخذ يتخذ، والاتخاذ: افتعال من الأخذ، إلا أنه أدغم بعد تليين الهمزة وإبدالها

(1)

انظر هذِه الأقوال في "تفسير البغوي" 5/ 192، "زاد المسير" 5/ 175.

(2)

سيأتي برقم (4727) كتاب: التفسير، باب:{قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} .

(3)

سيأتي برقم (2267) كتاب: الإجارة، باب: إذا استاجر أجيرًا على أن يقيم حائطًا.

(4)

سيأتي برقم (3401) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى.

(5)

"تفسير الطبري" 8/ 251 (23204).

ص: 628

تاء. (ولما كثر استعماله عَلَى لفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية؛ فبنوا منها: فعل يفعل، قالوا: تخذ يتخذ، وقولهم: أخذت كذا يبدلون الدال تاء)

(1)

فيدغمونها وبعضهم يظهر.

السابعة بعد العشرين: قوله: (يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا) فيه دلالة عَلَى تمني ما علم أنه لم يقدر. ويقال: إنه لما أرادا التفرق قَالَ الخضر لموسى: لو صبرت لأتيت عَلَى ألف عجيب كل أعجب مما رأيت.

الثامنة بعد العشرين: اسم الملك فيما يزعمون هدد

(2)

بن بدد، واسم الغلام جيسور، وقد سلف ما فيه، وفي اسم الملك أقوال أخر ستأتي في قصص الأنبياء في باب: حديث الخضر مع موسى.

التاسعة بعد العشرين: قوله: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80] أي: يحملهما حبه عَلَى أن يتابعاه عَلَى دينه.

الثلاثون: قوله: {وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 81] الرحم: الرحمة، وفي رواية في البخاري:"هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر"

(3)

وزعم سعيد أنهما أبدلا جارية

(4)

، يقال: إنه ولد من نسلها سبعون نبيًّا، وقيل: تزوجت بنبي، فولدت نبيًّا هدى الله به أمة.

قَالَ ابن دريد في "وشاحه": واسم اليتيمين: أصرم وصريم ابنا كاشح، والأب الصالح الذي حفظ كنزهما من أجله بينهما وبينه سبعة آباء، وقيل: عشرة. واسم أمهما: دنيا.

(1)

ساقطة من (ج).

(2)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: كزفر.

(3)

سيأتي برقم (4726) كتاب: التفسير، باب:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} .

(4)

ذكره الطبري في "تفسيره" 8/ 266.

ص: 629

والكنز جاء في حديث ابن عمر مرفوعًا عند الترمذي: أنه كان ذهبًا وفضة

(1)

، وروي من وجه آخر: أنه كان علمًا وحكمة

(2)

، ويجمع

(3)

بينهما بما روي: أنه كان لوحًا من ذهب مكتوب فيه بعد البسملة: عجبًا لمن أيقن أن الموت حق كيف يفرح؟ وعجبًا لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، وعجبًا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ وعجبًا لمن عرف النار ثمَّ عصى، لا إله إلا الله محمد رسول الله

(4)

.

الحادية بعد الثلاثين: في هذِه القصة أصل عظيم من الأصول الشرعية، وهو أنه لا اعتراض بالعقل عَلَى ما لا يفهم من الشرع، وأن لا تحسين ولا تقبيح إلا بالشرع، ألا ترى إلى ظهور قبح قتل الغلام، وخرق السفينة في الظاهر.

ولذلك اشتد نكير موسى، فلما أطلعه الخضر عَلَى سر ذَلِكَ بان له وجه الحكم فيه فيجب التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول، فإن ذَلِكَ محنة من الله تعالى لعباده واختبار لهم؛ لتتم البلوى عليهم، ولمخالفة هذا ضل أهل البدع حين حكموا عقولهم وردوا إليها ما جهلوه من معاني القدر وشبهه.

وهذا خطأ منهم؛ لأن عقول العباد لها نهاية، وعلم الباري تعالى

(1)

رواه الترمذي (3152) عن أبي الدرداء، وليس عن ابن عمر، وقال: حديث غريب. والحديث قال عنه الألباني: ضعيف جدًّا.

(2)

رواه الطبري في "تفسيره" 8/ 268 (23256 - 23261) عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد.

(3)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: لو قيل في الجمع أن اللوح من ذهب أو عكسه

كان أولى.

(4)

هذا الأثر رواه الطبري في "تفسيره" 8/ 268 (23263) عن الحسن، و 8/ 269 (23266) عن عمر. وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 2375 (12880) عن أبي ذر مرفوعًا.

ص: 630

لا نهاية له. قَالَ تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] فما أخفاه عنهم فهو السر الذي استأثر به، فلا يحل تعاطيه، ولا يكلف طلبه، فإن المصلحة للعباد في إخفائه منهم، والحكمة في طيه عنهم إلى يوم تبلى السرائر، والله هو الحكيم العليم. قَالَ تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].

الثانية بعد الثلاثين: قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] ظاهره أنه فعله بوحي من الله تعالى بذلك إليه، ويشهد لهذا وجوه من القصة.

منها: أنه لا يجوز لأحد أن يقتل نفسًا لما يتوقع وقوعه منها بعد حين مما يوجب عليها القتل لأن الحدود لا تجب إلا بعد وقوعها.

ومنها: أنه لا يقطع عَلَى فعل أحد قبل بلوغه، ولا يعلمه إلا الله؛ لأنه غيب.

ومنها: الإخبار عن أخذ الملك السفينة غصبًا، والإخبار عن بنيانه الجدار من أجل الكنز الذي تحته؛ ليكون سببًا إلى استخراج الغلامين لَهُ إِذَا احتاجا إليه؛ مراعاة لصلاح أبيهما، وهذا كله لا يدرك إلا بوحي. وفيه إذًا دلالة ظاهرة لمن قَالَ بنبوة الخضر.

الثالثة بعد الثلاثين: فيه من الفقه استخدام الصاحب لصاحبه ومتعلمه إِذَا كان أصغر منه، وأن العالم قَدْ يكرم بأن تقضى لَهُ حاجة، أو يوهب لَهُ شيء، ويجوز لَهُ قبول ذَلِكَ، لأن الخضر حُمل بغير أجرٍ، وهذا إِذَا لم يتعرض لذلك، وأنه يجوز للعالم والصالح أن يعيب شيئًا لغيره إِذَا علم أن لصاحبه في ذَلِكَ مصلحة.

ص: 631

‌45 - باب مَنْ سَأَلَ وَهْوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا

123 -

حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النُّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا القِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيهِ رَأْسَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا -فَقَالَ: "مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل". [2810، 3126، 7458 - مسلم: 1904 - فتح: 1/ 222].

حَدَّثنَا عُثْمَانُ، ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا القِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِل غَضَبًا، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً. فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا، فَقَالَ:"مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا فهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا كما ترى. وفي الجهاد عن سليمان بن حرب، عن شعبة

(1)

. وفي الخمس عن بندار، عن غندر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة

(2)

. (وفي التوحيد عن محمد بن كثير، عن الثوري، عن الشعبي

(3)

، وأخرجه مسلم في الجهاد عن أبي موسى وبندار، عن غندر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة)

(4)

وعن ابن

(1)

سيأتي برقم (2810) كتاب: الجهاد، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

(2)

برقم (3126) كتاب: فرض الخمس، باب: من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره.

(3)

كذا في الأصول، وليس كذلك بل هو عن الأعمش. والحديث سيأتي برقم (7458) باب: قوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} .

(4)

ساقطة من (ج).

ص: 632

نمير وغيره عن جرير، عن منصور ثلاثتهم عن أبي وائل به

(1)

.

ثانيها: في التعريف برواته وقد سلف التعريف بهم أجمع.

ثالثها:

فيه: جواز سؤال العالم وهو واقف كما ترجم لَهُ لعذر من ضيق مكان ونحوه، ولا يكون ذَلِكَ تركًا لتوقير العالم، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذَلِكَ عليه، ولا أمره بالجلوس؛ ولا من باب:"مَنْ أَحَبَّ أنْ يتمثلَ لَهُ الناسُ قيامًا، فليَتَبَوَأ مقعدَهُ مِنَ النارِ"

(2)

فمثل هذِه الهيئة مع سلامة النفس مشروعة.

وفيه أيضًا: ما أعطي صلى الله عليه وسلم من الفصاحة وجوامع الكلم، فإنه أجاب السائل بجواب جامع لمعنى سؤاله لا بلفظه من أجل أن الغضب والحمية قَدْ تكونان لله تعالى، وقد تكونان لعرض الدنيا، فأجابه بالمعنى مختصرًا، إذ لو ذهب يقيم وجوه الغضب لطال ولربما ألبس عَلَى السائل، وجاء أيضًا في "الصحيح": الرجل يقاتل للمغنم، ويقاتل للذكر، ويقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فأجاب بذلك

(3)

.

(1)

مسلم برقم (1904/ 150) كتاب: الصلاة، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

(2)

رواه أبو داود (5229)، والترمذي (2755) بهذا اللفظ، وأحمد 4/ 91، والبخاري في "الأدب المفرد" (977) بلفظ:"من أحب أن يمثل له عباد الله". كلهم عن أبي مجلز قال: خرج معاوية على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لابن عامر: أجلس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

الحديث.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، والحديث صححه الألباني في "الصحيحة"(357).

(3)

سيأتي برقم (2810) كتاب: الجهاد، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، =

ص: 633

وفيه: أن الإخلاص شرط في العبادة، فمن غلب باعثه الدنيوي، فقد خسر ومن غلب الديني ففائز عند الجمهور خلافًا للحارث المحاسبي، قَالَ محمد بن جرير الطبري: إِذَا ابتدأ العمل لله لا يضره ما عرض بعده من إعجاب بالاطلاع عليه

(1)

.

= (3126) كتاب: فرض الخمس، باب: من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره؟ ورواه مسلم (1904/ 149) كتاب: الإمارة، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

(1)

"تفسير الطبري" 5/ 97 (12867).

ص: 634

‌46 - باب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ

124 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الَجمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ:"ارْمِ، وَلَا حَرَجَ". قَالَ آخَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ قَالَ: "انْحَرْ، وَلَا حَرَجَ". فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ". [انظر: 83 - مسلم: 1306 - فتح: 1/ 222]

حدثنا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الجَمْرَةِ وَهُوَ يُسْأَلُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ قَالَ:"ارْمِ، وَلَا حَرَجَ". قَالَ آخَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ قَالَ: "انْحَرْ، وَلَا حَرَجَ". فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ".

هذا الحديث تقدم بيانه واضحًا بفوائده في باب: الفتيا وهو واقف عَلَى الدابة وغيرها

(1)

وأراد هنا أن يبين به أن العالم يجوز أن يُسأل وهو مشغول بالطاعة، ومعنى "لا حَرَجَ": لا إثْمَ عليك ولا فدية أيضًا عند الجمهور كما سلف.

وعبد العزيز هو ابن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون التيمي مولاهم الفقيه.

روى عن الزهري وغيره ولم يدرك نافعًا. وعنه ابنه الفقيه عبد الملك وغيره، وليس بالمكثر.

(1)

سبق برقم (83) كتاب: العلم، باب: الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها.

ص: 635

أجازه المهدي بعشرة آلاف دينار، وكان إمامًا معظمًا. قَالَ أبو الوليد: كان يصلح للوزارة. مات سنة أربع وستين ومائة

(1)

.

(1)

قال فيه أبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي: ثقة. وقال ابن خراش: صدوق.

انظر ترجمته في: "الطبقات" 7/ 323، "التاريخ الكبير" 6/ 13 (1530)، "معرفة الثقات" 2/ 97 (1108)، "الجرح والتعديل" 5/ 386 (1802)، "تهذيب الكمال" 18/ 152 (3455)، "تقريب التهذيب" ص 357 (4104).

ص: 636

‌47 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]

125

- حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: بَينَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَرِبِ الَمدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلوهُ، لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكرَهُونَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْألَنَّهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا القَاسِمِ، مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ. فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ. فَقُمْتُ، فَلَفَا اَنْجَلَى عَنْهُ فقَالَ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} . قَالَ الأعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا. [4721، 7297، 7456، 7462 - مسلم: 2794 - فتح: 1/ 223]

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، ثنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، ثنا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في خَرِبِ المَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفرٍ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلْوة، لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيءٍ تَكْرَهُونَة. فَقَالَ بَعْضُهمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا القَاسِمِ، مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ. فَقُلْتُ: إِنَّة يُوحَى إِلَيْهِ. فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْة، قالَ:

"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا". قَالَ الأَعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا.

ص: 637

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا كما ترى، وأخرجه في التوحيد عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد

(1)

، وفي التفسير عن عمر بن حفص، عن أبيه

(2)

، وفي الاعتصام في باب: ما يكره من السؤال وتكلف ما لا يعنيه عن محمد بن عبيد بن ميمون، عن عيسى بن يونس

(3)

، وفي التوحيد أيضًا عن يحيى، عن وكيع

(4)

.

وأخرجه مسلم في الرقاق عن عمر بن حفص، عن أبيه، وعن أبي بكر والأشج، عن وكيع. وعن (إسحاق)

(5)

، وابن خَشْرم، عن عيسى كلهم عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة به

(6)

، وجاء فيه في الاعتصام: لا تسألوه لا يسمعكم ما تكرهون

(7)

.

ثانيها: في التعريف برواته:

وقد سلف كلهم، خلا شيخ البخاري قيس بن حفص بن القعقاع الدارمي، وعنه أبو زرعة وغيره وهو شيخ لا بأس به، وانفرد به البخاري عن باقي الكتب الستة، وليس في مشايخه من اسمه قيس

(1)

سيأتي برقم (7462) باب: قول الله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} [النحل: 40].

(2)

سيأتي برقم (4721) باب: ويسألونك عن الروح.

(3)

سيأتي برقم (7297) باب: ما يكره من كثرة السؤال.

(4)

سيأتي برقم (7456) باب: قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} .

(5)

في الأصل: (ابن إسحاق)، والصواب: ما أثبتناه، وهو ابن راهويه كما في مسلم (2794/ 33).

(6)

مسلم (2794) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح.

(7)

سيأتي برقم (7462) كتاب: التوحيد.

ص: 638

سواه. مات سنة سبع وعشرين ومائتين

(1)

.

ثالثها: في ألفاظه ومعانيه:

الأولى: (خرب) بالخاء المعجمة المكسورة وفتح الراء وعكسه والباء في آخره. قَالَ القاضي عياض: كذا رواه البخاري هنا، ورواه في غير هذا الموضع (حرث) بالحاء المهملة والثاء المثلثة، وكذا رواه مسلم في جميع طرقه وصوبه بعضهم.

الثانية: العسيب: جريد النخل، وهو عود قضبان النخل يكشطون خوصها ويتخذونها عصيًّا، والمعنى: معتمد عَلَى جريدة نخل. وكانوا يكتبون في طرفه العريض منه، ومنه قوله: فجعلت أتتبعه في العسب

(2)

، يعني: القرآن.

الثالثة: قوله: (لَا تَسْأَلُوهُ، لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيءِ تَكْرَهُونَهُ)، يجوز فيه النصب عَلَى معنى: لا تسألوه إرادة أن لا يجيء فيه، و (لا) زائدة وهذا ماشٍ عَلَى مذهب الكوفيين، والجزم عَلَى الجواب تقديره: أن لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء، فالأول سبب للثاني، وجوز بعضهم الرفع عَلَى القطع.

الرابعة: (الرُّوحُ)، يذكر ويؤنث واختلف هل الروح والنفس واحد أم لا؟ والروح جاء في القرآن عَلَى معانٍ. قَالَ تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} [الشعراء: 193] وقال: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 7/ 156 (703)، "معرفة الثقات" 2/ 225 (1528)، "الجرح والتعديل" 7/ 95 (546)، "الثقات" 9/ 15، "تهذيب الكمال" 24/ 21 (4899)، "تقريب التهذيب" 456 (5569).

(2)

سيأتي برقم (4679) كتاب: التفسير، باب: قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} .

ص: 639

وقال: {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ: 38].

قيل: وسؤالهم عن روح بني آدم؛ لأن في التوراة أنه لا يعلمه إلا الله، فقالوا: إن فسرها فليس بنبي؛ فلذلك لم يجبهم.

وقال القاضي عياض وغيره: اختلف المفسرون في الروح المسئول عنها. فقيل: سألوه عن عيسى فقال لهم: الروح من أمر الله، أي: لا كما تقوله النصارى، وكان ابن عباس يكتم تفسيره

(1)

.

وعنه وعن علي: هو ملك من الملائكة يقوم صفًا وتقوم الملائكة صفًا قَالَ تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا}

(2)

[النبأ: 38] وقيل: جبريل

(3)

، وقيل: القرآن

(4)

؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]

وقال أبو صالح: هو خلق كخلق بني آدم ليسوا ببني آدم لهم أيد وأرجل

(5)

. وقيل: طائفة من الخلق لا ينزل ملك إلى الأرض إلا نزل معه أحدهم

(6)

. وقيل: ملك له أحد عشر ألف جناح، وألف وجه، يسبح الله إلى يوم القيامة

(7)

.

(1)

"إكمال المعلم" 8/ 327، وأثر ابن عباس رواه الطبري 12/ 416 (36145) عن قتادة قال: هذا مما كان يكتمه ابن عباس.

(2)

روى أثر ابن عباس الطبري في "تفسيره" 12/ 415 (36134).

(3)

رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 415 (36135 - 36137) عن الضحاك والشعبي.

(4)

روى ذلك الطبري في "تفسيره" 12/ 416 (36147) عن ابن زيد.

(5)

رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 416 (36143)، وذكره البغوي في "تفسيره"

8/ 317.

(6)

ذكره البغوي في "تفسيره" 8/ 317.

(7)

رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 415 (36133) بلفظ مقارب عن ابن مسعود وقال ابن كثير في "تفسيره" 4/ 466: وهذا قول غريب جدًّا.

ص: 640

وقيل: علم الله أن الأصلح لهم أن لا يخبرهم ما هو؛ لأن اليهود قالوا: إن فسر الروح فليس بنبي، وهذا معنى قوله: لا تسألوه لا يجيء فيه بشيء تكرهونه، فقد جاءهم ذَلِكَ؛ لأن عندهم في التوراة كما ذكر لهم أنه من أمر الله لن يطلع عليه أحد.

وذكر ابن إسحاق أن نفرًا من اليهود قالوا: يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، وذكر الحديث، وفيه: فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن الروح قَالَ:"أنشدكم بالله هل تعلمون جبريل، وهو الذي يأتيني؟ " قالوا: اللَّهُمَّ نعم، ولكنه يا محمد لنا عدو، وهو ملك يأتي بالشدة وبسفك الدماء، ولولا ذَلِكَ لاتبعناك، فأنزل الله تعالى:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97]

(1)

وهذا يدل عَلَى أن سؤالهم عن الروح الذي هو جبريل كما قَالَ بعضهم.

قَالَ أكثر العلماء: وليس في الآية دليل عَلَى أن الروح لا تعلم، ولا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها.

فرع:

أما روح ابن آدم فالكلام عليه مما يدق كما قَالَ المازري

(2)

، وقد أفرد بتواليف، وأشهرها ما قاله الأشعري: إنه النفس الداخل والخارج.

وقال القاضي أبو بكر: هو متردد بين ما قاله الأشعري وبين الحياة.

وقيل: جسم مشارك الأجسام الظاهرة والأعضاء الظاهرة. وقيل: جسم لطيف خلقه الباري تعالى، وأجرى العادة بأن الحياة لا تكون مع فقده،

(1)

"سيرة ابن إسحاق" 1/ 183 وليس بهذا السياق ولكن رواه عنه الطبري في "تفسيره" 1/ 477 (1609).

(2)

"المعلم بفوائد مسلم" 2/ 430.

ص: 641

فإذا شاء الله موته أعدم هذا الجسم منه عند إعدام الحياة.

وهذا الجسم وإن كان حيًّا فلا يحيا إلا بحياة تختص به، وهو مما يصح عليه البلوغ إلى جسم ما من الجسم، وبكونه في مكان في العالم، أو في حواصل طير خضر إلى غير ذَلِكَ مما وقع في الظواهر إلى غيره من جواهر القلب، والجسم الحياة

(1)

. وقيل: إنه الدم، وذكر بعضهم فيه سبعين قولًا

(2)

.

(1)

هكذا في الأصول ولعل الكلمة الأخيرة: الحية، وعبارة القا ضي في "الإكمال" أليق وأوفق، فقد قال ما نصه: وكونه في مكان من العالم أو حواصل الطير إلى غير ذلك مما وقع في الظواهر، ويصح في العقل صرف ما أشرنا إليه من الظواهر إلى غيره من جواهر القلب أو الجسم الحية. اهـ. انظر:"إكمال المعلم" 8/ 326 - 327.

(2)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 3/ 31 - 34: الروح التي فينا قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تقبض من البدن وتسل منه كما تسل الشعرة من العجينة.

والناس مضطربون فيها؛ فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءًا من البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تتردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة أو المزاج، أو نفس البدن.

ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون: لا هي داخلة في البدن ولا خارجة، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض، وقد يقولون: إنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة. وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة، وربما قالوا: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها، مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها، ونحو ذلك من الصفات السلبية، التي تلحقها بالمعدوم والممتنع.

وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل، قالوا: بل هذا ممكن بدليل أن الكليات ممكنة موجودة وهي غير مشار إليها، وقد غفلوا عن كون الكليات =

ص: 642

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في العيان؛ فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال، الذي لا يخفي فساده على غالب الجهال.

واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك أن الروح -التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة- ليست هي من جنس هذا البدن، ولا من جنس العناصر والمولدات منها؛ بل هي من جنس آخر مخالف لهذِه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة وكلا القولين خطأ.

وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل. فإن لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي.

فإن أهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسما؛ ولهذا يقولون: الروح والجسم؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4] وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247].

وأما أهل الكلام: فمنهم من يقول الجسم هو الموجود. ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه. ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر المفردة. ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة، وكل هؤلاء يقولون: إنه مشار إليه إشارة حسية.

ومنهم من يقول: ليس مركبًا من هذا ولا من هذا، بل هو مما يشار إليه، ويقال: إنه هنا أو هناك؛ فعلى هذا إن كانت الروح مما يشار إليها ويتبعها بصر الميت -كما قال: صلى الله عليه وسلم: "إن الروح إذا خرجت تبعها البصر" وأنها تقبض ويعرج بها إلى السماء- كانت الروح جسما بهذا الاصطلاح.

والمقصود أن الروح إذا كانت موجودة حية، عالمة قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرًا. والشيء إنما تدرك حقيقته بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره.

فإذا كانت الروح متصفة بهذِه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته؛ وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها. =

ص: 643

الخامسة: قوله: "وما أُوتوا مِنَ العِلْمِ" كذا جاء في هذِه الرواية، (وبينه)

(1)

البخاري بقول الأعمش: هي كذا في قراءتنا، وكذا هو في أكثر نسخ البخاري ومسلم، وذكر مسلم الاختلاف في هذِه اللفظة عن الأعمش فرواه وكيع عَلَى القراءة المشهورة {وَمَا أُوتِيتُمْ} [الإسراء: 85] ورواه عيسى بن يونس عنه (وما أُوتوا)

(2)

واختلف المحدثون فيما وقع من ذَلِكَ، فذهب بعضهم إلى إصلاحه عَلَى الصواب؛ لأنه إنما قصد به الاستدلال عَلَى ما سيق (بسببه)

(3)

ولا حجة إلا في الثابت في المصحف.

وقال قوم: تترك عَلَى حالها وينبه عليها؛ لأن من البعيد خفاء ذَلِكَ عَلَى المؤلف، ومن نقل عنه وهلم جرا، فلعلها قرئت شاذة. ووهاه القاضي عياض، نعم لا يحتج به في حكم ولا يقرأ به في صلاة.

قَالَ: واختلف أصحاب الأصول فيما نقل آحادًا ومنه القراءة الشاذة كمصحف ابن مسعود وغيره، هل هو حجة أم لا؟ فنفاه الشافعي

(4)

وأثبته

= فإذا كان من نفي صفات الروح جاحدًا معطلًا لها، ومن مثلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلًا ممثلًا لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات، مستحقة لما لها من الصفات: فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفي صفاته جاحدًا معطلًا، ومن قاسه بخلقه جاهلا به ممثلا، وهو سبحانه وتعالى ثابت بحقيقة الإثبات، مستحق لما له من الأسماء والصفات. اهـ.

(1)

كذا في الأصل، وفي (ج): ونبه.

(2)

مسلم (2794/ 32 - 33) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح.

(3)

في (ج): له.

(4)

ورد بهامش الأصل ما نصه: نقل الإسنوي احتجاج الثافعي بالقراءة الشاذة، في ثلاثة أماكن من "الأم" وكذا ذكر عن غيره من أساطين مذهبه، وعزى إلى الأمام أنه نقل أن الشافعي لا يحتج بها، فلتراجع من "التمهيد" له. اهـ.

ص: 644

أبو حنيفة وبنى عليه وجوب التتابع في كفارة اليمين كما نقل (عن)

(1)

مصحف ابن مسعود من قراءة: (ثلاثة أيام متتابعات)

(2)

وبقول الشافعي قَالَ الجمهور، واستدلوا لَهُ بأن الراوي لَهُ إن ذكره عَلَى أنه قرآن فخطأ، وإلا فهو متردد بين أن يكون خبرًا أو مذهبًا لَهُ، فلا يكون حجة بالاحتمال، ولا خبرًا؛ لأن الخبر ما صرح به الراوي فيه بالتحديث، فيحمل عَلَى أنه مذهب له.

وقال أبو حنيفة: إِذَا لم يثبت كونه قرآنًا، فلا أقل من أن يكون خبرًا.

وجوابُه: أن الراوي لم يأت بها عَلَى وجه الخبر

(3)

.

السادسة: قَالَ المهلب: هذا يدل عَلَى أن من العلم أشياء لم يطلع الله عليها نبيًا ولا غيره، أراد تعالى أن يختبر بها خلقه فيوقفهم عَلَى العجز عن علم ما لا يدركون حتَّى يضطرهم إلى رد العلم إليه، ألا تسمع إلى قوله تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] فعلم الروح مما لم يشأ الله تعالى إطلاع أحد من خلقه عليه.

= قلت: الذي وقع في "التمهيد" خلاف ذلك، قال الإسنوي: فقد نص الشافعي في موضعين من "مختصر البويطي" على أنها حجة ذكر ذلك في باب: الرضاع، وباب: تحريم الحج. انظر: "التمهيد" للإسنوي ص 141 - 143.

(1)

في (ج): في.

(2)

انظر: "تفسير الطبري" 5/ 31 (12503)، "الدر المنثور" 2/ 555.

(3)

انظر: "زاد المسير" 2/ 415، "لباب المحصول" لابن رشيق المالكي 1/ 273 - 274، "أصول السرخسي" 1/ 291 - 293، "مختصر التحرير" لابن النجار ص 98، "إرشاد الفحول" للشوكاني ص 63 - 64، "مذكرة في أصول الفقه" ص 67 - 68.

ص: 645

‌48 - باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاختِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ عَنْهُ، فَيَقَعُوا فِي أَشَدَّ مِنْهُ

126 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْن مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأسوَدِ قَالَ: قَالَ لِي ابن الزُّبَيْرِ: كَانَتْ عَائِشَةُ تسِرُّ إِلَيْكَ كَثِيرًا، فَمَا حَدَّثَتْكَ فِي الكعْبَةِ؟ قُلْتُ: قَالَتْ لِي: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ -قَالَ ابن الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ- لَنَقَضْتُ الكَعْبَةَ، فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ". فَفَعَلَة ابن الزُّبَيْرِ. [1583، 1584، 1585، 1586، 3368، 4484، 7243 - مسلم: 1333 - فتح: 1/ 224]

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: قَالَ لِي ابن الزُّبَيْرِ: كَانَتْ عَائِشَةُ تُسِرُّ إِلَيْكَ كَثِيرًا، فَمَا حَدَّثَتْكَ فِي الكَعْبَةِ؟ قُلْت: قَالَتْ لِي: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ، لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ -قَالَ ابن الزُّبَيْرِ: بِكُفْرٍ- لَنَقَضْتُ الكَعْبَةَ، فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ: بَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ، وَبَابٌ يَخْرُجُونَ مِنْه". فَفَعَلَهُ عبدُ الله بْنُ الزُّبَيْرِ.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه هنا كما ترى، وفي الحج، والتمني عن مسدد، عن أبي الأحوص (عن أشعث

(1)

، و [مسلم]

(2)

في المناسك: عن

(1)

سيأتي برقم (1584) باب: فضل مكة وبنيانه، وبرقم (7243) باب: ما يجوز من اللوِّ.

(2)

ساقطة من الأصل، والصواب إثباتها، وانظر "التحفة" 11/ 375 (16005).

ص: 646

سعيد بن منصور، عن أبي الأحوص، عن أشعث، وعن أبي بكر، عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن أشعث، عن الأسود)

(1)

وأخرجه من حديث عروة

(2)

، وحديث عبد الله بن الزبير وفيه: سمعت عائشة

(3)

.

وأخرجه مسلم فيما انفرد به أن عبد الملك بن مروان

(4)

، بَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ قَالَ: قَاتَلَ اللهُ ابن الزُّبَيْرِ حَيْثُ يَكْذِبُ عَلَى أُمِّ المُؤمِنِينَ. يَقُولُ: سَمِعْتهَا تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ، لَنَقَضْتُ البَيْتَ حَتَّى أَزِيدَ فِيهِ مِنَ الحِجْرِ. فَإِنَّ قَوْمَكِ اقَتصَّرُوا فِي البِنَاءِ". فَقَالَ الحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَقُلْ هذا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَنَا سَمِعْتُها تُحَدِّثُ بهذا. قَالَ: لَوْ كنْتُ سَمِعْتُة قَبْلَ أَنْ أَهْدِمَهُ، لَتَرَكْتُة عَلَى مَا بَنَى ابن الزُّبَيْرِ

(5)

.

وفي بعض طرق حديث الأسود: أن ابن الزبير قَالَ له: ما نسيت أذكرك. وهذِه الرواية تدل عَلَى أن ابن الزبير سمعه من عائشة بغير واسطة، وقد سلف، لكنه أراد أن يثبت ذَلِكَ رواية غيره عن عائشة ليرد به (على من)

(6)

يتكلم عليه.

وللبخاري في الحج من حديث الأسود: "لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ، أَنْ أُدْخِلَ الجَدْرَ فِي البَيْتِ،

(1)

ساقطة من (ج). رواهما مسلم (1333/ 405، 406) كتاب: الحج، باب: جدر الكعبة وبابها.

(2)

سيأتي برقم (1585)، (1586) كتاب: الحج، باب: فضل مكة.

(3)

رواه مسلم (1333/ 402).

(4)

وقع في الأصل، (ج) بعد مروان: وان.

(5)

مسلم (1333/ 404) كتاب: الحج، باب: نقض الكعبة وبنائها.

(6)

في (ج): عمن.

ص: 647

وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بالأَرْضِ"

(1)

. وفي حديث عروة: "لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيم". فَذَلِكَ الذِي حَمَلَ ابن الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما عَلَى هَدْمِهِ. قَالَ يَزِيدُ راوي الحديث: وَشَهِدْتُ ابن الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ. وفيه أنه حزر مِنَ الحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا

(2)

.

ثانيها: في التعريف برواته غير من سلف.

أما الأسود (ع) فهو أبو عبد الرحمن الأسود بن يزيد بن قيس بن عبيد الله بن مالك بن علقمة بن سلامان بن ذهل بن بكر بن عوف النخعي التابعي الجليل الثقة الحبر، أخو عبد الرحمن بن يزيد، وابن أخي علقمة بن قيس، وهو أسن من علقمة، وهو أيضًا خال إبراهيم النخعي.

روى عن عائشة وغيرها من الصحابة. وعنه أبو إسحاق وغيره، سافر ثمانين حجة وعمرة ولم يجمع بينهما، وكذا ولده عبد الرحمن، وقيل: إنه كان يصلي كل يوم سبعمائة ركعة، وكانوا يقولون: إنه أقل أهل بيته اجتهادًا، وصار عظمًا وجلدًا، وكانوا يسمون آل الأسود من أهل الجنة. مات سنة خمس وسبعين، وقيل: أربع

(3)

.

(1)

سيأتي برقم (1584) كتاب: الحج، باب: فضل مكة وبنيانها.

(2)

سيأتي برقم (1586) كتاب: الحج، باب: فضل مكة وبنيانها.

(3)

الأسود بن يزيد بن قيس النخعي. قال الإمام أحمد: ثقة، من أهل الخير. وقال إسحاق، عن يحيى: ثقة. قال محمد بن سعد: ثقة، وله أحاديث صالحة. =

ص: 648

فائدة:

في الصحيحين الأسود جماعة غير هذا، منهم الأسود بن عامر شاذان

(1)

.

وأما إسرائيل فهو أبو يوسف إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني الثقة -وخالف ابن المديني فضعفه- سمع جده وغيره، وعنه شبابة وغيره، قَالَ يحيى: هو أقرب حديثًا، وشريك أحفظ. ولد سنة مائة، ومات سنة ستين ومائة. وقيل: سنة إحدى. وقيل: سنة اثنتين وستين

(2)

.

= انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 70، "الجرح والتعديل " 2/ 291 (1067)، "تهذيب الكمال" 3/ 233 (509).

(1)

هو الأسود بن عامر شاذان أبو عبد الرحمن الشامي نزيل بغداد روى عن حماد بن سلمة وحماد بن زيد وشريك بن عبد الله وإسرائيل بن يونس وغيرهم. قال أبو حاتم عن علي بن المديني: ثقة، وقال ابن سعد: كان صالح الحديث، وقال أحمد بن حنبل: ثقة. مات سنة ثمان وستين.

انظر ترجمته في: "الطبقات" 7/ 336، "الجرح والتعديل" 1/ 1 (94)، "تاريخ بغداد" 1/ 448 (1431)، "تهذيب الكمال" 3/ 226 (503).

(2)

إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الهمداني السبيعي. قال عبد الرحمن بن مهدي عن عيسى بن يونس: قال لي إسرائيل: كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ السورة.

قال أبو طالب: سئل أحمد: أيهما أثبت شريك أو إسرائيل؟ قال: إسرائيل كان يؤدي ما سمع، كان أثبت من شريك. قلت: من أحب إليك يونس أو إسرائيل في أبي إسحاق؟ قال: إسرائيل؛ لأنه كان صاحب كتاب.

وقال ابن حجر: وهو كما قال ابن معين، فتوجه أن كلام يحيى القطان محمول على أنه أنكر الأحاديث التي حدثه بها إسرأئيل عن أبي يحيى، فظن أن النكارة من قبله، وإنما هي من قبل أبي يحيى كما قال ابن معين، وأبو يحيى ضعفه الأئمة النقاد، فالحمل عليه أولى من الحمل على من وثقوه والله أعلم، احتج به =

ص: 649

ثالثها: في فوائده:

فيه: ترك شيء من الأمر بالمعروف، إِذَا خشي منه أن يكون سببًا لفتنة قوم ينكرونه ويسرعون إلى خلافه واستبشاعه، وترك المصلحة لمعارضة مفسدة أشد منها، فخشي صلى الله عليه وسلم أن تنكر ذَلِكَ قلوبهم لقرب عهدهم بالكفر، ويظنون أنه فعل ذَلِكَ لينفرد بالفخر، وعظم هدمها لديهم.

وقد روي أن قريشًا حين بنت البيت في الجاهلية تنازعت فيمن يجعل الحجر الأسود، فحكَّمُوا أول رجل يطلع عليهم، فطلعَ النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى أن يحمل الحجر في ثوب، وأمر كل قبيلة أن تأخذ بطرف الثوب، فرضوا بذلك

(1)

. ولم يروا أن ينفرد بذلك واحد منهم خشية أن ينفرد بالفخر.

فلما ارتفعت الشبهة فعل فيه ابن الزبير ما فعل، فجاء الحجاج فردَّه كما كان، وتركه من بعده خشية أن يتلاعب الناس به، فيكثر هدمه وبنيانه، فتذهب هيبته من صدور الناس، كما قاله الإمام مالك لما سأله عن ذَلِكَ هارون الرشيد

(2)

.

وفيه: أن النفوس تُساس بما تُساس إليه في الدين من غير الفرائض بأن يترك ويرفع عن الناس ما ينكرون منها كما قررناه.

= الأئمة كلهم.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 2/ 56 (1669)، "الجرح والتعديل" 2/ 330 (1258)، "تاريخ بغداد" 7/ 20 (3488)، "تهذيب الكمال" 2/ 515 (402).

(1)

رواه ابن إسحاق في "سيرته" ص 87 (113)، والأزرقي في "أخبار مكة" 1/ 159.

(2)

انظر: "التمهيد" 10/ 50.

ص: 650

فائدة:

بنيت الكعبة مرات، الملائكة، ثمَّ إبراهيم، ثمَّ قريش في الجاهلية،

وحضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البناء وهو ابن خمس وثلاثين -وقيل: خمس وعشرين- وفيه سقط عَلَى الأرض حين رفع إزاره، ثمَّ بناه ابن الزبير، ثمَّ بناه الحجاج بن يوسف واستمر، وقيل: مرتين أخريين أو ثلاثًا.

فائدة أخرى:

استدل أبو محمد الأصيلي فيما حكاه ابن بطال من هذا الحديث في مسألة من النكاح، ذلك أن جارية يتيمة غنية كان لها ابن عم وكان فيه ميل إلى الصبا، فخطب ابنة عمه وخطبها رجل غني، فمال إليه الوصي، وكانت اليتيمة تحب ابن عمها ويحبها، فأبى وصيها أن يزوجها منه، ورفع ذَلِكَ إلى القاضي، وشاور فقهاء وقته، فكلهم أفتى أن لا تزوج من ابن عمها، وأفتى الأصيلي أن تزوج منه خشية أن يقعا في المكروه، استدلالًا بهذا الحديث، فزوجت منه

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 1/ 206.

ص: 651

‌49 - باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا

وَقَالَ عَلِيٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟

127 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ مَعْرُوفٍ بْنِ خَرَّبُوذٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ بِذَلِكَ. [فتح: 1/ 127].

128 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرّحْلِ، قَالَ:"يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: "يَا مُعَاذُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثَلَاثًا، قَالَ:"مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إله إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أفَلَا أخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ:"إِذًا يَتَّكِلُوا". وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. [129 - مسلم: 32 - فتح: 1/ 226]

129 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لُمِعَاذٍ: "مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ". قَالَ: ألَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: "لَا، إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا". [انظر: 128 - مسلم 3: 2 - فتح: 1/ 227]

حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ عَنْ مَعْرُوفٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قال: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟

حَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، (ثَنَا)

(1)

مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ ثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ومُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ، قَالَ:

(1)

في (ج): أخبرنا.

ص: 652

"يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: "يَا مُعَاذُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثَلَاثًا، قَالَ:"مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إله إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أخْبرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ:"إِذًا يَتَّكِلُوا". وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا.

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثنا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ: "مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ". قَالَ: أَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: "لَا، أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا".

الكلام عَلَى هذِه الأحاديث:

أما حديث علي فالكلام عَلَى إسناده ثمَّ متنه.

أما إسناده: فعلي رضي الله عنه سلف.

وأبو الطفيل هو عامر بن واثلة، وقيل: عمرو بن عبد الله بن عمرو بن جحش بن جري بن سعد بن بكر بن عبد مناة بن كنانة الكناني الليثي.

ولد عام أحد، كان يسكن الكوفة، ثمَّ سكن مكة إلى أن مات. وعن سعيد الجريري، عن أبي الطفيل قَالَ: لا يحدثك أحد اليوم في وجه الأرض أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم غيري.

وكان من أصحاب على المحبين له، وشهد معه مشاهده كلها، وكان ثقة مأمونًا، يعترف بفضل الشيخين، فاضلًا بليغًا عاقلًا شاعرًا محسنًا.

قَالَ ابن عبد البر في "كناه": وكان فيه تشيع. قَالَ: وكان من (كبار)

(1)

التابعين. روي لَهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم تسعة أحاديث، وهو آخر من مات من الصحابة عَلَى الإطلاق كذا قاله غير واحد.

(1)

كذا في الأصل، وفي (ج): أكابر.

ص: 653

لكن ذكر ابن دريد في كتاب "الاشتقاق الكبير": عكراش بن ذؤيب (ت. ق)، وقَالَ: لقي النبي صلى الله عليه وسلم، وله حديث، وشهد الجمل مع عائشة. فقال الأحنف: كأنكم به، وقد أتي به قتيلًا أو به جراحة لا تفارقه حتَّى يموت، فضرب يومئذ عَلَى جهة أنفه، فعاش بعدها مائة سنة

(1)

. وأثر الضربة به

(2)

. فعلى هذا تكون وفاته بعد سنة خمس وثلاثين ومائة.

وأبو الطفيل أكثرهم لا يُثْبِت لَهُ صحبة، إنما يذكرون لَهُ رؤية، والبخاري أخرج لَهُ هنا هذا الأثر خاصة عن علي، وأخرج لَهُ مسلم في الحج

(3)

، وصفة النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

، وعن معاذ وغيره من الصحابة، وروى لَهُ أيضًا الأربعة، مات سنة عشر ومائة عَلَى الصحيح بمكة

(5)

.

وأما معروف (خ م دق) فهو ابن خربوذ المكي مولى قريش روى عن أبي الطفيل وغيره. وعنه عبيد الله بن موسى وغيره، وروى لَهُ مسلم وأبو

(1)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: قال بعض أشياخنا: وهذا باطل لا أصل له، والذي أوقع ابن دريد في ذلك ابن قتيبة في "المعارف" وهو إما باطل أو مثول بأنه استكمل بعد الجمل مائة سنة. وصحح الذهبي في "الوفيات" أنه توفي سنة عشر ومائة، وكذا في "الكاشف" له. اهـ.

قلت: انظر: "المعارف" لابن قتيبة ص 310، "الكاشف" للذهبي 1/ 527.

وقد أورد هذا التعليق الناسخ في "حاشيته على الكاشف" 2/ 32، وأشار إلى أن القائل من شيوخه هو الحافظ زين الدين العراقي.

(2)

"الاشتقاق الكبير" ص 249.

(3)

مسلم (1264، 1265)، باب: استحباب الرمل في الطواف، (1275) باب: جواز الطواف على بعير وغيره

(4)

مسلم (2340) كتاب: الفضائل، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض مليح الوجه.

(5)

ورد بهامش الأصل ما نصه: وصحيح الذهبي في "الوفيات" أنه توفي سنة عشر ومائة. وكذا في "الكاشف" اهـ. وانظر ترجمته في: "معجم الصحابة" لابن قانع 2/ 241 (751)، "الاستيعاب" 2/ 347 (1352)، "أسد الغابة" 3/ 145 (2745)، "الإصابة" 2/ 261 (4436).

ص: 654

داود وابن ماجه، وضعفه ابن معين، وقواه غيره، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه

(1)

.

وأما عبيد الله هو ابن موسى وقد سلف.

وأما متنه: فمعناه أنه ينبغي أن يحدث كل أحد عَلَى قدر فهمه، ولا يحدثه بما يُشتبه عليه، فيذهب في معناه إلى غير ما أريد به، وقد ذكر مسلم في مقدمة "صحيحه" بإسناده الصحيح إلى ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ:"مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَة"

(2)

.

وأما حديث أنس، عن معاذ فالكلام عليه أيضًا من وجهين:

أحدهما: في التعريف برواته غير من سلف التعريف به.

أما معاذ (ع) بن جبل هو الخزرجي النجيب، جمع القرآن في حياته صلى الله عليه وسلم، كان يشبه بإبراهيم، كان أمة قانتًا لله حنيفًا. مات بالأردن سنة ثماني عشرة

(3)

.

وأما معاذ (ع) بن هشام فهو الدستوائي البصري سكن ناحية من

(1)

معروف بن خربوذ المكي، مولى عثمان، ويقال عن ابن عيينة: إنه معروف بن مشكان، وذلك وهم. قال عبيد بن معاذ الحنفي عن معروف بن خربوذ مولى عثمان: كنت أتكلم في القدر فأتيت جعفر بن علي فسلمت عليه، فلم يرد عليَّ السلام. وقال ابن حجر: صدوق ربما وهم، وكان أخباريًا علامة.

انظر: "التاريخ الكبير" 7/ 414 (1816)، "معرفة الثقات" 2/ 287 (1758)، "الجرح والتعديل" 8/ 321 (1481)، "الثقات" 5/ 439، "تهذيب الكمال" 28/ 263 (6086)، "تقريب التهذيب" ص 540 (6791).

(2)

انظر: مقدمة "صحيح مسلم" 1/ 9.

(3)

انظر ترجمته في "الاستيعاب" 3/ 459 (2445)، "أسد الغابة" 5/ 194 (4953)، "الإصابة" 3/ 426 (8037).

ص: 655

اليمن، ومات بالبصرة سنة مائتين. روى عن أبيه وابن عون، وعنه أحمد وغيره، قَالَ ابن معين: صدوق، وليس بحجة، وعنه أيضًا، وقد سئل: أهو أثبت في شعبة أو غندر؟ فقال: ثقة، ثقة. وقال ابن عدي: ربما يغلط في الشيء وأرجو أنه صدوق

(1)

، وأما والده فسلف في باب: زيادة الإيمان ونقصانه.

وأما إسحاق بن إبراهيم (خ، م، د، ت، س) فهو الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم ابن راهويه بن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله بن مطر المروزي، أمير المؤمنين، الإمام المجمع عَلَى جلالته وعلمه وفضله وحفظه.

روى عنه مَنْ عدا ابن ماجه، وبَقِيَّةُ شيخُه، وخَلْق من آخرهم السراج.

وروى عن جرير، ومعتمر، ومعاذ، وطبقتهم. وُلدَ أبوه بطريق مكة فقالت المراوزة: راهوي؛ لأنه ولد في الطريق، والطريق بالفارسية: راه، وكان يكره هذا النعت

(2)

.

أملى مسنده من حفظه، وأملى مرة أحد عشر ألف حديث من حفظه، ثمَّ قرئت عليه فما زاد حرفًا ولا نقص حرفًا، وعنه قَالَ:

(1)

معاذ بن هشام بن أبي عبد الله واسمه سنبر.

قال أبو أحمد بن عدي: ولمعاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة حديث كثير، ولمعاذ عن غير أبيه أحاديث صالحة، وهو ربما يغلط في الشيء، بعد الشيء، وأرجو أنه صدوق، وقال ابن حجر في مقدمة "الفتح": لم يكثر له البخاري واحتج به الباقون.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 7/ 366 (1572)، "الجرح والتعديل" 8/ 249 (1133)، "الثقات" 9/ 176 - 177، "الكامل" 8/ 187 (1913)، "تهذيب الكمال" 28/ 139 (6038)، "مقدمة فتح الباري" ص 444.

(2)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: قوله: (وكان يكره هذا النعت) أي: أبوه، وأما هو فلا يكره ذلك.

ص: 656

أعرف مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها. وأحفظ سبعين ألف حديث عَلَى ظهر قلبي، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة؛ لأفليها من الأحاديث الصحيحة. وثناء الحفاظ عليه مشهور.

وقال أبو داود: تغير قبل موته بخمسة أشهر، وأنكر عليه غيره زيادته في حديث ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن ميمونة دون أصحاب الزهري: "وإن كان ذائبًا (لما)

(1)

تقربوه"

(2)

ويجوز أن يكون الخطأ من بعد إسحاق، وكذا حديث أنس روى فيه جمع التقديم بين الظهر والعصر، والذي في الصحيحين جمع التأخير.

ولد سنة إحدى وستين ومائة وقيل: سنة ست ومات في شعبان سنة ثماني وثلاثين ومائتين بنيسابور عن سبع وسبعين سنة.

فائدة: أخرج البخاري هنا لإسحاق بن راهويه. قَالَ أبو علي الجياني: وفي موضعين في الصلاة، وفي الأنبياء وشهود الملائكة، وفي باب قول الله تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25]. وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر وكسرى، وتفسير براءة والممتحنة، والذبائح، والاستئذان: حَدَّثَنَا إسحاق، ثنا يعقوب.

نسبه ابن السكن في بعض هذِه المواضع إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وجاء منسوبًا عند الأصيلي، وابن السكن في الفتيا وهو واقف عَلَى الدابة: حدثنا إسحاق بن منصور، أنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن صالح. وفي: حج الصبيان، نسبه الأصيلي أيضًا: إسحاق بن منصور.

(1)

كذا في الأصل، (ج). والذي في (ف)، و"صحيح ابن حبان": فلا.

(2)

وواه ابن حبان في "صحيحه" 4/ 234 (1392) من طريق إسحاق بن إبراهيم.

ص: 657

قَالَ الكلاباذي: إسحاق بن إبراهيم، وإسحاق بن منصور يرويان عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري

(1)

.

ثانيهما: في ألفاظه ومعانيه:

الأولى: قوله: (يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ) أما (ابن) فمنصوب قطعًا

(2)

ويجوز في معاذ النصب والرفع، واختار ابن الحاجب النصب عَلَى أنه (تابع لـ (ابن) فيصيران)

(3)

كاسم واحد مركب كأنه أضيف إلى جبل، والمنادى المضاف منصوب قطعًا، واعترضه ابن مالك فقال: الاختيار الضم؛ لأنه منادى علم ولا حاجة إلى إضمار.

الثانية: (لبيك): مشتق من لب يقال: لب بالمكان لبًا وألب إلبابًا إِذَا أقام به، وبني؛ لأن معناه إجابة بعد إجابة كما قالوا: حنانيك. أي: رحمة بعد رحمة.

قَالَ الأزهري: ومعنى لبيك: أنا مقيم عَلَى طاعتك، إقامة بعد إقامة، أصلها لبين فحذفت النون للإضافة. قَالَ الفراء: نصبت عَلَى المصدر

(4)

، أي: كقولك: حمدًا وشكرًا.

الثالثة: الرديف: الركوب خلف الدابة. قَالَ ابن سيده: ردف الرجل وأردفه وارتدفه: جعله خلفه عَلَى الدابة، ورديفك: الذي يرادفك، والجمع: رُدَفاء ورُدَافي، والرديف: الراكب خلفك، والرداف: موضع مركب الرديف

(5)

.

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 962 - 964.

(2)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: يجوز فيه الضم، ذكره ابن مالك

ومثله فاعلمه.

(3)

كذا في الأصول، والمعنى لا يستقيم، ولعل الصواب: على أنه مع ما بعده كاسم واحد. انظر: "فتح الباري" 1/ 226.

(4)

"تهذيب اللغة" 4/ 3224.

(5)

"المحكم" 10/ 27.

ص: 658

وفي "الصحاح": كل شيء تبع شيئًا فهو ردفه

(1)

. وفي "مجمع الغرائب": ردفته ركبت خلفه. وأردفته: أركبته خلفي. وفي "جامع القزاز": أنكر بعضهم الرديف، وقال: إنما هو الردف، وحكي: ردفت الرجل وأردفته إِذَا ركبت وراءه، وإذا جئت بعده.

وأرادف الملوك في الجاهلية: هم الذين كانوا يخلفون الملك كالوزراء. وعند ابن حبيب: يركب مع الملك عديله أو خلفه، وإذا قام الملك جلس مكانه، وإذا سقي الملك سقي بعده. وقد جمع ابن منده أرداف النبي صلى الله عليه وسلم فبلغوا نيفًا وثلاثين رديفًا.

الرابعة: إن قُلْت: أخبر الشارع صلى الله عليه وسلم أنه إِذَا قَالَ ذَلِكَ حرم عَلَى النار، ومظالم العباد لا تسقط إجماعًا، وأيضًا من خلط، ففعل المحرم وضيع ما وجب، تحت المشيئة، فكيف يجمع بين ذلك؟

قُلْتُ: بوجوه:

أحدها: أن الأول قبل نزول الفرائض والأمر والنهي. قاله سعيد بن المسيب وجماعة.

ثانيها: أن ذَلِكَ لمن قالها وأدى حقها وفرائضها، قاله الحسن.

ثالثها: أن ذَلِكَ لمن قالها عند الندم والتوبة ومات عليها وهو قول البخاري، كما سيأتي في كتاب اللباس إن شاء الله تعالى.

رابعها: أن المراد حرم عليه الخلود؛ لقوله: "أَخْرِجُوا مِن النار مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّة خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ"

(2)

وهذا فيه قوة.

(1)

"الصحاح" 4/ 1363.

(2)

سبق برقم (22) كتاب: الإيمان، باب: تفاضل أهل الإيمان في الأعمال.

وسيأتي برقم (6560) كتاب: الرقاق، باب: صفة الجنة والنار.

ص: 659

الخامسة: قوله: "إِذًا يَتَكِلُوا" فيه تخصيص قوم بالعلم إِذَا أمن منهم الاتكال والترخص دون من لم يأمن منهم، وهو معنى قول البخاري: كراهية أن لا يفهموا أي: فيعملوا بالإطلاق ويتركوا التقييد.

السادسة: قوله: (فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمَا) هو بفتح التاء المثناة فوق، ثمَّ همزة مفتوحة أيضًا، ثمَّ مثلثة أي: فعل فعلًا خرج به عن الإثم، وقد سلف الكلام عَلَى هذِه (المادة)

(1)

فيما مضى عند قوله: (والتحنث: التعبد) وتأثمه: أنه كان يحفظ علمًا، فخاف فواته بموته، فخشي أن يكون ممن كتمه.

وأما حديث أنس فسلف التعريف برواته غير معتمر ووالده.

أما مُعتمر (ع) فهو ابن سليمان بن طرخان التيمي البصري لم يكن من بني تيم، بل كان نازلًا فيهم، وهو مولى بني مرة، روى عن أبيه، ومنصور وغيرهما. وعنه ابن مهدي وغيره، وكان ثقة صدوقًا رأسًا في العلم والعبادة كأبيه. ولد سنة ست ومائة، ومات سنة سبع وثمانين ومائة ويقال: كان أكبر من سفيان بن عيينة بسنة

(2)

.

وأما والده فهو أبو المعتمر سليمان (ع) التيمي، نزل فيهم بالبصرة،

لما أخرج لأجل الكلام في القدر، وكان من السادة، ومناقبه جمة، سمع

(1)

في (ج): المسألة.

(2)

معتمر بن سليمان قيل: إنه كان يلقب بالطفيل. قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقة. قال أبو حاتم: ثقة صدوق، وقال عمرو بن علي، عن معاذ بن معاذ: سمعت مرة بن خالد يقول: ما معتمر عندنا دون سليمان التيمي.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 290، "التاريخ الكبير" 8/ 49 (2110)، "معرفة الثقات" 2/ 286 (1755)، "الجرح والتعديل" 8/ 402 (1845)، "تهذيب الكمال" 28/ 250 (6080).

ص: 660

أنسًا وغيره. وعنه الأنصاري وغيره.

مات سنة ثلاث وأربعين ومائة، مكث أربعين سنة يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويصلي الصبح بوضوء عشاء الآخرة، وكان مائلًا إلى علي، وما روى عن الحسن، وابن سيرين فهو صالح إِذَا قَالَ:(سمعت أو قُلْتُ)

(1)

(2)

.

وأما فقهه فسلف في الحديث قبله.

(1)

ورد بهامش الأصل ما نصه: إذا قال: سمعت، أو حدثنا، أو أخبرنا.

(2)

سليمان التيمي أبو المعتمر. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ثقة، وهو في أبي عثمان أحب إلي من عاصم الأحول.

وقال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين، والنسائي: ثقة. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: تابعي ثقة، وكان من خيار أهل البصرة.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 252، "التاريخ الكبير" 4/ 20 (1828)، "معرفة الثقات" 1/ 430 (670)، "الجرح والتعديل" 4/ 124 (539)، "تهذيب الكمال" 12/ 5 (2531).

ص: 661

‌50 - باب الحَيَاءِ فِي العِلْمِ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَتَعَلَّمُ العِلْمَ مُسْتَحْي وَلَا مُسْتَكْبِرٌ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ

(1)

.

130 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ ابنةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الَحقِّ، فَهَلْ عَلَى الَمرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا رَأَتِ المَاءَ". فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ -تَعْنِي وَجْهَهَا- وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَحْتَلِمُ الَمرْأَةُ؟ قَالَ:"نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا". [282، 3328، 6091، 6121 - مسلم 313 - فتح: 1/ 228]

131 -

حَدَّثَنَا اِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِك، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَهِيَ مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ ". فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنَا بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هِيَ النَّخْلَةُ". قَالَ عَبْدُ اللهِ فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي، فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا. [انظر: 61 - مسلم: 2811 - فتح: 1/ 229]

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَام، أنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثنا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زينَبَ ابنةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ، فَهَل

(1)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: من خط المصنف في هامشه: رواه أبو داود عن صفية عنها. أهـ.

قلت: أبو داود (315)، (4100).

ص: 662

عَلَى المَرْأَةِ مِنْ غُسْل إِذَا احْتلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَتِ المَاءَ". فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ -تَعْنِي وَجْهَهَا- وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَحْتَلِمُ المَرْأَةُ؟ قَالَ:"نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا".

حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً .. ". وذكر الحديث كما سلف.

أراد البخاري رحمه الله بهذا الباب بيان أن الحياء المانع من تحصيل العلم مذموم، ولذلك بدأ بقول مجاهد وعائشة، والحياء الواقع عَلَى وجه التوقير والإجلال مطلوب حسن كما فعلت أم سلمة حين غطت وجهها، وقد أسلفنا في باب أمور الإيمان حقيقة الحياء، وأن المذموم منه ليس بحياء حقيقة، وإنما هو عجز وخور.

وحديث أم سلمة سلف التعريف برواته خلا زينب بنت أم سلمة.

وأبوها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم كان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب، ولدتها أمها بأرض الحبشة وقدمت بها، وهي أخت عمر وسلمة ودرة. روى لها البخاري حديثًا، ومسلم آخر، وقتل لها يوم الحرة ابنان فاسترجعت، ماتت سنة ثلاث وسبعين

(1)

.

(1)

انظر: ترجمتها في "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 6/ 3337 (3884)، و"الاستيعاب" 4/ 410 (3395)، "أسد الغابة" 7/ 131 (6958)، "الإصابة" 4/ 317 (484).

ص: 663

ثمَّ الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري هنا، وفي الطهارة

(1)

، والأدب

(2)

، وخلق آدم

(3)

، كما (ستعلمه)

(4)

إن شاء الله، وأخرجه مسلم

(5)

والأربعة في الطهارة

(6)

.

ثانيها:

معنى قولها: (إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ) أي: لا يأمر بالحياء فيه، ولا يمنع من ذكره فتعتذر به، فعبر بالحياء عن الأمر به، من باب إطلاق اسم التعلق عَلَى المتعلق؛ لأن الله لا يوصف بالاستحياء عَلَى حد ما يوصف به المخلوق؛ لأنه منهم تغير وانكسار بتغير الأحوال، تعالى الله عن ذَلِكَ

(7)

.

(1)

سيأتي برقم (282) كتاب: الغسل، باب: إذا احتلمت المرأة.

(2)

سيأتي برقم (6091) كتاب: الأدب، باب: التبسم والضحك، وبرقم (6121) باب: ما لا يستحيى من الحق للتفقه في الدين.

(3)

سيأتي برقم (3328) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم وذريته.

(4)

كذا في الأصل، وفي (ج): ستعرفه.

(5)

مسلم برقم (313/ 32) كتاب: الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها.

(6)

أبو داود معلقًا بعد حديث (237)، الترمذي (122)، النسائي 1/ 114، ابن ماجه (600).

(7)

قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في تعليقه على فتح الباري (1/ 389): والصواب: أنه لا حاجة إلى التأويل مطلقًا، فإن الله يوصف بالحياء الذي يليق به ولا يشابه فيه خلقه كسائر صفاته، وقد ورد وصفه بذلك في نصوص كثيرة؛ فوجب إثباته له على الوجه الذي يليق به، وهذا قول أهل السنة والجماعة في جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة، وهو طريق النجاة فتنبه واحذر، والله أعلم.

ص: 664

ثالثها:

قدمت أم سليم هذا القول بسطًا لعذرها في ذكر ما تستحيي النساء من ذكره.

رابعها:

معنى: "تَرِبَتْ" افتقرت. يقال: ترب الرجل إِذَا افتقر، وأترب إِذَا استغنى، هذا هو المشهور، وهذِه الكلمة وشبهها تجري عَلَى ألسنة العرب من غير قصد الدعاء، وعليه يحمل كل ما جاء من الأحاديث من هذا وشبهه.

ومنه قوله في حديث خزيمة: "أَنْعِمْ صباحًا تربت يداك"

(1)

فأراد الدعاء لَهُ ولم يرد الدعاء عليه. والعرب تقول: لا أم لك، ولا أب لك، يريدون: لله درك، فتستعمل هذِه الألفاظ عند الإنكار عَلَى الشيء أو التأنيب أو الإعجاب أو الاستعظام، دون إرادة معناها الأصلي.

خامسها:

أخرج مسلم -منفردًا به- من حديث أنس أن أم سليم سألت ذَلِكَ بحضرة عائشة، وأن عائشة أنكرت ذَلِكَ عليها

(2)

، فيحتمل كما قَالَ القاضي أن عائشة وأم سلمة كانتا أنكرتا عليها، فأجاب صلى الله عليه وسلم كل واحدة بما أجاب، وإن كان أهل الحديث يقولون: إن الصحيح هنا أم سلمة لا عائشة

(3)

.

(1)

رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 16/ 373.

(2)

مسلم (310/ 29) كتاب: الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني.

(3)

"إكمال المعلم" 2/ 150.

ص: 665

سادسها:

إنما قالت أم سلمة ما قالت؛ لأنهن يستحيين منه؛ لأن خروجه منهن يدل عَلَى قوة شهوتهن، أو لأنه يقل فيهن، ولهذا جاء في "صحيح مسلم": فضحت النساء

(1)

، أي: كشفت من أسرارهن ما يكنه من الحاجة إلى الرجال، ورؤية الاحتلام.

سابعها:

الشِّبه، والشَّبه واحد يريد: شبه الابن لأحد أبويه كما جاء مبينًا في "الصحيح": "إِذَا علا ماؤها ماءه؛ آنَّث -أي: أشبه أخواله- وإذا عكس أذكر"، أي: أشبه أعمامه

(2)

.

ثامنها:

استدل به بعضهم عَلَى رد من يقول: إن ماء الرجل يخالط دم المرأة، وإن ماءه كالأنفحة ودمها كاللبن الحليب.

تاسعها:

أن المرأة تحتلم ويعرف منيها بالتدفق والتلذذ والرائحة -كمني الرجل- وأنكر جماعة تدفقه، والمسألة مبسوطة في الفروع، وأوضحتها في شروحي.

عاشرها:

أن الحياء لا يمنع من طلب الحق.

(1)

رواه مسلم (313) كتاب: الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها.

(2)

مسلم (314/ 33) كتاب: الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني من حديث عائشة بنحوه.

ص: 666

فائدة: جاء عن جماعة من الصحابيات أنهن سألن كسؤال أم سليم، منهن خولة

(1)

بنت حكيم، أخرجه ابن ماجه

(2)

وفي إسناده علي بن زيد بن جُدعان

(3)

، وبسرة ذكره ابن أبي شيبة

(4)

، وسهلة بنت سهيل رواه الطبراني في "الأوسط" وفي إسناده ابن لهيعة

(5)

.

وأما حديث ابن عمر فسلف الكلام عليه في باب: قول المحدّث: ثنا وأنبا

(6)

.

وفيه: حرص الرجل عَلَى ظهور ابنه في العلم عَلَى من هو أكبر سنًّا منه، فإن في آخره (قَالَ عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا).

(1)

ورد بهامش (ج) ما نصه: حديث خولة أخرجه النسائي بسند جيد، فعزوه إليه أولى. اهـ.

قلت: أخرجه النسائي في "الكبرى" 1/ 209 (204).

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: في أصل سماعنا .... ولا غيره، ولأبي وخلف .... أجمع مستحضرًا هذِه .... فليحرر. اللهم إلا أن .... بعض النسخ دون بعض عزاه إلى ابن ماجه

أيضًا المزي في

في "مسند خولة".

(3)

"سنن ابن ماجه"(602) كتاب: الطهارة وسننها، باب: في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل،

وقال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" ص 113 (208) وإسناد طريق ابن ماجه ضعيف لضعف علي بن زيد.

وقال الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه": حسن.

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة" 1/ 80 (881).

(5)

"المعجم الأوسط" للطبراني 8/ 276 (8625)، وقال: لم يرو هذا الحديث عن ابن هبيرة إلا ابن لهيعة.

ورواه في "الكبير" 24/ 292 (743). وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 267، وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف.

(6)

حديث رقم (61).

ص: 667

وإنما تمنى ذَلِكَ رجاء أن يسر النبي صلى الله عليه وسلم بإجابته، فيدعو له، وقد كان عمر بن الخطاب يسأل ابن عباس وهو صغير مع شيوخ الصحابة.

وذكر ابن سلام أن الحطيئة أتى مجلس عمر، فرأى ابن عباس قَدْ نزع الناس بلسانه فقال: من هذا الذي نزل عن القوم في سنه ومدته وتقدمهم في قوله وحكمته.

وإن كبير القوم لا علم عنده صغير

إذا التفت عليه المحافل

وفيه: أن الابن العالم الموفق أفضل مكاسب الدنيا؛ لقوله: (لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا).

ص: 668

‌51 - باب مَنِ اسْتَحْيَا فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالسُّؤَالِ

132 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْن دَاوُدَ، عَنِ الأعمَشِ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدٍ بنِ الَحنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ الِمقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَألَهُ، فَقَالَ:"فِيهِ الوُضوءُ". [178، 269 - مسلم: 303 - فتح: 1/ 230]

حدثنا مُسَدَّدٌ، ثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ المِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:"فِيهِ الوُضُوءُ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الطهارة كما سيأتي

(1)

، ورواه مسلم في الطهارة عن أبي بكر، عن وكيع وغيره. وعن يحيى بن حبيب، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن الأعمش به

(2)

.

ثانيها: في التعريف برواته غير من سلف.

أما منذر (ع) فهو أبو يعلى منذر بن يعلى الثوري الكوفي الثقة، عن ابن الحنفية وغيره. وعنه فطر وغيره. قَالَ منذر: لزمت محمد بن الحنفية حتَّى قَالَ بعض ولده: لقد غلبنا هذا النبطي عَلَى أبينا

(3)

.

وأما عبد الله (خ، 4) بن داود فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن

(1)

سيأتي برقم (178) كتاب: الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين.

(2)

مسلم (303) كتاب: الحيض، باب: المذي.

(3)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 310، "التاريخ الكبير" 7/ 357 (1540)، "معرفة الثقات" 2/ 298 (1791)، "الجرح والتعديل" 8/ 242 (1093)، "الثقات" 7/ 518، "تهذيب الكمال" 28/ 515 (6187).

ص: 669

داود بن عامر بن الربيع الخريبي البصري الهمداني الشعبي، أصله كوفي نزل البصرة بالخريبة وهي محلة منها. روى عن هشام وغيره. وعنه بندار وغيره. ثقة حجة ناسك. قَالَ: ما كذبت كذبة قط إلا مرة في صغري قَالَ لي أبي: ذهبت إلى الكتاب؟ قُلْتُ: نعم، ولم أكن ذهبت. قَالَ أبو حاتم: وكان يميل إلى الرأي، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين

(1)

.

فائدة:

ليس في البخاري والأربعة عبد الله بن داود غير هذا، نعم، في الترمذي آخر واسطي مختلف في ثقته

(2)

.

ومحمد ابن الحنفية: أبوه علي، والحنفية أمه، يروي عن أبيه، وعثمان، وغيرهما. وعنه بنوه وعمرو بن دينار وغيره. مات سنة ثمانين عَلَى المشهور، ابن سبع وستين سنة

(3)

.

(1)

"الجرح والتعديل" 5/ 47 (221).

وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 7/ 295، "التاريخ الكبير" 5/ 82 (223)، "تهذيب الكمال" 14/ 458 (3248).

(2)

عبد الة بن داود الواسطي أبو محمد التمار. قال البخاري: فيه نظر.

وقال أبو حاتم: ليس بقوي حدَّث بحديث منكر، عن حنظلة بن أبي سفيان، وفي حديثه مناكير.

وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم. وقال ابن حجر في "التقريب": ضعيف من التاسعة.

وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 5/ 82 (226). "الجرح والتعديل" 5/ 48 (222)، "المجروحين" 2/ 134، "تهذيب الكمال" 14/ 467 (3249)"ميزان الاعتدال" 3/ 129 (4294)، "تقريب التهذيب" ص 302 (3298).

(3)

محمد بن علي بن أبي طالب القرشي.

قال العجلي: تابعي ثقة كان رجلًا صالحًا. قال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد:

لا نعلم أحدًا أسند عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ولا أصح مما أسند محمد =

ص: 670

ثالثها: في ألفاظه:

قوله: (كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً) هو: بتشديد الذال المعجمة والمد، فعَّال من المذي أي: كثير المذي، وهو بإسكان الذال عَلَى الأفصح، وفيه لغة ثانية: كسر الذال مع تشديد الياء، وثالثة: كسرها مع تخفيف الياء، ويقال: أمذى ومذَّى ومذَى بتشديد الذال وتخفيفها، وهذِه الثلاث في المني والودي.

والمذي: ماء أبيض رقيق يخرج بلا شهوة عند الشهوة، وهو في النساء أغلب منه في الرجال، وفي المثل: كل ذكر يمذي، وكل أنثى تقذي. أي: تلقي بياضًا.

رابعها: في فوائده:

الأولى: إيجاب الوضوء منه وهو إجماع

(1)

، وللبخاري في الطهارة:"توضأ واغسل ذكرك"

(2)

.

ولمسلم: "توضأ وانضِح فرجك"

(3)

.

والمراد: غسل ما أصابه منه، واختلف عن مالك في غسل الذكر كله وهل يحتاج إلى نية أم لا؟

(4)

= ابن الحنفية.

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 5/ 91، "التاريخ الكبير" 1/ 182 (561)، "معرفة الثقات" 2/ 249 (1631)، "الجرح والتعديل" 8/ 26 (116)، "تهذيب الكمال" 26/ 147 (5484).

(1)

نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر في "الأوسط" 1/ 134، وابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 206.

(2)

سيأتي برقم (269) كتاب: الغسل، باب: غسل المذي والوضوء منه.

(3)

مسلم (303/ 19) كتاب: الحيض، باب: المذي.

(4)

"المنتقى" 1/ 87، "الذخيرة" 1/ 213.

ص: 671

الثانية: جواز الاستنابة في الاستفتاء.

الثالثة: جواز الاعتماد عَلَى الخبر المظنون مع القدرة عَلَى المقطوع لأن عليًّا بعث من يسأل مع القدرة على المشافهة، وإن كان جاء في النسائي أنه كان حاضرًا وقت السؤال إذ فيه: فقلت لرجل جالس إلى جنبي: سله. فقال: "فيه الوضوء"

(1)

.

الرابعة: عموم قضايا الأحوال، وفيه خلاف في الأصول.

الخامسة: استحباب حسن العشرة مع الأصهار، وأن الزوج ينبغي ألا يذكر ما يتعلق بالجماع والاستمتاع بحضرة أبي المرأة، وأخيها وغيرهما من أقاربها؛ لأن المذي غالبًا إنما يكون عند الملاعبة.

السادسة: خصَّ أصحاب مالك إيجاب الوضوء بما إِذَا حصل المذي عن ملاعبة؛ لأن في "الموطأ" أنه سأل عن الرجل إِذَا دنى من أهله وأمذى، ماذا يجب عليه؟

(2)

والجواب خرج عَلَى مثله في المعتاد بخلاف المستنكح، والذي به علة فإنه لا وضوء عليه. ويدل عليه استحياء علي إذ لو كان (عن)

(3)

مرض أو سلس لم يستحي منه

(4)

.

وعمم الشافعي وأبو حنيفة فأوجبا منه الوضوء عملًا بإطلاق سؤال المقداد

(5)

.

(1)

"سنن النسائي" 1/ 96.

(2)

"الموطأ" ص 50، ورواه أبو داود (207)، والنسائي 1/ 97، وابن ماجه (505)، وابن حبان 3/ 383 (1101). قال الألباني في "صحيح أبي داود" (202): حديث صحيح.

(3)

كذا في الأصل، وفي (ج): في.

(4)

انظر: "المنتقى" 1/ 88.

(5)

انظر: "شرح معاني الآثار" 1/ 45 - 48، "المبسوط" 1/ 67، "البيان" 1/ 242، "المجموع" 2/ 164.

ص: 672

وفي "سنن أبي داود" عنه قَالَ: كنت رجلًا مذاءً فجعلت أغتسل حتَّى تشقق ظهري

(1)

. وهذا دال عَلَى كثرة وقوعه منه ومعاودته.

السابعة: جاء أيضًا أنه أمر عمارًا أن يسأل

(2)

، وجاء أيضًا أنه سأل بنفسه

(3)

، فيحمل عَلَى أنه أرسلهما ثمَّ سأل بنفسه.

الثامنة: جاء في أبي داود الأمر بغسل الأنثيين أيضًا

(4)

، وعللت بالإرسال وغيره. وقال بعضهم بوجوب ذَلِكَ والجمهور عَلَى خلافه

(5)

.

وأولت هذِه الرواية عَلَى الاستظهار، وفي بعض أحوال انتشاره، ويقال: إن الماء البارد إِذَا أصاب الأنثيين رد المذي وكسره

(6)

.

(1)

أبو داود (206).

(2)

رواه النسائي 1/ 96، 97، وعبد الرزاق في "مصنفه" 1/ 155 (597)، وأحمد 4/ 320، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار" 1/ 473 (1413).

(3)

رواه أبو داود (206)، والترمذي (114) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد 1/ 87، 107، 109، 110، 111، 121، 125، وابن خزيمة 1/ 14 (20)، وابن حبان 3/ 385 (1102).

(4)

أبو داود (208). قال الألباني في "صحيح أبي داود"(203): إسناده صحيح.

(5)

انظر: "الاستذكار" 3/ 14، 19، "المنتقى" 1/ 86، "البيان" 1/ 242، "المغني" 1/ 232.

(6)

وقع بهامش الأصل ما نصه: قال النووي في "شرح المهذب" عن حديث أبي داود: رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح، قال: قد أخذ به الإمام أحمد في رواية، وهو في أبي داود من حديث عبد الله بن سعد الأنصاري. اهـ.

قلت: انظر "المجموع" 2/ 164.

ص: 673

‌52 - باب ذِكْرِ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا فِى الْمَسْجِدِ

133 -

حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعٌ - مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الَخطَّابِ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي الَمسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّاْمِ مِنَ الجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". وَقَالَ ابن عُمَرَ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَيُهِلُّ أَهْلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ". وَكَانَ ابن عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ أَفْقَهْ هذِه مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [1522، 1525، 1527، 1528، 7344 - مسلم: 1182 - فتح: 1/ 230]

حدّثنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثنا اللَّيْثُ، عن نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي المَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يُهِلُّ أَهْلُ المَدِينَةِ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّاْمِ مِنَ الجُحْفَةِ، وَيُهِلُّ أَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ". وَقَالَ ابن عُمَرَ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "وَيُهِلُّ أَهْلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ". وَكَانَ ابن عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ أَفْقَهْ هذِه مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه في الحج أيضًا وقال: لم أسمع هذِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

. بدل: (أفقه)، وأخرجها مع مسلم أبو داود، والنسائي من حديث ابن عباس مرفوعًا

(2)

كما سيأتي هناك، وفي مسلم من حديث

(1)

سيأتي برقم (1528) كتاب: الحج، باب: مهل أهل نجد.

(2)

مسلم (1181/ 11) كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والعمرة، وأبو داود (1738)، والنسائي 5/ 123 - 124.

ص: 674

جابر غير مجزوم برفعه: "ومهل أهل العراق ذات عرق"

(1)

.

وفي أبي داود والترمذي من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرف العقيق

(2)

. وسيأتي في البخاري أن تحديد ذات عرق من اجتهاد عمر

(3)

.

ثانيها:

سيأتي الكلام عَلَى هذِه المواضع في الحج فإنه أليق به.

و (قرن): بسكون الراء، وغلط الجوهري في فتحها وفي نسبة أويس القرني إليها، وإنما هو منسوب إلى قبيلة

(4)

.

وأصل القرن: الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير.

ثالثها:

هذِه المواقيت الأربعة المذكورة في حديث ابن عباس، وابن عمر ثابتة بالنص والإجماع

(5)

، واختلف في ذات عرق لأهل العراق، والجمهور عَلَى أنه من اجتهاد عمر

(6)

، ولأصحابنا اضطراب في تصحيحه

(7)

كما أوضحته في كتب الفروع، وسنقف عليه إن شاء الله في موضعه.

(1)

مسلم (1183/ 18) كتاب: الحج، باب: مواقيت الحج والعمرة.

(2)

أبو داود (1740)، والترمذي (832). وقال: هذا حديث حسن، وقال الألباني في "ضعيف أبي داود" (306): ضعيف.

(3)

سيأتي برقم (1531) كتاب: الحج، باب: ذات عرق لأهل العراق.

(4)

"الصحاح" 6/ 2181، مادة:(قرن).

(5)

نقل الإجماع على ذلك ابن حزم في "مراتب الإجماع" ص 75، وابن عبد البر في "التمهيد" 15/ 140.

(6)

انظر: "التمهيد" 15/ 140 - 141، "البيان" 4/ 107 - 108، "المغنى" 5/ 56 - 58.

(7)

انظر: "المجموع" 7/ 201 - 202.

ص: 675

‌53 - باب مَنْ أَجَابَ السَّائِلَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَأَلَهُ

134 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابن أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَجُلًا سَأَلهُ: مَا يَلْبَسُ الُمحْرِمُ؟ فَقَالَ: "لَا يَلْبَسِ القَمِيصَ، وَلَا العِمَامَةَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا البُرْنُسَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ الوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الكَعْبَيْنِ". [366، 1542، 1838، 1842، 5794، 5803، 5805، 5806، 5847، 5852 - مسلم: 1177 - فتح: 1/ 231]

حَدّثَنَا آدَمُ، ثنا ابن أَبِي ذِئْبِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ؟ فَقَالَ: "لَا يَلْبَسِ القَمِيصَ، وَلَا العِمَامَةَ، وَلَا السَّرَاوِيلَ، وَلَا البُرْنُسَ، وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ الوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الكَعْبَيْنِ".

الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا الحديث أخرجه البخاري في اللباس عن عليّ (عن)

(1)

سفيان، وفي الصلاة عن عاصم بن عليّ، عن ابن أبي ذئب، وفي الحج عن أحمد بن يونس، عن إبراهيم، وأخرجه من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أيضًا

(2)

.

(1)

في الأصل، (ج): ابن والصواب ما أثبتناه.

(2)

سيأتي برقم (366) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في القميص والسراويل، وبرقم (1842) كتاب: جزاء الصيد، باب: لبس الخفين للمحرم، وبرقم (5806) كتاب: اللباس، باب: العمائم، وبرقم (5847) كتاب: اللباس، باب: الثوب المزعفر.

ص: 676

ثانيها:

الزائد عَلَى السؤال في الحديث قوله: (فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ) إلى آخره، وله تعلق به؛ فلذا ذكره عقبه.

ثالثها:

جوابه صلى الله عليه وسلم مما لا يلبس، وإن كان السؤال عما يلبس من بديع الكلام وجزله، فإن المسئول عنه غير منحصر، إذ الأصل الإباحة، وأجابه بالمنحصر الذي كان من حق السؤال أن يقع به.

وأيضًا لو أجاب بما يلبس لتوهم المفهوم، وهو أن غير المحرم لا يلبسه، فانتقل إلى ما لا يلبس لإزالة ذَلِكَ، عَلَى أن سفيان رواه مرة عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قَالَ: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يترك المحرم من الثياب؟ فقال .. الحديث، رواه أحمد في "مسنده" وأبو داود والدارقطني في "سننهما" فجاء عَلَى الأصل

(1)

.

رابعها:

الإجماع قائم عَلَى أن ما ذكر لا يلبسه المحرم

(2)

، وعداه القياسيون إلى ما رأوه في معناه، وأنه صلى الله عليه وسلم نبه بكل واحد من المذكورات عَلَى ما في معناه.

فنبه بالقميص والسراويل عَلَى كل مخيط أو مُحيط معمول عَلَى قدر البدن أو عضو منه كالجوشن والتبان وغيرهما.

ونبه بالعمائم والبرانس عَلَى كل ساتر للرأس مخيطا كان أو غيره،

(1)

"سنن أبي داود"(1823)، وأحمد 2/ 4، "سنن الدارقطني" 2/ 232 (68).

(2)

نقل الإجماع على ذلك ابن حزم في "مراتب الإجماع" ص 76، وابن عبد البر في "التمهيد" 15/ 103.

ص: 677

وبالخفاف عَلَى كل ساتر للرجل، ونبه بالزعفران والورس عَلَى كل طيب، والورس: نبت أصفر تصبغ به الثياب معروف.

خامسها:

جاء قطع الخفين لفاقد النعلين، وفي حديث ابن عباس

(1)

وجابر

(2)

لم يذكر القطع، وبه أخذ الإمام أحمد

(3)

، وخالف الثلاثة (والجمهور)

(4)

وحملوا المطلق عَلَى المقيد

(5)

، ومن الغريب إعلال

(1)

سيأتي برقم (1841) كتاب: جزاء الصيد، باب: لبس الخفين للمحرم، ورواه مسلم (1178) كتاب: الحج، باب: بيان ما يباح للمحرم بحج أو عمرة

(2)

رواه مسلم (1179) كتاب: الحج، باب: ما يباح للمحرم بحج أو عمرة

(3)

انظر: "المغني" 5/ 120 - 121، "الممتع" 2/ 350 - 351، "المبدع" 3/ 142 - 143، "كشاف القناع" 2/ 426 - 427. قال الخطابي في "معالم السنن" 2/ 152: وأنا أتعجب من أحمد في هذا، فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقَلَّتْ سنة لم تبلغه. اهـ.

قال ابن مفلح في "المبدع" 3/ 143: قال المروزي: احتججت على أبي عبد الله بحديث ابن عمر، وقلت: هو زيادة في الخبر، فقال: هذا حديث وذاك حديث. فقد اطلع رضي الله عنه على السنة، وإنما نظر نظر المتبحرين الذين أمدهم الله بعونه، مع أن خبرنا فيه زيادة حكم، وهو جواز اللبس بلا قطع لأن هذا الحكم لم يشرع بالسنة، قاله الشيخ تقي الدين. اهـ.

(4)

من (ف) وانظر قول الجمهور في: "مختصر الطحاوي" ص 69، "الهداية" 1/ 149 - 150، "عيون المجالس" 2/ 799 - 780، "المنتقى" 2/ 196، "المجموع" 7/ 287. قال ابن قدامة في "المغني" 5/ 122: والأولى قطعهما عملًا بالحديث الصحيح، وخروجًا من الخلاف وأخذًا بالاحتياط. اهـ.

(5)

قال ابن القيم رحمه الله في "تهذيب سنن أبي داود" 2/ 347 - 348:

فإن قيل: فحديث ابن عمر مقيد، وحديث ابن عباس مطلق، والحكم والسبب واحد، وفي مثل هذا يتعين حمل المطلق على المقيد، وقد أمر في حديث ابن عمر بالقطع؟

فالجواب من وجهين: =

ص: 678

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أحدهما: أن قوله في حديث ابن عمر: "وليقطعهما" قد قيل: إنه مدرج من كلام نافع. قال صاحب "المغني": كذلك روي في "أمالي أبي القاسم بن بشران" بإسناد صحيح: أن نافعًا قال بعد روايته للحديث: "وليقطع الخفين أسفل من الكعبين"، والإدراج فيه محتمل؛ لأن الجملة الثانية يستقل الكلام الأول بدونها فالإدراج فيه ممكن، فإذا جاء مصرحًا به أن نافعًا قاله زال الإشكال.

ويدل على صحة هذا أن ابن عمر كان يفتي بقطعهما للنساء، فأخبرته صفية بنت أبي عبيد، عن عاثشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما، قالت صفية: فلما أخبرته بهذا رجع.

الجواب الثاني: أن الأمر بالقطع كان بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، فناداه رجل فقال: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فأجابه بذلك، وفيه الأمر بالقطع، وحديث ابن عباس وجابر بعده، وعمرو بن دينار روى الحديثين معًا، ثم قال: انظروا أيهما كان قبل. وهذا يدل على أنهم علموا نسخ الأمر بحديث ابن عباس.

وقال الدارقطني: قال أبو بكر النيسابوري: حديث ابن عمر قبل؛ لأنه قال: نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد. فذكره، وابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات.

فإن قيل: حديث ابن عباس رواه أيوب والثوري وابن عيينة وابن زيد وابن جريج، وهشيم، كلهم عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، ولم يقل أحد منهم "بعرفات" غير شعبة، ورواية الجماعة أولى من رواية الواحد.

قيل: هذا عبث، فإن هذِه اللفظة متفق عليها في الصحيحين، وناهيك برواية شعبة لها، وشعبة حفظها وغيره لم ينفها، بل هي في حكم جملة أخرى في الحديث مستقلة، وليست تتضمن مخالفة للآخرين، ومثل هذا يقبل ولا يرد؛ ولهذا رواها الشيخان.

وقد قال علي رضي الله عنه: قطع الخفين فساد، يلبسهما كما هما. وهذا مقتضى القياس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين السراويل وبين الخف في لبس كل منهما عند عدم الإزار، والنعل، ولم يأمر بفتق السراويل لا في حديث ابن عمر ولا في حديث ابن عباس ولا غيرهما؛ ولهذا كان مذهب الأكثرين أنه يلبس السراويل بلا فتق عند عدم الإزار فكذلك الخف يلبس ولا يقطع، ولا فرق بينهما. وأبو حنيفة طرد القياس =

ص: 679

ابن الجوزي حديث ابن عمر هذا بالوقف

(1)

، وصاحب "المنتقى" وغيره بالنسخ

(2)

، وهو ضعيف جدًا، وسيأتي بسط الكلام عَلَى هذا الحديث في بابه إن شاء الله وقدره

(3)

.

= وقال: يفتق السراويل، حتى يصير كالإزار.

والجمهور قالوا: هذا خلاف النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السراويل لمن لم يجد الإزار"، وإذا فتق لم يبق سراويل، ومن اشترط قطع الخف خالف القياس مع مخالفته النص المطلق بالجواز.

ولا يسلم من مخالفة النص والقياس إلا من جوز لبسهما بلا قطع، أما القياس فظاهر، وأما النص فما تقدم تقريره. اهـ.

(1)

"التحقيق" 5/ 340.

(2)

"المنتقى من أخبار المصطفى" لمجد الدين ابن تيمية 2/ 241.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: آخر الجزء الرابع من الجزء الثاني من تجزئة المصنف.

ص: 680