الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
44 - باب يَقْبِضُ الله الأَرْضَ
رَوَاهُ نَافِعٌ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 7412]
6519 -
حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الُمسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: يَقْبضُ اللهُ الأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ". [انظر: 4812 - مسلم: 2787 - فتح: 11/ 372].
6520 -
حَدَّثَنَاْ يَحْيَي بْنُ بُكَيْر، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عن خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ القِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ، نُزُلًا لأَهْلِ الجَنَّةِ". فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ فَقَالَ: بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ يَا أَبَا القَاسِمِ، ألَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟. قَالَ:"بَلَى". قَالَ: تَكُونُ الأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم. فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا، ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. ثمَّ قَالَ: ألَا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ؟ قَالَ: إِدَامُهُمْ بَالَامٌ وَنُونٌ. قَالُوا: وَمَا هذا؟ قَالَ: ثَوْرٌ وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ ألفًا. [مسلم: 2792 - فتح: 11/ 372].
6521 -
حدَّثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقول: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كقُرْصَةِ نَقِيٍّ". قَالَ سَهْلٌ -أَوْ غَيْرُهُ-: لَيسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لأحدٍ. [مسلم: 2790 - فتح: 11/ 372].
هذا التعليق أخرجه مسلم في "صحيحه"
(1)
بلفظ: "يطوي الله
(1)
مسلم (2788).
السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ".
وفي حديث عبيد الله بن مقسم: أنه نظر إلى عبد الله بن عمر يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأخذ سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها، (فيقول: أنا الملك")
(1)
حَتَّى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل حَتَّى أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
. ثم ساق البخاري حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ".
وحديث أَبِيِ سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ القِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الجَبَّارُ بِيَده"
…
الحديث.
وحديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ". قَالَ سَهْل -أَوْ غَيْرُهُ-: لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لأَحَدٍ.
الشرح:
معنى يقبض: يجمع، والخبزة: الطُلْمَةُ، وهي عجين يوضع في الحفرة بعد إيقاد النار فيها.
قال الجوهري: والناس يسمون الخبزة: الملة، وإنما الملة: الحفرة نفسها، والتي تمل فيها هي الطُلْمَةُ، والخبزة، والمليل
(3)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
مسلم (2788).
(3)
"الصحاح" 5/ 1820 - 1821، 5/ 1976.
وقوله: ("كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر") يريد: خبزة الملة التي يصنعها في السفر؛ فإنها لا ترحى كالرقاقة، وإنما تقلب على الأيدي حَتَّى تستوي، قال ابن التين: كذا فسره الخطابي (1)، وروينا السُفر بضم السين على أنه جمع سفرة، قال الجوهري: السفرة بالضم: طعام يتخذه المسافر، ومنه سميت السفرة (2).
وقوله: ("يتكفؤها") أي: يقلبها، ويميلها من كفأت الإناء: قلبته، ويقال أيضًا: اكتفئت الإناء مثل كفأته، وقال الداودي: يصلحها بقوته لا يوصف تعالى بمماسة.
وقوله: ("نزلًا لأهل الجنة"): المنزل ما يعد للضيف من الطعام والشراب، يقال: نزل، ونزل بسكون الزاي وضمها، وقد قرئ بهما، وخط نزيل: مجتمع، وقيل النزل: الثواب، وقيل: الرزق، وقيل في قوله تعالى:{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا} [الصافات: 62]، أنه الريع والفضل.
يقال: أقمت للقوم نزلهم أي: ما يصلح أن ينزلوا عليه من الغذاء. وقال الأخفش في قوله تعالى: {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107] هو من نزول الناس بعضهم على بعض يقال: ما وجدنا عندكم نزلًا، وقيل: النزل ما يقام للضيف وأهل العسكر.
قال الداودي: ومعنى ذَلِكَ: إنما يأكل منها في المحشر من يصير إلى الجنة لثوابهم يأكلون منها فيها.
وقوله: (فضحك حَتَّى بدت نواجذه). قال الأصمعي: هي الأضراس، وقال غيره: هي المضاحك، وقال أبو العباس: هي الأنياب؛ لأن ضحكه عليه السلام كان تبسمًا، وقال ابن فارس: الناجذ:
(1)"أعلام الحديث" 3/ 2267.
(2)
"الصحاح" 2/ 686.
السنن بين الناب والضرس
(1)
، وقاله الداودي. وفي "الصحاح" وغيره: أنه أحد الأضراس، وللإنسان أربعة نواجذ في أقصى الأسنان بعد الأرحاء يقال: ضحك حَتَّى بدت نواجذه: إذا استغرب فيه
(2)
.
وقوله: (ألا أخبرك بإدامهم)، الإدام: ما يؤتدم به، يقال: أدم الخبز باللحم يأدمه بالكسر، وقوله (إدامهم بالام ونون) قال الخطابي: كذا رووه لنا بالباء المعجمة بواحدة. وكذا رويناه، قال: وتأملت النسخ المسموعة من أبي عبد الله من طريق حماد بن شاكر، وإبراهيم بن معقل والفربري، فاتفقت على نحو واحد بالام والنون، فأما النون فالحوت، وأما بالام فشيء مبهم، وقد دل الجواب من اليهودي على أنه اسم للثور، وهو ما لم ينتظم، ولا يصح أن يكون على التفرقة اسمًا لشيء، فيكون اليهودي أراد أن يعمي الاسم فقطع الهجاء، وقدم أحد الحرفين فقال: يالام، وإنما هو في حق الترتيب لازم هجاء، لأى على وزن لغى أي: ثور، يقال للثور الوحشي: لأي، وجمعه: آلاء، فصحف فيه الرواة، فقالوا: ياللام، وإنما هو بالام؛ فكتبوه بالهجاء المضاعف فأشكل واستبهم كما ترى، وهذا أقرب ما يقع لي فيه، إلا أن يكون ذَلِكَ بغير لسان العرب، فإن المخبر به يهودي، فلا يبعد أن يكون إنما عبر عنه بلسانه، ويكون ذَلِكَ في لسانهم يلا، وأكثر العبرانية فيما يقوله -أهل المعرفة بها- مقلوب على لسان العرب بتقديم الحروف وتأخيرها، وقد قيل: إن العبراني هو العرباني، فقدموا الباء، وأخروا الراء
(3)
.
(1)
"معجم مقاييس اللغة" ص 976.
(2)
"الصحاح" 2/ 571.
(3)
انتهى من "أعلام الحديث" 3/ 2266 - 2267.
وقوله: (يأكل من زائدة كبدها سبعون ألفًا). زائدة الكبد: هي القطعة الصغيرة كالإصبع التي تكون في طرف الكبد.
قال الداودي: يعني أن ذَلِكَ أول ما يأكل أهل الجنة، يلعب الثور والحوت بين أيديهم، فيذكي الثور الحوت بقرنه، فيأكلون منه، ثم يعيده الله تعالى فيلتقيان قد ذكى الحوت الثور بذنبه؛ فيأكلون منه، ثم كذلك ما شاء الله، وفيه ترشيح لحديث:"سيد إدام الدنيا، والآخرة اللحم" وقال كعب فيما ذكره ابن المبارك: إن الله يقول لأهل الجنة إذا دخولها: إن لكل ضيف جزورًا وإني أجزرتكم اليوم حوتًا، وثورًا فيجزر لأهل الجنة
(1)
.
فصل:
وقوله: ("عفراء كقرصة نقيٍّ") قال الداودي: عفراء يعني: شدة البياض، وكذا قال ابن فارس: شاة عفراء، أي خالصة البياض
(2)
.
وقال الخطابي: العفرة: البياض ليس بالناصع
(3)
. وقال الجوهري نحوه، قال: وشاة عفراء يعلو بياضها حمرة
(4)
، والقرصة والقرص: من الخبز. والنقي: الحواري، يعني: من القش والنخالة.
وقوله: ("ليس فيها معلم لأحد"). يريد أن الأرض مستوية ليس فيها ما يستر البصر. وقال الداودي: أي لا يحوز أحد منها شيئًا يكون له دون غيره، إنما لكل واحد منهم ما أدرك.
(1)
"الزهد"(432).
(2)
"مجمل اللغة" 3/ 616.
(3)
"أعلام الحديث" 3/ 2268.
(4)
"الصحاح" 2/ 752.
وقال الجوهري: المعلم: الأثر الذي يستدل به على الطريق، أي: كلها سواء
(1)
.
فصل:
أحاديث الباب دالة على أن الرب جل جلاله يفني جميع خلقه أجمع، كما سلف في حديث أبي هريرة وغيره، وقيل: إن المنادي ينادي بعد حشر الخلق على أرض بيضاء مثل الفضة، لم يعص الله عليها: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه العباد: لله الواحد القهار. رواه أبو وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قال القرطبي: وليس هو مما يؤخذ بالقياس ولا بالتأويل، والقول الأول أظهر؛ لأن المقصود إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوى المدعين، وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكه، وكل جبار ومتكبر، وانقطعت نسبتهم ودعاويهم، وهذا ظاهر، وهو قول الحسن، ومحمد بن كعب، وهو معنى قوله:"أنا الملك أين ملوك الأرض" وعند قوله: لمن الملك اليوم هو انقطاع زمن الدنيا، وبعده يكون البعث والنشور والحشر
(2)
.
فصل:
فإن قلت: فما تأويل اليد عندكم، وحقيقتها في الجارحة المعلومة عندنا، وتلك التي يكون القبض والطي بها؟ فالجواب: أن لفظ الشمال أشد إشكالًا، وذلك في الإطلاق على الله محال، ثم اعلم أن لليد في كلام العرب معان خمسة: القوة، ومنه:{ذَا الْأَيْدِ} [ص: 17]، والملك، ومنه:
(1)
"الصحاح" 5/ 1991.
(2)
"التذكرة" ص 194 - 195.
{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ} [آل عمران: 73]، والنعمة، تقول: كم يد لك عند فلان. أي: كم من نعمة أسديتها إليه. والصلة، ومنه:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71] أي: مما عملنا نحن، وقال تعالى:{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] أي: له النكاح. والجارحة، ومنه:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44]. قلت: ولليد معان أخر: الذل، ومنه:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29]، قال الهروي: أي عن ذل واعتراف أن دين الله عال على دينهم، وقوله:{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، قيل: في الوفاء، وقيل: في الثواب. وفي الحديث: "هذِه يدي لك" أي استسلمت وانقدت لك. وقد يقال ذَلِكَ للغائب. واليد: الاستسلام.
قال الشاعر:
أطاع يدًا بالقول فهو ذلول.
أي: انقاد واستسلم. واليد: القدرة، ومنه الآية السالفة، والسلطان، والسخاء، والحفظ والوقاية، ومنه الحديث:"يد الله على الفسطاط"(1)، والطاعة، والطاقة، والجماعة، والأكل، والندم. وفي الحديث: أخذتهم يد البحر. يريد: طرف الساحل، ويقال للقوم إذا تفرقوا وتمزقوا في الآفاق: صاروا أيدي سبا. وفي "المحكم": يد القوس: أعلاها. وقال أبو حنيفة: السَّيَة اليمنى، يرويه عن أبي (زياد)(2) الكلابي، ويد السيف: مقبضه، ويد الرحى: العود الذي يقبض عليه الطاحن (3)، ويد الطائر: جناحه، وقالوا: لا آتيه يد الدهر، أي: الدهر، هذا قول أبي عبيد. وقال ابن الأعرابي: معناه:
(1) انظر: "كشف الخفاء"(899).
(2)
في الأصل: (زبد).
(3)
"المحكم" 10/ 76.
لا آتيه الدهر كله، ولقيته أول ذات يدي، أي: أول شيء. وحكى اللحياني: أول ذات يدي، فإني أحمد الله، وفي "المغيث": وفي الحديث: "اجعل الفساق يدًا يدًا، ورجلًا رجلاً" أي: فرق بينهما في الهجرة (1). واتبعت (الغنم)(2) باليدين، أي: بيمينين مختلفين، بعضها بيمين، وبعضها بيمين آخر، ويد الثوب: ما فضل منه إذا تغطيت به والتحفت.
وعند القزاز: وأعطاه عن ظهر يد، أي ابتداءً لا عن بيع، ولا عن مكافأة، ويد الشيء: أمامه، ويقال لمن أتى شيئًا: قد ألقى يده في كذا، وهذا عيش يدٍ، أي: واسع.
وفي "المغرب": بايعته يدًا بيدٍ، أي: بالنقد. فهذِه معان شتى لها، واليد هنا: القدرة وإحاطته بجميع مخلوقاته، يقال: ما في قبضة الله، يريدون: في ملكه وقدرته.
فصل:
قد سلف معنى القبض أنه الجمع، وكذا الطي، وقد يكون معناها: إفناء الشيء وإذهابه بقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67] يحتمل أن يكون المراد به: والأرض جميعًا ذاهبة فانية يوم القيامة، وقوله:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، ليس يريد به طيًّا بعلاج وانتصاب، وإنما المراد بذلك الذهاب والفناء. يقال: قد انطوى عنا ما كنا فيه، وجاءنا غيره، وانطوى عنا الدهر بمعنى الفناء والذهاب.
(1)"المجموع المغيث" 3/ 527.
(2)
من (ص 2).
فإن قلت: فقد جاء في الحديث: "يقبض أصابعه ويبسطها"
(1)
. وهذِه صفة الجارحة.
فالجواب:
أن هذا مذهب المجسمة من اليهود والحشوية، تعالى الله عن ذَلِكَ، وإنما المعنى حكايته الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقبض أصابعه ويبسطها. وليس اليد في الصفات بمعنى الجارحة حَتَّى يتوهم بثبوتها ثبوت الأصابع، فدل على أنه عليه السلام هو الذي يقبض أصابعه ويبسطها. وذكر الأصابع لم يوجد في شيء من الكتاب والسنة المقطوع بصحتها.
فإن قلت: قد ورد ذكر الإصبع في غير ما حديث كحديث الصحيحين، أنه عليه السلام أتاه رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم، أبلغك أن الله تعالى يحمل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، والخلائق على إصبع؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى بدت نواجذه فنزل:{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]
(2)
.
وحديث الصحيحين من طريق عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفها حيث يشاء" ثم قال عليه السلام: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك"
(3)
ومثله كثير.
فالجواب:
أما إطلاق الجارحة هنا، فمحال تقدس الله عن ذَلِكَ، وهو هنا
(1)
رواه ابن حبان 16/ 316 (7324).
(2)
سلف برقم (4811)، ورواه مسلم (2785).
(3)
قلت: بل هو من أفراد مسلم، رواه برقم (2654)!
بمعنى القدرة على الشيء ويسر تقليبه، وهو كثير في كلامهم
(1)
.
(1)
هذا الكلام مخالف لمذهب السلف -كما سبق بيان ذلك- حيث إن مذهبهم الإيمان بصفات الله، من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل؛ ولكن يمرونها كما جاءت، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده، وأن يداه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ جهم بن صفوان بعد انقراض عصر الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه بشر بن غياث، ومن سلك سبيلهم، وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا صلى الله عليه وسلم كل شيء، ثم يترك الكتاب المنزل عليه، وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وإن اعتقاد ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك، ولا يوضحه.
وقال في موضع آخر: وقد تواتر مجيء اليد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالمفهوم من هذا الكلام أن لله تعالى يدين مختصتين به ذاتيتين له كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق آدم بيديه دون الملائكة وإبليس. "مجموع الفتاوى" 6/ 363.
وقال رحمه الله: فقوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد.
ولا يجوز أن يراد به النعمة؛ لأن نعم الله لا تحصى، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية، ولا يجوز أن يكون لما خلقت أنا؛ لا أنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفعل.
أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل، وعدى الفعل إلى اليد بحرف الباء، كقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإنه نص في أنه فعل الفعل بيديه، ولهذا لا يجوز لمن تكلم أو مشى أن يقال: فعلت هذا بيديك، ويقال: هذا فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: فعلت كافٍ في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة، لا تجد في كلام العرب ولا العجم فصيحًا يقول: فعلت هذا بيدي، أو فلان فعل هذا بيديه، إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد والفعل وقع بغيرها، وبهذا الفرق المحقق تتبين مواضع المجاز ومواضع الحقيقة، ويتبين أن الآيات لا تقبل المجاز البتة من جهة نفس اللغة. "مجموع الفتاوى" 6/ 365 - 366.
فلما كانت السماوات والأرض أعظم الموجودات قدرًا، وأكثرها خلقًا، كان إمساكها بالنسبة إلى الله كالشيء الحقير الذي نجعله نحن بين أصابعنا، ونتصرف فيه كيف شئنا، فتكون الإشارة بقوله:"ثم يقبض أصابعه، ويبسطها، ثم يهزهن" كما في بعض ألفاظ مسلم (1).
أي: هذِه في قدرته كالحبة (مثلًا)(2) في كف أحدنا التي لا يبالي بإمساكها، ولا بهزها، ولا بحركتها، والقبض والبسط عليها، ولا يجد في ذَلِكَ صعوبة ولا مشقة، وقد تكون الإصبع في كلام العرب بمعنى: النعمة، وهو المراد بقوله:"إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن" أي: بين نعمتين من نعمه، يقال: لفلان عليَّ إصبع. أي: أثر حسن إذا أنعم عليه نعمة حسنة، وللراعي على ماشيته إصبع: أي أثر حسن، وفيه عدة أشعار.
فصل:
فإن قلت: كيف يجوز إطلاق الشمال على الله تعالى وذلك يقضي بالنقص؟
فالجواب:
أنه مما تفرد به عمر بن حمزة عن سالم (3).
وقد روى هذا الحديث نافع وابن مقسم عن ابن عمر فلم يذكر فيه الشمال (4).
(1) مسلم (2786).
(2)
من (ص 2).
(3)
رواه مسلم (2788/ 24).
(4)
سيأتي برقم (7412) من طريق نافع.
ورواه مسلم (2788/ 25 - 26) من طريق عبيد الله بن مقسم.
ورواه أيضًا أبو هريرة وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر واحد منهم الشمال.
وقال البيهقي: روي ذكر الشمال في حديث آخر في غير هذِه القصة، إلا أنه ضعيف بمرة، وكيف يصح ذَلِكَ مع ما صح عنه أنه سمى كلتا يديه يمينًا
(1)
، وكأن من قال ذَلِكَ أرسله من لفظه على ما وقع له إذ عادة العرب ذكرها في مقابلة اليمين
(2)
.
قال الخطابي: ليس فيما يضاف إلى الله تعالى من صفة اليد شمال؛ لأن الشمال محل النقص والضعف، وليس معنى اليد عندنا الجارحة، وإنما هي صفة جاء بها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاءت، وننتهي إلى حيث انتهى بها الكتاب والسنة المأثورة الصحيحة، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وقد تكون اليمين في كلام العرب بمعنى القدرة والملك، ومنه قوله تعالى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [النساء: 3] يريد: الملك، وقال {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] أي: بالقوة والقدرة، أي: أخذنا قوته وقدرته، كذا ذكره الفراء
(3)
، وأنشد فيه للشماخ وغيره، وقد تكون في كلامهم بمعنى التبجيل والتعظيم، تقول: فلان عندنا باليمين. أي: بالمحل الجليل، وأنشد عليه.
وأما قوله: "كلتا يديه يمين" فإنه أراد بذلك التمام والكمال.
فصل:
إن قلت: أين يكون الناس عند طي الأرض؟ قلت: يكونون على
(1)
رواه مسلم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2)
انتهى كلام البيهقي من كتابه "الأسماء والصفات" 2/ 139 - 140.
(3)
"معاني القرآن" 3/ 183.
الصراط، كما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها
(1)
. وفي رواية ثوبان عنده أيضًا: هم في الظلمة دون الجسر
(2)
. وهذا نص على أن الأرض والسماء تبدل وتزال، ويخلق الله أرضًا أخرى يكون عليها الناس بعد كونهم على الصراط، كما قال كثير من الناس: إن تبديل الأرض عبارة عن تغيير صفاتها، (وتسوية)
(3)
آكامها، ونسف جبالها، ومد أرضها.
فصل:
قد سلف حديث سهل عند البخاري: "أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي".
وروى البيهقي من حديث أبي إسحاق، عن جرير بن أيوب، عن عمرو بن ميمون، سمعت ابن مسعود رضي الله عنه رفعه في قوله تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] قال: "أرض بيضاء كأنها فضة، لم يسفك عليها دم حرام، ولم يعمل فيها خطيئة"
(4)
.
(1)
مسلم (2791).
(2)
مسلم (315).
(3)
بياض في الأصل والمثبت من (ص 2).
(4)
رواه البيهقي في "البعث والنشور" كما في "الدر المنثور" 4/ 167، ولم أقف عليه في المطبوع من "البعث والنشور"، ورواه في "الشعب" موقوفًا كما في "فتح الباري" 11/ 376، لكن رواه ابن أبي عاصم في "الأوائل" ص 62 (176) من طريق جرير، عن عمرو بن ميمون به، ورواه أبو الشيخ في "العظمة" 3/ 1099 (598) من طريق أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون به، ورواه ابن مبارك في "الزهد" ص 115 (389) من طريق شعبة، عن عمرو بن ميمون به، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 298 (1424) من طريق الثوري، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون به.
قال البيهقي: كذا رواه جرير بن أيوب، وليس بالقوي، وخالفه أصحاب أبي إسحاق، فرواه إسرائيل عنه موقوفًا على عبد الله، ورواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون -قال مرة عن عبد الله- ولم يجاوز به عمرو بن ميمون، كذا رواه الثوري، عن أبي إسحاق، عن عمرو. ومن حديث ابن مسعود وابن عباس قالا:"تبدل الأرض أرضًا بيضاء كالفضة، لم يسفك عليها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة قط"
(1)
.
وعن ابن مسعود أيضًا: "تبدل الأرض نارًا، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها"
(2)
، وقال أبو الجلد جيلان بن فروة: إني لأجد فيما أقرأ من كتب الله أن الأرض تشتعل نارًا يوم القيامة. وقال علي: تبدل الأرض فضة، والسماء ذهبًا
(3)
. وقال أبو جعفر محمد بن علي بن حسين: تبدل خبزة يأكل منها الخلق يوم القيامة، ثم قرأ:{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء: 8]
(4)
، وقال سعيد بن جبير، ومحمد بن كعب: تبدل خبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه
(5)
.
وروى البيهقي، عن عكرمة قال: تبدل بيضاء مثل الخبزة يأكل منها الإسلام حَتَّى يفرغوا من الحساب
(6)
.
(1)
"زاد المسير" 4/ 376.
(2)
"الطبري" 7/ 470.
(3)
"النكت والعيون" 3/ 144.
(4)
"القرطبي" 9/ 384.
(5)
"الطبري" 7/ 481.
(6)
رواه البيهقي في "البعث" كما في "الدر المنثور" 4/ 169، ولم أقف عليه في المطبوع من "البعث والنشور".
وروى ابن المبارك من حديث شهر بن حوشب قال: حَدَّثَني ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم، وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق في صعيد واحد، ثم ذكر قبض السماوات على أهلها
(1)
.
وفي رواية ابن السائب عن أبي صالح عنه، وسئل عن هذِه الآية فقال: يزاد فيها وينقص منها، وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وما فيها، وتمد مد الأديم العكاظي، أرض بيضاء مثل البيضة، لم يسفك عليها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة، والسماوات يذهب شمسها، وقمرها، ونجومها
(2)
. وقد يقال: السماوات مستأنفة لا يبدل منها شيء، (ويقال: تبدل)
(3)
فتذهب، وتجعل سماء أخرى غيرها.
قال القرطبي: وهذا مروي في "الصحيح"
(4)
.
وإليه ذهب ابن برجان في كتاب "الإرشاد" له، وأن المؤمن يطعم يومئذٍ من بين رجليه، ويشرب من الحوض، وهذِه أقوال الصحابة والتابعين دالة على ما ذكرنا، وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تبدل الأرض غير الأرض: فيبسطها ويمدها مدَّ الأديم"
(5)
، ذكره الثعلبي في "تفسيره".
(1)
"الزهد"(353).
(2)
رواه البيهقي في "البعث والنشور" كما في "الدر المنثور" 4/ 168، ولم أقف عليه في المطبوع من "البعث والنشور".
(3)
من (ص 2).
(4)
"القرطبي" 9/ 383.
(5)
جزء من حديث الصور رواه الطبراني في "الأحاديث الطوال" ص 96 (36).
وروي عن علي بن حسين أنه قال: إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حَتَّى لا يكون لأحد من البشر إلا موضع قدميه، ذكره الماوردي في "تفسيره"
(1)
.
والصواب ما أسلفناه؛ فإن قلت: (بدل) في كلام العرب معناه: تغيير الشيء، ومنه:{بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56]، و {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59]، ولا يقتضي هذا إزالة العين، وإنما معناه: تغيير الصفة، ولو كان المعنى الإزالة لقال: تبدل بالتخفيف من: أبدلت الشيء: إذا أزالت عينه وشخصه، قيل: قد قرئ قوله تعالى: {أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} [القلم: 32]، بالوجهين بمعنى واحد، وقال:{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]، وقال:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، كذا ذكره في "الصحاح"
(2)
، وبدله الله من الخوف (أمنًا)
(3)
، وتبديل الشيء أيضًا: تغييره، فقد دل القرآن وكلام العرب أن بدل وأبدل بمعنى، وقد فسر الشارع أحد المعنيين فتعين.
فصل:
وأما تبديل السماء فقيل: تكوير شمسها وقمرها، وتناثر نجومها، قاله ابن عباس
(4)
، وقيل اختلاف أحوالها، فتارة كالمهل، وتارة كالدهان، حكاه ابن الأنباري
(5)
.
(1)
"النكت والعيون" 6/ 235. ورواه أبو نعيم في "الحلية" 3/ 145.
(2)
"الصحاح" 4/ 1632.
(3)
من (ص 2).
(4)
"زاد المسير" 4/ 376.
(5)
انظر: "النكت والعيون" 3/ 144.
وقال كعب: تصير السماء دخانًا، وتصير البحار نيرانًا، وقيل: تبديلها: أن تطوى كطي السجل للكتاب
(1)
، ذكر ابن حيدرة شبيب في "إفصاحه" أنه لا تعارض بين هذِه الآثار، وأن الأرض والسماوات تبدل كرتين هذِه الأولى، وأنه سبحانه قبل نفخة الصعق يغير صفاتها، فتنتثر أولاً كواكبها، وتكسف شمسها وقمرها وتصير كالمهل، ثم يكشف عن رءوسهم، ثم تسير الجبال، ثم تموج الأرض، ثم تصير البحار نيرانًا، ثم تنشق الأرض من قطر إلى قطر؛ فتصير الهيئة غير الهيئة، والبنية غير البنية، ثم إذا نفخ في الصور نفخة الصعق طويت السماء، ودحيت الأرض، وبدلت السماء سماء أخرى، وهو قوله {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]، وبدلت الأرض وأعيدت كما كانت فيها القبور والبشر على ظهرها، وفي بطنها، وتبدل الأرض أيضًا تبديلًا (ثانيًا)
(2)
، وذلك إذا وقفوا في المحشر فتبدل لهم الأرض التي يقال لها: الساهرة، يحاسبون عليها، وهي أرض عفراء، وهي البيضاء من فضة، لم يسفك عليها دم حرام قط، ولا جرى عليها ظلم قط، وحينئذٍ يقوم الناس على الصراط، وهو لا يسع (جميع)
(3)
الخلق، وإن كان قد روي أن مسافته ألف سنة صعودًا، وألف سنة هبوطًا، وألف سنة استواء، ولكن الخلق أكثر من ذَلِكَ، فيقوم من فصل على الصراط على متن جهنم، وهي كإهالة، وهي الأرض التي قال عبد الله: إنها أرض من نار يعرق فيها البشر، فإذا حوسب الناس عليها -أعني: الأرض المسماة بالساهرة- وجاوزوا الصراط، وجعل
(1)
المصدر السابق.
(2)
من (ص 2).
(3)
من (ص 2).
أهل الجنان من وراء الصراط، وأهل النيران في النار، وقام الناس على حياض الأنبياء يشربون، وبدلت الأرض كقرصة نقي؛ فأكلوا من تحت أرجلهم، وعند دخولهم الجنة كانت خبزة واحدة يأكل منها جميع (الخلق)
(1)
ممن دخل الجنة وإدامهم زيادة كبد (ثور الجنة، وزيادة كبد)
(2)
النون
(3)
.
وفي حديث ثوبان مرفوعًا الثابت في مسلم: "تحفتهم يوم يدخلون الجنة زيادة كبد النون". قال: ما غذاؤهم على إثرها؟ قال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" قال: فما شرابهم على إثرها؟ قال: "من عين فيها تسمى سلسبيلا"
(4)
. وهذا أبين من حديث أبي هريرة (الذي أخرجه البخاري في الباب؛ لأن هذا مرفوع، وذلك آخره من قول اليهودي)
(5)
، وهو داخل في المسند لإقراره عليه السلام إياه على ذَلِكَ.
(1)
(ص 2): الخلائق.
(2)
من (ص 2).
(3)
انتهى من "التذكرة" للقرطبي ص 216 - 218.
(4)
مسلم (315).
(5)
زيادة من (ص 2).
45 - باب كَيْفَ الحَشْرُ
؟
6522 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنِ ابن طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يُحْشَرُ النَّاسُ على ثَلَاثِ طَرَائِقَ. رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا". [مسلم: 2861 - فتح: 11/ 377].
6523 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ محَمَّدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ البَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الكَافِر على وَجْهِهِ؟ قَالَ:"أَلَيْسَ الذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجلَيْنِ فِي الدُّنيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ ". قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا. [انظر: 4760 - مسلم: 2806 - فتح: 11/ 377].
6524 -
حَدَّثَنَا عَليٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْروٌ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، سَمِعْتُ ابن عَبَّاسٍ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا". قَالَ سُفْيَانُ: هذا مِمَّا نَعُدُّ أَنَّ ابن عَبَّاسٍ سَمِعَهُ مِن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 3349 - مسلم: 2860 - فتح: 11/ 377].
6525 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يخطب عَلَى الِمنْبَرِ يَقُولُ: "إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ حفَاةً عُرَاةً غُرْلًا". [انظر: 3349 - مسلم: 2860 - فتح: 11/ 377].
6526 -
حَدّثَنِي محَمَّد بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَر، حَدَّثَنَا شعْبَة، عَنِ الُمغِيرَةِ بْنِ النُّعمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبَيرٍ، عَنِ ابن عَبَّاس قَالَ: قَامَ فِينَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب فَقَالَ: "إِنَّكُمْ مَحْشُورونَ حُفَاةً عُراةً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] الآية. وَإِنَّ أَوَّلَ الخلائق يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبرَاهِيمُ، وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيؤخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأقولُ يَا رَبِّ أصحابي فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي
مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأقولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْحَكِيمُ} [المائدة: 117 - 118]. قَالَ: فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ". [انظر:3349 - مسلم: 2860 - فتح: 11/ 377].
6527 -
حَدَّثَنَا قَيْسُ بْن حَفْصٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْن الَحارِثِ، حَدَّثنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صغِيرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي القَاسِم بْنُ محَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا" قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. فَقَالَ:"الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ". [مسلم: 2859 - فتح: 11/ 377].
6528 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في قُبَّةٍ فَقَالَ: "أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ ". قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: "تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ ". قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: "أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ". قُلْنَا نَعَمْ. قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصفَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ في أَهْلِ الشِّرْكِ إِلَّا كالشَّعَرَةِ البَيْضَاءِ في جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، أَوْ كالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ في جِلْدِ الثَّوْرِ الأَحْمَرِ". [6642 - مسلم: 221 - فتح: 11/ 378].
6529 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي الغَيْثِ، عَنْ أبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ القِيَامَةِ آدَمُ، فَتَرَاءَى ذُرِّيَّتُهُ فَيُقَالُ: هذا أَبُوكُم آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: أَخْرِج بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ كَمْ أُخْرِجُ؟ فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَا أُخِذَ مِنَّا مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتسْعونَ فَمَاذَا يَبْقَى مِنَّا؟ قَالَ:"إِنَّ أُمَّتِي في الأُمَمِ كالشَّعَرَةِ البَيْضَاءِ في الثَّوْرِ الأَسْوَدِ". [فتح: 11/ 378].
ذكر فيه أحاديث: أحدها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ:"يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ. رَاغبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا".
ثانيها: حديث قَتَادَةَ، عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قَالَ:"أَليْسَ الذِي أَمْشَاهُ عَلَى رجْلَيْنِ في الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَن يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ ". قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبَنَا.
ثالثها: حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا". قَالَ سُفْيَانُ: هذا مِمَّا نَعُدُّ أَنَّ ابن عَبَّاسٍ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم.
ثم ساقه بلفظ: سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يخْطُبُ عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ: "إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا".
ثم ساقه عنه قَالَ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ: "إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية [الأنبياء: 104]. وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فأقول يَا رَبِّ أصحابي. فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117 - 118]. فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ".
رابعها: حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا" قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! قَالَ:"الأَمْرُ أَشَدُّ مِن أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ".
خامسها: حديث عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي قُبَّةٍ فَقَالَ: "أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ ". قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: "أترْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ ". قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: "أَتَرْضَونَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الجَنَّةِ". قُلْنَا نَعَمْ. قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهلِ الشِّرْكِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ البَيْضاءِ فِي جِلْدِ الثَّورِ الأَسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَحْمَرِ". سادسها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"أَوَّلُ مَنْ يُدْعى يَوْمَ القِيَامَةِ آدَمُ عليه السلام، فتتراءى ذُرِّيَّتُهُ فَيُقَالُ: هذا أَبُوكُمْ آدَمُ. فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرَّيتِكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ كَمْ أُخْرِجُ؟ فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وتسْعِينَ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذَا أَخَذَ مِنَّا مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وتسعين فَمَاذَا يَبْقَى مِنَّا؟ قَالَ:"إِنَّ أُمَّتِي فِي الأُمَمِ كَالشَّعَرَةِ البَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ".
(الشرح)
(1)
:
حديث ابن عباس رضي الله عنهما سلف في ذكر الأنبياء
(2)
، وكذا حديث عبد الله، وأبي هريرة
(3)
.
(1)
في (ص 2): فصل.
(2)
برقم (3349).
(3)
حديث عبد الله هو ابن مسعود سيأتي برقم (6642).
وفي الباب حديثين لأبي هريرة لم يذكرهما البخاري إلا في هذا الباب.
وحديث أنس سلف في تفسير الفرقان
(1)
.
قال الخطابي: والمذكور هنا في الحشر إنما يكون قبل قيام الساعة، يحشر الناس أحياء إلى الشام، وأما الحشر الذي بعد البعث من القبور فعلى خلاف هذِه الصورة، من ركوب الإبلِ، والمعاقبة عليها، إنما هو على ما ورد في الخبر:"يبعثون حفاة غرلاً" قال: وقيل: إن هذا في البعث دون الحشر، فليس بين الحديثين تضاد، قال: وقوله: ("عشرة على بعير") يعني أنهم يعتقبون البعير الواحد يركب بعضهم، ويمشي (الباقون)
(2)
عقبًا بينهم
(3)
.
وقال الداودي: يحملون على قدر أعمالهم، والاثنان على البعير أفضل من الثلاثة، والثلاثة أفضل من أكثر منهم.
وقوله: ("تقيل معهم حيث قالوا") إلى آخره يدل أنهم يقيمون كذلك أيامًا.
وقال قتادة في تفسير قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2] هي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب تبيت معهم حيث باتوا، وترحل فيرحلون، وتأكل من تخلف
(4)
.
وقوله: ("أليس الذي أمشاه") إلى آخره، ظاهره: أنه يمشي على وجهه حقيقة، وقيل: هو مثل الكافر والمؤمن أن هذا ضال وهذا مهتد، وهذا قول مجاهد في تفسير قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ}
(5)
[الملك: 22].
(1)
سلف برقم (4760).
(2)
في (ص 2): بعضهم.
(3)
"أعلام الحديث" 3/ 2269 - 2270.
(4)
"الطبري" 12/ 28.
(5)
انظر: "تفسير مجاهد" 2/ 686.
وقال قتادة في تفسير (الآية)
(1)
بل هو حقيقة
(2)
، وظاهر الحديث هنا حجة له.
وقوله: ("غرلاً") أي: غلفًا غير مختونين، غلام أغرل، أي: أقلف، والغرلة: القلفة.
وقوله: ("يُهمهم") هو بضم أوله، يقال: أهمني الأمر: أحزنني، وأقلقني، وهمني المرض: أذابني، وهممت بالشيء: إذا أردته. قال ابن التين: رويناه بالضم على أنه رباعي من: أهمني الأمر، أي: أقلقني، وفي بعض الروايات بفتحها لعله من: همني المرض إذا أذابني، والأول أبين، قال تعالى:{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154].
فصل:
وقوله: ("إن أول الخلائق يكسى إبراهيم عليه السلام") فيه: فضل له بذلك، ويؤتى محمد الشفاعة، ولم يؤتها أحد غيره.
وقوله: ("فيؤخذ بهم ذات الشمال") إلى آخره هو تحذير لأصحابه أن لا يحدثوا بعده حدثًا، ولعلهم المنافقون، ويحتمل أن يسموا له فلا يسميهم تحذيرًا لغيرهم، ويحتمل أن لا يسموا له.
("والعبد الصالح") عيسى - صلوات الله وسلامه عليه -.
("والردة"): الكفر بعد الإيمان، وارتد بعده قوم من العرب، وقتل من قتل على ردته، وأحرق الصديق بعضهم بالنار، ولعل بعض من راجع الإيمان لم يخلص إيمانه.
(1)
في (ص 2): قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} .
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 171 - 172 (34513 - 34514).
فصل:
وقوله: ("في قبة") إنما كان ذلك يفعل في السفر.
وقوله: ("أترضون") إلى آخره خرج مخرج الاستفهام، وأريد به البشرى، وبشر بالأقل بالأول، ثم بالأكثر ليعلم سرورهم.
فصل:
قوله: ("كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود") وفي الحديث الآتي في الباب بعده، أو "كالرقمة في ذراع الحمار"
(1)
، فالشعرة على التقليل والتكثير؛ لأنه لا يكون ثورًا ليس في جلده إلا مائة شعرة، والرقمة: يحتمل أن تكون على الحقيقة.
وقوله: ("أخرج بعث جهنم") أي: جنسها وأهلها، يقال: كنت في بعث فلان. بفتح الباء، أي: في جنسه الذي بُعث.
وقوله: ("من كل مائة تسعة وتسعين") قال الداودي: هذا المحفوظ الموجود على العيان؛ لكثرة الأمم، وقلة المسلمين، وقال أيضًا:"من يأجوج، ومأجوج ألفًا إلا واحدًا، ومنكم واحد" وهذا على التكثير؛ لأن سواهم من الكفار لا يدخلون الجنة، ومن لم يدخلها دخل النار.
فصل:
الحشر على أربعة أوجه: حشران في الدنيا، ومثلهما في الآخرة، فأما اللذان في الدنيا، فقوله تعالى:{لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر: 2].
قال الزهري: كانوا من سبط لم يصبهم الجلاء، وكان الله قد كتبه عليهم، فلولا ذَلِكَ لعذبهم في الدنيا
(2)
، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام كما سلف.
(1)
برقم (6530).
(2)
رواه الطبري 12/ 28 (33816).
قال ابن عباس: من شك في أن الحشر في الشام فليقرأ هذِه الآية، وذلك أنه عليه السلام قال لهم:"اخرجوا" قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر"
(1)
قال قتادة: هذا أول الحشر
(2)
.
الثاني: ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب، وقال قتادة: إنه نار تحشرهم كما سلف.
قال عياض: هذا قبل قيام الساعة، وهو آخر أشراطها كما ذكره مسلم، وآخر ذَلِكَ نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس. وفي رواية: تطرد الناس إلى محشرهم، وفي حديث آخر:"لا تقوم الساعة حَتَّى تخرج نار من أرض الحجاز"
(3)
ويدل أنها قبل يوم القيامة قوله: "فتقيل معهم" إلى آخره، وفي رواية لغير مسلم:"إذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام"
(4)
.
وذكر الحليمي في "منهاجه": أن ذَلِكَ في الآخرة، فقال: يحتمل أن قوله عليه السلام: "يحشر الناس على ثلاث طرائق" إشارة إلى الأبرار، (والمخلّطين)
(5)
، والكفار؛ فالأبرار هم الراغبون إلى الله فيما أعد لهم من ثوابه، والراغبون: هم الذين بين الخوف والرجاء. فأما الأبرار: فإنهم يأتون بالنجائب، وأما (المخلطون)
(6)
: فهم الذين أريدوا في الحديث، وقيل إنهم يحملون على الأبعرة
(7)
.
(1)
"تفسير البغوي" 8/ 69.
(2)
المصدر السابق.
(3)
مسلم (2902).
(4)
"إكمال المعلم" 8/ 391. والرواية هذِه رواها الترمذي (3142).
(5)
في الأصل: (والمخلصين)، والمثبت من "شعب الإيمان".
(6)
في الأصل: (المخلصون)، والمثبت من "شعب الإيمان".
(7)
نقل كلام الحليمي هذا، البيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 318.
وأما الفجار: فهم المحشورون إلى النار، وذلك أن الله تعالى يبعث إليهم ملائكة؛ فيقيض لهم نارًا تسوقهم، ولم يرد في هذا الحديث إلا ذكر البعير، فإما أن يكون ذَلِكَ من إبل الجنة أو من الإبل التي تجيء وتحشر يوم القيامة، فهذا ما لم يأت بيانه، والأشبه أن لا يكون من نجائب الجنة؛ لأنه حملها الأبرار وكان مع ذَلِكَ من جملة المؤمنين فإنهم بين الخوف والرجاء؛ لأن من هؤلاء من يغفر الله ذنوبه؛ فيدخل الجنة، ومنهم من يعاقبه بالنار، ثم يخرجه (منها)
(1)
، ويدخله الجنة، وإذا كان كذلك لم يبق أن يردوا موقف الحساب على نجائب الجنة، ثم ينزل عنها بعضهم إلى النار؛ لأن من أكرمه الله بالجنة مرة لم يهنه بعد ذَلِكَ بالنار.
وفي لفظ: عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر الحشر، "أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك"
(2)
، فهذا إن ثبت مرفوعًا
(3)
، فالركبان هم المتقون السابقون الذين يغفر الله ذنوبهم عند الحساب فلا يعذبهم، إلا أن المتقين يكونون على نجائب الجنة، والآخرون على دواب سوى دواب الجنة.
وقال البيهقي: الراغبون يحتمل أن تكون إشارة إلى الأبرار. والراهبون: المخلطون الذين هم بين الخوف والرجاء، والذين تحشرهم النار هم الكفار، ويحتمل أن يكون هذا وقت الحشر إلى موقف الحساب
(4)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه الترمذي (3142).
(3)
ضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب"(2088).
(4)
انظر: "شعب الإيمان" 1/ 318.
وأما ما ورد من حشرهم حفاة عراة غرلاً ففي وقت النشور من القبور، ويحتمل أن يكون هذا معنى قوله:"راغبون وراهبون" في وقت حشرِهم إلى الجنة بعد الفراغ من الحساب، والأول أولى.
والصنف الثاني: الذين يعذبهم الله بذنوبهم ثم يخرجهم من النار إلى الجنة، وهؤلاء يكونون مشاة على أقدامهم، وقد يحتمل على هذا أن يمشوا وقتًا ويركبون ثم يركبون أو يكونوا ركبانًا، فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا ليتفق الحديثان.
والصنف الثالث: المشاة على وجوههم، وهم الكفار، وقد يحتمل أن يكونوا ثلاثة أصناف: صنف مسلمون، وهم ركبان، وصنفان من الكفار، أحدهما: الأعلام، فهؤلاء يحشرون على وجوهم، والآخرون: الأتباع فهم يمشون على أقدامهم، وإلى هذا ذهب الغزالي في "كشف علوم الآخرة" فإنه لما ذكر: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس؟ قال: "اثنان على بعير، وخمسة على بعير، وعشرة على بعير".
قال: معناه -والله أعلم- أن قوماً يأتلفون في الإسلام برحمة الله يخلق لهم من أعمالهم بعيرًا يركبون عليه، وهذا من ضعف العمل لكونهم يشتركون فيه كقوم خرجوا من سفر بعيد، وليس مع أحد منهم ما يشتري مطية توصله فاشترك في ثمنها اثنان أو ثلاثة ابتاعوا مطية يتعقبون عليها في الطريق، ويبلغ بعير مع عشرة، فاعمل هداك الله عملاً يكون لك بعير خالص من الشركة، واعلم أن ذَلِكَ هو المتجر الرابح، والمضمون والله. كما قال تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85].
وفي "غريب الرواية" أنه عليه السلام قال يومًا لأصحابه: "كان رجل من بني إسرائيل كثيرًا ما يفعل الخير حَتَّى إنه ليحشر فيكم" قالوا: وما كان
يصنع؟ قال: "ورث من أبيه مالاً كثيرًا فاشترى بستانًا؛ فحبسه للملائكة، وقال: هذا بستاني عند الله، وفرق دنانير (عديدة)
(1)
في الضعفاء، وقال: أشتري بهذا جارية من الله وعبدًا، وأعتق رقابًا كثيرة، وقال: هؤلاء خدمي عند الله، والتفت ذات يوم إلى رجل ضرير البصر فرآه تارة يمشي، وتارة يكبو فابتاع له مطية يسير عليها، وقال: هذِه مطيتي عند الله أركبها، وقال: والذي نفسي بيده لكأني أنظر إليها وقد جيء بها إليه مسرجة ملجمة فركبها ليسير بها إلى الموقف".
وكان ما ذكره عياض من أن ذَلِكَ في الدنيا أظهر لما في نفس الحديث من ذكر المساء، والمبيت، والقائلة، والصباح
(2)
، وليس ذَلِكَ في الآخرة، يوضحه حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا عند الترمذي:"يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفًا مشاة، وصنفًا ركبانًا، وصنفًا على وجوههم" قيل: يا رسول الله: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: "إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك"
(3)
، وهذا يدل على أنه في الدنيا إذ ليس في الآخرة على ما سلف من أن المحشر على أرض كقرصة النقي، فليس فيها شوك ولا حدب.
وروى النسائي من حديث أبي ذر مرفوعًا: "الناس يحشرون ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم، وتحشر النار أفواجاً يمشون ويسعون، يلقي الله الآفة على
(1)
في (ص 2): كثيرة.
(2)
"إكمال المعلم" 8/ 391.
(3)
الترمذي (3142).
وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب"(2088).
الظهر فلا يبقى، حَتَّى إن الرجل لتكون له الحديقة يغطيها نبات القتب فلا يقدر عليها"
(1)
. قال البيهقي: يحتمل أن يكون أراد بالفوج الثاني: المسلمين الذين خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً، فيكونون مشاة، والأبرار ركباناً
(2)
.
فصل:
روى أبو زيد عمر بن شبة في كتابه "أخبار المدينة" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: آخر من يحشر رجلان رجل من جهينة، وآخر من مزينة، فيقولان: أين الناس؟ فيأتيان المدينة فلا يريان إلا الثعالب، فينزل إليهما ملكان يسحبانهما على وجوههما حَتَّى يلحقاهما بالناس
(3)
.
فصل:
روى البيهقي من حديث حماد بن سلمة، أنا أبو قزعة الباهلي، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشرون ها هنا -وأومأ بيده نحو الشام- مشاة وركبانًا، وعلى وجوههم".
وفي كتاب أبي نعيم، عن عبد الله بن عمرو:"ثم يبعث الله بعد قبض عيسى، وأرواح المؤمنين بتلك الريح الطيبة نارًا تخرج من نواحي الأرض يحشر الناس والدواب إلى الشام"
(4)
.
وعن معاذ: "يحشر الناس أثلاثًا: ثلثًا على ظهور الخيل، وثلثًا يحملون أولادهم على عواتقهم، وثلثًا على وجوههم مع القردة والخنازير إلى الشام، فيكون الذين يحشرون إلى الشام لا يعرفون حقًّا
(1)
"سنن النسائي" 4/ 116 - 117.
(2)
انظر: "شعب الإيمان" 1/ 318 - 319.
(3)
"تاريخ المدينة" 1/ 279.
(4)
رواه نعيم بن حماد في "الفتن" 2/ 625.
ولا فريضة، ولا يعملون بكتاب ولا سنة، يتهارجون هم والجن مائة سنة تهارج الحمر والكلاب، وأول ما يفجأ الناس بعد من أمر الساعة أن يبعث الله ليلًا ريحًا فتقبض كل دينار ودرهم، فتذهب به إلى بيت المقدس، ثم يشق الله بنيان بيت المقدس فينبذه في البحيرة
(1)
.
وعن عكرمة قال: يحشر الناس نحو الشام، وأول من يحشر من هذِه الأمة النضير
(2)
وكله دال على أنه في الدنيا كما سلف، وأما في الآخرة فحالهم مختلف كما مر.
فصل:
والصنف الآخر حشرهم إلى الموقف، قال تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85] أي: ركبانًا على النجب، وقيل: على الأعمال.
وفي البيهقي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق القرشي، عن النعمان بن سعيد، عن علي مرفوعًا في الآية: قال: "أما إنهم يحشرون على أقدامهم، ولا يساقون سوقًا، ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة، لم ينظر الخلائق إلى مثلها، رحالها الذهب، وأزَّمتها الزبرجد؛ فيقعدون عليها حَتَّى يقرعوا باب الجنة" وكذا ذكره ابن عباس فيما ذكره عنه أبو عَمرو عثمان بن أحمد الدقاق في "أهواله".
فصل:
روى الطبراني في أوسط معاجمه من حديث معاذ مرفوعًا: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بأربعين عامًا، وإن صالح العبيد
(1)
رواه نعيم بن حماد 2/ 625 - 626.
(2)
رواه نعيم بن حماد 2/ 627.
يدخلون الجنة قبل الآخرين بأربعين عامًا، وإن أهل المدائن يدخلون الجنة قبل أهل الرساتيق بأربعين عامًا لفضل المدائن بالجمعة والجماعات وحلق الذكر، وإذا كان بلاءً خصوا به دونهم"
(1)
.
فصل:
وسمى المتقين وفدًا لأنهم يسبقون الناس إلى حيث يدعون إليه، فهم لا ينتظرون أحدًا لكنهم يجدون ويسرعون، والملائكة تتلقاهم بالبشارات، كما قال تعالى:{وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103] فيزيدهم ذَلِكَ إسراعًا، وحق للمتقين أن يسبقوا لسبقهم في الدنيا إلى الطاعات.
فصل:
(قوله)
(2)
({وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا})[مريم: 86] أي: عطاشًا وقال: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102]، وقال:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97] وقال: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 34] وهذا هو الحشر الرابع.
فصل:
وقد ورد آيات في الحشر ظاهرها التعارض، منها قوله {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45].
وقال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97].
(1)
"المعجم الأوسط" 4/ 250 - 251 (4112).
(2)
من (ص 2).
وفي (رواية)
(1)
أخرى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} [يس: 52] وهذا كلام، وهو يضاد البكم، والتعارف تخاطب وهو مضاد للصمم والبكم معًا.
وقال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: 6]، والسؤال لا يكون إلا بإسماع أو لناطق يتسع للجواب.
وقال: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه: 102]، وقال:{فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51]، وقال:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُون} [المعارج: 43]، والنسلان، والإسراع يخالفان الحشر على الوجوه.
والجواب عن هذا أن يقال: الناس إذا جيئوا وبعثوا من قبورهم، فليست حالتهم واحدة ولا مقامهم ولا موقفهم واحد.
وجملة ذَلِكَ أنها خمسة أحوال: حالة بعث من القبور، وحال سوق إلى موضع الحساب، وحال محاسبة، وحال سوق إلى دار الجزاء، وحال مقامهم في الدار الذي يستقرون فيها.
فأما الأول: (فإن الكفار)
(2)
يكونون كاملي الحواس والجوارح؛ لقوله تعالى: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45]، وقوله:{يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه: 103]، وقوله:{فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} [الصافات: 19] وقوله: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} إلى قوله: {يُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 112 - 115].
والثاني: وهم أيضًا في هذِه الحالة بحواس تامة، كقوله تعالى:
(1)
كذا بالأصل، وينبغي أن يكون صوابه:(آية).
(2)
من (ص 2).
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} الآية [الصافات: 22]، ومعنى: اهدوهم: دلوهم، ولا دلالة لأعمى أصم، ولا سؤال لأبكم، فيثبت بهذا أنهم يكونون بأبصار وأسماع وألسنة ناطقة.
والثالثة: ويكونون فيها أيضًا كاملي الحواس؛ ليسمعوا ما يقال لهم، ويقرءوا كتبهم الناطقة بأعمالهم، وتشهد عليهم جوارحهم بسيئاتهم ويسمعوها، وقد أخبر الله عنهم أنهم يقولون:{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ} الآية [الكهف: 49]، وأنهم يقولون لجلودهم:{لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21]، وليشاهدوا أحوال القيامة، وما كانوا مكذبين به في الدنيا من شدتها، وتصرف الأحوال بالناس فيها.
والرابعة: وهو السوق إلى جهنم؛ فإنهم يسلبون فيها أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم؛ لقوله {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا} الآية [الإسراء: 97]. ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 41] إشارة إلى ما يشعرون به من سلب الأبصار والأسماع والمنطق.
والخامسة: دار الإقامة في النار، وينقسم إلى بدء ومآل فتقدرها، إذا قطعوا المسافة التي بين موقف الحساب وشفير جهنم عميًا وبكمًا وصمًا؛ إذلالًا لهم وتمييزًا عن غيرهم؛ فترد الحواس إليهم ليشهدوا النار، وما أعد لهم فيها من العذاب، ويعاينون ملائكة العذاب، وكل ما كانوا به مكذبين، فيستقرون في النار ناطقين مبصرين سامعين، ولهذا قال تعالى:{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ} الآية [الشورى: 45]. وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27]، وقال:{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} الآية [الأعراف: 38]، وقال:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} الآية [الملك: 8]، وأخبر تعالى أنهم ينادون أهل الجنة
فيقولون: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ} [الأعراف: 50] وإن أهل الجنة ينادونهم {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} [الأعراف: 44]، وأنهم يقولون لخزنة جهنم:{ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49]، فيقولون لهم:{أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50].
وأما العقبى والمآل فإنهم إذا قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} الآية [المؤمنون: 107]، فقال:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] وكتب عليهم الخلود بالمثل الذي يضرب لهم، وهو أن يؤتى بكبش، ويسمى الموت، فيذبح على الصراط بين الجنة والنار، وينادى بالخلود
(1)
، سلبوا في ذَلِكَ الموقف أسماعهم، وقد يجوز أن يسلبوا الأبصار، ولكن سلب السمع يقين؛ لأن الله تعالى يقول:{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء: 100]، فإذا سلبوا الأسماع صاروا إلى الزفير والشهيق.
قال الضحاك فيما رواه ابن معبد في "الطاعة": فعند قوله: {اخْسَئُوا} يصيرون صمًّا لا يسمعون، وبكمًا لا ينطقون، وعميًا لا يبصرون، ويحتمل أن تكون الحكمة في سلب الأسماع من قبل؛ أنهم سمعوا نداء الرب على ألسنة رسله فلم يجيبوه، بل جحدوه، وكذبوا به بعد قيام الحجة عليهم بصحته، فلما كانت حجة الله عليهم في الدنيا الأسماع، عاقبهم على كفرهم في الأخرى بسلبه، يوضحه أنهم كانوا يقولون لرسول الله:{وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5]، وقالوا:{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]، وأن قوم نوح كانوا
(1)
رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 83.
يستغشون ثيابهم تسترًا منه لئلا يروه، ولا يسمعون كلامه، وقد أخبر الله عن الكفار في نبينا مثله، فقال:{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} [هود: 5]، وإن سلب أبصارهم فلأنهم أبصروا العبر فلم يعتبروا، والنطق فلأنهم أوتوه فكفروا، وقد تقدم طرف من هذا في ذكر آدم - عليه أفضل الصلاة والسلام -.
46 - باب: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]
{أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} [النجم: 57]{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1].
6530 -
حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ يَا آدَمُ. فَيَقُولُ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. قَالَ يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ". فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولُ اللهِ أَيُّنَا الرَّجُلُ؟ قَالَ: "أَبْشِرُوا، فَإِنَّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ وَمِنْكُمْ رَجُلٌ -ثُمَّ قَالَ- وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ، إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ". قَالَ فَحَمِدْنَا اللهَ وَكَبَّرْنَا، ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي فِي يَدِهِ إِنِّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ مَثَلَكُمْ فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوِ الرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ". [انظر: 3348 - مسلم: 222 - فتح: 11/ 388].
ثم ساق حديث أَبِي سَعِيد رضي الله عنه، قَالَ:"يَقُولُ اللهُ يَا آدَمُ".
الحديث بطوله، وقد سلف. قال علقمة:{زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} : قبل القيامة، وحديث الباب:"أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. فَذَلكَ حِينَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا".
و {سُكَارَى} أي: من العذاب والخوف، {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى}: من الشراب.
وقوله: ("فذلك حين يشيب الصغير") إلى آخره. قال الداودي: هذا كقوله {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]،
وما فوقها داخل في حكمها، وأوكد منها، وكذلك شيب الكبير، وتضع الحوامل فيصير السقط رجلاً، فولدان المسلمين يشفعون لآبائهم، والله أعلم بما يصنع ببني الكفار.
قلت: المختار أنهم في الجنة، واحتج بهذِه الآية من يرى أن المفقود يسمى شيئًا، وهو معهود خلافًا للأشعرية، وانفصلوا بأن التقدير {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} إذا حضرت أو وجدت شيء عظيم.
وقوله: ("شطر أهل الجنة") أي: نصفها.
وقوله: ("أو كرقمة في ذراع حمار") قال الجوهري: الرقمتان: هنتان في قوائم الشاة متقابلتان كالظفرين، ورقمتا الحمار والفرس اللتان بباطن أعضادهما
(1)
. وقال الداودي: الرقمة في ذراع الحمار: الشيء المستدير الذي لا شعر فيه، وسميت بذلك؛ لأنها كالرقم.
(1)
"الصحاح" 5/ 1935.
47 - باب قَولِ اللهِ تَعَالَى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين 4: 6]
وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166] قَالَ: الوُصُلَاتُ فِي الدُّنْيَا.
6531 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قَالَ:"يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ"[انظر: 4938 - مسلم: 2862 - فتح: 11/ 392].
6532 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ". [مسلم: 2863 - فتح: 11/ 392].
ذكر في حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} قَالَ:"يَقُومُ أَحَدُهُمْ في رَشْحِهِ إلى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ".
ولمسلم: "يغيب" بدل "يقوم"
(1)
.
(وقد سلف في تفسير سورة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)} [المطففين: 1] أيضًا بإسنادٍ آخر إلى ابن عمر)
(2)
.
(1)
مسلم (2862).
(2)
من (ص 2).
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -قَالَ: "يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ في الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ اَذَانَهُمْ".
الشرح:
الوصلات: ضبطناه بضم الصاد، ويجوز إسكانها، وفتحها أيضًا، كما نبه عليه ابن التين، وقال الجوهري: جمع وصلة: وصل
(1)
، ويعرق بفتح الراء في مستقبله، وكسرها في ماضيه، و"يُلجمهم" بضم الياء من ألجم، يلجم.
والرشح: العرق.
ولفظ البيهقي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن الشمس لتدنوا حَتَّى يبلغ العرق نصف الأذن"
(2)
.
وله من حديث إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله مرفوعًا:"إن الكافر ليلجم بعرقه يوم القيامة من طول ذَلِكَ اليوم حَتَّى يقول رب أرحني ولو إلى النار"
(3)
.
ومن حديث أبي خالد الدالاني، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"يحشر الناس حفاة، عراة، مشاة غرلاً، قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء- قال: فيلجمهم العرق من شدة الكرب". الحديث.
وكان كعب الأحبار يزعم: أنهم يقومون مقدار ثلاثمائة عام.
(1)
"الصحاح" 5/ 1842.
(2)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 269 (3509).
(3)
رواه الطبراني في "الأوسط" 8/ 363 (8881).
وروى مسلم من حديث المقداد رضي الله عنه مرفوعًا: "إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حَتَّى تكون (منهم كمقدار)
(1)
ميل أو ميلين" قال سُليم: (لا)
(2)
(أدري)
(3)
(أراد أي الميلين)
(4)
، أمسافة الأرض؟ أم الميل الذي تكتحل به العين، قال: " (فتصهرهم)
(5)
الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجامًا" قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشير بيده إلى فيه
(6)
.
وروى البيهقي من حديث عقبة بن عامر مرفوعًا: "تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، (فمن الناس)
(7)
من يبلغ عرقه عقبيه، ومنهم من يبلغ نصف ساقيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ فاه -فأشار بيده فألجمها- ومنهم من يغطيه عرقه، وضرب بيده على رأسه هكذا"
(8)
.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الأرض يوم القيامة كلها نار، والجنة من ورائها ترى (كواكبها)
(9)
، وكواعبها؛ فيعرق الرجل حَتَّى يرشح عرقه في الأرض قدر قامته، ثم يرتفع حَتَّى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب
(10)
.
(1)
في (ص 2): قيد.
(2)
ورد بهامش الأصل: لفظ مسلم: ما.
(3)
ورد بهامش الأصل: لفظ مسلم: ما يعني بالميل.
(4)
من (ص 2).
(5)
ورد بهامش الأصل: هذا ليس لفظ مسلم.
(6)
مسلم (2864).
(7)
من (ص 2).
(8)
رواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 57.
(9)
ورد بالهامش: لعله أكوابها.
(10)
رواه الطبراني 9/ 154 (8771) عن ابن مسعود موقوفاً. قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 336: رجاله رجال الصحيح.
وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" 6/ 181: إسناده جيد قوي.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: يشتد كرب ذَلِكَ اليوم حَتَّى يلجم الكافر العرق، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال: على كراسي من ذهب، ويظل عليهم الغمام
(1)
. وعن أبي ظبيان قال أبو موسى: الشمس فوق رءوس الناس، وأعمالهم تظله.
وروى ابن المبارك في "رقائقه" من حديث شهر، حَدَّثَني ابن عباس رضي الله عنهما: " (إن الله)
(2)
يحشر الأمم من الإنس والجن عراة أذلاء، قد نزع الملك من ملوك أهل الأرض، ولزمهم الصغار بعد عتوهم، والذلة بعد تجبرهم على عباد الله في أرضه حَتَّى إذا وافوا الموقف أهل السماوات السبع، والأرضين السبع كسيت الشمس حر سبع سنين، ثم أدنيت من الخلائق قاب قوس أو قوسين". الحديث بطوله
(3)
.
وفي "كشف علوم الآخرة" للغزالي: الخلق يتداخل إلى أن يبقى على القدم ألف يوم لشدة الزحام، ولخوض الناس في العرق في أنواع مختلفة، ومنهم من يصيبه يسير، كالقاعد في الحمام، ومنهم من يصيبه البلة كالعاطش إذا شرب الماء، وكيف لا يكون القلق والعرق وقد قربت الشمس من رءوسهم حَتَّى لو مد أحدهم يده لنالها مع تضاعف حرها إلى سبعين مرة.
قال بعض السلف: لو طلعت الشمس على الأرض كهيئتها يوم القيامة لأحرقت الأرض، وذاب الصخر، ونشفت الأنهار فيقفون كذلك ألف عام، فإذا بالعرش يحمله ثمانية أملاك، فلا يزالون كذلك يموج بعضهم في بعض ألف عام، والجليل جل جلاله لا يكلمهم كلمة واحدة، فحينئذٍ يذهب الناس إلى آدم فيسألونه الشفاعة في فصل القضاء.
(1)
"تفسير مجاهد" 2/ 737.
(2)
"الزهد" لابن المبارك 1/ 467.
(3)
من (ص 2).
وروى ابن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن سلمان الخير قال: تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تُدنى من جماجم الناس حَتَّى تكون قاب قوسين قال: فيعرقون حَتَّى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم ترتفع حَتَّى يغرغر الرجل. قال سلمان: حَتَّى يقول الرجل: غرغر
(1)
. وروى هناد بن السرى: حَدَّثَنَا قبيصة، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان بلفظ: ولا يجد حرها مؤمن ولا مؤمنة، وأما الكفار (تطحنهم طحنًا)
(2)
حَتَّى يسمع (لأجوافهم)
(3)
غق غق
(4)
.
والمراد من هذا: لا (تضير)
(5)
مؤمنًا كامل الإيمان، أو من استظل، كما سلف من حديث المقداد. وروى ابن المبارك، عن مالك بن مغول، عن عبيد الله بن العيزار قال: يزاد في حر الشمس يومئذٍ تسعة وستون ضعفًا
(6)
.
وروى الوائلي من حديث عبد الله بن عمرو قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6] ثم قال: "كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم"
(7)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 139 (34669).
(2)
في (ص 2): تطبخهم طبخًا.
(3)
في (ص 2): لإحرافهم.
(4)
"الزهد" لهناد بن السري 1/ 202.
(5)
فوق الكلمة: لعله يصيب.
(6)
"الزهد والرقائق"(372).
(7)
رواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 572. قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وصححه الألباني في "الصحيحة"(2817).
فصل:
قال ابن العربي: كل أحد يقوم عرقه معه فيغرق فيه إلى أنصاف ساقيه، وإلى جانبيه كما سلف، قال: وهذا خلاف المعتاد في الدنيا؛ فإن الجماعة إذا وقفوا في الأرض (المستوية)
(1)
، أخذهم الماء أخذًا واحداً ولا يتفاوتون، وهذا من القدرة التي تخرق العادات. ومثَّله ابن برجان في "إرشاده" بالمؤمن في الدنيا يمشي بنور إيمانه في الناس، والكافر في ظلمات كفره، والمؤمن في وقاية الله وكفايته، والكافر والعاصي في خذلانه لهما وعدم العصمة، والمؤمن السُني يكدع في السُنَّة، ويروى ببرد اليقين، ويمشي في سبيل الهداية بحسن الاقتداء، والمبتدع عطشان إلى ما يرويه.
فصل:
قال الغزالي: واعلم أن كل عرق لا يخرجه التعب في سبيل الله من جهاد، وحج، وقيام، وصيام، وتردد في قضاء حاجة مسلم، وتحمل مشقة في أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، فسيخرجه الحياء والخوف في صعيد القيامة، ويطول فيه كربه. ولو سلم ابن آدم من الجهل والغرور لعلم أن تعب العرق في حمل مصاعب الدنيا أهون أمرًا، وأقصر زمانًا من عرق الكرب، والانتظار في يوم القيامة.
فصل:
سلف حديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا في التفسير، في تفسير:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)}
(2)
[المطففين: 1]، وتكلمنا عليه أيضًا هناك، وأعدناه لبعده.
(1)
في (ص 2): المعتدلة.
(2)
سلف برقم (4938).
48 - باب القِصَاصِ يَوْمَ القِيَامَةِ
وَهْيَ الحَاقَّةُ لأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ وَحَوَاقَّ الأُمُورِ، الحَقَّةُ وَالْحَاقَّةُ وَاحِدٌ، وَالْقَارِعَةُ، وَالْغَاشِيَةُ، وَالصَّاخَّةُ، وَالتَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ.
6533 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ". [6864 - مسلم: 1678 - فتح: 11/ 395].
6534 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ". [انظر: 2449 - فتح: 11/ 395].
6535 -
حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ} [الأعراف: 43] قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا". [انظر: 2440 - فتح: 11/ 395].
الشرح:
قال قتادة: أحقت لكل قوم أعمالهم
(1)
، والتقدير: ذات الحاقة.
وقال الفراء: سميت بذلك؛ لأن فيها حقائق الأمور.
(1)
رواه الطبري 12/ 205 (34714).
وقيل: لأنها تحق كل الكفار الذين حاقوا الأنبياء إنكارًا، يقال: حاققته فحققته، أي: خاصمته فخصمته، وسميت القيامة القارعة؛ لأنها تقرع القلوب، و {الْغَاشِيَة} لأنها تغشاهم، أي: تجللهم
(1)
.
والصاخة في الأصل: الداهية، يقال: رجل أصخ، أي: أصم.
وقال الحسن: {الصَّاخَّةُ} : الآخرة، يصخ لها كل شيء أي: ينصب.
وفي "الصحاح": الصاخة: الصيحة يقال: صخ الصوت الأذن يصخها صخًا، ومنه سميت القيامة
(2)
.
ثم ساق حديث شَقِيقٍ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ رضي الله عنه، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ".
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَة لأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ (لأَخِيهِ)
(3)
مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ".
وحديث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فيقتص لِبَعْضِهِمْ مِنْ بعْضٍ مَظَالِمُ كانَتْ بَيْنَهُمْ في الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ في دُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدى بِمَنْزِلِهِ في الجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كانَ فِي الدُّنْيَا".
(1)
"معاني القرآن" 3/ 179 - 180.
(2)
"الصحاح" 1/ 425.
(3)
من (ص 2).
الشرح:
حديث عبد الله بن مسعود في حقوق العباد، وجاء في حديث آخر:"أول ما يحاسب به العبد الصلاة"
(1)
. وهو في حقوق الله، فإن وجدت كاملة نظر في غير ذَلِكَ فلا تضاد، ولما كانت الدماء من أكبر الذنوب بعد الكفر ذكرت.
وفي النسائي: "أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء"
(2)
.
وفي "الموطأ" عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن أول ما ينظر فيه من عمل المرء الصلاة
(3)
.
ورواه الترمذي مرفوعًا من حديث أبي هريرة، وقال: حسن غريب
(4)
.
وقال الداودي: أول من يقضى بينهم علي، وحمزة، وعبيدة (بن الحارث)
(5)
، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة الذين تبارزوا يوم بدر، وفيهم نزل {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج: 19].
وقد سلف الحديث في ذَلِكَ في البخاري عن علي رضي الله عنه: أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة، يريد قصته في مبارزته هو والجماعة. قال أبو ذر: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج: 19]
(6)
.
(1)
رواه أبو داود (864)، النسائي 1/ 232.
(2)
"سنن النسائي" 7/ 83.
(3)
"الموطأ" 1/ 173.
(4)
الترمذي (413).
(5)
من (ص 2).
(6)
سلف برقم (3965 - 3966) ومواضع أخر.
فصل:
والمظلمة بفتح اللام، وهو القياس، وبه ضبطه ابن التين، والدمياطي ضبطه بكسرها. قال الجوهري: ظلمه، ظلمًا، ومظلمة، وأصله: وضع الشيء في غير موضعه، قال: والظلامة والظليمة والمظلمة: ما تطلبه عند الظالم، وهو اسم ما أخذ عن ظلمة
(1)
.
وقوله: ("فليتحلله منها") قال الهروي: يقال تحللته، واستحللته: إذا سألته أن يجعلك في حل من قبله
(2)
.
والدينار: أصله دنار، بدليل جمعه على دنانير، فإن الجمع يرد الشيء إلى أصله، والدرهم فارسي معرب، وكسر الهاء لغة، وربما قالوا: درهام، وجمع درهم: دراهم، ودرهام: دراهيم، وليس في كلام العرب يقال سواه، وسوى هيلع: وهو الأكول، وهجرع: وهو الطويل، وبلعم: وهو اسم رجل، ذكر عن الخليل، زاد غيره: ضفدع، والجماعة على كسر داله.
وقوله: ("من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته") يعني: المسلم، قال بعضهم: اقتص لبعض العباد من بعض عاد الأمر فيما بينهم، وبين الله، وهذا قد أسلفته.
فصل:
قوله: ("يَخلُصُ") هو بفتح أوله، وضم ثالثه، وهو اللام أي: يخلصوا.
(1)
"الصحاح" 5/ 1977.
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 431.
ومنه: خلاصة السمن: ما خلص منه؛ لأنهم إذا طبخوا الزبد ليتخذوه سمنًا طرحوا فيه شيئًا من سويق وتمر وأبعار غزلان، كما ذكره ابن التين، فإذا جاد وخلص من الثقل ذَلِكَ السمن.
والقنطرة: الجسر، والتهذيب بالذال المعجمة: التنقية، يقال: رجل مهذب أي مطهر الأخلاق.
وقوله: ("بمنزله") أي: أعرف بطريقه، وموضعه.
فصل:
قال البيهقي: ينبغي أن نعلم أن سيئات المؤمن على أصول أهل السنة والجماعة متناهية الجزاء، وحسناته غير متناهية الجزاء؛ لأن مع ثوابها الخلود في الجنة، فلا يأتي بما هو متناهٍ على ما ليس بمتناه، فعلى هذا وجه هذا الحديث عندي أنه يعطى خصماء المؤمن المسيء من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته، فإن فنيت حسناته أي: أخذ حسناته الذي قابل عقوبة سيئاته أخذ من خطايا خصومه، فطرحت عليه، ثم طرح في النار إن لم يعف عنه، حَتَّى إذا انتهت عقوبة تلك الخطايا رد إلى الجنة بما كتب له من الخلود فيها بإيمانه، ولا يعطى خصماؤه ما زاد من أجر حسناته على ما قابل عقوبة سيئاته، لأن ذَلِكَ من فضل الله يخص به من وافى القيامة مؤمنًا
(1)
.
فصل:
عند مسلم: "أتدرون من المفلس؟ " قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة (ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا،
(1)
"شعب الإيمان" 1/ 67.
وضرب هذا)
(1)
(فيعطى هذا)
(2)
من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل انقضاء ما عليه أخذ من خطاياهم، وطرحت عليه ثم طرح في النار"
(3)
. وفي لفظ: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها حَتَّى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء"
(4)
. وفي ابن ماجه من حديث ثعلبة بن سوار: ثَنَا عمي محمد بن سوار، عن حسين المعلم، عن مطر الوراق، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه:"من مات وعليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثم دينار ولا درهم من ترك دينارًا أو ضياعًا فعلى الله ورسوله"
(5)
.
فصل:
روى الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: "يحشر الله العباد -أو قال: الناس. وأومأ بيده إلى الشام- عراة، غرلًا بُهْمًا" قيل: ما بُهْمًا؟ قال: "ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد ومن قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة حَتَّى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حَتَّى اللطمة" قلنا: كيف، وإنما نأتي الله حفاة عراة؟ قال:"بالحسنات، والسيئات"
(6)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: (فيؤخذ).
(3)
مسلم (2581).
(4)
مسلم (2582).
(5)
ابن ماجه (2414). وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(6546).
(6)
رواه الحارث في "مسنده" كما في "بغية الباحث"(39).
وهو حديث صححه الحاكم 2/ 437 - 438، والألباني في "صحيح الترغيب" (3608) قال: حسن لغيره.
فصل:
وقع هنا ذكر الصوت. قال البيهقي: بصوت، لم يثبت بإسناد يكون حجة بانفراده، والأشبه أن يكون المراد به: نداء يليق بصفات الله تعالى، ويحتمل أن يأمر به ملكًا فيكون الصوت مضافًا إلى الملك في الحقيقة، وأضيف إلى الله؛ لأنه بأمره كان
(1)
.
وقال الحافظ أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي في كتابه "الجواب عن أحاديث الأصوات" بعد أن ساقها: أما حديث جابر، عن ابن أنيس فذكره البخاري تعليقًا فقال: ويذكر عن جابر، وهو حديث مداره على ابن عقيل، وهو ضعيف، وتفرد به عنه القاسم بن عبد الواحد، وليس ممن يحتج بحديثه، وروي من طريق عمر بن صبيح، عن مقاتل، عن أبي الجارود، وابن صبيح وضاع، ورواه ابن لهيعة، عن يزيد، وابن لهيعة حاله مشهور، والحديث أيضًا مضطرب؛ فتارة قال: قدمت عليه الشام، وأخرى: بمصر، وحديث محمد بن كعب عن أبي هريرة بمثله رواه عن أبي عاصم، عن إسماعيل بن رافع، عن محمد بن زياد، عن محمد بن كعب، فقال عن رجل، عن أبي هريرة، ومثل هذا لا تقوم به حجة، وحديث أبي
(1)
"الأسماء والصفات" 2/ 29.
والأصل إجراء صفات الله سبحانه على ظاهرها، فنؤمن بأن الله يتكلم بكلام حقيقي بصوت كما يشاء هو سبحانه، قال الخطابي: مذهب السلف إثبات الصفات وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه، والجافي والمقصر عنه، والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات. "مجموع الفتاوى" 5/ 58 - 59.
سعيد تفرد بلفظ الصوت فيه حفص بن غياث عن الأعمش، وخالفه الحفاظ، فلم يذكروه فيه، والرواية الصحيحة ينادى بفتح الدال، نص عليه أبو ذر الهروي، وحديث ابن (عمر)
(1)
موقوف وضعيف، وحديث ابن مسعود روي من طرق مرفوعًا وموقوفًا، وليس فيه ذكر الصوت، وإنما ذكر أبو نصر السجزي أنه وجده مذكورًا في موقوفٍ عليه، وليس بصحيح. وحديث النواس كذلك أيضًا، وكذا حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، ولا ذكر فيها للصوت، وحديث أنس بن مالك ضعيف، قال: وهذا بمعنى ألفاظ ابن حبان، والأزدي، والدارقطني في الكلام على هذِه الأحاديث.
فصل:
روينا في جزء الأنصاري بعلو: حَدَّثَنَا محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير قال: لما نزلت هذِه الآية: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)} [الزمر: 31]، قال: قال الزبير: يا رسول الله، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال:"نعم ليكررن عليكم حَتَّى تؤدوا إلى كل ذي حق حقه" قال الزبير: والله إن الأمر لشديد
(2)
.
(1)
في (ص 2): (عباس).
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 249 من طريق سفيان بن عيينة وأبي أسامة.
ورواه 2/ 435 من طريق أبي أسامة.
ورواه أيضًا 2/ 435 من طريق عبدة بن سليمان.
ورواه أيضًا 2/ 435 و 4/ 572 من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري أربعتهم عن محمد بن عمرو، به.
قال الحاكم في الموضع الأول والثالث: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال في الموضع الثاني: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
ومن حديث إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله يرفعه:"اتقوا الظلم ما استطعتم، فإن العبد ليجيء بالحسنات الكثيرة يوم القيامة، فيرى أنهن ستنجينه، فما يزال عبد يجيء فيقول: يا رب إن فلانًا ظلمني مظلمة، فيقول: امح من حسناته، فما يزال كذلك حَتَّى ما يبقي له من حسناته شيئًا، وإن مثل ذَلِكَ: مثل سفر نزلوا بفلاة من الأرض ليس معهم حطب فتفرق القوم، فحطبوا، فلم يلبثوا أن أعظموا نارهم، وصنعوا ما أرادوا، وكذلك الذنوب"
(1)
.
ومن حديث عاصم الأحول، وخالد الحذاء قالا: سمعنا أبا عثمان، عن سلمان وحذيفة، وسعد بن مالك وابن مسعود حَتَّى عد ستة أوسبعة من الصحابة قالوا: إن الرجل ليرفع له يوم القيامة صحيفة حَتَّى يرى أنه ناج، فما تزال مظالم بني آدم تتبعه حَتَّى ما تبقى له حسنة، وتحمل عليه من سيئاتهم.
ومن حديث زياد النميري، عن أنس رضي الله عنه رفعه:"الظلم ثلاثة: ظلم لا يغفره الله، وهو الشرك، وظلم يغفره الله، وهو ظلم العباد أنفسهم، وظلم لا يتركه الله، وهو ظلم العباد بعضهم بعضا حَتَّى يدين بعضهم من بعض"
(2)
.
قال البيهقي: ورواه صدقة بن موسى، عن أبي عمران الجوني، عن يزيد بن بابنوس، عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعًا،
(1)
رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 455 (7263)، و 6/ 51 (7471).
(2)
رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" 3/ 579 (2223)، وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 309 من طريق يزيد عن أنس، به.
ورواه البزار كما في "كشف الأستار"(3439) من طريق زياد النميري، به.
قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 348: رواه البزار عن شيخه أحمد بن مالك القشيري، ولم أعرفه وبقية رجاله قد وثقوا على ضعفهم.
وقد روي عن بعض التابعين، وقال: البخاري: سعيد بن أنس، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم لا يتابع عليه، قاله عبد الله بن بكر، ثَنَا عباد بن شيبة، عن سعيد.
وقد روي ذَلِكَ أيضًا عن زياد بن ميمون البصري، عن أنس، إلا أن زيادًا متروك، ولا تعني متابعته شيئًا.
ومن حديث ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي عند أبي داود السجستاني، عن أبيه، عن جده عباس، أنه عليه السلام دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء؛ فأجابه الله:"إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا. قال: أي رب، إنك قادر أن تثيب المظلوم خيرًا عن مظلمته، وتغفر لهذا الظالم". فلم يجبه تلك العشية، فلما كانت غداة المزدلفة أعاد الدعاء، فأجابه:"إني قد غفرت لهم"
(1)
.
قال البيهقي: كان البخاري يضعف إسناد حديث العباس هذا ويقول: لا يصح، [وحديثه]
(2)
في قصة يوم عرفة باطل.
قال البيهقي: ويحتمل أن تكون الإجابة إلى المغفرة بعد أن يذيقهم شيئًا من العذاب دون الاستحقاق، فيكون الخبر خاصًا في وقت دون وقت، ويحتمل أن تكون الإجابة إلى المغفرة لبعضهم فيكون الخبر خاصًا في قوم دون قوم، ثم من لا يغفر له يذيقه من العذاب بما اكتسب، ويحتمل أن يكون عامًا، ونص القرآن يدل على أنه مفوض إلى المشيئة في قوله:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فلا ينبغي لمسلم أن يضر نفسه؛ فإن المعصية شؤم وخلاف الخيار في
(1)
رواه البيهقي في "السنن" 5/ 118، وفي "الشعب" 1/ 304 (346) وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب"(742).
(2)
ليست في الأصل والسياق يقتضيها.
أوامره ونواهيه عظيم
(1)
.
قلت: وروينا عن أبي داود الطيالسي ما يقويه، فقال: حَدَّثَنَا صدقة بن موسى، ثَنَا أبو عمران الجوني، عن زيد بن قيس -أو قيس بن زيد- عن قاضي المصرين شريح، عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول: يا ابن آدم فيم أضعت حقوق الناس وأموالهم، فيقول: يا رب لم أفسد، ولكنني أصبت إما غرقًا أو حرقًا، فيقول: أنا أحق من يقضي عنك اليوم، فترجح حسناته على سيئاته، ويؤمر به إلى الجنة"
(2)
.
وروى البيهقي من حديث عبد الله بن بكر السهمي، ثَنَا عباد بن شيبة الحبطي، عن سعيد بن أنس عن أنس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حَتَّى بدت ثناياه، فقال عمر: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: "رجلان من أمتي جثيا بين يدي ربِّ العزة، فقال أحدهما: يا رب خُذْ لي مظلمتي من أخي. فقال الله تبارك وتعالى: أعط أخاك مظلمته. فقال: يا رب لم يبق من حسناتي شيء. فقال الله للطالب: كيف تفعل ولم يبق من حسناته شيء. فقال: يا رب يتحمل من أوزاري" قال: وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال: "إن ذَلِكَ يوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم -قال- فقال الله للطالب: ارفع رأسك، فرفع رأسه، فقال: يا رب أرى مدائن من فضة مرتفعة، وقصورًا من ذهب مكللة باللؤلؤ، فلأي نبي، أو صديق، أو شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن. قال: يا رب، ومن يملك
(1)
"شعب الإيمان" 1/ 504 - 505، "فضائل الأوقات" ص 381 (198).
(2)
"مسند الطيالسي" 2/ 663 (1423).
ذَلِكَ؟ قال: أنت تملكه. قال: بم يا رب؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب إني قد عفوت عنه، قال الله: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذَلِكَ: "اتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة"
(1)
.
فصل:
روى ابن عبد البر من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما مرفوعًا: "صاحب الدين مأسور يوم القيامة بالدين"
(2)
.
وروى أبو نعيم من حديث زاذان أبي عمر، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يؤخذ بيد العبد أو الأمة فينصب على رءوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد: هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها، وأخيها، أو على زوجها، ثم قرأ عبد الله:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، فيقول الرب تعالى للعبد: آت هؤلاء حقوقهم. فيقول: يا رب فنيت الدنيا، فمن أين أوتيهم، فتقول الملائكة: خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، فإن كان وليًّا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل من خير فيضاعفها الله حَتَّى يدخله بها الجنة، ثم قرأ {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية [النساء: 40]، وروي نحوه أيضًا مرفوعًا
(3)
.
(1)
رواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 576 وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
قال الذهبي في "التلخيص": عباد ضعيف وشيخه لا يعرف.
وقال الألباني في "ضعيف الترغيب"(1469): ضعيف جدًا.
(2)
"التمهيد" 23/ 238.
(3)
"حلية الأولياء" 4/ 202.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة، وهو لا يعرفه، فيقول: مالك إليَّ وما بيني وبينك معرفة؟ فيقول: كنت تراني على الخطايا والمنكر ولا تنهاني
(1)
.
فصل:
إياك أن تعترض على هذِه الأحاديث بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] وبقوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} [فاطر: 18] كما توهمه بعض السخفاء؛ لأن الله تعالى لم يبن أمور الدنيا على عقول العباد بل أوعد ووعد بمشيئته وإرادته، وأمر ونهى بحكمته، ولا يُسأل عما يفعل ونحن نُسأل، ولو كان كل ما لا تدركه العقول مردودًا، لكان أكثر الشرع مستحيلًا على موضوع عقولهم، فقد أوجب بخروج المني وهو طاهر عند جماعة الغسل، وبخروج الأحداث عينًا وريحًا، غسل الأعضاء الأربعة والتسليم متعين، فكذا القصاص بالحسنات والسيئات. وقد قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47]، وقال:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وقال: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]، وهذا يبين معنى قوله:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . أي: لا تحمل حاملة حمل أخرى إذا لم تتعد وإن تعدت حملت وأخذ منها بغير اختيارها. قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48].
(1)
ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 164 (3506) وقال: ذكره رزين ولم أره.
فصل:
فيجب على كل مسلم البدار إلى محاسبة نفسه، كما قال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا
(1)
. فإن المرء إذا مات وليس عليه فريضة ولا مظلمة دخل الجنة بغير حساب، فإن مات قبل رد المظالم أحاط به خصماؤه، وأنشبوا به مخاليبهم، وهو مبهوت متحير من كثرتهم حَتَّى لم يبق في عمره أحد عامله على درهم أو جالسه في مجلس إلا وقد استحق عليه مظلمة بغيبة أو خيانة أو نظرة بعين استحقارًا إذ قرع سمعه نداء الجبار {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)} [غافر: 17] فعند ذَلِكَ ينخلع قلبه من الهيبة ويوقن بالبوار، فعند ذلك يؤخذ من حسناتك التي فنيت فيها عمرك، وتنقل إلى خصمائك عوضًا من حقوقهم، كما ورد في الأحاديث التي سقناها. وقد قيل: لو أن رجلاً له ثواب سبعين صديقًا، وله خصم بنصف دانق لم يدخل الجنة حَتَّى يرضي خصمه، وقيل: يؤخذ بدانق واحد سبعمائة صلاة مقبولة، فيعطى للخصم، ذكره القشيري في "تحبيره".
فصل:
اختلف الناس في حشر البهائم، وفي قصاص بعضها من بعض، فروي عن ابن عباس: أن حشر الدواب والطير موتها، وقاله الضحاك
(2)
. وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها تحشر وتبعث،
(1)
رواه ابن أبي شيبة 7/ 115 (34448).
وذكره الترمذي معلقًا عقب حديث (2459) بنحوه.
(2)
ذكره القرطبي في "تفسيره" 6/ 420.
وقاله أبو ذر، وأبو هريرة، وعمرو بن العاصي، والحسن البصري، وهو الصحيح لقوله:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 5] وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
قال أبو هريرة: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والطير والدواب وكل شيء، فيبلغ من عدل الله أن يؤخذ للشاة الجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابًا، ونحوه عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، وفي بعض الأخبار: أن البهائم إذا صارت ترابًا يوم القيامة حول الله ذَلِكَ التراب في وجوه الكفار، فذلك قوله:{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)} [عبس: 40] أي: غبار. وقالت طائفة: الحشر في قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، للكفار، وأن ما تخلل من قوله:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] كلام معترض، وإقامة حجج، وأما الحديث فالمقصود منه: التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص، وأنه لا محيص لمخلوق عنه، وعضدوا ذَلِكَ بما روي حين يقاد للشاة الجماء من القرناء، وللحجر لم ركب الحجر، والعود لم خدش العود، قالوا: فظهر من هذا أن المقصود التمثيل المفيد التهويل؛ لأن الجمادات لا تعقل خطابها، ولا عقابها ولا ثوابها، ولم يصر إليه أحد من العقلاء، ومتخيلة من جملة المعتوهين الأغبياء. وأجاب من قال: إنها تحشر وتبعث بأن قال: من الحكمة الإلهية أن لا يجري أمرًا من أمور الدنيا، والآخرة إلا على مشيئة مستوية، وحكمة موزونة، ومن قال هنا بما قالته طائفة من المتسمين بالعلم: أن الجامد لا يفقه، والحيوان غير الإنسان لا يعقل، وإنما هو مميز في الحيوان، ولسان حال في الجامد والنامي.
وقال: إن الله تعالى يقول في الظالمين المكذبين {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] ولو كان عندها عقل أو فهم ما نزل بالكافر الفاسق إلى درجتها في موضع التنقيص والتقصير، والله تعالى قد وصفه بالصمم والموت في موضع التبصير والتذكير، فقال:{وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80] وقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف: 40]، وقال:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] قيل له: ليس الأمر كما ذكرت، وإن شئت فارجع بصرك في الذي رأيت، تجده قد وصفهم بالموت والصم، كما وصفهم بالعمى والبكم، وليسوا في الحقيقة الظاهرة موتى ولا صم ولا عميان ولا بكم، وإنما هم أموات بالعقول والأذهان عن صفة الإيمان، وحياته دار الحيوان صم عن كلمة الأحياء، عمى عن النظر في مرآة وجوه الأخلاء، كذلك وصف الأنعام بضلال، وليست في الحقيقة بضلال من حيث شرعها وحكمتها، وإنما ذَلِكَ من حيث واقعها، وكيف يكون ذَلِكَ كذلك والله تعالى يقول:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68] حما وقرعًا، وليحاسبن حساباً يسيرا {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] وأن الله لا يسأل إلا عاقلاً، وجعل كل موجود من موجوداته في أشتات الخلائق، وأجناس العالم دار دنيا، ودار آخرة، فمن نظر إلى الأنعام وجدها من حيث نحن لا من حيث فلكها، فكل حيوان وجماد محشور لما عنده من الإدراك والمشاهدة والحضور من حيث هي، لا من حيث نحن، قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وقال:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)} [الرعد: 15]،
وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج: 18]، قالوا: لا يقال هذا بلسان الحال دون المقال، قلنا: نقول هذا مجاز، والله يقضي بالحق، كما أخبر في كتابه:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ} [الأنعام: 57] ومن نظر بنور الله حل الرمز، وفك المعمى، وهم إنما نظروا من حيث هم، ومن حيث العقل، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]
قال القرطبي: وهذا كله صحيح لحديث أبي سعيد الخدري، وحديث أبي هريرة في شهادة الأرض بما عمل عليها، وهما صحيحان.
وقد روى ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن مروان، عن الهذيل، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان فقال: "ليقضِ الله يوم القيامة لهذِه الجماء من هذِه القرناء"
(1)
.
وذكر ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة، وعمرو بن الحارث، عن بكر بن سوادة أن أبا سالم الجيشاني حدثه أن ثابت بن طريف استأذن على أبي ذر رضي الله عنه فسمعه رافعًا صوته يقول: والله لولا يوم الخصومة لسؤتك، قال ثابت: يا أبا ذر ما شأنك، فقال: والذي نفسي بيده لتسألن الشاة فيما نطحت صاحبتها، وليسألن الجماد فيما شك أصبع الرجل.
وروى شعبة عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبي ذر قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان، فقال:
(1)
رواه أحمد 5/ 162، والطيالسي 1/ 386 (482) من طريق الأعمش عن منذر الثوري عن أشياخ له، عن أبي ذر، به. وانظر:"الصحيحة" 4/ 116 - 117.
"يا أبا ذر أتدري فيم تنتطحان؟ " قلت: لا، قال: "لكن الله يعلم، (وسيقضي بينهما)
(1)
يوم القيامة"
(2)
.
وروي في بعض الأخبار كما قال القشيري في "تحبيره": تحشر البهائم والوحوش يوم القيامة فتسجد لله سجدة، فتقول الملائكة: ليس هذا يوم سجود، هذا يوم الثواب والعقاب. فتقول البهائم: هذا سجود، حيث لم يجعلنا الله من بني آدم، ويقال: إن الملائكة تقول للبهائم: إن الله لم يحشركم لثواب ولا عقاب، إنما حشركم تشهدون فضائح بني آدم
(3)
.
فصل:
وذكر أبو عمرو الدقاق في "أهواله وألويته" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المؤمنين لما أمر بهم إلى الجنة، وكان بين قوم وآخرين دعوى وضغائن وتبعات، فطفقوا ينظر بعضهم إلى بعض كالطالب الذي يطلب صاحبه فمحى الله تلك الضغائن والتبعات والدعوى من قلوبهم، وعقد لهم لواء، ونادى المنادي:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِين} [الحجر: 45 - 46] فاتبع القوم لواءهم حَتَّى دخلوا منازلهم من الجنة.
فصل:
في زيادة تنعطف على حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الباب: "أول ما يقضى بين الناس بالدماء".
(1)
في الأصل: (سيقتص منهما). والمثبت من (ص 2).
(2)
انظر: التخريج السابق.
(3)
انتهى من "التذكرة" للقرطبي ص 317 - 318.
وروينا في كتاب ابن (غيلان)
(1)
من حديث محمد بن كعب القرظي، عن رجل، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ثَنَا رسول الله _صلى الله عليه وسلم:"أول ما يقضى بين الناس في الدماء، ونادى كل قتيل قتل في سبيل الله قد حمل رأسه، تشخب أوداجه، فيقول: يا رب سل هذا فيم قتلني؟ فيقول الله تعالى -وهو أعلم: فيم قتلته؟ فيقول: يا رب قتلته لتكون العزة لك. فيقول: صدقت فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس، وتشيعه الملائكة إلى الجنان. ثم يأتي كل من قتل على غير ذَلِكَ، فيقول: يا رب: سل هذا فيم قتلني؟ فيقول له- وهو أعلم: فيم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لك، فيقول الله تعالى: تعست، ثم لا تبقى قتلة إلا قتل بها، ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها، وكان في مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء رحمه"
(2)
.
وروى القاضي إسماعيل من حديث نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي المقتول معلق رأسه بإحدى يديه ملببًا قاتله بيده الأخرى، تشخب أوداجه دمًا، حَتَّى يقفا بين يدي الله، فيقول المقتول: هذا قتلني، فيقول الله تعالى للقاتل: تعست، ويذهب به إلى النار"
(3)
.
ورواه ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه مرفوعًا
(4)
، ورواه الترمذي بمعناه من حديث ورقاء بن عمر، عن عمرو بن دينار، وقال: حسن غريب
(5)
.
(1)
في الأصل: (عدلان) والمثبت من (ص 2) وهو الصواب إن شاء الله.
(2)
"الغيلانيات" 2/ 805 (1111).
(3)
رواه الطبراني 10/ 306 (10742).
(4)
"الزهد"(388).
(5)
الترمذي (3029).
49 - باب مَن نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ
6536 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ» . قَالَتْ قُلْتُ أَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} ؟ [الانشقاق: 8]. قَالَ «ذَلِكِ العَرْضُ» .
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
وَتَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ وَأَيُّوبُ وَصَالِحُ بْنُ رُسْتُمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 103 - مسلم: 2786 - فتح: 11/ 400].
6537 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُور، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَة، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ هَلَكَ» . فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7 - 8]؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا ذَلِكِ العَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ عُذِّبَ» [انظر: 103 - مسلم: 2876 - فتح: 11/ 400].
6538 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:«يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَه: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِى بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ» . انظر: 3334 - مسلم: 2805 - فتح: 11/ 400].
6539 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبي قَالَ: حَدَّثَنِي الأعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي
خَيْثَمَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَسَيُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» . [انظر: 1413 - مسلم: 1016 - فتح: 11/ 400].
6540 -
قَالَ الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي عَمْرٌو، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ» . ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ» . ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلَاثًا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» [انظر:1413 - مسلم: 1016 - فتح: 11/ 400].
ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: "مَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ عُذِّبَ". إلى آخره.
وقد سلف في تفسير {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1] بالمتابعات التي ذكرها البخاري هنا.
ثانيها:
حديث أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:"يُجَاءُ بِالْكَافِرِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِه؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ كُنْتَ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ".
تنبيه:
حديثه الآتي في باب صفة الجنة والنار: "يقول الله لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي".
ثالثها:
حديث الأَعْمَشِ: حَدَّثَيي خَيْثَمَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ:"مَا مِنْ أَحَدٍ منكم إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَيْسَ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلَا يَرى شَيْئًا قُدَّامَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ".
ثم قَالَ الأَعْمَشُ: حَدَّثَنِي عَمْرٌو، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا النَّارَ". ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ، ثُمَّ قَالَ:"اتَّقُوا النَّارَ". ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثَلَاثًا، حَتَّى ظَنَنَا أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ:"اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ".
الشرح:
ذكره بعد في باب صفة الجنة متصلاً، لكن قال: حَدَّثنَا سليمان بن حرب، ثَنَا شعبة، عن عمرو. فذكره.
المناقشة: الاستقصاء، أي: من استقصي الحساب عليه عذب، والتَرجمان -بفتح التاء- قال ابن التين: كذا رويناه. قال الجوهري: ترجمان، لك أن تضم التاء بضمة الجيم
(1)
، يقال: ترجم كلامه، إذا فسره بكلام آخر.
وقوله: (فأعرض وأشاح)، قيل: صد وانكمش، قال الأصمعي: الشيح: الجاد والحذر أيضًا
(2)
. وقال الفراء: هو على معنيين المقبل إليك، والمانع لما وراء ظهره. قال: وقوله فأعرض وأشاح. أي: أقبل، وقيل: معناه: صرف وجهه كالخائف أن يناله.
(1)
"الصحاح" 5/ 1928.
(2)
انظر: "الأضداد" للأصمعي ص 39.
50 - باب يَدْخُلُ الجَنَّةَ سَبعُونَ ألفًا بِغَيرِ حِسَابٍ
6541 -
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ. وَحَدَّثَنِي أَسِيدُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الأُمَّةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْعَشَرَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ الْخَمْسَةُ، وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ وَحْدَهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، هَؤُلَاءِ أُمَّتِي؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ. فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ كَثِيرٌ. قَالَ هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ، وَهَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا قُدَّامَهُمْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ. قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَ: كَانُوا لَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . فَقَامَ إِلَيْهِ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ» . ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ قَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا
عُكَّاشَةُ». [انظر: 3247 - مسلم: 216 - فتح: 11/ 406].
6542 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ". وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيُّ يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ:«اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ» . ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ:«سَبَقَكَ عُكَّاشَةُ» . [انظر: 6548 - مسلم: 2850 - فتح: 11/ 406].
6543 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ، -شَكَّ فِي أَحَدِهِمَا- مُتَمَاسِكِينَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمُ الجَنَّةَ، وَوُجُوهُهُمْ على ضَوْءِ القَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» [انظر: 3247 - مسلم:
219 -
فتح: 11/ 406].
6544 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ: يَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، لَا مَوْتَ، خُلُودٌ» . [6548 - مسلم: 2850 - فتحِ: 11/ 406].
6545 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«يُقَالُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ. وَلأَهْلِ النَّارِ يَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ» . [فتح 11/ 406].
ذكر فيه أحاديث:
أحدها: حديث ابن عَبَّاسٍ.
وسلف في الطب بطوله، وفي إسناده أسيد بن زيد، وهو بفتح أوله، وجده نجيح أبو محمد الكوفي الحمال، مولى صالح بن علي، ضعفه ابن معين والدارقطني، وأطلق الترك عليه النسائي، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، والبخاري أخرج له وحده مقرونًا
(1)
.
ثانيها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مثله.
ثالثها: حديث سَهْلِ سلف في صفة الجنة.
رابعها: حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذَنٌ بَيْنَهُمْ: يَا أَهْلَ النَّارِ، لَا مَوْتَ خلود
(2)
، وَيَا أَهْلَ الجَنَّةِ، لَا مَوْتَ، خُلُودٌ".
(1)
انظر: "الضعفاء" للنسائي ص 20 (54)، "الكامل" 2/ 87، "ضعفاء الدارقطني" ص 154 (114).
(2)
ورد بهامش الأصل: "يا أهل النار خلود بلا موت، يا أهل الجنة خلود بلا موت" وعليها خ، وهي تعني: نسخة.
خامسها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَال النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "يُقَالُ لأَهْلِ الجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ. وَلأَهْلِ النَّارِ (يَا أَهْلَ النَّارِ)
(1)
، خُلُودٌ لَا مَوْتَ".
الشرح:
قوله في الحديث الأول ("وَالنَّبِيُّ يَمُرُّ مَعَهُ النَّفَرُ") النفر: من الثلاثة إلى العشرة، واحتج به من قال بكراهية التداوي، وكل مذاهب العلماء على خلافه
(2)
، وقد ذكر- عليه السلام منافع الأدوية كما سلف، وتداوى وأمر به، وقد يحمل على من يعتقد أنها مبرئة بطبعها كما يقول بعض الطبائعيين، فيفوضون أمورهم إلى الله تعالى، وقيل: المعنى من اتخذ ذَلِكَ معاذه. وقد كوى الشارع سعدًا واكتوى ابن عمر وعمران بن حصين وخباب، وخلق من الصحابة.
و ("الزمرة"): الجماعة من الناس.
و ("البدر")، سمي لتمامه، أو لأنه يسبقها قبل أن تغيب هي، كأنه يعجلها للمغيب.
ووقع للداودي حكايته: أنه لمبادرة القمر الشمس في صبيحتها تكون الشمس من المشرق وهو من المغرب، والمعروف الثاني.
(1)
من (ص 2).
(2)
انظر: "بدائع الصنائع" 5/ 127، "المدخل" لابن الحاج 4/ 120، "المجموع" 5/ 98، "الفتاوى الكبرى" شيخ الإسلام 3/ 7، "إعلام الموقعين" 4/ 299، "الآداب الشرعية" لابن مفلح 2/ 348.
51 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وَالنَّارِ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ» .
6546 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» . [انظر: 3241 - مسلم: 2738 - فتح: 11/ 415].
6547 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينَ، وَأَصْحَابُ الجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ» [انظر: 5196 - مسلم: 2736 - فتح: 11/ 415].
6548 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، يَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ» . [انظر:- مسلم: 2850 - فتح: 11/ 1415.
6549 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ، يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» . [7518 - مسلم:
2829 -
فتح: 11/ 415].
6550 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ -بَدْرٍ- وَهْوَ غُلَامٌ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى تَرَى مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ:«وَيْحَكِ أَوَهَبِلْتِ؟ أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ؟ إنها جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ لَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ» . [انظر:- مسلم:- فتح: 11/ 415].
6551 -
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْكَافِرِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ» . [مسلم: 2852 - فتح: 11/ 415].
6552 -
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا المُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا» [مسلم: 2827 - فتح: 11/ 415].
6553 -
قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ مَا يَقْطَعُهَا» . [مسلم: 2828 - فتح:11/ 416].
6554 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ، -لَا يَدْرِي أَبُو حَازِمٍ أَيُّهُمَا قَالَ- مُتَمَاسِكُونَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يَدْخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» [انظر: 3247 - مسلم: 219 - فتح: 11/ 416].
6555 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الْغُرَفَ فِي الجَنَّةِ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ» . [مسلم: 2830 - فتح: 11/ 416].
6556 -
قَالَ أَبِي: فَحَدَّثْتُ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ وَيَزِيدُ فِيهِ: «كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الْغَارِبَ فِي الأُفُقِ الشَّرْقِىِّ وَالْغَرْبِيِّ» . [انظر: 3256 - مسلم: 2831 - فتح: 11/ 416].
6557 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تُشْرِكَ بِي» [انظر: 3334 - مسلم: 2805 - فتح: 11/ 416].
6558 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَأَنَّهُمُ الثَّعَارِيرُ» . قُلْتُ: مَا الثَّعَارِيرُ؟ قَالَ: الضَّغَابِيسُ. وَكَانَ قَدْ سَقَطَ فَمُهُ، فَقُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَبَا مُحَمَّدٍ، سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ مِنَ النَّارِ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. [مسلم: 191 - فتح: 11/ 416].
6559 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْهَا سَفْعٌ، فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيِّينَ» . [7450 - فتح: 11/ 416].
6560 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللهُ: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرَجُونَ قَدِ امْتُحِشُوا وَعَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ" أَوْ قَالَ: "حَمِيَّةِ السَّيْلِ". وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّهَا تَنْبُتُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً؟» . [انظر: 22 - مسلم: 183، 184 - فتح:11/ 416].
6561 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ» .
6562 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ عَلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ كَمَا يَغْلِي المِرْجَلُ وَالْقُمْقُمُ» [انظر: 6561 - مسلم: 213 - فتح: 11/ 417].
6563 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ:«اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» [انظر: 1413 - مسلم: 1016 - فتح: 11/ 417].
6564 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ:«لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ» [انظر: 3885 - مسلم: 210 - فتح: 11/ 417].
6565 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَاشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّنَا. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ. وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ وَيَقُولُ: ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ. فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ. وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي اتَّخَذَهُ اللهُ
خَلِيلاً. فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ. وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ. ائْتُوا مُوسَى الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ. فَيَأْتُونَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، ائْتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَهُ،
فَيَقُولُ لَسْتُ هُنَاكُمْ، ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.
فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا مِثْلَهُ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ حَتَّى مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ». وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ عِنْدَ هَذَا: أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ.
6566 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ الحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، يُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ» . [فتح: 11/ 418].
6567 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ حَارِثَةَ أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ هَلَكَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، أَصَابَهُ غَرْبُ سَهْمٍ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَلِمْتَ مَوْقِعَ حَارِثَةَ مِنْ قَلْبِي، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ لَمْ أَبْكِ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ سَوْفَ تَرَى مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ لَهَا «هَبِلْتِ، أَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ؟ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى» [مسلم: 2809 - فتح: 11/ 418].
6568 -
وَقَالَ «غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ، لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا -يَعْنِي الْخِمَارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . [انظر: 44 - مسلم: 1880 - فتح: 11/ 418].
6569 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلاَّ أُرِىَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، لَوْ أَسَاءَ، لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلاَّ أُرِىَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، لَوْ أَحْسَنَ، لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً» . [فتح: 11/ 418].
6570 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ:«لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ على الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ» . [انظر: 99 - فتح: 11/ 418].
6571 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا، فَيَقُولُ اللهُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَجَدْتُهَا مَلأَى. فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا. أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا. فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي، أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي وَأَنْتَ الْمَلِكُ» . فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَكَانَ يُقَالُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً". [7511 - مسلم: 186 - فتح: 11/ 418].
6572 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الحَارِثِ بْنِ نَوْفَل، عَنِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ. [انظر: 3883 - مسلم: 209 - فتح: 11/ 419].
(وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ طَعَام يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ زِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ".) سلف قريبًا في باب: يقبض الله الأرض. مسندًا مطولًا
(1)
وفي بعض النسخ هنا: {عَدْنٍ} : خلد. عدنت بأرض: أقمت ومنه المعون، في معدن صدق: في منبت صدق.
(1)
برقم (6520).
ثم ساق أحاديث:
أحدها:
حديث عِمْرَانَ بن حصين: "اطَّلَعْتُ في الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الفُقَرَاءَ". الحديث، وسلف في صفة الجنة
(1)
، ومعنى "اطلعت": أشرفت عليها من علوٍ.
ثانيها:
حديث أُسَامَةَ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينَ، وَأَصْحَابُ الجَدِّ مَحْبُوسُونَ، غَيْرَ أَنَّ أَصْحَابَ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ".
أي: نساء المؤمنين؛ لأن الكفار ونساءهم في النار. قال الداودي: وهذا الوقوف في الدنيا، إما ليلة أسري به، أو حين خسفت الشمس.
وقوله: ("وأصحاب الجد محبوسون") أي: موقوفون. يعني أصحاب المال والبخت، وهو بفتح الجيم، والمعني به من فاخر بماله وكاثر ولم يؤد منه الواجب عليه.
وفيه: فضل الفقر، وقد أسلفنا ما فيه، وأن الكفاف أفضل؛ لأن الغنى المطغي عابه الله بقوله:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، والفقر المدقع عابه الشارع.
الحديث الثالث:
حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا صارَ أَهْلُ الجَنَّةِ إِلَى الجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ
(1)
برقم (3241).
الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، لَا مَوْتَ، يَا أَهْلَ النَّارِ، لَا مَوْتَ. فَيَزْدَادُ أَهْلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ".
قوله: ("ثم يُذْبح") أي: يجعل الله الصفة شخصًا يراها العباد عند القبض، ويعرفونها إذا رأوها في المعاد.
الحديث الرابع:
حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَقُولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ، يَا أَهْلَ الجَنَّةِ. فيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا".
معنى ("أحل عليكم") أنزله عليكم، يقال: أحللت الشيء: أنزلته.
الحديث الخامس:
حديث أنسٍ رضي الله عنه في قصة حارثة، سلف في بدر سندًا ومتنًا
(1)
، وقيل أن يقع للبخاري أن يعيد حديثًا بسنده ومتنه سواء، نعم ذكره في الجهاد بسند آخر إلى أنس
(2)
، وكذا في الباب، فراجعه
الحديث السادس:
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ، أَنَا الفَضلُ بْنُ مُوسى، ثنا الفُضَيْلُ، عَنْ أَبِي حَازِم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الكَافِرِ مَسِيرَة ثَلَاَثةِ أَيَّامٍ لِلرَّاكِبِ المُسْرعِ".
(1)
برقم (3982).
(2)
برقم (2809).
قال الجياني: كذا روي هذا الإسناد عن أبي زيد وأبي أحمد الفضيل غير منسوب، ونسبه ابن السكن: ابن غزوان، وكان أبو الحسن يقول: هو فضيل بن عياض. وهو وهم، والصواب ما قاله ابن السكن، وفضيل بن عياض، لا رواية له عن أبي حازم الأشجعي، ولا أدركه، وليس لابن عياض ذكر في الجامع إلا في موضعين من كتاب التوحيد
(1)
.
الحديث السابع:
وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنَا المغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعدٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا".
قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَحَدَثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ لا يَقْطَعُهَا".
سلف في صفة الجنة من حديث أنس وأبي هريرة
(2)
.
وقوله: ("لا يقطعها") يريد: تحت ما يميل من أغصانها؛ لأنه ليس في الجنة شمس. والجواد يقال للذكر والأنثى، من خيل جياد، وأجواد، وأجاويد، يقال: جاد الفرس: إذا صار رابعًا. وقال ابن فارس: الجواد: الفرس السريع
(3)
. والمضمر من الخيل أن يعلف حَتَّى يسمن ثم يرده إلى القوت، وذلك في أربعين ليلة، وهذِه المدة تسمى المضمار، قاله الجوهري
(4)
.
(1)
"تقييد المهمل" 2/ 744. قلت: والموضعان المشار إليهما في كتاب التوحيد، يأتيا برقمي (7397، 7414).
(2)
برقمي (3251 - 3252).
(3)
"مجمل اللغة" 1/ 202.
(4)
"الصحاح" 2/ 722.
وعبارة الداودي: هو الذي يدخل في بيت، ويجعل عليه أجلة، ويقل علفه؛ لينتقص من لحمه شيئًا، فيزداد جريه ويؤمن عليه أن يسبق، قال: وكان للخيل المضمرة على عهد رسول صلى الله عليه وسلم سبعة أميال في السباق، وما لم يضمر ميل.
الحديث الثامن:
حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَدْخُلَنَّ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألفًا -أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ، لَا يَدْرِي أَبُو حَازِم أَيُّهُمَا قَالَ- مُتَمَاسِكُونَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَا يدخُلُ أَوَّلُهُمْ حَتَّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ، وُجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ". سلف في صفة الجنة من بدء الخلق
(1)
.
الحديث التاسع:
حديث سَهْل رضي الله عنه، عَنِ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الغُرَفَ فِي الجَنَّةِ كمَا تتَرَاءَوْنَ الكَوْكبَ فِي السَّمَاءِ".
قَالَ أَبِي: فَحَدَّثْتُ به النُعْمَانَ بْنَ أَبِي عَياشٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يُحَدِّثُ وَيزِيدُ فِيهِ: "كمَا تَرَاءَوْنَ الكَوْكبَ الغَارِبَ فِي الأُفُقِ الشَّرْقِيِّ وَالْغَرْبِيِّ".
معنى: (يتراءون الغرف" أي: بعضهم أعلى من بعض، وغرف كل قوم فوق غرفهم ليس أحد تحت أحد، قاله الداودي.
وقوله: ("الكوكب الغارب في الأفق الشرقي والغربي") كذا هو في البخاري.
قال ابن التين: وفيه نظر؛ لأن الناحية الشرقية ليس يكون الغروب
(1)
برقم (3247).
فيها، إنما يكون فيها المطالع، وفي رواية أبي ذر:"الغابر": أي الباقي، وهذا يصح أن يكون معناه: الباقي لم يستتر عن الأبصار، وفي رواية الأصيلي "العازب" بعين مهملة، ثم زاي: المنفرد.
الحديث العاشر:
حديث أنس الذي أسلفته: "لأهون أهل النار عذابًا" .. الحديث.
ومعنى "أردت منك أهون من هذا" أي: أمرتك فلم تفعل؛ لأنه سبحانه لا يكون إلا ما يريد من الخلق شيئًا إلا ما هم عليه، فإن قلت: كيف يصح أن يأمر بما لا يريد؟ قيل: لا يمتنع ذَلِكَ ولا يستحيل، بل قد يوجد ذَلِكَ في الواحد منا، وذلك (الأمر)
(1)
إذا عاتب امرءًا على ضرب عبده، قال: إني أمرته فلا يمتثل، فيجب أن يوضح له حقيقة ذَلِكَ؛ خشية أن يعاقبه، فإذا حضر العبد قال: افعل كذا، وهو لا يريد بفعله لتصدق مقالته، وذلك مقرر في الأصول.
الحديث الحادي عشر:
حديث جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ قوم مِنَ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَأنّهُمُ الثَّعَارِيرُ". قُلْتُ: ومَا الثَّعَارِيرُ؟ قَالَ: الضَّغَابِيسُ. وَكَانَ قَدْ سَقَطَ فَمُهُ، فَقُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَبَا مُحَمَّدٍ، سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ مِنَ النَّارِ"؟ قَالَ: نَعَمْ.
"الثعارير" بمثلثة، ثم عين مهملة، ثم ألف، ثم راء ثم مثناة تحت، ثم راء، وهي: رءوس الطراثيث، تكون بيضًا، شبهوا في البياض بها، واحدها: طرثوث، وهو نبت يؤكل، وقال ابن الأعرابي: الثعرور: قثاء
(1)
كذا في الأصول، وفي هامش الأصل: لعله: (المرء).
صغار
(1)
، وهي: الضغابيس -بضاد وغين معجمتين، ثم ألف ثم باء موحدة، ثم مثناة تحت، ثم سين مهملة- قلت: شبهوا بها لسرعة نموها. قال ابن فارس: ويشبه الرجل الضعيف به، فيقال: ضغبوس
(2)
. وذكر عن الخليل أنها صغار القراد.
وقال الداودي: إنه طير ضعيف فوق الذباب. وذكر عن "غريب الحديث" للحربي أنها شجر على طول الإصبع. وقال غيره: نبت ضعيف
(3)
.
قال في "الغريبين": وفي الحديث: لا بأس باجتناء الضغابيس في الحرم. قال الأصمعي: هو نبت يشبه الهليون يسلق ويجعل بالخل والزيت ويؤكل
(4)
. قال الخطابي: يقال إنها (هناة)
(5)
تنبت في أصول الشام طوال رخصة تؤكل
(6)
. وعن القابسي: الذي سمعت في الثعارير أنها الصدف التي تخرج من البحر فيها الجوهر. وقال الجوهري: هي الثعار الثآليل، وحمل الطراثيث أيضًا، قال:(والثعروران)
(7)
: مثل الحلمتين يكتنفان القنب من خارج
(8)
، قال: والقنب وعاء قضيب الفرس وغيره من ذوات الحافر
(9)
. وقال ابن فارس: الثعروران كالحلمتين، يكتنفان ضرع الشاة
(10)
.
(1)
نقله عنه الأزهري في "تهذيب اللغة" 1/ 482.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 578.
(3)
المصدر السابق، نقله عن أبي عبيد عن أبي عمرو.
(4)
"تهذيب اللغة" 3/ 2120.
(5)
من (ص 2).
(6)
"أعلام الحديث" 3/ 2272.
(7)
في الأصول: الثعروان. والمثبت من "الصحاح".
(8)
"الصحاح" 2/ 604 - 605.
(9)
"الصحاح" 1/ 206.
(10)
"مجمل اللغة" 1/ 159.
فصل:
وقوله: (وكان قد سقط فمه) النحويون ينكرون اجتماع الميم مع إضافة الضم إلى المضمر، ويرون أنه غير جائز في غير الشعر، كما قال: يصبح عريان وفي البحر فمه. وإنما إعرابه عندهم بالحروف، بالواو رفعًا، وبالألف نصبًا، وبالياء جرًّا.
الحديث الثاني عشر:
حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:"يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْهَا سَفْعٌ، فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَهَنَّمِيِّينَ".
السفع بسين مهملة: الأثر، قال الجوهري: يقال: سفعته النار: إذا لفحته لفحًا يسيرًا، فغيرت لون البشرة
(1)
.
الحديث الثالث عشر:
حديث أَبِي سعيدٍ الخُدْرِيِّ أَنَّ النِبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وأهل النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيَخْرُجُونَ وقَدِ امْتُحِشُوا" .. الحديث.
معنى "امتحشوا": أحرقوا، والمحش: إحراق النار الجلد، وقد محشت جلده أي: أحرقته، وفيه لغة: أمحشته، عن ابن السكيت
(2)
. وقال الليث: المحش تناولٌ من لهب يحرق الجلد، ويبري العظم. وقال الداودي: انقبضوا كما تقبض الفحمة، وتصغر عن قدر العود.
وقوله: ("وعادوا حممًا") قال الهروي: الحمم: الفحم، واحدته حممة
(3)
.
(1)
"الصحاح" 3/ 1230.
(2)
"إصلاح المنطق" ص 279.
(3)
"غريب الحديث" 1/ 120.
وقال الجوهري: الحمم: الرماد والفحم، وكل ما احترق من النار
(1)
.
فصل:
قوله: ("فينبتون كما تنبت الحبة") هي بكسر الحاء، قال القزاز (والفراء)
(2)
: هي بزور البقل، وقيل: حب ينبت في الحشيش صغار، وقيل: هي الحبوب المختلفة. وقال ابن شميل: هي اسم جامع لحبوب البقول التي تنتثر إذا هاجت، ثم إذا أمطرت من قابل نبتت. وقال الكسائي: هي حب الرياحين، الواحدة حبة، فأما الحنطة ونحوها فهو الحب لا غير. وقال أبو عمرو: هي نبت ينبت في الحشيش صغار، وهي بمعنى ما سلف. وقال صاحب "الجمهرة": كل ما كان من بزر العشب فهو حبة، والجمع: حبب
(3)
. زاد الجوهري: والحبة بالكسر: بزور الصحراء بما ليس بقوت، وذكر الحديث
(4)
. وعبارة الخطابي: هي بزور النبات
(5)
.
فصل:
وقوله: ("في حميل السيل") أي: محموله، فعيل: بمعنى مفعول، كقتيل (وجريح)
(6)
، وهو ما جاء به من طين أو غثاء، فإذا كان فيه حبة واستقرت على شط الوادي نبتت في كل يوم وليلة، وهي أسرع نابتة
(1)
"الصحاح" 5/ 1905.
(2)
من (ص 2).
(3)
"الجمهرة" 1/ 65.
(4)
"الصحاح" 1/ 105.
(5)
"أعلام الحديث" 3/ 2273.
(6)
من (ص 2).
نباتًا، وإنما أخبر عليه السلام عن سرعة نباتهم. وقال الداودي: هذا مثل ضربه للذي يغتسل عند خروجه من جهنم، فيزول عنه السفع، ويصير ضامرًا ذابلًا مصفرًا، فإذا دخل يأت إليه.
وقوله: (أو قال: "في حمئة السيل") هو الطين الأسود المنتن، كذا ذكره الخطابي
(1)
. قال (ابن التين)
(2)
. والذي رويناه: "حِمة" بكسر الحاء غير مهموز، ومعناه مثل معنى حميل، وفي رواية أخرى:"حمية": بفتح الحاء وتشديد الياء، أي: معظم جريه واشتداده.
الحديث الرابع عشر:
حديث النُّعْمَان رضي الله عنه، سمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِن أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ في أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَةٌ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ".
وفي رواية: "على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل بالقمقم".
روي هذا من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق عنه. والأول من حديث شعبة، عن أبي إسحاق عنه.
وأخرجه (مسلم)
(3)
أيضًا من حديث شعبة به بلفظ: "لرجل" إلى قوله: "دماغه". ومن حديث الأعمش، عن أبي إسحاق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كلما يغلي المرجل ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا"
(4)
.
(1)
"أعلام الحديث" 3/ 2273.
(2)
في الأصل: (ابن المنير). ولعل المثبت هو الصواب.
(3)
من (ص 2).
(4)
مسلم (213).
والأخمص: ما دخل من باطن القدم فلم يصب الأرض، قاله الجوهري
(1)
. وقال ابن فارس: أخمص القدم: باطنها
(2)
.
قال الداودي: وفي موضع آخر من الصحاح: "من نار تبلغ كعبيه"
(3)
فإما أن يكون قالهما، أو اكتفى في قوله:"جمرة" أنها في أحد الأخمصين لعلم السامع بالقدمين، كقوله تعالى:{عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] قال: ويحتمل أن يكون هذا الرجل أبا طالب، أو غيره من المسلمين؛ لأن أبا طالب تبلغ النار كعبيه؛ ولأنه أخف الكافرين عذابًا؛ ولأن الكفرة:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56].
وقوله: ("كما يغلي المرجل بالقمقم"). قال الجوهري: المرجل: قدر من نحاس
(4)
. فانظر كيف يصح الكلام على هذا لا جرم، قال عياض: صوابه المرجل، والقمقم.
الحديث الخامس عشر:
حديث عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ.
سلف قريبًا في باب من نوقش الحساب
(5)
.
الحديث السادس عشر:
حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: "لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ نارٍ يَبْلُغُ كعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ".
(1)
"الصحاح" 3/ 1038.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 303.
(3)
سلف برقم (3885)، ورواه مسلم (210).
(4)
"الصحاح" 4/ 1705.
(5)
برقم (6540).
الضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض، وهذِه شفاعة خاصة له، ذكره آخر الباب من حديث العباس أنه قال لرسول الله: هل نفعت أبا طالب بشيء؟
الحديث السابع عشر:
حديث أنس رضي الله عنه في الشفاعة بطوله، وفي آخره:"حَتَّى مَا يبقى في النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ القُرآنُ" وكان قتادة يقول عند هذا: أي وجب عليه الخلود. وفي ذكر الخطيئة من يجوز وقوع الصغائر عليهم، والمختار خلافه.
وقوله: ويقول: ("ائتوا نوحًا أول رسول بعثه الله") ذكر أصحاب التواريخ أن إدريس جد نوح عليهما السلام، فإن لم يكن إدريس رسولاً لم يصح (قولهم)
(1)
على صحة الخبر أنه جد نوح؛ لقوله: "أول رسول بعثه الله" وإن لم يكن (إدريس)
(2)
رسول جاز، فيجوز أن يكون نبيًّا غير مرسل.
قال الداودي: فيه أن نوحًا أول رسول، وما روي أن آدم رسول الله لا يثبت كثبوت هذا النقل واشتهاره، قال: ومن هنا لم يتسق الكلام على الولاء؛ لأن بين قوله: "فأخر ساجدًا" وبين قوله: "فيحد لي حدَّا" ما يكون من أمور (يوم)
(3)
القيامة من الموازين من تطاير الصحف، والحساب، والحوض، فهذا كله قبل دخول من يدخل النار، ثم يكون بعد ذَلِكَ من يخرج من النار.
(1)
في الأصل: (قوله).
(2)
من (ص 2).
(3)
من (ص 2).
وقوله: ("إلا من حبسه القرآن") يعني: أهل الكفر؛ لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167].
وفي هذا فضل نبينا على سائر الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام، خصوصًا نبينا.
وفيه: تواضع الأنبياء، ومعرفتهم بحق بعضهم بعضًا.
وفيه: أن الأنبياء لم يعلموا اختصاص نبينا بالشفاعة العظمى، ولو علموا ذَلِكَ لردوهم إليه من أول وهلة.
وفيه: أن أهل المحشر (يتصرفون)
(1)
فيما ينفعهم.
الحديث الثامن عشر:
حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم " فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، فيُسَمَّوْنَ الجَهَنَمِيِّينَ".
وقد سلف من حديث أنس، لكن زاد في هذا الحديث بالشفاعة، وفي إسناده الحسن بن ذكوان، وهو مكبر من أفراد البخاري.
وقال النسائي في حقه: ليس بالقوي
(2)
.
وأما المصغر فأخرجا له.
والأول أبو سلمة بصري، روى عن أبي رجاء عمران.
والمصغر، هو المعلم العوذي بصري أيضًا.
(1)
في الأصل: (يتضررون)، والمثبت من (ص 2).
(2)
"الضعفاء والمتروكين" للنسائي (مطبوع مع كتاب "الضعفاء الصغير" للبخاري (152).
الحديث التاسع عشر:
حديث أَنَسٍ رضي الله عنه، (في قصة أم حارثة)
(1)
، الحديث سلف في الباب، ونوعه؛ لاختلاف السندين، فإنه أخرجه هنا بعلو عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس. وأخرجه أولاً عن عبد الله ابن محمد، ثَنَا معاوية بن عمرو، ثَنَا أبو إسحاق، عن حميد، عن أنس: فعلا الأول برجل، وأخرجه في الجهاد أيضًا رباعيًّا إلى أنس
(2)
، وزاد في الباب فيه:
وَقَالَ: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدَهٍ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، [وَلَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا]
(3)
رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا -يَعْنِي: الخِمَارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
قوله: (سهم غريب) قال الجوهري: أصابه سهم غريب، يضاف ويسكن ويحرك إذا كان لا يدرى من رماه
(4)
. وفي كتاب ابن فارس: أتاه سهم غرب، إذا لم يدر من رمى به، قال: ويقال: سهم غريب أيضًا
(5)
.
قال ابن التين: والذي رويناه مضاف مفتوح قال: و (قد) رويناه بفتح القاف وتشديد الدال. والقد: السوط أي: مقدار سوطه؛ لأنه يقد، أي: يقطع طولًا. وقيل: "موضع قده" أي: شراكه.
(1)
في الأصل: (أن أم حارثة)، والمثبت من (ص 2).
(2)
سلف برقم (2809).
(3)
ساقطة من الأصول، والمثبت من "الصحيح".
(4)
"الصحاح" 1/ 194.
(5)
"مجمل اللغة" 2/ 695.
قال الهروي: "موضع قده" يعني: موضع سوطه، ويقال للسوط: قد. قال: فأما القد بالفتح: فجلد السخلة، وفي الحديث أن امرأة أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجرتين وقدٍ. فالقد: سقاء صغير يتخذ من مسك السخلة ويجعل فيه اللبن. وقال أبو بكر: يجوز أن يكون القد: النعل. يعني في الحديث، سميت قدًا؛ لأنه يقد من الجلد، قال: وروى ابن الأعرابي: كسبت اليماني قده لم يجرد.
وقال الفراء: بالكسر النعل يجرد من الشعر، فيكون ألين له.
قال الداودي "وقاب قوس" يعني: ما بين وسط الوتر، ووسط القوس.
والمعروف أن قاب: قدر، والقاب: قدر ما بين المقبض والسية، وقال بعضهم: في قوله تعالى: {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9]: قابي قوس، فقلبه.
وقوله: ("ولنصيفها" يعني: الخمار)، هذا هو المعروف عند أهل اللغة
(1)
، وذكر الهروي قولًا ثانيًا أن نصيفها معجرها
(2)
.
الحديث العشرون:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، لَوْ أَسَاءَ، لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ، لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً"
فيه بشرى للمؤمن، وعكس للكافر.
(1)
في (ص 2): الحديث.
(2)
انظر: "النهاية" 5/ 66.
الحديث الحادي والعشرون:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ:"لَقَدْ ظنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلنِي عَنْ هذا الحَدِيثِ أحدٌ أَوَّلُ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ. خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ".
معنى: "أول منك" أي: قبلك يسألني، وضبطه الحفاظ بنصب (أول)
(1)
، ويصح رفعها؛ لأن (أن) مخففة من الثقيلة، وهو مثل قوله تعالى:{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا} [المائدة: 71]، قرئ بالوجهين
(2)
، وأول: أصله أوأل على وزن أفعل مهموز الوسط، قلبت الهمزة واوًا وأدغم، يدل على ذَلِكَ قولهم: هذا أولى منك، والجمع الأوائل، والأوالي أيضًا على القلب، وقال قوم: أصله أوول على وزن فوعل، فقلبت الواو الأولى همزة، وإنما لم تجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع.
الحديث الثاني والعشرون:
حديث عَبِيدةَ -بفتح العين- عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولًا" .. الحديث. وفي آخره. "فَيَقُولُ: تَسْخَرُ مِنِّي -أَوْ تَضْحَكُ مِنِّي- وَأَنْتَ المَلِكُ!! ". فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ،
(1)
في (ص 2): اللام.
(2)
قلت: فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر: (أن لا تكون فتنة) نصبًا.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: (أن لا تكونُ فتنة) رفعًا.
انظر: "الحجة للقراء السبعة" 3/ 246.
وَكَانَ يُقَالُ: ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً أي: الذي له مئل الدنيا وعشرة أمئالها.
سيأتي بعد أن الضحك معناه: الاستهزاء، ونحوه السخرية، وورد ذلك في القرآن على سبيل المقابلة، وهو هنا على معنى المقابلة، وإن لم تذكر لفظًا، فهي موجودة معنى؛ لأنه ذكر أنه عاهد الله مرارًا لا يسأله غير ما سأله ثم غدر، فحل غدره محل الاستهزاء، وكذا دخوله الجنة وتردده، وتخيله أنها ملأى ضرب من ذَلِكَ، فأطلق ذَلِكَ جزاء على ما تقدم من غدره.
الحديث الثالث والعشرون:
حديث العَبَّاسِ رضي الله عنه وقد أسلفناه في الحديث الخامس عشر.
52 - باب الصِّرَاطُ جَسْرُ جَهَنَّمَ
6573 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ:«هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» . قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟» . قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْهُ. فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ، وَيُضْرَبُ جِسْرُ جَهَنَّمَ» . قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، وَدُعَاءُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وَبِهِ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، أَمَا رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟» . قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهَا لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلاَّ اللهُ، فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، مِنْهُمُ الْمُوبَقُ، بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ، ثُمَّ يَنْجُو، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللهُ مِنَ القَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ، مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ آثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنِ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ فَلَا يَزَالُ يَدْعُو اللهَ. فَيَقُولُ:
لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ- لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ؟ فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا رَبِّ قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُ أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ، وَيْلَكَ ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! فَلَا يَزَالُ يَدْعُو. فَيَقُولُ لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ. فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ. فَيُعْطِي اللهَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ، فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ يَقُولُ رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ. ثُمَّ يَقُولُ: أَوَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ. فَلَا يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ، فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا، فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قِيلَ: تَمَنَّ مِنْ كَذَا. فَيَتَمَنَّى، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ تَمَنَّ مِنْ كَذَا. فَيَتَمَنَّى حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِىُّ فَيَقُولُ لَهُ هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ». قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَذَلِكَ الرَّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً. [انظر: 806 - مسلم: 182 - فتح:11/ 444].
6574 -
قَالَ: وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ جَالِسٌ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، لَا يُغَيِّرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ:«هَذَا لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ» . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: حَفِظْتُ: «مِثْلُهُ مَعَهُ» . [انظر: 22 - مسلم: 183 - فتح: 11/ 446].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث أبي هريرة رضي الله عنه. قال: قال ناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ الحديث بطوله.
وقد أسلفنا في تفسير سورة النساء في: "هل تضارون في رؤية الشمس؟ " أربع روايات: أكثرها: ضم أوله رواية من غير تشديد. أي: تضرون؛ لأن الضرر: المضرة.
ثانيها: فتح التاء وتشديد الضاد والراء من الضرر.
ثالثها: في غير هذا الموضع: "تضامون"، بضم أوله من الضيم.
رابعها: بفتح التاء وتشديد الضاد والميم. وقال ابن التين: رويناه بفتح التاء وتشديد الضاد والراء، تفاعلون. قال الجوهري: أضرني فلان: دنا مني دنوًّا شديدًا، قال: وفي الحديث "لا تضارون" بفتح التاء، أي: لا تضامون
(1)
. وتضارون أصله: تتضاررون، حذفت التاء الأولى مثل {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، ومعناه: لا تنازعون، ولا تجادلون فتكونون أخدانًا يضر بعضكم بعضًا في الجدال، يقال: ضاررته مضارة: إذا خالفته، وقيل: معناه: لا يمنع أحدكم (كثرة)
(2)
من ينظر إليه ألَّا يراه أو يضر به في نظره، أو يستر بعضهم عن بعض.
ثم ذكر الرواية الأولى مأخوذ من الضير أصله تضيرون، فاستثقلت الفتحة على الياء؛ لسكون ما قبلها، فألقيت حركتها على الضاد، وقلبت الياء ألفًا؛ لانفتاح ما قبلها، (ومعناه)
(3)
كمعنى الأول، قال: فأما ضم التاء وتشديد الراء، فمعناه أيضًا كذلك، أي: لا تضاررون أحدًا، فتسكن الراء الأولى وتدغم في التي بعدها.
فصل:
وفيه: رد على المعتزلة فيم إحالتهم الرؤية، والقرآن والسنة يرده، قال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22، 23] وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] وحديث الباب، وكذا نحو عشرين من الصحابة، منهم: علي، وجرير، وصهيب، وأنس رضي الله عنه. قال الداودي: وهذا الحديث في وسط الذي قبله، وكذا هو في كتاب مسلم، وقد سلف شرحه.
(1)
"الصحاح" 2/ 721.
(2)
من (ص 2).
(3)
في الأصل: ومن في معناه.
فصل:
قوله: ("من كان يعبد شيئًا فليتبعه") يحتمل أن يريد: فليأته، ويحتمل أن يخلق في تلك الأشياء إدراك فتسير معهم.
فصل:
والطاغوت: الشيطان في قول عمر، والطاغوت في قوله:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60]، كعب بن الأشرف، قاله مجاهد
(1)
. قال سيبويه: الطاغوت: اسم واحد يقع على الجميع
(2)
.
وقال أبو عبيد: هو والجبت: كل ما عبد من دون الله. وقال محمد بن يزيد: الصواب عندي أن الطاغوت جماعة، بخلاف قول سيبويه، وقال ابن عزير: الطاغوت من الجن والإنس: شياطينهم، قال: ويكون واحداً وجمعًا. قال أبو جعفر النحاس: فعلى قول سيبويه، إذا جمع فعله ذهب به إلى الشياطين، وإذا وحد ذهب به إلى الشيطان
(3)
.
فصل:
قوله: ("فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون"). قيل: يحتمل أن تأتيهم صورة مخلوقة، فيقول:"أنا ربكم" على (سبيل)
(4)
الامتحان، فيقولون: نعوذ بالله منك، "فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها" والإتيان هنا عبارة عن رؤيتهم الله تعالى، وجرت العادة في المحدثين أن من كان غائبًا عن غيره لا يتوصل إليه إلا بالإتيان، فعبر عن الرؤية
(1)
"تفسير مجاهد" 1/ 164.
(2)
"الكتاب" 3/ 240.
(3)
"معاني القرآن" للنحاس 1/ 269 - 271.
(4)
في (ص 2): صورة.
به مجازًا، وقيل: معناه: ظهور فعله لنا مثل قوله تعالى: {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: 26]، وقوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22].
فصل:
قوله: ("في الصورة") يحتمل وجوهًا كما قال ابن فورك، منها: أن يكون "في" بمعنى الباء، كقول ابن عباس:{فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210]: أي: بظلل
(1)
، وبدل إحداهما بالآخر سائغ في الكلام، تقول: الحركة في التحرك، (وبالتحرك)
(2)
، وتقديره: أن الله يأتيهم بصورة غير صورته التي يعرفونه في الدنيا، وتكون الإضافة في الصورة إليه من طريق الملك والتدبير، كما يقال: سماء الله، وأرضه، وبيت الله. فيكون المعنى: أن الخلق عرفوا الله في الدنيا بدلالته (المنصوبة، وآياته)
(3)
التي ركبها في الصور، وهي الأعراض الدالة على (حدث)
(4)
الأجسام، واقتضائها محدثًا بها من حيث كانوا محدثين
(5)
.
فصل:
قوله: ("ثم يقول: أنا ربكم") قال بعض العلماء: هذِه آخر محنة المؤمنين فإنه يظهر هذا القول فعلًا من الله في بعض هذِه الصور محنة للمكلفين في الدنيا من المؤمنين، فيظهر منهم عن صدق توحيدهم، وصحة إيمانهم ما يكون بإنكار لذلك، والفائدة فيه: تعريفنا ما قدر الله سبحاثه لأهل الإيمان به في الدنيا والآخرة، أي: يثبتهم في
(1)
"تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 372.
(2)
من (ص 2).
(3)
في الأصل كلام غير واضح، والمثبت من (ص 2).
(4)
في الأصل: خلاف.
(5)
"مشكل الحديث وبيانه" لابن فورك ص 89 - 95.
الدنيا على الحق عند اليقين، ويثبتهم في العقبى أيضًا في مواضع المحن، وإنما قيل للدنيا دار محن وتكليف مطلقًا، وإن كان قد تقع في العقبى المحن، فلا يطلق عليها أنها دار تكليف، بل يقال: دار جزاء؛ لأن ذَلِكَ الغالب عليها، وهذا كما يقع في الدنيا جزاء، ولا يضاف إليها؛ لأنها لا تغلب عليها ولم تبن له.
فصل:
قوله قبله: ("فإذا أتانا ربنا عرفناه") يحتمل أن يكون بإظهار فعل يبديه في قلوبهم عندما يحدث لهم من إدراكه ومعاينته، أو يكون عبارة عن رؤيتهم إياه كما تقدم
(1)
.
وقوله: ("فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها") أي: يظهر لهم نوع الصورة المعهودة لهم شكلًا وهيئة، ويخلق إدراكهم له، وخاطبهم بأن أسمعهم كلامه، وأفهمهم مراده، تبينوا وأتقنوا أن المكلم لهم هو ربهم. والفائدة في ذَلِكَ: تعريفنا ما يفعله الله في العقبى من عصمة أوليائه، وتثبيتهم، وتأييدهم حَتَّى لا تستفزهم مشاهدة تلك الأحوال العظيمة، ولا يستخفهم أمر تلك الصورة المنكرة التي لم يعهدوا مثلها.
ووجه معرفتهم إياه أنهم عرفوه في الدنيا عن معرفة منهم لمعبود لا يشبه شيئًا بما عبدوه"، فإذا كان (مرئيهم في العقبى معروفهم)
(2)
في
(1)
مذهب السلف هو: الإيمان بذلك كما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى، قال ابن تيمية رحمه الله: ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فلا يجوز نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين؛ بل هو سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. "مجموع الفتاوى" 5/ 195.
(2)
في (ص 2): (مرتبتهم في الدنيا معروفة)
الدنيا اتفقوا أنه هو معبودهم، وحكى ابن أبي عاصم أنه قال في تأويل هذا الحديث: إن ذَلِكَ تغير يقع في عيون الرائين كنحو ما يتخيل الإثسان الشيء بخلاف ما هو به، فيتوهمه الشيء على الهيئة.
فصل:
قال ابن فورك: وإضافة الصورة إليه بمعنى: الملك والفعل لا بمعنى التصور بشيء من الصور -تعالى الله عن ذَلِكَ- لأن الهيئة، والصورة، والتأليف، والتركيب، إنما تصح على الأجسام المحدودة والجواهر المخلوقة
(1)
.
قال: ويحتمل أن تكون الصورة هنا بمعنى الصفة، فيكون تقدير المعنى: ما يظهر لهم من شدة بأسه يوم القيامة، وإظهاره معايب الخلق ومساوئهم وفضائحهم، وإنما عرفوه سبحانه ستَّارًا حليمًا غفورًا، فيظهر لهم منها أن ذَلِكَ منه، وهو معنى قوله:"فيقول: أنا ربكم " على معنى قول القائل، قالت رجلي، وقالت أذني، على معنى ظهر ذَلِكَ فيه، فيقولون عند ظهور ذَلِكَ منه مستعيذين بالله: هذا
مكاننا. أي: نثبت ونصبر حَتَّى تظهر رحمته وكرمه، وهو إتيان الرب لهم بإظهار جوده لهم، وعطفه عليهم، فيأتيهم بعد ذَلِكَ عند ثباتهم في الصورة التي يعرفون على معنى إبداء عفوه ومغفرته على الصفة التي عرفوه بها في الدنيا من ستره ومغفرته وحلمه، ومن هذا المعنى تقول: عرفني صورة هذا الأمر، أي: صفته
(2)
.
وقيل: هو صورة اعتقادي في هذا الأمر، والاعتقاد ليس بصورة مركبة، والمعنى: يرون الله تعالى على ما كانوا يعتقدونه عليه من
(1)
"مشكل الحديث وبيانه" ص 90.
(2)
"مشكل الحديث وبيانه" ص 98 - 99.
الصفات التي يعرفونها، والإمام مالك نهى أن يتحدث بهذا الحديث، أي: لأجل خشية وقوع في محذور. وقال غيره: لا يقطع بأخبار الآحاد في المغيبات. قال أبو جعفر: فإن ثبت، فمعناه: أن يراد بالصورة: ما يأتي به في ظلل من الغمام والملائكة، أو يكونوا رأوه حين قبضوا في الموت فعرفوه بذلك، أو حين أخرجهم من صلب آدم فأشهدهم على أنفسهم. قال: ويحتمل المجيء والإتيان أن يقربهم ولا يوصف بالنقلة قال: وقولهم: نعوذ بالله منك أن ندعو ربًّا لا نعرفه.
فصل:
قوله: ("ويضرب جسر جهنم") الجسر واحد الجسور التي يعبر عليها، بفتح الجيم وكسرها، ذكره ابن السكيت
(1)
والجوهري
(2)
. قال ابن فارس: وهو معروف، قال: وقال ابن دريد: الجسر: القنطرة، يقال لها: الجسرة
(3)
. قال ابن التين: وقرأناه بالكسر.
وقوله: ("فأكون أول من يجيز") أي يخلفه، قال ابن فارس والجوهري: جزت الموضع، أجوزه، (جوزاً)
(4)
، أي: سلكته، وسرت فيه، وأجزته: خلفته وقطعته
(5)
.
فصل:
الكلاليب: جمع كلوب، بفتح الكاف، وكلاب بضمها، وهو المنشل، ويسمى المهماز، وهو الحديدة التي على خف الرائض
(1)
"إصلاح المنطق" ص 31.
(2)
"الصحاح" 2/ 613.
(3)
"مجمل اللغة" 1/ 189.
(4)
في (ص 2): جوازًا.
(5)
"مجمل اللغة" 1/ 203، "الصحاح" 3/ 870.
كلابًا، والمنشال: حديدة ينشل بها اللحم من القدر. وقال الداودي: الكلاليب التي يؤخذ بها الحديد المحمى. وفي رواية أخرى: "خطاطيف". قال: وهي أصح في المعنى أن تكون الخطاطيف مثل شوك السعدان، قال الجوهري: وفي الثل: مرعى ولا كالسعدان. والنون في السعدان زائدة؛ لأنه ليس في الكلام فعلال، غير جزعال وقهقار إلا من المضاعف، قال: ولهذا النبت شوك، يقال له: حسك السعدان، قال غيره: وهو شوكة حديد عليه
(1)
.
وقوله: ("غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله ") قال ابن التين: قرأناه بضم العين وسكون الظاء، وفي رواية أخرى: بكسر العين وفتح الظاء، وهو أشبه؛ لأنه مصدر.
قال الجوهري: عظم الشيء عظمًا، أي: كبر، فتقديره: لا يعلم قدر كبرها إلا الله، قال: وعظَّم الشيء: أكبره
(2)
.
وقوله: ("ومنهم المخردل") أي: المقطع صغارًا صغارًا، قال ابن التين: بالدال والذال جميعًا، وقرأناه بالمهملة، (وهو في "الصحاح" أيضًا كذلك، حيث قال: خردلت اللحم: قطعته صغارًا بالدال والذال جميعًا
(3)
.
فصل:
وقوله: ("وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود") أي: لم يجعل لها قدرة على ذَلِكَ، ويجوز أن يخلق الله فيها إدراكًا يحرم عليها ذَلِكَ، وآثار السجود في الجبهة والأنف والكفين وأطراف القدمين من باطنهما والركبتين.
(1)
"الصحاح" 2/ 488.
(2)
"الصحاح" 5/ 1987.
(3)
من (ص 2). وانظر: "الصحاح" 4/ 1684.
وفيه: دليل على تبعيض المرء في النار، وكذا قوله عليه السلام:"من أعتق مسلمًا أعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار، حتَّى الفرج بالفرج"
(1)
. فعلى هذا إذا كان المعتق ناقص عضو كان ما قابل ذَلِكَ العضو الناقص في النار.
فصل:
وقوله: ("قشبني ريحها "): هو بفتح الشين، ونحفظه مخففًا، وقال ابن التين: هو بتشديدها، أي: آذاني، كأنه قال: سمني، يقال: قشبه: سقاه السم، وكل مسموم قشيب.
وقوله: ("وأحرقني ذكاها") وفي بعض النسخ بالمد، يقال: ذكت النار. تذكر ذكا مقصور اشتعلت، والمد فيه لغة.
وقال ابن التين: قرأناه بالمد وفتح الذال، قال ابن ولَّاد: ذكاء النار: التهابها، مقصور يكتب بالألف؛ لأنه من الواو، يقال: ذكت تذكر
(2)
. وكذا ذكره الجوهري
(3)
. وقال ابن فارس: ذكاء اسم الشمس، قال: وذلك أنها تذكر كالنار، والصبح ابن ذكاء من ضوئها
(4)
.
وقوله: ("حَتَّى يضحك") الضحك من الله محمول على إظهار الرضا والقبول.
(1)
رواه الترمذي (1547) من حديث أبي أمامة.
ورواه الحاكم 2/ 212 من حديث واثلة بن الأسقع.
وانظر: "الصحيحة"(2611).
(2)
"المقصور والممدود" لابن ولاد ص 42 - 43.
(3)
"الصحاح" 6/ 2346.
(4)
"مجمل اللغة" 1/ 359.
53 - باب فِي الحَوْضِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَئ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1].
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زيدٍ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ".
6575 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» [6576، 7409 - مسلم: 2297 - فتح: 11/ 463].
6576 -
وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَلَيُرْفَعَنَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» . تَابَعَهُ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ. وَقَالَ حُصَيْنٌ: عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 6575 - مسلم: 2297 - فتح: 11/ 463].
6577 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَمَامَكُمْ حَوْضٌ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ» . [مسلم: 2299 - فتح: 11/ 463].
6578 -
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ. قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الخَيْرِ الذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ. [مسلم: 4966 - فتح: 11/ 463].
6579 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا
فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا". [مسلم: 2292 - فتح: 11/ 463].
6580 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ» . [مسلم: 2303 - فتح: 11/ 463].
6581 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَحَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ. فَإِذَا طِينُهُ -أَوْ طِيبُهُ- مِسْكٌ أَذْفَرُ» . شَكَّ هُدْبَةُ. [انظر: 3570 - مسلم: 162 - فتح: 11/ 464].
6582 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الحَوْضَ، حَتَّى عَرَفْتُهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأَقُولُ أَصْحَابِي. فَيَقُولُ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ» [مسلم: 2304 - فتح: 11/ 464].
6583 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ» [انظر: 7050 - مسلم: 2290 - فتح: 11/ 464].
6584 -
قَالَ أَبُو حَازِمٍ فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ وَهْوَ يَزِيدُ فِيهَا: «فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي. فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ "سُحْقًا" بُعْدًا: يُقَالُ: سَحِيقٌ بَعِيدٌ، وَأَسْحَقَهُ: أَبْعَدَه
6585 -
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَبَطِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنِ الحَوْضِ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي. فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَي» . [6586 - فتح: 11/ 464].
6586 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنْهُ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي. فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى» . وَقَالَ شُعَيْبٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُجْلَوْنَ. وَقَالَ عُقَيْلٌ "فَيُحَلَّئُونَ". وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 6585 - فتح: 11/ 464].
6587 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي هِلَالٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ: هَلُمَّ. فَقُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللهِ. قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَي. ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ: هَلُمَّ. قُلْتُ أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ وَاللهِ. قُلْتُ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَي. فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ» . [فتح: 11/ 465].
6588 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ خُبَيْبٍ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» [انظر: 1169 - مسلم: 1391 - فتح: 11/ 465].
6589 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكَ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» [مسلم: 2289 - فتح: 11/ 465].
6590 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ:«إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ، وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ -أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ- وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا» [انظر: 1344 - مسلم: 2296 - فتح: 11/ 465].
6591 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الْحَوْضَ فَقَالَ: «كَمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ» [مسلم: 2298 - فتح: 11/ 465].
6592 -
وَزَادَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَارِثَةَ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ: حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ. فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ: "الأَوَانِي". قَالَ: لَا. قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ: "تُرَى فِيهِ الآنِيَةُ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ"[مسلم: 2298 - فتح: 11/ 465].
6593 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي. فَيُقَالُ هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟ وَاللهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» . فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا.
{فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} [المؤمنون: 66]: تَرْجِعُونَ عَلَى العَقِبِ. [انظر: 7048 - مسلم: 2213 - فتح: 11/ 466].
ثم ساق أحاديث:
أحدها:
حديث شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ وشعبة، عن أبي عوانة، عن سليمان، عن أبي المغيرة، عن أبي وائل، عن عبد الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، وَلَيُرْفَعَنَّ معي رِجَالٌ مِنْكُمْ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فَأقولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ". تَابَعَهُ عَاصِم عَنْ أَبِي وَائِلٍ. وَقَالَ أبو حَصيْنٌ: عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الفرط والفارط: هو الذي سبق أصحابه إلى الماء ليسقي ويقوى في الحياض، حَتَّى يردوا فيشربوا، وفراط: جمع فارط في شعر الفطامي.
ومعنى "ليختلجن دوني": يعدل بهم عن الحوض، وأصله الجذب والإسراع، وكل شيئين فرق بينهما، فقد تخلج أحدهما عن صاحبه.
وقوله: ("ما أحدثوا بعدك") هو من ارتد بعده من الأعراب. وقوله: (عن أبي وائل، عن عبد الله) ومرة: (عن حذيفة) لا ينكر أن يكون ذَلِكَ عنهما، وهذا يدل أن ذَلِكَ قبل قوله:"فيحد لي حدًا" إلى آخر الحديث.
الحديث الثاني:
حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَمَامَكُمْ حَوْض كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ".
هما موضعان. قال ابن التين: وقرأنا "جرباء" بالمد، وفتح الجيم، و"أذرح": غير مصروف؛ لأنه تأنيث البقعة.
الحديث الثالث:
حديث أبي بِشْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: الكَوثَرُ الخَيْرُ الكَثِيرُ الذِي أَعطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ. قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَر في الجَنَّةِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الذِي فِي الجَنَّةِ مِنَ الخَيْرِ الكثير الذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.
الكوثر وزنه فوعل من الكثرة، قال الهروي: وجاء في التفسير أنه القرآن والنبوة.
الحديث الرابع:
حديث ابن أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وَكيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ منه فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا".
الكيزان: جمع كوز، كعود وأعواد، وكوزة مثل: عود وعودة. قال الداودي: هي الأقداح والأواني.
ومعنى "لا يظمأ": لا يعطش. قال تعالى: {وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه: 119].
الحديث الخامس:
حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ اليَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ".
الحديث السادس:
حديثه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الجَنَّةِ إِذَا بِنَهَرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ قُلْتُ: مَا هذا يَا جبْرِيلُ؟ قَالَ: هذا الكَوْثَرُ الذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ. فَإِذَا طِينُهُ -أَوْ طِيبُهُ- مِسْكٌ أَذْفَرُ". شَكَّ هُدْبَةُ -يعني
ابن خالد، شيخ البخاري.
والدر جمع درة: وهي اللؤلؤة، وتجمع درات ودرر. والمجوف: الخاوي، والمسك الأذفر: الذكي الرائحة، قال ابن فارس: الذفر: حدة الرائحة الطيبة والخبيثة
(1)
.
وقوله: ("بينما أنا أسير") إلى آخره. قال الداودي: إن كان محفوظًا يدل على أن الحوض الذي يزاد عنه أقوام غير النهر الذي رآه، وهو في الجنة، أو يكون يراهم وهو في الجنة وهم خارج، فيناديهم، فينصرفون ذات الشمال، فيتفق (الحديثان)
(2)
.
الحديث السابع:
حديث أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي الحوضَ، حَتَّى إذا عَرَفْتُهُمُ اخْتُلِجُوا دُونِي، فَأقُولُ: أَصْحَابِي. فَيَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ".
ثم ساقه بعد من حديث أبي سعيد الخدري بزيادة: "فَأقولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي". وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ "سُحْقًا": بُعْدًا. يُقَالُ: سَحِيقٌ: بَعِيدٌ، وَأَسحَقَهُ وسحقه واحد: أَبْعَدَهُ.
وقال أحمد بن شبيب بن سعيد الحبطي: ثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ القِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي فَيُحَلَّئُونَ عَنِ الحَوْضِ" الحديث بنحوه "ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمُ القَهْقَرى".
ثم ساق عن ابن المُسَيَّبِ أنه كان يحدث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يرد على الحوض" وقال: "من أصحابي فيحلَّئون عنه" الحديث بنحوه.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 359.
(2)
في (ص 2): (الخبران).
وقال شعيب، عن الزهري: كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "فيحلئون" فقال عقيل: فيجلون. وقال الزبيدي، عن الزهري، عن محمد بن علي، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ساق من حديث عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. "ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمُ القَهْقَرى" وفي آخره. "فَلَا أُرَاه يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ".
الشرح:
الرهط: ما دون العشرة من الرجال، لا يكون فيهم امرأة.
وقوله: "فيجلون" ضبطناه بالحاء والجيم، وقد سلف اختلاف (الرواة)
(1)
في ذَلِكَ. قال ابن التين: قرأناه بالجيم في موضع، وبالحاء في آخر مهموزًا. قال الجوهري: حلأت الإبل عن الماء، تحلئة وتحليئًا: إذا طردتها عنه ومنعتها أن ترده
(2)
، ونحوه عن الخطابي
(3)
وابن فارس
(4)
، وأنشدوا: محلأ عن سبيل الماء (مطرود)
(5)
.
قال الجوهري: وكذلك غير الإبل
(6)
، وذكر عن البختري حلأت الإبل، بالتشديد والتخفيف، وهو مهموز عند جميعهم. وفي رواية غير مهموز وإنما سهل الهمزة.
(1)
في (ص 2): الر وا ية.
(2)
"الصحاح" 1/ 45.
(3)
"أعلام الحديث" 3/ 2275.
(4)
"مجمل اللغة" 1/ 247.
(5)
في (ص 2): مصدود.
(6)
"الصحاح" 1/ 45.
وقال الجوهري: قوله: "يجلون" يعني: الطرد، وإن كان بالحاء فهو أطبع وتجلو أيديهم من الخير.
والقهقرى: الرجوع إلى خلف، كما قاله الجوهري وغيره، فإذا قلت: رجعت القهقرى. فإنك قلت: رجعت الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم؛ لأن القهقرى ضرب من الرجوع
(1)
. ومعنى الحديث: أنهم ارتدوا عما كانوا عليه. وحكى ابن ولاد، عن أبي عمرو أن القهقرى: الإحضار، وهو العدو، ويقال: حضر الفرس وأحضر.
ومعنى "يجلون" بالجيم: يصرفون، مثل: يحلون بالمهملة. والهمل بالتحريك: الإبل بلا راع مثل النفش، إلا أن النفش لا يكون إلا ليلاً، والهمل يكون ليلاً ونهارًا، يقال: إبل هاملة وهمال وهوامل، وتركتها هملًا أي: سُدى إذا أرسلتها ترعى ليلاً ونهارًا بلا راع، وفي المثل: اختلط المرعي بالهمل، المرعي: ما له راع، قاله الجوهري
(2)
، وعند ابن فارس: الهمل السدى من النعم ترعى نهارًا بلا راع
(3)
، وقال الخطابي: الهمل من النعم: ما لا ترعى ولا تستعمل تترك هملًا لا تتعهد حَتَّى تضيع وتهلك، قال: وقد يكون الهمل أيضًا بمعنى الضوال
(4)
، وقال الهروي في الحديث سألته عن الهمل -يعني: الضوال من النعم- واحدته هامل، كحارس وحرس، وطالب وطلب، ومعنى الحديث: أنه لا يخلص منهم إلا القليل؛ لأن الهمل من الإبل قليل نادر
(5)
.
(1)
"الصحاح" 2/ 801.
(2)
"الصحاح" 5/ 1854.
(3)
"مجمل اللغة" 2/ 909.
(4)
"أعلام الحديث" 3/ 2276.
(5)
"النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/ 274.
ثم ساق البخاري حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ".
وقد سلف في موضعه، وأن المراد ببيته: بيت عائشة الذي فيه قبره، أو معنى بيته: قبره. وسلف معناه أيضًا، واحتج به من فضل المدينة على مكة، وأنه خص ذَلِكَ الموضع منها لفضله على بقيتها فسواها أولى، وخولف.
وحديث جندب: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ".
وقد سلف معناه أول الباب.
وحديث عُقْبَةَ بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيِّتِ، ثُمَّ أنْصَرَفَ إلى المِنْبَرِ فَقَالَ:"إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ" الحديث.
معناه: دعاء لهم، وكان ذَلِكَ بعد موتهم بثمانية أعوام. وقيل: صلى صلاة الموتى، وهو ظاهر الحديث.
وقوله فيه: ("وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن") يحذرهم أن يأتوا بما يوجب طردهم عنه.
وقوله: ("فإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض") أو "مفاتيح الأرض" أي: كنوزها، وأصله من: خزن الشيء فأسره، ويقال للسر من الحديث: مختزن.
وحديث حَارِثَةَ بْنَ وَهْبِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ الحَوْضَ فَقَالَ كما قال: "كَمَا بَيْنَ اَلمَدِينَةِ وَصَنْعَاءَ".
وَزَادَ ابن أَبِي عَدِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَارِثَةَ، سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ: حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَثْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ. فَقَالَ لَهُ
المُسْتَوْرِدُ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ: "الأَوَانِي". قَالَ: لَا. قَالَ المُسْتَوْرِدُ: "تُرى فِيهِ الآنِيَةُ مِثْلَ الكَوَاكِبِ".
وحديث أَسْمَاءَ قَالَتْ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي عَلَى حوضي حَتَّى أَنْظُرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ" الحديث.
قوله: ("الآنية مثل الكواكب") يحتمل أن يريد التكبير، ويحتمل أن يريد الحقيقة، كما قاله الداودي.
وقوله: ("ما برحوا") أي: ما زالوا.
وقوله: في الحوض ("كما بين صنعاء والمدينة") وفي الأول: "المدينة وصنعاء" يريد صنعاء الشام، وقال: قيل: كما بين صنعاء وأيلة فيحتمل أن يكون ذَلِكَ كله سواء، أو يكون ما بين صنعاء والمدينة ما بينها وبين أيلة، ومثل ذَلِكَ ما سلف أول الباب:"ما بين جرباء، وأذرح".
آخر الرقائق وما ألحق به.
82
كتاب القدر
82 - كِتابُ القَدَرِ
1 - باب فِي القَدَرِ
6594 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنِي سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ- قَالَ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعٍ بِرِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ، فَوَاللهِ إِنَّ أَحَدَكُمْ -أَوِ الرَّجُلَ- يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ بَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا» . قَالَ آدَمُ: "إِلاَّ ذِرَاعٌ"[انظر: 3208 - مسلم: 2643 - فتح: 11/ 477].
6595 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَكَّلَ اللهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ:
أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا
قَالَ: أَيْ رَبِّ، ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ». [انظر: 318 - مسلم: 2646 - فتح: 11/ 477].
استروح بعض شيوخنا من شراحه فقال: أبوابه كلها تقدمت ولم يزد، ثم انتقل إلى الأيمان والقدر، وهذا كما فعل في الأدب إلى الاستئذان حيث تفرد في نحو أربع ورقات بخطه، وهو في كتاب البخاري نفسه ثلاث وعشرون ورقة، وقد شرحناه بحمد الله في نحو نصف جزء كما سلف.
وما خاب المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وعلى تقدير سبقها فتراجم البخاري وفقهه في أبوابه وصناعته في إسناده، أين تذهب؟ وللحروب رجال، فمن يتصدى لهذا الكتاب الجليل، ويعمل فيه هذا العمل القليل، في كثير مع عدم التحرير والتصحيف والتحريف والتكرار والنقص والتقليد والتقديم والتأخير؟! والله المستعان
(1)
.
(1)
في هامش الأصل ما نصه: أظن بل أجزم أنه أراد به شيخه الحافظ علاء الدين مغلطاي، لم يرد الحافظ قطب الدين عبد الكريم الحلبي، وذلك لأن قطب الدين أجازه فقط ولم يقرأ عليه، وانتفع به، بخلاف مغلطاي فإنه قرأ عليه وانتفع به، وقد قرأ عليه قطعة من شرحه لهذا الكتاب من أوائله كما رأيت، وفي آخر كلام شيخنا ما يريد إلى ما ذكرته، وذلك قطب الدين شرحه مسودة لم يبيضه، وما أظن شيخنا، وقف عليه كله، وقد رأيت عنده بخط قطب الدين، وهو خط غلق، وقطب توفي سنة أربع وثلاثين بل خمس وثلاثين في سلخ رجب، وكان شيخنا إذ ذاك له عشر سنين وزيادة، وأخبرني أنه عرض عليه "العمدة" لعبد الغني وأجازه، ورأيت خطه معه عليها، والعرض في سنة أربع وثلاثين وستمائة، والله أعلم، وقد قال ابن رافع في "معجم شيوخه" أنه كتب قطعة كبيرة من شرح البخاري، فصريح هذا أنه لم يكمل شرحه يعني: الشيخ قطب الدين.
ذكر البخاري في الباب:
حديث زَيْدٍ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، يعني: ابن مسعود، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَهْوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ-: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا
…
الحديث.
وحديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَكَّلَ اللهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضغَةٌ. فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَن يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: أَي رَبِّ، أذَكَرٌ أَمْ أُتْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ).
الشرح:
حديث أنس سلف في الحيض
(1)
، وحديث ابن مسعود سلف في بدء الخلق
(2)
.
ومعنى وصفه بالصادق: عصمته، لا يقول إلا حقًّا، وبالمصدوق: أن الله صدقه فيما وعده به، وهذا تأكيد. و"العلقة" واحدة العلق، وهو الدم قبل أن (يغيض)
(3)
، وهو جامد، والمضغة: القطعة الصغيرة من اللحم، سميت بذلك؛ لأنها قدر ما يمضغ.
وقوله: ("فيؤمر بأربع") أي: كلمات، وكذا لم تثبت الهاء في أربع.
وقوله: ("برزقه، وأجله، وشقي أو سعيد"). هذِه ثلاثة؛ لأنه لا تجتمع الشقاوة والسعادة في واحد، وهو قد قال:"أربع". ولعله ذكر جملة ما يؤمر به. لا أن كل شخص يؤمر فيه بهذِه الأربع، وفي رواية أخرى:"رزقه، وأجله، وأثره، وشقي أو سعيد". وهذا أبين من
(1)
سلف برقم (318).
(2)
سلف برقم (6594).
(3)
في (ص 2): ييبس.
الأول، ويكون على كل شخص، (وفي ابن حبان زيادة سلفت، إذ روى من حديث أبي الدرداء مرفوعًا:"فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من رزقه، وأجله، وعمله، وأثره، ومضجعه"
(1)
يعني: قبره، فإنه مضجعه على الدوام {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34].
وروى رزين في "تجريد الصحاح" من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "إذا دفعت النطفة في الرحم". الحديث، وفيه: فيقول: "أذكر أم أنثى، أشقي أم سعيد، وما عمره، وما رزقه، وما أثره، وما مصائبه، فيقول الله، ويكتب الملك" فإذا مات الجسد، ودفن من حيث أخذ ذَلِكَ التراب، كذا ذكره، ولم يعلم له، ومقتضاه أن البخاري رواه، كما اصطلح عليه في خطبته، ولم نره فيه، لا جرم عزاه ابن الأثير إلى رزين وحده، وهو غريب غير مشهور)
(2)
ومعنى: "يجمع في بطن أمه": ما فسره ابن مسعود، وسئل الأعمش عنه، فقال: حَدَّثَني خيثمة قال: قال عبد الله بن مسعود: إن النطفة إذا وقعت في الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشرًا طارت في بشر المرأة، تحت كل شعرة وظفر، ثم تمكث أربعين ليلة، ثم تصير دمًا في الرحم، فذلك جمعها
(3)
.
وقوله: ("يعمل بعمل أهل الجنة") إلى آخره. قال الداودي: يقول قد يعمل أحدكم العمل الصالح إلى قرب موته، وقرب معاينته الملائكة الذين يقبضون روحه، ثم يعمل السيئات التي توجب النار، وتحبط ذَلِكَ العمل، فيدخل النار، والإيمان لا يحبطه إلا الكفر، قال تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ} الآية [الزمر: 65].
(1)
"صحيح ابن حبان" 14/ 18 (6150).
(2)
من (ص 2).
(3)
انظر "شرح ابن بطال" 10/ 298.
وذكر عن عمرو بن عبيد إمام القدرية، وزاهدهم ومقدمهم، أنه قال: لو سمعت هذا الحديث من أبي عثمان (لكتبته)
(1)
، ولو سمعته من زيد بن وهب لرددته، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لطرحته، ولو سمعته من الله لقلت: ما على هذا أخذت مواثيقنا
(2)
؟ فهذا قد أرتكب في مقالته هذِه خطبًا جسيمًا، نعوذ بالله من الضلال، ونسأله الفوز من الأهوال.
وقوله: ("غير باع أو ذراع"). قال ابن التين: غير باع؛ كذا وقع لأبي ذر، والباع؛ قدر مد اليدين، وهذا تمثيل كلام، وقد بسطت شرحه في "شرح الأربعين" أكمل من هذا.
فصل:
قال المهلب: في هذا الحديث رد لقول القدرية، واعتقادهم أن العبد يخلق أفعاله كلها من الطاعات والمعاصي، وقالوا: إن الله يتنزه عن أن يخلق المعاصي والزنا والكفر وشبهه، فبان في هذا الحديث تكذيب قولهم بما أخبر به عليه السلام أنه يكتب في بطن أمه شقي أو سعيد، مع تعريف الله العبد أن سبيل الشقاء هو العمل بالمعاصي والكفر، فكيف يجوز أن يعمل بما أعلمه الله أنه يعذبه عليه، ويشقيه به مع قدرة العبد على اختياره لنفسه وخلقه لأعماله دون ربه تعالى أن يكون معه خالق غيره، ثم قطع القدرية بقوله:"فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" فلو كان الأمر إلى اختياره؛ أتراه كان يختار
(1)
ورد بهامش الأصل: لعله: لكذبته.
(2)
ورد بهامش الأصل: نقل هذا عنه الذهبي في "ميزانه"، فقال عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، أنه سمع عمرو بن عبيد، فذكره، ولكن فيه لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته والباقي سواء. اهـ. انظر "ميزان الاعتدال" 4/ 198.
خسارة عمله طول عمره بالخير، ثم يخلق لنفسه عملًا من الشر والكفر، فيدخل به النار، وهل السابق له إلا فعل ربه وخلقه له؟ وخلق عمله السيئ كسبًا له، فاكتسب العبد بشهوة نفسه الأمارة بالسوء، (مستلذًا)
(1)
بذلك العمل، أقدره الله عليه بقدرة خلقها له بحضرة الشيطان المغوي لنفسه الأمارة له مع الشيطان بالسوء، فاستحق العقاب على ذَلِكَ، فانقطعت حجة العبد بالنذارة، وانقطعت حجة القدرية بسابق كتاب الله تعالى على العبد المعترف بمآل أمره اكتسابه العمل القبيح؛ يخلق الله له قدرة على عمله بحضرة عدويه؛ نفسه وشيطانه؛ ولذلك نسب الشر إلى الشيطان لتزيينه له، ونسبة الخير إلى الله لخلقه لعبده، وإقدار العبد عليه مع حضرة الملك المسدد له، الدافع لشيطانه عنه بعزة الله وعصمته، هذا هو أصل الكلام في القدرية، ثم يلزمهم أن يكون العبد شريكًا لله في خلقه، بأن يكون العبد يخلق أفعاله، والله تعالى قد أتى من ذَلِكَ بقوله:{اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، و {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ} [فاطر: 3]، فخالفوا النص، وأوجبوا للعبد من القدرة على خلق عمله ما أوجبه الله لنفسه من الانفراد بالخلق؛ ولذلك سميت القدرية مجوس هذِه الأمة في عدة أحاديث؛ لقولها: بخالقين، مثل ما قالته
المجوس من اعتبارها الأرباب من الشمس والقمر والنور والنار والظلمة، كل على اختياره، وقد نص الله على إبطال قول القدرية لعلمه بضلالهم؛ ليهدي بذلك أهل سنته، فقال تعالى:{وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]
(2)
.
(1)
في (ص 2): مستكفرًا.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال"10/ 296 - 297.
2 - باب جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ الله عز وجل
-
وقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "جَفَ القَلَمُ بِمَا أَنْتَ لَاقٍ"[انظر: 5076]. قَالَ ابن عَبَّاسٍ: {لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]: سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ.
6596 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ الرِّشْكُ قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ:«نَعَمْ» . قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ "كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ". أَوْ "لِمَا يُسِّرَ لَهُ». [7551 - مسلم: 2649 - فتح: 11/ 491].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُعْرَفُ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنْ أهْلِ النَّارِ؟ قَالَ:"نَعَمْ". قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ العَامِلُونَ؛ قَالَ: "كُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلِقَ لَهُ -أَوْ- "لِمَا يُسِّرَ لَهُ".
عرض البخاري في هذا الباب غرضه السالف من إدحاض حجة القدرية بهذِه النصوص من كلام الله تعالى وكلام رسوله، كما نبه عليه المهلب، فأخبر أنه قد فرغ من الحكم على كل نفس، وكتب القلم بما يصير إليه العبد من خيرٍ أو شر في أم الكتاب، وجف مداده على المقدور من علم الله، وأضله الله على علم به، ومعرفة ما كان يصير إليه أمره لو أهمله، ألا تسمعه قد بين ذَلِكَ في كتابه حيث يقول:{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. يعرفنا أنه كان بنا عالمًا حين خلق آدم من طينة الأرض المختلفة، وأحاط علمًا بما يقع من تلك الطينة لكل شخص من أشخاص ولده إلى يوم القيامة المتناسلين
من صلب إلى صلب في أعداد لا يحيط بها إلا محصيهم تعالى، وعلم ما قسمه من تلك الطينة (من طيب أو خبيث)
(1)
، وعلم ما يعمل كل واحد من الطاعة والمعصية؛ ليشاهد أعماله بنفسه، وكفى بنفسه شهيدًا عليه، ولتشهد عليه ملائكته، ومن عاينه من خلقه، فتنقطع حجته، وتحق عقوبته، وكذلك قال لأبي هريرة رضي الله عنه حين أراد أن يختصي خشية الزنا على نفسه:"قد جف القلم بما أنت لاق فاختصِ على ذَلِكَ أو ذر" فعرّفه أنه لا يعدو ما جرى به القلم من خير أو شر، فإنه لا بد عامله ومكتسبه، فنهاه عن الاختصاء بهذا القول، الذي ظاهره التخيير، ومعنى النهي والتكسب لمن أراد الهروب عن القدر، والتعريف له أنه إن فعل فإنه أيضًا من القدر المقدور عليه فيما جف به القلم عليه.
وقد سئل الحسن البصري عن القدر فقال: إن الله خلق الخلق للابتلاء، لم يطيعوه بإكراه منه، ولم يعصوه بغلبة، ولم (يهملهم من المملكة)
(2)
، بل كان المالك لما ملكهم فيه، والقادر لما قدره عليهم، فإن يأتم العباد بطاعة الله لم يكن الله صادًا عنها، ولا مبطأً بل يزيدهم هدى إلى هداهم وتقوى إلى تقواهم، وإن يأتم العباد بمعصية الله، كان القادر على صرفهم، إن شاء فعل، وإن شاء (حال)
(3)
بينهم وبينها فيكتسبونها، فمن بعد الإعذار والإنذار لله الحجة البالغة {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23] {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} [النحل: 9]
(4)
.
(1)
في الأصل: لو حييت.
(2)
في الأصل (الملائكة) والمثبت من (ص 2).
(3)
في الأصل: جعل، والمثبت من "شرح ابن بطال" وهو ما يقتضيه السياق.
(4)
انظر: "شرح ابن بطال" 10/ 298 - 300.
فصل:
قال المهلب أيضًا: في حديث الباب حجة لأهل السنة على المجبرة من أهل القدر، وذلك قوله:("اعملوا فكل ميسر لما خلق له") ولم يقل: فكل مجبر على ما خلق له، وإنما أراد لما خلق له من عمله للخير أو للشر، فإن قلت: إنما أراد بقوله: لما خلق له الإنسان من جنة أو نار، فقد أخبر أنه ميسر لأعمالها ومختار لا مجبر؛ لأن الجبر لا يكون باختيار، وإنما هو إكراه
(1)
.
فصل:
قيل: أول ما خلق الله اللوح والقلم والدواة، وقال للقلم: اكتب ما يكون، فكتب. وروي عن ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكتب
(2)
. ثم خلق نون، فوقع ذَلِكَ، فذلك قوله تعالى:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)} [القلم: 1]، وذكر أيضًا عنه: أن أول ما خلق الله الدواة، وهي نون والقلم، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
فصل:
وقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، أي: علم الله تعالى في الأزل من يضله ومن يهديه، هذا معنى ما ذهب إليه البخاري في الترجمة كما مر، وقيل معناه: أنه أضله بعد أن أعلمه وبين له فلم يقبل.
فصل:
قوله: ("كل يعمل لما خلق له -أو- لما ييسر له") إنما قال إحداهما، يعني: أنه إنما يعمل ما سبق في علمه سبحانه أنه يعمله.
(1)
"شرح ابن بطال" 10/ 300.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 176.
3 - باب الله أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
6597 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ:«اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» [انظر: 1383 - مسلم: 2660 - فتح: 11/ 493].
6598 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سُئِلَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» [انظر: 1384 - مسلم: 2660 - فتح: 11/ 493].
6599 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تُنْتِجُونَ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا؟» . [انظر: 1358 - مسلم: 2658 - فتح: 11/ 493].
6600 -
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهْوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ:«اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» [انظر: 1384 - مسلم: 2658، 2659 - فتح: 11/ 493].
ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوْلَادِ المُشْرِكِينَ فَقَالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ".
ثانيها: حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سُئِلَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَرَارِيِّ المُشْرِكِينَ فَقَالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ".
ثالثها: حديثه أيضًا: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِن مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ"
…
الحديث، وفي آخره: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ وَهْوَ صَغِيرٌ؟ قَالَ:"اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ".
وغرضه في الباب الرد على الجهمية في قولهم: إن الله لا يعلم أفعال العباد حَتَّى يعملوها، تعالى الله عن قولهم، فرد الشارع ذَلِكَ من قولهم، وأخبر في هذا الحديث أن الله يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، ومصداق هذا الحديث في قوله تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] وقال في آية أخرى {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23] فإذا ثبت بهاتين الآيتين المصدقتين لحديثه عليه السلام أنه يعلم ما لا يكون
لو كان كيف كان يكون، فأحرى أن يعلم ما يكون وما قدره وقضاه في كونه، وهذا يقوي ما يذهب إليه أهل السنة: أن القدر هو علم الله وغيبه الذي استأثر به، فلم يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًّا مرسلاً، وروى روح بن عبادة، عن حبيب بن الشهيد، عن محمد بن سيرين قال: ما ينكر هؤلاء -يعني: الصفرية- أن يكون الله تعالى علم علمًا، فجعله كتابًا
(1)
، وقد قيل: إن بعض الأنبياء كان يسأل الله تعالى عن القضاء والقدر فمحي من النبوة.
وروى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا ذكر القدر فأمسكوا"
(2)
وقال بلال بن أبي بردة لمحمد بن واسع، ما تقول في القضاء والقدر؟ فقال: أيها الأمير إن الله تعالى لا يسأل عباده يوم القيامة عن قضائه وقدره، وإنما يسألهم عن أعمالهم
(3)
.
(1)
رواه ابن عبد البر في "التمهيد" 3/ 140، و"الاستذكار" 26/ 86.
(2)
لم أقف عليه عن ابن عباس، وقد رواه الطبراني في "الكبير" 10/ 198، وابن عدي في "الكامل" 8/ 264 عن ابن مسعود. قال الهيثمي في "المجمع" رواه الطبراني وفيه: مسهر بن عبد الملك، وثقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف وبقية رجاله رجال الصحيح.
(3)
رواه ابن عبد البر في "التمهيد" 3/ 141، و"الاستذكار" 26/ 87.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري: إن الله لا يطالب خلقه بما قضى عليهم، وإنما يطالبهم بما نهاهم عنه وأمرهم به، فطالب نفسك من حيث يطالبك ربك
(1)
.
وسئل أعرابي عن القدر فقال: الناظر في قدر الله كالناظر في عين الشمس يعرف ضوئها ولا يقدر على حدودها.
فصل:
قال الداودي: لا أعلم لهذا الحديث وجهًا إلا: الله أعلم بما يعمل به؛ لأنه سبحانه علم أن هؤلاء لا يتأخرون عن آجالهم، ولا يعملون شيئًا، وقد أخبر أنهم ولدوا على الفطرة -أي: الإسلام- وأن آبائهم يهودونهم وينصرونهم، كما أن البهيمة تولد سليمة من الجدع والخصاء وغيره بما يعمل الناس بها حَتَّى يصنع ذَلِكَ بها، وكذلك الولدان.
وقيل: الفطرة: الخلق، وقيل: معناه على: الإقرار لله الذي أمر به لما أخرجه من ظهر آدم.
فصل:
الجدع: قطع الأنف، وقطع الأذن أيضًا، وقطع اليد والشفة، ذكره الجوهري
(2)
.
وقوله: ("كما تنتجون البهيمة"). قال أبو علي: يقال: تنتَّجْتَ الشاقة إذا أعنتها على النتاج، قال الجوهري: نتجت الناقة على ما لم يسم فاعله - تنتج نتاجًا، ونتجها أهلها نتجًا
(3)
. ومثله عند ابن فارس
(4)
.
(1)
انظر: "الاستذكار" 26/ 87 - 88.
(2)
"الصحاح" 3/ 1193.
(3)
"الصحاح" 2/ 343.
(4)
"مجمل اللغة" 2/ 853.
وقال الجوهري: الناتج من الإبل كالقابلة من النساء، ويقال: نتجت الناقة: إذا ولدت، فهي منتوجة، كما يقال: نفست فهي منفوسة وأنتجت الفرس: حملت، وقال يعقوب: إذا استبان حملها. وقال الجوهري: إذا حان نتاجها
(1)
. قال ابن التين: وروي "يُنتجون" بضم أوله على أنه رباعي من أنتج إنتاجًا.
فصل:
قد أسلفنا مذاهب العلماء في أولاد المشركين، والمختار أنهم من أهل الجنة لا ذريتهم، ولا مع آبائهم، ولا بالوقف، ولا بإرسال رسول إليهم يأمرهم باقتحام النار، فمن اقتحمها كانت بردًا وسلامًا، ومن أبى وجبت عليه الحجة. وقد سلف أن فيها تكليفًا ما، وليس بغالب.
و (قيل)
(2)
: معنى قوله: "والله أعلم بما كانوا عاملين" أي: يعلم من اقتحم ومن يأبى. قيل: والصم والبكم في الحكم مثلهم. وهو بعيد. قال الداودي: احتج قوم فقالوا: جائز تكليف ما لا يطاق؛ لقوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] وهذا لم يدعو إليه ليجزوا بفعله ولا ليعاقبوا على تركه، وهم لا يعاقبون إذا لم يسجدوا يوم القيامة، إنما يعاقبون بتركهم إياه وهم سالمون، وهذا الذي حكاه عن قوم هو مذهب أهل السنة، أن تكليف ما لا يطاق جائز، واحتجوا بقوله تعالى:{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] فلو لم يكن جائز لما سألوه.
(1)
"الصحاح" 2/ 343.
(2)
من (ص 2).
4 - باب {وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]
6601 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَسْتَفْرِغَ صَحْفَتَهَا، وَلْتَنْكِحْ، فَإِنَّ لَهَا مَا قُدِّرَ لَهَا» [انظر: 2140 - مسلم: 1413 - فتح: 11/ 494].
6602 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ -وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ- أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا:«لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى، كُلٌّ بِأَجَلٍ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» [انظر: 1284 - مسلم: 923 - فتح: 11/ 494].
6603 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ الْجُمَحِيُّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ رَجُلٌ مِنِ الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نُصِيبُ سَبْيًا وَنُحِبُّ الْمَالَ، كَيْفَ تَرَى فِي العَزْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَوَإِنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟! لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَسَمَةٌ كَتَبَ اللهُ أَنْ تَخْرُجَ إِلاَّ هِيَ كَائِنَةٌ» . [انظر: 2229 - مسلم: 1438 - فتح: 11/ 494].
6604 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً، مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلاَّ ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لأَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُ، فَأَعْرِفُ مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ. [مسلِم: 2891 - فتح: 11/ 494.
6605 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ وَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَلَا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ» ثُمَّ قَرَأَ:
{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} [الليل:5] الآية. [انظر: 1362 - مسلم: 2647 - فتح: 11/ 494].
ذكر فيه خمسة أحاديث:
أحدها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "لَا تَسْأَلِ المَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا" سلف في النكاح
(1)
.
ثانيها:
حديث أُسَامَةَ رضي الله عنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -رسول إِحْدى بَنَاتِهِ - أَنَّ ابنهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا:"لله مَا أَخَذَ ولله مَا أَعْطَى، وكُلُّ شيء بِأَجَلٍ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ".
ثالثها:
حديث أَبَي سَعِيدٍ رضي الله عنه فِي العَزْلِ: "لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، ما من نَسَمَةٌ" الحديث سلف في موضعه.
رابعها:
حديث حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لأَرى الشَيْءَ قَدْ نَسِيتُ، فَأَعْرِفُ كمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ.
خامسها:
حديث عَلِيِّ رضي الله عنه: كُنَّا جُلُوسا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الأَرْضِ، وَقَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلّا قَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ
(1)
سلف برقم (5144).
الجَنَّةِ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: أَلَا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لَا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ" ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} الآية [الليل: 5].
غرضه في الباب كما نبه عليه المهلب أن يبين أن جميع مخلوقات الله المكونات بأمر كلمة كن، من حيوان أو عرض، أو حركات العباد، واختلاف إرادتهم وأعمالهم بمعاصٍ أو طاعات، كل مقدر بالأزمان والأوقات، لا مزيد في شيء منها ولا نقصان عنها، ولا تأخير لشيء منها عن وقته، ولا يقدم قبل وقته.
ألا ترى قوله: "لا تسئل المرأة طلاق أختها" لتصرف حظها إلى نفسها ولتنكح، فإنه لا تنال من الرزق إلا ما قدر لها كانت له زوجة أخرى أو لم تكن
(1)
.
فصل:
وقوله: ("اعملوا فكل ميسر لما خلق له") فيه دليل على إبطال قول أهل الجبر؛ لأن (التيسير غير الجبر)
(2)
، واليسرى: العمل بالطاعة. والعسرى: العمل بالمعصية.
فصل:
في حديث علي رضي الله عنه كما نبه عليه الطبري: إن الله لم يزل عالمًا بمن يطيعه فيدخله الجنة، وبمن يعصيه فيدخله النار. ولم يكن استحقاق من استحق الجنة منهم لعلمه السابق فيهم، ولا استحقاق من يستحق منهم النار لعلمه فيهم، ولا اضطر أحدًا منهم علمه السابق إلى طاعة ولا معصية، ولكنه جل جلاله نفذ علمه فيهم قبل أن يخلقهم، وما هم
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 10/ 303.
(2)
في الأصل: الشر غير الخير.
عاملون، وإلى ما هم إليه صائرون، إذ كان لا تخفى عليه خافية قبل أن يخلقهم وبعدما خلقهم؛ ولذلك وصف أهل الجنة فقال:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} إلى قوله: {وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 22، 23، 24]، وقال تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17] وكذلك قال في أهل النار: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)} [فصلت: 28]، فأخبر أنه أثاب أهل طاعته جنته بطاعته، وجازى أهل النار بمعصيتهم إياه، ولم يخبرنا أنه أدخل من أدخل منهم النار والجنة لسابق علمه فيهم، ولكنه سبق في علمه أن هذا من أهل السعادة والجنة، ويعمل بطاعته، وفي هذا أنه من أهل الشقاء، وأنه يعمل بعمل أهل النار فيدخلها بمعصيته؛ فلذلك أمر تبارك وتعالى ونهى ليطيعه الطائع منهم، فيستوجب بطاعته الجنة، ويستحق العقاب منهم العاصي بمعصيته، فيدخل بها النار، ولتتم حجة الله تعالى على خلقه، فإن قلت: فما معنى قوله إذًا: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له". إن كان الأمر كما وصف من أن الذي سبق لأهل السعادة والشقاء لم يضطر واحداً من الفريقين إلى الذي كان يعمل، ويمهد لنفسه في الدنيا، ولم يجبره على ذَلِكَ. بل هو أن كل فريق من هذين مسهل له العمل الذي اختاره لنفسه مزين له، كما قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} إلى قوله: {حَكِيمٌ} [الحجرات: 7]، وأما أهل الشقاء فإنه زين لهم سوء أعمالهم؛ لإيثارهم لها على العمل بطاعته، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)} [النمل: 4]، وكما قال:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر: 8]
وهذا يصحح ما قلنا: من أن علمه تعالى النافذ في خلقه بما هم عاملون، وكتابه الذي كتبه قبل خلقه أتاهم بأعمالهم لم يضطر أحدًا منهم إلى عمله. ذَلِكَ؛ لأن المضطر إلى الشيء لا شك أنه يكره عليه لا محبة له، بل هو له كاره ومنه هارب، والكافر يقاتل دون كفره أهل الإيمان، والفاسق يناصب دون فسوقه الأبرار، محاماة من هذا عن كفره الذي اختاره على الإيمان، وإيثارًا من هذا لفسقه على الطاعة، وكذلك المؤمن يبذل مهجته دون إيمانه، ويؤثر العناء والنصب دون ملاذه وشهواته؛ حبًا لما هو له مختار من طاعة ربه على معاصيه، وأنى يكون مضطرًا إلى ما يعمله من كانت هذِه صفته، فبان أن معنى قوله عليه السلام:"اعملوا فكل ميسر لما خلق له" هو أن كل فريقي السعادة والشقاوة مسهل له العمل الذي اختاره، مزين ذَلِكَ له
(1)
، محبب إليه كما قلنا.
فصل:
معنى يجود بنفسه هو في السياق، يقال: جاد بنفسه عند الموت يجود جودًا. وقوله: "فلتصبر ولتحتسب" ولم يقل: فلتصبرين؛ لأنها غائبة، والغائب لا يخاطب بما يخاطب به الحاضر. تقول: هند تقوم وتقعد، وأنت تقومين، وليقم زيد، ولتقعد زينب. وقال الداودي: إنما خاطب الرسول، ولو خاطب المأمور بالصبر، لقال: فاصبري واحتسبي.
فصل:
وقوله: ("لا عليكم ألا تفعلوا") قيل: هو على النهي، وقيل: على الإباحة للعزل، أي: لكم أن تعزلوا، وليس فعل ذَلِكَ موءودة؛ بدليل
(1)
"شرح ابن بطال" 10/ 303 - 305.
حديث جابر فيه، واحتج به فقهاء الأمصار على داود في إباحته بيع أمهات الأولاد؛ لأن الإحبال لو كان لا يمنع البيع لقال: وأي حاجة لكم إلى العزل، والبيع جائز ولو حملن؛ لأن الحبل يبطل الثمن- أي: في قولهم: (ونحب المال)، وإلا لم يكن يقرهم على هذا الاعتقاد وتكلف الحبلة له.
وقال لمن احتج لداود: لا دليل في ذَلِكَ؛ لأن ظاهره أنهم كانوا يريدون الفداء، فإذا حملن تعذر ذَلِكَ حَتَّى يلدن، وإلا صار أولاد المسلمين في أيدي الكفار، ولعل العرب الذي كان ذَلِكَ السبي منهم إذا حملت من مسلم لا يفتدونها، فإن فادى بها فيسير من المال؛ لأن الإحبال ينقصهن، فعلى هذا سألوا إن صح الحديث أن الإيلاد يمنع البيع. قال: وفيه فساد آخر، وهو أن وطء السبي والالتذاذ بهن يحرم حَتَّى يقسمن ويستبرئن بعد الملك، فكيف أرادوا وطأهن؟ ولعل القوم إنما أرادوا الالتذاذ بهن لشدة العزبة، وظنوا أن وطأها فيما دون الفرج مباح، إذا اجتنبوا موضع الولد، فأعلمهم الشارع أن الماء يسبق إلى الفرج، فيكون معه الولد مع العزل، ليس لهم تحريمه، وإذا احتمل ذَلِكَ لم يكن فيه دليل على منع بيعهن
(1)
.
وفي قوله: (" (ليست")
(2)
نسمة كائنة إلا وهي كائنة") يدل: أن الولد يكون مع العزل، ولهذا إذا ادعى العزل حرم النفي على الصحيح عندنا
(3)
.
(1)
انظر: "التمهيد" 3/ 136.
(2)
في (ص 2): ما من.
(3)
انظر: "البيان" 10/ 431 - 432.
5 - باب العَمَلُ بِالْخَوَاتِيمِ
6606 -
حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِى الإِسْلَامَ:«هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، وَكَثُرَتْ بِهِ الجِرَاحُ فَأَثْبَتَتْهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ الَّذِي تَحَدَّثْتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَدْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَشَدِّ الْقِتَالِ، فَكَثُرَتْ بِهِ الْجِرَاحُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَرْتَابُ فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجِرَاحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا، فَاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ صَدَّقَ اللهُ حَدِيثَكَ، قَدِ انْتَحَرَ فُلَانٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَإِنَّ
اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ» [انظر: 3062 - مسلم: 111 - فتح: 11/ 498].
6607 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» . فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، وَهْوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَجَعَلَ ذُبَابَةَ سَيْفِهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْرِعًا فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ «وَمَا ذَاكَ؟» . قَالَ: قُلْتَ لِفُلَانٍ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ» . وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِنَا غَنَاءً عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا جُرِحَ اسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:«إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ» [انظر: 2898 - مسلم: 112 - فتح: 11/ 499].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مِمَّنْ كان مَعَهُ يَدَّعِي الإِسْلَامَ:"هذا مِنْ أَهْلِ النَّارِ". فَلَمَّا حَضرَ القِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ القِتَالِ. الحديث.
وفيه: (نحو نفسه) وفي آخر الحديث "وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيم" ثم ذكر مثله من حديث سهل.
وسلفا في غزوة خيبر
(1)
، وسلفت الترجمة أيضًا، وسلف حديث أبي هريرة في الجهاد (أيضًا)
(2)
.
وهذا -أعني "إنما الأعمال بالخواتيم"- حكم الله في عباده في الخير والشر، فيغفر الكفر وأعماله بكلمة الحق يقولها العبد عند الموت قبل المعاينة لملائكة العذاب، وكذلك يحبط عمل المؤمن إذا ختم له بالكفر، كذلك هذا الحكم موجود في الشرع كله، كقوله:"من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة"
(3)
وقوله: "من أدرك ركعة من الصبح" وكذلك: "من العصر"
(4)
. فجعله مدركًا لفضل الوقت بإدراك الخاتمة، وإن كان لا يدرك منه إلا أقله، وكذلك من أدرك جزءًا من ليلة عرفة قبل الفجر، فوقف بها أدرك الحج، وتم له ما فاته (من
(1)
حديث أبي هريرة سلف برقم (4204) كتاب: المغازي، وحديث سهل سلف برقم (4207).
(2)
من (ص 2).
(3)
سلف برقم (580)، عن أبي هريرة، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من أدرك من الصلاة ركعة ورواه مسلم عنه برقم (607)، كتاب المساجد، باب: من أدرك ركعة من الصلاة ..
(4)
سلف برقم (579) عن أبي هريرة، كتاب مواقيت الصلاة، باب: من أدرك من الفجر ركعة ولمسلم من حديثه برقم (608)، كتاب المساجد، باب: من أدرك ركعة.
مقدماته)
(1)
، كما عهد الذي لم يعمل خيرًا قط أن يحرق ويذرى، فكانت خاتمة سوء عمله خشيةً -أدركته (لربه)
(2)
- تلاقاه الله بها، فغفر له (سوء عمله)
(3)
طول عمره، هذا فعل من لا تضره الذنوب، ولا تنفعه العبادة، وإنما تنفع وتضر المكتسب لها الدائم عليها إلى أن يموت. نبه على ذَلِكَ المهلب
(4)
.
وفي قوله: "العمل بالخواتيم" حجة قاطعة على أهل القدر في قولهم: إن الإنسان يملك أمر نفسه، ويختار لها الخير والشر. فمهما اتهموا اختيار الإنسان لأعماله الشهوانية واللذيذة عنده، فلا يتهمونه باختيار القتل لنفسه، إذ هو أوجع الآلام، وأن الذي طيب عنده ذَلِكَ غير اختياره، والذي يسره له، دون جبره عليه ولا مغالب له، هو قدر الله السابق في علمه، والختم من حكمه.
فصل:
قوله: (يدعي الإسلام)، أي: تلفظ به.
وقوله: (كثرت به الجراح فأثبتته)، أي: صرعته صرعًا لا يقدر معه على القيام.
وقوله: (فاشتد رجال)، أي: أسرعوا في السير إليه، لا جرم قال في الحديث الثاني: فأقبل الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعًا.
وقوله: (فأهوى بيده إلى كنانته وانتزع منها سهمًا فانتحر به)، وذكر في الحديث الثاني: فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حَتَّى خرج من كتفيه)،
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
(3)
في الأصل: سواء علمه، والمثبت من ابن بطال، والسياق يقتضيه.
(4)
انظر: "شرح ابن بطال" 10/ 306.
والظاهر أنها قصة واحدة، وأن الراوي نقل على المعنى، ويحتمل أن يكونا رجلين.
وفيه من علامات النبوة: ظهور صدقه.
والكنانة: الجعبة التي فيها السهام.
وقوله: ("لا يدخل الجنة إلا مؤمن") أي: مصدق بقلبه، ويصدقه قوله:"إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".
وفيه: جواز الاستعانة بالمشركين في قتال الكفار، وهو مذهبنا، وأجازه ابن حبيب، وأباه في "المدونة"
(1)
.
فصل:
قوله في الحديث الثاني: (غناء عن المسلمين). الغَنَاء -بالفتح والمد- الجزاء والنكاية وإن كسر الغين قصر، قاله الداودي.
وقال ابن ولاد: الغناء -ممدود- النفع، يقال: إن فلانًا لقليل الغناء، قال: والغنئ ضد الفقر مقصور يكتب بالياء، ومن الصوت ممدود مكسور
(2)
.
(1)
"المدونة" 1/ 400. سُئل ابن القاسم: هل كان مالك يكره أن يستعين المسلمون بالمشركين في حروبهم؟ قال: سمعت مالكًا يقول: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لن أستعين بمشرك" قال: ولم أسمعه يقول في ذلك شيئًا. وكرهه ابن القاسم وابن وهب.
قال ابن حبيب في "النوادر والزيادات" 3/ 35: ويكره للإمام أن يكون معه أحد من المشركين أو يستعين ببعضهم على بعض.
ثم استدل بحديث مالك في "المدونة"، ثم قال: وهذا في الزحف والصف وشبهه، فأما في هدم حصن أو رمي مجانيق أو صنعة أو خدمة فلا بأس. وانظر لمذهب الشافعية في:"البيان" 12/ 116 - 117.
(2)
"المقصور والممدود" ص 80، 82.
وقوله: (فجعل ذباب سيفه بين ثدييه) قد سلف عن ابن فارس أنه قال: الثندؤة، بالهمز للرجل، والثدي للمرأة
(1)
.
والجوهري جعل الثدي للرجل، وهذا الحديث شاهد له
(2)
.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 157.
(2)
"الصحاح" 6/ 2291.
6 - باب إِلْقَاءِ النَّذْرِ العبْدَ إِلَى القَدَرِ
6608 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّذْرِ قَالَ: «إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ» [6692، 6693 - مسلم: 1639 - فتح: 11/ 499].
6609 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَدَّرْتُهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ الْقَدَرُ وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ، أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ» [6694 - مسلم: 1640 - فتح: 11/ 499].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّذْرِ وقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ".
وحديث أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَأْتِي ابن آدَمَ النَّذْرُ بِشَيءٍ لَمْ يَكنْ قَدَّرْتُهُ، ولكن يُلْقِيهِ النذر إلى القَدَرُ وَقَدْ قَدَّرْتُهُ لَهُ، أَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ".
الشرح:
هذا أبين شيء في القدر -كما نبه عليه المهلب- فإنه أمر قد فرغ الله منه وأحكمه، لا أنه شيء يختاره العبد، فإذا أراد أن يستخرج به من البخيل شيئًا ينفعه به في آخرته ودنياه سبب له شيئًا مخيفًا، أو مطمعًا فيحمله ذَلِكَ الخوف أو الطمع على أن ينذر لله نذرًا من عتقٍ أو صدقةٍ أو صيامٍ، إن صرف الله عنه ذَلِكَ الخوف، أو أتاه بذلك المطموع فيه، فلا يكون إلا ما قد قضى الله به في أم الكتاب، لا يحيله النذر الذي نذره عما قدره، وقد استخرج به (منه)
(1)
ما لم يسمح به
(1)
من (ص 2).
لولا المخوف الذي هرب مثله، أو المطموع الذي حرص عليه حَتَّى طابت نفسه بما لم تكن تطيب قبل ذَلِكَ.
ونهيه عليه السلام عن النذر، وهو من أعمال الخير أبلغ زاجر عن توهم العبد أنه يدفع عن نفسه ضرًّا، أو يجلب إليه نفعًا، أو يختار له ما يشاء. ومتى اعتقد ذَلِكَ فقد جعل نفسه مشاركًا لله تعالى في خلقه، ومجوزًا عليه ما لم يقدره، تعالى عما يقولون، ودل هذا أن اعتقاد القلب لما لا يجب اعتقاده أعظم في الإثم من أن يكفر بالصدقة، والصلاة، والصوم، والحج، وسائر أعمال الجوارح التي لا ينذرها؛ لأن نهيه عليه السلام عن هذا النذر وإن كان خيرًا ظاهرًا يدل على أنه حابط من الفعل، حين توهم به الخروج عما قدره الله، فإن سلم من هذا الظن، واعترف أن نذره لا يرد عنه شيئًا قد قدره الله عليه، وأن القدر سبب له بما أخافه به استخراج صدقة هو شحيح بمثلها، فإنه مأجور بنذره، ولم يكن حينئذٍ نذره منهيًا عنه، ولذلك -والله أعلم- عرف الله نبيه بهذا الحديث ليعرف أمته، (بما)
(1)
يجب أن يعتقدوا في النذر، فلا يحبط عملهم به
(2)
.
فصل:
النذر ابتداءً جائز، والمنهي عنه المعلق، كأنه يقول: لا أفعل يا رب خيرًا حَتَّى تفعل بي خيرًا، فإذا دخل فيه فعليه الوفاء.
وقوله: ("لا يأتي") كذا في الأصول، وفي رواية أبي الحسن: يأت، بغير ياء، وكأنه كتبه على الوصل مثل قوله:{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)}
(1)
في الأصل: لا، والمثبت من "شرح ابن بطال" وهو أليق بالسياق.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 10/ 307 - 308.
[العلق:18] بغير واو، وضبطه في رواية أبي الحسن بضم التاء، وليس ببين، قاله ابن التين: والصحيح نصبها.
وقوله: ("لم يكن قدرته")(معناه)
(1)
، أي: وأنا قدرت عليه الشدة فيجعل هو النذر ليحملها عنه، والنذر لا يحل عنه الشدة، فهو لا يغني عنه شيئًا، ولا بد أن يأتيه الذي قدر عليه من (غرق)
(2)
أو سلامة، فيجعل الناذر هذا الذي يجعل، فيسلمه الله من الشدة بنذره، ويكون ذَلِكَ النذر استخرجه من البخيل للشدة التي عرضت له.
قال الخطابي وغيره: وفي قوله: "أستخرج به من البخيل" دليل على وجوب النذر
(3)
؛ إذ لو كان غير (واجب)
(4)
لم يستخرج به. قلت: إلا في نذر اللجاج والغضب، كإن كلمته: فلله عليَّ كذا، فالأظهر أنه مخير بين الوفاء بما التزم وبين أن يكفر كفارة يمين.
وقال مجاهد: في قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] هو أمر بالوفاء لكل ما نذر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو نحو ما نذر
(5)
. وقيل: هو رمي الجمار، وليس ببين؛ لأن ذَلِكَ ليس بنذر - والله أعلم.
(1)
من (ص 2).
(2)
في (ص 2): عدو.
(3)
"أعلام الحديث" 4/ 2277.
(4)
في الأصول: واجد، والمثبت المناسب للسياق.
(5)
رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 141 (25107)، (25108).
7 - باب لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَا باللهِ
6610 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِى عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِى غَزَاةٍ، فَجَعَلْنَا لَا نَصْعَدُ شَرَفًا، وَلَا نَعْلُو شَرَفًا، وَلَا نَهْبِطُ فِي وَادٍ، إِلاَّ رَفَعْنَا أَصْوَاتَنَا بِالتَّكْبِيرِ. قَالَ: فَدَنَا مِنَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا» . ثُمَّ قَالَ: «يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ» . [انظر: 2992 - مسلم: 2704 - فتح 11/ 500].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ
…
الحديث، "ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ" إلى آخره. ثُمَّ قَالَ:"يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيسٍ، أَلَا أدلك على كَلِمَةً هِيَ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ". وقد سلف.
"واربعوا" بالباء الموحدة. قال ابن السكيت: ربع الرجل يربع إذا وقف وانحبس
(1)
.
ومنه قولهم: اربع على نفسك، أي: ارفق بها وكف.
وقوله: ("من كنوز الجنة") يعني: أن ثوابها كثير، يوجب الجنة. قاله الداودي.
وهذا باب جليل في الرد على القدرية، وذلك أن معنى لا حول ولا قوة إلا بالله: لا حول للعبد ولا قوة له إلا بالله، أي: يخلق الله له الحول والقوة، التي هي القدرة على فعله للطاعة والمعصية.
(1)
"إصلاح المنطق" ص 262.
قال المهلب: فأخبر عليه السلام أن الباري خالق لحول العبد وقدرته على مقدوره، وإذا كان خالقًا للقدرة فلا شك أنه خالق للشيء المقدور، فيكون المقدور كسبًا للعبد خلقًا لله، بدليل قوله تعالى:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، وقوله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]، قال محمد بن كعب القرظي: نزلت هذِه الآية الأخيرة تعييرًا لأهل القدر
(1)
، والدليل على أن أفعالهم خلق لله أن أيديهم التي عندهم هي خالقة لأعمال الشر من الظلم والتعدي، وفروجهم التي هي خالقة للزنا، قد توجد عاطلة من الأعمال عاجزة عنها.
ألا ترى أن من الناس من يريد الزنا، وهو يشتهيه بعضو لا (آفة)
(2)
فيه، فلا يقدر عليه عند إرادته للزنا، ولو كان العبد خالقًا لعمله لما عجزت أعضاؤه عند إرادته ومستحكم شهوته، فثبت أن القدرة ليست لها، وأنها لمقدرٍ يقدرها إذا شاء، ويعطلها إذا شاء، لا إله إلا هو.
فصل:
وإنما أمرهم بالربع على أنفسهم على جهة الرفق بهم، وقد سلف هذا المعنى في الجهاد في باب ما يكره من رفع الصوت بالتكبير. وعرفهم عليه السلام أن ما يعلنون به من التكبير ويجتهدون فيه من الجهاد، هو فضل الله عليهم، إذ لا حول لهم ولا قوة (في شيء منه)
(3)
إلا بالله الذي أقدرهم عليه، وحببه إليهم، وإن كان فيه تلاف نفوسهم، رغبة في جزيل الأجر وعظيم الثواب.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 11/ 569 (32838).
(2)
في الأصل: أثر، والمثبت من (ص 2).
(3)
من (ص 2).
فصل:
وفيه: أن التكبير يسمى دعاء، كقوله "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا" فجعل قولهم: الله أكبر. دعاء له من أجل أنهم كانوا يريدون به إسماعه الشهادة له بالحق
(1)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 10/ 309 - 310.
8 - باب المَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تعالى
عَاصِمٌ مَانِعٌ، وقَالَ مُجَاهِدٌ: سُدًا عَنِ الحَقِّ: يَتَرَدَّدُونَ بالضلَالَةِ. {دَسَّاهَا} [الشمس:10] أَغْوَاهَا.
6611 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ» . [7198 - فتح: 11/ 501].
ثم ساق حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلَّا لَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِاَلخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ".
الشرح:
البطانة: خواص الرجل، ووزراء الملك، وغرض البخاري في هذا الباب إثبات الأمور لله -عز وجل-، فهو الذي يعصم من نزغات الشيطان، ومن شر كل وسواس خناس من الجنة والناس، وليس من خليفة ولا أمير إلا والناس حوله رجلان: رجل يريد الدنيا والاستكثار منها، فهو يأمره بالشر ويحضه عليه ليجد به السبيل إلى انطلاق اليد في المحظورات، ومخالفة الشرع، ويوهمه أنه إن لم يقتل ويغصب، ويخف الناس، لم يتم له شيء ولم يرض، فسياسة الله لعباده ببسط العدل، وبحمد الأيدي، وإن في ذَلِكَ صلاح البلاد والعباد، ولا يخلو السلطان أن تكون في بطانته رجل يحضه على الخير، ويأمره به؛ لتقوم به الحجة عليه من الله في يوم القيامة، وهم الأمل، والمعصوم من الأمراء من عصمه الله، لا من عصمته نفسه الأمارة بالسوء، بشهادة الله عليها الخالق لها {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا} [النساء: 87].
9 - باب {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] وقوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، {وَلَا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27]
.
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ النُّعْمَانِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَحِرْمٌ بِالْحَبَشِيَّةِ: وَجَبَ.
6612 -
حَدَّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ على ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، وَيُكَذِّبُهُ»
وَقَالَ شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 6243 - مسلم: 2657 - فتح: 11/ 502].
ساق عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ على ابن آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا العَينِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ المَنطِقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشثتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ".
وَقَالَ شَبَابَةُ ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابن طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
قول منصور: أخرجه أبو جعفر
(1)
، عن ابن قهزاذ، عن أبي عوانة عنه، (وحديث أبي هريرة سلف)
(2)
.
قوله: (وقال شبابة إلى آخره) أخرجه الطبراني في أوسط معاجمه: حَدَثنَا عمر بن عثمان، ثَنَا ابن المنادي عنه. فذكره.
وقوله: (وجب) زاد عنه غيره: أي: وجب عليهم أنهم لا يتوبون. وقال أبو عبيدة (لا) هاهنا زائدة، ويذهب أن حرامًا على بابه، وأنكره البصريون؛ لأن (لا)، لا تزاد إلا فيما لا يشكل.
وقيل: المعنى: أن يتقبل منهم عمل؛ لأنهم لا يتوبون. قاله الزجاج
(3)
، وقيل: الحرام في اللغة: المنع، فالمعنى: حرام عليهم الرجوع إلى الدنيا.
وقال المهلب: المعنى: وجب عليهم أنهم لا يتوبون، وحرام، وحرم معناهما واحد، وهما قراءتان، والتقدير: وحرام على قرية أردنا إهلاكها، التوبة من كفرهم، وهذا كقوله تعالى:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، أي: قد تقدم علم الله تعالى في قوم نوح أنه لن يؤمن منهم غير من آمن، ولذلك قال نوح:{رَبِّ لَا تَذَرْ على الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ} إلى قوله: {فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27]، إن قد أعلمتني أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، فأهلكهم لعلمه تعالى بأنهم لا يرجعون إلى الإيمان
(4)
.
(1)
ورد بهامش الأصل: الظاهر أنه الطبري محمد بن جرير في "تفسيره".
(2)
من (ص 2).
(3)
انظر: "تفسير القرطبي" 11/ 341.
(4)
انظر: "شرح ابن بطال" 10/ 311 - 312.
وقوله: (بالحبشية) لعله إنما يريد أنها وافقت العربية، أو عربتها العرب، واستعملتها، وإلا فالقرآن بلسان عربي مبين.
فصل:
موافقة الترجمة للحديث هو قوله عليه السلام: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا" فأخبر أن الزنا ودواعيه كل ذَلِكَ مكتوب مقدر على العبد غير خارج من سابق قدره.
وقوله: ("أدرك ذَلِكَ لا محالة") إدراكه له من أجل أن الله كتب عليه. وقوله: (أشبه باللمم) يريد قوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] فالنظر والنطق من اللمم، واللمم: صغار الذنوب، وهي مغفورة باجتناب الكبائر، وقد سلف ما للعلماء في ذَلِكَ، في باب الكبائر من كتاب الأدب، وذكر عن ابن عباس أنه -أعني: اللمم- أن يتوب من الذنب ولا يعاوده
(1)
وقاله مجاهد والحسن
(2)
، وروي عن ابن عباس: كل ما دون الزنا فهو لمم.
وقال ابن مسعود: العينان تزنيان بالنظر، والشفتان تزنيان وزناهما التقبيل، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما المشي
(3)
. وقيل: اللمم: الصغائر، وقيل: النظرة (التي تكون)
(4)
فجأة.
وقيل: في قوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} (إلا) بمعنى: الواو، وأنكره الفراء، وقال: المعنى: إلا التقارب من صغير الذنوب
(5)
.
(1)
في (ص 2): الذنوب ولا يعاودها.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 11/ 527 (32568)، (32570).
(3)
السابق 11/ 526 (32562).
(4)
من (ص 2).
(5)
"معاني القرآن" 3/ 100.
وسمي النظر والمنطق، وما سلف زنا؛ لأنها دواع إليه، والسبب قد يسمى باسم المسبب مجازًا أو اتساعًا لما بينهما من التعلق، غير أن زنا العين، واليدين مؤاخذ به من اجتنب الزنا بفرجه؛ لأنه كذب زنا جوارحه بترك الزنا بفرجه، فاستخف زنا عينيه، ولسانه، وقلبه؛ لأن ذَلِكَ من اللمم الذي يغفر باجتناب الكبائر. وزنا الفرج من أكبر الكبائر، فمن فعله فقد صدق زنا عينيه، ولسانه، وقلبه، فيؤاخذ بإثم ذَلِكَ كله.
و ("ومحالة") بفتح الميم أي: لابد.
وقوله: ("والنفس تمنى وتشتهي") دليل على أن فعل العبد ما نهاه الله عنه مع تقدم تقديره له تعالى عليه، وسابق علمه بفعله، باختيار منه وإيثار، وليس بمجبر عليه، ولا مضطر إلى فعله. وعلى هذا علق العقاب والثواب، فسقط قول جهم بالإجبار، بنص قوله عليه السلام:"والنفس تمنى وثشتهي"؛ لأن المجبر مكره فقط (مضطر)
(1)
، وهو (بخلاف المشتهي، والمتمني)
(2)
.
وقوله: ("والفرج يصدق ذَلِكَ ويكذبه ") يعني: إذا قدر على الزنا، فيما كان فيه النظر والتمني، فإن زنا صدَّق ذَلِكَ، وأضيف بعضهم إلى بعض، فإن امتنع وخاف ربه كتب له حسنة، وقد سلف ذَلِكَ واضحًا.
فائدة:
منصور بن النعمان هو الربعي، البكري اليشكري أبو حفص البصري سكنها، ثم مرو، ثم سكن بخارى، ذكره ابن أبي حاتم في "جرحه
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: كاف.
وتعديله"
(1)
(2)
(وذكره ابن حبان في "ثقاته")
(3)
(4)
.
(1)
ورد في هامش الأصل: لم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحًا ولا تعديلًا، ولكن ذكره ابن حبان في "الثقات".
(2)
"الجرح والتعديل" 8/ 179.
(3)
من (ص 2).
(4)
"الثقات" 7/ 477.
10 - باب {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60]
6613 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء:60] قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. [انظر: 3888 - فتح:11/ 504].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.
الشرح:
قوله: {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قيل: إنما فتن الناس بالرؤيا والشجرة؛ لأن جماعة ارتدوا، وقالوا: كيف يسرى به إلى بيت المقدس في ليلة واحدة، وقالوا لما أنزل الله شجرة الزقوم: كيف يكون في النار شجرة لا تأكلها؟ فكان فتنة لقوم، واستنصارًا لقوم، منهم: أبو بكر، ويقال: إنه سمي صديقًا ذَلِكَ اليوم، فإن قلت: لم يذكر في القرآن لعن لتلك الشجرة، فعنه جوابان: أنه قد لعن آكلها، وهم الكفار، كما قال تعالى:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43، 44]، وقال:{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} ، والآخر تقول: فكل طعام مكروه ملعون.
فصل:
قال المهلب: معنى ذكر هذا الحديث في كتاب القدر، هو ما ختم الله على الناس المكذبين لرؤياه من المشركين، حيث جعلها فتنة لهم في
تكذيب النبي الصادق، فكان زيادة في طغيانهم، وكذلك جعل الشجرة الملعونة في القرآن فتنة، فقالوا: كيف تكون في النار شجرة النار تحرق الشجر اليابس والأخضر، فجعل ذَلِكَ فتنة تزيد في ضلالهم، فلا يؤمنون على ما سبق في علمه.
قال غيره: وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا} الآية يقتضي خلق الله للكفر به، ودواعي الكفر هي الفتنة، وذلك عدل منه تعالى، وهذا مثل قوله تعالى:{وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]، فهذا عام في فعله تعالى، كفر الكافرين، وإيمان المؤمنين، ودواعي الإيمان والكفر، خلافًا لمن زعم أن الله تعالى غير خالق أعمال العباد، وقد سلف أن الله تعالى قال:{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] فأخبر تعالى أنها تنبت في النار، وهي مخلوقة من جوهر لا تأكله النار، كسلاسل النار، وأغلالها، وعقاربها، وحياتها، وليس شيء من ذَلِكَ من جنس ما في الدنيا بما لا يبقى على النار، وإنما خلقت من جنس لا تأكله النار، وكما خلق الله تعالى في البحار من الحيوان ما لا يهلك في الماء، وخلق في الخل دودًا يعيش فيه، ولا يهلكه، على أن الخل يفت الحجارة، ويهري الأجسام، ولم يكن ذَلِكَ إلا لموافقة ذَلِكَ الدود لجنس الخل، وموافقة حيوان البحر لجنس الماء، فكذلك ما خلق في النار من الشجر والحيوان موافق لجنس النار، والله تعالى قادر أن يجعل النار بردًا وسلامًا، وأن يجعل الماء نارًا؛ لأنه على كل شيء قدير، فما أنكره الكفار من خلق الشجر في النار عناد بيِّن، وضلال واضح، أعاذنا الله - منه برحمته
(1)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 10/ 313 - 314.
11 - باب تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى عِنْدَ اللهِ
6614 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي على أَمْرٍ قَدَّرَ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟! فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» ثَلَاثًا.
قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأعرَجِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ. [انظر: 3409 - مسلم: 2652 - فتح: 11/ 505].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث سُفْيَانَ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ. قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى، أنت الذي اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ التوراة بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي على أَمْرٍ قَدَّرَ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟! فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى" ثَلَاثًا.
قَالَ سُفْيَانُ: ثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
الشرح:
رواه مالك، عن أبي الزناد، به بزيادة:"اصطفاك الله برسالته"
(1)
وليس فيه: "وخط لك بيده"، وليس فيه:"بأربعين سنة"، ولا:"أنت أبونا". ففيه دليل على سابق العلم، ويحتمل قوله:("قدره الله عليّ قبل أن يخلقني") بكذا أن يكون ذَلِكَ قوله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وذلك مقدر عليه في الأزل.
(1)
"الموطأ" ص 560.
وقول موسى: "يا آدم". وهو أبوه؛ لشدة غضبه، وكان شديد الغضب، يكاد شعره يخرج من ثوبين عند الغضب، والخيبة: الحرمان والخسران، وقد خاب، يخيب، يخوب.
وقوله: ("وخط لك بيده") يعني: التوراة، وهذا لا يوصف إلا بما في النص، لا يزاد عليه (بحاسة)
(1)
، ولا غيرها.
وقوله: ("فحجَّ آدم موسى") أتى عليه بالحجة. قال الداودي: وإنما تحاجا في الخروج من الجنة، فقامت حجة آدم: أن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، ولم يحتج آدم في نفي الذنب عن نفسه؛ لأنه لا يقوم له سابق العلم حجة، أنه كان أكله من الشجرة اختيارًا. وجدالهما هذا يحتمل أن يكون بين روحيهما بعد موت موسى، أو يكون ذَلِكَ يوم القيامة. وقال ابن بطال: معنى احتج آدم وموسى: التقت أرواحهما في السماء، فوقع هذا الحجاج بينهما، وقد جاءت الرواية بذلك.
روى الطبري، عن يونس بن عبد الأعلى، ثَنَا ابن وهب، ثَنَا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى قال: يا رب، أبونا آدم الذي أخرجنا، ونفسه من الجنة، فأراه الله آدم وقال له: أنت آدم؟ قال: نعم، قال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلمك الأسماء كلها، وأمر ملائكته فسجدوا لك، فما حملك أن أخرجتنا، ونفسك من الجنة؟ قال: ومن أنت؟ قال: أنا موسى، قال: أنت نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولاً من
(1)
في (ص 2): بمماسة.
خلقه؟ قال: نعم، قال: أفما وجدت في كتاب الله أن ذَلِكَ كائن قبل الخلق؟ قال: نعم". وذكر الحديث
(1)
.
قال المهلب وغيره وقوله: ("فحج آدم موسى") أتى عليه بالحجة.
قال الليث بن سعد: وإنما صحت الحجة في هذِه القصة لآدم على موسى؛ من أجل أن الله قد غفر لآدم، وتاب عليه، فلم يكن لموسى أن يعيره بما قد غفرها الله له، ولذلك قال له آدم: أنت موسى الذي آتاك الله التوارة، وفيها علم كل شيء، فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية، وقدر علي التوبة منها، وأسقط بذلك اللوم عني، أفتلومني أنت، والله لا يلومني؟! وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له: إن عثمان فرَّ يوم أحد. فقال ابن عمر: ما على عثمان ذنب؛ لأن الله قد عفى عنه
(2)
بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155]، وأما من عمل الخطايا، ولم تأته المغفرة، فإن العلماء مجمعون أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم، فيقول: أتلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت، وقد قدر الله عليَّ ذَلِكَ، والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه، فإن قلت: فإن القدرية احتجت بقول موسى: "أنت آدم خيبتنا وأخرجتنا من الجنة". فنسب التخييب والإخراج إليه. قالوا: هذا يدل أن العباد يخلقون أفعالهم طاعتها ومعصيتها، ولو كانت خلقًا منه لم يصح أن يأمرهم ولا ينهاهم.
قال: وكذلك احتجت الجهمية على صحة الجبر، يقول آدم:"أتلومني على أمر قدر عليَّ".
(1)
رواه أبو داود (4702) عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، به.
(2)
سلف برقم (3699)، كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عثمان بن عفان.
فالجواب: أنه ليس في قول موسى دليل قاطع على اعتقاد القول بالقدر، وإن العبد خالق لأفعاله دون ربه كما زعمت القدرية؛ لأنه ليس في قوله:"أنت آدم" إلى آخره أكبر من إضافة التخييب والإخراج إليه، وإضافة ذَلِكَ إليه لا يقتضي كونه خالقًا لهما، إذ قد يصح في اللغة إضافة الفعل إلى من يقع منه على سبيل (المجاز)
(1)
، وإلى من يقع منه على سبيل الاكتساب.
وإذا احتملت إضافة التخييب والإخراج الوجهين جميعًا لم يقض بظاهره على أحد الاحتمالين دون الآخر إلا بدليل قاطع، وقد قام الدليل الواضح على استحالة اختراع المخلوق أفعاله دون إقدار الله له على ذَلِكَ بقوله تعالى:{اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وبقوله: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]. وليس يجوز أن يريد تعالى بهذا: الحجارة؛ لأن الحجارة أجسام، والأجسام لا يجوز أن يعملها العباد، فدل أنه تعالى خالق أعمالهم، وقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} [الشورى: 29] واجتماعهم فعل لهم، وقد أخبر تعالى أنه خلق له، وقد ثبت أنه تعالى قادر على جميع أجناس الحركات التي يحدثها العباد، بدلالة أنه أقدرهم عليها، وما أقدرهم عليه فهو عليه أقدر، كما أنه ما أعلمهم (به)
(2)
، فهو به أعلم، فثبت أنه تعالى خالق الأفعال، والعبد مكتسب لها، كما نقول: إنه تعالى منفرد بخلق الولد، والوالد منفرد بكون الولد ولدًا له، لا شركة فيه لغيره، فنسبة الأفعال إليه تعالى من جهة خلقه لها، ونسبتها إلى العباد من جهة اكتسابهم لها. هذا مذهب أهل
(1)
في (ص 2): الخلق.
(2)
في (ص 2): إياه.
السنة والحق، وهو مذهب موسى عليه السلام من قوله:{إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] فأضاف موسى الهداية والإضلال إلى الله تعالى، ولا تصح هذِه الإضافة إلا على سبيل خلقه لها، دون من وجدت منهم.
وأما قول الجهمية: إن الله تعالى أجبر العباد على أفعالهم، وهم مكرهون على الطاعة والمعصية. واحتجوا بقول آدم:"أتلومني" إلى آخره، فلا حجة لهم فيه أيضًا؛ لأن الموجود بالاعتبار والمشاهدة خلاف قولهم، وذلك أن العباد لا يأتون الذنوب إلا مشتهين لها، راغبين فيها، والإجبار عند أهل اللغة هو اضطرار المرء إلى الفعل، وإدخاله فيه، غير راغب فيه، ولا محب له كالمسحوب على وجهه، والمرتعش من الحمى، والفالج. وأهل الجبر معتقدون لوم من وقعت منه معصية الله، وتأنيبه عليها أشد التأنيب، أو مدح من وقعت منه الطاعة، وإثابته عليها، وإذا كان هذا عندهم، فاحتجاجهم بتأنيب آدم موسى على لومه له على أمر قد قدره عليه، (وأكرهه عليه)
(1)
، فاسد متناقض على مذهبهم.
ومحاجة آدم موسى في أنه ذاكره ما قد عرفه، ووقف عليه في التوراة من توبة الله على آدم بما وقع، وإسقاطه اللوم عليها فوجب على موسى ترك لومه وعتابه على ما كان منه.
وقد سئل جعفر بن محمد الصادقُ، فقيل له: هل أجبر الله تعالى العباد؟ قال: الله تعالى أعدل من ذَلِكَ.
قيل: فهل فوض إليهم؟ قال: الله أعز من ذلك، لو أجبرهم على
(1)
من (ص 2).
[ذلك] ما عذبهم، ولو فوض إليهم ما كان للأمر والنهي معنى. قلت: فكيف أقول إذًا؟ قال: منزلة بين منزلتين، هي أبعد مما بين السماء والأرض، ولله في ذَلِكَ سر لا تعلمونه.
واحتجت أيضًا طائفة من القدرية المجبرة غير الجهمية بهذا الحديث، فقالت: إن كان صحيحًا قول آدم لموسى: "أتلومني على أمر؟ " فلا لوم على كافر في كفره، ولا فاسق في فسقه، ولا يجوز أن يجور عليهم، ويعذبهم على ما اضطرهم إليه.
فالجواب كما قال الطبري: إنه ليس معنى قوله: "أتلومني على أمر؟ " كما توهمته، وكيف يجوز أن يكون ذَلِكَ معناه، وقد عاقبه الله على ما وقع بإخراجه من الجنة، ولو لم يكن ملومًا، لكان وكنا في الجنة، كما أسكنه الله، ولكنه جل جلاله أخرجه منها بما وقع عقوبة عليها، ولم يعاقبه على ما قضى عليه؛ لأنه لو عاقبه عليه لما كان يسكنه الجنة حين أسكنه إياها، وذلك أن القضاء عليه بذلك قد كان يغني قبل أن يخلقه، فإنما استحق العقوبة على فعلته، لا على ما قضى عليه، وبمثل هذا أقر موسى لآدم بصحة حجته، ولم يقل له كما زعمت القدرية، ليس الأمر كما تزعم؛ لأن الله لو كان قضى عليك ذلك قبل أن يخلقك لم يعاقبك، ولكن لما كان من دين الله الذي أخذ بالإقرار به عهود أنبيائه ومواثيقهم، أنه لا شيء كان فيما مضى، ولا فيما يحدث إلا (قد مضى)
(1)
به قضاء، فإنه غير معاقبهم على قضائه، ولكن على طاعتهم ومعاصيهم، وكان ذَلِكَ معلومًا عند الأنبياء والرسل، أقر موسى لآدم بأن الذي احتج به عليه له حجة، وحقق صحة ذَلِكَ نبينا
(1)
في (ص 2): قضى.
عليه أفضل الصلاة والسلام، بقوله:"فحج آدم موسى عليهما الصلاة والسلام".
فصل:
قال غير الطبري: حديث أبي هريرة حجة لما يقوله أهل السنة رضي الله عنهم: التي أهبط الله فيها أبانا آدم هي جنة الخلد، ورد قول من زعم أنها لم تكن جنة خلد، قالوا: وإنما كانت جنة بأرض عدن، واحتجوا على بدعتهم، فقالوا: إن الله خلقها لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد لغى فيها إبليس حين كذب لآدم، وأثم في الكذب، وإنه لا يسمع أهلها لغوًا ولا كذابًا، وإنه لا يخرج منها أهلها، وقد أخرج منها آدم وحواء بما وقع منهما. قالوا: وكيف يجوز على آدم -مع مكانه من الله وكمال (عقله)
(1)
- أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلود والملك الذي لا يبلى؟ وأيضًا فإن جنة الخلد دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي كلها؛ تطهيرًا لها.
فيقال لهم: الدليل على إبطال قولكم: قول موسى لآدم: "أنت الذي أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة" فأدخل الألف واللام؛ ليدل على أنها الجنة المعروفة، وجنة الخلد الموعود بها، التي لا عوض منها في الدنيا، فلم ينكر ذلك آدم من قوله، ولو كانت غير جنة الخلد لرد آدم على موسى، وقال: إني أخرجتهم من دار فناء وشقاء وزوال وعري إلى مثلها. فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها في جميع الأحوال، ويقال لهم فيما احتجوا به: إن الله خلق الجنة لا لغو
(1)
في (ص 2): خلقه.
فيها، ولا تأثيم، ولا كذب، ولا يخرج منها أهلها. هذا كله مما (جعله)
(1)
الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، وقد أخبر تعالى أن آدم إن عصاه فيما نهاه عنه أخرجه منها، ولا تمتنع أن تكون دار الخلد في وقت لمن أراد تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضى عليه بالفناء، وأجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهلها، ويخرجوا منها، وأنها كانت بيد إبليس مفاتيحها، ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ثم خرج منها، وأخبر بما رأى فيها، وأنها هي جنة الخلد حقًا. وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد؟ فيعكس عليهم، ويقال لهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء؟ هذا لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل.
وأما (قولهم)
(2)
: إن الجنة دار القدس، قد طهرها الله من الخطايا. فهو جهل منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي بالشام، وأجمع أهل العلم بالشرائع على أن الله تعالى قدسها، وقد شاهدوا فيها المعاصي، والكفر، والكذب، ولم يكن تقدسيها بما يمنع فيها المعاصي، فكذلك دار القدس، وأهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم، فلا معنى لقول من خالفهم
(3)
.
(1)
في (ص 2): حفظه.
(2)
من (ص 2).
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 10/ 314 - 321.
12 - باب لَا مَانعَ لِمَا أَعطَى الله
6615 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ وَرَّادٍ مَوْلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ خَلْفَ الصَّلَاةِ. فَأَمْلَى عَلَيَّ الْمُغِيرَةُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ خَلْفَ الصَّلَاةِ: «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ، أَنَّ وَرَّادًا أَخْبَرَهُ بِهَذَا. ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يَأْمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ. [انظر: 844 - مسلم: 593 - فتح: 11/ 512].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث وَرَّادٍ مَوْلَى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى المُغيرَةِ اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ خَلْفَ الصَّلَاةِ. فَأَمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ خَلْفَ الصَّلَاةِ: "لَا إله إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولَاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ". وَقَالَ ابن جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ، أَنَّ وَرَّادًا أَخْبَرَهُ بهذا. ثُمَّ وَفَدْتُ بَعْدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَسَمِعْتُهُ يأمُرُ النَّاسَ بِذَلِكَ.
الشرح:
هذا الحديث سلف قريبًا في الدعاء
(1)
.
وفيه: السؤال عن أفعاله عليه السلام في الصلاة؛ ليقتدى به.
والجد بفتح الجيم: وهو الحظ والبخت.
والمعنى: أن لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه العمل بطاعتك لا مال ولابنون، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ
(1)
سلف برقم (6330).
الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ} [الكهف: 46]. وعلى فتح الجيم أكثر الرواة.
وقال أبو عمرو الشيباني: هو بالكسر فيهما، وهو من جد الاجتهاد، فمعناه: لا ينفع ذا الاجتهاد من الله اجتهاده في القرب منه، ولا في الطلب لما لم يقسم له.
وقيل: "ذا الجد": المجتهد في طلب الدنيا، فإن ذَلِكَ لا ينفعه إن ضيع أمر الآخرة، وبعضهم ذهب في الفتح إلى جد: الرزق، أي: أن الغنى والرزق لا ينفع من الله شيئًا، وهذا خبط.
ومعنى "منك": بذلك. قاله الخطابي
(1)
.
وقال الجوهري: "منك" هنا بمعنى: عندك
(2)
، أي: لا ينفع ذا الجد عندك الجد، ويصح أن يحمل على أن المعنى: لا ينفع الجد منك جده، إن أردته بسوء. وقيل: في معنى الكسر ليس ينفع الساعي سعيه، ولا الطالب مطلبه، لا بد أن ينال كل واحد ما قدر له.
قال الطبري في الكسر: إنه خلاف ما يعرفه أهل النقل والرواة لهذا الخبر، ولا نعلم أحدًا قال ذَلِكَ غيره، مع بعد تأويله من الصحة.
فصل:
مراد البخاري هنا بهذا الحديث: إثبات خلق الله جميع أفعال العباد؛ لأن قوله: "لا مانع لما أعطيت" يقتضي نفي جميع المانعين سواه، وكذلك قوله:"ولا معطي لما منعت" يقتضي نفي جميع المعطين سواه، وأنه لا معطي ولا مانع على الحقيقة بفعل المنع والعطاء سواه، وإذا كان ذَلِكَ كذلك؛ ثبت أن من أعطى أو منع من
(1)
"أعلام الحديث" 1/ 552.
(2)
"الصحاح" 2/ 452.
المخلوقين، فإعطاؤه ومنعه خلق لله تعالى، وكسب للعبد، والله تعالى هو المعطي وهو المانع لذلك حقيقة من حيث كان مخترعا خالقًا للإعطاء والمنع، والعبد مكتسب لهما بقدرة محدثة، فبان أنه إنما بقي مانعًا، ومعطيًا، ومخترعًا للمنع والإعطاء ويخلقهما.
13 - باب مَنْ تَعَوَّذَ باللهِ مِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ القَضَاءِ وَقَوْلِهِ -عز وجل-: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق 1 - 2]
6616 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ» . [انظر: 6347 - مسلم: 2707 - فتح: 11/ 513].
ساق فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تَعَوَّذُوا باللهِ مِنْ جَهْدِ البَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ".
هذا الحديث سلف قريبًا في الدعاء، (وما) بمعنى: الذي، والضمير محذوف من الصلة، وكذلك إن جعلت ما والفعل مصدرًا دل على ذَلِكَ، إلا أنه ضمير محذوف في الكلام، ومن قرأ شرًا جعل ما نافية، وهو غلط؛ لأن تقديره عنده: ما خلق شرًا.
وجهد البلاء: أقصى ما يبلغ، وهو الجهد بضم الجيم وفتحها. والمجهود، وإذا كسرت الباء من البلاء قصرت، وقال (ابن عمر رضي الله عنهما)
(1)
: و"جهد البلاء": كثرة العيال، وقلة الشيء
(2)
. وقد يكون ذَلِكَ كل بلاء شديد.
وقد ذكر في الدعاء في باب: التعوذ من جهد البلاء، عن سفيان أنه قال: الحديث ثلاث، زدت أنا واحدة، ولا أدري أيتهن هي
(3)
.
(1)
في (ص 2): أبو عمر.
(2)
انظر: "الاستذكار" 8/ 143.
(3)
سلف بعد حديث رقم (6347).
"ودرك الشقاء": إدراكه الإنسان، وهو ما يدركه في دنياه من شدة المعيشة، ووصول الضرر من جهدها، والشقاء يمد، ويقصر.
"وسوء القضاء": ما يسوء الإنسان منه ويحزنه.
"وشماتة الأعداء": فرحهم بما يدرك عدوهم من مكروه. قيل: وهي من أصعب البلاء. ألا ترى قول هارون لأخيه عليهما السلام: {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150]
فصل:
إنما أمرنا بالتعوذ به تعالى من أن ينزل بنا فعلًا من أفعاله، يشق علينا نزوله بنا لما يقتضيه من الشدة والمشقة، وذلك بلاء وشقاء وسوء قضاء وشماتة أعداء، فالشقاء يكون في الدين والدنيا، وإذا كان في الدنيا كان تضييقًا في العيش، وتقتيرًا في الرزق، كما مر، وذلك فعل الله، وإن كان في الدين فذلك كفر ومعصية، وذلك فعله تعالى أيضًا.
وكذلك "سوء القضاء" عام في جميع ما قضاه الله تعالى في أمر الدين والدنيا، "وشماتة الأعداء" وإن كانت مضافة إليهم إضافة الفعل إلى فاعله في الظاهر، فإنما ذَلِكَ على سبيل إضافة الكسب إلى مكتسبه، لا على سبيل الاختراع، إذ لا يصح في المخلوق اختراع عين، فبان أن جميع ما أمرنا بالتعوذ منه تعالى خلق لله، بدليل قوله:{اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]
فصل:
المستفاد من قوله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} [الفلق: 1]، إلى آخر السورة: خلق الله تعالى لشر ما خلق، ولشر غاسق، ولشر النفاثات، ولشر حاسد؛ لأنه لو كان هذا الشر كله خلقًا لمن أضافه
إليه من الغاسق إلى آخره مخترعًا لا كسبًا، لم يكن لأمر الله لنبيه (ولا)
(1)
لعباده من التعوذ به من شر ذَلِكَ كله معنى، وإنما يصح التعوذ به تعالى بما هو قادر عليه دون من أضافه إليه، فيعيذنا تعالى بسؤاله دفع شر خلقه عنا؛ لأنه إذا كان قادرا على ما أضافه إلى من ذكر في السورة، كان قادرًا على فعل ضده.
ويعيذنا بسؤاله تعالى فعل ضد ما أمرنا بالاستعاذة منه، فبان أن الخير والشر بهذا النص خلق الله تعالى.
(1)
من (ص 2).
14 - باب {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]
6617 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كَثِيرًا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: «لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» . [6628، 7391 - فتح: 11/ 513].
6618 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ وَبِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لاِبْنِ صَيَّادٍ: «خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا» . قَالَ: الدُّخُّ. قَالَ: «اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ» . قَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ: «دَعْهُ، إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَا تُطِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» . [انظر: 1354 - مسلم: 2130 - فتح: 11/ 513].
ذَكَرَ فيهِ حَدِيث سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: كَثِيرًا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: «لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» .
وحديث سَالِمٍ، عَنِ أبيه رضي الله عنه قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لاِبنِ صَيَّادٍ: "خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا". قَالَ: الدُّخُّ. قَالَ: "اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ". قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ: "دَعْهُ، إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَا تُطِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ".
وهذا قد سلف، والدخ: الدخان، وقيل: خبأ له عليه السلام سورة الدخان مكتوبة، فأصاب بعض القصة، وهذا لا يكون إلا من الكهانة إذا اختطف الجان، إذا استرق السمع، الكلمة ألقاها إلى من هو دونه، فيقرها في أذن الكاهن. وقوله:"إن يكن هو -يعني: الدجال الأعور- فلا تطيقه -يعني: أنه لا يموت، يضل من يضل- وإن لم يكن هو" إلى آخره يعني: لأنه ليس من أهل التكاليف؛ لأنه لم يحتلم.
فصل:
وقوله: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] يقتضي النص منه تعالى على خلقه الكفر والإيمان، بأن يحول بين قلب الكافر والإيمان الذي أمره به، فلا يكتسبه إذ لم يقدر عليه، بل أقدره على ضده، وهو الكفر، ويحول بين المؤمن وبين الكفر الذي نهاه عنه، بأن لم يقدره عليه، بل أقدره على الإيمان الذي هو به متلبس، وإذا خلق لنا جميع القدرة على ما هما مكتسبان له، مختاران لاكتسابه، فلا شك أنه خالق لكفرهما وإيمانهما؛ لأن خلقه لكفر أحدهما، وإيمان أحدهما من جنس خلق قدرتهما عليه، ومحال كونه قادرًا على شيء غير قادر على خلافه أو مثله أو ضده، فبان أنه خالق بهذا النص لجميع كسب العباد خيرها، وشرها، وهذا المعنى قوله:"لا، ومقلب القلوب"؛ لأن معنى ذَلِكَ تقليبه قلب عبده عن إيثار الإيمان، إلى إيثار الكفر وعكسه، وكان فعل الله تعالى ذَلِكَ عدلاً فيمن أضله وخذله؛ لأنه لم يمنعهم حقًّا وجب عليه، فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم، لا ما وجب لهم، (وأضلهم)
(1)
لأنهم ملك من ملكه، خلقهم على إرادته لا على إرادتهم، فكان ما خلق فيهم من قوة الهداية والتوفيق على وجه التفضل. وقد بين هذا المعنى إياس بن معاوية، ذكر الآجرى من حديث حبيب بن الشهيد، قال: جاءوا برجل يتكلم في القدر إلى إياس بن معاوية، فقال له إياس: ما تقول؟ قال: أقول: إن الله أمر العباد ونهاهم، وإن الله لا يظلمهم شيئًا. فقال له إياس: أخبرني عن الظلم، تعرفه
(1)
من (ص 2).
أو لا تعرفه؟ قال: بل أعرفه. قال: ما الظلم؟ قال: أن يأخذ الرجل ما ليس له. قال: فمن أخذ ما له ظلم؟ قال: لا، قال إياس: فإن لله عز وجل فعل كل شيء
(1)
.
وقآل عمران بن حصين لأبي الأسود الديلي: لو عذب الله أهل السموات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته وسع لهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما تقبل مني حَتَّى تؤمن بالقدر خيره وشره.
وروي مثل ذَلِكَ عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وسعد بن أبي وقاص، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم
(2)
.
وقال زيد: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال: "ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم"
(3)
.
فصل:
وموافقة الحديث للترجمة، وهو قوله عليه السلام: لعمر: "إن يكن هو فلا تطيقه" إلى آخره، يعني أنه: إن كان الدجال قد سبق في علم الله خروجه، وإضلاله للناس، فلن يقدرك خالقك على قتل من سبق في علمه أنه يخرج، ويضل الناس، إذ لو أقدرك على ذَلِكَ لكان فيه انقلاب علمه، والله تعالى عن ذَلِكَ.
(1)
"الشريعة" 2/ 892 (478).
(2)
انظر: "مسند الإمام أحمد" 5/ 182، 185، 189، و"سنن أبي داود"(4699)، و"ابن ماجة"(77)، "شرح أصول الاعتقاد" للالكائي، باب قوله تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} .
(3)
"الشريعة" 2/ 846 - 849 (423)، (424).
15 - باب {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} [التوبة: 51]
قَالَ مُجَاهِدٌ {بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162]: بِمُضِلِّينَ، إِلاَّ مَنْ كَتَبَ اللهُ أَنَّهُ يَصْلَى الْجَحِيمَ. {قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3]: قَدَّرَ الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَهَدَى الأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا.
6619 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ فَقَالَ:«كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهِ، وَيَمْكُثُ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَلَدِ، صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» . [انظر: 3474 - فتح: 11/ 514].
ثم ساق حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّاعُونِ فَقَالَ: «كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُونُ فِي بَلَدٍ يَكُونُ فِيهِا لَا يَخْرُجُ مِنَ البَلَدِة صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» .
هذا الحديث بشرى لهذِه الأمة من الصابرين، منهم المحتسبين. وهذِه الآية حجة على من يقول بخلق الأفعال؛ لأنه لم يجعل لفتنتهم تأثيرًا، إلا من كتب الله تعالى أنه يصلى الجحيم. واحتج بها مالك في كتاب الجهاد من "المدونة"
(1)
.
(1)
"المدونة" 1/ 410.
وقوله: {قدر فهدى} [الأعلى: 3] أي: الأنعام لمراتعها، قال الفراء: أي قدر خلقه فهدى. قيل: هدى الذكر من البهائم لإتيان الأنثى
(1)
. وقيل: هدى ثم قدر لقوله {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81].
والطاعون: الموت من الوباء، قاله أهل اللغة. وعبارة الداودي: إنه حب ينبت في الأرفاغ. وقد سلف إيضاحه.
فصل:
معنى هذا الباب: أن الله تعالى أعلم عباده أن ما يصيبهم في الدنيا من الشدائد والمحن والضيق، والخصب والجدب، أن ذَلِكَ كله فعل الله تعالى، يفعل من ذَلِكَ ما يشاء لعباده، ويبتليهم بالخير والشر، وذلك كله مكتوب في اللوح المحفوظ، ولا فرق في هذا بين جماعة الأمة من قدري وسني، وإنما اختلفوا في أفعال العباد الواقعة منهم على ما سلف قبل.
وهذِه الآية إنما جاءت فيما أصاب العباد من أفعال الله تعالى، التي اختص باختراعها دون خلقه، ولم يقدرهم على كسبها دون ما أصابوه مكتسبين له مختارين.
(1)
"معاني القرآن" للفراء 3/ 256.
16 - باب {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43]{لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِين} [الزمر: 57]
6620 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ -هُوَ ابْنُ حَازِمٍ- عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَهْوَ يَقُولُ:
"وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا
…
وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
…
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
…
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا"
[انظر: 2836 - مسلم: 1803 - فتح: 11/ 515].
ثم ساق حديث ابن عَازِب رضي الله عنهما السالف قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الخَنْدَقِ يَنْقُلُ مَعَنَا التًّرَابَ وَهْوَ يَقُولُ:
"وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا
…
وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
…
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
…
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا".
في هاتين الآيتين والحديث نص أن الله تعالى انفرد بخلق الهدى والضلال، وإنه أقدر العباد على اكتساب ما أراد منهم اكتسابهم له من إيمان أو كفر، وإن ذَلِكَ ليس بخلق للعباد كما زعمت القدرية. وروي عن علي رضي الله عنه أنه لقي رجلاً من القدرية، فقال له: خالفتم الله، وخالفتم الملائكة، وخالفتم أهل الجنة، وخالفتم أهل النار، وخالفتم الأنبياء، وخالفتم الشيطان. فأما خلافكم الله فقوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية [القصص: 56]. وأما خلافكم الملائكة فقولهم: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وأما خلافكم الأنبياء فقول
نوح: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} الآية. وأما خلافكم أهل الجنة فقولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43]
وأما خلافكم لأهل النار فقولهم: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون: 106]، وأما خلافكم الشيطان، فقول إبليس:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39].
وذكر الآجري بإسناده عن علي رضي الله عنه: أن رجلاً أتاه فقال: أخبرني عن القدر. فقال: طريق مظلم، فلا تسلكه. قال: أخبرني عن القدر. قال: بحر عميق فلا تلجه. قال: أخبرني عن القدر. قال: سر الله فلا تكلفه. ثم ولى الرجل غير بعيد، ثم رجع فقال لعلي: في المشيئة الأولى أقوم وأقعد وأقبض وأبسط، فقال له علي: إني سائلك عن ثلاث خصال، ولن يجعل الله لك مخرجا، أخبرني أخلقك الله لما شاء أو لما شئت؟ قال: بل لما شاء. قال: أخبرني أفتحيا يوم القيامة كما شاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء. قال: أخبرني أجعلك الله كما شاء أو كما شئت؟ قال: بل كما شاء. قال: فليس لك من المشيئة شيء
(1)
.
وقال محمد بن كعب القرظي لقد سمى الله المكذبين بالقدر باسم نسبهم إليه في القرآن، فقال:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49] فهم المجرمون
(2)
.
آخر كتاب القدر ولله الحمد.
(1)
"الشريعة" 2/ 952 (547).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 11/ 569 (32837) بنحوه.
83
كتاب الأيمان والنذور
بسم الله الرحمن الرحيم
83 - كِتابُ الأَيْمَانِ والنُّذُورِ
1 - [باب] قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} [المائدة: 89]
.
6621 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمْ يَكُنْ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ قَطُّ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ كَفَّارَةَ اليَمِينِ، وَقَالَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي. [انظر: 4614 - فتح: 11/ 516].
6622 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» [6722، 7146، 7147 - مسلم: 1652 - فتح:11/ 516].
6623 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ:«وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» . قَالَ ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ نَلْبَثَ، ثُمَّ أُتِيَ بِثَلَاثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى فَحَمَلَنَا عَلَيْهَا، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا- أَوْ قَالَ بَعْضُنَا: وَاللهِ لَا يُبَارَكُ لَنَا، أَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا ثُمَّ حَمَلَنَا، فَارْجِعُوا بِنَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنُذَكِّرُهُ، فَأَتَيْنَاهُ فَقَالَ:«مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ، بَلِ اللهُ حَمَلَكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . أَوْ «أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي» [انظر: 3133 - مسلم: 1649 - فتح: 11/ 517].
6624 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [انظر: 238 - مسلم: 855 - فتح: 11/ 517].
6625 -
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «وَاللهِ لأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ» [انظر: 6626 - مسلم: 1655 - فتح: 11/ 517].
6626 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «مَنِ اسْتَلَجَّ فِي أَهْلِهِ بِيَمِينٍ فَهْوَ أَعْظَمُ إِثْمًا، لِيَبَرَّ» . يَعْنِي: الكَفَّارَةَ. [انظر: 6625 - مسلم: 1655 - فتح: 11/ 517].
الأيمان بفتح الهمزة: جمع يمين، والنذور بالذال المعجمة: جمع نذر، وهذا الباب ذكره ابن بطال، قبيل البيوع، وبعد الأشربة. ولا أدري لم فعله.
ثم ساق خمسة أحاديث:
أحدها:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه لَمْ يَكُنْ يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ قَطُّ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ كَفَّارَةَ اليَمِينِ، وَقَالَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتُ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الذِي هُوَ خيرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي.
الحديث الثاني:
حديث الحَسَنِ، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتيتَهَا عَنْ مَسْأَلةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتيتَهَا عنْ غَيْر مَسْأَلةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الذِي هُوَ خَيْرٌ".
وعند الإسماعيلي: "فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك".
الحديث الثالث:
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه بعضه (وفي آخره)
(1)
"إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الذِي هُوَ خَيْرٌ". أَوْ "أَتَيْتُ الذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي".
الحديث الرابع: حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ".
وقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "والله لأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ التِي افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ".
(1)
من (ص 2).
الحديث الخامس:
حديثه أيضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتَلَجَّ في أَهْلِهِ بِيَمِينٍ فَهْوَ أَعْظَمُ إِثْمًا، ليس تغني الكفارة لِيَبَرَّ". يَعْنِي: الكَفَّارَةَ للنسفي، وكذا عند ابن القابسي.
الشرح:
اختلف العلماء في تفسير اللغو، فقال الشافعي: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله
(1)
، وقد أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، كما سيأتي
(2)
.
قال القاضي إسماعيل: قال الشافعي: وذلك عند اللجج، والغضب، والعجلة
(3)
.
وقال ثاني الأربعة: هو أن يحلف على الشيء يظنه كذلك، ثم يتبين على خلافه، روي هذا عن ابن عباس، وأبي هريرة
(4)
، وعائشة أيضًا.
وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} قال الكسائي: أي: أوجبتم
(5)
. وقال عطاء: معناه أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو
(6)
، وقرأ أبو عمرو:(عقدتم) وقال: معناه: وَكَّدتم
(7)
.
(1)
"الأم" 7/ 57.
(2)
سيأتي برقم (6663).
(3)
"الأم" 7/ 57.
(4)
انظر: "التمهيد" 21/ 248 - 249.
(5)
أورده النحاس في "معاني القرآن" 2/ 351.
(6)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 473 - 474 (15951).
(7)
انظر: "زاد المسير" 2/ 412 - 413.
وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: كان إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مدًّا، وإذا وكد اليمين أعتق رقبة.
قيل لنافع: ما معنى وكد؟ قال: أن يحلف على الشيء مرارًا
(1)
، وكذا قاله مالك، قال: وعليه كفارة واحدة، قال: وكذا إذا قال: والله لا آكل هذا الطعام، ولا ألبس هذا الثوب، ولا أدخل هذا البيت في يمين واحدة، عليه كفارة واحدة. قال: وإنما ذلك كقول الرجل لامرأته: أنت الطلاق إن كسوتك هذا الثوب، (وأذنت لك)
(2)
إلى المسجد، يكون ذلك نسقًا متتابعًا في كلام واحد؛ فإن حنث في شيء واحد من ذلك، فقد وجب عليه الطلاق، وليس عليه فيما فعل بعد ذلك حنث، وإنما الحنث في ذلك حنث واحد
(3)
. وهي يمين واحدة، وإن كانا في مجلسين، إذا كانا على شيء واحد
(4)
.
وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} المعنى: فكفارته (أي)
(5)
الذي يعطي الله عليه.
والهاء في: {فَكَفَّارَتُهُ} عائدة على (ما).
وهذا مذهب الحسن، والشعبي؛ (كأن)
(6)
المعنى عندهما: فكفارة ما عقدتم منها. وقيل: الهاء عائدة على اللغو
(7)
.
(1)
أورده النحاس في "معاني القرآن" 2/ 352.
(2)
في الأصل (أفاد بذلك)، والمثبت من (ص 2).
(3)
"الموطأ" ص 296.
(4)
انظر: "الاستذكار" 15/ 80.
(5)
في (ص 2): اسمه.
(6)
في (ص 2): لأن.
(7)
ذكره النحاس في "معاني القرآن" 2/ 352 - 353.
وقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} الخبز، والتمر، والزيت، وأفضله عند المالكية: الخبز، واللحم
(1)
. وقال عبيدة: الخبز، والسمن.
وقوله: ({أَوْ كِسْوَتُهُمْ}) أي: مسمى كسوة. وقيل: ثوب، وقيل: عباءة وعمامة.
فصل:
وقولها: (إن أبا بكر رضي الله عنه لم يحنث في يمين قط)، معناها: الزمان، يقال: ما رأيته قط. قال الكسائي: أي كانت قطط، فلما كسر الحرف الثاني للإدغام جعل الآخر متحركًا على إعرابه، ومنهم من يقول: قط بإتباع الضمة الضمة، مثل يد؛ وتخفف أيضًا، وهي قليلة، وقط مخففة تجعله أداة، ثم تبنيه على أصله، ويضم آخره بالضمة، التي في المشددة.
فصل:
قوله: "وكفِّر عن يمينك وائت الذي هو خير" فيه الكفارة قبل الحنث، وقد اختلف فيه إذا كان في يمينه على بر على أقوال أربعة، ففي "المدونة": قال ابن القاسم: اختلفنا في الإيلاء، فسألنا مالكًا، فقال: بعد الحنث أعجب إليَّ، وإن فعل أجزأ
(2)
. وقال في كتاب محمد: فمعنى الحديث: من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه. وذكر القاضي عبد الوهاب عنه أنه أجاز ذلك ابتداء
(3)
.
(1)
"النوادر والزيادات" 4/ 21.
(2)
"المدونة" 2/ 38.
(3)
"المعونة" 1/ 412.
وذكر ابن الجلاب عنه أنه قال مرة: لا يجزئ، وقيل: يجزئ إن كانت يمينه بالله تعالى، ولا يجوز إن كانت بغيره من طلاق أو عتق أو مشي أو صدقة، يريد ما لم تكن يمينه بعتق معين، أو ناجز طلقة في امرأته.
وأجاز مالك فيمن كان يستثني في يمينه على حنث، فقال: لأفعلن، ولم يضرب أجلاً، أن يقدم الكفارة.
وقال ابن الماجشون في "ثمانية أبي زيد"، فيمن حلف بالله ليتصدقن بدينار، فأراد أن يحنث نفسه، فيكفر ولا يتصدق: لا يخرجه حتى يحنث، واليمين عليه كما هي.
قال: وهذا لا يتبين حنثه حتى يموت، قيل: وإجراؤها قبل الحنث أحسن؛ لقوله: "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير"
(1)
.
وروي: "فليأت الذي هو خير وليكفر"
(2)
، وكلاهما يتضمن الجواز؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، فتركهم على مقتضاها، وتقدم الخلاف: أيهما أحب، الكفارة أو الحنث؟ ولو كان تقديمها غير جائز لأبانه وقال: فليفعل، ثم يكفر. إذ لا يجوز التأخير عن الحاجة، والفاء في قوله:"فكفر"، وفي قوله:"فليأت الذي هو خير ويكفر"
(3)
. إنما أبان ما يفعله بعد اليمين، وهما سيان، كفارة وحنث، كالقائل: إذا دخلت الدار فكل واشرب. ولم يقدم بعد الدخول أحدهما على الآخر مثل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وستأتي المسألة مبسوطة قريبًا.
(1)
رواه مسلم (1650/ 13)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا. والنسائي 7/ 10 واللفظ له.
(2)
رواه مسلم (1650/ 13).
(3)
سبق تخريجه.
فصل:
الرهط: ما دون العشرة من الرجال، لا يكون فيهم امرأة، كما سلف، ولا واحد لهم من لفظه، مثل ذود، والجمع أرهط، وأرهاط، والذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشرة، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والكثير: أذواد، ذكره الجوهري
(1)
، وقيل: الذود: الواحد من الإبل، بدليل قوله:"ليس فيما دون خمس ذود صدقة"
(2)
.
قال القزاز: والعرب تقول: الذود: من الثلاثة إلى السبعة، وكذلك يقولون: الذود إلى الذود إبل، يريدون الجمع إلى الجمع إبل، وقال أبو عبيدة: هو ما بين الثنتين إلى (السبع)
(3)
من الذود، والإناث دون الذكور. قلت: وكذلك قال: ثلاث ذود، ولم يقل ثلاثة، وقال: بعدها خمس ذود.
وقوله: (غر الدرى)، أي: بيض أعلى أسنمتهن، غر جمع أغر، وهو الأبيض في حسن، ومن ذلك قيل للثنايا إذا كانت بيضًا حسانًا: هن غر. و (ذرى)، بالضم، جمع ذروة بالكسر، وهو أعلى السنام، وهذا الجمع نادر قليل، مثل: كسوة، وكساء.
وقوله: ("ما أنا حملتكم بل الله حملكم") يحتمل أن يريد أنه لا معطي إلا الله، وإنما أعطيتكم من مال الله، أو بأمر الله؛ لأنه كان يعطي بالوحي، أو أن يريد: بقدر الله.
(1)
"الصحاح" 2/ 471.
(2)
سلف برقم (1455) ورواه مسلم (979/ 1) كتاب: الزكاة.
(3)
في (ص 2): التسع.
فصل:
قوله: ("نحن الآخرون السابقون"). أي: آخر الأمم السابقون يوم القيامة في الحساب ودخول الجنة.
فصل:
وقوله: ("لأن يلج أحدكم بيمينه") وقوله: ("ومن استلج في أهله بيمين"). قال الداودي: يعني الخدعة التي يحلف عليها. وقال الخطابي: استلج من: اللجاج، يعني أنه يقيم عليها ولا يكفرها فيتحللها
(1)
، وقاله شمر، وزاد: ويزعم أنه صادق. وقيل: هو أن يحلف ويرى غيرها خيرًا منها، فيقيم على ترك الكفارة، فذلك إثم. وقال النضر: استلج فلان متاع فلان، و (لججه)
(2)
: إذا ادَّعاه، وفي "الصحاح": لججت بالكسر، تلج لجاجًا، ولجاجة، ولججت بالفتح لغة
(3)
.
ورويناه: لأن يلج. بفتح اللام، من لججت بكسر الجيم في ماضيه، وفتح اللام في مستقبله.
وقوله: ("بيمين هو أعظم إثمًا ليس تغني الكفارة") يعني مع (بُعد)
(4)
الكذب في الأيمان، وهكذا في رواية أبي ذر وفي رواية الشيخ أبي الحسن:"ليس تغني الكفارة"، وهذا موافق لتأويل الخطابي أنه لا يستديم على لجاجته، ويمتنع من الكفارة، إذا كانت خيرًا من التمادي
(5)
.
(1)
"أعلام الحديث" 4/ 2279.
(2)
في (ص 2): وتلججه.
(3)
"الصحاح" 1/ 337.
(4)
في (ص 2): تعمد.
(5)
في هامش الأصل: وبقية الرواية تأتي في الفصل الذي بعده، فصل: حض الشارع. فاعلمه.
فصل:
حض الشارع أمته على الكفارة، إذا كان إتيانها خيرًا من التمادي على اليمين، وأقسم أنه كذلك يفعل هو. ألا ترى أنه حلف لا يحمل الأشعريين حين لم يكن عنده ما يحملهم عليه، فلما أتي بالإبل حملهم عليها، وأقسم أيضًا أن التمادي على اليمين والاستلجاج فيها أشد إثمًا من إعطاء الكفارة.
والاستلجاج في أهله: هو أن يحلف أن لا ينيلها خيرًا، أو لا يجامعها، أو لا يأذن لها في زيارة قرابة، أو مسير إلى مسجد، فتماديه في هذِه اليمين وبره فيها إثم له عند الله من أنه لا يكفر يمينه؛ لأن من فعل ذلك فهو داخل في معنى قوله:(تألى)
(1)
أن لا يفعل خيرًا. وهذا منهي عنه.
وقد جاء مصداق هذِه الأحاديث في كتاب الله، قال تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة: 224]، قال أهل التفسير: نزلت هذِه الآية في الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يصل قرابته ورحمه، ولا يصلح بين اثنين، فأمروا بالصلة والمعروف، والإصلاح بين الناس.
والعرضة في كلام العرب: القوة والشدة، يقال: هذا الأمر عرضة لك، أي: قوة وشدة على أشيائك، فمعناه على هذا: لا تجعلوا يمينكم قوة لكم في ترك فعل الخير
(2)
.
(1)
في الأصل: على.
(2)
انظر: "تفسير الطبري" 2/ 414 - 415 وهو قول إبراهيم النخعي ومجاهد.
فصل:
وأما قوله في حديث أبي هريرة: "ليس تغني الكفارة"، هكذا رواه جماعة، وروى أبو الحسن القابسي:"ليبر يعني: الكفارة" وكذا رواه النسفي، وهو الصواب. ومن روى:"ليس تغني الكفارة". فلا معنى له؛ لأن الكفارة تغني غناء شديدًا، وقد جعلها الله تحلة الأيمان.
ومعنى قوله: "ليبر" أي: ليأتي البر، ثم فسر ذلك البر ما هو بقوله: يعني الكفارة، خوفًا من أن تظن أنه من إبرار القسم والتمادي على اليمين، وهذا الحديث يرد قول مسروق، وعكرمة، وسعيد بن جبير، فإنهم ذهبوا إلى أنه يفعل الذي هو خير، ولا كفارة عليه. وقولهم خلاف الأحاديث فلا معنى له.
فصل:
قال المهلب: وقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية. يدل أن الله لا يعذب إلا على ما اكتسب القلب بالمقصد، والعمل من الجوارح؛ لقوله:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ولقوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات"
(1)
(2)
.
فصل:
حديث عائشة رضي الله عنها: قاله الصديق لما حلف أن لا يبر مسطحًا لما تكلم في قضية الإفك، وأنزل الله:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} [النور: 22]، قال: بلى يا رب، إنا لنحب ذلك، ثم عاد إلى بره كما كان أولاً وقال: والله لا أنزعها عنه أبدًا
(3)
.
(1)
سلف برقم (1).
(2)
انظر "شرح ابن بطال" 6/ 90.
(3)
رواه مسلم (2770/ 56) كتاب: التوبة، باب: في حديث الإفك.
فصل:
وفي "علل الترمذي": فسألت محمدًا عن حديث محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله إذا حلف على يمين لم يحنث، حتى أنزل الله كفارة اليمين.
فقال: حديث الطفاوي خطأ، والصحيح عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: كان أبو بكر
(1)
. الحديث.
وروى الأثرم من حديث سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر قال: لا أحلف على يمين فأرى (غيرها)
(2)
خيرًا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير
(3)
.
وروى وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، عن أبي بكر رضي الله عنه قال: والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني
(4)
.
وكذا روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إذا حلفت على يمين فرأيت خيرًا منها كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير. معناه قبل الكفارة.
حدثني به ابن الطباع، عن شريك، عن أبي حصين، عن قبيصة بن جابر عنه
(5)
.
(1)
"علل الترمذي" 2/ 654.
(2)
من (ص 2).
(3)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 269.
(4)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 83.
(5)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 83، عن فضل بن دكين عن شريك عن أبي حصين عن قبيصة بن جابر، به.
ورواه أبو نعيم، عن شريك، فذكر فيه البداءة بالحنث قبل الكفارة
(1)
، (ورواه ابن أبي شيبة، عن أبي نعيم به بلفظ "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه")
(2)
(3)
.
فصل:
حديث عبد الرحمن بن سمرة أخرجه البخاري، عن أبي النعمان محمد بن الفضل، ثنا جرير بن حازم، أنا الحسن، أنا عبد الرحمن بن سمرة. وأخرجه في كتاب: الكفارات، كما سيأتي عن محمد بن عبد الله، ثنا عثمان بن عمر بن فارس، أنا ابن عون، عن الحسن به، ثم قال: تابعه (أشهل)
(4)
بن حاتم، عن ابن عون
(5)
. وحدثنا أبو معمر، ثنا عبد الوارث، ثنا يونس، عن الحسن، عن عبد الرحمن نحوه
(6)
، وتابعه يونس، وسماك بن عطية، وسماك بن حرب، وحميد، وقتادة، ومنصور، وهشام، والربيع بن صبيح
(7)
.
أما متابعة منصور، وحميد، وسماك، وهشام بن حسان، وقتادة، فذكرها مسلم، فقال: حدثنا ابن حجر، ثنا هشام، عن يونس، وحميد، ومنصور، وثنا أبو كامل، ثنا حماد بن زيد، عن سماك بن عطية، ويونس بن عبيد، وهشام بن حسان في آخرين، وثنا عقبة بن
(1)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 269 - 270.
(2)
من (ص 2).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 83.
(4)
في (ص 2): سهل.
(5)
سيأتي برقم (6722).
(6)
سيأتي برقم (7147).
(7)
سيأتي بعد حديث رقم (6722).
مكرم، وثنا سعيد بن عامر، عن سعيد، عن قتادة، (كلهم)
(1)
عن الحسن، عن ابن سمرة بهذا الحديث
(2)
، قال: وتابعه أيضًا عون، وجرير بن حازم، وعمرو بن عبيد، وقره، وأبو عقيل، وعباد بن كثير، وعباد بن راشد، والحسن بن دينار، وجماعة.
وذكر الأثرم في "ناسخه ومنسوخه" من حديث علي بن زيد، عن الحسن، عن (ابن سمرة)
(3)
مرفوعًا "إذا حلفت على يمين" الحديث. إلى قوله: "فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك". ومن حديث الهيثم بن حميد، عن زيد بن وافر، عن (بُسر)
(4)
بن عبيد الله، عن ابن عائذ، عن أبي الدرداء مرفوعًا:"إن حلفت فرأيت أن غير ذلك أفضل كفر عن يمينك، وأت الذي هو أفضل"
(5)
. قال الأثرم: فاختلف هذا الحكم، والوجه في ذلك أنه جائز كله أن يكفر قبل أو بعد، وبيان ذلك في كتاب الله حيث فرض كفارة الظهار
(6)
، فقال:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3].
فصل:
ذكر أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتاب "الانتفاع بجلود الميتة" أن رجلًا نذر نذرًا لا ينبغي من المعاصي، فأمره سعيد بن المسيب
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه مسلم (1652/ 19) كتاب: الأيمان والنذور، باب: ندب من حلف.
(3)
في الأصل: سمرة. والمثبت هو الصواب.
(4)
في (ص 2): نمر.
(5)
رواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 301، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(6)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 267 - 269.
أن يوفي بنذره، (فسأل الرجل عكرمة، فأمره بالتكفير، وأن لا يوفي بنذره)
(1)
، وأخبر الرجل سعيدًا فقال: لينتهين عكرمة، أو ليوجعن الأمراء ظهره، فرجع الرجل، فأخبر عكرمة فقال: سله عن نذرك، أطاعة هو أم معصية؟ فإن قال: هو طاعة، فقد كذبت على الله؛ لأنه لا تكون معصية الله طاعته، وإن قال: هو معصية، فقد أمرك بمعصية الله
(2)
.
وروى ابن أبي عاصم من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده يرفعه "لا نذر إلا ما ابتغي به وجه الله"
(3)
.
وعن عائشة رضي الله عنها: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة غيره"
(4)
.
فصل:
روى أبو موسى، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الأيمان أربعة، يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل: والله لا أفعل، فيفعل، أو يقول: والله ليفعلن، ولا يفعل، ويمينان لا يكفران: يقول الرجل: والله ما فعلت، وقد فعل، أو يقول: والله لقد فعلت، وما فعل
(5)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
انظر: "مصنف عبد الرزاق" 8/ 438 - 439، "الطبقات الكبرى" لابن سعد 5/ 290.
(3)
رواه أبو داود (3273)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(7547).
(4)
رواه أبو داود (3295) بلفظ: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(7547).
(5)
رواه الدارقطني في "سننه" 4/ 162 عن علقمة عن عبد الله بن مسعود، به. والبيهقي في "الكبرى" 1/ 38.
فصل:
قسم بعضهم النذر على ثلاثة أضرب:
نذر يتضمن طاعة، قال عليه السلام:"كفارته الوفاء به" أخرجه ابن الجارود في "منتقاه" عن ابن عباس مرفوعًا
(1)
.
ونذر يتضمن معصية؛ قال عليه السلام في هذا الحديث: "لا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين"
(2)
. ولابن أبي عاصم، عن عمران:"لا نذر في معصية"
(3)
.
ونذر مباح كالمشي إلى مصر، أو إلى الشام، وشبهه. وقد سكت عنه الشارع على ما في حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم، فأمره عليه السلام بالتكلم والاستظلال
(4)
. قال مالك: ولم أسمع أنه عليه السلام أمر بكفارة، وقد أمره أن يتم ما كان فيه طاعة، ويترك ما كان فيه معصية
(5)
.
وعن عبد الله بن زيد: لا نذر في معصية الله، وعن أبي ثعلبة الخشني مثله
(6)
.
(1)
"المنتقى" 3/ 209 - 210 (935) وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(1982).
(2)
رواه البيهقي في "الكبرى" 10/ 72، وصححه الألباني في "الصحيحة"(479).
(3)
رواه مسلم برقم (1641) من رواية ابن حجر، كتاب: النذر، باب: لا وفاء لنذر في معصية الله.
(4)
سلف برقم (6704).
(5)
"الموطأ" ص 294.
(6)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 70، والطبراني في "الكبير" 22/ 226. كلاهما عن أبي فروة عن عروة بن رويم عن أبي ثعلبة مرفوعًا، قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 169: رواه الطبراني في "الكبير" وفيه: أبو فروة، وثقه أبو حاتم وغيره، وضعفه جماعة.
وفي "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" حديث أبي سلمة، عن عائشة (مرفوعًا)
(1)
: "لا نذر في معصية" وعلله، وقد سلف حديثها أيضًا، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاصي
(2)
.
فصل:
قال أبو محمد بن حزم: من حلف على إثم، ففرض عليه أن لا يفعله، ويكفر، وإن حلف على ما ليس إثمًا، ولا طاعة، فلا يلزمه ذلك. قال: وقال بعض أصحابنا: يلزمه إذا رأى غيرها خيرًا منها، واحتجوا بقوله:"فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه"
(3)
قال: وهو احتجاج صحيح لولا ما رويناه من قول القائل لرسول الله إذ ذكر له الصلوات الخمس: هل عليّ غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" وقال: في الصوم والزكاة كذلك، فقال: والله لا أزيد عليهن، ولا أنقص منهن، فقال عليه السلام:"أفلح إن صدق"
(4)
. ولا شك في أن التطوع بعد الفرض أفضل من ترك التطوع، وأنه خير، ولم ينكر يمينه بذلك، ولا أمره بأن يأتي الذي هو خير، بل حسن له ذلك، فصح أن أمره عليه السلام بذلك إنما هو ندب
(5)
. أي: وإن قيل: إن كلامه في ترك الزيادة والنقص راجع إلى تبليغ ما سمع؛ لأنه (كان)
(6)
وافد قومه، ففيه بعد.
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه الطبراني في "الكبير" 19/ 190، ورواه أبو داود (2192) بلفظ "ولا نذر إلا فيما ابتُغي به وجه الله تعالى".
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سلف برقم (46) كتاب الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام. ورواه مسلم برقم (11)، كتاب الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.
(5)
"المحلى" 8/ 76.
(6)
من (ص 2).
فصل:
قال ابن حزم: ومن أراد أن يحنث فله أن يقدم الكفارة قبله، أي الكفارات لزمته من عتق، أو كسوة، أو إطعام، أو صيام، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة، وأبو سليمان: لا يجزئه ذلك إلا بعد الحنث. (وقال الشافعي: أما العتق، أو الكسوة والإطعام، فيجوز تقديمه قبله، وأما الصوم فلا يجزئ إلا بعده)
(1)
، وحجته: أنها من فرائض الأموال، وهي من حقوق الناس، وجائز تقديمها قبل آجالها، وأما الصوم فمن فرائض الأبدان لا يجوز تقديمه قبل وقته.
وهم موافقون لنا أن التعجيل متوقف على الرضا، دون حقوق الله الموقت بوقت، ثم حقوق الناس التأخير فيها جائز والإسقاط بخلاف الكفارات.
وتناقض المالكيون، فمنعوا تقديم الزكاة إلا قبل الحول بشهر، ونحوه، وتقديم زكاة الفطر إلا قبل الفطر بيومين، ولم يجيزوا تقديم كفارة الظهار أصلًا، ولا بساعة، قبل ما يوجبها، ولا كفارة القتل خطأ قبل ما يوجبه من موت المقتول، ولا بطرفة عين، ولا كفارة قتل الصيد في الحرم قبل قتله. وأجازوا إذن الورثة للموصي في أكثر من الثلث قبل أن يجب لهم المال بموته، فظهر التناقض في أقوالهم.
وتناقض الحنفيون أيضًا؛ فإنهم أجازوا تقديم الزكاة قبل الحول بثلاثة أعوام، وتقديم زكاة الزرع إثر زرعه في الأرض، وأجازوا تقديم جزاء الصيد قبل موته، وتقديم كفارة قتل الخطأ قبل موت المجروح، ولم يجيزوا للورثة الإذن في الوصية بأكثر من الثلث قبل
(1)
من (ص 2).
أن يجب المال لهم بالموت، ولا أجازوا إسقاط الشفيع حقه من الشفعة، ولا عرض شريكه أحد الشقصين قبل وجوب أخذه له بالبيع، وكلهم لا يجيز الاستثناء قبل اليمين، ولا قضاء دين قبل أخذه، ولا صلاة قبل وقتها. قال: وأصحابنا قالوا: لا تجب الكفارة إلا بالحنث، وهي فرض بعد الحنث بالنص والإجماع، فتقديمها قبل أن يحنث تطوع لا فرض، ومن المحال إجزاؤه عن الفرض.
ثم إنا نوافقهم على أنه لا يجزئ شيء من الشريعة قبل وقته، إلا في موضعين:
كفارة اليمين، فجائز تقديمها قبل الحنث، لكن بعد إرادة الحنث، ولا بد، وإسقاط الشفيع حقه بعد العرض عليه أن يأخذ أو يترك قبل البيع، فإسقاطه حقه حينئذٍ لازم له فقط، وإنما فعلنا ذلك للنصوص المخرجة لهذين الحكمين عن حكم سائر الشريعة في أنه لا يجزئ ولا يجوز أداء شيء منها قبل الوقت الذي حده الله. وقد احتج بعض من وافقنا في تصحيح قولنا هنا، بأن قال: قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، والكفارة واجبة بنفس اليمين، ولا حجة في هذا؛ لأنه قد جاء النص والإجماع المتفق على أن من لم يحنث فلا كفارة عليه، فصح أنه ليس بنفس اليمين تجب الكفارة.
واحتج بعضهم: بأن في الآية حذفًا بلا خلاف، تقديره: إن أردتم الحنث، أو حنثتم، وهذِه دعوى منهم في ذلك. وحديث مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتها وليكفر عن يمينه"
(1)
.
(1)
مسلم (1650/ 11) كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا ..
ومن طريق النسائي، عن عبد الرحمن بن سمرة يرفعه:"وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها. (فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير"
(1)
.
ومن حديث عدي بن حاتم مرفوعًا: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها)
(2)
فليأت الذي هو خير وليكفر"
(3)
.
فهذِه الأحاديث جامعة لجميع أحكام ما اختلفوا فيه من جواز تقديمها قبل الحنث
(4)
.
وفي حديث عدي الجمع بين الحنث والكفارة بواو العطف، التي لا تعطى رتبة. وهكذا جاء من طريق أبي موسى الأشعري
(5)
. فوجب استعمال جميعها، ولم يكن بعضها أولى بالطاعة، ولا تحل مخالفة بعضها لبعض، فكان ذلك جائزًا.
وصح بهذا أن الحذف الذي في أول الآية إنما هو ما أردتم الحنث، أو حنثتم، والشارع هو المبين عن ربه، فاعترض بعضهم بأن قال: قوله: "فليكفر ثم ليأت الذي هو خير"
(6)
. مثل قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]، وكقوله:{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154]، وكقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا} [الأعراف: 11]: ولفظة:
(1)
النسائي 7/ 10.
(2)
ما بين القوسين من (ص 2).
(3)
رواه النسائي 7/ 10 - 11 وصححه الألباني في "إرواء الغليل" 7/ 165 (2084).
(4)
زاد ابن حزم: لأن في حديث أبي هريرة تقديم الحنث قبل الكفارة، وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة تقديم الكفارة قبل الحنث.
(5)
أحد أحاديث هذا الباب.
(6)
هو حديث عبد الرحمن بن أبي سمرة رضي الله عنه أحد أحاديث هذا الباب.
{ثُمَّ} مهو في هذِه الآيات لا توجب تعقيبًا، بل هي واقعة على ما كان قبلها عطف اللفظ عليه، وليس كما ظنوا.
أما الآية الأولى: فإن نصها {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)} [البلد: 12]، إلى أن قال:{ثُمَّ} . وقد ذكرنا قوله لحكيم بن حزام: "أسلمت على ما أسلفت من خير"
(1)
.
فصح بهذِه الآية عظم نعمة الله على عباده في قبول كل عمل بر عملوه في كفرهم، ثم أسلموا، فالآية على ظاهرها، وهي زائدة على ما في القرآن من قبوله أعمال من آمن ثم عمل الخير.
وأما الآية الثانية فإن أولها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153]: إلى أن قال: {ثُمَّ آتَيْنَا} . وقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]، وقال:{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فصح أن الصراط الذي أمرنا الله باتباعه، وأتانا به نبينا هو صراط إبراهيم، وقد كان قبل موسى بلا شك، ثم آتى الله نبيه موسى الكتاب، فهذا تعقيب بمهلة لا شك فيه.
وأما الثالثة (فعلى ظاهره)
(2)
؛ لأن الله خلق أنفسنا وصورها، وهي التي أخذ الله عليها العهد بقوله:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]، ثم بعد ذلك أسجد الملائكة لآدم، فبطل تعلقهم بهذِه الآيات. سلمنا أن {ثُمَّ} فيها لغير التعقيب، فلا يجب ذلك لها حيثما وجدت؛ لأن ما خرج بدليل لا يعمم.
(1)
سلف برقم (1436) ورواه مسلم (123/ 194) كتاب: الإيمان، باب: بيان حكم عمل الكافر. واللفظ له.
(2)
في الأصل: فعل ظاهر. والمثبت من (ص 2).
قال ابن حزم: وقولنا هو قول عائشة رضي الله عنها، ومن طريق ابن أبي شيبة، حدثنا المعتمر، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، أن مسلمة بن مخلد، وسلمان الفارسي رضي الله عنهما كانا يكفران قبل الحنث.
وحدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن ابن سيرين، أن أبا الدرداء دعا غلاما له، فأعتقه، ثم صنع الذي حلف عليه.
وحدثنا أزهر، عن ابن عون، أن محمد بن سيرين كان يكفر قبل الحنث
(1)
، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وربيعة، وسفيان، والأوزاعي، ومالك، والليث، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وسليمان بن داود، وأبي ثور، وأبي خيثمة، وغيرهم رحمهم الله، ولم نعلم لمن ذكرنا مخالفًا من الصحابة، إلا أن مموها موه برواية عبد الرزاق، عن الأسلمي -هو إبراهيم بن أبي يحيى- عن رجل سماه، عن محمد بن زياد، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يكفر حتى يحنث
(2)
. وهذا باطل؛ لأن ابن أبي يحيى مذكور بالكذب عمن لم يسم، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أن ابن عباس لم يجزها قبل الحنث، إنما فيه أنه كان يؤخرها بعده فقط، ونحن لا ننكر هذا
(3)
.
فصل:
سلف حديث أبي بكر
(4)
.
(1)
"المصنف" 3/ 84.
(2)
السابق 8/ 515.
(3)
"المحلى" 8/ 65 - 68.
(4)
سلف برقم (4614)، كتاب التفسير، باب:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} .
ولابن أبي شيبة، عن ابن فضيل، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال أتي عبد الله بضرع ونحن عنده، فاعتزل رجل من القوم، فقال له عبد الله -يعني ابن مسعود-: أدن، فقال الرجل: إني حلفت أن لآ آكل ضرع ناقة، فقال: ادن فكل، (وكفر)
(1)
.
وحدثنا حفص، عن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يكفر (بعد)
(2)
أن يحنث.
(وحدثنا أبو أسامة)
(3)
، عن ابن عون، عن ابن سيرين أنه قال: كانوا يقولون: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليدع يمينه وليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه.
وحدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عن عطاء قال: قلت له: حلفت على أمر غيره خير منه، أدعه وأكفر عن يميني؟ قال: نعم
(4)
.
قال ابن عبد البر: والآثار المرفوعة أكثرها أنه عليه السلام قال: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فقدم الحنث قبل الكفارة من حديث عدي وأبي الدرداء وعائشة وابن عمر وأنس (وابن سمرة)
(5)
، وأبي موسى كل هؤلاء رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فليأت الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه". بتبدئة الحنث قبلها
(6)
.
(1)
كذا بالأصل، وليست في المطبوع من "مصنف ابن أبي شيبة".
(2)
كذا بالأصل، وفي المطبوع من "المصنف": قبل.
(3)
في المطبوع من "المصنف" لابن أبي شيبة: حدثنا أبي علية، وليس فيه حدثنا أبو أسامة.
(4)
"المصنف" لابن أبي شيبة 3/ 83.
(5)
في الأصل: سمرة. والمثبت من (ص 2) وهو الصواب.
(6)
"الاستذكار" 15/ 75 - 78.
فصل:
في "علل الترمذي": سألت محمدًا عن حديث حدثناه قتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أذينة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه قال:"من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي يرى أنه خير، وليكفر عن يمينه".
فقال: هذا حديث مرسل، فأذينة لم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يروي عن عمرو بن دينار، عن أذينة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في العنبر
(1)
.
وقال البغوي في كتاب "الصحابة" بعد ذكر هذا الحديث: لا أعلم روى أذينة غيره، ولا رواه عن أبي إسحاق إلا أبو الأحوص
(2)
.
وذكره في الصحابة أبو داود الطيالسي، وابن منده
(3)
، وأبو نعيم
(4)
، وأبو عمر
(5)
، وأبو عروبة الحراني في الطبقة الرابعة منهم الذين أسلموا بعد الفتح ممن لا يعرف نسبهم.
وقال أبو سليمان بن زبر في "الصحابة": كوفي له صحبة.
ولما ذكره العسكري في "المعرفة" قال: قال بعضهم: لا تثبت له صحبة.
(1)
"علل الترمذي" 2/ 653 - 654.
(2)
"معجم الصحابة" 1/ 229.
(3)
"معرفة الصحابة" 1/ 212 - 213.
(4)
"معرفة الصحابة" 1/ 361.
(5)
"الاستيعاب" 1/ 222.
فصل:
روى ابن عدي بإسناد ضعيف، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتها، فإنها كفارتها، إلا طلاقًا أو عتاقًا
(1)
"
(2)
.
وعن أبي هريرة مرفوعًا بإسناد ضعيف: "من قال لرجل: تعال أقامرك فقد وجب عليه كفارة يمين"
(3)
.
ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها، ليدعها وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارتها". قال أبو داود: والأحاديث كلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "فليكفر عن يمينه" إلا ما لا يعتد به
(4)
.
فصل:
قد أسلفنا في تفسير الآية عن مالك إذا كررت اليمين، ولو تعدد المجلس أنها واحدة.
وقال الثوري: إن حلف مرتين على شيء واحد، فهي يمين واحدة، إذا نوى توحُّدَها، وإن كانتا في (مجلس)
(5)
، وإن أراد يمينًا أخرى، والتغليظ فيها، فهي يمينان. وروي عنه: توحدها وإن حلف مرارًا.
وقال الأوزاعي: من حلف في أمر واحد بأيمان فواحدة ما لم يكفر. وقال البتي: إن أراد الأولى فواحدة، أو التغليظ، فلكل واحدة كفارة.
(1)
في الأصل: فإن كفارتها طلاق أو عتاق، خطأ، والمثبت من "الكامل" لابن عدي.
(2)
"الكامل" 9/ 38.
(3)
السابق 8/ 13، بلفظ: إذا قال الرجل لأخيه في مجلس: هلمَّ أقامرك
…
(4)
أبو داود (3274)، وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1365).
(5)
كذا بالأصل، وفي "الاستذكار": مجلسين.
وقال الحسن بن حي: إذا قال: والله لا أكلم فلانًا، والله لا أكلم فلانًا في مجلس واحد فواحدة، وإن قال: والله لا أكلم فلانًا، ثم قال: والله لا أكلم فلانًا فثنتان.
وقال محمد بن الحسن: إذا قال: والله لا أفعل كذا، والله (لا أفعل)
(1)
كذا في الشيء الواحد، فإن أراد التكرار، فواحدة، وإن لم يكن نية؛ فإن أراد التغليظ فثنتان. قال: وإن قال ذلك في مجلسين فهما يمينان.
وقال الشافعي: كفارة واحدة مطلقًا. (وعنه، وابن الحسن)
(2)
فيمن قال: والله، والرحمن لأفعلن كذا: هما يمينا، إلا أن يكون أراد الكلام الأول فواحدة. ولو قال: والله الرحمن فواحدة
(3)
.
وقال زفر: قوله: والله الرحمن واحدة.
وقال مالك: من قال: والله والرحمن عليه ثنتان، وإن قال: والسميع والعليم والحكيم، فثلاث. وكذلك لو قال عليّ عهد الله وميثاقه وكفالته ثلاث.
وقال النخعي في الرجل يردد الأيمان في الشيء الواحد: واحدة.
وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا حلف بأيمان شتى على أمر واحد فحنث، فإنما عليه كفارة واحدة، فإن حلف أيمانًا شتى، في أشياء شتى، (في أيام شتى)
(4)
، فعليه عن كل يمين كفارة
(5)
.
(1)
في الأصل: أفعل. والمثبت من (ص 2).
(2)
في الأصل: (وعن أبي الحسن) والمثبت من (ص 2).
(3)
ذكره عن مالك.
(4)
من (ص 2).
(5)
"الاستذكار" 15/ 80 - 82.
فصل:
واختلفوا فيما يجب على من حلف بالعهد (فحنث)
(1)
: فقالت طائفة: عليه كفارة يمين، سواء نوى اليمين أم لا، روينا هذا عن الحسن والشعبي وطاوس والحارث العكلي والحكم والنخعي ومجاهد وقتادة، وبه قال مالك، والأوزاعي وأصحاب الرأي. وقالت طائفة: ليست بيمين، إلا أن يريد يمينًا. كذلك قال عطاء، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، واختلف فيه عن الثوري. قال ابن المنذر بعد حكايته ذلك: وكما قال عطاء أقول. قال: وكان مالك يقول: إذا قال عليّ عهد الله وميثاقه وكفالته إن فعلت كذا وكذا، وجب عليه ثلاث كفارات. وقد أسلفنا هذا عنه. وبه قال أبو عبيد. وقال الشافعي: ليست بيمين إلا أن يريد يمينًا. وقال طاوس: إذا قال عليّ عهد الله وميثاقه فهي يمين يكفرها، وبه قال الثوري
(2)
.
وقد عقد البخاري بابًا في الحلف بالعهد، كما سيأتي.
فصل:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من استلج في أهله": ساقه البخاري عن إسحاق -يعني ابن إبراهيم- ثنا يحيى بن صالح، ثنا معاوية، عن يحيى، عن عكرمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإسماعيلي: ورواه معمر، عن يحيى، عن عكرمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله، ثم ساقه بإسناده بلفظ:"إذا استلج الرجل في يمينه فهو آثم عند الله من الكفارة التي أمره الله تعالى بها".
(1)
من (ص 2).
(2)
"المحلى" 8/ 38.
وفي لفظ: "لأن يستلج أحدكم بيمينه في أهله آثم عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله عليه".
وفي لفظ: "إذا استلج أحدكم باليمين في أهله فإنه آثم عند الله من الكفارة التي أمر بها".
قال ابن حزم: لم يعن بهذا الحديث الكفارة، والحالف باليمين الغموس لا يسمى مستلجًّا في أهله، ومعناه: أن يحلف المرء أن يحسن إلى أهله، وأن لا يضر بهم، ثم يلج في أن يحنث فيضر بهم ولا يحسن إليهم، ولا يكفر عن يمينه، فهذا بلا شك مستلج بيمينه في أهله أن لا يفي بها، وهو أعظم إثمًا بلا شك. والكفارة لا تغني عنه، ولا تحط إثم إساءته إليهم، وإن كانت واجبة عليه لا يحتمل هذا الخبر معنى غيره
(1)
.
فصل:
روى ابن أبي شيبة بإسناد جيد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "اليمين حنث أو ندم"
(2)
.
وروى عن عبد الرحيم، عن عبد الله بن سعيد، عن جده، عن أبي هريرة مرفوعًا:"إياكم والنذر، فإن الله لا ينعم نعمة على الرشا، وإنما هو شيء يستخرج به من البخيل".
وعن محمد بن قيس، عن أبيه أن أبا هريرة قال: لا أنذر نذرًا أبدًا
(3)
.
(1)
"المحلى" 8/ 38.
(2)
"المصنف" لابن أبي شيبة 3/ 114 بلفظ: "الحلف حنث أو ندم" وضعفه الألباني في "الضعيفة"(3758).
(3)
"المصنف" 3/ 95.
فصل:
قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من قال: إن شفى الله مريضي، أو شفاني من علتي، أو قدم غائبي، وما أشبه ذلك، فعليَّ من الصوم كذا، أو من الصلاة كذا، أو من الصدقة كذا أن عليه الوفاء بنذره.
واختلفوا فيمن نذر (نذر)
(1)
معصية، فروينا عن جابر، وابن مسعود، وابن عباس أنهم قالوا:"لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين" وحكي ذلك عن الثوري، والنعمان.
وقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا كفارة فيه.
قال ابن المنذر: وبه أقول للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نذر في معصية"
(2)
يعني بذلك: ما رواه البخاري، عن عائشة. وعند الطحاوي زيادة:"ويكفر عن يمينه"
(3)
.
فصل:
اختلفوا فيمن نذر نذرًا من غير تسمية. ففي الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا "من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لم يطقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لله يطيقه فليف به"
(4)
.
ومن حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا بنحوه
(5)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 283 - 284.
(3)
شرح مشكل الآثار" 5/ 403.
(4)
"سنن الدارقطني" 4/ 160.
(5)
سيأتي برقم (6696).
قال ابن المنذر: وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: عليه أغلظ الكفارات: عتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينًا. وروي ذلك عن مجاهد. وعن ابن مسعود وجابر: عليه كفارة يمين. وروي أيضًا عن الحسن وإبراهيم والشعبي وعطاء والقاسم بن محمد وابن جبير وعكرمة وطاوس. وقال مالك (وأبو ثور)
(1)
، والثوري: عليه كفارة يمين. وقال الشافعي: لا نذر عليه، ولا كفارة. قال ابن المنذر: وروينا عن ابن عباس أنه قال: في النذر عتق رقبة، أو كسوة عشرة مساكين، أو إطعام ستين مسكينًا، فإن لم يجد فصيام شهرين. وكان الزهري يقول قولًا خامسًا: إن كان في طاعة الله (فكفارة)
(2)
، وإن كان في معصية الله، فلْيُقَرِّب إلى الله ما شاء. وفيه قول سادس وهو: إن كان نوى شيئًا فهو ما نوى، أو سمى شيئًا فهو ما سمى، وإن لم يكن نوى ولا سمى فإن شاء صام، وإن شاء أطعم مسكينًا، وإن شاء صلى ركعتين
(3)
. وقال أبو عمر كفارة النذر المبهم كفارة يمين عند أكثر العلماء
(4)
. وروي عن ابن عباس في النذر المبهم كفارة يمين
(5)
، ولم يقل: مغلظة
(6)
. وهو قول ابن مسعود على اختلاف. وقد روي عنه: (عليه)
(7)
عتق رقبة.
(1)
من (ص 2).
(2)
كذا بالأصل، وفي "الإشراف": فعليه وفاؤه.
(3)
"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 285.
(4)
"التمهيد" 9/ 30.
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 72.
(6)
ورد عن ابن عباس أنها يمين مغلظة رواه عنه ابن أبي شيبة 3/ 72 (12180).
(7)
من (ص 2).
وعن قتادة: فيها عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا
(1)
. وعن ابن عمر مثله.
وقال الشعبي: إني لأعجب ممن يقول النذر يمين مغلظة. ثم قال: يجزئه إطعام عشرة مساكين. (وقاله)
(2)
الحسن، وهو قول إبراهيم ومجاهد وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وجماعة الفقهاء أهل الفتيا بالأمصار. وقد روي في أن النذر المبهم كفارته كفارة يمين حديث مسند، وهو أعلى ما روي في ذلك وأجل
(3)
، حدثناه سعيد بن نصر، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا ابن وضاح، ثنا أبو بكر، ثنا وكيع، عن إسماعيل بن (رافع)
(4)
، عن خالد بن يزيد، عن عقبة بن عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من نذر نذرًا لم يسمه فعليه كفارة يمين"
(5)
.
قلت: فيه انقطاع بين خالد وعقبة، وهو في الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن أبي بكر بن عياش، عن محمد مولى المغيرة بن شعبة، حدثني كعب بن علقمة، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزنيِّ، عن عقبة. ثم قال: حسن صحيح غريب
(6)
.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 8/ 46.
(2)
في الأصل: قال. وما أثبتناه مناسب للسياق، وهو من "الاستذكار".
(3)
انظر: "الاستذكار" 15/ 15.
(4)
في (ص 2): راشد.
(5)
رواه ابن عبد البر في "الاستذكار" 15/ 15.
ورد في هامش الأصل: الحديث في ابن ماجه في الكفارات عن علي بن محمد عن وكيع، عن إسماعيل بن رافع، عن خالد بن يزيد، عن عقبة، والحديث في مسلم وأبي داود والترمذي من الطريق التي ذكرها شيخنا من عند الترمذي.
(6)
الترمذي (1528).
ورواه أبو داود أيضًا: عن هارون بن عباد الأزدي، عن ابن عباس
(1)
. وقال أبو القاسم: رواه يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن كعب، عن ابن شماسة، عن أبي الخير
(2)
. ورواه الحارث بن مسكين، وأحمد بن يحيى بن وزير، عن ابن وهب، فأسقط أبا الخير
(3)
.
فصل:
قال ابن عبد البر: اختلفوا في وجوب قضاء النذر عن الميت على وارثه، فقال أهل الظاهر: يقضيه عنه وليه الوارث، وهو واجب عليه، صومًا كان أو مالاً. وقال جمهور الفقهاء: ليس ذلك على الوارث بواجب، فإن فعل فقد أحسن، إن كان صدقة أو عتقًا.
واختلفوا في الصوم إذا أوصى الميت به، فقالت طائفة: هو في (ثلثه)
(4)
، وقال آخرون: كل واجب عليه في حياته إذا أوصى به، (فهو في رأس ماله)
(5)
. وعند مالك في "الموطأ": عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمته أنها حدثته عن (جدتها)
(6)
أنها كانت (جعلت)
(7)
على نفسها مشيًا إلى مسجد قباء، فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها
(8)
. قال: لا خلاف عن مالك أنه لا يمشي
(1)
أبو داود (3323).
(2)
رواه مسلم برقم (1645) كتاب النذر، باب: في كفارة النذر.
(3)
رواه النسائي 7/ 26.
(4)
في الأصل عليها: كذا.
(5)
كذا بالأصل، وفي "الاستذكار": فهو رأسٌ.
(6)
كذا بالأصل، وفي "الموطأ": جدته.
(7)
في (ص 2): حلفت.
(8)
"الموطأ" ص 292.
أحد عن أحد، ولا يصلي، ولا (يصوم)
(1)
عنه، وأعمال البدن كلها عنده كذلك قياسًا على الصلاة المجمع عليها.
قال ابن القاسم: أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة. قال أبو عمر: معناه لا يعرف إيجاب المشي، وإنما هذا في (الحالف)
(2)
والنذر عنده، وأما المتطوع فقد سلف عنده أنه عليه السلام كان يأتي قباء راكبًا وماشيًا، فدل على أن إتيان مسجد قباء مرغب فيه، وأن صلاة واحدة فيه كعمرة.
قال: ولم يختلف العلماء فيمن قال: عليَّ المشي إلى المدينة، أو بيت المقدس، ولم ينو الصلاة في واحد من المسجدين، وإنما أراد قصدهما لغير الصلاة، أنه لا يلزمه الذهاب إليهما، ونذر المشي إلى مسجد قباء بطريق الأولى؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام، أو مسجد المدينة، أو بيت المقدس أفضل من الصلاة بقباء بإجماعهم. واختلف إذا أراد الصلاة فيهما، أو في أحدهما، وذكر المسجد منهما، فقال مالك: إذا قال: لله عليَّ المشي إلى المدينة، أو إلى بيت المقدس فلا شيء عليه، إلا أن ينوي الصلاة في مسجديهما. فدل على أن قائلا لو قال: عليَّ المشي إلى قباء، لم يلزمه شيء، إلا أن يقول: مسجد قباء، أو ينوي الصلاة فيه، فإذا قال: مسجد قباء علم أنه للصلاة.
وكذلك إذا نوى ذلك، فمن جعل الصلاة في مسجد قباء لها فضل على الصلاة في غيره أحب الوفاء بما جعل على نفسه، ومن لم ير إعمال المطي، ولا المشي إلا إلى الثلاثة مساجد، أنه أمر من نذر الصلاة بقباء
(1)
في (ص 2): يغرم.
(2)
غير واضحة في الأصول، والمثبت من "الاستذكار".
أن يصلي في مسجده، أو حيث شاء. ومن قال: لا مشي يجب إلا إلى مكة، لم يلتفت إلى غير ذلك، وهو قول مالك في المشي.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: من نذر المشي إلى مسجد المدينة، أو بيت المقدس، لم يلزمه شيء، وقال الأوزاعي: من نذر أن يمشي إلى بيت المقدس، فليركب إن شاء، فإن كانت امرأة، إن شاءت ركبت، وإن شاءت تصدقت بشيء، وقول مالك والشافعي أنها تمضي راكبة إلى بيت المقدس، فتصلي فيه.
قال: واختلفوا فيمن نذر أن يصوم أو يصلي في موضع يتقرب بإتيانه إلى الله، كالثغور، ونحوها.
قال مالك: يقصد ذلك الموضع، وإن كان من أهل مكة أو المدينة. يعني: ولا يلزمه المشي. قال: ولو قال: لله عليَّ أن أعتكف في مسجد المدينة، فاعتكف في مسجد الفسطاط، لم يجزه.
وقال الأوزاعي: إذا جعل عليه صوم شهر (بمكة)
(1)
لم يجزئه في غيرها، وإذا نذر صلاة بمكة لم يجزئه في غيرها. وقال أبو حنيفة وصاحباه: من نذر أن يصوم بمكة، فصام بالكوفة أجزأه. وقال زفر: لا، إلا أن يصوم بمكة. وقال أبو يوسف: من نذر أن يصلي في المسجد الحرام فصلى في غيره لم يجزئه، وإن نذر أن يصلي ببيت المقدس فصلى في المسجد الحرام أجزأه
(2)
.
كأنه ذهب إلى حديث جابر في أبي داود بإسناد جيد أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني نذرت: إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في القدس.
(1)
من (ص 2).
(2)
"الاستذكار" 15/ 15 - 21.
فقال: "صل هنا". فأعاد عليه مرتين، كل ذلك يقوله له:"صل ها هنا" فأعاد عليه الثالثة فقال: "شأنك إذًا"
(1)
.
وقال الشافعي: من نذر الصلاة بمكة، لم تجزئه المدينة ولا بيت المقدس، فإن نذر الصلاة بالمدينة، أو بيت المقدس أجزأه بمكة عنهما دون غيرها من البلدان إلا حيث نذر، وقال: فإن نذر سوى هذِه الثلاثة صلى حيث شاء، وإن قال: لله عليّ أن أنحر بمكة، لم يجزئه في غيرها، وكذلك إن نذر أن ينحر بغيرها لم يجزئه إلا في الموضع الذي نذر؛ لأنه شيء أوجبه على نفسه لمساكين ذلك البلد.
وقال الليث: من نذر صيامًا في موضع فعليه أن يصوم فيه، ومن نذر المشي إلى مسجد من المساجد مشى إليه. قال الطحاوي: لم يوافق الليث على إيجاب المشي إلى سائر المساجد أحد من الفقهاء
(2)
.
وروى مالك، عن عبد الله بن أبي حبيبة أنه قال: قلت لرجل وأنا حديث السن: ما على الرجل أن يقول: علىَّ مشي إلى بيت الله، ولم يقل: علي نذر مشي. فقال لي رجل: هل لك أن أعطيك هذا الجِرْو -لِجِرْو قِثَّاء في يده- وتقول: عليَّ المشي إلى بيت الله؟ قال: فقلت: نعم، ففعلت وأنا يومئذ حديث السن، ثم مكثتُ حتى عقلتُ، فقيل لي: إن عليك مشيًا، فجئت إلى سعيد بن المسيب، فسألته عن ذلك، فقال: عليك مشي. فمشيت. قال مالك: وهذا الأمر عندنا
(3)
.
قال ابن عبد البر: في هذِه المسألة ما ينكر، ويخالف مالكًا فيه أكثر أهل العلم؛ وذلك أنه نذر على مخاطرة، والعبادات إنما تصح بالنيات
(1)
"سنن أبي داود"(3305).
(2)
"الاستذكار" 15/ 21 - 22.
(3)
"الموطأ" ص 292.
لا بالمخاطرات، وهذا لم يكن له نية ولا إرادة فيما جعل على نفسه، فكيف يلزمه ما لم يقصد طاعة؟! وفي حديث عن ابن المسيب خلاف ما روى عنه الثقات
(1)
.
قال ابن أبي شيبة: ثنا حماد بن خالد الخياط، عن محمد بن هلال أنه سمع ابن المسيب يقول: من قال: عليّ المشي إلى بيت الله، فليس شيئًا، إلا أن يقول: عليّ نذر مشي إلى الكعبة
(2)
.
وروى عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن المسيب مثله.
قال أبو عمر: أظن سعيدًا جعل قول القائل: عليَّ المشي من باب الإخبار بالباطل؛ لأن الله تعالى لم يوجب عليه مشيًا في كتابه، ولا على لسان رسوله، فإذا قال: نذر مشي، كان قد أوجب على نفسه المشي، فإن كان في طاعة لزمه الوفاء به؛ لأنه- عليه السلام قال:"من نذر أن يطيع الله فليطعه"
(3)
. فهؤلاء لا يرون في قول الرجل: عليَّ المشي شيئًا حتى يقول: نذرت المشي، أو عليَّ نذر مشي، أو عليَّ لله المشي نذرًا على وجه الشكر لله، وطلب البر، والحمد فيما يرجو من الله.
فصل:
والنذر الواجب في الشريعة إيجاب المرء على نفسه فعل البر، هذا حقيقته عند العلماء. روي عن القاسم بن محمد أنه سئل عن رجل جعل على نفسه المشي إلى بيت الله تعالى، (فقال)
(4)
: أنذرٌ؟ قال: لا. قال: (فليكفر عن يمينه)
(5)
.
(1)
"الاستذكار" 15/ 26 - 27.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 94.
(3)
سيأتي برقم (6696).
(4)
من (ص 2).
(5)
في الأصل: فليفِ بيمينه، والمثبت من (ص 2).
قال أبو عمر: وقول مالك: وهذا الأمر عندنا. خرج على أن قول القائل: عليّ مشي إلى بيت الله، أو عليّ نذر مشي إلى بيت الله سواء. وهو مذهب ابن عمر وطائفة من العلماء
(1)
.
ذكر ابن أبي شيبة: حدثنا أبو أسامة، ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن الرجل يقول: عليَّ المشي إلى الكعبة. قال: هذا نذر فليمش
(2)
قال أبو عمر: جعل ذلك كقوله: عليَّ نذر مشي إلى الكعبة
(3)
.
قال ابن أبي شيبة: حدثنا ابن نمير، ثنا هشام قال: جعل رجل عليه المشي إلى بيت الله في شيء، فسأل القاسم فقال: يمشي إلى البيت. قال: وحدثنا معتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي معشر، عن يزيد (بن)
(4)
إبراهيم التيمي قال: إذا قال: لله عليّ حجة، أو قال: عليَّ حجة، أو (قال)
(5)
: عليّ نذر، فذلك كله سواء
(6)
. قال أبو عمر: وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فيمن جعل على نفسه المشي إلى مكة أنه إذا لم يرد حجًّا ولا عمرة فلا شيء عليه. قال أبو عمر: وإنما أدخل مالك حديث ابن أبي حبيبة؛ لأن فيه إيجاب المشي، دون ذكر النذر، وقد روي عن مالك أن ابن أبي حبيبة كان يومئذٍ قد احتلم.
(1)
"الاستذكار" 15/ 25 - 27. بتصرف.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 94.
(3)
"الاستذكار" 15/ 25.
(4)
في (ص 2): أبي.
(5)
من (ص 2).
(6)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 94.
وقوله: (ومكثتُ حتى عقلت): يريد حتى علمت ما يجب عليّ؛ لا أنه كان صغيرًا، لا تلزمه العبادة، وعلى هذا يجزئ قول مالك: الصغير لا يلزمه حق لله تعالي في بدنه
(1)
.
فصل:
إذا نذر الكافر في حال كفره، ثم أسلم، ففي وجوب وفائه وجهان: أصحهما: لا، وقوله عليه السلام لعمر:"أوف بنذرك"
(2)
. محمول على الاستحباب. روى ابن أبي شيبة أن نصرانية نذرت أن تسرج في بيعة، ثم أسلمت، فقال الحسن وقتادة: تسرج في مساجد المسلمين. وقال ابن سيرين: ليس عليها شيء. قال الهذلي: فعرضت أقوالهم على الشعبي، فقال: أصاب الأصم، وأخطأ صاحبك
(3)
.
(1)
"الاستذكار" 15/ 27 - 28.
(2)
سلف برقم (2032)، (2043).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 95.
2 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَايْمُ اللهِ»
.
6627 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي
إِمْرَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ، فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ». [انظر: 3730 - مسلم: 2426 - فتح: 11/ 521].
ذكَرَ فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ، (فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)
(1)
هذا الحديث سلف
(2)
، واختلف العلماء بلسان العرب في معنى: ايم الله.
فقال الزجاج: أيم الله، وايمن الله، ومُن الله، كل هذِه لغات فيها، واشتقاقها عند سيبويه من اليمن والبركة، وألفها عنده ألف وصل، واستدل على ذلك بقول بعضهم: وايمن الله، بكسر الألف، ولو كانت ألف قطع لم تكسر، وسقوطها مع لام الابتداء
(3)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
سلف برقم (3730).
(3)
"الكتاب" 3/ 324 - 325.
قال الشاعر:
وقال فريق .. .. .. لَيمْنُ الله ما ندري
(1)
وإنما التقدير: ايمن الله، وهذا مذهب أكثر النحويين، ولم يجيء في الأسماء ألف وصل مفتوحة غيرها، وقد تدخل عليها اللام لتأكيد الابتداء، تقول: ليمن الله، تذهب الألف في (الوصل، وهو مرفوع)
(2)
بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: ايمن الله: ما أقسم به.
وقال الفراء وابن كيسان، وابن درستويه: ألفها ألف قطع، وهي جمع: يمين عندهم وإنما خففت همزتها وطرحت في الوصل لكثرة إستعمالهم لها.
ومعنى (قوله: ليمين الله)
(3)
معنى: يمين الحالف بالله؛ لأن الله تعالى لا يجوز أن يوصف أنه يحلف بيمين، وإنما هذِه من صفات المخلوقين.
ورُوي عن ابن عمر، وابن عباس أنهما كانا يحلفان بايم الله، وأبى الحلف بها الحسن البصري
(4)
، وإبراهيم النخعي
(5)
، وعن مالك أنها عنده يمين.
وقال الطحاوي: هي يمين عند أصحابنا، وهو قول مالك.
(1)
كذا بالأصل، والبيت بتمامه:
فقال فريق القوم لما نشدْتُهم
…
نعم وفريق لَيْمُنُ الله ما ندري
انظر: "الصحاح" 6/ 2222.
(2)
من (ص 2).
(3)
في (ص 2): قولهم: يمين الله.
(4)
الثابت عن الحسن أنه لا يرى بها بأسًا. انظر "مصنف عبد الرزاق" 8/ 471.
(5)
روى هذِه الروايات عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 471.
وقال الشافعي: إن لم يرد بها يمينًا فليست بيمين.
وقال إسحاق: إذا أراد بها اليمين كانت يمينًا بالإرادة وعقد القلب.
وقال أبو عبيد: ليمنك، وايمنك. يمين يحلف بها، وهي كقولهم: يمين الله، ثم يجمع على: أيمن، ثم يحلفون فيقولون: وأيمن الله، ثم كثر في كلامهم، فحذفوا النون، كما حذفوها من: لم يكن، فقالوا: لم يك
(1)
.
وروي عن ابن عباس أنه اسم من أسماء الله، فإن صح ذلك فهو الحلف بالله. قال الجوهري: ربما حذفوا منه الياء، فقالوا: أم الله، وربما أبقوا الميم وحدها مضمومة، فقالوا: مُ الله، ثم كسروها؛ لأنها صارت حرفا واحدًا، فيشبهونها بالباء، فيقولون: مِ الله، وربما قالوا: بضم الميم والنون: مُنُ الله، ومَنَ الله بفتحهما، ومِنِ الله بكسرهما.
قال: وأيمن الله: اسم وضع للقسم، هكذا بضم الميم والنون
(2)
.
وعبارة الداودي: ايم الله: يعني اسمه، بكسر الألف، أبدل السين ياء، وفيه نظر؛ لأن السين لا تبدل بالياء؛ ولأن أيمن الله جمع يمين، كما سلف، و (الله) أيضًا مفتوح في الروايات، ولم يأت فيها بالكسر على اللغة التي فيه.
وقوله: ("لخليقًا بالامارة") أي: حقيقًا لها (وأهلًا)
(3)
، يقال: فلان خليق بكذا، أي: هو ممن تعذر فيه ذلك.
(1)
"غريب الحديث" 2/ 408 - 409.
(2)
"الصحاح" 6/ 2221 - 2222.
(3)
من (ص 2).
و"تطعنون" قال ابن فارس عن بعضهم: طعن بالرمح، يطعن بالضم، وطعن بالقول، يطعن بالفتح
(1)
، وفي "الصحاح": طعن فيه بالقول يطعن، (ضبطه)
(2)
بضم العين
(3)
.
قال ابن التين: وكذا قرأناه بالضم.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 583.
(2)
في الأصل: أيضًا.
(3)
"الصحاح" 6/ 2157.
3 - باب كَيْفَ كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيّ
؟
وَقَالَ سَعْدٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ» . [انظر: 3294]. وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَاهَا اللهِ إِذًا. يُقَالُ: وَاللهِ وَبِاللهِ وَتَاللهِ. [انظر: 3142].
6628 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» . [انظر: 6617 - فتح: 11/ 523].
6629 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ» [انظر: 3027 - مسلم: 2918 - فتح: 11/ 523].
6630 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ» [انظر: 3027 - مسلم: 2918 - فتح: 11/ 523].
6631 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً» [انظر: 1044 - مسلم: 901 - فتح: 11/ 523].
6632 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي.
فَقَالَ النَّبيُّ - صلى لله عليه وسلم -: "الآن يَا عُمَرُ"[انظر: 3694 - فتح: 11/ 523].
6633، 6634 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ. وَقَالَ الآخَرُ -وَهْوَ أَفْقَهُهُمَا-: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَائْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ. قَالَ:«تَكَلَّمْ» . قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا -قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ: الأَجِيرُ- زَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ» . وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأُمِرَ أُنَيْسٌ الأَسْلَمِيُّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا. [انظر: 2314، 2315 - مسلم: 1697، 1698 - فتح: 11/ 523].
6635 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ تَمِيمٍ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ، خَابُوا وَخَسِرُوا؟» . قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: «وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ» . [انظر: 3515 - مسلم: 2522 - فتح: 11/ 524].
6636 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ عَامِلاً، فَجَاءَهُ العَامِلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. فَقَالَ لَهُ:«أَفَلَا قَعَدْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ فَنَظَرْتَ أَيُهْدَى لَكَ أَمْ لَا؟!» . ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلَاةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ الْعَامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ فَيَأْتِينَا فَيَقُولُ هَذَا مِنْ عَمَلِكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي؟! أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَنَظَرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟! فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَغُلُّ أَحَدُكُمْ
مِنْهَا شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا جَاءَ بِهِ لَهُ رُغَاءٌ، وَإِنْ كَانَتْ بَقَرَةً جَاءَ بِهَا لَهَا خُوَارٌ، وَإِنْ كَانَتْ شَاةً جَاءَ بِهَا تَيْعَرُ، فَقَدْ بَلَّغْتُ». فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ حَتَّى إِنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى عُفْرَةِ إِبْطَيْهِ. قَالَ أَبُو حُمَيْدٍ: وَقَدْ سَمِعَ ذَلِكَ مَعِي زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَلُوهُ. [انظر: 925 - مسلم: 18312 - فتح: 11/ 524].
6637 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ -هُوَ ابْنُ يُوسُفَ- عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم «وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً» [انظر: 6485 - فتح:11/ 524].
6638 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنِ المَعْرُورِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ «هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» قُلْتُ: مَا شَأْنِي؟ أَيُرَى فِيَّ شَيْءٌ؟ مَا شَأْنِي؟ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَهْوَ يَقُولُ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَسْكُتَ، وَتَغَشَّانِي مَا شَاءَ اللهُ، فَقُلْتُ مَنْ هُمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الأَكْثَرُونَ أَمْوَالاً، إِلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا
وَهَكَذَا» [انظر: 1460 - مسلم: 990 - فتح: 11/ 524].
6639 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قَالَ سُلَيْمَانُ: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللهُ. فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ. فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا، فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ. لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» [انظر: 2819 - مسلم: 1654 - فتح: 11/ 524].
6640 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيَعْجَبُونَ مِنْ حُسْنِهَا وَلِينِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَتَعْجَبُونَ مِنْهَا؟» . قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا» . لَمْ يَقُلْ شُعْبَةُ وَإِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ:«وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ» [انظر: 3249 - مسلم: 2468 - فتح: 11/ 524].
6641 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ -أَوْ خِبَاءٍ- أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ -أَوْ خِبَائِكَ، شَكَّ يَحْيَى- ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَهْلُ أَخْبَاءٍ -أَوْ خِبَاءٍ- أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ -أَوْ خِبَائِكَ-. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«وَأَيْضًا وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ؟» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ؟ قَالَ:«لَا، إِلاَّ بِالْمَعْرُوفِ» . [انظر: 6528 - مسلم: 1714 - فتح: 11/ 525].
6642 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُضِيفٌ ظَهْرَهُ إِلَى قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ يَمَانٍ إِذْ قَالَ لأَصْحَابِهِ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟» . قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «أَفَلَمْ تَرْضَوْا أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟» . قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «فَوَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» [انظر: 6528 - مسلم: 221 - فتح: 11/ 525].
6643 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلاً سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]
يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ -وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» [انظر: 5013 - فتح: 11/ 525].
6644 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَالَّذِى نَفْسِي
بِيَدِهِ إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا مَا رَكَعْتُمْ وَإِذَا مَا سَجَدْتُمْ» [انظر: 419 - مسلم: 425 - فتح 11/ 525].
6645 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا أَوْلَادٌ لَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِى نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ» . قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ [انظر: 3786 - مسلم: 2509 - فتح: 11/ 525].
وَقَالَ سَعْدٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ"[انظر: 3294]. هذا سلف مسندًا في الأيمان
(1)
.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَاهَا اللهِ إِذًا [انظر 3142].
وهذا سلف في الجهاد
(2)
في باب قوله عليه السلام: "من قتل قتيلًا فله سلبه" وقيل: الصواب: لاها الله ذا؛ بدل إذًا، قال محمد بن عبد الحكم: لاها الله يمين كقوله: بالله، ثم قال: يُقَالُ: والله وَبِاللهِ وَتَاللهِ.، هذِه حروف القسم.
تم ساق ثمانية عشر حديثًا:
أحدها: حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا، وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ".
قلت: فالسنة أن يحلف بها، وبما شابهها من أسماء الله تعالى وصفاته.
(1)
هذا الحديث لم يرد في الأيمان، وقد سلف في بدء الخلق برقم (3294) باب: صفة إبليس وجنوده، وفي كتاب: فضائل الصحابة برقم (3683): باب: مناقب عمر بن الخطاب، وفي كتاب الأدب برقم (6085) باب: التبسم والضحك انظر "تحفة الأشراف"(3918).
(2)
سلف برقم (3142)، كتاب: فرض الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلًا فله سلبه.
وقد قال عليه السلام: "من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت"
(1)
، وقام الإجماع على أنه من حلف فقال: والله، أو بالله، أو تالله، أن عليه الكفارة
(2)
؛ لأن الواو والباء والتاء هي حروف القسم عند العرب، والواو والباء يدخلان على كل محلوف، ولا تدخل التاء إلا على الله وحده، وقولهم: لاها الله أصله: لا والله، حذف حرف القسم، وعوض منها (ها) التي للتنبيه، فصار واو القسم خافضًا، مضمرًا مثله مظهرًا، غير أنه لا يجوز أن يظهر مع ما هو عوض منه.
وقام الإجماع أيضًا على أن من حلف باسم من أسماء الله تعالى، أن عليه الكفارة
(3)
، واختلفوا فيمن حلف بصفاته، كما سيأتي في بابه، واحتج من أوجب الكفارة في الأيمان بالصفات كلها بهذا الحديث:"لا، ومقلب القلوب". وصفاته كلها منه، وليس شيء مخلوق.
الحديث الثاني:
حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كسْرى فَلَا كسْرى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ".
الحديث الثالث:
حديث أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مثله سواء.
وفيه: الحلف بالذي نفسي بيده. ومعنى "فلا كسرى بعده". قيل: أراد به: أنه لا يكون ملكه مثل ملك الأول، وقيصر اسم ملك الروم،
(1)
سلف برقم (2679) ورواه مسلم (1646) كتاب: الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى.
(2)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 156.
(3)
السابق ص 156.
وكذلك هرقل، وكسرى اسم ملك الفرس، كما أن النجاشي اسم ملك الحبشة، وخاقان اسم ملك الترك، وتُبع اسم ملك اليمن، والقيل ملك حمير، وقيل: هو أقل درجة من الملوك. ذكر هذا ابن خالويه والمطرز، وغيرهما. وفي "الصحاح": كسرى: لقب ملوك الفرس
(1)
.
الحديث الرابع:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ والله لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ولَبَكَيْتُمْ كثِيراً".
وفيه: الحلف بالله.
الحديث الخامس:
حديث أَبي عَقِيلٍ -زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ- أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ هِشَامٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهْوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيء إِلَّا مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ". فَقَالَ عمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ والله لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "الآنَ يَا عُمَرُ".
فيه الحلف بالله، وبالذي نفسي بيده.
وعبد الله هذا هو ابن هشام بن زهرة بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، ذهبت به أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو صغير، فمسح رأسه، ودعا له، شهد فتح مصر، وله بها خطة، روى له البخاري حديثين، وروى له أبو داود، وذكر الذهبي في "الصحابة" أن في البخاري في الأضحية عبد الله بن هاشم بن عثمان القرشي التيمي،
(1)
"الصحاح" 2/ 6 - 8.
ولد سنة أربع، وله رؤية، ثم قال عبد الله بن هشام بن زهرة التيمي، جد زهرة بن معبد، كأنه المذكور في الأضحية، قال: بل هو هو، وزهرة ابن عم الصديق
(1)
.
قلت: ولم أره (في البخاري)
(2)
في الأضاحي وليس في الصحابة هاشم أو هشام غير ما ذكرته.
فصل:
قال الخطابي: حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه السلام بقوله لعمر رضي الله عنه حب الاختيار، إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه.
تقول: لا تصدق في حبي [حتى]
(3)
تفديَ في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيها هلاك
(4)
.
وقال الداودي: وقوف عمر أول مرة، واستثناؤه نفسه، إنما أشفق حتى لا يبلغ ذلك منه، فيحلف بالله كاذبًا. فلما قال عليه السلام ما قال تقرر في نفسه أنه أحب إليه من نفسه، فحلف.
الحديث السادس والسابع:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ وَزيدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنهما في قصة العسيف.
وفيه: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ". الحديث، وقد سلف في مواضع، ويَأتي أيضًا
(5)
.
(1)
"تجريد أسماء الصحابة" 1/ 339 (3597).
(2)
من (ص 2).
(3)
ليست في الأصول والسياق يقتضيها، والمثبت من "أعلام الحديث" للخطابي.
(4)
"أعلام الحديث" 4/ 2282.
(5)
سلف برقم (2314، 2315) وسيأتي برقم (6827، 6828).
وموضع الحاجة منه قوله هنا: "والذي نفسي بيده". وقوله: وقال الآخر: أجل يا رسول الله. أي: نعم. قال الأخفش: أجل: جواب مثل نعم، إلا أنه أحسن منه في التصديق، ونعم: أحسن منه في الاستفهام، فإذا قال: أنت سوف تذهب؟ قلت: أجل، وكان أحسن منه في الاستفهام، وإذا قال: تذهب؟ قلت: نعم. وكان أحسن من أجل.
وقوله: (قال مالك: والعسيف: الأجير). هو كما قال، وقد نص عليه أهل اللغة أيضًا، وفيه فتيا العالم مع وجود من هو أعلم منه.
قال أبو القاسم العذري: كان يفتي من الصحابة فيما بلغني في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة، وثلاثة من الأنصار، أبي، ومعاذ، وزيد بن ثابت
(1)
.
وقوله: ("وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ") فيه رد على الخوارج والمعتزلة في قولهم أن أفعالهم خلق لهم دون الله، وقد يجيبون بأنه لم يرد بذلك إماتة نفسه وقبضها منها.
قوله: (فَأَخْبَرُوني أَنَّ مَا عَلَى ابني جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) قال ابن جرير: فيه أنه لم يحد قائل هذا القول لولده؛ لأنه لا يحد والد لولده، ويقتص منه إن قتله على مذهب من يراه، ومذهبنا: لا قصاص فيه، ومذهب مالك: أنه إن تعمد قتله بأن أضجعه فذبحه، ونحو هذا قتل به
(2)
.
(1)
ورد في هامش الأصل: وقد ذكرها غيره، وأسقط النووي الأول من الخلفاء، وذكرهم ابن الجوزي والقرطبي
…
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 33.
وقال أشهب بقول الشافعي، وهذا الخبر ليس فيه ما ذكره ابن جرير؛ لأن ولده لم ينكر ذلك، ولا قام بحقه في ذلك.
وفيه: وجوب تغريب البكر؛ لأنه عليه السلام سكت لما أخبره بمقالة أهل العلم فيه، ولم ينكره، وهذا في غير الموضع، وإلا فقد نص هنا عليه.
وقال أبو حنيفة: لا تغريب عليه. ومالك يراه على الحر البكر دون المرأة
(1)
، خلافًا للأوزاعي والشافعي فإنهما قالا بتغريبهما
(2)
. واختلف قول الشافعي في تغريب العبد.
وقوله: ("لأقضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ") قيل: هو قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]، فالعذاب الذي تدرأ الزوجة عن نفسها هو الرجم، وأهل السنة مجمعون على أن الرجم من حكم الله، وقال قوم: إنه ليس في كتاب الله، وإنما هو في السنة، وإن السنة تنسخ القرآن، فزعموا أن معنى:"لأقضين بينكما بكتاب الله" أي: بوحي الله، لا بالمتلو. وقيل: يريد بقضاء الله حكمه؛ لقوله: {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، أي: حكمه فيكم، وقضاؤه عليكم.
فصل:
وقوله: ("أما غنمك وجاريتك فرد عليك"). قيل فيه: إن الصلح الفاسد ينقض إذا وقع. وبوب البخاري عليه فيما مضى في الصلح: إذا اصطلحوا على صلح جور، فهو مردود.
وروى مع هذا الخبر: "مَنْ أحدث في أمرِنا ما ليس فيه فَهُو ردٌّ"
(3)
وهذا غير صحيح، فإن الصلح ها هنا إنما وقع على ما لا يملك؛ لأن
(1)
السابق 14/ 236.
(2)
"الأم" 7/ 150.
(3)
سلف برقم (2697).
زوج المرأة لا شيء له، وإنما وجب عليه الحد، وهو حق لله تعالى خاصة، وإنما فيه أن من أخذ شيئًا على ما لا يملكه وجب عليه رده، ووجب نقض ذلك.
وقوله: (وأمر أنيسًا الأسلمي
…
إلى آخره). قيل: فيه إباحة تأخير الحدود عند ضيق الوقت، وأنكره بعضهم، وقال: يروى أيضًا: "فامض إلى امرأة هذا". وفي لفظ: "اغد يا أنيس على امرأة هذا"
(1)
. فلعله من باب الرواية بالمعنى.
وقوله: إلى امرأة الآخر): هو بفتح الخاء، وكذا ضبطه الدمياطي خطًا. وقال ابن التين: هو بقصر الألف، وكسر الخاء، ويقال في المثل: أبعد الله الأخِر، كذا رويناه.
فصل:
قوله: ("فإن اعترفت فارجمها") فيه: أن مطلق الاعتراف يوجب الحد، ولا يحتاج إلى تكراره، وبه قال مالك
(2)
، والشافعي
(3)
، وقال أحمد: لا يجب إلا باعتراف أربع مرات في مجلس، أو أربع مجالس
(4)
.
وقال أبو حنيفة: لا يجب إلا باعتراف في أربع مجالس، فإن اعترف ألف مرة في مجلس واحد، فهو اعتراف واحد
(5)
، واستدل به أهل الظاهر على أن المقر بالحد إذا رجع لا يقبل، ولا دليل فيه؛ لأنه لم يذكر رجوعها.
(1)
سيأتي برقم (6828) كتاب: الحدود، باب: الاعتراف بالزنا.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 250.
(3)
"الأم" 6/ 144.
(4)
انظر: "المغني" 12/ 355.
(5)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 283.
واختلف إذا رجع إلى غير شبهة، فقال ابن القاسم وجماعة: يسقط. وقال ابن الماجشون، وأشهب: لا
(1)
.
ثالثها: إن مضى أكثر الحد فلا يسقط.
رابعها: ذكره أبو حامد، عن مالك أنه إن رجع قبل وقوع شيء منه عليه قبل، ومذهبنا، ومذهب أبي حنيفة السقوط، وفيه أنه لا يشترط حضور الإمام الرجم، واشترطه بعضهم، واستدل به القاضي عبد الوهاب على أن المرأة لا يحفر لها؛ لأنه لم يذكر فيه
(2)
، وهو قول مالك، وأبي حنيفة. وقال الشافعي: يحفر لها. واستحسنه أصبغ، وفي مسلم في قصة المرأة الغامدية: ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها
(3)
.
وفيه: أن الحاكم إذا اعترفت عنده رجمها. وعبارة ابن التين أن فيه أن الحاكم يقضي بعلمه، وإن لم يحضره أحد، إذ لم يقل: خذ معك من يسمع اعترافها، وما عبرنا به أولى.
وفي رواية: فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجمت
(4)
.
وفيه: المبادرة بالحد، خلافًا لما ادعاه بعضهم كما سلف. وقد استدل به القاضي عبد الوهاب على ما ذكرناه، وأنه إذا وجب لا يؤخر، لبرد ولا لحر خلافًا لبعض الشافعية.
وفيه دلالة على الرد على من أنكر الرجم، وهم الخوارج، ولا يلتفت إليهم.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 248 - 249.
(2)
"المعونة" 2/ 325.
(3)
مسلم (1695/ 23).
(4)
سلف برقم (2724)، (2425)، ورواه مسلم برقم (1697)، (1698).
واستدل به أيضًا على سقوط الجلد مع الرجم، وفساد قول أهل الظاهر، ومسروق في إيجابه الجمع بينهما في حق المحصن.
الحديث الثامن:
حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ أَسْلَمُ وَغِفَارُ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ خَيْرًا مِنْ تَمِيمِ وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ، خَابُوا وَخَسِرُوا؟ ". قَالُوا: نَعمْ. فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ خير مِنْهُمْ".
فيه أيضًا: ما ترجم له وهو: "والذي نفس محمد بيده".
الحديث التاسع: حديث أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه في قصة ابن اللتبية وهو المراد بالعامل فيه.
وموضع الحاجة منه قوله: "والذي نفس محمد بيده لا يغل أحدكم منها شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه" .. الحديث.
وفيه من الفوائد:
أن هدية العامل مردودة إلى بيت المال، وما أحسن قول "الحاوي الصغير" في القاضي: وهديته سحت، ولا تملك.
واستدل به ابن التين المالكي على أن هدية الغريم لصاحب الدين تجري مجرى الربا، إلا أن (يقضي)
(1)
دينه، وكذلك سكنى المرتهن الدار المرهونة في يده، إلا أن يسكنها بكراء مثلها. قال: وفيه إبطال كل ذريعة ووليجة يتوصل بها إلى نفع، لو انفرد بنفسه ولم يضمن لغيره، لم تطب نفس صاحبه به.
(1)
في (ص 2): (يقبض).
فصل:
والرغاء بضم الراء والمد: صوت البعير، والجوار بالجيم، والخاء.
قال ابن التين: ورويناه بالجيم والهمز، واللفظان يقالان في البقرة إذا صاحت. قال تعالى:{عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148]، وقرئ بالجيم، حكي عن (الأعمش)
(1)
، ومنه قوله تعالى:{إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64] أي: يرفعون أصواتهم بالدعاء. قال القزاز: وأصله في البقر، ثم استعير للناس.
وقوله في الشاة: "تيعر" هو بمثناة فوق، ثم تحت، ثم عين مهملة، ثم راء، أي: تصيح. قال ابن التين: قرأناه بفتح العين. قال الجوهري: يَعرت العير تيعر بالكسر يعار بالضم: صاحت
(2)
. وقال ابن فارس
(3)
والخطابي: اليعار: صوت الشاة
(4)
. وعُفرة الإبط: بياضها
(5)
. قال الجوهري: الأعفر: الأبيض، وليس بالشديد البياض، وشاة عفراء يعلو بياضها حمرة
(6)
، والأعفر: الرمل الأبيض، وفي آخره قال أبو حميد: وقد سمع ذلك معي زيد بن ثابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلوه، وهو الحديث العاشر.
والحادي عشر:
حديث البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما "لمناديل سعد .. " الحديث،
(1)
في (ص 2): الأخفش.
(2)
"الصحاح" 2/ 859.
(3)
"مجمل اللغة" 2/ 942.
(4)
"أعلام الحديث" 4/ 2280.
(5)
ورد في هامش الأصل: الإبط يذكر ويؤنث.
(6)
"الصحاح" 2/ 752.
سلف غير مرة
(1)
، وموضع الشاهد قوله:"والذي نفسي بيده لمناديل سعد في الجنة خير من هذا" وسعد هو ابن معاذ، والمنديل بكسر الميم، هو ما يمسح به ما يتعلق باليد من الطعام، تقول منه: تمندلت بالمنديل، وتندلت، وأنكر الكسائي تمندلت.
وقوله: "خير من هذا" يحتمل وجهين: أنه يريد في الصفة، وأنها لا تفنى بخلاف هذِه. وفي الحديث التنبيه على فضل سعد، وعلى منزلته. ومحله بعد الثالث عشر، (لكن وقع كذلك)
(2)
.
الحديث الثاني عشر:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو القَاسِم صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كثيرًا وَلَضَحِكتُمْ قَلِيلًا".
سلف في أوائل الباب من حديث عائشة رضي الله عنها
(3)
.
الحديث الثالث عشر:
حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ وَهُوَ يَقُولُ: "هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، هُمُ الأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الكَعْبَةِ".
الحديث الرابع عشر:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في قصة سليمان صلى الله عليه وسلم: "لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأةً). وفي آخره: "وَايْمُ الذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ. لَجَاهَدُوا". وقد سلف
(4)
.
(1)
سلف برقم (2615)، (3248).
(2)
من (ص 2).
(3)
سلف برقم (6631).
(4)
سلف برقم (2819).
الحديث الخامس عشر:
حديث عَائِشَةَ أنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَانَ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ. أَوْ خِبَاءٍ .. الحديث.
وفيه أيضًا: "والذي نفس محمد بيده" إلى آخره.
ذكره ابن بطال بلفظ: خباء، وأخباء. ثم قال: والمعروف في جمع خباء: أخبية، وكذلك تُجمع فِعَال، وفعيل في القليل على أفعلة كمثال وأمثلة، وسقاء وأسقية، ورغيف وأرغفة، وقد يجمع فعيل على أفعال، كيتيم وأيتام، وشريف وأشراف، ويمين وأيمان، وهذا قياس خباء وأخباء، فإن قلت: بم يتعلق القسم في قوله عليه السلام في هذا الحديث "وأيضا والذي نفسي بيده". قيل: قد فسر معمر المعنى في روايته عن الزهري: لتزدادن -أي: محبة- فيما ذكرت، إذا قوي إسلامك، وتحكم الإيمان في قلبك، كما قال عليه السلام: "والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله (وولده)
(1)
والناس أجمعين"
(2)
يريد: لا يبلغ حقيقة الإيمان وأعلى درجاته
(3)
.
وقوله فيه: (مسيك) هو بكسر الميم، وتشديد السين المكسورة كذا نحفظه، وقال ابن التين: حفظناه بفتح الميم وتخفيف السين.
قال: وكذلك هو في ضبط "الصحاح" وهو البخيل
(4)
، وإنما سمي بذلك؛ لأنه يمسك ما في يديه لا يخرجه لأحد.
(1)
في (ص 2): "وماله".
(2)
سلف برقم (15)، ورواه مسلم برقم (44).
(3)
"شرح ابن بطال" 6/ 95 - 96.
(4)
"الصحاح" 4/ 1608.
وقوله فيه: (من أدم). هو بفتح الهمزة والدال جمع: أديم، مثل: أفيق، وأفق، وهو جمع عزيز قليل، والأديم: الجلد.
الحديث السادس عشر:
حديث شُرَيْحِ بْنِ مَسْلَمَةَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قال: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُضِيفٌ ظَهْرَهُ إِلَى قُبَّةٍ مِنْ أَدَم إِذْ قَالَ لأصْحَابِهِ: "أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ ". قَالوا: بَلَى. قَالَ: " (أفلا ترضون)
(1)
أَن تَكُونوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ ". قَالُوا: بَلَى. قَالَ: "فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لأَوْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجَنَّةِ".
فيه: ما ترجم له وهو القسم المذكور.
وإبراهيم هذا هو ابن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي
(2)
.
وقد سلف شرحه
الحديث السابع عشر:
حديث أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ -وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ".
وهو ظاهر فيما ترجم له من القسم المذكور.
(1)
في الأصل: "أترضوا". وفي (ص 2): "أفلم ترضون" وهما خطأ وفي اليونينية "أفلم ترضوا" والمثبت من هامشها، وهو رواية أبي ذر.
(2)
انظر: "تهذيب الكمال" 2/ 249 (269).
ومعنى "يتقالها": يستقلها، وزنه من الفعل: يتفاعلها، من قل الشيء، يقل قلة.
وقوله: ("إنها لتعدل ثلث القرآن") يريد: في الأجر لا أنها تفضل شيئًا منه لذاتها. وقال بعض الأصوليين: إنه يتفاضل، ويكون بعضه أبلغ من بعض، ويوجد في بعضه من البلاغة، والبراعة وحسن النظم وجودة الترتيب ما لا يوجد في بعض، وثواب تلاوة بعضه أفضل من بعض، حسب ما ورد الشرع في ذلك، ولا وجه من وجوه التفاضل إلا وهو في القرآن، الذي هو التلاوة والقراءة، وإنما يسمع بعض الناس من إطلاقنا أن القرآن لا يتفاضل، ونعني بذلك: القرآن الذي ليس بمخلوق، وهو الكلام الموجود (بكتاب)
(1)
الله، الذي هو شيء واحد، لا ينقسم ولا يتجزأ، فيظن سامع أنا نقول ذلك في التلاوة والقراءة التي هي أصوات متقطعة، وحروف (منطوقة)
(2)
، وهي مخلوقة مثل سائر المخلوقات، ولها أبعاض تتماثل وتتفاضل، فهذا موضع يحتاج إلى تأمل ما قلناه، والتفرقة بين التلاوة والمتلو، والقراءة والمقروء. وقيل: إنما فضلت هذِه السورة -أعني: سورة الإخلاص- لاشتمالها على التوحيد لا غير. وقيل: إنما كانت ثلثًا؛ لأن القرآن يشتمل على إخلاص، واستقامة، وقصص، وهذِه مشتملة على الإخلاص، وهذِه ثلث هذِه المسميات فكان لقارئها ثلث أجر قراءة القرآن كله. وقيل: يشتمل القرآن على: قصص، وأحكام، وأوصاف لله، وهي تشتمل على الصفات، وهي الثلث.
(1)
في (ص 2): بذات، ولعله أوجه.
(2)
في (ص 2): منطوية.
وقيل: معنى ثلث القرآن: لشخص بعينه. وقيل: إن الله يتفضل بتضعيف الثواب لقارئها إلى مقدار ما يستحقه قارئ ثلث القرآن من غير تضعيف أجره.
الحديث الثامن عشر: حديث أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَرَاكمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إِذَا مَا رَكعْتُمْ وَإِذَا مَا سَجَدْتُمْ". وقد سلف في الصلاة
(1)
.
الحديث التاسع عشر: حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أيضًا أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَعَهَا أَوْلَادهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَي". قَالَهَا ثَلَاثَ مِراتٍ. وقد سلف في فضل الأنصار
(2)
.
فصل:
ورد في الباب أحاديث أخر وآثار، روى ابن أبي شيبة من حديث عاصم بن شميخ، عن أبي سعيد الخدري: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في اليمين قال: "لا والذي نفس أبي القاسم بيده"
(3)
.
وحدثنا حماد بن خالد، عن محمد بن هلال، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، وأستغفر الله". وقال ابن مسعود: والذي لا إله غيره. هذا حين يفطر الصائم، يعني: عند الوجوب.
(1)
سلف برقم (742)، كتاب: الأذان، باب: الخشوع في الصلاة.
(2)
سلف برقم (3786).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 300 (12475)، ورواه أبو داود (3264)، وأحمد 3/ 33.
وفيه: عاصم بن شميخ وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان والعجلي، "ثقات ابن حبان" 2/ 239، "معرفة الثقات" 2/ 8.
وقال علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لا ورب هذِه الكعبة.
وقالت عائشة: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون
(1)
.
وروى ابن أبي عاصم، عن رفاعة: كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد عند الله
(2)
. وعن إياس بن عبد الله بن أبي ذئاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وايم الله"
(3)
.
وسلف حديث أنس في فضل الأنصار: "أنتم من أحب الناس إليَّ"
(4)
. وروى التاريخي عن علي رضي الله عنه أنه إذا أقسم قال: لا والذي جعل عيشنا خير عيش، لا والذي جعل أحمس خير بجيلة، لا والذي جعل عبد القيس خير ربيعة، لا والذي جعل همذان خير اليمن.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 300 - 301.
(2)
"الآحاد والمثاني" 5/ 24 (2560) وقد رواه ابن ماجه (2091) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1700).
(3)
الذي في "الآحاد والمثاني" 5/ 184 - 185: "والله". وفي بعض المصادر: "وايم الله". فرواه أبو داود (2146)، وابن ماجه (1985)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1615).
(4)
سلف برقم (3786) كتاب: مناقب الأنصار، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: "أنتم أحب الناس إلي".
4 - باب لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ
6646 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهْوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ:«أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ» . [انظر: 2679 - مسلم: 1646 - فتح 11/ 530]
6647 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» . قَالَ عُمَرُ: فَوَاللهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ: يَأْثُرُ عِلْمًا. تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ. [انظر: 2679 - مسلم: 1646 - فتح 11/ 530].
6648 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ» [انظر: 2679 - مسلم: 1646 - فتح 11/ 530].
6649 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ وَبَيْنَ الأَشْعَرِيِّينَ وُدٌّ وَإِخَاءٌ، فَكُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، فَقُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مِنَ المَوَالِي، فَدَعَاهُ إِلَى الطَّعَامِ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ، فَحَلَفْتُ أَنْ لَا آكُلَهُ. فَقَالَ: قُمْ فَلأُحَدِّثَنَّكَ عَنْ ذَاكَ: إِنِّي أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَقَالَ: «وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ» . فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَسَأَلَ عَنَّا. فَقَالَ:«أَيْنَ النَّفَرُ الأَشْعَرِيُّونَ؟» . فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرى، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قُلْنَا مَا صَنَعْنَا حَلَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَحْمِلُنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا ثُمَّ حَمَلَنَا، تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، وَاللهِ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، فَرَجَعْنَا
إِلَيْهِ فَقُلْنَا لَهُ إِنَّا أَتَيْنَاكَ لِتَحْمِلَنَا فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا، وَمَا عِنْدَكَ مَا تَحْمِلُنَا. فَقَالَ:«إِنِّي لَسْتُ أَنَا حَمَلْتُكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ حَمَلَكُمْ، وَاللهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا» [انظر: 3133 - مسلم: 1649 - فتح 11/ 530]
ذكر فيه أحاديث:
أحدها: حديث مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّه صلى الله عليه وسلم أَدْرَكَ عُمَرَ وَهْوَ يَسِيرُ فِي رَكْبِ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ:"أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ باللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ".
وحديث يُونُسَ، عَنِ الزهري قَالَ: قَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابن عُمَرَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ". قَالَ عُمَرُ: فَوَاللهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ: يَأْثُرُ عِلْمًا. تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَإِسحَاقُ الكَلْبِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ ابن عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابن عُمَرَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ.
الشرح:
إسحاق هذا هو ابن يحيى الكلبي الحمصي
(1)
، استشهد به في غير موضع.
ومتابعة عقيل رواها مسلم عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، حدثثي أبي، عن جدي، عنه
(2)
. ومتابعة الزبيدي رواها النسائي، عن عمرو بن عثمان، عن محمد بن حرب، عنه
(3)
.
(1)
انظر "تهذيب الكمال" 2/ 492.
(2)
مسلم (1646/ 2) كتاب: الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى.
(3)
"سنن النسائي" 7/ 5 (3768).
ومتابعة معمر رواها أبو داود، عن أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق، عنه
(1)
. ومتابعة سفيان، رواها ابن ماجه
(2)
، عن محمد بن أبي عمر العدني، عنه
(3)
. والترمذي، عن قتيبة، عنه، وقال: حسن صحيح
(4)
.
ولما ذكر يعقوب بن شيبة هذا الحديث في "مسنده"، قال: حديث مدني، حسن الإسناد، رواه العمري الكبير، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، بلفظ:"إن الله نهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ليحلف حالف بالله أو ليصمت".
ورواه الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عمر رضي الله عنه، كما رواه العمري، ورواه يحيى بن إسحاق، عن سالم، عن أبيه. ولم يقل: عن عمر، ورواه عبيد الله بن عمر، وأيوب السختياني، ومالك
(5)
، والليث، وعبد الله بن دينار، فكلهم جعله عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو يحلف بأبيه، غير أيوب فإنه جعله عن نافع، أن عمر، ولم يذكر ابن عمر في حديثه. وقد رُوي أيضًا هذا الحديث عن ابن عباس، عن عمر أنه عليه السلام بلفظ: بينا أنا في ركب، أسير في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا وأبي، فهتف بي رجل من خلفي:"لا تحلفوا بآبائكم" فالتفت، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6)
.
(1)
"سنن أبي داود"(3250).
(2)
ورد بهامش الأصل: حاشية: لم يروها ابن ماجه، وإنما رواها مسلم والترمذي والنسائي، فاعلمه. وقوله في متابعة معمر: رواها أبو داود إلى آخره ففيه نظر، ولم يخرجها أحد من أصحاب الكتب الستة إلى ما في البخاري من تعليقها، والله أعلم.
قلت: بل أخرجه من ذكره المصنف رحمه الله.
(3)
"سنن ابن ماجه"(2094).
(4)
"جامع الترمذي"(1533).
(5)
"الموطأ" ص 297 (14).
(6)
رواه أحمد في "مسنده" 1/ 42 من طريق سماك عن عكرمة عنه.
ولابن أبي شيبة من طريق عكرمة، عن عمر: فالتفت فإذا هو رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو أن أحدكم حلف بالمسيح، والمسيح خير من آبائكم
لهلك"
(1)
.
وفي رواية سعيد بن عبيدة: "إنها شرك".
ولابن المنذر: "ولا بأمهاتكم، ولا (بالأوثان)
(2)
، ولا تحلفو ابالله
إلا وأنتم صادقون"
(3)
.
ولابن أبي عاصم في كتاب "الأيمان والنذور" من حديث ابن عمر
رضي الله عنهما: "من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر"، ومن حديث
أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: "لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد،
ولا تحلفوا إلا بالله وأنتم صادقون".
ومن حديث بريدة يرفعه: "ليس منا من حلف بالأمانة".
وفي كتابه أنه عليه السلام قال: "من حلف فليحلف برب الكعبة"
(4)
.
فصل:
فيه: أنه لا ينبغي اليمين إلا بالله تعالى، وأن حكم المخلوقات كلها
في حكم الحلف بالآباء، وأما ما في القرآن من الإقسام بالمخلوقات نحو
{وَالطُّورِ (1)} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فلله تعالى أن
يقسم بما شاء من خلقه، والتقدير: ورب الطور، ورب النجم، ثم بين
مراد الله من عباده، أنه لا يجوز الحلف (بغيره. وقد ذكره ابن أبي شيبة،
عن ميمون بن مهران أيضاً.
(1)
"المصنف " 3/ 80 (12276).
(2)
كذا بالأصل، وفي "الإشراف " بالأنداد.
(3)
" الإشراف " 2/ 245.
(4)
"الآحاد والمثاني " 6/ 180.
قال ابن عبد البر: لا ينبغي لأحد أن يحلف)
(1)
بغير الله تعالى،
لا بهذِه الأقسام، ولا بغيرها؛ لإجماع العلماء أن من وجبت عليه
يمين على آخر في حق، فسأله أن لا يحلف له إلا بالله، ولو حلف له
بالنجم، والسماء، وقال: نويت رب ذلك، لم يكن عندهم يمينًا.
وعن مالك أنه بلغه أن ابن عباس كان يقول: لأن أحلف بالله فآثم
أحب إلي من أن أضاهي. والمضاهاة: (أن يحلف بغير الله)
(2)
، تعظيمًا
للمحلوف به
(3)
. إذ يوري السامع أنه حلف بالله.
وقيل: معنى المضاهاة: أن يكفر في يمينه.
وروي عن ابن عمر، وابن مسعود رضي الله عنه، قال: لأن أحلف بالله كاذبًا
أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقًا
(4)
.
وروى ابن جريج، عن ابن أبي مليكة أنه سمع ابن الزبير يقول:
سمعني عمر أحلف بالكعبة فنهاني وقال: لو تقدمت إليك لعاقبتك.
وقال قتادة: يكره الحلف بالمصحف، وبالعتق، والطلاق
(5)
.
قال أبو عمر: والحلف بالطلاق والعتق ليس بيمين عند أهل
التحصيل والنظر، وإنما هو طلاق بصفة، وعتق بصفة، وكلام
خرج على الاتساع والمجازة والتقريب، ولا يمين في الحقيقة
إلا بالله
(6)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
(3)
"الاستذكار" 15/ 95، 96 وذكر أن قول مالك من غير رواية يحيى.
(4)
"مصنف عبد الرزاق " 8/ 469 (15929).
(5)
ذكره ابن عبد البر في "الاستذكار" 15/ 96.
(6)
"التمهيد" 14/ 368.
ونقل محمد بن نصر المروزي في كتابه "اختلاف العلماء" إجماع
الأمة على أن الطلاق لا كفارة فيه
(1)
.
وأجاز ابن عمر، والحسن، وإبراهيم التيمي الحلف بايم الله، وكره
إبراهيم: لعَمْرُكَ. وقال: هي لغو، وكانت يمين عثمان بن أبي العاصي:
لعمري، كما ذكره ابن أبي شيبة. وكان أبو السوار العدوي يقول: إذا
سمعتموني أقول: لا ها الله إذا، ولعمري، فذكروني
(2)
.
وقال الحسن: إذا قال الرجل: لعمري لا أفعل كذا وكذا، وحنث
فعليه الكفارة.
ونقل ابن المنذر، عن مالك، والشافعي، والأوزاعي، وأبي عبيد
أنها ليست بيمين
(3)
. قال الشافعي، وأبو عبيد: إلا إذا أرادها. وعن
الأوزاعي، وأبي ثور في: لعمر الله يمين، وفيها الكفارة. وقال أهل
الظاهر: من حلف بغير الله وهو عالم بالنهي عصى، ولا كفارة
عندهم في غير اليمين بالله تعالى.
والجمهور سلفًا وخلفًا على إيجابها في وجوه كثيرة من الأيمان،
وهم مع ذلك يستحبون اليمين بالله، ويكرهون اليمين بغيره، هذا عمر
وابنه يوجبان كفارة اليمين فيمن حلف بغير الله، وهما رويا قوله: "من
كان حالفًا فليحلف بالله" (فدل)
(4)
: أنه على الاختيار، لا على الإلزام
وا لإيجاب.
(1)
"اختلاف الفقهاء" ص 491 (277).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 82.
(3)
"الإشراف" 2/ 236.
(4)
في الأصول: فقال. والمثبت من "الاستذكار".
وروى يزيد بن زريع، عن حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن
سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل
أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني القسمة لم أكلمك
أبدًا، ومالي في رتاج الكعبة. فقال عمر بن الخطاب: إن الكعبة لغنية
عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك. وهو قول ابنه، وابن
عباس، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وعائشة، وحفصة رضي الله عنه،
وجماعة من علماء التابعين بالمدينة، والكوفة
(1)
.
فصل:
واختلفوا فيما على من حلف بالقرآن وحنث. قال ابن المنذر: فكان
ابن مسعود يقول: عليه بكل آية يمين
(2)
.
وروى ابن أبي عاصم. بإسناد فيه ابن عباس، أن ثابت بن الضحاك
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بسورة من كتاب الله فعليه بكل آية
يمين". وروى ابن أبي شيبة من حديث ليث، عن مجاهد قال رسول الله
_صلى الله عليه وسلم_. فذكره، وقال: "فعليه بكل آية منها يمين (صبر)
(3)
، فمن شاء بَرَّ،
ومن شاء فجر". قال ليث: وقال مجاهد: من حلف بسورة من القرآن،
فعليه بكل آية منها يمين
(4)
.
قال ابن حزم: ورواه حجاج بن منهال، عن (أبي)
(5)
الأشهب، عن
الحسن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". مثل حديث مجاهد.
(1)
"الاستذكار" 15/ 97.
(2)
" الإشراف " 2/ 236.
(3)
من (ص 2).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 74 (12228)(12231).
(5)
في الأصل: أم. والمثبت من (ص 2).
قال: وهو قول (الحسن)
(1)
(2)
. قال ابن المنذر: قال أبو عبيد:
تكون يمينًا واحدة. وبه قال الحسن. قال أحمد: ولا أعلم شيئًا
يدفعه. وقال النعمان: لا كفارة عليه. وعندنا: إن قصد كلام الله،
أو أطلق فيمين، وكان قتادة [يكره أن]
(3)
يحلف بالمصحف. قال
أحمد، وإسحاق: ولا يكره ذلك
(4)
. وحكى ابن هبيرة، عن أحمد
(روايتين)
(5)
، أحدهما: يلزمه إذا حنث كفارة وا حدة، والآخر: يلزمه
لكل آية كفارة.
فصل:
تنعقد عندنا اليمين بالرحمن، وقال أبو يوسف: إن أراد به الله
انعقد، وإن أراد به سورة الرحمن فلا.
فصل:
اختلف في الرجل يقول: أقسمت بالله، أو أقسمت، ولم يقل بالله،
فروينا- كما قال ابن المنذر- عن ابن عباس، وابن عمر أنهما قالا:
القسم يمين، وإن لم يرد به اليمين، وبه قال النخعي، والثوري،
وأصحاب الرأي، وفي قول الثوري وأصحاب الرأي: أقسمت بالله،
وأقسمت يمين، وبه قال عبيد الله بن الحسن. وقالت طائفة: إن أراد
بقوله: أقسمت، أي: بالله، فهي يمين، وإلا فلا شيء عليه، هذا
(1)
في الأصول: الحسين، وعليها: كذا. والمثبت من "المحلى".
(2)
" المحلى " 8/ 33.
(3)
غير موجودة با لأصول، والصواب إثباتها، والمثبت من "الإشراف"، وفي "مصنف
عبد الرزاق " 8/ 469 عن قتادة: وكره أن يحلف بالمصحف.
(4)
"الإشر اف " 2/ 236.
(5)
في الأصل: أبان وفي (ص 2): روايتان، والصحيح ما أثبتناه.
قول مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. قال ابن المنذر: وبه
أقول
(1)
، وعند ابن أبي شيبة، عن مجاهد: القسم اليمين. وقال
ابن مسعود في رجل أقسم أن لا يشرب من لبن شاة امرأته، فقال:
أطيب لقلبه أن يكفر يمينه، وهو قول أبي العالية، والحكم،
وعلقمة
(2)
. وقد عقد له البخاري بابًا كما سيأتي.
فصل:
قال الشافعي، وأبو ثور: وإذا قال: أعزم بالله،، فليست بيمين،
إلا أن يريد يمينًا، وكذا: إذا قال: أشهد بالله. أنه إن نوى اليمين
فهي يمين، وإن لم ينو شيئًا فلا شيء عليه. وقال أصحاب الرأي،
وأبو ثور: هي يمين. وقال أصحاب الرأي: إذا قال: أشهد، فهي
يمين. وقال أبو عبيد: ليست بيمين. وقال الأوزاعي وربيعة: إذا
قال: أشهد لا أفعل كذا، ثم فعل، فهي يمين
(3)
.
وقد عقد له البخاري بابًا يأتي.
فصل:
فإن قال: حلفت، ولم يحلف، فقال الحسن، والنخعي: لزمته
يمين. وروى ابن أبي شيبة، عن النخعي: فقد كذب. وكذا قال
حماد بن أبي سليمان: هي كذبة. وقال أبو ثور: باطل، وقال
أصحاب الرأي: هي يمين
(4)
.
(1)
"الإشر اف " 2/ 237.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 84 - 85.
(3)
انظر: "الإشر اف " 2/ 241 - 242.
(4)
انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 82، و"الإشراف " لابن المنذر 2/ 242.
فصل:
لو قال: إن فعلت هذا، فهو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي.
فقال مالك، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور: يستغفر الله. وقال
طاوس، والحسن، والشعبي، والنخعي، والثوري، والأوزاعي،
وأصحاب الرأي: عليه كفارة يمين. وهو قول أحمد، وإسحاق: إذا
أراد اليمين
(1)
.
فصل:
اختلف في الرجل يدعو على نفسه بالخزي والهلاك، أو قطع اليد إن
فعل كذا، فقال عطاء: لا شيء عليه، وهو قول الثوري، وأبي عبيد،
وأصحاب الرأي. وقال طاوس: عليه كفارة يمين، وبه قال الليث.
وقال الأوزاعي: إذا قال: عليه لعنة الله إن لم يفعل كذا، فلم يفعله،
فعليه كفارة يمين
(2)
.
فصل:
قال ابن هبيرة في كتابه: أجمعوا على أن اليمين بالله منعقدة بجميع
أسمائه الحسنى، كالرحمن، والرحيم، والحي، وغيرها، وبجميع
صفات ذاته، كعزة الله، وجلاله، إلا أبا حنيفة، فإنه استثنى: علم
الله، فلم يره يمينًا استحسانًا، فإن قال: وحق الله. فقالوا: يكون
يمينًا، وقال أبو حنيفة: لا، واختلفوا إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال
أحمد: ينعقد، وخالفه الباقون.
واختلف في يمين الكافر، فقال أبو حنيفة ومالك: لا تنعقد سواء
حنث في كفره، أو بعد إسلامه، ولا تصح منه كفارة. وقال أحمد:
(1)
انظر: "الإشر اف " 2/ 245 - 246.
(2)
السابق 2/ 246.
تنعقد (يمينه)
(1)
، وتلزمه الكفارة بالحنث فيها في الموضعين. قلت:
ومذهب أبي حنيفة: إذا حلف بسخط الله، وغضبه، ورحمته، وإن
فعلته فعلي غضبه وسخطه، أو زان، أو سارق، أو آكل ربا، أو شارب
خمر، فلا تنعقد، ولا كفارة.
وعبارة ابن حزم في "محلاه": اليمين لا تكون إلا بالله، أو باسم من
أسمائه، أو يخبر به عنه، ولا يراد به غيره، مثل: مقلب القلوب،
(ووارث الأرض ومن عليها، ويكون ذلك بجميع اللغات، أو بعلم
الله)
(2)
، أو قدرته، أو عزته، أو قوته، أو جلاله، ومن حلف بغير
ذلك، (فلا كفارة عليه)
(3)
، وهو عاص، وعليه التربة عن ذلك،
والاستغفار. وأما اليمين بعظمته، وإرادته، وكرمه، وحكمه، وحكمته،
وسائر ما لم يأت به نص، فليس شيء من ذلك يمينًا؛ لأنه لم يأت به
نص، فلا يجوز القول بها، وأما الحلف بالأمانة، وبعهد الله،
وميثاقه، وما أخذ يعقوب على بنيه، وبأشد ما أخذ أحد على أحد،
وحق النبي، وا لمصحف، والإسلام، وا لكعبة، ولعمري، ولعمرك،
وأقسمت، وأقسم، وأحلف، وحلفت، وأشهد، وعليّ يمين، أو عليَّ
ألف يمين، أو جميع الأيمان تلزمني، فكل هذا ليس بيمين، واليمين
بها معصية، ليس فيها إلا التوبة، والاستغفار، ومن حلف بالقرآن،
أو بكلام الله، فإن نوى المصحف، أو الصوت المسموع، أو المحفوظ
في الصدور، فليس يمينًا، وإن لم ينو ذلك، بل نواه على الإطلاق،
فهي يمين وعليه كفارة إن حنث
(4)
.
(1)
كلمة غير واضحة بالأصل، والمثبت من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
(3)
من (ص 2).
(4)
"المحلى" 8/ 30 - 33 بتصرف.
فصل:
قال المهلب: كانت العرب في الجاهلية تحلف بآبائها، وآلهتها،
فأراد الله أن ينسخ من قلوبها وألسنتها ذكر كل شيء سواه، ويبقي
ذكره تعالى؛ لأنه الحق المعبود، فالسنة اليمين بالله، كما رواه
أبو موسى، وغيره، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحلف بالمخلوقات في
حكم الحلف (بأبيه)
(1)
ما لا يجوز عند الفقهاء شيء من ذلك
(2)
.
وقال الطبري في حديث عمر رضي الله عنه: إن الأيمان لا تصلح بغير الله كائنًا
ما كان، وإن من قال: و [رب]،
(3)
الكعبة، أو جبريل، أو آدم وحواء.
وقال: وعذاب الله، وثوابه أنه قد قال من القول هجرًا، وقدم على
ما نهى الشارع عنه، ولزمه الاستغفار من قوله ذلك دون الكفارة؛
لثبوت الحجة أنه لا كفارة على الحالف بذلك. وقال الشعبي:
الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم
إلا بالخالق، والذي نفسي بيده لأن أقسم بالله فأحنث أحب إليّ من
أن أقسم بغيره فأبر. وذكر ابن القصار مثله، عن ابن عمر، وقد
أسلفناه. وقال (مطرف)
(4)
: إنما أقسم الله بهذِه الأشياء ليعجب بها
المخلوقين، ويعرفهم قدرته فيها؛ لعظم شأنها عندهم، ولدلالتها على
خالقها. (وقد أجمع)
(5)
العلماء: على أن من وجبت له يمين على
رجل في حق عليه، أنه لا يحلف له إلا بالله، فلو حلف له بغيره،
وقال: نويت رب ذلك، لم يكن عندهم يمينًا.
(1)
كذا بالأصول، وفي "شرح ابن بطال": بالآباء.
(2)
انظر "شرح ابن بطال " 6/ 96 - 97.
(3)
كذا بالأصل، ولعلها زائدة.
(4)
في الأصل: قطرب وفي هامشها: لعله مطرف، والمثبت من (ص 2).
(5)
في الأصل: احتج. والمثبت من (ص 2).
وقال ابن المنذر: من حلف بغير الله، وهو عالم بالنهي، فهو
عاص. قال: واختلف أهل العلم في معنى نهيه عن الحلف بغير الله، أهو
عام في الأيمان كلها، أو خاص في بعضها؟ فقالت طائفة: الأيمان
المنهي عنها هي الأيمان التي كان أهل الجاهلية يحلفون بها تعظيمًا منهم
لغير الله، كاليمين باللات، والعزى، والآباء، والكعبة، والمسيح،
وبكل الشرك، فهذِه المنهي عنها، ولا كفارة فيها، وأما ما كان من
الأيمان فيما يئول الأمر فيه إلى تعظيم الله، فهي غير تلك. وذلك
كقوله: وحق النبي، والإسلام، وكاليمين بالحج، والعمرة، والصدقة،
والعتق، وشبهه، فكل ذلك من حقوق الله، ومن تعظيمه. قال
أبو عبيد: إنما ألفاظ الأيمان ما كان أصله يراد به تعظيم الله، والتقرب
إليه، ومن القربة إليه اليمين بالعتق، والمشي، والهدي، والصدقة.
قال ابن المنذر: وقد مال إلى هذا القول غير واحد ممن لقيناه،
واستدل بعضهم بما روي عن أصحاب رسول الله من إيجابهم على
الحالف بالعتق، وصدقة المال، والهدي ما أوجبوه مع روايتهم هذِه
الأخبار التي فيها التغليظ في اليمين بغير الله تعالى، أن معنى النهي
في ذلك غير عام، إذ لو كان عامًّا ما أوجبوا فيه من الكفارة
ما أوجبوا، أو لنهوا عن ذلك
(1)
.
فصل:
قوله: (ذاكرًا) يعني: متكلمًا به، كقوله: ذكرت لفلان حديثًا حسنًا،
وهذا ليس من الذكر الذي هو ضد النسيان، (ولا آثرًا) يقول: ولا مخبرًا
عن غيري أنه حلف. وقال الطبري: ومنه: حديث مأثور عن فلان، أي:
(1)
انظر: "شرح ابن بطال " 6/ 97 - 99.
تحدث به عنه
(1)
. و {أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} : بقية. وقيل: الخط الذي يخطه
بعض الناس في الأرض، فيخبرون ببعض ما يسألون عنه. قلت: فهو من
قولهم: آثرت الحديث: إذا حدثت به عن عدل. تقول: لم يأت من قبل
نفسي ولا حدثت به عن غيري أنه حلف به، يقول: لا أقول إن فلانًا
قال، وإني لا أفعل كذا ولا كذا. وقال الداودي: يريد بقوله (ذاكرًا
ولا آثرًا) أي: ما حلفت بها، ولا ذكرت حلف غيري بها، كقوله:
قال فلان: وحق أبي.
فصل:
ونهيه عن الحلف بالآباء، أي: من حلف بها تعظيمًا لأبيه، وقد قال
الصديق: وأبيك ما ليلك بليل سارق.
فصل:
قوله في حديث أبي قلابة والقاسم التميمي، وهو ابن عاصم الكلبي، عن
زهدم: هو رجل أحمر، أي: أشقر، تقول: رجل أحمر والجمع:
الأحامر، وإن أردت المصبوغ بالحمرة، قلت: أحمر، وحمر.
والدجاج مثلث الدال، كما سلف. والواحد: دجاجة، للذكر
والأنثى؛ لأن الهاء إنما دخلت على أنه واحد من جنسه، مثل: عمامة.
و (قذرته) بكسر الذال
(2)
: كرهته، وكذلك: تقذرته، وا ستقذرته.
وقوله: (وأتي بنهب إبل) أي: بغنيمة. قال الجوهري: النهب:
الغنيمة، وقال ابن فارس: النهب: الغنيمة ينتهبها فيمن شاء
(3)
.
(1)
السابق 6/ 99.
(2)
ورد بهامش الأصل: أي: المعجمة.
(3)
"الصحاح" 1/ 229، و"المجمل" 2/ 844. مادة (نهب).
5 - باب لَا يُحْلَفُ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ
6650 -
حَدَّثَنِى عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ
حَلَفَ فَقَالَ فِى حَلِفِهِ: بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى. فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ. فَلْيَتَصَدَّقْ» [انظر: 4860 - مسلم: 1647 - فتح 11/ 536].
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالْعُزى. فَلْيَقُلْ: لَا إله إِلَّا اللهُ. وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ. فَلْيَتَصَدَّقْ". وقد سلف.
وقوله "لا إله إلا الله" هو كفارة لما أتى به من المعصية.
وقيل: إنما هذا إذا كان هذا القول منه خطأ.
ومعنى الحديث الآخر: "من حلف بملة غير الإسلام فهو كما قال"
(1)
، يريد: متعمدًا، وكذلك هو موجود في بعض الروايات. وقيل: لئلا يمضي عليه وقتان على هذِه المعصية، (فيخل)
(2)
ذلك بقوله: "لا إله إلا الله" وجعل الصدقة كفارة لقوله "أقامرك" وإن لم يفعله.
قال المهلب: كان أهل الجاهلية قد جرى على ألسنتهم الحلف باللات والعزى، فلما أسلموا ربما جروا على عادتهم بذلك من غير قصد منهم، فكان من حلف بذلك فكأنه قد راجع حالةً من حالة الشرك، وتشبه بهم في تعظيمهم غير الله، فأمر الشارع من عرض له
(1)
سلف برقم (1363) كتاب الجنائز، باب: ما جاء في قاتل النفس، من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه. ورواه مسلم عنه أيضًا برقم (110) كتاب الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه.
(2)
في (ص 2): فيجعل.
ذلك بتجديد ما أنساهم الشيطان أن يقولوا: لا إله إلا الله، فهو كفارة له إذ ذاك براءة من اللات والعزى، ومن كل ما يعبد من دون الله.
قال الطبري: وقول ذلك واجب مع إحداث التوبة، والندم على ما قال من ذلك، والعزم على ألَّا يعود، فلا يعظم غير الله.
وقد روى أبو إسحاق السبيعي، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: حلفت باللات والعزى، فقال أصحابي: ما نراك قلت إلا هجرًا، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن العهد كان قريبًا، فحلفت باللات والعزى، فقال:"قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، ثلاث مرات، وانفث عن شمالك ثلاثًا، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا تعد"
(1)
.
قال الطبري: وفيه الإبانة: أن كل من أتى أمرًا يكرهه الله تعالى، ثم أتبعه من العمل بما يرضاه الله ويحبه بخلافه، وندم عليه، وترك العودة له؛ فإن ذلك واضع عنه وزر عمله، وماح إثم خطيئته، وذلك كالقائل يقول: كفر بالله إن فعل كذا، فالصواب له أن يندم على قوله ندامة سعد على حلفه، وأن يحدث من قول الحق خلاف ما قال من الباطل، وكذلك أعمال الجوارح، كالرجل يهم بركوب معصية، فإن توبته ترك العزم عليه، والانصراف عما هم به، وأن يهم بعمل طاعة لله مكان همه بالمعصية، كما قال عليه السلام لمعاذ في وصيته:"إذا عملت سيئة، فأتبعها بحسنة تمحها"
(2)
.
(1)
رواه النسائي 7/ 7 - 8.
(2)
رواه أحمد 5/ 228، والطبراني في "الصغير" 1/ 320 (530) والبيهقي في "الشعب" 1/ 405 (548).
وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(97).
قال غيره: والأمر بالصدقة في الثاني محمول عند الفقهاء على الندب، بدليل أن مريد المعصية ولم يفعلها، فليس عليه صدقة ولا غيرها، بل تكتب له حسنة، كما رواه ابن عباس مرفوعًا
(1)
.
وروى أبو هريرة مرفوعًا: "من هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء"
(2)
.
واحتج ابن عباس لروايته بقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)} [الرحمن: 46] قال: هو العبد يهم بالمعصية، ثم يتركها من خوف الله
(3)
.
و (سبق)
(4)
زيادة في معنى هذا الحديث في آخر كتاب الاستئذان، في باب: كل لهو باطل إذا اشتغل عن طاعة الله.
فصل:
والطاغوت في الترجمة قد اختلف السلف في معناه، أهو الشيطان كما قاله عمر ومجاهد والشعبي وقتادة وجماعة، أو الساحر كما روي عن أبي العالية وابن سيرين وغيرهما، أو الكاهن كما روي عن جابر وسعيد بن جبير
(5)
.
(1)
سلف برقم (6491) كتاب الرقاق، باب: من هم بحسنة أو بسيئة ورواه مسلم برقم (131) كتاب الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة.
(2)
سيأتي برقم (7501) كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ} ولمسلم برقم (128)، كتاب الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب.
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 99 - 101.
(4)
من (ص 2)، وفي الأصل:(ستأتي)، وورد في هامشه: اعلم أن كتاب الاستئذان تقدم، وكذا الباب فيه، فاعلمه.
(5)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 19 - 20 (5835)، (5837)، (5838)، (5840)، (5842)، (5843)، (5844).
قال الطبري: وهو عندي فعلوت من الطغيان، كالجبروت من الجبر، والخلبوت من الخلب، قيل ذلك لكل من طغى على ربه تعالى، فعبد من دونه، إنسانًا كان ذلك الطاغي أو شيطانًا أو صنمًا
(1)
.
(1)
السابق 3/ 21.
6 - باب مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ وَإِنْ لَمْ يُحَلَّفْ
6651 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ يَلْبَسُهُ، فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، فَصَنَعَ النَّاسُ [خَوَاتِيمَ] ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَنَزَعَهُ، فَقَالَ:«إِنِّي كُنْتُ أَلْبَسُ هَذَا الْخَاتِمَ وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ» . فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ: «وَاللهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا» . فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. [انظر: 5865 - مسلم: 2091 - فتح 11/ 537]
ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنه صلى الله عليه وسلم اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَكَانَ يَلْبَسُهُ، فَيَجْعَلُ فَصَّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ، فَصَنَعَ النَّاسُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ عَلَى المِنْبَرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ:"إِنِّي كنْت أَلْبَسُ هذا الخَاتِمَ وَأَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلٍ". فَرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ: "والله لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا". فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ.
وقد سلف.
ولغات الخاتم سلفت، والفص واحد المنصوص، والعامة تقول: فص بالكسر، قاله في "الصحاح"
(1)
.
وقوله: (فرمى به)، قيل: يحتمل أن يكون أذن له فيه، ثم نسخ ذلك، أو تكون الأشياء على الإباحة حتى تنتهي. وقوله:(رمى به) أي: لم يستعمله، ليس أنه أتلفه؛ لنهيه عن إضاعة المال.
وقوله: ("لا ألبسه أبدًا") أراد بذلك تأكيد الكراهة في نفوس الناس بيمينه؛ لئلا يتوهم الناس أن كرهه لمعنى، فإن زال ذلك المعنى لم يكن بلبسه بأس، فأكد بالحلف أن لا يلبسه على جميع وجوهه.
(1)
"الصحاح" 3/ 1048، مادة (فصص).
وفيه من الفقه: أنه لا بأس بالحلف على ما يحب المرء تركه، أو على ما يحب فعله من سائر الأفعال. قال المهلب: وإنما كان عليه السلام يحلف في تضاعيف كلامه، وكثير من فتواه، متبرعًا بذلك لينسخ ما كانت الجاهلية عليه من الحلف بآبائها وآلهتها والأصنام وغيرها، ليعرفهم أن لا محلوف به إلا الله، وليتدربوا على ذلك، حتى ينسوا ما كانوا عليه من الحلف بغير الله
(1)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 102.
7 - باب مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ سِوَى مِلَّةِ الإِسْلَامِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» . وَلَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى الكُفْرِ. [انظر: 4860].
6652 -
حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الإِسْلَامِ فَهْوَ كَمَا قَالَ. قَالَ: وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهْوَ كَقَتْلِهِ» [انظر: 1363 - مسلم: 110 - فتح 11/ 537]
ذكر فيه حديث ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ مِلَّةِ الإِسْلَامِ فَهْوَ كمَا قَالَ. قَالَ: وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلَعْنُ المُؤْمِنِ كقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهْوَ كقَتْلِهِ". وقد سلف.
ويشبه أن يريد بالأول ما في "مصنف ابن أبي شيبة": حدثنا عبد الله، ثنا إسرائيل، عن أبي مصعب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: حلفت باللات والعزى، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني حلفت باللات والعزى، فقال:"قل: لا إله إلا الله ثلاثًا، وانفث عن شمالك ثلاثًا، وتعوذ بالله من الشيطان، ولا تعد"
(1)
وقد أسلفناه في الباب قبله
(2)
.
وحديث أبي هريرة عن عبد بن المنذر مرفوعًا: "من حلف فقال في
حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله"
(3)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 80.
(2)
سلف برقم (6650) من حديث أبي هريرة.
(3)
سلف برقم (4860) كتاب التفسير، باب:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)} عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا.
وأخرجه ابن أبي عاصم بإسناد جيد.
قال المهلب: قوله "فهو كما قال" يعني؛ هو كاذب في يمينه لا كافر؛ لأنه لا يخلو أن يعتقد الملة التي حلف بها، فلا كفارة له إلا الرجوع إلى الإسلام، أو يكون معتقدًا للإسلام بعد الحنث فهو كاذب فيما قاله، بمنزلة من حلف يمين الغموس لا كفارة عليه؛ إلا من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله ولم ينسبه إلى الكفر
(1)
.
وقال ابن التين: قوله: "فهو كما قال" يريد إذا كان معتقدًا لها.
قال ابن المنذر: وفسر ابن المبارك الكفر في هذِه الأحاديث، المراد به: التغليظ، وليس الكفر، كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَمَن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] أنه ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله
(2)
.
وكذلك قال عطاء: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم
(3)
، وكما قال عليه السلام "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"
(4)
أي: كفر بما أمر به أن لا يقتل بعضهم بعضا.
قال غيره: والأمة مجمعة أن من حلف باللات والعزى، فلا كفارة عليه، فكذلك من حلف بما سوى الإسلام لا فرق بينهما.
ومعنى الحديث: النهي عن الحلف بما حلف من ذلك، والزجر
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 102 - 103.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 4/ 596 (12058).
(3)
السابق 4/ 596 (12061).
(4)
سلف برقم (48)، كتاب الإيمان، باب: خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ورواه مسلم برقم (64) كتاب: الإيمان، باب: بيان قول النبي صلى الله عليه وسلم "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
عنه، فإن ظن ظان أن في هذا الحديث دليلًا على إباحة الحلف بملة غير الإسلام صادقًا؛ لاشتراطه في هذا الحديث أن يحلف بذلك كاذبًا. قيل: ليس كما توهمت؛ لورود نهي الشارع عن الحلف بغير الله نهيًا مطلقًا، فاستوى الكاذب والصادق في النهي، وقد تقدم معنى هذا الحديث في آخر الجنائز في باب: قاتل النفس، وسلف زيادة في بيانه في كتاب: الأدب في باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال
(1)
.
فصل:
وقوله: ("من قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم") هو على الوعيد، والله تعالى فيه بالخيار.
وقوله: ("لعن المؤمن كقتله") ليسا في الفعل سواء، وإنما يريد أنهما حرام.
وقيل: يريد المبالغة في الإثم، فالشيء يسمى باسم الشيء للمقاربة كقوله:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"
(2)
فيه تأويلان.
وقال المهلب: هو معنى قول الطبري: اللعن في اللغة: هو الإبعاد، فمن لعن مؤمنًا فكأنه أخرجه من جماعة الإسلام، فأفقدهم منافعه، وتكثير عددهم، فكأنه كمن أفقدهم منافعه بقتله. ويفسر هذا قوله للذي لعن ناقته:"انزل عنها فقد أجيبت دعوتك"
(3)
فسرحها، ولم
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 103.
(2)
سلف برقم (2475) كتاب: المظالم، باب: النهبى بغير إذن صاحبه. ورواه مسلم برقم (57) كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بالمعاصي.
(3)
رواه مسلم (3009) من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "انزل عنه، فلا تصاحبنا بملعون". ورواه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" ص 45 (73) من حديث أبي هريرة، بلفظ "أخرها عنا فقد استجيب لك"
ينتفع بها أحد بعد ذلك، فأفقد منافعها لما أجيبت دعوته، فكذلك يخشى أن تجاب دعوة اللاعن فيهلك الملعون.
(والتأويل الثاني)
(1)
أن الله تعالى حرم لعن المؤمن، كما حرم قتله، فهما سواء في التحريم، وهذا يقتضي تحذير لعن المؤمن والزجر عنه؛ لأن الله تعالى قال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فأكد حرمة الإسلام وشبهها بحرمة النسب.
وكذلك معنى قوله: "من رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله" يعني في تحريم ذلك عليه.
فإن قيل: هذا التأويل يعارض ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن جماعة من المؤمنين، فلعن المخنثين من الرجال، ولعن شارب الخمر، ولعن غيره، ولعن المصورين، ولعن من غير تخوم الأرض، ولعن من انتمى إلى غير مواليه، ومن انتسب إلى غير أبيه، ولعن من سب والديه، وجماعة سواهم.
قيل: لا تعارض في شيء من ذلك، والمؤمنون الذين حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنهم، هم غير من لعنهم، فنهى عن لعن من لم يظهر الكبائر، ولا استباح ركوب ما نهى الله عنه، وأمر بموالاتهم، ومؤاخاتهم في الله، والتودد إليهم.
ولعن عليه السلام من خالف أمره، واستباح نهيه، وأمر بإظهار التكبر عليهم، وترك موالاتهم، والانبساط إليهم، والرضى عن أفعالهم. فالحديثان مختلفان، فلا تعارض
(2)
.
(1)
في (ص 2): فيه تأويل.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 104 - 105.
فصل:
واختلف العلماء في الرجل يقول: أكفر بالله، وأشرك بالله، ثم يحنث، فقال مالك: لا كفارة عليه، وليس بكافر، ولا مشرك، حتى يكون قلبه مضمرًا على الشرك والكفر، وليستغفر الله تعالى، وينسَ ما صنع، وهو قول عطاء، ومحمد بن علي، وقتادة، وبه قال الشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: من قال: هو يهودي، أو نصراني، أو قال: أشركت بالله، أوبرئت من الله، أو من الإسلام فهو يمين، وعليه الكفارة إن حنث؛ لأنه تعظيم الله، فهو كاليمين بالله، وبه قال أحمد وإسحاق
(1)
، كما قدمنا ذلك في فصل مفرد.
وممن رأى الكفارة على من قال ذلك: ابن عمر وعائشة، والحكم (على)
(2)
من أسلفناه هناك.
قال ابن المنذر: وقول من لم يرها يمينًا أصح، لقوله عليه السلام:"من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" ولم يأمر بكفارة
(3)
.
قال ابن القصار: ولقوله عليه السلام: "من حلف بملة غير الإسلام فهو كما قال". ومعناه: النهي عن مواقعة ذلك اللفظ، والتحذير منه، لا أنه يكون كافرًا بالله بقوله ذلك. قال ابن القصار: وإنما أراد التغليظ في هذِه الأيمان حتى لا يجترئ عليها أحد، وكذلك قال ابن عباس، وأبو هريرة، والمسور رضي الله عنه، ثم تلاهم التابعون، فلم يوجبوا على من أقدم عليها كفارة.
(1)
انظر: "الإشراف" 2/ 243 - 244.
(2)
في (ص 2): غير.
(3)
السابق 2/ 244.
قال: وأما قولهم: إذا قال: أنا يهودي فقد عظم الإسلام، وأراد الامتناع من الفعل، فالجواب أنهم يقولون: كما لو قال: وحق القرآن، وحق المصحف، ثم حنث، أنه لا كفارة عليه، وفي هذا من التعظيم لله وللإسلام ما ليس لما ذكروه، فسقط قولهم.
وأيضاً فإنه إذا قال: هو يهودي، أو كفر بالله، فليس من طريق التعظيم، وإنما هو من الجرأة، والإقدام على المحرمات كالغموس، وسائر الكبائر، وهي أعظم من أن تكون فيها كفارة
(1)
.
فصل:
قوله: (ولم ينسبه إلى الكفر) هو بضم السين، وكذا هو في اللغة.
قال الجوهري: نسبت الرجل: أنسُبُهُ بالضم، نِسبة، ونَسَبًا، إذا ذكرت نسبه، ونسب الشاعر بالمرأة، ينسِب بالكسر إذا شبب بها
(2)
.
فصل:
وقوله: ("ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله"). قيل: يعني في الحرمة، وقيل: يعني إذا نسب ذلك إليه وادعاه، وليس هو كذلك، وقد سلف مبسوطًا.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 105 - 106.
(2)
"الصحاح" 1/ 224، مادة (نسب).
8 - باب لَا يَقُولُ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ
وَهَلْ يَقُولُ: أَنَا بِاللهِ ثُمَّ بِكَ؟
6653 -
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: تَقَطَّعَتْ بِي الْحِبَالُ، فَلَا بَلَاغَ لِي إِلاَّ بِاللهِ، ثُمَّ بِكَ» . فَذَكَرَ الحَدِيثَ [انظر: 3464 - مسلم: 2964 - فتح 11/ 540]
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ: ثَنَا هَمَّامٌ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ ثَلَاَثةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرَادَ اللهُ أَن يَبْتَلِيَهُم، فَبَعَثَ إليهم مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: تَقَطَّعَت بِي الحِبَالُ، فَلَا بَلَاغَ لِي إِلَّا باللهِ ثُمَّ بِكَ". فَذَكَرَ الحَدِيثَ في الأقرع والأعمى أيضًا المذكور في بني إسرائيل، وهناك أسنده، فقال: حدثنا أحمد بن إسحاق، ثنا عمرو بن عاصم، وحدثنا محمد، ثنا عبد الله بن رجاء، قالا: ثنا همام به.
قال المهلب: وإنما أراد البخاري أن يخبر بـ (ما شاء الله ثم شئت) استدلالًا من قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: "فلا بلاغ لي إلا بالله ثم بك" وإنما لم يجز أن يقول: ما شاء الله وشئت؛ لأن الواو تشرك بين المشيئين جميعًا. وقد روي هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم ما شاء فلان"
(1)
وإنما جاز دخول (ثم) مكان الواو؛ لأن مشيئة الله
(1)
رواه أبو داود (4980)، وأحمد 5/ 384 من حديث حذيفة بلفظ: لا تقولوا.
تعالى متقدمة على مشيئة خلقه، قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان: 30] فهذا من الأدب، وذكر عبد الرزاق، عن إبراهيم النخعي أنه (قال: لا نرى)
(1)
بأسًا أن يقول: ما شاء الله ثم شئت، وكان يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، حتى يقول: ثم بك
(2)
. (والحديث في ذلك)
(3)
(4)
رواه محمد بن بشار، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا مسعر (عن)
(5)
معبد بن خالد، عن عبد الله بن يسار، عن قتيلة -امرأة من جهينة- قالت: جاء يهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، وإنكم تجعلون لله ندًّا، تقولون: والكعبة، وتقولون: ما شاء الله وشئت، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا:"ورب الكعبة" وأمرهم أن يقولوا: "ما شاء الله ثم شئت"
(6)
.
وهذا الحديث رأي البخاري، ولم يكن من شرطه، فترجم به، واستنبط معناه من حديث أبي هريرة
(7)
.
(1)
في (ص 2): أنه كان لا يرى.
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 27 (19811، 19812).
(3)
من (ص 2).
(4)
ورد بهامش الأصل: هذا الحديث في النسائي في الأيمان والنذور وفي اليوم والليلة عن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن مسعر به. وعن أحمد بن حفص، عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان، عن مغيرة به بنحوه. اهـ قلت: هو في النسائي 7/ 6.
(5)
في الأصل: بن. والصواب ما أثبتناه، انظر:"تحفة الإشراف"(18046).
(6)
رواه النسائي 7/ 6 من طريق يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن مسعر قال ابن حجر في "الإصابة" 4/ 389 (886): سنده صحيح.
ورواه الطبراني في "الكبير" 25/ 13 من طريق محمد بن النضر وعمر بن حفص، عن عاصم بن علي، عن المسعودي، عن معبد به.
(7)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 106 - 107.
وقال الداودي: ليس في هذا نهي أن لا يقول: بالله وبك. قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74]، وقال:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، وقال:{قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] والابتلاء: الاختبار.
وفيه: أن الملائكة تكلم غير الأنبياء؛ إلا أن المتكلم ربما يعرف أن الذي يكلمه ملك. واعترضه ابن التين، فقال: ما ذكره ليس بظاهر؛ لأن قوله: ما شاء الله وشئت، يشارك الله في مشيئه، وجعل الأمر مشتركًا بينه وبين الله في المشيئة، وليس كذلك الآي التي ذكرها؛ لأنه إنما شاركه في الإنعام، أنعم الله على زيد بن حارثة بالإسلام، وأنعم عليه الشارع بالعتق، وإنما الذي يمنع أن تقول: ما شاء الله وشئت توقع المشاركة في المشيئة، وهي منفردة لله سبحانه حقيقة، ومجازًا لغيره.
فصل:
قوله: ("تقطعت بي الحبال") الذي نحفظه بالحاء. قال ابن التين: رويناه "بالجبال" وفي رواية أخرى بالخاء، وهو أشبه)
(1)
.
(1)
من (ص 2).
9 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ فِي الرُّؤْيَا. قَالَ: «لَا تُقْسِمْ» [انظر: 7046]
6654 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ الْبَرَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِبْرَارِ المُقْسِمِ. [انظر: 1239 - مسلم: 2066 - فتح 11/ 541]
6655 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أُسَامَةَ، أَنَّ ابْنَةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ -وَمَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسَعْدٌ وَأُبَي- أَنَّ: ابْنِي قَدِ احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا. فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَتَحْتَسِبْ» . فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ، فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا قَعَدَ رُفِعَ إِلَيْهِ، فَأَقْعَدَهُ فِي حَجْرِهِ وَنَفْسُ الصَّبِيِّ تَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «هَذَا رَحْمَةٌ يَضَعُهَا اللهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» [انظر: 1284 - مسلم: 923 - فتح 11/ 541]
6656 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ، إِلاَّ تَحِلَّةَ القَسَمِ» [انظر: 1251 - مسلم: 2632 - فتح 11/ 541]
6657 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، سَمِعْتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، وَأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ
عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ» [انظر: 4918 - مسلم: 2853 - فتح 11/ 541]
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت في الرؤيا، (قال:"لا تقسم")
(1)
. يريد البخاري بذلك: ما رواه في كتاب: التعبير مسندًا
(2)
.
وذكره ابن أبي عاصم بإسناد جيد إلى عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه يحدث أن رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله رأيت كأن ظلة .. الحديث من مسند أبي هريرة
(3)
.
والذي أخطأ فيه أبو بكر: هو تقدمته
(4)
بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصاب في عبارته، واستحى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول له: أخطأت في تقدمتك بين يدي.
ثم ساق فيه أحاديث:
أحدها: حديث البَرَاءِ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِبْرَارِ المُقْسِمِ.
ثانيها: حديث أُسَامَةَ بن زيد أَنَّ ابنةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ -وَمَعَه أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ وَسَعْدٌ وَأُبَي- أَنَّ ابني قَدِ احْتُضِرَ فَاشْهَدْنَا. فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: "إنَّ لله مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى"، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ، فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ .. الحديث.
ثالثها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ثَلَاَثة مِنَ الوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ، إِلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ".
(1)
من (ص 2).
(2)
سيأتي برقم (7046)، باب: من لم ير الرؤيا لأوَّل عابر إذا لم يصب.
(3)
"السنة" 2/ 767 (1177).
(4)
ورد بهامش الأصل: هذا قول من أقوال، والصحيح خلافه، فإنه لم يعبر إلا بإذنه عليه السلام.
رابعها: حديث حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ألا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْل الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، وَأَهْلِ النَّارِ كُلّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ".
وسلف في التفسير
(1)
.
فصل:
من روى (بإبرار المقسم) بفتح السين، فمعناه: بإبرار الإقسام؛ لأنه قد يأتي المصدر على لفظ المفعول، كقوله: أدخلته مدخَلاً، بمعنى: إدخال، وأخرجته مخرجًا، بمعنى: إخراج.
فصل:
قال المهلب: قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109]: 109]، دليل على أن الحلف بالله أكبر الأيمان كلها؛ لأن الجهد:(شدة)
(2)
المشقة
(3)
.
فصل:
اختلف العلماء في قول الحالف: أقسمت بالله، على أقوال سلفت في باب: لا تحلفوا بآبائكم.
وقال مالك: أقسم، لا يكون يمينًا حتى يقول: بالله، أو ينوي به اليمين، فإن لم ينو فلا شيء عليه
(4)
. وروي مثله عن الحسن، وعطاء، وقتادة، والزهري. وقال الشافعي: أقسم: ليست بيمين، وإن نواها،
(1)
سلف برقم (4918) باب: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)]
(2)
من (ص 2).
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 108.
(4)
"المدونة الكبرى" 2/ 30.
بخلاف أقسم بالله، فإنها يمين إن نواها
(1)
، وروى عنه الربيع أنه إذا قال: أقسم، ولم يقل: بالله، فهو كقوله: والله
(2)
.
واحتج الكوفيون برواية من روى في حديث أبي بكر رضي الله عنه: أقسمت عليك يا رسول الله لتحدثني، فقال عليه السلام:"لا تقسم" وبحديث البراء في الباب، قالوا: ولم يقل بالله. وبحديث أسامة بن زيد أيضًا: أرسلت تقسم عليه، ولم يقل: بالله. وبقوله: "لو أقسم على الله لأبره"، ولم يأت في شيء من الأحاديث ذكر اسم الله، قالوا: وقد جاء [في القرآن]
(3)
ذكر اسم الله مع القسم في موضع، ولم يأت في موضع آخر؛ اكتفاء بما دل عليه اللفظ. قال تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] فذكر اسمه تعالى. وقال تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] فحذف اسمه تعالى، فدل أن أحد الموضعين يفيد ما أفاده الآخر
(4)
.
وقال السيرافي: لا تكون (أقسم)
(5)
إلا يمينًا لدخول اللام في جوابها، ولو كانت غير يمين لما دخلت اللام في الجواب؛ لأنك لا تقول: ضربت لأفعلن، كما تقول: أقسمت لأفعلن. وحجة مالك قوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"
(6)
ومن لم ينو اليمين، فلا يمين له. وأيضًا فإن العادة جرت بأن يحلف الناس على ضروب، فمنها اللغو، يصرحون فيه باسم الله تعالى، ثم لا تلزمهم
(1)
"الأم" 7/ 55 - 56.
(2)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 237 - 238.
(3)
ليست في الأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال".
(4)
"شرح معاني الآثار" 4/ 269 - 271.
(5)
من (ص 2).
(6)
سلف برقم (1) كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الكفارة لعدم قصدهم إلى الأيمان، فالموضع الذي عدم فيه التصريح والقصد أولى أن لا تجب فيه كفارة. قاله ابن القصار.
قال: وقال أصحاب الشافعي: اليمين تكون يمينًا؛ لحرمة اللفظ، وإذا قال: أقسمت، فلا لفظ هنا له حرمة. وكل ما احتج به الكوفيون فهو حجة على غيره.
قال ابن القصار: ويقال له: قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ} [الأنعام: 109] فوصل القسم باسمه تعالى، فكان يمينًا، وقال في موضع آخر:{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17]، فأطلق القسم، ولم يقيده بشيء، فوجب أن يحمل المطلق على المقيد كالشهادة قرنت بالعدالة في موضع وعريت في موضع من ذكرها، وكالرقبة في الكفارة، قيدت في موضع بالإيمان، وأطلقت في آخر
(1)
.
فصل:
قال ابن المنذر: وأمر الشارع بإبرار القسم أمر ندب، (لا)
(2)
وجوب؛ لأن الصديق أقسم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يبر قسمه، ولو كان ذلك واجبًا لبادر، ولم يشأ رجل أن يسأل آخر بأن يخرج له من كل ما يملك، ويطلق زوجته، ثم يحلف على الإمام في حد أصابه أن يسقط عنه إلا تم له، وفي ذلك تعطيل الحدود، وترك القصاص بما فيه القصاص، وإذا لم يجز ذلك، كان معنى الحديث بالندب، فيما (يجب)
(3)
الوقوف عنه دون ما يجوز تعطيله.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 108 - 110.
(2)
في الأصل: (أو). والمثبت من (ص 2).
(3)
في (ص 2): يجوز.
وقال المهلب: إبرار القسم إنما يستحب، إذا لم يكن في ذلك ضرر على المحلوف عليه، أو على جماعة أهل الدين؛ لأن الذي سكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان موضع الخطأ في تعبير الصديق هو عائد على المسلمين بهمٍّ و (غمٍّ)
(1)
؛ لأنه عبر قصة عثمان بأنه يُخلع، ثم يراجع الخلافة، فلو أخبره الشارع بخطئه، لأخبر الناس أن يقتل ولا يرجع إلى الخلافة، فكان يدخل على الناس فتنة بقصة عثمان من قبل كونها، وكذلك لو أقسم على رجل ليشربن الخمر ما وجب عليه إبرار قسمه، بل الفرض عليه ألا يبره.
واختلف الفقهاء: إذا أقسم على الرجل فحنث، فروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الحالف يكفِّر. وروي مثله عن عطاء وقتادة، وهو قول أهل المدينة والعراق والأوزاعي.
وفيها قول ثان روي عن عائشة أم المؤمنين: أن مولاة لها أقسمت عليها في قديدة تأكلها فاحنثتها عائشة، فجعل عليه السلام (تكفير اليمين على)
(2)
عائشة
(3)
.
وقال ابن المنذر: وإسناده لا يثبت. وفيها قول ثالث (روي)
(4)
عن أبي هريرة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنهما لا يجعلان في ذلك كفارة. قال عبيد الله: ألا ترى أن الصديق قال ما قال، فقال له الشارع:"لا تقسم". قال: ولم يبلغنا أنه أمر بالتكفير.
(1)
في الأصل: عمر، والمثبت من (ص 2) وهو الموافق لما في "شرح ابن بطال".
(2)
في الأصل: يكفر عن يمين. والمثبت من (ص 2) وهو الموافق لما جاء في "مصنف عبد الرزاق" و"شرح ابن بطال".
(3)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 479.
(4)
من (ص 2).
قال ابن المنذر: ويقال لمن قال: إن الكفارة تجب على المقسم عليه، ينبغي أن توجب الكفارة على الشارع في قصة الصديق
(1)
.
فصل:
قال: قوله في حديث أسامة: (ونفسه تقعقع) قال شمر: قال خالد بن حبيب. أي: كلما صار إلى حال لم يلبث أن يصير إلى آخر، ويقرب من الموت لا يثبت على حال واحدة، يقال: تقعقع الشيء إذا اضطرب وتحرك
(2)
.
فصل:
وقول سعد (ما هذا؟): يريد بالاستفهام، ليس أنه يعيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعله سمعه ينهى عن البكاء الذي فيه الصياح أو العويل، فظن أنه نهى عن البكاء كله.
وفيه: أنهم كانوا يستفهمونه فيما يخشون عليه فيه السهو؛ لأنه بشر وينسى ليسُن، كما قاله
(3)
.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 110 - 111.
(2)
انظر: "لسان العرب" 6/ 3695.
(3)
يشير إلى حديث "إني لأنسى أو أُنسى لأسن" رواه مالك في "الموطأ" ص 83، قال ابن عبد البر في "التمهيد" 24/ 375: هذا الحديث بهذا اللفظ أعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجه من الوجوه مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه -والله أعلم- وهو أحد الأحاديث الأربعة في "الموطأ" التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة -والله أعلم- ومعناه صحيح في الأصول. اهـ.
وحديث النسيان قد سلف في البخاري برقم (401) كتاب الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان بلفظ: "إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني" ورواه مسلم أيضًا برقم (572) كتاب المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له.
فصل:
المراد بتحلة القسم في حديث أبي هريرة قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71].
قيل: تقديره: والله إن منكم إلا واردها، وقيل: هو معطوف على قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68].
فصل:
"والجواظ" كما قال أبو زيد الأنصاري: الكثير اللحم، المختال في مشيته، يقال: جاظ، يجوظ، (جوظًا)
(1)
. وقال الأصمعي مثله، وكذا الجوهري: الجواظ: الضخم المختال في مشيته
(2)
. وفي "العين": الجواظ: الأكول، ويقال: الفاجر
(3)
(4)
. وقال الداودي: إنه الكثير اللحم، الغليظ الرقبة.
قال: والعتل: الفاحش الأثيم، والمستكبر: المتكبر، الجبار في نفسه، المحتقر للناس.
وقال الهروي: قال أحمد بن عبيد: هو الجموع المنوع. وقال عن غيره: هو القصير البطين
(5)
. وذكر أيضًا مثل ما تقدم عن الجوهري، وكذا فسره ابن فارس
(6)
.
(1)
في (ص 2): جوظانًا.
(2)
"الصحاح" 3/ 1171.
(3)
"العين" 6/ 170.
(4)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 111 - 112.
(5)
انظر "النهاية في غريب الحديث والأثر" 1/ 316 مادة: (جوظ).
(6)
"المجمل" 2/ 646.
وقال القزاز: هو الجافي الغليظ، قال: وكذا العتل: أنه الغليظ الجافي، ومنه قوله تعالى:{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] وكذلك في الصحاح في العتل أنه الغليظ الجافي
(1)
.
وفي كتاب: ابن فارس أنه الأكول المنوع
(2)
، وعبارة ابن بطال: العتل: الأكول
(3)
.
(1)
"الصحاح" 5/ 1758.
(2)
"المجمل" 2/ 646.
(3)
"شرح ابن بطال" 6/ 112.
10 - باب إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ، أَوْ شَهِدْتُ بِاللهِ
6658 -
حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» . قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ. [انظر: 2652 - مسلم: 2533 - فتح 11/ 543]
ذكر فيه حديث عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "قَرْنِي، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ". قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَنا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ.
إنما قصد البخاري من هذا الحديث إلى قول إبراهيم: (وكان أصحابنا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف) يريد: أشهد بالله، وعليَّ عهد الله. قال: نهيهم عن الحلف بذلك أنهما يمينان مغلظان، ووجه النهي عنهما -والله أعلم- أن قوله: أشهد بالله. يقتضي (معنى العلم بالقطع)
(1)
، (والعهد)
(2)
لا يقدر أحد على التزامه بما يجب فيه
(3)
.
وعبارة ابن التين أن معناه: يريد أن يقول: وشهادة الله، وعهد الله. وقد أسلفنا في باب: لا تحلفوا بآبائكم فصلاً في الحلف بأشهد بالله، وخلاف العلماء فيه، وأبسطه هنا، والحاصل فيه للعلماء أقوال:
(1)
في الأصول: منع العلم والقطع، والمثبت من (ص 2) وهو الموافق لما في "شرح ابن بطال".
(2)
في (ص 2): وعهد الله.
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 112.
أحدها: أن أشهد، وأحلف، وأعزم، كلها أيمان
(1)
تجب فيها الكفارة، وهو قول النخعي وأبي حنيفة والثوري. وقال ربيعة والأوزاعي: إذا قال: أشهد لا أفعل كذا، ثم حنث، فهي يمين.
ثانيها: أن أشهد: لا تكون يمينًا حتى يقول: أشهد (بالله)
(2)
، وإن لم يرد ذلك، فليست بأيمان، قال ابن خواز منداد: وضعف مالك: أعزم بالله، وكأنه لم يره يمينًا إلا أن يريد به اليمين
(3)
؛ لأنه (يكون)
(4)
على وجه الاستعانة، فيقول الرجل: أعزم بالله، (وأصول بالله)
(5)
، كأنه يقول: أستعين بالله، ولا يجوز أن يقال: إن قول انرجل: أستعين بالله يكون يمينًا.
ثالثها: أن أشهد بالله وأعزم بالله كناية، حكاه المزني، عن الشافعي، وحكى الربيع عنه: إن قال: أشهد، وأعزم، ولم يقل: بالله، فهو كقوله: والله، وإن قال: أحلف فلا شيء عليه، إلا أن ينوي به اليمين
(6)
.
واحتج الكوفيون بقوله تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، ثم قال:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] فدل أن قول القائلين: أشهد. يمين؛ لأن هذا اللفظ عبارة عن القسم، وإنما يحذف اسم الله اكتفاء بما يدل عليه اللفظ.
(1)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 237.
(2)
في الأصل: بما فيه. والمثبت من (ص 2).
(3)
"المدونة" 2/ 30.
(4)
في الأصل: لا يكون، والمثبت من "شرح ابن بطال".
(5)
من (ص 2).
(6)
"الأم" 7/ 56.
واحتج أصحاب مالك: أن قولك أشهد لا تفعلن كذا؛ ليس بصريح يمين؛ لأنه يحتمل أن يريد: أشهد عليك بشيء إن فعلت كذا، وقد يقول: أشهد بالكعبة، وبالنبي، فلا يكون يمينًا. وأنكر أبو عبيد أن يكون: أشهد يمينًا. وقال: الحالف غير الشاهد، قال: وهذا خارج من الكتاب والسنة، ومن كلام العرب.
قال الطحاوي: وقوله "يجيء قوم .. " إلى آخره، إنما أراد عليه السلام أنهم يكثرون الأيمان على كل شيء حتى تصير لهم عادة، فيحلف أحدهم حيث لا يراد منه اليمين، وقبل أن يستحلف. يدل على ذلك قول النخعي: وكانوا ينهوننا ونحن غلمان أن نحلف بالشهادة، وبالعهد، يعني أن نحلف بالشهادة بالله، وعلى عهد الله، كما قال تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، والشهادة هنا: اليمين بالله.
قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور: 6] أي: أربع أيمان بالله.
فصل:
القرن: كل طبقة مقترنين في وقت، ومنه قيل لأهل كل مدة أو طبقة بعث فيها نبي: قرن، قلت السنون أو كثرت.
وقوله: ("قرني"): يعني أصحابي "ثم الذين يلونهم" يعني: التابعين لهم بإحسان، "ثم الذين يلونهم": تابعي التابعين، واشتقاق قرن: من الاقتران، وقيل: القرن ثمانون سنة، أو أربعون، أو مائة.
وقال ابن الأعرابي: القرن: الوقت من الزمان. وقال غيره: قيل له قرن؛ لأنه يقرن أمة بأمة، عالمًا بعالم، وهو مصدر قرنت، جعل اسمًا للوقت، أو لأهله.
فصل:
وأصحابه عليه السلام أفضل الأمة من سمع منه كلمة، أو عقل أنه رآه، وأدناهم منزلة خير ممن يأتي بعدهم. قيل لمالك: من أفضل، معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لنظرة نظرها معاوية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمل عمر بن عبد العزيز.
فصل:
قوله: ("ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته") فيه قولان:
أحدهما: أن يقول: أشهد بالله، أو شهدت بالله لكان كذا.
والثاني: أن يحلف على تصديق شهادته قبل أن يشهد، أو بعد، والأول: هو تأويل البخاري.
فصل:
قال ابن التين: اختلف عندنا إذا قال: أشهد بالله أو أقسم بالله، أو قال: أشهد أو أقسم، ولم يقل بالله هل هي يمين؟ وفي "الزاهي": إذا لم يقل بالله، لا شيء عليه، قال: وأما من حلف على تصديق شهادته قبل الحكم بها، فقال ابن شعبان: تسقط شهادته كأنه لما حلف أتهم فيما شهد به، فسقطت شهادته، وظاهر تأويل البخاري: أن قوله أشهد بالله لا يجوز.
11 - باب عَهْدِ اللهِ عز وجل
-
6659 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ وَمَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ -أَوْ قَالَ: أَخِيهِ- لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ} [آل عمران: 77]. [انظر: 2356 - مسلم: 1380 - فتح 11/ 544]
6660 -
قَالَ سُلَيْمَانُ فِي حَدِيثِهِ: فَمَرَّ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ عَبْدُ اللهِ؟ قَالُوا لَهُ، فَقَالَ الأَشْعَثُ: نَزَلَتْ فِيَّ وَفِي صَاحِبٍ لِي، فِي بِئْرٍ كَانَتْ بَيْنَنَا. [انظر: 2357 - مسلم: 138 - فتح 11/ 544]
ذكر فيه حديث أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ -أَوْ قَالَ: أَخِيهِ- لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ". فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل تصديقه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} . الحديث.
وقد سلف، وذكرنا الخلاف في أوائل الأيمان فيمن حلف بالعهد هل هو يمين، أو كناية فيه. احتج الأول بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ} [آل عمران: 77] الآية المذكورة، فخص عهد الله بالتقدمة على سائر الأيمان، فدل على تأكيد الحلف به، وخشية التقصير في الوفاء به؛ لأن عهد الله ما أخذه على عباده، وما أعطاه عباده. قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ} الآية [التوبة: 75]، فذمهم على ترك الوفاء؛ لأن تاركه مستخف بمن كان عاهده في منعه ما كان عاهده.
قال ابن القصار: واحتجوا بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ثم عطف عليه بقوله {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، ولم يتقدم ذكر غير العهد، فأعلمنا أنه يمين مؤكد، ألا ترى قوله:{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91] وقال يحيى بن سعيد: في قوله: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ} [النحل: 91]: العهود
(1)
.
وقد روي عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] قال: عقدة الطلاق، وعقدة البيع، وعقد الحلف، وعقد العهد، فإذا قال: عليّ عهد الله، فقد عقد على نفسه عقدًا يجب الوفاء به لقوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قال: عليّ عهد الله، فحنث، يعتق رقبة. قال: قال الشافعي: فإن قال: عليّ عهد الله يحتمل أن يكون معهوده، وهو ما ذكره تعالى في قوله:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60].
وإذا كان هذا هو معهود الله، وهو محدث، فهو كقوله:{فَرَضَ الله} ، وتكون عبارة غير مفروضة، ولا يكون يمينًا؛ لأنه يمين بمحدث. قيل: قوله: عليّ عهد الله، غير قوله: معهوده؛ لأنه لم يجر العرف والعادة بأن يقول أحد: عليّ معهود الله، وإنما جرى أن يراد بذلك اليمين.
وقال مالك: إذا قال: عهد الله وميثاقه، فعليه كفارتان إلا أن ينوي التأكيد، فتكون يمينًا واحدة
(2)
.
وقال الشافعي: عليه كفارة واحدة، وهو قول مطرف، وابن الماجشون، وعيسى بن دينار، والحجة لمالك أنه لما خالف بين
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 7/ 636 (21876).
(2)
"المدونة الكبرى" 2/ 30.
اللفظين وكل واحد يجوز أن يستأنف به اليمين كانت يمينين، وجب لكل لفظ فائدة مجردة
(1)
، وقد سارع فيه.
فصل:
العهد على خمسة أوجه:
تلزم الكفارة في وجهين، وتسقط في اثنين، واختلف في الخامس فإن قال: عليّ عهد الله. كفَّر إن حنث، وقال الشافعي: لا كفارة عليه إذا أطلق. وقال الدمياطي: لا كفارة عليه إذا قال: وعهد الله، حتى يقول: عليّ عهد الله، أو أعطيتك عهد الله، وإلا فلا كفارة عليه، وإن قال: أعاهد الله، فقال ابن (حبيب)
(2)
: عليه كفارة يمين، وقال ابن شعبان: لا كفارة عليه. وإن قال: وعهد الله كفَّر عند مالك وأبي حنيفة، وقال الشافعي: إذا أراد به يمينا كان يمينًا، وإلا فلا
(3)
. والآية حجة لمالك في قوله {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} الآية [آل عمران: 77].
وفي رواية أخرى: أنها نزلت في رجل أقام سلعته بعد العصر، وحلف: لقد أعطى بها ما لم يعط. وقد تكون نزلت فيهما جميعًا، وفي إحداهما وهم.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 115 - 116.
(2)
في الأصل: جبير. والمثبت من (ص 2).
(3)
"الأم" 7/ 56.
12 - باب الحَلِفِ بِعِزَّةِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ» . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، لَا وَعِزَّتِكَ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا» . وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ عز وجل: لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ» . وَقَالَ أَيُّوبُ عليه السلام: وَعِزَّتِكَ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ.
6661 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ. وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ» رَوَاهُ شُغْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ. [انظر: 4848 - مسلم: 2848 - فتح 11/ 545]
وهذِه كلها سلفت مسندة.
ثم ساق حديث شَيْبَانَ، عن قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حتى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قط وَعِزَّتِكَ. وَيُزْوى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ". رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ.
الشرح:
تضمنت أحاديث الباب جواز اليمين بصفات الله تعالى، وهو مشهور مذهب مالك.
وروي عن علي بن زياد، عن مالك: إذا قال: لا والقرآن، لا والمصحف. ليس بيمين، ولا كفارة على من حلف به، فحنث. والقرآن صفة من صفاته تعالى.
وكذلك قال في "كتاب محمد" فيمن قال: لا وأمانة الله ويكره اليمين بها
(1)
. وقد قال عليه السلام: "ليس منا من حلف بغير الله" وفيه أيضًا فيمن حلف فقال: لعمر الله: لا يعجبني أن يحلف به أحد.
والأول أبين، ويحمل النهي في الحلف بغير الله أن ذلك في المخلوقات.
وقوله: (كان عليه السلام يقول: "أعوذ بعزتك") فيه إثبات الصفات، وليس فيه جواز اليمين بالصفة كما بوب عليه.
وقال ابن بطال: اختلف العلماء في اليمين بصفات الله، فقال مالك في "المدونة": الحلف بجميع صفات الله وأسمائه لازم، كقوله: والسميع، والعليم، والبصير، والخبير، واللطيف، أو قال: وعزة الله، وكبريائه، (وقدرته)
(2)
، وأمانته، وحقه، فهي أيمان كلها تكفر
(3)
.
وذكر ابن المنذر مثله عن الكوفيين أنه إذا قال: وعظمة الله، وجلال الله، وكبرياء الله، وأمانة الله وحنث، عليه الكفارة، وكذلك في كل اسم من أسمائه تعالى. وقال الشافعي: في جلال الله، وعظمة الله، وقدرة الله، وحق الله، وأمانة الله، إن نوى بها اليمين فذاك، وإلا فلا؛ لأنه يحتمل: وحق الله واجب، وقدرة الله ماضية. وقال أبو بكر الرازي، عن أبي حنيفة: إن قول الرجل: وحق الله، وأمانة الله ليس بيمين. قال أبو حنيفة: قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} الآية، المراد بذلك الأيمان.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 15.
(2)
من (ص 2).
(3)
"المدونة" 2/ 263.
والرابع وهو قول سعيد بن جبير، وقال مجاهد: الصلاة. قال أبو يوسف: وحق الله يمين، وفيها الكفارة.
حجة القول الأول أن أهل السنة أجمعوا على أن صفات الله أسماء له
(1)
، ولا يجوز أن تكون صفات غيره، فالحلف بها كالحلف في أسمائه يجب فيها الكفارة، ألا ترى أنه عليه السلام كثيرًا ما كان يحلف "لا ومقلب القلوب" وتقليبه لقلوب عباده صفة من صفاته، ولا يجوز على الشارع أن يحلف بما ليس بيمين؛ لأنه قال:"من كان حالفًا فليحلف بالله"
(2)
.
قال أشهب: من حلف بأمانة الله، التي هي صفة من صفاته، فهي يمين، وإن حلف بأمانة الله التي بين العباد فلا شيء عليه. وقال ابن سحنون: معنى قوله {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات: 180] التي خلقها في خلقه التي يتعازون بها. قال: وقد جاء في التفسير أن العزة هنا يراد بها الملائكة، وإنما ذهب إلى هذا القول ابن سحنون -والله أعلم- فرارًا من أن تكون العزة التي هي صفة الله مربوبة، فيلزمه الحدث وليس كما توهم؛ لأن لفظ الرب قد يأتي في كلام العرب لصاحب الشيء، ومستحقه، ولا يدل ذلك على الحدث والخلق، فنقول لصاحب الدابة: رب الدابة، (ولصاحب الدار: رب الدار)
(3)
، ولصاحب الماشية: رب الماشية، ولا نريد بذلك معنى الخلق، قال تعالى:{وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] فليس إعزازه
(1)
يقصد المصنف بصفات الله الصفات المعنوية لأن الاشاعرة الذين عبر عنهم في السياق بأهل السنة لا يثبتون غيرها.
(2)
سلف برقم (2679) كتاب الشهادات ورواه مسلم (1646) كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى.
(3)
من (ص 2).
بعلة، ولا إذلاله بعلة، بل هما حاصلان بالقضاء والمشيئة.
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، وقوله:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فكيف الجمع بينهما، فإن إحدى الآيتين توجب انفراده تعالى بالعز، والثانية تشير إلى أن لغيره عزًّا. قيل: ولا منافاة بينهما في الحقيقة؛ لأن العز الذي للرسول وللمؤمنين، فهو لله ملكًا، وخلقًا، وعزه سبحانه له وصفاته، فإذًا العز كله لله بقوله:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} يريد: صاحب العزة ومستحقها وهي نهاية العزة، وغايتها التي لم يزل موصوفًا بها قبل خلقه الخلق، التي لا تشبه عزة المخلوقين. ألا ترى أنه تعالى نزه نفسه بها، فقال:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)} [الصافات: 180] ولا ينزه نفسه تعالى، ويقدس إلا بما يباين فيه صفات عباده، ويتعالى عن أشباههم، إذ ليس كمثله شيء.
فصل:
اختلفوا فيمن حلف بالقرآن، أو المصحف، أو بما أنزل، فروي عن ابن مسعود أن عليه لكل آية كفارة يمين
(1)
، وقد أسلفنا حكايته، وهو قول الحسن البصري، وأحمد بن حنبل. وقال ابن القاسم في "العتبية": إذا حلف بالمصحف كفارة يمين، وهو قول الشافعي فيمن حلف بالقرآن. قال: القرآن كلام الله، وإليه ذهب أبو عبيد، وقال أبو عبيد: من حلف بالقرآن فلا كفارة عليه، وهو قول عطاء، وروي عن علي بن زياد، عن مالك نحوه، غير أن المعروف عن مذهبه ما يخالف هذِه الرواية.
(1)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 472.
روى إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه قال: القرآن كلام الله، وليس من الله شيء مخلوق. فهذا القول (منه)
(1)
يقطع أن الحالف بالقرآن إذا حلف أن عليه الكفارة، كما إذا حلف بالله، أو باسم من أسمائه، وهذا مذهب جماعة أهل السنة
(2)
.
وذكر ابن المنذر عن بعض أهل العلم أنهم قالوا: إذا كانوا يوجبون الكفارة على من حلف بعظمة الله، وعزته، وجلاله، وكبريائه، فكلام الله وصفته أولى.
ويمسكون عمن حلف بوجه الله فحنث بأن قالوا: عليه الكفارة، فكذلك تجب الكفارة على من حلف بصفة من صفات الله فحنث.
وأما قول ابن مسعود: عليه لكل آية كفارة. فهو مثله على التغليظ، ولا دليل على صحته؛ لأنه لا فرق بينه وبين آخر لو قال: إن عليه لكل سورة كفارة. وآخر لو قال: إن عليه لكل كلمة كفارة. وهذا لا أصل له، وحسبه: إذا حلف بالقرآن، قد حلف بصفة من صفات الله.
فصل:
وقوله في حديث أنس: ("يضع فيها قدمه") قال المهلب: أي: ما قدم لها من خلقه، وسبق لها به مشيئته ووعده ممن يدخلها ومثله قوله تعالى:{لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] أي: متقدم صدق
(3)
.
وقال النضر بن شميل: معنى القدم هنا: (الكفار)
(4)
الذين سبق في علم الله تعالى أنهم من أهل النار، وحمل القدم على أنه المتقدم؛
(1)
من (ص 2).
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 16.
(3)
"شرح ابن بطال" 6/ 120.
(4)
من (ص 2).
لأن العرب تقول للشيء المتقدم: قدم. وقال ابن الأعرابي: القدم: هو المتقدم في الشرف
(1)
، والفضل خصوصًا، أراد به ما تقدم من الشرف وما يفتخر به. وقيل: القدم خلق يخلقه الله يوم القيامة، فيسميه قدمًا، ويضيفه إليه من طريق الفعل والملك، يضيفه في النار فتمتلئ النار منه. وقيل: المراد به: قدم بعض خلقه فأضيف إليه، كما يقال: ضرب الأمير اللص. على معنى أنه عن أمره، وقد أنكر بعض العلماء أن يتحدث بمثل هذا من الأحاديث.
وقيل: أراد الوعد من قوله {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} وذكر الداودي عن بعض المفسرين أن معنى قوله {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (أي: ليس فيَّ من مزيد)
(2)
، وهذا خلاف ما في هذا الحديث، ومن روى: يضع رجله. غير ثابت، وعلى تقديره فلا يخلو من الوجوه السالفة: إما أن يريد رجل بعض خلقه، فأضيف إليه ملكًا وفعلاً، أو يريد به رجل المتجبر، المتكبر من خلقه، إما أولهم فهو إبليس، أو من بعده من أتباعه، وقيل: الرجل في اللغة: الجماعة الكثيرة يشبهها برجل الجراد
(3)
.
فصل:
وقوله: "فتقول: قط قط" أي: حسبي اكتفأت وامتلأت. وقيل: إن ذلك حكايته صوت جهنم. قال الجوهري: وإذا كانت بمعنى حسبي، وهو الاكتفاء، فهي مفتوحة القاف ساكنة الطاء
(4)
.
(1)
"تهذيب اللغة" 3/ 2902.
(2)
من (ص 2).
(3)
مذهب السلف أن الصفات تمرر كما جاءت ويؤمن بها ولا تفسر ولا يتوهم فيها شيء، وقد تقدم بيان ذلك، وسيأتي مفصلاً في كتاب التوحيد إن شاء الله.
(4)
"الصحاح" 3/ 1153.
قال ابن التين: رويناه بكسرها. وفي رواية أبي ذر: بكسر القاف.
فصل:
قوله: ("ويُزوى بعضها إلى بعض") أي: يُضم، ويروى بضم الياء وسكون الزاي.
13 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ: لَعَمْرُ اللهِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72] لَعَيْشُكَ.
6662 -
حَدَّثَنَا الأُوَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ح.
وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللهُ، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الْحَدِيثِ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: لَعَمْرُ اللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ. [انظر: 2593 - مسلم: 2770 - فتح 11/ 546].
هذا مذكور في "تفسير الضحاك" عنه، وفي تفسيره رواية إسماعيل بن أبي زياد الشامي، وروينا في كتاب:"الأيمان والنذور" لابن أبي عاصم، عن إبراهيم بن المنذر، ثنا عبد الرحمن بن المغيرة، ثنا عبد الرحمن بن عباس، عن دَلْهم بن الأسود، عن جده عبد الله، عن عمه لقيط بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعمر إلهك". الحديث
ثم ساق البخاري حديث عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللهُ، فَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: لَعَمْرُ الله لنَقْتُلَنَّهُ.
ما ذكره في تفسير {لَعَمْرُكَ} هو في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 72]، وروى عنه أبو الجوزاء معناه: بحياتك
(1)
.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 7/ 526.
قال أبو محمد: ما سمعت الله حلف بحياة أحد غير محمد، وهي فضيلة له.
قال الزجاجي: لعمرو الله، كأنه حلف ببقائه تعالى له.
قال الجوهري: عمر- بالكسر- يعمر عَمْرًا وعُمْرًا على غير قياس؛ لأن قياس مصدره بالتحريك أي: عاش زمانًا طويلا، وهما وإن كانا مصدرين بمعنى، إلا أنه استعمل في القسم المفتوح، فإذا أدخلت عليه اللام رفعته بالابتداء، فقلت: لعمرو الله، والسلام: لتوكيد الابتداء والخبر محذوف، أي: ما أقسم به، فإن لم تأت باللام نصبته نصب المصادر، فقلت:(عمر الله)
(1)
ما فعلت كذا، وعمرك الله ما فعلت، ومعنى لعمرو الله وعمر الله: أحلف ببقاء الله ودوامه، فإذا قلت: عمرك الله فكأنك قلت: بتعميرك الله. أي: بإقرارك له بالبقاء
(2)
.
وقد سلف أن في كتاب محمد فيمن حلف، فقال: لعمر الله: لا يعجبني، وأخاف أن يكون يمينًا قط وقد اختلف العلماء فيه، أعني في قوله: لعمر الله: فقال مالك والكوفيون: هي يمين. وقال الشافعي: كناية، وهو قول إسحاق.
حجة الأولين أن أهل اللغة قالوا: إنها بمعنى بقاء الله، وبقاؤه صفة ذاته تعالى، فهي لفظة موضوعة لليمين فوجب فيها الكفارة.
وأما قوله: لعمري. فقال الحسن البصري: عليه الكفارة إذا حنث فيها، وسائر الفقهاء لا يرون فيها كفارة؛ لأنها ليست بيمين عندهم.
(1)
من (ص 2).
(2)
"الصحاح" 2/ 756.
وأما الآية السالفة وهي: {لَعَمْرُكَ} فإن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وقد نهى الشارع عن الحلف بغير الله.
فصل:
قوله: (فاستعذر من عبد الله بن أبي)، أي: قال: من يعذرني منه. أي: من يصحبني فاللائمة عليه، فيعذرني في أمره ولا يلومني.
وقال الداودي: يريد أستنصر وأستعين بمن يكفنيه.
14 - باب قول الله عز وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]
6663 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ} [البقرة:225] قَالَ: قَالَتْ: أُنْزِلَتْ فِي قَوْلِهِ: لَا والله، وَبَلَى والله. [انظر: 4613 - فتح 11/ 547]
ساق فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] قَالَتْ: نزلت في قول الرجل: لَا والله، وَبَلَى والله.
هذا أسلفنا الكلام عليه قريبًا في التفسير في الآية المذكورة وأوضحنا هناك ولا بأس بإعادتها لبعد مكانها بزيادات، فنقول: اختلف العلماء في لغو اليمين، فذهب إلى قول عائشة رضي الله عنها أنه: لا والله، وبلى والله مما لا يعتقده قلب الحالف ولا يقصده ابن عمر، وكان يسمع بعض ولده يحلف عشرة أيمان: لا والله، وبلى والله، فلا يأمره بشيء، وابن عباس رضي الله عنهما في رواية، وروي ذلك عن القاسم وعطاء وعكرمة والحكم والشعبي في رواية ابن عون عنه، وطاوس والحسن والنخعي، وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: لا والله، وبلى والله: لغة من لغات العرب، لا يراد بها اليمين، وهي من صلة الكلام. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي، إلا أن أبا حنيفة قال: اللغو: قول الرجل: لا والله، وبلى والله، فيما يظن أنه صادق على الماضي. وعند
الشافعي: سواء كانت في الماضي أو المستقبل.
وفيها قول ثان: روي عن ابن عباس أنه هو أن يحلف الرجل على الشيء، يعتقد أنه كما حلف عليه، ثم وجد على غير ذلك ولما ذكر
ابن عبد البر كلام أبي قلابة قال: وإلى هذا ذهب الشافعي والأوزاعي وابن حي، قال: وذكر الشافعي أن اللغو في كلام العرب الكلام غير المعقود عليه، وهو معنى ما قالته عائشة رضي الله عنها وروي أيضًا عن عائشة، ذكره ابن وهب، عن عمر بن قيس، عن عطاء، عنها.
وروى مثله أيضًا إسماعيلُ القاضي والنخعي والحسن وقتادة، وهو قول ربيعة ومكحول ومالك والليث والأوزاعي، قال مالك: وأحسن ما سمعت في اللغو هذا
(1)
.
قال ابن عبد البر: وهو قول أحمد وإسحاق أيضًا ونقل غيره عن أحمد أنه قال: هو الوجهان جميعًا. وجعل مالك لا والله، وبلى والله موضوعة لليمين، ورأى فيها الكفارة إلا ألا يراد بها اليمين، وجعلها الشافعي ومن لم ير فيها الكراهة موضوعة لغير اليمين، إلا أن يراد بها اليمين.
ورأى الشافعي في اللغو الذي عند مالك الكفارة؛ لأن حقيقة اللغو عنده: ما لم يقصد له الحالف، لكن سبق على لسانه، كأنه يريد أن يتكلم بشيء، فيبدر منه اليمين، كذا ذكره ابن بطال، وليس كما ذكر من حقيقة ذلك عنده، بل مقتضى مذهبه مذهب مالك أيضًا، وأنه لا حنث عليه في ذلك.
قال القاضي إسماعيل: وأعلى الرواية في ذلك وأمثلها في تأويل الآية إنما جاء على قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وهو لا يريد اليمين، فلم يكن عليه يمين؛ لأنه لم ينوها، وقال عليه السلام:"إنما الأعمال بالنيات".
وما جرى على لسان الرجل من قول لم يقصد له ولا نواه، سقطت
(1)
"الاستذكار" 15/ 62.
عنه الكفارة، إذ جعل بمنزلة من لم يحلف. ألا ترى قول أبي قلابة في قوله: لا والله، وبلى والله. أنها في لغة العرب ليست بيمين، وحكي أقوال أخر في لغو اليمين:
أحدها: رواية طاوس، عن ابن عباس قال: اللغو أن يحلف الرجل وهو غضبان.
ثانيها: قال الشعبي: إنه كل يمين على معصية فليست لها كفارة، ثم قال: لم يكفر للشيطان.
ثالثها: قول سعيد بن جبير: إنه تحريم الحلال، كقول الرجل: هذا الطعام علي حرام. فأكله فلا كفارة عليه، وحكى أبو عمر هذا، عن ابن عباس رضي الله عنهما، ثم قال: وروي عن سعيد بن جبير، رواه عنه أبو بشر وداود بن أبي هند أيضًا. قال القاضي إسماعيل: وقول سعيد بن جبير ليس على مجرى ما ذهب إليه أهل العلم، فلا حجة له، وإنما يرجع معنى قوله إلى معنى الحديث الذي فيه:"فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" لأن من حلف أن لا يأكل طعامًا، أو لا يدخل على أخيه، فقد حرم على نفسه ما أحل الله له. ثم قال غيره: وأما قول ابن عباس: اللغو يمين الغضبان. وإنما يشبه الغاضب لمن لم يقصد إلى اليمين ولا أراده، وكأنه غلبه الغضب، فهو كمن لم ينو اليمين، فلا كفارة عليه، وهذا معنى ضعيف؛ لأن جمهور الفقهاء على أن الغاضب عندهم قاصد إلى أفعاله، والغضب يزيد تأكيدًا وقوة في قصده، وسيأتي مذاهب العلماء فيمن حلف على معصية أو نذرها قريبًا في باب: النذر فيما لا يملك. "ولا نذر في معصية"
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 6/ 122 - 124.
فصل:
وحديث عائشة رضي الله عنها لفظ "الموطأ" فيه: لا والله، وبلى والله
(1)
، وفي "الاستذكار" لابن عبد البر: قالت عائشة رضي الله عنها: اللغو الذي ذكره الله. قال أبو عمر: تفرد يحيى بن سعيد بذكر السبب في نزول الآية الكريمة، ولم يذكره أحد غيره
(2)
.
وفي كتاب ابن أبي عاصم: ثنا كثير بن عبيد، أنا محمد بن حرب، ثنا الزبيدي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: لغو اليمين ما كان في المراء أو الهزل أو المراجعة في الحديث الذي لا يعقد عليه القلب، وإنما الكفارة في كل يمين حلفت فيها على حد من الأمر في غضب أو غيره: لتفعلن أو لتتركن، فذلك عقد الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة، قال الله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225].
ولأبي داود عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو قول الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله"
(3)
. قال عبد الحق: رواه جماعة عن عائشة رضي الله عنها قولها
(4)
.
وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عنها قالت في الآية: هم القوم يتدارءون، يقول أحدهم: لا والله، وبلى والله، وكلا والله، لا تعقد عليه قلوبهم
(5)
.
(1)
"الموطأ" ص 295.
(2)
"الاستذكار" 15/ 60.
(3)
"سنن أبي داود"(3254).
(4)
"الأحكام الوسطي" 4/ 30.
(5)
"المصنف" 8/ 474 (15952).
وروى ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب أن عروة حدثه، عن عائشة قالت: أيمان اللغو ما كان في المراء والقول والمزاحة، والحديث الذي لا تعقد عليه القلوب.
قال ابن عبد البر: وروي مثل قول مالك، عن عائشة، من طريق لا يثبت ذكره ابن وهب، عن عمر بن قيس المتروك، عن عطاء، عنها ولم يتابع عمر أيضًا على ذلك، فقد خالفه ابن جريج، وغيره، عن عطاء، فرواه على حسب ما رواه مالك أنه قول الرجل: لا والله، وبلى والله. ويقولون: إن عطاء لم يسمع من عائشة غير هذا الحديث في حين مسيره إليها مع عبيد بن عمير.
وذكر ابن وهب أيضًا، عن الثقة عنده، عن ابن شهاب، عن عروة، عنها، مثل رواية عمر بن قيس، عن عطاء، وهذا لا يصح؛ لأن رواية ابن وهب هذِه عن الثقة عنده تعارضها رواية ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عنها قالت: أيمان اللغو فيما كان في المراء، والقول الذي لا يعقد عليه القلب. وهذا معنى رواية مالك عن هشام، عن أبيه، عنها، دون ما ذهب إليه في معنى لغو اليمين، ويروى مثل قول مالك أيضًا في اللغو عن الحسن البصري، ورواه زرارة بن أوفى، وقتادة، ومجاهد. ورواية عن الشعبي رواها عمرو بن دينار. ورواية أيضًا عن النخعي، رواها عن مغيرة ومنصور
(1)
.
قال أبو محمد ابن حزم: لغو اليمين لا كفارة فيه ولا إثم، وعن ابن عباس ولا يصح عنه من طريق الكلبي: لغو اليمين هو قول الرجل: هذا والله فلان، وليس بفلان
(2)
.
(1)
"الاستذكار" 15/ 61 - 63.
(2)
"المحلى" 8/ 34.
قال: وقد تناقض في هذا المالكيون والحنفيون، فأسقطوا الكفارة هنا وأوجبوها على من فعل ما حلف عليه ناسيًا أو مكرهًا، ولا فرق بينهما، وأيضاً فإنهم رأوا اللغو في اليمين بالله، ولم يروه في اليمين بغيره، كالمشي إلى مكة والطلاق وغير ذلك. قال: ومن حلف على ما لا يدري أهو كذلك أم لا، وعلى ما قد يكون ولا يكون، كمن حلف: لينزلن المطر غدًا. فنزل أو لم ينزل، فلا كفارة عليه في شيء من ذلك، وقد صح أن عمر يحلف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابن صياد هو الدجال، ولم يأمره بكفارة. وقال مالك: عليه الكفارة، كان ما حلف عليه أو لم يكن.
15 - باب (إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا)
(1)
فِي الأَيْمَانِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 56]. وَقَالَ: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف: 73].
6664 -
حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ قَالَ:«إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ» [انظر: 2528 - مسلم: 127 - فتح 11/ 548]
6665 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الهَيْثَمِ -أَوْ مُحَمَّدٌ، عَنْهُ- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ إِذْ قَامَ: إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسِبُ يَا رَسُولَ اللهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا. ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كُنْتُ أَحْسِبُ كَذَا وَكَذَا -لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ- فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» لَهُنَّ كُلِّهِنَّ يَوْمَئِذٍ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ قَالَ:«افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» . [انظر: 83 - مسلم: 1306 - فتح 11/ 549]
6666 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: «لَا حَرَجَ» . قَالَ آخَرُ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. قَالَ: «لَا حَرَجَ» . قَالَ آخَرُ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: «لَا حَرَجَ» [انظر: 84 - مسلم: 1307 - فتح 11/ 549]
6667 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يُصَلِّي وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ:«ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . فَرَجَعَ فَصَلَّى ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَالَ:«وَعَلَيْكَ، ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . قَالَ فِي
(1)
من (ص 2).
الثَّالِثَةِ فَأَعْلِمْنِي. قَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِىَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» . [انظر: 757 - مسلم: 397 - فتح 11/ 549]
6668 -
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي المَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: أَبِي أَبِي. قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللهُ لَكُمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَوَاللهِ مَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهَا بَقِيَّةٌ حَتَّى لَقِيَ اللهَ. [انظر: 3390 - فتح 11/ 549]
6669 -
حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَوْفٌ، عَنْ خِلَاسٍ وَمُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهْوَ صَائِمٌ
فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ» [انظر: 1933 - مسلم: 115 - فتح 11/ 549]
6670 -
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ، فَمَضَى فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ انْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَكَبَّرَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَسَلَّمَ. [انظر: 829 - مسلم: 570 - فتح 11/ 549]
6671 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَزَادَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا -قَالَ مَنْصُورٌ: لَا أَدْرِي إِبْرَاهِيمُ وَهِمَ أَمْ عَلْقَمَةُ- قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ قَالَ:«وَمَا ذَاكَ؟» . قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: «هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ لِمَنْ
لَا يَدْرِي، زَادَ فِي صَلَاتِهِ أَمْ نَقَصَ، فَيَتَحَرَّى الصَّوَابَ، فَيُتِمُّ مَا بَقِيَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ» [انظر:401 - مسلم: 572 - فتح 11/ 550]
6672 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73] قَالَ: «كَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا» [انظر: 74 - مسلم: 2380 - فتح 11/ 550]
6673 -
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَكَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ لَهُمْ، فَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِيَأْكُلَ ضَيْفُهُمْ، فَذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي عَنَاقٌ جَذَعٌ، عَنَاقُ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ. فَكَانَ ابْنُ عَوْنٍ يَقِفُ فِي هَذَا المَكَانِ عَنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ، وَيُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَيَقِفُ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَيَقُولُ: لَا أَدْرِي أَبَلَغَتِ الرُّخْصَةُ غَيْرَهُ أَمْ لَا. [انظر: 951 - مسلم: 1961 - فتح 11/ 550] رَوَاهُ أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6674 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ عِيدٍ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ ذَبَحَ فَلْيُبَدِّلْ مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللهِ» [انظر: 985 - مسلم: 1960 - فتح 11/ 550]
أخرج البخاري الآية الأولى في كل شيء، وغيره قال: هي في قصة مخصوصة، إنما في الشخص [يقول]: يا أبي وليس هو ابنه، أو في الرجل يأتي امرأته حائضًا (ولا يعلم)
(1)
، ألا ترى أن القتل خطأ يوجب الدية، وإتلاف المال كذلك يوجب الغرم، وساق في الباب
(1)
من (ص 2).
أحاديث سنقف عليها.
واختلف العلماء فيمن حنث ناسيًا هل تجب عليه كفارة أم لا؟ على قولين:
أحدهما: لا. قال عطاء وعمرو بن دينار في الرجل يحلف بالطلاق على أمر أن لا يفعله ففعله ناسيًا، لا شيء عليه، وقاله إسحاق أيضًا.
وثانيهما: نعم -وهو قول طائفة- في كل شيء الكفارة لازمة عليه سواء كان ظهارًا أو طلاقًا أو عتاقًا، وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والزهري وربيعة، وبه قال مالك والكوفيون واختلف قول الشافعي، فمرة قال: لا يحنث وهو الأظهر، وقال مرة: يحنث. وفيه قول ثالث: أنه يحنث (في الطلاق خاصة، وهو قول أحمد.
وحكى ابن هبيرة عنه ثلاث روايات: يحنث)
(1)
مطلقًا، لا مطلقًا، إن كانت اليمين بالله تعالى أو بالظهار لم يحنث، وإن كانت بالطلاق أو العتاق، حنث. احتج المسقط لها بالكتاب والسنة، أما الكتاب فبين تعالى أنه لا جناح علينا إلا فيما (عقدت)
(2)
قلوبنا. والآية الثانية {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} والسنة قوله عليه السلام: "وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
(3)
فوجب أن يكون موضوعًا من كل وجه إلا أن يقوم دليل. قالوا: ووجدنا النسيان لا حكم له في الشرع، مثل كلام الناسي في الصلاة، فوجب أن يحمل عليه كلامه
(1)
من (ص 2).
(2)
في (ص 2): تعمدت.
(3)
رواه ابن ماجه (2045) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا.
والحديث صححه الألباني في "الإرواء" 1/ 123 (82).
إذا حنث ناسيًا عارضهم الموجب لها، قال: الآية لا تنفي وجوب الكفارة؟ لأنه قد أوقع الحنث، فلا يكون عليه جناح، والكفارة تجب، وإنما أراد برفع الجناح الضيق والإثم، ألا ترى أن الكفارة تجب في قتل الخطأ مع رفع الجناح والإثم، فإن المنفي:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [البقرة: 198] لا إثم ولا كفارة. عارضهم الموجب: المراد: لا إثم؛ لأنه وجد منه الفعل على وجه ينسب إليه كالعامد، واعترض بالمكره، فأجابوا بأن الفعل لا ينسب إليه بل إلى (مراده)
(1)
.
فصل:
قال المهلب: هذِه الأحاديث التي أدخلها البخاري في الباب، إنما حاول فيها إثبات العذر بالجهل والنسيان وإسقاط الكفارة، وجعلها كلها في معنى واحد عند الله، واستدل بأفعاله وأقواله، وما بسطه من عذر من جهل أو تأول فأخطأ، وبما حكم به في النسيان في الصلاة وغيرها.
والذي يوافق تبويبه قوله عليه السلام "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها". وحديث أبي هريرة: "من أكل ناسيًا فليتم صومه" ولم يأمره بالإعادة.
وحديث ابن بحينة فيما نسبه عليه السلام من الجلوس في الصلاة، فلم يعده على حسب ما نسيه ولا قضاه، وكذلك نسيان موسى لم يطالب به الخضر بعد أن كان شرط عليه أن لا يسأله عن شيء، فلما سمح له الخضر وهو عبد من عباد الله كان الله أولى بالعفو عن مثل ذلك، فصدر به البخاري على سبيل قوة الرجاء في عفو الله، وكذا قوله
(1)
في (ص 2): من أكره.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5] يعني في قصة التبني الذي قد كان لصق بقلوب العرب، وغلب عليهم من نسبة المتبنين إلى من تبناهم، لا إلى آبائهم، فعذرهم الله بغلبة العادة وقد آخذهم بما تعمدوه من ذلك. وأما غير ذلك بما ذكر من المعاني في هذا الباب، فإنما هي على التشبيه.
فأما قوله: "لا حرج" فيما قدمه من النسك، فإنما عذرهم بالجهالة لحدود ما أنزل الله في كتابه، وكان فرض الحج لم تتبين كيفيته عند العرب، حتى كان عليه السلام هو الذي يتولى بيانه عملًا بنفسه، فلم يوجب على المخطئ في التقديم والتأخير فدية لغلبة الجهالة. فإن قلت: في أحاديث الباب ما يدل على السقوط وما يدل على الإثبات لحديث: "ارجع فصل فإنك لم تصل" وحديث ابن مسعود "فيتحرى الصواب" وحديث ابن نيار في الأضحية.
قلت: أما الأول فإنه كان قد تقدم العلم بحدود الصلاة من الشارع، فلم يعذر الناقص منها، فأمره بالإعادة، ثم أوسعه لما حلف له أنه لا يعرف غير هذا ما أوسع أهل الجهالة من أنه لم يأمره بعد يمينه بالإعادة لما سلف قبلها.
وأما الثاني: فمختلف معناه؛ لأن المتروك من السنن نسيانًا لا يرجع إليه، بل يجبره بغيره من السنن، كما جبر الجلسة المتروكة بالسجدتين المستويتين. وأما ما ترك من الفرض فلابد من الإتيان به، وإرغام أنف الشيطان بالسجود الذي بتركه خلد في الجحيم، وذلك لتقدم المعرفة بهيئة الصلاة سننًا وفرائض.
وأما إعادة الأضحية، فعذر الشارع ابن نيار؛ بما توهمه جائزًا له من إكرام الضيف، وإطعام الجيران، فجوز عنه ما لا يجزئ عن أحد بعده،
وأوجب عليه الإعادة؛ لتقدم المعرفة بالسنن، وقطع الذريعة إلى الاشتغال بالأكل عن الصلاة الفاضلة التي أمر الشارع عليه السلام بإخراج ذوات الخدور والحيض من النساء إليها؛ لما في شهودها من الخير، (وبركة)
(1)
دعوة المسلمين.
وأما حديث حذيفة فإنه أسقط الدية عن قاتلي أبيه، وعذرهم بالجهالة؛ لأن الدية كانت عليهم بنص القرآن، وبقيت الكفارة عليهم فيما بينهم، وبين ربهم عز وجل، وقد يدخل البخاري نصوص الأحاديث المختلفة الألفاظ لاختلاف الناس فيها، ييسرها لأهل النظر والفقه، (واستنبط)
(2)
كل واحد منهم مذهبه، كحديث جابر في بيع الجمل فيه لفظ اشتراط ظهره، ولفظة فقار ظهره، والإفقار تفضل، والاشتراط كراء ولذا أدخل البخاري في هذا الباب أحاديث في ظاهرها ما يتعارض لينظره الناظر، ويتدبر المستبحر، وإنما يصح معنى الحديث في نسيان اليمين إذا فات بالموت، فحينئذٍ يمكن أن يعذر بالنسيان، ويرجى له تجاوز الله وعفوه، وأما متى ذكره فالكفارة لازمة
(3)
.
فصل:
حاصل ما ذكره في الباب أحد عشر حديثًا:
أحدها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَرْفَعُهُ قَالَ: "إِنَّ اللهَ عز وجل تَجَاوَزَ لأمُّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ (به)
(4)
".
(1)
من (ص 2).
(2)
في (ص 2): ويبسط.
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 127 - 130.
(4)
من (ص 2).
وهو رد على القاضي أبي بكر القائل أن من هم بمعصية ووطن نفسه عليها أنه مأخوذ بذلك؛ لأنه قال: "ما لم يعمل به أو يتكلم به".
ثانيها: حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ".
ثالثها: حديث ابن عَبَّاسٍ مثله.
وهو ظاهر في نفي الإثم والهدي. وبه قال مالك، وخالف ابن الماجشون في الهدي، واحتج بقوله تعالى:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، وفي مسلم حلقت قبل أن أرمي؟ قال:"ارم ولا حرج"
(1)
.
وتحمله مالك على نفي الاثم وتَوجب الهدي، وغيره حمله عليهما.
رابعها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ في المسيء صلاته، وفيه:"ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا".
وهو رد على من وقف في إيجاب الطمأنينة في الجلوس بين السجدتين.
قال الداودي: وقوله "ارجج فصلِّ" ليس من هذا الباب.
قلت: بل هو منه؛ لأنه لم يؤثمه، وقد سلف وجهه أيضًا.
وذكره الطمأنينة في الأركان حجة للمشهور من مذهب مالك أنها فرض، وهو مذهبنا، نعم لم يذكره في الاعتدال في الروايات المشهورة، ووردت من خارج الصحيح بإسناد صحيح.
وقوله: ("ثم اقرأ بما تيسير معك من القرآن") احتج بظاهره
(1)
مسلم (1306/ 333).
أبو حنيفة على ما قرأ به الإنسان أجزأه، والجمهور حملوه على أن ذلك بعد الفاتحة، أو كان ذلك قبل أن تفرض، وأعلى منهما أنه صح أنه أمره بقراءة الفاتحة، وقد أسلفناه في موضعه
الحديث الخامس:
حديث عَائِشَةَ: هُزِمَ المُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً تُعْرَفُ فِيهِمْ، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ: أي عِبَادَ اللهِ أُخْرَاكُمْ فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: أَبِي. قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا انْحَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللهُ لَكُمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَوَاللهِ مَا زالَتْ في حُذَيْفَةَ بَقِيَّةٌ حَتَّى لَقِيَ اللهَ.
معنى (ما انحجزوا): لم يمتنعوا، يقال: حجزه يحجزه حجزًا، أي: منعه، ولم ينكر الشارع عليهم لجهلهم.
الحديث السادس:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الأكل ناسيا، وهو حجة على أنه لا قضاء عليه خلافًا لمالك في الواجب
وقد سلف أنه صح أنه لا قضاء عليه، ولا كفارة.
الحديث السابع:
حديث عَبْدِ اللهِ بن بُحَيْنَةَ في تركه عليه السلام الجلوس في الواجب، وفيه: وَسَجَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ.
الثامن:
حديث ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه في صلاته عليه السلام الظهر فزاد أو نقص فيها.
والأول حجة لمالك على أبي حنيفة في قوله: السجود كله بعد
السلام، وهذا سجد قبله في النقصان، ونُسب ابن بحينة
(1)
إلى أمه لأنها كانت من بني عبد المطلب، فنُسب إليها.
قال الداودي: قوله: قيل: يا رسول الله، أم نسيت؟ في حديث ابن مسعود، هذا يدل أنهم علموا أنه صلى قبل (أربع)
(2)
، وأنهم علموا ما صلى، وهذا لا يعرف فوته إلا بعد السلام، والحديث فيه بعض الوهم إلا أن آخره مفسرًا يستغني به عن أول الحديث إذ فيه قبله: قال منصور: لا أدري إبراهيم وَهَم أم علقمة؟ وقوله: وَهَم هو بفتح الهاء. قال الجوهري: وهمت في الحساب، أوهم أي: غلطت وسهوت، ووهمت في الشيء بالفتح: أهم وهمًا إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره
(3)
.
الحديث التاسع:
حديث سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ ثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: {قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73]، قَالَ:"كَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا".
(وجهه)
(4)
أنه لا إثم في قول موسى عليه السلام ولا عقوبة، إنما سأله أن لا يفارقه.
وقوله: ("كانت الأولى من موسى نسيانًا") يعني: أنه لم ينس في الثانية ما عهد إليه فيه، ولكنه رأى شيئًا هو عنده منكرًا، فلم يلزم نفسه
(1)
ورد بهامش الأصل: هي بحينة بنت الحارث بن المطلب بن عبد مناف، فالصواب حذف (عبد) وإن وقع في الصحيح حليف بني عبد المطلب فالصواب حذف عبد، والله أعلم.
(2)
كذا بالأصل وعليها: كذا. ولعلها: أربعًا.
(3)
"الصحاح" 5/ 2055.
(4)
في (ص 2): وحيث.
ما شرط، فلما قال له {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} الآية [الكهف: 75] علم أنه لم يفعل إلا ما أمر به، فقال:{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا} [الكهف: 76] وما يحتمل أن تكون الثالثة إلا نسيانًا.
الحديث العاشر:
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: كَتَبَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: ثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، ثَنَا ابن عَوْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ رضي الله عنهما: وَكَانَ عِنْدَهُمْ ضَيْفٌ لَهُمْ، فَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ؛ لِيَأْكُلَ ضَيْفُهُمْ، فَذَبَحُوا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الذَّبْحَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي عَنَاقٌ جَذَعٌ، عَنَاقُ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ. فَكَانَ ابن عَوْنٍ يَقِفُ فِي هذا المَكَانِ عَنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ، وَيُحَدّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ بِمِثْلِ هذا الحَدِيثِ، وَيَقِفُ في هذا المَكَانِ وَيَقُولُ: لَا أَدْرِي أَبَلَغَتِ الرُّخْصَةُ غَيْرَهُ أَمْ لَا.
رَوَاهُ أَيُّوبُ عَنِ ابن سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فأمره أن يعيد الذبح) هو بكسر الذال، قال ابن التين: كذا رويناه، والذبح بالكسر: ما يذبح، وبالفتح مصدر ذبحت، والعناق: الأنثى من أولاد المعز، والحديث قال على أن من ذبح قبل الصلاة يعيد الذبح.
الحديث الحادي عشر:
حديث جندب: شَهِدْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى يَوْمَ عِيدٍ ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ قَالَ: "مَنْ ذَبَحَ فَلْيُبَدِّلْ مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذبَحْ بِاسمِ اللهِ".
وقوله: ("فليبدل") هو بضم الياء من أبدل يبدل.
16 - باب اليَمِينِ الْغَمُوسِ
(وقوله تعالى)
(1)
: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} [النحل: 94]{دَخَلاً} : مَكْرًا وَخِيَانَةً.
6675 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا فِرَاسٌ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» . [6870، 6920 - فتح 11/ 555]
ثم ذكر فيه حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْكَبَائِرُ: الاشْرَاك باللهِ، وَعُقُوقُ الوَ الِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الغَمُوسُ".
الشرح:
اليمين الغموس: هي أن يحلف الرجل على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، ليرضي بذلك أحدًا أو ليعذر، أو ليقتطع بها مالاً، وهي أعظم من أن تكفر، سميت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ولا كفارة فيها عند مالك، قال مالك: هي أعظم من ذلك.
قال ابن عبد البر: ولا تصح إلا في الماضي. قال: وأكثر أهل العلم لا يرون فيها كفارة
(2)
، ونقله ابن بطال أيضًا عن جمهور العلماء، وبه قال النخعي، والحسن البصري، ومالك، ومن تبعه من أهل المدينة، والأوزاعي في أهل الشام، والثوري، وسائر أهل الكوفة، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وأصحاب الحديث، وفيها قول ثان روي عن الحكم بن عتيبة أن فيها الكفارة
(3)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
"التمهيد" 21/ 248 - 249 بتصرف.
(3)
"شرح ابن بطال" 6/ 130.
قال عطاء: ولا يريد بالكفارة إلا خيرًا وهو قول الشافعي والأوزاعي ومعمر وطائفة من التابعين، فيما ذكره المروزي، فإن اقتطع بها حق امرئ مسلم، أر ذمي فالرد واجب.
قال الشافعي: والكفارة في هذا أوكد منها على من لم يتعمد الحنث بيمينه. قال محمد بن نصر المروزي في كتابه: "اختلاف العلماء" بعد أن نقل أنه لا كفارة عليه في قول عامة العلماء: مالك، وسفيان، وأصحاب الرأي، وأحمد، وأبي ثور، وكان الشافعي يقول: يُكَفِّر.
ويروى عن بعض التابعين مثله، أميل إلى قول مالك ومن تبعه
(1)
، واحتج الشافعي بأن قال: جاءت السنة فيمن حلف، ثم رأى خيرًا بما حلف عليه أن يحنث نفسه، ثم يُكَفِّر، وهذا قد تعمد الحنث، وأمر بالكفارة، فقيل له: الشارع أمره أن يحنث. فعلم أن ذلك طاعة، فلما كان عاصيًا والحانث مطيعًا افترق حكمهما، وحجة من نفاها بأحاديث منها: قوله عليه السلام: "من حلف على منبري إنما يتبوأ مقعده من النار"
(2)
ومنها حديث: "من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار"
(3)
ومنها حديث ابن مسعود رضي الله عنه "لقي الله وهو عليه غضبان"
(4)
فذكر الإثم فيها ولم يذكر كفارة ولو كانت لذكرت.
(1)
"اختلاف الفقهاء" ص 479 - 480.
(2)
رواه أبو داود (3246)، وابن ماجه (2325)، وأحمد 3/ 344 من حديث جابر بن عبد الله.
(3)
رواه مسلم برقم (137) كتاب: الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم
…
(4)
سلف برقم (2356)، (2357) كتاب: المساقاة، باب: الخصومة في البئر والقضاء فيها، ورواه مسلم برقم (138) كتاب: الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم ..
وقال ابن المنذر: الحديث في قوله: "فليأت الذي هو خير" فيمن حلف على فعل يفعله في المستقبل فلا يفعله، أر لا يفعله ففعله، وليس هذا المعنى في اليمين الغموس، ألا ترى أن الرجل إذا حلف على المستقبل، أر قال: من غير أن يحلف عليه، فإنما عقد شيئًا قد يكون، وقد لا يكون فخرج من باب: الكذب، قال: ولا نعلم خبرًا يدل على الموجب، والكتاب والسنة دالة على النفي. قال: والأخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها (الرجل)
(1)
يقتطع بها مالا حرامًا هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين.
قال القاضي إسماعيل: وينبغي للشافعي ألا يسمي من تعمد الحلف على الكذب آثمًا إذا كفر يمينه؛ لأن الله تعالى جعل الكفارة في تكفير اليمين، وقد قال تعالى:{وَيَحْلِفُونَ على الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الآية [المجادلة: 14].
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس، أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذبًا ليقتطعه
(2)
. ولا مخالف من الصحابة، فصار كالإجماع، وقد أخبر الشارع أن من فعل ذلك، فقد حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار. قلت: الشافعي رضي الله عنه لم يعتبر في اليمين الانعقاد، وإنما اعتبر العقد فالعقد صورة وجد، فلذلك أوجب الكفارة لعظيم جنايته فيما أتى به، والإثم باطنًا باقٍ. قال ابن المنذر: وأما قوله تعالى {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] فلا يجوز أن يقاس ذلك على اليمين الغموس؛
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه ابن الجعد في "المسند" ص 213 (1408)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" 10/ 38.
لأنه لا يقاس أصل على أصل، ولو جاز قياس أحدهما على الآخر لكان أحدهما فرعًا، وللزم أن يكون على الحالف بهذِه اليمين التي شبهت بالظهار كفارة الظهار، وليس لأحد أن يوجب كفارة إلا حيث أوجبها الله ورسوله.
قالوا: ومن الحجة في إسقاط الكفارة حديث الباب، وقد أجمعت الأمة أن الإشراك بالله، والعقوق، وقتل النفس لا كفارة فيها، وإنما كفارتها تركها والتوبة منها، فكذلك اليمين الغموس حكمها حكم ما ذكر معها في الحديث في سقوط الكفارة. قلت: لا يلزم الشافعي هذا بالجمع بين مختلف الأحكام جائز، ولا يلزع التساوي في الحكم، قال تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ} [النور: 33].
والإيتاء واجب والكفارة لا تجب، وقال:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، والإيتاء واجب والأكل ليس بواجب.
ثم قالوا: والدليل على أن الحالف بها لا يسمى عاقدًا ليمينه قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، والعقد لغة عبارة عن الالتزام والتوثق، يقال: عقدت على نفسي أن أفعل، أي: التزمت، فمن قال: لقيت زيدًا. وما لقيه، فلم يلزم نفسه شيئًا، ولا ألزم غيره أمرًا يجب الامتناع منه والإقدام عليه، فلا يسمى عاقدًا، ومعنى الاستيثاق: هو أن يستوثق بالعقد حتى لا يواقع المحلوف عليه، وهذا معنى لا يحصل في اليمين الغموس؛ لأنها منحلة بوجود الحنث معها، فلا يسمى عقدًا إذ المنعقد ما أمكن حله إذا انعقد.
ألا ترى أن اللغو لما لم يكن يمينًا معقودة لم تجب فيها كفارة، كذلك اليمين الغموس إذ لا يبالى فيها بر ولا حنث ولا لغو، وقد علمت جواب هذا، وسيأتي في آخر باب اليمين فيما لا يملك فصلٌ يتعلق بالباب.
17 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} الآية [آل عمران: 77]
وَقَوْلِهِ تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} الآية [النحل: 95] وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل: 91].
6676 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيل، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ
بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} [آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الآيَةِ. [انظر: 2356 - مسلم: 138 - فتح 11/ 558]
6677 -
فَدَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالُوا: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فِيَّ أُنْزِلَتْ، كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
«بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ» . قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ وَهْوَ فِيهَا فَاجِرٌ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . [انظر: 2357 - مسلم: 138 - فتح 11/ 588].
ثم ساق حديث أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امرِئٍ مُسْلِم، لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غضبَانُ". فَأَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] إلى آخر الآية.
ثم ساق باقي الحديث. وقد سلف.
قال ابن بطال: وبهذه الآيات والحديث احتج الجمهور في أن اليمين الغموس لا كفارة فيها؛ لأنه عليه السلام ذكر في هذِه اليمين المقصود بها الحنث والعصيان والعقوبة والإثم، ولم يذكر فيها كفارة، ولو كانت لذكرت كما ذكر في اليمين المعقودة، فقال:"فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير"
(1)
.
قال: ويقوي هذا المعنى قوله عليه السلام للمتلاعنين بعد تكرار أيمانهما: "الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ "
(2)
ولم يوجب كفارة، ولو وجبت لذكرها كما قال:"هل منكما تائب؟ " قال ابن المنذر: والأخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع بها مالاً حرامًا هي أعظم أن يكفرها ما يكفر اليمين، ولا نعلم سنة تدل على قول من أوجب فيها الكفارة، بل هي دالة على قول من لم يوجبها. قال تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} الآية [البقرة: 224].
قال ابن عباس: هو الرجل يحلف ألا يصل قرابته، فجعل له مخرجًا في التكفير، وأمره ألا يعتل بالله فليكفر يمينه ويبر
(3)
.
وأما الخطابي فقال: فيه (حجة)
(4)
لمن يرى الكفارة فيها
(5)
.
(1)
رواه مسلم (1650) كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها، أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.
(2)
سلف برقم (5311) كتاب الطلاق، باب: صداق الملاعنة، ورواه مسلم (1493/ 6) كتاب: اللعان.
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 133 - 134. أما قول ابن عباس فرواه الطبري في "تفسيره" 2/ 412 - 413.
(4)
من (ص 2).
(5)
"أعلام الحديث" 4/ 2287.
وقال زيد بن أسلم: أي: يكثر الحلف به، وإن كانوا بررة مصلحين بين الناس. وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يحلف أن لا يبر ولا يصل ولا يصلح فيقال له: بر، فيقول: قد حلفت
(1)
. والتقدير: كراهة أن يبروا، ونحو هذا في كتاب محمد قال: هو أن يحلف على أن يبر ولا يصل رحمه، فقال تعالى:{أَنْ تَبَرُّوا} فهو بما يمضي على ما لا يصلح فينبغي أن يكفر ويأتي بما هو خير.
فصل:
يمين الصبر: هو أن يحبس السلطان رجلاً على يمين حتى يحلف بها، ويقال: صبرت يمينه، أي: حلفته بالله، وأصل الصبر: الحبس، (ومعناه: الجبر)
(2)
عليها.
قال الداودي: معناه أن يوقف حتى يحلف على رءوس الناس.
فصل:
واحتج بهذِه الآية في "المعونة" على أن العهد يمين، قال: وذلك يدل على أن العهد والميثاق والكفالة أيمان، ولأن عرف الناس جار بالحلف بهذِه الأشياء، وهي من صفات الذات
(3)
.
فصل:
وقوله: (إذًا يحلف)، هو بنصب الفاء؛ لأنه فعل مستقبل منصوب بـ (إذًا).
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 413 (4358).
(2)
في (ص 2): وفعله بالجبر.
(3)
"المعونة" 1/ 413.
18 - باب اليَمِينِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَفِي الْمَعْصِيَةِ، وَاليمين فِي الْغَضَبِ
6678 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ الْحُمْلَانَ، فَقَالَ:«وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ» . وَوَافَقْتُهُ وَهْوَ غَضْبَانُ فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ: «انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ فَقُلْ: إِنَّ اللهَ -أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُكُمْ» [انظر: 3133 - مسلم: 1649 - فتح 11/ 564]
6679 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ح.
وَحَدَّثَنَا الحَجَّاجُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللهُ مِمَّا قَالُوا، كُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنَ الحَدِيثِ، فَأَنْزَلَ اللهُ:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} العَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا فِي بَرَاءَتِي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ -: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا، بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ. فَأَنْزَلَ اللهُ:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِى الْقُرْبَى} [النور: 22] الآية. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا. [انظر: 2593 - مسلم: 2770 - فتح
11/ 564].
6680 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ، فَوَافَقْتُهُ وَهْوَ غَضْبَانُ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا ثُمَّ قَالَ:«وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا» . [انظر: 3133 - مسلم: 1649 - فتح 11/ 564]
ذكر فيه حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ الحُمْلَانَ، فَقَالَ:"والله لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيءٍ". ووافيته وَهْوَ غَضْبَانُ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ قَالَ:"انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ فَقُلْ: إِنَّ اللهَ عز وجل أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَحْمِلُكُمْ".
وحديث عَائِشَةَ في قصة الإفك مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللهُ، وَكَانَ أبو بكر يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، فقال: والله لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَح شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الذِي قَالَ لِعَائِشَةَ. فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} الآية [النور: 22]. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى والله إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ التِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ: والله لَا أَنْزِعُهَا منه أَبَدًا.
ثم ساق حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه أيضًا: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ، فوافيته وَهْوَ غَضْبَانُ فَاسْتَحْمَلْنَاهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا ثمَّ قَالَ:"والله إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا".
الشرح:
في {وَلَا يَأْتَلِ} قولان:
أحدهما: قول ابن عباس: لا تقسموا ألا تنفعوا أحدًا، وهذا الحديث يؤيده.
ثانيها: أن لا تقصروا، من قولهم: ما أَلَوتُ أن أفعل، التقدير: ولا يحلف (أولو)
(1)
الفضل أن يؤتوا، وعلى قول الكوفيين؛ لئلا يؤتوا، ومن قال: لا تقصروا، التقدير عنده عن (علي)
(2)
: أن
(1)
في (ص 2): أهل.
(2)
من (ص 2).
لا يؤتوا، فإن قلت: يؤتوا للجماعة، وفي الحديث: أن المراد الصديق. قلت: روى الضحاك، قال أبو بكر وغيره من المسلمين: لا نبرُّ أحدًا ممن ذكر عائشة، فنزلت الآية
(1)
.
فصل:
اليمين في ما لا يملك في حديث الأشعريين معناه: أنه عليه السلام حلف ألا يحملهم، فكان ظاهر هذه اليمين الإطلاق والعموم، ثم آنسهم بقوله:"وما عندي ما أحملكم عليه" ومثال هذا: أن يحلف رجل أن لا يهب ولا يتصدق ولا يعتق، وهو في حال يمينه لا يملك، ثم يطرأ له بعد ذلك مال فيهب أو يتصدق أو يعتق، فعند جماعة الفقهاء: أنه تلزمه الكفارة إن فعل شيئًا من ذلك كما فعل الشارع بالأشعريين أنه تحلل من يمينه، وأتى الذي هو خير، ولو حلف ألا يهب ولا يتصدق ما دام معدمًا، وجعل العدم علة لامتناعه من ذلك، ثم طرأ له بعد ذلك مال، لم يلزمه عند الفقهاء كفارة إن وهب أو تصدق أو أعتق؛ لأنه إنما أوقع يمينه على حالة العدم لا على حالة الوجود، هذا ما في حديث أبي موسى من معنى اليمين فيما لا يملك.
فصل:
واختلفوا في هذا المعنى إذا حلف الرجل يعتق ما لا يملك إن ملكه في المستقبل:
فقال مالك: إن عين أحدًا أو قبيلة أو جنسًا لزمه العتق، وإن قال: كل مملوك أملكه أبدًا حر لم يلزمه عتق، فكذلك في الطلاق إن عين قبيلة أو بلدة أو صفة ما لزمه الحنث، وإن لم يعين لم يلزمه.
(1)
"تفسير الطبري" 9/ 290 (25878).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يلزمه الطلاق والعتق، سواء عم أو خص.
وقال الشافعي: لا يلزمه لا ما خص ولا ما عم، وحجة مالك: أن الله تعالى نهى عباده أن يحرموا طيبات ما أحل الله لهم، ومن استثنى موضع نكاح أو عتق فلم يحرم نفسه كل ما أحل الله له.
وحجة الكوفيين أنها طاعة لله، فيلزمه الوفاء بها إن قدر عليها، ومخرجها مخرج النذر كما يقول مالك في الأيمان، وحجة الشافعي قوله عليه السلام:"إلا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم"
(1)
وإذا لم يلزمه النذر فيما لا يملك فاليمين أولى ألا يلزمه، وأما الطلاق؛ فلأن الله تعالى إنما جعله في كتابه بعد النكاح، فقال تعالى:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] و (ثم) لا توجب غير التعقيب.
وأجمعوا إذا حلف بعتق عبيد غيره أنه لا يلزمه شيء من ذلك إلا ابن أبي ليلى، فإنه كان يقول: إن كان موسرًا بأثمانهم لزمه عتقهم، ثم رجع عنه. وإن حلف على غيره مثل: أن يحلف على امرأته النصرانية أن تسلم، أو حلف على رجل ليسلفنه مالاً، أو حلف على غريمه ليقضينه حقه، فإن ضرب لذلك أجلا، وكان الدين إلى أجل أخر إلى الأجل، فإن لم يقض، وإلا يلزم له على قدر ما يراه، هذا قول ابن القاسم، عن مالك، وإن لم يضرب لذلك أجلًا فلا يكون من امرأته موليًا إن حلف بالطلاق، ولكن يلزم
(2)
له على قدر الطلبة إلى المحلوف عليه يفعل ما حلف عليه.
(1)
رواه النسائي 7/ 30، وأحمد 4/ 429 من حديث عمران بن حصين.
(2)
في (ص 2): يتلوم.
وروى ابن الماجشون، عن مالك، وغيره من علماء المدينة: أن حلفه بالطلاق أو العتاق على فعل غيره، مثل حلفه على فعل نفسه في جميع وجوه ذلك، ويدخل عليه الإيلاء في حلفه بالطلاق.
فصل:
وأما حديث عائشة في يمين الصديق أن لا ينفق على مسطح، فإنما هي يمين في ترك طاعة، وفضيلة في حال غضب، ولا خلاف بين علماء المدينة في وجوب الكفارة على من حلف أن يمتنع من فعل الطاعة إذا رأى غير ما حلف عليه، وكذلك فعل الصديق كفر عن يمينه، وجمهور الفقهاء يلزمون الغاضب الكفارة، ويجعلون غضبه مؤكدا ليمينه.
وقد روي عن ابن عباس أن الغضبان يمينه لغو ولا كفارة فيها، وروي عن مسروق والشعبي وجماعة أن الغضبان لا يلزمه يمين ولا طلاق ولا عتق، واحتجوا بقوله عليه السلام:"لا طلاق في إغلاق"، و"لا عتق قبل ملك" وفي حديث الأشعريين ردٌّ لهذِه المقالة؛ لأن الشارع حلف وهو غاضب ثم قال:"والله لا أحلف على يمين" إلى آخره، وهذِه حجة قاطعة، وكذلك فعل الصديق.
وأما حديث "لا طلاق في إغلاق" فليس بثابت، ولا مما يعارض به مثل هذِه الأحاديث الثابتة، كذا في كتاب ابن بطال
(1)
.
والحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه واستدركه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، أخرجوه من حديث عائشة رضي الله عنها.
(1)
"شرح ابن بطال" 6/ 137.
قال الحاكم: وله متابع، فذكره. قال أبو داود: أظنه في الغضب. وقال غيره: الإغلاق: الإكراه، والمحفوظ:"إغلاق" كما هو لفظ ابن ماجه والحاكم، ولفظ أبي داود:"غلاق"
(1)
.
وأما حديث "لا عتق قبل ملك" فهو من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا "لا طلاق إلا فيما تملك (ولا عتق إلا فيما تملك، ولا بيع إلا فيما يملك"، رواه أبو داود بإسناد صحيح)
(2)
، ورواه الأربعة، والحاكم بلفظ:"لا طلاق إلا فيما تملك" وقال: صحيح
الإسناد. وقال الترمذي: هو حسن، وهو أحسن شيء روي في الباب، وقال أيضًا: سألت محمدًا فقلت: أي شيء أصح في الطلاق قبل النكاح؟ فقال: حديث عمرو بن شعيب هذا
(3)
.
وتأول المدنيون والكوفيون الإغلاق على الإكراه هذا معنى اليمين عندهم، وأما اليمين في المعصية فليس هذا الباب موضعه، وسيأتي عند قوله عليه السلام:"من نذر أن يعصي الله، فلا يعصه"
(4)
.
قال ابن حزم: واليمين في الرضا والغضب وعلى أن يطيع وعلى أن يعصي، أر على ما لا طاعة فيه ولا معصية، سواء في كل ما ذكرنا، إن تعمد الحنث في كل ذلك فعليه الكفارة، وإن لم يتعمد الحنث أو لم يعقد اليمين بقلبه فلا كفارة في ذلك؛ لقوله تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] فالكفارة واجبة في كل حنث قصده المرء.
(1)
رواه أبو داود (2193)، وابن ماجه (2046)، والحاكم 2/ 198.
(2)
من (ص 2).
(3)
رواه أبو داود (2190)، والترمذي (1181)، والنسائي 7/ 288 وليس فيه ذكر الطلاق، وابن ماجه (2047)، والحاكم 4/ 300.
(4)
سيأتي قريبًا برقم (6696) باب: النذر في الطاعة.
وقد اختلف السلف في ذلك، فروي عن ابن عباس أن (لغو)
(1)
اليمين هو اليمين في الغضب ولا كفارة فيها، قال ابن حزم: وهو قول لا دليل على صحته، بل البرهان قائم بخلافه، كما روينا من طريق البخاري، فذكر حديث أبي موسى: وافقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان، فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا. الحديث، فصح وجوب الكفارة في اليمين مع الغضب. قال تعالى:{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية [المائدة: 89]. والحالف في الغضب معقد ليمينه فعليه الكفارة.
فأما النهي في المعصية، فروى أبو البختري: أن رجلاً ضافه رجل، فحلف أن لا يأكل، فحلف الضيف أن لا يأكل. فقال ابن مسعود: كُلْ وإني لأظن أحب إليك أن تكفر. فلم ير الكفارة في ذلك إلا استحبابًا، وعن ابن عباس: أنه حلف أن يجلد غلامه مائة جلدة (ثم لم يجلده)
(2)
، فقيل له في ذلك فقال: ألم تر ما صنعت؟ تركته، فذاك بذاك.
وعن سليمان الأحول أنه قال: من حلف على ملك يمينه فكفارته أن لا يضربه، وهو مع الكفارة حسنة
(3)
. وعن إبراهيم فيمن حلف أن يضرب مملوكه فقال: لأن يحنث أحب إليّ من أن يضربه
(4)
. وقال المعتمر: حلفت أن أضرب مملوكًا لي، فنهاني أبي ولم يأمرني بكفارة.
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
(3)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 8/ 497 (16040) عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 91 (12392) عن سليمان الأحول، عن أبي معبد، عن ابن عباس.
(4)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 498 (16041).
وسئل طاوس عمن حلف أن لا يعتق غلامًا له فأعتقه، فقال: أتريد من الكفارة أكثر من هذا؟ وعن الشعبي: اللغو في اليمين: هو كل يمين في معصية فليست لها كفارة كمن يكفر للشيطان، وقال عكرمة: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأته. {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فيه نزلت، وعن مسروق في الرجل يحلف أن لا يصل أباه وأمه، فقال: كفارته تركه، فلما بلغ ذلك ابن جبير قال: لم يصنع شيئًا ليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه
(1)
.
احتج أهل هذِه المقالة بما رويناه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على معصية فلا يمين له، ومن حلف على قطيعة رحم له فلا يمين له"
(2)
.
ولفظ أبي داود: "لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله، ولا في قطيعة رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليدعها وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارة"
(3)
.
ومن حديث ابن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الله، وفي قطيعة الرحم، وفيما لا تملكه"
(4)
.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 5/ 16 من طريق داود، عن سعيد بن جبير قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله تعالى ذكره، يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير ..
(2)
رواه أبو داود (2191) قال الشيخ الألباني: حسن. "صحيح الجامع"(7522).
(3)
أبو داود (3274).
(4)
رواه أبو داود (3272)، وابن حبان 10/ 197 (4355)، والحاكم 4/ 300.
ومن حديث يحيى بن عبيد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه من عند الحجاج بن منهال، قال عليه السلام:"من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير فهو كفارتها"
(1)
ومن طريق العقيلي: حدثنا أحمد بن عمرو، ثنا إبراهيم بن المسْتَمر، حدثنا شعيب بن حيان بن شعيب بن درهم، ثنا يزيد بن أبي معاذ، عن مسلم بن عقرب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من حلف على مملوكه ليضربنه، فإن كفارته أن يدعه له مع كفارته خير"
(2)
، ومن طريق سعيد بن منصور: حدثنا حزم بن أبي حزم القطعي قال: سمعت الحسن يقول: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر لابن آدم في مال غيره، ولا يمين في معصية".
قال ابن حزم: وهذا كله لا يصح، حديث عمرو بن شعيب صحيفة، وحديث عمر منقطع؛ لأن ابن المسيب لم يسمع من عمر شيئًا إلا نعيه النعمان فقط
(3)
.
قلت: في "المجالسة" للدينوري، حدثنا ابن قتيبة، ثنا عبد الرحمن، عن عمه عبد الملك بن قريب، عن طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب، عن أبيه: أن سعيدًا قال: إني لفي الأغيلمة الذين يجرون جعدًا إلى عمر بن الخطاب حتى ضربه يعني جعدًا
(4)
، القائل فيه بعض الغزاة لعمر.
ألا أبلغ أبا حفص رسولاً
…
فدى لك من أخي ثقة إزاري
يعقلهن جعد شيظمي
…
وبئس معقل الذود الظوار
(1)
رواه البيهقي 10/ 34.
(2)
"الضعفاء" للعقيلي 2/ 183.
(3)
"المحلى" 8/ 40 - 43.
(4)
"المجالسة" 5/ 53 (1851).
فصل:
قال ابن حزم: وحديث أبي هريرة رضي الله عنه منقطع فعن يحيى بن عبيد الله، وهو ساقط (متروك)
(1)
.
قلت: قال أبو إسحاق الجوزجاني: أحاديثه متقاربة من حديث أهل الصدق، وقال يعقوب بن سفيان الفسوي: لا بأس به إذا روى عن ثقة، وقال الساجي: يجوز في الزهد والرقاق، وقال إسحاق بن راهويه: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب ثقة، وروى يحيى عنه، وقال ابن عدي: في بعض ما يرويه ما لا يتابع عليه.
قلت: وإيراده يحيى وتركه أباه غير جيد؛ لأنه ممن قال فيه السعدي: لا يعرف، ذكر ذلك مسلم أو غيره
(2)
. وأما حديث مسلم بن عقرب ففيه شعيب بن حيان، وهو ضعيف، ويزيد بن أبي معاذ غير معروف، وحديث الحسن مرسل، فسقط كل ما في هذا الباب.
قال: ووجدنا نص القرآن العظيم يوجب الكفارة في ذلك بعمومه، ومع ذلك قوله عليه السلام:"من حلف على يمين" الحديث، فإن قيل: إن هذا فيما كان من كليهما خير، إلا أن الأخرى أكثر خيرًا، قلنا: هذِه دعوى، بل كل شر في العالم وكل معصية فالبر والتقوى خير منهما، قال تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] ولا خير في جهنم أصلاً
(3)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
انظر: "الكامل" لابن عدي 9/ 31 (2156)، و"تهذيب الكمال" 31/ 449 (6876).
(3)
"المحلى" 8/ 43.
فصل:
ينعطف على اليمين الغموس، قال ابن عبد البر: وقد جعل الله الكفارة في قتل الصيد على العمد، وجاءت السنة فيمن حلف، فرأى غيرها خيرًا منها أن يحنث نفسه ثم يكفر، وهذا قد تعمد الحنث، فأمر بالكفارة.
ومن التابعين القائلين بأن المتعمد للكذب في يمينه يكفر الحكم بن عتيبة، وعطاء بن أبي رباح، قال شعبة: سألت الحكم وحمادًا عن ذلك فقالا: ليس لها كفارة، قال الحكم: والكفارة خير.
وذكر ابن أبي شيبة
(1)
، عن حفص بن غياث، عن الحجاج، عن عطاء: يكفر
(2)
. وقد أسلفنا ذلك عنه، وفي كتاب ابن أبي هبيرة: قال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: يكفر، وفي "المحلى" عن معمر في الرجل يحلف على أمر يتعمده كاذبًا: والله لقد فعلت ولم يفعل، ووالله ما فعلت وقد فعل، قال: أحب إليَّ أن يكفر.
وعن ابن مسعود: كنا نعد من الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس، وعن إبراهيم وحماد بن أبي سليمان والحسن: هي أعظم من أن تكفر، محتجين بما روى أبو ذر مرفوعًا:"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم"، (فذكر منهم)
(3)
"المنفق سلعته بالحلف الكاذب"
(4)
.
(1)
"المصنف" 3/ 84 (12317).
(2)
"الاستذكار" 15/ 66 - 67.
(3)
من (ص 2).
(4)
"المحلى" 8/ 36 والحديث رواه مسلم برقم (106) كتاب: الإيمان، باب: غلظ تحريم إسبال الإزار
…
وسلف حديث عبد الله بن عمرو في عد اليمين الغموس من الكبائر، وروى ابن أبي عاصم من حديث محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ، عن عبد الله بن أبي أمامة، عن أبيه، عن عبد الله بن أنيس يرفعه:"من حلف بالله على يمين صبر فيدخل فيها بمثل جناح بعوضة إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة"
(1)
.
ومن حديث عبد السلام بن عبد الحميد السكوني ثنا أبي، عن عمرو بن قيس، عن واثلة يرفعه:"اليمين الغموس تفتح الديار"
(2)
، وهي الحلف على يمين فاجرة صبرًا ليقتطع بها مال امرئ مسلم.
قال ابن أبي عاصم: وفي الباب عن وائل بن حجر وسعيد بن زيد وأُبي وأبي أمامة الحجازي، قال: ومالك أبو أمامة الحمصي- والحارث بن البرصاء ومعقل بن يسار وأبي سُود وأبي هريرة وعدي بن عَميرة.
قال ابن حزم: وعن عمران بن حصين يرفعه: "من حلف على يمين مصبورة كاذبًا فليتبوأ مقعده من النار"
(3)
.
وعن ابن عمر من طريق ابن الجهم، ثنا يوسف بن الضحاك، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت عنه: أنه عليه السلام قال لرجل "فعلت كذا وكذا"، قال: لا، والذي لا إله إلا هو ما فعلت. فجاء جبريل فقال:"بل فعل، ولكن الله غفر له بالاخلاص".
(1)
رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 4/ 80 (2036) وليس فيه عبد الله بن أبي أمامة.
(2)
رواه الطبراني في "مسند الشاميين" 3/ 397 (2543) بلفظ: "اليمين الغموس الكاذبة تذر الديار بَلَاقِع".
(3)
رواه أبو داود (3242)، وأحمد 4/ 436.
ورواه أبو داود من طريق موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي يحيى، عن ابن عباس رضي الله عنهما
(1)
، وكذا رويناه من طريق ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي يحيى، عن ابن عباس، فإن لم يكن أخطأ فيه يوسف بن الضحاك فهو حديث جيد وإلا فهو حديث ضعيف. قلت: يدور على عطاء.
أخرجه النسائي أيضًا، عن هناد، عن أبي الأحوص، وعن محمد بن إسماعيل بن سمرة، عن وكيع، عن سفيان ثلاثتهم عن عطاء، عن أبي يحيى به
(2)
، ولما رواه البخاري في "تاريخه" أيضًا سمى أبا يحيى زيادًا لمكي
(3)
، وعرفه بولاء قيس بن مخرمة، وهو رد لما ذكره ابن عساكر: أبو يحيى هذا مصدع المعرقب
(4)
.
ورواه ابن أبي عاصم من حديث سفيان، عن عطاء، عن أبي يحيى فلا وجه لتردد ابن حزم، ثم إن عطاء رواه عند ابن أبي عاصم، عن أبي البختري، عن عبيدة السلماني، عن عبد الله بن الزبير بنحوه، وهو دال على عدم ضبط عطاء.
قال ابن حزم: قالوا: لم يأمره بكفارة، وقالوا: إنما الكفارة فيما حلف فيه في المستأنف، قالوا: وقد قال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] قالوا: وحفظها إنما يكون بعد مواقعتها، قال:
(1)
أبو داود (3275).
(2)
"السنن الكبرى" 3/ 489 (6006)، (6007).
(3)
"التاريخ الكبير" 3/ 378 (1271).
(4)
"تاريخ دمشق" 31/ 239، وانظر ترجمة مصدع في "تهذيب الكمال" 28/ 14 (5978)
وهذا كله لا حجة لهم فيه؛ لأن ما ذكروا من الأحاديث ليس في شيء منها إسقاط الكفارة ولا إيجابها، كما أنه ليس فيها ذكر للتوبة أصلاً، وإنما فيها الوعيد الشديد بالعقاب.
قال ابن حزم: وبالحس والمشاهدة ندري نحن ومن خالفنا أن الحالف باليمين الغموس لا يسمى مستلجًّا في أهله، فبطل احتجاجهم في إسقاط الكفارة.
وأما حديث حماد بن سلمة وسفيان فطريق سفيان لا يصح، ولئن صحت طريق حماد فليس فيها لإسقاط الكفارة ذكر، وإنما فيه أن الله قد غفر له بالإخلاص فقط، وليس كل شريعة توجد في كل حديث، ولا شك في أنه مأمور بالتوبة من تعمد الحلف على الكذب، وليس في الخبر لها ذكر، فإن كان سكوته صلى الله عليه وسلم عن ذكر الكفارة حجة في سقوطها، فسكوته عن ذكر التوبة حجة في سقوطها ولا بد، وهم لا يقولون بهذا.
فإن قالوا: قد أمر بالتوبة في نصوص أخر. قلنا: وكذلك أمر بالكفارة في نصوص أخر، فإن احتجوا بقوله: "لا أحلف على يمين
…
" الحديث.
قلنا: لا حجة لكم فيه؛ لأن الكفارة عندنا وعندهم تجب في غير الصورة، وهو من حلف على يمين فرأى غيرها شرًّا منها ففعل الذي هو شر فإن الكفارة عندنا وعندهم واجبة عليه في ذلك.
قال: وأما قولهم هي أعظم من أن تكفر، فمن أين لهم هذا؟ وأين وجدوه؟ وهل هذا إلا بحكم منهم فيعارضون بأن يقال لهم كل ذنب عظيم كان صاحبه أحوج إلى الكفارة، وكانت أوجب عليه منها فيما ليس ذنبًا أصلاً، أو فيما هو صغير من الذنوب، هذا المتعمد في
رمضان، نحن وهم متفقون على أن الكفارة تجب عليه، ولعله أعظم إثمًا من اليمين الغموس، وهم يرون الكفارة على من تعمد إفساد حجه بالهدي، ولعله أعظم إثمًا من حالفٍ بيمين غموس.
وأعجب من هذا قولهم فيمن حلف أن لا يقتل مؤمنًا متعمدًا، وأن (لا يصلي)
(1)
اليوم الصلاة المفروضة، وأن لا يعمل بالربا، وأن لا يزني، ثم لم يصل في يومه ذلك وزنى وقتل النفس التي حرم الله وأربى فإن عليه الكفارة في أيمانه تلك، فيا لله وللمسلمين أيهما أعظم إثمًا؟ فإن توهموا بأن قولهم روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولا يعرف له من الصحابة مخالف.
قلنا: هي رواية منقطعة لا تصح؛ لأن أبا العالية لم يلق ابن مسعود ولا أمثاله من الصحابة، إنما أدرك أصاغر الصحابة كابن عباس وشبهه، وقد خالفوا ابن مسعود في قوله: إن من حلف بالقرآن أو بسورة منه فعليه بكل آية كفارة، ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة
(2)
.
قلت: قد ذكر البخاري في "تاريخه الكبير" قال: قال الأنصاري: عن زائدة، عن هشام، عن حفصة، عن أبي العالية، أنه سمع علي بن أبي طالب. وقال معاذ بن أسد: ثنا الفضل بن موسى، أنا الحسين بن واقد، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: دخلت على أبي بكر الصديق فأكل لحمًا ولم يتوضأ. حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سلم بن قتيبة، عن أبي خلدة قال: سألت أبا العالية: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أسلمت في عامين من بعد موته.
(1)
كذا في الأصل، والصحيح:(يصلي)، والله أعلم.
(2)
"المحلى" 8/ 37 - 40.
وقال آدم: حدثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا العالية -وكان أدرك عليًّا- قال: قال علي: القضاة ثلاثة
(1)
.
وقال في "تاريخه الصغير": صحب عمر بن الخطاب وسمع عليًّا
(2)
، وقال العسكري في "الصحابة": روي أنه دخل على أبي بكر، وقال ابن سعد في "طبقاته": في الطبقة الأولى من أهل البصرة سمع ابن عمر وأبي بن كعب وغيرهما
(3)
.
وقال العجلي: هو من كبار التابعين
(4)
، وعن الآجري قال أبو داود: سمع من عمر وعثمان، وقال: رأيت أبا بكر، وفي "طبقات القراء" قال أبو العالية: قرأت القرآن العظيم على عمر بن الخطاب ثلاث مرات، وقال أبو عمر في "الاستيعاب": هو أحد كبار التابعين بالبصرة. روى عن أبي بكر وعمر، واختلف في سماعه منهما، والصحيح أنه سمع منهما، وفي "طبقات ابن جرير": قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربع سنين.
وذكره أبو نعيم الدكني في "تاريخه" في جملة الرواة عن علي، والعجب أن ابن حزم (نفسه)
(5)
ذكره في الطبقة الأولى من قراء أهل البصرة، وقال: أبو العالية رفيع قرأ القرآن العظيم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ثلاث مرات، واعلم أن لفظ ابن مسعود: كنا نعد من الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس. كذا ذكره آدم بن أبي
(1)
"التاريخ الكبير" 3/ 326 (1103).
(2)
"التاريخ الصغير" 1/ 225.
(3)
"الطبقات الكبرى" 7/ 117. وفيه: سمع عمر.
(4)
"معرفة الثقات" 2/ 412.
(5)
من (ص 2).
إياس في كتاب شعبة، ثنا أبو التياح قال: سمعت رفيعًا أبا العالية يقول: قال ابن مسعود، فذكره. وفي هذا التصريح ما يزيل توهم قد يتوهمه متوهم أن رفيعًا أبا العالية البراء زياد بن فيروز.
19 - باب إِذَا قَالَ: وَاللهِ لَا أَتَكَلَّمُ اليَوْمَ، فَصَلَّى أَوْ قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ كَبَّرَ أَوْ حَمِدَ أَوْ هَلَّلَ، فَهْوَ عَلَى نِيَّتِهِ
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ» . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ: «تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَلِمَةُ التَّقْوَى لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.
6681 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «قُلْ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ» [انظر: 1360 - مسلم: 24 - فتح 11/ 566].
6682 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ» . [انظر: 6406 - مسلم: 2694 - فتح 11/ 566].
6683 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرَى: «مَنْ مَاتَ يَجْعَلُ لله نِدًّا أُدْخِلَ النَّارَ» . وَقُلْتُ أُخْرَى: مَنْ مَاتَ لَا يَجْعَلُ لله نِدًّا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ. [انظر: 1238 - مسلم: 92 - فتح 11/ 566].
أي: إذا كانت نيته لا يتكلم في شيء من أمر الدنيا، فلا حنث عليه إذا سبح.
قال ابن بطال: المعنى عند العلماء في الحالف أن لا يتكلم اليوم أنه
محمول على كلام الناس لا على التلاوة والتسبيح
(1)
.
ثم قال البخاري: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الكلام أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" وقال أبو سفيان: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ} [آل عمران: 64]، وهذا والذي قبله أسلفتهما مسندين
(2)
. وقال مجاهد: كلمة التقوى لا إله إلا الله. قلت: وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في سبحان الله
…
إلى آخره أنها الباقيات الصالحات.
وقال ابن المسيب: قول العبد سبحان الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا إله إلا الله
(3)
.
ثم ساق في الباب ثلاثة أحاديث:
أحدها:
حديث سعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبِ الوَفَاةُ جَاءَهُ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "قُلْ: لَا إله إِلَّا اللهُ. كلِمَةً أُحَاجُّ لَكً بِهَا عِنْدَ اللهِ".
قال الداودي: "اشفع لك بها".
وفيه أن الإيمان ينفع ما لم يغرغر.
الحديث الثاني:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ،
(1)
"شرح ابن بطال" 6/ 138.
(2)
حديث أبي سفيان سلف برقم (7) كتاب بدء الوحي.
(3)
رواهما الطبري في "تفسيره" 8/ 230 - 231 (23091)، (23094).
سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ". وسيأتي آخر الصحيح
(1)
.
الحديث الثالث:
حديث شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَةً وَقُلْتُ أُخْرى: "مَن مَاتَ يَجْعَلُ لله نِدًّا أُدْخِلَ النَّارَ". وَقُلْتُ أُخْرى: مَنْ مَاتَ لَا يَجْعَلُ لله نِدًّا أُدْخِلَ الجَنَّةَ. وقد سلف.
والند بكسر النون: المثل والنظير، وكذلك النديد.
فصل:
وأجمعوا أن الكلام محرم في الصلاة، وأن تلاوة القرآن فيها من القربات إلى الله عز وجل.
وقال زيد بن أرقم: لما نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام
(2)
، فتراه نهى عن القراءة. وقال عليه السلام: "إن صلاتنا هذِه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التهليل والتحميد (وتلاوة)
(3)
القرآن"
(4)
فحكم الذكر كله والتلاوة بغير حكم كلام الناس، والحالف إذا حلف أن لا يتكلم فإنما هو محمول عند العلماء على كلام الناس كما سلف، لا على الذكر والتلاوة، وهذا لا أعلم فيه خلافًا إلا إذا نوى في يمينه ألا يقرأ، ولا يذكر الله فهو على نيته كما قال البخاري، وأجمعوا أنه إذا حلف أن لا يتكلم (وتكلم)
(5)
بالفارسية أر بأي لغة تكلم أنه حانث.
(1)
سيأتي برقم (7563) كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} .
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 585 (5527).
(3)
في (ص 2): وقراءة.
(4)
رواه مسلم برقم (537) كتاب: المساجد، باب: تحريم الكلام في الصلاة.
(5)
من (ص 2).
فصل:
ويشبه معنى هذا الباب إذا حلف أن لا يكلم رجلاً فكتب إليه أو أرسل إليه رسولاً، فقال مالك: يحنث فيهما جميعًا إلا أن يكون نبه على المشافهة، ثم ذكر أنه رجع بعد ذلك فقال: لا ينوي في الكتابة. أو أنه حلف ألا يرتجع الكتاب قبل وصوله فلا يحنث.
وحكى ابن أبي أويس أنه قال: الرسول أهون من الكتاب؟ لأن الكتاب لا يعلمه إلا هو وصاحبه، وإذا أرسل إليه رسولاً علم ذلك الرسول.
وقال الكوفيون والليث والشافعي: لا يحنث فهو قول ابن أبي ليلى.
وقال أبو ثور: لا يحنث في الكتاب. واختلفوا إذا أشار إليه بالسلام، فقال مالك: يحنث، واحتج ابن حبيب في أن الإشارة بالسلام كلام بقوله تعالى لزكريا {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41].
وقال عيسى، عن ابن القاسم: ما أرى الإشارة بالسلام كلامًا. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يحنث في الإشارة بالسلام ولا في الرسول ولا في الكتاب؛ لأنه لم يكلمه في ذلك كله. واحتج أبو عبيد فقال: الكلام غير الخط والإشارة، وأصل هذا أن الله تعالى قال لزكريا:{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41] وقال في موضع آخر: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11] والرمز: الإشارة بالعين والحاجب. والوحي: الخط والإشارة، ويقال: كتب إليهم وأشار إليهم. وفي قصة مريم {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]. ثم قال: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} فصار الإيماء والخط خارجين من معنى المنطق.
واختلفوا: لو سلم على قوم هو فيهم، فقال مالك والكوفيون: يحنث. قال ابن القاسم، عن مالك: علم أنه فيهم أو لم يعلم إلا أن يحاسبه. وقال الشافعي: لا يحنث إلا أن ينويه بالسلام. واحتج أبو عبيد لقول مالك والكوفيين فقال: ومما يبين أن السلام كلام أن إمامًا لو سلم من ركعتين متعمدًا كان قاطعًا لصلاته كما يقطعها المتكلم، وقد نهى الشارع عن الهجرة وأمر بإفشاء السلام، فبان بأمره هذا ونهيه عن هذا أنهما متضادان، وأن المسلم على صاحبه ليس بمهاجر، له ولو صلى ورآه فرد عليه السلام. فقال ابن القاسم: لا يحنث؛ لأن رد السلام من سنة الصلاة وليس من معنى المكالمة، وقال ابن وهب: يحنث؛ لأنه كان قادرًا أن يجتزئ بتسليمة عن يمينه وأخرى عن يساره ولا يرد على الإمام، وقالوا: لو تعايا ففتح على الحالف حنث، ولو كتب إليه المحلوف عليه، فروى عيسى وأبو زيد، عن ابن القاسم أنه إذا قرأ كتابه حنث. وقال ابن حبيب؛ لا يحنث. وكذلك روى أصبغ، عن ابن القاسم
(1)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 125 - 127.
20 - باب مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ شَهْرًا، وَكَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
6684 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، آلَيْتَ شَهْرًا. فَقَالَ:«إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ» . [انظر: 378 - مسلم: 411 - فتح 11/ 568].
ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه قَالَ: آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شهرًا، وَكَانَتِ انْفَكَّتْ رِجْلُهُ، فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَل، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، آلَيْتَ شَهْرًا. فَقَالَ:"إِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ".
الشرح:
المشربة: الغرفة بفتح الراء وضمها، وقال الداودي: هي الغرفة الصغيرة. وفيه دليل لقول محمد بن عبد الحكم: من حلف أن لا يفعل كذا شهرًا، أنه (يبر)(1) بتسع وعشرين يومًا، وخالف مالك فقال: لا (يبر)
(1)
إلا بثلاثين يومًا، وقد اختلف في هذا الأصل هل تبرأ الذمة بأعلى الأشياء أر بما ينطلق عليه الاسم فوقع لمالك في كتاب: الحج الثاني فيمن قال: لله عليّ هدي الشاة يجزئ إن لم تكن نية. وفي كتاب: النذور فيمن قال: إن فعلت كذا فعلي هدي، عليه بدنة.
وعبارة الطحاوي: ذهب قوم إلى أن الرجل إذا حلف أن لا يكلم رجلاً شهرًا فكلمه بعد مضي تسعة وعشرين يومًا، أنه لا يحنث. واحتجوا بهذا الحديث.
(1)
في (ص 2): يبرأ.
وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: إن حلف مع رؤية الهلال فهو على ذلك الشهر كان ثلاثين أو أنقص، وإن كان حلف في بعض شهر فيمينه على ثلاثين يومًا وهو قول الكوفيين ومالك والشافعي، واحتجوا بقوله عليه السلام:"الشهر تسعة وعشرون يومًا، فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين" ولا نراه قد أوجب عليهم ثلاثين يومًا وجعلها على الكمال حتى يروا الهلال قبل ذلك، وأخبر أنه إنما يكون تسعة وعشرين برؤية الهلال قبل الثلاثين، (وقد روي)
(1)
هذا عن الحسن البصري. ودل نزوله من المشربة لتسع وعشرين أنه كان حلف مع غرة الهلال، هذا وجه الحديث، ومن هذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي أنه من نذر صوم سنة بغير عينها فله أن يصومها بالأهلة وبغيرها، فإن صامها بالأهلة فكان الشهر ناقصًا أجزأه وما صام لغيرها أكملها ثلاثين.
وروى ابن وهب، عن مالك: من أفطر رمضان كله في سفر أو مرض فكان ناقصًا فأخذ في قضائه شهرًا فكان كاملًا أنه يصومه كله، وإن كان شهر القضاء ناقصًا ورمضان كاملًا أجزأه.
وقال محمد بن عبد الحكم: إنما يصوم عدد الأيام التي أفطر، وفي رواية ابن وهب: مراعاة شهر القضاء، وعلئ قول ابن عبد الحكم: مراعاة شهر الفائت. وهو أصح في القياس؛ لأن الله تعالى افترض عليه عدد الأيام التي أفطر.
(1)
من (ص 2).
21 - باب إِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ نَبِيذًا فَشَرِبَ طِلَاءً أَوْ سَكَرًا أَوْ عَصِيرًا، لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ عِنْدَهُ
6685 -
حَدَّثَنِي عَلِيٌّ سَمِعَ عَبْدَ العَزِيزِ بْنَ أَبِي حَازِمٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ -صَاحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَسَ فَدَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِعُرْسِهِ، فَكَانَتِ الْعَرُوسُ خَادِمَهُمْ. فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: هَلْ تَدْرُونَ مَا سَقَتْهُ؟ قَالَ: أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِي تَوْرٍ مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ. [انظر: 5176 - مسلم: 2006 - فتح 11/ 568]
6686 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنْ سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَتْ شَنًّا. [فتح 11/ 569]
ذكر فيه حديث سهْلِ بْنِ سعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ -صَاحِبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَسَ فَدَعَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لِعُرْسِهِ، فَكَانَتِ العَرُوسُ خَادِمَهُمْ. فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: هَلْ تَدْرُونَ مَا سَقَتْهُ؟ قَالَ: أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِي تَوْرٍ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ.
وحديث سَوْدَةَ أم المؤمنين رضي الله عنها من طريق عكرمة عن ابن عباس عنها قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاة فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذ فِيهِ حَتَّى صَارَتْ شَنًّا.
الشرح:
أما ترجمة الباب فلا شك أنه إذا كان الطلاء والسكر يسكران، فيحنث به، وبعض الناس المراد به الإِمام أبو حنيفة رضي الله عنه أنه زعم أن
الطلاء والعصير ليسا بنبيذ في الحقيقة، وإنما النبيذ ما ينبذ في الماء وأنقع فيه، ومنه سمي المنبوذ منبوذًا؛ لأنه نبذ أي: طرح.
ويعني بقوله (سكرًا) أي: ما يسكر بما يعصر ولا ينبذ، ويعني بقوله:(أو عصيرًا) ما كان حديث العصر من العنب ولم يبلغ حد السكر، وبالطلاء ما طبخ من عصير العنب حتى بلغ إلى ما لا يسكر، فلا يحنث عنده في شرب شيء من هذِه الثلاثة؛ لأنها لم تنبذ، وإنما يحنث عنده بشرب ما نبذ في الماء من غير العنب، سواء أسكر أو لم يسكر
(1)
.
قال المهلب: والذي عليه جمهور الفقهاء أنه إذا حلف أن لا يشرب النبيذ بعينه دون سائر المشروبات أنه لا يحنث بشرب العصير والطبيخ وشبهه، وإن كان إنما حلف على النبيذ خشية منه لما يكون من السكر وفساد العقل، كان حانثًا في كل ما يشرب بما يكون فيه المعنى الذي حلف عليه، ويجوز أن يسمي سائر الأشربة من الطبيخ والعصير نبيذًا لمشابهتهما له في المعنى، ومن حلف عندهم أن لا يشرب شرابًا ولا نية له، فأي شراب شربه بما يقع عليه اسم شراب فهو حانث
(2)
.
فصل:
ووجه تعلق البخاري من حديث سهل في الرد على أبي حنيفة هو أن سهلًا إنما عرف أصحابه؛ لأنه لم يسق الشارع إلا نبيذًا قريب العهد بالانتباذ بما يحل شربه.
ألا ترى قوله: أنقعت له تمرًا في تور من الليل حتى أصبح عليه فسقته إياه. وهكذا كان ينبذ له عليه السلام ليلاً ويشربه غدوة، وينبذ له غدوة
(1)
"شرح ابن بطال" 6/ 143.
(2)
"شرح ابن بطال" 6/ 143.
ويشربه عشية، ولو كان بعيد العهد بالانتباذ مما بلغ حد السكر لم يجز أن يسقيه عليه السلام، يفهم من هذا: أن ما بلغ حد السكر من الأنبذة حرام؛ كالمسكر من عصير العنب، وأن من شرب مسكرًا من أي نوع كان، سواء كان معتصرًا أو منتبذًا، فإنه يحنث؛ لاجتماعهما في حدوث السكر وكونها كلها خمرًا.
فصل:
ووجه استدلاله من حديث سودة رضي الله عنها أنهم حبسوا مسك شاة للانتباذ فيه الذي يجوز لهم شربه غير المسكر ووقع عليه اسم نبيذ، ولو ذكر حديث أنس حين كسروا الجرار من نبيذ التمر كان أقرب للتعلق وأوضح للمعنى، كما نبه عليه ابن بطال؛ لأنهم لم يكسروا جرار نبيذ التمر وهم القدوة في اللغة والحجة فيها، إلا أن معنى نبيذ التمر المسكر في معنى عصير العنب (المسكر)
(1)
في التحريم؛ لأنهم كانوا أتقى لله من أن يتلفوا نعم الله ويهريقوها استخفافًا بها، وقد نهى الشارع عن إضاعة المال، ولو كان المسكر غير خمر لجاز ملكه وبيعه وشربه وهبته، وكانت إراقته من الفساد في الأرض
(2)
.
فصل:
حديث سودة بنت زمعة في الباب من أفراد البخاري كحديث ابن عباس: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" فإنه من أفراد مسلم
(3)
،
(1)
من (ص 2).
(2)
"شرح ابن بطال" 6/ 143.
(3)
مسلم (366) كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ.
أما حديث ابن عباس، عن ميمونة رضي الله عنها: مَرَّ عليه السلام بشاة لها فقال: "ألا انتفعتم بجلدها"
(1)
فمن المتفق عليه لا كما زعمه خلف في "أطرافه" وتبعه عليه الدمياطي فاحذره
(2)
.
فصل:
الطلاء بكسر الطاء والمد. قال أبو عبد الملك والداودي: هو أن يطبخ عصير العنب حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، والذي قاله أهل اللغة أنه جنس من الشراب.
قال ابن فارس: ويقال إنه اسم من أسماء الخمر
(3)
. والسكر بفتح السين والكاف قال الجوهري: هو نبيذ التمر، وذكر قوله تعالي:{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا}
(4)
[النحل: 67] وقال ابن عباس وغيره: هو ما حرم. فعلى من يقول: الطلاء والسكر مسكران يصح ما تقدم ممن يقول: هما نبيذ، ولا يصح ذلك في السكر؛ لأنه نبيذ، ويصح في الطلاء؛ لأنه لا ينطلق ذلك عليه، وقد قال ابن حبيب: من حلف لا يشرب نبيذًا أنه يحنث بما يشرب منه وإن اختلفت عناصره، وهذا بين أنه يحنث بكل ما وقع عليه اسم نبيذ كان نبيذًا تمرًا أو غيره من سائر الأنبذة.
(1)
سلف برقم (1492) كتاب: الزكاة، باب: الصدقة على موالي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه مسلم برقم (363) كتاب: الحيض، باب: طهارة جلود الميتة بالدباغ.
(2)
ورد في هامش الأصل: كون حديث ابن عباس عن ميمونة أنه عليه السلام مرَّ بشاة .. الحديث من المتفق عليه وتعقُّبُه خلفًا والدمياطي، فلم أره في "أطراف المزي" أيضًا، إنما فيه ما قاله خلف والدمياطي، والله أعلم، وينبغي أن يحرر ما قاله شيخنا المؤلف.
(3)
"مجمل اللغة" 1/ 585، مادة طلو.
(4)
"الصحاح" 2/ 687، مادة (سكر).
وفي كتاب محمد: (من حلف)
(1)
لا يشرب خمرًا فما شرب من الأنبذة التي يسكر كثيرها حنث، ولا ينفعه أن لو حلف أن لا يشرب خمرًا بعينها، وكان ابن القاسم قديمًا يقبل بينة إذا جاء مستفتيًا، وليس بشيء، ولو كانت النية تنفعه لنفعه لفظه بإفصاحه الخمر بعينها.
قال مالك: وكذلك لو حلف أن لا يشرب (الخمر وقال: أردت)
(2)
خمر العنب وقاله ابن القاسم، ونحن نقوله حتى يقول: خمر العنب إفصاحًا ولفظًا فيدين في يمينه، وقال في "العتبية": إذا حلف أن لا يشرب خمرًا فشرب طلاءً، فإن كان يسكر كثيره حنث، إذ لا يخرجه من اسم الخمر غير طبيخ تعودته لا يسكر، فأما إن شرب غيره مما يسكر فينوَّي في الفتيا لا في القضاء.
وقال سحنون: لا حنث عليه في هذا كله ولو لم يكن له نية؛ لأن اليمين في هذا إنما هي في الخمر بعينها.
فصل:
معنى عرس في حديث سهل: اتخذ عرسًا، وأعرس بأهله: إذا بنى بها. والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في إعراسهما، يقال: رجل عروس في رجال عرس، وامرأة عروس في نساء عرائس. والتور بفتح المثناه فوق: إناء يشرب فيه.
وأبو أسيد بضم الهمزة كما سلف شرح الحديث واضحًا في الأنكحة.
(1)
من (ص 2).
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 4/ 86 - 88.
فصل:
المسك في حديث سودة بفتح الميم وسكون السين. والشن بفتح الشين: القربة البالية. والشنة أيضًا وكأنها صغيرة، والجمع: الشنان. ونبذ ثلاثي بفتح النون وكسر الباء، قال تعالى:{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} قال الجوهري: والعامة تقول: أنبذت
(1)
.
(1)
"الصحاح" 2/ 571.
22 - باب إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْتَدِمَ فَأَكَلَ تَمْرًا بِخُبْزٍ، وَمَا يَكُونُ مِنَه الأُدْمِ
6687 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ. [انظر: 5423 - مسلم: 2970 - فتح 11/ 570].
وقًالَ ابن كَثِيرٍ: أَخْبَرَنَا سفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ بهذا.
6688 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيء؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخَذَتْ خِمَارًا لَهَا، فَلَفَّتِ الخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَهَبْتُ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «أَرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟». فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ مَعَهُ:
«قُومُوا» . فَانْطَلَقُوا، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهُمْ. فَقَالَتِ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو طَلْحَةَ حَتَّى دَخَلَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ» . فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ. قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» . فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ:«ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ» . فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا، وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ -أَوْ ثَمَانُونَ- رَجُلاً. [انظر: 422 -
مسلم: 3040 - فتح 11/ 570].
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها فقال: حدثنا محمد بن يوسف، ثنا سفيان عن عبد الرحمن بن عابس، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها -
قَالَتْ: مَا شَبعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم منْ خُبْزِ بُرِّ مَأْدُومٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ باللهِ.
وَقَالَ ابن كَثِيرٍ: أَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ بهذا.
وحديث أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه السالف. وفيه: فَأَتَتْ بِذَلِكَ الخُبْزِ. قَالَ: فَأَمَرَ به رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ. الحديث بطوله.
الشرح:
إنما أتى البخاري رحمه الله بقوله: (وقال ابن كثير: أنا سفيان، ثنا عبد الرحمن بن عابس) ليزول توهم ما قد يتوهم من عدم [سماع]
(1)
سفيان من عبد الرحمن. والبُرُّ: جمع برة من القمح، ومنع سيبويه أن يجمع على أبرار، وجوزه المبرد. والأقراص في الحديث الثاني جمع قرص، وقرص: جمع قرصة، كغصن وغصنة وأغصان.
وقوله: ("هلمي يا أم سليم ما عندك") كذا في الأصول، وذكره ابن التين بلفظ "هلم" بحذف الياء.
ثم قال: إنه على لغة أهل الحجاز أن (هلم) يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع والمفرد، قال تعالى:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، والعكة بضم العين: آنية السمن.
ومعنى (فأدمته): جعلت السمن إدامه، وهو ثلاثي يقال: أدم الخبز، يأدمه بالكسر، وقول عائشة رضي الله عنها قبل:(من خبز بر مأدوم). يدل على صحة ذلك؛ لأن مفعولًا لا يكون إلا من الثلاثي، ولو كان الفعل رباعيًا لقالت: خبز برٍّ مؤدم.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
فصل:
واختلف العلماء فيمن حلف أن لا يأكل إدامًا فأكل لحمًا مشويًا، فقال مالك والشافعي: يحنث كما لو أكل زيتًا وخلًّا. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: الإدام: ما يصطبغ مثل الزيت والعسل والخل، فأما ما لا يصطبغ به مثل اللحم المشوي والخبر والبيض فليس بإدام، وعند المالكية: يحنث بكل ما هو عند الحالف إدام، ولكل قوم عادة.
قال محمد: ما كان الغالب منه أنه يؤكل بالخبز فهو إدام
(1)
، حكاه ابن بطال
(2)
، وحكاه ابن التين عنه: يحنث بأكل السمن والعسل والزيت والودك والشحم والزيتون والجبن والصبر والسلجم والمري والشبراق، وشبه ذلك قال: ولا أرى أن يحنث بالملح (الجريش)
(3)
ولا المطيب وإن كان قد أحنثه بعض العلماء به.
وقال أصبغ عن أشهب في "العتبية": يحنث بالملح محضًا أو مبررًا. حجة الكوفيين أن حقيقة الإدام هو اسم للجمع بين الشيئين قال عليه السلام "إذا أراد أحدكم أن يتزوج المرأة فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما"
(4)
معناه: أنه يجمع بينهما.
وقيل: إنه من الدوام، وقيل: من وقوع الأدمة على الأدمة، وليس كل اسم يتناوله إطلاق اسم، بدليل أن من جمع بين لقمتين لا يسمى بهذا الاسم، وإنما المراد أن يستهلك فيه الخبز ويكون تابعًا له بأن تتداخل أجزاؤه بأجزاء غيره، وهذا لا يحصل إلا فيما يصطبغ به. وهذا الوجه
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 260، "النوادر والزيادات" 4/ 106.
(2)
"شرح ابن بطال" 6/ 145.
(3)
في (ص 2): الحرش.
(4)
رواه الترمذي (1087) وقال: حديث حسن، ورواه النسائي 6/ 69، وابن ماجه (1865)، من حديث المغيرة بن شعبة.
مجمع عليه وما سواه مختلف فيه، فلا يصح إثباته إلا بلغة أو عادة، وقد قال تعالى:{وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون: 20].
قال ابن القصار: فيقال لهم: لا خلاف بين أهل اللغة أن من أكل خبزًا بلحم مشوي أنه قد ائتدم به، ولو قال: أكلت خبزي بلا أدم لكان كاذبًا، ولو قال: أكلت خبزي بإدام كان صادقًا، فيقال لهم: أما قولكم: إن الإدام اسم للجمع بين الشيئين، فكذلك نقول، وليس الجمع بين شيئين هو امتزاجهما واختلاطهما، بل هو صفة زائدة على الجمع؛ لأننا نعلم أن الخبز بالعسل ليس يستهلك أحدهما صاحبه، ولا الخبز مع الزيت أيضًا، فلم نراع في الشريعة في الجمع الاستهلاك، وأما الخل والزيت فهو وإن تشربه فليس بمستهلك فيه، إذ لو كان كذلك لم يبق لونه ولا طعمه، وإنما المراعى في الجمع بين الشيئين هو أن يؤكل هذا بهذا على طريق الائتدام به، سواء كان مائعًا أو غيره كالعسل والسمن الذائب.
قال غيره: والدليل على أن كل ما يؤتدم به يسمى إدامًا، الحديث السالف:"تكون الأرض خبزة يوم القيامة إدامها زيادة كبد نونٍ وثورٍ"
(1)
فجعل الكبد إدامًا، فكذلك التمر وكل شيء مائع فهو إدام كالكبد.
وروى حفص بن غياث عن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، عن يزيد الأعور، عن ابن أبي أمية، عن يوسف، عن عبد الله بن سلام قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرًا، وقال:"هذِه إدام هذه"
(2)
فأكلها.
(1)
سلف برقم (6519) كتاب الرقاق، باب: يقبض الله الأرض يوم القيامة، ورواه مسلم (2792) كتاب الجنة والنار، باب: نزل أهل الجنة.
(2)
"سنن أبي داود"(3830).
وروى القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة تفور بلحم، فقرب إليه أدم من أدم البيت، فقال:"ألم أر برمة فيها لحم"
(1)
الحديث، فدل هذا الحديث أن كل ما في البيت مما جرت العادة بالائتدام به فهو إدام، مائعا كان أو جامدًا
(2)
.
فصل:
قال ابن التين: وإن حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل الفاكهة (كلها)
(3)
يابسها ورطبها عند ابن حبيب، ذكره أو لم يذكره.
وقال محمد نحوه إذا ذكر يابسها ورطبها، يريد أنه لا يحنث في يابسها إلا إذا ذكره؛ لأن الفاكهة إنما تطلق عنده على الطري خاصة.
(1)
سلف برقم (5097) كتاب النكاح، باب: الحرة تحت العبد، ورواه مسلم (1504) كتاب: العتق، باب: إنما الولاء لمن أعتق.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 145 - 147، و"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 260 - 261.
(3)
من (ص 2).
23 - باب النِّيَّةِ فِي الأَيْمَانِ
6689 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» . [انظر: 1 - مسلم: 1907 - فتح 11/ 572].
ذكر فيه حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ (بالنيات)
(1)
".
وقد سلف أول الكتاب واضحًا، قال المهلب وغيره: إذا كانت اليمين بين العبد وربه وأتى مستفتيًا فلا خلاف بين العلماء أنه ينوَّي ويحمل على نيته، وأما إذا كانت اليمين بينه وبين آدمي وادعى في نية اليمين غير الظاهر لم يقبل قوله، وحمل على ظاهر كلامه إذا كانت عليه بينة بإجماع.
وإنما اختلفوا في النية إذا كانت نية الحالف أو نية المحلوف له، فقالت طائفة: النية في حقوق الآدمي نية المحلوف له على كل حال، وهو قول مالك، وقال آخرون: النية نية الحالف أبدًا، وله أن يوري، واحتجوا بحديث الباب.
وحجة مالك: أن الحالف إنما ينبغي أن يكون يمينه على ما يدعي عليه صاحبه؛ لأنه غلبه بحلفه، وقد أجمعوا أنه لا ينتفع بالتورية إذا اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه، فكذلك لا ينتفع بالتورية في سائر
(1)
في (ص 2): بالنية.
الأيمان، وسيأتي اختلافهم في يمين المكره حيث تجوز التورية في آخر كتاب الإكراه، أو كتاب ترك الحيل -إن شاء الله تعالى- وشيء منه مذكور في باب: المعاريض مندوحة عن الكذب، في آخر كتاب الأدب أيضًا
(1)
كما سلف.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 147 - 148.
24 - باب إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالتَّوْبَةِ
6690 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ- قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] فَقَالَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهْوَ خَيْرٌ لَكَ» . [انظر: 2757 - مسلم: 2769 - فتح 11/ 572]
ذكر فيه حديث كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] فَقَالَ فِي آخِرِه: إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أن أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي (صَدَقَةً إلى اللهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَغضَ مَالِكَ فَهوَ خَيْرٌ لَكَ "
(1)
.
الشرح:
ظاهره أنه أمران يتصدق بجزء جيد من ماله، ولعله أكثر من ثلثه؛ لأن بعض الشيء جزء من أجزائه، ولعله عليه السلام علم أنه ذو مال طائل، وأن بعضه فيه له كفاية، وهو (يؤيد قول)
(2)
سحنون: إن من حلف بصدقة ماله يخرج ما لا يضر به. ويؤيده قوله عليه السلام: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى"
(3)
وفي "الموطأ" في حديث كعب هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يجزئك الثلث"
(4)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
في (ص 2): مؤيد بقول.
(3)
سلف معلقا بلفظه في كتاب الوصايا، باب: تأويل قول الله {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . وسلف مسندًا برقم (1426) بلفظ: (خير الصدقة) في كتاب الزكاة، باب: لا صدقة إلا عن ظهر غنى.
(4)
لم أقف عليه لكعب بن مالك رضي الله عنه في "الموطأ"، وإنما هو لأبي لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه ولفظه "يجزئك من ذلك الثلث""الموطأ" ص 297.
واختلف في قوله: (من توبتي أن أنخلع من مالي). هل التزم الصدقة بجميع ماله، أو إنما أراد أن يفعل ذلك ولم يوجب ذلك؟ واحتج من قال: إنه التزم بقوله عليه السلام: "يجزئك من ذلك الثلث". فلو كان الكلام منه على سبيل المشورة والعرض ما قال ذلك، (وقد تنازع فيه)
(1)
.
واختلف فيمن حلف بصدقة ماله فحنث على ثمانية أقوال:
أحدها: يلزمه ثلث ماله، قاله مالك.
ثانيها: لابن وهب: إن كان ماليًّا فكذلك، وإن كان فقيرًا فكفارة يمين، وهو قول الليث وإن كان متوسطًا يخصه الثلث، فأقول فيه بقول ربيعة أنه يخرج زكاة ماله. وقال سحنون: يخرج ما لا يضر به، وسلف ذكره. وقال النخعي: يخرج جميع ماله. وقال أبو حنيفة: إن علقه بشرط كإن دخلت الدار، أو إن شفى الله مريضي، فالقياس أن يلزمه كل ماله، ويستحسن بالأموال التي تجب فيها الزكاة.
وقال الشافعي: إن أخرجه مخرج التبرر مثل: إن شفى الله مريضي، فيلزمه جميع ماله، وإن كان لجاجًا وغضبا (فيقصد منع نفسه من فعل مباح كإن دخلت الدار. فهي بالخيار، إن شاء يفي بذاك أو يكفر كفارة يمين.
وقال ابن أبي ليلى: لا نلزمه شيئًا أصلاً، وقاله الشعبي والحاكم وحماد)
(2)
.
وروى قتادة، عن جابر: إن كان كثير المال لزمه العشر وإن كان متوسطًا فالسبع، وإن كان قليلاً فالخمس.
(1)
من (ص 2).
(2)
ما بين القوسين في الأصل عليه: (لا .. إلى).
وقال قتادة: والكثير ألفان؛ والوسط ألف، والقليل خمسمائة، فهذِه ثمانية أقوال منها ثلاثة في مذهب مالك.
وحكى ابن بطال في المسألة خمسة أقوال، وفرضها في قول الرجل: مالي في سبيل الله، فحكى:
أولاً: عن طائفة لا شيء عليه، ونسبه إلى الشعبي وابن أبي ليلى وطاوس.
وثانيها: أن عليه كفارة يمين، روي عن عمر وابنه وابن عباس وعائشة، وأنه قول عطاء وأنه ذهب إليه الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وثالثًا: وهو أن يتصدق من ماله بقدر الزكاة، روي أيضًا عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال ربيعة.
ورابعًا: أن يخرج ثلث ماله فيتصدق به، وهو قول مالك.
وخامسًا: يخرج ماله كله، روي عن النخعي، وهو قول أبي حنيفة وزفر إلا أن أبا حنيفة قال: يتصدق بالأموال التي تجب فيها الزكاة خاصة. وقال زفر: يحبس لنفسه من ماله قوت شهرين ثم يتصدق بمثله إذا أفاد. حجة الأول أنه لو قال: مالي حرام لم يحرم عليه بإجماع فكذلك في هذِه المسألة، واحتج الشافعي بحديث أبي الخير عقبة بن عامر: أنه عليه السلام قال: "كفارة النذر كفارة يمين" وهذا أخرجه مسلم
(1)
، فظاهره يقتضي أن كل نذر كفارته كفارة يمين إلا ما قام دليله، وذهب ربيعة إلى أن الزكاة جعلها الله طهرة للأموال، فكذلك هذا الحالف بصدقة ماله يطهره ما يطهر الزكاة.
(1)
مسلم (1645) كتاب النذر، باب: في كفارة النذر.
واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)} [التوبة: 75] فبين تعالى أنهم لما لم يفوا بما عاهدوا الله عليه، استحقوا الوعيد والذم فلزمهم الوفاء به.
واحتج ابن شهاب لمن قال: يجزئه الثلث بحديث الباب "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك"، وقوله عليه السلام لأبي لبابة في مثل ذلك:"يجزئك الثلث"
(1)
فكان مبينًا لما أجمل في حديث كعب من مقدار الجزء المتصدق به، فثبت بحديث أبي لبابة التقدير، وسقطت سائر الأقاويل، وقد أسلفنا مثله في حديث كعب أيضًا.
قال ابن القصار: ومن الحجة لمالك قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] فأمر تعالى بأن لا ينسى نصيبه من الدنيا؛ لما بالخلق ضرورة إليه من الوقت وما لابد منه، ووجب الاقتصار على إخراج الثلث لما ذكر، ويدل على صحة هذا القول أن المريض لما منع من إخراج ماله إلا الثلث نظرًا لورثته وإبقاءً عليهم، وجب أن يبقي (المرء)
(2)
على نفسه متى قصد إخراج ماله كله.
وأما من قال يخرج زكاة ماله فلا وجه له؛ لأنها واجبة على الإنسان، وإن لم ينذرها، وأما قول أبي حنيفة أنه لا يخرج إلا الأموال التي تجب فيها الزكاة فقط، فإننا نقول: إن الأموال تشتمل على ما فيه الزكاة، وعلى ما لا زكاة فيه، قال تعالى:{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27]، ولم يفرق بين عبيدهم وعروضهم، وبين العتق والرتق والحرث والماشية
(3)
.
(1)
سبق تخريجه في "الموطأ"، ورواه أبو داود برقم (3319).
(2)
من (ص 2).
(3)
"شرح ابن بطال" 6/ 148 - 150.
25 - باب إِذَا حَرَّمَ طَعَامَهُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} إلى قوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] وَقَوْلُهُ: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 87].
6691 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلاً، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ:«لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ» . فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} ، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ} [التحريم: 4]، لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] لِقَوْلِهِ: «بَلْ شَرِبْتُ عَسَلاً» .
وَقَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى: عَنْ هِشَامٍ: «وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ، فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا» [انظر: 4912 - مسلم: 1474 - فتح: 11/ 574].
ثم ساق حديث ابن جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا
…
الحديث إلى قوله: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ له ذَلِكَ. قَالَ:"لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ". فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} ، {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ} [التحريم: 4]، لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] لِقَوْلِهِ: "بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا".
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسى، عَنْ هِشَامٍ:"وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا".
الشرح:
هذا الحديث سلف الكلام عليه في موضعه. والمغافير: واحده مغفور، وهو شيء ينتجه شجر العرفط كريه الرائحة، وقيل: هو حلو كالناطف يحل بالماء ويشرب، ويقال: مغثور بالثاء كثوم، وفوم، وجدف، وجدث.
وذكر ابن حمدون في "تذكرته" أن المغافير: البطون، كأنه أراد رائحة البطون.
قال أبو عمرو: يقال أغفر الرمث: إذا ظهر ذلك فيه.
وقال الكسائي: يقال: خرج الناس يتمغفرون إذا خرجوا يجتنونه من ثمره.
وهذا التعليق خرجه مسندًا في التفسير، فقال: حدثنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام، عن ابن جريج، عن عطاء، كما سلف
(1)
.
(وقوله: (فنزلت) إلى آخره، هذا قول. وأكثر المفسرين على أنها نزلت في مارية حين حرمها على نفسه)
(2)
.
وقوله: ("ولن أعود له") قال مالك: إنه حرمه على نفسه باليمين. أي: قال: والله لا أعود له؛ فلذلك كفره، وأما من حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا أو غير ذلك من المباح فلا شيء عليه في فعل ذلك، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يلزمه كفارة يمين في المأكول والمشروب
(1)
سلف برقم (4912) سورة التحريم، باب:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} .
(2)
من (ص 2).
دون الملبوس والطيب، دليلنا قوله تعالى:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، ولأنه حرم على نفسه ما لا يصح فيه طلاق ولا عتاق، فلم يكن للتحريم تأثير أصله اللباس والطيب، والدليل من هذِه الآية قوله {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وقوله في الحديث:"قد حلفت" وهي دالة على أن الكفارة المذكورة في الآية من أجل يمينه.
فصل:
قوله {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] هو ما سلف من قصة مارية أو العسل، وأغرب من قال: إنه خلافة الصديق وأنه خليفة بعده.
فصل:
في بسط مسألة الباب اختلف العلماء فيمن حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا أحله الله له على قولين: أحدهما: لا يحرم عليه ذلك، وعليه كفارة يمين، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي.
وثانيهما: وهو قول مالك: لا يكون الحرام يمينًا في طعام ولا في شراب إلا في المرأة، فإنه يكون طلاقًا يحرمها عليه، وروى الربيع عن الشافعي كقول مالك: إن حرم على نفسه طعامًا أو شرابًا فهو حلال له، ولا كفارة عليه.
وروي عن بعض التابعين أن التحريم ليس بشيء، وسواء حرم على نفسه زوجته أو شيئًا من ذلك لا يلزمه كفارة في شيء من ذلك، وهو قول أبي سلمة ومسروق والشعبي. حجة من لم يوجبها حديث عائشة أن الآية نزلت في شرب العسل الذي حرمه الشارع على نفسه، ولم يذكر في ذلك كفارة.
وحجة الموجب أن سبب نزولها مارية كما سلف، فكفر وأصاب جاريته، وهو قول قتادة وغيره، وقال القاضي إسماعيل: الحكم في ذلك واحد؛ لأن الأمة لا يكون فيها طلاق فتطلق بالتحريم، فكان تحريمها كتحريم ما يؤكل ويشرب، ولعل القصة قد كانتا جميعًا في وقتين مختلفين، غير أن أمر الجارية في هذا الموضع أشبه لقوله تعالى:{تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] ولقوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] فكان ذلك في الأمة أشبه؛ لأن الرجل يغشى أمته في ستر ولا يشرب العسل في ستر، وتحريم الأمة فيه مرضاة لهن، وتحريم الشراب إنما حرمه للرائحة وقد يمكن أن يكون حرمها وحلف كما روي، ويمكن أن يكون حرمها بيمينه بالله؛ لأن الرجل إذا قال لأمته: والله لا أقربك فقد حرمها على نفسه باليمين، فإذا غشيها وجبت عليه اليمين، وإذا قال لأمته: أنت عليَّ حرام فلم يحلف، وإنما أوجب على نفسه شيئًا لا يجب، فلم تحرم عليه، ولم تكن كفارة؛ لأنه لم يحلف، وقوله لامرأته: أنت عليَّ حرام مثل قوله: أنت طالق، فلا تحرم (عليه)
(1)
، وكذلك: أنت خلية وبرية وبائن، ليس في شيء منه يمين، وإنما هو فراق أوجبه الإنسان على نفسه، فإن كان شيئًا يجب وجب، وإن كان لا يجب لم يجب، وقد قال عليه السلام:"من نذر أن يعصي الله فلا يعصه"
(2)
فلم يوجب كفارة كما أوجبها في قوله: "من حلف على يمين" الحديث
(3)
.
(1)
الأصل: (به)، والمثبت من (ص 2) وهو الصواب.
(2)
سيأتي قريبًا برقم (6696) باب: النذر في الطاعة.
(3)
رواه مسلم برقم (1650) كتاب الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير، ويكفِّر عن يمينه. من حديث أبي هريرة. =
قال المهلب: والتحريم إنما هو لله ولرسوله، فلا يحل لأحد أن يحرم شيئًا، وقد وبخج الله من فعل ذلك فقال:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]، فجعل ذلك من الاعتداء، وقد قال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] فهذا كله حجة في أن تحريم الناس ليس بشيء
(1)
.
= وقد سلف من حديث أبي موسى برقم (3133) ولفظه: "لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها؛ إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها".
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 151 - 153.
26 - باب الوَفَاءِ بِالنَّذْرِ
وَقَوْلِهِ عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7].
6692 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنِ النَّذْرِ؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ الْبَخِيلِ» . [انظر: 6608 - مسلم: 1639 - فتح 11/ 576].
6693 -
حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّذْرِ وَقَالَ: «إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ» [انظر: 6608 - مسلم: 1639 - فتح 11/ 576].
6694 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ قُدِّرَ لَهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قُدِّرَ لَهُ، فَيَسْتَخْرِجُ اللهُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» [انظر: 6609 - مسلم: 1640 - فتح 11/ 576]
ذكر فيه حديث سَعِيدِ بْنِ الحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنِ النَّذْرِ؟ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرهُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ البَخِيلِ".
وحديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أيضًا: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عنِ النَّذْرِ وَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، ولكن يُسْئَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ".
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَأْتِي ابن آدَمَ النَّذْرُ بِشَئءٍ لَمْ أكن قدرته، ولكن يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى القَدَرِ قَدْ قدرته، فَيَسْتَخْرِجُ اللهُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ".
أي: أنا قدرت عليه الشدة التي نذر من أجلها المعتل هو النذر
ليحلها عنه، والنذر لا يحل عنه الشدة، فهو لا يغني شيئًا، والمقدور كائن، فيجعل الناذر هذا الفعل سلامة من الشدة المقدرة، ويكون ذلك النذر سهمًا استخرجه من البخيل للشدة التي عرضت له، فهذا تفسير "فيؤتي عليه ما لم يكن يؤتي -لو لم يقدر عليه الشدة- من قبل" وفيه رد على القدرية.
فصل:
حديث ابن عمر وأبي هريرة سلفا في كتاب القدر، واختلف عندنا في ابتداء النذر فقيل: إنه مستحب، وقيل: مكروه، وبه جزم الثوري، ونص الشافعي على أنه خلاف الأولى
(1)
.
وحمل بعض المتأخرين النهي على نذر اللجاج، واستحب نذر التبرر، وقام الإجماع على وجوب الوفاء به إذا كان طاعة، وقد قال تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} فمدحهم بذلك، وقوله عليه السلام:"من نذر أن يطيع الله فليطعه"
(2)
وإنما اختلفوا في اليمين بالطاعة، كالصدقة بالمال والمشي إلى مكة، فذهب مالك إلى أن اليمين في ذلك كالنذور وأن كفارتها الوفاء بها، ورأى بعض العلماء أنها أيمان يكفرها ما يكفر اليمين، وليست في معنى النذر فيلزم الوفاء؛ لأن النذر قصد به التبرر والطاعة لله، وهذِه الأيمان إنما قصد بها إلى أشياء من أمور الدنيا كقولهم: مالي صدقة إن فعلت كذا، فافترقا لهذِه العلة.
(1)
ورد في هامش الأصل: حاشية: قوله: ونص الشافعي على أنه خلاف الأولى. لم أره في كلام غيره، فليحرر.
(2)
سيأتي قريبًا برقم (6696)، باب: النذر في الطاعة.
(فصل)
(1)
:
قال المهلب: قوله: "لا يقدم شيئًا ولا يؤخره" يعني: من قدر الله ومشيئته.
وقوله: "يستخرج به من البخيل" يعني: أن من الناس من لا يسمح بالصدقة والصوم إلا إذا نذر شيئًا لخوف أو طمع، فكأنه لولا ذلك الشيء الذي طمع فيه أو خافه لم يسمح بإخراج ما قدره الله تعالى ولا يفعله، فهو بخيل.
وقوله: "فيؤتي عليه" يعني: فعل ما يجعله الناذر على نفسه لله مما لم يكن يفعله لغير نذر
(2)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 154 - 155.
27 - باب إِثْمِ مَنْ لَا يَفِي بِالنَّذْرِ
6695 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّد، عَنْ يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ، حَدَّثَنَا زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ -قَالَ عِمْرَانُ: لَا أَدْرِي ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ- ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ يَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» [انظر: 2651 - مسلم: 2535 - فتح 11/ 580].
ذكر فيه حديث عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ"
…
الحديث، وقد سلف غير مرة
(1)
.
وموضع الحاجة منه قوله: "ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون" وهو يوجب الذم والنقص لمن لم يف بالنذر، وهذا من أشراط الساعة، وقرن الشارع من لم يف بالنذر بخيانة الأمانة في قوله:"ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون" وذلك أن من لم يف لله تعالى بما عاهده فقد خان أمانته في نقضه ما جعل (لربه)
(2)
على نفسه، فأشبه ذلك من خان غيره فيما ائتمنه عليه، والأول أعظم خيانة وأشد إثمًا، وأثنى الله تعالى على أهل الوفاء به فقال:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] الآية فدل هذا أن الوفاء بالنذر مما يدفع به شر ذلك اليوم.
(1)
سلف برقم (3650) كتاب فضائل الصحابة، باب: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبرقم (6428) كتاب الرقاق، باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها.
(2)
من (ص 2).
فصل:
وقوله: ("ويظهر فيهم السمن") هو كناية عن رغبتهم في الدنيا وإيثارهم شهواتها على الآخرة وما أعد الله فيها لأوليائه من الشهوات التي لا تنفد، والنعيم الذي لا يبيد، فهم يأكلون في الدنيا كما تأكل الأنعام ولا يقتدون بمن كان قبلهم من السلف، الذين كانت همتهم من الدنيا في أخذ القوت والبلغة وتوفير الشهوات إلى آخره.
فصل:
وقوله: ("ينذرون ولا يفون") كذا وقع، ثلاثي، وهو صحيح يقال: وفّى بعهده، وأوفى. ولغة القرآن أولى: رباعي.
28 - باب النَّذْرِ فِي الطَّاعَةِ
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ] [البقرة: 270].
6696 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» . [6700 - فتح 11/ 581]
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ".
(الشرح)
(1)
: النذر في الطاعة واجب الوفاء به عند جماعة الفقهاء لمن قدر عليه، وإن كانت تلك الطاعة قبل النذر غير لازمة فنذره لها قد أوجبها عليه، لأنه ألزمها نفسه لله تعالى، فكان من ألزم نفسه شيئًا لله تعالى، فقد تعين عليه فرض الأداء، وقد ذم الله تعالى من أوجب على نفسه شيئًا ولم يف به، قال تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} الآية [الحديد:27]، وسيأتي اختلافهم في نذر المعصية في بابه -إن شاء الله تعالى- وقسم بعضهم النذر على ضربين مجهول كـ: لله عليَّ نذر. فعليه كفارة عند مالك.
وقال ابن عباس: عليه أغلظ الكفارات كالظهار
(2)
، وقيل: إن شاء صام يومًا أو أطعم مسكينًا أو صلى ركعتين ونذر معلوم يسمى مخرجه، ولا يخلو من أقسام أربعة: طاعة كالصلاة، أو معصية كالزنا، أو مكروهًا كنذر ترك التطوع، أو مباحًا كنذر أكل المباحات ولبسه، واللازم منه
(1)
في الأصل: فصل.
(2)
رواه عبد الرزاق 8/ 441 (15834، 15835) وابن أبي شيبة 3/ 71 (1274، 12180).
الطاعة والقربة عملًا بحديث الباب، ولا يلزم الوفاء بما عداه (عملًا)
(1)
ببقية الحديث، وبحديث أبي إسرائيل الآتي
(2)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
سيأتي برقم (6704).
29 - باب إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ
6697 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ:«أَوْفِ بِنَذْرِكَ» . [انظر: 2032 - مسلم: 1656 - فتح 11/ 582]
ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ. قَالَ:"أَوفِ ينَذرِكَ". وقد سلف قبل.
معنى قوله: (في الجاهلية) في زمننا وأنا مسلم، وهو خلاف ما فهمه البخاري وبوب عليه.
وقال الشيخ أبو الحسن القاضي: لم يأمره الشارع على جهة الإيجاب، إنما هو على جهة الرأي، وقيل: أراد عليه السلام أن يعلمهم أن الوفاء بالنذر من آكد الأمور، فغلظ أمره بأن جعله لازمًا لعمر، وإن كان أصل التزامه من الجاهلية؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر؛ ليتأكد عندهم إيجابه، وقد اختلف العلماء في إيجاب الوفاء عليه إذا أسلم، والأصح عندنا استحبابه
وأما ابن بطال فنقل عن الشافعي وأبي ثور إيجابه، وإن حنث بعد إسلامه فعليه الكفارة وهو قول الطبري، قالوا: والأمر فيه على الوجوب، وهو قول المغيرة المخزومي، إليه ذهب البخاري، وقاس اليمين على النذر، إن كان النذر مما الوفاء به طاعة في الإسلام لزمه
الوفاء، وإن كان النذر واليمين بما (لا) ينبغي الوفاء به كيمين لا يكلم إنسانًا فعليه الكفارة في الإسلام.
قال: وكذا يقول الشافعي وأبو ثور فيمن نذر معصية أن عليه كفارة يمين.
قال: وقال آخرون: لا يجب عليه شيء من ذلك، وكل من حلف في كفره فحنث بعد إسلامه فلا شيء عليه في كل الأيمان، هذا قول مالك والثوري والكوفيين
(1)
.
قال الطحاوي: والحجة في ذلك قوله عليه السلام: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" وقالوا: لما كانت النذور إنما تجب إذا كانت بما يتقرب بها إلى الله تعالى، ولا تجب إذا كانت معاصي، وكان الكافر إذا قال: لله عليَّ اعتكاف أو صيام، ثم فعل ذلك لم يكن بذلك متقربًا إلى الله، فأشبه بذلك قوله عليه السلام:"لا نذر في معصية"؛ لأن ما لم يصح أن يكون طاعة لا يلزم الوفاء به، وقد يجوز أن يكون قوله لعمر:"أوف بنذرك" ليس على طريق الوجوب، ولكن لما كان عمر قد سمح في حال نذره أن يفعله استحب له عليه السلام أن يفي به؛ لأن فعله الآن طاعة لله، وكان ما أمره به خلاف ما أوجبه هو على نفسه؛ لأن الإسلام يهدم أمر الجاهلية
(2)
، وقد سلف في الاعتكاف شيء من معنى هذا الباب في باب: الاعتكاف ليلاً
(3)
، وهو قول الشافعي: أن الصوم ليس شرطًا في صحة الاعتكاف.
(1)
"شرح ابن بطال" 6/ 157.
(2)
"شرح معاني الآثار" 3/ 133 - 134.
وانظر: "شرح ابن بطال" 6/ 157 - 158.
(3)
سلف برقم (2032).
قال ابن التين: والجماعة على خلافه، وإنما أراد أن النذر يوفى به، (فخرج)
(1)
على جهة التغليظ والتأكيد للوفاء بالنذر.
وقد اختلف فيمن نذر اعتكاف ليلة، فقال ابن القاسم. يلزمه يوم وليلة، وقال سحنون: لا يلزمه شيء، قال: واتفقا على أنه إذا نذر اعتكاف يوم أنه يلزمه يوم وليلة، قلت:(لا)
(2)
والأصح عندنا أنه لا يلزمه الليلة.
(1)
من (ص 2).
(2)
ورد في هامش الأصل: اعتراض شيخنا لمذهب الشافعي ليس محله وقوله: اتفقا، أي: سحنون وابن القاسم، ولم يحمل اتفاق الناس حتى يورد مذهب الشافعي.
30 - باب مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ
وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلَاةً بِقُبَاءٍ، فَقَالَ: صَلِّى عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ.
6698 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ. [انظر: 2761 - مسلم: 1638 - فتح 11/ 583]
6699 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَاقْضِ اللهَ، فَهْوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» . [انظر: 1852 - فتح 11/ 584].
ثم ساق حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضيَهُ، فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ.
وحديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه أَتَى رَجُلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ. فَقَالَ: "لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَةُ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاقْضِ اللهَ، فَهْوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ".
الشرح:
تضمنت أحاديث الباب وآثاره جواز النيابة في الصلاة والحج وغيرهما إذا مات من يناب عنه، ولا شك في دخول النيابة في الأفعال المتضمنة المال فقط كالصدقة، وكذا عندنا في الأفعال البدنية كالحج، ومشهور مذهب مالك؛ أن النيابة فيه مكروهة، وينفذ إن أوصى به.
ووقع في كتاب محمد في امرأة أوصت أن يحج عنها إن حمل ذلك ثلتها، فإن لم يحمل جعل في رقبته يحمل ذلك عليها، قال: يعتق عنها ولا تحج فلم يجز ذلك، ولو كان ذلك بوصية (الميت)
(1)
.
قال مالك: ولا ينبغي أن يحج أحد عن حي زمن أو غيره، ولا أن يتطوع عن ميت ضرورة كان المحجوج عنه أم لا، وليتطوع عنه بغير ذلك أحب إليَّ، قال: وهذِه دار الهجرة لم يبلغنا أن أحدًا منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج عن أحد ولا أمر بذلك ولا أذن فيه. قلت: صح ذلك عن سيد البشر، ففي السنن الأربعة من حديث أبي رزين العقيلي لقيط بن عامر، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، فقال:"حج عن أبيك واعتمر". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح
(2)
، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"
(3)
، والحاكم في "مستدركه" قال: صحيح على شرط الشيخين
(4)
. وقال البيهقي في "خلافياته": رواته ثقات. وقال الإمام أحمد: لا أعلم في إبجاب العمرة حديثًا أجود منه ولا أصح منه.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الباب وحديثه أيضًا السالف في الحج أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم" وذلك في حجة الوداع
(5)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه أبو داود (1810)، والترمذي (930) والنسائي 5/ 111، وابن ماجه (2906).
(3)
"صحيح ابن حبان"(3991).
(4)
"المستدرك" 1/ 481.
(5)
سلف برقم (1855) كتاب جزاء الصيد، باب: حج المرأة عن الرجل.
قال ابن وهب وأبو مصعب: لا يحج أحد عن أحد إلا ابن عن أبيه، رضي أم لا، شيخًا كان أو غيره.
وقال أشهب: إن حج عن الشيخ الكبير أجزأه، وقيل لمالك: أمرني رجل أن أحج عنه وهو حي، قال: افعل ما أمرك به، والحج عن الميت سلف مستوفيًا في كتاب: الحج.
فصل:
وأما الفعل الذي يتضمن فعل النذر خاصة كالصلاة والصوم، فالمشهور من مذاهب الفقهاء أنه لا يفعل، وقال محمد بن عبد الحكم: يصام عنه، وهو القديم للشافعي وصحت به الأحاديث فهو المختار، وقاله أحمد وإسحاق وأبو ثور وأهل الظاهر أيضًا، وقالوا: إن أحب أن يكتري عنه من يصوم عنه جاز، ونقل ابن بطال إجماع الفقهاء أنه لا يصلي أحد عن أحد فرضًا ولا سنة، لا عن حي ولا عن ميت. وليس كما ذكر بل فيه الخلاف.
قال المهلب: ولو جاز أن يصلي أحد عن أحد لجاز ذلك في جميع ما يلزم الأبدان من الشرائع، ولجاز أن يؤمن إنسان عن آخر، وما كان أحد أحق بذلك من الشارع أن يؤمن عن أبويه أو عن عمه أبي طالب، ولما نهي عن الاستغفار لمن استغفر له ولبطل معنى قوله تعالى:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وإنما أراد -والله أعلم- كسب الفرائض، وأما النوافل فقد أمر عليه السلام (الأحياء)
(1)
بقضائها عن الأموات وغيرهم تبرعًا بذلك
(2)
.
(1)
في (ص 2): الأعقاب.
(2)
"شرح ابن بطال" 6/ 159 - 160.
فصل:
واختلف العلماء في وجوب قضاء النذر عن الميت على ورثته، فقال أهل الظاهر: يقضيه عنه وليه وهو واجب عليه صومًا كان أو مالاً.
وقال جمهور العلماء: ليس ذلك على الوارث واجبًا، وإن فعل فقد أحسن إن كان صدقة أو عتقًا، واختلفوا في الصوم وفيما إذا أوصى به، فقالت طائفة: هو في ثلته، وهو قول مالك. وقال آخرون: كل واجب إذا أوصى به فهو من رأس ماله، وأما أثر ابن عمر رضي الله عنهما بالصلاة بقباء وابن عباس نحوه، فهو على وجه الرأي لا على وجه الإلزام. وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما وابن عباس خلاف ما حكى البخاري عنهما. ذكر مالك في "الموطأ": أنه بلغه أن عبد الله
ابن عمر كان يقول: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد
(1)
، وروى أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد
(2)
.
وقوله: فكانت سنة بعدُ، أي: سنة في الحض على التبرر عن الميت. قال ابن القابسي: وهذا يدل أن الموتى ينفعهم العمل الصالح، وإن كان من غير أموالهم، وقد قال تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] فعل هذا سنة لمن فعله.
فصل:
اختلف العلماء في النذر الذي كان على أم سعد بن عبادة فقال قوم: كان صيامًا، واستدلوا بحديث الأعمش عن مسلم البطين، عن سعيد بن
(1)
"الموطأ" ص 202.
(2)
"السنن الكبرى" 2/ 175.
جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها صوم أفأصوم عنها؟ قال: "نعم"
(1)
.
قال بعضهم: ولا يصح أن يجعل حديث الأعمش مفسرًا لحديث الزهري؛ لأنه قد اختلف فيه عن الأعمش، فقال فيه قوم: إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صيام، وهذا يدل أنه ليس السائل عن ذلك سعد بن عبادة وأنها كانت امرأة، وقد ذكرنا أن ابن عباس كان يفتي أن لا يصوم أحد عن أحد، وقال آخرون: كان عتقًا، واستدلوا بحديث القاسم بن محمد أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: "نعم"
(2)
.
(قالوا)
(3)
: وهذا يفسر النذر المجمل في حديث ابن عباس، وقال آخرون: كان صدقة واستدلوا بحديث مالك عن سعد بن عبادة: خرج في بعض المغازي فحضرت أمه الوفاة فقيل لها: أوصي، فقالت: فيم أوصي وإنما المال مال سعد؟ فتوفيت قبل أن يقدم سعد، فلما قدم ذكر ذلك له فقال سعد: يا رسول الله هل ينفعها أن أتصدق (عنها)
(4)
؟ فقال: "نعم"
(5)
.
وليس في هذا بيان النذر المذكور، بل الظاهر في الحديث أنه وصية، والوصية غير النذر، ولا خلاف بين العلماء في جواز صدقة الحي عن الميت نذرًا كان أو غيره.
(1)
مسلم (1148).
(2)
رواه مالك في "الموطأ" ص 487.
(3)
من (ص 2).
(4)
من (ص 2).
(5)
"الموطأ" ص 473.
قلت: وجاء في حديث أنه (
…
)
(1)
. وقال آخرون: كان نذرًا مطلقًا لا ذكر فيه لصيام ولا عتق ولا صدقة. قالوا: ومن جعل على نفسه نذرًا منها فكفارته كفارة يمين، روي هذا عن ابن عباس
(2)
وعائشة وجابر
(3)
.
قال ابن بطال: وهو قول جمهور الفقهاء، وروي عن سعيد بن جبير وقتادة: أن النذر المبهم أغلظ الأيمان، وله أغلظ الكفارات عتق أو كسوة أو إطعام.
قال: والصحيح قول من جعل فيه كفارة يمين لما رواه ابن أبي شيبة عن وكيع، عن إسماعيل بن رافع، عن خالد بن يزيد، عن عقبة بن عامر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر نذرًا لم يسمه فكفارته كفارة يمين"
(4)
.
فصل:
قال المهلب: قوله: "أرأيت لو كان عليها دين" هو تمثيل منه وتعليم لأمته القياس (والاستدلال)
(5)
، وبين ذلك أن الديون لازمة للأموات في ذمتهم، فإن لم يكن لهم ذمة من المال لم يلزمهم الدين إلا في الآخرة، فحذر الشارع من أن يبقى على الميت تباعة من دين كان، أو بحلفه، أو من طاعة كان نذرها، وعرف أن ما لزمه لله أحق أن يقضى بما لزم لأحد من عباده حضًّا وندبًا
(6)
.
(1)
بياض بالأصل.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 3/ 72 (12183).
(3)
رواه عبد الرزاق 8/ 442 (15839، 15840).
(4)
رواه ابن أبي شيبة 3/ 72 (12181).
(5)
من (ص 2).
(6)
"شرح ابن بطال" 6/ 161 - 162.
31 - باب النَّذْرِ فِيمَا لَا يَملِكُ فِي المَعْصِيَةٍ
6700 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» . [انظر: 6696 - فتح 11/ 585].
6701 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ» . وَرَآهُ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ
- وَقَالَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ. [انظر: 1865 - مسلم: 1642 - فتح 11/ 585]
6702 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابن جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ 8/ 178 ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ [انظر: 1620 - فتح 11/ 586]
6703 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ وَهْوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ، فَقَطَعَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ. [انظر: 1630 - فتح 11/ 586]
6704 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» . قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [فتح 11/ 586]
ذكر فيه أحاديث:
أحدها: حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَليُطِعْهُ". الحديث وقد سلف قريبًا.
ثانيها:
حدثنا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم (قَالَ:"إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هذا نَفْسَهُ". وَرآه يَمْشِي بَيْنَ ابنيْهِ.
- وَقَالَ الفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ.
يريد بذلك ما ذكره في الحج، حدثنا محمد بن سلام، حدثنا الفزاري هو مروان فذكره.
ثالثها:
حديث ابن عَبَّاسٍ أنه صلى الله عليه وسلم)
(1)
رَأى رَجُلًا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ.
وعنه أنه صلى الله عليه وسلم مَرَّ وَهْوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ فَقَطَعَهَا صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ.
رابعها:
حديث وُهَيْب، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: بينما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ". قَالَ عَبْدُ الوَهَّابِ: ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
الخزامة بكسر الخاء: حلقة من شعر تجعل للبعير في الحاجز الذي بين المنخرين يشد فيها الزمام، وسلف حديث أبي إسرائيل، وأنه عليه السلام أمره أن يفعل ما هو طاعة من ذلك وهو الصوم، ثم اعلم أنه ليس في
(1)
من (ص 2).
هذِه الأحاديث شيء من معنى النذر فيما لا يملك، وقد سلف قبل هذا شيء منه، نعم، فيها من نذر معصية، وما ليس بطاعة وهو لا يملكها (إذ المعاصي غير مأذون في تعاطيها
(1)
.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مالك: من نذر معصية كالزنا فلا شيء عليه ويستغفر؛ استدلالًا بقوله: "ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه". لم يذكر كفارة، قال مالك: وكذلك إذا نذر ما ليس بطاعة ولا معصية كالأكل مثلًا فلا شيء عليه أيضًا؛ لأنه ليس في شيء من ذلك طاعة؛ استدلالًا بحديث أبي إسرائيل.
قال مالك: ولم أسمع أنه عليه السلام أمره بكفارة، وقد أمره أن يتم ما كان لله طاعة ويترك ما خالفه، وقول الشافعي كقول مالك، وقال أبو حنيفة والثوري: من نذر معصية كان عليه مع تركها كفارة يمين، واحتجوا بحديث عمران بن حصين، وأبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا نذر في معصية لله وكفارته كفارة يمين".
قال ابن بطال: وهذا حديث لا أصل له؛ لأن حديث أبي هريرة إنما يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث، وحديث عمران يدور على زهير بن محمد عن أبيه، وأبوه مجهول لم يرو عنه غير ابنه زهير، وزهير أيضًا عنده مناكير.
فصل:
وفي قوله عليه السلام: "من نذر أن يعصيه فلا يعصه" حجة لمن قال أن من نذر أن ينحر ابنه فلا كفارة عليه؛ لأنه لا معصية أعظم من إراقة دم مسلم بغير حق ولا معنى للاعتبار في ذلك بكفارة الظهار في قول المنكر من
(1)
من (ص 2).
القول والزور، كما اعتبر ذلك ابن عباس؛ لأن الظهار ليس بنذر، والنذر في المعصية قد جاء فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مالك: من نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم فلا شيء عليه، وكذلك إن لم يرد أن يحجه، وإن نوى وجه ما ينحر فعليه الهدي.
وقال أبو حنيفة: إذا حلف أن ينحر ولده عليه شاة، وقال أبو يوسف: لا شيء عليه، وبه يأخذ الطحاوي.
فصل:
وفي حديث أبي إسرائيل دليل أن السكوت عن المباح أو عن ذكر الله ليس من طاعة الله، وكذلك الجلوس في الشمس وفي معناه كل ما يتأذى به الإنسان مما لا طاعة لله ولا قربة بنص كتاب أو سنة، كالحفاء وغيره، وإنما الطاعة ما أمر الله ورسوله بالتقرب بعمله لله. ألا ترى أنه عليه السلام أمره بإتمام الصيام لما كان لله طاعة
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 6/ 163 - 165.
32 - باب مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا فَوَافَقَ النَّحْرَ أَوِ الفِطْرَ
6705 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا حَكِيمُ بْنُ أَبِي حُرَّةَ الأَسْلَمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ لَا يَأْتِيَ عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلاَّ صَامَ، فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ. فَقَالَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الأَضْحَى وَالْفِطْرِ، وَلَا يَرَى صِيَامَهُمَا. [انظر: 1994 - مسلم: 1139 - فتح 590].
6706 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلَاثَاءَ أَوْ أَرْبِعَاءَ مَا عِشْتُ، فَوَافَقْتُ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ. فَقَالَ: أَمَرَ اللهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مِثْلَهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ. [انظر: 1994 - مسلم: 1139 - فتح 11/ 591].
ذكر فيه حديث حَكِيمِ بْنِ أَبِي حُرَّةَ الأَسْلَمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ لَا يَأْتِيَ عَلَيْهِ يَوْم إِلَّا صَامَ، فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ. فَقَالَ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَة حَسَنَةٌ، لَمْ يَكُنْ يَصُومُ يَوْمَ الأَضْحَى وَالْفِطْرِ وَلَا يَرى صِيَامَهُمَا.
وحديث زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ: كُنْتُ مَعَ ابن عُمَرَ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: نَذَرْتُ أَنْ أَصُومَ كُلَّ يَوْمِ ثَلَاثَاءَ أَوْ أَرْبِعَاءَ مَا عِشْتُ، فَوَافَقْتُ هذا اليَوْمَ يَوْمَ النَّحْرِ. فَقَالَ: أَمَرَ اللهُ بِوَفَاءِ النَّذْرِ، وَنُهِينَا أَنْ نَصُومَ يَوْمَ النَّحْرِ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ مِثْلَهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ.
الشرح:
العلماء مجمعون أنه يحرم صوم يومي العيد: الفطر والأضحى
(1)
، قضاءً كان أو نذرًا، ومن نذر صومهما فقد نذر معصية
(2)
وهو داخل تحت قوله عليه السلام: "ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" ومشهور مذهب مالك ومذهب الشافعي عدم انعقاده ولا قضاء.
وقال أبو حنيفة: ينعقد ولا يجب صيامهما، ولكن يجب عليه قضاؤهما، فإن صامهما فقد فعل فعلًا منهيًا عنه ويقع عن نذره، واختلفوا في قضائهما لمن نذر صيام يوم بعينه فوافقهما، وقد أوضحته في كتاب الصيام. فراجعه.
فصل:
قوله: كل يوم ثلاثاء أو أربعاء، هما لا ينصرفان لأجل ألف التأنيث الممدودة كألف حمراء وسمراء وشبه ذلك ويجمعان ثلاثاوات وأربعاوات، والأربعاء بفتح الهمزة وكسر الباء، وحُكي عن بعض بني أسد فتحها.
فصل:
وجواب ابن عمر جواب من أشكل عند الحكم وتوقف، نعم جوابه أولاً أنه لا يصام، وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم.
(1)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 60.
(2)
انظر: "الإقناع" 2/ 722 - 723.
33 - باب هَلْ يَدْخُلُ فِي الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ الأَرْضُ وَالْغَنَمُ وَالزَّرْعَ وَالأَمْتِعَةُ
؟
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: قَالَ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ. قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» . وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ. لِحَائِطٍ لَهُ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ.
6707 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ -مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِلاَّ الأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، فَأَهْدَى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غُلَامًا يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ، فَوَجَّهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى وَادِي الْقُرَى، حَتَّى إِذَا كَانَ بِوَادِي الْقُرَى بَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلاً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سَهْمٌ عَائِرٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» . فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ النَّاسُ جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ" أَوْ "شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ". [انظر: 4234 - مسلم:115 - فتح 11/ 512].
فهذان التعليقان أسندهما في كتاب: الوقف كما سلف
(1)
.
ثم ساق حديث إِسْمَاعِيل: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زيدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ أَبِي الغَيْثِ -مَوْلَى ابن مُطِيعٍ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: خَرَجْنَا مَعَ رَسولِ
(1)
قول عمر سلف برقم (2772) كتاب: الوصايا، باب: الوقف كيف يكتب، أما قول أبي طلحة فسلف برقم (2769) باب: إذا وقف أرضًا ولم يبين الحدود فهو جائز وكذلك الصدقة.
اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً إِلَّا الأَمْوَالَ وَالثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ، فَأَهْدى رَجُلٌ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ غُلَامًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ .. الحديث، وقد سلف بطوله، وأراد البخاري كما قال المهلب أن يبين أن المال يقع على كل ممتلك. ألا ترى قول عمر رضي الله عنه:(أصبت أرضًا لم أصب مالاً قط أنفس منه)، وقول أبي طلحة:(أحب أموالي إليَّ بيرحاء) وهم القدوة في الفصاحة، ومعرفة لسان العرب، وأقرهما الشارع على ذلك.
(وأما قوله في حديث أبي هريرة: فلم نغنم إلى آخره، فقد اختلفت الرواية في ذلك)
(1)
عن مالك، فروى ابن القاسم مثل رواية البخاري، وروى يحيى بن يحيى، وجماعة عن مالك إلا الأموال والمتاع من الثياب، وإنما تخرج هذِه الرواية على لغة دوس قبيلة أبي هريرة؛ فإنها لا تسمي العين مالاً، وإنما الأموال عندهم العروض والنبات وعند غيرهم المال الصامت من الذهب والفضة خاصة. والمعروف من كلام العرب أن كل ما يمول ويملك فهو مال، وإنما أراد البخاري -والله أعلم- الرد على أبي حنيفة فإنه يقول: إن من حلف أو نذر أن يتصدق بماله كله، فإنه لا يقع يمينه ونذره من الأموال إلا على ما فيه الزكاة خاصة، وعند مالك ومن تبعه: تقع يمينه على جميع ما يقع عليه اسم مال.
قال ابن بطال: وأحاديث هذا الباب تشهد له وهو الصحيح
(2)
. (قال ابن سيده في "العويص": العرب لا توقع اسم المال مطلقًا
(1)
من (ص 2).
(2)
"شرح ابن بطال" 6/ 167.
إلا على الإبل وذلك لشرفها عندهم وكثرة غنائها، قال: وربما أوقعوه على أنواع المواشي كلها.
وحكى المطرز: أن المال هو الصامت كالذهب والفضة والناطق، وحكى العافي عن ثعلب أنه قال: المال عند العرب أقله ما يجب فيه الزكاة وما نقص من ذلك فلا يقال له مال، ومنهم من أوقعه على جميع ما يملكه الإنسان وهو الظاهر؛ لقوله تعالى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] فلم يخص شيئًا دون شيء، حكى هذا ابن سيده وغيره وهو اختيار كثير من المتأخرين)
(1)
.
فصل:
جاء في حديث أبي طلحة أنه عليه السلام قال له: "اجعلها في فقراء أقاربك" قال أنس: فجعلها أبو طلحة لحسان وأُبي بن كعب، وكانا أقرب إليه مني.
فصل:
وبيرحاء: فيه أوجه سلفت في بابها، قال بعضهم: وقع مبنيًا على فتح الراء كأنه مركب مثل سيبويه وبعلبك.
فصل:
فيه: جواز إعطاء الفقير فوق النصاب؛ لأن نصف الحائط أكثر من نصاب، وهو قول في مذهب مالك.
قال أبو عبد الملك: وفيه: أن من تصدق بشيء من ماله تعين أنه يلزمه، وإن كان أكثر من ثلثه، وهو مشهور مذهب مالك، وفي "النوادر" عق ابن نافع، يجزئه الثلث، وفيما ذكره نظر؛ لأنه قال:
(1)
من (ص 2).
كان أبو طلحة أكبر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، فالظاهر أن هذا يسير في جنب ماله.
فصل:
الشملة في قصة مدعم: كساء يشتمل به.
84
كتاب كفارات الأيمان
84 - كتاب كفارات الأيمان
1 - (كتاب)
(1)
كَفَّارَاتِ الأَيْمَانِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]. وَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَتْ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ: أَوْ أَوْ، فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ، وَقَدْ خَيَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَعْبًا فِي الْفِدْيَةِ.
6708 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُهُ- يَعْنِي: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «ادْنُ» . فَدَنَوْتُ، فَقَالَ:«أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟» . قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «فِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ» .
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالنُّسُكُ شَاةٌ، وَالْمَسَاكِينُ سِتَّةٌ. [انظر: 1814 - مسلم: 1201 - فتح 11/ 513]
(1)
في (ص 2): باب.
ثم ساق حديثه عن كعب بن عجرة في فدية الأذى السالف في الحج، وفيه أبو شهاب عبد ربه بن نافع الخياط صاحب الطعام، والعلماء متفقون على أن (أو) تقتضي التخيير كما ذكره البخاري عن ابن عباس وغيره، وأن الحانث في يمينه بالخيار، إن شاء كسا، وإن شاء أطعم، وإن شاء أعتق، فإن عجز عن هذِه الثلاثة صام ثلاثة أيام. واختلفوا في مقدار الإطعام، فقالت طائفة: يجزئه لكل إنسان مد من طعام بمد الشارع، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وأبي هريرة، وهو قول عطاء
(1)
والقاسم وسالم والفقهاء السبعة
(2)
، وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، غير أن مالكًا قال: إن أطعم بالمدينة فمدًّا لكل مسكين؛ لأنه وسط عيشهم، وسائر الأمصار وسطًا من عيشهم.
وقال ابن القاسم: يجزئه مدٌّ بمد الشارع حيث ما أخرجه. وقالت طائفة: يطعم لكل مسكين نصف صاع حنطة، وإن أعطى تمرًا أو شعيرًا فصاعًا صاعًا، روي هذا عن عمر بن الخطاب وعلي، ورواية عن زيد بن ثابت
(3)
، وهو قول النخعي والشعبي، والثوري وسائر الكوفيين، واحتجوا بحديث أنه عليه السلام أمره أن يطعم لكل مسكين نصف صاع في فدية الأذى، كما أخرجه مسلم
(4)
، والحجة للقول الأول أنه عليه السلام أمر في كفارة الواقع على أهله في رمضان بإطعام مد لكل مسكين، وإنما ذكر البخاري حديث كعب في فدية الأذى هنا من
(1)
روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة في "المصنف" 3/ 74.
(2)
انظر: "الإشراف على مذاهب أهل العلم" 2/ 250.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 8/ 506 - 507.
(4)
مسلم (1201) كتاب الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى.
أجل التخيير في كفارة الأذى كما هي في باب كفارة اليمين بالله، ومن الحجة لأهل هذِه المقالة أن أوسط ما يطعم أهلينا ما غلب في العرف، وهو ما يغدي ويعشي ويشبع، وليس في العرف أن يأكل الواحد صاعًا من شعير أو تمر، الذي هو عندهم ثمانية أرطال، ولا نصف صاع من بر، وهو أربعة أرطال، والحكم معلق على الغالب لا على النادر، ويجوز أن يغدي المساكين ويعشيهم عند مالك والكوفيين، وقال الشافعي: لا يعطيهم المد إلا دفعة واحدة.
قال ابن القصار: والجميع عندنا يجوز لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} ولم يخص، فإن أطعم بالغداة والعشي فقد أطعم، وعلى أصل مالك: يجوز أن يغديهم ويعشيهم دون إدام، لأن الأصل عنده مد دون إدام، وذهب مالك في الأكل إلى الزيت.
قال إسماعيل: وأحسبه ذهب إليه، لأنه الوسط من أدم أهل المدينة. وقال غيره: من ذهب إلى مد بمده عليه السلام تأول قوله تعالى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] أنه أراد الوسط من الشبع، ومن ذهب إلى مدٍّ من بُرٍّ أو صاع من شعير ذهب إلى الشبع، وتأول في {أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} الخبز واللبن، والخبر والسمن، والخبر والزيت.
قالوا: والأعلى الخبز واللحم، والأدون دون إدام، ولا يجوز عندهم الأدون لقوله {مِنْ أَوْسَطِ} .
فصل:
واختلف فيما يجزئ من الكسوة في الكفارة، فقال مالك: ما يستر عورة المصلي، فالرجل يستره القميص، والمرأة قميص ومقنعة، لأنها كلها عورة ولا يجوز أن يظهر في الصلاة إلا وجهها وكفاها.
وقال أبو حنيفة والشافعي: يجزئه ما يقع عليه اسم كسوة. حجة مالك قوله تعالى {مَنْ أوْسَطِ} فعطف الكسوة على الأوسط، فكما يطعم الأوسط فكذلك يكسو الأوسط.
فصل:
شرط الرقبة أن تكون سليمة من كل عيب يخل بالعمل إخلالا ظاهرا، وتفاريع ذلك مبسوط في الفروع.
فصل:
فإن عجز عن الجميع صام ثلاثة أيام كما سلف، وفي وجوب موالاتها قولان: أحدهما: يجوز تفريق صومها، وتتابعها أحب، وهو قول مالك، والأظهر عند الشافعي. وثانيهما: تجب الموالاة ولا يجزئ التفريق، وهو قول أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وحجتهم قراءة ابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وحجة الأولين أن الله ذكر صيامها ولم يشترط فيه تتابعًا، كما لم يشترط في فدية الأذى.
فصل:
الآية قوله {فَفِدْيَةٌ} التقدير: فحلق ففدية، واختلف العلماء في المقدار الذي تجب فيه الفدية، فعند مالك: تتعلق الفدية بمقدار ما يبرئه ويزول معه الأذى. وعند الشافعي: تتعلق بثلاث شعرات فما فوق. وقال أبو حنيفة: ربع الرأس، وقال أبو يوسف بالنصف لا مادونه، وإن حلق شعر بدنه وجبت عليه الفدية عند الجميع خلافًا لأهل الظاهر.
فصل:
والنسك في فدية الأذى شاة كما صرح به في الحديث يذبحها حيث
شاء، هذا هو المشهور من مذهب مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز إلا في الحرم، وقال ابن الجهم: يذبحه بمكة، واتفقوا أنه يصوم حيث شاء.
فصل:
قوله: (والصيام ثلاثة أيام) هو قول كافة الفقهاء، وذكر ابن المنذر عن عكرمة والحسن البصري ونافع أن الصيام في هذا عشرة أيام، وأن الصدقة على عشرة مساكين، والإطعام عندنا وعند مالك ستة مساكين، مدين لكل مسكين. وقال أبو حنيفة: إن أطعم برًّا أطعم مدين، وإن أطعم تمرًا فأربعة وعشرين مدًّا لستة مساكين.
فصل:
والهوام في حديث كعب: القمل، سماها هوام؛ لأنها تهم في الرأس -أي: تدب- يقال: هو يتهيم رأسه إذا كان يفليه، ذكره الهروي، وقال الجوهري: لا يقع هذا الاسم إلا على المخوف من الأخناش
(1)
. وقال الهروي: الهوام: الحيات وكل ذي سم يقتل، وأما ما يسم ولا يقتل فهي السوام مثل العقرب والزنبور، قال: ومنها الهوام مثل: القنافد والخنافس والفأر واليرابيع، قال: وقد تقع الهامة على ما يدب من الحيوان
(2)
، وذكر ما قدمناه عنه في تفسير الحديث.
وقال ابن فارس: الهوام: حشرات الأرض، وهو دوابها الصغار كاليرابيع والضباب
(3)
.
(1)
"الصحاح" 5/ 2062.
(2)
قاله ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" 5/ 275.
(3)
"مجمل اللغة" 2/ 892.
2 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى عز وجل: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]
مَتَى تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ؟
6709 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ فِيهِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ. قَالَ: «مَا شَأْنُكَ؟» . قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: «تَسْتَطِيعُ تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «اجْلِسْ» . فَجَلَسَ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ -وَالْعَرَقُ المِكْتَلُ الضَّخْمُ- قَالَ:«خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ» . قَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ:«أَطْعِمْهُ عِيَالَكَ» . [انظر: 1936 - مسلم: 1111 - فتح 11/ 595].
ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في المجامع في رمضان، وقد سلف في بابه، وأراد البخاري بإيراده أن يعرفك أن الكفارة تجب بعد الحنث وانتهاك الذنب، وسيأتي مذاهب العلماء في الكفارة قبل الحنث وبعده بعد هذا -إن شاء الله تعالى- وقد تقدم ما للعلماء في الفقير تجب عليه الكفارة، ولا يجد ما يكفر هل تسقط عنه أو تبقى في ذمته إلى حال يسره في كتاب الصيام، واستدل مالك والشافعي بهذا الحديث أن الإطعام في كفارة الأيمان مُدٌّ لكل مسكين؛ لأن الكيل الذي أتى
به الشارع، وقال للواطئ:"خذ فتصدق به" كان فيه خمسة عشر صاعًا، وذلك ستون مُدًّا، فالذي يصيب كل مسكين منهم مدٌّ مدٌّ، وزعم الكوفيون أنه قد يجوز أن يكون الشارع لما علم حاجة الرجل أعطاه المكتل من التمر بالخمسة عشر صاعًا ليستعين به فيما وجب
عليه، لا على أنه جميع ما وجب عليه، كالرجل يشكو إلى الرجل ضعف حاله، وما عليه من الدين، فيقول: خذ هذِه العشرة دراهم فاقض بها دينك، وليس على أنها تكون قضاء من جميع دينه، ولكن على أن تكون قضاء لمقدارها من دينه، وهذِه دعوى لا دليل عليها إلا الظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا، وقول مالك أولى بالصواب، وهو ظاهر الحديث؛ لأنه عليه السلام لم يذكر مقدار ما تبقى عليه من الكفارة بعد الخمسة عشر صاعًا، ولم يكن يسعه السكوت عن ذلك حتى يبينه، لأنه عليه السلام بُعث معلمًا.
فصل:
قوله: (هلكت) يريد بما وقع فيه من الإثم، وقد يقال أنه واقع متعمدًا، وفي الناسي خلاف، ومذهبنا ومذهب مالك أنه لا كفارة عليه خلافًا لابن الماجشون.
وقوله: ("تستطيع تعتق رقبة؟ ") احتج به الشافعي وأبو حنيفة على أن كفارة الوقاع مرتبة، وهو أحد قولي ابن حبيب.
ورواه مطرف وابن الماجشون عن مالك في "المدونة": لا أعرف غير الإطعام. وقد سلف ذلك في بابه واضحًا، وعنه أنها مخيرة.
-وقال أبو مصعب: إن أفطر لجماع كفر بالعتق والصيام، وإن أفطر بأكل وشرب فالإطعام فقط.
وقال الحسن البصري: عليه عتق رقبة، أو هدي بدنة، أو عشرون صاعًا لأربعين مسكينا.
فصل:
وقوله: (حتى بدت نواجذه) هو بالذال المعجمة. قال الأصمعي:
هي الأضراس
(1)
، وهو ظاهر الحديث، ولأن جل ضحكه التبسم. وقال غيره: هي المضاحك. وقال الجوهري: هي آخر الأضراس في أقصى الأسنان بعد الأرحاء وهي ضرس الحلم؛ لأنها تنبت بعد البلوغ وكمال العقل، تقول: ضحك حتى بدت نواجده: إذا استغرق فيه
(2)
.
وقال ابن فارس: الناجذ: السنن بين الأنياب والضرس، وقيل: الأضراس كلها نواجذ
(3)
. قيل: سبب ضحكه وجوب الكفارة على هذا المجامع، وأخذه ذلك صدقة وهو غير آثم.
(1)
"غريب الحديث" لابن الجوزي 2/ 393 ولفظه: هي أقصى الأضراس.
(2)
"الصحاج" 2/ 571، مادة (نجذ).
(3)
"مجمل اللغة" 2/ 855، مادة (نجذ).
3 - باب مَنْ أَعَانَ الْمُعْسِرَ فِي الكَفَّارَة
6710 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ. فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟» . قَالَ: وَقَعْتُ بِأَهْلِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: «تَجِدُ رَقَبَةً؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِعَرَقٍ - وَالْعَرَقُ: المِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ- فَقَالَ: «اذْهَبْ بِهَذَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ» . قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنَّا يَا رَسُولَ اللهِ؟! وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ مِنَّا. ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ، فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» . [انظر: 1936 - مسلم: 1111 - فتح 11/ 596]
ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور أيضًا: وفيه: فَقَالَ: "اذْهَبْ بهذا فَتَصَدَّقْ بِهِ" وهو مطابق لما ترجم له.
4 - باب يُعْطِي فِي الْكَفَّارَةِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا
6711 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ. قَالَ: «وَمَا شَأْنُكَ؟» . قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» . قَالَ: لَا أَجِدُ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: «خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ» . فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟! مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَفْقَرُ مِنَّا. ثُمَّ قَالَ: «خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» . [انظر: 1936 - مسلم: 1111 - فتح 11/ 596].
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أيضًا وفيه؛ "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ "
…
الحديث، وليس مطابقا له ظاهرًا، إذ حكم كفارة اليمين مخالف لكفارة الوقاع في رمضان؛ ولكن وجه إيراده ما قال المهلب أنه جاء قوله تعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] مبهمًا بغير شرط قريب ولا بعيد، وبين الشارع في كفارة الوقاع أنه جائز في الأقارب؛ لقوله:"أطعمه أهلك" فقاس بذلك البخاري المبهم من كفارة الأيمان بالله أنه مفسر، والمفسر يقضي على المجمل، إلا أن أكثر العلماء على أن الفقير يبقى في ذمته، فمن قال: هذا لا يجيز أن يعطي الكفارة أحدًا من أهله ممن تلزمه نفقته إلا وتكون باقية في ذمته، وإن كان ممن لا يلزمه نفقتهم فيجوز أن يعطيهم ويجزئه في الكفارة
(1)
. وقد سلف ذلك في الصيام أيضًا.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 172 - 173.
5 - باب صَاعِ المَدِينَةِ. وَمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَرَكَتِهِما، وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ
6712 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ الْمُزَنِيُّ، حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ الْيَوْمَ، فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ. [انظر: 1859 - فتح 11/ 517].
6713 -
حَدَّثَنَا مُنْذِرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجَارُودِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ -وَهْوَ سَلْمٌ- حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المُدِّ الأَوَّلِ، وَفِي كَفَّارَةِ اليَمِينِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو قُتَيْبَةَ: قَالَ لَنَا مَالِكٌ: مُدُّنَا أَعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ، وَلَا نَرَى الفَضْلَ إِلاَّ فِي مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ لِي مَالِكٌ: لَوْ جَاءَكُمْ أَمِيرٌ فَضَرَبَ مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ؟ قُلْتُ كُنَّا نُعْطِي بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: أَفَلَا تَرَى أَنَّ الأَمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [فتح 11/ 597].
6714 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ» [انظر: 2130 - مسلم: 1368 - فتح 11/ 597]
ذكر فيه أحاديث:
أحدها: حديث السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ الصَّاعُ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدًّا وَثُلُثًا بِمُدِّكُمُ اليَوْمَ، فَزِيدَ فِيهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ.
ثانيها: حديث مَالِكٍ، عَنْ نَافِعِ قَالَ: كَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما يُعْطِي زَكَاةَ رَمَضَانَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم المُدِّ الأَوَّلِ، وَفِي كَفَّارَةِ اليَمِينِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وقَالَ أً بُو قُتَيْبَةَ: قَالَ لَنَا مَالِكٌ: مُدُّنَا أَعْظَمُ مِنْ مُدِّكُمْ، وَلَا نَرى الفَضْلَ إِلاَّ في مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ لِي مَالِكٌ: لَوْ
جَاءَكُمْ أَمِيرٌ فَضَرَبَ لكم مُدًّا أَصْغَرَ مِنْ مُدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِأَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُعْطُونَ؟ قُلْتُ: كُنَّا نُعْطِي بِمُدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ: أَفَلَا تَرى أَنَّ الأَمْرَ إِنَّمَا يَعُودُ إلى مُدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالتها: حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ في مِكْيَالِهِمْ وَصَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ".
الشرح:
الحديث الأول يدل على أن مدهم ذلك الوقت حين حدَّث به السائل زنته أربعة أرطال، فإذا زيد عليه (ثلثه)
(1)
-وذلك رطل وثلث- قام منه خمسة أرطال وثلث وهو الصاع بالبغدادي، بدليل أن مده عليه السلام فيه رطل وثلث، وصاعه أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم.
وأما مقدار ما زيد عليه في زمن عمر بن عبد العزيز فلا يعلم ذلك إلا بخبر، وإنما الحديث يدلس أن مدهم ثلاثة أمداد بمده، ووصف ابن عمر المد بالأول ليفرق بينه وبين مد هشام بن الحارث الذي أخذ به أهل المدينة في كفارة الظهار؛ ليغلظها على المظاهرين الذين شهد عليهم أنهم يقولون منكرًا من القول وزورا، فجعلوها بمد هشام، وهو أكبر من مده عليه السلام بثلثي مد، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مد واحد، وهو الذي نقله أهل المدينة، وعمل به الناس إلى اليوم قرنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وإجماع أهل المدينة (حجة)
(2)
عند مالك، ومن ذلك: فضل الأذان والإقامة، وتقديم أذان الصبح قبل وقتها، وترك أخذ الزكاة من الخضروات، وقد رجع أبو يوسف بمثل هذا في تقدير
(1)
في الأصل: ثلاثة.
(2)
من (ص 2).
المد والصاع، وترك مذهب إمامه. والفقهاء على قولين في كفارة الأيمان، فطائفة يقولون: إن الكفارات كلها بمده عليه السلام مد مد لكل مسكين، وكذلك الإطعام عمن وطئ في رمضان حتى أتى رمضان آخر، وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف كما قلناه على ما ثبت في هذِه الأحاديث، وحديث المواقع في رمضان.
وقال أهل العراق: الكفارات كلها مدان، مدان لكل مسكين، فالمد رطلان، والصاع ثمانية أرطال، قياسًا على ما أجمعوا عليه من فدية الأذى في حديث كعب السالف أنه عليه السلام أمر أن يطعم كل مسكين نصف صاع، وهو مدان
(1)
، وما أسلفناه يرده.
فصل:
قال المهلب: وإنما دعا الشارع لهم بالبركة في مكيالهم ومدهم وصاعهم، فإنه خصهم من بركة دعوته بما اضطر أهل الأرض كلها إلى أن يشخصوا إلى المدينة ليأخذوا هذا (المعيار)
(2)
المدعو له بالبركة، وينقلوه إلى بلدانهم، ويكون ذلك سنة في معايشهم وما افترضه الله عليهم لعيالهم، وقد سلف في كتاب الوضوء والغسل الحجة لمقدار مده وصاعه بما فيه مقنع
(3)
.
(1)
سلف برقم (1816) كتاب المحصر، باب: الإطعام في الفدية نصف صاع. ورواه مسلم برقم (1201) كتاب الحج، باب: جواز حلق الرأس للمحرم
…
(2)
في (ص 2): المكيال.
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 173 - 175.
6 - باب قَوْلِ اللهِ عز وجل: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89]، وَأَيُّ الرِّقَابِ أَزْكَى
؟
6715 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ سَعِيدٍ ابْنِ مَرْجَانَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً، أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ» . [انظر: 2517 - مسلم: 1509 - فتح 11/ 599]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُسْلِمَةً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ، حَتى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ".
وقد سلف.
ويريد به: أن من أعتق عتق من النار البعض بالبعض، ويصح التبعيض كما في قطع اليد أئو غيرها من الأعضاء؛ لأنه عليه السلام قال:"حرم الله على النار أن تأكل موضع السجود"
(1)
.
وقوله: ("حتى فرجه بفرجه")(حتى) هنا عاطفة، وهي عند النحويين لا تعطف إلا بثلاث شروط: أن تعطف قليلاً على كثير، وأن يكون من جنسه، وأن يراد به التعظيم أو التحقير، والقليل (هنا الفرج، والكثير)
(2)
الأعضاء وهو من جنسها، والمراد به: التحقير، فيكون "فرجه" منصوبًا بالعطف.
(1)
سلف برقم (6573) كتاب الرقاق، باب: الصراط جسر جهنم، ورواه مسلم برقم (182) كتاب الإيمان، باب: معرفة طريق الرؤية.
(2)
من (ص 2).
فصل:
قد أسلفنا في الصوم أنه يجزئ الكافرة والصغيرة عند أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول الكوفيين وأبي ثور، وكذا المعيبة عند داود، فإن مالكًا والشافعي وأحمد يشترطون الإيمان، وكذا الأوزاعي، قال الكوفيون: فندب به في كفارة قتل الخطأ خاصة دون كفارة اليمين والظهار، فلا تقاس الرقبة كما لم يقس الصوم المطلق على المتتابع، وكما لم يجعل الإطعام في القتل بدلاً من الصوم قياسًا على الظهار، أجاب الأكثرون يحمل المطلق على المقيد، فإن علة التقييد كونها كفارة، فألحق (بها)
(1)
مالم يقيد.
ألا ترى أن الله تعالى شرط العدالة في الشهادة، حيث قال:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقال في موضع آخر {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ولم يختلف العلماء في أن العدالة من شرط الإشهاد في التبايع، فوجب أن تكون مثل ذلك في الرقبة، فلما قيدت في موضع استغني عن إعادتها في غيره. ألا ترى أنه عليه السلام إنما حضَّ على عتق المؤمن لأنه أزكى وأطهر. ولم يختلف العلماء في جواز عتق الكافر في التطوع، واحتج مالك في ذلك بقوله تعالى:{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] فالمن: العتق للمشركين، وقد مَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جماعة منهم
(2)
(1)
في (ص 2): به.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 176.
7 - باب عِتْقِ المُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا
وَقَالَ طَاوُسٌ: يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ.
6716 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ دَبَّرَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟» . فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ النَّحَّامِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: عَبْدًا قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ. [انظر: 2141 - مسلم: 997 - فتح: 11/ 600]
ثم ساق فيه حديث جابر في بيع المدبر، وليس من الكفارة في شيء، إنما فيه جواز بيع المدبر، إلا أن يقال: لو وجبت عليه كفارة لما وجد شيئًا يكفر به إلا مدبره، أو يقال: لما جاز بيعه جاز عتقه في الكفارة وغيرها كما سيأتي بعد.
وأثر طاوس أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد فيه ليث عنه، أخرجه عن ابن علية عنه: يجزئ عتق المدبر في الكفارة وأم الولد في الظهار
(1)
. وقد اضطربت روايته عن طاوس في الجواز وعدمه، فيقال: كيف علقه بصيغة الجزم، ولعل له طريقًا آخر غيره.
وممن قال بقول طاوس فيما ذكره ابن أبي شيبة الحسن في المدبر، وبقوله في أم الولد إبراهيم وعلي.
وخالف في ذلك الزهري والشعبي والحسن وحماد، وخالف في المدبر الزهري وإبراهيم والشعبي
(2)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 78 - 79.
(2)
المصدر السابق 3/ 78 - 79.
واختلف العلماء في هذا الباب، فقال مالك: لا يجوز أن يعتق في الرقاب الواجبة مكاتب ولا مدبر ولا أم الولد، ولا يعتق إلى سنين، وهو قول الكوفيين والأوزاعي والشافعي، إلا إن الشافعي أجاز عتق المدبر، (وكذا أبو ثور، وقال الأوزاعي وأصحاب الرأي وأبو عبيد: لا يجزئه
(1)
وإن الكوفيين والأوزاعي قالوا: إن كان المكاتب قد أدى شيئًا من كتابته فلا يجوز عتقه في الكفارة، وإن لم يؤد شيئًا جاز عتقه، وبه قال الليث وأحمد وإسحاق، وفيه قول ثالث: أن عتقه يجزئ وإن أدى بعض كتابته؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم، فهو يباع. وقد اشترت عائشة بريرة بأمر الشارع، هذا قول أبي ثور.
وحجة مالك ومن وافقه أن المكاتب والمدبر وأم الولد قد ثبت لهم عقد حرمة لا سبيل إلى رفعها، والله تعالى إنما ألزم عتق رقبة واجبة أن ينوي عتقها من غير عقد (حرية)
(2)
تقدمت فيها قبل عتقه، قال تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولم يقل: بعض رقبة.
واحتج الشافعي بأن المدبر (يجزئ)
(3)
عتقه في الكفارة بحديث جابر في الباب، فلما جاز بيعه جاز عتقه فيها وغيرها؛ لأنه لو كانت فيه شبهة الحرية لم يبعه الشارع، ويقضي به المالكيون بأن كثيرًا ممن يجوز بيعه لا يجوز عتقه كالأعمى والمقعد وشبهه.
وقال مالك والكوفيون: إنما بيع المدبر؛ لأن تدبيره كان سفهًا، وكان من الإعلان بسوء النظر لنفسه؛ فلذلك رده الشارع؛ لأن تدبيره كلا تدبير.
(1)
من (ص 2).
(2)
في (ص 2): حرمة.
(3)
في (ص 2): يحرم.
وبه احتج بعض العلماء في جواز نقض أفعال السفيه قبل أن يولى عليه، وأما التدبير الصحيح بخلاف هذا، لا يجوز أن يباع من يثبت له ذلك؛ لأنه قد ثبت له شرط الحرية بعد الموت، وعبارة ابن التين: يحتمل أن يكون مديانا، فردَّ الدين تدبيره، إن كان تدبيرًا معلقا نصفه إن كان: مِتُّ من مرضي هذا، قال: وقد اختلف عندنا إذا دبر في مرضه ولم يقل: إن من من مرضي هذا، هل له أن يرجع عنه.
فصل:
وأما عتق أم الولد في الرقاب الواجبة ففقهاء الأمصار -منهم مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو عبيد- على أنه لا يجوز عتقها في ذلك؛ من أجل أنه قد ثبت لها شرط الحرية بعد موت سيدها على ما حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة.
وما ذكره البخاري، عن طاوس فيها هو قول النخعي والحسن البصري، كما ذكره ابن بطال، وهو خلاف ما أسلفناه عن الحسن، وحجتهم الإجماع على أن أحكامها في خراجها وحدودها أحكام أمة لا حرة.
فصل:
وأما عتق ولد الزنا في الرقاب الواجبة فأجازه الفقهاء، روي ذلك عن عمر وعلي وعائشة، وجماعة من الصحابة.
وقال عطاء والشعبي والنخعي: لا يجوز عتقه. وهو قول الأوزاعي، وما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إنه شر الثلاثة"
(1)
فقد روي عن ابن عباس وعائشة إنكار ذلك.
(1)
رواه أبو داود (3963)، وأحمد 2/ 311.
قال ابن عباس: لو كان شر الثلاثة لما استوفى بأمه حتى تضعه
(1)
. وقالت عائشة: ما عليه من ذنب أبويه شيء، ثم قرأت {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
(2)
[الأنعام: 164].
قال ابن المنذر: روينا عن فضالة بن عبيد وأبي هريرة: أجزأه، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وطاوس وإسحاق والشافعي وأحمد وأبو عبيد، وبه نقول لدخوله في قوله تعالى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} .
فصل:
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من وجبت عليه كفارة يمين فأعتق عنها رقبة أن ذلك يجزئ عنه، واختلفوا في عتق غير المؤمنة عن الكفارة، فكان عطاء وإبراهيم وأصحاب الرأي يجيزونه، وقال مالك والشافعي وأبو عبيد والأوزاعي: لا يجزئه.
واختلفوا في رجل يعتق عبدًا بينه وبين آخر عن رقبة عليه، فكان الشافعي وأبو ثور يقولان: لا يجزئه، وبه قال محمد بن الحسن وأبو يوسف: إذا كان موسرًا، ويضمن لشريكه (حصته)
(3)
، وقال أبو حنيفة: لا يجزئه.
واختلفوا في الرجل يشتري من يعتق عليه من والد أو ولد ينوي بذلك العتق من كفارة عليه، فقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا يجزئه.
(1)
انظر: "التمهيد" 24/ 36.
(2)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 454، والحاكم 4/ 100 والبيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 58.
(3)
من (ص 2).
واختلفوا في عتق الصغير عن الرقاب الواجبة، فكان الحسن يقول: يجزئ. وبه قال الزهري وعطاء والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد وأصحاب الرأي.
وقال مالك: من صام وصلى أحب إلي، وبه قال أحمد. قال ابن المنذر: وظاهر الآية الإجزاء، واجتمعوا أنه إذا كان أعمى أو مقعدًا أو مقطوع اليدين، أو أشلهما أو الرجلين أنه لا يجزئ، وقال مالك: لا يجزئ العرج الشديد، وقال الشافعي: يجزئ الخفيف. وقال أصحاب الرأي: يجزئ مقطوع أحد اليدين واحد الرجلين، ولا يجزئ ذلك في قول الشافعي وأبي ثور، والنظر دال على ما قالوا، وأن ما أضر بالعمل إضرارًا بينًا لا يجزئ، وما لا يضر به إضرارًا بينًا يجزئ إذا كان قصدهم في ذلك العمل، ويجزئ الأخرس في قول الشافعي وأبي ثور، ولا يجزئ في قول أصحاب الرأي، ولا يجزئ الجنون المطبق في قول مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال الشافعي: إذا كان يجن ويفيق يجزئ، وقال مالك: لا يجزئ. ولا يجوز عند مالك من أعتق إلى سنين، ويجزئ ذلك في قول الشافعي. ولا يجزئ في قول الشافعي والكوفي أن يعتق ما في بطن أمه. وقال أبو ثور: يجزئ، قال الثوري: إذا كان على الرجل كفارة رقبة، فقال لرجل: أعتق عني عبدي، فأعتق عنه أجزأ، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، وإن أعتقه بأمره على غير شيء ففي قول الشافعي: يجزئ، ويكون ولاؤه للمعتق عنه، وبه قال يعقوب، وقال أبو ثور: يجزئ ذلك وولاؤه للذي أعتقه. وفي قول أبي حنيفة: الولاء للمعتق، ولا يجزئ عن ذلك. وقال محمد: هذا أحب إليَّ، فإن اشترى عبدًا شراءً فاسدًا فأعتقه عن واجب عليه لم
يجزه في قول الشافعي وأبي ثور، وقال أصحاب الرأي: عتقه جائز، ويجزئ عنه إذا قبضه. قال ابن المنذر: لا يجزئه؛ لأنه لم يملكه، وإن أعتق عبدًا على مال أخذه من العبد لم يجزه عن الكفارة، ويعتق العبد في قول أبي ثور وأصحاب الرأي. قال الشافعي وأبو ثور: وأمور كفارات الأيمان تخرج من رأس مال الميت. وقال أصحاب الرأي: تكون من الثلث.
8 - باب (إذا)
(1)
أَعتق عبدًا بينه وبين الحر، فإذا أَعْتَقَ فِي الكَفَّارَةِ لِمَنْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ
6717 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الوَلَاءَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«اشْتَرِيهَا، إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح 11/ 601]
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطُوا عَلَيْهَا الوَلَاءَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"اشْتَرِيهَا، فإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ".
اختلف العلماء في هذِه المسألة، فقال مالك والأوزاعي: إذا أعتق أحد الشريكين عبدًا بينه وبين غيره عن الكفارة إن كان موسرًا أجزأه، ويضمن لشريكه حصته، وإن كان معسرًا لم يجزه، وهو قول محمد وأبي يوسف والشافعي وأبي ثور.
وقال أبو حنيفة وبعض أصحابه: لا يجزئه عن الكفارة موسرا كان أو معسرا. حجة الأولين أن المعتق الموسر إذا لم يكن شريكه يعتق نصيبه، فالعبد كله على الموسر حر، فلذلك أجزأ عنه. وحجة مقابله أنه أعتق نصف عبد لا عبدًا كاملاً؛ لأن أصل أبي حنيفة أن الشريك مخير، إن شاء قوم على شريكه، وإن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، وإن شاء أعتق فيكون الولاء بينهما نصفين، وأما الولاء فهو للمكفر المعتق عند جماعة العلماء؛ لأنه لما أعتق نصيبه وكان موسرًا
(1)
في الأصل: من.
وجب عليه عتقه كله، وقد قال عليه السلام:"الولاء لمن أعتق" فلذلك أدخل البخاري هذا الحديث هنا
(1)
.
قال ابن التين: ومذهب مالك أن من أعتق عبدًا عن كفارة كان ولاؤه له، وإن أعتقه عن زكاة كان ولاؤه للمسلمين.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 179.
9 - باب الاِسْتِثْنَاءِ فِي الأَيْمَانِ
6718 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ:«وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ» . ثُمَّ لَبِثْنَا مَا شَاءَ اللهُ، فَأُتِيَ بِإِبِلٍ فَأَمَرَ لَنَا بِثَلَاثَةِ ذَوْدٍ، فَلَمَّا انْطَلَقْنَا قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: لَا يُبَارِكُ اللهُ لَنَا، أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا فَحَمَلَنَا. فَقَالَ أَبُو مُوسَى فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ:«مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ بَلِ اللهُ حَمَلَكُمْ، إِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» [انظر: 3133 - مسلم: 1649 - فتح 11/ 601]
6719 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ وَقَالَ:«إِلاَّ كَفَّرْتُ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . أَوْ «أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفَّرْتُ» . [انظر: 3133 - مسلم: 1649 - فتح 11/ 602]
6720 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:"قَالَ سُلَيْمَانُ: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلٌّ تَلِدُ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ -قَالَ سُفْيَانُ يَعْنِي الْمَلَكَ- قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ. فَنَسِيَ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَأْتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ بِوَلَدٍ، إِلاَّ وَاحِدَةٌ بِشِقِّ غُلَامٍ". فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ: قَالَ: «لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا فِي حَاجَتِهِ» . وَقَالَ مَرَّةً: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «لَوِ اسْتَثْنَى» . وَحَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. [انظر: 2819 - مسلم: 1654 - فتح 11/ 602]
ذكر فيه حديث أَبِي مُوسَى رضي الله عنه أَتَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، فَقَالَ:"والله لَا أَحْمِلُكُمْ"، الحديث، وفيه:"إِنِّي والله إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ" الحديث.
وحديث سُفْيَانَ، عَنْ هِشَام بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:"قَالَ سُلَيْمَانُ: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً، كُلٌّ تَلِدُ غُلَامًا .. " الحديث وقد سلف فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرَكًا فِي حَاجَتِهِ". وَقَالَ مَرَّةً: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوِ اسْتَثْنَى". وَحَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
الشرح:
قوله في حديث أبي موسى: (فأتي بإبل) وفي رواية: بشائِل. وعليها اقتصر ابن بطالى
(1)
، ووقع في رواية أبي رشد بشائل مكان قوله:(بإبل) وانحدر بشوائِل إن صحت الرواية.
قال أبو عبيد، عن الأصمعي: إذا أتى على الناقة من يوم حملها سبعة أشهر جف لبنها، فهي حينئذ شائل، وجمعها شوائل
(2)
.
وفي كتاب "العين": ناقة شائلة، ونوق شول: التي جف لبنها، وشولت الإبل لحقت بطونها بظهورها
(3)
. وبخط الدمياطي: الشائل بلا هاء: الناقة التي تشول بذنبها للقاح ولا لبن لها أصلاً، والجمع شُوَّل مثل راكع وركَّع، والشائلة ماءها: هي التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر، وقال ابن التين: جاء بلفظ الواحد والمراد به الجمع كالسامر والنادي، وذكر ما أسلفته إلى قوله: راكع. وقال الخطابي: يقالى: ناقة شائل إذا قل لبنها، وأصله قولك: شال الشيء إذا ارتفع كالميزان ونحوه، يعني: ندرت برضاع
(1)
"شرح ابن بطال" 6/ 185.
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/ 510، مادة (شول).
(3)
"العين" 6/ 285.
ألبانها، يقال: شائل وشول كصاحب وصحب، وراكب وركب. وجاء في غير هذِه الرواية: فأتي بشوائل، وهي جمع شائل
(1)
.
قال أبو الحسن: جمع شائلة: الشوائل: القطيع من الإبل.
فصل:
وقوله: (فأمر لنا بثلاث ذود) وفي نسخة: بثلاثة. وأورده ابن التين بثلاث، وقال: كذا وقع هنا، وصوابه (بثلاثة)
(2)
؛ لأن الذود مؤنث.
فصل:
قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه "وكان دركًا لحاجته". أي: إدراك له وبلوغ إبل، تقول: مشيت حتى أدركته. وهو بفتاح الدال والراء.
وقوله: ("لو استثنى") هو موافق لترجمة الباب، وأما ابن التين فقال: ليس هذا الاستثناء الذي يوضح حكم اليمين ويحيل عقده، وإنما هذا استثناء بمعنى الإقرار لله تعالى، والتسليم، وهو نحو قوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [الكهف: 23 - 24]، وإنما وقع حكم اليمين إذا نوى الاستثناء في اليمين.
فصل:
اختلف العلماء في الوقت الذي إذا استثنى فيه الحالف وسقطت عنه الكفارة، فقال إبراهيم والحسن والثوري ومالك والكوفيون والأوزاعي والليث والشافعي وأبو عبيد وجمهور العلماء: الثنيا لصاحبها في اليمين ما كان من ذلك نسقًا يتبع بعضه بعضًا، ولم يقطع كلامه قطعًا يشغل عن الاستثناء ما لم يقم من محله أو يسكت وقطع كلامه فلا ثنيا له.
(1)
"أعلام الحديث" 4/ 2287 - 2288.
(2)
كذا بالأصل، ولعل الصواب: بثلاث.
وفيه قول ثان: وقال الحسن البصري -في رواية- وطاوس: للحالف الاستثناء ما لم يقم من محله، وقال غيره: أو يتكلم.
وفيه قول ثالث: قال أحمد: يكون له الاستثناء ما دام في ذلك الأمر، وكذلك قال إسحاق إلا أن يكون سكوت ثم عود إلى ذلك الأمر.
وقول رابع: عن عطاء رواية أخرى: أن له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة.
وقول خامس: قال سعيد بن جبير: له ذلك بعد أربعة أشهر.
وسادس: قال مجاهد: له ذاك بعد سنتين.
وسابع: قال ابن عباس: يصح ولو بعد حين. فقيل: أراد به سنة، وقيل: أبدًا. حكاه ابن القصار.
وروي عن وكيع، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: ليستثني في يمينه متى ذكر. واحتج بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]. واحتج من أجاز الاستثناء نظير السكوت بما روى مسعر عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام قال:"والله لأغزون قريشًا" ثلاثا، ثم سكت فقال:"إن شاء الله تعالى" أخرجه ابن حبان في "صحيحه"
(1)
.
وروى أبو داود عن قتيبة، ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة مرسلاً، وقال: أسنده غير واحد عن عكرمة من حديث ابن عباس.
قال أبو داود: قال الوليد بن مسلم، عن شريك: ثم لم يغزهم
(2)
.
(1)
"صحيح ابن حبان" 10/ 185.
(2)
"سنن أبي داود"(3285).
ورده ابن القصار بالإرسال، وقال: رواه شريك، عن سماك عن عكرمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث مرسل.
قال: ولو صح عن ابن عباس لم يرد به إسقاط الحنث وإنما أراد به -والله أعلم- أن الله تعالى أوجب الاستثناء على كل قائل أنه يفعل شيئًا؛ للآية السالفة. يقول: فإذا نسي (إن شاء الله) فليقله، أي: وقت ذكره ولو بعد سنة حتى تخرج قولك عن المخالفة، لا أنه يجوز هذا في اليمين.
ولو صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أن يكون فيه توكلاً للاستثناء؛ إذ سكوته ليتذكر شيئًا أراده في اليمين حتى إذا تممه استثنى. ويجوز أن يكون لانقطاع نفس، أو بشيء شغله عن اتصال الاستثناء حتى يتمكن منه.
ومن حجة أهل المقالة الأولى قوله عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها
…
" الحديث
(1)
.
ولو أمكنه أن يخرج من هذِه اليمين بقوله: إن شاء الله لما أوجب كفارة، ولبطل معنى قوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وكذلك معنى حديث سليمان عليه السلام إن كان حلف بالله ليطوفن على نسائه، فإن الاستثناء بعد يمينه متى أرادها كانت مخرجة من الحنث لو كان كما زعم من خالف أئمة الفتوى.
وقد قيل: أن قوله: "لأطوفن" لم يكن يمينًا على ما يأتي بيانه.
قال المهلب: وإنما جعل الله الاستثناء في اليمين رفقًا منه بعباده في أموالهم؛ ليوفر بذلك الكفارة عليهم إذ ردوا المشيئة إلى الله تعالى.
(1)
سبق تخريجه.
فصل:
واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق، فقال مالك وابن أبي ليلى والليث والأوزاعي: لا يجوز فيه استثناء، وروي مثله عن ابن عباس وابن المسيب والشعبي وعطاء والحسن ومكحول وقتادة والزهري.
وأجاز الاستثناء فيهما طاوس والنخعي والحسن، ورواية عن عطاء، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وإسحاق، واحتج لهم بحديث سليمان "لو قال إن شاء الله لم يحنث"، فإن قول الحالف: إن شاء الله عامل في جميع الأيمان؛ لأنه لم يخص بعض الأيمان من بعض، فوجب أن يرفع الاستثناء الحلف في الطلاق والعتق وجميع الأيمان، وحجة من أوجب الطلاق والعتق ومنع دخول الاستثناء فيهما أنه لا يكون إلا في اليمين بالله، وبذلك ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف بالله ثم قال: إن شاء الله فلا حنث عليه" أسنده أيوب السختياني وكثير بن فرقد وأيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، وذكره مالك في "الموطأ"، عن نافع، عن ابن عمر من قوله
(2)
. قال الأبهري: فكان ذكره الاستثناء إنما هو في اليمين بالله دون غيرها من الأيمان، ولم يجز تعدي ذلك إلى غيرها بغير دليل، وأما من جهة القياس، فلما كان
(1)
رواه الترمذي (1531) عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، قال الترمذي: وقد رواه عبيد الله بن عمر وغيره عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا، وهكذا رُوي عن سالم عن ابن عمر موقوفًا، ولا نعلم أحدًا رفعه غير أيوب السختياني، وقال إسماعيل بن إبراهيم: كان أيوب أحيانًا يرفعه، وأحيانًا لا يرفعه. اهـ.
(2)
"الموطأ" ص 295.
الطلاق والعتق لا تحله الكفارة التي هي العتق والإطعام والكسوة، وهي أقوى فعلاً وأغلظ على النفوس من الاستثناء الذي هو القول، لم يحله القول؛ فإن ما لا يحله الأوكد لم يحله الأضعف، ولا تعلق لهم بحديث سليمان؛ لأن ظاهر قوله:"لأطوفن" لم يكن معه يمين، وإنما كان قولاً جعل فيه المشيئة لنفسه حين لم يقل: إن شاء الله بالحرمان، كما قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} الآية [الكهف: 23].
وأدَّب عباده بذلك ليتبرءوا إليه تعالى من الحول والقوة، ولم يكن قول سليمان يمينًا بالله يوجب عليه الكفارة فتسقط عنه بالاستثناء، فإن قلت: قوله ("لو قال: إن شاء الله لم يحنث") يدل أنه كان يمينًا، قيل: معنى قوله: "لم يحنث" لم يأثم على تركه استثناء المشيئة، فلما أعطى لنفسه الحول عاقبه الله بحرمانه وحنثه، فكأنه يحنث بقوله.
والحنث في لسان العرب: الإثم، ومن لم يرد المشيئة إلى الله في جميع أموره فقد أثم وحرج، والحنث أيضًا: أن لا يبر ولا يصدق
(1)
.
وعبارة أبي عمر بن عبد البر في "استذكاره": أجمعوا أن الاستثناء جائز في اليمين بالله تعالى، واختلفوا في غيرها كما أجمعوا على أن اللغو في اليمين بالله.
وقال الشافعي: له الاستثناء إذا كان موصولاً بكلامه، والوصل أن يكون كلامه نسقًا، وإن كان بينهما سكتة كسكوت الرجل للتذكر أو التنفس أو القيء، أو انقطاع الصوت فهو استثناء، والقطع أن يأخذ في كلام ليس من اليمين، أو سكت السكوت الذي يبين منه أنه قطع كلامه.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 180 - 185.
قال أبو عمر: وعلى نحو هذا مذهب مالك وأصحابه وجمهور الفقهاء، وهو قول النخعي والشعبي وعطاء وأكثر العلماء، وكان قوم من التابعين يرون له الاستثناء مالم يقم من مجلسه منهم طاوس والحسن، وسيأتي بقية ذلك
(1)
.
فصل:
أنبئونا عن أبي العباس الظاهري
(2)
، عن الشيخة أم محمد حبيبة بنت حمد بن نصر الحرانية، عن الحافظ أبي موسى المديني في كتابه "التبيين لاستثناء اليمين" قال: لا أعلم حديثًا في الصحاح أكثر اختلافًا في العدد المذكور منه، يعني حديث سليمان هذا، ففي تعليق البخاري: مائة امرأة أو تسعًا وتسعين امرأة، قال أبو عبد الله: وتسعين أصح، وفي رواية عنده:"سبعين امرأة"
ولمسلم: "ستون امر أة"، وأوله موقوف. قال أبوهريرة:"كان لسليمان ستون امرأة". الحديث، وفي آخره:"أما إنه لو كان استثنى"
(3)
. وفي بعض نسخ مسلم عقب هذِه الاحاديث قال مسلم: هذا الاختلاف ليس من قوله عليه السلام ولكن من الناقلين على قدر ما كان علمهم يحيط به.
(1)
"الاستذكار" 15/ 70 - 71.
(2)
ورد بهامش الأصل: هو الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله الظاهري -بالظاء المعجمة- نسبة إلى الملك الظاهر غازي صاحب حلب، الذي مولده في شوال سنة 626 سمع بعدة مدن، وشيوخه أزيد من سبعمائة شيخ، وخرج لنفسه أربعين بلدانية والموافقات. توفي في ربيع الأول سنة ست وتسعين وستمائة وله سبعون سنة بالقاهرة، رحمه الله حافظ مشهور عني بالرواية أتم عناية.
(3)
سيأتي برقم (7469) كتاب التوحيد، باب: في المشيئة والإرادة، ورواه مسلم برقم (1654) كتاب الأيمان، باب: الاستثناء.
فصل:
قال: وإنما أخرجه الشيخان مستنبطين منه أن الاستثناء في اليمين رافع للحنث، لا أن سليمان حنث في يمينه، لكنه يدفع الخلاف كما قال:"لكان دركًا لحاجته". قال: ولمسلم عن أبي هريرة رفعه: "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث".
قلت: ليس هذا في مسلم أصلاً، وإنما هو في الترمذي، والنسائي وأبودواد، وقال الترمذي: إنه خطأ، إنما هو حديث الباب "لأطوفن" إلى آخره
(1)
، ولأبي دواد من حديث سفيان عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا:"إذا حلف الرجل فقال إن شاء الله فقد استثنى" رواه الأربعة، وحسنه الترمذي
(2)
، وقال الحاكم: صحيح الإسناد
(3)
.
قال أبو موسى: وسفيان هذا هو ابن عيينة، وقد كان هذا الحديث أيضًا عند الثوري، وأيوب هذا هو السختياني، وقد كان هذا الحديث أيضًا عند ابن عيينة عن أيوب بن موسى، ورواه الثوري وعمرو بن الحارث، عن أيوب بن موسى أيضًا، ورواه عن السختياني سوى من ذكرناه مالك بن أنس وموسى بن عقبة وابن علية وعبد الرزاق وحماد بن زيد وعبيد الله بن عمر وعباس بن حميد وكثير بن فرقد، غير أن بعضهم وثقه.
ثم ساق عن أبي بكر بن خلاد قال: قال حماد بن زيد: كان أيوب يرفع هذا الحديث ثم تركه، وذكر الترمذي أنه لم يرفعه غير أيوب، قال:
(1)
"سنن الترمذي"(1532).
(2)
"سنن أبي داود"(3261)، "سنن الترمذي"(1532)، "سنن النسائي" 7/ 25، "سنن ابن ماجه"(2105)، (2106).
(3)
"المستدرك" 4/ 303.
وكذلك رواه سالم عن ابن عمر موقوفًا
(1)
. قلت: قد رواه هو من حديث موسى بن عقبة، عن نافع، عنه مرفوعًا: "من حلف على يمين فاستثنى (على أثره)
(2)
ثم لم يفعل ما قال فلم يحنت"
(3)
وقال أبو عمر: أوقفه مالك على ابن عمر لم يتجاوزه به، وكذلك رواه عبيد الله بن عمر عن نافع، عن عبد الله (موقوفًا، ورواه أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، ورواه السختياني، عن نافع، عن عبد الله موقوفًا)
(4)
، فمرة يرفعه ومرة لا يرفعه، ومرة قال: لا أعلمه إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
، ورواه ابن أبي عاصم من حديث حماد بن سلمة عن أيوب، عن نافع يرفعه. وفي "موطأ مالك"، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: من قال: والله ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يفعل الذي حلف لم يحنث.
فصل:
قال مالك: أحسن ما سمعت في الثنيا أنها لصاحبه مالم يقطع كلامه، وما كان من ذلك تبعًا يتبع بعضه بعضا، فإذا سكت وقطع كلامه، فلا ثُنْيا له
(6)
.
قال الباجي في "منتقاه": قوله: مالم يقطع كلامه: يريد أن الاستثناء لا يجوز إفراده بالنطق؛ لأنه لا يفيد شيئًا فلم يجز أن يتراخى عما يتعلق به
(1)
سبق التنبيه عليه.
(2)
من (ص 2).
(3)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى" 10/ 47.
(4)
من (ص 2).
(5)
"الاستذكار" 15/ 70.
(6)
"الموطأ" ص 295.
كالشرط، وخبر الابتداء، ولا يكون الاستثناء إلا نطقًا، فإن نواه من غير نطق لم ينعقد، رواه ابن القاسم وأشهب عن مالك
(1)
.
وعن مالك أنه كان يقول: من حلف ثم قال: إن شاء الله، ثم أتى الذي حلف عليه أراها له ثنيا، إن كان أراد بها الثنيا، وإن كان إنما قالها لايريد بها الثنيا إلا لقول الله تعالى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [الكهف: 23] ثم حنث، فإني أرى أن يكفر.
فصل:
قد أسلفنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "والله لأغزون قريشًا" بما فيه
(2)
.
وقال ابن عدي: أسنده عبد الواحد بن صفوان، وهو ضعيف عن عكرمة، عن ابن عباس، وفيه: فقال بعد الثالثة: ثم سكت ساعة، ثم قال:"إن شاء الله". والصحيح مرسل
(3)
.
وقال أبو موسى: هذا الحديث يروى من غير وجه عن مسعر، عن سِمَاك، وقال ابن وارة: هو مرسل من غير ذكر ابن عباس، وهو الأشبه، ورواه أبو مسعود الرازي عن أبي نعيم، عن مسعر مرسلاً، ولو ثبت لم يكن فيه حجة، إذ ليس فيه أكثر من أنه سكت، ثم قال:"إن شاء الله"، فإنه غزاهم ثم غزاهم، قلت: قد سلف عن شريك أنه لم يغزهم، وقد يؤول في ذلك العام أو الوقت المعين، وإلا فقد غزاهم.
(1)
"المنتقى" للباجي 3/ 247.
(2)
رواه أبو داود (3285) عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم -وقال: وقد أسند هذا الحديث غير واحد عن شريك، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه ابن حبان 15/ 185، والطبراني في "الكبير" 11/ 282.
(3)
"الكامل في ضعفاء الرجال" 6/ 521.
فصل:
روى ابن أبي عاصم من حديث ضمرة بن حبيب، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه دعاء، وأمره أن يتعاهده:"اللهم ما قلت من قول، أو حلفت من حلف، أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يديه، ما شئت كان، ومالم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، إنك على كل شيء قدير"
(1)
.
قال ابن حزم: وذكره من قول أبي ذر الغفاري رضي الله عنه موقوفًا عليه: كان له استثناؤه يمينه بقية يومه ذلك، ومن حلف على شيء ثم قال موصولاً بكلامه: إن شاء الله، أو إلا أن يشاء الله، أو إلا أن لا يشاء، أو إلا أن أشاء، أو إلا إن بدل الله ما في قلبي، أو إلا أن يبدو لي، أو إلا أن يشاء فلان، أو إن شاء فلان، فهو استثناء صحيح، وقد سقطت اليمين عنه بذلك، ولا كفارة عليه إن خالف ما حلف عليه، فإن لم يصل الاستثناء، لكن قُطِعَ قَطْع ترك الكلام، ثم ابتدأ الاستثناء لم ينتفع
بذلك، وقد لزمته اليمين، فإن حنث بها فعليه الكفارة، ولا يكون الاستثناء إلا باللفظ، وأما نيته دون لفظه فلا؛ لقوله عليه السلام:"فقال: إن شاء الله". والقول لا يكون إلا باللسان.
قال النخعي: إن استثنى في نفسه فليس بشيء حتى يظهره بلسانه. وقال حماد: وليس بشيء حتى يسمع نفسه. وقال الحسن: إذا حرك لسانه أجزأ عنه في الاستثناء. قال ابن حزم: وبهذا نقول؛ لأنه قول صحيح، يعني: حركة اللسان، وأما وصل الاستثناء باليمين فإن أبا ثور قال: لا يكون مستثنيًا إلا حتى ينوي الاستثناء في حين نطقه باليمين
(1)
"السنة" لابن أبي عاصم 1/ 181 (416).
وقال الألباني رحمه الله في "ظلال الجنة"(416): إسناده ضعيف
لا بعد تمامها؛ لأنه إذا أتم اليمين ولم ينو فيها الاستثناء كان قد عقد يمينه فلزمته
(1)
.
فصل:
قال أبو موسى: هذا مع اختلاف ألفاظ حديث أبي هريرة واضطراب إسناد حديث ابن عمر قد أجمع العلماء والفقهاء على القول به، قال: ثم اختلفوا في كيفية الاستثناء ووقته، فأكثرهم على أنه إنما ينفع إذا كان عقب اليمين متصلاً به.
وقال أبو عبيد لما ذكر حديث ابن عمر: عليه جماعات العلماء، أن قوله: إن شاء الله، استثناء في يمينه، وإنه لا يكون مع اتصالها حنث في شيء بها إذا كان يريد به الثنيا في الرجوع على ما حلف عليه.
قال أبو موسى: وهذا شرط صحيح؛ لأن الإنسان قد يقول ذلك تأكيدًا لها، وتمامًا لنجاح ما حلف عليه، لما ذكرنا في قصة سليمان، ولما روينا في حديث أبي موسى الأشعري، وأنه عليه السلام قال:"إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين" الحديث
(2)
.
وليس في كل الروايات لفظة: "إن شاء الله"؛ لأنه ليس بعقد يمين، وإنما هو إخبار عن فعله عليه السلام، وإن ذكر المشيئة إنما هو تأكيد للخبر وتمام لينجح فعله.
(1)
"المحلى" 8/ 44 - 45.
(2)
سلف برقم (3133) كتاب: فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، وسيأتي قريبًا برقم (6721).
ورواه مسلم برقم (1649) كتاب الأيمان، باب: ندب من حلف يمينًا، فرأى غيرها خيرًا منها ..
وقد روينا عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "إن من تمام الإيمان أن يستثني الرجل في كل حديثه"
(1)
.
قال أبو موسى: وهذا الإسناد وإن لم يكن يصلح أن يحتج به، فحديث أبي موسى الذي تقدم يقويه ويبينه.
فصل:
أثر ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يرى الاستثناء، وإن كان بعد سنة، وتأول قوله تعالى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]. هو مروي من حديث الأعمش عن مجاهد عنه، قيل للأعمش: سمعته من مجاهد؟ قال: لا حدثني به ليث عنه
(2)
.
وقال الطبراني: لم يروه عنه عن الأعمش إلا أبو معاوية، تفرد به يحيى بن سليمان الحنفي
(3)
.
(1)
رواه العقيلي في "الضعفاء" 4/ 255، والطبراني في "الأوسط" 7/ 370، وابن الجوزي في "الموضوعات" 1/ 198 (284) من طريق المعارك، عن ابن سعيد المقبري، عن جده، عن أبي هريرة مرفوعًا.
قال العقيلي: مُعَارك لا يصح حديثه .. ولا يتابعه إلا من هو في عداده.
وقال ابن الجوزي: هذا الحديث لا يصح، قال البخاري: معارك منكر الحديث.
وقال عن المقبري، قال يحيى بن معين: ليس بشيء لا يكتب حديثه، وقال عمرو بن علي: منكر الحديث.
قال الهندي في "تذكرة الموضوعات" ص 11 معلقًا على كلام ابن الجوزي: في الحكم بوضعه نظر.
قال الهيثمي في "المجمع" 4/ 182: فيه عبد الله بن سعيد وهو ضعيف.
وقال الألباني في "ضعيف الجامع"(2004): موضوع.
(2)
رواه الطبراني في "الكبير" 11/ 68، و"الأوسط" 1/ 44 والحاكم في "المستدرك" 4/ 303 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(3)
الطبراني في "الأوسط" 1/ 44.
وقال أبو موسى: هو حديث غير متصل ولا ثابت، فإن الأعمش قد سمع من مجاهد ولم يسمع هذا منه، ولما رواه عيسى بن يونس عن الأعمش قال: سألته أسمعته من مجاهد؟ قال: لا، وفي هذا رد على قول الطبراني السالف: لم يروه عن الأعمش إلا أبو معاوية، ورواه أيضًا علي بن مسهر عنه، وذكر الخطيب:. أن ابن المديني قال: حديث
(1)
الأعمش عن مجاهد عامتها عن حكيم بن جبير وأولئك، يريد الضعفاء، وقال يحيى بن سعيد:(كتبت)
(2)
عن الأعمش، عن مجاهد أحاديث كلها ملزقة لم يسمعها.
وقال وكيع: كنا نتتبع ما سمع الأعمش من مجاهد، فإذا هي سبعة أو ثمانية ثم حدثناها، وقال أبو معاوية: كنت أحدث الأعمش عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن مجاهد فيجيئوني بالعشي، فيقولون: ثنا الأعمش عن مجاهد، فأقول: أنا حدثته، وفي لفظ عن ابن عباس: إنما نزلت هذِه الآية في هذا {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} الآية [الكهف: 24].
فصل:
روى أبو موسى من حديث يحيى بن سعيد قرشي، كان بفارس -عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم حلف على يمين فمضي له أربعون ليلة، فأنزل الله تعالى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} الآية [الكهف: 23]، فاستثنى بعد أربعين ليلة، ثم قال: هذا لا يثبت عن ابن عباس؛ لأن يحيى بن سعيد هذا غير محتج به، وقال فيه الدارقطني: متروك، ولو ثبت هذا عن ابن عباس فيحتمل أن يكون قد رجع عنه،
(1)
ورد في هامش الأصل: لعله أحاديث.
(2)
من (ص 2).
أو علم أنه كان خاصًّا بالشارع كما في حديث الوليد بن مسلم، عن عبد العزيز بن الحصين، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] قال: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت، قال: هي لرسول الله خاصة، وليس لأحد منَّا أن يستثني إلا بصلة اليمين
(1)
.
وقال ابن جريج في هذِه الآية، أي: استثن إذا ذكرت، قال: هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون الناس، ومما يدل على نفي ثبوته عن ابن عباس اختلاف الروايات عنه، ثم اختلاف أصحابه كعطاء ومجاهد وغيرهما، فعطاء روى عنه: أربعين ليلة، وفي رواية: قدر حلب ناقة، وعن طاوس: مادام في مجلسه، وقال عمرو بن دينار: متى ما ذكر، فلو كان عطاء سمع ذلك من ابن عباس لم يكن يخالفه، ولذلك اختلفت الرواية عن مجاهد، فروى سالم الأفطس عنه في الآية، قال: هو الاستثناء بعد شهر، وقد اختلف عن ابن عباس في سبب نزول هذِه الآية، فقال عكرمة: إذا غضب، أو قال: غضبت، وعن الضحاك قال: إذا غضبت. قال أبو مسعود، بعد ذكره الاختلاف عن التابعين وغيرهم فيه: إنما معنى هذِه الأحاديث: إن شاء الله، يقول له: ثنياه (إذا نسي)
(2)
أن يستثني فيقول: إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} الآية، فيزول عنه المأثم فأما الكفارة فلا تزول، فهذا كما ترى قد اختلفت الروايات عن عبد الله وأصحابه، وبقي أن الاستثناء هو المتصل باليمين دون المنقطع.
(1)
رواه الطبراني في "الكبير" 11/ 90، و"الأوسط" 7/ 68.
(2)
من (ص 2).
قال أبو موسى: من قال بجوازه إلى سنة أو سنتين يؤدي إلى إبطال حكم قوله {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] وإبطال حكم ما ورد في الكفارة من الأخبار الصحاح والآثار، وإبطال الكتب المصنفة فيها، لأنه إذا جوز إلى سنة أو سنتين (يؤدي إلى إبطال حكم قوله:)
(1)
جوز إلى ثلاث أو أربع، وما فوق ذلك في السنة أو السنتين نص يقتصر عليه، فيؤدي ذلك إلى أنه متى أراد الاستثناء استثنى، ولا يحتاج إلى كفارة أبدًا، وهذا لا يقول به أحد؛ لأن في ذلك إبطال حكم الكتاب والسنة.
قال ابن عبد البر: كان ابن عباس يرى له الاستثناء أبدًا (مت)
(2)
ذكر، وهو قول ابن جبير ومجاهد
(3)
.
وقال ابن حزم: صح هذا عن ابن جبير، وقال أبو العالية وطائفة في ذلك: بمهلة غير محدودة، وقال ابن مسعود: من حلف ثم قال إن شاء الله فهو بالخيار
(4)
.
(فرع)
(5)
:
يمين الأبكم واستثناؤه لازمان على حسب طاقته بصوت أو إشارة، والرجال والنساء والعبيد والمشركون في ذلك أيضًا سواء؛ لأن الله تعالى قال:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] ولم يأت نص بتخصيص عبد من حر، ولا ذات زوج من أيم، ولا بكر من ثيب {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: (ما) والمثبت من (ص 2).
(3)
"الاستذكار" 15/ 71.
(4)
"المحلى" 8/ 46.
(5)
في (ص 2): فصل.
فرع:
في "الإشراف" لابن هبيرة: اختلفوا هل يجوز العدول إلى الكفارة مع القدرة على الوفاء، قال أبو حنيفة وأحمد؛ لا يجوز، وقال الشافعي: الأولى أن لا يعدل، فإن عدل جاز ولزمته الكفارة، وعن مالك روايتان كالمذهبين.
10 - باب الكَفَّارَةِ قَبْلَ الحِنْثِ وَبَعْدَهُ
6721 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى، وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جَرْمٍ إِخَاءٌ وَمَعْرُوفٌ. قَالَ: فَقُدِّمَ طَعَامٌ. قَالَ: وَقُدِّمَ فِي طَعَامِهِ لَحْمُ دَجَاجٍ. قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللهِ أَحْمَرُ كَأَنَّهُ مَوْلًى. قَالَ: فَلَمْ يَدْنُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: ادْنُ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهُ. قَالَ إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا قَذِرْتُهُ، فَحَلَفْتُ أَنْ لَا أَطْعَمَهُ أَبَدًا. فَقَالَ: ادْنُ أُخْبِرْكَ عَنْ ذَلِكَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ أَسْتَحْمِلُهُ، وَهْوَ يُقْسِمُ نَعَمًا مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ -قَالَ أَيُّوبُ: أَحْسِبُهُ قَالَ: وَهْوَ غَضْبَانُ- قَالَ: «وَاللهِ لَا أَحْمِلُكُمْ، وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ» .
قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِنَهْبِ إِبِلٍ، فَقِيلَ:"أَيْنَ هَؤُلَاءِ الأَشْعَرِيُّونَ": فَأَتَيْنَا، فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى. قَالَ: فَانْدَفَعْنَا، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَسْتَحْمِلُهُ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا فَحَمَلَنَا، نَسِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، وَاللهِ لَئِنْ تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ لَا نُفْلِحُ أَبَدًا، ارْجِعُوا بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلْنُذَكِّرْهُ يَمِينَهُ. فَرَجَعْنَا فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ أَتَيْنَاكَ نَسْتَحْمِلُكَ، فَحَلَفْتَ أَنْ لَا تَحْمِلَنَا ثُمَّ حَمَلْتَنَا فَظَنَنَّا -أَوْ فَعَرَفْنَا- أَنَّكَ نَسِيتَ يَمِينَكَ. قَالَ:«انْطَلِقُوا، فَإِنَّمَا حَمَلَكُمُ اللهُ، إِنِّي وَاللهِ إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا» . [انظر: 3133 - مسلم: 1649 - فتح 11/ 608] تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ الكُلَيْبِيِّ.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ بهذا.
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيّوبُ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ زَهْدَمٍ بهذا.
6722 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ» . [انظر: 6622 - مسلم: 1652 - فتح 11/ 608] تَابَعَهُ أَشْهَلُ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ. وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَسِمَاكُ بْنُ عَطِيَّةَ وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ وَحُمَيْدٌ وَقَتَادَةُ وَمَنْصُورٌ وَهِشَامٌ وَالرَّبِيعُ
ذَكر فيه حديث إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ القَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَم الجَرْمِيِّ عن أَبِي مُوسَى بطوله إلى قوله:"إِنِّي والله إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أً حْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الذِي هُوَ خَيْرٌ منها وَتَحَلَّلْتُهَا".
تَابَعَهُ حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ عَاصِمٍ الكُلَيْبِيِّ.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ، عَنْ زَهْدَمٍ بهذا.
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، ثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ زَهْدَمٍ بهذا.
ثم ساق حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ" إلى قوله: "وَإِذَا حَلَفتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنهَا فَأْتِ الذِي هُوَ خَيرٌ وَكَفِّرْ عَن يَمِينِكَ".
الشرح:
قوله: تابعه حماد بن زيد، يعني بالمتابع ابن علية، عن أيوب.
وحديث (أبي أيوب)
(1)
أخرجه البخاري أول الكتاب، وقال في موضع: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال أيوب: وحدثني القاسم وأنا لحديثه أحفظ عن زهدم
(2)
.
فائدة: الإمارة بكسر الهمزة الإمرة، وبفتحها: العلامة.
فصل:
اختلف العلماء في جواز الكفارة قبل الحنث، فقال ربيعة ومالك والثوري والليث والأوزاعي: يجزئ قبل الحنث، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، وروي مثله عن ابن عباس وعائشة وابن عمر.
وقال الشافعي: يجوز تقديم الرقبة والكسوة والطعام قبل الحنث، ولا يجوز تقديم الصوم. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث، ولا سلف لأبي حنيفة فيه، واحتج له الطحاوي بقوله تعالى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] والمراد: إذا حلفتم فحنثتم، ولم يذكر البخاري في حديث أبي موسى ولا في حديث سمرة في هذا الباب تقديم الكفارة على الحنث، وقد ذكر في باب: الاستثناء في الأيمان، في أول كتاب الأيمان، وهو قوله:"إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير"، أو "أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني"
(3)
.
وقال ابن المنذر: قد قال بعض أصحابنا أنه ليس في اختلاف ألفاظ هذِه الأحاديث إيجاب لتقديم أحدهما على الآخر، إنما هو أمر الحالف
(1)
كذا بالأصل، وصوابه: أبي موسى.
(2)
سلف برقم (3133) كتاب: فرض الخمس، باب: ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين.
(3)
سلف قريبًا برقم (6718) كتاب: كفارات الأيمان.
بأمرين: أمر بالحنث والكفارة، فإذا أتى بهما جميعًا فقد أطاع، وفعل ما أمر به، كقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فأيهما قدم على الآخر فقد أتى بما عليه، وكذلك إذا أتى بالذي هو خير وكفر، فقد أتى بما عليه.
قال ابن القصار: وقد رأى جواز تقديمها على الحنث أربعة عشر صحابيًّا وهم: ابن مسعود، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، وأبو الدرداء، وأبو أيوب، وأبو موسى، وأبو مسعود، وحذيفة، وسلمان، ومسلمة بن مخلد، والزبير، ومعقل، ورجل لم يذكره، وبعدهم من التابعين: سعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وعلقمة، والنخعي، والحكم بن عتيبة، ومكحول، فهؤلاء الأعلام أئمة الأمصار، ولا نعلم لهم مخالفًا إلا أبا حنيفة على أنه يقول ما هو أعظم من تقديمها، وذلك لو أن رجلاً أخرج عشرًا من الظباء من الحرم، فولدت له أولادًا ثم ماتت في يده هي وأولاها أن عليه الجزاء عنها وعن أولادها، وإن كان حين أخرجها أدى جزاءها ثم ولدت أولادًا ثم ماتت لم يكن عليه فيها ولا في أولادها شيء، ولا شك أن الجزاء الذي أخرجه عنها وعن أولادها كان قبل أن تموت هي وأولادها، ومن قال هذا لم ينبغِ له أن ينكر تقديمها قبل الحنث.
وأما تقدير الآية: فحنثتم، فتقديرها عندنا: ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وأردتم الحنث.
وأما قول الشافعي: لا يجوز تقديم الصيام على الحنث. فيرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" ولم يخص شيئًا من
جنس الكفارة في جواز التقديم. فإن قال: إن الصوم من حقوق الأبدان ولا يجوز تقديمها (على)
(1)
وقتها كالصلاة والعتق والكسوة والإطعام من حقوق الأموال، فهي كالزكاة يجوز تقديمها، قيل له: ليس كل حق يتعلق بالمال يجوز تقديمه قبل وقته؛ ألا ترى كفارة القتل وجزاء الصيد لا يجوز تقديمه قبل وجوبه؛ فلذلك يجوز تقديم صيامها.
قال الأبهري: وأما جواز تقديم ذلك من طريق النظر؛ فلأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء إذا اتصل باليمين -وإنما هو قول- كانت الكفارة بأن تحل (عقدة)
(2)
اليمين أولى؛ لأنها أقوى؛ لأنها ترفع حكم الحنث حتى كأنه لم يكن، فكذلك يرفع حكم العقد حتى كأنه لم يكن، ويشبهه الإطعام وما بعده، فالزكاة يجوز تقديمها فلا نسلم له؛ لأنها لما كان وجوبها (متعلقًا)
(3)
بوقت لم يجز تقديمها، كما لا يجوز في الصلاة والصيام، ووقت الكفارة غير متعلق بوقت، وإنما هو على حسب ما يريده المكفر من الحنث، فكان فعلها جائزًا قبل الحنث وبعده
(4)
.
آخر الكفارات بحمد الله تعالى ومنِّه.
(1)
في (ص 2): قبل.
(2)
في (ص 2): عقد.
(3)
في (ص 2): معلقًا.
(4)
انظر: "شرح ابن بطال" 6/ 185 - 188.
85
كتاب الفرائض
بسم الله الرحمن الرحيم
85 - كِتَابُ الفَرَائِضِ
1 - [باب] وقَوْلِ اللهِ عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} إلى قوله: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 11 - 12]
6723
- حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَبَّ عَلَيَّ وَضُوءَهُ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ المَوَارِيثِ. [انظر: 194 - مسلم: 1616 - فتح 12/ 3]
ثم ساق حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: مَرِضْتُ فَعَادَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَبَّ عَلَيَّ من وَضُوئه فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ
أَصْنَعُ في مَالِي؟ (كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟)
(1)
فَلَمْ يُجِبْنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الميراثِ.
الشرح:
الفرائض: جمع فريضة؛ فعيلة من الفرض وهو التقدير؛ لأن سُهمان الورثة مقدرة، ومنه قوله تعالى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أو الجزء، ومنه قوله تعالى {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] أي: منقطعا محدودًا، أو الوجوب والإلزام، أقوال، ويقال للعالم بها: فرضي، وفارض، وفريض، كعالم وعليم، حكاه صاحب "المحكم" عن ابن الأعرابي
(2)
.
فصل:
فأما الآية فمعنى {يُوصِيكُمُ} يفرض عليكم، كقوله {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 151] ومن له فرض بُدِئ به، فإن فضل للعاصب على حسبه، والولد يشمل ولد الصلب ذكرًا كان أو أنثى: ولد الابن وبني الابن، وكذلك الذين ينسبون بآبائهم إليه من الذكور والإناث بحسب القرب، فإن كان في ولد الصلب ذكرٌ حجب ولد الولد، وإلا بدئ ببنت الصلب، فأعطيت النصف، (والبنتين فصاعدًا لثلثان)
(3)
، ثم ما بقي فلولد الابن عند الاستواء، أو كان الذكر فيمن أسفل من بنات البنين فللذكر
مثل حظ الأنثيين.
قال إسماعيل بن إسحاق: لمِ يذكر الله الاثنتين في كتابه، فكان في قوله تعالى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] دليل أنه إذا كان ذكرًا
(1)
من (ص 2).
(2)
"المحكم" 8/ 125.
(3)
كذا بالأصل؛ ولعله: (وللبنتين فصاعدًا الثلثان). أو (والبنتين فصاعدًا الثلثين).
أو أنثى، للذكر (الثلث)
(1)
وللأنثى الثلث، فإذا وجب لها مع الذكر الثلث كان الثلث لها مع الأنثى أوكد، فاحتيج إلى ذكر ما فوق الاثنين، ولم يحتج إلى ذكر الأنثيين، وقيل:{فَوْقَ} في قوله {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} : زائدة، كقوله {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12].
وقال المبرد: في الآية نفسها دليل أن للأنثيين الثلثين، فإنه قال {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وأقل العدد ذكر وأنثى، فإذا كان للواحدة الثلث دل على أن (للابن)
(2)
الثلثين؛ ولأن لبنت الابن مع بنت الصلب السدس تكملة الثلثين؛ لأنها تقوم مقام البنت الباقية في استغراق (الثلثين)
(3)
.
ومع هذا كله فقد صح من حديث جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام أعطى البنتين الثلثين، أخرجه أبو دواد والترمذي
(4)
، وخالف ابن عباس، فقال: للبنتين النصف.
فصل:
وقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] يعني بـ (أبويه): أبوي الميت، وسواء فيه الوالد والوالدة لا يزاد واحد منهما على السدس، ويشمل (الولد) الذكر والأنثى الواحد والجماعة. وأما زيادته على ذلك مع البنت وبنت الابن فمن باب الجمع بين الفرض والتعصيب لقربه.
(1)
كذا بالأصل، وفي "شرح ابن بطال" 8/ 336:(الثلثين) وهو الصواب.
(2)
في الأصل: (للأنثيين)، والمثبت من (ص 2).
(3)
ساقطة من الأصل.
(4)
أبو داود (2891)، الترمذي (2092).
وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(2573)، وفي "الإرواء"(1677).
قال إسماعيل بن إسحاق: ولم يذكر فرضهما إذا كان للميت زوج أو زوجة، وحكمه أن يُعطى الزوج إما النصف وإما الربع، والزوجة إما الربع وإما الثمن، ثم ينظر إلى ما بقي؛ لأن النقيصة لما دخلت عليها من قبل الزوج أو الزوجة وجب أن تكون داخلة عليها على قدر حصتهما.
فصل:
وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] قال مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدًا، وعلى هذا جملة أهل العلم
(1)
. وقد روي في الحديث "الاثنان فما فوقهما جماعة"
(2)
وقد جاء في القرآن لفظ الجمع للاثنين، قال تعالى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].
وقام الإجماع على أن الرجل إذا توفي وترك ابنتيه (و)
(3)
أختيه لهما الثلثان
(4)
، فإن ترك منهما أكثر من اثنتين لم يزدن على الثلثين
(5)
، فاستوى في ذلك حال الاثنين وأكثر منهما، فدل أن الاثنين في معنى الجماعة؛ لأن الجمع إنما سمي؛ لأنه جمع شيء إلى شيء، فإذا جمع إنسان إلى إنسان فقد جمع؛ ودليل آخر وهو قوله تعالى:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].
وقد أجمعت الأمة أن للأخ الواحد مع الأخت الواحدة {لِلذَّكَرِ مِثْلُ
(1)
انظر: "بداية المجتهد" 4/ 1561.
(2)
تقدم تخريجه في شرح حديث (658) فليراجع.
(3)
كذا بالأصل، وفي "شرح ابن بطال" 8/ 337:(أو).
(4)
انظر "الإجماع" لابن المنذر ص 90 (311).
(5)
انظر "الإجماع" لابن المنذر ص 94 (334).
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(1)
[النساء:11] فقد دخلا في لفظ الجماعة بنص القرآن، وشذ ابن عباس فقال: الإخوة الذين عني الله بقوله: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً} [النساء: 176] ثلاثة فصاعدًا، وكان ينكر أن (تُحجب)
(2)
الأم عن الثلث مع الأب بأقل من ثلاثة إخوة، وكان يقول في أبوين وأخوين: للأم الثلث وللأب ما بقي كما قال أهل العلم في أبوين وأخ واحد، وقول جماعة أهل العلم في أبوين وأخوين: للأم السدس وباقي المال للأب، ولا: يوجد في جميع القرآن على مذهب زيد بن ثابت مسألة يحجب فيها من لا يرث غير هذِه.
واختلف العلماء (لما نقصت)
(3)
الأم عن الثلث بمصير إخوة الميت معها اثنين فصاعدًا، فقالت طائفة: نقصت الأم وزيد الأب؛ لأن على الأب مؤنتهم وإنكاحهم دون أمهم، روي ذلك عن قتادة، وقالت طائفة: إنما يحجب الإخوة الأم عن الثلث إلى السدس ليكون لهم دون أمهم. رواه طاوس عن ابن عباس.
قال الطبري: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال: إن الله تعالى إنما فرض للأم مع الإخوة السدس لما هو أعلم به من مصلحة خلقه، وقد يجوز أن يكون لما ألزم الآباء لأولادهم، وقد يجوز أن يكون لغير ذلك، وليس ذلك بما كلفنا علمه، وإنما أمرنا بالعمل لما علمنا، وما (رواه)
(4)
طاوس عن ابن عباس مخالف للآية؛ لأنه لا خلاف بين الجميع أنه لا ميراث لأخي الميت مع والده، فبان فساده
(5)
.
(1)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 92 (322).
(2)
في (ص 2): يحجب الله.
(3)
في الأصل: أتحجب.
(4)
في (ص 2): نقله.
(5)
"تفسير الطبري" 3/ 621 - 622.
وكذا قال ابن التين: أجمعت الفقهاء على أن الإخوة اثنان فصاعدًا، إلا ابن عباس فإنه قال: ثلاثة فصاعدًا، وروي نحوه عن معاذ، قال: وروي عن مالك في زوج وأم وجد وأخوين لأم وأخوين لأب؛ أنه جعل للجد الثلث وقال: هو حجب الأخوين للأم عنه، ولولا هو لكان لهما دون الأخوين للأب، قال: وقد روي عن ابن عباس أنه كان يجعل للإخوة من الأب السدس الذين حجبوا الأم عنه.
واختلف على قوله: هل يكون للإخوة من الأم خاصة أو لجميع الإخوة؟ فإذا قلنا لجميعهم: هل تقسم على عدد الرءوس أو للذكر مثل حظ الأنثيين؟
فصل:
وقوله {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]. روى الترمذي والحاكم من حديث علي رضي الله عنه قال: إنكم تقرءون هذِه الآية {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية.
وفيه الحارث الأعور
(1)
، ويعضده الإجماع على مقتضاه (ولا عبرة بمن شذ)
(2)
و {أَوْ} هنا للإباحة.
فصل:
وقوله: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} ، قال ابن عباس: في الدنيا، وقال غيره: إذا كان الابن أرفع درجة من الأب سأل الله أن يلحقه، وكذلك الأب إذا كان الابن أرفع درجة منه، وقيل: آباؤكم
(1)
"سنن الترمذي"(2094)، و"المستدرك" 4/ 336.
حسنه الألباني في "الإرواء"(1667).
(2)
من (ص 2).
وأبناؤكم الذين أوصاكم الله بقسمة الميراث بينهم أعطوهم حقوقهم؛ فإنكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعًا في الدين والدنيا، الولد أو الوالد.
فصل:
والكلالة تقدم الكلام عليها في التفسير في تفسير سورة النساء، ونقل الإجماع على أن المراد بهذِه الآية الإخوة للأم، وأكثرهم على أنه: من لا ولد له ولا والد، وهو قول أبي بكر وعمر وعلي وزيد وابن مسعود والمدنيين والبصريين والكوفيين وابن عباس، وروي عنه وعن ابن عمر: من لا ولد له. واختلف الناس بعدهم في اسمها، فقال البصريون: روي عن ابن عباس: أنه اسم للميت إذا لم يخلف ولدًا.
وقال المدنيون (والكوفيون)
(1)
: هو اسم للورثة الذين لا ولد فيهم ولا والد، واختاره الطبري
(2)
لحديث جابر في الباب، وحديث سعد: ليس يرثني إلا كلالة.
قال إسماعيل: ولم يختلف العلماء أن قوله تعالى: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] أنهم الإخوة للأم، وقال تعالى {يَسْتَفْتُونَكَ} الآية [النساء: 176]، فلم يختلفوا في أن هؤلاء الإخوة لأب -كانت أمهم واحدة أو كانت الأمهات شتى- والدليل على إبانة هؤلاء من أولئك قوله تعالى في هؤلاء {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} إذ كانوا يأخذون بالأب، وجعل لهم المال كله في بعض الحالات، وقال في الأخرى {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 11]. فجعل الذكر والأنثى سواءً؛ إذ كانوا يأخذون بالأم خاصة فقصرهم على الثلث.
(1)
من (ص 2).
(2)
"تفسير الطبري" 4/ 378، وانظر "التمهيد" 5/ 199 - 200.
قال مالك: والأمر المجمع عليه عندنا أن الإخوة للأم لا يرثون مع الولد ولا مع ولد الابن ذكرًا كان أو أنثى- شيئًا، ولا مع الأب ولا مع (الجد أبي الأب)
(1)
شيئًا ويرثون فيما سوى ذلك للواحد منهم السدس على ما سلف
(2)
.
فصل:
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في عول الفرائض أنه كان لا يعيل فريضة
(3)
، ولا نعلم أحدًا من الصحابة وافقه عليه، وكان ينكر أن يكون جعل في مال نصف ونصف وثلث، وكان يرى في مثل هذا إذا وقع أن يعطي أولاً أصحاب الفرائض ومن لا يزول في حال ويعطي الآخر ما بقي، مثاله: زوج وأم وأخت لأبيها؛ بدئ بالأولين كاملاً؛ لأن كلاًّ منهما لا يزالان عن فرض إلى فرض بخلاف الأخت؛ فإنها تزول من فرض إلى غيره، فلا تعطى في بعض الأحوال شيئًا، فكان هذا كما وصفنا.
وأما الآخرون فأشركوا بين أصحاب الفرائض كلهم وحاصوا بينهم، وهو الذي أجمع عليه أهل العلم
(4)
؛ لأن كل واحد قد فرض له فريضة؛ فليس يجب أن يزيله عنها إلا من يحجب عنها فالتحاص متعين، ولو أن رجلاً أوصى بنصف ماله لرجل وبنصف ماله لآخر وبثلث ماله لآخر، فأجاز الورثة ذلك وجب التحاص، فيضرب صاحب النصف بثلاثة
(1)
في الأصل: "الجدات" والمثبت من "الموطأ" ص 314 ولعله الصواب.
(2)
"الموطأ" ص 314.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 259 (19035)، وابن أبي شيبة 6/ 258 (31180).
(4)
انظر "الإقناع في مسائل الإجماع" لابن القطان الفاسي 3/ 1446 (2716).
أسهم وصاحب النصف الآخر بثلاثة وصاحب الثلث سهميه، فإن لم يجز الورثة ذلك تحاصوا في الثلث على هذِه السهام.
فصل:
حديث جابر رضي الله عنه سلف، قال المهلب: وفيه دليل أنه لا يجوز لأحد أن يقضي بالاجتهاد في مسألة ما دام يجد سبيلًا إلى النصوص وكيف وجه استعمالها، ولو جاز أن يجتهد في محضر الشارع دون أن يشاوره لما قال له: كيف أصنع في مالي، وكذلك لو جاز للشارع أن يجتهد رأيه فيما لم ينزل فيه قرآن؛ لأمره بما ظهر له ولكن سكت عنه حتى يأتي الأمر من شارعه تعالى، فهذا من أقوى شيء في سؤال العلماء، وترك الاجتهاد في موضع يجب فيه الاقتداء بمن تقدم وبالأعلم فالأعلم.
فصل ذكره ابن هبيرة في "إشرافه"
(1)
: إجماع الأربعة عليه كله؛ الأنبياء لا يورثون وما خلفوه صدقة تصرف إلى المصالح.
وأسباب الإرث في غيرهم ثلاثة: قرابة -وهي: الرحم- ونكاح، وولاء عام وهو الإسلام.
وموانعه ثلاثة: رق، وقتل العمد بغير حق، واختلاف دين.
والوارثون من الرجال عشرة، ومن النساء سبعة، وهم مقدمون على ذوي الأرحام، ثم منهم عصبة وذو فرض، فالذكور كلهم عصبة إلا الزوج، والأخ من الأم، (والأب)
(2)
والجد مع الابن وابنه، والإناث كلهن ذوات فروض إلا المولاة المعتقة، والأخوات مع
(1)
هو كتاب "الإفصاح"، انظر: 7/ 206 - 216.
(2)
من (ص 2).
البنات عصبة لهن ما فضل، وليست لهن فريضة معهن، ومن يعصبها أخوها أو ابن عمها.
وأن هؤلاء يرثون في حال ويحجبون حجب إسقاط في حال سوى خمسة: الزوجان والأبوان وولد الصلب.
وأربعة من الذكور يرثون أربعًا من النساء، ولا ترثهم النساء مطلقًا: ابن الأخ يرث عمته ولا ترثه، والعم يرث بنت أخيه ولا ترثه، وابن العم يرث ابنة عمه ولا ترثه، والمولى المعتق يرث عتيقته ولا ترثه.
امرأتان ترثان رجلين دونهما: أم الأب ترت ابن بنتها ولا يرثها، والمولاة المعتقة ترث عتيقها ولا يرثها.
أربعة ذكور يعصبون أخواتهم ويمنعونهن الفرض، ويقتسمون ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين: البنون وبنوهم وإن سفلوا، والإخوة الأشقاء ومن الأب، ولا يراعى في تعصيب الذكور والإناث الإضرار بهن ولا التوفير عليهن، ومن عدا هؤلاء من العصبات ينفرد ذكورهم بالميراث دون الإناث كبني الإخوة والأعمام وبنيهم، وهذا العلم له كتب مؤلفة فلا نطول به، (وقد ذكرت مُهِمَّها في "شرح فرائض الوسيط" في مجلد فسارع إليه)
(1)
.
(1)
من (ص 2).
2 - باب تَعْلِيمِ الفَرَائِضِ
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: تَعَلَّمُوا قَبْلَ الظَّانِّينَ، يَعْنِي الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالظَّنِّ.
6724 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» [انظر: 5143 - مسلم: 2563 - فتح 12/ 4].
ثم ساق حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا".
الشرح:
وجه مناسبة هذا الحديث في الباب ذكره الظن في قوله: "إياكم والظن".
قال المهلب: وهذا الظن ليس هو الاجتهاد على الأصول، وإنما هو الظن المنهي عنه في الكتاب والسنة، مثل ما سبق إلى المسئول من غير أن يعلم أصل ما يسأل في كتاب أو سنة أو أقوال الأئمة، وأما إذا قال وهو قد علم الأصل من هذِه الثلاثة فليس بظان، وإنما هو مجتهد والاجتهاد سائغ (على أصوله)
(1)
.
فائدة: التجسس بالجيم: البحث عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال ذلك في السر، والجاسوس بالجيم: صاحب [سر]
(2)
الشر، والناموس:
(1)
في (ص 2): في الأصول.
(2)
ساقطة من الأصل والسياق يقتضيها، وانظر:"مسلم بشرح النووي" 2/ 203، و"فتح الباري" 1/ 26.
صاحب سر الخير، وعن ثعلب: التحسس بالحاء: أن يطلبه لنفسه، وبالجيم: أن يطلبه لغيره، وقال بعضهم: التجسس: البحث عن العورات، والتحسس: الاستماع، وقال بعضهم: الأول في الخير، والثاني في الشر.
وقال الحربي: معناهما واحد وهما التطلب بمعرفة الأخبار، وقال ابن الأنباري: إنما نسق أحدهما على الآخر؛ لاختلاف اللفظين، كقولهم:(بعدًا وسحقًا ذكره)
(1)
كذا أجمع الهروي، وقال أبو عبد الملك: هو بالجيم: من بعيد، وبالحاء: من قريب ويجوز أن يكونا واحدًا.
فصل:
جاء في تعليم الفرائض والحث عليها مما ليس على شرط الصحيح ما أخرجه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن المنذر والحاكم في شواهده، عن حفص بن عمر بن أبي العطاف، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رفعه "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها نصف العلم وهو أول شيء ينسى من أمتي"
(2)
وما أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن ابن زياد بن أنعم، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"العلم ثلاثة وما سوى ذلك فضل: آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة"
(3)
وابن أبي العطاف واهٍ، قال العقيلي: لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به
(4)
، وقال ابن عدي- وقد ذكر هذا الحديث: ورواه حفص مرة أخرى عن
(1)
من (ص 2).
(2)
ابن ماجه (2719)، والحاكم 4/ 332.
(3)
أبو داود (2885).
(4)
"ضعفاء العقيلي" 1/ 271.
أبي الزناد، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال البخاري: لا يصح أيضا
(1)
.
وابن أنعم تُكلم فيه
(2)
، وروى ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من قرأ القرآن فليتعلم الفرائض
(3)
. ورواه الدارقطني مرفوعًا، ثم قال: تابعه جماعة عن عوف، ورواه من طريق أبي هريرة أيضًا
(4)
، ورواه سُليم الرازي في "ترغيبه" من حديث عوف: بلغني أن سليمان بن جابر الهجري، قال عبد الله بن مسعود .. فذكره، ورواه الدارقطني أيضًا من رواية زكريا عن عطية، عن أبي سعيد مرفوعًا "تعلموا الفرائض وعلموها الناس"
(5)
، وروى ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال: مثل الذي يقرأ القرآن ولا يحسن الفرائض كالبرنس بلا رأس
(6)
.
وحديثُ إبراهيم عن عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض فإنها من دينكم
(7)
. منقطعٌ فيما بين إبراهيم وعمر، وكذا حديث القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود رضي الله عنه: تعلموا (القرآن)
(8)
والفرائض
(9)
.
(1)
"الكامل" 3/ 276.
والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(496).
(2)
انظر: "الضعفاء الكبير" للعقيلي 2/ 332 (927)، والكامل" لابن عدي 5/ 475.
(3)
"علل الحديث" 2/ 50.
(4)
"سنن الدارقطني" 4/ 81 - 82.
(5)
"سنن الدارقطني" 4/ 82.
(6)
"المصنف" 6/ 241 (31026).
(7)
رواه الدارمي في "السنن" 4/ 1885 (2893).
(8)
من (ص 2).
(9)
رواه الدارمي في "السنن" 4/ 1886 (2895)، الطبراني 9/ 188 (8926).
3 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»
6725 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ وَالْعَبَّاسَ عليهما السلام أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمَا حِينَئِذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَيْهِمَا مِنْ فَدَكَ وَسَهْمَهُمَا مِنْ خَيْبَرَ. [انظر: 3092 - مسلم: 1759 - فتح 12/ 5]
6726 -
فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ» . قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لَا أَدَعُ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُهُ فِيهِ إِلاَّ صَنَعْتُهُ. قَالَ: فَهَجَرَتْهُ فَاطِمَةُ، فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى مَاتَتْ. [انظر: 3093 - مسلم: 1759 - فتح 12/ 5]
6727 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» [انظر: 4034 - مسلم: 1758 - فتح 12/ 6]
6728 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ -وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي مِنْ حَدِيثِهِ ذَلِكَ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ- فَقَالَ: انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ، فَأَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَذِنَ لَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» . يُرِيدُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ. فَقَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ. قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَمْرِ: إِنَّ اللهَ قَدْ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَقَالَ عز وجل:
{مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6] فَكَانَتْ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ، وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهُ وَبَثَّهَا فِيكُمْ، حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ هَذَا الْمَالِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللهِ، فَعَمِلَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ. فَتَوَفَّى اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَضَهَا فَعَمِلَ بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ تَوَفَّى اللهُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ وَلِيِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا مَا عَمِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ، جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ، فَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ، فَوَاللهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ، لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ، فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا. [انظر: 2904 - مسلم: 1757 - فتح 12/ 6]
6729 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَا يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهْوَ صَدَقَةٌ» [انظر: 2776 - مسلم: 1760 - فتح 12/ 6]
6730 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟» . [انظر: 4034 - مسلم: 1758 - فتح 12/ 7]
ساق فيه حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا كذلك من طريقين. وحديثَ مَالِكِ بْنَ أَوْسِ فيه مطولاً وحديث أَبِي هريرة وعائشة رضي الله عنهما، وقد سلف في الخمس بيان ذلك واضحًا.
فإن قلت: كيف تأول علي والعباس رضي الله عنهما (منها؟ قلت)
(1)
: إنما حرم عليهم الصدقة الواجبة (أو أكلا)
(2)
بحق العمل. قال ابن (جرير)
(3)
: وعمل الصديق والفاروق بما دل عليه ظاهر الخبر فيما كان له عليه السلام في فدك وخيبر وغيرهما، ففعلا ما كان يفعله في حياته، وذهب عثمان إلى أن ذلك للغنم بعده يصرفه فيما يراه، ولذلك أقطعه مروان. قال القاضي أبو بكر: ولا طعن عليه فيه لاعتقاده السالف.
وقوله: ("لا يقتسم ورثتي دينارًا (ولا درهمًا)
(4)
") إلى آخره، نهاهم عنه على غير قطع بأنه لا يخلف دينارًا ولا درهمًا، ويجوز أن يملك ذلك قبل موته فنهاهم عن قسمته، فكأنه قال: "لا يقتسم ورثتي" على الخبر وتكون الرواية فيه برفع الميم على معنى: ليس يقتسم.
قال ابن التين: وكذلك قرأ به هنا وقرئ كذلك أيضًا في "الموطأ"
(5)
.
وقوله: ("ونفقة نسائي")(تنبيه)
(6)
أنهن محبوسات عنده، فإنهن محرمات على غيره بنص القرآن.
وفي قوله: " (لا يقتسم ورثتي") دلالة على جواز الوقف، وأنه يجري مجرى الوفاة كالحياة، ولا يباع ولا يملك، كما حكم الشارع فيما أفاء الله عليه بأنه لا يورث ولكن يصرف لما ذكره، والباقي لمصالح المسلمين، وتبين فساد قول أبي حنيفة في إبطاله.
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: إذا، والمثبت من (ص 2).
(3)
في (ص 2): جريج.
(4)
من (ص 2).
(5)
"الموطأ" ص 614.
(6)
من (ص 2).
وقد أسلفنا هناك أن معنى قوله: "لا نورث ما تركنا صدقة" هو من معنى قوله: "إن آل محمد لا يحل لهم الصدقة"، ووجه ذلك والله أعلم أنه لما بعثه الله إلى عباده ووعده -على التبليغ لدينه والصدع بأمر- الجنة، وأمره أن لا يأخذ منهم على ذلك أجرًا ولا شيئًا من متاع الدنيا بقوله تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص: 86] وكذلك سائر الرسل في كتاب الله كلهم يقول: لا أسألكم عليه مالاً ولا أجرًا إن أجري إلا على الله وهو الجنة، أراد عليه السلام أن لا ينسب إليه من متاع الدنيا شيء يكون عند الناس في معنى الأجر والثمن، فلم يحل له شيء منها؛ لأن ما وصل إلى المرء وأهله فهو واصل إليه، فلذلك -والله أعلم- حرم الميراث على أهله؛ لئلا يُظن به أنه جمع المال لورثته، كما حرمهم الصدقات الجارية على يديه في الدنيا لئلا ينسب إلى ما تبرأ منه في الدنيا، وفي هذا وجوب قطع الذرائع. وقد روى ابن عيينة عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة"
(1)
فهو عام في جميع الأنبياء، ولا تعارض بين هذا وقوله تعالى:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] لأن المراد إرث النبوة والعلم والحُكْم، وكذلك قوله تعالى:{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 6] المراد: النبوة والعلم؛ لأن، ذلك إذا صار إلى ولده لحقه من الفضل أكثر مما يلحقه إذا صار ذلك إلى غير ولده؛ لقوله عليه السلام:"إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده"
(2)
فرغب زكريا أن يرث علمه ولده الذي يخرج من صلبه، فيكون تقدير الآية على هذا {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ} [مريم: 5]
(1)
رواه أحمد في "مسنده" 2/ 463.
(2)
رواه بنحوه ابن ماجه (3660)، وأحمد 2/ 509.
وهم بنو العم والعصبة أن يصير إليهم العلم والحِكْمة من بعدي، ويصير ذلك إلى ولدي أحبّ إلي فأضمر ذلك.
وقال أبو علي النسوي: الخوف لا يكون من الأعيان، وإنما يكون بما يئول بها، فإذا قيل: خفت الله وخفت الناس، فالمعنى في ذلك: خفت عقاب الله ومؤاخذة وملامة الناس، فلذلك قوله:{خِفْتُ الْمَوَالِيَ} : إني خفت بني عمي، فحذف المضاف، والمعنى؛ خفت تضييعهم الدين وكيدهم إياه، فسأل ربه تعالى، وليؤثر نبوته وعلمه لئلا يضيع الدين، ويقوي ذلك ما روي عن الحسن البصري في قوله {يَرِثُنِي}: أي: نبوتي
(1)
.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا معشر الأنبياء .. " إلى آخره ما يدل على أن الذي سأل ربه أن يرث ولده النبوة لا المال، ولا يجوز على نبي الله أن يقول: أخاف أن يرثني بنو عمي وعصبتي ما فرض الله لهم من مالي، وكان الذي حملهم على ذلك ما شاهدوه من تبديل الدين وقتلهم الأنبياء.
(1)
رواه الطبري في "التفسير" 8/ 308 (23498).
4 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ»
6731 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً، فَعَلَيْنَا قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ» . [انظر: 2298 - مسلم: 1619 - فتح 12/ 9]
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَنَا أَوْلَى بِائمُؤْمِنِينَ مِن أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَعَلَيْنَا قَضَاؤُه، وَمَن تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ".
قام الإجماع على أنه من ترك مالاً فلورثته
(1)
، كما نطق به الحديث.
واختلف في معنى قوله: "فعلينا قضاؤه" فقال المهلب: هذا على الوعد منه؛ لما كان وعده الله به من الفتوحات من ملك كسرى وقيصر، وليس على الضمان والحمالة؛ بدليل تأخره عن الصلاة على المديانِ، حتى ضمنه بعض من حضره.
وقال غيره: إنه ناسخ لترك الصلاة على من مات وعليه دين.
وقوله: ("فعلينا قضاؤه") أي: فعلينا الضمان اللازم، وقد سلف هذا المعنى في كتاب الكفالة.
(1)
"الإجماع" لابن المنذر ص 90 (310).
5 - باب مِيرَاثِ الوَلَدِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه إِذَا تَرَكَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِنْتًا فَلَهَا النِّصْفُ، وَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ بُدِئَ بِمَنْ شَرِكَهُمْ، فَيُؤْتَى فَرِيضَتَهُ، فَمَا بَقِيَ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ.
6732 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما،- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهْوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . [6735، 6746، 6746 - مسلم: 1615 - فتح 12/ 11)
ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما: عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهْوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ".
الشرح:
أثر زيدٍ أخرجه الإمام يزيد بن هارون في "فرائضه": أنا سفيان بن سعيد، عن منصور والأعمش، عن إبراهيم بن يزيد عنه، وقول يزيد هذا هو قول الجماعة في البنت، إلا من يقول بالرد، وكذا في الاثنين فأكثر إلا من يقول بالرد، وإلا ابن عباس، فإنه كان يجعل للبنتين النصف كما سلف.
وقوله: (وإن كان معهن ذكر)، يريد: إن كان مع البنات أخ لهن وكان معهم غيرهم ممن له فرض مسمى، وكذلك قال:(شركهم)، ولم يقل: شركهن؛ لأنه أراد الابن والبنات و (شرِكهم) بكسر الراء. يقال: شركت الرجل في الميراث والبيع: أشركه، والاسم الشرك. مثال ذلك: مات رجل عن زوج وأب أو جد وابن وبنات، أُعطي الأولون فرائضهم؛ لأنه لا يحجب واحد منهم بالبنتين، فما بقي بين
الذكر والبنات فللذكر مثل حظ الأنثيين، فهذا تفسير هذا الباب، وهو تأويل قوله عليه السلام:"فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" أي: أعطوا كل ذي فرض فرضه، وما بقي فلمن لا فرض له؛ لأنهم عصبة، والبنات مع أخيهن لا فرض لهن معه وهن معه عصبة من أجله.
وأما قوله: "فلأولى رجل ذكر" يريد: إذا كان في الذكور من هو أولى بصاحبه بقرب أو ببطن، وأما إذا استويا بالتعدد وأدلوا بالآباء والأمهات معًا كالإخوة وشبههم، فلم يقصدوا بهذا الحديث؛ لأنه ليس في البنين أولى من غيره؛ لأنهم قد استووا في المنزلة، ولا يجوز أن يقول: أولى وهم سواء، فلم يرد البنين بهذا حديث، وإنما أراد غيرهم على ما يأتي.
وقوله: (بُدِئَ بمن شَرِكهم)، إنما يصح هذا إذا لم تضق الفريضة، وأما إذا ضاقت فلا يبدأ بأحد قبل صاحبه؛ لأن القول يعمهم.
وقوله: ("ذكر") للتأكيد؛ لأن الرجل لا يكون إلا ذكرًا كقوله: ابن لبون ذكر، وقوله تعالى:{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] وقوله {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] وهذا فيما عدا الإخوة والأخوات والابن والبنات وبني البنين وأخواتهم، ويراد به العمة مع العم، وبنت الأخ مع أخيها، وبنت العم مع أختها، وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أنه قال: في بنت وأخ وأخت أشقاء أو لأب، يريد: للأخ وحده ما بقي، ولعله تأول عموم هذا الحديث وهو عجيب؛ لأن الله تعالى قال:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].
6 - باب مِيرَاثِ البَنَاتِ
6733 -
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرِضْتُ بِمَكَّةَ مَرَضًا فَأَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى المَوْتِ، فَأَتَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي مَالاً كَثِيرًا، وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَتِي، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ:«لَا» . قَالَ: قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: «لَا» . قُلْتُ: الثُّلُثُ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ كَبِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَ وَلَدَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَأُخَلَّفُ عَنْ هِجْرَتِي؟ فَقَالَ: «لَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي فَتَعْمَلَ عَمَلاً تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللهِ، إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ رِفْعَةً وَدَرَجَةً، وَلَعَلَّ أَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ". يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. قَالَ سُفْيَانُ: وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ. [انظر: 56 - مسلم:1638 - فتح 12/ 14]
6734 -
حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ شَيْبَانُ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أَتَانَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ مُعَلِّمًا وَأَمِيرًا، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَأُخْتَهُ، فَأَعْطَى الابْنَةَ النِّصْفَ وَالأُخْتَ النِّصْفَ. [6741 - فتح 12/ 15]
ذكر فيه حديث سعد رضي الله عنه السالف: ولا يَرِثُنِي إِلَّا ابنتِي، وفي آخره: قَالَ سُفْيَانُ: وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ.
وحديث الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أَتَانَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بالْيَمَنِ مُعَلِّمًا وَأَمِيرًا، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ ابنتَهُ وَأُخْتَهُ، فأَعْطَى الابْنَةَ النِّصْفَ وَالأُخْتَ النِّصفَ.
الشرح:
أجمع العلماء على أن ميراث البنت الواحدة النصف
(1)
؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] وأجمعوا أيضًا على أن للأخت النصف، لقوله تعالى {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 12] فجعلها كالابنة.
فإن قلت: نص الله على الأختين أن لهما الثلثين، لقوله تعالى:{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 12]. ولم ينص على الاثنتين إنما ذكر أكثر من اثنتين.
قيل: لما أعطى الله للابنة النصف (وللأخت النصف)
(2)
، ونص على الأختين أن لهم الثلثين، فاستغنى بذكر الأختين عن ذكر البنتين؛ لأنه لما كانت الواحدة كالبنت، كانت البنتان كالأختين بل البنتان أحرى بذلك لقربهما من الميت فقُدِّمن على الأخوات في مواضع شتى، فاستحال أن تكون الأختان أكثر ميراثًا من البنتين.
وأما قول سعد رضي الله عنه: (إنه لا يرثني إلا ابنتي)، كأنه أراد أن يعطي من ماله ما فضل عن ميراث ابنته، فأعلمه عليه السلام: أنه لا يجوز لمعط أن يعطي من ماله بعد موته أكثر من ثلثه، كان له من يحيط بماله أم لا، وهذِه حجة لزيد بن ثابت في قوله: بيت المال عصبة من لا عصبة له
(3)
، وهو قول مالك والشافعي، وهو خلاف مذهب أهل الرد.
(1)
"الإجماع" لابن المنذر ص 91، و"الإقناع في مسائل الإجماع" 3/ 1409.
(2)
من (ص 2).
(3)
رواه بنحوه سعيد بن منصور في "السنن" 1/ 60 (114)، البيهقي في "السنن" 6/ 244.
وأما قوله عليه السلام: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء" بعد قول سعد: (لا يرثني .. ) إلى آخره، فحوى قوله أن سعدًا لا يموت حتى يكون له ورثة جماعة، وأنه لا يموت من علته تلك، فكان كما دل عليه فحوى خطابه، ولم يمت سعد إلا عن بنين عدة؛ كلهم ولد بعد ذلك المرض، وهذا من أعلام نبوته.
7 - باب مِيرَاثِ ابْنِ الاِبْنِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ (له أبٌ)
(1)
وَقَالَ زَيْدٌ رضي الله عنه: وَكَذَا وَلَدُ الأَبْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الوَلَدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهُمْ وَلَدٌ، ذَكَرُهُمْ كَذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ كَأُنْثَاهُمْ، يَرِثُونَ كَمَا يَرِثُونَ، وَيَحْجُبُونَ كَمَا يَحْجُبُونَ، وَلَا يَرِثُ وَلَدُ الابْنِ مَعَ الابْنِ.
6735 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهْوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» [انظر: 6732 - مسلم: 1615 - فتح 12/ 16]
ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما السالف.
وأثر زيد رضي الله عنه هذا أخرجه يزيد بن هارون، عن محمد بن سالم، عن الشعبي عنه
(2)
.
وقول زيد هذا إجماع
(3)
.
وحديث ابن عباس سلف معناه، والمراد: إذا توفيت امرأة عن زوج وأب وبنت، (وابن ابن)
(4)
وبنت ابن، فإن الفرائض ههنا بداءة الزوج بالربع، وللأب السدس، وللبنت النصف، وما بقي فللباقي إن كن معه في درجة واحدة، أو كان أسفل منهن، (فإن كن أسفل منه)
(5)
فالباقي له دونهن، وهذا قول مالك والشافعي وأكثر الفقهاء، ومنهم من
(1)
كذا بالأصل، وفي اليونينية:(ابن).
(2)
رواه البيهقي في "السنن" 6/ 229 من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عنه.
(3)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 90 (313).
(4)
من (ص 2).
(5)
من (ص 2).
يقول: الباقي لابن الابن دون بنات الابن، وسواء كن معه في تعدد واحد أو أرفع منه لا شيء لهن لهذا الحديث بظاهره، وقيل: يرد على من معه ولا يرد على من فوقه
(1)
.
وأما حجة زيد ومن ذهب مذهبه، ممن يقول: لأولى رجل ذكر مع أخواته، فظاهر قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وأجمعوا أن بني البنين عند عدم البنين كالبنين إذا استووا في العدد، ذكرهم كذكرهم، وأنثاهم كأنثاهم، وكذا إذا اختلفوا في التعدد لا يضرهم؛ لأنهم كلهم بنو بنين يقع عليهم اسم أولاد، فالمال بينهم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
(2)
إلا ما أجمعوا عليه من أن الأعلى من بني البنين الذكور يحجب من تحته من ذكر وأنثى.
(1)
انظر: "الاستذكار" 15/ 400 - 401.
(2)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 91 (313).
8 - باب مِيرَاثِ ابْنَةِ ابْنٍ مَعَ ابْنَةٍ
6736 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو قَيْسٍ: سَمِعْتُ هُزَيْلَ بْنَ شُرَحْبِيلَ قَالَ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى عَنِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، فَقَالَ لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ، وَلِلأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي. فَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ، وَلاِبْنَةِ ابْنٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلأُخْتِ» . فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ. [6742 - فتح 12/ 17}
ذكر فيه حديث شُعْبَةَ، عن أبي قَيْسٍ -واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي الكوفي، مات سنة عشرين ومائة، من أفراده- قال: سَمِعْتُ هُزَيْلَ بْنَ شُرَحْبِيلَ -وهو من أفراده أيضًا- يقول: سُئِلَ أَبُو مُوسَى رضي الله عنه: عَنِ ابنةٍ وَابْنَةِ ابن وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلاِبْنَةِ النِّصفُ، وَلِلأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَسَيُتَابِعُنِي. فَسُئِلَ ابن مَسْعُودٍ وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى، فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لِلاِبْنَةِ النِّضفُ، وَلاِبْنَةِ الابْنِ السّدسُ تَكمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلأخْتِ". فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابن مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هذا الحَبْرُ فِيكُمْ.
هذا الحديث من أفراده، ولما ذكره الإسماعيلي من حديث معاذ، عن أبي قيس، عن هزيل قال: لم يرفعه معاذ، وقال عبد الكريم عن شعبة، فلم يذكر: فأتوا أبا موسى. ولا خلاف بين الفقهاء وأهل الفرائض في ميراث [ابنة]
(1)
الابن مع الابنة، وأبو موسى قد رجع إذ خصم بالسنة.
(1)
ألحقناها من هامش الأصل، وكتب فوقها:(سقط فيما يظهر).
(وفيه أن لا)
(1)
.
قلت: لكنه لم يتفرد به. قال ابن عبد البر: قال بما ذكره أبو موسى سلمان بن ربيعة
(2)
ولم يتابعهما أحد عليه، وأظنهما انصرفا عنه
(3)
.
وفيه: أن العالم قد يقول فيما يسأل عنه وإن لم يحط بالسنن، ولو لم يقل العالم حتى يحيط بالسنن ما تكلم أحد في الفقه.
وفيه: أن الحجة عند التنازع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ينبغي للعالم الانقياد إليها وأن صاحبها حبر.
ألا ترى إلى شهادة أبي موسى لابن مسعود لما خصمه بالسنة أنه حبر.
وفيه: ما كانوا عليه من الإنصاف والاعتراف بالحق لأهله، وشهادة بعضهم لبعض بالعلم والفضل، ورد العلم إلى الأعلم، وأن مطلوبهم كان الحق.
فصل:
أسلفنا عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الأخت لا شيء لها مع البنات، وإن كان مع ابنة الابن ذكر كان له ما بقي (للذكر مثل حظ الأنثيين) وكذلك إذا كثر بنو الابن.
وكان ابن مسعود إذا أعطى البنت النصف، وفي ولد الابن ذكر إذا قاسم بينهم ما فضل فإن أصاب البنات أكثر من السدس جعل (اللبنات)
(4)
السدس، وللذكر أو للذكور ما فضل، وإن أصابهن السدس فأدنى كان
(1)
كذا بالأصل، ولم نتبينها.
(2)
ورد في هامش الأصل: لعله كذا: قال بقول أبي موسى سلمان بن ربيعة.
(3)
"الاستذكار" 15/ 399.
(4)
في (ص 2): للإناث.
الفضل للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال أيضًا: إذا استكمل بنات الصلب الثلثين جعل الفضل لذكر ولد الابن دون إناثهم، سواء كانوا معهن في الدرجة أو أسفل منهن.
والجماعة على أن بنات الابن لا شيء لهن إذا استكملت البنات الثلثين، إلا أن يكون معهن ذكر أو أسفل منهن، فيكون ما بقي له ولمن يساويه في الدرجة ولمن هو فوقه ممن لم يأخذ شيئًا من الثلثين
(1)
، وقيل: يرد ابن الابن على من معه ولا يرد على من فوقه، ففي هذا الخبر ثلاث فوائد: أن للبنتين الثلثين، وأن الأخوات عصبة البنات، وأن بنت الابن تقوم مقام البنت.
فصل:
(الحبر) هنا بفتح الحاء وقد تكسر.
قال الجوهري: الحَبر والحِبر واحد أحبار اليهود، ثم قال: وبالكسر أفصح؛ لأنه يجمع على أفعال دون فعول. قال الفراء: هو بالكسر، وإنما قيل: كعب الحبر لمكان هذا الحبر الذي يكتب به، قال: وذلك أنه كان صاحب كتب. قال الأصمعي: لا أدري هو بالفتح (و)
(2)
الكسر للرجل العالم
(3)
. قال أبو عبيد: هو عندي بالفتح
(4)
، ومعناه: العالم بتحبير الكلام والعلم بتحسينه، قال: وهكذا يرويه المحدثون كلهم بالفتح، وكذلك رويناه.
(1)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 91 (315).
(2)
كذا بالأصل، وفي "الصحاح" 2/ 620:(أو).
(3)
"الصحاح" 2/ 620.
(4)
"غريب الحديث" 1/ 60.
قال الهروي: كان أبو الهيثم ينكر الكسر ويقول: هو بالفتح لا غير، وقال القتبي: لست أدري لما اختار أبو عبيد الكسر وترك ذكر القراء، والدليل على أنه بالفتح، قولهم: كعب الأحبار أي: عالم العلماء. قال الهروي: لم ينصف أبا عبيد حيث أضاف إليه اختيارًا لم يفعله، وإنما حكى عن الأئمة أقوالهم.
9 - باب مِيرَاثِ الجَدِّ مَعَ الأَبِ وَالإِخْوَةِ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه الْجَدُّ أَبٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26]{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38]. وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ أَحَدًا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه فِي زَمَانِهِ وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرِثُنِي ابْنُ ابْنِي دُونَ إِخْوَتِي، وَلَا أَرِثُ أَنَا ابْنَ ابْنِي. وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ.
6737 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . [انظر: 6732 - مسلم: 1615 - فتح 12/ 18]
6738 -
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَّا الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ خَلِيلاً لَاتَّخَذْتُهُ، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلَامِ أَفْضَلُ» . أَوْ قَالَ: «خَيْرٌ» . فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا. أَوْ قَالَ: قَضَاهُ أَبًا. [انظر: 467 - فتح 12/ 19]
ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما السالف: "أَلحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا .. " إلى آخره. وحديث عِكْرِمَةَ، عَنه قَالَ؛ أَمَّا الذِي قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَو كُنْتُ مُتَّخِذًا مِن هذِه الأُمَّةِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُهُ، ولكن خُلَّةُ الإِسْلَامِ أَفْضَلُ". أَوْ قَالَ: "خَيْرٌ". فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا. أَوْ قَالَ: قَضَاهُ أَبًا.
الشرح: اختلفت الآثار في هذا الباب اختلافًا كثيرًا. وكانوا يحذرون الخوض فيها.
وورد في حديث لا يصح رفعه: "أجرأكم على قسم الجد أجرأكم على النار"
(1)
. قال الدارقطني: لا يصح رفعه؛ إنما هو عن عمر أو علي، ولفظ المروي عن علي: من سره أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة
(2)
.
وعن ابن مسعود: سلونا عن عصباتكم ودعونا من الجد، لا حيَّاه ولا بيَّاه.
وبالجملة فلا بد من الخوض فيه.
فروى يزيد بن هارون، عن الربيع بن صبيح، ثنا عطاء أنه عليه السلام قال:"لو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي في الغار" وكان أبو بكر يقول: الجد أب ما لم يكن دونه أب، كما أن ابن الابن ابن ما لم يكن دونه ابن.
وحدثنا حجاج بن أرطأة، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من شاء لاعنَّاه عند الحجر الأسود أن الجد أب، والله ما ذكر الله جدًّا ولا جدة، إنهما للآباء، وقرأ:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38].
أخبرنا قيس بن الربيع، عن عبيد بن حسين، عن عبد الله بن معقل قال: سأل رجل ابن عباس عن الجد فقال: أي أب لك أبعد أو أقصى؟ (قال: آدم)
(3)
، قال: فإن الله تعالى يقول {يَا بَنِي آدَمَ} .
(1)
رواه سعيد بن منصور في "السنن" 1/ 48 (55) عن سعيد بن المسيب مرسلًا.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 262 - 263 (19048)، وسعيد بن منصور في "السنن" 1/ 48 (56)، والدارمي 4/ 1910 (2944)، والبيهقي 6/ 245.
(3)
من (ص 2).
وأخبرنا محمد بن سالم، عن الشعبي: أن أبا بكر وابن عباس وابن الزبير كانوا يجعلون الجد أبًا، يرِث ما يرِث، ويحجُب ما يحجُب.
وأخبرنا يزيد بن إبراهيم التستري، ثنا الحسن، أن أبا بكر جعل الجد أبًا.
وأخبرنا حماد بن سلمة، عن ليث، عن طاوس أن عثمان وابن عباس كانا يجعلان الجد أبًا.
وأخبرنا الثوري، عن فرات، عن سعيد بن جبير قال: كنت كاتبًا لعبد الله بن عتبة، فأتاه كتاب من ابن الزبير أن أبا بكر جعل الجد أبًا.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن عبد الأعلى، عن خالد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: أن أبا بكر كان يرى الجد أبًا.
قال: وحدثنا علي بن مسهر عن الشيباني، عن أبي بكر، عن كردوس، عن أبي موسى: أن أبا بكر رضي الله عنه جعل الجد أبًا.
وحدثنا وكيع عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، قال ابن الزبير: إن الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذته خليلاً" جعل الجد أبًا. يعني: أبا بكر
(1)
.
وحدثنا حفص عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه جعل الجد أبًا
(2)
.
وروى عبد الرزاق في "مصنفه"، عن ابن جريج: سمعت ابن أبي مليكة يحدث أن ابن الزبير كان يجعل الجد أبًا.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 260 (31196).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 261 (31200).
وروى ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش، عن إسماعيل بن سميع، قال رجل لأبي وائل: إن أبا بردة يزعم أن أبا بكر جعل الجد أبًا. فقال: كذب، (لو جعلها أو)
(1)
جعله أبًا لما خالفه عمر
(2)
، وقد يخدش هذا فيما ذكره البخاري
(3)
: ولم يذكر أن أحدًا خالف أبا بكر .. إلى آخره.
وما ذكره عن ابن عباس: يرثني ابن ابني .. إلى آخره، رواه سعيد ابن منصور عن خالد بن عبد الله، عن ليث بن أبي سليم
(4)
، عن عطاء عنه به
(5)
.
فصل:
قال ابن حزم: وممن كان يرى الجد أبًا: عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبو موسى الأشعري وعائشة وأبو الدرداء وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو هريرة ومروان
(6)
، ومن التابعين: الحسن وعطاء وطاوس وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وجابر بن زيد والشعبي وعثمان البتي وشريح، وجماعة سواهم، ومِن بعدهم: أبو حنيفة ونعيم بن حماد والمزني وأبو ثور وإسحاق بن راهويه وداود بن علي، وجميع
(1)
من (ص 2).
(2)
"المصنف" 6/ 261 (31203).
(3)
ورد بهامش الأصل ما نصه: حاشية: هذا لا يخدش لأنه إن صح عن عُمَرَ -وهو صحيح- إلا أن ابن سُميع تكلم فيه من جهة اعتقاده وقد روى له مسلم وصحح عليه الذهبي في ميزانه فحديثه صحيح، إنما خالفه عندما كان خليفة ولم يخالفه في حياته.
(4)
ورد بهامش الأصل: حاشية: ليس على شرط البخاري وعلمنا- أي من قاعدة البخاري أنه ما أراد هذِه الطريق وإنما وقف عليه بسند آخر.
(5)
"سنن سعيد بن منصور" 1/ 46.
(6)
ورد بهامش الأصل: مروان تابعي ليس صحابيا.
أصحابنا قالوا: لا يرث الإخوة. لا الذكور ولا الإناث أشقاء كانوا أو لأب أو لأم- مع الجد أب الأب، ولا مع أبي الجد المذكور، ولا مع جد جده، والجد المذكور أب إذا لم يكن الأب، فكل أحد منهم يحجب أباه.
قال: رواه عن أبي بكر عمر وعثمان وابن عباس وابن الزبير وأبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري وغيرهم، ثبتت الأسانيد بلا شك.
وروى عن عمر: أبو بردة (عن)
(1)
أبي موسى: أنه كتب بذلك إلى أبيه، وهذا إسناد ثابت، ورواه عنه أيضًا زيد بن ثابت.
ورواه عن ابن عباس: عكرمة وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وغيرهم. ورواه عن ابن الزبير بن أبي مليكة، وكل ذلك بأصح إسناد. وروي عن عثمان وعلي وابن مسعود بأسانيد هى أحسن من كل ما روي عنهم وعن زيد بما أخذ به المخالفون.
فصل:
وقول البخاري: (ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة)، كذا ذكره عنهم بصيغة تمريض، وقد أسلفنا من عند ابن حزم الصحة عن عمر وعلي وابن مسعود. قال ابن حزم وذكر قول عمر: أليس بنو عبد الله يرثوني دون إخوتي، فمالي لا أرثهم دون إخوتهم: هذا إسناد في غاية الصحة، ساقه إلى زيد بن ثابت، دخل على عمر في الليلة التي قبض فيها .. الحديث
(2)
.
(1)
كذا بالأصل، وفي "المحلى": ابن.
(2)
"المحلى" 9/ 288.
وروى أبو داود والترمذي والنسائي من حديث الحسن عن عمران بن حصين، قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ قال: "لك السدس" فلما ولى دعاه قال: "لك سدس آخر" فلما ولى دعاه قال: "إن السدس الآخر طعمة" قال الترمذي: حديث حسن صحيح
(1)
. وخولف في سماع الحسن من عمران
(2)
.
قال قتادة -أحد رواته- فلا (يدرون)
(3)
مع أي شيء ورَّثه
(4)
.
وروى يزيد بن هارون: حدثنا أبو معشر المديني، حدثنا عيسى بن أبي عيسى الحفاظ أن عمر سأل جلساءه: أيكم عنده علم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد؟ فقال رجل: أعطاه المال كله
(5)
.
وأخبرنا هشام، ثنا حسان، عن محمد بن سيرين قال: قال لي عَبِيْدة السلماني: إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضًا
(6)
.
(1)
أبو داود (2896)، والترمذي (2099) والنسائي في "الكبرى" 4/ 73 (6337)، وضعفه الألباني كما في "المشكاة"(3060).
(2)
ورد في هامش الأصل ما نصه: اختلف في سماع الحسن من عمران؛ فنقل عن يحيى القطان إنكاره، وكذا صالح بن أحمد، وقد قال عباد بن سعد، عن ابن معين الحسن لقي عمران؟ قال: أما في حديث البصريين فلا؛ وأما في حديث الكوفيين فنعم.
(3)
في الأصل: يدرى.
(4)
أخرجه أبو داود (2896).
(5)
"سنن سعيد بن منصور" 1/ 45.
(6)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 261 - 262، عن معمر والثوري، عن أيوب، عن ابن سيرين به.
فصل:
وأثر علي ذكره ابن حزم
(1)
من طريق أبي داود الطيالسي بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن سلمة عنه: أنه كان يجعل الجد أخًا حتى يكون سادسًا. تم قال: وهذا إسناد صحيح.
وأما رواية إبراهيم عنه أنه كان يعطي كل صاحب فريضة (فريضته)
(2)
، ولا يورث أختًا لأم ولا أخًا لأم مع الجد شيئًا، ولا يقاسم الأخ للأب مع الأخ للأب والأم والجد شيئًا، فإذا كان أخت لأب وأم، وأخ لأب (وحده)
(3)
أعطى الأخت النصف، وما بقي أعطاه الجد والأخ بينهما نصفان، فإن كثر الإخوة شركه معهم حتى يكون السدس خيرًا من المقاسمة، فإن كان السدس خيرًا له أعطاه السدس
(4)
؛ فمنقطع فيما بين إبراهيم وبينه.
وروى يزيد بن هارون في كتابه عن محمد بن سالم، عن الشعبي قال: كان علي رضي الله عنه شرَّك بين الجد والإخوة إلى السدس، فجعله كأحدهم
…
لحديث.
وحدثنا إسماعيل بن خالد، عن الشعبي قال: حدثت أن عليًّا رضي الله عنه كان ينزل بني الأخِ مع الجد منازل آبائهم، ولم يكن أحد من الصحابة يفعله غيره.
وأخبرنا قيس بن الربيع عن فراس، عن الشعبي قال: كتب ابن عباس إلى علي رضي الله عنه يسأله في سبعة إخوة وجدٍّ، فكتب إليه علي رضي الله عنه: أن اقسم
(1)
"المحلى" 9/ 284.
(2)
من (ص 2).
(3)
كذا بالأصل، وفي "المحلى" وجد.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 268، وانظر:"المحلى" 9/ 284 - 285.
المال بينهم سواء، (وامحو)
(1)
كتابي فلا تخلده.
وفي لفظ: ستة إخوة؛ فقال: أعطه سُبعًا، وفي لفظ: أعط الجد سدسًا، أو قال: سهمًا.
فصل:
وأثر ابن مسعود رضي الله عنه ذكره سعيد بن منصور عن أبي معاوية، ثنا الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن عبيد بن نضيلة قال: كان عمر وابن مسعود يقاسمان الجد مع الإخوة ما بينه وبين أن يكون السدس خيرًا له من مقاسمة الإخوة
(2)
.
قال ابن حزم: وهذا إسناد في غاية الصحة
(3)
.
فصل:
وأثر زيد ذكره ابن حزم من حديث إسماعيل القاضي، ثنا إسماعيل ابن أبي أويس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، أنا خارجة ابن زيد بن ثابت، عن أبيه أنه قال: إن الجد أبا الأب معه الإخوة من الأب لم يكن يقضي بينهم إلا أمير المؤمنين، وكان إذا أتى يستفتي فيهم (يعني: يفتيهم)
(4)
بالوجه الذي يرى فيهم على قدر كثرة الإخوة وقلتهم.
(1)
كذا بالأصل، وفوقها (كذا) والجادة أن تكتب بلا واو جريًا على قاعدة يبنى على ما يجزم به مضارعه، وما في الأصل مؤول على وجهين:
أحدهما: إشباع ضمة الحاء فتتولد الواو.
والثاني: أنها لغة لبعض العرب، وتقدم الكلام عليها مرارًا.
(2)
"السنن" 1/ 49.
(3)
"المحلى" 9/ 283.
(4)
كذا بالأصل وفي "المحلى" 9/ 283: (يفتي بينهم).
قال زيد: وكان رأيي أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد. قال ابن حزم: لا سبيل أن يؤخذ عن زيد أحسن من هذا الإسناد في شيء بما روي عنه في الجد إلا قوله في الخرقاء في أخت وأم وجد أن للجد سهمين وللأخت سهمًا وللأم الثلث، فإنه ثابت عنه بأحسن من هذا الإسناد
(1)
.
فصل:
قال ابن حزم؛ وبقول علي هذا -يعني: المروي عن إبراهيم السالف- يقول المغيرة بن مقسم وعبيدة السلماني ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وشريح وابن حي وهشيم بن بشير والحسن ابن زياد اللؤلؤي وبعض أصحاب أبي حنيفة.
قال: وروينا من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد، عن الزهري، أخبرني سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وقبيصة بن ذؤيب أن عمر قضى أن الجد يقاسم الإخوة للأب والأم والإخوة (للأم)
(2)
، ما كانت المقاسمة خيرًا له من ثلث المال، فإن كثر الإخوة أعطى الجد الثلث، وكان للإخوة ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين، وأن بني الأب والأم أولى بذلك من بني الأب وذكورهم (ونساؤهم)
(3)
غير أن بني الأب يقاسمون الجد بني الأب والأم فيردون عليه ولا يكون لبني
(1)
"المحلى" 9/ 283.
(2)
كذا بالأصل، وكذا هو صلب "المحلى" ولكن أشار الشيخ أحمد شاكر بهامشه أنه في بعض نسخ "المحلى" المخطوطة: للأب. قلت: وهو الصواب حيث انعقد الإجماع على أن الإخوة للأم لا يرثون مع الجد فهو يحجبهم عن الميراث انظر "الإجماع" لابن المنذر ص 96.
(3)
في (ص 2): وإناثهم.
الأب شيء مع بني الأم والأب إلا أن يكون بنو الأب يردون على بنات الأب والأم، فإن بقي شيء بعد فرائض بنات الأب والأم فهو للإخوة من الأب لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين. ومن طريق عبد الرزاق، عن الثوري عن إبراهيم: كان زيد بن ثابت يشرك الجد مع الإخوة والأخوات إلى الثلث، فإذا بلغ (الثلثين)
(1)
أعطاه الثلث، وكان للإخوة والأخوات ما بقي، ويقاسم الأخ للأب ثم يرد على أخيه ويقاسم بالإخوة من الأب أو الأخوات من الأب والإخوة من الأب والأم ولا يورثهم شيئًا، فإذا كان أخ للأب والأم أعطاه النصف، وإذا كان أخوات وجد أعطاه مع الأخوات الثلث ولهن الثلثين، وإن كانتا أختين أعطاهما النصف وله النصف، ولا يعطي أخا لأم مع الجد شيئًا
(2)
.
قال ابن حزم: فهذا قول روي عن عمر كما يسمعون وزيد، وبه يقول الأوزاعي والثوري ومالك وعبيد الله بن الحسن وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والحسن اللؤلؤي والشافعي وأحمد وأبو عبيد، ثم رجع محمد بن الحسن إلى التوقف جملة، ورجع اللؤلؤي إلى ما ذكرناه قبل
(3)
.
فصل:
قال ابن عبد البر: اتفق علي وزيد بن ثابت وابن مسعود على توريث الإخوة مع الجد، إلا أنهم اختلفوا في كيفية ذلك، وسأل ابن عباس زيدًا
(1)
كذا بالأصل، وفي "المحلى": الثلث.
(2)
"المصنف" 10/ 267 (19063)، والإسناد: الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن زيد بن ثابت.
(3)
من قول المصنف رحمه الله فيما سلف: قال ابن حزم: وممن كان يرى الجد أبًا
…
إلى هنا ينتهي كلامه من "المحلى" 9/ 283 - 288، بتصرف.
عن قوله في الجدِّ وفي معادته الإخوة للأب والأم والإخوة للأب، فقال: إنما نقول برأيٍ كما تقول برأيك.
قال ابن عبد البر: انفرد زيد من بين الصحابة في معادته الجد بالإخوة للأب مع الإخوة الأشقاء، وخالفه طائفة من الفقهاء القائلين بقوله في الفرائض؛ لإجماع المسلمين أن الإخوة للأب لا يرثون مع الإخوة الأشقاء، فلا معنى لإدخالهم معهم وهم لا يرثون؛ لأنه حيف على الجد في المقاسمة
(1)
.
(فرع)
(2)
: أم وأخ وجد، للأم الثلث، والباقي بين الباقي، وفي كتاب المغيرة الضبي: عن
(3)
عبد الله جعل للأم السدس، والباقي بين الباقي، وجعلوا ذلك وَهَمًا من المغيرة.
فرع: المفهوم من كلام أصحابنا أنه لا فرق بين الجد وأبي الجد في مقاسمة الإخوة، وفي تعليق القاضي وفرائضه: إذا كان هناك أب جدٍّ وأخ أنه يعطى له السدس وخمسة أسداسه للأخ؛ لأن الأقرب أقرب إليه.
قال ابن الرفعة: وله مأخذ من كلام الشافعي.
قلت: هو بعيد غريب والرافعي نقله عن الإمام فقط
(4)
.
فصل:
نقل ابن بطال وغيره الإجماع على أن الجد لا يرث مع الأب، وأن الأب يحجب أباه، ثم لخص الخلاف فيه مع الإخوة أيضًا.
(1)
"الاستذكار" 15/ 436 - 438 بتصرف.
(2)
في (ص 2): فصل.
(3)
في الأصل فوقها (لعله)، وكتب في الهامش: في الأصل (ابن).
(4)
"العزيز" 6/ 474.
قال: واختلفوا في ميراث الجد مع الإخوة للأب والأم، أو للأب، فكان الصدِّيق وابن عباس وابن الزبير وعائشة ومعاذ وأبي وأبو الدرداء وأبو هريرة رضي الله عنه يقولون أنه أب عند عدم الأب كالأب سواء، يحجبون به الإخوة كلهم، ولا يورثون مع الجد أحدًا من الإخوة شيئًا. وقاله عطاء وطاوس والحسن، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق.
وذهب علي وزيد وابن مسعود رضي الله عنه إلى توريث الإخوة معه، إلا أنهم اختلفوا في كيفية ميراثهم معه كان معهم ذو فرض مسمًى أم لا.
فذهب [زيد]
(1)
إلى أنه لا ينقص الجد من الثلث مع الإخوة الأشقاء أو لأب إلا مع ذوي الفروض، فإنه لا ينقص معهم من السدس شيئًا، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي، وقد روي عن ابن مسعود مثل قول علي، وكان علي يشرك بين الجد والإخوة، ولا ينقصه من السدس شيئًا مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة
(2)
.
قال: واختلف عن ابن مسعود فروي عنه مثل قول زيد، والحجة لقول الصديق {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]، فسماه أبًا وهو جد، وقال تعالى:{وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ} [يوسف: 38] فسماه أبًا وهو جد له وكذلك إسحاق جدٌّ له.
وقال عليه السلام: "أَنَا ابن عَبْدِ المُطَّلِب"
(3)
وإنما هو ابن ابنه.
(1)
سقطت من الأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال".
(2)
انظر في هذِه المسألة: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 461 (2143)، "الاستذكار" 15/ 429 - 444، "الأم" 4/ 11.
(3)
سلف برقم (2864) كتاب: الجهاد والسير، باب: من قاد دابة غيره في الحرب.
وأجمع العلماء أن حكم الجد حكم الأب في غير موضع؛ من ذلك إجماعهم أن الجد يحجب الإخوة من الأم كالأب؛ فالقياس أن يحجب الإخوة الأشقاء أيضًا، وأجمعوا أن الجد يضرب مع أصحاب الفرائض بالسدس، كما يضرب الأب، وإن عالت الفريضة وللأب مع ابن الابن السدس، وكذلك الجد له معه مثل ما للأب، وقال تعالى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] ومن المحال أن يكون له ولد ولا يكون له والد، قال: واحتجوا بحديث الباب: "فهو لأولى رجل ذكر"؛ لأن رجلاً لو مات وترك بنتًا أو بنتين وجدًّا وإخوة فألحقنا البنت أو البنتين بفرائضهن، وكان ما بقي للجد، وهو أولى ذكر بقي.
واحتج من ورث الأخ مع الجد بهذا الحديث أيضًا، فقال: الأخ أولى؛ لأنه أقرب إلى الميت بدليل أنه ينفرد بالولاء (لقوته)
(1)
، وأيضًا فإن الأخ يقول: أنا أقوى من الجد؛ لأني أقوم مقام الولد في حجب الأم من الثلث إلى السدس، وليس كذلك الجد، فوجب أن لا يحجبني كما لا يحجب الولد، والجد إنما يدلي بالميت وهو أبو أبيه، والأخ يدلي بالميت وهو ابن أبيه، والابن من جهة المواريث أقوى من الأب؛ لأن الابن ينفرد بالمال ويرده إلى السدس، والأب لا يفعل ذلك بالابن، فكان من أدلى بالأقوى أقوى ممن أدلى بالأضعف
(2)
، وحاصله أن تعصيبه تعصيب بنوة، وتعصيب الجد تعصيب أُبُوَّة.
(1)
كذا بالأصل، وفي "شرح ابن بطال" لقربه.
(2)
انتهى من "شرح ابن بطال" 8/ 352 - 353.
قال في "المعونة": ولأن الأخ يعصب أخته فلم يُسقِط الجد؛ ولأن الأخت فرضها النصف إذا انفردت فلم يسقطها الجد كالبنت؛ ولأنه يعصب أخته بخلاف الجد فامتنع من قوة تعصيبه عليه أن يسقط به
(1)
.
فصل:
نقل ابن التين عن عثمان البتي أن جعل الجد أبًا روي عن عثمان وعلي، وليس بالقوي في الرواية، وهو مخالف لما أسلفناه عن ابن حزم، ثم قال في مقالة زيد أن له مع الإخوة المقاسمة ما لم ينقصه ذلك عن الثلث: روي ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود.
قال: وهو قول علي وهو بالمدينة، فلما صار إلى العراق قاسم به إلى السدس، وروي عنه أنه كتب إلى ابن عباس في ستة إخوة وجد أن المال بينهم، وأن للجد السدس، وقد أسلفنا هذا عنه قال: وروي عنه أنه كان ينزل بني الإخوة منازل آبائهم مع الجد، والمعروف عنه المقاسمة ما لم تنقص من السدس، وقال عمران بن حصين: يقاسمهم إلى نصف السدس، قال عبيدة السلماني: حفظت عن عمر في الجد سبعين قضية، كلها يخالف بعضها بعضًا، وعن عمر أنه جمع الصحابة ليجتمعوا في الجد على قول فسقطت حية من السقف، فتفرقوا.
قال: احتج (علي) بأن قال: الجد مع الإخوة بمنزلة شجرة أنبتت غصنًا، ثم تفرع من الغصن فرعان فيكون الفرعان أشد في القرب من أحد الفرعين والأصل؛ لأن الغصن واسطه بين الأصل وأحد الفرعين فلا واسطة بين الفرعين، فيقتضي التعصيب ترجيح الجد فيستويان ما لم ينقص حقه من السدس؛ لأن للأب حال تعصيب وفرض، ولا مزاحمة
(1)
"المعونة" 2/ 557.
للعاصب معه في حال الفرض؛ لأن فرضه السدس، واحتج زيد فقال: هو مثل وادٍ تشعب منه نهر ثم جر النهر نهرين فالنهران الأخوان، وأصل الوادي الجد، وأبعد من قال: معنى قول أبي بكر: الجد أب، أي: في الحرمة والبرِّ دون الميراث.
فصل:
قيل: حقيقة الخليل: من خص بما لم يخص به غيره، وذلك أنه تعالى خص إبراهيم يكون النار عليه بردًا وسلامًا، فالمعنى على هذا: لو كنت أخص أحدًا من هذا الدين بشيء لخصصت أبا بكر، فهو ردٌّ على الشيعة القائلين أنه خص عليًّا من الدين والقرآن بما لم يخص به أحدًا، وقيل: المانع من اتخاذه خليلاً قوله في الحديث في رواية أخرى: "ولكن صاحبكم خليل الله"
(1)
يريد نفسه، وأن من كان خليل الله لم يخالل غيره.
وقوله هنا: "ولكن خلة الإسلام أفضل" الخُلة بالضم: الخليل، يستوي فيه المذكر والمؤنث؛ لأنه في الأصل مصدر قولك: خليل بين الخلة والخلولة، وقد جمع على خلال كقُلة وقِلال.
فصل:
لم يذكر البخاري حديثًا في الجدة، وقد روى مالك في "الموطأ" عن الزهري، عن عثمان بن إسحاق بن خرشة، عن قَبيصة بن ذؤيب: أن الصديق أعطاها السدس بعد أن سأل وقال: لا أعلم لك في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، وأن المغيرة بن شعبة ومحمد بن
(1)
رواه مسلم (2383/ 6) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر رضي الله عنه.
مسلمة رويا له ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فقال لها: ما لك في كتاب الله شيء، وما كان القضاء الذي قضى به الصديق إلا لغيرك، وما أنا بزائدٍ في الفرائض ولكنه ذاك السدس فإن اجتمعتما فهو لكما، وأيكما خلت به فهو لها
(1)
.
وأخرجه أصحاب السنن الأربعة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهذا صححه ابن حبان والحاكم وقال: إنه على شرط الشيخين
(2)
، وأما ابن حزم فقال: لا يصح؛ لأنه منقطع لأن قبيصة لم يدرك أبا بكر ولا سمعه من المغيرة ولا محمد
(3)
. قلت: تصحيح من صحح من شرطه الاتصال.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد أنه قال: أتت الجدتان إلى أبي بكر الصديق، فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم، فقال له رجل من الأنصار: أما إنكَ تركتَ التي لو ماتت وهو حي كان إيَّاها يرث، فجعل أبو بكر السدس بينهما
(4)
. وروى يزيد بن هارون عن محمد بن سالم، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله رضي الله عنه قال في الجدة مع ابنها: أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسًا وابنها حي
(5)
. وهذا إسناد جيد، ثم قال: وحدثنا أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين قال: قال ابن مسعود .. فذكره.
(1)
"الموطأ" ص 317 - 318.
(2)
أبو داود (2894)، والترمذي (2101)، وابن ماجه (2724)، والنسائي في "الكبرى" 4/ 73 (6339)، وابن حبان 13/ 390 (6031)، الحاكم 4/ 338 - 339.
(3)
"المحلى" 9/ 273 وضعفه أيضًا الألباني في "الإرواء"(1680).
(4)
"الموطأ" ص 318.
(5)
رواه الترمذي (212)، عن الحسن بن عرفة، عنه، به.
وقال ابن عبد البر: خولف مالك في عثمان فقالت طائفة من أهل التثبت والرواية: إنما هو عثمان بن إسحاق بن أبي خرشة بن عمرو بن ربيعة من بني عامر بن لؤي، وما أعلم روى عنه غير ابن شهاب وهو معروف النسب، إلا أنه ليس مشتهرًا بالرواية للعلم، وقد تابع مالكًا على روايته هذا الحديث أبو أويس وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، ورواه معمر، عن الزهري، عن قبيصة لم يدخل بين ابن شهاب وبين قبيصة أحدًا، ورواه كرواية معمر أيضًا يونس وأسامة بن زيد، والقول على قول مالك ومن تابعه؛ لأنهم زادوا ما قصر عنه غيرهم.
وأما ابن عيينة فرواه عن الزهري (وحده)
(1)
، وقال مرة: ثنا قبيصة، وقال مرةً: ثنا رجل عن قبيصة قال: جاءت الجدة أم الأم، أو أم الأب إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالت: إن ابن ابني أو ابن بنتي مات، وقد أخبرت أن لي في كتاب الله حقًّا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ما أجد لك في كتاب الله من حق، قال سفيان: وزاد فيه معمر عن الزهري ولم أحفظه من الزهري ولكن حفظته عن معمر أن عمر قال: إذا اجتمعتما فإنه لكما، وأيتكما انفردت به فهو لها، وحديث القاسم بن محمد لفظه عند ابن عيينة: فأعطى الجدة أم الأم السدس دون أم الأب، فقال له عبد الرحمن بن سهل: -رجل من الأنصار- الحديث
(2)
.
ولما ذكر ابن حزم ما أسلفناه عنه من انقطاعه قال: فإن قيل إن منصورًا روى عن إبراهيم النخعي أنه عليه السلام أعطى ثلاث جدات السدس، رويناه من طريق سفيان وحماد بن زيد وجرير بن عبد الحميد؛
(1)
كذا في الأصل، وفي "الاستذكار" 15/ 447:(وجوده).
(2)
انتهى من "الاستذكار" 15/ 446 - 448.
كلهم عن منصور، وأن ابن وهب روى عمن سمع عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر يحدث عن أبيه، عن علي رضي الله عنه أنه عليه السلام أعطى جدتين السدس إذا لم تكن أم أو شيء دونهما، فإن لم توجد واحدة فلهما السدس، وعند أبي داود من حديث ابن بريدة أنه عليه السلام جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم
(1)
.
وروي نحو هذا عن ابن عباس، قالوا: ومن المحال أن يكون هذا عند ابن عباس ويخالفه.
قلنا: هذا كله لا يصح منه شيء؛ خبر إبراهيم مرسل؛ وخبر ابن بريدة فيه: عبيد الله العتكي وهو مجهول؛ وخبر علي (أسفهها كلها إلا أن)
(2)
ابن وهب لم يسم من أخبره عن عبد الوهاب، وعبد الوهاب أيضًا هالك ساقط، وأيضًا فلا سماع لمجاهد من علي، والرواية عن ابن عباس لا يعرف مخرجها
(3)
.
قلت: أخطأ في جهالته عبيد الله العتكي، فإن ابن معين وثقه وكذا النسائي
(4)
، وقال أبو حاتم: صالح الحديث وأنكر على البخاري إدخاله في "ضعفائه"، وقال: يحول
(5)
، وقد روى عن خلق، وعنه خلق، فمن هذا حاله يكون مجهولًا؟! وأخرجه أيضًا النسائي في "سننه"
(6)
وشرطه صعب في الرجال.
(1)
أبو داود (2895).
(2)
كذا بالأصل، وفي "المحلى" 9/ 273:(أفسدها كلها لأن).
(3)
"المحلى" 9/ 272 - 273.
(4)
انظر: "تهذيب الكمال" 19/ 81، "تهذيب التهذيب" 3/ 17.
(5)
"الجرح والتعديل" 5/ 322 (1529).
(6)
"السنن الكبرى" 4/ 73 (6338).
وقال ابن عدي: روى عنه النضر بن شميل أحاديث مستقيمة وهو لا بأس به
(1)
، ولما صحح الحاكم له حديثًا في الوتر قال: مروزي. ثقة يجمع حديثه
(2)
، وقال ابن خلفون في "ثقاته": هو عندي في الطبقة الرابعة من المحدثين، وهو مشهور بكنيته.
وقوله: لا سماع لمجاهد من علي فيه نظر؛ فإنه قد أدركه.
قال الضياء المقدسي: مجاهد أدرك عليًّا، وقد اتفقت رواية أيوب ووهيب عنه: خرج علينا علي
(3)
.
فصل:
قال ابن حزم: والجدة ترث الثلث إذا لم يكن للميت أم، حيث ترث الأم الثلث، وترث السدس حيث ترث الأم السدس إذا لم يكن للميت أم، وترث الجدة وابنها -أبو الميت- حي، كما ترث لو (كان)
(4)
حيًّا، وكل جدة ترث إذا لم تكن هناك أم أو جدة أقرب منها، فإن استوين في الدرجة أشركن، وسواء فيما ذكرنا أم الأم، وأم الأب، وأم أم الأب وأم أبي الأم وأم أم الأم، وهكذا أبدًا وهذا مكان اختلف الناس فيه، فروي
(1)
جمع المصنف هنا ترجمة اثنين: عبيد الله بن عبد الله العتكي وكنيته المشهور بها (أبو المنيب)، وعبيد الله بن عبد الله العتكي (البصري) قال ابن عدي في "الكامل" 5/ 530 في ترجمة عبيد الله بن عبد الله العتكي أبي المنيب: وهو عندي لا بأس به. وقال أيضًا في "الكامل" 5/ 53 في ترجمة عبيد الله بن عبد الله العتكي البصري: روى النضر بن شميل عن عبيد الله العتكي، عن أنس أحاديث -إن شاء الله- مستقيمة. انظر في ترجمة عبيد الله بن عبد الله أبو المنيب "ميزان الاعتدال" 3/ 408 (5373)، وترجمة عبيد الله بن عبد الله البصري "ميزان الاعتدال" 3/ 407 (5372).
(2)
"المستدرك" 1/ 306.
(3)
"الأحاديث المختارة" 2/ 339.
(4)
كذا بالأصل، وفي "المحلى" 9/ 272 (لم يكن).
عن أبي بكر أنه لم يورث إلا جدةً واحدةً، وهي أم الأم فقط، وروي عنه وعن غيره توريث جدتين فقط، وهما أم الأم وأمهاتها، وأم الأب وأمهاتها، وقالت طائفة بتوريث ثلاث جدات: هاتان وأم أب الأب وأمهاتها.
وروي عن طائفة توريث كل جدة إلا جدة من قبل أبي أم، أو من قبل أبي جدة، وقال بعضهم: لا ترث الجدة ولا الجدتان والأكثر إلا السدس فقط، وقال بعضهم: إن كانت التي من قبل الأم أقرب انفردت بالسدس، ولم ترث معها التي من قبل الأب، فإن كانت التي من قبل الأب مساوية للتي من قبل الأم، أو كانت التي من قبل الأم أبعد اشتركتا في السدس، وقالت طائفة: لا ترث الجدة ما دام ابنها الذي صارت به جدة حيا
(1)
.
(1)
"المحلى" 9/ 272.
10 - باب مِيرَاثِ الزَّوْجِ مَعَ الوَلَدِ وَغَيْرِهِ
6739 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ، وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. [انظر: 2747 - فتح 12/ 23]
ذكر فيه حديث عَطَاءٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ المَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنثيين، وَجَعَلَ لِلأَبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُس- وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعَ وَالثُّمُنَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ.
ما ذكره كله إجماع؛ كون الذكر له مثل حظ الأنثيين، وكون الأبوين لكل واحد منهما السدس، لكن تبقيه الآية:{إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} والربع للمرأة عند فقد الولد وولد الابن، والثمن مع وجود أحدهما، (والزوج له النصف عند عدم الولد وولد الولد والربع مع وجود أحدهما)
(1)
، وسواء كان الولد منه أو منها.
(1)
من (ص 2).
11 - باب مِيرَاثِ المَرْأَةِ وَالزَّوْجِ مَعَ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ
6740 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا. [انظر: 5758 - مسلم: 1681 - فتح: 12/ 24].
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ المَرْأَةَ التِي قَضَى عَلَيْهَا بالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ العَقلَ عَلَى عَصَبَتِهَا.
الشرح:
الغرة: الخيار، قال أبو عمرو: معناها الأبيض فلا يؤخذ فيها الأسود، وقال مالك: الحمران أحب إليَّ من السودان
(1)
.
قال الأبهري: يعني البيض، فإن لم يكن عبيد تلك البلدة بيضًا كان من السودان، وقد كان للغرة أجل معروف في الجاهلية لمن لم يبلغ شرفًا تؤدى (ديته)
(2)
كاملة
(3)
.
وعبارة ابن التين: الغرة: المملوك ذكرًا كان أو أنثى، وغرةٌ: عبد أو وليدة بالتنوين، وعبدٌ (بالرفع على البدل)
(4)
وروي بغير تنوين وخفض عبد بالإضافة.
(1)
"المدونة" 4/ 484.
(2)
من (ص 2).
(3)
انظر: "التمهيد" لابن عبد البر 6/ 482.
(4)
كذا في الأصل.
وقال الإسماعيلي: قراءة العامة على الإضافة، ويقرأ بالتنوين، وقوله:(أو أمة) معطوف على (عبد) ففيه الوجهان.
وقال ابن التين: الغرة منونة في الحديث، ثم فسرها، وليست الغرة مضافة إلى العبد ولا الأمة. قال مالك: ويكون من أوسط عبيد تلك البلدة، إن كان أكثرهم الحمران فمن أوسطهم، وإن كان السودان فمن أوسطهم
(1)
، وقال مالك: عبد أو وليدة
(2)
. وكذا ذكره البخاري في الديات كما سيأتي
(3)
. ولفظ (أو) يحتمل الشك من الراوي، والظاهر أنها للتنويع، وكأنه عبر عن الجسم كله بالغرة.
وقوله: (وإن العقل على عصبتها)، دليل أن دية الجنين تحملها العاقلة، وهي رواية أبي الفرج عن مالك؛ لأنها دية شخص كدية النصراني أو المجوسي، (والذي في "المدونة" أن ديته في مال الجاني؛ لأنه أقل من ثلث الدية)
(4)
(5)
.
فصل:
هذا الحديث ذكره البخاري أيضًا في الديات -كما ستعلمه- وقد أوضحت شرحه في "شرحي للعمدة" فليراجع منه
(6)
، ومن غريب ما وقع في هذا الحديث بعد قوله (أو أمة):(أو بغل أو حمار)، أخرجها أبو داود
(7)
وهي معلولة.
(1)
"المنتقى" 7/ 80.
(2)
انظر: "المدونة" 4/ 484.
(3)
سيأتي برقم (6909)، باب: جنين المرأة.
(4)
"المدونة" 4/ 482.
(5)
من (ص 2). وانظر: "المدونة" 4/ 482.
(6)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 107 - 116.
(7)
أبو داود (4579) وفيه: (فرس أو بغل).
وفي رواية لابن أبي شيبة من حديث عطاء مرسلاً: (أو بغل) فقط. وأخرى: (أو فرس) من حديث هشام عن أبيه، وقال به مجاهد وطاوس
(1)
وفي الدارقطني من حديث معمر عن ابن طاوس، عن أبيه أن عمر قال: أو فرس
(2)
. وفي الإسماعيلي قال عروة: الفرس غرة.
وقال ابن سيرين: يجزئ مائة شاة. وفي بعض طرق أبي داود: خمسمائة شاة. وهو وَهَمٌ، صوابه: مائة شاة، كما نبه عليه أبو داود
(3)
، وفي "مسند الحارث بن أبي أسامة" من حديث حمل بن مالك: أو عشرين من الإبل أو مائة شاة
(4)
. قال البيهقي: ورواه أبو المليح أيضًا عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال: أو عشرون ومائة شاة، وإسناده ضعيف
(5)
.
فصل:
من الغريب -فيما حكاه القرطبي- أن شرذمة شذت فقالت: لا شيء في الجنين، وهي محجوجة بالنصوص وإجماع الصحابة
(6)
، ومنه حديث مجالد، عن الشعبي، عن جابر رضي الله عنه: جعل غرة الجنين على عاقلة القاتلة، ولم يتابع عليه، وفيه: وبرأ زوجها وولدها، فقال عا قلة المقتولة: ميراثها لنا؛ فقال عليه السلام: "لا، ميراثها لزوجها وولدها"
(7)
.
(1)
"المصنف" 5/ 391 - 392 (27261 - 27262 - 27266).
(2)
"السنن" 3/ 117 (117).
(3)
"سنن أبي داود"(4578).
(4)
كما في "بغية الباحث"(584)، وكما في "إتحاف الخيرة المهرة" 4/ 192 (3408)، وكما في "المطالب العالية" 8/ 169 (1902).
(5)
"السنن الكبرى" للبيهقي 8/ 115.
(6)
"المفهم" 5/ 62.
(7)
رواه أبو داود (4575)، وابن ماجه (2648).
وفي البيهقي من حديث ابن عباس فقال عمها: إنها قد أسقطت يا رسول الله غلامًا قد نبت شعره ميتًا، فقال أبو القاتلة: إنه كاذب
(1)
.
فصل:
ذكره البخاري في الديات بلفظ: اقتتلت امرأتان من هذيل يقال: إن الضاربة يقال لها: أم عفيف بنت مسروج، والمضروبة مليكة بنت عويم، وقيل: عويمر، براء، ذكره أبو عمر
(2)
. والقائل: أنغرم من لا شرب ولا أكل .. إلى آخره حملُ -بالحاء المهملة- بن مالك بن النابغة. ووقع لعبد الغني: العلاء بن مسروج، ولا تخالف؛ لأن العاقلة كانوا غير واحد فيصدق على أن كل واحد قاله. وفي مسلم: فقال رجل من عصبة القاتلة
(3)
.
وقال الخطيب: إحداهما: مليكة، والأخرى: عطيف، ويقال: أم عطيف. وروى أن إحداهما (أم عفيف)
(4)
، والأخرى: أم مكلف
(5)
. وروى أبو موسى المديني في "الصحابة" أن حمل بن مالك هذا توفي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجد مقتولاً، قتلته امرأة اسمها أثيلة، وأنه عليه السلام أهدر دمه.
فصل:
ذكر البخاري هناك رواية أخرى أن المرأة المضروبة من بني لحيان. ولا تخالف بينهما، فإن لحيان -بكسر اللام، وقيل: بفتحها- بطن من
(1)
"السنن الكبرى" 8/ 115.
(2)
"الاستيعاب" 4/ 467 (3532).
(3)
مسلم (1682/ 37).
(4)
كذا في الأصل، وفي "الأسماء المبهمة" ص 513:(أم عطيف).
(5)
"الأسماء المبهمة" ص 512 - 513.
هذيل، وهو لحيان بن هذيل بن مدركة. قال الجوهري: ولحيان: أبو قبيلة
(1)
، وضبطه بكسر اللام، وفي رواية: هذلية وعامرية، وفي إسنادها ابن أبي فروة، وهو ضعيف، وظاهرهما التعارض، وفي الصحيح أن إحداهما كانت ضرة الأخرى
(2)
، وفي رواية من طريق مجالد: وكل منهما تحت زوج
(3)
، ولا منافاة أيضًا؛ لاحتمال إرادة كونهما ليستا عزبتين. وجاء أيضًا أنها ضربتها بعمود فسطاط
(4)
، وجاء: فحذفتها، وجاء: قذفت إحداهما الأخرى بحجر
(5)
. ولا تخالف؛ لاحتمال أن يكون الفعل تكرر.
فصل:
روى وكيع عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي المليح الهذلي، قال: كان تحت حمل بن مالك امرأتان: امرأة من بني سعد، وامرأة من بني لحيان، فرمت السعدية اللحيانية فقتلتها فأسقطت غلامًا، فقضى عليه السلام في الجنين بغرة، فقال عويمر -أحد من قضي عليهم بالغرة-: يا رسول الله لا غرة لي، قال:"فعشر من الإبل"، قال: يا رسول الله: لا إبل لي، قال:"فعشرون ومائة من الشاة ليس فيها عوراء ولا فارض ولا عضباء" قال: يا رسول الله، فأعني بها في صدقة من بني لحيان، فقال عليه السلام لرجل:"فأعنه بها".
(1)
"الصحاح" 6/ 2480.
(2)
رواه مسلم (1682/ 37) كتاب: القسامة، باب: دية الجنين.
(3)
رواه أبو داود (4575).
(4)
رواه مسلم (1682/ 37).
(5)
رواه الترمذي (1411).
وروى عبد الرزاق، عن أبي جابر البياضي -وهو واهٍ - عن سعيد بن المسيب، قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين يقتل في بطن (أمه)
(1)
بغرة: في الذكر غلام، وفي الأنثى جارية
(2)
.
فصل:
فيه من الفوائد: أن شبه العمد تحمله العاقلة، وهو قول الشافعي والجمهور
(3)
، وفي رواية صحيحة للبيهقي: وقضى أن تقتل المرأة بالمرأة، قال البيهقي: إسنادها صحيح إلا أني لم أجدها في شيء من طرق الحديث
(4)
، وقال أبو عمر: اتفق على هذِه الرواية (عن ابن جريج) حجاجُ (بن)
(5)
محمد الأعور وأبو عاصم النبيل
(6)
.
قلت: (وأحمد بن بكر البرساني)
(7)
أخرجه الدارقطني
(8)
، وعبد الرحمن، كما أخرجه البيهقي، قال: وذكر في الحديث عن عمرو بن دينار أنه شك في قتل المرأة بالمرأة، حين أخبره ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه عليه السلام قضى بديتها وبغرة في جنينها، قال البيهقي: والمحفوظ أنه قضى بديتها على عاقلة القاتلة
(9)
.
(1)
في (ص 2): المرأة.
(2)
"المصنف" 10/ 61 (18354).
(3)
انظر: "الإشراف" لابن المنذر 3/ 131 - 132.
(4)
"السنن الكبرى" 8/ 43.
(5)
كذا بالأصل، و"الاستذكار"، وفي (ص 2):(أبو) وهو الصواب، وهي كنيته كما في "تهذيب الكمال" 5/ 451 (1127).
(6)
"الاستذكار" 25/ 74 - 75.
(7)
كذا بالأصل، والصواب:(محمد بن بكر البرساني) كما في "سنن الدارقطني" 3/ 17.
(8)
"سنن الدارقطني" 3/ 17.
(9)
"السنن الكبرى" 8/ 113 - 114.
ثم قال أبو عمر: ولو انفرد واحد منهما بذلك لكان حجة، فكيف وقد اتفقا على ذلك؟! ويصحح ذلك قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بالقود
(1)
.
وتأوله الأصيلي بأنه لما وجب قتلها تطوع عاقلتها ببذل الدية لأولياء المقتولة، وقد يكون ذلك قبل موتها، فقضى عليهم بأداء ما تطوعوا به لأولياء المقتولة، وذكر ابن بطال في باب: جنين المرأة عن بعض مشايخه: أحاديثُ إيجابها على العاقلة أصح من حديث ابن عيينة وغيره؛ لأنه لم يذكر فيه قتل الضاربة، وكذلك رواه الحميدي، وفي حديث حمل قبلهما
(2)
.
فصل:
اختلف على حمل في حديثه هذا، فروى شعبة، عن قتادة، عن أبي المليح الهذلي، عن حمل بن مالك قال: كانت لي امرأتان فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصابتها فقتلتها وهي حامل، فألقت جنينًا وماتت، فقضى عليه السلام بالدية على العاقلة، وقضى في الجنين بغرة عبد أو أمة، أو مائة من الشاء أو عشرين من الإبل. فجعل الطحاوي حديث حمل هذا الأعرابي مختلفًا فيه، فكان بمنزلة ما لم يرد فيه شيء، وحديث حمل هذا ألزم الدارقطني الشيخين تخريجه لصحة الطريق إليه
(3)
، قال: وثبت ما روى أبو هريرة والمغيرة، قال: وفي حكمه في الجنين بغرة، ولم يحكم فيه بكفارة حجة لأبي حنيفة ومالك على الشافعي في إيجابها.
(1)
"الاستذكار" 25/ 75.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 555 - 556.
(3)
"الإلزامات والتتبع" ص 111.
قلت: (لا كفارة في)
(1)
الأصل، ولم يختلف الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه في ذلك إلا من قصه، فلم يذكر دية المرأة، وكذلك لم يختلف في ذلك أيضًا من حديث المغيرة.
فصل:
من الأحاديث الباطلة التي نبه أبو حاتم عليها حديث أبي هريرة مرفوعًا: "في السقط (وعزة")
(2)
. قال أبو حاتم: باطل
(3)
.
فصل:
قال ابن عبد البر: جمهور الناس على أن الميراث في هذِه الصورة للورثة، والعقل على العصبة، ولم تختلف الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قضى في الجنين سقط ميتًا بضرب بطن أمه أنه فيه -حين رمته- غرة، هذا ما لم يختلف فيه أحد، قال: وأجمع العلماء على أن الغرة واجبة في الجنين الذي يسقط من بطن أمه ميتًا وهي حية في حين سقوطه، وأن الذكر والأنثى في ذلك سواء في كل واحد منهما غرة.
واختلفوا على من تجب -أعني: الغرة- في ذلك، فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي: هي في مال الجاني مع الكفارة، وهو قول الحسن والشعبي، وروي ذلك عن عمر، وهو قول إبراهيم وعطاء والحكم، ومن حجتهم قوله في الحديث: فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم؟ وهذا يدل على أن الذي قضى عليه معين، وأنه واحد، وهو الجاني لا يقتضي ظاهر اللفظ غيره، ولو أن دية الجنين قضى بها
(1)
في (ص 2): لا فالكفارة على.
(2)
ورد بهامش الأصل: لعله: (غرة).
(3)
"علل الحديث" 1/ 461 (1387).
على العاقلة لقال في الحديث: فقال الذين قضى عليهم. قلت: قد ورد، فقال رجل من عصبة القاتلة. ومن القياس أن كل جان جنايته عليه، إلا ما قام بخلافه الدليل الذي لا يعارض مثل إجماع لا يجوز خلافه، أو 0 نص سنة من جهة نقل أحاديث العدول، التي لا تعارض مثل إجماع لا يجوز خلافه، أو نص سنة من جهة نقل الآحاد العدول التي لا معارض لها، فيجب الحكم بها وقال آخرون: هي على العاقلة، وممن قاله الثوري والنخعي وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم، وهو قول إبراهيم أيضًا وابن سيرين، ومن حجتهم حديث المغيرة الذي فيه: وجعل الغرة على عاقلة المرأة. قال ابن عبد البر: وهو نص ثابت صحيح في موضع الخلاف يجب الحكم به، ولما كانت دية المرأة مضروبة على العاقلة، كان الجنين أحرى بذلك في القياس والنظر.
فصل:
فإن لم تلقه وماتت وهو في جوفها لم يخرج فلا شيء فيه، وهذا أيضًا إجماع.
فصل:
واختلفوا في قيمة الغرة، فقال مالك: تقوم بخمسين دينارًا خمس أو ستمائة درهم نصف عشر دية الحر المسلم الذكر، وعشر دية أمه الحرة، وهو قول الزهري وربيعة وسائر أهل المدينة، وحجته أنه عليه السلام لما حكم في الجنين بالغرة، جعل الصحابة قيمة ذلك خمسًا من الإبل وهو عشر دية أمه، وذلك ما ذكر من الذهب والفضة، ورواية أهل الحجاز أنهم قوموا الدية اثني عشر ألفًا أصح عن عمر، وهو مذهب
عثمان وعلي وابن عباس، وقالل أبو حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين: فيها خمسمائة درهم، (وهو قول إبراهيم والشعبي؛ لأن دية المرأة عندهم خمسة آلاف درهم)
(1)
على ما روي عن عمر: أنه جعل الدية على أهل الورق عشرة آلاف درهم، وهو مذهب ابن مسعود، وقال مغيرة: خمسون دينارًا، وقال الشافعي: سن الغرة سبع سنين أو ثمان، وليس عليه أن يقبلها معيبة؛ لأنها لا تستغني بنفسها دون هذا السن، ولا يفرق بينها وبين أمها إلا في هذا السن وأعلى، وقال داود: كل ما وقع عليه اسم غرة.
فصل:
واختلفوا في صفة الجنين الذي تجب فيه الغرة: ما هو؟ فقال مالك: ما طرحته من مضغة أو علقة، أو ما يعلم أنه ولد ففيه الغرة؛ فإن سقط ولم يستهل ففيه غرة، وسواء تحرك أو عطس فيه الغرة أبدًا حتى يستهل صارخًا ففيه الدية كاملة.
وقال الشافعي: لا شيء فيه حتى يتبين من خلقه شيء، فإن علمت حياته بحركة أو بعطاس، أو باستهلال، أو بغير ذلك بما استيقن به حياة، ثم مات ففيه الدية، قال ابن عبد البر: وهو قول سائر الفقهاء، قال: وجماعة فقهاء الأمصار يقولون في المرأة إذا ماتت من ضرب بطنها ثم خرج الجنين ميتًا بعد موتها: إنه لا حكم فيه بشيء، وأنه هدر إلا الليث وداود، فإنهما قالا: فيه الغرة، وسواء (رمته)
(2)
قبل موته أو بعده، المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لا غير، احتج الطحاوي على الليث بأن قال: قد أجمعوا -والليث معهم- على أنه
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
لو ضرب بطنها وهي حية فماتت والجنين في بطنها ولم يسقط أنه لا شيء فيه، فكذلك إذا أسقطته بعد موتها، قال: ولا يختلفون أنه لو ضرب بطن امرأة حامل، وألقت جنينًا ميتًا لا شيء فيه، فكذلك إذا كان الضرب في حياتها ثم ماتت ثم ألقت ميتًا، فبطل بهذا قول الليث، وأجمع الفقهاء على أن الجنين إذا خرج ثم مات وكانت فيه الدية أن فيه الكفارة معها. قال مالك: بقسامة، وقال أبو حنيفة: بدونها. واختلفوا في الكفارة إذا خرج ميتًا، فقال مالك: فيه الغرة والكفارة، ولم يوجب الكفارة؛ لأنه مرةً قال فيمن ضرب بطنًا فألقت جنينها: هو عمد في الجنين خطأ في الأم، ومرة قال: هو عمد في الأم خطأ في الجنين، وقال أبو حنيفة والشافعي: فيه الغرة ولا كفارة، وهو قول داود.
واختلفوا في كيفية ميراث الغرة عن الجنين، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: الغرة موروثة عن الجنين على كتاب الله؛ لأنها دية، وفي "المصنف" عن الشعبي: هي لأمه أو لأقرب الناس منه، ففي راوية: سئل عن رجل ضرب بطن أمرأته فأسقطت، قال: عليه غرة، يرثها وترثه
(1)
.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الغرة للأم ليس لأحد معها فيها شيء، وليست دية، وإنما هي بمنزلة جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها؛ لأنه لم يعتبر فيها الذكر والأنثى كالديات، فدل على أن ذلك كالعضو، ولهذا كانت ذكاة الشاة ذكاة لما في بطنها من الأجنة، ولولا ذلك كانت ميتة، وقول أهل الظاهر في هذا كقول أبي حنيفة، قال داود: الغرة لم يملكها الجنين فتورث عنه.
(1)
"المصنف" لابن أبي شيبة 5/ 391 (27263)، 5/ 392 (27265).
قال ابن عبد البر: يورد عليه دية المقتول خطأ، فإنه لم يملكها، وتورث عنه، وكان ابن هرمز يقول: ديته لأبويه خاصة؛ للذكر مثل حظ الأنثيين، من كان منهما حيًّا كان ذلك له، وإن كان أحدهما ميتًا كانت للباقي منهما أبًا كان أو أمًّا، لا يرث الإخوة شيئًا.
فصل:
وقد اختلف الفقهاء في المولود لا يستهل صارخًا إلا أنه حين سقط تحرك أو عطس ونحو ذلك، فقال بعضهم: لا يصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث إلا أن يستهل صارخًا، وممن قاله مالك وأصحابه، وقال آخرون: كل ما عرفت به حياته فهو كالاستهلال صارخًا، ويرث ويورث، ويصلى عليه إذا استوقنت حياته بأي شيء كان من ذلك كله، وهو قول الشافعي والكوفي وأصحابهم
(1)
.
فصل:
اختصر الكلام على هذا الحديث هنا ابن بطال جدًّا، وقال: ليس فيه أكثر من أن الزوج يرث مع البنين، وأن البنين يرثون مع الزوج، وهذا لا خلاف فيه. وليس فيه مقدار ميراث الزوج والمرأة مع الولد، وذلك معلوم بنص القرآن في قوله:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} الآية [النساء: 12]
(2)
.
فصل:
قوله: (كيف أغرم من لا شرب .. ) إلى آخره، استدل به قوم على
(1)
من قوله: قال ابن عبد البر: جمهور العلماء .. إلى هنا انتهى من "التمهيد" 6/ 482 - 488، بتصرف.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 354.
كراهية السجع في الكلام، وأجاب عنه آخرون بأنه إنما كره هنا؛ لأنه كلام اعترض به قائله على الشارع اعتراض منكر، ولا يحل لمسلم أن يفعله، وإنما ترك الشارع التغليظ في هذا الإنكار؛ لأنه كان أعرابيًّا لا علم له بالكتاب، وتلك سمته أن يعرض عن الجاهلين، ولا ينتقم لنفسه.
فصل:
في قوله: ("إنما هذا من إخوان الكهان") دليل على أنهم كانوا يسجعون أو كان غالبًا فيهم، وهذا قول معروف يغني عن الاستشهاد عليه، وفي ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إن هذا يقول بقول شاعر"
(1)
، وقد سلف أنه قال:"أسجع كسجع الأعراب؟ "
(2)
.
فصل:
الجنين اسم لما يجن في بطن المرأة، أي: يستتر، قال ابن سيدَه: جن الشيء يجن جنًّا، وأجنه: سترته، وكل شيء ستر عنك فقد جن عنك، وجمع الجنين أجنة (وأجن)
(3)
بإظهار التضعيف، وقد جن الجنين في الرحم يجن جنًّا، وأجنته الحامل
(4)
.
فائدة: الجنين أيضًا: الكفر والقبر.
فصل:
قال مالك: أرى أن في جنين الأمة غرة من أمة، قال ابن عبد البر:
(1)
"المصنف" 5/ 391 (27259).
(2)
رواه مسلم (1682/ 37).
(3)
كذا بالأصل، وفي "المحكم":(أجنن).
(4)
"المحكم" 7/ 154 - 155.
يريد جنين (المرأة)
(1)
من غير سيدها، وذهب مالك والشافعي وأصحابهما إلى أن في جنينها ما تقدم ذكرًا كان أو أنثى، زاد الشافعي: يوم جُني عليها؛ لأنه عليه السلام قضى في الجنين بغرة، ولم يفرق بين ذكر وأنثى، قلت: قد سلف من حديث أبي المليح أنه كان غلامًا.
قال المزني: القياس على أصل الشافعي (عشر)
(2)
قيمة أمه يوم تلقيه
(3)
.
قال: ولا أعرف أن تدفع عن الغرة قيمة، إلا أن تكون بموضع لا يوجد فيه، وقال أبو حنيفة: إن خرج الجنين من الأمة من غير سيدها حيًّا ثم مات ففيه قيمته، قال أبو عمر: لم يختلفوا فيه، فإن خرج ميتًا فإن كان ذكرًا كان فيه نصف عشر قيمته لو كان حيًّا، وإن كانت أنثى فيها عشر قيمتها لو كانت حية، قال أبو جعفر: وهو قول أبي حنيفة ومحمد، ولم يحك محمد عن أبي يوسف في ذلك خلافًا.
وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنه قال: في جنين الأمة ألقاه ميتًا نقص أمه، كما يكون في أجنة البهائم، وقال الحسن كقول مالك، وقال الحكم: كانوا يأخذون جنين الأمة من جنين الحرة، وعن ابن المسيب: في جنين الأمة عشرة دنانير، وعن حماد: فيه حكومة، قال مالك: وإذا قتلت الحامل رجلاً أو امرأة عمدًا لم تقد به حتى تضع حملها، (فيه حكومة)
(4)
.
(1)
في (ص 2): الأمة، ولعله الصواب.
(2)
في الأصل: عشرة، والمثبت من "مختصر المزني".
(3)
"مختصر المزنى" ص 336.
(4)
كذا بالأصل.
قال ابن عبد البر: وهذا إجماع من العلماء وسنة مسنونة؛ لأنه عليه السلام لم يرجم الحامل المعترفة بالزنا حتى وضعت.
وسئل مالك عن جنين اليهودية أو النصرانية يطرح، فقال: أنا أرى فيه عشر دية أُمه.
وهو قول الشافعي، وأما أبو حنيفة فقال: هو كجنين المسلمة سواء، وهو قول الأوزاعي.
واختلفوا في الجنين يخرج من بطن أمه ميتًا، وقد ماتت من ضرب بطنها، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: لا شيء فيه من غرة ولا غيرها إذا ألقته بعد موتها ميتًا، وقال ربيعة والليث: فيه الغرة، روي ذلك عن الزهري.
قال أبو عمر: وهو قول أشهب في هذا كقول الليث، وقد أجمعوا أنها لو ماتت من الضرب ولم تلق الجنين أنه لا شيء فيه.
وكذلك (أحمد)
(1)
: أنه لو ضرب بطن امرأة ميتة، فألقت جنينًا ميتًا لا شيء فيه
(2)
.
فصل:
ترجم البخاري على هذا في الديات باب: جنين المرأة، وباب: جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد، (وسيأتي كلام ابن بطال في هذِه الترجمة.
وقال الإسماعيلي: ليس فيه إيجاب العقل على الوالد، فإن أراد الوالدة التي كانت هي الجانية، فقد يكون الحكم عليها وإذا ماتت
(1)
كذا بالأصل، وفي "الاستذكار" 25/ 88:(أجمعوا) ولعله الصواب.
(2)
"الاستذكار" 25/ 84 - 88، بتصرف.
أو عاشت)
(1)
فالعقل على عصبتها، وفي هذا بيان إخراج الابن من العصبة، وذكر في الأول حديث عمر في إملاص المرأة وهو بالصاد المهملة، وهو أن يزلق الجنين قبل وقت الولادة، وكل ما زلق من اليد فقد ملص وأملص وأملصته أنا.
قال أبو عبيد
(2)
: وهو إلقاء المرأة جنينها ميتًا، يقال فيه: أملصت المرأة إملاصًا وإنما سمي بذلك؛ لأنها تزلقه، ولهذا قيل: أملصت
(3)
الناقة وغيرها، وكل شيء زلق من يدك فقد ملص (يملص ملصًا)
(4)
وأملصته إملاصًا
(5)
.
وفي "المحكم": أملصت: ألقت الناقة والمرأة ولدها بغير تمام، والجمع مآليص بالياء، فإذا كان ذلك لها عادة فهي مملاص، والولد مملص ومليص، وملص الشيء من يدي ملصًا فهو أملص (وملص)
(6)
، ومليص وتملَّص زلَّ؛ لملاسته، وخص به اللحياني الرشاء والعنان والحبل
(7)
.
وقال الجوهري: الملص بالتحريك: الزلق، وقد ملص الشيء من يدي بالكسر يملص، وانملص الشيء: أفلت، وتدغم النون في الميم
(8)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: عبيدة، ولعل الصواب ما أثبتناه فهو في "غريب الحديث" لأبي عبيدة كما في التخريج التالي.
(3)
من "غريب الحديث" وغير واضحة في الأصل، وتشبه: أزلقت.
(4)
من (ص 2).
(5)
"غريب الحديث" 2/ 98.
(6)
من (ص 2).
(7)
"المحكم" 8/ 223.
(8)
"الصحاح" 3/ 1057.
وقال القزاز: الملص مصدر ملص الشيء يملص؛ إذا سقط متزلجًا: فهو ملص، وكل شيء زلق من يدك فهو ملص، قالوا: والإملاص: أن تلقي الجنين ميتًا، والوليد مليص، وهو أحد ما جاء على فعيل من أفعل.
قال المطرزي في "المُغْرِب": ومن فسر الإملاص بالجنين فقد سها
(1)
، وقال الداودي: الإملاص: السقط مثلث السين.
(1)
"المغرب" 2/ 274.
12 - باب مِيرَاثِ الأَخَوَاتِ مَعَ البَنَاتِ عَصَبَةً
6741 -
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم النِّصْفُ لِلاِبْنَةِ وَالنِّصْفُ لِلأُخْتِ. ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ قَضَى فِينَا. وَلَمْ يَذْكُرْ: عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 6734 - مسلم:- فتح: 12/ 24].
6742 -
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ هُزَيْلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: لأَقْضِيَنَّ فِيهَا بِقَضَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لِلاِبْنَةِ النِّصْفُ، وَلاِبْنَةِ الاِبْنِ السُّدُسُ، وَمَا بَقِيَ فَلِلأُخْتِ". [انظر: 6736 - فتح: 12/ 24].
ذكر فيه حديث هزيل السالف في باب: ميراث ابنة الابن مع الابنة مختصرًا، وذكر قبله حديث سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: النِّصْفُ لِلاِبْنَةِ وَالنَصْفُ لِلأُخْتِ. ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَضى فِينَا. وَلَمْ يَذْكُرْ: عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وهذا رواه في موضع آخر عن الأسود بن يزيد أيضًا، قال: أتانا معاذ باليمن معلمًا وأميرًا؛ فسأله رجل عن رجل تُوفي وترك ابنته وأخته .. لحديث.
وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل، عن أبان بن يزيد، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن الأسود: أن معاذًا ورث أختًا وابنة جعل لكل واحدة منهما النصف وهو باليمن، ونبي الله حي يومئذٍ
(1)
.
قلت: هذا غير (خبر)
(2)
سليمان.
(1)
أبو داود (2893).
(2)
من (ص 2).
ثم أفاد أن ذلك في عهده وأنه عليه السلام حي.
وكذا رواه الدارقطني من حديث يحيى بن طلحة التيمي، عن المسيب بن رافع، عن الأسود بن يزيد، قال: قدم علينا معاذ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فأعطى البنت النصف، والأخت النصف، ولم يورث العصبة شيئًا.
ومن حديث معاذ بن هشام، ثنا أبي، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، فذكره وفي آخره: ورسول الله حي بين أظهرهم
(1)
.
وفي "صحيح البرقاني" من حديث الأشعث، عن الأسود، قال: أخبرت ابن الزبير فقلت: إن معاذًا قضى فينا باليمن .. الحديث، فقال لي ابن الزبير: أنت رسولي إلى عبيد الله بن عتبة بن مسعود فمره فليقض به، قال: وكان قاضي ابن الزبير على الكوفة، زاد يزيد بن هارون: وقضى به عبد الله بن الزبير.
وفي "المصنف": كان ابن الزبير لا يعطي الأخت مع الابنة شيئًا، حتى حُدث أن معاذًا قضى به باليمن. (وفي لفظ)
(2)
: كان ابن الزبير قدْ هَمَّ أن يمنع الأخوات مع البنات الميراث، قال الأسود: فحدثته عن معاذ.
وحدثنا وكيع عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر: كان علي وابن مسعود ومعاذ يقولون في ابنة وأخت: النصف والنصف، وهو قول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا ابن الزبير وابن عباس
(3)
.
إذا تقرر ذلك: فجماعة العلماء إلا من شذ على أن الأخوات عصبة
(1)
"سنن الدارقطني" 4/ 82 - 83.
(2)
من (ص 2).
(3)
"المصنف" لابن أبي شيبة 6/ 244 - 245 (31061، 31065، 31066).
للبنات يرثون ما فضل عن البنات كبنت وأخت للبنت النصف وللأخت النصف الباقي، وكبنتين وأختين لهما الثلثان وللأختين ما بقي، وكبنت وبنت ابن وأخت -وهي فتوى ابن مسعود- للأولى النصف، وللثانية السدس؛ إذ لا ترث البنات. وإن كثرن -أكثر من الثلثين، وللثالثة الباقي ولو كثرن، هذا قول جماعة من الصحابة غير ابن عباس فإنه كان يقول: للبنت النصف وليس للأخت شيء، وما بقي فهو للعصبة، وكذلك ليس للأخت شيء مع البنت وبنت الابن، وما فضل عنهما لم يكن لها، وكان للعصبة عند ابن عباس، وإن لم يكن عصبة رد الفضل على البنت أو البنات، ولم يوافق ابن عباس أحدٌ على ذلك إلا أهل الظاهر فإنهم احتجوا بقوله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فلم يورث الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد، قالوا: ومعلوم أن الابنة من الولد فوجب أن لا ترث الأخت مع وجودها، كما لا ترث مع وجود الابن، وحجة الجماعة السنة الثابتة من حديث ابن مسعود، ولا مدخل للنظر مع وجود الخبر، فكيف وجماعة الصحابة يقولون بحديث ابن مسعود، ولا حجة لأحد خالف السنة، ومن جهة النظر أن شرط عدم الولد في الآية إنما جعل شرطًا في فرضها الذي تقاسم به الورثة ولم يجعل شرطًا في توريثها، فإذا عدم الشرط سقط الفرض، ولم يمنع ذلك أن ترث، بمعنى آخر كما (شرط)
(1)
في ميراث الأخ لأخته عند عدم الولد بقوله تعالى {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] جعل ذلك شرطًا في ميراثه كما جعله شرطًا (في ميراث الأخت، وقد أجمعت
(1)
من (ص 2).
الجماعة: أن الأخ يرثها مع البنت وإن كان الشرط مقدر، كما شرط)
(1)
في ميراث الزوج النصف إذا لم يكن ولد، ولم يمنع ذلك من أن يأخذ (النصف)
(2)
مع البنت بالفرض، و (النصف)
(3)
بالتعصيب إن كان عصبة لامرأته.
قال ابن عبد البر: ما ذكره مالك في ميراث الإخوة الأشقاء هو الذي عليه جمهور العلماء، وهو قول علي وزيد وسائر الصحابة كلهم إلا ابن عباس، فإنه كان [لا]
(4)
يجعل الأخوات عصبة البنات، وإليه ذهب داود بن علي وطائفة قالوا: والنظر يمنع من توريث الأخوات مع البنات، كما يمنع من توريثهن مع البنين؛ لأن الأصل في الفرائض تقديم الأقرب فالأقرب، ومعلوم أن البنت أقرب من الأخت؛ لأن ولد الميت أقرب إليه من ولد أبيه، وولد أبيه أقرب إليه من ولد جده، وهم يقولون بالرد على ذوي الفروض.
وكان ابن الزبير يقول بقول ابن عباس حتى أخبره الأسود بقضاء معاذ، وفي بعض الروايات: ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي، كما سلف، فرجع ابن الزبير إلى قول معاذ، وحديث معاذ من أثبت الأحاديث
(5)
.
قال ابن حزم: وليس في الروايات عن الصحابة أنهم ورثوا الأخت مع البنت مع وجود (عاصبة)
(6)
ذكر، فبطل أن يكون لهم متعلق بشيء منها
(7)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
كذا بالأصل.
(3)
كذا بالأصل.
(4)
زيادة لازمة من "الاستذكار".
(5)
"الاستذكار" 15/ 16 - 18 بتصرف.
(6)
كذا بالأصل، وفي "المحلى":(عاصب).
(7)
"المحلى" 9/ 258.
13 - باب مِيرَاثِ الإِخْوَةِ وَالأَخَوَاتِ
6743 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَرِيضٌ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ نَضَحَ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا لِي أَخَوَاتٌ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. [انظر: 194 - مسلم: 1616 - فتح: 12/ 25].
ذكر فيه حديث جابر رضي الله عنه: دَخَلَ عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَرِيضٌ، فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّاَ، ثُمَّ نَضحَ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ، قال: فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا لِي أَخَوَاتٌ. فَنَزَلَتْ آيَةُ الفَرَائِضِ.
وقد سلف غير مرة، وليس فيه أكثر من أن الأخوات يرثن، وقام الإجماع على أن الإخوة والأخوات من الأبوين أو من الأب ذكورًا كانوا، أو إناثًا لا يرثون مع ابن ولا مع ابن ابن وإن سفل، ولا مع الأب، واختلفوا في ميراث الأخوات مع الجد على ما سلف في باب ميراث الجد، مع اختلافهم في ميراث الإخوة معه، فمن ورثهن معه جعله أخًا وأعطاه مثل ما أعطى الأختين، ومن لم يورثهن وجعله أبًا حجبهن به، وهو مذهب الصديق وابن عباس وجماعة كما سلف، ويرثن -فيما عدا الجد والأب والابن- للواحدة النصف، والاثنتين فصاعدًا الثلثان؛ إلا في المشَّركة وهي زوج وأم وجد وأخت شقيقة أو لأب، فللزوج نصف وللأم ثلث لعدم من يحجبها عنه، وللجد سدس كذلك أيضًا، وللأخت نصف لعدم من يسقطها ومن يعصبها، فإن الجد لو عصبها نقص حقه فتعين الفرض لها فتعول إلى تسعة، ثم يقتسم الجد والأخت نصيبهما أثلاثًا، له الثلثان.
وقد أوضحت ذلك في "شرح الفرائض الوسيط" وفي كتب الفروع
أيضًا لا سيما "شرح المنهاج"
(1)
فراجعه.
وفرضها ابن بطال في زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء، قال: فلم يفضل عن شيء نصيب الأخ والأم والإخوة للأم فيشرك بنو الأب والأم مع بني الأم في الثلث من أجل أنهم كلهم إخوة المتوفى لأمه، وإنما ورثوا بالأم لقوله تعالى {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] الآية، فلذلك شركوا في هذِه الفريضة، قال: وقد اختلف الصحابة في هذِه المسألة، فروي عن عمر وعثمان (وزيد)
(2)
أنهم قالوا بالتشريك، وهو قول مالك والثوري والشافعي وإسحاق، وروي عن علي وأبي بن كعب وابن مسعود وأبي موسى، أنهم لا يشركون الأخ للأب والأم مع الإخوة للأم؛ لأنهم عصبة، وقد استغرقت الفرائض المال ولم يبق منه شيء، وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى وطائفة من الكوفيين
(3)
.
(1)
انظر "عجالة المحتاج إلى توجيه المنهاج" 3/ 1064.
(2)
في الأصل: وزعم. تحريف والمثبت من "شرح ابن بطال".
(3)
"شرح ابن بطال" 8/ 357 - 358، وانظر:"مختصر اختلاف العلماء" 4/ 460.
14 - باب {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} إلى آخر السورة [النساء: 176]
6744
- حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء:176]. [انظر: 4364 - مسلم: 1618 - فتح: 12/ 26].
ذكر فيه حديث البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} .
هذا أحد الأقوال كما سلف في التفسير
(1)
.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن آخر آية نزلت {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}
(2)
[التوبة: 128] وعنه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ}
(3)
[البقرة: 281] وقوله: {أَنْ تَضِلُّوا} ، أي: لئلا تضلوا.
وقال البصريون: هذا خطأ لا يجوز إضماره، والمعنى عندهم: كراهية أن تضلوا مثل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ومعنى آخر: يبين الله لكم الضلالة، أي: أن تفعلوا فعلكم، كما تقول: يعجبني أن تقوم أي: قيامك.
(1)
سلف برقم (4605) باب: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} .
(2)
رواه أحمد 5/ 117، والطبراني 1/ 199 (533)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 338 ثلاثتهم من طريق ابن عباس عن أبي بن كعب.
(3)
رواه النسائي في "الكبرى" 6/ 307 (11058)، والطبراني 11/ 371 (12040)، وسلف في البخاري معلقًا بعد حديث (2085).
واختلف العلماء في معنى الكلالة على أقوال سلفت، (فقالت طائفة)
(1)
: هي من لا ولد له ولا والد، وهذا قول الصديق وعمر وعلي وزيد وابن مسعود وابن عباس، وعليه أكثر التابعين، وهو قول الفقهاء بالحجاز والعراق، وقالت أخرى: هي من لا ولد له خاصة، وروي عن ابن عباس
(2)
.
وقالت أخرى: ما خلا الوالد، رواه شعبة عن الحكم بن عتيبة
(3)
، وقالت أخرى: إنها الميت نفسه سمي بذلك إذا ورثه غير والده وولده، وقالت أخرى: هي الذين يرثون الميت إذا لم يكن فيهم والد ولا ولد.
وقالت أخرى: هي (ورثة)
(4)
الحي والميت جميعًا عن ابن زيد، واختار العكبري
(5)
أنها ورثة الميت دون الميت، واحتج بحديث جابر:(إنما يرثني كلالة)، فكيف بالميراث، وبحديث سعد: يا رسول الله، ليس لي وارث إلا كلالة، وقام الإجماع أن الإخوة المذكورين في هذِه الآية في الكلالة هم الإخوة للأب والأم، أو للأب عند عدم الذين للأب والأم؛ لإعطائهم فيها الأخت النصف، (وللأختين)
(6)
فصاعدًا الثلثين، وللإخوة الرجال والنساء للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه لا خلاف أن ميراث (الإخوة)
(7)
للأم ليس هكذا، وأنهم شركاء في
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 303 (19189)، ابن أبي شيبة 6/ 302، والدارمي 4/ 1945 (3017).
(3)
رواه ابن أبي شيبة 6/ 302 (31594)، وفيه: ما دون الولد والأب.
(4)
من (ص 2).
(5)
"البيان في إعراب القرآن" ص 236.
(6)
في الأصل: وللأنثيين.
(7)
في (ص 2): الأخت.
الثلث الذكر والأنثى فيه سواء، وإجماعهم في الكلالة التي في أول السورة: أن الإخوة فيها للأم خاصة؛ لأن فريضة كل واحد منهما السدس، ولا خلاف أن ميراث الإخوة للأب والأم ليس كذلك
(1)
.
(1)
انظر: "الإجماع" لابن المنذر ص 93 (329).
15 - باب في ابْنَيْ عَمٍّ: أَحَدُهُمَا أَخٌ لِلأُمِّ، وَالآخَرُ زَوْجٌ
وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلأَخِ مِنَ الأُمِّ السُّدُسُ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ.
6745 -
حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَمَالُهُ لِمَوَالِي الْعَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ فَلأُدْعَى لَهُ» . [انظر: 2298 - مسلم: 1619 - فتح: 12/ 27].
6746 -
حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ رَوْحٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» [انظر: 6732 - مسلم: 1615 - فتح: 12/ 27].
ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما السالف: "أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكرٍ".
وذكر قبله حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِمَوَالِي العَصَبَةِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ ضَيَاعًا فَأَنَا وَلِيُّهُ، فَلِأُدْعَى لَهُ".
الشرح:
أثر علي رضي الله عنه أخرجه يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن أوس بن ثابت، عن حكيم بن عقال، قال: أتي شريح في امرأة تركت ابني عمها: أحدهما زوجها، والآخر أخوها لأمها، فأعطى الزوج النصف، وأعطى الأخ من الأم ما بقي، فبلغ ذلك علي بن أبي طالب
فقال: ادع لي العبد الأبظر
(1)
، فدعى شريح فقال: ما قضيت أبكتاب الله أو بسنة رسوله؟ قال بكتاب الله. قال: أين؟ قال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} ، قال علي: فهل قال للزوج النصف ولهذا ما بقي؟ ثم أعطى الزوج النصف والأخ من الأم السدس، ثم قسم بينهما ما بقي
(2)
.
وأخبرنا سفيان بن سعيد، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه أنه أفتى في ابني عم: أحدهما أخ لأم، فقيل له: إن عبد الله كان يعطي الأخ من الأم المال كله، فقال: يرحمه الله إن كان لفقيهًا ولو كنت أنا لأعطيت الأخ من الأم السدس، ثم قسمت ما بقي بينهما
(3)
.
وأخبرنا محمد بن سالم عن الشعبي في امرأة تركت ابني عم، أحدهما زوجها والآخر أخوها لأمها في قول علي وزيد رضي الله عنهما: للزوج النصف، وللأخ من الأم السدس وهما شريكان فيما بقي
(4)
.
وهذِه المسألة اختلف العلماء فيها، فقال كقول عليٍّ زيدُ بنُ ثابت، وهو قول المدنيين والثوري والأربعة وإسحاق، وفيه قول ثانٍ: أن جميع المال للذي جمع القرابتين، قاله عمر وابن مسعود قالا في ابني عم، أحدهما أخ لأم: الأخ لأم أحق له السدس فرضًا، وباقي المال تعصيبًا، وهو قول الحسن البصري وشريح وعطاء والنخعي وابن
(1)
ورد في هامش الأصل: البظارة هنة نابتة في الشفة العليا وهي الحثرمة ما لم تطل؛ فإذا طالت قليلا فالرجل أبظر حينئذ، ومنه قول علي رضي الله عنه ما قال، والله أعلم.
(2)
رواه من طريقه البيهقي في "السنن" 6/ 239 - 240.
(3)
رواه الدارمي في "السنن" 4/ 1902 - 1903 (2930)، والدارقطني 4/ 87، والبيهقي في "السنن" 6/ 240.
(4)
رواه سعيد بن منصور في "السنن" 1/ 63 (129)، والبيهقي في "السنن" 6/ 240.
سيرين، وإليه ذهب أبو ثور وأهل الظاهر
(1)
، ووقع لأشهب في كتاب ابن حبيب: ابن العم إذا كان أخًا لأم يرث موالي أخيه لأمه دون بني عمه وإخوته لأبيه، واحتجوا في الإجماع في أخوين شقيق ولأب أن المال للأول؛ لأنه أقرب بأم فكذلك ابنا عم إذا كان أحدهما أخًا لأم، فالمال له قياسًا على ما أجمعوا عليه من الأخوين، واحتج الأول بأن أحدهما منفرد بكونه أخًا لأم فوجب أن يأخذ نصيبه، ثم يساوى بينه وبين من يشاركه في قرابته، ويساويه في درجته، وإلى هذا ذهب البخاري واستدل عليه بقوله (عليه السلام)
(2)
: "فماله لموالي العصبة" وهم بنو العم، وكذلك قال أهل التأويل في قوله تعالى {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم: 5] أنهم بنو العم؛ فسوى بينهم في الميراث، ولم يجعل بعضهم أولى من بعض.
وكذلك قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها" أي: أعطوا الزوج فريضته، ولما لم يكن الزوج أولى من ابن عمه الذي هو أخ لأم، إذ هو (تعدده)
(3)
لما اقتسما ما بقي؛ لأنه ليس بأولى منه فينفرد بالمال، فإن احتجوا بقوله:"فما أبقت .. " إلى آخره، فهو دليلنا والباقي بعد السدس، قد استوى بعصبتهما فيه إذ وجد في كل واحد منهما الذكورة والتعصيب.
وقد أجمعوا في ثلاثة إخوة (لأم)
(4)
أحدهم ابن عم أن للثلاثة إخوة الثلث، والباقي لابن العم، ومعلوم أن ابن العم قد اجتمعت فيه القرابتان.
(1)
انظر: "الاستذكار" 15/ 477.
(2)
من (ص 2).
(3)
كذا بالأصل.
(4)
في الأصل: ثم.
فصل:
قوله: "فلأدعى" إعرابها -كما نبه عليه ابن بطال-: فلأدع له؛ لأنها لام الأمر، الأغلب من أمرها إذا اتصل بها واو أو فاء الإسكان، ويجوز كسرها، وهو الأصل في لام الأمر أن تكون مكسورة؛ لقوله تعالى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] قرئ بكسر اللام وإسكانها وثبات الألف بعد العين في موضع الجزم والوقف يجوز تشبيهًا لها بالياء والواو أو أحدهما، كما قال:
ألم يأتيك والأنباء تنمي.
وكما قال الآخر:
لم يهجو ولم يدع.
وقال في الألف:
إذا العجوز غضبت فطلق
…
ولا ترضاها ولا تملق
وكما قال:
وتضحك مني شيخة عبشمية
…
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
وكان القياس: لا ترضها، ولم يرو معنى قوله:"فلأدع له"، أي: فادعوني له حتى أقوم بكلِّه وضياعه
(1)
.
وذكره ابن التين بلفظ: "فلأدعى له"، وكذا وقع في ابن بطال
(2)
.
ثم قال -أعني ابن التين-: وصوابه: فلأدع بحذف الألف وحذفها علامة الجزم؛ (لأنه مجزوم)
(3)
بلام الأمر؛ لأن كل فعل آخره واو أو ياء
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 361.
(2)
السابق.
(3)
من (ص 2).
أو ألف، فجزمه بحذف آخره، هذا هو المشهور من اللغتين ومن العرب من يجري المعتل مجرى الصحيح فيسكنه في موضع الجزم، ويرفعه في موضع الرفع.
ثم ذكر الأبيات السالفة، (وعن)
(1)
رواية لابن كثير: (إنه من يتقي ويصبر)[يوسف:90] بإثبات الياء وإسكان الراء. قيل: وهو جار على هذا، وأن الضمة مقدرة في الياء من يتقي، فحذفت للجزم وتقرأ اللام من فلأدع بالإسكان والكسر -كما سلف- وهو الأصل في لام الأمر، والياء إذا اتصلت بها مثل الواو.
فصل:
والكل: العيال والثقل، قال تعالى {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76] والكل أيضًا اليتيم.
والضياع- بالفتح أيضًا- وهو مصدر ضاع الشيء (يضيع)
(2)
ضيعة وضياعًا، أي: هلك فهو على تقدير حرف محذوف، أي: كأضياع، والضياع بالكسر جمع ضيعة وهي العقار.
(1)
كذا بالأصل.
(2)
من (ص 2).
16 - باب ذَوِي الأَرْحَامِ
6747 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَكُمْ إِدْرِيسُ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33](وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الأَنْصَاريُّ الْمُهَاجِرِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ {جَعَلْنَا مَوَالِىَ} [النساء: 33] قَالَ: نَسَخَتْهَا: وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ. [انظر: 2292 - فتح: 12/ 29].
ذكر فيه حديث سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33](وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) قَالَ: كَانَ المُهَاجِرُونَ حِينَ قَدِمُوا المَدِينَةَ يَرِثُ الأَنْصَارِيُّ المُهَاجِرِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ؛ لِلإخوَّة التِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ:{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] نَسَخَتْهَا: (وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ).
الشرح:
كذا وقع هذا هنا، والصواب أن المنسوخة (وَالَّذِينَ عاقدت أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 33] كما (نبه عليه)
(1)
الطبري في رواية عن ابن عباس
(2)
، كما نبه عليه ابن بطال
(3)
وغيره، وأنه لما نزلت كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه للإخوة المذكورة، فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: 33] نسختها.
(1)
في (ص 2): بينه.
(2)
"تفسير الطبري" 4/ 56 (9276).
(3)
"شرح ابن بطال" 8/ 362 وما سيأتي نقلاً منه.
وجمهور السلف على أن الناسخ لهذِه الآية قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] روي هذا عن ابن عباس وقتادة والحسن، وهو الذي أثبته أبو عبيد في "ناسخه ومنسوخه".
وفيها قول آخر روي عن الزهري، عن ابن المسيب قال: أمر الله تعالى الذين تبنوا غير أبنائهم في الجاهلية وورثوهم في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبًا في الوصية وُيرَدَّ الميراث إلى ذي الرحم والعصبة
(1)
، وقالت طائفة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33] محكمة، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة والرفادة، وما أشبه ذلك دون الميراث، (ويوصى لهم)
(2)
، ذكره أيضًا الطبري، عن ابن عباس، وهو قول مجاهد والسدي
(3)
، وسلف طرف من ذلك في التفسير.
وقد اختلف السلف فمن بعدهم في توريث ذوي الأرحام، وهم الذين لا سهم لهم في الكتاب والسنة من قرابة الميت، وليس بعصبة وهم عشرة أصناف: أبو الأم، وكل جد وجدة سافلين، وأولاد البنات، وبنات الإخوة، وأولاد الأخوات، وبنو الإخوة للأم، والعم للأم، وبنات الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، والمدلون بهم من الأولاد.
فقالت طائفة: إذا ما لم يكن للميت وارث له فرض مسمى، فماله لموالي العتاقة الذين أعتقوه، فإن لم يكن فبيت المال، ولا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام، روي هذا عن الصديق وزيد بن ثابت
(1)
رواه الطبري 4/ 57.
(2)
من (ص 2).
(3)
"تفسير الطبري" 4/ 56 - 57.
وابن عمر، ورواية عن علي، وهو قول أهل المدينة: الزهري وأبي الزناد وربيعة ومالك. وروي عن مكحول والأوزاعي، وبه قال الشافعي.
واختلف زيد ومالك في أم أبي الأب، فورثها زيد ولم يورثها مالك، وكان عمر وابن مسعود وابن عباس ومعاذ وأبو الدرداء (وأبو ثور)
(1)
يورثون ذوي الأرحام، ولا يعطون الولاء مع الرحم شيئًا
(2)
.
واختلف في ذلك عن علي، كذا في كتاب ابن بطال
(3)
، وهي مروية عنه من طريق الحسن بن عمارة -أحد الهلكى-، عن الحكم، ولم يسمع من علي شيئًا، والرواية عن عمر رواها زياد بن أبيه وزياد والحسن وبكر بن عبد الله وإبراهيم، ولم يسمعوا منه، وروى عبد الله بن شداد والزهري أنه عليه السلام قال:"الخالة والدة" وهذا مرسل
(4)
، وبتوريثهم قال ابن أبي ليلى والنخعي وعطاء وجماعة من التابعين، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق
(5)
.
قال ابن عبد البر: وإليه ذهب سائر الصحابة غير زيد كلَّهم من كانوا
(6)
، وبذلك قال فقهاء الأمصار -العراق والكوفة والبصرة- وجماعة من العلماء في سائر الآفاق، واحتجوا بقوله تعالى
(1)
كذا بالأصل، والمصنف ينقل هنا عن ابن بطال، وليست هذِه الكلمة فيه.
(2)
رواه عن بعضهم ابن أبي شيبة 6/ 254 (31149 - 31151).
(3)
"شرح ابن بطال" 8/ 362 - 364.
(4)
رواه المروزي في "البر والصلة"(82، 84) عن الزهري.
(5)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 472، و"المعونة" 2/ 70، و"الاستذكار" 15/ 482، و"المغني" 9/ 85.
(6)
الضمير عائد على ذوي الأرحام وليس الصحابة، فانتبه.
{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] قالوا: وقد اجتمع فيه سببان: القرابة والإِسلام، فهو أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام، وقاسوا ابنة الابن علي الجدة التي وردت فيها السنة؛ لأن كل واحد يدلي بأبي وارثه
(1)
.
وفي أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث المقدام بن معدي كرب: "الخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه" وصححه ابن حبان والحاكم وقال: على شرط الشيخين
(2)
. وخولف. قال البيهقي: كان يحيى بن معين يضعفه، ويقول: ليس فيه حديث قوي
(3)
.
وفي الترمذي محسنًا عن عمر مرفوعًا: "الخال وارث من لا وارث له"
(4)
، وأخرجه النسائي من حديث عائشة رضي الله عنها
(5)
.
وأخرجه عبد الرزاق أيضًا، عن ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، حدثنا طاوس عنها
(6)
.
وأخرجه الدارقطني من حديث أبي عاصم موقوفًا، قال: قيل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت فقال له الشاذكونى، حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت
(7)
.
(1)
"الاستذكار" 15/ 481 - 484 بتصرف.
(2)
أبو داود (2899)، النسائي في "الكبرى" 4/ 761 (6354)، ابن ماجه (2634)، ابن حبان 13/ 397 (6035)، الحاكم 4/ 344.
وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(2578)، وفي "الإرواء" 6/ 138.
(3)
"سنن البيهقي الكبرى" 6/ 214.
(4)
الترمذي (2103). وصححه الألباني في "الإرواء"(1700).
(5)
"السنن الكبرى" 4/ 76 (6352).
(6)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 20 (16202).
(7)
"سنن الدارقطني" 4/ 85.
ورفعه أيضًا عن ابن جريج، عبدُ الرزاق
(1)
وروح، ومن حديث ليث عن ابن المنكدر، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا مثله، وعند عبد الرزاق، عن إبراهيم بن محمد، عن داود بن الحصين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مثله، وعند عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حَبان، عن عمه واسع بن حَبان: أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث الدحداحة
(2)
. واسعٌ أثبت أحمد صحبته، قال الشافعي: وثابت بن الدحداحة توفي يوم أحد قبل أن تنزل الفرائض
(3)
، وحجة من لم يورثهم أن الله تعالى قد نسخ الموارثة بالحِلْف والمؤاخاة والهجرة، بقوله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].
وإنما عني بهذِه الآية من ذوي الأرحام من ذكرهم في كتابه من أهل الفرائض المسماة، لا جميع ذوي الأرحام؛ لأن هذِه الآية الكريمة مجملة جامعة، والظاهر لكل ذي رحم قرب أو بعد، وآيات المواريث مفسرة، والمفسر يقضي على المجمل ويبينه، فلا يرث من ذوي الأرحام إلا من ذكر الله في آية المواريث، قالوا: وقد جعل الشارع الولاء نسبًا ثانيًا أقامه مقام العصبة، فقال:"الولاء لمن أعتق"
(4)
، وقال:"الولاء لحمة كلحمة النسب"
(5)
، ونهى عن بيع الولاء وعن هبته.
(1)
"المصنف" 9/ 20 (16201)، 10/ 285 (19123).
وانظر "الإرواء" 6/ 139 - 141.
(2)
"المصنف"10/ 284 (19120).
(3)
انظر: "سنن البيهقي" 6/ 215.
(4)
سلف برقم (2156).
(5)
رواه الدارمي 4/ 2019 (3203)، وابن حبان 11/ 325 (4950)، والحاكم 4/ 340.
وأجمعت الأمة أن المولى المعتق يعقل عن مولاه الجنايات التي تحملها العاقلة، فأقاموه مقام العصبة فثبت بذلك أن حكم المولى حكم ابن العم والرجل من العشيرة، فكان أحق بالمال من ذوي الأرحام الذين ليسوا بعصبة ولا أصحاب فرائض؛ لأنه عليه السلام قال:"من ترك مالاً فلعصبته".
وأجمعوا أن ما فضل من المال عن أصحاب الفروض فهو للعصبة، وأن من لا سهم له في كتاب الله من ذوي الأرحام لا ميراث له مع العصبة. ثم حكموا للمولى بحكم العصبة، فثبت بذلك أن ما فضل عن أصحاب الفروض يكون له؛ لأنه عصبة.
وأجمعوا أن الميت إذا ترك مولاه الذي أعتقه ولم يخلف ذا رحم أن الميراث له، فأقاموه مقام العصبة فصار هذا أصلاً متفقًا عليه.
واختلفوا في توريث من لا سهم له في كتاب الله، وليس بعصبة من ذوي الأرحام، فيكتفى بما أجمع عليه مما اختلف فيه، وفي "صحيح الحاكم" من حديث عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار، فلقيه رجل فقال: يا رسول الله رجل ترك عمته وخالته لا وارث له غيرهما، فرفع رأسه إلى السماء فقال:"اللهم رجل ترك عمته وخالته لا وارث له غيرهما" ثم قال: "أين السائل" قال: ها أنا ذا، قال:"لا ميراث لهما"، رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، فإن عبد الله بن جعفر المديني وإن شهد عليه ابنه بسوء الحفظ، فليس ممن يترك حديثه، وقد صح بشواهده
(1)
.
(1)
"المستدرك" 4/ 343.
قلت: ولا أعلم أحدًا احتج بعبد الله
(1)
هذا.
وفي "مصنف عبد الرزاق": عن معمر، عن زيد بن أسلم وصفوان بن سليم نحوه
(2)
، وروى يزيد بن هارون، عن محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، ومحمد بن عبد الرحيم بن المجبر، عن زيد وعطاء بن يسار قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن رجلاً هلك وترك عمة وخالة، وانطلق يقسم ميراثه، فتبعه رسول الله على حمار فقال:"يا رب رجل ترك عمة وخالة" ثم قال: "لا أرى ينزل عليَّ شيء لا شيء لهما"
(3)
.
ولأبي داود: ركب عليه السلام إلى قباء يستخبر الله في العمة والخالة، فأنزل الله عليه: لا ميراث لهما، ولكن يرثون للرحم
(4)
. وأسنده مسعدة ابن اليسع -وهو متروك- عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه في أنه لا شيء لهما، والصواب الإرسال
(5)
.
تنبيه: حاصل ما حكيناه ذكر قولين: البداءة بالولاء بعد الفروض ثم ببيت المال دون ذوي الأرحام، والبداءة بالرحم على الولاء، وحاصل ما حكاه ابن التين ثلاثة أقوال:
(1)
في الأصل أقحمت هنا كلمة (وابنه) ولا تستقيم العبارة؛ إذ إن ابنه إمام، وهو علي، شيخ البخاري.
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 10/ 281 (19109).
(3)
رواه البيهقي 6/ 212 من طريق يزيد بن هارون، وإسناده: أنا محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، ومحمد بن عبد الرحمن بن المجبر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار.
(4)
"مراسيل أبي داود"(361).
(5)
رواه الدارقطني في "السنن" 4/ 99.
الأول: وهو قول مالك والشافعي.
والثاني: وهو قول جماعة من التابعين.
ثالثها: قول أهل العراق إلا قليل منهم، والحسن يورث مولى العتاقة دون ذوي الأرحام، وهو راجع إلى ما ذكرناه.
قال: وكل من ورث الرحم الذي لم يسم له فريضة لا يورثه مع رحم سمي له فريضة، ولو قلت: وهو أولى برد الفضل، وإلا فيورثون مع من لم يسم لهم فريضة جميع المال، وإن كان واحداً ذكرًا كان أو أنثى فترث رحمه (قربت)
(1)
أو بعدت لا يختلفون في ذلك، واحتج من لم يورث بأن كل أنثى لم ترث مع أختها لم ترث إذا انفردت أصله بنت المولى؛ ولأن المولى المنعم مقدم على ذوي الأرحام، دل على أنه لا حق لهم في الإرث؛ لأن الولاء لا يتقدم على النسب، وهذا ظاهر على رأي أبي حنيفة وأصحابه لا على رأي الصديق وابن مسعود؛ لأنهما يقدمان ذوي الأرحام على مولى العتاقة.
(1)
أثبتناها من هامش الأصل حيث قال: لعله سقط: قربت.
17 - باب مِيرَاثِ المُلَاعَنَةِ
6748 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ. [انظر: 4748 - مسلم: 1494 - فتح: 12/ 30].
حَدَّثَنا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ، ثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، (وَأَلْحَقَ الوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ)
(1)
.
الشرح:
في الباب أحاديث ليست على شرطه، منها ما روى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها
(2)
، ومن حديث واثلة مرفوعًا:"تحرز المرأة ثلاث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه"
(3)
وإسنادهما ضعيف، وقال البيهقي في الثاني: ليس بثابت
(4)
.
وروى مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله
(5)
.
وروى أحمد أن عبد الله بن عبيد بن عمير، كتب إلى صديق له من أهل المدينة يسأله عن ولد الملاعنة، لمن قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكتب إليه: إني سألت فأخبرت أنه قضى به لأمه، هي بمنزلة أبيه وأمه.
(1)
من (ص 2).
(2)
أبو داود (2908). وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2583).
(3)
أبو داود (2906).
(4)
"سنن البيهقي" 6/ 240. وضعفه أيضًا الألباني في "ضعيف أبي داود" (504).
(5)
رواه أبو داود (2907). وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2582).
قال البيهقي: رواه حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن عبد الله بن عبيد، عن رجل من أهل الشام: أنه عليه الصلاة والسلام (قال)
(1)
.. فذكره.
قال البيهقي: وهذا والذي قبله منقطع، ولفظه مختلف فيه
(2)
.
قال مالك: وبلغني أن عروة كان يقول في ولد الملاعنة وولد الزنا: إذا مات ورثت أمهما حقهما في كتاب الله وإخوته لأمه حقوقهم، ويورث البقية مولى أمه إن كانت مولاة، وإن كانت عربية ورثت حقها وورث إخوته لأمه حقوقهم، وكان ما بقي للمسلمين. قال مالك: وبلغني عن سليمان بن يسار مثل ذلك، قال: وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا
(3)
.
قال ابن عبد البر: هذا مذهب زيد بن ثابت يورث من ابن الملاعنة كما يورث من غيرها ولا يجعل عصبة أمه منه، ويجعل ما فضل عن أمه لبيت مال المسلمين، إلا أن يكون له إخوة لأم، فتكون حقوقهم منه كما لو كان ابن غير ملاعنة، والباقي في بيت المال، فإن كانت أمه مولاة جعل الباقي من فرض ذوي السهام لولي الأم، فإن لم يكن لها مولى (حي)
(4)
جعل في بيت المال.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك مثل قول زيد، وبه قال جمهور أهل المدينة: ابن المسيب وعروة وسليمان وعمر بن عبد العزيز والزهري وربيعة وأبو الزناد ومالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة
(1)
من (ص 2).
(2)
"معرفة السنن والآثار" 9/ 153 - 154.
(3)
"الموطأ" ص 323.
(4)
ليست في الأصل.
وأصحابهم وأبو ثور وأهل البصرة، إلا أن أبا حنيفة وأصحابه وأهل البصرة يجعلون ذوي الأرحام أولى من بيت المال، فيجعلون ما فضل عن فرض أمه وأخوته ردًا على أمه وعلى أخوته، إلا أن تكون مولاة فيكون الفاضل لمواليها.
وأما علي وابن مسعود وابن عمر فإنهم جعلوا عصبته عصبة أمه، ذكر أبو بكر، عن وكيع، ثنا ابن أبي ليلى، عن الشعبي، عن علي وعبد الله أنهما قالا في ابن الملاعنة: عصبته عصبة أمه (يرثهم ويرثونه، وهو قول إبراهيم والشعبي)
(1)
.
وثنا وكيع، وثنا موسى بن عبيدة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ابن الملاعنة عصبته عصبة أمه، يرثهم ويرثونه، وهو قول إبراهيم والشعبي
(2)
.
وروي عن علي وابن مسعود أيضًا: أنهما كانا يجعلان أمه عصبة، فتعطى المال كله، فإن لم يكن له أم فماله لعصبتها، وبه قال الحسن ومكحول، ومثل ذلك أيضًا عن الشعبي وقتادة وابن سيرين وجابر بن زيد وعطاء والحكم وحماد والثوري وابن حي ويحيى بن آدم وشريك وأحمد بن حنبل.
وعن عمر بن الخطاب: أنه ألحق ولد الملاعنة لعصبة أمه، وعن الشعبي قال: سألت بالمدينة كيف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بولد الملاعنة؟ قال: ألحقه بعصبة أمه، وعنه أنه قال: بعث أهل الكوفة إلى الحجاز زمن عثمان رضي الله عنه رجلاً يسأل عن ميراث ابن الملاعنة، فجاءهم الرسول
(1)
كذا بالأصل، وهي جملة زائدة عن السياق، ستأتي بعد سطر في مكانها الصحيح.
(2)
"ابن أبي شيبة" 6/ 276 (31320 - 31323)، "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 480.
فأخبرهم أنه لأمه وعصبتها. وقال ابن عباس عن علي: أنه أعطى ابن الملاعنة الميراث وجعلها عصبة.
قال أبو عمر: والرواية الأولى أشهر عند أهل الفرائض، وقد روى خلاس عن علي في ابن الملاعنة مثل قول زيد: ما فضل عن أمه و (عن)
(1)
إخوته في بيت المال، وأنكروها على خلاس، ولخلاس عن علي أخبار في كثير منها نكارة عند العلماء
(2)
.
وقال ابن المنذر: لما ألحق الشارع ابن الملاعنة بأمه ونفاه عن أبيه ثبت أن لا عصبة له ولا وارث من قبل أبيه، قال غيره: فإذا توفي ابن الملاعنة فلا يرثه إلا أمه وإخوته لأمه خاصة، أو أخ معه ولد في بطن يكون عصبته (له في المشهور من مذهب مالك بخلاف توأم الزانية، لم يختلف فيه أنهما يتوارثان من قبل الأم خاصة.
واختلف في توأم المغتصبة والمسبية والملاعنة هل يتوارثان من قبل الأب والأم، أو من قبل الأم خاصة؟ والتزم بعضهم أن يتوارث توأم الزانية من قبل الأب والأم قياسًا على تؤم المغتصبة، قال: لأن التطوع بالزنا والإكراه سواء)
(3)
، فإن فضل شيء فلموالي أمه إن كانت معتقة، وكذلك لو كانت وحدها أخذت الثلث وما بقي لمواليها، ولا يكون لبيت المال شيء، وإن كانت عربية فالفاضل لبيت المال، هذا قول زيد ومن سلف. ثم روى عن علي وابن مسعود: أن ما بقي يكون لعصبة أمه إذا لم يخلف ذا رحم له منهم، فإن خلفه جعل فاضل المال ردًا عليه، وحكي عن علي أيضًا أنه ورث ذوي الأرحام
(1)
من (ص 2).
(2)
"الاستذكار" 15/ 511 - 515.
(3)
من (ص 2).
برحمهم، ولا شيء لبيت المال، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. ومن قال بالرد يرد الباقي على أمه، وجعل ابن مسعود عصبته أمه كما سلف، فإن لم تكن الأم فعصبتها هي عصبة ولدها، وإليه ذهب الثوري.
وهذا الاختلاف إنما قام من قوله عليه السلام: "وألحق الولد بالمرأة"؛ لأنه لما ألحقه بها قطع نسب أبيه فصار كمن لا أب له من أولاد الفيء الذين لم يختلف أن المسلمين عصبتهم - (إذ لا تكون العصبة من قبل الأم، وإنما تكون من قبل الأب)
(1)
، ومن قال: معنى قوله: "ألحق الولد بالمرأة"، أي: أقامها مقام أبيه، فهؤلاء جعلوا عصبة أمه عصبة له، وهو قول الثوري وأحمد، واحتجوا بالحديث الذي جاء أن الملاعنة بمنزلة أبيه وأمه
(2)
، وليس فيه حجة (لأنه إنما هي)
(3)
بمنزلة أبيه وأمه في تأديبه، وما أشبه ذلك بما لا يتولاه أبوه.
فأما الميراث فلا؛ لأنهم أجمعوا أن ابن الملاعنة لو ترك أمه وأباه كان لأمه السدس ولأبيه ما بقي، فلو كانت بمنزلة أبيه وأمه في الميراث لورثت سدسين بالأمومة وبالأبوة، وأبو حنيفة جعل الأم كالأب فرد عليها ما بقي؛ لأنها أقرب الأرحام إليه، وقول أهل المدينة أولى بالصواب كما قاله ابن بطال؛ لأنه معلوم أن العصبات من قبل الآباء ومن أدلى بمن لا تعصيب له لم يكن له تعصيب
(4)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
انظر هذِه المسألة في "مختصر اختلاف العلماء" 4/ 479 (2148)، و"الاستذكار" 15/ 511 - 515، و"المغني" 9/ 121 - 123.
(3)
كذا بالأصل.
(4)
"شرح ابن بطال" 8/ 366 - 367.
18 - باب الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً
6749 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي، فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ. فَلَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ فَقَالَ: ابْنُ أَخِي، عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ» . ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: «احْتَجِبِي مِنْهُ» . لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ. [انظر: 2053 - مسلم: 1457 - فتح: 12/ 32].
6750 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ» . [6818 - مسلم: 1458 - فتح: 12/ 32].
ذكر فيه حديث عتبة، وقد سلف.
وحديث أبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الفِرَاشِ".
وعند جمهور العلماء أن الحرة تكون فراشًا بإمكان الوطء، ويلحق الولد في مدة تلد في مثلها، وأقل ذلك ستة أشهر، وشذ أبو حنيفة فقال: إذا طلقها عقب النكاح من غير إمكان وطء فأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد، فإن الولد يلحقه
(1)
، واحتج أصحابه بحديث الباب:"الولد للفراش"، قالوا: وهذا الاسم كناية عن الزوج وقال جرير:
باتت تعانقه وبات فراشها
…
خلق العباءة في الدماء قتيلا
(1)
انظر: "بدائع الصنائع" 3/ 212.
يعني: زوجها، كذا أنشده أبو علي الفارسي، فإذا كان الفراش الزوج، فإنه يقتضي وجوده لا إمكان الوطء، وحجة الجمهور أن الفراش وإن كان يقع على الزوج فإنه يقع على الزوجة أيضًا؛ لأن كل واحد منهما فراشًا لصاحبه.
حكى ابن الأعرابي: أن الفراش عند العرب يعبر به عن الزوج وعن المرأة، وهي الفراش المعروف فمن ادعى أن المراد الرجل دون المرأة فعليه البيان، والفراش هنا إنما هو كناية عن حالة الافتراش، والمرأة شبيهة بالفراش؛ لأنها تُفترش فكأنه عليه السلام أعلمنا أن الولد بهذِه الحالة التي فيها الافتراش، فمتى لم يمكن حصول هذِه الحالة لم يلحق الولد.
فمعنى قوله: "الولد للفراش" أي: لصاحب الفراش، كما جاء في حديث أبي هريرة في الباب، وما ذهب إليه أبو حنيفة خلاف ما أجرى الله العادة به من أن الولد إنما يكون من ماء الرجل وماء المرأة كما أجرى الله العادة أن المرأة لا تحمل وتضع في أقل من ستة أشهر، فمتى وضعت أقل منها لم تلحق؛ لأنها وضعته لمدة لا يمكن أن يكون فيها.
وأما الأمة عند مالك والشافعي فإنها تصير فراشًا لسيدها بوطئه لها، أو بإقراره أنه وطئها؛ وكهذا حكم عمر بن الخطاب، وهو قول ابن عمر، فمتى أتت بولد لستة أشهر من يوم وطئها ثبت نسبه منه، وصارت به أم ولد له، وله أن ينفيه إذا ادعى الاستبراء، ولا يكون فراشًا بنفس الملك دون الوطء عند مالك والشافعي
(1)
.
(1)
انظر: "الأم" 6/ 199، و"المدونة" 4/ 395، و"شرح معاني الاثار" 3/ 114، و"بدائع الصنائع" 3/ 212.
وقال أبو حنيفة: لا تكون فراشًا بالوطء ولا بالإقرار به أصلاً، فلو وطئها (مائة سنة)
(1)
أو أقر بوطئها فأتت بولد لم يلحقه وكان مملوكًا له وأمه مملوكة، وإنما يلحقه ولدها إذا أقر به، وله أن ينفيه بمجرد قوله ولا يحتاج أن يدعي استبراء.
وذكر الطحاوي عن ابن عباس أنه كان يطأ جارية له فحملت، فقال: ليس الولد مني أي: أتيتها إتيانا لا أريد به الولد، وعن زيد بن ثابت مثله
(2)
، وقولهم خلاف حديث الباب في ابن وليدة زمعة؛ لأن ابن زمعة قال: هذا أخي ولد على فراش أبي فأقره الشارع، ولم يقل: الأمة لا تكون فراشًا، ثم قال عليه السلام:"الولد للفراش"
(3)
وهذا خطاب خرج على هذا السبب.
وقد سلف أن الفراش كني به عن الافتراش الذي هو الوطء.
وقد حصل في الأمة فوجب أن يلحق به الولد، وأيضًا فإن العاهر لما حصل له الحجر دل على أن غير العاهر بخلافه، وأن النسب له، ألا تراه أنه في الموضع الذي يكون عاهرًا تستوي فيه الحرة والأمة، فوجب أن يستوي حالهما في الموضع الذي يكون ليس بعاهر، ومن أطرف شيء أنهم يجعلون نفس العقد في الحرة فراشًا، ولم يرد فيه خبر ولا يجعلون الوطء في الإماء فراشًا، وفيه ورد الخبر، فيشكون في الأصل ويقطعون على الفرع، قاله ابن بطال
(4)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
"شرح معاني الآثار" 3/ 116 - 117.
(3)
"شرح معاني الآثار" 3/ 113 - 114.
(4)
"شرح ابن بطال" 8/ 365 - 369.
فصل:
قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" يقرأ بنصب عبد ورفعه، ومعناه: أنه يكون لك أخ على دعواه، وإنما استلحق على فراش أبيه؛ لأنه قبل وطئه إياها كان مشتهرًا غير خفي بالمدينة أو أمره بذلك، وأمره بالاحتجاب في حق سودة (سببًا)
(1)
للاحتياط، واحتج به محمد على ابن الماجشون الذي لم يجعل الزنا
(2)
من الحرمة، فقال: يجوز أن يتزوج ابنته من زناه
(3)
، فلما قال عليه السلام لسودة:"احتجبي منه" لما رأى من شبهه بعتبة (دل)
(4)
أن له حرمة.
(1)
من (ص 2).
(2)
عليها في الأصل علامة استشكال.
(3)
انظر: "المنتقى" 3/ 308.
(4)
من (ص 2).
19 - باب الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَمِيرَاثُ اللَّقِيطِ
وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: اللَّقِيطُ حُرٌّ.
6751 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتِ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اشْتَرِيهَا، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَأُهْدِيَ لَهَا شَاةٌ، فَقَالَ:«هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» . قَالَ الْحَكَمُ وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، وَقَوْلُ الْحَكَمِ مُرْسَلٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا. [انظر: 456 - مسلم: 1504،1075 - فتح: 12/ 39].
6752 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . [انظر: 2156 - مسلم: 1504 - فتح: 12/ 39].
سلف إسناده في اللقيط.
ثم ساق حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها في قصة بَرِيرَة: "فَإِنَّ الوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ". قَالَ الحَكَمُ وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا. وَقَوْلُ الحَكَمِ مُرْسَلٌ. وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا.
ثم ساق حديث ابن عُمَرَ مرفوعًا: "إِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَن أَعْتَقَ".
الشرح:
قال الإسماعيلي: قول الحكم ليس من الحديث، إنما هو مدرج، قال: وذكر ميراث اللقيط في الترجمة وليس له في الخبر ذكر ولا عليه دلالة فينظر.
قلت: اكتفى بأثر عمر فيه، والظاهر أنه لم يخالف، وفي هذِه المسألة أقوال لأهل العلم؛ أحدها: أنه حر وولاؤه لجميع المسلمين، وإليه ذهب مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وأبو ثور.
ثانيها: إن ولاءها لملتقطه، روي عن عمر وشريح، وبه قال إسحاق بن راهويه.
ثالثها: أنه حر، فإن أحب أن يوالي الذي التقطه والاه، وإن أحب أن يوالي غيره والاه، (رواه عن علي وبه قال)
(1)
عطاء وابن شهاب.
رابعها: له أن ينتقل بولائه حيث شاء، فمن يعقل عنه الذي والاه حياته، فإن عقل عنه لم يكن له أن ينتقل بولائه عنه ويرثه، قاله أبو حنيفة، واحتج إسحاق بحديث سُنين أبي جميلة، عن عمر أنه قال له في المنبوذ: اذهب فهو حر ولك ولاؤه
(2)
.
لكن قال ابن المنذر: أبو جميلة مجهول، لا يعرف له خبر غير هذا الحديث، وحمل أهل القول الأول قول عمر: لك ولاؤه، أي: أنت الذي تتولى تربيته والقيام بأمره، وهذِه ولاية الإسلام لا ولاية العتق، واحتجوا بحديث الباب ("الولاء لمن أعتق")، وهذا ينفي أن يكون الولاء للملتقط؛ لأن أصل الناس الحرية، وليس يخلو اللقيط من أحد أمرين، إما أن يكون حرًّا فلا رق عليه، أو يكون ابن أمة قوم فليس لمن التقطه أن يسترقه، وبهذا كتب عمر بن عبد العزيز.
وقد بين الله آيات المواريث، وسمى الوارثين، فدل أنه لا وارث له غير من ذكر في كتابه، ولو كانت الموالاة بما يتوارث بها وجب إذا ثبتت أن لا يجوز نقلها إلى غير من ثبتت له، وكما قالوا: إنه إذا وإلى غيره قبل أن يعقل عنه ثم والى غيره وعقل عنه كان للذي عقل عنه، علم أن
(1)
من (ص 2). وفي الأصل: (قاله).
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 450 (13840)، و 9/ 14 (16182)، ومن طريقه الطبراني 7/ 102 (6499).
الموالاة لا يجوز أن يتوارث بها، وقال عليه السلام:"كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"
(1)
.
فصل:
اختلف في موالي الموالاة، وهو أن يتوالى رجلان لا نسب بينهما على أن يتوارثا، فلا يصح عند مالك
(2)
، دون أبي حنيفة
(3)
، ولهما أن يفسخا الموالاة ما لم يعقل أحدهما عن الآخر، دليل الأول حديث الباب:"الولاء لمن أعتق"، فبقي أن يكون ولاء بغير معتق.
فصل:
احتج أبو حنيفة والشافعي ومحمد بن عبد الحكم بقوله عليه السلام "إنما الولاء لمن أعتق" لقولهم: إن من أعتق عبدًا عن غيره فولاؤه للمعتق خلافًا لمالك، حيث قال: إنه للمعتق عنه رضي أم لا.
فصل:
أسلفنا أن زوج بريرة هل كان حرًا أم لا؟ وطريقة أهل العراق أن الأمة إذا عتقت تحت حر فلها الخيار، ومالك والشافعي وعليه أهل الحجاز: لا خيار.
(1)
سلف برقم (2155)، ورواه مسلم برقم (1504).
(2)
"المعونة" 2/ 374.
(3)
"الهداية" 3/ 306 - 307، و"بدائع الصنائع" 4/ 170.
20 - باب مِيرَاثِ السَّائِبَةِ
6753 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ هُزَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الإِسْلَامِ لا يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُسَيِّبُونَ. [فتح: 12/ 40].
6754 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ لِتُعْتِقَهَا، وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ لأُعْتِقَهَا، وَإِنَّ أَهْلَهَا يَشْتَرِطُونَ وَلَاءَهَا. فَقَالَ:«أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . أَوْ قَالَ: «أَعْطَى الثَّمَنَ» . قَالَ: فَاشْتَرَتْهَا فَأَعْتَقَتْهَا. قَالَ: وَخُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَالَتْ: لَوْ أُعْطِيتُ كَذَا وَكَذَا مَا كُنْتُ مَعَهُ. قَالَ الأَسْوَدُ: وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا. قَوْلُ الأَسْوَدِ مُنْقَطِعٌ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا. أَصَحُّ. [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 12/ 40].
ذكر فيه حديث أبِي قَيْسٍ -واسمه عبد الرحمن بن مروان كما سلف- عَنْ هُزَيْلِ بن شرحبيل، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الإِسْلَامِ لا يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّ أَهْلَ الجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُسَيِّبُونَ.
ثم ذكر حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها في قصة بريرة، وفيه:"إِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ". أَوْ قَالَ: "أَعْطَى الثَّمَنَ".
وفي آخره: قَالَ الأَسْوَدُ: وَكَانَ زَوْجُهَا حُرًّا. قَوْلُ الأَسْوَدِ مُنْقَطِعٌ، وَقَوْلُ ابن عَبَّاسٍ: رَأَيْتُهُ عَبْدًا. أَصَحُّ.
الشرح:
اختلف العلماء في ميراث السائبة، فقال الكوفيون والشافعي
(1)
وأحمد
(2)
وإسحاق وأبو ثور: ولاؤه لمعتقه، ونقله ابن حبيب عن
(1)
"الأم" 4/ 8 - 9.
(2)
"المغني" 9/ 222.
ابن نافع وابن الماجشون
(1)
، واحتجوا بحديث الباب:("الولاء لمن أعتق" فالعتق داخل في عموم الحديث، وغير خارج منه)
(2)
، ولهذا أدخله البخاري في تبويبه، وقالت طائفة: ميراثه للمسلمين، روي ذلك عن عمر بن الخطاب، وروي عن عمر بن عبد العزيز
(3)
وربيعة وأبي الزناد
(4)
، وهو قول مالك، قالوا: ميراثه للمسلمين، وعقله عليهم
(5)
.
وهو مشهور مذهبه
(6)
، وكأنه أعتقه عنهم، والحجة لهؤلاء أنه إذا قال: أنت حُرٌّ سائبةٌ، فكأنه قد أعتقه عن المسلمين، فكان ولاؤه لهم، وهو بمنزلة الوكيل إذا أعتق عن موكله فالولاء له دون الوكيل، وقد ثبت أن الولاء يثبت للإنسان من غير اختياره، وقال الزهري: موالي المعتق سائبة، فإن مات ولم يوال أحدًا فولاؤه للمسلمين
(7)
، واحتج الكوفيون فقالوا: لو قال لعبده أنت سائبة، لا ملك لي عليك، وأنت حر سائبة، أن هذا كله لا يزيل عنه الولاء؛ لأن "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يُباع ولا يوهب"، فالهبة كذلك، وبهذا قال ابن نافع وخالف مالكًا فيه.
فصل:
اختلف في عتق السائبة في ثلاثة مواضع في كراهيته ولمن ولاؤه، وهل يعتق بقوله: أنت سائبة؟ أو حتى يريد بذلك العتق.
(1)
"النوادر والزيادات" 13/ 239.
(2)
هذِه العبارة تأخرت في الأصل، وجاءت بعد في تبويبه اللاحق.
(3)
"المغني" 9/ 221.
(4)
"التمهيد" 3/ 76.
(5)
"الموطأ" برواية يحيى ص 491.
(6)
"التمهيد" 3/ 73.
(7)
"المغني" 9/ 221.
فقال ابن القاسم في "العتبية" من رواية أصبغ: أكرهه؛ لأنه كهبة الولاء. وقال أصبغ وسحنون: لا يعجبنا كراهيته، وهو جائز كما يعتق عن غيره من ولد وغيره
(1)
، وقال ابن نافع: لا سائبة اليوم في الإسلام، وهو يوافق ما في "الأصل" عن ابن مسعود، وقد قيل في قوله تعالى {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} [المائدة: 103] هو أن يقول لعبده: أنت سائبة. لم يكن عليه ولاء، وأول من سيب السوائب عمرو بن لُحَيٍّ، وولاؤه قد سلف الخوض فيه، وإذا قال لعبده: أنت سائبة -يريد به العتق- فهو حر.
وقال أصبغ: هو حر وإن لم ينو؛ لأن لفظ التسييب عتق
(2)
.
(1)
"النوادر والزيادات" 13/ 240.
(2)
"النوادر والزيادات" 13/ 240.
21 - باب إِثْمِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ مَوَالِيهِ
6755 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلاَّ كِتَابُ اللهِ، غَيْرَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ فَأَخْرَجَهَا فَإِذَا فِيهَا أَشْيَاءُ مِنَ الجِرَاحَاتِ وَأَسْنَانِ الإِبِلِ. قَالَ: وَفِيهَا: "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ. يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ". [انظر:111 - مسلم: 137 - فتح: 12/ 42].
6756 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ. [انظر: 2535 - مسلم: 137 - فتح: 12/ 42].
ذكر فيه حديث إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ اللهِ، غَيْرَ هذه الصَّحِيفَةِ. فَأَخْرَجَهَا فَإِذَا فِيهَا أَشْيَاءُ مِنَ الجِرَاحَاتِ وَأَسْنَانِ الإِبِلِ. الحديث:"وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا".
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما السالف أيضًا: نَهَى عَنْ بَيْعِ الوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ.
الشرح:
في نهيه عليه السلام عن بيع الولاء وعن هبته دليل أنه لا يجوز للمولى التبرؤ من ولاء مواليه، وأن من تبرأ منه وأنكره كان كمن باعه أو وهبه في الإثم، فإن قلت: التقييد بغير إذن مواليه يؤذن جوازه بإذنهم، وهو قول عطاء فيما ذكره عنه عبد الرزاق مستدلًا بهذا الحديث أنه إذا أذن الرجل لمولاه أن يوالي من شاء جاز.
وهو موافق لما روي عن ميمونة أم المؤمنين أنها وهبت ولاء مواليها للعباس بن عبد المطلب، وهم كذلك إلى اليوم ولاؤهم لهم، وقد أسلفنا ذلك في باب بيع الولاء وهبته من كتاب المدبر.
وفي "المصنف": سئل النخعي عن رجل أعتق رجلاً فانطلق المعتق فوالى غيره، فقال: ليس له ذلك إلا أن يهبه المعتق.
وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن امرأة من محارب أعتقت عبدًا ووهبت ولاءه فوهب نفسه لعبد الرحمن بن أبي بكر، فأجازه عثمان.
وعن الشعبي نحوه، وكذا قتادة وابن المسيب
(1)
.
قلت: جماعة من الفقهاء لا يجيزون ذلك، (وقد احتج مالك للمنع، قيل له: الرجل يبتاع نفسه من سيده على أنه يوالي من شاء، قال: لا يجوز ذلك)
(2)
؛ لأنه عليه السلام قال: "الولاء لمن أعتق" ونهى عن بيع الولاء وعن هبته، فإذا جاز لسيده أن يشترط ذلك له، كأن يأذن له أن يوالي من شاء فتلك الهبة التي نهى الشارع عنها. رواه ابن وهب.
(1)
"المصنف" 4/ 314 (20469 - 20472) و 6/ 303 (31609 - 31614).
(2)
من (ص 2).
فإن قلت: فما تأويل حديث علي إذن؟ قيل: يحتمل أن يكون منسوخًا بنهيه عن بيع الولاء وعن هبته، ويحتمل أن يكون تأويله كتأويل قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] والإجماع قائم على النهي عن قتلهم مطلقًا، فكذا ما نحن فيه، وكقوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} [النساء: 23]، والإجماع قائم على حرمتها وإن لم يربيها في حجره، فكذا لا يكون ترك إذن الموالي في موالاة غيرهم شرطًا في وجوب لعنه متول غير مواليه، بل اللعنة متوجهة إليهم في توليهم غيرهم بإذنهم وبغير إذنهم؛ لعموم نهيه عن بيع الولاء وعن هبته، (دليل أنه لا يجوز للمولى)
(1)
.
فصل:
وفيه من الفقه أنه لا يجوز أن يكتب المولى: فلان ابن فلان. وهو مولاه حتى يقول: فلان مولى فلان، وجائز أن ينتسب إلى نسبه؛ لأنه انتماءٌ إليه؛ لأن "الولاء لُحْمة كلُحمة النسب".
فصل:
من تبرأ من مواليه لم تجز شهادته، وعليه التوبة والاستغفار؛ لأن الشارع قد لعنه، وكل من لعنه فهو فاسق.
فصل:
وفيه: جواز لعنة أهل الفسق من المسلمين، ومعنى اللعن في اللغة؛ الإبعاد عن الخير، وسيأتي قريبًا في الحدود معنى نهيه عليه السلام عن لعن الذي كان يؤتى به كثيرًا ليجلد في الخمر، وأن ذلك ليس بمعارض للعنه لشارب الخمر وكثير من أهل المعاصي.
(1)
من (ص 2).
فصل:
سلف تفسير الصرف والعدل في آخر كتاب الحج في باب حرم المدينة، هل الصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، أو عكسه؟ أو الصرف: الوزن، والعدل: الكيل، أو الصرف: التوبة، والعدل: الفدية، أو غير ذلك؟ و (عَير) بفتح العين المهملة: جبل بالمدينة وهو مصروف، ويجوز تركه إذا أردت البقعة.
وقوله: "فمن أخفر مسلمًا" أي: نقض عهده وعهدته، وخفرته: كنت له خفيرًا يمنعه، وأخفرته أيضًا.
فصل:
قوله: (فإذا فيها أشياء)، هي جمع شيء وهو لا ينصرف، واختلف في تعليله، فقال الخليل: أصله فعلاء، جمع على غير واحده، كالشعراء جمع على غير واحده؛ لأن الفاعل لا يجمع على فُعلى، ثم استثقلوا الهمزتين في آخره، فقلبوا الأولى إلى أول الكلمة فقالوا: أشياء، فصار تقديره أفعاء، وقال الأخفش:(هو أفعلاء)
(1)
، حذفت الهمزة التي بين الياء والألف للتخفيف وبحث معه المازني وأصاب.
وقال الكسائي: تركوا صرفها لكثرة استعمالها؛ لأنها شبهت بفعلاء، ويعارض هذا بألا يصرف أسماء، وقال الفراء: أصل شيء شيي فجمع على أفعلاء كأهيناء، ثم خفف فقيل: شيء مثل هين ولين، وقالوا: أشياء فحذفوا الهمزة الأولى، وهذا القول يدخل عليه أن لا يجمع على (أشاوى)
(2)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
غير مقروءة بالأصل، والمثبت أقرب صورها، ولعله الصواب.
22 - باب إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلٌ
وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يَرَى لَهُ وِلَايَةً. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . وَيُذْكَرُ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه رَفَعَهُ قَالَ: «هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ» ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ هَذَا الخَبَرِ
6757 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً تُعْتِقُهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا: نَبِيعُكِهَا عَلَى أَنَّ وَلَاءَهَا لَنَا. فَذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَا يَمْنَعُكِ ذَلِكِ، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . [انظر: 2156 - مسلم: 1504 - فتح: 12/ 45].
6758 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: اشْتَرَيْتُ بَرِيرَةَ فَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا وَلَاءَهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْطَى الوَرِقَ» . قَالَتْ: فَأَعْتَقْتُهَا. قَالَتْ: فَدَعَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا فَقَالَتْ: لَوْ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا مَا بِتُّ عِنْدَهُ. فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا. [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 12/ 45].
ثم ساق قصة بريرة من طريقين عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، وفي آخر أحدهما: وكان زوجها حرًا.
الشرح:
أثر الحسن رواه أبو بكر عن وكيع، ثنا سفيان، عن مطرف، عن الشعبي، وعن يونس عنه
(1)
، وفي رواية عبد الأعلى، عن يونس عنه: لا يرثه إلا إن شاء أوصى بماله
(2)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 300 (31576).
(2)
السابق (31579).
وحديث تميم أخرجه الترمذي في "جامعه" عن أبي كريب، عن أبي أسامة وابن نمير، ووكيع عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن موهب -وقال بعضهم: ابن وهب- عن تميم بن أوس الداري، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السنة في الرجل يُسْلِمُ على يدِ الرجل .. الحديث، قال: وقد أدخل بعضهم بين عبد الله بن (موهب)
(1)
وبين تميم قبيصة بن ذؤيب، رواه يحيى بن حمزة كذلك، وهو عندي ليس بمتصل
(2)
. قلت: حديث يحيى أخرجه أبو داود، عن يزيد بن خالد بن موهب وهشام بن عمار، عن يحيى بن حمزة، عن عبد العزيز بن عمر قال: سمعت عبد الله بن موهب يحدث عن عمر بن عبد العزيز، عن قبيصة بن ذؤيب، عن تميم
(3)
.
وفي كتاب ابن أبي شيبة و"مسند أحمد": حدثنا وكيع، حدثنا عبد العزيز بن عمر، عن عبد الله بن موهب؛ قال: سمعت تميمًا .. الحديث
(4)
.
ورواه ابن بنت منيع عن جماعة، عن عبد العزيز بلفظ: سمعت تميمًا
(5)
، فيجوز أن يكون رواه أولاً عن قبيصة، عن تميم، ثم سمعه من تميم.
(1)
كذا بالأصل، وفي "سنن الترمذي" 4/ 427:(وهب).
(2)
"سنن الترمذي" 4/ 427 (2112).
(3)
أبو داود (2918).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 299 (31567)، "مسند أحمد" 4/ 102، 103.
ورواه أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق وأبي نعيم، كلاهما عن عبد العزيز بن عمر.
(5)
ابن بنت منيع هو أبو القاسم البغوي، روى الحديث في "معجم الصحابة" 1/ 368 - 369 (234).
وقول البخاري: (واختلفوا في صحة هذا الخبر). هو كما قال، فقد أسلفنا عن الترمذي انقطاعه، وقال الخطابي: ضعفه أحمد، وقال: راويه عبد العزيز ليس من أهل الحفظ والإتقان
(1)
. قلت: المعتبر كونه ثقة، وهو موجود، قال محمد بن عمار المشبه في الحفظ بالإمام أحمد: ثقة، ليس بين الناس فيه اختلاف، وقال يحيى بن معين في رواية يحيى الغلابي: ثبت، وقال أبو داود تلميذ الإمام أحمد: ثقة، وروى له الجماعة، قال أبو زرعة البصري الدمشقي الحافظ في "تاريخ دمشق": حدثني صفوان بن صالح، سمع الوليد بن مسلم يذكر أن الأوزاعي كان يدفع هذا الحديث، ولا يرى له وجهًا، ويحتج بأنه لم يكن للمسلمين يومئذٍ (ديوان)
(2)
ولا خراج، قال أبو زرعة: وليس كذلك، بل هو حديث حسن المخرج والاتصال، لم أر أحدًا من أهل العلم يدفعه
(3)
.
وأما الدارقطني فقال: إنه حديث غريب من حديث أبي إسحاق السبيعي عن ابن موهب تفرد به عنه ابنه يونس، وتفرد به أبو بكر الحنفي عنه، فأفادنا متابعًا لعبد العزيز وهو أبو إسحاق، والغرابة لا تدل على الضعف، فقد تكون في الصحيح، والإسناد الذي ذكره صحيح على شرط الشيخين، وفيه رد لقول ابن المنذر، ورفع الحديث أحمد وتكلم فيه غيره، ولم يروه غير عمر بن عبد العزيز، وهو شيخ ليس من أهل الحفظ، وقال: قد اضطربت روايته له، فروى عنه وكيع وأبو نعيم عن عبد الله بن موهب، قال: سمعت تميمًا ورواه شريك،
(1)
"معالم السنن" 4/ 96.
(2)
كذا بالأصل، وفي "تاريخ دمشق" 33/ 241:(ذمة).
(3)
"تاريخ دمشق" 33/ 241 - 242.
عن حفص بن غياث عنه، عن ابن وهب، عن قبيصة، عن تميم، ولا ندري أسمع قبيصة من تميم أم لا، فلما اضطرب حسبنا أن لا يكون محفوظًا
(1)
، وكان ظاهر قوله:"الولاء لمن أعتق" أولى بنا، ودل على أن الولاء لا يكون لغير المعتق، وقد أخرجه أحمد في "مسنده"
(2)
وشرطه فيه معلوم، كما أوضحه أبو موسى المديني في "خصائصه"
(3)
.
فصل:
اختلف العلماء فيمن أسلم على يدي رجل من المسلمين، فقال الشعبي كقول الحسن: لا ميراث للذي أسلم على يديه ولا ولاء له، وميراث المسلم إذا لم يدع وارثًا لجماعة المسلمين، وقول ابن أبي ليلى ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد، وحجتهم حديث الباب:"الولاء لمن أعتق" فنفى الميراث عن غير المعتق، كما نفى عنه الولاء، وذكر ابن وهب، عن عمر بن الخطاب قال: لا ولاء للذي أسلم على يديه، وهو قول ربيعة وإسحاق، وحكاه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن عمر أنه قضى بذلك، وهو قول النخعي وعمر بن عبد العزيز وابن مسعود وزياد بن أبي سفيان وغيرهم، وفيها قول آخر روي عن النخعي: أنه إذا أسلم على يد الرجل ووالاه، فإنه يرثه وبعقل عنه، وله أن يتحول عنه إلى غيره، وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه، وحكي عن أبي أيوب والنخعي أيضًا، فإن أسلم على يديه
(1)
قلت: الحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2591)، وفي "الصحيحة"(2316) وفي الأخير كلام مفيد فليراجع.
(2)
"المسند" 2/ 28.
(3)
مطبوع مع "المسند" في المقدمة (تحقيق: أحمد شاكر) 1/ 19 - 27.
ولم يعاقده ولم يواله فلا شيء له، قال الطحاوي في "مشكله": وهو قول أكثر العلماء. وأجازه عمر بن الخطاب، وروي ذلك عن الزهري، واحتجوا بحديث تميم الداري
(1)
. وقد عرفت ما فيه، وابن بطال
(2)
ساقه عن مسدد، عن عبد الله بن داود، عن عبد العزيز، عن عبد الله بن موهب، عن تميم به، وقد عرفت حاله.
قال ابن القصار: ثم لو صح لكان تأويله: أحق به، يواليه وينصره ويوارثه إذا مات، وليس فيه أنه أحق بميراثه.
(1)
"شرح مشكل الآثار" 7/ 282.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 375.
23 - باب مَا يَرِثُ النِّسَاءُ مِنَ الوَلَاءِ
6759 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَقَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ الْوَلَاءَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اشْتَرِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . [انظر: 2156 - مسلم: 1504 - فتح: 12/ 47].
6760 -
حَدَّثَنَا ابْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْطَى الوَرِقَ وَوَلِيَ النِّعْمَةَ» . [انظر: 456 - مسلم: 1504 - فتح: 12/ 47].
ذكر فيه حديث عائشة في قصة بريرة: "اشْتَرِيهَا، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ".
وحديثها أيضًا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَاءُ لِمَنْ أعْطَى الوَرِقَ وَوَلِيَ النِّعْمَةَ".
وهو يوجب أن يكون الولاء لكل معتق ذكرًا كان أو أنثى؛ لأن (من) تصلح للذكر والأنثى والواحد والجمع، إلا أنه ليس للنساء عند جماعة الفقهاء من الولاء. ونقل سحنون فيه الإجماع -إلا من أعتقن أو أعتق من أعتقن، أو ولد من أعتقن، وعبر أيضًا: أو جر الولاء إليهن من أعتقن، وربما عبروا فقالوا: لا ترث امرأة بولاء إلا معتقها أو منتميًا إليه بنسب أو ولاء.
قال الأبهري: وهذا قول الفقهاء السبعة وغيرهم من أهل المدينة والكوفة، ليس فيه اختلاف إلا ما يروى عن مسروق أنه قال: ترث النساء من الولاء كما يرثن من المال.
وذكر ابن المنذر، عن طاوس مثله، واحتج بقوله تعالى:{وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ} الآية [النساء: 7]، وهذا شذوذ ولم يعرج عليه،
وإنما ترث النساء ولاء من أسلفناه؛ لأنه عن مباشرة، وليس هو في الميراث، وإنما لم يرثن الولاء؛ لأنه إنما يورث بالتعصيب، والمرأة لا تكون عصبة، ولما كانت المرأة لا تستوعب المال، بالفرض الذي أوكد من التعصيب لم ترث الولاء.
فصل:
كل موضع يكون فيه الولاء للمعتق الرجل فالمرأة المعتقة كذلك، فإذا أعتق رجل أو امرأة عبدًا ثبت الولاء لهما وولاء ولده، ذكورهم وإناثهم، وولاء ولد الذكور كذلك.
قال ابن التين: ولا شيء لهما في ولاء ولد البنات ذكرًا كان ولد البنت أو أنثى.
قال: فإن أعتقا أمة فالولاء لهما دون ولدها، فإن ولدت تلك الأمة ذكرًا كان أو أنثى كان ولاؤهم لمعتق زوجها، فإن لم يخلف معتق الزوج من يحوز الولاء أو كان الزوج حرًّا لم يتقدم عليه ولاء فولاؤهم لبيت المال في "المدونة"
(1)
.
وعلى قول ابن الموَّاز: يعود الولاء لمعتق الأم، واعترض على الحصر السالف الذي نقلنا فيه الإجماع، فقال: هو حصر غير مستمر، وذلك أنه إذا كانت المعتقة لها ولد من زنا، أو كانت ملاعنة لها ولد، أو كان زوجها عبدًا، فإن ولاء ولدهن كلهن لمعتقها
(2)
، والحصر المستمر في ذلك أن يقال: لا ترث النساء من الولاء إلا من
(1)
"المدونة الكبرى" 3/ 82 - 83.
(2)
الفرق الذي يريد أن يبينه: هو أن في غير هذِه الحالات الثلاث فولاء الأولاد لمعتق الزوج وليس لمعتقها.
أعتقن، أو مَن جرَّه إليهن من أعتقنه بولادة أو عتق، ورأيت نحو هذا الحصر لابن القاسم في "مختصر الشيخ أبي محمد" ونحوه عن سحنون في غير أم.
فصل:
وقوله: ("الولاء لمن أعطى الورق وولي النعمة") معناه: لمن أعطى الثمن وأعتق بعد إعطاء الثمن؛ لأن ولاية النعمة التي يستحق بها الميراث لا تكون إلا بالعتق.
24 - باب مَوْلَى القَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَابْنُ الأُخْتِ مِنْهُمْ
6761 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ وَقَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . أَوْ كَمَا قَالَ. [انظر: 3146 - مسلم: 1059 - فتح: 12/ 48].
6762 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . أَوْ: «مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . [انظر: 3146 - مسلم: 1059 - فتح: 12/ 48].
ذكر فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه، عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَوْلَى القَوْم مِنْ أَنْفُسِهِمْ". أَوْ كَمَا قَالَ. وحديثه أيضًا عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ابْنُ أُخْتِ القَوْمِ مِنْهُمْ". أَوْ: "مِنْ أَنْفُسِهِمْ".
أما مولى القوم من أنفسهم فهو صحيح بالنسبة إليهم والميراث والعقل. وأما ابن أخت القوم منهم فهو محمول عند أهل المدينة أن يكون ابن أختهم من عصبتهم.
وعند أهل العراق الذين يورثون ذوي الأرحام: ابن أخت القوم منهم، يرثهم ويرثونه، وقد سلف الكلام على ذلك.
(فائدة)
(1)
: ذكر الإسماعيلي أن حديث أنس الثاني
(2)
إنما يعرف من حديث قتادة عنه، والبخاري ذكره هنا عن معاوية بن قرة وقتادة عنه.
(1)
ألحقناها من هامش الأصل، حيث كتب في الهامش: في أصله بياض، ولعله هنا: فائدة أو تنبيه.
(2)
ورد في هامش الأصل: الحديث المشار إليه هو الحديث الأول، كذا رأيته في بعض أصولنا الدمشقية.
25 - باب مِيرَاثِ الأَسِيرِ
قَالَ: وَكَانَ شُرَيْحٌ يُوَرِّثُ الأَسِيرَ فِي أَيْدِى العَدُوِّ وَيَقُولُ: هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أجيز وَصِيَّةَ الأَسِيرِ وَعَتَاقَهُ، وَمَا صَنَعَ فِي مَالِهِ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ دِينِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَالُهُ يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ.
6763 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ فَإِلَيْنَا» .
ثم ساق حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كلاًّ فَإِلَيْنَا".
الشرح:
التعليق عن شريح رواه أبو بكر، عن حفص بن غياث، عن داود، عن الشعبي عنه
(1)
، ورواه عبد الرزاق، عن همام، عن الثوري، عن داود مثله
(2)
.
والتعليق عن عمر رواه معمر، عن ابن شهاب عنه
(3)
.
وكأن البخاري أراد بهذين التعليقين مخالفة ما حكى أبو بكر بن أبي شيبة، عن سعيد بن المسيب في رواية: أنه كان لا يورث الأسير. وفي الأخرى: يرث. وعن الزهري روايتان كسعيد، وقال إبراهيم: لا يرث. ولم يختلف عن الحسن في توريثه.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 289 (31463).
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 10/ 308 (19202).
(3)
رواه عنه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 107 عن إسحاق بن راشد وغيره من أهل الجزيرة، عن عمر.
وقال في وصيته: إن أعطى عطية أو نحل نحلا أو أوصى بثلثه فهو جائز. وقال الزهري: لا يجوز للأسير في ماله إلا الثلث
(1)
. ونقل ابن بطال عن أكثر العلماء أنهم ذهبوا إلى أن الأسير إذا وجب له ميراث، أنه يوقف له ويستحقه، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي والجمهور.
وروي عن سعيد بن المسيب: أنه لم يورث الأسير في أيدي العدو، وقد أسلفنا عنه نحن خلافًا، وقول الجماعة أولى؛ لأن الأسير إذا كان مسلمًا فهو داخل تحت عموم قوله:"من ترك مالاً فلورثته" وهو من جملة المسلمين الذين تجري عليهم أحكام الإسلام وغير جائز إخراجه من جملة أحكامهم، إلا بحجة لا توجب له الميراث
(2)
.
(فرع)
(3)
: لو ثبت تنصره فهو محمول في مذهب مالك أنه تنصر طائعًا حتى يثبت الإكراه وتطلق عليه امرأته.
وقال يحيى بن سعيد: هو محمول على الإكراه حتى تثبُت طواعيته.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 289 - 290، 452.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 378.
(3)
في (ص 2): (فصل).
26 - باب لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الكَافِرَ وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمَ، وَإِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ المِيرَاثُ فَلَا مِيرَاثَ لَهُ
6764 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمَ» [انظر: 1588، 4283 - مسلم: 1351، 1614 - فتح: 12/ 50].
ذكر فيه حديث أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ وَلَا الكَافِرُ المُسْلِمَ".
هذا الحديث أخرجه البخاري عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان.
وكذلك رواه مالك، فقال عن ابن شهاب، عن عمر بن عثمان
(1)
.
قال ابن عبد البر: لم يتابع أحد من أصحاب ابن شهاب مالكًا على قوله: (عمر)، وكل من رواه عن ابن شهاب قال:(عمرو)؛ إلا مالكًا فإنه قد قال: (عمر).
وقد وافقه على ذلك يحيى القطان والشافعي وابن مهدي.
قال: ولم يختلف أهل النسب أنه كان لعثمان ابن يسمى عمر وآخر يسمى عمرًا، إلا أن هذا الحديث لعمرو لا لعمر عند جماعة أهل الحديث.
وممن قال في هذا الحديث عن ابن شهاب: (عمرو) .. فذكر
(1)
"الموطأ" ص 321 وفيه: عن ابن شهاب، عن علي بن حسين بن علي، عن عمر ابن عثمان به، ولم يذكر فيه:"ولا الكافر المسلم".
جماعة، ثم قال: وابن جريج
(1)
، قلت: وكذا أسلفناه من طريق البخاري عنه
(2)
: (عمرو) بالواو، كذا هو بخط الدمياطي لا كما غلط فيه بعض الشراح وادعى أنه رأى في الأصول:(عمر).
وقد سلف في المغازي، عن سليمان بن عبد الرحمن، عن سعدان ابن يحيى، عن محمد بن أبي حفصة، عن الزهري به، وأخرجه (مسلم من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري به
(3)
، وأخرجه أيضًا الأربعة
(4)
أبو داود من حديث سفيان)
(5)
أيضًا والترمذي كذلك، وقال: حسن صحيح، كذا رواه الترمذي، عن علي بن حُجر، عن هشيم بلفظ سفيان
(6)
، حمل حديث أحدهما على حديث الآخر، والمحفوظ عن علي بن حُجر بلفظ (الثاني)
(7)
عنه، وله طرق عن الزهري غير ذلك، وفي حديث ابن القاسم وحده: عن عمرو بن عثمان، وقال النسائي: والصواب من حديث مالك: عن عمرو بن عثمان، ولا نعلم أحدًا تابع مالكًا على:(عُمر)
(8)
، وعن مسعود بن جويرية الموصلي، عن هشيم، عن الزهري، عن علي بن حسين وأبان بن عثمان؛ كلاهما عن أسامة به. قال النسائي: وهذا خطأ
(9)
.
(1)
"الاستذكار" 15/ 489 - 490.
(2)
أي: ابن جريج، رواية الباب.
(3)
مسلم (1614).
(4)
أبو داود (2909)، الترمذي (2107)، النسائي في "الكبرى" 4/ 80 - 82 (6370 - 6382)، وابن ماجه (2729).
(5)
ساقط من الأصل، والمثبت من (ص 2).
(6)
الترمذي بعد الرواية رقم (2107).
(7)
في (ص 2): النسائي.
(8)
"السنن الكبرى" 4/ 81.
(9)
انظر: "السنن الكبرى" 4/ 82 (6381).
وعن علي بن حجر، عن هشيم بإسناد الترمذي، وهو الصواب من حديث هشيم، وهشيم لم يتابع على قوله:"لا يتوارث أهل ملتين" وعن أحمد بن حرب الموصلي، عن القاسم بن يزيد، عن سفيان -وهو الثوري- وعن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر كلاهما عن عبد الله بن عيسى، عن علي بن حسين، عن أسامة بن زيد به، ولم يذكر: عمرو ابن عثمان. وأخرجه ابن ماجه أيضًا من طريق سفيان بن عيينة به
(1)
.
وفي الباب أحاديث أُخر:
أحدُها: حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم النصراني، إلا أن يكون عبده أو أمته" أخرجه النسائي وصححه الحاكم وأعله ابن حزم بعنعنة أبي الزبير، عن جابر كعادته
(2)
.
وسيأتي من غير طريقه، وأعله ابن القطان بمحمد بن عمرو اليافعي الذي في سنده وقال: إنه مجهول الحال
(3)
.
قلت: هذا غريب! فقد روى عن ابن جريج وغيره، وعنه ابن وهب، وأخرج له مسلم في "صحيحه"، وذكره ابن حبان في "ثقاته"، وقال أبو حاتم وأبو زرعة: شيخ
(4)
، وقال الحاكم:(صحيح الحديث)
(5)
. قال ابن عدي: له مناكير
(6)
.
(1)
ابن ماجه (2729).
(2)
النسائي في "الكبرى" 4/ 83 (6389)، والحاكم في "المستدرك" 4/ 345، وأعله ابن حزم في "المحلى" 9/ 305.
(3)
"بيان الوهم والإيهام" 3/ 538 - 539.
(4)
"الثقات" 9/ 40، و"الجرح والتعديل" 8/ 32.
(5)
في (ص 2): صدوق الحديث صحيح.
(6)
"الكامل" 7/ 459.
وقال ابن يونس: روى عنه ابن وهب وحده بغرائب. وقال الدارقطني بعد أن أخرجه: المحفوظ وقفُهُ. قال: وفي حديث أبي غسان، عن شريك، عن أشعث -يعني: ابن طلق-، عن جابر رفعه "لا يرث أهل الكتاب ولا يورثوا، إلا أن يرث الرجل عبده أو أمته"
(1)
.
ثانيها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا ترث ملَّةٌ ملةً، ولا تجوز شهادة أهل ملة على ملة، إلا أمتي فإنه تجوز شهادتهم على من سواهم" أخرجه الدارقطني من حديث عمر بن راشد بن شجرة، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا (به لفظ ابن عياش، إلا أنه قال في حديثه عن أبي هريرة)
(2)
: أحسب، وشك، وعمر بن راشد ليس بالقوي
(3)
.
وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: من الناس من يرويه عن ابن راشد، عن يحيى، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكر شكًّا.
ثالثها: حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه الدارقطني من حديث الضحاك بن عثمان ومخرمة بن بكير، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يتوارث أهل ملتين شتى مختلفين"
(4)
.
قال ابن عبد البر: رواه جماعة من الثقات عن عمرو.
وقال هشيم، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
، وصرح البيهقي في
(1)
"سنن الدارقطني" 4/ 75. وفيه: أشعث، عن الحسن، عن جابر به.
(2)
ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص 2).
(3)
"سنن الدارقطني" 4/ 69.
(4)
"سنن الدارقطني" 4/ 75 - 76.
(5)
"الاستذكار" 15/ 494.
"معرفته" بجد عمرو فقال: عن جدي عبد الله بن عمرو، أنه عليه السلام قال يوم فتح مكة، فذكره
(1)
، قال: ورواية من روى في حديث الزهري: "لا يتوارث أهل ملتين" غير محفوظة، ورواية الحفاظ كما هو في الكتاب، وإنما يروى هذا في حديث عمرو بن شعيب، وقد رُوي في حديث عمرو اللفظان جمعيًا في حديث واحد، فمن ادعى كون قوله:"لا يتوارث أهل ملتين" هو الأصل، وما رويناه منقولًا على المعنى فليس هو بعارف بالأسانيد، وإنما يميل إلى الهوى، ورواة ما ذكرناه حفاظ أثبات
(2)
.
وأما رواية هشيم عن ابن شهاب، عن عمرو، عن أسامة فقد حكم الحفاظ بكونها غلطًا، وبأنه لم يسمعه من ابن شهاب.
فصل:
قال ابن حزم في حديث جابر رضي الله عنه بعد أن علله بالتدليس: ميراث السيد عبده النصراني أو المجوسي ليس هو بالميراث ولكن للسيد أخذه في حياته، فهو له بعد وفاته، والعبد لا يورث بالخبر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميراث المكاتب، فلم يجعل للجزء المملوك ميراثًا لا له ولا منه
(3)
.
وقد رويناه عن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان ويحيى بن يعمر وإبراهيم ومسروق توريث المسلم من الكافر دون عكسه، (أي: كما ينكح الكافرة)
(4)
، وهو قول إسحاق، وهو عن معاوية ثابت.
(1)
"معرفة السنن والآثار" 9/ 104.
(2)
"معرفة السنن والآثار" 9/ 145.
(3)
"المحلى" 9/ 304.
(4)
من (ص 2).
قلت: وعن معاذ باطل، كما قاله الجورقاني
(1)
، وقال أحمد بمقتضى حديث جابر رضي الله عنه: أنه إذا أعتق مسلم كافرًا ورثه.
وحكاه إمام الحرمين، عن علي وقال: هو غريب لا أصل له.
قلت: بل له أصل كما سلف.
قال ابن حزم: ولو صح لم يكن فيه إلا عبده أو أمته، ولا يسمى المعتق ولا المعتقة عبدًا ولا أمة
(2)
.
قال ابن عبد البر: وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: أهل الشرك نرثهم ولا يرثوننا
(3)
. ولم يصح، والصحيح أنه قال لرجل في عمته وماتت نصرانية: يرثها أهل دينها. وممن قال بإرث المسلم من الكافر ابن الحنفية- محمد بن علي- ومحمد بن علي بن الحسين وسعيد بن المسيب
(4)
، ورووا فيه حديثًا مسندًا ليس بالقوي، وذكر الطحاوي في "فرائضه": أن ابن مسعود كان يحجب بأهل الكفر ولا يورثهم.
قال أبو يوسف: لسنا نأخذ بهذا، إنما نأخذ بقول علي وزيد: من لم يرث لم يحجب، قال أبو جعفر: وحدثنا سليمان عن أبيه، عن أبي يوسف، عن الأعمش وابن أبي ليلى: أن ابن مسعود إنما كان يحجب بهؤلاء ثلاثة: الأم من الثلث، والزوج من النصف، والمرأة من الربع، لا يحجب بهم غير هؤلاء.
(1)
"المحلى" 9/ 305.
(2)
"الأباطيل والمناكير" للجورقاني 2/ 156 (549).
(3)
"التمهيد" 9/ 163.
(4)
"الاستذكار" 15/ 491.
ومن الغرائب أن القاضي عبد الوهاب المالكي نقل عن الشافعي كمقالة أحمد، فقال: لو أعتق مسلم عبدًا كافرًا ومات ورثه عند الشافعي
(1)
، خلافًا لمالك.
رأيته في كتاب "الإشراف" له في الخلاف بيننا وبين مالك، لكن رأيت في "الأم" ما نصه: أخبرنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي حكيم: أن عمر بن عبد العزيز أعتق عبدًا له نصرانيًا، فتوفي العبد بعد ما عتق، قال إسماعيل: فأمرني عمر بن عبد العزيز أن آخذ ماله فأجعله في بيت مال المسلمين، ثم قال الشافعي: وبهذا كله نأخذ
(2)
.
وفي الرافعي في أوائل باب الولاء مثله، حيث قال: لو أعتق المسلم عبدًا كافرًا أو الكافر مسلمًا ثبت الولاء
(3)
، وإن لم يتوارثا، كما تثبت علقة النكاح والنسب بين الكافر والمسلم وإن لم يتوارثا. وقال القاضي حسين في الباب المذكور: لو أعتق الكافر عبدًا مسلمًا وله ابن مسلم، فمات العبد في حياة معتقه لا يرثه ابن معتقه المسلم، بل يكون لبيت المال، وما ذكره خلاف ما نص عليه إمامنا، فإن ابن المنذر نقل عنه: أنه يرثه أقرب الناس من عصبة مولاه، ويكون وجود سيده كموته، وصرح أيضًا -أعني: القاضي حسينًا- بأن ابن المعتق وأولاده والعبد المعتق إذا كانوا كفارًا، فالتحق المعتِق بدار الحرب واسترق، ثم مات العبد المعتق آل ميراثه لبيت المال، قال: وهكذا التزويج.
(1)
"المعونة" 2/ 375.
(2)
"الأم" 4/ 54.
(3)
"العزيز شرح الوجيز" 13/ 395.
نص الشافعي على أن المرأة إذا أعتقت أمةً زوَّجَها أبوها بعصوبة الولاء، ونص فيما لو أعتقها رجل ومات وخلف ابنا صغيرًا وللأب جد، أنه ليس للجد تزويجها فما الفرق؟ وفرق القفال بأن في الأول أُيس من ثبوت الولاء لها، فجعلت كالعدم فزوَّج أبوها بخلاف الصغير، واستدل أصحابنا على أحمد في تفرقته بين الإرث بالنسب والولاء، بأن الولاء فرع النسب والكفر مانع من الإرث بالنسب، فأولى أن يمنع في الولاء، وفرقوا بين النكاح والإرث بأن التوارث مبني على الموالاة والمناصرة، وهما منتفيان بين المسلم والكافر، وأما النكاح فمن نوع الاستخدام وقضاء الأرب؛ ولأن الإرث لو كان ملحقًا بالنكاح لورث الذمي الحربي، كما لا يجوز أن يتزوج المسلم الحربية، وحيث لم يجز دل على افتراقهما.
فصل:
ذهب جماعة من أئمة الفتوى بالأمصار إلى حديث أسامة، وقالوا: لا يرث المسلم الكافر ولا عكسه، روي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت
(1)
وابن عباس وجمهور التابعين، وفي ذلك خلاف عن بعض السلف، يروى عن معاوية ومعاذ كما سلف، وذهب إليه سعيد بن المسيب وغيره.
واحتجوا لذلك فقالوا: نرث الكفار ولا يرثوننا، كما ننكح نساءهم ولا ينكحوا نسائنا. ويرده حديث الباب، والسنة حجة على من خالفها.
(1)
رواها ابن أبي شيبة عن عمر 6/ 287 (31437)، وعن علي 6/ 286 - 287 (31433)، وعن ابن مسعود 6/ 287 (31436) بلفظ: وأما عبد الله بن مسعود فقضى بأنهم يحجبون ولا يورثون.
وعن زيد بن ثابت 6/ 287 (31436).
قال ابن القصار: والتوارث متعلق بالولاية، ولا موالاة بينهما، قال تعالى:{لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] فدل أنهم لا يكونون أولياء للكفار، فوجب أن لا يرثوهم كما لا يرثهم الكفار، وأيضًا فما بين الكافر والمسلم أبعد مما بين الذمي والحربي، فإذا ثبت أن الذمي لا يرث الحربي مع اتفاقهم في الملة؛ فلأن لا يرث المسلم الكافر أولى؛ لاختلافهما في الملة، وما ذكروه من تزويج المسلم الكافرة، فإن باب الميراث غير مبني على التزويج. ألا ترى أن الذمي يتزوج الحربية وهو لا يرثها، والحر المسلم يتزوج الأمة المسلمة ولا يرثها مع اتفاق دينهما، وقولهم ينقلب عليهم؛ لأن الكافر يقول: أنا أرث المسلم؛ لأنه يتزوج منا وإن لم نتزوج منه، فكما يرثنا نرثه.
فصل:
وقول البخاري: (وإذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له)، هو قول (جماعة العلماء)
(1)
الفقهاء، وقالت طائفة: إذا أسلم قبل القسمة فله نصيبه، روي عن عمر
(2)
وعثمان
(3)
من طريق لا يصح، وبه قال الحسن
(4)
وعكرمة، وحكاه ابن هبيرة رواية عن أحمد
(5)
، وحكاه ابن التين، عن جابر بن زيد فيه وفي المعتَق قبلها، قال: وروي عن الحسن أيضًا: الإرث في الإسلام دون العتق، وإن أسلم وقد قسم بعض المال يورث ما لم يقسم خاصة.
(1)
في (ص 2): جمهور.
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(12635).
(3)
"سنن سعيد بن منصور" 1/ 75.
(4)
"سنن سعيد بن منصور" 1/ 76.
(5)
"الإفصاح" 7/ 249.
وقول الجماعة أصح؛ لأنه إنما يستحقه من حين الموت؛ لقوله عليه السلام: "لا يرث الكافر المسلم" فإذا انتقل ملك المسلم عن ماله إلى من هو على دينه ثبت ملكه لمن ورثه من المسلمين، ولا يجوز إزالة ملكه إلا بحجة.
فصل:
واختلفوا في معنى هذا الحديث في ميراث المرتد على قولين: أحدهما: أن ماله -إذا قتل عليها- فيء في بيت مال المسلمين، وهو قول زيد بن ثابت
(1)
، وبه قال ابن أبي ليلى
(2)
وربيعة
(3)
ومالك
(4)
والشافعي
(5)
وأبو ثور
(6)
وأحمد
(7)
وجماعة فقهاء الحجاز
(8)
، كما ذكره أبو عمر
(9)
، وحجتهم ظاهر القرآن في قطع ولاية المؤمنين من الكفار، وعموم حديث أسامة، ولم يخص مرتدًّا من غيره، وحديث عدي بن زيد عن ثابت بن أبي أنيسة، عن يزيد بن البراء، عن أبيه، قال: لقيني عمي فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أضربُ عنقه، وآخذ ماله. وفي حديث خالد بن أبي كريمة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه: أنه عليه السلام بعث أباه -جد
(1)
"معرفة السنن والآثار" 9/ 145.
(2)
"الإشراف" 3/ 163 "بلفظ لا يرث المرتد ورثته من المسلمين ولا يرثونه لأنه كافر".
(3)
"الإشراف" 3/ 163.
(4)
"بداية المجتهد" 4/ 1580.
(5)
"الأم" 4/ 13، "مختصر كتاب الأم المزني"198.
(6)
"الإشراف" 3/ 163.
(7)
"الكافي" 4/ 117 رواية لأحمد.
(8)
"بداية المجتهد" 4/ 1580.
(9)
"الاستذكار" 15/ 492 - 493.
معاوية- إلى رجل عرس بامرأة أبيه فأمره فضرب عنقه وخمس ماله. وضرب الرقبة وتخميس المال لا يكون إلا على المرتد
(1)
.
قال الشافعي: وقد روي أن معاوية كنب إلى زيد بن ثابت وابن عباس يسألهما عن ميراث المرتد فقالا: لبيت المال. يعنيان أنه فيء
(2)
.
وقال أبو حنيفة
(3)
والثوري وجمهور الكوفيين وكثير من البصريين
(4)
والأوزاعي وإسحاق: يرثه ورثته المسلمون، (وهو قول علي
(5)
وابن مسعود
(6)
وسعيد بن المسيب
(7)
والحسن
(8)
والشعبي والحكم)
(9)
(10)
.
قال يحيى بن آدم: وهو قول جماعتنا، وتأولوا الحديث بالكافر، الذي يقر على دينه، فأما المرتد فلا دين له يقر عليه، وقالوا: قرابة المرتد مسلمون، وقد جمعوا القرابة والإِسلام فهم أولى. وضعف أحمد بن حنبل حديث علي
(11)
، كما قاله ابن بطال.
(1)
و"سنن النسائي الكبرى" 4/ 296 (7224)"سنن الدارقطني" 3/ 200 (350) ولم
يرد أنه صلى الله عليه وسلم خمس ماله، "سنن البيهقي الكبرى" 8/ 208 (16894)،.
(2)
"سنن البيهقي الكبرى" 6/ 254 (12459)، 8/ 208 (16894).
(3)
"المبسوط" 30/ 37.
(4)
"الاستذكار" 15/ 492 - 493.
(5)
"سنن الدارمي" 4/ 1985 (3117)،4/ 1986 (3118)، "مصنف ابن أبي شيبة"(31376)، (32755) و"سنن البيهقي الكبرى" 6/ 245 (1246).
(6)
"مصنف ابن أبي شيبة"(31374) بلفظ: إذا ارتد المرتد ورثه ولده.
(7)
"مصنف ابن أبي شيبة"(31380) بلفظ: نرثهم ولا يرثوننا، (32759) بنفس اللفظ.
(8)
"مصنف ابن أبي شيبة"(31378)، (32760).
(9)
من (ص 2).
(10)
"مصنف ابن أبي شيبة"(31382) بلفظ: يقسم ميراثه بين امرأته وبين ورثته من المسلمين (32761) بنفس اللفظ.
(11)
"معرفة السنن والآثار" 9/ 144.
وقال أصحاب مالك والشافعي: لو صح عن علي، فإنما جعل ميراث المرتد لقرابته المسلمين لما رأى فيهم من الحاجة، وكانوا ممن يستحق ذلك في جماعة المسلمين من بيت مالهم، ولم يمكن عموم جماعة المسلمين بميراثه، فجعل لورثته على هذا الوجه، لا على أنه (ورثهم)
(1)
منه على طريق الميراث
(2)
.
قال ابن عبد البر: ولا يرث المرتد أحدًا من مسلم ولا كافر، وروى الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني قال: أُتي عليٌّ بالمستورد العجلي، وقد ارتد فعرض عليه الإسلام (فأبى)
(3)
، فضرب عنقه وجعل ميراثه لورثته من المسلمين
(4)
، وهو قول ابن مسعود ورواه -أعني: أثر علي- ابن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن سليمان، ورواه يزيد بن هارون أيضًا عن الحجاج، عن الحكم، عن علي، قال البيهقي: ورواه عن علي أيضًا ابن عبيد بن الأبرص وعبد الملك بن (عمير)
(5)
والشعبي.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن مهدي، عن جرير قال: كتب عمر بن عبد العزيز في ميراث المرتد أنه لورثته من المسلمين
(6)
، ورواه أيضًا عن الحسن والحكم والشعبي، وقد سلف.
(1)
في الأصل: ورثه، والمثبت من ابن بطال.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 380.
(3)
من هامش الأصل، وكتب عليها لعله (سقط). اهـ[قلت: وهذِه الكلمة ثابتة في "الاستذكار"].
(4)
"الاستذكار" 15/ 493.
(5)
في (ص 2): عمار.
(6)
"مصنف ابن أبي شيبة"(31377).
وروى يزيد بن هارون، عن إسماعيل المكي، عن الحسن وحماد وإبراهيم في: المرتد يلحق بالمشركين مدة فينقل ما كان معه من المال، فهو بمنزلة دمه، وما كان في أهله فلورثته.
وفي "الوصايا" لعبد الرزاق بن همام، عن (همام)
(1)
، عن محمد ابن سيرين، عن عبيدة قال: ارتد علقمة بن علاثة، فبعث الصديق إلى امرأته وولده، فقالت امرأته: ما يلزمني إن كان علقمة ارتد فإني لم أكفر؟
فصل:
قال ابن عبد البر: واختلفوا في ميراث أهل الملل بعضهم من بعض، فذهب مالك إلى أن الكفر ملل مختلفة، فلا يرث عنده يهودي من نصراني، ولا يرثه النصراني، وكذلك المجوسي لا يرث نصرانيًّا ولا يهوديًّا ولا وثنيًّا، وهو قول الزهري (والحسن)
(2)
وربيعة وشريك القاضي وأحمد وإسحاق
(3)
، وحكاه القاضي قولًا للشافعي، وحكاه غيره وجهًا، واختاره الأستاذ أبو منصور، وحجتهم الحديث السالف:"لا يرث أهل ملتين شتى مختلفتين".
وقال أبو حنيفة
(4)
والشافعي -أي: في أظهر قوليه- وأصحابهما وأبو ثور وداود والثوري وحماد
(5)
: الكفار كلهم يتوارثون؛ الكافر يرث الكافر على أي كفرٍ كان؛ لأن الكفر عندهم كله ملة واحدة،
(1)
في (ص 2): هشام.
(2)
من (ص 2).
(3)
"الاستذكار" 15/ 494 ولم أقف على قول الزهري فيه.
(4)
"المحيط البرهاني"(23/ 395).
(5)
"البيان" 9/ 17.
وجميع الملل في البطلان كالملة الواحدة، قال تعالى:{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6] ولم يقل: أديانكم، وقال تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] فأشعر بأن الكفر ملة واحدة، وقال تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ولم يقل: مللهم، فجعله ملة واحدة.
قالوا: ويوضح ذلك الحديث السالف: "لا يتوارث أهل ملتين" وحديث الباب، فجعل (الكفر كله)
(1)
ملة والإسلام ملة، وكان شريح القاضي وابن أبي ليلى وشريك بن عبد الله النخعي يجعلون الكفر ثلاث ملل: اليهود والسامرة ملة، والنصارى والصابئين ملة، والمجوس ومن لا دين له ملة؛ على اختلاف عن شريك وابن أبي ليلى في ذلك؛ لأنهما قد روي عنهما مثل قول مالك في ذلك
(2)
.
فرع: المشهور عندنا: أنه لا توارث بين حربي وذمي؛ لانقطاع الموالاة بينهما.
(1)
في الأصل (ذلك) والمثبت من (ص 2).
(2)
"الاستذكار" 15/ 494 - 495.
27 - باب مِيرَاثِ العَبْدِ النَّصْرَانِيِّ وَمُكَاتَبِ النَّصْرَانِيِّ
كذا في الأصول، بزيادة: من انتفى من ولده. وأسقطها ابن بطال
(1)
وابن التين، وفي بعض النسخ: باب: إثم من انتفى من ولده
(2)
.
ولم يدخل تحت ذلك حديثًا، وكأنه أحال في (إثم من انتفى من ولده) على ما سلف، ومذهب العلماء -فيما حكاه ابن بطال- أن العبد النصراني إذا مات فماله للسيد؛ لأن ملك العبد غير صحيح ولا مستقر؛ فالمال إنما يأخذه السيد؛ لأنه ماله وملكه، لا أنه يستحقه من طريق الميراث، وإنما يستحق بطريق الميراث ما كان ملكًا لمن يورث عنه.
قال: وأما المكاتب النصراني فإن مات قبل أداء كتابته، نُظِرَ فإن كان في ماله وفاء لباقي كتابته أخذ ذلك مولاه الذي كاتبه، وإن فضلت من ماله فضلة كانت لمن كوتب معه إن كانوا على دينه، فإن لم يكن معه أحد في الكتابة لم يرث ذلك السيد وكان لبيت المال.
وقال الطبري: اتفق فقهاء الحجاز والعراق والشام وغيرهم: أن من أعتق عبدًا نصرانيًّا، فمات العبد وله مال أن ميراثه لبيت المال. وقال ابن سيرين: لو كان عبدًا ما ورثه فكيف هذا
(3)
؟
وقال ابن التين: المكاتب النصراني يرثه سيده؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم، وهذا مذهب عمر وابن زيد وعائشة، وبه يقول أهل المدينة.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 381.
(2)
قال زكريا الأنصاري في "المنحة" 9/ 638: نسخ البخاري هنا مختلفة في ذكر الثلاثة وبعضها، وبالجملة لم يذكر لشيء منها حديثًا. اهـ.
وقد بسط الحافظ الكلام على هذِه الفروق في "الفتح" 12/ 52 فانظره.
(3)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 381.
وقال ابن عباس: إذا كوتب عتق، أدى أو لم يؤد، وقال ابن مسعود: إذا أدى نصف كتابته كان حرًّا، وهو غريم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: للسيد (نفسه)
(1)
كتابته، والفضل بعد ذلك بين ورثته. وإن لم يكن فيهم من يستكمل المال كان ما فضل بعدُ لسيده.
فصل:
والنصراني يعتقه مسلم فيموت ويخلف مالاً ولا ورثة له، فميراثه للمسلمين.
وقال ابن سيرين: لو كان عبدًا ما ورثه فكيف هذا؟ وهذا منه خلاف للجماعة، في أنه يرث بالرق، فإن كان له ورثة، فاختلف فيمن يرثه على ثمانية أقوال، فقال مالك -وهو اختيار ابن القاسم والقاضي في "معونته"-: يرثه جميع ورثته، وقيل: يرثه الولد خاصة، وقيل: والإخوة والعصبة، وقال مرة: ميراثه للمسلمين، وعنه أيضًا: يرثه ولده ووالده خاصة. وقال ابن القاسم: يرثه ولده ووالده وإخوته خاصة.
وقال سحنون: يرثه من ذوي رحمه من أعتقه مسلم، وقال المغيرة في "النوادر": يوقف ماله ولا يكون فيئًا، فمن ادعاه من النصارى كان له، ولا يكلف بينة، وقال الليث وعمر بن عبد العزيز: ميراثه لسيده إذا لم يكن له ورثة. وقال ابن التين: وبه قال الشافعي.
(1)
من (ص 2).
28 - باب مَنِ ادَّعَى أَخًا أَوِ ابْنَ أَخٍ
6765 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتِ: اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلَامٍ، فَقَالَ سَعْدٌ، هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ، انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ. وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللهِ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ:«هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ» . قَالَتْ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ. [انظر: 2053 - مسلم: 1457 - فتح: 12/ 52].
وفي بعض النسخ زيادة باب: إثم من انتفى من ولده، ومن ادعى .. إلى آخره.
ذكر فيه حديث عبد بن زمعة السالف
(1)
، وقد سلف أنه لا يجوز استلحاق غير الأب.
واختلف العلماء إذا مات رجل وخلف ابنا واحداً لا وارث له غيره فأقر بأخ؛ فقال ابن القصار؛ عند مالك والكوفيين لا يثبت نسبه، وهو المشهور عن أبي حنيفة، وقال الشافعي: يثبت، واحتج بأنه قائم مقام الميت، فصار إقراره كإقرار الميت نفسه في حياته.
ألا ترى أنه عليه السلام ألحق الولد بزمعة بدعوى عبد وإقراره وحده، واحتج الأولون بأن الميت يعترف على نفسه، والوارث يعترف على غيره، وحكم إقراره على نفسه آكد من غيره، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر. وإقراره بنسب في حق غيره (ليس هو بأكثر من
(1)
سلف برقم (6749) كتاب: الفرائض، باب: الولد للفراش، حرة كانت أو أمة.
شهادته له، ولو شهد واحد بنسب ثبت على غيره)
(1)
لم تقبل شهادته، فكذا إقراره على غيره بالنسب أولى ألا يثبت، ولا يلزم على هذا إذا كانت الورثة جماعة، فأقروا به، أو أقر اثنان منهم كانوا عدلين؛ لأن النسب يثبت بشهادة اثنين، و (بالجملة)
(2)
في حق الغير الذي هو أبوهم.
ويقال لمن خالف حكم الشارع في قصة ابن زمعة: لم يكن من أجل الدعوى، وإنما كان من أجل علمه بالفراش، كما حد الشارع العسيف بقول أبيه؛ لأن ذلك دليل على أن ابنه كان مقرًّا قبل أدعاء أبيه عليه، ولولا ذلك ما حُدَّ بمجرد دعوى أبيه عليه. ومن الغريب (أن البويطي وافق المالكية وقال: لا يجوز إقرار الأخ بأخيه عندي- كان من لم يدفعه، أو لم يكن ثلاثة- إنما يجوز الإقرار على نفسه، وهذا يقر على غيره. قال: وإنما ألحق النبي صلى الله عليه وسلم ابن زمعة -نفى البخاري الحديث المذكور- لمعرفته بفراشه)
(3)
.
فصل:
قوله: "وللعاهر الحجر" معناه: الخيبة، كقول العرب: بفيك الحجر إذا طلب ما لا يصح له، قاله (أبو عبيد)
(4)
وغيره، وأبعد من قال: المراد بها الرجم.
(1)
من (ص 2).
(2)
كذا بالأصل، وفي (ص 2): بالجماعة.
(3)
من (ص 2). وفيها عبارات ليست سائغة مع السياق.
(4)
في (ص 2): عبيدة.
29 - باب مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ
6766 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -هُوَ: ابْنُ عَبْدِ اللهِ- حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهْوَ
يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ». [انظر: 4326 - مسلم: 63 - فتح: 12/ 54].
6767 -
فَذَكَرْتُهُ لأَبِي بَكْرَةَ فَقَالَ: وَأَنَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 4327 - مسلم: 63 - فتح: 12/ 54].
6768 -
حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الفَرَجِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ» [مسلم: 62 - فتح: 12/ 54].
ذكر فيه حديث سعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "مَنِ ادَعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهْوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ" .. فَذَكَرْتُهُ لأَبِي بَكْرَةَ فَقَالَ: وَأَنَا سمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ".
وقد سلفا: الأول في المغازي
(1)
، والثاني في أخبار الأنبياء
(2)
.
فإن قلت: فما معنى هذا وقد انتسب بعض الأخيار إلى غير أبيه كالمقداد بن الأسود، وإنما هو ابن عمرو، ومنهم من يدعى إلى غير
(1)
برقم (4326 - 4327).
(2)
بل ما سلف في أخبار الأنبياء، ولم يذكره البخاري في غير هذا الموضع، والله أعلم، انظر:"تحفة الأشراف" 10/ 254 (14154).
مولاه الذي أعتقه كسالم مولى أبي حذيفة، وإنما هو مولى امرأة من الأنصار.
قيل: لا يدخل هذا في معنى ما ذكر، وذلك أن الجاهلية كانوا لا يستنكرون أن ينسب الرجل منهم إلى غير أبيه الذي خرج من صلبه فينسب إليه، ولا أن يتولى من أعتقه غيره فينسب ولاؤه إليه، ولم يزل ذلك أيضًا في أول الإسلام حتى نزلت {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] ونزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، فنسب كل واحد منهم إلى أبيه ومن لم يعرف له أب ولا نسب، عرف مولاه الذي أعتقه وألحق بولائه منه، غير أنه غلب على بعضهم النسب الذي كان يدعى به قبل الإسلام، فكان المعروف لأحدهم إذا أراد تعريفه كتب أشهر نسبه عرفه به من غير انتحال المعروف به، ولا تحول به عن نسبه وأبيه الذي هو أبوه حقيقة رغبة عنه، فلم تلحقهم بذلك نقيصة، وإنما لعن الشارع المتبرئ من أبيه والمدعي غير نسبه، فمن فعل ذلك فقد ركب من الإثم عظيمًا، وتحمل من الوزر جسيمًا، وكذلك المنتمي إلي غير مواليه.
فإن قلت: فهل يقال للراغب (عن)
(1)
الانتماء إلى غير أبيه ومواليه كافر بالله، كما روي عن الصديق أنه قال: كفر بالله من ادعى نسبًا لا يعرف
(2)
، وروي عن عمر أنه قال: كان مما يقرأ في القرآن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم
(3)
.
(1)
هكذا في الأصل، والصواب: في.
(2)
رواه الدارمي 4/ 1890.
(3)
رواه أحمد 1/ 55.
قيل: ليس معناه الكفر الذي يستحق عليه الخلود في النار، وإنما هو لحق أبيه ومواليه، كقوله عليه السلام في النساء "يكفرن العشير"
(1)
والكفر في لغة العرب: التغطية للشيء والستر له كقوله:
في ليلة كفر النجوم غمامها
فكأنه تغطية منه على حق أبيه فيمن جعله له والدًا، لا أن من فعل ذلك كافر بالله حلال الدم.
(1)
سلف برقم (29) وفي غير موضع.
30 - بابٌ: إِذَا ادَّعَتِ المَرْأَةُ ابْنًا
6769 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عليه السلام فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عليهما السلام فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللهُ. هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ: المُدْيَةَ.
ذكر في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا .. " الحديث بطوله، وفي آخره: "فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرى" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ: المُدْيَةَ
الشرح:
أجمع العلماء أن الأم لا تستلحق بها أحدًا؛ لأنها لو استلحقت ألحقت بالزوج ما يكره، والله تعالى يقول {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وإنما يمكن أن تلحق الولد بالزوج إذا قامت البينة أنها ولدته، وهي زوجته في عصمته فإن الولد للفراش.
وفائدة هذا الحديث:
أن المرأة إذا قالت: هذا ابني ولم ينازعها فيه أحد ولم يعرف له أب، فإنه يكون ولدها ترثه ويرثها، ويرثه أخوته لأمه؛ لأن هذِه المرأة التي قضى لها بالولد في هذا الحديث، إنما حصل لها ابنا مع تسليم المرأة المنازعة لها فيه.
وفيه من الفقه: أن من أتى من المتنازعين بما يشتبه فالقول قوله؛ لأن سليمان عليه السلام جعل شفقتها عليه شبهة مع دعواها.
وفيه: أنه جائز للعالم مخالفة غيره من العلماء، وإن كانوا أسن منه وأفضل إذا رأى الحق في خلاف قولهم؛ ويشهد لهذا قوله تعالى {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] فإنه تعالى أثنى على سليمان بعلمه، وعذر داود باجتهاده ولم يخله من العلم، وسيأتي في كتاب الاعتصام إيضاح اختلاف العلماء، في أن المصيب واحد أو أن كل مجتهد مصيب.
فرع: قال ابن القاسم في المرأة تدعي اللقيط أنه ابنها: لا يقبل قولها وإن أتت بما يشبه، وخالفه أشهب فقال في كتاب محمد: يقبل قولها
(1)
ولو ادعته من زنا، حتى يعلم أنها كاذبة فيه، قال محمد: إن ادعته من زنا قبل قولها وحدَّت، وإن ادعته من زوج لم يقبل قولها فيلحقه به.
فصل:
قول أبي هريرة: (والله .. ) إلى آخره، لا شك في تأخر إسلامه، وسورة يوسف مكية، ولعله لم يكن يحفظها يومئذٍ وفيها ذكرها
(2)
، وهي أيضًا معروفة عند أهل اللغة تذكر وتؤنث، والغالب عليها التذكير.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 9/ 405.
(2)
أي: السكين.
31 - باب القَائِفِ
6770 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ:«أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» . [انظر: 3555 - مسلم: 1459 - فتح: 12/ 56].
6771 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَهْوَ مَسْرُورٌ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ مُجَزِّزًا المُدْلِجِيَّ دَخَلَ فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ، قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» . [انظر: 3555 - مسلم: 1459 - فتح: 12/ 56].
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيَّ مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ:"أَلمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ هذِه الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ".
وعنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَهْوَ مَسْرُورٌ فَقَالَ: "أَيْ عَائِشَةُ، أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا المُدْلِجِيَّ دَخَلَ فَرَأى أُسَامَةَ وَزَيْدًا عَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ، قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هذِه الأقدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ".
الشرح:
فيه إثبات الحكم بالقافة، وممن قال به أنس بن مالك؛ وهو أصح الروايتين عن عمر، وبه قال عطاء، وإليه ذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وأبو ثور.
وخالف الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والكوفيون، فقالوا: الحكم بها باطل؛ لأنه تخرص (وحدس)
(1)
، ولا يجوز ذلك في الشريعة
(2)
.
قالوا: وليس في حديث الباب حجة في إثبات الحكم بها؛ لأن أسامة قد كان ثبت نسبه قبل، فلم يحتج الشارع في ذلك إلى قول أحد، ولولا ذلك لما كان دعاء أسامة فيما تقدم إلى أبيه زيد، وإنما تعجب من إصابة مجزز كما يتعجب من ظن الرجل الذي يصيب بظنه حقيقة الشيء، ولا يجب الحكم بذلك وترك الإنكار عليه؛ لأنه لم يتعاط بقوله إثبات ما لم يكن ثابتًا فيما تقدم، هذا وجه الحديث كما زعمه الطحاوي
(3)
؛ ولأن عائشة قالت: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء، فمنه أن يجتمع الرجال ذوو العدد على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا فيطؤها كل من دخل عليها، فإذا حملت ووضعت جمع لها القافة، فأيهم ألحقوه به صار أباه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم هدم نكاح الجاهلية وأقر نكاح الإسلام
(4)
.
قال: وقد روي عن عمر من وجوه صحاح ما يدل على ما ذكرنا، وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال الأولون: لو كان قول مجزز على جهة الظن والحدس، وعلى غير سبيل الحق والقطع بالصحة، لأنكر ذلك الشارع عليه، ولقال له: ما يدريك؟ ولم يسر بذلك؛ لأنه
(1)
من (ص 2).
(2)
انظر: "الأم" 6/ 263، و"المبسوط" 17/ 64، و"النوادر والزيادات" 13/ 211، و"المغني" 8/ 371.
(3)
"شرح معاني الآثار" 4/ 160 - 161.
(4)
سلف برقم (5127).
ليس من صفته أن يسر بأمر باطل عنده لا يسوغ في شريعته، وكان أسامة أسود وزيد أبيض، فكان المشركون يطعنون في نسبه، وكان يشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بذلك لمكانهما منه، وقد كانت تُعرف من صحة القافة في بني مدلج وبني أسد ما قد شهر عنهما، ثم وردت السنة بتصحيح ذلك فصار أصلاً، والشيء إنما يصير شرعًا إما بالقول أو بالفعل أو بالإقرار، فلو كان إثبات النسب من جهته باطلاً لم يجز أن يقر عليه مجززًا، بل كان ينكره عليه، ويقول له: هذا باطل في
شريعتي، فلما لم ينكره وسر به كان سنة.
إذا تقرر ذلك: فمذهب مالك في المشهور عنه أن الحكم بالقافة ثابت في أولاد الإماء دون الحرائر
(1)
، كذا في كتاب ابن بطال
(2)
، وقال ابن التين: لم يختلف مذهبه فيه، واختلف في الحرائر. وفي "المدونة"
(3)
: لا يحكم بها في ذلك.
وروى ابن وهب عنه: أن الحكم بها في ولد الزوجة وولد الأمه، وهو قول الشافعي.
قال ابن القصار: وصورة الولد الذي يدعيه الرجلان من الأمة: هو أن يطأ إنسان أمته ثم يبيعها من آخر فيطؤها الثاني قبل الاستبراء من الأول فتأتي بولد لأكثر من ستة أشهر من وطء الثاني قبل الاستبراء من الأول، فإن حكم القافة هنا واجب، فإن أتت به لأقل [من ستة أشهر]
(4)
من وطء الثاني فالولد للأول.
(1)
"النوادر والزيادات" 13/ 211.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 387.
(3)
"المدونة" 3/ 61.
(4)
ليست في الأصل، وأثبتناه من "شرح ابن بطال".
ووجه قول مالك: (أن القافة)
(1)
في ولد الإماء؛ لأنه قد يصح ملكُ جماعة رجال للأمة في وقت واحد، ووطؤهم لها وإن كان وطء جميعهم غير مباح، وإذا كان ذلك فقد تساووا كلهم، فليس أحد أولى بالولد من صاحبه إذا تنازعوه؛ لاستوائهم في شبهة الفراش بالملك، وأما الحرة فإن الواطئ الثاني لا يساوي الأول في الحرمة والقوة، ولا يطأ وطءًا صحيحًا من قبل أنه إما أن يطأ زوجة زيد، مثل أن يتزوجها وهو لا يعلم أن لها زوجًا، فقد فرط؛ لأنه كان يمكنه أن يتعرف ذلك، ولا يقدم على وطء زوجة وهي فراش لغيره، أو يتزوجها في عدتها فهو في التقصير كذلك، أو يجد امرأة على فراشه ويطؤها وهو لا يعلم فالولد لاحق بصاحب الفراش الصحيح لقوته.
ووجه رواية ابن وهب: أن القافة تكون في ولد الزوجات؛ لاجتماع الواطئين في شبهة النكاح والملك؛ لأن الولد يلحق بالنكاح الصحيح وبشبهته، وبالملك الصحيح وشبهته؛ لأن كل واحد منهما لو انفرد بالوطء للحقه النسب، فكذلك إذا اشتركا فيه وجب أن يستويا في الدعوى، فوجب أن يحكم بالولد لأقربهما شبها به؛ لقوة الشبه؛ لأن شبه الولد ممن هو منه من أدل أدلة الله تعالى فوجبت القافة.
فرع:
روى أشهب وابن نافع عن مالك: أنه لا يؤخذ بأخذ قائفين، وهو قول الشافعي. وقال ابن القاسم: إن الواحد يجزئ
(2)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
انظر: "الأم" 6/ 263، و"النوادر والزيادات" 13/ 211، و"شرح ابن بطال" 8/ 387 - 388.
فرع:
فإن ألحقته بهما ترك حتى يكبر فيوالي من شاء، وقيل: يكون ابنا لهما فإن قالوا ليس هو لواحد فيكون ابنا لهما جميعًا، وقيل: يرجع إلى قافة أخرى، وعندنا: يترك إلى أن يبلغ.
فرع:
إذا كان أحد الواطئين عبدًا فاختلف في ذلك في خمس مسائل:
إحداها: إذا ألحقته القافة بالعبد، هل ذلك كالجناية: جبر سيد العبد، أو حكم الدين فيباع ويصيب شريكه ما يملكه العبد.
(ثانيها)
(1)
: إذا قالت القافة: (اشتركا)
(2)
فيه، هل يستتم الآن نصيب العبد من الأمة والولد على الحر أم لا.
وإذا قلنا لا يستتم فبلغ ووالى العبدَ هل يكون كله عبدًا أو يكون نصفه حرًا ونصفه عبدًا؟
وإذا قلنا: لا يستتم نصيب الأمة هل يعتق نصيب الحر الآن أو يبقى موقوفًا رجاء أن يشتري النصف الآخر؟ وإذا اشترى النصف هل تكون أم ولد بذلك الوطء حتى يطأها مرة أخرى؟
(فصل)
(3)
:
مجزز بضم الميم وفتح الجيم، قال الزبير بن بكار: قيل له ذلك؛ لأنه كان إذا أخذ أسيرًا حلق لحيته أو جزها.
(1)
في الأصل: (فرع).
(2)
غير مقروءة بالأصل، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3)
في (ص 2): (فرع).
فصل:
أسارير وجهه: خطوط بين الحاجبين وقصاص الشعر. قال النحاس: واحدها سر. وفي "الصحاح": السرر: واحد أسرار الكف والجبهة، وهي خطوطها، وجمع الجمع: أسارير
(1)
، وروي عن عائشة أنها قالت: دخل عليَّ رسول الله تبرق أكاليل وجهه. جمع إكليل: وهي ناحية الجبهة وما يتصل بها من الجبين، وذلك أن الإكليل إنما يوضع هناك، وكل ما أحاط بالشيء وتكلله من جوانبه فهو إكليل، عن الخطابي.
فصل:
قوله: (نظر آنفًا): أي الساعة، من قولك: استأنفت الشيء: أي ابتدأته، ومنه قوله:{مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، أي: في أول وقت يقرب منا.
آخر كتاب الفرائض بحمد الله ومنه
(1)
"الصحاح" 2/ 683.