الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
86 - كِتَابُ الحُدُودِ
هي: جمع حد، وأصله المنع، ومنه سمي البواب حدادًا.
1 - باب ما يحذر من الحدود
وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الإِيمَانِ.
6772 -
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ وَهْوَ مُؤْمِنٌ»
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، إِلاَّ النُّهْبَةَ. [انظر: 2475 - مسلم: 57 - فتح 12/ 58].
وسيأتي في آخر الباب
(1)
من عند الطبري وغيره.
ثم ساق حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ " الحديث بطوله، وسلف في المظالم.
قال الطبري: اختلف من قبلنا في معنى هذا الحديث، فأنكر بعضهم أن يكون الشارع قاله
(2)
.
قال عطاء: اختلفت الرواة في أداء لفظ الشارع بذلك، فقال محمد بن (زيد)
(3)
بن واقد بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب: وسئل عن تفسير هذا الحديث فقال: إنما قال رسول الله": "لا يزنين مؤمن ولا (يسرقن)
(4)
مؤمن"، وقال آخرون: عني بذلك: لا يزني وهو مستحل له غير مؤمن بتحريم الله تعالى ذلك عليه، وأما إن فعله معتقدًا تحريمه فهو مؤمن، روي ذلك عن عكرمة، عن مولاه ابن عباس، وحجته حديث أبي ذر مرفوعًا: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق، وإن رغم أنف أبي ذر"
(5)
، وقال آخرون: أراد أن لا يكون في ذلك الحال كاملًا لشرائط الإيمان، (وقال آخرون: ينزع منه الإيمان)
(6)
فيزول عنه اسم المدح الذي سمي به الأولياء، ويستحق اسم الذم الذي سمي به المنافق، فيوسم به، ويقال له: منافق وفاسق، روي هذا عن الحسن قال: النفاق نفاقان: تكذيب
(1)
سيأتي برقم (6810)، باب: إثم الزناة.
(2)
"تهذيب الآثار" مسند ابن عباس السفر الثاني ص 605 (24).
(3)
في الأصل: زياد، والمثبت من (ص 2).
(4)
في الأصل: يشربن، والمثبت من (ص 2).
(5)
رواه مسلم برقم (94/ 153) كتاب الإيمان، باب: من مات لا يشرك بالله، والطبري في "تهذيب الآثار" مسند ابن عباس 2/ 624 - 625.
(6)
من (ص 2).
بالشارع فلا يغفر، ونفاق خطايا وذنوب ترجى لصاحبها
(1)
. وعن الأوزاعي قال: كانوا لا يكفرون أحدًا بذنب ولا يشهدون على أحد بكفر، ويتخوفون نفاق الأعمال على أنفسهم.
وقال الوليد بن مسلم: ويصدق قول الأوزاعي ما رواه عن هارون بن رئاب أن عبد الله بن عمر قال في مرضه: زوجوا فلانًا بابنتي فلانة، فإني كنت وعدته بذلك، وأنا أكره أن ألقى الله بثلث النفاق. وحدثنا الزهري، عن عروة أنه قال لابن عمر: الرجل يدخل منا على الإمام فنراه يقضي بالجور فيسكت، وينظر إلى أحدنا فيثني عليه بذلك، فقال عبد الله: أما نحن معاشر أصحاب رسول الله فكنا نعدها نفاقًا، فلا أدري كيف تعدونه.
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه سئل: من المنافق؟ قال: الذي يتكلم بالإسلام ولا يعمل به
(2)
.
وحجة هذا القول: أن النفاق إنما هو إظهار المرء بلسانه قولًا يبطن خلافه كنافقاء اليربوع التي تتخذها كي إن طلب الصائد من قبل مدخل قصع من خلافه، فمن لم يجتنب الكبائر من أهل التوحيد، علمنا أن ما ظهر من الإقرار بلسانه خداع للمؤمنين فاستحق اسم النفاق، ويشهد لذلك قوله عليه السلام:"ثلاث من علامات المنافق إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان" والزنا والسرقة وشرب الخمر أدل على النفاق من هذِه الثلاث. وقال آخرون: إذا أتى المؤمن كبيرة نزع منه الإيمان، وإذا فارقها عاد إليه.
(1)
سلف برقم (33) كتاب: الإيمان، باب: علامة المنافق.
(2)
هذِه الآثار رواها الطبري في "تهذيب الآثار" مسند ابن عباس 2/ 640 - 644 (956، 957، 958، 959، 960).
وروي عن أبي الدرداء: قال عبد الله بن رواحة: إنما مثل الإيمان مثل قميص بينما أنت وقد نزعته إذ لبسته، وبينما أنت قد لبسته إذ نزعته.
وعن يزيد بن أبي حبيب، عن سالم بن عمر، سمع أبا أيوب يقول: إنه لتمُرُّ على المرء ساعة وما في جلده موضع إبرة من إيمان، وتمر به ساعة وما في جلده موضع إبرة من نفاق. وعلى هذِه المقالة أن الإيمان هو التصديق، غير أن التصديق معنيان: قول وعمل، فإذا ركب كبيرة فارقه اسم الإيمان، كما يقال للاثنين إذا افترقا، فالإيمان التصديق الذي هو الإقرار، والعمل الذي هو اجتناب الكبائر، وإذا ألقيت عاد إليه؛ لأنه مجتنب ومصدق
(1)
. وقيل هو على المفارقة. أي: يكاد من عظيم أن يفارقه، والشيء يسمى باسم ما قاربه، وقال تعالى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234] أي: قاربن، وقيل معنى مؤمن: أمن من عذابه، وقال بعض الخوارج والرافضة والإباضية هم نوع من الخوارج: من فعل شيئا من ذلك فهو كافر خارج من الإيمان؛ لأنهم يكفرون المؤمن بالذنوب ويوجبون عليه التخليد في النار بالمعاصي، ومن حجتهم ظاهر حديث الباب "لا يزني وهو مؤمن".
وقال أبو هريرة: الإيمان فوقه هكذا، فإن هو تاب راجعه الإيمان، وإن أصر ومضى فارقه
(2)
.
وقال أبو صالح، عنه: ينزع منه فإن تاب رد عليه
(3)
، قالوا: ومن نزع منه الإيمان فهو كافر؛ لأنه لا منزلة بين الإيمان والكفر، ومن لم يكن مؤمنًا فهو كافر، وجماعة أهل السنة وجمهور الأمة على خلافهم.
(1)
"تهذيب الأثار" مسند ابن عباس 2/ 640 - 650. بتصرف.
(2)
السابق 2/ 609 (903).
(3)
السابق 2/ 621 (926).
وحجة أهل السنة: أن ابن عباس قد بين حديث أبي هريرة، وقال: إن العبد إذا زنى نزع منه نور الإيمان لا الإيمان. كذا أخرجه الطبري من حديث شريك بن عبد الله، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عنه مرفوعًا:"من زنى نزع الله منه نور الإيمان من قلبه، فإن شاء أن يرده عليه رده"
(1)
.
قال الطبري: والصواب عندنا قول من قال: يزول عنه الاسم الذي هو بمعنى المدح إلى الاسم الذي هو بمعنى الذم، فيقال له: فاجر، فاسق، زانٍ سارق، ولا خلاف بين جميع الأمة أن ذلك من أسمائه ما لم يتب، ويزول عنه اسم الإيمان بالإطلاق والكمال بركوبه ذلك وينسب له بالتقييد فنقول: هو مؤمن بالله ورسوله مصدق قولًا، ولا نقول مطلقًا: هو مؤمن إذ كان الإيمان عندنا معرفة قولًا وعملًا
(2)
. فلما لم يأت بها كلها استحق التسمية بالإيمان على غير الإطلاق والاستعمال له.
فصل:
معنى نزع الإيمان: نزع يعتبر به في الطاعة؛ لغلبة الشهوة عليه، فكأن تلك البصيرة نور طفته الشهوة من قلبه، يشهد له قوله تعالى {كَلَّا بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14].
وقد سلف شيء من هذا المعنى في الإيمان في باب: علامات المنافق، وفي العلم في باب: من خص بالعلم قومًا. وسيأتي عنه: أنه ينزع هكذا، وشبك بين أصابعه، ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه
(3)
.
(1)
السابق 2/ 621 (926).
(2)
السابق 2/ 650 - 651.
(3)
سيأتي برقم (68098)، باب: إثم الزناة.
فصل:
مما يوضح تأويل أهل السنة السالف إيجاب الحد على البكر على نمط، وعلى الثيب على نمط، والعبد على نمط، فلو كان كله كفرًا لكان فيه حد واحد وهو حد الكفر، فلما كان الواجب فيهما من العقوبة مختلفًا دل أنهما شيئان، وأنه ليس بكافر.
وقوله بعد هذا في الذي كان يلعن حمارًا: "لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله"
(1)
، دليل أيضًا أنه ليس بكافر؛ لأنه نهى عن لعنه، وأثبت له محبة الله ورسوله وقال بعد ذلك:"لا تكونوا أعوان الشيطان على أخيكم"
(2)
فسماه أخًا في الإسلام.
فصل:
قال ابن حزم في أثر ابن عباس: هو أثر صحيح لا مغمز فيه، رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وابن عباس وأبو هريرة بالأسانيد الثابتة، فهو نقل تواتر يوجب صحة (العلم)
(3)
.
وقد اختلف الناس في تأويله، وما هو الإيمان المزال له، (فعنه)
(4)
يخلع منه كما يخلع سرباله، فإذا رجع رجع. وعن ابن عباس أنه شبك أصابعه ثم زايلها، ثم قال هكذا ثم ردها.
وفي رواية: "ينزع الله منه ربقة الإيمان"
(5)
وعن نافع بن جبير: إذا زايل رجع إليه الإيمان، ولكن إذا أخر عن العمل، قال: وحسبته أنه
(1)
سيأتي قريبًا برقم (6780)، باب: ما يكره من لعن شارب الخمر.
(2)
سيأتي قريبًا برقم (6781).
(3)
في الأصل: العمل، والمثبت من (ص 2).
(4)
في الأصل: فعن. والمثبت من هامشه وأملاه: لعله.
(5)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 417 (13687) بلفظ: "ربقة الإسلام".
ذكره عن ابن عباس
(1)
، وقال طاوس: يبقى الإيمان كالظل
(2)
.
وفي حديث أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري يرفعه، قال: هذا نهي يقول حين هو مؤمن فلا يفعل الزنا ولا السرقة
(3)
.
وقال ابن حزم: فا لإيمان المزايل لمرتكب هذِه الأمور هي الطاعة لله فقط، وهذا أمر مشاهد باليقين؛ لأن الزنا والخمر وشبههما ليس شيء منهما طاعة فيه، فليست إيمانًا، فإذًا ليس شيء منها إيمان، ففاعلها ليس مطيعًا
(4)
.
(1)
السابق 7/ 416 (13685).
(2)
السابق 7/ 415 (13682).
(3)
السابق 7/ 415 - 416 (13683).
(4)
"المحلى" 11/ 120 - 122 بتصرف.
2 - باب مَا جَاءَ فِي ضَرْبِ شَارِبِ الخَمْر
6773 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ح. حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ. [انظر: 6776 - مسلم: 1706 - فتح 12/ 63].
ذكر فيه حديث قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ فِي الخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ. يعني: شارب الخمر.
3 - باب مَنْ أَمَرَ بِضَرْبِ الْحَدِّ فِي البَيْتِ
6774 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: جِيءَ بِالنُّعَيْمَانِ -أَوْ بِابْنِ النُّعَيْمَانِ- شَارِبًا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ كَانَ بِالْبَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ، قَالَ: فَضَرَبُوهُ، فَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ بِالنِّعَالِ. [انظر: 2316 - فتح 12/ 64].
ذكر فيه حديث عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ قَالَ: جِيءَ بِالنُّعَيْمَانِ -أَوْ بِابْنِ النُّعَيْمَانِ- شَارِبًا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم منْ كَانَ في البَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ، قَالَ: فَضَرُبوهُ، فَكُنْتُ أَنَا فِيمَنْ ضَرَبَهُ بِالنِّعَالِ.
4 - باب الضَّرْبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ
6775 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِنُعَيْمَانَ -أَوْ بِابْنِ نُعَيْمَانَ- وَهْوَ سَكْرَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ مَنْ فِي البَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ، فَضَرَبُوهُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَكُنْتُ فِيمَنْ ضَرَبَهُ. [انظر: 2316 - فتح 12/ 65].
6776 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ. [انظر: 6773 - مسلم: 1706 - فتح 12/ 66].
6777 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ:
«اضْرِبُوهُ» . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: أَخْزَاكَ اللهُ. قَالَ: «لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ» . [6781 - فتح 12/ 66].
6778 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الحَارِثِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ: سَمِعْتُ عُمَيْرَ بْنَ سَعِيدٍ النَّخَعِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا كُنْتُ لأُقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ فِي نَفْسِي، إِلاَّ صَاحِبَ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسُنَّهُ. [مسلم: 1707 (م) - فتح 12/ 66].
6779 -
حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الجُعَيْدِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِمْرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إِذَا عَتَوْا وَفَسَقُوا جَلَدَ ثَمَانِينَ. [فتح 12/ 66].
ذكر فيه حديث عقبة أيضًا أَنَّه صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِنُعَيْمَانَ -أَوْ بِابْنِ نُعَيْمَانَ- وَهْوَ سَكْرَانُ فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ مَنْ في البَيْتِ أَنْ يَضْرِبُوهُ. قال: فَضَرَبُوهُ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، فَكُنْتُ فِيمَنْ ضَرَبَهُ.
وحديث أنس السالف.
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ قال: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ:"اضْرِبُوهُ". وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أَخْزَاكَ اللهُ. قَالَ: "لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ".
وِحديث (عُمَيْرِ)
(1)
بْنِ سَعِيدٍ النَّخَعِيَّ -كذا رواه أبو علي بن السكن، وأحمد وهو الصواب، وقاله أبو زيد: سعد بغير ياء. وهو أبو يحيى النخعي، روى له البخاري ومسلم أيضا، مات سنة خمس عشرة ومائة-: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبِ رضي الله عنه يقول: مَا كُنْتُ لأُقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ فَيَمُوتَ فَأَجِدَ في نَفْسِي، إِلَّا شَارِبَ الخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسُنَّهُ
وحديث السَّائِب بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا نُؤْتَى بِالشَّارِبِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِمْرَةِ أَبِي بَكرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَنَقُومُ إِلَيْهِ بِأَيْدِينَا وَنِعَالِنَا وَأَرْدِيَتِنَا حَتَّى كَانَ آخِرُ إِمْرَةِ عُمَرَ، فَجَلَدَ أَرْبَعِينَ، حَتَّى إِذَا عَتَوْا (جَلَدَ)
(2)
ثَمَانِينَ.
الشرح:
في مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: فلما كان زمن عمر رضي الله عنه دنا الناس من
(1)
في (ص 2): عمر.
(2)
في (ص 2): عتوا وفسقوا حده.
الريف والقرى، قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال فيه عبد الرحمن ابن عوف: أرى أن (يجلد)
(1)
كأخف الحدود، قال: فجلد عمر ثمانين
(2)
.
وفي رواية: أنه عليه السلام كان يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين
(3)
، وللبيهقي: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد سكر، فأمر عشرين رجلاً فجلده كل رجل جلدتين بالنعال والجريد
(4)
.
وفي رواية لأبي داود في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقال عليه السلام: "بكتوه
(5)
" فأقبلوا عليه يقولون له: أما اتقيت الله، أما خشيت الله، أما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: "ولكن قولوا اللهم اغفر له، اللهم ارحمه"
(6)
.
وفي لفظ اللبخاري في حديث على أن عثمان دعا عليًّا فأمره أن يجلده ثمانين
(7)
.
ولمسلم: لما جلد عبد الله بن جعفر الوليد بن عقبة، وعلي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، جلد رسول الله أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحب إليَّ
(8)
.
(1)
في (ص 2): نجعله.
(2)
مسلم (1706/ 36) كتاب: الحدود، باب: حد الخمر.
(3)
مسلم (1706/ 35).
(4)
"السنن الكبرى" 8/ 317 (17522).
(5)
في (ص 2): تلقوه.
(6)
"سنن أبي داود"(4478).
(7)
سلف برقم (3696) كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب عثمان بن عفان.
(8)
مسلم (1707/ 38) كتاب الحدود، باب: حد الخمر.
وللبيهقي: لما أرسل خالد إلى عمر: إن الناس قد انهمكوا في الخمر، (وتحاقروا)
(1)
العقوبة، فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، (قال)
(2)
: فأمر بها عمر. قال: وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة ضربه أربعين. قال: وجلده عثمان أيضًا ثمانين وأربعين، ذكره من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن ابن وبرة الكلبي، وكان رسول خالد إلى عمر بهذا
(3)
. وفي رواية قال علي: هو شيء ضيعناه.
وفي "سنن أبي قرة": ذكر ابن جريج، عن زهير، (عن رجل)
(4)
، عن عمير بن سعيد، عن علي أنه قال: من مات في حد من حدود الله فلا دية له إلا في حد الخمر، فديته في بيت مال المسلمين.
وفي البخاري، في الباب الذي بعد هذا من حديث عمر: فأمر به فجلد. ويأتي
(5)
.
وروى الشافعي، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن أزهر قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشارب، فقال:"اضربوه" فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب، وحثوا عليه التراب، وقال عليه السلام "بكتوه"(فبكتوه)
(6)
ثم أرسله، قال: فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك المضروب، فقومه أربعين، فضرب أبو بكر في الخمر أربعين حياته،
(1)
المثبت من (ص 2)، وفي الأصل: تجاوزوا.
(2)
من (ص 2).
(3)
"السنن الكبرى" 8/ 320 (17539).
(4)
من (ص 2).
(5)
سيأتي برقم (6780).
(6)
من (ص 2).
حتى تتابع الناس في الخمر، ضرب ثمانين
(1)
، ورواه الترمذي عن سعيد بن يحيى، ثنا أبي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن (أزهر)
(2)
به.
وقال أنس بن عياض، عن يزيد بن الهادي، (عن)
(3)
محمد عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم. وسألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: اختلفوا فيه، وحديث أزهر ما أراه بمحفوظ، وحديث أنس رضي الله عنه في هذا الباب حسن
(4)
، وقال أبو حاتم وأبو زرعة: لم يسمعه الزهري من ابن أزهر، يدخل بينهما عبد الله بن عبد الرحمن ابن أزهر، ذكره ابن أبي حاتم عنهما
(5)
.
وروى أحمد بن حنبل في كتاب "الأشربة" له عن محمد بن جعفر، ثنا شعبة، سمعت أبا إسحاق، سمعت رجلاً من أهل نجران:(سألت)
(6)
ابن عمر رضي الله عنهما عن السلم في النخل وعن الزبيب والتمر فقال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل (نشوان)
(7)
قد شرب زبيبًا وتمرًا فجلده الحد
(8)
.. الحديث.
وروى النسائي من حديث ابن جريج قال: قلت لعطاء: أخبرني محمد بن علي بن ركانة، عن عكرمة، عن مولاه أنه عليه السلام لم يؤقت
(1)
"مسند الشافعي" بترتيب السندي 2/ 90 (292).
(2)
كذا في الأصل وفي "علل الترمذي" عن عبد الرحمن بن أزهر.
(3)
في الأصل: وعن، والصواب ما أثبتناه، كما في "علل الترمذي".
(4)
"علل الترمذي الكبير" 2/ 604 - 606.
(5)
"علل ابن أبي حاتم" 1/ 446 - 447.
(6)
في الأصول: سمعت. والمثبت من مصدر التخريج.
(7)
من (ص 2).
(8)
"الأشربة" ص 39 (35).
في الخمر حدًّا، قال: وقال ابن عباس: شرب رجل فسكر فلقي في فج يميل، فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حاذوا دار ابن عباس أفلت، فدخل على عباس [فالتزمه]
(1)
من ورائه، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، وقال:"قد فعلها؟ " ولم يأمر فيه بشيء
(2)
.
فصل:
وروى الدارقطني من حديث يحيى بن فليح، عن (محمد بن يزيد)
(3)
، عن عكرمة، عن مولاه أن الشرَّاب كانوا يُضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي، فكان في خلافة أبي بكر فجلدهم أربعين، ثم عمر كذلك إلى أن جاء رجلان
(4)
من المهاجرين فاحتج بقوله {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] وأنه شهد بدرًا والمشاهد.
فقال ابن عباس: إن هذِه الآيات نزلت عذرًا للماضين وحجة على الناس؛ لأن الله تعالى قال {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} الآية [المائدة: 90]، فإن كان من الذين آمنوا فإن الله قد نهاه عن شربها، فقال عمر: صدقت، ماذا ترون؟ فقال علي: إذا شرب سكر وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة. فأمر عمر فجلده ثمانين
(5)
. ورواه الطحاوي في "أحكامه": عن فهد بن سليمان، ثنا سعيد بن عفير، ثنا محمد بن فليح، عن ثور، عن عكرمة.
(1)
ساقطة من الأصول والمثبت من "سنن النسائي الكبرى".
(2)
"السنن الكبرى" 3/ 254 (5291).
(3)
كذا بالأصل، وعند الدارقطني: ثور بن زيد، وهو الصواب.
(4)
ورد في هامش الأصل: لعله رجل.
(5)
"سنن الدارقطني" 3/ 166.
فصل:
روى ابن عمر ونفر من الصحابة مرفوعًا "من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه"
(1)
وعند أبي داود: القتل في الخامسة
(2)
.
قال ابن حزم: لا يصح وإنما الصحيح في الرابعة، وذكر الخامسة من حديث ابن عمر من حديث حميد بن يزيد
(3)
، قال ابن القطان: مجهول
(4)
، ولابن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة، عن أبي سليمان مولى أم سلمة، عن أبي اليزيد البلوي: أن رجلاً شرب الخمر أربع مرات، فأمر به عليه السلام فضربت عنقه
(5)
. رواه الترمذي في "علله" من حديث معاوية بن أبي سفيان مرفوعًا "إذا شرب الخمر فاجلدوه" وقال في الرابعة: "فاقتلوه" ثم ساقه من حديث أبي هريرة قال: وحديث معاوية أشبه وأصح
(6)
.
قلت: حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه بإسناد جيد بلفظ: ثم قال في الرابعة: "فإن عاد فاضربوا عنقه"
(7)
، وسلف في الأشربة حديث أبي موسى رضي الله عنه في القتل أيضًا، وحديث معاوية أخرجه الطبراني أيضًا
(8)
،
(1)
رواه النسائي 8/ 313.
(2)
"سنن أبي داود"(4483).
(3)
"المحلى" 11/ 366 - 367، 370، ولم أعثر عليه من حديث حميد بن يزيد، إنما ذكره عن جميل بن زياد، وأظنه تحريف وفي الحديث:"فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".
(4)
"بيان الوهم والإيهام" 30/ 572 - 573.
(5)
"الجرح والتعديل" 9/ 369 (1698).
(6)
"علل الترمذي" 2/ 608، 609.
(7)
"سنن ابن ماجه"(2572).
(8)
"المعجم الكبير" 9/ 334.
وأخرجه الدارمي من حديث عمرو بن الشريد، عن أبيه مرفوعًا في الخامسة "فإن عاد فاقتلوه"
(1)
.
قال ابن أبي حاتم في "علله": وسئل أبي عن حديث جرير بن عبد الله البجلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه". فقال: حديث ابن طهمان أصح؛ لأنه زاد فيه رجلاً
(2)
. أي: وهو محمد بن حرب، عن خالد بن جرير، عن جرير.
قال ابن حزم: وقد روى هذا أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحبيل بن أوس وعبد الله بن عمرو وأبو غطيف الكندي
(3)
، وهو قولنا ولم يثبت النسخ، وسيأتي له زيادة بعد.
فصل:
اختلف العلماء في حد الخمر كم هو؟ فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والكوفيون وجمهور العلماء إلى أن حد الخمر ثمانون جلدة.
وقال الشافعي وأبو ثور وأهل الظاهر، ونقله ابن عبد البر عن أكثر أهل الظاهر: حده أربعون. وعن أحمد روايتان كالمذهبين، وما نقلناه عن الجمهور هو ما ذكره ابن بطال وابن التين، وقال أبو عمر أيضًا: إنه قول الجمهور من علماء السلف والخلف.
قال: وهو أحد قولي الشافعي، وهو قول الأوزاعي وعبيد الله بن الحسن والحسن بن حي وإسحاق وأحمد، واحتجوا بما سلف
(4)
.
(1)
"مسند الدارمي" 3/ 1489 (2359)، وفيه:"ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه".
(2)
"علل ابن أبي حاتم" 1/ 446.
(3)
"المحلى" 11/ 367.
(4)
"الاستذكار" 24/ 269.
وروى مسدد، ثنا يحيى، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن الدَّاناج، عن حضين بن المنذر الرقاشي أبي ساسان، عن علي رضي الله عنه قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكلٌّ سنة
(1)
.
وروي (عن)
(2)
عبد العزيز بن المختار، عن الدَّاناج، عن حضين بن المنذر قال: شهدت عثمان رضي الله عنه وقد أتي بالوليد بن عتبة، وقد صلى بأهل الكوفة فشهد عليه حمران، ورجل آخر شهد أحدهما أنه رآه يشربها، وشهد الآخر أنه رآه يقيئها، فقال عثمان: لم يقئها حتى شربها، فقال عثمان لعلي: أقم عليه الحد. فأمر عبد الله بن جعفر فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين، ثم قال: أمسك، ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، (وأبو بكر أربعين)
(3)
وعمر ثمانين وكلٌّ سنة، وهذا أحب إلي
(4)
.
واحتج عليهم أهل المقالة الأولى، فقالوا: حديث الدَّاناج غير صحيح، وأنكروا أن يكون (علي)
(5)
قال من ذلك شيئًا؛ لأنه قد روي عنه ما يخالف ذلك ويدفعه، وبحديث البخاري في الباب، وذلك أنه عليه السلام لم يسنه، أي لم يسن فيه شيئًا إنما قلناه نحن.
قال الطحاوي: فهذا علي يخبر بأنه عليه السلام لم يكن سن في شرب الخمر حدًّا، (ثم الرواية عن علي في حد الخمر على خلاف)
(6)
حديث الدَّاناج من اختيار الأربعين على الثمانين
(7)
.
(1)
رواه أبو داود (4481).
(2)
من (ص 2).
(3)
من هامش الأصل، وفوقها: لعله سقط.
(4)
رواه مسلم (1707/ 38) كتاب: الحدود، باب: حد الخمر.
(5)
من (ص 2).
(6)
من (ص 2).
(7)
"شرح معاني الآثار" 3/ 153.
روى سفيان عن عطاء بن أبي رباح، عن أبيه قال: أتي علي بالنجاشي قد شرب خمرًا في رمضان فضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، وقال: هذِه لانتهاك حرمة رمضان وجرأتك على الله
(1)
.
وروي عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن أن رجلاً من كلب يقال له ابن وبرة بعثه خالد بن الوليد إلى عمر بن الخطاب، فوجد عنده عليًّا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، فقال له: إن الناس قد انهمكوا في الخمر، فقال عمر لمن حوله: ما ترون؟ قال عليُّ: يا أمير المؤمنين، (إنه)
(2)
إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، وتابعه أصحابه
(3)
.
أفلا ترى عليًّا لما سئل عن ذلك ضرب أمثال الحدود كيف هي؟ ثم استخرج منها حدًّا برأيه فجعله كحد المفتري، ولو كان عنده في ذلك شيء مؤقت عن رسول الله لأغناه عن ذلك، ولو كان عند أصحابه في ذلك أيضًا عن رسول الله شيء، لأنكروا عليه أخذ ذلك من جهة الاستنباط وضرب الأمثال، فكيف يجوز أن ينقل عن علي ما يخالف هذا، وقد قال: إنه عليه السلام لم يسن في الخمر شيئًا. ودل حديث عقبة بن الحارث، وحديث أنس، وحديث أبي هريرة أنه عليه السلام لم يقصد في حد الخمر إلى عدد من الضرب يكون حدًّا، وإنما أمر عليه السلام أصحابه أن يضربوه بما ذكروا، وإنما ضرب الصديق بعده أربعين بعد التحري منه
(1)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 382.
(2)
من (ص 2).
(3)
رواه الحاكم في "مستدركه" 4/ 375.
لضربه عليه السلام إذ لم يوقفهم على حدٍّ (في ذلك)
(1)
، فثبت بهذا كله أن التوقيف في حد الخمر على ثمانين إنما كان في زمن عمر، وانعقد إجماع الصحابة على ذلك منهم عثمان، وابن مسعود، وأبو موسى، وابن عباس، وكان ذلك بمحضر من طلحة والزبير، وابن عوف فلا يجوز مخالفتهم لعصمتهم من الخطأ، كما أجمعوا على مصحف عثمان ومنعوا بما عداه، فانعقد الإجماع بذلك ولزمت الحجة به، وقد قال تعالى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [النساء: 115].
وقال ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن
(2)
؛ لأن إجماعهم معصوم.
وكذا قال ابن عبد البر: (اتفق)
(3)
إجماع الصحابة في زمن عمر على الثمانين في حد الخمر، ولا مخالف لهم منهم، وعلى ذلك جماعة التابعين وجمهور فقهاء المسلمين، قال: والخلاف في ذلك كالشذوذ المحجوج بالجمهور
(4)
وبنحوه ذكره الطحاوي فمن بعده
(5)
.
فصل:
وفيه حجة لمالك ومن وافقه في جواز أخذ الحدود قياسًا، خلافًا لأهل العراق وبعض الشافعية في منعهم ذلك، واستدلوا بأن الحدود والكفارات وضعت على حسب المصالح، وقد تشترك أشياء مختلفة في الحدود والكفارات، وتختلف أشياء متقاربة، ولا سبيل إلى علم
(1)
من (ص 2).
(2)
رواه أحمد 1/ 379، والحاكم 3/ 78 - 79. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(3)
من (ص 2).
(4)
"الاستذكار" 24/ 277.
(5)
"شرح معاني الآثار" 3/ 158.
ذلك إلا بالنص.
فيقال لهم: أجمع الصحابة على حد شارب الخمر، ثم نصوا على المعنى الذي من أجله أجمعوا، وهو قول علي وعبد الرحمن إذا شرب سكر. إلى آخره، ففيه دليل على أخذ الحدود قياسًا، وعلى أصل للقياس انعقد الإجماع عليه، وفي قياسهم حد الخمر على حد الفرية حجة لمالك في قطع الذرائع، ومن قال بقوله وجعلها أصلاً وتحصينًا لحدود الله أن تنتهك؛ لأن عليًّا لما قال لعمر: إذا شرب سكر. إلى اخره. وتابعه الصحابة على ذلك ولم يخالف فيه، فكان ذلك حجة واضحة لذلك؛ لا أنه قد يجوز أن يشربها من لا يبلغ بها إلى الهذي والفرية، ولما كان ذلك غير معلوم لاختلاف الناس في التقليل من شربها والتكثير، وفي غلبة سورتها لبعضهم وتقصيرها عن بعض، وكان الحد لازمًا لكل شارب، اتضح القول لذلك فيما يخاف الإقدام فيه على المحرمات، وهو أصل من أصول الدين بما أجمع عليه الصحابة.
فصل:
وفي قوله: (ما كنت لأقيم الحد على أحد فيموت فأجد منه في نفسي). حجة لابن الماجشون ومن وافقه أن الحاكم لا قود عليه إذا أخطأ في اجتهاده، ويؤيد هذا أن أسامة قتل رجلاً قال: لا إله إلا الله، ثم أتى الشارع فأخبره بذلك، فلم يزد على أن وبخه ولم يأمره بالدية، ولم يأخذها منه لاجتهاده وتأويله في قتله، وسيأتي اختلاف العلماء في المسألة في كتاب: الأحكام في باب: إذا قضى القاضي بجور خالف فيه أهل العلم فهو مردود.
فصل:
في حديث النعمان حجة على أن الحد يقام في حال السكر، ولا يؤخر للصحو؛ لأنه عليه السلام أمر من في البيت أن يضربوه ولم يؤخره إلى أن يصحو، وجمهور العلماء على خلاف هذا يؤخر إلى الصحو، وهو قول مالك والشافعي والثوري والكوفيين قالوا: لأن الحد إنما وضعه الله للتنكيل وليألم المحدود ويرتدع، والسكران لا يعقل ذلك، فغير جائز أن يقام على من لا يحس به ولا يعقل
(1)
.
فصل:
النعيمان تصغير نعمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم (بن مالك)
(2)
بن النجار، شهد العقبة مع السبعين وبدرًا وأحدًا والخندق وسائر المشاهد
(3)
، وأتي به في شرب الخمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده أربعًا أو خمسًا، فقال رجل: اللهم العنه ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يجلد، فقال عليه السلام "لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله"
(4)
.
وفي لفظ: "لا تقولوا للنعيمان إلا خيرًا؛ فإنه يحب الله ورسوله"
(5)
وكان صاحب مزاح.
(1)
انظر: "الإشراف" 3/ 60، و"المغني" 12/ 505 - 506.
(2)
من (ص 2).
(3)
انظر: "معرفة الصحابة" 5/ 2656 (2854)، "الاستيعاب" 4/ 66 (2651)، "أسد الغابة" 5/ 337 (5250).
(4)
سيأتي برقم (6780) بلفظ: "لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله".
ورواه عبد الرزاق 7/ 381 (13552) بلفظه.
(5)
رواه ابن سعد في "طبقاته" 3/ 494.
قال ابن الكلبي: كان عليه السلام إذا نظر إلى نعيمان لا يتماسك نفسه أن يضحك، واشترى نعيمان يومًا بعيرًا فنحره ولم يعط ثمنه، فجاء صاحبه ليشكوه إلى رسول الله، فقال عليه السلام:"اذهبوا بنا نطلبه" فوجده، فقال عليه السلام:"هذا نعيمان" لصاحب البعير، فقال نعيمان: لا جرم، لا يغرم البعير غيرك، (فغرمه عليه السلام
(1)
عنه، مات في خلافة معاوية)
(2)
وليس له عقب، قاله محمد بن عمر
(3)
.
فصل:
قوله: (إذا عتوا وفسقوا جلدوا ثمانين)، يريد كثر شربهم الخمر كما سلف عن رواية مسلم
(4)
.
فصل:
لما ذكر البيهقي حديث حضين بن المنذر، عن علي في جلد الوليد قال: قال الترمذي، عن البخاري إنه حديث حسن
(5)
.
وقال ابن عبد البر: هو أثبت شيء في هذا الباب
(6)
.
قال البيهقي: وهو حديث صحيح مخرج في مسانيد أهل الحديث، ومخرجات أكثرهم في السنن، والذي يدعي تشويه الأخبار على مذهبه لم يمكنه صرف هذا الحديث إلى ما وقته صاحبه، فأنكر الحديث أصلاً، واستدل على فساده بما جرى من الصحابة، وأن عليًّا قال:
(1)
رواه ابن عبد البر في "الاستيعاب" بنحوه 4/ 89.
(2)
من (ص 2).
(3)
انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد 3/ 494.
(4)
مسلم (1706) عن أنس بن مالك.
(5)
"معرفة السنن والآثار" 13/ 51.
(6)
"الاستذكار" 24/ 273.
إن مات شارب الخمر وديناه؛ لأنه شيء صنعناه
(1)
.
وفي رواية: أنه عليه السلام لم يسن فيها شيئًا، وبأن عمر وعليًّا جلدا ثمانين، وأنهم أجمعوا على الثمانين، فصار الحد مؤقتًا بها في الخمر، وقيل: ذلك لم يكن مؤقتًا وهذا الذي ذكر من إنكار الحديث وفساده غير مقبول منه، فصحة الحديث إنما تعرف بفقه رجاله ومعرفتهم بما يوجب قبول خبرهم، وقد عرفهم حفاظ الحديث وقبلوا حديثهم، كيف وقد ثبت عن عثمان وعلي في هذِه القصة من وجه لا أشك في صحته جلد أربعين، ولئن كانت العمل بالثمانين حدًّا معلومًا بتوقيت الصحابة في أيام عمر، فلم يصر الأربعون حدًّا معلوما بتوقيت الصحابة في أيام أبي بكر، وتحريمهم في ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه بين يديه، بل هذا أولى أن يكون حدًّا مؤقتًا بتوقيتهم، فلم يعدل عنه أبو بكر حياته.
وقد روينا عن عمر رضي الله عنه أنه بعد توقيتهم كان إذا أتي بالضعيف ضربه أربعين، وجلد عثمان ثمانين، وجلد أربعين، وكل هذا يدل على أن الحد المؤقت في الخمر أربعون، وأنهم لم يوقتوه بالثمانين حدًّا، وأن الزيادة التي زادوها إنما هي على وجه التعزير، وقد أشار علي إلى علة التعزير فيما أشار به إلى عمر.
قلت: وقول ابن القصار أن قوله سنة محمول على الرفع يبعده ذلك، وإنما المراد هنا ما سنه عمر رضي الله عنه.
وفي قول علي فيمن مات في حد الخمر: وديناه، دليل بين على أنهم لم يجتمعوا على الثمانين حدًّا، إذ لو كانوا وقتوه بها لم تجب
(1)
"معرفة السنن والآثار" 13/ 52.
فيمن مات منه دية، وإنما أرادوا -والله أعلم- عندنا إذا مات في الأربعين الزائدة.
وقوله: (إنه لم يسنه)، يعني: لم يسن فوق الأربعين أو لم يسن ضربه بالسياط، وقد سنه بالجريد والنعال وأطراف الثياب، ونحن هكذا نقول، لا نخالف منه شيئًا -بتوفيق الله- والذي يحتج به في إبطال حديث حضين لا نقول به، ولا يرى فيمن مات دية، وهذا دأبه فيما لا يقول به من الأحاديث الصحيحة يجتهد بإبطاله بحديث آخر، فإذا نظرنا في ذلك الحديث الآخر وجدناه لا يقول به أيضًا، فكيف يحتج به في إبطال غيره؟ فإن قال: روي عن علي أنه جلد الوليد بسوط له طرفان أربعين، فيكون ذلك ثمانين، قلنا: هذِه الرواية منقطعة؛ لأن راويها علي عن جعفر بن محمد، عن أبيه
(1)
، وقد روينا في الحديث الثابت أنه أمر به فجلد أربعين جلدة
(2)
، وهذا أشبه أن لا يخالفه أن يكون جلده بكل طرف عشرين، فيكون الجميع أربعين، وهذا هو المراد فيما روى شعبة عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو الأربعين
(3)
، أي صار العدد أربعين، وذلك بين في رواية همام عن قتادة، ولا خلاف بينه وبين ما أشار به عبد الرحمن بن عوف على (علي)
(4)
، ولو كان المراد بالأول ثمانين لم يكن بينهما مخالفة، وكذلك علي لما جلد الوليد بهذا السوط إن كان ثابتًا أربعين، فقد قال في الحديث الثابت: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 378 - 379.
(2)
رواه مسلم (1707/ 38).
(3)
رواه مسلم (1706/ 35).
(4)
في (ص 2) عمر.
أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكلٌّ سنة. وقال في رواية عبد العزيز: وهذا أحب إلى
(1)
. فلولا أنه اقتصر على الأربعين لما قال: وهذا أحب إليَّ
(2)
.
فصل:
روى ابن أبي شيبة من حديث يزيد بن هارون، ثنا المسعودي عن زيد العمي، عن أبي بصرة، عن أبي سعيد الخدري أنه عليه السلام ضرب في الخمر بنعلين أربعين، فجعل عمر مكان كل نعل سوطًا، وفيه ترشيح لرواية محمد بن علي، عن أبيه.
وروى وكيع عن مسعر، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب في الخمر أربعين
(3)
، قال أبو عمر: الحديث لأبي الصديق ومسعر أحفظ عندهم وأثبت من المسعودي، وزيد العمي ليس بالقوي
(4)
.
وأما الترمذي فقال: حديث أبي سعيد حديث حسن صحيح
(5)
.
والعمل على حديث أنجس عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن حد السكران ثمانون
(6)
.
قلت: وقد قال علي رضي الله عنه -فيما رواه الحارث عنه-: في قليل الخمر وكثيرها ثمانون، وفي لفظ: حد النبيذ ثمانون. وعن ابن عباس
(1)
رواه مسلم (1707/ 38).
(2)
"معرفة السنن والآثار" 13/ 52 - 57.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 500.
(4)
"الاستذكار" 24/ 271 - 272.
(5)
"سنن الترمذي"(1442).
(6)
السابق بعد حديث رقم (1443).
والحسن: في السكر من النبيذ ثمانون، وكذلك قاله شقيق الضبي
(1)
، وعند الدارقطني: جلد عثمان الحدين جميعًا، ثم أثبت معاوية الجلد ثمانين
(2)
.
فصل:
ينعطف على قتل الشارب في الرابعة أو الخامسة، ذكر الحازمي في "ناسخه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قتله في الرابعة قال: فحدثت به ابن المنكدر فقال: قد ترك ذلك، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن النعيمان فجلده ثلاثًا، ثم أتي به الرابعة فجلده، ولم يزد
(3)
.
قلت: وقول الصحابي ما أكثر ما يؤتى به يقتضي العدد، وأخرج النسائي من حديث زياد البكالي، عن ابن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، وذكر حديث في الرابعة "فاضربوا عنقه" فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم النعيمان أربع مرات، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع، وأن القتل قد ارتفع
(4)
.
ثم ساق الحازمي من حديث الشافعي: أنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن شرب فاجلدوه" وفي الرابعة: "فإن شرب فاقتلوه" قال: فأتي برجل فجلده، تم أتي به في الثانية فجلده، ثم أتي به في الرابعة فجلده ووضع القتل، وكانت رخصة، ثم قال الزهري لمنصور بن المعتمر: ويحول
(1)
هذِه الآثار رواها عبد الرزاق في "مصنفه" 5/ 498 - 499 (28384)، (28391)، (28393)، (28395)، (28396).
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 158.
(3)
"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" ص 155 - 156.
(4)
"سنن النسائي الكبرى" 3/ 257 (5303).
كُونَا وافدي أهل العراق بهذا الحديث. قال الشافعي: والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره، وهذا ما لا اختلاف فيه عند أحد من أهل العلم علمته
(1)
.
وقال الطحاوي: ثبت بهذا أن القتل منسوخ
(2)
، وقال الخطابي: قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل، وإنما يقصد به الردع والتحذير، كقوله عليه السلام "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه"
(3)
وهو لو قتل عبده أو جدعه لم يقتل به، ولم يجدع بالاتفاق
(4)
.
قلت: حكى ابن المنذر أن النخعي قال: يقتل السيد بعبده، واختلف على سفيان في ذلك
(5)
، قال الخطابي: وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبًا، ثم نسخ بحصول الإجماع من الآية أنه لا يقتل
(6)
.
قال الترمذي في آخر "جامعه": وجميع ما في هذا الكتاب معمول به، وقد أخذه بعض أهل العلم ما خلا حديثين، حديث ابن عباس: أنه عليه السلام جمع بين الظهر والعصر بالمدينة، وحديث:"إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" وإنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ، كذا روى ابن إسحاق عن ابن المنكدر، عن جابر قال: والعمل على هذا عند (عامة)
(7)
أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافًا في ذلك في
(1)
"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" ص 156.
(2)
"شرح معاني الآثار" 3/ 161.
(3)
رواه أبو داود (4515)، والترمذي (1414)، والنسائي 8/ 20 - 21، وابن ماجه (2663) من حديث سمرة بن جندب.
(4)
"معالم السنن" 3/ 293. وانظر: "الاعتبار" للحازمي ص 155.
(5)
"الإشراف" 3/ 68.
(6)
السابق 3/ 293.
(7)
من (ص 2).
القديم والحديث، ومما يقوي هذا حديث:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"
(1)
. الحديث.
وقال ابن المنذر: أزيل القتل في الرابعة عنه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع عوام أهل العلم (من أهل الحجاز والعراق والشام وكل من يحفظ عنه من أهل العلم)
(2)
، إلا شاذًّا من الناس لا يعد خلافًا
(3)
.
قلت: حكي عن بعض التابعين، وفي "المحلى": أن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: ائتوني برجل أقيم عليه الحد في الخمر، فإن لم أقتله فأنا كذاب
(4)
.
فصل:
أجمعوا على أن ما سلف من كون الحد ثمانين أو أربعين هو في الحر، والعبد على نصفه، وقال ابن عبد البر عن أبي ثور وداود وأكثر أهل الظاهر: أربعون على الحر والعبد، قال: وقال الشافعي: أربعون على الحر وعلى العبد نصفها
(5)
.
فصل:
اختلف إذا مات من ضَرْبِه على أقوال: لا ضمان على الإمام والحق قتله، قاله مالك وأحمد. وعن الشافعي: لا ضمان قطعًا وإن كان ضربه بالسوط ضمن، وفي صفة ما يضمن وجهان، أحدهما: جميع الدية. والثاني: لا يضمن الإمام إلا ما زاد على ألم النعال.
(1)
الترمذي (1444).
(2)
من (ص 2).
(3)
"الإشراف" 3/ 57.
(4)
"المحلى" 11/ 366.
(5)
"الاستذكار" 24/ 269.
وعنه أيضًا: إن ضرب بالنعال وأطراف الثياب ضربًا يحيط العلم أنه لا يبلغ أربعين أو يبلغها ولا يتجاوزها، فمات فالحق قتله، فإن كان كذلك فلا عقل ولا قود ولا كفارة على الإمام، وإن ضربه أربعين سوطًا فمات فديته على عاقلة الإمام دون بيت المال
(1)
.
فصل:
لو أقر بشرب الخمر ولم يوجد منه ريح، فقال أبو حنيفة: لا يحد. وقال الباقون: يحد، فإن وجد منه ريح ولم يقر فلا حد خلافًا لمالك
(2)
.
(1)
انظر: "الإشراف" 3/ 59، و"المغني" 12/ 503 - 505.
(2)
انظر: "المغني" 12/ 501 - 502.
5 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ لَعْنِ شَارِبِ الخَمْرِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنَ المِلَّةِ
6780 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ» . [فتح 12/ 75].
6781 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَالَهُ أَخْزَاهُ اللهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ". [انظر: 6777 - فتح 12/ 75].
ذكر فيه حديث عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ".
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَالَهُ أَخْزَاهُ اللهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ".
الشرح:
قوله: (اسمه عبد الله)، قد أسلفنا أنه النعيمان. قال الدمياطي: وما هنا وَهَمٌ، وقد روى ابن المنذر حديث أبي هريرة وقال فيه بعد قوله:"لا تعينوا الشيطان ولكن قولوا اللهم اغفر له"
(1)
وقد أسلفنا في الباب الماضي أن المراد من قوله: "لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"
(2)
الإيمان الكامل؛ لأن الشارع شهد له بحب الله ورسوله، وسماه أخًا فيه وأمرهم أن يدعوا له بالمغفرة، فإن قلت: فقد لعن عليه السلام شارب الخمر وجماعات معه، ولعن كثيرًا من أهل المعاصي، منهم من ادعى إلى غير أبيه وانتمى إلى غير مواليه، ولعن المصور وجماعات يكثر عددهم، قيل: لا تعارض، ووجه لعنته لأهل المعاصي، يريد الملازمين لها غير التائبين منها؛ ليرتدع بذلك من فعلها وسلوك سبيلها، والذي نهى عن لعنه هنا قد كان أخذ منه حد الله الذي جعله مطهرًا له من الذنوب، فنهى عن ذلك؛ خشية أن يوقع الشيطان في قلبه أن من لعن بحضرته ولم يغير ذلك ولا نهى عنه، فإنه مستحق العقوبة في الآخرة وإن نالته في الدنيا فينفره بذلك ويغويه، وقيل: إنما أراد أن لا تلعنوه في وجهه، والذي لعن الشارع إنما لعن على معنى الحسن لا على معنى الإرداع ولم يعين أحدًا، وذهب البخاري إلى نحو هذا، وأنه إن لم يسمه جاز لعنه؛ لأنه بوب باب: لعن السارق إذا لم يسم، كما سيأتي. وأتى بحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل"
(3)
.
(1)
رواه أبو داود (4478).
(2)
سلف برقم (6772).
(3)
سيأتي قريبًا برقم (6783).
فصل:
فيه من الفقه جواز إضحاك العالم والإمام بنادرة يندرها، وأمر يعني به من الحق لا شيء من الباطل.
(فصل:
وحديث الباب ناسخ لقتله في الرابعة كما سلف، وبه قال أئمة الفتوى)
(1)
.
فصل:
وقوله: كان يلقب حمارًا، لعله كان لا يكره ذلك اللقب، وكان قد اشتهر به.
(1)
من (ص 2).
6 - باب السَّارِقِ حِينَ يَسْرِقُ
6782 -
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ". [6809 - فتح 12/ 81].
ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "لَا يَزْنِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ".
وقد سلف من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قريبًا واضحًا
(1)
.
(1)
سلف برقم (6772) من حديث أبي هريرة.
7 - باب لَعْنِ السَّارِقِ إِذَا لَمْ يُسَمَّ
6783 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» . قَالَ الأَعْمَشُ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الْحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يَسْوَى دَرَاهِمَ. [انظر: 6799 - مسلم: 1687 - فتح 12/ 81].
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ". قَالَ الأَعْمَشُ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ بَيْضُ الحَدِيدِ، وَالْحَبْلُ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْهَا مَا يساوي دَرَاهِمَ.
قد أسلفنا فقهه قريبًا.
واحتجت به الخوارج على عدم اعتبار النصاب، وأنه يقطع في قليل الأشياء وكثيرها، ولا حجة لهم فيه؛ لأن آية السرقة لما نزلت قال عليه السلام:"لعن الله السارق .. " إلى آخره على (آخر)
(1)
ما نزل عليه في ذلك الوقت، ثم أعلمه أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار فما فوقه، على ما روته عائشة رضي الله عنها كما يأتي
(2)
، ولم يكن عليه السلام يعلم من حكم الله إلا ما علمه الله، ولذلك قال:"أوتيت الكتاب ومثله معه"
(3)
يعني من السنن، قاله ابن قتيبة
(4)
.
(1)
من (ص 2).
(2)
سيأتي برقم (6789).
(3)
رواه أبو داود (4604).
(4)
"تأويل مختلف الحديث" ص 245 - 246.
وقول الأعمش: البيضة هنا: بيضة الحديد التي تغفر الرأس في الحرب. والحبل: من حبال السفن. تأويل لا يجوز عند من يعرف صحيح كلام العرب؛ لأن كل واحد من هذين يساوي دنانير كثيرة.
وفي الدارقطني: من حديث أبي عتاب الدلال، ثنا مختار بن نافع، ثنا أبو حيان التيمي عن أبيه، عن علي رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قطع في بيضة من حديد قيمتها أحد وعشرون درهمًا
(1)
.
وهذا ليس موضع تكثير لما سرقه السارق، ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانًا عرض نفسه للضرب في عقد جوهر، وتعرض للعقوبة بالغلول في جراب مسك، وإنما العادة في مثل هذا أن يقال:(لعن الله فلانا)
(2)
تعرض لقطع اليد في حبل رث، أو كبة شعر أو رداء خلق، وكل ما كان من هذا الفن أحقر فهو أبلغ.
وقال الخطابي: إن ذلك من باب التدريج؛ لأنه إذا استمر ذلك به لم يؤمن أن يؤديه ذلك إلى سرقة ما فوقها حتى يبلغ فيه القطع فتقطع يده، فليحذر هذا الفعل وليتركه قبل أن تملكه العادة ويموت عليها ليسلم من سوء عاقبته
(3)
.
وقال الداودي: ما قاله الأعمش محتمل، وقد يحتمل أن يكون هذا قبل أن يبين الشارع القدر الذي يقطع فيه السارق.
فصل:
قوله في الترجمة باب لعن السارق إذا لم يسم. كذا في جميع النسخ،
(1)
"سنن الدارقطني" 3/ 195 (3387).
(2)
في (ص 2): لعنه الله.
(3)
"أعلام الحديث" 4/ 2291.
والذي يشتق من معناه إن صح في الترجمة أنه لا ينبغي تعيير أهل المعاصي ومواجهتهم باللعنة، إنما ينبغي أن يلعن في الجملة من فعل فعلهم؛ ليكون ذلك ردعًا وزجرًا عن انتهاك شيء منها، فإذا وقعت من معين لم يلعن بعينه؛ لئلا يقنط أو ييأس، ونهى الشارع عن لعن النعيمان.
قال ابن بطال: فإن كان ذهب البخاري إلى هذا فهو غير صحيح؛ لأن الشارع إنما نهى عن لعنه بعد إقامة الحد عليه، فدل على الفرق بين من تجب لعنته، وبين من لا تجب، وبان به أن من أقيم عليه الحد لا ينبغي لعنته، ومن لم يقم عليه فاللعنة متوجهة إليه، سواء سمي وعين أم لا؛ لأنه عليه السلام لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة، ما دام على تلك الحالة الموجبة لها، فإذا تاب منها وطهره الحد فلا لعنة تتوجه إليه، ويبين هذا قوله عليه السلام "إذا زنت الأمة فليجلدها ولا يثرب"
(1)
، فدل أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحدود وقبل التوبة
(2)
.
وقال الداودي: قوله "لعن الله السارق" يحتمل الخبر؛ ليزدجر الناس، ويحتمل الدعاء.
(1)
سلف برقم (2152) كتاب: البيوع، باب: بيع العبد الزاني.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 401 - 402.
8 - باب الحُدُودُ كَفَّارَةٌ
6784 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَجْلِسٍ فَقَالَ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا» . -وَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ كُلَّهَا- "فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ، فَهْوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ". [انظر: 18 - مسلم: 1709 - فتح 12/ 84].
ذكر فيه حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَجْلِسٍ فَقَالَ: "بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا باللهِ شَيئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا". وَقَرَأَ هذِه الآيَةَ كُلَّهَا: "فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهْوَ كَفَّارَتُهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ".
هذا الحديث سلف. وللدارقطني: "ومن أصاب من ذلك شيئًا فأقيم عليه الحد في الدنيا فهو له طهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له"
(1)
، وله من حديث أسامة بن زيد، عن محمد بن المنكدر، عن ابن خزيمة بن ثابت، عن أبيه أنه عليه السلام قال:"من أصاب ذنبًا فأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته"
(2)
.
ومن حديث علي مرفوعًا "من أذنب في هذِه الدنيا ذنبًا فعوقب به فالله أكرم من أن يثني عقوبة على عبده، ومن أذنب في هذة الدنيا ذنبًا فستره الله عليه وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه"
(3)
.
(1)
"سنن الدارقطني" 3/ 215 (3454) من حديث عبادة بن الصامت.
(2)
السابق 3/ 214 (3451).
(3)
السابق 3/ 215 (3456).
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الحدود كفارة على حديث الباب، وما ذكرناه، ومنهم من (يحجم)
(1)
عن هذا لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا أدري الحدود كفارة أم لا"
(2)
وليس جيدًا؛ لأن حديث عبادة أصح من جهة الإسناد، ولو صح حديث أبي هريرة لأمكن أن يقوله قبل حديث عبادة، ثم يعلمه الله أنها مطهرة على ما في حديث عبادة، فإن قلت إن المجاز به يعارض حديث عبادة، وهو قوله تعالى {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] يعني الحدود، {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] فدلت أن الحدود ليست كفارة. والجواب أن الوعيد في المجاز به عند جميع المؤمنين مرتب على قوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية. [النساء: 48] فتأويل الآية، إن شاء الله ذلك لقوله:{لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وهذِه الآية تبطل نفاذ الوعيد على غير أهل الشرك، إلا أن ذكر الشرك في حديث عبادة مع سائر المعاصي لا يوجب أن من عوقب في الدنيا وهو مشرك، أن ذلك كفارة له؛ لأن الأمة مجمعة على تخليد الكفار في النار، وبذلك نطق الكتاب والسنة، وقد سلف هذا المعنى في كتاب الإيمان في باب علامة الإيمان حب الأنصار
(3)
. فحديث عبادة معناه الخصوص فيمن أقيم عليه الحد من المسلمين خاصة أن ذلك كفارة له.
(1)
في (ص 2): يجبن.
(2)
رواه الحاكم 2/ 450، والبيهقي في "الكبرى" 8/ 329.
(3)
سلف برقم (18).
9 - باب ظَهْرُ الْمُؤْمِنِ حِمًى، إِلاَّ فِي حَدٍّ أَوْ حَقٍّ
6785 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ عَبْدُ اللهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: «أَلَا أَيُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟» . قَالُوا أَلَا شَهْرُنَا هَذَا. قَالَ: «أَلَا أَيُّ بَلَدٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟» . قَالُوا: أَلَا بَلَدُنَا هَذَا. قَالَ: «أَلَا أَيُّ يَوْمٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟» . قَالُوا: أَلَا يَوْمُنَا هَذَا. قَالَ: «فَإِنَّ اللهَ تبارك وتعالى قَدْ حَرَّمَ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» . ثَلَاثًا كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُونَهُ: أَلَا نَعَمْ. قَالَ: «وَيْحَكُمْ
-أَوْ وَيْلَكُمْ- لَا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". [انظر: 1742 - مسلم: 66 - فتح 12/ 85].
ذكر فيه حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "أَلَا أَيُّ شَهْرٍ تَعْلَمُونَهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً؟ " الحديث السالف.
وهذا الحديث أخرجه من حديث عاصم بن علي عن عاصم بن محمد، عن واقد بن محمد قال: سمعت أبي قال: أتى عبد الله فذكره. (وعاصم)
(1)
وواقد وزيد وعمر وأبو بكر أولاد محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، روى عاصم عن أبيه، وعن أخويه واقد وعمر، اتفقا على واقد وعاصم (وعمر)
(2)
(3)
، وانفرد البخاري بعاصم بن علي بن عاصم الواسطي.
قال المهلب: قوله: (ظهر المؤمن حمى) يعني أنه لا يحل للمسلم أن يستبيح ظهر أخيه ولا بشرته لثائرة تكون بينه وبينه أو عداوة إذا لم يكن
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
(3)
انظر: "تهذيب الكمال" 13/ 542 (3027).
على حكم ديانة الإسلام مما كانت الجاهلية تستبيحه من الأعراض والدماء، وإنما يجوز استباحة ذلك في حقوق الله، أو في حقوق الآدميين، أو في أدب لمن قصر في الدين، كما كان عمر رضي الله عنه يؤدب بالدرة وبغيرها كل مظنون به ومقصر
(1)
.
فصل:
قوله: ("ألا أي") وقول أصحابه: (ألا شهرنا هذا)، العرب تزيد (ألا) في افتتاح الكلام للتنبيه، كقوله تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] و {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} [هود: 5]، و {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} وقال الشاعر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا
…
فقد جاوزتما خمر الطريق
قال ابن التين: (أي) هنا مرفوعة ويجوز نصبها، والاختيار الرفع.
فصل:
قوله: (قال"ويحكم -أو ويلكم- لا ترجعوا بعدي كفارًا") هو شك من المحدث أي الكلمتين قال؟ وهل معناهما واحد أو يفترق؟ فويح كلمة رحمة، وويل عذاب، أو ويح كلمة تقال لمن وقع في هلكة يستحقها.
قال الخليل: ولم أسمع على ثباتها إلا ويس وويب وويل
(2)
. وقد سلف ذلك واضحًا.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 404.
(2)
"العين" 3/ 319.
10 - باب إِقَامَةِ الحُدُودِ وَالاِنْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ اللهِ
6786 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ، وَاللهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ، حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ. [انظر: 3560 - مسلم: 2327 - فتح 12/ 86].
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يكن إثما، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ، والله مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ في شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ، حَتَّى تُنْتَهَكَ حرمة اللهِ، فَيَنْتَقِمُ لله.
يحتمل كما قال ابن بطال أن (يكون)
(1)
هذا التخيير ليس من الله؛ لأن الله لا يخير رسوله بين أمرين من أمور الدنيا على سبيل المشورة والإرشاد، وإلا اختار لهم أيسرهما ما لم يكن عليهم في الأيسر إثمًا؛ لأن العباد غير معصومين من ارتكاب الإثم، ويحتمل أن يكون ما لم يكن إثمًا في أمور (الدين)
(2)
، وذلك أن الغلو في الدين مذموم، والتشديد فيه غير محمود؛ لقوله عليه السلام"إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"
(3)
فإذا أوجب الإنسان على نفسه شيئًا شاقًّا من العبادة ثم لم يقدر على التمادي فيه، كان ذلك إثمًا، ولذلك نهى الشارع أصحابه عن الترهب.
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: الدنيا، والمثبت من (ص 2).
(3)
رواه النسائي 5/ 267، وابن ماجه (30259) من حديث ابن عباس.
قال أبو قلابة: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قومًا حرموا الطيب واللحم، منهم عثمان بن مظعون، وابن مسعود، وأرادوا أن يختصوا، فقام على المنبر فأوعد في ذلك وعيدًا شديدًا، ثم قال:"إني لم أبعث بالرهبانية، وإن خير الدين عند الله الحنيفية السمحة، وإن أهل الكتاب إنما هلكوا بالتشديد، شددوا فشدد عليهم" ثم قال: "اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة وحجوا البيت، واستقيموا يستقم لكم"
(1)
وقد جعل مطرف بن الشخير، ويزيد بن مرة الجعفي مجاوزة القصد في العبادة وغيرها والتقصير عنه سيئة، فقالا: الحسنة بين السيئتين، والسيئتان. إحداهما: مجاوزة القصد، والثانية: التقصير عنه، والحسنة التي بينهما هي: القصد والعدل.
وقدم ابن التين على هذين الاحتمالين أنه قيل: إنه يريد في أمر الدنيا، وأما أمر الآخرة فكلما صعب كان أعظم ثوابًا، واستدل قائل هذا بقوله:(ما لم يكن إثمًا). وفي رواية: (ما لم يكن يأثم).
فصل:
وقولها: (وما انتقم لنفسه) قال الداودي: يعني: إذا أوذي بغير السبب الذي لا يخرج إلى الكفر، مثل الأذى في المال والجفاء في رفع الصوت فوق صوته، ونحو التظاهر الذي تظاهرت عليه عائشة وحفصة، ومثل جبذ الأعرابي له حتى أثرت حاشية البرد في عنقه أخذًا منه بقوله تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43]، وأما إذا أوذي بسبب هو كفر وهو انتهاك حرمة الله
(1)
رواه ابن سعد في "طبقاته" 3/ 395 مختصرًا، ورواه أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" 3/ 500 (657) متصلًا من حديث أبي هريرة.
فيجب عليه الانتقام لنفسه؛ كفعله في ابن خطل يوم الفتح، حين تعوذ بالكعبة من القتل، فأمر بقتله دون سائر الكفار؛ لأنه كان يكثر من سبه، وقد أمر بقتل القينتين اللتين كانتا تغنيان بسبه وانتقم لنفسه؛ لأنه من سبه فقد كفر ومن كفر فقد آذى الله ورسوله؛ ولذلك قال:"من لكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله"
(1)
فانتقم منه كذلك.
قال المهلب: ولا يحل لأحد من الأئمة ترك حرمات الله أن تنتهك، وعليهم تغيير ذلك.
وقد روي عن مالك في الرجل يؤذى وتنتهك حرمته، ثم يأتيه الظالم المنتهك لحرمته، قال: لا أرى أن يغفر له، ووجه ذلك إذا كان معروفًا بانتهاك حرم المسلمين، فلا يجب أن يجري على هذا ويرد بالإغلاظ عليه والقمع له من ظلم أحد
(2)
.
وروي عن مالك أنه قال: كان القاسم بن محمد يحلل من ظلمه يكره لنفسه الخصوم، وكان ابن المسيب لا يحلل أحدًا، وسئل عن ذلك فقيل له: أرأيت الرجل يموت ولك عليه دين لا وفاء له به، (قال)
(3)
: الأفضل عندي أن أحلل.
وفي رواية أخرى: كان بعض الناس يحلل من ظلمه ويتأول: "الحسنة بعشر أمثالها"
(4)
وما هذا بالدين عندي، وإن من لم يعفه لمستوف حقه.
(1)
سلف برقم (2510) كتاب: الرهن، باب: رهن السلاح.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 405 - 407.
(3)
من (ص 2).
(4)
قطعة من حديث سلف برقم (1976)، كتاب: الصوم باب: صوم الدهر، ورواه مسلم (1159)، كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر.
وقيل: المراد بقول عائشة السالف الأموال؛ لأنها روت خبر اللدِّ وكل من كان في البيت إلا العباس فإنه لم يحضر معهم واعتزل نساءه شهرًا تواطأت عليه عائشة وحفصة، وقتل عقبة بن أبي معيط يوم بدر من بين الأسرى. وقيل: أرادت أنه لم يكن ينتقم لنفسه غالبًا، حكاهما ابن التين، قيل: ما حكيناه عن الداودي.
11 - باب إِقَامَةِ الحُدُودِ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ
6787 -
حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أُسَامَةَ كَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَةٍ، فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الحَدَّ عَلَى الْوَضِيعِ، وَيَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ فَاطِمَةُ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا". [انظر: 2648 - مسلم: 1688 - فتح 12/ 86].
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ، رضي الله عنها: أَنَّ أُسَامَةَ كَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَةٍ، فَقَالَ:"إِنَّمَا هَلَكَ مَن كَانَ قَبْلَكُم أَنَّهُم كَانُوا يُقِيمُونَ الحَدَّ عَلَى الوَضِيعِ، وَيَتْرُكُونَ الشَّرِيفَ، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَوْ أن فَاطِمَةَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لَقَطَعْتُ يَدَهَا".
قال المهلب: هذا يدل أن حدود الله لا يحل للأئمة ترك إقامتها على القريب والشريف، وأن من ترك ذلك من الأئمة فقد خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب عن اتباع سبيله، وفيه أن إنفاذ الحكم على الضعيف ومحاباة الشريف بما أهلك الله به الأمم.
ألا ترى أنه عليه السلام وصف أن بني إسرائيل هلكوا بإقامة الحد على الوضيع وتركهم الشريف، وقد وصفهم الله بالكفر والفسوق لمخالفتهم أمر الله، فقال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] الظالمون، الفاسقون.
فصل:
وقوله: "لو أن فاطمة" إلى آخره، كذا هو ثابت في الأصول، وأورده ابن التين بحذف "أن" ثم قال: تقديره: لو فعلت ذلك؛ لأن (لو) يليها الفعل دون الاسم، وهذا من معنى قوله {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]
فامتثل عليه السلام أمر ربه في ذلك، وامتثله بعده الأئمة الراشدون في تقويم أهليهم فيما دون الحدود.
وذكر عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: كان عمر بن الخطاب إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، والناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أؤتى برجل منكم وقع في شيء بما نهيته عنه إلا أضعفت عليه العقوبة لمكانه مني، فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر
(1)
(2)
.
وضرب عمر أخاه الوليد بن عقبة في الخمر، وضرب عمر ابنه عبد الرحمن في الخمر، وضرب فيها قدامة بن مظعون وكان بدريًّا، وكان خال بنيه عبد الله وحفصة وعبيد الله، ولما أمر بضربه، وكان أنكر شربها وأكثر عليه الجارود، وكان فيمن شهد، فقال له عمر: أراك خصمًا، وتواعده عبد الله، فقال له الجارود: اشرب جاروانها، أما والله لتعجزن خالدًا ولتعجزن أبوك، فقال قدامة حين أمر بضربه وكان فيما قيل لم يكن علي شيء: قال تعالى {إِذَا مَا اتَّقَوْا} [المائدة: 93]، وظن ذلك فيما يستقبل، وإنما أنزل ذلك حين حرمت، فلم يدر ما يقولون فيمن شربها قبل [أن]
(3)
تحرم فنزلت، قال عمر: وأيضاً تأول كتاب الله على غير تأويله فضربه ثمانين للشرب (وخمسين)
(4)
لتأويله
(5)
.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 343 - 344.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 407 - 408.
(3)
زيادة يقتضيها السياق.
(4)
في الأصل: خمسة والمثبت من (ص 2).
(5)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 9/ 240، وابن سعد في "طبقاته" 5/ 561 والبيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 315 - 316.
وكان عبيد الله بن أبي رافع على بيت المال، وكان في بيت المال جوهرة نفيسة فأعطاها عبيدُ الله أمَّ كلثوم بنت علي وفاطمة رضي الله عنه تزين وتردها، فرآها علي، فقال: أسرقتها والله لأقطعنك، قال له عبد الله: أنا أعطيتها إياها تزين بها وتردها، فمن أين كان تصل إليها؟ فبكت.
12 - باب كَرَاهِيَةِ الشَّفَاعَةِ فِي الحَدِّ، إِذَا رُفِعَ إِلَى السُّلْطَانِ
6788 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ الْمَرْأَةُ المَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟. فَكَلَّمَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟!» . ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا» . [انظر: 2648 - مسلم: 1688 - فتح 12/ 87].
ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها في قصة المخزومية التي سرقت المذكور قبل، وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن الحد إذا بلغ الإمام أنه يجب عليه إقامته؛ لأنه قد تعلق بذلك حق الله تعالى، فلا تجوز الشفاعة فيه؛ لإنكاره ذلك على أسامة، وذلك من أبلغ النهي، ثم قام عليه السلام خطيبًا فحذر أمته من الشفاعة في الحدود إذا بلغت إلى الإمام، فإن قلت فقد قال مالك وأبو يوسف والشافعي: إن القذف إذا بلغ إلى الإمام يجوز للمقذوف العفو عنه إذا أراد سترًا. قيل له: إن هذِه شبهة يجوز بها درأ الحد؛ لأنه إن ذهب الإمام إلى حد القاذف حتى يأتي بالبينة على صدق ما قال فيسقط الحد عنه، وربما وجب على المقذوف، بفوت السنة في ذلك، وقد قال مالك في القطع في "المدونة": يجوز وإن بلغ الإمام وإن لم يرد سترًا، وقال مرة أيضًا: إنه لا يجوز عفوه إذا بلغ الإمام
(1)
.
(1)
"المدونة" 4/ 414.
وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي: وهو أشبه بظاهر الحديث، وأجاز أكثر أهل العلم الشفاعة في الحدود قبل وصولها إلى (الإمام)
(1)
، روي ذلك عن الزبير بن العوام، وابن عباس، وعمار، ومن التابعين سعيد بن جبير والزهري، وهو قول الأوزاعي، قالوا: وليس على الإمام التجسس على ما لم يبلغه، وكره ذلك طائفة فقال ابن عمر رضي الله عنهما: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه.
وفرق مالك بين من لم يعرف منه أذى للناس، فقال: لا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأما من عرف بشر وفساد في الأرض فلا أحب أن يشفع له أحد، ولكن يترك حتى يقام عليه الحد
(2)
.
والذي في "المدونة": أن هذا في التعزير والنكال إذا كان من أهل المروءة والعفاف، وإذا طلبوه تجافى السلطان عن عقوبته، وإن كان عرف بالبطش والأذى ضربه النكال بخلاف الحدود
(3)
.
قال الشيخ أبو إسحاق: إذا كان ذلك في حق من حقوق الله، وأما حقوق الآدميين فلا تسقط إلا برضا صاحبها، ولكن في "المدونة": وقد تكون منه الزلة وهو معروف بالصلاح والفضل، وأن الإمام ينظر فإن كان شيخاً فاحشًا أدبه قدر ما يؤدب مثله في فعله، وإن كان خفيفًا فيتجافى السلطان عن الزلة التي تكون من ذوي المروءات
(4)
. وهذا رد على الشيخ أبي إسحاق.
(1)
في الأصل: الأمير.
(2)
انظر: "الإشراف" 2/ 316.
(3)
"المدونة" 4/ 387.
(4)
"المدونة" 4/ 391.
قال ابن المنذر: واحتج من رأى الشفاعة مباحة قبل الوصول بحديث الباب؛ لأنه عليه السلام إنما أنكر شفاعة أسامة في حد قد وصل إليه وعلمه
(1)
.
فصل:
وفي هذا الحديث بيان رواية معمر، عن الزهري أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر عليه السلام بقطع يدها
(2)
، وقد تعلق به قوم فقالوا: من استعار ما يجب القطع فيه، فجحده فعليه القطع، هذا قول أحمد وإسحاق.
قال أحمد: ولا أعلم شيئًا (يخالفه)
(3)
.
وخالفهم المدنيون والكوفيون والشافعي وجمهور العلماء فقالوا: لا قطع عليه، حجتهم رواية الكتاب التي سرقت، فدل أنها لم تقطع على العارية، يوضحه قوله عليه السلام "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"
(4)
.
فوضح بذلك لو لم يذكر الليث في رواية البخاري أنها سرقت.
قال ابن المنذر: وقد يجوز أن تستعير المتاع وتجحده، ثم سرقت فوجب القطع للسرقة.
وقد تابع الليث على روايته يونس بن يزيد، وأيوب بن موسى، عن الزهري كرواية الليث عند الشيخين.
(1)
"الإشراف" 2/ 316. بمعناه.
(2)
رواه عبد الرزاق 10/ 201.
(3)
في (ص 2): يدفعه.
(4)
انظر: "الاستذكار" 24/ 244 - 248.
وفي رواية أيوب أيضًا، عند النسائي: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعه، فقالوا: ما كنا نرى أن يبلغ به هذا فقال: "لو كانت فاطمة لقطعت يدها"
(1)
. وإذا اختلفت الآثار وجب الرجوع إلى النظر، ووجب رد ما اختلف فيه إلى كتاب الله، وإنما أوجب الله القطع على السارق لا على المستعير، وروى النسائي: فأمر بلالًا فأخذ بيدها فقطعها فكانت تستعير متاعًا على ألسنة جاراتها وتجحده
(2)
، وفي لفظ:"لتَتُبْ هذِه المرأة إلى الله وإلى رسوله، وترد ما تأخذ على القوم"
(3)
.
وفي رواية: استعارت على ألسنة أناس يعرفون وهي لا تعرف حليًّا فباعته وأخذت ثمنه
(4)
، وفي "المصنف": عن ابن نمير، ثنا ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن ركانة، عن أمه عائشة بنت مسعود بن الأسود [عن أبيها]
(5)
قال: لما سرقت المرأة القرشية تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمنا ذلك، فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نكلمه فقلنا: نحن نفديها بأربعين أوقية، قال:"تطهر خير لها" فلما سمعنا قوله أتينا أسامة فقلنا: كلم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث
(6)
.
وفي النسائي من حديث أبي الزبير، عن جابر أن امرأة سرقت فاقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أسامة
(7)
.
(1)
"سنن النسائي" 8/ 71.
(2)
"سنن النسائي" 8/ 70 - 71 (4888) من حديث ابن عمر.
(3)
السابق 8/ 71 (4889) من حديث ابن عمر.
(4)
السابق 8/ 71 (4892) من حديث سعيد بن المسيب.
(5)
ليست في الأصل والمثبت من "المصنف".
(6)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 470 - 471.
(7)
"سنن النسائي" 8/ 71 بلفظ: فعاذت بأم سلمة. ورواه بلفظه عن عروة عن عائشة 8/ 72 - 73 (4897).
ورواه كذلك من طرق عن الزهري، عن عروة عنها
(1)
.
وروى أبو قرة في "سننه" من حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مغفل أنه عليه السلام أتي بامرأة سرقت حليًّا فقطعها. ورواه أبو الشيخ في كتاب "القطع والسرقة" من حديث الزهري، عن عروة، عنها أنه عليه السلام أتي بسارق أو سارقة فأمر بها فقطعت وقال:"لو كانت فاطمة لأقمت عليها الحد" ومن حديث أبي هاشم، عن زاذان، عن عائشة أنه عليه السلام قطع امرأة سرقت، فقال الحديث.
ومما يزيد ذلك وضوحًا قوله لأسامة: "أتشفع في حد من حدود الله؟ " وليس في الكتاب والسنة حد من حدود الله فيمن استعار وجحد.
فصل:
هذِه المرأة هي فاطمة بنت أبي الأسد -أو أبي الأسود- ابن أخي عبد الله بن عبد الأسد زوج أم سلمة
(2)
.
رويناه عن أبي زكريا يحيى بن عبد الرحيم، عن عبد الغني بن سعيد الحافظ، ثم ساقه بإسناده إلى شقيق، قال: سرقت فاطمة بنت أبي الأسد بنت أخي أبي سلمة زوج أم سلمة، فأشفقت قريش أن يقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلموا أسامة .. الحديث
(3)
.
وفي كتاب "المثالب" عن (الهيثم)
(4)
بن عدي: هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد وأمها ابنة عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر من بني عامر بن لؤي بن غالب، خرجت تحت الليل فوقعت
(1)
"سنن النسائي" 8/ 72 - 75.
(2)
انظر: "الاستيعاب" 4/ 446 (3487)، "أسد الغابة" 7/ 218 (7169).
(3)
انظر: "أسد الغابة" 7/ 218 (7169).
(4)
في (ص 2): القاسم.
بركب بجانب المدينة فأصابت عيبة لبعضهم فأخذت، فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاذت تحوي أم سلمة، فأمر بها فقطعت يدها عند أم سلمة، فلما قطعت خرجت ويدها تقطر دمًا، حتى دخلت على امرأة أسيد بن حضير فرحمتها وصنعت لها طعامًا، فجاء أسيد فقال لامرأته قبل أن يدخل: يا فلانة هل علمت ما أصاب أم عمرو بنت سفيان، فقالت: ها هي ذه عندي، فرجع أدراجه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"رحمتها رحمها الله" فلما رجعت إلى أبيها سفيان، فقال: اذهبوا بها إلى حويطب بن عبد العزى أخوالها فإنها أشبهتهم، فقال خنيس بن يعلي بن أمية حليف بني نوفل:
يا رب بنت لابن سلمى جعدة
…
سراقة لحقائب الركبان
باتت تحوس عيابهم بأكفها
…
حتى أقرت غير ذات بنان
وكان سفيان أبوها ينا
…
دي على طعام ابن جدعان
قال أمية:
له داع بمكة مشمعل
…
وآخر فوق دارته ينادي
قال (الكلبي)
(1)
: المشمعل: هو سفيان بن عبد الأسد. وروى أبو موسى المديني في "الصحابة" من حديث عمار، عن شقيق قال: سمعت فاطمة بنت أبي الأسود بنت أخي أبي سلمة أنها قالت: سرقت امرأة من قريش فأراد أن يقطعها، فكلموا أسامة أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحديث.
قال أبو موسى: وكان الأول يعني ما ذكرناه من عند عبد الغني أصح؛ لأن أبا بكر بن ثابت ذكره أيضًا كذلك.
(1)
في الأصل: الطبري، والمثبت من (ص 2).
قلت: ويجوز أن تكون في الثانية عبرت عن نفسها ولم تفصح، ومثله ما نقله أبي سعيد الخدري لما روى حديث الرقية وهو الراقي، قال فيه: فقال رجل: أنا أرقي
(1)
. وسماها أبو عمر فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد
(2)
. وقال ابن قتيبة في "معارفه": هي أول امرأة قطعت يدها في السرقة، وسمى أباها سفيان بن عبد الأسد
(3)
.
(1)
سلف برقم (2276) كتاب: الإجارة، باب: ما يعطى في الرقية على أحياء العرب. ورواه مسلم برقم (2201) كتاب: السلام، باب: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار.
(2)
"الاستيعاب" 4/ 446 (3487).
(3)
"المعارف" ص 556.
13 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَفِي كَمْ يُقْطَعُ
؟
وَقَطَعَ عَلِيٌّ مِنَ الكَفِّ، وَقَالَ قَتَادَةُ فِي امْرَأَةٍ سَرَقَتْ فَقُطِعَتْ شِمَالُهَا لَيْسَ إِلاَّ ذَلِكَ.
6789 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. [انظر:6790، 6791 - مسلم: 1684 - فتح 12/ 96].
6790 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ". [انظر: 6789 - مسلم: 1684 - فتح 12/ 96].
6791 -
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَتْهُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يُقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ". [انظر: 6789 - مسلم: 1684 - فتح 12/ 96].
6792 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ يَدَ السَّارِقِ لَمْ تُقْطَعْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ فِي ثَمَنِ مِجَنٍّ: حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ.
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ. [انظر: 6793، 6794 - مسلم: 1685 - فتح 12/ 96].
6793 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ تَكُنْ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي أَدْنَى مِنْ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذُو ثَمَنٍ. [انظر: 6792 - مسلم: 1685 - فتح 12/ 97].
رَوَاهُ وَكِيعٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلاً
6794 -
حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمْ تُقْطَعْ يَدُ سَارِقٍ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ: تُرْسٍ أَوْ حَجَفَةٍ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَا ثَمَنٍ. [انظر: 6792 - مسلم: 1685 - فتح 12/ 97].
6795 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ -مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. [انظر: 6796، 6797، 6798 - مسلم: 1686 - فتح 12/ 97].
6796 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. [انظر: 6795 - مسلم:1686 - فتح 12/ 97].
6797 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. [انظر: 6795 - مسلم: 1686 - فتح 12/ 97].
6798 -
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَ سَارِقٍ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ: قِيمَتُهُ. [انظر: 6795 - مسلم: 1686 - فتح 12/ 97].
6799 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ". [انظر: 6783 - مسلم: 1687 - فتح 12/ 97].
التعليق عن عليٍّ رضي الله عنه رواه ابن أبي شيبة عن وكيع، عن سمرة بن معبد (أبي)
(1)
عبد الرحمن قال: رأيت أبا خيرة مقطوعًا من المفصل، فقلت: من قطعك؟ قال الرجل الصالح: علي رضي الله عنه أما إنه لم يظلمني
(2)
.
ورواه وكيع أيضًا عن سمرة قال: سمعت عدي بن حاتم عن رجاء بن حيوة أنه عليه السلام قطع رجلاً من المفصل (2). ورواه أيضًا عن أبي سعيد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة أن عمر رضي الله عنه قطع اليد من المفصل وقطع علي رضي الله عنه القدم، وأشار ابن دينار إلى شطرها (2).
قال أبو ثور: فعل عليٍّ أرفق وأحب إليَّ، وقول قتادة رواه أحمد بن حنبل في "تاريخه الكبير" عن محمد بن الحسن الواسطي، أنا عوف عنه.
ثم ساق البخاري من حديث عَائِشَةَ: حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"تُقْطَعُ اليَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا". تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ خَالِدٍ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
متابعة الأولين رواها محمد بن يحيى الذهلي في كتابه "علل أحاديث الزهري": عن روح بن عبادة ومحمد بن بكر عنهما.
ومتابعة الثالث، رواها (مسلم)
(3)
عن إسحاق بن إبراهيم وأبي حميد، كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر به
(4)
.
(1)
في الأصل (أن) والمثبت من "تغليق التعليق" 5/ 230، "عمدة القاري" 19/ 258.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 517.
(3)
في (ص 2): همام.
(4)
مسلم (1684/ 1)، كتاب الحدود.
ثم ساق البخاري من حديث يُونُسَ، عَنِ الزهري، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ".
وفي حديث مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصارِيِّ، عَنْ عَمْرَةَ، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يُقطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ".
ومن حديث عَبْدَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عنها أَنَّ يَدَ السَّارِقِ لَمْ تُقْطَعْ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَّا فِي ثَمَنِ مِجَنٍّ: حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ.
ومن حديث حميد بن عبد الرحمن، عن هِشَامِ، به: لَمْ تُكُنْ تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي أَدْنَى مِنْ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذُو ثَمَنٍ
(1)
. (رَوَاهُ وَكِيعٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا)
(2)
.
ومن حديث أبي أُسَامَةَ، عن هشام، به: لَمْ تكن تُقْطَعْ يَدُ السَارِقِ عَلَى عَهْدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ المِجَنِّ: تُرْسٍ أَوْ حَجَفَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذو ثَمَنٍ.
رَوَاهُ وَكِيعٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا
(3)
.
ومن حديث مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّه صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ.
ومن حديث جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما: قَطَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ.
(1)
إسناد هذا الحديث تبع للحديث الذي قبله، وأما المتن فقد سقط إسناده من المصنف، وهو من حديث محمد بن مقاتل، عن عبد الله، عن هشام به.
(2)
من (ص 2).
(3)
هذا الإسناد تبع للإسناد الساقط من المصنف من حديث محمد بن مقاتل.
ومن حديث عُبَيْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَطَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ.
ومن حديث مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ، عن ابن عُمَرَ قَالَ: قَطَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَ سَارِقٍ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ: قِيمَتُهُ.
ومن حديث الأَعْمَشِ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ: (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ)
(1)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لُعِنَ السَّارِقُ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ".
(الشرح)
(2)
: أما رواية وكيع فأخرجها عبد الرزاق في "مصنفه" عنه
(3)
، فيما ذكره الطبراني في "أوسطه"
(4)
.
وللنسائي: أخبرنا (هارون بن سعيد)
(5)
، ثنا خالد بن نزار، أخبرني القاسم بن مبرور عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عنها أنه عليه السلام قال:"لا تقطع إلا في -يعني: ثمن المجن- ثلث دينار أو نصف دينار فصاعدًا"
(6)
ووافقه ابن عيينة وابن المبارك ويحيى بن سعيد وعبد ربه وزريق صاحب أيلة.
(1)
من (ص 2).
(2)
في الأصل: فصل، والمثبت من (ص 2).
(3)
لم أقف عليه، وقد رواه عن ابن جريج عن هشام به. "المصنف" 10/ 234 - 235، ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 255 عن وكيع عن هشام به.
(4)
لم أقف عليه في المطبوع.
(5)
في الأصل: مروان بن سعد، والمثبت من "سنن النسائي" كما في "تحفة الأشراف"(16695)
(6)
"سنن النسائي" 8/ 78.
وفي حديث عروة عنها: ثمنه أربعة دراهم
(1)
. ولابن أبي شيبة بإسناد عنها أن السارق لم يقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن حجفة أو ترس، كل واحد منهما ذو ثمن
(2)
.
قال ابن حزم: هو حديث صحيح تقوم به الحجة وهو مسند، وهو رد لقول من قال: إن ثمن المجن الذي قطع فيه إنما هو مجن واحد بعينه معروف، وهو الذي سرق فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فإن عائشة رضي الله عنها روت أن المراعى في ذلك ثمن حجفة أو ترس، وكلاهما ذو ثمن، ولم يحقق ترسًا من حجفة
(3)
.
وأما رواية الليث فأخرجها مسلم، عن قتيبة وابن رمح عنه
(4)
، ولما أخرجها الترمذي عن قتيبة صححها
(5)
.
ولأبي داود من حديث إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن عبد الله، أنه عليه السلام قطع يد رجل سرق ترسًا من صُفة النساء ثمنه ثلاثة في راهم
(6)
.
وللنسائي من حديث أيوب، وإسماعيل بن أمية، وموسى بن عقبة، وعبيد الله بن عمر، عن نافع: قيمته
(7)
.
وقال ابن حزم: لم يروه عن ابن عمر أحد إلا نافع.
وفي رواية حنظلة، عن نافع عنه: قيمته خمسة دراهم
(8)
(9)
.
(1)
السابق 8/ 81.
(2)
لم أقف عليه في المطبوع.
(3)
"المحلى" 11/ 352 - 354.
(4)
مسلم (1686/ 6).
(5)
"سنن الترمذي"(1446).
(6)
"سنن أبي داود"(4386).
(7)
"سنن النسائي" 8/ 77.
(8)
السابق 8/ 76.
(9)
"المحلى" 11/ 353.
وفي "الاستذكار" لابن عبد البر: حديث ابن عمر موافق لحديث عائشة، ولو خالفه كان الرجوع إلى حديث عائشة؛ لأنها حكته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمر إنما أخبر أن قيمته كانت ثلاثة دراهم ولم يذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
.
ولابن أبي شيبة من حديث ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"لا قطع في تمر معلق، ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن"
(2)
.
وأخرجه أصحاب السنن الأربعة
(3)
، وحسنه الترمذي.
وللدارقطني: "وثمن المجن دينار"
(4)
.
ولابن ماجه من حديث أبي واقد عن عمار بن سعد، عن أبيه أنه عليه السلام قال:"يقطع السارق في ثمن المجن"
(5)
.
قال ابن حزم: وجاء حديث لم يصح؛ لأن راويه أبو حرملة، ولا يُدرى مَنْ هو: أن جارية سرقت ركوة لم تبلغ ثلاثة دراهم، فلم يقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وأما القطع في ربع دينار فلم يُروَ إلا عن عائشة، وروي عنها على ثلاثة أضرب: لا قطع إلا في ربع دينار، ثانيها: قطع في ربع دينار، وقال:"القطع في ربع دينار". ثالثها: لم يقطع في أقل من ثمن المجن.
(1)
"الاستذكار" 24/ 159.
(2)
لم أقف عليه في المطبوع.
(3)
"سنن أبي داود"(4390)، "سنن الترمذي"(1288)، "سنن النسائي" 8/ 84 - 85، "سنن ابن ماجه"(2596).
(4)
"سنن الدارقطني" 3/ 194 - 195.
(5)
"سنن ابن ماجه"(2586).
ولم يَروِ هذِه الألفاظ باختلافها عنها إلا القاسم وعروة وعمرة وامرأة عكرمة، ولم تسم لنا.
فأما القاسم فأوقفه، وأنكر عبد الرحمن ابنه على من رفعه وخطأه.
وأما الأول فلم يروه أحد نعلمه إلا يونس عن الزهري، عن عروة وعمرة مسندًا وأبو بكر بن حزم، عن عمرة مسندًا.
وأما الذين رووا القطع في ثمن المجن دون تحديد فهشام عن أبيه، وامرأة عكرمة، عن عائشة
(1)
.
وللدارقطني من حديث أنس أنه عليه السلام قطع في شيء قيمته خمسة دارهم
(2)
.
قال أبو هلال الراسبي راويه عن قتادة: إن ابن أبي عَرُوبة يقول: عن أنس، عن أبي بكر الصديق. قال: فلقيت هشامًا فذكرت ذلك له، فقال: هو عن قتادة، عن أنس أن رجلاً سرق مجنًّا فإن لم يكن عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن رسول الله، وعن أبي بكر
(3)
. ثم أخرجه من حديث شعبة عن قتادة، عن أنس أن رجلاً سرق مجنًّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم خمسة دراهم فقطعه
(4)
.
(فصل)
(5)
:
قال الطحاوي: إنما أخبرت عائشة بما قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكون ذلك؛ لأنها قومت ما قطع فيه، فكانت قيمته عندها
(1)
"المحلى" 11/ 353 - 354.
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 186.
(3)
"سنن الدارقطني" 3/ 186.
(4)
السابق 3/ 190.
(5)
من (ص 2).
ربع في دينار، فجعلت ذلك مقدار ما كان عليه السلام يقطع فيه، وقيمته عند غيرها أكثر من ربع دينار
(1)
.
واعترض البيهقي فقال: لو كان أهل الحديث على هذا اللفظ لعائشة عند أهل العلم بحالها كانت أعلم بالله، وأفقه في دينه، وأخوف من الله في أن تقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فيما لم تحط به علمًا، أو تطلق مثل هذا التقدير فيما تقومه بالظن والتخمين، ومن الجائز أن يكون (عند غيرها)
(2)
أكثر قيمة منه، ثم تفتي بذلك المسلمين، نحن لا نظن بعائشة مثل هذا لما تقرر عندنا من إتقانها في الرواية، وحفظها للسنة، ومعرفتها بالشريعة.
هذا وحديث ابن عيينة الذي رواه الشافعي عن الزهري، عن (عروة)
(3)
، عنها أنه عليه السلام قال:"القطع في ربع دينارٍ فصاعدًا"
(4)
لم يخرجه في الصحيح، وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الرواة في لفظه.
ثم ذكر حديث ابن وهب عن يونس، عن الزهري، عن عروة وعمرة أنه عليه السلام قال:"تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا"
(5)
.
قال: ولا فرق بين اللفظين في المعنى، قال: فرجع هذا الشيخ إلى ترجيح رواية ابن عيينة، وقال: يونس بن يزيد عندكم لا يقارب ابن عيينة، فكيف تحتجون بما روى يونس وتدعون ما رواه سفيان؟ وكان ينبغي لهذا الشيخ أن ينظر في تواريخ أهل العلم بالحديث، ويبصر مدارج الرواة
(1)
"شرح معاني الآثار" 3/ 164 - 165.
(2)
في الأصل: عندها، والمثبت من (ص 2).
(3)
كذا بالأصل، وفي "الأم" و"مسند الشافعي": عمرة.
(4)
"الأم" 6/ 133، "مسند الشافعي" بترتيب السندي 2/ 83 (270).
(5)
"معرفة السنن والآثار" 12/ 358 (17007).
ومنازلهم في (الرواية)
(1)
، ثم يدعي عليهم ما رأى من مذهبهم ويلزمهم ما وقف عليه من أقاويلهم، لو قال: ابن عيينة لا يقارب يونس بن يزيد في الزهري كان أقرب إلى أقاويل أهل العلم بالحديث من أن يرجح رواية ابن عيينة على رواية يونس
(2)
. قلت: لكن ذكر يحيى بن سعيد أن ابن عيينة أحب إليه في الزهري من معمر
(3)
، ومعمر معدود عند يحيى في الطبقة الأولى من أصحاب الزهري.
وقال محمد بن وضاح: كان سفيان أحفظ من كل من يطلب عن الزهري في أيام سفيان، وقال ابن مهدي: كان أعلم الناس بحديث الحجاز
(4)
.
قلت: وابن شهاب حجازي أيضًا. وقال أبو حاتم الرازي: أثبت أصحاب الزهري مالك وابن عيينة
(5)
، وذكر أبو جعفر البغدادي: أنه سأل أحمد بن حنبل، مَن كان من الحفاظ من أصحاب الزهري؟ فقال: مالك وسفيان ومعمر قلت: فإنهم أعتلوا، فقالوا: إن سفيان سمع من الزهري وهو ابن أربع عشرة سنة.
قلت: هو عندنا ثقة ضابط لسماعه.
وقال ابن المديني: ما في أصحاب الزهري أتقن من ابن عيينة
(6)
، وقال ابن المبارك: الحفاظ عن الزهري ثلاثة: مالك ومعمر وسفيان.
(1)
في الأصل: الرواة. والمثبت من "معرفة السنن والآثار".
(2)
"معرفة السنن والآثار" 12/ 358 - 362.
(3)
انظر: "الجرح والتعديل" 4/ 227 (973).
(4)
انظر: "سير أعلام النبلاء" 8/ 457.
(5)
"الجرح والتعديل" 4/ 227.
(6)
انظر: "تهذيب الكمال" 11/ 189.
وقال يعقوب بن شيبة: أثبت الناس في الزهري ابن عيينة وزياد بن سعد ومالك ومعمر. وقال وكيع بن الجراح: ذاكرت يونس بن يزيد بأحاديث الزهري المعروفة، وجهدت أن يقيم لي حديثًا فما أقامه، ولم يكن يحفظ وكان سيئ الحفظ.
وقال أحمد: لم يكن يعرف الحديث.
فصل:
قال البيهقي: والعجب أن هذا الشيخ أوهم من نظر في كتابه أنه لم يرو هذا الحديث عن الزهري غير ابن عيينة ويونس، ثم رواه في آخر الباب من حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري، وكذا رواه سليمان بن كثير، فهؤلاء جماعة من (حفاظ)
(1)
أصحاب الزهري وثقاتهم قد أجمعوا على رواية هذا الحديث منقولًا من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه يونس، إنما تدل روايتهم على أن أهل الحديث ما رووه دون ما رواه ابن عيينة، وإن كان يجوز أن يكونا محفوظين بأن يقطع
في ربع دينار، (ويقول القطع في ربع دينار فصاعدًا)
(2)
.
وروى ابن عيينة مرة الفعل دون القول ومرة عكسه، وروى هؤلاء القول دون الفعل؛ لأنه أبلغ في البيان، هذا وقد رواه سليمان بن يسار وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن عمرة مثل رواية الجماعة.
قال: وأما حديث مخرمة بن بكير، عن أبيه فإن هذا الشيخ علله بأنه لم يسمع من أبيه شيئًا، واحتج بما حكي من إنكاره سماع كتب أبيه، وقد حكئ إسماعيل عن مالك قال: قلت لمخرمة: إن الناس يقولون: إنك لم
(1)
من (ص 2).
(2)
من (ص 2).
تسمع هذِه الأحاديث التي تروي عن أبيك من أبيك فقال: ورب صاحب هذا القبر والمنبر لقد سمعتها من أبي، قال ذلك ثلاثًا.
قال البيهقي: وروينا عن (معن)
(1)
بن عيسى أنه قال: مخرمة سمع من أبيه، وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، واعتمده مالك فيما أرسل في "الموطأ" عن أبيه بكير، وإنما أخذه عن مخرمة، وخرج له مسلم أحاديث في "الصحيح" عن أبيه، فيحتمل أن يكون مراده من حكى عنه من (إنكاره)
(2)
سماع البعض دون الكل، ثم هب أن الأمر على ما حكي عنه من الإنكار أليس قد جاء بكتب أبيه الرجل الصالح سليمان بن يسار، فإذا فيها تلك الأحاديث؟ أفما يدلنا ما وجد في كتاب أبيه من حديث القطع على متابعة سليمان بن يسار، عن عمرة أكبر أصحاب الزهري في لفظ الحديث؟ والله أعلم.
فصل:
قال البيهقي: وعلل هذا الشيخ حديث أبي بكر بن حزم بما رواه ابنه عبد الله بن أبي بكر ويحيى بن سعيد وعبد ربه بن سعيد وزريق بن حكيم، هذا الحديث عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها (مرفوعًا)
(3)
، وأخذ في كلام يوهم من نظر في كتابه أن هذا الشيخ أبا بكر بن حزم تفرد بهذا الحديث، وأن الذين خالفوه أكثر عددًا وأشد اتقانًا وحفظًا، ولم يعلم حال أبي بكر في علمه بالقضاء والسنن، وشدة اجتهاده في العبادة، وأن عمر بن عبد العزيز اعتمده في القضاء بين المسلمين بالمدينة،
(1)
في الأصل: معمر، والمثبت من "معرفة السنن والآثار" 12/ 369.
(2)
في الأصل: إجازة، والمثبت من (ص 2).
(3)
هكذا في الأصل وفي "معرفة السنن والآثار" موقوفًا.
واعتمده أيضًا في كتب حديث عمرة إليه، أفلا يعتمده فيما روي عن عمرة، وقد تابعه غيره -وهو أحفظ الناس في دهره- ابن شهاب وغيره.
فأما ما روي في ذلك عن يحيى بن سعيد وغيره، كما رويناه عن يعقوب بن سفيان قال: قال أبو بكر الحميدي في حديث: "يقطع السارق في ربع دينار فصاعدًا": قيل لسفيان: إن الزهري رفعه دون غيره.
وقال سفيان: ثناه يحيى وعبد ربه ابنا سعيد وعبد الله بن أبي بكر وزريق بن حكيم عن عمرة، عن عائشة أنها قالت:"القطع في ربع دينار فصاعدًا"
(1)
والزهري أحفظهم كلهم.
قال البيهقي: ففي هذا الحديث تبين أن الزهري رفعه قولًا منه، كما حكاه أبو بكر الحميدي، وهذا خلاف ما اعتمده هذا الشيخ من رواية سفيان، وتبين أن الزهري أحفظهم، وأخبرهم أن يحيى بن سعيد أشار إلى الرفع، وكذلك رواه مالك، عن يحيى، وقد رواه سعيد ابن أبي عروبة، عن يحيى بن (مرة)
(2)
فقال: أنبأنا يحيى عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا:"القطع في ربع دينار فصاعدًا" ولا أدري عمن أخذه عن يحيى؟ وأسنده أيضًا أبان بن يزيد وبدل بن المحبَّر عن شعبة، عن يحيى. وكانت عائشة تفتي بذلك وترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الرواة كانوا يقتصرون في الرواية مرة على فتواها ومرة على روايتها؛ لقيام الحجة بكل واحدة منهما.
وأما حديث عبد الله بن أبي بكر -يعني: الذي أشار إليه الشيخ- فإنه روى عن عمرة قصة المولاتين اللتين خرجتا مع أم المؤمنين عائشة والعبد
(1)
"معرفة السنن والآثار" 12/ 371.
(2)
كذا بالأصل، وفي "معرفة السنن والآثار": سعيد.
الذي سرق منهما، وأنها أمرت فقطعت يده، وقالت:"القطع في ربع دينار فصاعدًا"، فعائشة كانت تقضي بذلك وتفتي به طول عمرها، وترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة، وكانت عمرة تروي مرة فتواها، ومرة روايتها على عادة الرواة ونقلة الأخبار، فلا يعلل حديث الحفاظ الثقات بمثل هذا.
وقد رويناه من حديث يونس عن الزهري، عن (عروة)
(1)
وعمرة عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروي عن أبي عمر الحوضي، عن همام، عن قتادة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رفعته:"السارق يقطع في ربع دينار". وتابعه على رفعه عن همام عبد الصمد بن عبد الوارث وإسحاق بن إدريس، وهدبة بن خالد في بعض الروايات عنه.
وروي موقوفًا، وهذا لا يخالف رواية هشام عن أبيه عنهما أنها قالت: لم يقطع سارق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن حجفة أو ترس، وكلاهما ذو ثمن. فهشام إنما رواه في رجل سرق قدحًا فأمر عمر بن عبد العزيز، قال هشام: فقلت قال أبي: إنه لا تقطع اليد في الشيء التافه، وقال: أخبرتني عائشة رضي الله عنها أنه لم تكن تقطع اليد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن مجن حجفة أو ترس.
وقيمة المجن غير مذكورة في هذِه الروايات، وقد ذكرتها عمرة عن عائشة في رواية ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن عمرة قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟
(1)
وقع في الأصل: عمرة، خطأ، والمثبت من "معرفة السنن والآثار".
قالت: ربع دينار، وبينها أيضًا ابن عمر رضي الله عنهما كما سلف، رواه نافع عنه، ورواه جماعة عن نافع.
وقال الشافعي: حديث ابن عمر موافق لحديث عائشة؛ لأنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده ربع دينار، وذلك أن الصرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر درهمًا بدينار، وكان كذلك بعده، وفرض عمر رضي الله عنه الدية اثني عشر ألف درهم.
أنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن عمرة أن سارقًا سرق أترجة في عهد عثمان رضي الله عنه، فأمر بها عثمان فقدمت ثلاثة دراهم من صرف أثني عشر درهمًا بدينار فقطع يده. قال: وهي الأترجة التي يأكلها الناس
(1)
.
وفي "شرح الموطأ" لعبد الملك بن حبيب السلمي: قال غيره: كانت من ذهب قال عبد الملك: والقول عندنا ما قاله مالك.
قال الشافعي: وحديث عثمان يدل على ما وصفنا من الدراهم كانت اثني عشر بدينار.
قال: ويدل حديث عثمان أيضًا على أن اليد تقطع أيضًا في التمر الرطب، صَلَحَ لأنْ يَيْبَسَ أم لم يَصْلُح؛ لأن الأترج لا يَيْبَسُ
(2)
.
حدثنا ابن عيينة، عن حميد الطويل، سمع قتادة يسأل أنس بن مالك عن القطع، فقال: حضرت أبا بكر الصديق قطع سارقًا في شيء ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم، وثنا غير واحد عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه قال: القطع في ربع دينار فصاعدًا.
(1)
"الأم" 6/ 134. وانظر: "معرفة السنن والآثار" 12/ 376 - 377.
(2)
"الأم" 6/ 134.
قال البيهقي: ورواه سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن (عليًّا)
(1)
قطع يد سارق في بيضة من حديد ثمن ربع دينار.
فصل:
قال: وهذا الشيخ الذي تكلم في الأخبار التي احتججنا بها بالطعن فيها، الآن انظر بأي شيء احتج، روى في مقابلة حديث مالك وعبيد بن عمر وأيوب السختياني وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أمية وحنظلة بن أبي سفيان وأيوب بن موسى وأسامة بن زيد والليث عن نافع، عن مولاه مرفوعًا قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. وفي رواية الليث: قوِّم ثلاثة دراهم.
وحديث محمد بن إسحاق بن يسار عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس: كانت قيمة المجن الذي قطع به رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.
وحديث ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مثله، وحديث مجاهد وعطاء عن ابن الحبشي مرفوعًا "أدنى ما قطع فيه السارق ثمن المجن". وكان يُقوَّم يومئذٍ دينارًا، وقيل: عن أيمن بن أم أيمن، عن أم أيمن ومن اتصف إلى أدنى معرفة بالأخبار، علم أن لمثل هذِه الأخبار لا يترك حديث عبد الله بن عمر ولا حديث عائشة.
وحديث أبي بكر بن حزم وعمرة، عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رواته عن أبي بكر يزيد بن الهاد ومحمد بن إسحاق، فابن الهاد أجمع الحفاظ على توثيقه والاحتجاج بروايته، ومحمد بن إسحاق قد يحتج به فيما لا يخالف فيه أهل الحفظ، وهو
(1)
في الأصل: عقبة. والمثبت من "معرفة السنن والآثار".
في تلك الرواية لم يخالف أحدًا، فحقيق له أن لا يحتج بروايته هذِه، وقد خالفه فيها من هو أحفظ منه الحكم بن عتيبة، فإنه إنما رواه عن عطاء ومجاهد، عن أيمن هذا.
وفي رواية أبي داود في "سننه" عن عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن أبي السري العسقلاني، واللفظ له عن عبد الله بن نمير، عن ابن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجل في مجن قيمته دينارٌ أو عشرة دراهم
(1)
. وهذِه كناية عن سرقة بعينها، وهي لا تخالف في المعنى ما نعني، ومن يرد في هذِه المسألة روايته عن محمد بن (شبرمة)
(2)
، عن عبد الله بن صالح، عن يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة، عن العلاء بن الأسود وأبي سلمة بن عبد الرحمن وكثير بن خنيس -أو قال: ابن حبيش- أنهم تنازعوا في القطع فدخلوا على عائشة يسألونها فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدًا" فإنه لا يعلم لجعفر بن ربيعة، عن أبي سلمة سماعًا، فلا ينبغي له أن يحتج برواية أيمن الحبشي، وروايته عن رسول الله منقطعة، ولا برواية القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود أنه قال: لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم، لانقطاعها.
ثم ساق من طريق البخاري أنه قال: قال لنا أبو صالح حدثني يحيى بن أيوب، عن جعفر بن ربيعة، عن (ابن جارية)
(3)
وأبي سلمة وعبد الملك بن المغيرة وكثير بن خنيس -أو قال: ابن حبيش- وكان
(1)
"سنن أبي داود"(4387).
(2)
كذا بالأصل: وفي "معرفة السنن والآثار": شيبة.
(3)
في (ص 2): أم حارثة.
غير مقيد، والحفاظ (يختلفون)
(1)
فيه الحديث.
وقال البخاري: قال ابن أبي مريم: ثنا يحيى بن أيوب، ثنا جعفر بن ربيعة أن الأسود بن العلاء (بن الجارية)
(2)
، حدثه أنه سمع عمرة تحدث عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
قال البخاري: وقال (ابن)
(3)
إسماعيل: أنا علي بن المبارك، أنا يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري أن عمرة حدثته أن عائشة حدثتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. قال: وقال الأويسي: ثنا ابن أبي الرجال، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه. قال: وقال أصبغ: أخبرني ابن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
(4)
. هكذا وجدنا هذا الحديث في "تاريخ البخاري" في ترجمة كثير بن حبيش، إلا أنه قال في ذكر كثير: سمع عمرة بنت عبد الرحمن، روى عنه الأسود بن العلاء، أو العلاء ابن الأسود، ثم أردفه بأحاديث جماعة ممن رواه عن عمرة، فيشبه أن يكون الحديث عن جعفر بن ربيعة، عن الأسود، عن أبي سلمة
وصاحبيه أنهم تنازعوا فدخلوا على عمرة، ثم عمرة حدثت عن عائشة رضي الله عنها، وعائشة حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون الأسود معهم حين دخلوا على عمرة.
(1)
وقع في المطبوع من "معرفة السنن والآثار" لا يختلفون.
(2)
في (ص 2): بن حارثة.
(3)
من (ص 2).
(4)
"التاريخ الكبير" 7/ 209 - 210 (914).
وفي رواية ابن أبي مريم دلالة على ذلك، وقد أثبت البخاري في "التاريخ" سماعه من أبي سلمة وعمرة، وقال: قاله جعفر بن ربيعة
(1)
.
وسماع جعفر من الأسود غير مدفوع مع أنه قد سمع من عبد الرحمن الأعرج، فليس من البعيد سماعه من أبي سلمة والمذكورين معه.
وقد روى الأسود، عن أبي سلمة غير هذا الحديث، فليس فيما رد به هذا الشيخ حديث أبي سلمة ما يوجب الرد، وقد أغنى الله جل وعز برواية الجماعة، عن عمرة، عن عائشة، ورواية الجماعة عن نافع، عن مولاه، عن رواية جعفر بن (ربيعة)
(2)
، وإن كان فيها زيادة بظاهر.
والذي نستدل به على انقطاع حديث أيمن -ثم ساقه بإسناده- عن أيمن مولى ابن الزبير، عن تبيع، عن كعب قال: من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى العشاء .. الحديث
(3)
.
كذا قال مولى ابن الزبير. وقد قيل: هو مولى ابن أبي عمرة. يروي عن عائشة، وليس له عمن فوقها رواية.
قلت: له رواية عن سعد بن أبي وقاص كما في "التهذيب"
(4)
.
وقد استدل الشافعي بهذِه الرواية على انقطاع حديثه في ثمن المجن.
قال البيهقي: وأما روايته، عن أيمن بن أم أيمن فإنها خطأ، وإنما قاله شريك بن عبد الله، وخلط في إسناده، وشريك ممن لا يحتج به فيما خالف فيه أهل الحفظ والثقة لما ظهر من سوء حفظه.
(1)
"التاريخ الكبير" 1/ 447.
(2)
في الأصل. سليمان، والمثبت من (ص 2).
(3)
رواه النسائي في "المجتبى" 8/ 84.
(4)
"تهذيب الكمال" 3/ 451 (600).
فصل:
في مناظرة حسنة وقعت بين الإمام الشافعي مع من خالفه فلنذكرها:
قال الشافعي: قلت لبعض الناس هذِه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع اليد في ربع دينار. ذكرت فيه حديث "لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم فصاعدًا" وما حجتك في ذلك؟
قال: قد روينا عن شريك، عن منصور، عن مجاهد، عن أيمن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شبيهًا بقولنا.
قلت: أتعرف أيمن؟ أمّا أيمن الذي روى عنه عطاء فرجل حدث عن تبيع ابن امرأة كعب، عن كعب، فهذا منقطع، والحديث المنقطع لا يكون حجة.
قال: وقد روى شريك عن منصور، عن مجاهد، عن أيمن بن أم أيمن أخي أسامة لأمه.
قلت: لا علم لك بأصحابنا، أيمن أخو أسامة قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبل مولد مجاهد، ولم يبق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحدث عنه.
قال: فقد روي عن عمرو بن شعيب، عن عبد الله بن عمرو أنه عليه السلام قطع في ثمن المجن. قال (ابن)
(1)
عمرو: وكانت قيمة المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارًا.
قلت له: هذا رأي من عبد الله بن عمرو، والمجان قديمًا وحديثًا سلع يكون ثمن عشرة ومائة ودرهمين، فإذا قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربع دينار قطع في أكثر منه، وأنت تزعم أن عمرو بن شعيب ليس ممن تقبل روايته، وتقول: غلط. فكيف ترد روايته مرة، ثم تحتج به على أهل الحفظ
(1)
في الأصل: (أبو) وما أثبتناه هو الصواب. وانظر: "معرفة السنن والآثار".
والصدق، مع أنه لم يرو شيئًا يخالف قولنا؟ قال: فقد روينا قولنا عن علي رضي الله عنه. قلت: رواه الزعافري، عن الشعبي، عن علي، وقد أنبأنا أصحاب جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عليًّا قال: القطع في ربع دينار فصاعدًا، وحديث جعفر، عن علي أولى أن يثبت من حديث الزعافري.
قلت: وإن كان قال ابن عدي في داود بن يزيد الزعافري عم عبد الله بن إدريس: لم أر له حديثًا منكرًا
(1)
.
وقال العجلي: لا بأس به
(2)
، وذكره ابن شاهين في "ثقاته"
(3)
، وخرج له في "مستدركه".
وقد اختلف في سماع الشعبي من علي أيضًا.
قال: فقد روينا عن ابن مسعود أنه قال: لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم.
قلنا: قد روى الثوريُّ، عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قطع سارقًا في خمسة دراهم [وهذا أقرب]
(4)
أن يكون صحيحًا عن عبد الله من حديث المسعودي، عن القاسم، عن عبد الله
(5)
، قال: فكيف لم تأخذوا بهذا؟
قلنا: هذا حديث لا يخالف حديثنا إذا قطع في ثلاثة دراهم قطع في خمسة وأكثر.
(1)
"الكامل في ضعفاء الرجال" 3/ 542 (623).
(2)
"معرفة الثقات"1/ 342 (429).
(3)
"تاريخ أسماء الثقات" ص 81 (341) قال أحمد: وهو غير داود عم ابن إدريس.
(4)
ليست في الأصل، والسياق يقتضيها، والمثبت من "معرفة السنن والآثار" و"السنن الكبرى" للبيهقي.
(5)
"السنن الكبرى" للبيهقي 8/ 260.
قال: فقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه لم يقطع في ثمانية.
قلت: روايته عن عمر رضي الله عنه غير صحيحة، فقد روى معمر عن عطاء الخراساني عن عمر القطع في ربع دينار، فلم ير أن يحتج به؛ لأنه ليس بثابت وليس لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، وعلى المسلمين اتباع أمره، فلا إلى حديث صحيح ذهب من خالفنا، ولا إلى ما يذهب إليه من ترك الحديث وإعمال ظاهر القرآن العزيز ذهب.
قال البيهقي: الحديث عن عمر إنما رواه القاسم بن عبد الرحمن، وهو منقطع.
وقد روي عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر. وقيل: عن سليمان بن يسار، عن عمر رضي الله عنه قال: لا تقطع الخمس إلا في الخمس. وقيل: عن قتادة، عن أنس، عن أبي بكر وعمر أنهما قطعا في خمسة.
وقال الشافعي: فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي، عن ابن مسعود أنه عليه السلام قطع سارقًا في قيمة خمسة دراهم.
قلت: وفي كتاب أبي الشيخ من حديث بكر بن محمد، عن رزق الله بن الأسود الواسطي، ثنا ثابت، عن أنس أنه عليه السلام قال:"يقطع السارق في المجن وقيمته خمسة دراهم".
قال الشافعي: ونحن نأخذ بهذا، إلا أنا نقطع في ربع دينار، وخمسة دراهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ربع دينار، وهم يخالفون هذا ويقولون: لا نقطع في أقل من عشرة دراهم.
قال: وكذلك رواه أبو خيثمة، عن ابن مهدي
(1)
.
(1)
"معرفة السنن والآثار" 12/ 355 - 392 بتصرف.
قلت: وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن وكيع، عن حمزة الزيات، عن الحكم، عن أبي جعفر قال: قيمة المجن دينار الذي تقطع فيه اليد
(1)
.
وفي "الاستذكار" عن جعفر، عن أبيه أن عليًّا رضي الله عنه قطع في ربع دينار درهمين ونصف
(2)
. ولا يقال: اضطربت الآثار عنه؛ لجواز أن يكون نقص قيمة ربع دينار إلى ذلك.
وروي أيضًا عن علي رضي الله عنه أنه قطع في بيضة حديد، ثمنها ربع دينار
(3)
.
فصل:
لما ذكر ابن أبي حاتم حديث أيمن السالف في "علله" قال: قال أبي: هذا مرسل، وأرى أنه والد عبد الواحد بن أيمن، وليست له صحبة.
وأما قول من قال: أيمن بن أم أيمن، عن أم أيمن فخطأ من وجهين:
أحدهما: أن أصحاب شريك لا يقولون عن أم أيمن، إنما قالوا عن أيمن بن أم أيمن.
ثانيهما: أن الثقات يروون عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن وابن أم أيمن لم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 473.
(2)
"الاستذكار" 24/ 159.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 471.
(4)
"علل ابن أبي حاتم" 1/ 457 - 458.
وفيه مخالف لما سلف أنه توفي بحنين، ورواه أبو الشيخ من حديث عطاء، عن مجاهد، عن أم أيمن، ومن حديث شريك عن منصور، عن عطاء، عن أم أيمن، ومن حديث شريك، عنهما مرفوعًا.
فصل:
رويت آثار مختلفة أيضًا، روى ابن أبي شيبة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن أبي سعيد أنهما قالا: لا تقطع اليد إلا في أربعة الدراهم فصاعدًا.
وقطع ابن الزبير في نعلين وقال ابن معمر: كانوا يتسارقون السياط، فقال عثمان: لئن عدتم لأقطعن فيه، وكان عروة بن الزبير والزهري وسليمان بن يسار يقولون: ثمن المجن خمسة دراهم، رواه عن الثقفي، عن المثنى، عن عمرو بن شعيب عنهم
(1)
.
فصل:
رجح بعض الحفاظ حديث عائشة بأنه لم يختلف عنها، واعترض بعض شيوخنا بأن في كتاب "القطع" لابن حبان من حديث إسحاق القروي، ثنا عبد الله بن عمر عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه عنها مرفوعًا:"القطع فيما زاد على ربع دينار" ورواه أيضًا من حديث عروة عنها.
وقال عروة: وقيمة المجن أربعة دراهم
(2)
، وفي رواية عنها: وكان المجن يومئذٍ له ثمن
(3)
، وهذا الاعتراض غلط؛ لأنا نقول: القطع في ربع دينار فما زاد، كما سلف إيضاحه من كلام الشافعي.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 472 - 473.
(2)
رواه النسائي في "سننه" 8/ 81، بعد حديث رقم (4938).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 473 عن عروة بن الزبير.
فصل:
قال ابن حزم: أما حديث العشرة دراهم أو الدينار فليس فيه شيء أصلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والموصول منه من قول عبد الله بن عمرو، ولا يصح عنه أيضًا، ومن قول عبد الله بن عباس وابن المسيب وأيمن كذلك وهو عنهم صحيح، إلا حديثًا موضوعًا مكذوبًا لا ندري من رواه من طريق ابن مسعود مسندًا "لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم". وليس فيه مع علته ذكر القيمة أصلاً
(1)
.
قلت: وأخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، من طريق ابن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: كان المجن يقوم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة الدراهم. وفي لفظ: كان ثمن المجن يقوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
. وأخرجه أبو الشيخ بلفظ: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.
وأخرجه مرة بإسقاط أيوب بن موسى، وقال ابن إسحاق فيه: ثنا عطاء، عن ابن عباس، وحدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قالا: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.
وأخرجه الدارقطني من هذا الوجه بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع اليد إلا في عشرة الدراهم" وفي لفظ: "في أقل من عشرة الدراهم"
(3)
، وفي لفظ:"لا تقطع يد السارق في أقل من ثمن المجن" وكان ثمنه عشرة الدراهم.
(1)
"المحلى" 11/ 354.
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 193.
(3)
السابق 3/ 200.
وحدث ابن مسعود رضي الله عنه أخرجه الدارقطني من حديث محمد بن الحسن وأبي مطيع، عن أبي حنيفة، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه: لا يقطع السارق في أقل من عشرة الدراهم. قال: وأرسله المسعودي، عن القاسم بن معن، فقال: عن عبد الله. وقال الشعبي: عن ابن مسعود: أنه عليه السلام قطع في خمسة دراهم
(1)
.
وفي كتاب ابن حبان من حديث ابن أبي زائدة، ثنا القاسم بن معن، قال: وجدت في كتاب أبي بخطه: حدثنا زحر بن ربيعة أن ابن مسعود حدثه، فذكره بلفظ القطع في دينار أو عشرة دراهم.
فصل:
أغرب ابن شاهين؛ حيث قال: يمكن أن حديث القطع في ثلاثة دراهم يشبه أن يكون منسوخًا بحديث العشرة
(2)
. وهو من أعاجيبه.
(فصل)
(3)
:
إذا تقرر ما ذكرناه من الفوائد الحديثية التي يرحل إليها، فلنشرع في ذكر مذاهب العلماء فيما نقطع به، ولا شك أن آية السرقة محكمة في وجوب قطع السارق، ومجملة في مقدار ما يجب فيه القطع، فلو تركنا مع ظاهرها لوجب القطع في قليل الأشياء وكثيرها، لكن بين لنا رسوله - عليه أفضل الصلاة والسلام - مقدار ما يجب فيه القطع بما أسلفناه من الأحاديث بقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا وغيره بما سلف، ففهمنا بهذا الحديث وغيره أن الرب جل جلاله إنما أراد
(1)
السابق 3/ 192 - 193.
(2)
"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 453 - 457.
(3)
من (ص 2).
بقوله: {فَاقْطَعُوا} بعض السراق دون بعض، فلا يجوز قطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا، أو فيما قيمته ربع دينار بما يجوز ملكه إذا سرق من حرز، روي هذا القول عن عمر وعثمان وعلي وعائشة رضي الله عنه، وهو قول مالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبي ثور
(1)
.
وذهب الثوري والكوفيون إلى أنه: لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم، وقالوا: من سرق مثقالاً لا يساوي عشرة دراهم لا قطع عليه، وكذلك من سرق عشرة دراهم فضة لا تساوي عشرة مضروبة لم تقطع.
وكذا ذكر أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتابه "اختلاف العلماء" أن الثوري وأهل الرأي قالوا ذلك، ولا يقطع حتى يخرج المتاع من ملك الرجل، [و]
(2)
إذا سرق العبد من سيده، فلا قطع عليه.
وقال أحمد: إذا سرق من الذهب ربع دينار قطعته، وإذا سرق من الفضة ثلاثة دراهم (فصاعدًا)
(3)
قطعت يده، وإذا سرق عروضًا، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطعت يده. وعبارة غيره ذهب مالك وأحمد في أظهر الروايات عنه: أن نصابها ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، (أو قيمة ثلاثة دراهم)
(4)
من العروض. والتقويم بالدراهم خاصة، والأثمان أصول لا يقوم بعضها ببعض.
وعن أحمد رواية ثانية: نصابها ثلاثة دراهم، أو قيمة ذلك من الذهب والعروض، والأصل في هذِه الرواية نوع واحد الفضة.
(1)
انظر: "الإشراف" 2/ 289.
(2)
غير موجودة بالأصل، والسياق يقتضيها، والمثبت من "اختلاف الفقهاء" للمروزي.
(3)
من (ص 2).
(4)
من (ص 2).
وعنه ثالثة: أن النصاب ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو قيمة أحدهما من العروض، ولا يختص التقويم بالدراهم، فعلى هذِه الرواية الذهب والفضة أصلان، ويقع التقويم بكل واحد منهما، وفيه قول ثالث قاله ابن شبرمة وابن أبي ليلى: تقطع في خمسة دراهم فصاعدًا، ذهبا إلى حديث الشعبي، عن ابن مسعود، ولا يصح
(1)
.
وحكي أيضًا عن مالك واستغربه ابن التين قال: وذكر ذلك عن النخعي قال: وذكر عنه أيضًا أربعون درهمًا، قال: وعن ابن الزبير أنه قطع في نصف درهم. وعن زياد في درهمين، وعن أبي سعيد في أربعة.
(وفيه)
(2)
قول رابع: أنه يقطع في كل ما له قيمة، قل أو كثر.
وخامس: الذهب ربع دينار وغيره ما له قيمة، قلَّت أو كثرت.
وسادس: لا قطع إلا في درهمين، أو ما يساويهما.
وسابع: الذهب ربع دينار وغيره ما له قيمة ثلاثة دراهم، وإن ساوى ربع دينار أو نصفه أو أكثر، أو لم يساو لرخص الذهب ثلاثة دراهم لا قطع فيه.
وثامن: الذهب ربع دينار، وغيره كل ما يساوي ربعه، فإن ساوى عشرة [دراهم]
(3)
أو أقل أو أكثر ولم يساو ربع دينار لغلاء الذهب، أو يساوي ربع دينار، أو لم يساو نصف درهم لرخص الذهب قطع.
وتاسع: الذهب ربع دينار، وغيره إن ساوى ربع دينار، أو لم يساو ثلاثة دراهم أو عكسه قطع، وإن لم يساو ربع دينار ولا ثلاثة دراهم فلا قطع فيه.
(1)
"اختلاف الفقهاء" ص 493 - 494.
(2)
في (ص 2): وقيل.
(3)
غير موجودة بالأصل، والسياق يقتضيها، والمثبت من "المحلى".
وعاشر: أنه لا قطع إلا في أربعة دراهم أو ما يساويها فصاعدًا.
وحادي عشر: أنه لا قطع إلا في خمسة دراهم أو ما يساويها فصاعدًا.
وثاني عشر: لا قطع إلا في ربع دينار أو عشرة دراهم أو ما يساويهما.
وثالث عشر: لا قطع إلا في ربع دينار ذهب، أو ما يساويه.
حكى هذِه المذاهب (التسعة)
(1)
ابن حزم، كل واحد عن طائفة
(2)
.
وحكى ابن عبد البر في "استذكاره"، عن عثمان البتي: يقطع في في درهم. وفي رواية منصور، عن الحسن أنه كان لا يؤقت في السرقة شيئًا، ويتلو:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] وفي رواية قتادة عنه أجمع على درهمين.
وقالت الخوارج وطائفة من أهل الكلام: كل سارق بالغ سرق ما له قيمة قلَّت أو كثرت فعليه القطع
(3)
.
وفي "الموازية" على مذهب مالك: تقطع في كلٍ، في الماء إذا أحرز لوضوء أو شرب أو غيره، وكذلك الحطب والورد والياسمين والرمان إذا أخذ من حرز وكان قيمته ثلاثة دراهم
(4)
.
وفي "المنتقى" للباجي: من سرق لحم أضحية أو جلدها قطع، قاله أشهب. وقال أصبغ: إن سرقت قبل الذبح، وإن كان بعده فلا
(5)
.
احتج الكوفيون بما سلف.
(1)
في (ص 2): السبعة.
(2)
"المحلى" 11/ 350 - 351.
(3)
"الاستذكار" 24/ 165 - 166.
(4)
انظر: "المنتقى" 7/ 157.
(5)
"المنتقى" 7/ 157.
ومنها حديث ابن إسحاق، عن أيوب بن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان قيمة المجن الذي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عشرة دراهم
(1)
. وعليه اقتصر ابن بطال.
والحجة على الكوفيين أنه يحتمل أن يكون القطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجنين مختلفين أحدهما: قيمته ثلاثة دراهم، والثاني: عشرة؛ لأنه إذا صح القطع بنقل، فنقل الثقات في ثلاثة دراهم دخل فيه عشرة دراهم.
وهذا أولى من حمل الأخبار على التضاد، ومع (الأئمة)
(2)
الأربعة الراشدين عائشة وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن الزبير.
واختلف مالك والشافعي في تقويم الأشياء المسروقة، فقال مالك: تقوم بالدراهم على حديث ابن عمر أن المجن كان ثمنه ثلاث دراهم، ولا ترد الفضة إلى الذهب في القيمة ولا عكسه، فمن سرق عبده ربع دينار فعليه القطع، ومن سرق عبده ثلاثة دراهم فعليه القطع، ولو سرق عبده درهمين صرفهما ربع دينار لم يجب عليه القطع، ولو سرق ربع دينار لا تبلغ قيمته ثلاثة دراهم قطع.
وذهب الشافعي إلى أن تقويم الأشياء الذهب، على حديث عائشة في ربع دينار، ولا يقوِّم شيئًا بالدراهم فيقطع في ربع دينار، ولا يقطع في ثلاثة دراهم، إلا أن يكون قيمتها ربع دينار، قال: لأن الثلاثة الدراهم إنما ذكرت في الحديث؛ لأنها كانت يومئذٍ ربع دينار ذهبًا، فيقال له:
(1)
رواه النسائي في "سننه" 8/ 83، والحاكم 4/ 378 - 379 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(2)
من (ص 2).
الذهب والورق أصلان كالدية التي جعلت ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم
(1)
. وكالزكاة التي جعلت في مائتي درهم وعشرين دينارًا، لا يرد أحدهما إلى الآخر، فكذلك لا ينبغي أن يقوّم الذهب بالدنانير ولا عكسه؛ لأنهما قيم المتلفات وأثمان الأشياء، بل الغالب قيمة الدراهم، ومحال أن يحكي ابن عمر رضي الله عنهما أن المجن قيمته ثلاثة دراهم، إلا وقد قوم بها دون الذهب، وإذا ثبت أن المجن قوم بالدراهم، ولم ينقل أن الدراهم بعد ذلك قومت بالذهب لم يجز تقويمها بالذهب، كما لا يقوم الذهب بها، ووجه استعمال الأحاديث يوجب القطع في ربع دينار وثلاثة دراهم
(2)
.
قال ابن حزم بعد أن ذكر ما سلف: فنظرنا في ذلك، فوجدنا البخاري روى عن أبي هريرة رضي الله عنه:"لعن السارق في البيضة والحبل".
وحديثه أيضًا: "لا يسرق السارق وهو مؤمن"، فعم الشارع كل سرقة ولم يخص عددًا من عدد، ولو أراد مقدارًا من مقدار لبينه، كما بينه في النهبة فقال:"ذات شرف"، فلم يخص في السرقة، فكانت هذِه النصوص المتواترة المترادفة المتظاهرة موافقة لنص القرآن العزيز
(3)
.
قال ابن عبد البر: قالوا إن حديث أبي هريرة في سرقة البيضة كان في حين نزول هذِه الآية، ثم أحكمت الأمور بعد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما روته عائشة رضي الله عنها
(4)
.
قال ابن حزم: ثم نظرنا فوجدنا في السنة حديث عائشة - رضي الله
(1)
انظر: "الاستذكار" 24/ 155 - 156.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 411 - 413.
(3)
"المحلى" 11/ 351 - 352.
(4)
"الاستذكار" 24/ 166 - 167.
عنها "تقطع اليد في ربع دينار" فخرج الذهب لهذا الأثر عن جملة الآية الكريمة، وهو عموم النص الذي ذكرنا قبل، فوجب الأخذ بكل ذلك، وأن يستثنى الذهب من بين سائر الأشياء، ولا تقطع اليد إلا في ربع دينار بوزن مكة؛ لأن حنظلة بن أبي سفيان روى عنه النسائي، عن طاوس، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا "الوزن وزن أهل مكة"
(1)
، ووجدنا عن عائشة رضي الله عنها أن يد السارق (لم تكن تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه)
(2)
(3)
، ولم تكن تقطع في أدنى من ثمن حجفة أو ترس، كل واحد منهما ذو ثمن، قال: وهو حديث مسند صحيح، وفيه أحكام ثلاثة: أن القطع إنما يجب في سرقة ما سوى الذهب فيما يساوي ثمن حجفة أو ترس، قل ذلك أو كثر دون تحديد، وأما دون ذلك بما لا قيمة له أصلاً وهو التافه لا قطع فيه أصلاً،
وبيان فساد قول من ادعى أن ثمن المجن الذي فيه القطع إنما هو في مجن معين معروف
(4)
.
فصل:
في "الإشراف": أجمعوا على وجوب قطع السارق والسارقة إذا جمع أوصافًا منها: أن يكون المسروق يقطع في جنسه ونصاب السرقة، وأن يكون السارق على أوصاف مخصوصة، وأن تكون السرقة على صفة مخصوصة، وأن يكون الموضع المسروق منه مخصوصًا
(5)
.
(1)
"سنن النسائي" 5/ 54.
(2)
من (ص 2).
(3)
رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 473، والبيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 255.
(4)
"المحلى" 11/ 352 - 353.
(5)
"الإشراف" 2/ 289. والكلام بمعناه.
وأجمعوا على أن الحرز معتبر في وجوب القطع، واختلفوا في صفته، هل يختلف باختلاف الأموال اعتبارًا بما يعرف؟ فقال أبو حنيفة: كلما كان حرز الشيء من الأموال كان حرزًا لجميعها. وقال الباقون: هو مختلف باختلاف الأموال، والعرف معتبر في ذلك
(1)
.
وقال ابن حزم عن طائفة: لا قطع إلا فيما أخرج من حرزه، وأما إن أخذ من غير حرزه ومضى به فلا قطع به، وكذلك لو أخذ -وقد أخذه من حرز- فأدرك قبل أن يخرجه من الحرز يمضي به فلا قطع عليه؛ لما روي عن عمرو بن شعيب أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا قطع على سارق حتى يخرج المتاع
(2)
، وعن سليمان بن موسى أن عثمان قضى أنه لا قطع على سارق وإن كان قد جمع المتاع وأراد أن يسرق حتى يحمله ويخرج
(3)
. وعن عمرو بن شعيب أن سارقًا دخل خزانة المطلب بن أبي وداعة فوجده قد جمع المتاع ولم يخرجه، فأتي به ابن الزبير فجلده وأمر به أن يقطع، فقال ابن عمر: ليس عليه قطع حتى يخرج به من البيت، أرأيت لو رأيت رجلاً بين رجلي امرأة لم يصبها أكنت حاده؟ قال ابن الزبير: لا. قال: قد يكون نازعًا تائبًا، أو تاركًا للمتاع
(4)
ومن حديث ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن علي بن سليمان، عن مكحول، عن عثمان: لا تقطع يد السارق وإن وجد معه المتاع ما لم يخرج به من الدار.
(1)
السابق 2/ 297 - 300. والكلام -أيضًا- بمعناه.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 5/ 474.
(3)
رواه عبد الرزاق 10/ 196.
(4)
السابق 10/ 196 - 197.
ومن حديث الشهر بن نمير، عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه في الرجل يوجد في البيت وقد لقي معه المتاع قال: لا يقطع حتى يحمل المتاع ويخرج به عن الباب
(1)
، وقاله عامر والشعبي وعطاء وربيعة وعمر بن عبد العزيز.
قال ابن حزم؛ وهو قول الثوري وأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم وإسحاق بن إبراهيم، وقالت طائفة: عليه القطع سواء سرق من حرز أو غيره، كما روينا من حديث عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: بلغ عائشة رضي الله عنها أنهم يقولون: إذا لم يخرج السارق المتاع لم يقطع. فقالت: لو لم أجد إلا سكينًا لقطعته
(2)
. وهو قول عبد الله بن الزبير.
وأنكر النخعي قول الشعبي -يعني السالف- وقاله ابن المسيب وعبيد الله بن عبد الله والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن أبي بكر.
قال ابن حزم: وبه يقول أبو سليمان وجميع أصحابنا.
فصل:
واختلفوا في المختلس فكان علي لا يقطعه، وكذا قاله زيد بن ثابت والشعبي وعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز والحسن وإبراهيم وقتادة، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم وإسحاق بن راهويه، وقالت طائفة: عليه القطع منهم علي بن رباح وعطاء بن أبي رباح.
(1)
رواه عبد الرزاق 10/ 197 - 198 من حديث الثوري عن إبراهيم، عن حسين بن عبد الله بن ضميرة به.
(2)
رواه ابن أبي شيبة 5/ 474.
قال ابن حزم: فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك، فنظرنا في قول من لم ير القطع إلا في أخذ من حرز، فوجدناهم يذكرون حديث عمرو بن شعيب السالف "من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع"
(1)
.
وفي رواية: سئل عليه السلام في كم تقطع اليد؟ فقال: "لا تقطع اليد في ثمر معلق، فإذا ضمه الجرين قطع في ثمن المجن"
(2)
.
ومن حديث النسائي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً من مزينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل؟ قال: "هي ومثلها والنكال، وليس في شيء من الماشية قطع إلا فيما أواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال"
(3)
.
وفي حديث سفيان عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه رفعه:"ليس على خائن ولا مختلس قطع " وفي لفظ "ولا منتهب"
(4)
، أخرجه أصحاب السنن الأربعة
(5)
. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى ابن ماجه بإسناد كل رجاله ثقات من حديث عبد الرحمن بن
(1)
رواه أبو داود (1710)، والنسائي 8/ 85.
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 263.
(3)
"سنن النسائي" 8/ 86.
(4)
"المحلى" 11/ 323 - 324.
(5)
"سنن أبي داود"(4393)، "سنن الترمذي"(1448)، "سنن النسائي" 8/ 88، "سنن ابن ماجه"(2591).
عوف، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس على المختلس قطع"
(1)
قال ابن المنذر: ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وممن روينا عنه أنه قال: لا قطع عليه. عمر وعلي، وبه قال عطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز والشعبي وعمرو بن دينار والزهري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، وروينا عن إياس بن معاوية أنه قال: أقطعه
(2)
. وقال الترمذي: قال محمد -يعني البخاري-: رواه المغيرة بن مسلم أيضًا، عن أبي الزبير
(3)
.
قال ابن حزم: فقالوا لم يجعل القطع في مختلس ولا خائن، فسقط بذلك القطع عن كل من أؤتمن، وعن حريسة الجبل والثمر المعلق حتى يؤويه الجرين والمراح، وهو حرزهما.
قالوا: وما وجد في غير حرز فإنما هو لقطة فقد أبيح أخذها وتحصيلها.
وقالوا: قد جاء عن عمر وزيد وعلي وعمار أنه لا قطع على مختلس، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف، فدل ذلك على اعتبار الحرز
(4)
.
وقال ابن المنذر: ليس فيه خبر ثابت بلا مقال فيه لأهل العلم، لكن يقول عوام أهل العلم في وجوب الحرز. أقول: وهو كالإجماع منهم
(5)
.
(1)
"سنن ابن ماجه"(2592).
(2)
"الإشراف" 2/ 301.
(3)
"علل الترمذي الكبير" 2/ 610 - 611.
(4)
"المحلى" 11/ 324.
(5)
"الإشراف" 2/ 298.
قال ابن حزم: فنظرنا فوجدنا لا حجة لهم في شيء من ذلك، أما الخبران المذكوران فلا يصحان، أما حديث حريسة الجبل والثمر المعلق فلا يصح؛ (لأن)
(1)
أحد طرفيه عن ابن المسيب مرسل، والأخرى بما انفرد به عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهي صحيفة لا يحتج بها. ودليل آخر: أنه لو صح لكان عليهم لا لهم؛ لأن المخالفين كلهم مخالفون لما فيه من قوله: "وغرامة مثليه" وهم لا يقولون بهذا، (وكذلك إذا لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه، وهم لا يقولون بهذا)
(2)
، وكذلك في حريسة الجبل غرامة مثليها، فهم قد خالفوا هذا الخبر الذي احتجوا به في أربعة مواضع من أحكامه، فقد يجوز الاحتجاج بخبر يصححونه، ثم يخالفونه في أربعة أحكام من أحكام على مَن لا يصححه أصلاً ولا يراه حجة، فإن ادعوا في ترك هذِه الأحكام إجماعًا فليس جيدًا؛ لأن عمر بن الخطاب قد حكم بها بسند كالشمس بحضرة الصحابة، ولا نعرف منهم له مخالف، ولا ندري منهم عليه منكر. وقد روي عن عثمان بسند في غاية الصحة وغيره نحو هذا في إتلاف الأموال
(3)
.
قلت: قال به أحمد فيما إذا سرق ثمرًا معلقًا على النخل والشجر إذا لم يكن محرزًا بحرز تجب عليه قيمته مرتين.
قال ابن حزم: وأما الخبر الذي رواه أبو الزبير، عن جابر فهو مدلس، ولا سيما في جابر، وقد أقر على نفسه بالتدليس فيه
(4)
.
(1)
في الأصل: أن. والمثبت من "المحلى".
(2)
من (ص 2).
(3)
"المحلى" 11/ 324 - 325.
(4)
السابق 11/ 325.
قلت: يوضحه أن النسائي قال: لم يسمعه سفيان من أبي الزبير، إنما سمعه من ابن جريج، أخبرني أبو الزبير. ليست صحيحة، لم يسمعه ابن جريج من أبي الزبير، وقد رواه عن ابن جريج ابن وهب وعيسى بن يونس والفضل بن موسى ومحمد بن ربيعة ومخلد بن يزيد وسلمة بن سعيد، فلم يقل أحد منهم: حدثني أبو الزبير
(1)
.
وفي "علل ابن أبي حاتم" عن أبيه وأبي زرعة أنهما قالا: لم يسمعه ابن جريج من أبي الزبير، إنما سمعه من ياسين الزيات، وياسين ليس بالقوي
(2)
. وتكلم فيه جماعة، فهذا فيه انقطاع في موضعين آخرين.
وذكر ابن الجوزي في "علله": أن سفيان وعيسى بن يونس روياه عن ابن جريج، عن أبي الزبير، فلم يذكر الخائن
(3)
.
وقول ابن حزم أنه أقر على نفسه بالتدليس فيه، فيه وقفة؛ فقد ذكر الساجي في "جرحه وتعديله" عن يحيى بن معين أنه قال: استحلف شعبة أبا الزبير بين الركن والمقام: اللهم إنك سمعت هذِه الأحاديث من جابر. قال: الله إني سمعتها منه، يقولها ثلاث مرات (يرددها)
(4)
عليه. وقد قال هشيم فيما ذكره ابن سعد في "طبقاته" عن حجاج وابن أبي ليلى، عن عطاء قال: كنا نكون عند جابر بن عبد الله، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه، قال: وكان أبو الزبير أحفظنا للحديث، قال أبو الزبير: وكان عطاء يقدمني إلى جابر لأحفظ له الحديث
(5)
.
(1)
"سنن النسائي الكبرى" 4/ 346 - 347.
(2)
"علل ابن أبي حاتم" 1/ 450.
(3)
"العلل المتناهية" 2/ 308 - 309.
(4)
من (ص 2).
(5)
"الطبقات الكبرى" 5/ 481.
ثم قال ابن حزم: والرواية عن زيد لا تصح؛ لأنها عن الزهري عنه، ولم يسمع منه
(1)
.
قلت: قد أخرجه ابن أبي شيبة من حديث معمر، عن الزهري: أن مروان سأل زيدًا فذكره
(2)
. فهذا مروان بينهما، ولا ينكر سماع الزهري منه؛ لأنه ولد سنة إحدى وستين، ووفد على مروان وهو محتلم، ومات مروان سنة ست وستين.
قال أحمد بن صالح: أدرك الزهري الحرة وهو بالغ وعقلها -أظنه قال: وشهدها- وكانت الحرة أول خلافة يزيد بن معاوية سنة إحدى وستين
(3)
.
قال ابن حزم: والرواية عن عمر كذلك؛ لأنها من رواية الشعبي عنه، ولم يولد إلا بعد قتل عمر، وعن عمار كذلك؛ لأن الشعبي لم يكن يعقل إذ مات عمار
(4)
.
قلت: قد ذكر ابن سعد أن الشعبي ولد سنة تسع عشرة عام جلولاء، يعني: قبل وفاة عمر بأربع سنين
(5)
.
وذكر أحمد بن محمد بن عبد ربه أنه ولد قبل وفاة عمر بسنتين سنة إحدى وعشرين.
وفي "كتاب الرشاطي": سنة تسع عشرة. وقال ابن حبان: سنة عشرين
(6)
، وفي "تاريخ المنتجالي": ولد لسنتين مضيا من خلافة عمر.
(1)
"المحلى" 11/ 325.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 523.
(3)
ورد في هامش الأصل: إنما هي سنة ثلاث وستين.
(4)
"المحلى" 11/ 325.
(5)
"الطبقات الكبرى" 6/ 248.
(6)
"الثقات" 5/ 185.
وفي "الكمال"
(1)
: لست سنين مضين منها. بل أسند أبو الفرج الأموي في "تاريخه" من حديث عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي قال: ذكر الشعراء عند عمر فقال: من أشعر الناس؟ قلنا: أنت أعلم يا أمير المؤمنين، قال: فمن الذي يقول:
إلا سليمان إذ قال له الإله
…
قم في البرية فاحددها عن الفند
قلنا له: النابغة. قال: فهو أشعر الناس
(2)
.
وقوله: والشعبي لم يكن يعقل إذ مات عمار. ليس بجيد لما أسلفناه من مولده، وقد احتج هو في كتاب الحيض بحديث من رواية الشعبي، عن علي
(3)
، وليس بين وفاة عمار وعلي إلا القليل
(4)
، ولئن قلنا: إن مولده سنة إحدى وعشرين، فسنه إذ مات عمار ست عشرة سنة، فكيف يقال لمن هذا سنه: لا يعقل.
وقول ابن حزم لما روى الأثر عن عمر في إضعاف العقوبة من طريق مالك، عن هشام، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن رقيقًا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من (مزينة)
(5)
، فرفع ذلك إلى عمر. الحديث: هذا الأثر عن عمر كالشمس
(6)
. فيه نظر؛ لأن ابن سعد قال في يحيى هذا: ولد في خلافة عثمان
(7)
.
(1)
14/ 28 (3042).
(2)
انظر: "الأغاني" لأبي الفرج الأموي 11/ 6 - 7.
(3)
انظر: "المحلى" 2/ 202.
(4)
ورد في هامش الأصل: توفي علي سنة أربعين في رمضان، وعمار سنة سبع وثلاثين في رمضان.
(5)
من (ص 2).
(6)
"المحلى" 11/ 324 - 325.
(7)
"الطبقات الكبرى" 5/ 250.
وقال يحيى بن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عمر باطل
(1)
.
قال ابن أبي حاتم في "علله" عن أبي زرعة: إن رواية من قال أبيه ليست جيدة، والصحيح من غير ذكر أبيه
(2)
. قال: وأما الرواية عن علي فمن طريقين، إحداهما من حديث سماك بن حرب، وهو يقبل التلقين، والأخرى من طريق بكير بن أبي السميط المكفوف، وقد روى عنه عفان وقتادة ولا يعرف حاله
(3)
.
قلت: قد روى عنه جماعة ذكرهم ابن أبي حاتم
(4)
، وحاله أيضًا معروفة، وقد ذكره العجلي في "تاريخه": بصريٌّ ثقة
(5)
. وذكره ابن حبان
(6)
وابن شاهين في "الثقات"
(7)
، وكذا ابن خلفون بزيادة: زعم بعضهم أنه كثير الوهم، وهو عندي في الطبقة الثالثة في المحدثين. وقال عفان بن مسلم وغيره: ثقة. وقال الحاكم في عكرمة: لم يصح له عن (أنس)
(8)
رواية، وقال يحيى: صالح، وقال
أبو حاتم: لا بأس به
(9)
.
(1)
انظر: "تهذيب الكمال" 31/ 436 - 437.
(2)
"علل ابن أبي حاتم" 1/ 450 - 451.
(3)
"المحلى" 11/ 325 - 326.
(4)
"الجرح والتعديل" 2/ 406.
(5)
"معرفة الثقات" 1/ 253.
(6)
"الثقات" 6/ 105.
(7)
"تاريخ أسماء الثقات" لابن شاهين ص 50.
(8)
في الأصل: اثنين والمثبت من (ص 2).
(9)
"الجرح والتعديل" 2/ 406.
وفي "تاريخ البخاري": بكير بن أبي السُّميط أو ابن أبي السَّميط سمع قتادة (قاله لنا)
(1)
مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل، وقال: حبان بصري، وتابعه عبد الصمد
(2)
وقال غيره: المسمعي مولاهم. وقال الصيريفيني: روى عن ابن سيرين. وأبو السميط اسمه أوس.
قلت:. ورواية عفان عنه لم أرها لغيره.
ثم قال ابن حزم: ألا إن القول في المختلس لا يخلو من وجهين أحدهما: أن يكون نهارًا غير مستخف من الناس، فهذا لا خلاف أنه ليس سارقًا فلا قطع، أو يكون فعل ذلك مستخفيًا عن كل من حضر، فلا خلاف في كونه سارقًا فبطل كل ما تعلقوا به، وعري قولهم في مراعاة الحرز عن أن يكون له حجة أصلاً، وكل أحد يدري اللغة يعلم أن من سرق من حرز أو من غير حرز أنه سارق، لا خلاف في ذلك، فإذ هو سارق مكتسب سرقة فقطع يده واجب بنص القرآن والسنة، ثم ساق حديث المخزومية السالف، ولا يجوز أن يخص القرآن بدعوى عارية عن البرهان وكذلك السنة، فإنه لم يخص حرزًا من حرز {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] قال: فاشتراط الحرز باطل بيقين لا شك فيه، وشرع لم يأذن الله تعالى [به]
(3)
، وكل ما ذكرنا فإنما يلزم من قامت عليه الحجة، ووقف على ما ذكرنا (لأن ما سلف ممن اجتهد فأخطأ)
(4)
.
(1)
في (ص 2): قال: أنبأنا.
(2)
"التاريخ الكبير" 2/ 116.
(3)
غير موجود بالأصل، والمثبت من "المحلى".
(4)
كذا في الأصل، وفي المطبوع من "المحلى": لأن من سلف ممن اجتهد فأخطأ مأجور.
وأما الإجماع فإنه لا خلاف بين أحد من الأمة بأن السرقة هي الاختفاء بأخذ الشيء الذي ليس للأخذ، وأنه لا مدخل للحرز فيما اقتضاه الاسم، فمن أقحم في ذلك اشتراط الحرز، فقد خالف الإجماع على معنى هذِه اللفظة، وأما قول الصحابة فقد أوضحنا أنه لم يأت قط عن أحد منهم اشتراط الحرز أصلاً، وإنما جاء عن بعضهم حتى يخرج من الدار، وقال بعضهم: من البيت، وليس هذا دليلًا على ما ادعوه من الحرز مع الخلاف الذي ذكرنا عن عائشة رضي الله عنها وابن الزبير في ذلك، فقولنا: قد جاءت به السنن الثابتة والقرآن
(1)
.
فصل:
قال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء فيمن أخرج الشيء المسروق من حرزه سارقًا له، وبلغ المقدار الذي يقطع فيه أن عليه القطع؛ حرًّا كان أو عبدًا، ذكرًا كان أو أنثى، مسلمًا كان أو ذميًّا؛ إلا أن العبد الآبق إذا سرق اختلف السلف في قطعه، ولم يختلف علماء الأمصار في ذلك
(2)
.
روى مالك في "الموطأ" أن عبدًا سرق وهو آبق فأرسل به عبد الله إلى سعيد بن العاصي -وهو أمير- أن اقطع يده فأبى وقال: لا تقطع يد الآبق إذا سرق، فقال له عبد الله: في أي كتاب الله وجدت هذا؟ ثم أمر به عبد الله فقطعت يده
(3)
.
(1)
"المحلى" 11/ 326 - 327 بتصرف.
(2)
"الاستذكار" 24/ 168.
(3)
"الموطأ" ص 520.
وبه قال عمر بن عبد العزيز (وسالم وعروة قال مالك: وذاك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا
(1)
. قال أبو عمر)
(2)
: وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم والثوري والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وجمهور أهل العلم بالأمصار، وإنما وقع الاختلاف فيه عن بعض الفقهاء، ثم انعقد الإجماع بعد ذلك.
ومن الاختلاف في ذلك ما رواه معمر، عن الزهري قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز فسألني أيقطع العبد الآبق إذا سرق؟ قلت: لم أسمع فيه شيئا. فقال لي: كان عثمان ومروان لا يقطعانه، قال الزهري: فلما استخلف يزيد بن عبد الملك سألني عن هذِه المسألة فأخبرته بما أخبرني به عمر بن عبد العزيز، فقال: والله لأقطعنه، قال الزهري: فحججت عامئذ فلقيت سالمًا فأخبرني أن أباه قطع آبقًا سرق.
وروى الثوري ومعمر، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن عبد الله بن عباس أنه كان لا يرى على عبد آبقٍ سرق قطعًا. وقالت عائشة رضي الله عنها: ليس عليه قطع، وقال الحسن والشعبي: يقطع
(3)
.
فصل:
في كتاب "الإشراف": فإن سرق ما يسرع إليه الفساد، فقال أبو حنيفة: لا يقطع خلافًا للثلاثة
(4)
.
(1)
السابق ص 521.
(2)
ما بين القوسين من (ص 2).
(3)
"الاستذكار" 24/ 172 - 174 بتصرف.
(4)
"الإشراف" 2/ 295. بمعناه.
فروع:
سرق حرٌّ صغير لا تمييز له لا يقطع عند الشافعي وأبي حنيفة، ويقطع عند مالك، وعن أحمد روايتان أظهرهما: كمذهبنا، والأخرى كمذهب مالك
(1)
.
وإن سرق مصحفًا، قال أبو حنيفة وأحمد: لا يقطع خلافًا للشافعي ومالك
(2)
. والنباش لا قطع فيه عند أبي حنيفة، وخالفه الباقون
(3)
. واختلف فيما إذا سرق من ستارة الكعبة ما يبلغ نصابًا، فقال الشافعي وأحمد: يقطع خلافًا لأبي حنيفة ومالك
(4)
.
والأظهر عندنا يقطع أحد الزوجين بمال الآخر إذا كان محرزًا، وفي قولٍ لا، وفي ثالثٍ: يقطع الزوج خاصة، وقال أبو حنيفة: لا يقطع سواء سرق من بيت خاص لأحدهما، أو من بيتها فيه، وقال مالك: يقطع إذا كان من حرز من بيت خاص للمسروق منه، فإن كان في بيت يسكنان فيه فلا. وعن أحمد روايتان: لا يقطع، وكمذهب مالك، ولا قطع عند أبي حنيفة إذا سرق من ذي رحم محرم، وخالفه الباقون، ولا قطع بسرقة الولد من مال الوالد خلافًا لمالك
(5)
.
وأجمعوا أنه لا قطع على الوالدين بسرقة مال أولادهم، وإذا سرق صنمًا من ذهب فلا قطع عند أبي حنيفة وأحمد خلافًا للشافعي ومالك، وسارق الثياب من الحمام وعليها حافظ، قال أبو حنيفة: إن كان ذلك
(1)
السابق 2/ 294.
(2)
السابق 2/ 297.
(3)
السابق 2/ 300.
(4)
انظر: تكملة "المجموع" 22/ 200 - 201.
(5)
"الإشراف" 2/ 302 - 303.
ليلاً قطع، أو نهارًا فلا
(1)
.
وقال الشافعي وأحمد في رواية: يقطع مطلقًا. وعن أحمد: لا قطع مطلقًا، وقال مالك: من سرق ما كان في الحمام بما يحرس فعليه القطع، ومن سرق ما لا يحرس منها وكان موضوعًا فلا
(2)
. ولو سرق عدلاً أو جوارقًا وثَمَّ حافظ، قالوا: يقطع خلافًا لأبي حنيفة
(3)
.
واختلف في سارق العين المسروقة من السارق أو المغصوبة من الغاصب، فقال أبو حنيفة: يقطع في المغصوب دون المسروق إذا كان السارق الأول قطع فيها، وإن كان لم يقطع قطع الثاني.
وقال مالك: يقطع كل واحد منهما، وبه قال الشافعي وأحمد
(4)
.
فروع أخر:
لو سرق من المغنم، وكان من أهله، فقال أبو حنيفة وأحمد: لا يقطع، وقال مالك في المشهور عنه: يقطع. وعن الشافعي قولان كالمذهبين، فإن كان من غير أهله قطع بإجماع
(5)
.
واختلفوا هل يجتمع على السارق القطع والغرم، فقال أبو حنيفة: لا، فإن اختار المسروق منه الغرم فلا قطع، وإن اختار القطع واستوفى منه فلا غرم. وقال مالك: إن كان السارق موسرًا وجب عليه القطع والغرم، وإن كان معسرًا لم يتبع بقيمتها ويقطع.
(1)
السابق 2/ 299.
(2)
انظر: "المغني" 12/ 430.
(3)
انظر: "الإشراف" 2/ 300.
(4)
السابق 2/ 291.
(5)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 3/ 473 - 474.
وقال الشافعي وأحمد: يجتمعان جميعًا
(1)
.
وأجمعوا على أنه لا قطع على من سرق ثمرًا معلقًا على الشجر إذا لم يكن محرزًا (بحرز)
(2)
(3)
. وسلف الكلام على الحرز.
فرع:
أجمعوا على أنه إذا اشترك جماعة في سرقة وحصل لكل نصاب أن عليهم القطع، فإن اشتركوا في نصاب فلا، قاله الشافعي وأبو حنيفة، وقال مالك: إن كان يحتاج إلى التعاون عليه قطعوا، وإن كان بما يمكن الواحد الانفراد به كله ففيه لأصحابه قيمته، وإن انفرد كل واحد بشيء أخذه لم يقطع واحد منهم، إلا أن يكون قيمة ما أخرج نصابًا، ولا يضم إلى ما أخرج غيره. وقال أحمد: عليهم القطع سواء كان من الأشياء الثقيلة التي تحتاج إلى التعاون عليها كالساجة وغيرها، وإن كان من الأشياء الخفيفة كالثوب ونحوه، وسواء اشتركوا في إخراجه من الحرز دفعة واحدة، أو انفرد كل واحد معه جإخراج شيء فصار بمجموعه نصابًا
(4)
.
فرع:
اشتركا في نقب ودخل أحدهما وناوله صاحبه، وكان خارجه أو رمى به إليه وأخذه، فالقطع على الداخل دون الخارج خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: لا يقطع واحد منهما، فإن دخلا وأخرج واحد نصابًا ولم يخرج
(1)
انظر: "الإشراف" 2/ 311 - 312.
(2)
السابق 2/ 296.
(3)
من (ص 2).
(4)
السابق 2/ 291.
غيره شيئًا ولم يكن منهم معاونة في إخراجه، فقال أبو حنيفة وأحمد: يجب القطع عليهما، وقال الشافعي ومالك: لا يقطع إلا الذي أخرج المتاع، فإن قرب الداخل المتاع إلى النقب وتركه فأدخل الخارج يده فأخرجه من الحرز، فقال أبو حنيفة: فالقطع عليهما، وقال مالك: يقطع الذي أخرجه قطعًا، وفي الواحد الذي قربه خلاف بين أصحابه.
وقال الشافعي: القطع على الذي أخرجه خاصة. وقال أحمد: القطع عليهما (جميعًا)
(1)
(2)
.
فصل:
اختلف في اليد والرجل من أين يقطعان، فروي عن عمر وعثمان وعلي أنهم قالوا: من المفصل، وعليه أكثر الفقهاء، وقد روي عن علي رواية أخرى: أن اليد تقطع من الأصابع والرجل من نصف القدم، ويترك له عقبًا.
وقال أبو ثور: فعل علي أرفق وأحب إليَّ
(3)
. والقول الأول أولى بتأويل الآية: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] واقتصر البخاري على الرواية الأولى عن علي، وحكى ابن التين عن بعضهم قطع اليد من الإبط، وهو بعيد عجيب، ولا شك أن الأخذ بأوائل الأسماء واجب، ومن قطع من الكوع سمي مقطوع اليد، ومن قطعت أصابعه لا يسمى مقطوع اليد، وروي أنه عليه السلام فعل ذلك، وادعى الداودي فيه الإجماع.
(1)
من (ص 2).
(2)
السابق 2/ 298 - 299.
(3)
السابق 2/ 306.
فصل:
واختلفوا فيما إذا سرق ثالثة بعد أن قطع في الأولى يده اليمنى، وفي الثانية الرجل اليسرى، فقال أبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين: لا يقطع أكثر من يد ورجل، ولكن يحبس ويغرم السرقة. والرواية الأخرى عن أحمد: يقطع في الثالثة والرابعة. وهو مذهب مالك والشافعي في الثالثة يسرى يديه، وفي الرابعة يمنى رجليه، فيصير مقطوع الأربعة، روي هذا عن الصديق وعمر وعثمان، ومن التابعين عروة والقاسم وسعيد بن المسيب وربيعة، والقول قول الثوري أيضًا والأوزاعي، وروي عن علي، وهو قول النخعي والشعبي والزهري.
وقال عطاء وبعض أهل الظاهر: لا يجب أن يقطع شيء من الأطراف إلا الأيدي دون الرجل، واحتج عطاء بقوله تعالى:{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ولو شاء أمر بالرجل {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
وحجة الكوفيين ما رواه إسماعيل بن جعفر، عن أبيه أن عليًّا كان لا يريد أن يقطع للسارق يداه ورجلاه، وإذا أتي به بعد ذلك قال: إني لأستحيي أن لا يتطهر للصلاة، ولكن أمسكوا كلبه عن المسلمين بالسجن وأنفقوا عليه من بيت المال.
والحجة لمالك والشافعي أن أهل العراق والحجاز يقولون بجواز قطع الرجل بعد اليد وهم يقرءون: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وهذِه المسألة تشبه المسح على الخفين وهم يقرون غسل الرجلين أو مسحهما، ويشبه الجزاء في قتل الصيد الخطأ، وهم يقرءون:{وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] ولا يجوز على الجمهور تحريف
الكتاب ولا الخطأ في تأويله، وإنما قالوا ذلك بالسنة الثابتة والأثر المتبع
(1)
.
وقال إسماعيل بن إسحاق: لما قال تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فأجمعوا أن يده تقطع، ثم إن سرق بعد ذلك يقطع، ثم إن سرق بعد ذلك قطع منه شيء آخر دل على أن المذكور في القرآن إنما هو على أول حكم يقع عليه في السرقة، وأنه إن سرق بعد ذلك أعيد عليه الحكم، كالحد إذا زنى وهو بكر، فإذا أعاد الزنا أعيد عليه الحد، فلما صح هذا وجب عليه أن يقطع أبدًا حتى لا تبقى له يد ولا رجل، كما يجلد أبدًا حتى لا يبقى فيه موضع جلد، وقال بعضهم: إنما فهم السلف قطع أيدي السراق وأرجلهم من خلاف من آية المحاربين.
فصل:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لعن الله السارق يسرق البيضة" سلف الكلام عليه قريبًا فأغنى عن إعادته.
فصل:
قول قتادة في امرأة سرقت فقطع شمالها: ليس لها إلا ذلك. هو قول لمالك إذا قطع الشمال غلطًا مع وجود اليمين
(2)
.
وقال ابن الماجشون: لا يجزئ ذلك. قال: وليس خطأ السلطان بالذي يزيل القطع عن العضو الذي أوجبه الله، وتقطع اليمين وتكون الشمال في مال السلطان يخاص به إن كان الدين، أو في مال القاطع دون عاقلته. قال: وإليه رجع مالك.
(1)
انظر: "الاستذكار" 24/ 190 - 194.
(2)
انظر: "الإشراف" 2/ 308.
وإذا قطعت اليسرى ثم سرق ثانية فقال ابن القاسم: تقطع رجله اليمنى لتكون من خلاف
(1)
.
وقال ابن نافع: تقطع رجله اليسرى قال: وقد كان قطع اليد اليسرى خطأ فلا تترك الرجل اليسرى أجزأ ذلك، وعلى قول عبد الملك فإن تعمد القاطع قطع شماله، فقال الأبهري: فيها نظر، ويجوز أن يقال عليه القود، وعن مالك وأبي حنيفة: إذا غلط القاطع فقطع اليسرى أنه يجزئ عن قطع اليمنى، ولا إعادة عليه.
وعن الشافعي وأحمد: على القاطع المخطئ الدية، وفي وجوب إعادة القطع قولان عند الشافعي وروايتان عن أحمد
(2)
.
فروع:
نختم بها الباب إذا ادعى السارق الملكية، وهو السارق الشريف لا قطع عندنا، وعند أبي حنيفة خلافًا لمالك، وعن أحمد روايات أظهرها: لا، وثانيها: نعم، ثالثها: إن كان معروفًا بالسرقة قطع وإلا فلا
(3)
. وعندنا يتوقف القطع على مطالبة المالك، وبه قال أبو حنيفة وأحمد في أظهر روايتيه خلافًا لمالك وأحمد في الأخرى
(4)
.
واختلف فيمن قتل رجلاً في داره وقال: دخل علي ليأخذ مالي ولم يندفع إلا بالقتل. فقال أبو حنيفة: لا قود عليه إذا كان الداخل معروفًا بالفساد وإلا فالقود.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 444 - 445.
(2)
انظر: "المغني" 12/ 445.
(3)
انظر: "الهداية" 2/ 419، "مختصر المزني" ص 352 - 353، 26/ 547 - 549.
(4)
انظر: "المغني" 12/ 470 - 471.
وقال مالك وأحمد: عليه القود إلا أن يأتي بالبينة. قال مالك: إن كان مشهورًا بالتلصص والحرابة قتل وسقط عنه القود
(1)
.
فرع:
أجمعوا على أنه إذا قطع حسم، وإنه إذا لم يكن له الطرف المستحق قطعه أنه يقطع ما بعده، فإن كان أشل من الطرف المستحق قطعه بحيث أنه لا يقطع فيه، فقال مالك وأحمد: يقطع ما بعده. وقال أبو حنيفة: يقطع يمينه وإن كانت شلاء، وقال الشافعي: إذا سرق ويمينه شلاء، وقال أهل الخبرة: إنها إذا قطعت وحسمت وقاد بها فإنها تقطع.
وإن قالوا: إنها إذا قطعت لم يرق دمها وأدى إلى التلف لم تقطع، ويقطع ما بعدها
(2)
.
فرع:
اختلفوا فيما إذا سرق نصابًا ثم ملكه بشراء أو هبة أو إرث أو غيره هل يسقط القطع عنه؟ فقالوا: لا سواء كان ملكه قبل (التدافع)
(3)
أو بعده، وقال أبو حنيفة: متى وهبت له أو بيعت منه سقط القطع عنه
(4)
.
فرع:
قالت طائفة: لا قطع حتى يقر مرتين، وهو قول ابن أبي ليلى ويعقوب وأحمد وإسحاق.
(1)
انظر: "المغني" 12/ 461 - 462.
(2)
انظر: "الإشراف" 2/ 306 - 307، "المهذب مع تكملة المجموع" 22/ 222.
(3)
في الأصل: الترافع، والمثبت من (ص 2).
(4)
انظر: "الاستذكار" 24/ 182 - 183.
وقال عطاء والثوري والنعمان ومحمد والشافعي وأبو ثور: يجب بمرة واحدة
(1)
.
فرع:
لو كان مريضًا أخر الحد عنه عند (مالك)
(2)
والشافعي وأبي حنيفة ومحمد إذا خيف عليه، وكذا الحر والبرد، وخالف أحمد وإسحاق فيه، احتجا بأن عمر رضي الله عنه جلد قدامة وهو مريض، وقال: أخشى أن يموت، وبه قال أبو ثور
(3)
.
فائدة:
اليد الشمال خلاف اليمين والجمع: أشمل مثل أذرع، وشمائل على غير قياس، قال تعالى {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48] والشمال مؤنثة.
أخرى:
المجن والحفة والترس واحد، تطارق بين جلدين ويجعل منها جحفة.
ثالثة: قوله: في مجن ثمنه ثلاثة دراهم هي لغة. واللغة الثانية: الثلاثة الدراهم، والثالثة: الثلاثة دراهم.
فرع:
سرق ثلاثة دراهم ينقص كل درهم ثلاث حبات، وهي تجوز جواز الوازنة، ففي كتاب محمد: لا يقطع. قال أصبغ: وأما حبتان في كل
(1)
انظر: "الإشراف" 2/ 304.
(2)
من (ص 2).
(3)
السابق 2/ 309.
درهم فيقطع
(1)
. وقال غيره: درء القطع أحسن.
آخر: اختلف في تقويم السرقة: فقدمت ثلاثة وقومت بدونها.
ففي "المدونة": يقطع
(2)
، وفي "مختصر الوقار": لا.
آخر: سرق عرضًا فقيل: يقوم بالفضة، وقيل: في العادة أن يباع به من ذهب أو فضة، وقال الشافعي بالذهب
(3)
.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 387.
(2)
"المدونة" 4/ 412.
(3)
انظر: "الإشراف" 2/ 289.
14 - باب تَوْبَةِ السَّارِقِ
6800 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَابَتْ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا. [انظر: 2648 - مسلم: 1688 - فتح 12/ 108].
6801 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ، فَقَالَ:«أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهْوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ، وَمَنْ سَتَرَهُ اللهُ فَذَلِكَ إِلَى اللهِ: إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: إِذَا تَابَ السَّارِقُ بَعْدَ مَا قُطِعَ يَدُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَكُلُّ مَحْدُودٍ كَذَلِكَ إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. [انظر: 18 - مسلم: 1709 - فتح 12/ 108].
ذكر فيه حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّه صلى الله عليه وسلم قطَعَ يَدَ أمْرَأَةٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَابَتْ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا.
وحديث عبادة السالف، وقد سلف في الشهادات اختلاف العلماء في قبول شهادته في كل شيء مما حد فيه وفي غيره لقول عائشة رضي الله عنها: فتابت وحسنت توبتها، وقد قال عليه السلام:"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"
(1)
.
(1)
رواه ابن ماجه (4250).
وهو معنى قوله في هذا الحديث، أعني حديث عبادة: أن الحدود في الدنيا كفارة وطهور، وهذا القول أرجح في الطريق من قول من خالفه؛ لما شهد له ثابت الآثار ومعاني القرآن، وإليه أشار البخاري فيما أورده، وقال مالك في القذف والزنا والسرقة: إذا تابوا قبلت شهادتهم إلا في القذف والزنا والسرقة
(1)
. وعنه رواية أخرى يقبل في كل شيء إذا زادوا في الصلاح، وأهل العراق يقولون: لا تقبل شهادة القاذف، وإن تاب وحسنت حاله قالوا: وإنما الاستثناء في الفسق ليس في قبول الشهادة
(2)
.
آخر كتاب السرقة بحمد الله ومنِّه
(1)
انظر: "الهداية" 3/ 135.
(2)
"المدونة" 4/ 82، 422، وانظر:"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" 4/ 1734 - 1735.
كتاب المحاربين
من أهل الكفر والرِّدة
بسم الله الرحمن الرحيم
15 - كِتَابُ المُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الكُفْرِ وَالرِّدَةِ
(1)
وقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية.
6802 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنْ عُكْلٍ، فَأَسْلَمُوا فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْتُوا إِبِلَ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَفَعَلُوا فَصَحُّوا، فَارْتَدُّوا وَقَتَلُوا رُعَاتَهَا وَاسْتَاقُوا، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ لَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا. [انظر: 233 - مسلم: 1671 - فتح 12/ 109].
(1)
عقَّب الحافظ على هذه الترجمة -في "الفتح" 12/ 109 - قائلاً: كذا هذه الترجمة ثبتت للجميع هنا، وفي كونها في هذا الموضع إشكال، وأظنها بما انقلب على الذين نسخوا كتاب البخاري من المسودة والذي يظهر لي أن محلها بين كتاب الديات وبين استتابة المرتدين وذلك أنها تخللت بين أبواب الحدود
…
اهـ ثم أخذ يستدل لقوله، فليراجع لإتمام الفائدة.
ثم ساق حديث أنس في قصة العرنيين السالفة في الطهارة
(1)
، وكأن البخاري ذهب في هذا الحديث -والله أعلم- إلى أن آية المحاربة نزلت في أهل الكفر والردة، ولم يبن ذلك في الحديث.
وقد بين عبد الرزاق في روايته فقال: حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس فذكره، وفي آخره قال قتادة: فبلغنا أن هذِه الآية نزلت فيهم {إِنَّمَا جَزَاءُ} [المائدة: 33] الآية كلها
(2)
، وذكر مثله عن أبي هريرة
(3)
.
وممن قال: إن هذِه الآية نزلت في أهل الشرك: الحسن
(4)
، والضحاك
(5)
، وعطاء
(6)
، والزهري.
وذهب جمهور الفقهاء إلى أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يسعى في الأرض بالفساد ويقطع الطريق، وهو قول أبي حنيفة ومالك والكوفيين والشافعي وأبي ثور، إلا أن بعض هؤلاء يقولون: إن حد المحارب على قدر ذنبه، على ما في تفسيره.
قال ابن القصار: وقيل: نزلت في أهل الذمة الذين نقضوا العهد، وقيل في المرتدين، وكله خطأ، وليس قول من قال: إن الآية وإن كانت نزلت في المسلمين مناف في المعنى لقول من قال بأنها نزلت في أهل الردة والمشركين؛ لأن الآية وإن كانت نزلت في المرتدين بأعيانهم فلفظها عام يدخل في معناه كل من فعل مثل فعلهم من المحاربة والفساد في الأرض.
(1)
سلف برقم (233)، باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها.
(2)
"المصنف"10/ 106 - 107 (18538).
(3)
المصدر السابق 10/ 107 - 108 (18541).
(4)
رواه الطبري في "تفسيره" 4/ 547.
(5)
عزاه في "الدر المنثور" 2/ 494 لأبي داود في "ناسخه".
(6)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 106 (18537).
ألا ترى أن الله جعل قصر الصلاة في السفر بشرط الخوف، ثم ثبت القصر للمسافرين وإن لم يكن خوف؛ لما يجمعهما في المعنى وظاهر القرآن، وما مضى عليه عمل المسلمين يدل على أن هذِه الحدود نزلت في المسلمين، كما قاله القاضي إسماعيل؛ لأن الله تعالى قال:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] وقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] فلم يذكر فيهم إلا القتل والقتال؛ لأنهم إنما يقاتلون على الديانة، لا على الأعمال التي يعملونها من سرقة أو قطع طريق أو غيره.
وإذا ذكرت الحدود التي تجب على الناس من الحرابة والفساد في الأرض أو السرقة وغيرها لم تسقط عن المسلمين؛ لأنها إنما وجبت من طريق أفعال الأبدان لا من طريق اعتقاد الديانات، ولو كان حد المحارب في الكافر خاصة لكانت الحرابة قد نفعته في أمور دنياه؛ لأنا نقتله بالكفر، فإن كان إذا أحدث الحرابة مع الكفر جاز لنا أن نقطع يده ورجله من خلاف، أو ننفيه من الأرض أو نقتله، فقد خفف عنه العقوبة.
واحتج أبو ثور على أن من زعم أنها نزلت في أهل الشرك بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] الآية، قال: ولا أعلم خلافًا بين العلماء في المشركين لو ظهر عليهم، وقد قتلوا وأخذوا الأموال، فلما صاروا في أيدي المسلمين وهم على حالهم تلك أسلموا قبل أن يحكم عليهم بشيء، أنهم لا يحل قتلهم، فلو كان الأمر على ما قال من خالف قولنا كان قتلهم والحكم عليهم من الآية (لازمًا)
(1)
وإن أسلموا، فلما نفى أهل العلم ذلك دل على أن الحكم ليس فيهم.
(1)
في الأصل: لازم؛ والجادة ما أثبتناه.
قال إسماعيل: وإنما يسقط عنهم القتل، وكل ما فعلوه بقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] والذي عليه قول شيوخ أهل العلم أن المعنيَّ بهذا المسلمون، وإنهم إذا حاربوا فتابوا من قبل أن يقدر عليهم فإن الحدود تسقط عنهم؛ لأنها لله، وأما حقوق العباد فإنها لا تسقط عنهم (ويقتص منهم من النفس والجراح)
(1)
وأخذ ما كان معهم من المال أو قيمة ما استهلكوا، فهذا قول مالك والكوفيين والشافعي وأبي ثور فيما حكاه ابن المنذر.
وأما ترتيب أقوال العلماء الذين جعلوا الآية نزلت في المسلمين في حد المحارب المسلم، فقال مالك: إذا أشهر السلاح وأخاف السبيل ولم يقتل، ولا أخذ مالاً كان الإمام مخيرًا فيه، فإن رأى أن يقتله أو يصلبه أو يقطع يده ورجله من خلاف أو ينفيه من الأرض فعل ذلك.
وقال الكوفيون والشافعي: إذا لم يقتل ولا أخذ مالاً لم يكن عليه إلا التعزير، وإنما يقتله الإمام إن قتل، ويقطعه إن سرق، ويصلبه إذا قتل وأخذ المال، وينفيه إذا لم يفعل شيئًا من ذلك، ولا يكون الإمام مخيرًا فيه.
قال إسماعيل: فأجروا حكم المحارب كحكم القاتل غير المحارب، ولم توجب المحاربة عندهم شيئًا، وقد ركب ما ركب من الفساد في الأرض، وقد قال تعالى:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] فجعل الفساد بمنزلة القتل، والمعنى -والله أعلم- من قتل نفسًا بغير نفس، أو بغير فساد في الأرض، فلم يحتج إلى أن تعاد (غير) وعطف الكلام على
(1)
من (ص 1).
ما قبله، فجعل الفساد عدلاً للقتل، وإذا كان الشيء بمنزلة الشيء فهو مثله، فكأن الفساد في الأرض بمنزلة القتل، هذا قول إسماعيل وعبد العزيز بن أبي سلمة، قال إسماعيل: والذي يعرف من الناس من الكلام في كل ما أمر به فقيل افعلوا كذا وكذا، فإن صاحبه مخير.
وقال عطاء ومجاهد والضحاك: كل شيء في القرآن (أو)(أو) فهو خيار
(1)
، واحتج من أسقط التخيير بقوله عليه السلام:"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"
(2)
الحديث.
فجاوبهم أهل المقالة الأولى بأن ظاهره يدل أن المحارب غير داخل فيه؛ لأن قاتل النفس في غير المحاربة إنما أمره القتل أو الترك إلى ولي المقتول، وأمر المحارب إلى السلطان؛ لأن فساده في الأرض لا يلتفت فيه إلى عفو المقتول، فعلمنا بهذا أن المحارب لا يدخل في هذا الحديث، وإنما يدخل فيه القاتل الذي أمره إلى ولي المقتول إذا قتل فيه، أو قتل نفسًا بغير نفس، فكأنه على مجرى القصاص، ولو كان على العموم لوجب أن يقتل كل قاتل قتل مسلمًا عمدًا.
وقد رأينا مسلمًا قتل مسلمًا عمدًا لم يجب عليه القتل في قول جماعة المسلمين، وذلك أنهم أجمعوا في قتلى الجمل وصفين أنهم لا تقاص بينهم إذ كان القاتل المسلم إنما قتل بتأويل لم يقتله لثائرة بينه وبينه، ولا قصد له في نفسه، وإنما قصد في قتله للديانة عنده فسقط القتل عنه لذلك، وكذلك أمر المحارب إنما كان قصده قتل المسلم لقطع
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 5/ 54.
(2)
سيأتي برقم (6878) كتاب: الديات، باب: قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} .
ورواه مسلم (1676) كتاب: القسامة والمحاربين، باب: ما يباح به دم المسلم.
الطريق وأخذ الأموال والفساد في الأرض، فكان الأمر فيه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول، فكما خرج قتلى صفين والجمل من معنى هذا الحديث، كذلك خرج المحاربة من معناه، ويشهد لما قلنا ما رواه الأعمش، عن عبد الله بن مرة قال: قال مسروق: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل دم رجل مسلم إلا بإحدى ثلاث: قتل النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه المفارق للجماعة"
(1)
.
فمفارقة الجماعة دالة على الفساد في الأرض نحو الخوارج والمحاربين، فإذا كان الخوارج يحل قتلهم وليسوا بمرتدين لفسادهم في الأرض، كذلك يحل قتل المحاربين وإن لم يكونوا قتلوا، ولا ارتدوا؛ لفسادهم في الأرض.
واختلف في صفة نفي المحارب، فعند مالك: أنه ينفيه إلى غير بلده، وعنه: يحبسه فيه حتى تظهر توبته، وقال أبو حنيفة: يحبسهم في بلدهم، وقال الشافعي: ينفيهم، إذا هربوا بعث الإمام خلفهم، وطلبهم ليأخذهم ويقيم عليهم الحد.
وقال أبو ثور: قال بعضهم: ينفى من البلد التي هو فيها إلى بلدة غيرها، كما يفعل بالزاني، وهو مروي عن ابن عباس، وقال الشعبي: ينفى من عمله، حكاه ابن المنذر.
وقال أبو الزناد: كانوا ينفون إلى دهلك وتلك الناحية.
وقال الحسن: ينفى حتى لا يقدر عليه، قال ابن القصار والنفي بعينه أشبه بظاهر القرآن؛ ولقوله تعالى:{أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] وهذا يقتضي أن ينفيهم الإمام، كما يقتلهم أو يصلبهم، وما قاله أبو حنيفة من الحبس في بلدهم، فالنفي ضد الحبس، وليس
(1)
سبق تخريجه.
يعقل من النفي حبس الإنسان في بلده، وإنما يعقل منه إخراجه من وطنه وهو أبلغ في ردعه، ثم يحبس في المكان الذي يخرج إليه حتى تظهر توبته، هذا حقيقة النفي وهو أشد في الردع والزجر، وقد قرن الله تعالى مفارقة الوطن بالقتل فقال {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ}
(1)
الآية [النساء: 66].
فصل:
نقل ابن التين عن بعض المتأخرين أنه إذا أخذ المحارب بحضرة خروجه ولم يقع منه حرب عوقب، ولا يجري عليه شيء من أحكام المحاربة؛ لأنه لم يحارب، وفي "المدونة": ليس كل المحاربين سواء، منهم من يخرج بعصا ويوجد على تلك الحال، ولم يخف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل، قال مالك: فأمره أن يجلد وينفى، ويسجن في الموضع الذي نفي إليه
(2)
.
وعند محمد في رواية أشهب لمالك: أن للإمام أن يقتله إذا شاء، أو يقطعه من خلاف، وحكى ابن شعبان: أنه ينفى ولا يضرب وأن ضربه ظلمٌ؛ لأن الله لم يذكر الضرب مع النفي.
فصل:
ومشهور مذهب مالك أنه لا بد من قتل المحارب، وفيه خلاف منتشر.
فصل:
ومعنى (اجتووا المدينة): كرهوا المقام بها.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 416 - 421.
(2)
"المدونة" 4/ 429.
ومعنى (سمل أعينهم): فقأها. ومعنى (لم يحسمهم): لم يكوهم بالنار لينقطع الدم، وقال الداودي: لم يدخل ما قطع منهم في زيت، وإنما لم يحسمهم؛ لأن قتلهم كان واجبًا بالردة، فمحال أن يحسم به من يطلب نفسه، وأما من يتوجب قطع يده في حد من حدود الله، فالعلماء مجمعون على أنها لا بد من حسمها؛ لأنه أقرب (إلى الله)
(1)
وأبعد من التلف كما سأذكره في الباب بعد.
(1)
من (ص 1).
16 - باب: لَمْ يَحْسِمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ حَتَّى هَلَكُوا
6803 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ الْعُرَنِيِّينَ وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا. [انظر: 233 - مسلم: 1671 - فتح 12/ 110].
ساق فيه حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ العُرَنِيِّينَ وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ حَتَّى مَاتُوا.
قد أسلفنا في الباب قبله سبب عدم حسمهم.
قال ابن المنذر: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقطع يد رجل سرق، ثم قال:"احسموها". وفي إسناده مقال.
وقد اختلف العلماء في فعله عليه السلام بالعرنيين، فقالت طائفة من السلف: كان هذا قبل نزول الآية في المحاربين، ثم نزلت الحدود بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى عن المثلة، فنسخ حديث العرنيين، رُوي هذا عن ابن سيرين وسعيد بن جبير وأبي الزناد، وقالت طائفة: إنه غير منسوخ، وفيهم نزلت آية المحاربين، وإنما فعل بهم الشارع ما فعل قصاصا؛ لأنهم فعلوا بالرعاء مثل ذلك، ذكره أهل السير.
وروى محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: أن العرنيين قتلوا يسارًا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مثلوا به، واستاقوا اللقاح، وذكر ابن إسحاق قال: حدثني بعض أهل العلم عمن حدثه، عن محمد بن طلحة، عن عثمان بن عبد الرحمن قال: أصاب رسول
الله في غزوة محارب وبني ثعلبة عبدًا يقال له: يسار، فجعله في لقاح له يرعى في ناحية الماء
(1)
، فخرجوا إليها، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من قريش فلما استوبئوا المدينة وطلحوا فأمرهم أن يخرجوا إلى اللقاح يشربوا من أبوالها وألبانها، فخرجوا إليها، فلما صحوا وانطوت بطونهم عدوا على راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسار فذبحوه، وغرزوا الشوك في عينيه، وذكر الحديث
(2)
.
وروى الترمذي
(3)
من حديث أنس قال: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم العرنيين؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء ثم قال: حديث غريب
(4)
.
وفي رواية لأبي الشيخ في كتاب "القطع والسرقة" عنه: سمل رسول الله منهم اثنين وقطع اثنين وصلب اثنين، وفي رواية: كان وقع بالمدينة الموم وهو البرسام فاستوبئوها. الحديث.
وفي رواية: كانوا من مزينة، وفي رواية من سليم.
وبنو عُرينة من بجيلة، وأنه أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم، وما مثل قبل ولا بعد، ونهى عن المثلة.
قال ابن بطال: فلما اختلفوا في تأويل هذا الحديث أردنا أن نعلم أي التأويلين أولى؟ فوجدناه قد صحب حديث العرنيين عمل من الصحابة، فدل أنه غير منسوخ، وروي عن الصديق أنه حرق عبد الله بن إياس بالنار حيا؛ لارتداده ومقاتلته الإسلام، وحرق علي الزنادقة
(5)
.
(1)
في الأصل: الجمى وما أثبتناه أوثق، والجماء جبيل من المدينة على ثلاثة أميال من ناحية العقيق إلى الجرف.
(2)
انظر "سيرة ابن هشام" 4/ 318 - 319.
(3)
في هامش الأصل تعليق نصه: ما رواه الترمذي هو في مسلم، فاعلمه.
(4)
"سنن الترمذي"(73).
(5)
"شرح ابن بطال" 8/ 423.
وفي "علل ابن أبي حاتم": حرق علي قومًا من الزُّط
(1)
اتخذوا صنمًا
(2)
. وقال علي:
لما رأيت الأمر أمرًا منكرًا
…
أججت ناري ودعوت قنبرًا
وقال بعضهم: ذكر فعل علي أنشده الثمالي:
لترم بيَ من المنايا حيث شاءت
…
إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أججوا حطبًا ونارًا
…
رأيت الموت نقدًا غير دين
وقد رأى جماعة من العلماء حريق مراكب العدو، وفيها أسرى المسلمين ورجموا الحصون بالمناجيق والنار، وتحريق من فيها من الذراري.
قال المهلب: وهذا كله يدل على أن نهيه عن المثلة ليس نهي تحريم، وإنما هو على الندب والحض، فوجب أن يكون فعله بالعرنيين غير مخالف للآية.
وذكر ابن المنذر أن بعض أهل العلم قالوا: حكمه عليه السلام في العرنيين ثابت لم ينسخه شيء، وقد حكم الله في كتابه بأحكام، وحكم رسوله بها وزاد في الحكم ما لم يذكر فيها، هذا الزاني أوجب الله عليه جلد مائة، وزاد رسوله نفي عام، وأوجب تعالى اللعان بين المتلاعنين، وفرق الشارع بينهما وذلك ليس في كتاب الله، وألحق الولد بالأم ونفاه عن الزوج، وأجمع العلماء على قبول ذلك والأخذ به
(3)
.
(1)
بضم الزاي وهو جيل من الهند، معرَّب جَتَّ انظر:"القاموس المحيط" ص 668 مادة: زط.
(2)
"علل ابن أبي حاتم" 1/ 449.
(3)
نقله ابن بطال في "شرحه" 8/ 423.
فائدة:
الحسم: القطع، ذكره في "المحكم"
(1)
.
وفي "الأفعال" حسم العرق حسمًا: كواه بالنار لينقطع دمه
(2)
، وقال صاحب "العين": حسمت الشيء: قطعته
(3)
.
(1)
"المحكم" 3/ 156.
(2)
"الأفعال" ص 207.
(3)
"العين" 3/ 153.
17 - باب لَمْ يُسْقَ المُرْتَدُّونَ المُحَارِبُونَ حَتَّى مَاتُوا
6804 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا فِي الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوُا المَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَبْغِنَا رِسْلاً. فَقَالَ:«مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» . فَأَتَوْهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا، وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ. [انظر: 233 - مسلم: 1671 - فتح 12/ 111].
ذكر فيه حديث أنسٍ رضي الله عنه أيضًا في قصة العرنيين، وفيه: يستسقون فلا يسقون.
ثم ترجم:
18 - باب سَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَ المُحَارِبِينَ
6805 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ -أَوْ قَالَ: عُرَيْنَةَ. وَلَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ قَالَ: مِنْ عُكْلٍ- قَدِمُوا المَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَشَرِبُوا حَتَّى إِذَا بَرِئُوا قَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غُدْوَةً، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي إِثْرِهِمْ، فَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ حَتَّى جِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، فَأُلْقُوا بِالْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ سَرَقُوا، وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ. [انظر: 233 - مسلم: 1671 - فتح 12/ 112].
ثم ساق فيه حديث أَنَسِ رضي الله عنه.
وقام الإجماع على أن من وجب عليه الحد سواء كان بلغ النفس أم لا أنه لا يمنع شرب الماء لئلا يجتمع عليه عذابان، وقد أمرنا بإحسان القتلة وأن نذبح الذبيحة بحد الشفرة والإجهاز عليها.
ومعنى ترك سقي العرنيين هو كمعنى ترك حسمهم، ويحتمل كما قال المهلب أن يكون تركه عقوبة لهم لما جازوا سقي رسول الله لهم اللبن حتى انتعشوا بالارتداد والحرابة والقتل، فأراد أن يعاقبهم على كفر السقي بالإعطاش فكانت العقوبة مطابقة للذنب. وفيه وجه آخر قريب من هذا، روى ابن وهب عن معاوية بن صالح ويحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب -وذكر هذا الحديث-: فعمدوا إلى الراعي -غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه واستاقوا اللقاح، فزعم أنه عليه السلام قال:"عطش الله من عطش آل محمد الليلة"
(1)
.
فكان ترك سقيهم إجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم.
(1)
رواه النسائي 7/ 98 - 99.
فإن قلت: قال أنس في هذا الحديث: فذهبوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.، وفي (أول)
(1)
كتاب المحاربين: بإبل الصدقة
(2)
. فما وجه ذلك؟
قيل: وجهه أنه كانت له إبل من نصيبه من المغنم، فكان يشرب لبنها، وكانت ترعى مع إبل الصدقة، فأخبر مرة عن إبله ومرة عن إبل الصدقة، فإنها كانت لا تخفى لكثرتها من أجل رعيها معها ومشاركتها لها في السرح والمرتع
(3)
.
ويحتمل وجهًا ثانيًا: أنها إبل الصدقة، وأضيفت إليه؛ لأنه مصرفها والغنم شأنها فنسبت إليه لذلك لا لأنها ملك له.
فصل:
قوله: (فما ترجل النهار حتى جيء بهم). أي: ارتفع.
وقوله: (فأمر بمسامير فأحميت). هو صحيح؛ لأن أحميت الحديد رباعي، وسمر وسمل واحد.
وقوله: (حتى إذا برئوا) هو بفتح الراء، كذا هو في الأصول مضبوط، وقال ابن التين: من قرأه بالكسر على وزن علموا.
قال الجوهري: برئت من الذنوب والعيوب براءة، وبرئت من المرض برءًا بالضم، وأهل الحجاز يقولون: برأت من المرض برءًا
(4)
.
قال ابن فارس: برأت من المرض وبرئت أيضًا
(5)
.
(1)
من (ص 1).
(2)
سلف برقم (6802).
(3)
قاله ابن بطال في "شرحه" 8/ 424 - 425.
(4)
"الصحاح" 1/ 36 مادة (برأ).
(5)
"مجمل اللغة" 1/ 122 مادة (برو).
19 - باب فَضْلِ مَنْ تَرَكَ الْفَوَاحِشَ
6806 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ فِي خَلَاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ. وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ". [انظر: 660 - مسلم: 1031 - فتح 12/ 112].
6807 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ. وَحَدَّثَنِي خَلِيفَةُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَكَّلَ لِي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ". [انظر: 6474 - فتح 12/ 113].
ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ .. ". الحديث.
وحديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَكَّلَ لِي مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ وَمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ تَوَكَّلْتُ لَهُ بِالْجَنَّةِ".
وقد سلفا، والمراد بما بـ "ما بين لحييه": لسانه، وبـ "ما بين رجليه": فرجه؛ لأن أكثر النبلاء منهما، فمن سلم من ضررهما فقد فاز وكان له الشارع كفيلًا بالجنة.
والتوكل: إظهار العجز والاعتماد على غيرك، فالمعنى أنه: إذا ضمن له ذلك من نفسه ضمنت له أنا الجنة التي هو عاجز عن الوصول إليها، وكذلك يتكفل هو لي بما لا طاقة لي فيه من صيانة فرجه ولسانه.
وقوله: "لحييه" هو بفتح اللام وهو منبت اللحية من الإنسان وضبط بكسرها.
فائدة:
البخاري روى حديث أبي هريرة عن محمد بن سلام، عن ابن المبارك، وأما الجياني فذكره من غير نسب إلى سلام، ثم قال: محمد هذا نسبه ابن السكن والأصيلي: ابن مقاتل، ونسبه في نسخة أبي الحسن: ابن سلام، قال: والأول أصوب
(1)
.
(1)
"تقييد المهمل" 2/ 447.
20 - باب إِثْمِ الزُّنَاةِ
وقَوْلُ اللهِ عز وجل: {وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32)} [الإسراء: 32].
6808 -
أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَخْبَرَنَا أَنَسٌ قَالَ: لأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ -وَإِمَّا قَالَ: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ- أَنَّ يُرْفَعَ العِلْمُ، وَيَظْهَرَ الجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِلْخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيِّمُ الوَاحِدُ". [انظر: 80 - مسلم: 2671 - فتح 12/ 113].
6809 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «لَا
يَزْنِي الْعَبْدُ حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَقْتُلُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ». قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُنْزَعُ الإِيمَانُ مِنْهُ؟ قَالَ هَكَذَا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا- فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. [انظر: 6782 فتح 12/ 114].
6810 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ". [انظر: 2475 - مسلم: 57 - فتح 12/ 114].
6811 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ:«أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ» . قُلْتُ: ثُمَّ أَي؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ
وَلَدَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أَي؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك". [انظر: 4477 - مسلم: 86 - فتح 12/ 114].
قَالَ يَحْيَى: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي وَاصِلٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِثْلَهُ، قَالَ عَمْرٌو: فَذَكَرْتُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ حَدَّثَنَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ وَوَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، قَالَ: دَعْهُ دَعْهُ.
ثم ساق حديث قَتَادَةَ، أَنَا أَنَسٌ قَالَ: لأُحدِّثَنَكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُهُ مِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَمِعْتُه يَقُولُ:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ -وَإِمَّا قَالَ: مِنْ أَشرَاطِ السَّاعَةِ- أَنَّ يُرْفَعَ العِلْمُ". الحديث سلف.
وحديث عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:"لَا يَزْنِي الزاني حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ". الحديث.
وقد سلف أيضًا مختصرًا، وزإد هنا:"وَلَا يَشْرَبُ حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَقتُلُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ".
قَالَ عِكْرِمَةُ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يُنْزَعُ الإِيمَانُ (مِنْهُ)
(1)
؟ قَالَ: هَكَذَا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا- فَإِنْ تَابَ عَادَ إِلَيْهِ هَكَذَا. وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ: "لَايَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزنِي .. " الحديث.
وقد سلف أيضًا وزاد هنا: "وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ".
وحديث يَحْيَى، ثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ وَسُلَيْمَانُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي عَنْ عَبْدِ اللهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ:"أَنْ تَجْعَلَ لله نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ". الحديث.
(1)
من (ص 1).
قَالَ يَحْيَى: ثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي وَاصِلٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِثْلَهُ. قَالَ عَمْرٌو: فَذَكَرْتُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بن مهدي، وَكَانَ ثَنَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ وَمَنْصُورٍ وَوَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، قَالَ: دَعْهُ دَعْهُ.
الشرح:
قوله في الأخير (قال يحيى) إلى آخره، يريد: دع حديث أبي وائل عن عبد الله؛ فإنه لم يروه عنه، وإن كان قد روى عنه الحديث الكثير، وقال الدارقطني في رواية ابن مهدي، عن سفيان بن سعيد، عن واصل، عن أبي وائل، عن أبي ميسرة عمرو: وهم عبد الرحمن على الثوري، ورواه الحسن بن عبيد الله النخعي، عن أبي وائل، عن عبد الله، والصحيح حديث أبي ميسرة، قال: وقال لنا أبو بكر النيسابوري: رواه يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور وسليمان، عن أبي وائل، عن أبي ميسرة، عن عبد الله، قال سفيان: وحدثني واصل عن أبي وائل، عن عبد الله، ولم يذكر في حديث واصل عمرو بن شرحبيل، ورواه ابن مهدي ومحمد بن كثير فجمعا بين واصل ومنصور والأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو، عن عبد الله، فيشبه أن يكون الثوري جمع بين الثلاثة لعبد الرحمن ولابن كثير، فجعل إسنادهم واحدًا، ولم يذكر بينهم خلافًا، وحمل حديث واصل على حديث الأعمش ومنصور وفصله ليحيى بن سعيد، فجعل حديث واصل عن أبي وائل، عن عبد الله، وهو الصواب؛ لأن شعبة ومهدي بن ميمون روياه عن واصل، عن أبي وائل، عن عبد الله، كما رواه يحيى عن الثوري عنه
(1)
.
(1)
"علل الدارقطني" 5/ 222 - 223.
فصل:
قام الإجماع على أن الزنا من الكبائر، وأخبر عليه السلام في حديث أنس رضي الله عنه أن ظهوره من أشراط الساعة، أي علاماتها، واحدها شرط بفتح الشين والراء.
وقوله: "يرفع العلم" أي: يقبض أهله، أي: أكثرهم، وفي حديث آخر "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"
(1)
.
وقوله: "ويشرب الخمر" أي: (يكثر)
(2)
شربه.
وقوله: "حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد"، قال الداودي: قد كان ذلك في قوله: "يكثر النساء ويقل الرجال".
وحديث عبد الله بن مسعود (فيه)
(3)
ترتيب الذنوب في العظم، وقد يجوز كما قال المهلب أن يكون بين الذنبين المرتبين ذنب غير مذكور، وهو أعظم من المذكور، قال: وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن عمل قوم لوط أعظم من الزنا، وكان عليه السلام إنما قصد بالتعظيم من الذنوب إلى ما يخشى مواقعته وبه الحاجة إلى بيانه وقت السؤال، كما فعل في الإيمان بوفد عبد القيس وغيرهم، وإنما عظم الزنا بحليلة جاره، وإن كان الزنا كله عظيمًا؛ لأن الجار له من الحرمة والحق ما ليس لغيره، فمن لم يراع حق الجوار فذنبه مضاعف لجمعه بين الزنا وبين
(1)
سيأتي برقم (7311) كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين" ورواه مسلم (1920) كتاب الإمارة من حديث المغيرة بن شعبة.
(2)
من (ص 1).
(3)
من (ص 1).
خيانة الجار الذي أوصى الله بحفظه
(1)
، وقد قال عليه السلام "والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه"
(2)
.
فصل:
وحليلة الرجل: امرأته، والرجل حليل؛ لأن كل واحد منهما يحل على صاحبه، وقيل: حليلة بمعنى: محلة، من الحلال.
آخر المحاربين بحمد الله ومنِّه.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 430.
(2)
سلف برقم (6016) كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه.
كتاب الرَّجم
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الرَّجْمِ
21 - باب رَجْمِ المُحْصَنِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ زَنَى بِأُخْتِهِ حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي.
6812 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه حِينَ رَجَمَ الْمَرْأَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: قَدْ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [فتح 12/ 117].
6813 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. [انظر: 6840 - مسلم: 1702 - فتح 12/ 117].
6814 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ، وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ. [انظر: 5270 - مسلم: 1691 م- فتح 12/ 117].
ذكر فيه: حدثنا آدَمَ، ثَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه حِينَ رَجَمَ المَرْأَةَ يَوْمَ الجُمُعَةِ قَالَ: قَدْ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وحديث الشَّيْبَانِيِّ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما: هَلْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أَمْ بَعْدُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
وحديث ابن عَبْدِ اللهِ الأَنْصارِيِّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثَهُ أَنَّهُ قَدْ زَنَى، فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فرُجِمَ، وَكَانَ قَدْ أُحْصِنَ.
الشرح:
أثر الحسن أخرج نحوه ابن أبي شيبة عن حفص، عن عمر، قال: سألته ما كان الحسن يقول فيمن تزوج ذات رحم محرم منه وهو يعلم؛ قال: عليه الحد
(1)
.
وقد سلف حديث المتزوج بامرأة أبيه، رواه (البراء)
(2)
قال: لقيت خالي ومعه الراية، فقلت له، [فقال]
(3)
: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله أو أضرب عنقه
(4)
.
وللدارقطني من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه أنه عليه السلام بعث إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه
(5)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 544.
(2)
في الأصل: (البزار)، ولعله:(تحريف).
(3)
زيادة يقتضيها السياق.
(4)
رواه النسائي 6/ 109، وابن أبي شيبة 5/ 544 (28858).
(5)
"السنن" 3/ 200.
زاد ابن ماجه: وأصفي ماله
(1)
. وللطحاوي: ويخمس ماله
(2)
.
وروى ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد فيمن أتى ذات محرم منه، قال: ضرب عنقه
(3)
، وقال ابن عباس مرفوعًا:"من وقع على ذات محرم فاقتلوه"
(4)
. قال الطحاوي في "مشكله": هذا الحديث يدور على إبراهيم بن إسماعيل وهو متروك الحديث
(5)
.
وفي "المصنف" عن بكر: رفع إلى الحجاج رجل زنى بأخته، فقال: ما أدري بأي قتلة أقتله؟ وهم أن يصلبه، قال عبد الله بن مطرف وأبو بردة: ستر الله لهذِه الأمة، وأحب البلاء ما ستر الإسلام، اقتله. قال: صدقتما. فأمر به فقتل
(6)
.
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث هشام بن عمار، ثنا رفدة بن قضاعة، ثنا صالح بن راشد القرشي قال: أُتي الحجاج برجل قد اغتصب أخته (نفسها)
(7)
، قال: سلوا من هنا من أصحاب رسول الله، فسألوا عبد الله بن أبي مطرف، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تخطى الحرمتين فخطوا وسطه بالسيف"، وكتبوا إلى ابن عباس فكتب إليهم مثل قول عبد الله، فقال لي: كذا رواه هشام، وروي عن عبد الله بن مطرف بن الشخير هذا الكلام.
(1)
ابن ماجه (2608).
(2)
"شرح معاني الآثار" 3/ 150.
(3)
"المصنف" 5/ 544 (28855).
(4)
رواه ابن ماجه (2564) وقال الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(558): ضعيف.
وانظر: "الإرواء"(2348).
(5)
"شرح مشكل الآثار" 9/ 439 - 440.
(6)
"المصنف" لابن أبي شيبة 5/ 544 (28859).
(7)
من (ص 1).
قوله: فلا أدري هذا هو أو غيره، قال أبو زرعة: وابن مطرف الصحيح
(1)
. وقال العسكري: هو مرسل، وقال ابن عبد البر: عبد الله بن مطرف حديثه في الشاميين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تخطى الحرمتين" الحديث.
وحديثه أيضًا هذا عند رفدة، (ويقولون: إن رفدة)
(2)
غلط فيه، ولم يصح (عندي)
(3)
قول من قال ذلك
(4)
.
ولما ذكر ابن قانع هذا الحديث، قال: قد وجدت علته، ثم ساق إلى بكر بن عبد الله قال: أُتي الحجاج برجل أعمى وقع على ابنته، وعنده عبد الله بن مطرف بن الشخير وأبو بردة، فقال له: أحدهما اضرب عنقه فضرب عنقه
(5)
.
قلت: وصرح بصحبة عبد الله أصحاب كتب الصحابة، ويحمل على استحلاله، (يوضحه عند الدابة)
(6)
.
وأما حديث الشعبي عن علي فأخرجه النسائي من حديث بهز عن شعبة أن عليًّا رضي الله عنه جلد شراحة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة
(7)
.
وقال الدارقطني: رواه قعنب بن محرز، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سلمة، عن مجالد، عن الشعبي، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه.
(1)
"العلل" 1/ 456.
(2)
من (ص 1).
(3)
في الأصل: عنه.
(4)
"الاستيعاب" 3/ 116 (1678).
(5)
"معجم الصحابة" 2/ 108.
(6)
كذا بالأصل وعليها علامة استشكال.
(7)
"السنن الكبرى" 4/ 269.
فوهم فيه في موضعين: قوله عن مجالد. وإنما هو سلمة ومجالد، وقوله: الشعبي عن أبيه، وإنما رواه عن علي، كذا رواه (الحسين)
(1)
المروذي وغيره، عن شعبة، عن سلمة ومجالد، عن الشعبي، ورواه عصام بن يوسف عن شعبة، عن سلمة، عن الشعبي، عن ابن أبي ليلى، عن علي. ورواه غندر، عن شعبة، عن سلمة، عن الشعبي، عن علي وهو الصواب، وكذا رواه إسماعيل بن سالم وحصين عن الشعبي، عن علي
(2)
. ورواه في "سننه" من طريق أبي حصين عن الشعبي قال: أُتي علي رضي الله عنه بشراحة الهمدانية وقد فجرت، فردها حتى ولدت، فلما ولدت قال: ائتوني بأقرب النساء إليها، فأعطاها ولدها، ثم جلدها ورجمها، وقال: جلدتها بالكتاب ورجمتها بالسنة، ثم قال: أيما امرأة نعى عليها ولدها أو كان اعتراف، فالإمام أول من يرجم، ثم الناس، فإن نعتها شهود، فالشهود أول من يرجم ثم الناس
(3)
. ومن حديث (ابن)
(4)
هشيم، أنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي قال: أُتِيَ علي (بزان)
(5)
محصن فجلده يوم الخميس ثم رجمه يوم الجمعة، فقيل له: أجمعت عليه حدين فقال: جلدته بكتاب الله ورجمته بالسنة
(6)
. ومن حديث حصين عن الشعبي: أُتي علي بمولاة لسعيد بن قيس قد فجرت، فضربها مائة ثم رجمها، ثم قال: جلدتها
(1)
في الأصل: (حسين).
(2)
"العلل" 4/ 96.
(3)
"سنن الدارقطني" 3/ 124.
(4)
من (ص 1).
(5)
في الأصل: (على زان).
(6)
"سنن الدارقطني" 3/ 122 - 123.
بكتاب الله ورجمتها بالسنة
(1)
. ولفظ سنيد
(2)
: أتي بشراحة حبلى فقال لها علي: لعل رجلاً استكرهك! قالت: لا، قال: فلعله أتاكِ في منامك! قالت: لا، قال: فلعل زوجك أتاك سرًّا فأنت تكرهين إطلاعنا عليه، قال: فأمر بها فُحبست، فلما وضعت أخرجها يوم الخميس فجلدها مائة ثم ردها إلى الحبس، فلما كان يوم الجمعة حفر لها ورجمها. ونسبها في "التمهيد": شراحة بنت مالك
(3)
. فسأل الدارقطني: سمع الشعبي من علي؟ قال: سمع منه حرفًا ما سمع منه غير هذا
(4)
.
وقال الحازمي: لم يثبت أئمة الحديث سماع الشعبي من علي
(5)
. وقد أسلفنا هذا في كتاب: الحيض أيضًا.
وأما حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما فأخرجه البخاري أيضًا بعد في باب أحكام أهل الذمة، ثم قال: تابعه علي بن مسهر وخالد بن عبد الله والمحاربي وعبيدة بن حميد، عن الشيباني، وقال بعضهم: المائدة، والأول أصح
(6)
.
قلت: أما متابعة ابن مسهر فأخرجها مسلم عن ابن أبي شيبة عنه
(7)
، ومتابعة عبيدة، وهو بفتح العين، أخرجها أحمد بن منيع في "مسنده" عنه
(1)
المصدر السابق 3/ 124.
(2)
هو أبو علي حسين بن داود، ولقبه: سُنَيْد المصيصي صاحب "التفسير الكبير". قال أبو حاتم: صدوق. وقال أبو داود: لم يكن بذاك. وقال النسائي: ليس بثقة. انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" 4/ 326، "تهذيب الكمال" 12/ 161.
(3)
بل قالها ابن عبد البر في "الاستذكار" 24/ 40.
(4)
"العلل" 4/ 97.
(5)
"الاعتبار" ص 157.
(6)
سيأتي برقم (6840).
(7)
مسلم (1702).
عن أبي بكر إسحاق، عن ابن أبي أوفى قال: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: بعد سورة المائدة أم قبلها؟ قال: لا أدري، وروى الطبراني من حديث أبي الوليد الطيالسي، ثنا هشيم عن الشيباني عنه أنه عليه السلام رجم يهوديًّا ويهودية
(1)
، وقال البزار: هذا اللفقالا نعلم أحدًا رواه إلا هشيم بن بشير وحده.
فصل:
الرجم ثابت بالسنة الثابتة، وبفعل الخلفاء الراشدين، وبإجماع الصحابة بعده، وباتفاق (أئمة)
(2)
أهل العلم: الثوري، وجماعة أهل العراق ومالك في أهل المدينة، والأوزاعي في أهل الشام، والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، قال الرب جل جلاله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وقال:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء: 80]، فألزم الله خلقه طاعة رسوله، وثبتت الأخبار كما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالرجم ورجم، ألا ترى قول علي: رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فالرجم ثابت كما قررناه، ولا عبرة بدفع الأزارقة من الخوارج والمعتزلة الرجم معللين بأنه ليس في كتاب الله، وما يلزمهم من اتباع الكتاب مثله يلزمهم من اتباع السنة، قال تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] فلا معنى لقول من خالف السنة وإجماع الصحابة واتفاق (أئمة)(2) الأمة، ولا يعدون خلافًا، ولا يلتفت إليهم، بل إليه
(1)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 10/ 331 - 332 من طريق محمد بن طلحة عن إسماعيل الشيباني، عن ابن عباس بلفظ مقارب.
(2)
من (ص 1).
يشير قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]، كما بينه رسوله، وقد كان فيما مضى: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فنسخ لفظًا وبقي حكمًا.
قال البيهقي: ولا أعلم في ذلك خلافًا، وكذا قوله عليه السلام "لأقضين بينكما بكتاب الله" ثم أمر أنيسًا الأسلمي بالرجم إن اعترفت
(1)
، وهذا رواه الحمادان -ابن زيد وابن سلمة- وهشيم، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: أيها الناس، إن الرجم حق فلا تجزعن عنه، فإنه عليه السلام قد رجم، ورجم أبو بكر رضي الله عنه، ورجمنا بعدهما، وسيكون قوم من هذِه الأمة يكذبون بالرجم والدجال وبطلوع الشمس من مغربها وبعذاب القبر والشفاعة، وبقوم يخرجون من النار قد امتحشوا
(2)
.
واختلف العلماء فيمن زنى بأخته أو ذات رحم منه، فقال بقول الحسن -حده حد الزاني- مالك ويعقوب ومحمد والشافعي وأبو ثور.
وقالت طائفة: إذا زنى بالمحرمية قتل، روي عن جابر بن زيد وهو قول أحمد وإسحاق واحتجوا بحديث البراء السالف: أنه عليه السلام -بعث إلى رجل نكح امرأة أبيه أن يضرب عنقه، وقد أسلفنا ما فيه.
فصل:
قوله: (فشهد على نفسه أربع شهادات)، أخذ به مَن اعتبر تكرار
(1)
سلف برقم (2695) كتاب الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ورواه مسلم (1697) كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا.
(2)
رواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" كما في "بغية الباحث"(750).
قال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" 1/ 182 (226): مدار هذا الحديث على علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
الإقرار والمذهب فيه ثلاثة: أحدها -وهو قول أبي حنيفة وأصحابه- لا يجب إلا باعتراف أربع (شهادات)
(1)
في أربع مجالس وهو أن يغيب عن القاضي حتى لا يراه، ثم يعود إليه فيقر كما في حديث ماعز، فإن اعترف ألف مرة في مجلس واحد فهو اعتراف واحد.
ثانيها: وهو قول ابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق والثوري والحسن بن حي والحكم بن عتيبة: يجب باعتراف أربع مرات في مجلس واحد ومجالس.
وقال مالك والشافعي: يكفي مرة واحدة لحديث: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"
(2)
علقه بمطلق (الإقرار)
(3)
.
فصل:
ومعنى (وكان قد أحصن) أي: تزوج فهو محصن، قال ابن فارس والجوهري: هذا أحد ما جاء على أفعل فهو مفعل بفتح الصاد.
قال ثعلب: كل امرأة عفيفة فهي محصَنة ومحصِنة، وكل امرأة متزوجة فالفتح لا غير
(4)
.
(1)
في (ص 1): مرات.
(2)
سلف برقم (2695، 2696).
(3)
في (ص 1): (الاعتراف).
(4)
"مجمل اللغة" 1/ 237، "الصحاح" 5/ 2101 مادة (حصن).
22 - باب لَا يُرْجَمُ المَجْنُونُ وَالمَجْنُونَةُ
وَقَالَ عَلِيٌّ لِعُمَرَ رضي الله عنهما أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ يُرُفِعَ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ.
6815 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَبِكَ جُنُونٌ؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟» . قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ [انظر: 5271 - مسلم: 1691 م - فتح 12/ 120].
6816 -
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ قَالَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ. [انظر: 5270 - مسلم: 1691 - فتح 12/ 121].
ثم ساق حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في قصة ماعز.
وموضع الحاجة: فقال: "أبك جنون؟ " وأثر علي أخرجه النسائي مرفوعًا من حديث جرير بن حازم، عن سليمان بن مهران، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمجنونة بني فلان قد زنت، فأمر عمر رضي الله عنه برجمها فردها علي، وقال لعمر: أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة المجنون المغلوب على عقله، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" قال: صدقت فخلى عنها، ثم روى عن عطاء بن السائب، عن أبي ظبيان: أن عمر رضي الله عنه أتي بامرأة قد زنت معها ولد فأمر برجمها فمرَّ بها علي رضي الله عنه فأرسلها. الحديث.
ومن حديث أبي حصين عن أبي ظبيان، عن علي رضي الله عنه قال:"رفع القلم عن ثلاث" الحديث، قال النسائي: وهذا أولى بالصواب وأبو حصين أثبت من عطاء، وما حدث جرير بن حازم بمصر فليس بذاك، وحديثه عن يحيى بن أيوب أيضًا ليس بذاك، ثم قال النسائي: ما فيه شيء صحيح، والموقوف أصح وأولى بالصواب
(1)
.
وحديث جرير أخرجه أبو داود أيضًا، وقد توبع على رواية، تابعه أبو الأحوص وحماد بن أبي سلمة وعبد العزيز بن عبد الصمد وغيرهم، وأخرجه أبو داود من طريق جرير عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس
(2)
، وصححه الحاكم على شرط الشيخين
(3)
، وقد بسطته في تخريجي لأحاديث الرافعي الكبير، فليراجع منه
(4)
.
فصل:
قام الإجماع على أن المجنون إذا أصاب الحد في جنونه أنه لا حد عليه، وإن أفاق من جنونه بعد ذلك لرفع القلم عنه إذ ذاك، والخطاب غير متوجه إليه حينئذٍ.
ألا ترى قوله عليه السلام للذي شهد أربع شهادات: "أبك جنون؟ " فدل قوله هذا أنه لو اعترف بالجنون لدرأ الحد عنه، وإلا فلا فائدة لسؤاله هل بك جنون أم لا؟ وقام الإجماع أيضًا على أنه إذا أصاب رجل حدًّا وهو صحيح ثم جن بعد، أنه لا يؤخذ منه الحد حتى يفيق، وعلى أن من وجب عليه حد غير الرجم وهو مريض يرجى برؤه أنه
(1)
"السنن الكبرى" 4/ 323 - 324.
(2)
أبو داود (4399).
(3)
"المستدرك" 1/ 258.
(4)
"البدر المنير" 3/ 225 وما بعدها.
ينتظرونه حتى يبرأ فيقام عليه، فأما الرجم فلا ينتظر فيه؛ لأنه إنما يراد به التلف فلا وجه للاستثناء.
وفي "الإشراف" عن أحمد: لا يؤخر، يرجى برؤه أم لم يرج.
فصل:
قوله في حديث أبي هريرة: (فلما أذلقته الحجارة هرب)، هو ظاهر في تركه إذ ذاك، وهو مذهبنا كما ستعلمه ومذهب أحمد، وخالف الكوفيون فقالوا: إن هرب وطلبه الشرط واتبعوه في فوره ذلك أقيم عليه بقية الحد، وإن أخذوه بعد أيام لم يقم عليه بقيته، دليلنا قوله عليه السلام "هلَّا تركتموه" أخرجه أبو داود من حديث يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه في القصة المذكورة
(1)
، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح الإسناد
(2)
. وأخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: حسن
(3)
. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم
(4)
.
وقال ابن المنذر: يقام عليه الحد بعد يوم وبعد أيام وسنين؛ لأن ما وجب عليه لا يجوز إسقاطه بمرور الأيام والليالي، ولا حجة مع من أسقط ما أوجبه الله من الحدود، وقد بين جابر بن عبد الله معنى قوله:"فهلَّا تركتموه" أنه لم يرد بذلك إسقاط الحد عنه فيما أخرجه ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثني حسن بن محمد، عن علي قال: سألت جابرًا عن قصة ماعز، فقال: أنا أعرف الناس بهذا الحديث، كنت فيمن رجمه، إنا لما رجمناه فوجد من
(1)
أبو داود (4419).
(2)
"المستدرك" 4/ 363.
(3)
الترمذي (1428).
(4)
"المستدرك" 4/ 363.
الحجارة صرخ بنا: يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قومي قتلوني وغروني عن نفسي، أخبروني أنه عليه السلام غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، ولما رجعنا إلى رسول الله أخبرناه قال:"فهلَّا تركتم الرجل وجئتموني" ليتثبت رسول الله فيه، فأما لترك حدٍّ فلا
(1)
.
فصل:
واختلفوا إذا أقر بالزنا ثم رجع عن إقراره، فقالت طائفة: يترك ولا يحد، هذا قول عطاء والزهري والثوري والكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق، واختلف عن مالك في ذلك فحكى عنه القعنبي أنه إذا اعترف، ثم رجع وقال: إنما كان ذلك مني على وجه كذا وكذا، لشيء يذكره أن ذلك يقبل منه، فلا يقام عليه الحد.
وقال أشهب: يقبل رجوعه إن جاء بعذر وإلا لم يقبل، وروى ابن عبد الحكم عن مالك أنه إذا اعترف بغير مجنَّة ثم نزع لم يقبل منه رجوعه، وقاله أشهب وأهل الظاهر.
وممن روى عنه عدم القبول ابن أبي ليلى والحسن البصري، واحتج الشافعي بالحديث السالف:"هلَّا تركتموه"
(2)
فكل حديثه فهو كذا، وبقوله له:"لعلك قبلت أو غمزت"، فالشارع كان يلقنه ويعرض عليه بعد اعتراف قد سبق منه، فلو أنه قال: نعم قبلت أو غمزت لسقط عنه حد الرجم، وإلا لم يكن لتعريضه لذلك معنى، فعلم أنه إنما لقنه لفائدة وهي الرجوع، وحجة الآخرين أن الحد لازم بالبينة أو بالإقرار، وقد تقرر أنه لو لزم الحد بالبينة لم يقبل رجوعه، فكذا الإقرار.
(1)
رواه أبو داود (4420).
(2)
سبق تخريجه.
قالوا: وقوله: "هلَّا تركتموه" لا يوجب إسقاط الحد، ويحتمل أن يكون لما ذكره جابر أولاً من النظر في أمره والتثبت في المعنى الذي هرب من أجله، ولو وجب أن يكون الحد ساقطًا (عنه)
(1)
بهربه لوجب أن يكون مقتولًا خطأ، وفي تركه عليه السلام إيجاب الدية على عواقل القاتلين له بعد هربه دليل على أنهم قاتلون من عليه القتل، إذ لو كان دمه محقونًا بهربه لأوجب عليهم ديته، وليس في شيء من إخباره دلالة على الرجوع عما أقر به، وأكثر ما فيه أنه سأل عندما نزل به من الألم أن يرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: ما زنيت.
قال ابن المنذر: وهذا القول أشبه بالصواب.
فصل:
روى الشافعي عن رجل، عن عنبسة، عن علي بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي جحيفة أن عليًّا رضي الله عنه أتى بصبي قد سرق بيضة فشك في احتلامه، فأمر به فقطعت بطون أنامله، قال الشافعي: لا أعلم أحدًا يقول بهذا، إنما يقولون: ليس على صبي (قطع)
(2)
حتى يحتلم أو يبلغ خمس عشرة سنة
(3)
.
قال البيهقي: أورده أبو عبد الله فيما ألزم العراقيين في خلاف علي، وفي إسناده نظر
(4)
.
فصل:
لا يخفى أن هذا الرجل هو ماعز بن مالك الأسلمي كان يتيمًا عند
(1)
من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
(3)
"الأم" 7/ 168.
(4)
"معرفة السنن والآثار" 12/ 397.
هزال، فأمره هزال أن يأتي رسول الله فيخبره فوقع ما وقع.
فصل:
فيه الرجم من غير جلد، وخالف فيه مسروق وأهل الظاهر في الجمع.
فصل:
معنى (أذلقته): أحرقته، كما جاء في رواية: وأوجعته، قال الداودي، وقال ابن فارس: الإذلاق: سرعة الرمي
(1)
، وعبارة غيره: بلغت منه الجهد حتى ذلق، وهو بالذال المعجمة والقاف، وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تصوم في السفر حتى أذلقتها السموم أي: أذابتها، ويقال: جهدتها.
قال ابن الأعرابي: أذلقه الصوم: أضعفه.
ويروى أن أيوب عليه السلام قال في مناجاته: أذلقني البلاء، فتكلمت. أي: جهدني، وكل ما آذاك فقد أذلقك.
وفي "الصحاح": الذلق بالتحريك: القلق، وقد ذلق بالكسر، وأذلقته، وأما (ذلق)
(2)
بالتسكين من كل شيء: حده
(3)
. وقال بعضهم: هو بدال مهملة، ومعناه: خروج الشيء من موضعه بسرعة، يقال: دلق السيف من غمده: إذا خرج بسرعة لم يسله، ويقال: دلق السيل على القوم: إذا خرج عليهم ولم يشعروا به، فكأن الحجارة آتية من كل مكان كالسيل إذا ظهر على الوادي فلا يدرى من أين جاء.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 360 مادة (ذلق).
(2)
في الأصول: ذالق. والمثبت من "الصحاح".
(3)
"الصحاح" 4/ 1479.
فصل: في نبذ من فوائد حديث الباب:
البخاري أخرجه من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، وفي آخره: قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: فكنت فيمن رجمه .. الحديث.
الظاهر أن المحدث لابن شهاب أبو سلمة، كما أخرجه بعد في باب الرجم بالمصلى، حيث ساقه من حديث معمر عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر، وفي آخره: فقال له عليه السلام: "خيرًا" وصلى عليه. ولم يقل يونس وابن جريج عن الزهري: فصلى عليه.
وفي بعض نسخ البخاري: سئل أبو عبد الله: فصلى عليه يصح؟، قال: رواه معمر. قيل له: رواه غير معمر؟ قال: لا
(1)
. ثم ساقه -في باب رجم المحصن- البخاري من حديث يونس عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر
(2)
.
ومتابعة ابن جريج أخرجها مسلم، حدثنا إسحاق، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أبي سلمة فذكره
(3)
.
وقال البيهقي قوله: (فصلى عليه) خطأ لإجماع أصحاب عبد الرزاق على خلافه، ثم إجماع أصحاب الزهري على خلافه
(4)
. وقال غيره: قد اضطرب في ذلك، ففي حديث أبي سعيد: فما استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سبه، وفيه: فما حفرنا له
(5)
.
(1)
سيأتي برقم (6820)
(2)
سلف قريبًا برقم (6814).
(3)
مسلم (1691) كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا.
(4)
"معرفة السنن والآثار" 12/ 302.
(5)
رواه مسلم (1694/ 20).
وقال أبو داود: ولم يصل عليه
(1)
.
وأخرج له مسلم من حديث بريدة مطولاً، وفيه طلب الاستغفار له، وفي آخره:"لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم"
(2)
، وفيه: أنه حفر له حفرة، وفي رواية له في قصة الغامدية: ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ثم أمر الناس فرجموها
(3)
. وفي رواية من حديث نعيم بن هزال أن المزني بها كانت جارية لهزال ترعى يقال لها فاطمة، وفي "السنن" لأبي قرة: قال ابن جريج: اختلفوا، فقائل يقول: ربط ماعز إلى شجرة، وفيها: أنه طول في الأوليين من الظهر حتى كاد الناس يعجزون عنها من طول الصلاة. وفيها: رماه ابن الخطاب بلَحْي بعير فأصاب رأسه فقتله. وفيها: فقيل يا رسول الله أنصلي عليه؟ قال: "لا" وفي الغد طول أيضًا، وقال: صلوا على صاحبكم، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس.
وفي "سنن" الكجي من حديث اللجلاج: "لا تقولوا خبيث، لهو عند الله أطيب من ريح المسك"
(4)
، وفي "مسند عبد الله (بن وهب)
(5)
" من حديث يزيد بن نعيم بن هزال فلقيت عبد الله بن أنيس وهو نازل من مأدبته وأخذ له وظيفا
(6)
من بعير فرماه به فقتله، وفيه من حديث أبي ذر أنه قال له:"ألم تر إلى صاحبكم قد غفر له وأدخل الجنة"
(7)
.
(1)
أبو داود (4421).
(2)
مسلم (1695/ 22).
(3)
المصدر السابق (1695/ 23).
(4)
رواه أبو داود (4435).
(5)
من (ص 1).
(6)
الوظيف: مستدق الذراع. انظر: "القاموس المحيط" ص 860.
(7)
رواه أحمد 5/ 179.
وفي " (علل)
(1)
الترمذي المفردة" من حديث أبي الفيل أنه عليه السلام قال: "لا تشتمه" يعني ماعز بن مالك، ثم قال: سألت البخاري عنه فقال: لا أعلم أحدًا رواه عن سماك غير الوليد بن أبي ذر. قلت له: أبو الفيل له صحبة؟ قال: لا أدري، ولا أعرف اسمه ولا يُعرف له غير هذا الحديث الواحد
(2)
.
قال ابن عبد البر: وروى قصة ماعز في قصة اعترافه بالزنا ورجمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنُ عباس وجابر بن عبد الله وابن سمرة وسهل بن سعد ونعيم بن هزال وأبو سعيد الخدري، وفي أكثرها أنه اعترف أربع مرات، وفي بعضها: مرتين، وفي بعضها: ثلاثًا
(3)
.
قلت: ورواها أيضًا الصديق أخرجها الترمذي في "علله المفردة"
(4)
، وأبو بردة أخرجها ابن أبي شيبة في "مصنفه"
(5)
، (وعلي)
(6)
وأبو ذر - أخرجه ابن وهب- واللجلاج وأبو الفيل كما سلف.
فصل:
روى أبو داود من حديث سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أتاه فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت، فجلده الحد وتركها
(7)
.
(1)
من (ص 1).
(2)
"علل الترمذي" 2/ 598 - 599.
(3)
"التمهيد" 12/ 106.
(4)
"علل الترمذي" 2/ 597.
(5)
"المصنف" 5/ 533.
(6)
من (ص 1).
(7)
أبو داود (4466).
فصل:
تكراره عليه السلام ماعزًا ليعرض له بالرجوع، وقال البيهقي: لم يكن لاشتراط التكرار في الاعتراف، ولكنه كان يستنكر عقله، فلما عرف صحته استفسر منه الزنا، فلما فسره أمر برجمه
(1)
، ولهذا قال في حديث ابن عباس في البخاري كما سيأتي:"أنكتها؟ "- لا يكني
(2)
.
ونقل ابن حزم عن طائفة الاكتفاء بمرة في الحدود، وأنه قول الحسن بن حي وحماد بن أبي سليمان وعثمان البتي ومالك والشافعي وأبي ثور وأبي سليمان وجميع أصحابهم.
وعن طائفة أخرى: لا يقام على أحد حد الزنا بإقراره حتى (يقر)
(3)
أربع مرات، ولا يقام عليه حد القطع والسرقة حتى يقر به مرتين، وحد الخمر كذلك، وفي القذف واحدة، وأنه مروي عن أبي يوسف
(4)
.
وأنه لما ذكر ابن حزم حديث الغامدية قال: فيه البيان الجلي من الشارع لأي شيء رد ماعزا، وأنه لا يحتاج إلى ترديدها لظهور ما أقرت به، فدل على أن ترديده ما كان للإقرار، وإنما كان لتهمة عقله أو أنه لا يدريه.
قال: وحديث [ابن مضاض، فإن ابن مضاض مجهول]
(5)
لا يدرى من هو - عن أبي هريرة في ترداد ماعز أربعًا
(6)
. قلت: صوابه عبد الرحمن بن الهضهاض.
(1)
"معرفة السنن والآثار" 12/ 305.
(2)
سيأتي برقم (6824).
(3)
في الأصل يقول، والمثبت من (ص 1).
(4)
"المحلى" 11/ 176.
(5)
كتبت في الأصل: ابن مضاف، وابن مضاف فيه مجهول. والمثبت من "المحلى".
(6)
"المحلى" 11/ 178 - 179 بتصرف.
قال أبو حاتم: وهو أصح من (هضاض)
(1)
(2)
. وذكر الخلاف البخاري في "تاريخه"، وقال عبد الرزاق: ابن الصامت حديثه في أهل الحجاز ليس يعرف إلا بهذا (الوجه)
(3)
(4)
، وذكره مسلم في "طبقاته" في الطبقة الأولى من أهل المدينة.
وقال: عبد الرحمن بن صامت ابن عم أبي هريرة، وقال حماد بن سلمة: ابن هياض، وقال بعضهم:(هضهاض)
(5)
، وزاد في كتاب "الوحدان" هضابًا، ثم قال: الله أعلم أيهم الحافظ للصواب. وذكره ابن حبان في "ثقاته"
(6)
. وقال مسلمة بن القاسم في كتابه: معروف، قال: وقد جاء عن أبي هريرة حسن صحيح ببيان بطلان ظنهم، ثم ساقه من حديث عبد الرحمن بن الصامت عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أربع مرات بالزنا، يقول: أتيت امرأة حرامًا. كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل في الخامسة فقال:"أنكحتها؟ " قال: نعم. قال: "فهل تدري ما الزنا؟ " قال: نعم، أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من أهله حلالًا. قال:"فما تريد بهذا القول؟ " قال: أريد أن تطهرني. قال: فأمر به فرجم، فهذا خبر صحيح.
(1)
في الأصل: (ابن هضهاض). والمثبت من (ص 1).
(2)
"الجرح والتعديل" 5/ 297.
(3)
في (ص 1): (الواحد).
(4)
"التاريخ الكبير" 5/ 361، قول عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي الزبير. "مصنف عبد الرزاق" 7/ 322.
(5)
في (ص 1): مهعياض.
(6)
"الثقات" 5/ 114.
وفيه: أن الشارع لم يكتف بتقريره أربعًا حتى أقر في الخامسة، ثم لم يكتف بذلك حتى سأله السادسة:"هل تعرف ما الزنا؟ " فلما عرف أنه يعرفه لم يكتف بذلك حتى سأله في السابعة: "ما تريد بهذا؟ " ليختبر عقله، فلما عرف عقله أقام عليه الحد.
قلت: فكأنه يرى غير ابن الهضهاض.
فصل:
اختلف العلماء في الحفر للمرجوم، قال أبو عمر: روي عن علي أنه حفر لشراحة إلى السرة، وأن الناس أحدقوا لرجمها، فقال: ليس هكذا الرجم إني أخاف أن يصيب بعضكم بعضًا، ولكن صفوا كما تصفون في الصلاة، ثم قال: والرجم رجمان، رجم سر، ورجم علانية، فما كان منه بإقرار، فأول من يرجم الإمام ثم الناس (وما كان منه ببينة، فأول من يرجم البينة، ثم الإمام، ثم الناس)
(1)
(2)
.
وقد أسلفنا الحفر له وللغامدية، وفي ابن أبي شيبة من حديث أبي عمران: سمعت شيخنا يحدث عن ابن أبي بكرة، عن أبيه أنه عليه السلام رجم امرأة فحفر إلى السرة
(3)
.
وقال مالك: لا يحفر للمرجوم، وإن حفر للمرجومة فحسن.
وفي كتاب ابن بطال: ولا يحفر لهما، وإن حفر فحسن
(4)
.
وقال الشافعي وابن وهب: إن شاء حفر، وإن شاء لم يحفر.
(1)
من (ص 1).
(2)
"الاستذكار" 24/ 40.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 537 بلفظ: إلى الثندؤة.
(4)
"شرح ابن بطال" 8/ 438.
وقال أحمد: [أكثر الأحاديث]
(1)
على ألا يحفر. لا جرم قال أصبغ: يستحب أن يحفر لهما، ويرسل يداه يدرأ بهما عن وجهه.
وقال أشهب: الأحسن أن لا يحفر له. وروي عنه: يحفر له، كما سلف عن أصبغ، وحكي في "الإشراف" عن أبي حنيفة أن الإمام مخير في ذلك، وعن الشافعي: يحفر لها إن ثبت زناها بالبينة دون الإقرار. وبه قال الفرضي من المالكية.
(1)
مكانها بياض في الأصل، وقال في هامشها:(كذا بياض في أصله). والمثبت عن ابن بطال.
23 - باب لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ
6817 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ: اخْتَصَمَ سَعْدٌ وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ ابْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» . زَادَ لَنَا قُتَيْبَةُ، عَنِ اللَّيْثِ:«وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . [انظر: 2053 - مسلم: 1457 - فتح 12/ 172].
6818 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ» . [انظر: 6750 - مسلم: 1458 - فتح 12/ 127].
ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها السالف. وفي آخره: زَادَ قُتَيْبَةُ، عَنِ اللَّيْثِ:"وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ".
وحديث أبي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ".
ومعناه: أن الزاني لا حظ له في الولد، ولا يلحق به نسبه، والعرب تقول لمن طلب شيئًا ليس له: بفيك الحجر. تريد الخيبة. وقال بعضهم: وإنما له (الحجر)
(1)
يرجم بها، أي: إذا كان محصنًا. والعاهر: الزاني.
وذكر ابن الأعرابي أن الفراش عند العرب يقال للرجل والمرأة؛ لأن كل واحد منهما فراش لصاحبه، وقد سلف ما فيه قريبًا في الفرائض.
(1)
في الأصل: الرجم. والمثبت من (ص 1).
24 - باب الرَّجْمِ في البَلَاطِ
6819 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ أَحْدَثَا جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُمْ:«مَا تَجِدُونَ في كِتَابِكُمْ؟» . قَالُوا: إِنَّ أَحْبَارَنَا أَحْدَثُوا تَحْمِيمَ الْوَجْهِ وَالتَّجْبِيَةَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: ادْعُهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ بِالتَّوْرَاةِ. فَأُتِيَ بِهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ. فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ، تَحْتَ يَدِهِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرُجِمَا عِنْدَ الْبَلَاطِ، فَرَأَيْتُ الْيَهُودِيَّ أَجْنَأَ عَلَيْهَا. [انظر: 1329 - مسلم: 1699 - فتح 12/ 128].
ذكر فيه حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّةٍ قَدْ أَحْدَثَا جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُمْ:«مَا تَجِدُونَ في كِتَابِكُمْ؟» . قَالُوا: إِنَّ أَحْبَارَنَا أَحْدَثُوا تَحْمِيمَ الْوَجْهِ وَالتَّجْبِيَةَ. فقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: ادْعُهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ بِالتَّوْرَاةِ. فَأُتِيَ بِهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَجَعَلَ يَقْرَأُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَلَامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ. فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَحْتَ يَدِهِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا. قَالَ ابْنُ عُمَر رضي الله عنهما: فَرُجِمَا عِنْدَ الْبَلَاطِ، فَرَأَيْتُ اليَهُودِيَّ جنى عَلَيْهَا.
هذا الحديث سلف شرحه في المناقب في باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ} [البقرة: 146] وذكره هناك من طريق مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما
(1)
، وذكره هنا من طريق سليمان: وهو ابن بلال، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، ويرد ذلك على أبي نعيم حيث جمع أحاديث عبد الله بن دينار وأغفل هذا.
(1)
سلف برقم (3635).
وفي البخاري وغيره عنه عدة أحاديث.
والتجبيه -بمثناة فوق، ثم جيم، ثم موحدة، ثم مثناة تحت، ثم هاء-: أن تحمم وجوه الزانيين، ويحملا على بعير أو حمار، ويخالف بين وجوههما، وأصلها أن يحمل اثنان على دابة ويجعل قفا أحدهما إلى قفا الآخر.
قال ابن التين: ورويناه بفتح الباء، وليس ببين، وإنما هو مصدر جبب تجبيبًا مثل: كلم تكليمًا، والباء ساكنة والهاء من أصل الفعل، وذكرت (هناك)
(1)
عن "شرحي للعمدة" أن في (يحني) سبع روايات كلها راجعة إلى الوقاية عنها
(2)
، منها الحاء المهملة، يقال: أحنى يحني إحناء، أي: يميل عليها ليقيها الحجارة، وفيه لغة أخرى: جنى يجني، وأصل الجنأ: ميل في الظهر، وقيل: في العنق.
وفي المهملة يقال: حنا عليه يحنو (حفوا)
(3)
وأحنى يحني أي: يعطف ويشفق ويكب عليها.
ومعنى (أحدثا): زنيا. و (تحميم الوجه) تسخيمه بالفحم. وفي رواية للبخاري: (تسخم وجوههما)
(4)
. وفي أكثر نسخ مسلم: يحملهما. بالحاء واللام، وروي بالجيم.
قال أبو عبيد: يرويه أهل الحديث: يجني، وإنما هو: يجنأ مهموز. قال الجوهري: جنى الرجل على الشيء يجنو جنوءًا إذا انكب
(5)
،
(1)
من (ص 1).
(2)
"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 9/ 188 - 189.
(3)
من (ص 2).
(4)
سيأتي برقم (7543) كتاب التوحيد، باب: ما يجوز من تفسير التوراة.
(5)
"الصحاح" 1/ 41 مادة (جنأ).
فإن كان ذلك من خلفه قيل: حنى، ومنه قيل للترس إذا صنع معيبًا محنيًّا.
قال ابن التين: ورويناه هنا (أجنأ) مهموز بالجيم رباعي، وهو في "الصحاح" ثلاثي، وعند الهروي مثل ما رويناه.
قال: يقال أجنى عليه يجنو جنأ إذا انكب عليه يقيه شيئًا.
فصل:
تبويبه بما ذكر؛ لأجل ما ذكر في الحديث، وهو بفتح الباء وكسرها.
قال أبو عبد الله الحموي ياقوت: هو موضع مبلط بالحجارة بين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والسوق
(1)
- وقول الشاعر فيما أنشده أبو عبيد البكري:
لولا رجاؤك ما زرنا البلاط وما
…
كان البلاط لنا أهلًا ولا وطنًا
(2)
هو غير البلاط، وهو قرية بالغوطة، [وبلاط]
(3)
عوسجة حصن من أعمال شنتبرية بالأندلس، بلاط: كانت قصبة (الجوار)
(4)
من نواحي حلب، وبلاط: موضع بالقسطنطينية كان مجلسًا للأسرى أيام سيف الدولة بن حمدان
(5)
.
وأما ابن بطال قال: تبيوبه بذلك لا يقتضي معنى، والبلاط وغيره من الأمكنة سواء، وإنما ترجم به؛ لأنه مذكور في الحديث.
(1)
"معجم البلدان" 1/ 477.
(2)
"معجم ما استعجم" 1/ 271.
(3)
في الأصل (وبلاد) وهو تحريف، كما نبه على مثله عبد السلام هارون. انظر هامش "جمهرة أنساب العرب" ص 498.
(4)
من (ص 1).
(5)
"معجم البلدان" 1/ 477.
قال الأصمعي: البلاط: الأرض الملساء
(1)
. وقال ابن فارس: كل شيء فرشت به الدار من حجر وغيره
(2)
.
زاد ابن التين: لعل فائدة التبويب أنها أرض لا يحفر فيها، وأغفلا ما قدمناه أولاً.
فصل:
ذكر ابن إسحاق، عن الزهري، عن أبي هريرة أن هذا الحديث كان حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
(3)
.
فصل:
جاء في أبي داود أنه عليه السلام راح إلى بيت المدراس، وسأل اليهود عن حكم الزانيين
(4)
، ويحتمل أحد معنيين:
إما أن يكون لما أراد الله من تكذيبهم وإظهار ما بدلوه من حكمه وكذلك ألقى الله تعالى في قلوبهم التحاكم إليه، وأعلمه أن في التوراة حكم الله في ذلك؛ لقوله تعالى:{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ} [المائدة: 43].
ثانيهما: أن يكون حكم الرجم لم ينزل بعد، وقد روى معمر، عن ابن شهاب قال: فبلغنا أن هذِه الآية نزلت فيهم {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم
(5)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 437.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 135.
(3)
"سيرة ابن هشام" 2/ 193، ورواه أبو داود (4451).
(4)
"سنن أبي داود"(4449).
(5)
"أسباب نزول القرآن" للواحدي ص 199 (392)، "سنن أبي داود"(4450).
فصل:
وفي الحديث حجة لمالك جواز تحاكم أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا، أنه جائز أن يترجم عنهم مترجم واحد كما ترجم عبد الله بن سلام عن التوراة وحده، وسيأتي في كتاب الأحكام ما للعلماء في ذلك.
فصل:
وفي قوله: (فرأيت اليهودي أحنى عليها) دليل أنه لا يحفر للمرجوم ولا للمرجومة؛ لأنه لو كان حفر ما استطاع أن يحنى عليها، وبه استدل مالك، وقد سلفت المسألة في الباب قبله، ووقع في كلام ابن التين أنه ثبت أنه لم يحفر لماعز وحفر للغامدية، وكانت (معروفة)
(1)
، ثم ذكر رواية مسلم في الحفر لماعز، وفي قصة الجهينية أنه شد عليها ثيابها، ثم أمر برجمها من غير ذكر حفر.
وفيه حجة للثوري أن المحدود لا يقعد ويضرب قائمًا، والمرأة قاعدة، والحديث يدل له، فإنه كان يجنأ عليها، وقال مالك: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء لا يقام واحد منهما ويضربان قاعدين، ويجرد الرجل ويترك على المرأة ما يسترها ولا يقيها الضرب
(2)
. وقال الشافعي والليث وأبو حنيفة: الضرب في الحدود كلها قائمًا مجردًا غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه من ثيابه ما لا يقيه الضرب.
فصل:
وقوله: (فإذا آية الرجم تحت يده)، قيل: في ذلك نزل: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46].
(1)
كذا بالأصل، ولعلها: معترفة.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 437 - 439.
وفي أبي داود من حديث البراء بن عازب لما أمر به فرجم فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] إلى قوله: {ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] وفي أثناء هذِه الايات: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهَ}
(1)
.
فصل:
واحتج به أصحاب أبي حنيفة على جواز شهادة الكفار بعضهم على بعض؛ لأنه رجمهما بقولهم، وأجاب المخالفون بالمنع، وأن الشافعي روى فيه أنه عليه السلام سألهما فأقرا، فكان الرجم بالإقرار.
قال ابن الطلاع: أو يجوز أن يكون بوحي أو بشهادة مسلمين.
فصل:
قد روينا ما نزل عقب رجمه من طريق أبي داود عن البراء، وعن الزهري قال: سمعت رجلاً من مزينة ممن سمع العلم -ونحن عند ابن المسيب- يحدث عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود وامرأة حين قدم عليه السلام المدينة فخير في ذلك بقوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم} [المائدة: 42] الحديث
(2)
، وفي آخره قول ابن شهاب السالف قبيل هذِه الفصول: فبلغنا أن هذِه الآية نزلت فيهم: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} الآية
(3)
[المائدة: 44]، ولابن إسحاق أنهم قالوا: إن حكم فيهم بالتجبيه فاتبعوه (فإنه ملك)
(4)
وصدِّقوه، وإن (هو)
(5)
حكم بالرجم فإنه نبي فاحذروه (قال: ما في أيديكم أن تسألوه)
(6)
.
(1)
"سنن أبي داود"(4448).
(2)
رواه أبو داود (4451).
(3)
السابق (4448)، (4450).
(4)
من (ص 1).
(5)
من (ص 1).
(6)
هكذا في الأصل، وعند ابن هشام:(على ما في أيديكم أن يسلبكموه) ولعله الصواب.
وفيه: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن صوريا وكان غلامًا شابًّا، فلما ناشده، قال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل، ولكنهم يحسدونك
(1)
. وأخرجه أبو داود من حديث جابر والشعبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
. وأصل حديث جابر في مسلم
(3)
، وروى القصة أيضًا عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزبيدي، أخرجه ابن وهب، وجابر بن سمرة أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب
(4)
. وابن عباس أخرجه أبو قرة.
فصل:
قال أبو محمد بن حزم: جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا حد على أهل الذمة في الزنا. وعن ابن عباس: لا حد عليهم في السرقة.
وقال أبو حنيفة: لا حد على أهل الذمة في الزنا ولا في شرب الخمر، وعليهم الحد في القذف والسرقة إلا لمعاهد، لكن (يضمنها)
(5)
. وقال محمد بن الحسن: لا أمنع الذمي من الزنا ولا من شرب الخمر، وأمنعه من الغناء.
وقال مالك: لا حد على أهل الذمة في الزنا ولا في شرب الخمر، وعليهم الحد في القذف والسرقة، وقال الشافعي وأبو سليمان وأصحابهما: عليهم الحد في كل ذلك، قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ
(1)
"سيرة ابن هشام" 2/ 193 - 194.
(2)
"سنن أبي داود"(4452).
(3)
مسلم (1701).
(4)
"سنن الترمذي"(1437).
(5)
بياض في الأصل، وقال بهامشه: كذا بياض في أصله والمثبت من "المحلى" لابن حزم.
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49] وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة:50] فإن ذكروا ما روينا عن الثوري، عن سماك بن حرب، عن قابوس بن المخارق، عن أبيه قال: كتب محمد بن أبي بكر إلى علي بن أبي طالب في مسلم زنى بنصرانية، فكتب إليه: أقم على المسلم الحد، وادفع النصرانية إلى أهل دينها
(1)
. ومن حديث عبد الرزاق عن ابن جريج، وعن سفيان بن سعيد؛ كلاهما عن عمرو بن دينار، عن مجاهد أن ابن عباس كان لا يرى على أهل الذمة حدًّا
(2)
، وعن ربيعة أنه قال في اليهودي والنصراني: لا أرى عليهما في الزنا حدًّا. وقد كان لهم من الوفاء بالذمة أن يخلى بينهم وبين دينهم.
قال ابن حزم: وما نعلم لمن قال بهذا حجة غير ما ذكرناه، ولا حجة للحنفيين والمالكيين فيه؛ لأن الآية الكريمة عامة لا خاصة، وهم قد خصوا، والرواية عن علي لا تصح؛ لأن سماكًا ضعيف وقابوس مجهول
(3)
.
قلت: قد ذكرته أنت -أعني: قابوسًا- في الصحابة الذين رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم ستة أحاديث، وذكر ابن يونس في "تاريخ الغرباء" قابوس بن المخارق، ويقال: ابن أبي المخارق سليم الشيباني الكوفي، قدم مصر (مع)
(4)
محمد بن أبي بكر في خلافة علي قد ذُكر وحُكي عنه.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 7/ 396.
(2)
"المحلى" 11/ 158 - 159 بتصرف.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 62، والبيهقي 8/ 247.
(4)
في الأصل: (سمع).
وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "ثقاته"
(1)
ولما ذكر ابن عبد البر هذا الأثر سماه: قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه
(2)
. وهو عجيب، فقابوس حديثه في "صحيح البخاري"، وأثنى عليه غير واحد، ثم قال ابن حزم: والرواية عن ابن عباس: لا حد على ذمي. هم بأنفسهم خالفوا ذلك فأوجبوا عليه الحد في السرقة والقذف، فإن تعلقوا بقوله تعالى:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] فلا تعلق لهم فيها؛ لأنها منسوخة ولو صح أنها محكمة لما كان لهم فيها تعلق؛ لأنه إنما فيها التخيير بينهم لا في الحكم عليهم جملة، وإقامة الحدود عليهم ليس حكمًا بينهم، وأما عهود من عاهدهم على الحكم بأحكامهم فليس ذلك عهد الله، بل هو عهد باطل، ولا يعرف المسلمون عهدًا إلا ما أمر الله به ورسوله، فإن قالوا فقد قال تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] قلنا: نعم لا نكرههم على الإسلام ولا على فروض الإسلام
(3)
.
وقال ابن عبد البر: إذا ارتفع أهل الكتاب إلينا راضين بحكمنا فيهم، وكانت شريعتنا موافقة في ذلك الحكم لشريعتهم جاز لنا أن نستظهر عليهم بكتابهم حجة عليهم، كما في هذا (الحديث)
(4)
، فإن لم تكن الشريعة في ذلك الحكم موافقة لشريعتهم حكمنا بينهم بما أنزل الله في كتابنا، ويحتمل أن يكون ذلك خصوصًا للشارع؛ للإجماع على أن ذلك لم يعمل به أحد بعده، ولقول الله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا
(1)
"الثقات" 5/ 327.
(2)
"التمهيد" 14/ 390.
(3)
"المحلى" 11/ 159 - 160 بتصرف.
(4)
في (ص 1): (الكتاب).
عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51]، قال: واختلف العلماء في الحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا، أواجب ذلك علينا أم نحن مخيرون به؟ فقال جماعة من فقهاء الحجاز والعراق: إن الإمام أو الحاكم مخير إن شاء حكم بينهم إذا ترافعوا إليه بحكم الإسلام، وإن شاء أعرض عنهم.
وقالوا: إن قوله: {فَإِن جَاءُوكَ} [المائدة: 42] محكمة لم ينسخها شيء، وممن قال ذلك مالك بن أنس والشافعي في أحد قوليه، وهو قول عطاء والشعبي والنخعي، وروي ذلك عن ابن عباس في قوله {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ} [المائدة: 42] قال: نزلت في بني قريظة وهي محكمة
(1)
، وقال عامر (الشعبي)
(2)
: إن شاء حكم وإن شاء لم يحكم، وعن ابن عباس أنهما إذا رضيا فلا يحكم بينهما إلا برضاء من أساقفتهما، فإن كره ذلك أساقفتهم فلا يحكم بينهم، وكذلك إن رضي الأساقفة ولم يرض الخصمان أو أحدهما لم يحكم بينهم.
وقال الزهري: مضت السنة أن يُرد أهل الذمة في حقوقهم ومعاملاتهم ومواريثهم إلى أهل دينهم إلا أن يأتونا راغبين في حكمنا فيحكم بينهم بكتاب الله
(3)
.
وقال آخرون: واجب على الحاكم أن يحكم بينهم إذا تحاكموا إليه بحكم الله تعالى، وزعموا أن قوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [المائدة: 49] ناسخ للحكم بينهم في الآية الأولى، روي ذلك عن ابن عباس من حديث سفيان بن حسين والحكم، عن مجاهد، ومنهم
(1)
رواه أبو داود (3591).
(2)
في (ص 1): (والنخعي).
(3)
رواه عبد الرزاق 10/ 322 (19238)
من يرويه عن سفيان والحكم، عن مجاهد، قوله، وهو صحيح عن مجاهد وعكرمة، وبه قال الزهري وعمر بن عبد العزيز والسُّدي، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وهو أحد قولي الشافعي إلا أن أبا حنيفة قال: جاءت المرأة والزوج فعليه أن يحكم بينهما بالعدل، وإن جاءت المرأة وحدها ولم يرض الزوج لم يحكم، وقال صاحباه: يحكم، وكذا اختلف أصحاب مالك، وقال الشافعي: ليس الحاكم بالخيار في أحد من المعاهدين الذين يجري عليهم أحكام الإسلام إذا جاءوه في حد لله، فعليه أن يقيمه؛ لقوله تعالى:{وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] واختاره المزني وقال في كتاب الحدود: لا يحدون إذا جاءوا إلينا في حد لله، ويردهم الحاكم إلى أهل دينهم.
قال الشافعي: وما كانوا يدينون به فلا يحكم عليهم بإبطاله إذا لم يرتفعوا إلينا، لكن ليكشفوا عما استحلوا ما لم يكن ضررًا على مسلم أو مستأمن أو معاهد.
قال: وإن جاءته امرأة تستعديه بأن زوجها طلقها وشبه ذلك، حكمنا عليه حكم المسلمين.
قال ابن عبد البر: والنظر صحيح عندي، ألا يحكم بنسخ شيء من القرآن إلا ما قام عليه الدليل الذي لا دفع له، ولا يحتمل التأويل، وليس في قوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [المائدة: 49] دليل على أنها ناسخة لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] لأنه يحتمل أن يكون معناها: وأن احكم بينهم بما أنزل الله إن حكمت ولا تتبع أهواءهم، فتكون الآيتان محكمتين مستعملتين غير متدافعتين. نقف على هذا الأصل في نسخ القرآن بعضه ببعض أنه لا يصح
إلا بإجماع لا تنازع فيه، أو بسنة لا مدفع لها، أو يكون التدافع في الآيتين غير ممكن فيهما استعمالهما، ولا استعمال أحدهما إلا بدفع الأخرى، فيعلم أنها ناسخة لها
(1)
.
وكذا قال ابن القصار: لو صح عندي النقل بذلك عن ابن عباس لقلت بالنسخ في الآية، ولكن لا أعلم فيه نقلاً يعتمد، وإنما هو نسخ بالتأويل، كذا قال، وسندها عند ابن عبد البر غير صحيح.
وقال النحاس: الرواية عنه في هذا مستقيمة
(2)
. ولا فرق عندي بين قوله في الآية التي زعموا أنها منسوخة: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} ، وبين قوله في الآية الناسخة {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [المائدة: 49]، والتخيير المتقدم قبل الآية الأولى نازل على هذِه، وهذِه الآية الثانية أيضًا على حكم التخيير الأول، وهذا مبني على أجل، وذلك أن من صالحنا من أهل الذمة لا يخلو أن يشترطوا علينا عدم الحكم أو وجوده بحكمهم أو بحكمنا، أولاً يقع شرط، فما كان من شرط وجب الوفاء به، وقد شرط كفار قريش على الشارع أمورًا عظيمة فالتزمها لهم، ووفَّى لهم حتى غدروا، فأما ما لم يكن بشرط وترافعوا إلينا، فالإمام مخير بين الحكم بما أنزل الله أو الصرف.
فصل:
وقد أسلفنا اختلاف العلماء أيضًا في أهل الذمة إذا زنوا هل يرجمون إذا رفعوا إلينا؟ فقال مالك: إذا زنوا أوشربوا، فلا يعرض لهم الإمام إلا أن يظهروا ذلك في ديار المسلمين فيدخلوا عليهم الضرر، فيمنعهم
(1)
"الاستذكار" 24/ 12 - 16.
(2)
"الناسخ والمنسوج" 2/ 294.
السلطان من الإضرار بالمسلمين. قال مالك: وإنما رجم الشارع اليهوديين؛ لأنه لم يكن لليهود يومئذٍ ذمة وتحاكموا إليه. (ونقل ابن الطلاع في "أقضيته" أنهم أهل ذمة)
(1)
. وقال الزجاج في "معانيه": كانا من أهل خيبر.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يحدون إذا زنوا كحد المسلم، وهو أحد قولي الشافعي، ولما ذكر الطحاوي قول مالك: لم يكن لهم ذمة، قال: لو لم يكن واجبًا عليهم لما أقامه عليه السلام، قال: وإذا كان من لا ذمة له قد حد في الزنا، فمن له ذمة أحرى بذلك. قال: ولم يختلفوا أن الذمي يقطع في السرقة، قال ابن عبد البر: وقال بعض من رأى أن آية التخيير في الحكم بين أهل الذمة منسوخة بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 49] على الإمام إذا علم من أهل الذمة حدًّا من حدود الله أن يقيمه عليهم وإن لم يتحاكموا إليه؛ لأن الله يقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [المائدة: 49] ولم يقل: إذا تحاكموا إليك، قالوا: والسنة تبين ذلك. يعني قول البراء: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم فدعاهم، الحديث
(2)
. كما ساقه أبو داود. وفيه: أنه حكم بينهم
(3)
، ولم يتحاكموا إليه، لكن في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن اليهود أتوه
(4)
، وليس فيه أنهما رضيا بحكمه، وقد رجمهما، وسيكون لنا عودة إلى ذلك في بابه -إن شاء الله تعالى- حيث ذكره البخاري.
(1)
من (ص 1).
(2)
"الاستذكار" 24/ 17 - 18.
(3)
رواه أبو داود (4447).
(4)
المصدر السابق (4446).
25 - باب الرَّجْمِ بِالْمُصَلَّى
6820 -
حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَسْلَمَ جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَرَفَ بِالزِّنَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَبِكَ جُنُونٌ؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «آحْصَنْتَ؟» . قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ فَرَّ، فَأُدْرِكَ فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ. لَمْ يَقُلْ يُونُسُ وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَصَلَّى عَلَيْهِ. [انظر: 5270 - مسلم: 1691 - فتح 12/ 129].
ذكر فيه حديث جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسلَمَ .. الحديث.
وقد أسلفناه في أثناء باب: لا يُرجم المجنون والمجنونة وتكلمنا على ما فيه. والمصلي هنا مصلى الجنائز يوضحه ما في الرواية الأخري بقيع الغرقد، واعترض ابن بطال وابن التين على تبويبه فقالا: لا معنى لهذا التبويب، والرجم في المصلى كالرجم في سائر المواضع وإنما يذكر بذلك؛ لأنه مذكور في الحديث
(1)
.
وهذا الرجل المعترف هو ماعز بن مالك الأسلمي، وقد سلف ذكره، وروى يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أن ماعز بن مالك أتى إلى أبي بكر الصديق فأخبره أنه زني، فقال له أبو بكر: هل ذكرت ذلك لأحد؟ قال: لا. قال أبو بكر: استتر بستر الله، وتب إلى الله، فإن الناس يعيرون ولا يغيرون، وإن الله يقبل التوبة عن عباده، فلم تقره نفسه حتى أتى إلى عمر، فقال له مثل ما قال لأبي بكر (فقال له عمر مثل ما قال له أبو بكر)
(2)
فلم
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 439
(2)
من (ص 1).
تقره نفسه حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث
(1)
.
فصل:
وفيه من الفقه: جواز رجم الثيب بلا جلد، وعليه فقهاء الأمصار
(2)
حيث لم يجلده الشارع وكذا في قصة الأسلمية، وخالف فيه أحمد
(3)
وإسحاق بن راهويه
(4)
وأهل الظاهر
(5)
وابن المنذر، فقالوا بالجمع. وروي مثله عن علي
(6)
وأبي
(7)
والحسن بن أبي الحسن
(8)
والحسن ابن حي.
واحتجوا بحديث ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أن رجلاً زنى فأمر به رسول الله- صلي الله عليه وسلم - فُجلد، ثم أُخبر أنه كان أحصن فأمر به فرجم
(9)
، وقالوا: هكذا حد المحصن، وبحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:"والثيب بالثيب جلد مائة"
(10)
حجة الجماعة: عمر بن الخطاب والزهري، ومالك في أهل المدينة، والأوزاعي في أهل الشام وسفيان وأبو حنيفة وأهل الكوفة
(1)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 532 من طريق يزيد بن هارون، به والحديث في "الموطأ" ص 512 رواه مالك من طريق قيس بن سعيد، به.
(2)
"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 7.
(3)
"المغني" 12/ 308.
(4)
"المغني" 12/ 313
(5)
"المحلى" 11/ 233 - 237
(6)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 536 (28785).
(7)
ابن أبي شيبة 5/ 536 (28779).
(8)
"الإشراف" 3/ 7.
(9)
رواه أبو داود (4438) من طريق قتيبة عن ابن وهب عن ابن جريج به.
(10)
مسلم (1690) كتاب الحدود، باب حد الزنا.
والشافعي وأصحابه ما عدا ابن المنذر: أنه يجوز أن يكون إنما جلده لعدم علمه بإحصانه، فلما علم به رجمه، وحديث عبادة منسوخ بحديث ماعز والعسيف؛ لأنه عليه السلام رجمهما ولم يجلدهما، فثبت أن هذا حكم ناسخ لما قبله، كذا في كتاب ابن بطال
(1)
عنه، وفي ("سننه")
(2)
: فرماها عليه السلام بمثل الحمصة
(3)
. يعني الغامدية. وروي أيضًا: بجلاميد الحرة
(4)
. وبوظيف البعير.
فصل:
قال النسائي: ليس في شيء من الأحاديث قدر الحجر الذي يرمي به، قلت: أسلفنا رميه بالجلاميد، وهي الصخور الكبار، واحدها جلمود وجلمد بفتح الجيم أيضًا، قال: وقال مالك: لا يرمي بالصخور العظام، ويأمر الإمام بذلك ولا يتولاه بنفسه، ولا يُرفع عنه حتى يموت، ويخلي بينه وبين أهله يغسلونه ويصلون عليه، ولا يصلي عليه الإمام ردعًا لأهل المعاصي، ولئلا يجتريء الناس على مثل فعله إذا رأوا أنه ممن لا يصلي عليه الإمام لعظم ذنبه، وفي حديث جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام صلى عليه من رواية معمر عن الزهري، ففيه حجة لمن قال من العلماء أن للإمام أن يصلي عليه إن شاء، وهو محمد بن عبد الحكم، وقد سلف كلام الحفاظ فيه هناك، وروى عمران بن حصين أنه عليه السلام صلى على الغامدية
(5)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 440 - 441.
(2)
كذا بالأصل.
(3)
أبو داود (4444).
(4)
مسلم (1694).
(5)
مسلم (1696).
فصل:
قد أسلفنا عن جماعة أن حديث عبادة محكم، وأن أكثر أهل العلم خالفوه ورأوا نسخه، وجماعة من (صغار)
(1)
الصحابة رووا حديث ماعز، وحديث عبادة كان في أول الأمر وبين الروايتين مدة.
قال الشافعي: دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن جلد البكرين الحرين ثابت ومنسوخ عن الثيبين؛ لأن قوله: "خذوا عني" من أول ما نزل، فنسخ به الأذى والحبس عن الزانيين، فلما رجم ماعزًا ولم يجلده وأمر أنيسًا بامرأة الأسلمي إن اعترفت رجمها، دل على نسخ الجلد عنهما؛ لأن كل شيء بدأ بعد أول فهو آخر
(2)
.
وقال أيضًا: لم يكن بين الأحرار في الزنا فرق إلا بالإحصان بالنكاح، وخلاف الإحصان به، وإذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"
(3)
.
ففي هذا دلالة على أنه أول ما نسخ الحبس عن الزانيين، وهذا بعد الحبس، وأن كلَّ حد حده الزانيان فلا يكون إلا بعد هذا إذا كان هذا أول حد الزانيين.
ونقل ابن عبد البر عن أبي بكر وعمر أنهما رجما ولم يجلدا
(4)
، لكن روى ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث، ثنا أشعث، عن ابن سيرين قال: كان عمر يرجم ويجلد، وكان علي يرجم ويجلد
(5)
.
(1)
من (ص 1).
(2)
"معرفة السنن والآثار" للبيهقي 12/ 274.
(3)
سبق تخريجه من حديث عبادة بن الصامت.
(4)
"التمهيد" 9/ 80.
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 536 (28781).
وفي رجم الغامدية دون جلدها أدل دليل على نسخ حديث عبادة؛ لأنه كان في حين نزول الآية في الزناة، وذلك أنهم كانت عقوبتهم الإمساك في البيوت، فلما نزلت آية الجلد التي في سورة النور قام عليه السلام فقال "خذوا عني" كما سلف من حديث عبادة، فكان هذا في أول إلامر، ثم رجم عليه السلام جماعة ولم يجلدهم معه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (كانت المرأة)
(1)
إذا زنت حُبست في البيت حتى تموت
(2)
، وكان الرجل إذا زنى أوذي بالتعيير وضرب النعال
(3)
فأنزل الله: {فَاجْلِدُواَ} الآية [النور: 2]
قال ابن عبد البر: وثم قول ثالث، وهو أن الثيب من الزناة إذا كان شابًّا رُجم، وإن كان شيخًا جُلد ورجم، روي ذلك عن مسروق، وقالت به فرقة من أهل الحديث، وهو قول ضعيف لا أصل له
(4)
، وحكاه ابن حزم عن أبي ذر وأبي بن كعب
(5)
.
فصل:
جاء في بعض طرق حديث ماعز: حتى ثنى
(6)
عليه أربع مرات
(7)
. وهو بفتح النون، أي: كرره أربعًا، وجاء أن الآخر زنى هو بهمزة مقصورة، وكسر الخاء ومعناه الأرذل أو الأبعد أو الأدنى أو اللئيم
(1)
من (ص 1).
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 634.
(3)
المصدر السابق 3/ 638.
(4)
"الاستذكار" 24/ 52.
(5)
"المحلى" 11/ 234.
(6)
ورد بهامش الأصل: ينبغي أن يقول: بتخفيف النون كما قاله النووي "شرح مسلم" وهذا اللفظ في مسلم.
(7)
"صحيح مسلم"(1691).
أو الشقي، وكله متقارب، ومراده نفسه فحدها، لا سيما وقد فعل هذِه الفعلة القبيحة.
وقوله هنا: (فرجم حتى مات) وجاء معناه: حتى سكت وهو بالتاء على الأشهر الأصوب لا بالنون والمعنى: مات.
26 - باب مَنْ أَصَابَ ذَنْبًا دُونَ الحَدِّ فَأَخْبَرَ الإِمَامَ فَلَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ إِذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا
قَالَ عَطَاءٌ: لَمْ يُعَاقِبْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَلَمْ يُعَاقِبِ الَّذِي جَامَعَ فِي رَمَضَانَ، وَلَمْ يُعَاقِبْ عُمَرُ صَاحِبَ الظَّبْيِ، وَفِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6821 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فِي رَمَضَانَ، فَاسْتَفْتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: "فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا". [انظر: 1936 - مسلم: 1111 - فتح 12/ 131].
6822 -
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: احْتَرَقْتُ. قَالَ: «مِمَّ ذَاكَ؟» . قَالَ: وَقَعْتُ بِامْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. قَالَ لَهُ: «تَصَدَّقْ» . قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. فَجَلَسَ وَأَتَاهُ إِنْسَانٌ يَسُوقُ حِمَارًا وَمَعَهُ طَعَامٌ -قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا أَدْرِي مَا هُوَ- إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«أَيْنَ الْمُحْتَرِقُ؟» . فَقَالَ: هَا أَنَا ذَا. قَالَ: «خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ» . قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنِّي؟ مَا لأَهْلِي طَعَامٌ قَالَ: «فَكُلُوهُ» . [انظر: 1935 - مسلم: 1112 - فتح 12/ 132]. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: الحَدِيثُ الأَوَّلُ أَبْيَنُ، قَوْلُهُ:«أَطْعِمْ أَهْلَكَ» .
ثم ساق حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في المواقع أهله في رمضان. وقد سلف في الصوم وغيره.
وفي آخره: قَالَ: عَلَى أَحْوَجَ مِنِّي؟ مَا لأَهْلِى طَعَامٌ. قَالَ: «فَكُلُوهُ» .
وفي بعض النسخ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: الحَدِيثُ الأَوَّلُ أَبْيَنُ.
قَوْلُهُ: "أَطْعِمْه أَهْلَكَ" قول عطاء: كان مراده حديث المجامع أيضًا كقول ابن جريج، ويجوز أن يريد حديث ابن مسعود أيضًا، وقال الداودي: لعله يريد الذي قال: أتيت امرأة ففعلت بها كل شيء إلا (اللواط)
(1)
، وحديث أبي عثمان، عن ابن مسعود المشار إليه فهو أبين شيء في الباب، وقد ساقه بطوله في باب: الصلاة كفارة، في الرجل الذي أصاب من امرأة قبلة، فأخبره فنزل:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}
(2)
[هود: 114] وفي رواية: "قم فصل ركعتين"، وفي أخرى: فأقم علي ما شئت
(3)
. الحديث.
وقد أجمع العلماء -فيما حكاه ابن بطال-: أن من أصاب ذنبًا فيه حد أنه لا ترفعه التوبة، ولا يجوز للإمام إذا بلغه العفو عنه. ومن التوبة عندهم أن يطهر ويكفر بالحد إلا الشافعي، فذكر عنه ابن المنذر أنه قال: إذا تاب قبل أن يُقام عليه الحد سقط عنه.
قلت: مراده بالنسبة إلى الباطن، أما بالنسبة إلى الظاهر فالأظهر من مذهبه عدم سقوطه.
وأما من أصاب ذنبًا دون الحد ثم جاء (تائبًا)
(4)
فتوبته تُسقط عنه العقوبة، وليس للسلطان الاعتراض عليه، بل يؤكد بصيرته في التوبة ويأمره بها، لينتشر ذلك فيتوب المذنب.
(1)
كذا بالأصل.
(2)
سلف برقم (526).
(3)
رواها أبو داود (4468).
(4)
في الأصل: مستفتيًا، والمثبت من (ص 1)
ألا ترى أنه - علية السلام - لما فهم من المجامع في رمضان الندم على فعله من صورة فزعه وقوله: (احترقت). لم يعاقبه ولا ذنَّبه، بل أعطاه ما يكفر به
(1)
، وقد قال للرجل الذي قال: إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ: "أليس قد صليت معنا؟ " فلم يستكشفه عنه، فدل أن الستر أولى؛ لأن في الكشف عنه نوع تجسس المنهي عنه وجعلها شبهةً دارئةً للحد، وجائز أن يظن ما ليس بحد حدًّا، فكان ذلك مما يكفر بالوضوء والصلاة، وأطلع الله رسوله على ذلك، ولما لم يعم بالكناية دون الإفصاح وجب ألا يكشف عليه؛ لأن الحد لا يقام بالشبهة بل يدرأ بها، وحجة كونها غير ساقطة للحد إخبار الشارع عن توبة الجهنية والغامدية
(2)
وإقامة الحد عليهما، والسقوط خاص بالمحاربين دون غيرهم، ولا يحتج في ذلك بحديث أنس الآتي في الباب بعد، حيث قال: أصبت حدًّا، لما أسلفنا من احتمال أنه ظنه حدًّا وليس بحد، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون الله أوحى إليه أنه قد غفر له ذنبه ولو أفصح بذكر الحد لأقامه عليه ولم يعف عنه
(3)
.
فصل:
ولم يعاقب عمر صاحب الظبي، يعني: حيث حكم على قبيصة بن جابر في الظبي بشاة، وهو وعبد الرحمن بن عوف، فقال قبيصة: قلت يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من أن تدعو أحدًا يحكم معك، قال:
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 442.
(2)
ورد بهامش الأصل: مقتضى كلام الشيخ محيي الدين أنهما واحدة وذلك أنه قال: غامد بطن من جهينة ولم يسم الجهنية وسمى الغامدية سُبيعة وقيل: آمنة، ذكرهما الخطيب.
(3)
"أعلام الحديث" 4/ 2300.
فضربني بالدرة حتى سابقته عدوًا، ثم قال: قتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض الفتوى.
والقصة أخرجها مالك عن عبد الملك بن (قرير)
(1)
، عن محمد بن سيرين أن رجلاً جاء إلى عمر فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبيًا ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين، لا يستطيع أن يحكم في ظبي، حتى دعا رجلاً يحكم معه، فسمع عمر قول الرجل فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ قال: لا، قال: فقال عمر: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربًا، ثم قال: إن الله تعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، هذا عبد الرحمن بن عوف
(2)
.
ورواها عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر قال: خرجنا حجاجًا فكنا إذا صلينا الغداة ابتدرنا رواحلنا نتماشى ونتحدث، فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي فابتدرناه فابتدرته فرميته بحجر فأصاب حشاه، فركب (درعه)
(3)
فمات، فلما قدمنا مكة سألنا عمر بن الخطاب وكان حاجًّا وكان جالسًا وإلى جانبه عبد الرحمن بن عوف، فسأله عن ذلك، فقال: أنا أرى ذلك، قال: فاذهب فأهد شاة
(1)
في الأصل: قريب وفوقها: كذا، وبالهامش: لعله قرير.
(2)
"الموطأ" ص 267 - 268.
(3)
في هامش الأصل: سيأتي تفسيره.
فخرجت إلى صاحبي فقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره، قال: فلم يفجأنا إلا عمر ومعه الدرة، فعلاني بالدرة فقال: أيقتل في الحرم ويسفه الحكم؟! قال الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وأنا عمر، وهذا عبد الرحمن بن عوف
(1)
.
معنى (ركب درعه): خرَّ لوجهه على دمه. فقال: ذلك القتل.
والحشا: ما (اضطمت)
(2)
عليه الضلوع، والجمع أحشاء، والحشوة بالكسر والضم: الأمعاء
(3)
.
(1)
رواه ابن عبد البر في "الاستذكار" 24/ 279 - 280.
(2)
في الأصل: (ضطمت) والمثبت هو الصحيح كما في "صحاح الجوهري".
(3)
انظر: "الصحاح" 6/ 2313 (حشا).
27 - باب إِذَا أَقَرَّ بِالْحَدِّ وَلَمْ يُبَيِّنْ، هَلْ لِلإِمَامِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ
؟
6823 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الكِلَابِيُّ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِك رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. قَالَ: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ. قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللهِ. قَالَ:«أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ» . أَوْ قَالَ: «حَدَّكَ» . [مسلم: 2764 - فتح 12/ 133].
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الكِلَابِيُّ، ثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. (قَالَ)
(1)
: وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ. قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ عليَّ فِي كِتَابَ اللهِ. قَالَ:«أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَإِنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ» . أَوْ قَالَ: «حَدَّكَ» . قال أبو عبد الله: الرجل جاء تائبًا وصلى.
هذا الحديث سلف الكلام عليه في الباب قبله، وقد أخرجه مسلم أيضًا في التوبة، ومن الغريب ما ذكره الحافظ أبو بكر أحمد بن هارون البرديجي في كتابه "الفصل والوقف"، حيث قال: فأما حديث همام
(1)
من (ص 1).
الذي رواه عن عمرو بن عاصم عنه، (عن)
(1)
إسحاق بن عبد الله، عن أنس أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم عليَّ الحد، ثم أقيمت الصلاة فصلى مع رسول الله -صلي الله عليه وسلم - فقال له عليه السلام:"قد كفر الله عنك بصلاتك" قال: فهذا عندي حديث منكر، هو عندي وهم من عمرو بن عاصم، مع أن همامًا كان يحيى بن سعيد لا يرضاه، وهو عندي صدوق يكتب حديثه، ولا يحتج به، وأبان العطار أمثل منه، قال: وهذا الحديث ثنا به محمد بن عبد الملك الواسطي، عن عمرو، هذا كلامه.
(1)
من (ص 1).
28 - باب هَلْ يَقُولُ الإِمَامُ لِلْمُقِرِّ: لَعَلَّكَ لَمَسْتَ أَوْ غَمَزْتَ
؟
6824 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ سَمِعْتُ يَعْلَى بْنَ حَكِيمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ، النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:«لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ؟» . قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «أَنِكْتَهَا؟» . لَا يَكْنِي. قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ. [مسلم: 1693 - فتح 12/ 135].
ذكر فيه حديث ابن عَباسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ، رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:«لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ؟» . قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «أَنِكْتَهَا؟» . لَا يَكْنِي. قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ.
الشرح:
هو دال على ما ترجم له، وهو جواز التلقين في الحدود ما يدرأ به عنه الأذى، ألا ترى أنه عليه السلام قال له:"لعلك قبلت .. " إلى آخره ليدرأ عنه الحد، لفظ الزنا يقع على نظر العين وجميع الجوارح، فلما أتى بلفظ مشترك لم يحده حتى وقف على صحيح ما أتاه بغير إشكال؛ لأن من شريعته درء الحدود بالشبهات، فلما أفصح وبين أمر برجمه، وهو دال على أن الحدود لا تقام إلا بالإفصاح.
ألا ترى أن الشهود لو شهدوا على رجل بالزنا، ولم يقولوا: رأيناه أولج فيها، كان حكمهم حكم من قذف لا حكم من شهد؛ رفقًا من الله بعباده وسترًا عليهم ليتوبوا، وقد استعمل التلقين بالإيماء أيضًا الصحابة الراشدون بعده، عمر وعلي وابن مسعود.
روى مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر أتاه رجل وهو بالشام، فذكر أنه وجد مع امرأته رجلاً، فبعث عمر أبا واقد إلى امرأته فسألها عما قال زوجها لعمر، وأخبرها بأنها لا تؤخذ بقوله، وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع، فأبت أن تنزع، فرجمها عمر رضي الله عنه
(1)
.
وروى معمر بإسناده أن عمر أُتي برجل، فقيل: إنه سارق، فقال عمر: إني لأرى يد رجل (ما هو)
(2)
بيد سارق، فقال الرجل: والله ما أنا بسارق فخلى سبيله
(3)
.
وعن الشعبي قال: أُتي علي رضي الله عنه بامرأة يقال لها: شراحة وهي حبلى من الزنا فقال: ويحك، لعل رجل استكرهك؟ قالت: لا. قال: فلعله وقع عليك وأنت نائمة؟ قالت: لا. قال: فلعل زوجك من عدونا من أهل الشام فأنت تكرهي أن يدلي عليك؟ قالت: لا، فجعل يلقنها هذا وأشباهه (وتقول: لا. فرجمها
(4)
.
وعن أبيِ مسعود: أتُي بسارق سرق بعيرًا)
(5)
، فقال: هل وجدته؟ قال: نعم. فخلى سبيله
(6)
، فهذا وجه التلقين بالتعريض لمن يعرف الحد وما يلزمه فيه، وأما تلقين الجاهل ومن لا يعرف الكلام فهو تصريح.
(1)
"الموطأ" ص 514.
(2)
هي كذلك في الأصل. وكتب فوقها: كذا.
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 10/ 193 (18793)
(4)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 7/ 326 (13350)
(5)
من (ص 1).
(6)
رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 514 - 515 (28566).
روى ابن جريج عن عطاء فقال: كان بعضهم يؤتى بالسارق فيقول: أسرق؟ (قل: لا. أسرقت؟ قل: لا. وعلمي أنه سمى أبا بكر وعمر
(1)
.
وروى شعبة بإسناده عن أبي الدرداء أنه أتي بجارية سوداء سرقت)
(2)
فقيل له: إنها سرقت. فقال لها: أسرقت؟ قولى: لا. قالت: لا. فخلى سبيلها، فقلت: أنت تلقنها؟!
قال أبو الدرداء: إنها اعترفت وهي لا تدري ما يراد بها
(3)
.
وقال الأعمش: كان إبراهيم يأمر بطرد المعترفين
(4)
، وكان أحمد وإسحاق يريان تلقين السارق إذا أتي به، وكذلك قال أبو ثور
(5)
إذا كان السارق امرأة، أو من لا يدري ما يصنع به، أو ما يقول.
قال المهلب: هذا التلقين على اختلاف منازله ليس بسنة لازمة إلا عند اختيار الإمام لذلك، وله ألا يعرض ولا يلقن لقوله:"بينة وإلا حد في ظهرك".
وأما التلقين الذي لا يحل فتلقين الخصمين في الحقوق، وتداعي الناس، وكذلك لا يجوز تلقين المنتهك المعروف بذلك إذا تبين ما أقر به أوشهد عليه، ولم ير الإمام إقامة الحد فيه
(6)
.
(1)
المصدر السابق 5/ 515 (28571).
(2)
من (ص 1).
(3)
ابن أبي شيبة 5/ 514 (28565) مختصرًا.
(4)
المصدر السابق 5/ 507 (28490) والبيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 286 بلفظ: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اطردوا المعترفين.
(5)
"المغني" 12/ 466 - 467.
(6)
انظر "شرح ابن بطال" 8/ 444 - 446.
وفي "المدونة" في السارق إذا شهد عليه بالسرقة -يريد على إقراره- استحب للإمام أن يقول له شيئًا
(1)
، وفيها أيضًا أيكشف المقر في الزنا كما يكشف الشهود؟ قال: لا. واحتج بأنه عليه السلام قال: "أبصاحبكم جنة" ولم (يمثله)
(2)
، ذكره في كتاب الحد في القذف
(3)
.
(1)
"المدونة" 4/ 426 - 427.
(2)
في (ص 1): يسأله.
(3)
"المدونة" 4/ 383.
29 - باب سُؤَالِ الإِمَامِ المُقِرَّ: هَلْ أَحْصَنْتَ
؟
6825 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَة، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ وَهْوَ فِي المَسْجِدِ فَنَادَاهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي زَنَيْتُ. -يُرِيدُ نَفْسَهُ- فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَنَحَّى لِشِقِّ وَجْهِهِ الَّذِي أَعْرَضَ قِبَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي زَنَيْتُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَجَاءَ لِشِقِّ وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي أَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَبِكَ جُنُونٌ؟» . قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «أَحْصَنْت؟» . قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «اذْهَبُوا فَارْجُمُوهُ» . [انظر: 5270 - مسلم: 1691 م - فتح 12/ 136].
6826 -
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرًا قَالَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ جَمَزَ، حَتَّى أَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ. [انظر: 5270 - مسلم: 1691 م - فتح 12/ 136].
ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في قصة ماعز، فإنه عليه السلام قال «أَحْصَنْت؟». قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "اذْهَبُوا به فَارْجُمُوهُ".
ولازم على كل إمام أن يسأل المقر إن كان محصنًا أوغير محصن؛ لأنه- عليه السلام قد فرق بين حد المحصن والبكر، فواجب عليه أن يقف على ذلك، كما يجب عليه إذا أشكل (إعلام)
(1)
المقر أن يسأله.
ثم بعد ذلك يلزمه تصديق كل واحد منهما؛ لأن الحد لا يقام إلا باليقين، ولا يحل فيه التجسس.
(1)
في الأصل: احتلام. والمثبت من (ص 1).
ولما كان قوله مقبولًا في اللمس والغمز كان قوله مقبولًا في الإحصان، فالباب واحد في ذلك. ولا شك أنه إذا لم يعلم بحاله أن سؤاله عن إحصانه واجب، وإن علم بإقراره قبل فلا.
واختلف إذا لم يسمع منه إقرار ولا إنكار على ثلاثة أقوال للمالكية، قال ابن القاسم: يقبل قوله وإن طال مكثه مع زوجته، إلا أن يعلم غير ذلك بظهور حمل أو سماع.
وقال في النكاح الثالث من "المدونة": إذا أحدت امرأة في زنا، وكانت أقامت عشرين سنة لم يقبل قولها
(1)
.
وقال عبد الملك: عند محمد لا يقبل قول من أنكر من الزوجين، والرجم قائم ولو لم يقم معها إلا ليلة واحدة، قال محمد: وهو قول أصحابنا وقول ابن القاسم
(2)
.
وإن اختلفا بعد الدخول حد المنكر، واختلف في المقر فقيل: يحد حد البكر، وقيل: حد الثيب، إلا أن يرجع عما كان أقر به، وإن كان الزوج يدعي الإصابة، ثم الآن [قال]
(3)
كنت قلت ذلك لأملك الرجعة، أو كانت الزوجة مدعية الإصابة، وقالت: قلت ذلك لأشتمل الصداق أو غير ذلك من العذر حلف، وحد حد البكر.
فصل:
قوله: (فلما أذلقته الحجارة جمز) سلف معنى أذلقته، و (جمز): أسرع يهرول.
(1)
"المدونة الكبرى" 2/ 208.
(2)
"النوادر والزيادات" 14/ 233.
(3)
زيادة يقتضيها السياق.
قال الجوهري وابن فارس: الجمز: ضرب من السير أشد من العَنَق
(1)
. وقال بعض السلف (الرجل)
(2)
: اتق الله قبل أن يجمز بك، يريد: السير السريع في جنازته. وقال الكسائي: الناقة تعدو الجمز. وهو العدو الذي ينزو.
فصل:
قد أسلفنا اختلاف العلماء في الاعتراف بالزنا الذي يجب فيه الحد، هل يفتقر إلى عدد؟ على ثلاثة مذاهب، وأن ابن أبي ليلى
(3)
والثوري وأحمد
(4)
اعتبروه في مجلس، وأن أبا حنيفة
(5)
والكوفيين اعتبروه في مجالس، وأن الشافعي
(6)
ومالكًا
(7)
وأبا ثور
(8)
قالوا: يكفي مرة، وروي عن الصديق وعمر، وقد أجبنا عن شبهة من اعتبر بعدده، قالوا: ولما كان الزنا مخصوصًا من بين سائر الحقوق بأربعة شهداء جاز أن يكون مخصوصًا بإقرار أربع مرات، وحجة من لم يشترطه قصة الغامدية،
وقوله لأنيس: "فإن اعترفت فارجمها" ولم يقل أربعًا، فلا معنى لاعتباره، وأيضًا فإنه لا يدل على مخالفة الزنا لسائر الحقوق في أنه مخصوص بأربعة شهداء على مخالفته في الإقرار؛ لأن القتل مخالف للأموال في الشهادات، فلا يقبل في القتل إلا شاهدان، ويقبل في
(1)
"الصحاح" 3/ 869 مادة: (جمز)، "مجمل اللغة" 1/ 197.
(2)
من (ص 1).
(3)
"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 13.
(4)
"المغني" 12/ 354.
(5)
"المحيط البرهاني" 6/ 428.
(6)
"العزيز شرح الوجيز" 11/ 150 - 151.
(7)
"الذخيرة" 12/ 58.
(8)
"الإشراف" 3/ 13.
الأموال شاهد وامرأتان، ثم اتفقنا في باب الإقرار أنه يقبل فيه إقرار مرة، ولو وجب اعتبار الإقرار بالشهادة لوجب أن لا يقبل في الموضع الذي لا يقبل فيه إلا شاهدان [أو]
(1)
الإقرار مرتين، وقد أجمع العلماء أن سائر الإقرارات في الشرع يكفي فيها مرة واحدة، وإن أقر بالردة مرة واحدة يلزمه اسم الكفر، والقتل لازم عليه، فلزم في الزنا مثله، وإنما لم يقم عليه أول مرة؛ لما سلف من أنه عليه السلام لما رآه مخيل الصورة فزعا أراد التثبت في أمره، هل به جنة أم لا؟ مع أنه كره ما سمع منه
فأعرض عنه رجاء أن يستر على نفسه ويتوب إلى الله، ألا ترى أنه لقثه بقوله:"لعلك لمست أوغمزت" فلا معنى لاعتبار العدد في الإقرار
(2)
(1)
ليست في الأصول والسياق يقتضيها.
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 447 - 448.
30 - باب الاعْتِرَاف بِالزِّنَا
6827، 6828 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ فِي الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ قَالَا: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ أَنْشُدُكَ اللهَ إِلاَّ قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ. فَقَامَ خَصْمُهُ -وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ- فَقَالَ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَأْذَنْ لِي. قَالَ:«قُلْ» . قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، المِائَةُ شَاةٍ وَالْخَادِمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: لَمْ يَقُلْ: فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْم. فَقَالَ: أَشُكُّ فِيهَا مِنَ الزُّهْرِيِّ، فَرُبَّمَا قُلْتُهَا وَرُبَّمَا سَكَتُّ. [انظر: 2314، 2315 - مسلم:
1697، 1698 - فتح 12/ 136].
6829 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ. فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الحَمْلُ أَوْ الاِعْتِرَافُ -قَالَ سُفْيَانُ: كَذَا حَفِظْتُ- أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ. [انظر: 2462 - مسلم: 1691 - فتح 12/ 139]
ذكر فيه حديث عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللهِ، ثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَا مِنْ في الزُّهْرِيِّ قَالَ: حدثني عُبَيْدُ اللهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الجهني رضي الله عنهما في قصة العسيف وفي آخره: "فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا". فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: لَمْ يَقُلْ: عَلَى ابني الرَّجْمَ.
فَقَالَ: (أَشُكُّ)
(1)
فِيهَا مِنَ الزُّهْرِيِّ، فَرُبَّمَا قُلْتُهَا وَرُبَّمَا سَكَتُّ.
ثم ساق حديتْ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِل: لَا نَجدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ. فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، أَلَا إِنَّ الرَّجْمَ حَقَّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الحبل أَوْ الاعْتِرَافُ -قَالَ سُفْيَانُ: كَذَا حَفِظْتُ- أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ.
الشرح:
فيه أحكام:
أحدها: الترافع إلى السلطان الأعلى فيما قد قضى فيه غيره ممن هو دونه إذا لم يوافق الحق.
ثانيها: فسخ كل صلح، ورد كل حكم وقع على خلاف السنة.
ثالثها: أن ما قبضه الذي قضى له بالباطل لا يصلح له ملكه.
رابعها: أن العالم قد يفتي في مصر فيه من هو أعلم منه، ألا ترى أنه سأل والشارع بين أظهرهم، وكذلك كان الصحابة يفتون في زمنه.
خامسها: في سؤاله أهل العلم، ورجوعه إلى الشارع دليل على أنه يجوز للرجل أن لا يقتصر على قول واحد من العلماء.
سادسها: جواز قول الخصم للإمام العدل: اقض بيننا بالحق. حيث قال: اقض بيننا بكتاب الله. وقد علم أنه لا يقضي إلا بما أمره الله، ولم ينكر ذلك عليه، وقال الملكان لداود عليه السلام:{فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص: 22] وذلك إذا لم يرد السائل التعريض.
(1)
في الأصل: الشك. والمثبت من (ص 1).
وقوله: (وكان أفقههما) يعني -والله أعلم- لاستئذانه عليه السلام في الكلام وترك صاحبه لذلك تأكيدًا.
واختلف العلماء في تأويل ذلك، فقال بعضهم: الرجم في قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الآية [النور: 8]، فالعذاب الذي تدرؤه الزوجة عن نفسها باللعان هو الذي يجب عليها بالبينة أو بالإقرار [أو]
(1)
بالنكول عن اللعان، وقد بين الشارع آية الرجم في الثيب برجم ماعز وغيره.
وقال آخرون: الرجم مما نُسخ من القرآن خطه وثبت حكمه.
وقال آخرون: معنى قوله: "لأقضين بينكما بكتاب الله" أي: بحكم الله وبفرضه، وهذا سائغ في اللغة، قال الله تعالى:{كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] أي: حكمه فيكم وقضاؤه عليكم، ومنه قوله تعالى:{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)} [الطور: 41] أي: يقضون، وكذلك قوله {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] وكل ما قضى به الشارع فهو حكم الله.
وفيه: أنه عليه السلام لم يجعلهما قاذفين حين أخبراه، وليس في الحديث أنه سأل (ابن)
(2)
الرجل هل زنى وهل صدقا عليه أم لا؟، ولكن من مفهوم الحديث أنه أقر؛ لأنه لا يجوز أن يقام الحد إلا بالإقرار أو بالبينة، ولم يكن عليهما بينة لقوله:"فإن اعترفت فارجمها".
وفيه: النفي والتغريب للبكر الزاني، خلافًا لأبي حنيفة
(3)
في إسقاط النفي عنه، وسيأتي أقوالهم فيه في مواضعه.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
من (ص 1).
(3)
"المحيط البرهاني" 6/ 392.
وفيه: رجم الثيب بلا جلد على ما ذهب إليه أئمة الفتوى في الأمصار، وقد سلف.
وفيه: أيضًا استماع الحاكم بينة أحد الخصمين وصاحبه غائب، وفُتْيَاهُ له دون خصمه، ألا ترى أنه عليه السلام قد أفتاهما والمرأة غائبة وكانت إحدى الخصمين.
وفيه: تأخيرالحدود عند ضيق الوقت؛ لأنه عليه السلام أمره بالغدو إلى المرأة، فإن اعترفت رجمها، ويحتمل أنه كان غدوه بلا تأخير.
وفيه: إرسال الواحد في تنفيذ الحكم.
وفيه: إقامة الحد على من أقر على نفسه مرة واحدة؛ لأنه عليه السلام لم يقل لأنيس فإن اعترفت أربعًا. وقد سلف قريبًا ما فيه.
وفيه: دليل على صحة قول مالك
(1)
وجمهور الفقهاء أن الإمام لا يقوم بحد من قذف بين يديه حتى يطلبه المقذوف؛ لأن له أن يعفو عن قاذفه أو يريد سترًا.
ألا ترى أنه قال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته فقذفها، فلم يقم عليه الحد؛ لأنها لما اعترفت بالزنا سقط حكم قذفها، ومثله حديث العجلاني حين رمى امرأته برجل فلاعن بينه وبين امرأته؛ لأنه لم يطلبه بحده، ولو طلبه به لحد، إلا أن يقيم البينة على ما قال، والمخالف في هذِه المسألة هو ابن أبي ليلى
(2)
، فإنه يقول: إن الإمام يحد القاذف وإن لم يطلبه المقذوف. وقوله خلاف السنن الثابتة، وسيأتي ما بقي من معاني هذا الحديث بعد هذا في
(1)
"شرح صحيح البخاري" لابن بطال 8/ 452.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 452.
مواضعه -إن شاء الله تعالى- وكذلك حديث ابن عباس يأتي الكلام عليه في الباب بعد هذا إن شاء الله تعالى
(1)
.
وقد اختلف العلماء فيمن أقر بالزنا بامرأة معينة وجحدت المرأة، فقال مالك: يقام عليه حد الزنا، وإن طلبت حد القذف أقيم عليه أيضًا، وكذلك لو أقرت هي وأنكر هو
(2)
.
وقال أشهب: يحد للزنا دون القذف
(3)
؛ لأنه لا يخلو أن يكون صادقًا أوكاذبًا فالأول لا يحد لقذفه، وإلا حد للقذف دون الزنا، فعلى أي وجه كان يجمع عليه الحدان.
وقال الأبهري: بل ثمَّ قسم ثالث، وهو أن يكون مكرهًا لها على الزنا فيكون صادقًا في إقراره على نفسه كاذبًا في قذفه، فيجتمع الحدان.
وقال أبو حنيفة
(4)
والأوزاعي
(5)
: عليه حد القذف، ولا حد عليه للزنا.
وقال أبو يوسف ومحمد
(6)
والشافعي
(7)
: من أقر منهما فإنما عليه حد الزنا فقط.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 450 - 452.
(2)
"التمهيد" 9/ 91.
(3)
"النوادر والزيادات" 14/ 251 بلفظ قال: وإن سمى امرأة تُعرف فأنكرت حد لها، ويحد للزنا بجلد أوبرجم إن لم يرجع بعد جلد الفرية.
(4)
"بدائع الصنائع" 7/ 61.
(5)
"التمهيد" 9/ 91.
(6)
"المحيط البرهاني" 6/ 431.
(7)
"البيان شرح المهذب" 12/ 374 وفي "الروضة" 10/ 94: لو قال: زنيت بها، فأنكرت، لزمه حد الزنا وحد القذف، وفي"العزيز" 11/ 152 ولو كان قد قال: زنيت بفلانة، فهو مقر بالزنا، قاذف لها فإن أنكرت أو قالت: كان قد تزوجني فعليه حد الزنا وحد القذف.
حجة مالك أن حد الزنا واجب عليه بإقراره، وليس إقراره دليلًا على صدقه على المقذوف؛ لأنا لو علمنا صدقه ببينة أو بإقرار المرأة لم يجب عليه الحد، فلما لم يكن إلى البينة ولا إلى الإقرار سبيل وجب لها أن تطلب حقها من القاذف، كما لو أقر رجل أن زوجته أخته لحرمت عليه، ولم يثبت نسبها بقوله وحده.
وحجة أبي حنيفة والأوزاعي أيضًا أنه لما قذفها ولم يأت بأربعة شهداء لزمه حد القذف للآية، فلما حد لها استحال أن يحد في الزنا، فحكمنا لها بالإحصان، وأيضًا فإنه لا يجوز أن يجتمع حدان أبدًا، فإذا اجتمعا ثبت إلزامهما، وإنما كان عنده حد القذف ألزم من حد الزنا؛ لأنه من أقر على نفسه بالزنا ثم رجع فإنه يقبل رجوعه، ومن قذف أحدًا لم ينفعه الرجوع، وكذلك من وجب عليه حد الزنا، (والقذف)
(1)
وكان عليه القتل، فإنه يحد القذف ويقتل، ولا يحد الزنا.
حجة الشافعي: أنا قد أحطنا علماً أنه لا يجب عليه الحدان جميعًا؛ لأنه إن كان زانيًا فلا حد عليه للقذف، وإن كان قاذفًا لمحصنة فليس بزان، وهو قاذف، فحده القذف، وإنما وجب عليه حد الزنا؛ لأن من أقر على نفسه وهو مدع فيما أقر به غيره، فلذلك لم يقبل قوله عليها، ويؤخذ بإقراره على نفسه.
فصل:
العسيف: هو الأجير، كما قاله مالك
(2)
.
(1)
من (ص 1)
(2)
"الموطأ" ص 514.
قال ابن عبد البر: وقد يكون العبد ويكون السائل
(1)
.
وزاد في "المحكم" في العسيف: الأجير المستهان به. قال: وقيل: هو المملوك المستهان
(2)
، وقيل: كل خادم عسيف، والجمع عسفاء على القياس، وعسفة على غير قياس، وفي "شرح الموطأ" لعبد الملك بن حبيب السلمي: العسيف: الغلام الذي لم يبلغ الحلم.
(1)
"التمهيد" 9/ 75.
(2)
"المحكم"1/ 310
31 - باب رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَا إِذَا أَحْصَنَتْ
- 6830 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْد، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ،، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى، وَهْوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا، إِذْ رَجَعَ إِلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اليَوْمَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلَان؟ يَقُولُ: لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا، فَوَاللهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلاَّ فَلْتَةً فَتَمَّتْ.
فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنْ شَاءَ اللهُ لَقَائِمٌ العَشِيَّةَ فِي النَّاسِ، فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ، وَأَنْ لَا يَعُوهَا، وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ، فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا، فَيَعِي أَهْلُ العِلْمِ مَقَالَتَكَ، وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا. فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا وَاللهِ -إِنْ شَاءَ اللهُ- لأَقُومَنَّ بِذَلِكَ أَوَّلَ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي عَقِبِ ذِي الْحَجَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَجَّلْنَا الرَّوَاحَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، حَتَّى أَجِدَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ جَالِسًا إِلَى رُكْنِ المِنْبَرِ، فَجَلَسْتُ حَوْلَهُ تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عُمَر بْنُ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ مُقْبِلاً قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: لَيَقُولَنَّ العَشِيَّةَ: مَقَالَةً لَمْ يَقُلْهَا مُنْذُ اسْتُخْلِفَ، فَأَنْكَرَ عَلَيَّ وَقَالَ: مَا عَسَيْتَ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ قَبْلَهُ. فَجَلَسَ عُمَرُ عَلَى المِنْبَرِ، فَلَمَّا سَكَتَ الْمُؤَذِّنُونَ قَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَائِلٌ لَكُمْ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا، لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي، فَمَنْ عَقَلَهَا وَوَعَاهَا فَلْيُحَدِّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، وَمَنْ خَشِيَ أَنْ لَا يَعْقِلَهَا
فَلَا أُحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ، إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الحَبَلُ أَوْ الاعْتِرَافُ، ثُمَّ إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ فِيمَا نَقْرَأُ مِنْ كِتَابِ اللهِ أَنْ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ -أَوْ إِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ- أَلَا ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تُطْرُونِي كَمَا أُطْرِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ". ثُمَّ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَائِلاً مِنْكُمْ يَقُولُ: وَاللهِ لَوْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا. فَلَا يَغْتَرَّنَّ امْرُؤٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ فَلْتَةً وَتَمَّتْ أَلَا وَإِنَّهَا قَدْ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللهَ وَقَى شَرَّهَا، وَلَيْسَ مِنْكُمْ مَنْ تُقْطَعُ الأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ، مَنْ بَايَعَ رَجُلاً عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا حِينَ تَوَفَّى اللهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ أَنَّ الأَنْصَارَ خَالَفُونَا وَاجْتَمَعُوا بِأَسْرِهِمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَخَالَفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا، وَاجْتَمَعَ المُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الأَنْصَارِ. فَانْطَلَقْنَا نُرِيدُهُمْ، فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْهُمْ لَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَانِ صَالِحَانِ، فَذَكَرَا مَا تَمَالَى عَلَيْهِ الْقَوْمُ فَقَالَا: أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقُلْنَا: نُرِيدُ إِخْوَانَنَا هَؤُلَاءِ مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَا: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لا تَقْرَبُوهُمُ اقْضُوا أَمْرَكُمْ. فَقُلْتُ: وَاللهِ لَنَأْتِيَنَّهُمْ.
فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُمْ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِم، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. فَقُلْتُ: مَا لَهُ؟ قَالُوا: يُوعَكُ. فَلَمَّا جَلَسْنَا قَلِيلاً تَشَهَّدَ خَطِيبُهُمْ، فَأَثْنَى عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ وَكَتِيبَةُ الإِسْلَامِ وَأَنْتُمْ -مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ- رَهْطٌ، وَقَدْ دَفَّتْ دَافَّةٌ مِنْ قَوْمِكُمْ، فَإِذَا هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْتَزِلُونَا مِنْ أَصْلِنَا وَأَنْ يَحْضُنُونَا مِنَ الأَمْرِ. فَلَمَّا سَكَتَ
أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، وَكُنْتُ زَوَّرْتُ مَقَالَةً أَعْجَبَتْنِي أُرِيدُ أَنْ أُقَدِّمَهَا بَيْنَ يَدَىْ أَبِي بَكْرٍ، وَكُنْتُ أُدَارِي مِنْهُ بَعْضَ الْحَدِّ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَلَى رِسْلِكَ. فَكَرِهْتُ أَنْ أُغْضِبَهُ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ هُوَ أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ، وَاللهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي إِلاَّ قَالَ فِي بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا حَتَّى سَكَتَ، فَقَالَ: مَا ذَكَرْتُمْ فِيكُمْ مِنْ خَيْرٍ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ، وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الأَمْرُ إِلاَّ لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ نَسَبًا وَدَارًا، وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ. فَأَخَذَ بِيَدِى وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَهْوَ جَالِسٌ بَيْنَنَا، فَلَمْ أَكْرَهْ مِمَّا قَالَ غَيْرَهَا، كَانَ وَاللهِ أَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي لَا يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَأَمَّرَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ تُسَوِّلَ إِلَيَّ نَفْسِي عِنْدَ المَوْتِ شَيْئًا لَا أَجِدُهُ الآنَ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا جُذَيْلُهَا المُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا المُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ.
فَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ، حَتَّى فَرِقْتُ مِنَ الاخْتِلَافِ. فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَتْهُ الأَنْصَارُ، وَنَزَوْنَا عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: قَتَلْتُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. فَقُلْتُ: قَتَلَ اللهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. قَالَ عُمَرُ: وَإِنَّا وَاللهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلاً مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لَا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادٌ، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلاً عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُتَابَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا. [انظر: 2462 - مسلم: 1619 - فتح 12/ 144]
كأنه يريد -والله أعلم- باب: هل يجب على الحبلى رجم أم لا؟
ذكر فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ المُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ .. الحديث بطوله.
وموضع الحاجة منه: إِذَا أُحْصِنَ مِنَ النساء والرِّجَالِ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ أَوْ (كَانَ)
(1)
الحَبَلُ أَوْ الاعْتِرَافُ.
والكلام عليه من وجوه - تجمع صورًا
(2)
من العلم:
أحدها: معنى قوله: (كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ المُهَاجِرِينَ) يعني: القرآن، وهو يدل على أن العلم يأخذه الكبير عن الصغير، لأن ابن عباس لم يكن في المهاجرين؛ لصغر سنه. وأغرب الداودي فقال: يعني يقرأ عليهم ويلقنونه
(3)
. قال: وكان في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حفظ المفصل من المهاجرين والأنصار وأخذ عنهم الحديث. قال: كنت آتي باب الرجل من الأنصار فأجلس ثم أنصرف ولا أدخل؛ إجلالا للعلم ولو شئت لدخلت. لا جرم اعترضه ابن التين فقال: هذا خروج عن الظاهر بل عن النص؛ لأن قوله: (أُقْرِئُ رِجَالًا): أعلمهم وأقرئهم القرآن.
ووقع في كلام بعض الشراح أن في "الغرائب" للدارقطني: هو عبد الرحمن بن عوف. وهذا قصده، فهو في البخاري كما أسلفناه.
وقال الكوفيون: تُرْجَمُ بعد الوضع على ما رواه عمران بن حصين: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أنها زنت، فأمر بها أن تقعد حتى تضعه، فلما وضعته أمر برجمها وصلى عليها، وقيل: إن رأى الإمام أن يسترضع له فعل، وإن رأى أن يؤخرها فعل.
واختلفوا في المرأة توجد حاملًا لا زوج لها، فقال مالك: إن قالت: اسْتُكْرِهتُ أو تزوجتُ، لا يقبل منها، ويقام عليها الحد إلا أن
(1)
من (ص 1).
(2)
في (ص 1): ضروبًا.
(3)
عَلَّم عليها في الأصل ثم كتب في الهامش: بيان: ويلقنوه.
تقيم بينة على ما ادعته من ذلك أو تجيء تدمي أو استغاثت أو استعانت حتى أتت وهي على ذلك.
وقال ابن القاسم: إن كانت غريبة طارئة فلا حَدَّ عليها. وقال ابن التين: مذهب مالك أنها تحد. وقال محمد: لا يجب حد الزنا إلا بالإقرار، ولا رجوع بعده حتى تحد، أو بشهادة أربعة على الرؤية، وبظهور حمل بامرأة غير طارئة لا يعلم لها نكاح ولا ملك، هذا قول مالك وأصحابه، وكلام محمد معارض في الحضر، وحقه زيادة: ولا إكراه ولا خطأ. وقال الكوفيون والشافعي: لا حد عليها إلا أن تقر بالزنا، أوتقوم عليها بينة، ولم يفرقوا بين طارئة وغيرها، واحتجوا بحديث:"ادرءوا الحدود بالشبهات"
(1)
.
وحجة مالك قول (عمر)
(2)
رضي الله عنه في الحديث: (الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن، إذا قامت البينة .. ) إلى آخره. فسوَّى بين البينة والإقرار، وبين وجود الحبل، في أن ذلك كله موجب للرجم.
وقد روي مثل هذا القول عن عثمان وعلي وابن عباس، ولا مخالف لهم في الصحابة.
وروي عن عمر أيضًا في امرأة ظهر بها حمل، فقالت: كنت نائمة فما أيقظني إلا الرجل وقد ركبني. فأمر أن ترفع إليه في الموسم وناس من قومها، فسألهم عنها فأثنوا عليها خيرًا، فلم يرى عليها حدًّا وكساها، وأوصى بها أهلها، وقال به بعض متأخري المالكية.
(1)
رواه الترمذي (1424) من حديث عائشة مرفوعًا بلفظ: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم". والحديث بلفظه، قال عنه ابن حجر في "الدراية" 2/ 101: لم أجده مرفوعًا، وانظر "تلخيص الحبير" 4/ 56.
(2)
من (ص 1).
(ثالثها)
(1)
: قول القائل: (لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا)
(2)
- يعني رجلاً من الأنصار؛ لأنه لم ير الخلافة في قريش مكتوبة في القرآن، فعرفه عمر أن ثبوت ذلك بالسنة.
وفيه: أن رفع مثل الخبر إلى السلطان واجب؛ لما يخاف من الفتنة على المسلمين، ألا ترى إنكار عمر رضي الله عنه تلك المقالة، وقال: لم نعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش. والمعروف: هو الشيء الذي لا يجوز خلافه، وهذا يدل أنه لم يختلف في ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو اختلف فيه لعلم الخلاف فيه.
والمعروف: ما عرفه أهل العلم وإن جهله كثير من غيرهم، كما أن المنكر: ما أنكره أهل العلم. والدليل على أن الخلافة في قريش أحاديث كثيرة، منها قوله عليه السلام:"الأئمة من قريش"
(3)
.
ومنها أنه عليه السلام أوصى بالأنصار من وَلِيَ من أمر المسلمين أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، فأخبر أنهم مستوصى بهم محتاجون أن يقبل إحسانهم ويتجاوز عن مسيئهم.
(1)
كذا في الأصل، والصواب: ثانيها.
(2)
في هامش الأصل: فلان هو: طلحة بن عبيد الله. كذا قاله ابن بشكوال والخطيب، وقد عزى التصريح به إلى "فوائد البغوي عن علي بن الجعد". والله أعلم.
(3)
رواه أحمد 3/ 129، والنسائي في "الكبرى" 3/ 467 (5942) وغيرهما من حديث أنس، وقد صححه العراقي في "المغني عن حمل الأسفار"(3734) والحافظ في "الفتح" 13/ 114، و"تلخيص الحبير" 4/ 42 (1730)، وكذا الألباني في "الإرواء"(520).
قلت: وفي الباب عن علي وأبي برزة الأسلمي وغيرهما كثير؛ هذا ومن اللطيف في هذا الأمر أن طرقه جمعها الحافظ ابن حجر في جزء مفرد عن نحو من أربعين صحابيًّا، وسماه "لذة العيش بطرق الأئمة من قريش" انظر:"الفتح" 6/ 530.
وفيه: دليل واضح أنهم ليس لهم في الخلافة حق، ولذلك قال عمر: إني لقائم العشية فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم، فالغصب لا يكون إلا أخذ ما لا يجب، وإخراج الأمر عن قريش هو الغصب.
رابعها: في قول ابن (عوف)
(1)
لعمر حين أراد أن يقوم في الموسم دليل على جواز الاعتراض على السلطان في الرأي إذا خشي من ذلك الفتنة واختلاف الكلمة.
خامسها: قول ابن عوف: (يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم). الرعاع -بفتح الراء-: الشباب الأوغاد، ذكره في "الصحاح"
(2)
واحدها: رعاعة، والغوغاء -ممدود-: سفلة الناس وأخلاطهم، وأصله الجراد حين يخف للطيران، ثم استعير للسفلة من الناس والمسرعين إلى الشر، ويجوز أن تكون الغوغاء: الصوت والجلبة؛ لكثرة لغطهم وصياحهم. وفي حديث علي: وسائر الناس همج رعاع
(3)
. والهمج: رذالة الناس، وذباب صغير يسقط على وجوه الغنم والحمير، وقيل: هو البعوض. فشبه به رعاع الناس، يقال: هم همج هامج. على التأكيد.
وقوله قبله: (يريدون أن يغصبوهم على أمرهم) الغصب: أخذ ما لا يجب. وإخراج الأمر عن قريش غصب.
(1)
من (ص 1).
(2)
"الصحاح" 3/ 1220.
(3)
رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" 6/ 379، والمزي في "تهذيب الكمال" 24/ 220 (49896) كلاهما عن كميل بن زياد أنه قال: أخذ بيدي أمير المؤمنين على .. به مطولًا.
وروي -كما قال ابن التين- بالعين المهملة والصاد، قال: ولعله من قولهم فلان أعصب. أي: لا ناصر له. والمعصوب: الضعيف. ومن قولهم: عصبت الشاة إذا انكسر أحد قرنيها وأعصبتها أنا. وقيل: هي التي انكسر قرنها الداخل، وهو المشاش.
وقال الداودي: معناه: يغصبونهم أمرهم، يعني: من غير مشورة، وإنما كان الأمر مستقيمًا كلما مات خليفة اختاروا منهم، فلما صار الأمر إلى السلف عاد ملكًا.
وقوله: (يغلبون على قربك) أي: على القرب منك عند الاجتماع والمزاحمة، وروي بالنون، أي: مثلك. وذكره ابن التين أولاً: على قربك، وفسره بما سلف، ثم قال: وروي بالنون، وروي بالباء.
خامسها
(1)
: قال ابن عوف: (وأن لا يعوها ولا يضعوها على مواضعها)، يدل أنه لا يجب أن يوضع دقيق العلم إلا عند أهل الفهم له والمعرفة بمواضعه دون العوام والجهلة.
وقوله: (يطيرونها عند كل مطير) أي: تتأول على غير وجهها.
وفيه: دليل أنه لا يجب أن يحدث بحديث يسبق منه إلى الجهال الإنكار لمعناه، لما يخشى من افتراق الكلمة في تأويله.
سادسها: قوله: (فأمهل حتى تقدم المدينة .. ) إلى آخره. فيه: دليل على أن أهل المدينة مخصوصون بالعلم والفهم، ألا ترى اتفاق عمر مع عبد الرحمن على ذلك ورجوعه إلى رأيه.
وفيه: الحض على المسارعة إلى استماع العلم، وأن الفضل في القرب من العالم.
(1)
هكذا مكررة في الأصل.
سابعها: قوله: لسعيد بن زيد (ليقولن العشية مقالة لم يقلها) أراد به أن ينبهه ليحضر فهمه لذلك، وأما إنكار سعيد عليه فلعلمه باستقرار الأمور من السنن والفرائض عندهم.
وقوله: (فمن عقلها ووعاها فليحدث بها) يعني: على حسب ما وعى وعقل.
وفيه: الحض لأهل الفهم والضبط للعلم على تبليغه ونشره، وفي قوله:(ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب عليَّ) النهي لأهل التقصير والجهل عن الحديث بما لا يعلمونه، ولا ضبطوه.
وقوله قبل ذلك: (فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة). يقال: جاء في عقب الشهر، وعلى عقبه. بفتح العين وكسر الباء إذا جاء وقد بقي منه بقية، ويقال: جاء في عقب الشهر، وفي عقبه .. بضم العين وإسكان القاف إذا جاء بعد تمامه.
وقوله بعده: (فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس).
فيه: دلالة لمن قال: إن الساعات المذكورة في قوله: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب
…
"
(1)
كذا إلى آخره. أن ذلك في الساعة السابعة، وهو وجه عندنا وقول مالك، والأصح عندنا: إنها من أول النهار، وبه قال ابن حبيب منهم.
وقوله لسعيد بن زيد: (ليقولن العشية مقالة). أراد أن ينبهه ليحضر فهمه على ما يقوله: لعلمه باستقرار الأمور من الفرائض والسنن.
وفيه: دليل أن (عشية): من الرواح إلى الليل.
(1)
سلف برقم (881).
وقوله: (لعلها بين يدي أجلي) قال الداودي: يريد عند أجلي، وكان كذلك، ومات في ذلك الشهر وكان رأى رؤيا أن ديكًا نقره في بطنه ثلاث نقرات، فقيل له: علج يطعنك. وقال كعب: والله لا ينسلخ ذو الحجة حتى يدخل الجنة.
ثامنها: إدخاله في هذا الحديث آية الرجم، وأنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرئت وعمل بها، ثم قوله:(لا ترغبوا عن آبائكم). أنه كان أيضًا من القرآن ورفع خطه وبقي (حكمه)
(1)
، فمعنى ذلك أنه لا يجب لأحد أن يتنطع فيما لا نص له فيه من القرآن، وفيما لا يعلم من سنته، ويقرر برأيه، فيقول ما لا يحل له بما سولت له نفسه الأمارة بالسوء، وبما نزغ به الشيطان في قلبه حتى يسأل أهل العلم بالكتاب والسنة (عنه كما)
(2)
تنطع الذي قد قال: لو قد مات عمر لبايعت فلانًا. لما لم يجد الخلافة في قريش مرسومة في الكتاب، فعرفه عمر أن الفرائض والقرآن منه ما ثبت حكمه عند أهل العلم به ورفع خطه، فلذلك قدم عمر هاتين القضيتين اللتين لا نص لهما في القرآن، وقد كانتا فيه، ولا يعلم ثبات حكمهما إلا أهل العلم، كما لا يعرف أهل بيت الخلافة (ولمن)
(3)
تجب إلا من عرف مثل هذا الذي يجهله كثير من الناس.
تاسعها: في قول عمر رضي الله عنه: (أخشى إن طال بالناس زمان) دلالة على دروس العلم مع مرور الزمان، ووجود الجاهلين السبيل إلى التأويل بغير علم فيضلوا (ويضلوا)
(4)
كما قال عليه السلام.
(1)
ليست في الأصل، والمثبت من الهامش حيث قال: ولعله سقط: حكمه.
(2)
في الأصل: (عندما)، والمثبت من ابن بطال 8/ 459.
(3)
في الأصل: (ولم)، والمثبت من المصدر السابق.
(4)
من (ص 1).
ومعنى (كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم). أي: (كفر)
(1)
حق ونعمة. قوله: ("لا تطروني كما أُطري عيسى بن مريم") أي: لا تمدحوني مدح النصارى عيسى، جعله بعضهم إلهًا مع الله، وجعله بعضهم ولده، ولذلك قال:"وقولوا: عبد الله ورسوله" عرفهم ما خشي عليهم جهله والغلو فيه كما صنعته النصارى في قولهم في عيسى أنه ابن الله، تعالى الله عن ذلك.
عاشرها: قوله: (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة). وقول عمر (أنها كانت -كذلك- فلتة). قال أبو عبيد: معنى: الفلتة: الفجأة؛ وإنما كانت كذلك لأنها لم ينتظر بها العوام، وإنما ابتدرها أكابر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين وعامة الأنصار إلا تلك الطيرة التي كانت من بعضهم، ثم أصغوا له كافتهم لمعرفتهم أنه ليس لأبي بكر منازع ولا شريك في الفضل، ولم يكن يحتاج في أمره إلى نظر ولا مشاورة، فلذلك كانت فلتة وقى الله بها الإسلام وأهله شرها.
وقال الداودي: كانت فجأة من غير مشورة ((
…
)
(2)
من غير مشورة)
(3)
.
وقال الكرابيسي في قولهم: كانت فلتة؛ لأنهم تفلتوا في ذهابهم إلى الأنصار وبايعوا الصديق بحضرتهم وفيهم من لا يعرف ما يجب عليه،
(1)
من (ص 1).
(2)
كلمة غير واضحة بالأصل، وليتابع التعليق التالي.
(3)
كذا في الأصل؟! والعبارة تبدو وكأنها مضطربة؛ يوضح ذلك أن الحافظ ساق في "الفتح" 12/ 150 قول الداودي هذا فقال: قال الداودي: معنى قوله: (كانت فلتة) أنها وقعت من غير مشورة مع جميع من كان ينبغي أن يشاور. اهـ. ثم ساق إنكار الكرابيسي كصنيع المصنف هنا.
قلت: وقد ساق غيرُ الحافظ قولَ الداودي بنفس مضمون الحافظ.
فقال قائل منهم: منا أمير ومنكم أمير. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الخلافة في قريش"
(1)
، فإما بايعناهم على ما لا يجوز لنا، وإما قاتلناهم على ذلك، فهي الفلتة.
ألا ترى قول عمر- رضي الله عنه: (والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من بيعة أبي بكر، ولأن أقدم فتضرب عنقي أحب إليَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر)، فهذا يبين أن قول عمر:(كانت فلتة). لم يرد مبايعة أبي بكر، وإنما أراد ما وصفه من خلافة الأنصار عليهم وما كان من أمر سعد بن عبادة وقومه.
وقول عمر رضي الله عنه: (قتل الله سعدًا) ولو علموا
(2)
في أبي بكر شبهة وأن بين الخاصة والعامة فيه اختلافًا لما استجازوا الحكم عليهم بعقد البيعة، ولو استجازوه ما أجازه الآخرون إلا لمعرفة منهم به متقدمة، ويدل على ذلك ما رواه النسائي من حديث سالم بن عبيد -وذكر موته عليه السلام قال: خرج أبو بكر فاجتمع المهاجرون يتشاورون بينهم، ثم قال: انطلقوا إلى إخواننا الأنصار، فقالت: منا أمير ومنكم أمير. فقال عمر- رضي الله عنه: سيفان في غمد إذًا لا يصطلحان. ثم أخذ بيد أبي بكر فقال: من له هذِه الثلاث: {إِذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} من صاحبه؟ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] من هما؟ ثم بايعه الناس أحسن بيعة وأكملها
(3)
.
فدل هذا الحديث أن القوم لم يبايعوه إلا بعد التشاور والتناظر واتفاق
(1)
رواه أحمد 4/ 185 من حديث عتبة بن عبد، وله شاهد من حديث أبي هريرة سلف برقم (3495)، ورواه مسلم (1818).
(2)
كذا بالأصل، وهذا القول قول أبي عبيد كما أفاده ابن بطال 8/ 461 حيث قال: قال أبو عبيد: ولو علموا أن في أمر أبي بكر
…
(3)
"السنن الكبرى" 5/ 37 (8109)، والثالثة:{إِنَّ اللهَ مَعَنَا} مع مَن؟.
الملأ منهم الذين هم أهل الحل والعقد على الرضا بإمامته والتقديم بحقه.
ولقولهم: (كانت فلتة). تفسير آخر: قال ثعلب وابن الأعرابي: الفلتة عند العرب آخر ليلة في الأشهر الحرم يشك فيها، فيقول قوم هي من شعبان، ويقول قوم: هي من رجب.
(فصل)
(1)
:
وبيان هذا أن العرب كانوا يعظمون الأشهر الحرم ولا يقاتلون فيها، ويرى الرجل قاتل أبيه فلا يمسه، فإذا كان آخر ليلة منها ربما شك قوم، فقالوا: هي من الحل.
وقال بعضهم: من الرحم، فيبادر الموتور في تلك الليلة فينتهز الفرصة في إدارك ثأره غير معلوم أن ينصرم الشهر الحرام على عن يقين، فيكره تلك الليلة سفك الدماء وشن الغارات، فشبه عمر- رضي الله عنه أيام حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان الناس في عهده عليه من اجتماع الكلمة برسول الله" صلى الله عليه وسلم (وشمول)
(2)
الألفة ووقوع الأمنة في الشهر الحرام الذي لا قتال فيه ولا نزاع، وكأن موته شبيهة القصة بالفلتة التي هي خروج من (الحرام)
(3)
؛ لما نجم عند ذلك من الخلاف وظهر من الفساد، وما كان من أهل الردة، ومنع العرب الزكاة، وتخلف من تخلف من الأنصار جريًا منهم على عادة العرب أن لا يسود القبيلة إلا رجل منها، فوقى الله شرها بتلك البيعة المباركة التي كانت جماعًا للخير ونظامًا للألفة،
(1)
من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
(3)
كذا في الأصل، مولعل الصواب:(الحرم) كما عند ابن بطال 8/ 462.
وقد روينا في هذا المعنى عن سالم بن عبد الله، رواه سيف في كتاب البيوع عن مبشر، عنه قال: قال عمر: كانت إمرة أبي بكر فلتة وقى الله شرها. قلت: ما الفلتة؟ قال: كان أهل الجاهلية يتحاجزون في الحرم فإذا كانت الليلة التي يشك فيها أدغلوا فأغاروا، وكذلك كانوا يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أدغل الناس من بين مدع إمارة أو جاحد زكاة، فلولا اعتراض الصديق دونها لكانت الفضيحة، ذكره الخطابي كما نقله ابن بطال
(1)
.
قال ابن التين: ولم أره، والذي رأيت له أنه قال: كانت فجأة من غير مشورة أحد. وقال صاحب "المنتهي" في اللغة: الفلتة: آخر يوم من كل شهر، وربما سمي آخر يوم من الشهر الحرام فلتة واستشهد لكل منهما. وفي "المحكم" الفلتة: الأمر يقع من غير إحكام، وافتلت عليه: قضي الأمر دونه، وأفلت الشيء: أخذته بسرعة
(2)
. وقال الهروي والجوهري: الفلتة: الفجأة إذا لم تكن عن تدبر ولا تردد
(3)
. زاد الهروي: وإذا عوجلت خشية انتشار الأمر
(4)
. والفلتة بفتح الفاء في اللغة وكذا رويناه. قال ابن التين: وروي بالضم.
الحادي عشر: إن قلت: فما معنى قول أبي بكر: وليتكم ولست بخيركم؟ قلت: هذا من جملة فضله أن لا يرى لنفسه فضلا على غيره، وهذِه صفة الخائفين لله تعالى الذين لا يعجبون بعمل ولا يستكثرون له مهج أنفسهم وأموالهم. قال الحسن ابن أبي الحسن: والله ما خلق الله
(1)
"غريب الحديث للخطابي 2/ 127، "شرح ابن بطال" 8/ 461 - 462.
(2)
"المحكم" 10/ 184.
(3)
"الصحاح" 1/ 260.
(4)
انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 467.
بعد النبيين أفضل من أبي بكر. قالوا: ولا مؤمن آل فرعون؟ قال: ولا مؤمن آَل فرعون. وروى الزهري عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بويع أبو بكر: إن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار أبو بكر فبايعوه بيعة العامة.
الثاني عشر: قوله: (قد خالف عنا علي والزبير) وليس ذلك بخلاف في الرأي والمذهب، وإنما هو في الاجتماع والحضور. وقيل: كانوا لجئوا إلى بيت فاطمة ليتشاور الناس، فخشي الصديق والفاروق إن لم يبادروا بالبيعة أن يبايع الأنصار أحدهم فتكون فلتة.
وقوله: (واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر) قال الداودي: ما أرى هذِه اللفظة تثبت؛ لأن أكثر الروايات المستفيضة رواها مالك وغيره أن أبا بكر وعمر كانا في بيت عائشة، فأتى رجل من الأنصار فقال: ليخرج إليَّ عمر. قيل له: هو مشغول. قال: لا بد أن يخرج، إنه قد حدث أمر، فخرج إليه فقال: إن الأنصار اجتمعوا ليؤمروا أحدهم، فأدركوا الأمر. فقال عمر لأبي بكر: اعزم، فخرجا فلقيا أبا عبيدة فسارا فكان أبو بكر بينهما، فلقيهما رجلان من الأنصار عويم بن ساعدة ومعن بن عدي فقالا: أين تريدون؟ فقالوا: إخواننا الأنصار بلغنا ما استقلوا به، فقالا: امضوا لأمركم. فقالوا: لا بد أن نأتيهم. وفي إشارة عمر على الصديق أن يأتي الأنصار دليل على أنه إذا خشي من قوم فتنة أن لا يجيبوا إلى الإقبال إلى من فوقهم أن ينهض إليهم من فوقهم، ويبين لجماعتهم الحق قبل أن يحكم بذلك الرأي ويقضي به، ألا ترى إلى إجابة أبي بكر إلى ذلك وهو الإمام.
الثالث عشر: قول الرجلين من الأنصار: (لا عليكم ألا تقربوهم اقضوا أمركم).
فيه: دلالة أن الأنصار لم تطبق على دعواها في الخلافة، وإنما ادعى ذلك الأقل، وهذان معن بن عدي بن الجد بن العجلان أخو عاصم، وعويم بن ساعدة.
وقول الأنصار: (نحن كتيبة
(1)
الله) لا ينكر ذلك من فضلهم كما قال الصديق: (ولكن لا يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) أي: لا يخرج هذا الأمر عنهم.
وقوله (أوسط العرب نسبًا) أي: أعدل وأفضل، منه قوله تعالى:{أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: عدلاً.
الرابع عشر: قول الصديق: (قد رضيت لكم أحد الرجلين) هو من طريق الأدب خشي أن يزكي نفسه بعد ذلك عليه.
وقوله: (أحد) يدل أنه لا يكون للمسلمين أكثر من إمام واحد، وقد صح
(2)
عليه السلام قال: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخِرَ منهما"
(3)
يعني: اخلعوه واجعلوه كمن قتل ومات بأن لا تقبلوا له قولًا ولا تقيموا له دعوة حتى يكون في أعداد من قتل وبطل.
وفيه: جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا كان من أهل الغناء والكفاية، وقد قدم الشارع أسامة على جيش فيهم أبو بكر
(4)
وعمر.
(1)
كذا بالأصل وفوقها (كذا)، وكتب بالهامش ما نصه: لفظ أصله: نحن كتيبة الله. ولفظ الصحيح: نحن أنصار الله وكتيبة الإسلام. وكأنه سقط من الكاتب.
(2)
ورد بهامش الأصل: هو في مسلم من طرق.
(3)
رواه مسلم (1853) من حديث أبي سعيد.
(4)
ورد بهامش الأصل: أنكر ابن تيمية أن يكون في الرد على ابن المطهر الرافضي أن يكون الصديق فيهم.
وقول عمر: (لم أكره من مقالته غيرها). يعني: إشارته بالخلافة إلى عمر لما ذكر أن يقوم لضرب عنقه أحب إليه من التأمير والتقدم للخلافة بحضرته.
وقوله: (إلا أن تسول لي نفسي) محافظة لما حلف عليه ولمعرفته بالله من تقليب القلوب فأخذ في هذا بأبلغ العذر.
الخامس عشر: قول الحباب بن المنذر: (أنا جُذَيْلُهَا المحكك وغُذَيْقُهَا المرجب).
قال الأصمعي فيما حكاه أبو عبيد: الجذيل: تصغير جذل، (وأجذل)
(1)
بفتح الجيم وكسرها
(2)
، وهو أصل الشجر كما قاله القزاز، أو أصول الحطب العظام كما قاله الجوهري
(3)
، وهو هنا عود ينصب للإبل الجرباء تحتك به من الجرب، فأراد أن يستشفي به كما كانت الإبل تستشفي بالاحتكاك بذلك العود. وقال غيره: أخبر أنه شديد المعارضة غليظ الشكيمة ثبت القدر صلب الكسر، ويقال: معناه أنا دون الأنصار جذل حكاك، وكقول الرجل لصاحبه: أجذل عن القوم. أي: خاصم عنهم.
والعذيق: تصغير عِذق بكسر العين، والذي بالفتح النخلة نفسها فأينما مالت النخلة الكريمة بنوا ناحية ميلها بناء مرتفعا يدعمها؛ لكيلا تسقط، وكذا في القنو، فذلك الترجيب، ولا يرجب إلا كريم النخل. والترجيب: التعظيم، يقال: رجبت الرجل رجبا: عظمته،
(1)
من (ص 1).
(2)
"غريب الحديث" 2/ 252.
(3)
"الصحاح" 4/ 1654.
ومنه سمي رجب؛ لأنه كان يعظم، ومنه الحديث:"ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان"
(1)
، وأضاف رجبًا إلى مضر؛ لأنهم كانوا يعظمونه خلاف غيرهم كأنهم اختصوا، ومنه سمي رجب وقد يكون ترجيبها بأن يجعل حولها شوك؛ لئلا يترقى إليها، ومن الترجيب أن يعمد بخشبة ذات شعبتين، والرجبية من النخل فنسبوه إليها.
قال الشاعر:
فليست بسنهاء ولارجبية
…
ولكن عرايًا في السنين الجوائح
بسنهاء وزنه مفاعيل لكنه مكفوف، وكأنه أراد به مشرف معظم في قومه
(2)
ويدفع الجماعة به، وإنما صغرهما فقال: عُذيق وجُذَيل على وجه المدح، وإنما وصفهما بالكرم.
السادس عشر: وقول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما: أبسط يدك لأبايعك، وإجابة أبي بكر له بعد أن قال:(قد رضيت لكم أحد هذين)، دليل على أنه لم يحل له أن يتخلف عما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل من الصلاة، وهي عمدة الإسلام، وقوله للمرأة:"إن لم تجديني فأتي أبا بكر"
(3)
.
فإن قلت: كيف جاز له أن يجعل الأمر في أحدهما وقد علم بالدليل الواضح استخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم له؟
(1)
سلف برقم (4406) من حديث أبي بكرة.
(2)
في (ص 1): قوله.
(3)
سلف برقم (3659) كتاب فضائل الصحابة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذًا خليلاً". ولمسلم برقم (2386) كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق.
قيل: ليس في قوله ذلك تخلية له من الأمر إذ كان الرضا موقوفًا عليه والاختيار إليه، وليس ذلك بمخرجه أن يرى نفسه أهلًا لها، (وإنما تأدب إذ لم يقل: رضيت لكم نفسي، فلم يجز أحدهما أن يرى نفسه أهلًا لها)
(1)
في زمن فيه أبو بكر، وقد روي أن عمر قال لهم: أيكم تطيب نفسه أن يؤخر أبا بكر عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت الأنصار بأجمعهم: لا. ولذلك قال عمر: (إنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمرنا أقوى من مبايعة أبي بكر) يعني: في قطع الخلاف
وبرضي الجماعة به وإقرارهم بفضله.
السابع عشر: قوله: (ونزونا على سعد بن عبادة) أي: درسناه دروسًا عليه في متابعته إلى البيعة، والنزوان: الدنو.
الثامن عشر: فيه: الدعاء على من يخشى منه الفتنة. وقال الخطابي: (معنى)
(2)
قوله: (قتل الله سعدًا). أي: اجعلوه كمن قتل واحسبوه في عداد الأموات ولا تعتدوا لمشهده، وذلك أن سعدًا أراد في ذلك المقام أن يبعث أميرًا على قومه على مذهب العرب في الجاهلية أن لا يسود القبيلة إلا رجل منها، وكان حكم الإسلام خلاف ذلك، فرأى عمر إبطاله بما غلظ من القول وأشنعه، وكل شيء أبطلت فعله وسلبت قوته فقد قتلته وأمته، وكذلك: قتلت الشراب: إذا مزجته لتكسر شدته.
التاسع عشر: قوله: (وليس فيكم من تقطع الأعناق له مثل أبي بكر).
يريد أن السابق منكم لا يلحق شأوه في الفضل ولا يكون أحد مثله؛ لأنه أسبق من السابقين، فلذلك مضت بيعته على كل حال فجأة، ووقى
(1)
من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
الله شرها، فلا يطمع أحد بعده في مثل ذلك، ولا يبايع إلا على مشورة واتفاق كلمة. ويقال للفرس الجواد: تقطعت أعناق الخيل إليه فلم تلحقه.
وقوله: (على غير مشورة) هي بضم الشين
(1)
.
العشرون: قوله: (تغرة أن يقتلا). (تغرة)
(2)
مصدر غررته: إذا لقيته في الغرر، وهي من التغرير كالتعلة من التعليل، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره: خوف تغرة أن يقتلا. أي: خوف وقوعهما في القتل، فحذف المضاف الذي هو الخوف وأقام المضاف إليه الذي هو (تغرة) مقامه، وانتصب على أنه مفعول له، ويجوز أن يكون قوله:(أن يقتلا) معناه: خوف تغرة قتلهما.
قال أبو عبيد: التغرة: التغرير، غررت بالقوم تغريرًا وتغرة. وكذلك يقال في المضاعف خاصة كقولك: حللت اليمين تحليلًا وتحلة. قال الخطابي: وسئل سعد بن إبراهيم عن تفسير التغرة فقال: عقوبتهما ألا يؤمَّر واحد منهما، وإنما أراد عمر- رضي الله عنه -أن ينعتهما تغريرًا بأنفسهما بالقتل وتعريضًا له، فنهاهما عنه، وأمر ألا يؤمر واحد؛ لئلا يطمع في ذلك فيفعل به هذا الفعل
(3)
.
الحادي بعد العشرين: الدافة: القوم يسيرون جماعة سير ليس بالشديد لضعفهم وحاجتهم، يقال: هم يدفون دفيفًا. وقال أبو عمرو: بدال مهملة.
(1)
ورد بهامش الأصل: ويجوز إسكانها وفتح الواو.
(2)
من (ص 1).
(3)
انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد 2/ 86، "غريب الحديث" للخطابي 2/ 123.
وقوله: (فإذا رجل مزمل). أي: مغطي ومدثر.
وقوله: (متوعك). أي: ضعيف بالحمي
وقوله: (يختزلونا من أصلنا). أي: يقطعونا ويذهبوا بنا متفرقين. وفي حديث آخر: أرادوا أن يختزلوه دوننا. أي ينفردون به.
وقوله: (وأن يحضنونا من الأمر). أي يخرجوننا، يقال حضنت الرجل من الشيء وأحضنته: أخرجته منه.
وقوله: (وكنت زورت مقالة) هو إصلاح الكلام وتهيئه، كما قال الأصمعي.
وقال أبو زيد: المزور من الكلام والمزوق واحد، وهو المحسن المصلح، وكذلك الخط إذا قومته.
وقوله: (فلا يبايع هو) بالياء، وروي يتابع. والمراد ما سلف من قوله:(أنتم رهط دفت دافة من قومكم). يريد: إنكم قوم غرباء طراة أقبلتم من مكة إلينا وأنتم نفر يسير بمنزلة الرهط ما بين الثلاثة إلى العشرة.
وقول عمر: (كنت أداري بعض الحد). يعني: الحدة. هو بالحاء المهملة.
وقوله: (ابسط يدك يا أبا بكر). فأجابه لذلك بعد قوله: (رضيت لكم أحد هذين الرجلين). دليل على أنه لم يحل له أن يتخلف عما قدمه إليه الشارع.
32 - باب البِكْرَانِ يُجْلَدَانِ وَيُنْفَيَانِ
وقوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ} الآيات [النور: 2 - 3] قَالَ ابن عُيَيْنَةَ: رَأْفَةٌ في إِقَامَةِ الحد.
6831 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيل، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ. [انظر: 2314 - مسلم: 1698 - فتح 12/ 156]
6832 -
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةَ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَرَّبَ، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ تِلْكَ السُّنَّةَ. [فتح 12/ 156]
6833 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَن سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِنَفْىِ عَامٍ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ. [انظر: 2315 - مسلم: 1697 - فتح 12/ 156]
ثم ساق حديث زيدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةَ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب رضي الله عنه غَرَّبَ، ثُمَّ لَمٌ تَزَلْ تِلْكَ السُّنَّةَ.
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِنَفْيِ عَامٍ وبِإِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْه.
الشرح:
تفسير ابن عيينة رويناه في "تفسيره"، وأخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع، عنه، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بزيادة: يقطع
ولا يعطل
(1)
. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه اختصره هنا، وسيأتي على الإثر مطولا، وكذا حديث زيد بن خالد، وهذِه الآية وهي {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} ناسخة لقوله {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية [النساء: 15] ولقوله {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] فكل من زنا منهما أوذي إلى الموت. قال مجاهد: بالسب، ثم نسخ ذلك بهذِه الآية
(2)
.
قال النحاس: ولا اختلاف في ذلك بين المفسرين، ثم اختلفوا هل هذِه الآية خاصة في الأبكار أو عامة في كل شيء وتضرب الثيب ثم ترجم
(3)
؟
وقد سلف عن ابن عيينة وغيره: الرأفة: إقامة الحدود، يريد: لا يرتفق بهم فيعطوا إقامة الحدود الواجبة، وقد أسلفناه عن مجاهد. وقاله عطاء أيضًا، فالمعني: لا ترحموهم فتتركوا الحد.
فصل:
والطائفة في الآية أربعة كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما. قال الزجاج: ولا يجوز أن تكون الطائفة واحدًا؛ لأن معناها معنى الجماعة، (والجماعة)
(4)
لا تكون أقل من اثنين. وقال غيره: لا يمنع ذلك علي قول أهل اللغة؛ لأن معنى طائفة قطعة، يقال: أكلت طائفة من الشاة. أي: قطعة منها. وروي عن مجاهد في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] أنهما كانا رجلين.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 530 (28730) ولفظه: يقام ولا يعطل.
(2)
"تفسير مجاهد" 1/ 149.
(3)
انظر: "الناسخ والمنسوخ" 2/ 162.
(4)
من (ص 1).
فصل:
قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} أصلها أنه كان في الجاهلية نساء يزنين فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فنزلت، قاله مجاهد والزهري وقتادة، وقال الحسن: الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله.
وروي عن ابن عباس: النكاح هنا: الجماع، وعنه أيضًا: لا يزني. وقيل: لا يزني مكتسب الزنا إلا بزانية حراما فيكونان زانيين، أوحلالًا فيكونان كافرين.
وعن ابن المسيب وغيره أنها منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فدخلت في الأيامى وقوله {وَحُرِّمَ ذَلِكَ على الْمُؤْمِنِينَ}
(1)
[النور: 3].
فصل:
في الحديث تغريب البكر مع الجلد، وكذا في حديث العسيف، وهو حجة على أبي حنيفة ومحمد في (إنكاره)
(2)
التغريب
(3)
، وعند مالك تُنفى البكر الحر، ولا تغرب المرأة ولا العبد
(4)
.
وقال الثوري والأوزاعي والشافعي: تغرب المرأة والرجل.
واختلف قول الشافعي في نفي العبد
(5)
. قال ابن المنذر: وهو قول الراشدين -يعني: تغريب البكر بعد جلده- روي عن الخلفاء الأربعة
(1)
انظر: "تفسير الطبري" 9/ 261 - 264.
(2)
ورد في هامش الأصل: الجادة: إنكارهما.
(3)
انظر: "الهداية" 2/ 386.
(4)
انظر"المدونة" 4/ 397، "الكافي" ص 572، "القوانين الفقهية" ص 347.
(5)
انظر: "البيان" 12/ 353 - 355، "روضة الطالبين"10/ 87، "الشرح الكبير" للرافعي 11/ 134.
وأبي بن كعب وابن عمر، وبه قال أئمة الأمصار
(1)
، وقد قيل: التغريب: بأنه التعزير، فيرجع إلى رأي الإمام فيه، إن شاء فعله. ويرد عليه قوله:"لأقضين بينكما بكتاب الله"، ثم قضى بالتغريب
(2)
.
قال ابن بطال: وأجمعوا على أن قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} في زنا الأبكار خاصة؛ لما ثبت في حد الثيب أنه الرجم. وقال عمر رضي الله عنه على رءوس الناس كافة: الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن ولم يكن في الصحابة مخالف، فكان إجماعًا. وحجة أبي حنيفة ظاهر القرآن فإنه لا نفي فيه، وقد سلف الرد عليه، فلا معنى لقوله بخلافه السنة الثابتة، ألا ترى أنه أقسم في حديث العسيف:"لأقضين بينكما بكتاب الله"؟! فقضى به على العسيف، فكان فعله بيانًا لكتاب الله، فهو إجماع الصحابة وعليه عامة العلماء، فسقط قول من خالفه.
فصل:
اختلف في المسافة التي يغرب إليها، فروي عن عمر أنه قال: فدك، ومثله عن ابنه، وبه قال عبد الملك، وزادوا إلى ميل الجار من المدينة، وروي عن علي من الكوفة إلى البصرة. وقال الشعبي: ينفيه من عمله إلى غيره. وقال مالك: يغرب عامًا في بلد يحبس فيه؛ لئلا يرجع إلى البلد الذي نفي منه
(3)
. وعن أحمد إلى قدر ما تقصر فيه الصلاة
(4)
.
(1)
انظر: "الشرح الكبير" 26/ 254.
(2)
سلف برقم (2695)، ورواه مسلم أيضًا (1697) من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد.
(3)
"المدونة" 4/ 398، "الاستذكار" 24/ 54.
(4)
انظر: "الكافي" 5/ 399، "المقنع" مع "الشرح الكبير" 26/ 254.
وقال أبو ثور. إلى ميل وأقل منه
(1)
. وقال ابن المنذر: يجزئ من ذلك ما يقع عليه اسم النفي قل أو كثر. لا حجة لمن جعل لذلك حدًا
(2)
.
وعندنا لا تغرب المرأة وحدها بل مع زوج أو محرم
(3)
، واحتج لمالك أنها لا تغرب خوف هتك حرمتها، وقد قال عليه السلام: (لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم"
(4)
وخروج المحرم معها فيه عقوبة لمن لم يزن
(5)
. وقال بعض متأخريهم: إن كانت العلة الولي فتسافر مع رجال ونساء كما في الحج، فإن عدم سجنت موضعها عامًا؛ لأن العقوبة التغريب والسجن، فإذا عدم أحدهما فعل الآخر، واحتج له في العبد بأنه لا وطن له حتى يعاقب بإخراجه عنه، فلا حاجة إلى تغريبه إذ حاله يستوي في كل البلاد.
فصل:
واختلفوا في مواضع الضرب والرجم، قال مالك: الحدود كلها الزنا والخمر والفرية والتعزير لا يضرب إلا في الظهر، ولا تضرب الأعضاء
(6)
. وقال أبو حنيفة: تضرب الأعضاء كلها إلا الفرج والرأس والوجه
(7)
.
(1)
انظر: "الشرح الكبير" مع "الإنصاف" 26/ 258.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 467 - 468.
(3)
انظر: "روضة الطالبين"10/ 87.
(4)
سلف برقم (1086)، ورواه مسلم (1338) من حديث ابن عمر.
(5)
انظر: "المنتقي" 7/ 137، "الذخيرة" 12/ 88، 89.
(6)
"المدونة" 4/ 398.
(7)
"بداية المبتدي" مع "الهداية" 2/ 384.
وروي عن عمر وابنه أنهما قالا: لا تضرب الرأس. وقال الشافعي: يتقى الفرج والوجه. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه
(1)
، وبه قال ابن شعبان، وأما الفرج إذا لم يحفر للمرجوم فقال الأبهري: ما قدمناه عنه لا يحفر له؛ لأن الرجم يجب أن يكون علي سائر الجسد، فإذا حفر له غاب شيء من بدنه عن الرجم. وقال الشيخ أبو الحسن في "تبصرته": لا يضرب -إذا لم يحفر له- رجليه ولا ساقيه ولا بدنه؛ لأن ذلك تعذيب وليس بتمثيل. واستحسن قول مالك أنه يجلد في الظهر؛ لقوله عليه السلام: "البينة وإلا حد في ظهرك"
(2)
.
(1)
"مختصر المزني" ص 355.
(2)
سلف برقم (2671) من حديث ابن عباس.
33 - باب نَفْيِ أَهْلِ المَعَاصِي وَالْمُخَنَّثِينَ
6834 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ:«أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» . وَأَخْرَجَ فُلَانًا، وَأَخْرَجَ [عُمَرُ] فُلَانًا [انظر: 5885 - فتح 12/ 159]
ذكر فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما: لَعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ:"أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ". وَأَخْرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم فُلَانًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ فُلَانًا.
وقد سلف في اللباس، وذكر هنا؛ لنعرفك أن التغريب واجب على الزاني؛ لأنه عليه السلام لما نفى من أتى من المعاصي ما لا حد فيه، فنفي من أتى ما فيه الحد أوجب في النظر، لو لم يكن في نفي الزاني سنة ثابتة لتبين خطأ أبي حنيفة في القياس، وذكر في الإشخاص والملازمة، والأحكام في مثل هذِه الترجمة حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة معه
(1)
.
ولعنة الشارع ما ذكره هنا، وأمره بإخراجهم يدل على أنه ينفى كل من خشيت منه فتنة على الناس في دين أودنيا، وهذا الحديث أصل لذلك.
فصل:
المخنث بكسر النون وفتحها مأخوذ من خنثت الشيء، فتخنث، أي: عطفته فتعطف، وهو المشبه في كلامه بالنساء تكسرًا وتعطفا.
(1)
سلف برقم (2420) وسيأتي في الأحكام برقم (7224).
والمترجلات: المتشبهات بالرجال في كلامهم وهيئتهم. والمخنث إذا كان يؤتى يرجم مع الفاعل أحصنا أو لم يحصنا عند مالك. (وقال الشافعي)
(1)
: إن كان غير محصن فعليه الجلد
(2)
. وكذا عند مالك إن كانا كافرين أو عبدين. وقال أشهب في العبدين: يحدان حد الزنا خمسين خمسين، وفي الكافرين يؤدبان ويرفعان إلى أهل دينهما
(3)
، قاله ابن شعبان. زاد: ومن الناس من يرقى بالمرجوم على رأس جبل ثم يرميه منكوسا ثم يتبعه بالحجارة، وهو نوع من الرجم وفعله جائز. وقال أبو حنيفة: لا حد فيه إنما فيه التعزير. وهذا الفعل ليس عندهم بزنا، ورأيت عندهم أن محل ذلك ما إذا لم يتكرر، فإن تكرر قتل
(4)
، وحديث:"ارجموا الفاعل والمفعول به"
(5)
متكلم فيه، وإن كان لم يشترط فيه إحصانهم وليس على شرطه. وقال بعض أهل الظاهر: لا شيء على من فعل هذا الصنيع، وهو من عجيب العجاب، ولما حكاه الخطابي في "معالمه" قال: إنه أبعد الأقاويل من الصواب وأدعاها إلى إغراء الفجار به وتهوين ذلك في أعينهم، وهو قول مرغوب عنه
(6)
.
(1)
من (ص 1).
(2)
انظر: "أسنى المطالب" 4/ 129.
(3)
انظر: "الذخيرة" 12/ 65.
(4)
ورد بهامش الأصل: وكذا حكاه ابن قيم الجوزية الحافظ شمس الدين عنهم أنه إذا عرف بالتلوط فإنه يقتل تعزيرًا. وسألت أنا عنهم بعض فضلاء الحنفية فقال: نعم.
(5)
رواه أبو داود (4462)، والترمذي (1455)، وابن ماجه (2561) من حديث ابن عباس بلفظ:"من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"، وانظر تمام تخريجه في "البدر المنير" 8/ 602
(6)
"معالم السنن" 3/ 287.
(فصل)
(1)
:
قال بعض العلماء: لا ينفى إلا ثلاثة بكر ومخنث ومحارب.
فصل:
يعود على ما استنبطناه من النفي للمخنث: ذكر الهروي أن عروة قال للحجاج: يا ابن المتمنية، أراد أمه وهي فريعة بنت الهمام، وكانت تحت المغيرة بن شعبة، وهي القائلة فيما قيل:
ألا سبيل إلى خمر فأشربها .. ألا سبيل إلى نصر بن حجاج
وكان نصر رجلاً من بني سليم رائع الجمال تفتن به النساء، فمر عمر بن الخطاب بهذِه المرأة وهي تنشد هذا البيت فدعا بنصر فسيره إلى البصرة.
(1)
في (ص 1): فائدة.
34 - باب مَنْ أَمَرَ غَيْرَ الإِمَامِ بِإِقَامَةِ الحَدِّ غَائِبًا عَنْهُ
6835، 6836 - حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ جَالِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْضِ بِكِتَابِ اللهِ. فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ بِكِتَابِ اللهِ، إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَزَعَمُوا أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ. فَقَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، أَمَّا الْغَنَمُ وَالْوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا» . فَغَدَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا. [انظر: 2315، 2314 - مسلم: 1697، 1698 - فتح 12/ 160]
ذكر فيه حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف، وترجم عليه كما سيأتي باب: هل يجوز للحاكم أن يبعث واحداً يقوم مقامه في إقامتها
(1)
، وليس من باب الشهادات التي لا يجوز فيها إلا رجلان فصاعدًا.
وقوله: ("فإن اعترفت فارجمها") ظاهر في عدم تعدد الإقرار كما سلف.
وقال ابن التين: واحتج به من قال يحكم القاضي بعلمه، وهو مذهب عبد الملك وسحنون أنه يقضي بما سمع في مجلس الحكومة
(2)
، ومذهب الشافعي أنه يقضي بما علمه في كل موطن
(3)
.
(1)
سيأتي برقم (7193) كتاب الأحكام.
(2)
انظر: "الإشراف" 2/ 283، "القوانين الفقهية" ص 292.
(3)
انظر: "الأم" 6/ 216، "الوسيط" 4/ 305.
قلت: إلا في حدود الله. ومذهب مالك: لا يقضي بعلمه في شيء
(1)
، وفرق أهل العراق فقالوا: يقضي في حقوق الآدميين بما علمه بعد القضاء ولا يقضي فيما علمه قبله
(2)
، احتج المانع بقوله عليه السلام:"لو كنت راجما أحدًا بغير بينة لرجمتها"
(3)
في قصة هلال وشريك. قال: وأما قوله: "فان اعترفت فارجمها" فيحتمل أن يكون اعترافها بموضع بينة.
فصل:
وقد ترجم على هذا الحديث أيضًا قريبا باب: هل يأمر الإمام رجلاً فيضرب الحد غائبا عنه
(4)
. وقد فعله عمر، وهذا الباب والذي نحن فيه معناهما واحد ومعناها كلها أنه يجوز للإمام أن يبعث رجلاً واحدًا يقوم مقامه في إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، وأن الواحد يجوز في ذلك كما أسلفناه.
(1)
انظر: "عيون المجالس" 4/ 1535 - 1536، "الكافي" ص 500.
(2)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 332، "الإشراف" 2/ 283، "الاستذكار" 22/ 15.
(3)
سلف برقم (5310) من حديث ابن عباس.
(4)
سيأتي برقم (6859).
(بسم الله الرحمن الرحيم - الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم)
(1)
.
35 - باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلي قوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء: 25]. [فتح 12/ 161]
هكذا في أصول البخاري لم يذكر فيه حديثًا، وأما ابن بطال فأدخل فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب بعده
(2)
، ثم ذكره فيه أيضًا لكن من طريق آخر، وأباه ابن التين فذكره كما ذكرناه.
والطَّوْل في اللغة: الفضل ومنه: تطول الله علينا.
والمحصنات: العفيفات أو الحرائر قولان. وقوله: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} المراد السراري. وقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فيه قولان: أحدهما: إنكم مؤمنون وأنتم إخوة. والثاني: إنكم (سواء)
(3)
، وإنما قيل لهم هذا (فيما روي)
(4)
لأنهم كانوا في الجاهلية يعيرون بالهجينة ويسمون ابن الأمة هجينا، فقال تعالى:{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} والمسافحات: الزانيات والأخدان: الصدقاء.
(1)
من (ص 1).
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 470.
(3)
في (ص 1): بنو آدم.
(4)
من (ص 1).
وقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قرئ بضم الهمزة أي زوجن وبفتحها، وفيه قولان: أحدهما: أسلمن، وهو قول ابن مسعود وعلي وابن عمر وأنس والنخعي، وذكر عن عمر والشعبي، وبه قال مالك والليث والأوزاعي والكوفيون والشافعي فيما حكاه ابن بطال
(1)
وغيره، وسواء كانت عندهم متزوجة أم لا (أنها لا تحد)
(2)
إذا زنت. قال بعض الناس: إن أحصنا رجما كالأحرار. وقال داود: يجلد العبد مائة والأمة خمسين نصف جلد الحرة؛ لأنه لا يقول بالقياس.
ثانيهما: التزويج، وهو قول ابن عباس وطاوس وقتادة، وبه قال أبو عبيد، فإذا زنت ولا زوج لها أدبت، ولا حد عليها. وقال الزهري: تحد إذا زنت وهي متزوجة بالكتاب، وتحد إذا لم تتزوج بالسنة، والاختيار عند أهل النظر {أُحْصِنَّ} بالضم، لأنه قد سلف ذكر إسلامهن في قوله {الْمُؤْمِنَاتِ} وفي"علل ابن الجوزي" عن ابن عباس مرفوعًا:"ليس على الأمة حد حتى تحصن"
(3)
.
ثم قال: الصحيح. وقال إسماعيل في الأول بُعد لسبقه الإيمان، فيبعد أن يقال:{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فإذا آمن. ويجوز في كلام الناس على بعده في التكرير، وأما القرآن فنزل على أحسن الوجوه وأبينها، والقول الثاني يرده حديث أبي هريرة الآتي. قال: فالأمر عندنا أنها إذا زنت وهي محصنة مجلودة بالكتاب، وإن زنت قبل أن تحصن فبالسنة، وإنما استوى فيها الإحصان وغيره؛ لأنها جعل عليها إذا زنت نصف ما على الحرائر من العذاب، وكان عذاب الحرائر في
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 470.
(2)
في (ص 1): أنها تحد.
(3)
"العلل المتناهية" 2/ 309 (1227).
الزنا الرجم في موضع والجلد في آخر، فلما جُعِلَ عليها النصف علمنا أنه الجلد.
وزعم أصحاب القول الآخر -منهم الطحاوي- أنه لم يقل في حديث أبي هريرة: (ولم تحصن) غير مالك، وليس كما زعموا، وقد رواه يحيى بن سعيد عن الزهري، كما رواه مالك، ورواه أيضًا طائفة عن ابن عيينة، عنه
(1)
، عن الزهري، وهم أئمة الحديث
(2)
. وأغرب الداودي فقال: قوله: (ولم تحصن) يعني: ولم تعتق.
فصل:
والعنت: الزنا، وأصله في اللغة المشقة.
فصل:
وإنما شدد في نكاح الإماء لرق ولدها وامتهانها في الخدمة، وهو شاق على الزوج، وقد (اختلف)
(3)
قول مالك وابن القاسم هل يجوز للحر نكاح الأمة إذا كان ولده رقيقا، فمنعه مرة إلا بوجود شرطين: عدم الطول، وخشية العنت، وأجازه أخرى لقوله {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} ووجه المنع آية {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} .
وأكثر قول مالك المنع، وأكثر قول ابن القاسم الجواز كما نبه عليه ابن التين
(4)
.
(1)
ورد في هامش الأصل: الصواب حذف: عنه.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 470 - 471.
(3)
في الأصل: (أسلفنا). والمثبت من (ص 1).
(4)
انظر: "المدونة" 2/ 164 - 165، "النوادر والزيادات" 4/ 518 "عيون المجالس" 3/ 1095 - 1096، "المنتقى" 3/ 323.
واختلف إذا تزوج حرة، فقال مالك: ليس ذلك بطول، وقال ابن حبيب: هو طول وتحرم عليه الأمة
(1)
. وقال مسروق والمزني: إذا وجد طولا انفسخ نكاح الأمة وإن لم يتزوج الحرة
(2)
. وقوله {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فيه دليل أنه لا يجوز نكاح الأمة الكافرة من دليل الخطاب، والمعروف من مذهب مالك أن نكاح الأمة الكتابية لا يجوز
(3)
. وقال أشهب عند محمد فيمن أسلم وتحته أمة كتابية: لا يفرق بينهما
(4)
. فأخذ منه بعضهم جواز نكاح الأمة الكتابية، وهذا صحيح إذا قلنا أن الاستدامة كالابتداء.
(1)
انظر المصادر السابقة.
(2)
انظر: "روضة الطالبين" 7/ 133.
(3)
انظر: "المنتقى" 3/ 319 - 320، "عيون المجالس" 3/ 1096 - 1097.
(4)
"النوادر والزيادات" 4/ 589.
باب إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ
6837، 6838 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ:«إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ. [انظر: 2153، 2154 - مسلم: 1704 - فتح 12/ 162]
ذكر فيه حديث مالك عَنِ ابن شهَابِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، قَالَ:"إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثلاثا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ". قَالَ ابن شهَابٍ: لَا أَدْرِي بَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ.
36 - باب لَا يُثَرَّبُ عَلَى الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَا تُنْفَى
6839 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ» . تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 2152 - مسلم: 1703 - فتح 12/ 165]
ثم ساق حديث الليث عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَهُ مرفوعًا:"إِذَا زَنَتِ الأَمَةُ وتبين زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يُثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَلَا يثَرِّبْ، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ". تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
قد أسلفنا الكلام على قوله (ولم تحصن)، قال ابن عبد البر: روى مالك هذا الحديث عن ابن شهاب بهذا الإسناد
(1)
، وتابعه يونس بن يزيد ويحيى بن سعيد، ورواه عقيل عن (الزهري)
(2)
وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله أن شبلًا أوشبل بن خالد المزني أخبره أن عبد الله بن مالك الأوسي أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت .. الحديث. إلا أن عقيلاً وحده قال: مالك بن عبد الله الأوسي.
وقال الزهري (وابن أخي الزهري)
(3)
: عن عبد الله بن مالك.
(1)
"الموطأ" ص 516 (14).
(2)
في هامش الأصل: لعله بحذف الزهري هنا؛ لأنه لا معنى لتكراره.
(3)
ورد بهامش الأصل: قوله: وابن أخي الزهري يحرر، والظاهر أنه زائد.
وكذلك قال يونس بن يزيد، عن الزهري، عن شبل بن خالد، عن عبد الله بن مالك، فجمع يونس الإسنادين جميعا فيه. وانفرد مالك ومعمر بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد
(1)
.
وقال الدارقطني في "الموطآت": إلا أن يحيى بن يحيى لم يذكر في حديثه عن مالك: وزيد بن خالد. وجعله عن أبي هريرة وحده، وقد تابعه غير واحد منهم عبدُ الوهاب بن عطاء. وفي كتاب أبي قرة: ذكر ابن جريج: أخبرني أبي، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هويرة، فذكره.
وفي "السنن" للكجي: حدثنا محمد بن كثير، ثنا سفيان، عن عبد الأعلى، عن ميسرة أبي جميلة، عن علي قال: زنت جارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أقيم عليها الحد فإذا هي لم يجف عليها الدم فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "دعها" فتركتها، ثم أقمت عليها الحد، فقال:"أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"
(2)
قال أبو قرة: ذكر ابن جريج: أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة مولى عبد الله أنه أخبره في حديثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أحدثت الوليدة فاجلدوها -ثلاث مرات- ثم إذا زنت الرابعة فبيعوها ولو بحبل من شعر".
فصل:
استدل بهذا الحديث من لم يوجب النفي على النساء أحرارًا كن أو إماء ولا على العبيد.
(1)
"التمهيد" 9/ 94 - 95.
(2)
رواه أبو داود (4473) من طريق إسرائيل، عن عبد الأعلي به. وانظر "البدر المنير" 8/ 627.
روي ذلك عن الحسن وحماد، وهو قول مالك والأوزاعي (وعبد)
(1)
الله بن الحسن وأحمد وإسحاق
(2)
.
وقال الشافعي وأبو ثور: عليهن النفي وعلى الإماء والعبيد، وهو قول ابن عمر
(3)
. واحتج الشافعي بعموم قوله عليه السلام "من زنى ولم يحصن فعليه حد مائة وتغريب عام"، فعم ولم يخص، وبقوله تعالى {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والتغريب له نصف، واحتج عليه مخالفه بحديث الباب حيث لم يذكر فيه، لأنه محال أن يأمر ببيع من لم يقدر مبتاعه على قبضه من بائعه إلا بعد مضي ستة أشهر، وأيضا فإن العبيد والإماء لا وطن لهم كما سلف.
فصل:
وفيه إقامة السيد الحد على عبده، وهي مسألة خلافية، قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: نعم في الحدود كلها، وبه قال جماعة من الصحابة، وأقاموا الحدود على عبيدهم، منهم ابن عمر وابن مسعود وأنس بن مالك، ولا مخالف لهم من الصحابة. وقال الثوري في رواية الأشجعي: يحده المولي في الزنا، وبه قال الأوزاعي، وخالف مالك والليث فقال: يحده في الزنا والشرب والقذف إذا شهد عنده الشهود لا بإقرار العبد إلا القطع خاصة، فإنه لا يقطعه إلا الإمام. وقال الكوفيون: لا يقيمها الإمام خاصة، فإذا علم السيد أن عبده زنى
(1)
في (ص 1): وعبيد.
(2)
انظر: "الاستذكار" 24/ 54، "الشرح الكبير"مع "الإنصاف" 26/ 254.
وهو المذهب عند الإمام أحمد، وعنه: أن المرأة تنفى إلى دون مسافة القصر؛ لتقرب من أهلها فيحفظوها.
(3)
انظر "البيان" 12/ 355 - 356، "الشرح الكبير" للرافعي 11/ 135 - 136
يوجعه ضربًا ولا يبلغ به الحد، وهو قول الحسن بن حي، وحجتهم ما روي عن الحسن وعبد الله بن محيريز وعمر بن عبد العزيز أنهم قالوا: الجمعة والحدود (والزكاة)
(1)
والنفي والحكم إلى السلطان خاصة
(2)
. واحتج الأول بحديث الباب حيث قال: "فليجلدها"، وسائر الحدود قياسا على الجلد الذي جعله للسيد. وروي عن ابن عمر وابن مسعود وأنس وغيرهم أنهم كانوا يقيمون الحدود على عبيدهم، ولا مخالف لهم من الصحابة وحجة مالك ظاهر حديث أبي هريرة، وإنما استثنى القطع؛ لأن فيه مثلة بالعبد فيدعي السيد أن عبده سرق ليزيل عنه العتق الذي يلزمه بالمثلة على من يراه، فمنع منه قطعا للذريعة، وحد الزنا وغيره لا مثلة فيه فلا تهمة عليه، وقد قال بعض أصحاب مالك: إن للسيد قطعه إذا قامت عليه بينة. وقال ابن المنذر: يقال للكوفيين: إذا جاز ضربه تعزيرًا وذلك غير واجب على الزاني ومنع مما (أطلقته السنة)
(3)
، فذلك خلاف السنة الثابتة
(4)
. قال الزهري: مضت السنة أن يحد العبد والأمة أهلوهم في الزنا إلا أن يرفع أمرهم إلى السلطان فليس لأحد أن يفتات عليه، وقد سلف حديث:"أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" قال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم.
(1)
من (ص 1).
(2)
انظر: "الهداية" 2/ 385، "عيون المجالس" 5/ 2109 - 2110، "البيان" 12/ 377 - 378، "روضة الطالبين" 10/ 152، "المغني" 12/ 334 - 339، "المحلى" 11/ 164 - 165
(3)
في الأصل: أطلقه السيد، والمثبت من (ص 1).
(4)
"الإشراف" 3/ 34.
فصل:
وقوله ("ولا يثرب") يدل على أن كل من وجب عليه حد وأقيم عليه أنه لا ينبغي أن يثرب عليه ولا يعدد، وإنما يصلح التثريب واللوم قبل مواقعة الذنب للردع والزجر عنه.
فصل:
وقوله: ("وليبعها ولو بضفير") معناه عند الفقهاء الندب والحض على مباعدة الزانية؛ لما في السكوت على ذلك من خوف الرضا به، وذلك ذريعة إلى تكثير أولاد الزنا، وقد قالت أم سلمة: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال:"نعم، إذا كثر الخبث"
(1)
قال بعض أهل الحديث: الخبث: أولاد الزنا. وقال أهل الظاهر بوجوب بيعها إذا زنت الرابعة وجلدت
(2)
، ولم يقل به أحد من السلف، وكفى بهذا جهلا، ولا يشتغل بهذا القول لشذوذه، وقد نهى الشارع عن إضاعة المال فكيف يأمر ببيع أمة لها قيمة بحبل شعر لا قيمة له، إنما أراد بذلك النهي عنها والأمر بمجانبتها، فخرج لفظه على المبالغة في ذلك، وهذا من فصيح كلام العرب.
فصل:
استنبط بعضهم من هذا الحديث جواز الغبن في البيع وأن المالك الصحيح يجوز له أن يبيع ماله العدد الكبير بالتافه اليسير، وهو متفق عليه إذا عرف قدر ذلك. واختلف إذا لم يعرف قدره هل يجوز ذلك، وحد بعض البغاددة بالثلث من الثمن على القول برد ذلك، واستبعد
(1)
سلف برقم (3346)، ورواه أيضًا مسلم (2880) وهو من حديث زينب بنت جحش، وروى أحمد 6/ 294 - 295 من حديث أم سلمة قريبًا منه.
(2)
"المحلى" 11/ 166 - 167.
بعضهم هذا الاستنباط، وإنما المراد أن تشترى هذِه الأمة لا يكاد يبذل فيها إلا اليسير، هذا غالب العادة في شراء المعيب، ولهذا حض بائعها على ذلك.
فصل:
الضفير هو الحبل، وعبارة الداودي: بعد ذلك: الذي يضفر على ثلاث فيصير عريضًا. وقال أهل اللغة: فحل الشيء من الشعر وغيره عريضًا، والضفيرة: كل خصلة من الشعر على حدتها.
فصل:
سكت عن الجلد لعلم السامع.
فصل:
في تحرير مذهب مالك في إقامة الحد على عبده وأمته حد الزنا والشرب والقذف لا يقيمه إلا السيد قطعا عند إقامة البينة كما قد أسلفناه، وفي إقراره روايتان في "المبسوط": نعم، وفي "المدونة": لا
(1)
. وهي ما أسلفناه. وذكر ابن الجلاب عنه في الزنا روايتين هل يقيمه بعلمه وقطع التدبير فيه وقصاصًا، لا خلاف عندهم في المنع إذا لم تقم بينة، وكذا إذا قامت على المشهور من مذهبهم، وحكي عن أصحاب مالك نعم، وقال بعض متأخريهم: لو قيل: إنه لا يعتق عليه إذا قطعه قصاصا مع عدم البينة وإنكار العبد لكان له وجه، لأن وجود قطع العبد بالقبض ودعواه عليه شبهة بينة للسيد. واختلف إذا كانت الأمة لها زوج في الزنا هل يقيمه السيد إذا شهد عنده أم لا؟
(2)
(1)
"المدونة" 4/ 408 - 409.
(2)
انظر: "الذخيرة" 12/ 85.
فصل:
التثريب: اللوم والتعزير ومنه {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف: 92] واستنبط منه الداودي أن من عير حرة أو أمة بعد أن حدت يؤدب لها.
37 - باب أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِحْصَانِهِمْ إِذَا زَنَوْا وَرُفِعُوا إِلَى الإِمَامِ
6840 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى عَنِ الرَّجْمِ فَقَالَ: رَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: أَقَبْلَ النُّورِ أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. تَابَعَهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَالْمُحَارِبِيُّ وَعَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْمَائِدَةُ. وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. [انظر: 6813 - مسلم: 1702 - فتح 12/ 166]
6841 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اليَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلاً مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ
الرَّجْمِ؟». فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ: كَذَبْتُمْن إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ. فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ، ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. قَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ. فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ. [انظر:1329 - مسلم: 1699 - فتح 12/ 166]
ذكر فيه حديث ابن أبي أوفى السالف في باب: رجم المحصن مع متابعاته
(1)
.
وحديث ابن عمر رضي الله عنهما في رجم اليهوديين السالف في الرجم بالبلاط قريبا
(2)
. وفي آخره: (فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَحْنِي عَلَى المَرْأَةِ يَقِيهَا الحِجَارَةَ).
(1)
سلف برقم (6813).
(2)
سلف برقم (6819).
كذا هو في الأصول بالحاء. وفي رواية: (يجنأ) بالجيم، وقد سلف ما فيه. قال الخطابي: الأكثر بالجيم. أي: يميل عليها
(1)
.
وقد اختلف العلماء في إحصان أهل الذمة، فقالت طائفة في الزوجين الكتابيين يزنيان ويرفعان إلينا: عليهما الرجم وهما محصنان. هذا قول الزهري والشافعي
(2)
.
قال الطحاوي: وروي عن أبي يوسف أن أهل الكتاب يحصن بعضهم بعضا، ويحصن المسلم النصرانية، ولا تحصنه النصرانية
(3)
. واحتج الشافعي بحديث الباب وقال: إنما رجمهما؛ لأنهما كانا محصنين، وقال النخعي: لا يكونان محصنين حتى يجامعا بعد الإسلام، وهو قول مالك والكوفيين وقالوا: الإسلام من شرط الإحصان
(4)
. وقالوا في حديث الباب: إنما رجمهما بحكم التوراة حين سأل الأحبار عن ذلك، إنما كان من تنفيذ الحكم عليهم لكتابهم التوراة وكان ذلك أول دخوله عليه السلام المدينة، ثم نزل عليه القرآن بعد ذلك الذي نسخ خطه وبقي حكمه بالرجم لمن زنى، فليس رجمه لهم من باب إحصان الإسلام في شيء، وإنما هو من باب تنفيذ الحكم عليهم بالتوراة، وكان حكمها الرجم على من أحصن ومن لم يحصن، وكان على الشارع اتباعه والعمل به؛ لأن على كل نبي اتباع شريعة النبي الذي قبله حتى يحدث الله له شريعة تنسخها، فرجمهما على
(1)
"أعلام الحديث" 3/ 1828.
(2)
انظر: "البيان" 12/ 354، "الشرح الكبير" للرافعي 11/ 138 - 139، "المغني" 12/ 317.
(3)
"مختصر الطحاوي" ص 262.
(4)
انظر: "الاستذكار" 24/ 12 - 13.
ذلك الحكم، ثم نسخ الله ذلك بقوله {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قوله {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} الآية [النساء: 15]. فكان هذا ناسخًا لما قبله ولم يفرق في ذلك بين المحصن ولا غيره، ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها، ثم جعل الله لهن سبيلا فقال عليه السلام:"خذوا عني" الحديث
(1)
.
ففرق حينئذ بين حد المحصن وغيره وهذا قول الطحاوي
(2)
، ونزل بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] فلم يحكم بعد هذِه الآية بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه إلا بالقرآن، إلا أن العلماء اختلفوا في وجوب الحكم بين أهل الذمة على ما أسلفناه، فروي التخيير فيه عن ابن عباس وعطاء والشعبي والنخعي، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي، وجعلوا قوله تعالى:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] محكمة غير منسوخة. وقال آخرون: إنه واجب، وجعلوا قوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [المائدة: 49] ناسخة للتخيير روي عن مجاهد وعكرمة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وهو الأظهر من قولى الشافعي، وتأول الأولون قوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} إن حكمت كما سلف واضحا، وما أسلفناه أن ذلك كان أول دخوله المدينة هو ما في كتاب ابن بطال
(3)
، والذي في السير: أن ذلك كان في السنة الرابعة.
(1)
رواه مسلم (1690) من حديث عبادة بن الصامت.
(2)
"مختصر الطحاوي" ص 262.
(3)
شرح ابن بطال" 8/ 475، وانظر"الاستذكار" 12/ 15، و"المغني" 12/ 381 - 383.
فرع:
قال ابن التين: إذا زنى اليوم أحد من أهل الذمة مُكن أهل الذمة منه، فإن شاءوا رجمه رجموه ما لم يكن عبدًا أو أمة لمسلم، وقد اختلف إذا زنى مسلم بذمية فقال ابن القاسم: ترد إلى أهل ذمتها وقال أشهب ليس لهم رجمها؛ لأنه عليه السلام إنما رجمهما قبل أن يكون لهم ذمة
(1)
.
فصل:
وقوله: (نفضحهم) أي نكشف مساوئهم، يقال فضحه فافتضح.
(1)
"المدونة" 4/ 401، "المنتقي" 7/ 133.
38 - باب: إِذَا رَمَى امْرَأَتَهُ أَوِ امْرَأَةَ غَيْرِهِ بِالزِّنَا عِنْدَ الحَاكِمِ، هَلْ عَلَى الحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهَا فَيَسْأَلَهَا عَمَّا رُمِيَتْ بِه
؟
6842، 6843 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّهُمَا أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ. وَقَالَ الآخَرُ -وَهْوَ أَفْقَهُهُمَا- أَجَلْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَأْذَنْ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ. قَالَ:«تَكَلَّمْ» . قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا على هَذَا -قَالَ مَالِكٌ: وَالْعَسِيفُ: الأَجِيرُ- فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ» . وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْسًا الأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الآخَرِ:"فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا" فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا [انظر: 3315، 3314 - مسلم: 1697،1698 - فتح 12/ 172]
ذكر فيه حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما في قصة العسيف.
وقد قام الإجماع على أن من قذف امرأته أوامرأة غيره أو رجلا بالزنا فلم يأت على ذلك ببينة أن الجلد يلزمه إلا أن يقر له المقذوف بالحد ويعترف به
(1)
: فلهذا أوجب على الحاكم أن يبعث إلى امرأة يسألها عما رميت به؛ لأنه لا يلزمها الحد عند عدم البينة إلا بإقرارها، ولو لم تعترف المرأة في هذا الحديث لوجب على والد العسيف الحد
(1)
انظر: "الإشراف" لابن المنذر 3/ 45، "الإقناع" 4/ 1849.
لقذفه، لو لم يلزمه الحد، ولو لم يعترف ابنه بالزنا؛ لأنه يسقط عنه حد القذف لابنه، وقد سلف خلاف العلماء فيمن أقر بالزنا بامرأة معينة وجحدت، في باب: الاعتراف بالزنا فراجعه.
39 - باب مَنْ أَدَّبَ أَهْلَهُ أَوْ غَيْرَهُ دُونَ السُّلْطَانِ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّى فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ» . وَفَعَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه.
6844 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَ أَبُو بَكْرِ رضي الله عنه وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي - فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ. فَعَاتَبَنِي وَجَعَلَ يَطْعُنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، وَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ. [انظر: 334 - مسلم: 367 - فتح 12/ 173]
6845 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ القَاسِمِ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَكَزَنِي لَكْزَةً شَدِيدَةً وَقَالَ: حَبَسْتِ النَّاسَ فِي قِلَادَةٍ. فَبِي المَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَوْجَعَنِي. نَحْوَهُ. [انظر: 334 - مسلم: 367 - فتح 12/ 173]
ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جَاءَ أَبُو بَكْرِ- رضي الله عنه -وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم واضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي- فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسَ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ. فَعَاتَبَنِي أبو بكر وَجَعَلَ يَطْعُنُ بيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، وَلَا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأنْزَلَ اللهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ.
وعنها قالت: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَكَزَنِي لَكْزَةً وَقَالَ: حَبَسْتِ النَّاسَ فِي قِلَادَةٍ. فَبِي المَوْتُ لِمَكَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وقَدْ أَوْجَعَنِي. نَحْوَهُ.
لكز ووكز واحد.
الشرح:
حديث أبي سعيد سلف في المرور بين يدي المصلي في الصلاة
(1)
، وحديث عائشة رضي الله عنها سلف في التيمم.
قال ابن فارس: قال بعضهم: طعن بالرمح يطعُن بالضم، وطعن في القول يطعن فتحا، والذي في "الصحاح" أنه بالضم ضبطا
(2)
. قال أبو عبيد: اللكز: الضرب بالجمع على العضد. وقال أبو زيد: في جميع الجسد.
وفيه: أن الرجل يؤدب ابنته بحضرة زوجها لا سيما في أمر الدين. والقلادة: التي تجعل في العنق.
وفي حديث أبي سعيد أنه يجوز للرجل أن يؤدب غير أهله بحضرة السلطان إذا كان ذلك في واجب، وعلم أن السلطان يرضى بذلك ولا ننكره لجوازه في الشريعة.
(1)
سلف برقم (509) باب: يرد المصلي من مرَّ بين يديه.
(2)
"مجمل اللغة" 1/ 583، "الصحاح" 6/ 2157.
40 - باب مَنْ رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً فَقَتَلَهُ
6846 -
حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ وَرَّادٍ -كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ- عَنِ المُغِيرَةِ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي» . [7416 - مسلم: 1499 - فتح 12/ 174]
ذكر فيه حديث المغيرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لأَنَا أَغْيَرُ مِنهُ، والله أَغْيَرُ مِنِّي".
الشرح:
قوله (غير مُصْفَح) هو بإسكان الصاد وفتح الفاء، كذا هو مضبوط في الأصول. قال ابن التين: وكذا رويناه اسم مفعول من أصفح. وحكى أبو عبد الملك كسرها أيضًا. وفي "الصحاح": صفحته إذا ضربت عنقه بالسيف مصفحا. أي: بعرضه، تقول: وجه هذا السيف مُصْفَح. أي: عريض من أصْفَحْتهُ
(1)
.
وقوله: ("أتعجبون من غيرة سعد") قال الداودي: يدل على أنه حمد ذلك وأجازه له فيما بينه وبين الله. (والغيرة)
(2)
من أحمد الأشياء ومن لم تكن فيه فليس على خلق محمود. وقال المهلب: هو دال على وجوب القود فيمن قتل رجلا وجده مع امرأته؛ لأن الله وإن كان أغير من عباده فإنه أوجب الشهود في الحدود، فلا يجوز لأحد أن يتعدى حدود الله ولا يسقط دما بدعوى. وفي "الموطأ" نحو هذا
(1)
"الصحاح" 1/ 383.
(2)
في الأصل: (المغفرة) ولعل الصواب ما أثبتناه.
مبينًا من حديث سهيل عن أبيه، عن أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال عليه السلام:"نعم"
(1)
. ووجه ذلك أن الحدود لا يقيمها إلا السلطان.
فصل:
إذا وجد رجل مع امرأته رجلاً فلا يخلو من أحوال ثلاثة: إما أن لا يعلم من ذلك من قوله، فهذا يقتل به إن قتله.
أو تقوم بينة أربعة إصابته إياها، فإن كان محصنا لم يقتل قاتله، وإن كان بكرًا فقال ابن القاسم (والمغيرة)
(2)
: لا يقاد به وعليه الدية، خلافا لابن المغيرة. وقال ابن حبيب: يقاد به. وإذا قلنا بوجوب الدية، فقال ابن القاسم هي على عاقلة الزوج. وقال أصبغ وأشهب: في مال القاتل
(3)
.
ثالثها: إن أتى من ذلك (
…
)
(4)
فقيل: لا يقتل به. وقال محمد: إن ظهر عذره فلا قَوَد عليه إلا أن يكون استأذن عليه؛ لجواز أن يكون أخدعه حتى أدخله بيته. وقال سحنون: إذا نادى به وأشهد بامرأته أوجاريته ثم قتله بعد ذلك لم يكن عليه شيء قال: وكذلك لو شهد عليه وهو غائب وعلم أن الشهود عليه، عُلِم بذلك ثم وجده مقتولا في بيته. وعن ابن القاسم نحوه إذا قتله وقتل امرأة نفسه
(5)
.
(1)
"الموطأ" ص 514.
(2)
ورد بهامش الأصل: لعله سقط ابن.
(3)
انظر: "المنتقى" 5/ 285 - 286.
(4)
كلمة غير واضحة بالأصل.
(5)
"النوادر والزيادات" 14/ 224 - 225.
فصل:
وفيه من الفقه قطع الذرائع والتسبب [في]
(1)
قتل الناس والادعاء عليهم بمثل هذا وشبهه، وفي حديث سعد من رواية مالك: النهي عن إقامة الحدود بغير سلطان وبغير شهود؛ لأن الله تعالى عظم دم المسلم وعظم الإثم فيه، فلا يحل سفكه إلا بما أباحه الله تعالى، وبذلك أفتى علي رضي الله عنه فيمن قتل رجلا وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط بِرُمته
(2)
. أي: يسلم برمته للقتل، وعلى هذا جمهور العلماء
(3)
.
وقال الشافعي وأبو ثور يشهد فيما بينه وبين الله، قُتل الرجل وامرأته إن كانا ثيبين وعلم أنه قد نال منها ما يوجب الغسل ولا يسقط عنه القود في الحكم
(4)
. وقال أحمد: (إن جاء ببينة أنه وجد مع امرأته رجلاً وقتله يهدر دمه)
(5)
إن جاء بشاهدين، وهو قول إسحاق
(6)
، وهذا خلاف ما أسلفناه من قوله:(أمهله حتى آتي بأربعة؟ قال: "نعم").
وقال ابن حبيب: إن كان المقتول محصنا فالذي ينجي قاتله من القتل أن يقيم أربعة شهداء أنه فعل بامرأته، وإن كان غير محصن فعلى قاتله القود وإن أتى بأربعة شهود، هذا وجه الحديث عندي. وذكر ابن مزين عن ابن القاسم أن في البكر والثيب سواء. يترك قاتله
(1)
غير موجودة بالأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال".
(2)
رواه مالك في "الموطأ" ص 459 - 460.
(3)
انظر: "الاستذكار" 22/ 150 - 152.
(4)
"الأم" 6/ 26، "الإشراف" 3/ 77، "المغني" 11/ 461.
(5)
من (ص 1).
(6)
"مسائل الإمام أحمد" برواية إسحاق بن منصور (2347).
إذا قامت له البينة بالرؤية، وقال أصبغ عن ابن القاسم وأشهب: أَستحب الدية في البكر في مال القاتل، وهو قول أصبغ كما سلف، وأسلفنا أيضًا عن ابن المغيرة: لا قود عليه ولا دية، وقد أهدر عمر بن الخطاب دما من هذا الوجه
(1)
، روى الليث عن يحيى بن سعيد: أن رجلا فقد أخاه فجعل ينشده في الموسم فقام رجل فقال: أنا قتلته، فمر به إلى عمر رضي الله عنه، فسأله، فقال: إني مررت بأخي هذا في بيت امرأة مغيبة وهو يقول:
وأشعث غره الإسلام مني .... خلوت بعرسه ليل التمام
أبيت على ترائبها ويسري .... على صهباء لاحقة الحزام
فأهدر عمر دمه
(2)
. وذكر ابن أبي شيبة أن اسم (المغيب)
(3)
أشعث
(4)
، وروى الليث أيضًا عن يحيى بن سعيد أن زيد بن أسلم أدرك المرأة الهزلية التي رمت ضيفها الذي أرادها على نفسه، فقتله عجوز كبيرة، فأخبرته أن عمر أهدر دمه.
وقال ابن مزين: ما روي عن عمر رضي الله عنه في هذا أنه ثبت عنده ذلك من عداوتهم وظلمهم، ولو أخذ بقول الرجل في ذلك بغير بينة لعمد الرجل إلى الرجل يريد قتله فيدعوه إلى بيته لطعامٍ أوحاجة ثم يقتله ويدعي أنه وجده مع امرأته، فيؤدي ذلك إذا قبل قوله إلى إباحة الدماء وإسقاط القود فيها بغير حق ولا ثبات.
(1)
انظر: "المنتقى" 5/ 285.
(2)
انظر: "الاستذكار" 22/ 153 - 154. ونص البيت الثاني فيه:
أبيت على ترائبها، ويطوي
…
على حمراء مائلة الحزام
(3)
في الأصل: (المغيبة)، والصواب ما أثبتناه. أو لعله سقط قبل المغيبة كلمة (زوج)، وهو الأولى.
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 448 (27872).
وقال ابن المنذر: الأخبار عن عمر رضي الله عنه في هذا مختلفة وعامتها منقطعة، فإن ثبت عنه الإهدار فيها فإنما ذلك لبينة ثبتت عنده تسقط الحد.
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن المغيرة بن النعمان عن هانئ بن حزام أن رجلا وجد مع امرأته رجلاً فقتلهما، قال: فكتب عمر كتابا في العلانية: أن يقتلوه، وكتابا في السر: أن يعطوه الدية
(1)
. وروى الأعمش عن ابن وهب أن عمر- رضي الله عنه أمر بالدية في ذلك.
قال الشافعي: وبحديث علي نأخذ ولا أحفظ عن أحد من أهل العلم قبلنا مخالفة له. قال ابن المنذر: وقد حرم الله دماء المؤمنين في كتابه إلا بالحق فغير جائز إباحة ما ثبت تحريمه إلا ببينة، ونهى الشارع سعدًا (أن يقتل)
(2)
حتى يأتي بأربعة شهداء، وفي نهيه له عن ذلك مع مكانه من الثقة والصلاح دليل على منع جميع الناس من قتل من يدَّعون إباحة قتله بغير بينة.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 9/ 435 - 436 (17921).
(2)
من (ص 1).
41 - باب مَا جَاءَ فِي التَّعْرِيضِ
6847 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ. فَقَالَ:«هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «مَا أَلْوَانُهَا؟» . قَالَ: حُمْرٌ.
قَالَ «فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟» . قَالَ: أُرَاهُ عِرْقٌ نَزَعَهُ. قَالَ: «فَلَعَلَّ ابْنَ كَهَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ» . [انظر: 5305 - مسلم: 1500 - فتح 12/ 175]
ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ. فَقَالَ:"هَلْ لَكَ مِن إِبِلٍ؟ " .. الحديث، وقد سلف في النكاح.
واعترض الداودي؛ فقال: تبويبه غير معتدل، ولو قال: ما جاء في ذكر ما يقع في النفوس عندما يرى أو يكره، لكان صوابًا. قلت: والأول صواب أيضًا. واختلف العلماء في هذا الباب؛ فقالت طائفة: لا حد في التعريض، وإنما يجب الحد بالتصريح البين. روي هذا عن ابن مسعود، وقاله القاسم بن محمد والشعبي وطاوس وحماد وابن المسيب في رواية والحسن البصري والحسن بن حي، وإليه ذهب الثوري والكوفيون والشافعي، إلا أن أبا حنيفة والشافعي يوجبان عليه الأدب والزجر، واحتج الشافعي بحديث الباب، وعليه يدل تبويب البخاري، قال: وقد عرض بزوجته تعريضا لا خفاء به، ولم يوجب عليه الشارع حدًّا، وإن كان غلب على السامع أنه أراد القذف، إذ قد يحتمل قوله وجهًا غير القذف من المسألة عن أمره.
وقالت طائفة: التعريض كالتصريح، روي ذلك عن عمر وعثمان وعروة والزهري وربيعة، وبه قال مالك والأوزاعي. قال مالك: وذلك
إذا علم أن قائله أراد به قذفًا فعليه الحد
(1)
، واحتج في ذلك بما روى هو عن أبي الرجال عن أمه عمرة أن رجلين استبا في زمن عمر رضي الله عنه؛ فقال أحدهما للآخر: والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية. فاستشار في ذلك عمر رضي الله عنه؛ فقال قائل: مدح أباه وأمه. وقال آخر: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، نرى أن يجلد الحد. فجلده عمر- رضي الله عنه ثمانين
(2)
.
قال ابن عبد البر: روي من وجوه أنه حد في التعريض بالفاحشة، وعن ابن جريج: الذي حده عمر رضي الله عنه بالتعريض عكرمة بن (عامر)
(3)
بن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار هجا وهب بن زمعة بن ربيعة بن الأسود بن (عبد المطلب)
(4)
بن أسد بن عبد العزى بن أسد؛ تعرض له في هجائه؛ سمعت ابن أبي مليكة)
(5)
يقول ذلك
(6)
. وروي نحو هذا عن ابن المسيب، قال أهل هذِه المقالة: لا حجة في حديث الباب؛ لأن الرجل لم يرد قذف امرأته والنقيصة لها، وإنما جاء
مستفتيًا، فلذلك لم يحده الشارع، وكذلك لم يحد عويمرًا وأرجأ أمره حتى نزل فيه القرآن.
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 265، "الاستذكار" 24/ 126 - 130، "مختصر المزني" ص 350، "الإشراف" 3/ 47 - 49، "البيان" 12/ 452 - 402، "المغني" 12/ 392 - 393.
(2)
"الموطأ" ص 518.
(3)
في الأصل: (عمار) والمثبت من "الاستذكار"، "مصنف عبد الرزاق" 7/ 421 (13705).
(4)
ورد بهامش الأصل: لعله بحذف (عبد).
(5)
في الأصل: (ليلي)، والمثبت من "الاستذكار"، "مصنف عبد الرزاق" 7/ 421 (13705).
(6)
"الاستذكار" 24/ 127.
واحتج الشافعي فقال: لما لم (يجعل)
(1)
التعريض في (القذف في)
(2)
الخطبة في العدة بمنزلة التصريح كذلك لا يجعل التعريض في القذف بمنزلة التصريح. قال القاضي إسماعيل: وليس كما ظن وإنما أجيز له التعريض فقط؛ لأن النكاح لا يكون إلا من اثنين، فإذا صرح بالخطبة وقع عليه الجواب من الآخر بالإيجاب أو الوعد، فمنعوا من ذلك، فإذا عرض به فهم أن المرأة من حاجته فلم يحتج إلى جواب، والتعريض بالقذف لا يكون إلا من واحد، ولا يكون فيه جواب فهو قاذف من غير أن يجيبه أحد فقام مقام التصريح.
فصل:
الأورق: الأغبر، وهو الذي فيه سواد وبياض. وعبارة ابن التين: أنه الأسمر، ومنه بعير أورق إذا كان لونه كلون الرماد.
وقوله: (أرى عرقا نزعه) قال ابن التين: لعله وقع بالنسبة إلى أحد آبائه. قلت: روي: من جداته كما أسلفته في مواضعه.
(1)
ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص 1).
(2)
كذا في الأصل، وليست في ابن بطال، والسياق يستقيم بدونها.
42 - باب كَمِ التَّعْزِيرُ وَالأَدَبُ
6848 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» . [6849، 6850 - مسلم: 1708 - فتح 12/ 175]
6849 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ، عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا عُقُوبَةَ فَوْقَ عَشْرِ ضَرَبَاتٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» . [انظر: 6848 - مسلم: 1708 - فتح 12/ 176]
6850 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ بُكَيْرًا، حَدَّثَهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ إِذْ جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ فَحَدَّثَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بُرْدَةَ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تَجْلِدُوا فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» . [انظر: 6848 - مسلم: 1708 - فتح 12/ 176]
6851 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الوِصَالِ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تُوَاصِلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّكُمْ مِثْلِى؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِ» . فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ:«لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ» . كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ حِينَ أَبَوْا. تَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَيُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِد، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 1965 - مسلم: 1103 - فتح 12/ 176]
6852 -
حَدَّثَنِي عَيَّاشُ بْنُ الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ حَتَّى يُئْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ. [انظر: 2123 - مسلم: 1527 - فتح 12/ 176]
6853 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ، حَتَّى تُنْتَهَكَ مِنْ حُرُمَاتِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ. [انظر: 3560 - مسلم: 2327 - فتح 12/ 176]
ذكر فيه أحاديث:
أحدها: حديث سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ هانئ بن النيار؛ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ".
وحديث جابر أيضًا عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَا عُقُوبَةَ فَوْقَ عَشْرِ ضَرَبَاتٍ إِلَّا في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ".
وحديث عبد الرحمن بن جابر أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سمِعَ أَبَا بُرْدَةَ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ عز وجل". وحديث عقيل عن الزهري، عن أَبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الوِصَالِ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تُوَاصِلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي". فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الهِلَالَ، فَقَالَ:"لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُم". كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ حِينَ أَبَوْا. تَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَيحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَيُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحديث سالم عن أبيه أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ حَتَّى يُئْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ.
وحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها: مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ فِي شَيء يُؤْتَى إِلَيْهِ، حَتَّى تُنْتَهَكَ مِنْ حُرُمَاتِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لله.
تنبيه: حديث أبي بردة أخرجه أيضًا مسلم والأربعة
(1)
، ووهم من نفاه عن النسائي.
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث بكير.
ورواه النسائي مرة من حديث سليمان عن عبد الرحمن بن فلان عن أبي بردة
(2)
(به)
(3)
.
ورواه الطبراني بلفظ: "لا يحل لأحد أن يضرب أحدًا فوق عشرة أسواط"
(4)
.
وفي حديث ابن لهيعة: حدثني بكير، عن سليمان، عن عبد الرحمن ابن جابر، حدثني أبو بردة، به
(5)
.
وقال الدارقطني: قال مسلم عن عبد الرحمن بن جابر، عن رجل من الأنصار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حفص بن ميسرة: عن مسلم، عن
(1)
أبو داود (4491)، الترمذي (1463)، ابن ماجه (2601)، النسائي في "الكبرى" 4/ 320 (7330).
(2)
انظر: "تحفة الأشراف" 9/ 66 (11720).
(3)
في (ص 1): الشرح.
(4)
"المعجم الكبير" 22/ 196 (514).
(5)
رواه أحمد 3/ 466.
عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه قال: والقول قول الليث ومن تابعه. وفي موضع آخر حديث عبد الرحمن: عمرو بن الحارث، عن بكير، عن سليمان، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، عن أبي بردة صحيح
(1)
.
وقال البيهقي: هذا حديث ثابت، (وهو أحسن ما يصار إليه في هذا ما ثبت)
(2)
عن بكير، فذكره. قال: وقد أقام إسناده عمرو بن الحارث، فلا يضره نقصه من قصره
(3)
.
وقال الجياني: رواه ابن السكن وأبو زيد: سليمان، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبي بردة. وفي كتاب الأصيلي عن أبي أحمد: سليمان، عن عبد الرحمن بن جابر، عن جابر، عن أبي بردة، فأدخل أباه، والصواب في حديث الليث ما رواه ابن السكن ومن تابعه، وهو حديث مختلف في سنده. وتابع الليث على السند الأول سعيد بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب. رواه عمرو بن الحارث، عن بكير، عن سليمان، عن عبد الرحمن، عن أبيه أنه سمع أبا بردة الأنصاري بزيادة رجل من الأنصار
(4)
.
وقال ابن المنذر: في إسناده مقال. ونقل ابن بطال عن الأصيلي أنه اضطرب حديث عبد الله بن جابر، فوجب تركه؛ لاضطرابه، ولوجود عمل الصحابة والتابعين لخلافه
(5)
.
(1)
"علل الدارقطني" 6/ 22 - 24.
(2)
من (ص 1).
(3)
"معرفة السنن والآثار" 13/ 69 - 70.
(4)
"تقييد المهمل" 2/ 747 - 848 وفيه: (بزيادة رجل في الإسناد) بدلاً من (رجل من الأنصار).
(5)
"شرح ابن بطال" 8/ 485 - 486.
فصل:
حديث سالم عن أبيه قال الجياني: كذا رواه مسندًا متصلًا عن ابن السكن وأبي زيد وغيرهما. وفي نسخة أبي أحمد مرسلًا لم يذكر (فيه)
(1)
ابن عمر أرسله عن سالم. والصواب ما تقدم
(2)
.
فصل:
اختلف العلماء في مبلغ التعزير على أقوال:
أحدها: لا يزاد على عشر جلدات إلا في حد. قاله أحمد وإسحاق
(3)
.
ثانيها: روي عن الليث أنه قال: يحتمل ألا يجاوز بالتعزير عشرة أسواط، ويحتمل ما سوى ذلك. وروى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه أمر زيد بن ثابت أن يضرب رجلاً عشرة أسواط. وعنه رواية ثانية: أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري ألا تبلغ بنكال فوق عشرين سوطًا. وعنه في رواية أخرى: أنه لا تبلغ في تعزير أكثر من ثلاثين جلدة
(4)
. وهو القول الثالث والرابع.
خامسها: قال الشافعي في قوله الآخر: لا يبلغ به عشرين سوطًا؛ لأنها أبلغ الحدود في العبد في شرب الخمر؛ لأن حد الخمر في الحر عنده في الشرب أربعون
(5)
.
(1)
من (ص 1).
(2)
"تقييد المهمل" 2/ 749.
(3)
"مسائل الإمام أحمد" برواية إسحاق بن منصور (2429).
(4)
"الإشراف" 3/ 22.
(5)
انظر "الشرح الكبير" للرافعي 11/ 290 - 291.
سادسها: قال أبو حنيفة ومحمد: لا يبلغ به أربعين سوطًا، بل ينقص منه سوطًا؛ لأن الأربعين أقل الحدود في العبد في الشرب والقذف، وهو أحد قولي الشافعي
(1)
.
سابعها: قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: أكثره خمسة وسبعون سوطًا
(2)
.
ثامنها: قال مالك: التعزير ربما كان أكثر من الحدود إذا أدى الإمام اجتهاده إلى ذلك. وروي مثله عن أبي يوسف وأبي ثور
(3)
.
قال ابن المنذر: لم نجد في عدد الضرب والتعزير خبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا، وكل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن للإمام أن يعزر في بعض الأشياء، قال: وقد اختلفوا في المقدار الذي يعزر الإمام من وجب عليه التعزير. فذكر مقالة أحمد السالف لحديث الباب. قال: وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه أمر زيد بن ثابت أن يضرب رجلاً عشرة أسواط، وروينا عنه أنه كتب إلى أبي موسى: ألا تبلغ بنكال فوق عشرين سوطًا. وروينا عنه قولًا ثالثًا: ألا يبلغ في التعزير أكثر من ثلاثين جلدة.
وفيه قول رابع وخامس، فذكر قول الشافعي وأبي ثور.
وسادس: أن قدره على قدر الجرم، وهو قول مالك، وقد روي عنه أيضًا أنه أمر بضرب مائة وحبس سنة في باب (من)
(4)
العقوبات، وهو مذهب أبي ثور أن يضرب أكثر من الحد إذا كان الجرم عظيمًا
(5)
.
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 265، "الهداية" 2/ 406.
(2)
انظر: المصدرين السابقين.
(3)
انظر: "الذخيرة" 12/ 118.
(4)
من (ص 1).
(5)
"الإشراف" 3/ 22.
وقال الطحاوي في "مشكله": منهم من قال: لا يجاوز فيه تسعة وثلاثين سوطًا. وممن قال بذلك ابن أبي ليلى، وهو مخالف أيضًا لما قلناه. ومنهم من قال: يجاوز أكثر الحدود التي حدها الله تعالى لعباده على قدر الجرم.
وممن قال ذلك مالك بن أنس وأبو يوسف مرة، وقال أخرى بقول أبي حنيفة. وقال الليث بحديث "لا يجلد فوق عشر أسواط" مرة، ثم تركه أخرى وقال: التعزير بمقدار الجرم، فإن كان غليظًا غلظ، وإن كان خفيفًا خفف
(1)
.
وقال ابن حزم في "محلاه" بقول أبي يوسف ومالك
(2)
(قال أبو ثور والطحاوي)
(3)
قال: وقالت طائفة: لا يتجاوز تسعة فأقل. وهو قول الليث وأصحابنا
(4)
، وجلد هشام المخزومي رجلاً لصق بغلام حتى أفضى أربعمائة سوط، فما لبث أن مات، فذكروا ذلك لمالك فما استنكره، ولا رأى أنه أخطأ. وضرب سحنون نحوه رجلاً غيب ابنته عن زوجها، وجلد علي مائة رجلاً وجد مع امرأة في لحاف، وجلد عمر رجلاً وجد مع امرأة بعد العتمة دون المائة
(5)
.
(1)
"مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 5/ 117 - 118.
(2)
هكذا في الأصل، وإنما نقل ابن حزم قولهما ثم قال (11/ 403): ثم نظرنا في قول مالك فوجدناه أبعد الأقوال من الصواب؛ لأنه لم يتعلق بقرآن ولا بسنة، ولا بدليل إجماع ..
(3)
هكذا في الأصل، وفي "المحلى" وهو قول أبي ثور والطحاوي.
(4)
الذي في "المحلى" أنه قول بعض أصحاب الشافعي، أما قول الليث فهو أن لا يتجاوز عشرة أسواط.
(5)
"المحلى" 11/ 401 - 403.
ونقل ابن التين عن الطحاوي أنه لا يجوز اعتبار التعزير بالحدود؛ لأنهم لا يختلفون أن التعزير موكول إلى اجتهاد الإمام فيخفف تارة ويشدد أخرى، فلا معنى لاعتبار الحد فيه، ويجوز مجاوزته له، والدليل على ذلك حديث الزهري، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه أن حاطبًا توفي وأعتق من صلى وصام من رقيقه، وكانت له وليدة نوبية قد صلت وصامت، وهي عجمية لا تفقه، فلم يرعه إلا حملها، فذهب إلى عمر رضي الله عنه فأخبره، فأرسل إليها: أحبلت؟ فقالت: نعم، من مرغوس بدرهمين، فإذا هي تستهل به، وصادفت عنده عليَّ بن أبي طالب وعثمان وعبد الرحمن، فقال: أشيروا عليَّ. فقال علي وعبد الرحمن: قد وقع عليهما الحد؛ فقال: أشر علي يا عثمان؛ فقال: كأنها تستهل به، كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه. فقال عمر: وأمر بها فجلدت مائة وغربت. قال ابن شهاب: وقد كانت نكحت غلامًا لمولاها، ثم مات عنها، فجعل عمر رضي الله عنه في هذا الحديث التعزير مائة؛ لأنه كان عليها علم الأشياء المحرمة، وغربها زيادة في العقوبة كما غريب في الخمر.
وقال البيهقي: لأن حدها الرجم، فكأنه درأ عنها حدها؛ للشبهة بالهالة، وجلدها وغربها تعزيرًا
(1)
.
ومرغوس: بالغين المعجمة والسين المهملة على الصواب. قال الأزهري: رجل مرغوس. أي: كثير الخير
(2)
. ووهم بعضهم فجعله أشما بن مصهر، وجعله بالشين المعجمة، وهو عجيب.
(1)
"السنن الكبرى" 8/ 238 - 239.
(2)
"تهذيب اللغة" 2/ 1433.
وذكر ابن القصار أن معن بن زائدة زور كتابًا على عمر رضي الله عنه، ونقش مثل خاتمه، فجلده مائة، ثم شفع له قوم؛ فقال: ذكرتني الطعن وكنت ناسيا، فجلده مائة أخرى، ثم مائة، ثلاث مرار بحضرة العلماء، ولم ينكر ذلك أحد، قال: فثبت أنه إجماع.
قلت: عمر هذا ليس عمر بن الخطاب ولعله عمر بن عبد العزيز فإن سِن معن يصغر عن ذلك. قال ابن القصار: ولما كان طريق التعزير إلى اجتهاد الإمام على حسب ما يغلب على ظنه أنه يردع به، وكان في الناس من يردعه الكلام، وكان فيهم من لا يردعه مائة سوط، وهي عنده كضرب المروحة، فلم يكن للتحديد فيه معنًى، وكان مفوضا إلى ما يؤديه إليه اجتهاده بأن يردع مثله.
قال المهلب: ألا ترى أنه عليه السلام زاد المواصلين في (النكال)
(1)
كذلك يجوز للإمام أن يزيد فيه على حسب اجتهاده، ولذلك ضرب المتبايعين للطعام، وانتقامه عليه السلام للمحرمات لم يكن محدودًا، فيجب أن يضرب كل واحد منهم على قدر عصيانه للسنة ومعاندته أكثر مما يضرب الجاهل، ولو كان في شيء من ذلك حد لم يجز خلافه.
فصل:
وقال الداودي: لم يبلغ مالكا هذا الحديث -يعني حديث الباب- وكان يرى العقوبة بقدر الذنب، وأرى ذلك مَوْكُولا إلى اجتهاد الأئمة وإن جاوز ذلك الحد، وقد استشاره أمير في رجل ضم صبيا إلى صدره (فقيل)
(2)
ذلك إلى السلطان فضربه فانتفخ منها حتى مات، ولم ينكر مالك ذلك عليه.
(1)
في (ص 1): النكاح.
(2)
كذا بالأصل، وأظنها: فنقل.
وفي "المعرفة" للبيهقي أُتي علي في رجل فقالوا: وجدناه تحت فرالش امرأة فقال: لقد وجدتموه على نتن فانطلقوا إلى نتن مثله فمرغوه فيه، فمرغوه في عذرة وخلَّى سبيله.
قال الشافعي: وهم يخالفون هذا ويقولون: يضرب ويرسل. وعن ابن مسعود: أنه وجد امرأة مع رجل في لحافها على فراشها فضربه خمسين، وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه
(1)
.
فصل:
قال ابن حزم: الحد في سبعة أشياء: الردة، والحرابة قبل أن يقدر عليه، والزنا، والقذف بالزنا، وشرب المسكر سكر أو لم يسكر، والسرقة، وجحد العارية. وأما سائر المعاصي فإنما فيها التعزير فقط وهو الأدب، ومن ذلك أشياء رأى فيها قوم من المتقدمين حدا واجبا، وهي القذف بالخمر والتعريض، وشرب الدم، وأكل الخنزير والميتة، وفعل قوم لوط، وإتيان البهيمة، والمرأة تستنكح البهيمة، وسحق النساء، وترك الصلاة غير جاحد لها، والفطر في رمضان، والسِّحْر
(2)
.
(1)
"معرفة السنن والآثار" 13/ 68.
(2)
"المحلى" 11/ 373.
43 - باب مَنْ أَظْهَرَ الفَاحِشَةَ وَاللَّطْخَ وَالتُّهَمَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ
6854 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: شَهِدْتُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ زَوْجُهَا: كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا. قَالَ: فَحَفِظْتُ ذَاكَ مِنَ الزُّهْرِيِّ: «إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهْوَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا -كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ- فَهُوَ» . وَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: جَاءَتْ بِهِ لِلَّذِى يُكْرَهُ. [انظر: 423 - مسلم: 1492 - فتح 12/ 180]
6855 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ المُتَلَاعِنَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَدَّادٍ: هِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً عَنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟» . قَالَ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ. [انظر: 5310 - مسلم: 1497 - فتح 12/ 180]
6856 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: ذُكِرَ التَّلَاعُنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي ذَلِكَ قَوْلاً ثُمَّ انْصَرَفَ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يَشْكُو أَنَّهُ وَجَدَ مَعَ أَهْلِهِ، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَا ابْتُلِيتُ بِهَذَا إِلاَّ لِقَوْلِي. فَذَهَبَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِى وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُصْفَرًّا قَلِيلَ اللَّحْمِ سَبِطَ الشَّعَرِ، وَكَانَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ آدَمَ خَدْلاً كَثِيرَ اللَّحْمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ بَيِّنْ» . فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلَاعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا. فَقَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمَجْلِسِ: هِيَ التِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هَذِهِ؟» . فَقَالَ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلَامِ السُّوءَ. [انظر: 5310 - مسلم: 1497 - فتح 12/ 180]
ذكر في حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: شَهِدْتُ المُتَلَاعِنينِ وَأَنَا ابن خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَة، الحديث ..
وفيه: "إِنْ جَاءَتْ بِهِ كذَا وَكذَا فَهْوَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كذَا وَكذَا -كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ- فَهُوَ". قال الزُّهْرِيُّ: جَاءَتْ بِهِ لِلَّذِي يُكْرَهُ.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما ذكر المتلاعنين؛ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَدَّادٍ: هِيَ التِي قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كنْتُ رَاجِمًا امْرَأةً عَن غَيْرِ بَيِّنَةٍ؟ ". قَالَ: لَا، تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ.
وعنه رضي الله عنه أيضًا في ذكر المتلاعنين؛ فَقَالَ عليه السلام: "اللَّهُمَّ بَيِّنْ". فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا، فَلَاعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا. فَقَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فِي المَجْلِسِ: هِيَ التِي قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَجَمْتُ أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ رَجَمْتُ هذِه"؛ فَقَالَ: لَا، تِلْكَ امْرَأةٌ كَانَتْ تُظْهِرُ فِي الإِسْلَامِ السُّوءَ.
هذا الحديث -كما قال المهلب- أصل في أنه لا يجوز لأحد أن يحد بغير بينة وإن اتهم بفاحشة، ألا ترى أنه عليه السلام قد وسم ما في بطن المرأة الملاعنة بالمكروه وبغيره، وجاءت به على النعت المكروه للشبه وللمتهم بها، ولم يقم عليها الحد بالدليل الواضح، إذا لو كان ذلك خلاف ما شرع الله ولا يجوز أن يتعدى حدود الله ولا يستباح دم ولا مال إلا بيقين لا شك فيه، وهذِه رحمة من الله لعباده وإرادة الستر لهم والرفق بهم؛ ليتوبوا فلا يحدوا إلا بمعاينة تخفيفا ورفقا.
فصل:
الوحرة: بالتحريك دويبة حمراء تلصق بالأرض، شبهت العداوة والغل بها لتثبته بالقلب، يقال: وحر صدره، ووغر. قال القزاز: هي كالوزغة تقع في الطعام فتفسده، فيقال: طعام وحر.
وقوله: (سبط الشعر) هو بكسر الباء.
وقوله: (خَدْلًا) قال ابن فارس: يقال: امرأة خدلة أي ممتلئة الأعضاء دقيقة العظام
(1)
. وقال الجوهري: الخدلاء البينة الخدل، وهي الممتلئة الساقين والذراعين
(2)
. وقال الهروي: الخدل الممتلئ الساق وذكر الحديث
(3)
، ورويناه خَدَلًّا بفتح الدال وتشديد اللام.
(1)
"مجمل اللغة" 1/ 279.
(2)
"الصحاح" 4/ 1683.
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" 1/ 14.
44 - باب رَمْي المُحْصَنَاتِ
وقول الله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} الآية، إلى {رَحِيمٌ} [النور: 4 - 5]، {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية [النور: 23].
6857 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ:«الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ» . [انظر: 2766 - مسلم: 89 - فتح 12/ 181]
ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ". الحديث سلف، وعد منها: قذف المحصنات، والمراد بالمحصنات في الآية العفائف الحرائر المسلمات وناب فيها ذكر رمي النساء عن ذكر رمي الرجال.
وقام الإجماع أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا، وأن من قذف حرًّا عفيفًا مؤمنًا عليه الحد ثمانون كمن قذف حرة مؤمنة، وجاءت الأخبار عن الشارع بالتغليظ في رمي المحصنات وأن ذلك من الكبائر.
قال المهلب: إنما سماها الشارع موبقات؛ لأن الله تعالى إن أراد أن يأخذ عبده بها أوبقه في نار جهنم.
45 - باب قَذْفِ العَبِيدِ
6858 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهْوَ بَرِئٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» . [مسلم: 1660 -
فتح 12/ 185]
ذكر فيه حديث ابن أبي نُعْم -واسمه عبد الرحمن بن أبي نُعم أبو الحكم البجلي الكوف- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْتُ أَبَا القَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهْوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ".
الشرح:
هذا الحديث أخرجه الدارقطني بلفظ: "قام الحد عليه يوم القيامة"
(1)
. وفي رواية: "جلده الله يوم القيامة الحد"
(2)
وهو دال على النهي عن قذف العبيد والاستطالة عليهم بغير حق لإخباره عليه السلام أن من فعل ذلك جلد يوم القيامة.
وقوله: ("إلا أن يكون كما قال") دليل أنه لا إثم عليه في رميه عبده بما فيه، فإن ذلك ليس من باب الغيبة المنهي عنها في الأحرار، والعلماء مجمعون كما قال المهلب: أن الحر إذا قذف عبدًا فلا حد عليه، وحجتهم حديث الباب، فلو وجب عليه الحد في الدنيا لذكره، كما ذكره في الآخرة، فجعل العبيد غير مقارنين للأحرار في (الحرية)
(3)
(1)
"سنن الدارقطني" 3/ 213 - 214.
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 213.
(3)
في (ص 1): الحرمة.
في الدنيا، فإذا ارتفع ملك العبد في الآخرة استوى الشريف والوضيع والعبد والحر، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقى، تكافأ الناس في الحدود والحرمة واقتص لكل واحد من صاحبه إلا أن يعفو أحد عن أحد، وإنما لم يتكافئوا في الدنيا؛ لئلا يدخل الداخلون على المالكين من مكافأتهم لهم، ولا تصح لهم حرمة، ولا فضل في منزلة، وتبطل حكمة التسخير؛ حكمة من الحكيم الخبير.
وقال مالك والشافعي: من قذف من يحسبه عبدًا فإذا هو حر فعليه الحد. قال مالك
(1)
، وهو قياس قول الشافعي، وذلك إذا قذف بعد موت السيد، وهو قياس قول كل من لا يرى بيع أمهات الأولاد. روي عن الحسن بن أبي الحسن
(2)
: أنه كان لا يرى جلد قاذف أم الولد، ونقل عن الخوارج أن من قذف رجلا محصنا فلا حد عليه، ومن قذف امرأة محصنة فعليه الحد.
(1)
هكذا بالأصل، وفي "شرح ابن بطال" 8/ 490 عن ابن المنذر -قبل قوله: قال مالك- (واختلفوا فيما يجب على قاذف أم الولد، فروي عن ابن عمر أنه عليه الحد، وبه قال مالك)، ولعله سقط من المصنف.
(2)
وهو البصري.
46 - باب هَلْ يَأْمُرُ الإِمَامُ رَجُلاً فَيَضْرِبُ الحَدَّ غَائِبًا عَنْهُ
؟
وَقَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ رضي الله عنه.
6859، 6860 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ قَالَا: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللهَ إِلاَّ قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ. فَقَامَ خَصْمُهُ -وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ- فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَأْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«قُلْ» . فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا فِي أَهْلِ هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، المِائَةُ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَيَا أُنَيْسُ اغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَسَلْهَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا. [انظر: 2314، 2315 - مسلم: 1697، 1698 - فتح 12/ 185]
ثم ساق حديث أبي هريرة وزيد السالف في قصة العسيف.
وموضع الحاجة منه: "اغدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هذا، فَإِنِ اغتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا"، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا.
آخر باب حد الزنا.
87
كتاب الدِّيات
بسم الله الرحمن الرحيم
87 - كِتَابُ الدِّيَاتِ
1 - [باب] قَوْلِ الله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93]
6861 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ:«أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ» . قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ [خَشْيَةَ] أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ» . قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» . فَأَنْزَلَ الله عز وجل تَصْدِيقَهَا: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} الآيَةَ [الفرقان: 68]. [انظر: 4477 - مسلم: 86 - فتح 12/ 187]
6862 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ العَاصِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا". [6863 - فتح 12/ 187]
6863 -
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوب، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ مِنْ وَرْطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ. [انظر: 6862 - فتح 12/ 187]
6864 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ» [انظر: 6533 - مسلم: 1678 - فتح 12/ 187]
6865 -
حَدَّثَنَا عَبْدَان، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَدِيٍّ حَدَّثَهُ، أَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو الْكِنْدِيَّ حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ حَدَّثَهُ -وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا، فَضَرَبَ يَدِي بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ بِشَجَرَةٍ وَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ. آقْتُلُهُ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقْتُلْهُ» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّهُ طَرَحَ إِحْدَى يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا قَطَعَهَا، آقْتُلُهُ؟ قَالَ:«لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَأَنْتَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ» . [انظر: 4019 - مسلم: 95 - فتح 12/ 187]
6866 -
وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْمِقْدَادِ: «إِذَا كَانَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِى إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ» . [فتح 12/ 187]
الدية: واحدة الديات، والهاء عوض من الواو، تقول: وَدَيْتُ القتيل أَدِيهِ دِيَةً إذا أعطيت دِيَتَه، واتَّدَيْتُ: أخذت ديته، وإذا أمرت منه قلت: دِ فلانًا، وللاثنين: دِيَا فلانًا، وللجماعة: دُوا فلانًا، قاله أبو نصر
(1)
.
(1)
"الصحاح" 6/ 2521.
وقال القزاز: هي من وديت مثل الزنة من وزنت. وقال في "المُغِرب": هي مصدر ودي القتيل إذا أعطي وليه ديته، وأصل التركيب على معنى الجري والخروج، ومنه: الوادي؛ لأن الماء يدي فيه، أي: يجري.
ثم قال: وقوله تعالي {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] وهذه الآية سلفت في التفسير
(1)
، وذكرنا خلاف العلماء فيه واضحًا، وابن عباس وزيد وابن مسعود وابن عمر أنه لا توبة له، وقيل: إن آية الفرقان تكون في الشرك.
قال الضحاك: لما نزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ} الآية [الفرقان: 68]، قال المشركون: قد زعم أنه لنا، فنزل:{إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70] أي: تاب من الشرك وأسلم. ونزل هذا بمكة، ونزل {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية [الزمر: 53]، ثم أنزل بالمدينة بعد ثماني سنين:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} مبهمة لا مخرج لها
(2)
.
وروى سعيد بن ميناء عن ابن عمر، سأله رجل فقال: قتلت رجلاً فهل من توبة؟ قال: تزود من الماء البارد فإنك لا تدخلها أبدًا
(3)
.
وذكره ابن أبي شيبة أيضًا عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري والضحاك، وروي عن أبي الدرداء أيضًا
(4)
، وروى عن علي وابن عباس وابن عمر أن القاتل له توبة، وقاله جماعة من التابعين
(5)
.
(1)
راجع شرح حديث (4590).
(2)
انظر: "معاني القرآن" للنحاس 5/ 51 - 52.
(3)
ذكره ابن بطال 8/ 492 وعزاه إلى ابن المنذر.
(4)
"المصنف" 5/ 431 - 433 (27721، 27726، 27729، 27732، 27734)
(5)
انظر: "المصنف" 5/ 433 - 434.
وجماعة أهل السنة وفقهاء الأمصار على هذا؛ وحجتهم قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25]. وقوله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82] وهذا عموم لا يخرج عنه شيء.
وذكر إسماعيل بن إسحاق القاضي: حدثنا المقدمي: ثنا المعتمر بن سليمان، عن سليمان بن (عبيد البارقي)
(1)
، حدثني إسماعيل بن ثوبان: جالست الناس في المسجد الأكبر قبل الدار فسمعتهم يقولون لما نزلت {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} الآية. قال المهاجرون والأنصار: وجبت لمن فعل هذا النار. حتى نزلت {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية
(2)
[النساء: 48، 116].
واحتجوا أيضًا بحديث عبادة بن الصامت أنه عليه السلام أخذ عليهم في بيعة العقبة أن من أصاب ذنبًا فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له
(3)
.
وقال الداودي: هذِه الآية نزلت {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} إن كانت في المسلم والكافر فقد عفا الله تعالى عن الخلود للمؤمنين فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 106 - 107] فاستثنى من يدخلها من المؤمنين.
قال: ويحتمل أن يريد أنه قتله مستحلاً، أويريد إن جوزي أو إن لم يتب، وقد سلف ذلك واضحًا فراجعه.
وروى ابن أبي عاصم في "الديات" حديث أبي هريرة مرفوعًا: "خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق
…
"
(1)
في الأصل: (عبد الباقي) والمثبت من (ص 1) وهو الصواب.
(2)
ذكره هكذا ابن بطال 8/ 492 - 493.
(3)
رواه أحمد 5/ 323.
الحديث
(1)
.
وقال ابن المنذر: المروي عن علي وابن عمر وابن عباس في أن القاتل له توبة، فروي من طريق لا يحتج بها.
قلت: أخرج رواية ابن عمر رضي الله عنهما ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق عنه. ورواية ابن عباس أخرجها أيضًا عن يزيد بن هارون، ثنا أبو مالك الأشجعي عن سعيد بن عبيدة عنه
(2)
.
ثم ساق في الباب أحاديث:
أحدها:
حديث ابن مسعود رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ .. الحديث.
وقوله: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ". هو كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] وقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140] قال عكرمة: نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر.
وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته مخافة الفاقة، فحرم الله تعالى قتل الأطفال، وأخبر رسوله أن ذلك ذنب عظيم بعد الكفر، وجعل بعده في العظم الزنا بحليلة الجار؛ لعظم حق الجار وتأكيد حرمته.
(1)
"الديات" لابن أبي عاصم ص 42.
وعنه أبو الشيخ في "التوبيخ والتنبيه"(211).
ورواه أيضًا أحمد 2/ 362 من طريق بقية، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3247).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 433 - 434 (27739، 27744).
وقد سلف هذا قريبا في باب إثم الزنا، والند: النظير والمثل، وكذلك النديد.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} قال مجاهد: هو وادٍ في جهنم
(1)
، وقيل: يعني آثام ذلك. وقال الخليل وسيبويه: أي: جزاء الآثام. وقال القتبي: الآثام: العقوبة
(2)
.
الحديث الثاني:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصبْ دَمًا حَرَامًا". فيه: تعظيم حرمة دم المؤمنين.
ومنه الحديث الثالث حديثه أيضًا:
إِنَّ مِنْ وَرْطَاتِ الأُمُورِ التِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الحَرَام بِغَيْرِ حِلِّهِ. والورطة: المهلك، يقال: وقعوا في ورطة أي: بلية، فشبه أَكثر العامة (
…
)
(3)
.
قال رؤبة: فأصبحوا في ورطة الأوراط.
وأصل الورطة أرض مطمئن لا طريق فيها.
الحديث الرابع:
حديث عبد الله، هو ابن مسعود قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ في الدِّمَاءِ". وقد سلف أن هذا في المظالم؛ لعظم القتل على كل مظلمة؛ لذلك قال: "بين الناس".
(1)
انظر: "تفسير القرطبي" 13/ 76.
(2)
انظر: "غريب الحديث" 3/ 762.
(3)
بياض قدر كلمة في الأصل.
قال الداودي: وذلك لأن الكفر إنما هو بين الله وعباده وأن حديث: "أول ما ينظر الله فيه الصلاة"
(1)
في خاصة نفسه بعد الانتصاف من المظالم ولا يبقى تباعة إلا لله بالصلاة فلا معارضة بينهما.
الحديث الخامس:
حديث المقداد بن عمرو رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ لَقِيتُ كَافِرًا فَاقْتَتَلْنَا .. الحديث.
الحديث السادس:
وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلْمِقْدَادِ: "إِذَا كانَ رَجُلٌ يُخْفِي إِيمَانَهُ مَعَ قَوْمِ كفَّارٍ فَأَظْهَرَ إِيمَانَهُ فَقَتَلْتَهُ، فَكَذَلِكَ كُنْتَ أَنْتَ تُخْفِي إِيمَانَكَ بِمَكَّةَ مِنْ قَبْلُ"، وهو مبشر مؤمن.
وقوله: (وقال حبيب) إلى آخره، أخرجه ابن سعد في "طبقاته" عن عبيد الله بن موسى، ثنا إسرائيل عنه، عن سعيد بن جبير، به
(2)
.
فإن قلت: كيف قطع يده وهو (ممن)
(3)
يكتم إيمانه؟ قيل: إنما دفع عن نفسه من يريد قتله، فجاز له ذلك كما جاز للمؤمن إذا أراد أن يقتله مؤمن أن يدفع عن نفسه، فإن اضطره الدافع عن نفسه إلى قتل الظالم دون قصد إلى إرادة قتله فهو هدر؛ فلذلك لم يقد عليه السلام من يد المقداد، كما لم يقد قتيل أسامة، لأنه قتله متأولًا
(4)
.
(1)
رواه أبو داود (864)، وأحمد 4/ 65. وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (2571).
(2)
انظر: "تغليق التعليق" 5/ 242 - 244.
(3)
من (ص 1).
(4)
سلف برقم (4269)، ورواه مسلم (96). ويأتي قريبًا.
قلت: المقداد لم يقطع يده، وإنما قال ذلك للشارع على جهة التمثيل؛ لأنه قال:(إن لقيت كافرًا) إلى آخره.
ويحتمل قوله: "فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله"، أنه مغفور له بشهادة التوحيد كما أنت مغفورًا لك بشاهدة بدر، وقوله:"فإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته"، يعني: إنك قاصد لقتله عمدًا آثم كما كان هو أيضًا قاصدًا لقتلك عمدًا آثمًا، فأنت في مثل حاله من العصيان إلا أن واحداً منهما يكفر بقتل المسلم؛ لأن إتيان الكبائر لمن صح له عقد التوحيد لا يخرجه إلى الكفر، وإنما هي ذنوب موبقات، لله تعالى أن يغفرها لكل من لا يشرك به شيئًا.
وقال ابن القصار: معنى قوله "وأنت بمنزلته قبل أن يقولها" في إباحة الدم، لا أنه كافر بذلك، وإنما قصد ردعه وزجره عن قتله؛ لأن الكافر إذا أسلم فقتله حرام.
وقال الداودي: يعني: إنك (صوت قاتلا كما كان هو قاتلًا)
(1)
، قال: وهذا من المعاريض؛ لأنه أراد الإغلاظ في ظاهر اللفظ خلاف باطنه.
فصل:
قوله: (ثم لاذ بشجرة) أي لجأ إليها وعاذ بها؛ لقوله للمقداد: "فإنك بمنزلته قبل أن يقولها" ومعناه: أنه يجوز أن يكون اللائذ بالشجرة القاطع لليد مؤمنًا يكتم إيمانه مع قوم كفار غلبوه على نفسه، وإن قتلته فأنت شاك في قتلك إياه أي منزله من العمد والخطأ كما (كان)
(2)
(1)
وقع في الأصل: (ضربت قائلا كما كان هو قائل) والمثبت من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
هو مشكوكًا في إيمانه، يجوز أن (يكون)
(1)
يكتم إيمانه، وكذلك فسره المقداد كما فهمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"فكذلك .. " إلى آخره. وأنت مع قوم كفار في جملتهم وعددهم مكثرًا ومحرمًا، فكذلك الذي لاذ بشجرة وأظهر إيمانه لعله كان ممن يكتم إيمانه، وهذا كله معناه النهي عن قتل من يشهد بالإيمان.
(1)
من (ص 1).
2 - باب [قَوْلِ اللهِ تَعَالَى]: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} [المائدة: 32]
قَالَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: حُرِّمَ قَتْلُهَا إِلَّا بِحَقِّ {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} .
6867 -
حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا» . [انظر: 3335 - مسلم: 1677 - فتح 12/ 191]
6868 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَنِي، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِب بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . [انظر: 1742 - مسلم: 66 - فتح 12/ 191]
6869 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ:
«اسْتَنْصِتِ النَّاسَ، لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . [انظر: 121 - مسلم: 65 - فتح 12/ 191] رَوَاهُ أَبُو بَكْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6870 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» . أَوْ قَالَ: «الْيَمِينُ الْغَمُوسُ» . شَكَّ شُعْبَةُ. وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: «الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» . أَوْ قَالَ: «وَقَتْلُ النَّفْسِ» [انظر: 6675 - فتح 12/ 191]
6871 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْكَبَائِرُ» . وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو،
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَكْبَرُ
الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ». أَوْ قَالَ:«وَشَهَادَةُ الزُّورِ» . [انظر: 2653 - مسلم: 88 - فتح 12/ 191]
6872 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ، حَدَّثَنَا أَبُو ظَبْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رضي الله عنهما يُحَدِّثُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ. قَالَ: فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ. قَالَ: وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُمْ. قَالَ: فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَاريُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَقَالَ لِي: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؟» . قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا. قَالَ:«أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؟» . قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ. [انظر: 4269 - مسلم: 96 - فتح 12/ 191]
6873 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي مِنَ النُّقَبَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَلَا نَنْتَهِبَ، وَلَا نَعْصِيَ، بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللهِ. [انظر: 18 - مسلم: 1709 - فتح 12/ 192]
6874 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا» . [7070 - مسلم:98 - فتح 12/ 192] رَوَاهُ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6875 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ وَيُونُسُ، عَنِ الحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ. قَالَ: ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ
اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ:«إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ» . [انظر:31 - مسلم: 2888 - فتح 12/ 192]
هذا أخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي في "تفسيره" عنه. ورواه وكيع عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد، عنه .. فذكره؛ قال: وحدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: أحياها (من غرق أو حرق، وفي لفظ: من كف عن قتلها فقد أحياها)
(1)
، وعن ابن عباس أيضًا: إحياؤها أن لا يقتل نفسًا حرمها الله، وقيل: يعطى من الثواب على قدر إحياء الناس كلهم.
وقال زيد بن أسلم والحسن: من وجب له قصاص فعفى أعطاه الله من الأجر مثل (ما)
(2)
لو أحيا الناس جميعًا. وقيل: وجب شكره على الناس جميعًا. قال قتادة: عظم الله تعالى أمره.
وألحقه من الإثم هذا. وقيل: يمثل أي: الناس جميعًا له خصماء. وقيل: معناه: يجب عليه من القود ما يجب إن قتل جميع الناس؛ إذ لا يكون غير قتلة واحدة لجميعهم
(3)
.
ثم ساق البخاري في الباب أحاديث دالة على تغليظ القتل والنهي عنه:
أحدها:
حديث عبد الله -هو ابن مسعود رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابن ادَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا". أي: إثم ونصيب، ومثله قوله تعالى:{يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85] أي: نصيب،
(1)
من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
(3)
انظر هذِه الآثار في: "تفسير الطبري" 4/ 542 - 545.
واشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه إذا ارتدفه لئلا يسقط، وإنما كان عليه ذلك لأجل ابن آدم من قتله هابيل؛ لأنه أول من سن القتل واستن به القاتلون بعده، وهذا نظير قوله عليه السلام:"من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"
(1)
.
الحديث الثاني:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَرْجِعُوا بَعدِي كفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ".
الثالث:
عن جرير رضي الله عنه مرفوعًا مثله، وأنه قال ذلك في حجة الوداع، يسْتَنْصِتِ النَّاسَ، رواه أبو بكرة وابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: حديث أبي بكرة أخرجه أبو داود، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عنه
(2)
، ثم قال: وحدثنا عمرو بن زرارة، عن ابن علية به
(3)
، وخالفه حماد بن زيد والثقفي، فروياه عن أيوب، عن محمد بن سيرين، (عنه)
(4)
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، (عن أبيه
(5)
. قال ابن أبي عاصم: وحدثنا المقدمي، حدثنا يحيى بن سعيد، عن قرة،
(1)
رواه مسلم (1017/ 69)، كتاب: الزكاة، باب: الحث على الصدقة.
(2)
أبو داود (1947).
(3)
طريق عمرو بن زرارة، رواه النسائي 7/ 127.
(4)
هكذا في الأصل، وهي زيادة لا وجه لها.
(5)
سلف برقم (105، 4662) من طريق حماد بن زيد به.
وسلف برقم (3197، 4406، 5550)، ورواه مسلم (1679/ 29)، وأبو داود (1948) من طريق عبد الوهاب الثقفي به.
عن ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة)
(1)
. ولفظ الثقفي: "ستلقون ربكم ويسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وقال ابن أبي عاصم: وثنا عن ابن عباس، حدثنا حسين بن الأسود، ثنا محمد بن الصلت، ثنا مندل، عن أسيد بن عطاء، عن عكرمة، عنه رفعه:"لا يقفن أحدكم موقفًا يقتل الرجل فيه ظلمًا، فإن اللعنة تنزل عليهم حتى يرفعوا عنه"
(2)
.
قلت: ليس مطابقًا لحديث أبي بكرة.
فصل:
يريد كفارًا بتحريم الدماء وحقوق الإسلام وحرمة المؤمنين، وليس يريد الكفر الذي هو ضد الإيمان؛ لما تقدم من إجماع أهل السنة أن المعاصي غير مخرجة من الإيمان.
وقال أبو عبد الله القزاز: يريد إذا فعلوه مستحلين لذلك.
قيل: ويريد يفعلون فعل الكفار في قتال بعضهم بعضا. وقيل: يريد لابسة السلاح، يريد كفر درعه يعني: إذا لبس فوقها ثوبًا. وقيل: يكفر الناس؛ فيكفر كفعل الخوارج إذا استعرضوا الناس، كقوله:"من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما"
(3)
وقيل: كفارًا بالنعمة، فهو قريب من الكفر لعظم الذنب.
(1)
من (ص 1) وحديث ابن أبي عاصم في "الديات" ص 49.
(2)
"الديات" لابن أبي عاصم ص 50.
(3)
سلف برقم (6104).
الحديث الرابع:
حديث مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عن شُعْبَةُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ باللهِ، (وَاليَمِينُ الغَمُوسُ)
(1)
، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ". أَوْ قَالَ:"الْيَمِينُ الغَمُوسُ". شَكَّ شُعْبَةُ. وَقَالَ مُعَاذٌ: ثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: "الْكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ باللهِ، وَالْيَمِينُ الغَمُوسُ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ". أَوْ قَالَ: "وَقَتْلُ النَّفْسِ".
الحديث الخامس:
حديث عَبْدِ الصَّمَدِ، (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ)
(2)
، ثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، سَمِعَ أَنَسًا عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْكَبَائِرُ". وَثَنَا عَمْروٌ، أَنَا شُعْبَةُ، عَنِ ابن أَبِي بَكْرةَ، سَمِعَ أَنَسًا، عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ باللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَؤلُ الزُّورِ". أَوْ قَالَ: "شَهَادَةُ الزُّورِ".
وقد سلف الكلام على ذلك وليست محصورة. قيل لابن عباس: هي سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب: وعنه أيضًا إلى السبعمائة أقرب
(3)
. وقيل: هي إحدى عشر.
وقال جماعة من أهل السنة: كل المعاصي سواء، لا يقال صغيرة ولا كبيرة؛ لأن المعنى واحد، وظواهر الكتاب والسنة ترد عليهم. وقال تعالى {إِن تَجْتَنِبُواْ كبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} الآية [النساء: 31] والغموس -بفتح العين- التي تغمس صاحبها في الإثم، أي: تغرقه في الإثم.
(1)
هكذا في الأصل، ولم تذكر في أي نسخة من نسخ الصحيح، كما في "اليونينية".
(2)
من (ص 1).
(3)
رواه عبد الرزاق 10/ 460.
الحديث السادس:
حديث أسامة رضي الله عنه: بَعَثَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ .. الحديث، والمقتول مرداس بن نهيك.
سلف في المغازي
(1)
، وفي كتاب ابن أبي عاصم حديث يشعر أن القاتل غير أسامة، ذكره من حديث شهر بن حوشب، عن جندب بن سفيان البجلي
(2)
. وفي "السيرة": فلما شهرنا عليه السلاح أنا والأنصاري قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، الحديث
(3)
.
ولابن أبي عاصم من حديث هشام بن حسان، عن الحسن بن أبي الحسن أنه عليه السلام بعث خيلًا إلى فدك فأغاروا عليهم، وكان مرداس الفدكي قد خرج من الليل، وقال لأصحابه: إني لاحق بمحمد: (وأصحابه)
(4)
، فبصر به رجل فحمل عليه، فقال: إني مؤمن، فقتله، فقال عليه السلام:"هلا شققت عن قلبه؟ " قال أنس: إن قاتل مرداس (مات)
(5)
فدفنوه، فأصبح فوق القبر موضوعا، ثم أعادوه، فعاد، ثم كذلك، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به فطرح في واد بين جبلين بالمدينة، ثم قال:"أما والذي نفسي بيده إن الأرض لتكفت أو تواري من هو شر من صاحبكم، ولكن الله وعظكم" فأنزل الله في شأنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} الآية [النساء: 94]
(6)
، وهذا ظاهر في أن قاتل مرداس غير أسامة.
(1)
برقم (4269).
(2)
"الديات" ص 33 - 34.
(3)
"السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 298.
(4)
في الأصل: (وأصاب) والمثبت من "الديات".
(5)
من (ص 1).
(6)
"الديات" ص 36 - 37.
وفي رواية يونس عن ابن إسحاق (قال)
(1)
: حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم، فخرجت إلى نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة، فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على بعير له، فسلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم فقتله؛ لشيء كان بينه وبينه، وأخذ البعير ومُتَيِّعَه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن. وذكر الآية السالفة
(2)
.
زاد ابن جرير أن محلمًا توفي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنوه فلفظته الأرض مرة بعد أخرى، فأمر به عليه السلام فألقي بين جبلين وجعل عليه حجارة، وقال عليه السلام:"إن الأرض لتقبل من هو شر منه، ولكن الله أراد أن يريكم آية في قتل المؤمن"
(3)
.
قال ابن عبد البر: وقد قيل: إن هذا ليس بمحلم، فإن محلمًا نزل حمص بأخرة، ومات بها أيام ابن الزبير
(4)
.
والاختلاف في هذِه الآية كثير جدًا: نزلت في المقداد، أو في غالب بن عبد الله الليثي، أو في سرية ولم يسم القاتل، أو أسامة، أو محلم. وقيل غير ذلك، والكل متفقون على أن قتله كان خطأ.
(1)
من (ص 1).
(2)
رواه ابن إسحاق كما في "السيرة النبوية" 4/ 302.
ورواه أحمد 6/ 11، والطبري في "تفسيره" 4/ 224 (10217) من طريق ابن إسحاق، به.
(3)
"تفسير الطبري" 4/ 224 (10216).
(4)
"الاستيعاب" 4/ 24.
ومرداس بن نهيك، قال الكلبي فيه: الفدكي، وقال أبو عمر: الفزاري
(1)
. وقال ابن منده: مرداس بن عمر. وروى أبو سعيد قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها أسامة إلى بني ضمرة، فذكر قتل أسامة له، وعن ابن إسحاق: حدثني شيخ من أسلم، عن رجال من قومه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي -كلب ليث- إلى بني مرة وبها مرداس بن نهيك -حليف لهم من بني الحرقة- فقتله أسامة
(2)
.
فصل:
قتل أسامة لهذا الرجل إنما ظنه كافرًا، وجعل ما سمع منه من الشهادة تعوذًا من القتل، وأقل أحوال أسامة في ذلك أن يكون قد أخطأ في فعله؛ لأنه إنما قصد إلى قتل كافر عنده، ولم يكن عرف بحكمه عليه السلام فيمن أظهر الشهادة بالإيمان أنه يحقن دمه، فسقط عنه القَوَدُ؛ لأنه معذور بتأويله، وكذلك حكم كل من تأول فأخطأ في تأويله معذور بذلك، وهو في حكم من رمى من يجب له دمه فأصاب من لا يجب قتله؛ (لأنه لا يرد)
(3)
عليه، وما لقي أسامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله هذا الرجل الذي ظنه كافرًا من اللوم والتوبيخ حتى تمنى أنه لم يسلم قبل ذلك اليوم آلي على نفسه أن لا (يقاتل)
(4)
مسلما أبدًا، وكذلك (تخلفه)
(5)
عن علي يوم الجمل وصفين، فهو تعليم له ولغيره.
(1)
"الاستيعاب" 3/ 443 (2398).
(2)
انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام 4/ 298.
(3)
كذا بالأصل، وفي "شرح ابن بطال" 8/ 498:(أنه لا قود) وهو أوجه.
(4)
في (ص 1): يقتل.
(5)
في الأصل: (نقله) غير منقوطة، والمثبت هو الملائم للسياق.
(والحدود)
(1)
في الأحرار من الرجال والنساء واحدة، وحرمتهم واحدة، ويبين ذلك قوله تعالي في نسق هذِه الآيات:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] فعلمنا أن العبد والكافر خارجان من ذلك؛ لأن الكافر لا يسمى مصدقًا ولا مكفرًا عنه، وكذا العبد لا يجوز أن يصَّدق بدمه ولا بجرحه؛ لأن ذلك إلى سيده، قال تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية [البقرة: 178].
وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس، كانت النفس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض، وناقض أيضًا أبو حنيفة: إذا قتل عبده فلا يقتل به عنده، وقال ابن القصار، عن النخعي: يقتل الحر بعبده وعبد غيره. قال: وحكي عنه أن بينهما القصاص في الأطراف، وأظنه صحيحًا، فمذهب النخعي هذا مستمر لم يتناقض في شيء؛ لأنه يقيد النفس بالنفس في كل نفس، والأطراف أيضًا.
فصل:
وقوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] قيل: أخذ الدية، وذلك أنهم كانوا في بني إسرائيل يقتصون ولم يكن بينهم دية، فخفف الله عن هذِه الأمة بالدية، كما سلف في التفسير عن ابن شهاب، فذلك تخفيف بما كتب على أهل الكتابين، والمكتوب على اليهود أن لا يعفى عن قاتل عمد وأن يقتل قاتل الخطأ إلا أن يعفو الولي، وعلى أهل الإنجيل ترك القصاص وأخذ الدية في العمد والخطأ، وقيل: هذا في الرجل يقتل عمدًا أو له أولياء فيعفو بعضهم فللآخرين أن يطلبوا من الدية بقدر حصصهم.
(1)
في الأصل: (وإبلاغ)، والمثبت من "شرح ابن بطال" 8/ 499.
واختلف إذا طلب ولي القوم الدية وأبى القاتل، ففي "المدونة": لا يجبر القاتل، وليس لولي المقتول إلا القصاص
(1)
، وروى أشهب عن مالك: يلزم القاتل الدية شاء أو أبَى.
فصل:
قوله بعد ذلك {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] قال ابن عباس وغيره: يقتل ولا تؤخذ منه الدية.
فصل:
احتج لأبي حنيفة فيما سبق بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأ] الآية [النساء: 92]، ثم قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية [النساء: 92]، فلما كانت الكفارة واجبة في قتل الكافر الذمي وجب أن تكون الدية كذلك، قال تعالى:{وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] كما قال في المؤمن فأراد الكافر؛ لأنه لو أراد المؤمن لقال: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) وهو مؤمن، كما قال:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] فأوجب فيه تحرير رقبة دون الدية؛ لأنه مؤمن من قوم حربيين، عدو للمسلمين.
قال ابن عبد البر: وتأول مالك هذِه الآية في المؤمنين؛ لأنه قال في "الموطأ": {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} ثم قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ثم قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم} يعني: المؤمن المقتول خطأ، ورد قوله هذا بعض من ذهب مذهب الكوفيين، فقال: الحجة عليه أن الله تعالى قال في هذِه الآية: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ}
(1)
"المدونة" 4/ 511.
فقال ذلك على أنه لم يعطفه على ما تقدم من قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} ؛ لأنه لو كان معطوفًا عليه ما قال: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ؛ لأن قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} يغني عن وصفه بالإيمان؛ لأنه مستحيل أن يقول: وإن كان المقتول خطأ من قوم عدو لكم وهو مؤمن. قالوا: وكذلك قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} غير مضمر فيه المؤمن الذي تقدم ذكره، والتأويل مانع في الآية الكريمة للفريقين.
وأصل الديات التوقيف، ولا توقيف في ذلك إلا ما أجمعوا عليه، على أن أقل ما قيل فيه واجب، وقد اختلفوا فيمن زاد، والأصل تركه الدية
(1)
.
وقد احتج أيضًا له ما رواه الترمذي من حديث أبي (سعيد)
(2)
البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه عليه السلام وَدى العامرِيَّين بدية المسلمين، وكان لهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
(3)
.
وقال في "علله الكيير": سألت محمدًا عنه وقلت له: أبو (سعيد)
(4)
، فقال: مقارب الحديث
(5)
.
قلت: ضعفه أيضًا غيره
(6)
، ووافقه وكيع وأبو أسامة حماد بن
(1)
"الاستذكار" 25/ 169.
(2)
كذا بالأصل، وصوابه:(سعد) انظر: "تهذيب الكمال" 11/ 52 (2351).
(3)
الترمذي (1404).
(4)
كذا بالأصل، وصوابه:(سعد).
(5)
"العلل الكبير" 2/ 583.
(6)
في هامش الأصل: قوله: (ضعفه أيضًا غيره) -يعني غير البخاري- فيه نظر؛ لأن لفظ البخاري من ألفاظ التعديل في المرتبة الرابعة لا من ألفاظ التجريح.
أسامة، وخرج له الحاكم في "مستدركه"، وذكره في جملة الثقات في عكرمة، وقال ابن المبارك: كتبنا عنه لقرب إسناده، وقال أبو موسى المديني في كتابه: وعابه الشافعي، مختلف في حاله ويجمع حديثه. وقال أبو داود: كان من القراء. وقال الشافعي: صدوق فيه ضعف. وقال أبو زرعة الرازي: لين الحديث مدلس، قيل: هو صدوق، قال: نعم كان [لا] يكذب. وقال الوزجاني: يكتب حديثه ولا يترك
(1)
.
واحتج له أيضًا بحديث أسامة أنه عليه السلام جعل دية المعاهد كدية المسلم ألف دينار
(2)
. وعلته عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي. قال الدارقطني: متروك الحديث
(3)
.
وروى الدارقطني من حديث أبي كرز عبد الله بن عبد الملك الفهري، ثنا نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه السلام وَدى ذميًّا ديةَ مسلم. ثم قال: أبو كرز متروك، ولم يروه عن نافع غيره
(4)
.
وقال ابن حبان: لا أصل له من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولفظه: دية ذمي دية مسلم
(5)
.
وفي "مراسيل أبي داود" عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: كان عقل الذمي مثل عقل المسلم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
(1)
انظر ترجمته مفصلة في: "طبقات ابن سعد" 6/ 354، "التاريخ الكبير" 3/ 515 (1717)، "ضعفاء النسائي"(270)، "الجرح والتعديل" 4/ 62 (264)، "المجروحين" 1/ 317، "تهذيب الكمال" 11/ 52 (2351).
(2)
رواه ابن أبي عاصم في "الديات" ص 87.
(3)
"الضعفاء والمتروكون"(404) وانظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 19/ 425.
(4)
"سنن الدارقطني" 3/ 129.
(5)
"المجروحين" 2/ 17 - 18. وقال الألباني رحمه الله في "الضعيفة" (458): منكر.
وعثمان، حتى كان يعني صدرًا من خلافة معاوية، فغيرها على النصف من دية المسلم
(1)
، وأسنده ابن عدي من طريق بركة بن محمد -وهو غير ثقة ولا مأمون- عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عنه، بزيادة: فلما استخلف عمر بن عبد العزيز رد الأمر إلى القضاء الأول
(2)
.
وقال أبو عمر: هذا أثر لا يثبته أحد من أهل العلم لضعفه
(3)
.
وأخرج أبو داود من حديث ابن وهب، عن عبد الله بن يعقوب، عن عبد الله بن عبد العزيز بن صالح الحضرمي، قال: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا بكافر، قتله غيلة، وقال:"أنا أولى وأحق من أوفى بذمته"
(4)
.
قال الجورقاني في "موضوعاته": هذا حديث منكر، وإسناده منقطع، ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
، وقال ابن القطان: عبد الله بن يعقوب، وعبد الله بن عبد العزيز مجهولان، لم أجد لهما ذكرًا
(6)
.
قال ابن حزم: روينا عن إبراهيم أن رجلاً مسلمًا قتل رجلاً من أهل الحيرة، فَأَقَادَهُ عمرُ بن الخطاب. قال وكيع: وثنا أبو الأشهب، عن (أبي نضرة)
(7)
مثله سواء، وهذا مرسل.
(1)
"مراسيل أبي داود"(268). وقال الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 367: سنده صحيح.
(2)
"الكامل في ضعفاء الرجال" 2/ 225 - 226.
(3)
"الاستذكار" 25/ 171.
(4)
رواه أبو داود في "المراسيل"(251).
(5)
"الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" 2/ 177 - 178.
(6)
"بيان الوهم والإيهام" 3/ 70 (739).
(7)
في الأصل (أبي قرة)، والمثبت من "المحلى" 10/ 348. وهو الصواب، وانظر: "تهذيب الكمال" 33/ 47.
ومن حديث ابن أبي سليم، عن الحكم بن عتيبة أن علي بن أبي طالب، وابن مسعود قالا جميعًا: من قتل يهوديًّا أو نصرانيًّا قتل به. وهو مرسل.
وصح عن عمر بن عبد العزيز؛ كما روينا من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو بن ميمون قال: شهدت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمرائه في مسلم قتل ذميًّا، فأمر بأن يدفعه إلى وليه إن شاء قتل وإن شاء عفاعنه. قال ميمون: فدفع إليه فضرب عنقه، وأنا انظر
(1)
.
وصح أيضًا عن النخعي كما روينا، من طريق حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان، عنه قال: المسلم (الحر يقتل باليهودي والنصراني)
(2)
.
وظنه كافرًا كما سلف، وأن تشهده تعوذ من القتل، ولم يذكر الكفارة ولا الدية. قال الداودي: إما أن يكون سكت عنه لعلم السامع، أو كان ذلك قبل نزول الآية بالدية والكفارة.
ولما لقي أسامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقي من التوبيخ، ود أنه لم يكن أسلم إلا ذلك اليوم، آلى على نفسه أن لا يقاتل مسلمًا أبدًا كما سلف.
فصل:
في إسناده
(3)
حصين، وهو ابن عبد الرحمن السلمي، وفي الصحيحين أيضًا حصين بن جندب، أبو ظبيان الجنبي الكوفي، تابعيان.
الحديث السابع:
حديث أبي الخير -واسمه مرثد بن عبد الله اليَزَني- عَنِ الصُّنَابِحِيِّ -عبد الرحمن بن عُسَيلة: أبو عبد الله- عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: إِنِّي
(1)
"مصنف عبد الرزاق " 10/ 101 - 102.
(2)
تشبه أن تكون في الأصل: (في الموعظة)، والمثبت من "المحلى" 10/ 348.
(3)
في هامش الأصل: يعني: في إسناد حديث أسامة في "صحيح البخاري".
مِنَ النُّقَبَاءِ الذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ باللهِ شَيْئًا، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَقْتُلَ النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَلَا نَنْتَهِبَ، وَلَا نَعْصيَ، بِالْجَنَّةِ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ غَشِينَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ قَضَاءُ ذَلِكَ إِلَى اللهِ.
هذا الحديث كان ليلة العقبة قبل أن تفرض الفرائض، إلا الصلاة.
وقوله: (ولا نَعْصِي) هو بالعين المهملة، وذكر ابن التين أنه روي بالعين و (القاف)
(1)
. قال: واختار الشيخ أبو عمر العين، وبأن أن الكلام قد فرغ، وأن (بالجنة) متعلق بقوله:(بايعناه) بالجنة على أن لا نشرك. وذكرها ابن قرقول في "مطالعه" في العين والصاد المهملتين في الاختلاف وقال في العين، كذا لأبي ذر والنسفي ولابن السكن والأصيلي، وعند القابسي: ولا نقضي، أي: ولا نحكم بالجنة من
قبلنا ونقطع بذلك، قال القابسي: وهو مشكل في كتاب أبي زيد. قال القاضي: الصواب بالعين كما تضمنته الآية {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12]
(2)
.
وقوله: (فإن غشينا من ذلك شيئًا كان قضاء ذلك إلى الله) فيه دليل لأهل السنة أن المعاصي لا يكفر بها. وقد سلف.
الحديث الثامن:
حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا".
رَوَاهُ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
في هامش الأصل: لعله: (وبالقاف).
(2)
"مشارق الأنوار" 2/ 95.
والمراد بقوله: ("فليس منا") أي: ليس بكامل الإيمان، ولا قائم بجميع شرائطه.
الحديث التاسع:
حديث أبي بكرة رضي الله عنه: "إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا .. " الحديث.
وقد سلف في الإيمان في باب: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} سندًا ومتنًا
(1)
. وقلَّ أن يقع له مثل ذلك، وقد سلف في كتاب الإيمان معنى قوله:"القاتل والمقتول في النار" وإنما خرج على الترهيب والتغليظ في قتل المؤمن، فجعلهما في النار؛ لأنهما فعلا في تقاتلهما ما يئول بهما إلى النار إن أنفذ الله عليهما وعيده، والله تعالى في وعيده بالخيار عند أهل السنة. ويأتي أيضًا في كتاب الفتن بقية الكلام فيه. وقيل: المراد: من قاتل بغير تأويل على عداوة أو عصبية، وأن من قاتل باغيًا فقتل، فلا يدخل في هذا الوعيد؛ لأنه مأمور بالذب عن نفسه.
وقوله: ("إنه كان حريصًا على قتل صاحبه") احتج به القاضي أبو بكر بن الطيب، أن من هم بمعصية ووطن عليها وعزم ما قوي في اعتقاده وعزمه، فكذلك هذا جعله مأثومًا بالحرص على القتل، وتأوله غيره على القتل على أنه إنما استوجب العقوبة بالفعل وهو التقاؤهما وتقاتلهما، وعليه كثير من الفقهاء والمحدثين.
واحتجوا بقوله عليه السلام: "من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه"
(2)
، وقال القاضي: معناه أنه لم يوطن نفسه على فعلها.
(1)
برقم (31).
(2)
سلف برقم (6491)، ورواه مسلم (131) من حديث ابن عباس.
ورواه مسلم (129، 130) من حديث أبي هريرة.
3 - باب [قَوْلِ الله تَعَالَي]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} إلي قوله: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178]
قال قتادة: كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيهم عزة ومنعة، فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين، قالوا: لا نقتل به إلا حرًّا، وإذا كان فيهم امرأة قتلتها امرأة؛ قالوا: لا نقتل بها إلا رجلاً. فنهاهم الله عن البغي، وأخبر أن الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى
(1)
.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فجعل تعالى الأحرار في القصاص سواء في النفس وما دونها، وجعل العبيد متساوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دونها، رجالهم ونساؤهم
(2)
.
قال أبو عبيد: فذهب ابن عباس -فيما يُرى- إلى أن هذِه الآية التي في المائدة: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ليست بناسخة للتي في البقرة: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ولا هي خلافها، ولكنهما جميعًا محكمتان، إلا أنه رأى أن آية المائدة مفسرة للتي في البقرة، وتأول قوله:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إنما هو على أن نفس الأحرار متساوية فيما بينهم دون العبيد ذكورًا كانوا أو إناثًا، وأن أنفس المماليك متساوية فيما بينهم، وأنه لا قصاص للماليك على الأحرار.
(1)
رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 108، والبيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 25 - 26.
(2)
رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 110، والبيهقي 8/ 39 - 40.
وذهب أهل العراق إلى أن قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} نسخت {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وقالوا: ليس بين الأحرار والعبيد قصاص في النفس خاصة، ولا فرق فيما دون ذلك بينهم قصاص، واضطرب قولهم؛ لأن التنزيل إنما هو على نسق واحد، فأخذوا (بأول)
(1)
الآية.
وذكر عن الشعبي {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} نزلت في حيَّيْنِ من قبائل العرب كان بينهم قتال، كان لأحدهما فضل على الآخر، فقالوا: نقتل بالعبد منا الحر منكم، وبالمرأة الرجل. فنزلت، ثم أنزلت بعد في المائدة:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فبهذا يحتجون، قالوا: وليس في قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} نفي لغيره.
وقال إسماعيل بن إسحاق: قد قال قوم: يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي، هذا قول الثوري والكوفيين، قال أبو حنيفة: يقاد المسلم بالذمي في العمد وعليه في قتله الخطأ الدية والكفارة، ولا يقتل بالمعاهد وإن تعمد قتله.
وقال أحمد: دية الكتابي إذا قتله مسلم عمدًا مثل دية المسلم، واحتجوا بآية {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .
وفي الدارقطني من حديث ليث، عن الحكم قال: قال علي وابن مسعود: إذا قتل الحر العبد متعمدًا فهو قود
(2)
. ولا تقوم به حجة لوقفه
(3)
. وفيه من حديث حجاج عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن
(1)
في الأصل: (بأوئل) غير مهموزة، والمثبت من (ص 1).
(2)
رواه الدارقطني في "السنن" 3/ 133.
(3)
قال الدارقطني: لا تقوم به حجة؛ لأنه مرسل. اهـ قلت: كأنه يعني أنه موقوف، كما ذكر المصنف.
جده أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد
(1)
، وسيأتي عن علي أنه السنة.
وقال مالك والليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يقتل حر بعبد، هذا مذهب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.
وفي الدارقطني من حديث جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنه رفعه:"لا يقتل حر بعبد"
(2)
ومن حديث جابر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال علي: من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر، ولا حر بعبد
(3)
.
قال إسماعيل: وغلط الكوفيون في التأويل؛ لأن معنى الآية إنما هي النفس المكافئة للأخرى في حرمتها وحدودها؛ لأن القتل حد من الحدود، ولو قذف حرٌّ عبدًا لما كان عليه حد القذف، وكذلك الذمي، والحدود في الحر يقتل باليهودي والنصراني، وروي عن الشعبي مثله، وهو قول ابن أبي ليلى وعثمان البتي والحسن بن حي. زاد ابن أبي عاصم: وأبان بن عثمان وعبد الله بن مسعود
(4)
، وأحد قولي أبي يوسف، وقد اختلف عن عمر بن عبد العزيز في ذلك.
كما روينا عن عبد الرزاق، عن معمر، عن سماك بن الفضل قاضي اليمن، قال: كتب عمر بن عبد العزيز في زياد بن مسلم -وكان قد قتل ذميًّا عندنا باليمن-: أن غرمه خمسمائة ولا تقده
(5)
.
(1)
"سنن الدارقطني" 3/ 134.
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 133.
(3)
"سنن الدارقطني" 3/ 133 - 134. وفيه: عن جابر، عن عامر قال: قال علي.
وسيذكره المصنف هكذا قريبًا.
(4)
"الديات" ص 116.
(5)
"مصنف عبد الرزاق" 10/ 102 (18519).
وقول آخر: روينا عن عمر بن الخطاب في المسلم يقتل الذمي إن كان ذلك منه خلقًا أوعادة أو كان لصًّا عاديًا، فأقده به. وروي: فاضرب عنقه، وإن كان ذلك في عصبية وشبهها، فأغرمه الدية، وروي: فأغرمه أربعة آلاف، ولا يصح عن عمر؛ لأنه من طريق عبد الله بن محرر -وهو هالك- عن أبي المليح بن أسامة، عنه، وهو مرسل، أو من طريق عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز في كتابة لأبيه، أن عمر. أو من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن القاسم بن أبي بزة أن عمر، وهو مرسل، ومن طريق عمرو بن دينار، عنه، وهو مرسل.
وروى ابن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن هشام قال: قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز: أن دية اليهودي والنصراني على الثلث من دية المسلم. وعن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن عمر بن عبد العزيز قال: دية المعاهد على النصف من دية المسلم
(1)
.
وروى ابن حزم من طريق عبد الرزاق، أنبا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن رجلًا مسلمًا قتل رجلًا من أهل الذمة عمدًا فرفع إلى عثمان بن عفان، فلم يقتله به وغلظ عليه الدية كدية المسلم. قال الزهري: وقتل خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد رجلًا ذميا في زمن معاوية فلم يقتله به، وغلظ عليه الدية ألف دينار.
قال ابن حزم: هذا في غاية الصحة عن عثمان، ولا يصح في هذا شيء غير هذا عن أحد من الصحابة، إلا ما روينا عن عمر من حديث شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة أن رجلًا مسلمًا
(1)
"المصنف" 5/ 407 (27443 - 27444).
قتل رجلاً من أهل الحيرة، فكتب عمر أن يقاد به، ثم كتب عمر كتابًا بعده، لا تقتلوه، ولكن اعقلوه
(1)
.
قال أبو عمر: بلغ عمر أن القاتل من فرسان المسلمين، فكتب أن لا تقيدوه، فجاء الكتاب وقد قتل، وروي أنه شاور، فقال له -إما علي وإما غيره-: إنه لا يجب عليه قتل، فكتب أن لا يقتل، قال أبو عُمر: في كتاب عمر: (أن لا يقتل)، دليل على أن القتل كان عليه غير واجب؛ لأن الشريف والوضيع، ومن فيه غناء ومن ليس فيه غناء، في الحق سواء
(2)
.
وروى ابن حزم أيضًا من طريق عبد الرزاق، حدثنا رباح بن عبد الله ابن عمر، أنا حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك يحدث أن يهوديًّا قتل غيلة، فقضى فيه عمر بن الخطاب باثني عشر ألف درهم. قال ابن حزم: واحتجوا أيضًا بما روينا من طريق عبد الرزاق، عن الثوري، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن البيلماني مرفوعًا: أنه أقاد مسلمًا قتل يهوديًّا، وقال:"أنا أحق من أوفى بذمته"
(3)
.
وروى الدارقطني حديثه هذا عن ابن عمر مرفوعًا من رواية إبراهيم ابن أبي يحيى، وقال: لم يسنده غيره، وهو متروك الحديث، والصواب مرسل
(4)
.
وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب "اختلاف العلماء"
(5)
: هو منقطع، ولا يصح
(6)
.
(1)
"المحلى" 10/ 349 بتصرف.
(2)
"الاستذكار" 25/ 172.
(3)
"المحلى" 10/ 351.
(4)
"سنن الدارقطني" 3/ 134.
(5)
كذا سماه المصنف، والكتاب الذي بين أيدينا اسمه:"اختلاف الفقهاء".
(6)
"اختلاف الفقهاء" ص 431 - 432.
قال ابن حزم: ورواه بعض الناس (عن يحيى بن سلام)
(1)
، عن محمد بن أبي حميد، عن محمد بن المنكدر، أنه عليه السلام أقاد مسلمًا قتل ذميًّا، قال: وذكروا ما ادعوا فيه الإجماع، وهو قول أن عبيد الله ابن عمر بن الخطاب لما قتل أبوه قتل الهرمزان وكان مسلمًا، وجفينة وكان نصرانيًّا، وقتل بنية صغيرة لأبي لؤلؤة كانت تدعي الإسلام، فأشار المهاجرون على عثمان بقتله.
قال: وظاهر الأمر أنهم أشاروا عليه بقتله بهم ثلاثتهم، قال: ولا خلاف في أن المسلم يقطع إن سرق من مال الذمي والمستأمن، فقتله بهما أولى؛ لأن الدم أعظم حرمة من المال، وقالوا لنا خاصة: أنتم تحدون المسلم إن قذف الذمي والمستأمن وتمنعون قتله بقتله، واحتجوا على الشافعي بقولهم: إن قتل ذمي ذميًّا ثم أسلم فإنه يقتل به عندكم، ولا فرق بين قتلكم مسلمًا بكافر وبين قتلكم كافرًا بمسلم
(2)
.
ونقل ابن عبد البر قول أبي حنيفة عن جماعة من الصحابة والتابعين
(3)
.
وفي الدارقطني من حديث أبي الجنوب -وهو ضعيف- قال: قال علي: من كانت له ذمتنا فدمه كدمائنا، ومن حديث عبد الرزاق، عن ابن جريج، أنبأنا عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن مسعود قال: في ذمة كل معاهد مجوسي أو غيره، الدية وافية، وفي حديث معمر، عن ابن أبي نجيح، عنه: دية المعاهد مثل دية المسلم، قال: وقال ذلك علي أيضًا
(4)
، ورواه ابن أبي عاصم عن علقمة: دية المعاهد
(1)
من (ص 1).
(2)
"المحلى" 10/ 351 وفيه: وبين قتلكم مسلمًا بكافر في المسألة الأخرى.
(3)
"الاستذكار" 25/ 165 - 166.
(4)
"سنن الدارقطني" 3/ 147 - 149.
دية المسلم
(1)
، وفي حديث أبي شريح أنه عليه السلام قال:"يا خزاعة، إنكم قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله، فمن قتل له قتيل بعد هذا فأهله بين خيرين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية"
(2)
.
قال ابن أبي عاصم: وهذا المقتول كان كافرًا ولم يقل دية دون دية، ولا مقتول بمسلم دون كافر له دية
(3)
، ولا شك أن أذى المعاهد حرام.
وفي حديث أخرجه البزار في "مسنده" من حديث أبي بكرة: "من قتل نفسا معاهدة لم يرح رائحة الجنة" وفي لفظ: "من قتل معاهدًا بغير حقه حرم الله عليه الجنة، وأن يشم ريحها"
(4)
.
قال المهلب: وفيه دلالة أن المسلم لا يقتل بالذمي؛ لأن الشارع إنما رتب الوعيد للمسلم وعظم الإثم فيه في الآخرة، ولم يذكر فيهما قصاصًا في الدنيا
(5)
.
وروي من حديث ابن إسحاق قال: سألت الزهري قلت: حدثني عن دية الذمي كم كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اختلف علينا فيها؟ فقال: ما بقي أحد بين المشرق والمغرب أعلم بذلك مني، كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف دينار، وأبو بكر وعمر وعثمان، حتى كان معاوية أعطى أهل القتيل خمسمائة ووضع في بيت المال خمسمائة دينار، وقد سلف ذلك أيضًا، وروي عن عثمان بن عفان: مثل دية المسلم، وابن مسعود: مثل دية المسلم، وعن عطاء ومجاهد وإبراهيم والشعبي كذلك.
(1)
"الديات" لابن أبي عاصم ص 87.
(2)
"الديات" ص 85. والحديث هذا رواه أيضًا أبو داود (4504)، والترمذي (1406).
(3)
"الديات" ص 85 وفيه: دون كافر له ذمة.
(4)
"مسند البزار" 9/ 138 (3696).
(5)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 563.
وفي "المعرفة" للبيهقي عن الشافعي: حدثنا محمد بن الحسن، ثنا محمد بن يزيد، ثنا سفيان بن حسين، عن الزهري أن ابن شاس الجذامي قتل رجلاً من أنباط الشام، فأمر عثمان بقتله، فكلمه الزبير وناس من الصحابة ونهوه عن قتله، فجعل ديته ألف دينار
(1)
.
وأسندنا عن الزهري، عن ابن المسيب أنه قال: دية كل معاهد في عهده ألف دينار.
قال الطحاوي: واحتج بعضهم بما روي أن عثمان قضى في دية المعاهد (بأربعة ألاف، قيل له: قد روي عنه أنه قد قضى في دية المعاهد)
(2)
بدية مسلم، قال: وهذا أولى بما في الحديث الأول عنه؛ لأن ما في الحديث الأول رواه عنه سعيد بن المسيب، وسعيد يقول بخلافه: أن دية المعاهد ألف دينار
(3)
.
قال ابن عبد البر: قال الزهري: فلم يقض لي أن أذاكر بذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن الدية قد كانت ثابتة لأهل الذمة، قال معمر: فقلت للزهري: إن ابن المسيب قال: ديته أربعة آلاف، فقال لي: إن خير الأمور ما عرض على كتاب الله: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وروى ابن جريج، عن يعقوب بن عتبة؛ وإسماعيل ابن محمد؛ وصالح قالوا: عقل كل معاهد ومعاهدة كعقل المسلمين ذكرانهم كذكرانهم وإناثهم كإناثهم، جرت بذلك السنة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
"معرفة السنن والآثار" للبيهقي 12/ 27.
(2)
من (ص 1).
(3)
"شرح مشكل الآثار" 11/ 318 - 319.
(4)
" الاستذكار" 25/ 167.
فصل:
احتج الشافعي ومن قال بقوله، بحديث أبي جحيفة عن علي رضي الله عنه الآتي في باب لا يقتل المسلم بالكافر مطولاً، وفي آخره:"ولا يقتل مسلم بكافر"
(1)
.
وأخرجه الدارقطني من حديث حجاج، عن قتادة، عن مسلم الأجرد، عن مالك الأشتر بزيادة:"ولا ذو عهد في عهده"
(2)
.
وقال في "علله": رواه حجاج بن حجاج، عن قتادة، (عن أبي حسان الأعرج، عن الأشتر، ورواه حجاج بن أرطأة، عنه)
(3)
كما سلف، ومسلم الأجرد هو أبو حسان الأعرج، ورواه همام وعثمان بن مقسم، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن علي -لم يذكر الأشتر- ورواه ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي رضي الله عنه، وقول سعيد بن أبي عروبة أشبهها بالصواب
(4)
.
واعترض معترض كما قال ابن حزم. بأنه قال مرة: عن قتادة، عن الحسن، ومرة: رواه عن أبي حسان الأعرج (مرسلًا)
(5)
، وهذِه علة في حديث علي، فكان ماذا؟ ما جعل مثل هذا علة إلا ذو علة، ولا ندري لماذا أعله به، وقالوا أيضًا: قد روي من طريق وكيع، ثنا أبو بكر الهذلي، عن سعيد بن جبير أنه قال: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل
(1)
سيأتي برقم (6915).
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 98.
(3)
من (ص 1).
(4)
"علل الدارقطني" 4/ 131 - 132.
(5)
من (ص 1).
مسلم بكافر"، إن أهل الجاهلية كانوا يتطالبون بالدماء فلما جاء الإسلام قال عليه السلام: "لا يقتل رجل من المسلمين بدم كافر أصابه في الجاهلية". وهذا عجيب جدًّا، الهذلي كذاب مشهور، ولو صح أنه عليه السلام قاله لكان هذا خبرًا قائمًا بنفسه لوضعه دماء الجاهلية في حجة الوداع، وكان ما في صحيفة علي غبرًا آخر قائمًا بنفسه لا يحل تخصيصه بذلك الخبر؛ لأنه دعوى بلا دليل
(1)
.
وأما قول علي: من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر. فهو عند الدارقطني من حديث جابر الجعفي، عن عامر، عنه.
وروى في "السنن" أيضًا حديث مالك بن محمد بن عبد الرحمن، عن عمرة، عن عائشة قالت: وجد في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين"
(2)
.
وروى ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعًا:"لا يقتل مؤمن بكافر"
(3)
.
وزاد في "المحلى": "فمن قتل متعمدًا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية" قال ابن حزم: وهذا دليل لنا؛ لأنه قال: يقتل مؤمن بكافر؟ قال: نعم، ثم ذكر حكمًا آخر، فلو دخل في هذِه القضية: المؤمن يقتل الذمي عمدًا لكانت مخالفة للحكم الذي قبلها، وهذا باطل ولو صحت لكانت بلا شك في المؤمن يقتل المؤمن عمدًا لا فيما قد أبطله قتل، وقالوا: معناه: لا يقتل مؤمن بكافر
(1)
"المحلى" 10/ 354.
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 131.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 409 (27463).
حربي، وكيف يجوز هذا ونحن مندوبون إلى قتل الحربي؟ وقالوا: إذا قتله خطأ، وهذا بما لا يعقل
(1)
.
وقال ابن عبد البر: فإن قيل: فقد روي: "ولا ذو عهد في عهده" يعني: بكافر، والكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي، قالوا: لا يجوز أن يحمل الحديث على أن العهد يحرم به دم من له عهد لارتفاع الفائدة في ذلك؛ لأنه معلوم أن الإسلام يحقن الدم، والعهد يحقن الدم. قيل له: بهذا الخبر علمنا أن المعاهد يحرم دمه ولا يحل قتله، وهي فائدة الخبر، ويستحيل أن الله تعالى يأمر بقتال الكفار حيث وجدوا وثقفوا وهم أهل الحرب، ثم لا يقول: يقتل مؤمن بكافر ثم يقتله رفقًا له، ووعدكم الله الجزيل (من الثواب)
(2)
على جهاده، هذا ما لا يظنه ذو لب، فكيف يخفى مثله على ذي علم؟ قال أبو عمر: وقد أجمعوا على أنه لا يقاد للكافر من المسلم (فيما)
(3)
دون النفس من الجوارح فالنفس بذلك أحرى وأولى
(4)
.
وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم:"أن في النفس مائة من الإبل"، أخرجه بطوله ابن حبان والحاكم في صحيحيهما
(5)
.
فصل:
وأما قول مالك والليث: أن المسلم إذا قتل الكافر قتل غيلة قتل به،
(1)
"المحلى" 10/ 354، 355.
(2)
من (ص 1).
(3)
من (ص 1) ..
(4)
"الاستذكار" 25/ 176 - 177.
(5)
"صحيح ابن حبان"(6559)، "مستدرك الحاكم" 1/ 396.
فمعنى ذلك أن قتل الغيلة إنما هو من أجل المال، والمحارب والمغتال إنما يقتلان لطلب المال، لا لعداوة بينهما، فقتل العداوة والثائرة خاص، وقتل المغتال عام فضرره أعظم؛ لأنه من أهل الفساد في الأرض، وقد أباح الله تعالى قتل الذين يسعون في الأرض فسادًا سواء قتل أو لم يقتل، فإذا قتل فقد تناهى فساده، وسواء قتل مسلمًا أو كافرًا أو حرًّا أو عبدًا، وما قاله مالك قابله طائفة من أهل المدينة، وجعلوه من باب المحاربة وقطع السبيل كما قلنا.
قال ابن حزم: قالوا: الشعبي هو أحد رواة حديث علي، وهو يرى قتل المؤمن بالكافر، قلنا: لم يصح هذا عن الشعبي؛ لأنه لم يروه عنه إلا ابن أبي ليلى، وهو سيئ الحفظ، وداود بن يزيد الزعافري، وهو ساقط، ثم لو صح ذلك عنه لكان الواجب رفض رأيه وإطراح قوله، والأخذ بروايته، وأما احتجاج الحنفيين بمرسل ربيعة عن ابن البيلماني، وبمرسل ابن المنكدر، قلنا لهم: لا حجة في مرسل؛ فإن لجوا؛ قلنا: دونكم مرسل مثلهما، ثم ساق عن عمرو بن دينار، حدثني سعيد، أنه عليه السلام فرض على كل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم، وأن ينفى من أرضه إلى غيرها. وذكر أن عمر بن عبد العزيز قضى بذلك، وأما احتجاجهم بأنه كما يجب قطع يد المسلم إذا سرق مال ذمي فكذلك يجب قتله به، فغير جيد؛ لأن القود والقصاص للمسلم من الذمي لم يجعلها الله للكافر على المسلم، وليس كذلك القطع في السرقة ليس هو من حقوق المسروق منه المال، وليس له العفو عنه، وإنما هو حق لله تعالى أمر به، شاء المسروق منه أو أبى، فلا سبيل فيه للذمي على المسلم أصلاً، وكذلك القذف، وأما احتجاجهم إذا قتل ذمي ذميًّا ثم أسلم القاتل فالقود عليه باقٍ فقد أخطأ
هذا القائل، بل قد سقط عنه القود والقصاص؛ لأنه قَتْلَ مؤمنٍ بكافرٍ، وقد حرم الله تعالى على لسان رسوله ذلك.
قال: فإن احتجوا بما رويناه من طريق البزار من حديث يعقوب بن عبد الله بن نجيد، حدثني أبي، عن أبيه، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رجلاً من خزاعة قتل رجلاً من هذيل، فقال عليه السلام:"لو كنت قاتلًا مؤمنًا بكافر لقتلته، فأخرجوا عقله"
(1)
، قلنا: يعقوب وأبوه وجده مجهولون
(2)
.
قلت: نجيد معروف، ذكره ابن حبان في "ثقاته"، وقال: روى عن أبيه، وعنه ابناه: عبيد الله ومحمد، ابنا نجيد، عداده في أهل المدينة
(3)
. وذكر أيضًا في "ثقاته" ولده عبد الله
(4)
، ثم اعلم أن البخاري ترجم بعد: باب لا يقتل مسلم بكافر، وذكر هناك حديث علي رضي الله عنه، وكان من حقه أن نذكره هناك؛ لكنا تعجلناه استباقًا للخيرات.
(1)
رواه البزار كما في "كشف الأستار"(1546)، ورواه أيضًا الطبري في "تهذيب الآثار"(43/ مسند ابن عباس).
وقال البزار: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه، ولا نعلم له طريقًا أشد اتصالاً من هذا الطريق، فلذلك كتبناه.
وقال الهيثمي في "المجمع" 6/ 292: رواه البزار ورجاله وثقهم ابن حبان.
(2)
انتهى من "المحلى" 10/ 356 - 359 بتصرف.
(3)
"الثقات" 5/ 485.
(4)
السابق 7/ 54.
4 - باب سُؤَالِ القَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ، وَالإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ
6876 -
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ اليَهُودِيُّ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَقَرَّ بِهِ، فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. [انظر: 2413 - مسلم: 1672 - فتح 12/ 198]
ذكر فيه حديث هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجرَيْنِ، فَقِيلَ لَهَا: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِكِ؟ .. الحديث، وقد سلف في الإشخاص.
5 - باب إِذَا قَتَلَ بِحَجَرٍ أَوْ بِعَصًا
6877 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ. قَالَ: فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فُلَانٌ قَتَلَكِ» . فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَأَعَادَ عَلَيْهَا قَالَ:«فُلَانٌ قَتَلَكِ» . فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَقَالَ لَهَا فِي الثَّالِثَةِ:«فُلَانٌ قَتَلَكِ» . فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا، فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَتَلَهُ بَيْنَ الحَجَرَيْنِ. [انظر: 2413 - مسلم: 1672 - فتح 12/ 200]
ثم ساقه فيه أيضًا، عن هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ بن مالك، عن أبيه، عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ رضي الله عنه .. وترجم عليه بعد: باب: من أقاد بالحجر، وباب: إذا أقر بالقتل مرة قتل به، وباب: قتل الرجل بالمرأة.
وقال أبو مسعود الدمشقي: لا أعلم أحدًا قال في هذا الحديث: (فاعترف) غيره، وكذا الإقرار لم يذكره غيره، وينبغي للإمام والحاكم أن يشد على أهل الجنايات ويتلطف بهم حتى يقروا ليؤخذوا بإقرارهم، بخلاف إذا جاءونا تائبين مستفتين، فإنه حينئذ يعرضوا عنهم ما لم يصرحوا، فكان لهم في التأويل شبهة، فإذا بينوا ورفعوا الإشكال أقيمت عليهم الحدود، وإقرار اليهودي في هذا الحديث يدل على أنه لم تقم عليه بينة بالقتل، ولو قامت عليه ما احتاج عليه السلام أن يقرره حتى يقر، ولو لم [يقر]
(1)
لما أقاد منه، نبه عليه المهلب
(2)
، ومذهب مالك خلاف هذا، وأنه يقاد منه بعد القسامة.
(1)
كلمة غير واضحة بالأصل، والمثبت من "شرح ابن بطال".
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 500.
فصل:
وفيه: دليل أنه بالشكوى والإشارة توجب المطالبة بالدم وغيره؛ لأنه عليه السلام طلب اليهودي بإشارة الجارية.
فصل:
وفيه: دليل على جواز وصية غير البالغ، وجواز دعواه بالدين وغيره على الناس، كذا في ابن بطال
(1)
ولا نسلم له.
فصل:
الأوضاح: حلي فضة، قاله أبو عبيد وغيره
(2)
. قال الجوهري: الأوضاح حلي من الدراهم الصحاح، قيل: وهو مأخوذ من الوضح وهو البياض
(3)
، وعن صاحب "العين": الأوضاح جمع وضح، والوضح: حلي من فضة
(4)
.
ومعنى رضَّ: دقَّ. وقوله في الرواية الأخرى: فرماها يهودي بحجر، يحتمل أن يكون وضع رأسها على حجر ورماها بآخر من فوق، فهو رض، وهو رمي.
فصل:
اختلف العلماء في صفة القود:
فقال مالك: إنه يقتل بمثل ما قتل به، فإن قتله بعصى أو بحجر أو بالخنق أوبالتغريق، قتل بمثله، وبه قال الشافعي: إن طرحه في
(1)
" شرح ابن بطال" 8/ 500.
(2)
"غريب الحديث" 1/ 466.
(3)
"الصحاح" 1/ 416.
(4)
"العين" 3/ 266.
النار عمدًا حتى مات طرح في النار حتى يموت، وذكره الوقار
(1)
في "مختصره" عن مالك، وهو قول محمد بن عبد الحكم. وقال ابن الماجشون: يقتل بالعصى وبالخنق وبالحجر، ولا يقتل بالنار.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: بأي وجه قتل، ولا يقتل إلا بالسيف، وهو قول النخعي والشعبي
(2)
، وأهل الظاهر.
وروى ابن أبي شيبة من حديث الثوري عمن سمع الشعبي: إذا مثل بالرجل ثم قتله، فإنه يمثل به ثم يقتل، ونحوه عن إياس بن معاوية وعروة بن الزبير وميمون بن مهران وعمر بن عبد العزيز، واحتجوا بحديث جابر رفعه:"لا قود إلا بحديدة"
(3)
، وحديث أبي بكرة رفعه:"لا قود إلا بالسيف"، أخرجه البزار من حديث الحر بن مالك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عنه، وقال: أسنده الحر هكذا، وكان لا بأس به، والناس يرسلونه عن الحسن
(4)
.
(1)
في هامش الأصل: الوَقَار بفتح الواو وبالقاف مخففًا، لقب زكريا بن يحيى المصري، تفقه بابن القاسم وابن وهب، وهو ضعيف. اهـ.
قلتُ: انظر ترجمته في "الكامل" لابن عدي 4/ 174 (713)، "الميزان" 2/ 267 (2892)، ويبدو أنه ليس هو صاحب "المختصر"، وإنما هو لابنه أبي بكر محمد بن زكريا الوقار، انظر ترجمته في "حسن المحاضرة" 1/ 448 (23)، "هدية العارفين" ص 455، "شجرة النور الزكية" ص 68 (70).
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 501.
(3)
لم أهتد إليه من حديث جابر رضي الله عنه، بل كل من خرج الحديث كالزيلعي في "نصب الراية" 4/ 341 - 343، والحافظ في "الدراية" 2/ 265، والمصنف رحمه الله في "البدر المنير" 8/ 390 - 395، والحافظ في "التلخيص الحبير" 4/ 19، والألباني في "الإرواء"(2229) جميعهم لم يذكر أن جابر ممن رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
(4)
"مسند البزار" 9/ 115 - 116 (3663).
وقال أبو حاتم: هو منكر
(1)
.
وعنده أيضًا من حديث جابر الجعفي، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير مرفوعًا:"القود بالسيف ولكل خطأ أرش"
(2)
.
وروي نحوه عن علي وأبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهم
(3)
، وقال ابن عدي: كلها ضعيف
(4)
. وروي نحوه عن علي.
وروى حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن: لا قود إلا بحديدة، وروي مثله عن وكيع، عن سفيان، عن المغيرة، عن النخعي، وعن محمد بن قيس، عن الشعبي: لا قود إلا بحديدة
(5)
، واحتجوا أيضًا بقول ابن عباس حين بلغه أن عليًّا حرق قومًا بالنار، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يعذب بالنار إلا ربها"
(6)
.
احتج الأولون بالكتاب والسنة، قال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وقال: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
(1)
"علل ابن أبي حاتم" 1/ 461 (1388).
(2)
"كشف الأستار"(1527) وفيه: "ولكل شيء خطأ". وضعفه المصنف في "البدر" 8/ 390 - 391، وتبعه الحافظ في "التلخيص" 4/ 19.
(3)
ينظر تخريجها مفصلة في: "نصب الراية" 4/ 341 - 343، و"البدر المنير" 8/ 390 - 395، و"التلخيص الحبير" 4/ 19، و"الدراية" 2/ 265، و"الإرواء"(2229).
(4)
"الكامل في الضعفاء" 8/ 366. قلت: وجزم غير واحد بضعف الحديث جملة، منهم البيهقي في "السنن" 8/ 63، وفي "المعرفة" 12/ 80، وعبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطي" 4/ 75، وابن الجوزي في "التحقيق" 2/ 314، والمصنف في "البدر" 8/ 395، والألباني في "الإرواء" (2229).
(5)
انظر تخريج هذِه الآثار في المصادر المتقدم ذكرها قريبًا.
(6)
رواه أبو داود (2673).
عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فجعل تعالى لولي المقتول أن يقتل بمثل ما قتل به وليه، وتأولوا قوله:"لا قود إلا بحديدة" على تقدير صحته، وأنى له ذلك، يعني: إذا قتل بها، بدليل حديث أنس رضي الله عنه.
فإن قيل: حديث الباب لا حجة فيه؛ لأن المرأة كانت حية، والقود لا يجب في حي، قيل: إنما قتله الشارع بعد موته، لأن في الحديث أنه عليه السلام قال لها:"فلان قتلك؟ " على أنها ماتت ساعتئذ؛ لأنها سيقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تجود بنفسها ولم تقدر على النطق، فلما ماتت استقيد لها من اليهودي بالحجر، فكان ذلك سنة لا يجوز خلافها.
واختلف قول مالك: إن لم يمت من ضربة واحدة بعصى أو بحجر، ففي رواية ابن وهب أنه يضرب بالعصى حتى يموت، ولا يطول عليه، وبه قال ابن القاسم، وفي رواية أشهب وابن نافع: أنه يقتل بما قتل به إذا كانت الضربة مجهزة، فأما أن يضربه ضربات فلا، وليقتله بالسيف: قال أشهب: إن رأى أنه إن زيد ضربتين مات، وإلا أجهز عليه بالسيف.
وفي "المصنف": أن رجلاً خنق صبيًّا فكتب عمر بن عبد العزيز بقتله، وكذا قاله إبراهيم، وقال عامر: إذا خنقه فلم يرفع عنه حتى قتله فهو قود، وإذا رفع عنه، ثم مات فدية مغلظة. وقال الحكم: عليه دية مغلظة، وقال حماد: هو خطأ
(1)
.
قال ابن المنذر: وقول كثير من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل: عليه القود، وخالف ذلك محمد بن الحسن فقال في الخنق (وطرح)
(2)
في بئر، أوألقاه من جبل أو سطح: لم يكن عليه قصاص وكان على
(1)
"المصنف" 5/ 422 (27612 - 27616).
(2)
في الأصل: (بطرح)، والمثبت من (ص 1).
عاقلته الدية، فإن كان معروفًا بذلك قد خنق غير واحد، فعليه القتل. ولما أقاد الشارع من اليهودي الراض كان هذا في معناه، فلا معنى لقوله.
فصل:
قال الطحاوي: احتج بحديث الباب من قال فيمن يقول عند موته: إن مت ففلان قتلني: إنه يقبل منه، ويقتل الذي ذكر أنه قتله، وهو قول مالك والليث، وخالفهم آخرون، فقالوا: لا يجوز أن يقتل أحد مثل هذا، وهو قول بعض متأخري المالكية أيضًا، وإنما قتل الشارع اليهودي لاعترافه، لا بالدعوى، فقد بين ذلك ما أجمعوا عليه، ألا ترى لو أن رجلاً ادعى (على رجل دعوى قتل أوغيره فسئل المدعى عليه عن ذلك، فأومأ برأسه -أي: نعم- أنه لا يكون بذلك مقرًّا، فإذا كان [إيماء المدعى عليه برأسه لا يكون منه إقرارًا كان إيماء]
(1)
المدعي برأسه أحرى ألا يوجب له حقًّا. (وأجمعوا)
(2)
لو أن رجلاً ادعى)
(3)
في حال موته أن له عند رجل درهمًا ثم مات- أن ذلك غير مقبول منه، وأنه في ذلك كهو في دعواه في حال الصحة، فالنظر على ذلك أن تكون دعواه الدم في تلك الحال، كدعواه ذلك في حال الصحة
(4)
، قال لهم أهل المقالة الأولى: قول المقتول: دمي عند فلان في حال تخوفه الموت، وعند إخلاصه وتوبته إلى الله عند معاينة فراقه الدنيا أقوى من قولكم في إيجاب القسامة بوجود القتيل فقط في محلة قوم، وبه أثر، فيحلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه، ويكون
(1)
ليست في (ص 1)، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(2)
في (ص 1): أجمعها، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
(3)
ليست في الأصل، والمثبت من (ص 1).
(4)
"شرح معاني الآثار" 3/ 190 - 191 بتصرف.
عقله عليهم فألزموا العاقلة ما لم تثبت عليهم بغير بينة ولا إقرار منهم، وألزموه جناية عمد لم تثبت أيضًا ببينة ولا إقرار، فبقول المقتول: هذا قتلني أقوى من قسامة الولي إذا كان قرب وليه وهو مقتول رجل معه سكين، لجواز أن يكون غيره قتله.
6 - باب قَوْلِ الله تَعَالَي: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية [المائدة:45]
6878 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ الْجَمَاعَةَ» [مسلم: 1676 - فتح 12/ 102]
ثم ساق حديث مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَفارِقُ لِديِنه، التَّارِكُ الْجَمَاعَةَ»
الشرح:
سلف الكلام على هذِه الآية وأنها ليست بناسخة؛ لأن البقرة عند ابن عباس كالمفسرة لها، وأن أهل العراق جعلوها ناسخة لها، والأول أولى لوجهين:
أحدهما: أن هذا تفسير ابن عباس.
والثاني: أنه قول يوافق بعضه بعضًا والتنزيل على نسق واحد، وقول أهل العراق ليس (يتسق)
(1)
؛ لأنهم أخذوا أول الآية وهو {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وتركوا ما وراء ذلك، وليس لأحد أن يفرق ما جمعه الله، فيأخذ بعضه دون بعض، إلا أن يفرق بين ذلك كتاب أو سنة.
فصل:
وقوله: ("والثيب الزاني") لا يدخل فيه العبد، وقد اتفق الكوفيون
(1)
كذا في الأصل، وفي (ص 1):(متفق).
مع مالك: أن من شروط الإحصان الموجبة للرجم عندهم الحرية والبلوغ، فإذا زنا العبد وإن كان ذا زوجة فحده الجلد عندهم، فكما لا يدخل العبد في عموم الثيب الزاني كذا لا يدخل في عموم النفس بالنفس.
فصل:
وقوله: ("لدينه") هو عام في جميع الناس؛ لإجماع الأمة أن بالردة يجب القتل على كل مسلم فارق دينه عبدًا كان أو حرًا، فخص هذا بالإجماع. وقال أبو الحسن القابسي: قوله: "المفارق لدينه" يريد الخارج منه، فيحتمل أن يكون خروجه ترك الجماعة أو يبقى عليها، فيقاتل على ذلك حتى يفيء إلى دينه، وإلى الجماعة، وليس بكافر بخروجه، ويمكن أن يكون خروجه كفرًا وارتدادًا، وقيل: يحتمل أن يريد من يسعى في الأرض فسادًا.
وقال الداودي: هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 32] فأباح القتل بالفساد، وبقوله:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية [الحجرات: 9] والقتال يؤدي إلى القتل فأباحه بالبغي وبحديث قتل الفاعل والمفعول به، الذي يعمل عمل قوم لوط
(1)
. وقيل: هما في الفاعل بالبهيمة
(2)
. وقال عمر رضي الله عنه: من بايع رجلاً من غير مشورة، قتل من بويع ومن بايع. وقال عمر بن عبد العزيز: تستتاب القدرية، فإن تابوا وإلا قتلوا، قال مالك: وذلك رأيي.
(1)
رواه أبو داود (4462)، والترمذي (1456)، وابن ماجه (2561)، وأحمد 1/ 300 من حديث ابن عباس، وصححه ابن حبان 12/ 312، والألباني في "الإرواء"(2350).
(2)
رواه أحمد 1/ 300.
قال سحنون: من بأن بداره ودعا إلى بدعته يقاتل حتى يرجع إلى الجماعة، وإن لم يبن بداره ودعا إلى بدعته سجن، وكرر عليه المغترب حتى تعلم توبته أو يموت كفعل عمر رضي الله عنه في صبيع. وقال كثير من العلماء: إن تارك الصلاة يقتل.
قال: وهذا كله غير الثلاث. قال: وقد يكون قال ذلك قبل نزول الفرائض وأكثر الحدود.
7 - باب مَنْ أَقَادَ بِالْحَجَرِ
6879 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا، فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ، فَجِئَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ:«أَقَتَلَكِ فُلَانٌ؟» . فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا، ثُمَّ سَأَلَهَا الثَّالِثَةَ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ، فَقَتَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِحَجَرَيْنِ. [انظر: 2413 - مسلم: 1672 - فتح 12/ 204]
ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه في الأوضاح، وقد سلف.
8 - باب مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ
6880 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ: حَدَّثَنَا حَرْبٌ، عَنْ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلَا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي، أَلَا وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَلَا وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلاَّ مُنْشِدٌ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهْوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا يُودَى، وَإِمَّا يُقَادُ» . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شَاهٍ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبُوا لأَبِي شَاهٍ» . ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِلاَّ الإِذْخِرَ، فَإِنَّمَا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِلاَّ الإِذْخِرَ» . وَتَابَعَهُ عُبَيْدُ اللهِ عَنْ شَيْبَانَ فِي الفِيلِ، قَالَ بَعْضُهُمْ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ:"الْقَتْلَ". وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ إِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ. [انظر: 112 - مسلم: 1355 - فتح 12/ 205]
6881 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قِصَاصٌ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَقَالَ اللهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} إِلَى هَذِهِ الآيَةِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَالْعَفْوُ أَنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي العَمْدِ، قَالَ:{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] أَنْ يَطْلُبَ بِمَعْرُوفٍ، وَيُؤَدِّيَ بِإِحْسَانٍ. [انظر: 4498 - فتح 12/ 205]
حدثنا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْييَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءً: ثَنَا حَرْبٌ،
عَنْ يَحْيَى، ثنا أَبُو سلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ بِقَتِيلٍ لَهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ:"إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ .. " الحديث.
وفيه: ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا الإِذْخِرَ، فَإِنَّمَا نَجْعَلُهُ في بُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"إِلَّا الإِذْخِرَ". تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ شَيْبَانَ في الفِيلِ. وَقَالَ بَعْضهُمْ، عَنْ أَبِي نُعَيْمِ:"الْقَتْلَ". وَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ إِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ القَتِيلِ.
ثم ساق عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتْ في بَنِي إِسْرَائِيلَ قِصَاصٌ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمُ .. إلى آخره كما سلف في تفسير سورة البقرة.
وقوله: (وقال عبد الله بن رجاء) هو شيخه، ومراده بإيراد ذلك تبيين عدم تدليس يحيى فقال:(عن أبي سلمة) فإن جريرًا قاله عنه عن يحيى، ثنا أبو سلمة. ورواية ابن أبي عاصم عن دحيم ثنا الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي، عن يحيى، ومتابعة عبيد الله أخرجها مسلم عن إسحاق بن منصور عنه به
(1)
، والرجل من قريش هو العباس.
وقوله فيه: (يقال له: أبو شاة) قال عياض: أبو شاة مصروفًا ضبطه، وقرأته أنا نكرة ومعرفة، وخط السلفي الحافظ في تأليفه في فضل الفرس: من قاله بالتاء، وقال: إنه من فرسان الفرس المرسولين من قبل كسرى إلى اليمن.
وقوله: ("اكتبوا لأبي شاة") يعني: الخطبة التي خطب بها.
(1)
مسلم (1355/ 447).
فصل:
واختلف العلماء في أخذ الدية من قاتل العمد
(1)
:
فقالت طائفة: ولي المقتول بالخيار بين القصاص وأخذ الدية، وإن لم يرض القاتل، روي ذلك عن ابن المسيب والحسن وعطاء، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقال آخرون: ليس له إذا كان عمدًا إلا القصاص ولا يأخذ الدية إلا أن يرضي القاتل. رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه، وبه قال الثوري والكوفيون، وفائدة الخلاف تظهر فيمن قال: عفوت مطلقًا ولم يذكر دية، فالمعروف أنه لا دية له. وقال ابن القاسم: يحلف أنه لم يرد العفو على غير دية.
حجة الأولين قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] أي: ترك له دية ورضي منه بالدية، {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] أي: فعل صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية، وعلى القاتل إذ ذاك:{وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 178] معناه: أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم غير النفس بالنفس كما ذكره البخاري عن ابن عباس، واحتجوا أيضًا بحديث الباب:"إما أن يودى وإما أن يقاد"، وهذا نص في أنه جعل أخذ الدية أو القود إلى أولياء الدم أيضًا، ومن طريق النظر: فإنما لزمته الدية بغير رضاه؛ لأن عليه فرضًا إحياء نفسه، قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
(1)
انظر في هذِه المسألة في: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 169، و"الاستذكار" 25/ 29 - 30.
وحجة الآخرين: حديث أنس: أن ابنة النضر -وهي الرُّبَيِّعُ- كسرت ثنية جارية؛ فقال عليه السلام: "يا أنس، كتاب الله القصاص"
(1)
فلما حكم بالقصاص ولم يخيرها (يينه و)
(2)
بين أخذ الدية، ثبت بذلك أن الذي يجب بالكتاب والسنة في العمد هو القصاص، إذ لو كان يجب للمجتنى عليه التخيير بينه وبين العفو لأعلمها بما لها أن تختار من ذلك، فلما حكم بالقصاص وأخبر أنه كتاب الله ثبت بما قلناه، ووجب أن يعطف عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه ويجعل قوله:"فهو يالخيار بين أن يعفو أو يقتص أو يأخذ الدية"
(3)
على الرضا من الجاني بغرم الدية حتى تتفق معاني الاختيار، ألا ترى أن حاكمًا لو تقدم رجل إليه في شيء يجب له فيه أحد شيئين فثبت عنده حقه أنه لا يحكم بأحد الشيئين دون الآخر، والشارع أحكم الحكماء، وكذا حديث ابن عباس مرفوعًا:"العمد قود" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد جيد
(4)
.
وأما قولهم: إن عليه فرضًا إحياء نفسه، فإنا رأيناهم قد أجمعوا أن الولي لو قال للقاتل: قد رضيت أن آخذ دارك هذِه على ألا أقتلك، أن الواجب على القاتل فيما بينه وبين الله تعالى تسليم ذلك وحقن دم نفسه، فإن أبى لم يجبره عليها ولم تؤخذ منه كرهًا فيدفع إلى الولي، فكذلك الدية لا يجبر ولا تؤخذ منه كرهًا.
قال المهلب: وفي قوله: ("فهو بخير النظرين" حض وندب لأولياء القتيل أن ينظروا خير نظر، فإن كان القصاص خيرًا من أخذ الدية اقتصوا
(1)
سلف برقم (2703)، ويأتي قريبًا مختصرًا برقم (6894).
(2)
من: (ص 1).
(3)
رواه أبوداود (4496)، وأحمد 4/ 31.
(4)
أبو داود (4591)، النسائي 8/ 40، ابن ماجه (2635).
ولم يقبلوها، وإن كان أخذها أقرب إلى الألفة وقطع الضغائن بين المسلمين أخذت من غير جبر القاتل على أخذها منه، ولا يقتضي قوله:"بخير النظرين" إكراه أحد الفريقين، كما لا يقتضي قوله تعالى:{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] أخذ الدية من القاتل كرهًا.
وقال جماعة من المفسرين: ذلك يقتضي أخذها منه كرهًا إذا لم يعقله برضي أحد، وانفصل عنه بعضهم بأنه تعالى ذكر الشيء منكرًا لا معرفًا، والعفو يكون للبدل في اللغة كما يكون في الترك.
فصل:
وفي حديث الباب حجة للثوري والكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق في قولهم، أنه يجوز [العفو]
(1)
في قتل الغيلة، وهو أن يغتال الإنسان فيخدع بالمشي حتى يصير إلى موضع فيختفي فيه، فإذا صار إليه قتله، وقال مالك: الغيلة بمنزلة المحاربة، وليس لولاة الدم العفو فيها، وذلك إلى السلطان أن يقتل به القاتل.
فصل:
قال ابن المنذر: وقوله: "فأهله"
(2)
وظاهر الكتاب يدل على أن ذلك للأولياء دون السلطان
(3)
.
فصل:
قوله: ("إما أن يودى وإما أن يقاد") وقال في آخره: (وقال عبيد الله: إما أن يفادى أهل القتيل).
(1)
ليست بالأصل وهي مثبتة من "شرح ابن بطال" 8/ 509 والسياق يستقيم بها.
(2)
رواه بهذا اللفظ الترمذي (1406)، وأحمد 6/ 384، من حديث أبي شريح الكعبي.
(3)
انظر: "الإشراف" 3/ 75.
قال الداودي: إن كان المحفوظ بالفاء فيحتمل أن يكون للمقتول وليان فيخاطبهما على التثنية، فقال: إما أن يقاد أو يقتلهما، وهذا غير صحيح كما نبه عليه ابن التين؛ لأنه لو كان للتثنية لكان يوديان أو يفاديان، وهذِه الرواية إن صحت فإنما هي بالفاء: إما أن يودى القتيل، وإما أن يفادى.
واحتج بها لمالك أن القاتل لا يجبر على الدية، والصحيح يقاد بغير ألف، يقال: أقدت القاتل بالقتيل، أي: قتلته به، وأقاده السلطان، ومعنى رواية عبيد الله: يؤخذ لهم بثأرهم، والمفاداة لا تكون إلا من اثنين غالبًا، وقد يرد خلافه، ويحتمل على غير جنس الدية لا يصح إلا برضاهما.
فصل:
قال المهلب: وقوله
(1)
: "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم
رسوله والمؤمنين ليدخلوا في دين الله أفواجًا" فكان ذلك ساعة من نهار، فلما دخلوا عادت حرمتها المعظمة على سائر الأرض من تضعيف إثم منتهك الذنوب فيها، وزالت حرمتها الغير مشروعة من الله ولا من رسوله من ترك من لجأ إليها ودخلها مستأمنًا فارًّا بدم أو بخربةٍ، وجعل القصاص في قتيل الحرم لقوله عليه السلام: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين" قاله في قتيل خزاعة المقتول في الحرم، علمنا أنه يجوز القصاص في الحرم، ولو لم يجز ذلك لبينه الشارع.
وبين أن الحرمة الباقية بمكة على ما كانت في الجاهلية هو تعظيم الدم فيها عند الله على سائر الأرض؛ الحديث الآتي بعد
(1)
ورد بعدها في الأصل: فأهله، ولعلها سبق نظر.
"أبغض الناس إلى الله ملحد في الحرم" فهذا نص منه على المعنى الباقي للحرم، ويؤيد هذا قوله تعالى لما ذكر تحريم الأربعة الأشهر الحرم:{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] تعظيمًا للظلم فيهن، إذ الظلم في غيرهن محرم أيضًا، فدل أن لها مزية على غيرها في إثم الظلم والقتل وغيره.
فصل:
الساعة التي أُحلت له لم يكن القتل له فيها محرمًا لإدخاج إياهم في شرائع الإسلام، وكذلك كل قتل يكون على شرائع الله لا تعظيم فيها، ويقتص فيها من صاحبه، وقد سلف اختلاف العلماء في هذِه المسألة في الحج.
(فصل)
(1)
:
قوله:- ("لا يختلي شوكها") أي: لا يجعل خلا، والخلا: -مقصور- الحشيش من اليابس، وقيل: الرطب.
وقوله: ("ولا يعضد شجرها") أي: لا يقطع بالمعضد، وهي حديدة يقطع بها، والمنشد: المعرف، يقال: نشدت الضالة إذا طلبتها، وأنشدتها: عرفتها.
ومشهور مذهب مالك أن لقطة مكة كغيرها من البلاد تعرف، وظاهر الحديث خلافه، وهو قول الشافعي.
والإذخر جمع إذخرة، وهو نبت
(2)
إذا يبس صار كالتبن يوقده الصاغة، ويجعل في الطين يطين به.
(1)
من (ص 1).
(2)
ورد بعدها في (ص 1): يابس.
فرع:
إذا قلنا: ولي المقتول بالخيار، فهل يكون ذلك في الجراح أيضًا أم لا؟ فالمعروف أنه ليس ذلك له، وذكر في "المعونة" في الرهن جراح العمد التي يقاد فيها. وقيل: العمد على قول مالك: إنه مخير بين القود والدية، فإذا لزمت الدية جاز الرهن بها
(1)
.
فصل:
روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يزاد في دية القتيل في الأشهر الحرم أربعة آلاف، والمقتول في مكة يزاد في ديته أربعة آلاف، قيمة دية الحرم عشرين ألفًا، وفي حديث ابن أبي نجيح، عن أبيه، أن عثمان قضى في امرأة قتلت في الحرم بدية وثلث دية، وعن ابن المسيب وسليمان بن يسار ومجاهد وابن جبير وعطاء: إذا قتل في البلد الحرام فدية وثلث دية، وفي الشهر الحرام وهو محرم فدية مغلظة، وحكاه أيضًا عن ابن شهاب
(2)
.
(1)
"المعونة" 2/ 145.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 420 - 421 (27598، 27600 - 27602).
9 - باب مَنْ طَلَبَ دَمَ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ
6882 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ» . [فتح 12/ 210]
ذكر فيه حديثَ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللهِ عز وجل (ثَلَاثَةٌ)
(1)
: مُلْحِدٌ فِي الحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الاسْلَامِ سُنَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمًا بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ".
الشرح:
المراد أبغض أهل الذنوب ممن هو من جملة (المسلمين)
(2)
، ولا يجوز أن يكون هؤلاء أبغض إليه من أهل الكفر، وقد عظم الله تعالى الإلحاد في الحرم في كتابه فقال:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فاشترط أليم العذاب لمن ألحد في الحرم زائدًا على عذابه لو ألحد في غير الحرم. وقيل: كل ظالم فيه ملحد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: احتكار الطعام بمكة إلحاد
(3)
.
وقال ابن مسعود: مكثرهم القتل بمكة.
وقال أهل اللغة: المعنى: ومن يرد فيه إلحادًا بظلم والباء زائدة.
(1)
من (ص 1).
(2)
في (ص 2): المفسدين.
(3)
رواه الطبراني في "الأوسط" 2/ 132 (1485) مرفوعًا من حديث عمر بن الخطاب ورواه البخاري في "التاريخ الكبير" 7/ 255 - 256 موقوفًا على عمر.
وخالف الزجاج فقال: مذهبنا أن الباء ليست زائدة، والمعنى: ومن أراد فيه بأن يلحد بظلم، ومعنى الإلحاد لغة: العدل عن القصد، ومنه سمي اللحد، ولَحَدَ وأَلْحَدَ، وخالف الأحمر فحكى: ألحد: إذا جار، ولحد إذا عدل، وحكى الفراء عن بعضهم:{وَمَنْ يُرِدْ} من الورود
(1)
، واستبعده النحاس، قال: لأنه إنما يقال: وردته، ولا يقال: وردت فيه
(2)
.
وقوله: ("ومبتغ")(روي)
(3)
بالغين والعين المهملة، والذي شرحه ابن بطال الأول؛ فقال: والمبتغي في الإسلام سنة الجاهلية فهو طلبهم بالذحول غير القاتل وقتلهم كل من وجدوه من قبله، ومنها انتهاك المحارم، واتباع الشهوات؛ لأنها كانت مباحة في الجاهلية فنسخها الله تعالى بالإِسلام وحرمها على المؤمنين، وقال عليه السلام:"الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن"
(4)
، ومنها النياحة والطيرة والكهانة وغير ذلك، وقد قال عليه السلام:"من رغب عن سنتي فليس مني"
(5)
.
وأما إثم الدم الحرام فقد عظمه الله في غير موضع من كتابه وعلى لسان نبيه، حتى قال بعض الصحابة:(إن القاتل)
(6)
لا توبة له، وقد سلف بيان مذاهب العلماء في ذلك
(7)
.
(1)
"معاني القرآن" للفراء 2/ 223.
(2)
"معاني القرآن" للنحاس 4/ 395.
(3)
من (ص 1).
(4)
رواه أبو داود (2769) من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2474).
(5)
سلف برقم (5063).
(6)
من (ص 1).
(7)
"شرح ابن بطال" 8/ 511.
فائدة:
(أبغض) هو أفعل من أبغض، وأبغض رباعي وهو شاذ لا يقاس عليه، ومثله ما أعدم (من أعدم)
(1)
إذا افتقر، وكذلك قول عمر رضي الله عنه في الصلاة: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع
(2)
. وإنما يقال: أفعل من كذا للمفاضلة في الفعل الثلاثي.
وقوله: ("ومطلب") كذا في الأصول: وذكره ابن التين بلفظ "ومن طلب" ثم قال: أصله (مطلب)
(3)
اسم، مفتعل من طلب فأبدلت التاء طاء وأدغمت التاء في الطاء.
وقوله: (امرؤ) يعرب منه حرفان الراء والهمزة في أشهر اللغات.
وثانيها: فتح الراء على كل حال، والإعراب في الهمزة، ثالثها: ضم الراء على كل حال.
(1)
من (ص 1).
(2)
رواه مالك في الموطأ ص 31 برواية يحيى الليثي.
(3)
كذا بالأصل ولعل الصواب: (مطتلب).
10 - باب العَفْوِ فِي الخَطَإِ بَعْدَ المَوْتِ
6883 -
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: صَرَخَ إِبْلِيسُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي النَّاسِ: يَا عِبَاد الله، أُخْرَاكُمْ. فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ حَتَّى قَتَلُوا الْيَمَانَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِي أَبِي. فَقَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللهُ لَكُمْ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ حَتَّى لَحِقُوا بِالطَّائِفِ. [انظر: 3290 - فتح 12/ 211]
حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي المَغْرَاءِ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عن هشام بن عروة، وفي بغض النسخ: عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة رضي الله عنها: هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ -الواسطي، وهو غساني شامي مات سنة ثمان وثمانين أو تسعين ومائة، من أفرادة- عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: صَرَخَ إِبْلِيسُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي النَّاسِ: يَا عِبَادَ الله، أُخْرَاكُمْ. فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ عَلَى أُخْرَاهُمْ حَتَّى قَتَلُوا اليَمَانَ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِي أَبِي. فَقَتَلُوهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللهُ لَكُمْ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ انْهَزَمَ مِنْهُمْ قَوْمٌ حَتَّى لَحِقُوا بِالطَّائِفِ
وقد سلف في غزوة أحد
(1)
، وهذا أصل مجمع عليه، أن عفو الولي لا يكون إلا بعد الموت؛ لأنه يمكن أن يبرَّأ، وأما عفو القتيل فإنه يكون قبله، قال علي بن أبي طالب: إن أعش فأنا ولي دمي،
(1)
برقم (4065).
وإن أمت فأنتم وذاك
(1)
.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن قتادة أن عروة بن مسعود الثقفي دعا قومه إلى الله وإلى رسوله، فرماه رجل منهم بسهم فمات فعفا عنه، رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاز عفوه، وعن الحسن أنه كان يقول: إذا عفا الرجل عن قاتله في العمد قبل أن يموت فهو جائز. وقال ابن طاوس: قلت لأبي: الرجل يقتل فيعفو عن ديته. قال: جائز. قال: قلت: خطأ أم عمد؟ قال: نعم
(2)
.
وزعم أهل الظاهر أن العفو لا يكون للقتيل ولا يكون إلا للولي خاصة، وهو خطأ؛ لأن الولي إنما جعل إليه القيام لما هو للقتيل من أمر نفسه من أجل ولايته له ومحله منه، فالقتيل أولى بذلك وإنما فهم العفو في هذا الحديث من قول حذيفة:(غفر الله لكم)، وقد كان يتوجه الحكم إلى اليمان إلى أخذ الدية من عاقلة المقاتلين وإن لم يعرف منهم.
قال ابن التين: ويحتمل أن يريد بقوله: (غفر الله لكم): ترك الدية، ويحتمل أن يكون ذلك قبل أن تفرض الدية، أو سكت عنها لعلم السامع. قلت: قد جاء مصرحًا به أنه تصدق بديته على المسلمين.
فصل:
وترجم عليه باب: إذا مات في الزحام أو قتل
(3)
.
وقد اختلف العلماء فيمن مات في يوم الزحام ولا يدرى من قتله، فقالت طائفة: دمه في بيت المال، روي ذلك عن عمر وعلي، وبه قال إسحاق.
(1)
رواه البيهقي 8/ 183 بنحوه.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 420 (27593 - 27595).
(3)
سيأتي برقم (6890).
وقالت أخرى: ديته على من حضر، وهو قول الحسن البصري والزهري ومروان بن الحكم
(1)
.
وقالت أخرى: يقال لوليه: ادَّعِ على من شئت. فإذا حلف على أحد بعينه أو جماعة يمكن أن يكونوا قاتليه في الجمع، (و)
(2)
استحق على عواقلهم الدية في ثلاث سنين، هذا قول الشافعي.
وقال مالك: دمه هدر.
ووجه من قال: إنه في بيت المال، أنا قد اتفقنا أن من مات من فعل قوم من المسلمين (ولم)
(3)
يتعين من قتله فحسن أن يودى من بيت المال؛ لأن بيت مالهم كالعاقلة.
ووجه الثاني: أنا قد أيقنا أن من فعلهم مات فلا تتعدى إلى غيرهم، وهو أشبه بحديث الباب؛ لأن حذيفة قال:(غفر الله لكم) يدل أنه لم يغفر لهم (إلا ماله مطالبتهم به)
(4)
، ألا ترى قوله فيه هناك: فلم يزل في حذيفة منها بقية. يريد: أنها ظهرت بركة ذلك العفو عنهم.
ووجه قول الشافعي أن الدماء والأموال لا تجب إلا بالطلب، فإذا ادعى أولياء المقتول على قوم وأتوا بما يوجب القسامة حلفوا واستحقوا، ووجه قول مالك أنه لما لم يعلم قاتله بعينه علم يقين استَحَالَ أن يؤخذ أحد فيه بالظن، فوجب أن يهدر دمه.
(1)
انظر هذِه الآثار في "مصنف عبد الرزاق" 10/ 50 - 51 (18314 - 18317) و"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 445 (27847 - 27850).
(2)
لعلها زائدة، والسياق يستقيم بدونها.
(3)
في الأصل: (ومن)، والمثبت من (ص 1).
(4)
من (ص 1).
فصل:
وقوله: (وكان انهزم منهم قوم حتى لحقوا بالطائف). قال الداودي: يعني من المشركين وكان الله تعالى أزال المشركين، وقال رسوله لهم:"لا تبرحوا حتى يؤذن لكم" فهزم المشركون فمال القوم للغنيمة فصرف الله وجوههم وهزموا وقتل من المسلمين يومئذ سبعون.
قال الداودي: قتل من المهاجرين أربعة ومن الأنصار سبعون.
وقال غيره: أربعة من المهاجرين وأحد وستون من الأنصار، وفيها نزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155]، قال مالك: ولم يكن في عهده عليه السلام ملحمة هي أشد ولا أكثر قتلي منها وكانت سنة ثلاث (من الهجرة)
(1)
.
(1)
من (ص 1).
11 - باب قَوْلِ اللِّه تَعَالَي: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} إلي قوله: {عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92]
.
هذِه الآية أصل في الديات فذكر فيها ديتين وثلاث كفارات، ذكر الدية والكفارة بقتل المؤمن في دار الإسلام، وذكر الكفارة دون الدية بقتل المؤمن في دار الحرب في صف المشركين إذا حضر معهم الصف فقتله مسلم، فقال:{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وإن كان كناية عن المؤمن السالف، وقوله:{مِنْ قَوْمٍ} معناه عند الشافعي: في قوم فعبر بـ (من) عن (في) إبدالًا لحروف الجر بعضها من بعض، ثم ذكر الدية والكفارة بقتل (الذمي)
(1)
في دار الإسلام فقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} فدلت الآية على ما قدمناه، ففي الخطأ الدية بإجماع.
فصل:
قوله: {إِلَّا خَطَأً} ظاهره ليس مرادًا، فإنه لا يسوغ له قتله خطأ ولا عمدًا، لكن تقديره: لكن إن خطأه، ولا يصح أن يكون (إلا) بمعنى الواو؛ لأنه لا يعرف (إلا) بمعنى حرف العطف؛ ولأن الخطأ لا يحذر؛ لأنه ليس بشيء يقصد.
وحكى سيبويه أن (إلا) تأتي بمعنى (لكن) كثيرًا.
وقال الأصمعي وأبو عبيد: المعنى إلا أن يقتله مخطئا، وكذا قال الزجاج: أن معنى أن يقتل مؤمنًا البتة إلا خطأ، وهو استثناء منقطع،
(1)
في الأصل: (مؤمن)، وما أثبتناه من (ص 1)، ولعله الصواب بدليل الآية.
ومعنى {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي: إلا أن يتصدق أهل القتيل على من لزمته دية القتيل (فيعفو عنه ويتجاوز)
(1)
عن دمه فتسقط عنه.
قال مجاهد وعكرمة: وهذِه الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، قتل رجلاً مسلمًا ولم يعلم بإسلامه، وكان ذلك يعذبه بمثله مع أبي جهل، ثم أسلم وخرج مهاجرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش في الطريق فقتله وهو يحسبه كافرًا، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فأمره أن يعتق رقبة ونزلت الآية، حكاه الطبري عنهما
(2)
.
وقال السدي: قتله يوم الفتح وقد خرج من مكة، ولا يعلم بإسلامه، وقيل: نزلت في أبي عامر والد أبي الدرداء، خرج إلى سرية فعدل إلى شعب فوجد رجلاً في غنم فقتله، وأخذها وكان يقول: لا إله إلا الله، فوجد في نفسه من ذلك فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر عليه قتله إذ قال: لا إله إلا الله، فنزلت
(3)
.
وقيل: نزلت في والد أبي حذيفة بن اليمان، قتل خطأ يوم أحد حسبما سلف.
فصل:
وقوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} يعني: فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ من قوم ناصبوكم الحرب على الإسلام فقتله مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة ولا دية تؤدى إلى قومه؛ لئلا يتقووا بها عليكم {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي: عهد وذمة وليسوا
(1)
كذا بالأصل وفي "ابن بطال" 8/ 513: (فيعفوا عنه ويتجاوزوا).
(2)
"تفسير الطبري" 4/ 205.
(3)
انظر هذِه الآثار في "تفسير الطبري" 4/ 205 - 206 (10095 - 10099)
أهل حرب لكم {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} يعني على عاقلته وتحرير رقبة مؤمنة كفارة قتله.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، هل هو مؤمن أو كافر؟ على قولين:
أحدهما: أنه كافر (إلا)
(1)
أنه لزمت قاتليه ديته؛ لأن له ولقومه عهدًا فوجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم فلا يحل للمؤمنين أموالهم بغير طيب أنفسهم، قاله ابن عباس والنخعي والزهري، قالوا: ودية الذمي كدية المسلم.
ثانيهما: أنه مؤمن، قاله النخعي وجابر بن زيد والحسن البصري
(2)
.
قال الطبري: وأولاهما عندي قول من قال: إنه من أهل العهد؛ لأن الله أبهم ذلك فقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} ولم يقل؛ وهو مؤمن، كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إذ ليس هناك مستحق لها إن كان أولياؤه كفارًا
(3)
.
ومذهب مالك أن المسلم إذا قُتِلَ في دار الحرب خطأ أن فيه الدية، وإن قتل عمدًا قتل به قاتله، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا قود فيه.
والمعنى في إيجاب الكفارة في {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} لأجل إيمانه، والدية دفعت من أجل الميثاق والميراث للمسلمين.
قال: وهذا الآخر منسوخ؛ لأن المهادنات والمواثيق كانت بين الشارع وطوائف من المشركين، فنسخ ذلك بسورة براءة بقوله:
(1)
في الأصل (لا)، والمثبت من "شرح ابن بطال" 8/ 513.
(2)
انظر هذِه الآثار في "تفسير الطبري" 4/ 210 - 211 (10122 - 10130).
(3)
"تفسير الطبري" 4/ 211.
{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] وقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وفيها أمن أهل الذمة، واستقر الأمر في مشركي العرب بعد الأربعة أشهر على الدخول في الإسلام وإعطاء الجزية أو القتال، فكان هذا ناسخًا لما مضى قبله فلا دية الآن لمسلم يقتل في دار الحرب إذا كان في جملتهم إذ لا ميثاق.
ألا تراه قال: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} وقال مالك في: "كتاب محمد" و"المستخرجة" في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} لم يذكر فيه دية لمؤمن أسلم ولم يهاجر من مكة فلا دية له إذا قتل؛ لقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] وروى محمد، عن ابن القاسم في علج دعا إلى المبارزة بين الصفين فبرز إليه رجل، ثم رماه آخر (لم يبارزه فقتله)
(1)
فديته على الذي رماه؛ لأنه تأول فأخطأ، وليعتق رقبة مؤمنة، وقال أشهب: لا بأس يعينه ولا دية عليه
(2)
.
وهذِه الآية حجة للمخالفين في أن من أسلم بدار الحرب فلم يخرج إلينا لا دية فيه، فحصل الخلاف في الآية في موضعين: أحدهما: أنه إذا قتل مسلم قاطن بدار الحرب فيه دية. وقال ابن عباس: لا دية له
(3)
.
وإن قتل بدار الإسلام إذا كان قومه كفارًا وقتله خطأ وداه.
والحاصل ثلاثة أقوال: الدية مطلقًا سواء قتل ببلاد الحرب أو ببلاد الإسلام لا مطلق التفضيل بينهما.
(1)
من (ص 1).
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 13/ 489 - 490.
(3)
رواه الطبري في "تفسيره" 4/ 209 (10114، 10119).
الثاني: في الميثاق هل هو مسلم أو كافر كما سلف.
فصل:
قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} يعني: عن الرقبة خاصة، قاله مجاهد، وقال مسروق: عن الرقبة والدية
(1)
، والأول أولى، كما قال الطبري؛ لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل بالإجماع، فلا يقضي صوم صائم عما لزم الآخر في ماله
(2)
.
فصل:
قوله: {تَوْبَةً مِنَ اللهِ} يعني: رحمة من الله لكم وإلى التيسير عليكم بتخفيفه عنكم بتحرير الرقبة المؤمنة إذا أيسرتم بها {وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي: لم يزل عليمًا بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه، حكيمًا بما يقضي فيه ويأمر.
(1)
"تفسير الطبري" 4/ 217 (10177 - 10178).
(2)
"تفسير الطبري" 4/ 217.
12 - باب إِذَا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ مَرَّةً قُتِلَ
6884 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ. حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَقِيلَ: لَهَا مَنْ فَعَلَ بِكِ هَذَا؟ أَفُلَانٌ أَفُلَانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ اليَهُودِيُّ فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. وَقَدْ قَالَ هَمَّامٌ: بِحَجَرَيْنِ. [انظر: 3413 - مسلم: 1672 - فتح 12/ 213]
ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه في المرضوضة، وهو حجة على الكوفيين في قولهم في أنه لا بد أن يقر مرتين، كما لا بد في الزنا من أربعة. وقولهم خلاف الحديث؛ لأنه لم يذكر فيه أن اليهودي أقر أكثر من مرة واحدة، ولو كان فيه حكم معلوم لبينه، وبه قال مالك والليث والشافعي، وقد سلف في أبواب الزنا مذاهب العلماء فيه.
13 - باب قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ
6885 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ يَهُودِيًّا بِجَارِيَةٍ قَتَلَهَا عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا. [انظر: 2413 - مسلم: 1672 - فتح 12/ 213]
ذكر فيه حديث أنس رضي الله عنه في الأوضاح مختصرًا، وهو ظاهر فيما ترجم له، وهو قول فقهاء عامة الأمصار وجماعة العلماء، وكذلك تقتل المرأة بالرجل، وشذ الحسن، ورواه عن عطاء فقالا: إن قتل أولياء المرأة الرجل بها أدَّو نصف الدية، وإن قتل أولياء الرجل المرأة أخذوا من أوليائها نصف دية الرجل، وروي مثله عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه
(1)
، وبه قال عثمان البتي، حجة الجماعة حديث الباب حيث قتل اليهودي بالمرأة، فدل على إثبات القصاص بين الرجال والنساء، وفيه قتل الكافر بالمسلم.
(1)
انظر هذِه الآثار في "مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 409 - 410 (27471 - 27476).
14 - باب القِصَاصِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْجِرَاحَاتِ
وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ. وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ: تُقَادُ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فِي كُلِّ عَمْدٍ يَبْلُغُ نَفْسَهُ فَمَا دُونَهَا مِنَ الْجِرَاحِ. وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنْ أَصْحَابِهِ. وَجَرَحَتْ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ إِنْسَانًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«الْقِصَاصُ» .
6886 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَدَدْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ، فَقَالَ:«لَا تَلُدُّونِي» . فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ المَرِيضِ لِلدَّوَاءِ. فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: «لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلاَّ لُدَّ، غَيْرَ الْعَبَّاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ» . [انظر: 4458 - مسلم: 2213 - فتح 12/ 214]
قد فرغنا الكلام منه آنفًا.
ثم قال: (وَيُذْكَرُ عَنْ عُمَرَ: تُقَادُ المَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ في كُلِّ عَمْدٍ يَبْلُغُ نَفْسَهُ فَمَا دُونَهَا مِنَ الِجرَاحِ).
هذا قول مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأكثر الفقهاء، وخالف أبو حنيفة فقال: لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس من الجراح، احتج أصحابه بأن المساواة عندهم معتبرة في النفس دون الأطراف. ألا ترى أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بيد شلاء، والنفس الصحيحة تؤخذ بالمريضة، (وهذِه)
(1)
نكتهم وعليها (يبوبون)
(2)
الكلام، وكذلك لا يقطعون يد المرأة بيد الرجل، ولا يد (الحرة
(1)
من (ص 1).
(2)
كذا بالأصل وفي "ابن بطال" 8/ 516: (يبنون).
بالحر)
(1)
وإن جرى القصاص بينهما في النفس.
قال ابن المنذر: ولما أجمعوا أن نفسه (بنفسها)
(2)
، وهي أكبر الأشياء، واختلفوا فيما دونها، كان ما اختلفوا فيه مردودًا إلى ما أجمعوا عليه؛ لأن الشيء إذا أبيح منه الكثير فالقليل أولى. وحديث الربيع يبين أن القصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس؛ ولأن كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس فكذلك فيما دونها كالرجلين والمرأتين، وإنما لم تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء؛ لأن اليد الشلاء ميتة والنفس الحية لا تؤخذ بالنفس الميتة فسقط اعتراضهم.
فصل:
ولما ذكر البخاري عن عمر رضي الله عنه ما ذكر أعقبه بقوله: وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنْ أَصْحَابِهِ. قال: وَجَرَحَتْ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ إِنْسَانًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"الْقِصَاصُ".
ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها: لَدَدْنَا رسول اللهَ صلى الله عليه وسلم في مَرَضِهِ، فَقَالَ:"لَا تَلُدُّونِي". فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ المَرِيضِ لِلدَّوَاءِ. فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: "لَا يَبْقَى أحد مِنْكُمْ إِلَّا لُدَّ، غَيْرَ العَبَّاسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ" وقد سلف.
أثر عمر رضي الله عنه أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن شريح قال: أتاني عروة البارقي من عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جراحات الرجال والنساء .. الحديث
(3)
.
(1)
كذا بالأصل، وفي "ابن بطال" 8/ 516:(الحر بالعبد).
(2)
في الأصل: (بنفسه)، والمثبت من "شرح ابن بطال" 8/ 516
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 411 (27487).
والتعليق عن عمر بن عبد العزيز وأبي الزناد أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد عن وكيع، ثنا سفيان، عن عبد الله بن ذكوان أبى الزناد، عن عمر بن عبد العزيز. قال: وحدثنا وكيع، ثنا سفيان، عن جعفر بن برقان عن عمر، به
(1)
.
فصل:
قوله: (وجرحت أخت الرُّبَيّع إنسانًا) هو بضم الراء وفتح الباء الموحدة وتشديد المثناة تحت. وهذا أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، ثنا ثابت بن أسلم، ثنا أنس بن مالك قال: جرحت أخت الربيع .. الحديث
(2)
.
وادعى ابن التين أنه كذا وقع هنا في غير موضع من البخاري، أن الربيع هي الجانية، وكذا في كتاب مسلم، والذي رأيناه في نسخ البخاري الصحيحة هنا الربيع بحذف أخت
(3)
.
فصل:
وقد أسلفنا اتفاق علماء الأمصار على قتل الرجل بالمرأة وعكسه إذا كان عمدًا إلا من شذ، وأن مالكًا والثوري والأوزاعي والشافعي، وأكثر الفقهاء ذهبوا إلى أن القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات كما
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 410 (27477).
(2)
مسلم (1675) كتاب: القسامة، باب: إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها.
(3)
ورد بهامش الأصل: والذي راجعته الآن لبعض أصولنا الدمشقية الصحيحة فيها (أخت) كما قال ابن التين، وكذا في أصلنا الذي قرأناه على شيخنا العراقي بالقاهرة من رواية أبي ذر، وهذا المكان فيه كلام كثير للناس، وصوب شيخنا عدم (أخت)، وصوب بعضهم (أخت) والله أعلم.
هو في النفس. ولم يخالف فيه إلا أبو حنيفة كما سلف.
وفي حديث اللدود قصاص الرجل من المرأة؛ لأن أكثر البيت (كانوا)
(1)
نساء، وفيه أيضًا أخذ الجماعة بالواحد، ووجهه المخالفة فيما نهاهم، وأنه يؤخذ الناس بالقصاص في أقل من الجراحات؛ لأنه عليه السلام أمر بأن يقتص له ممن لده في مرضه وآلمه. وهذا دون جراحة ولا قصد لأذى، والقصاص أيضًا في الجراح خلافًا لداود في القتل، ولأبي حنيفة في الجراح.
فصل:
واللدود ما يصب من الأدوية في أحد شقي الفم، وقد لد الرجل فهو ملدود وألددته أنا، والتد هو، قاله الجوهري، والذي في الأصل لددناه ثلاثي، وعليه يدل قول الجوهري: لدّ الرجل
(2)
، إذ لو كان رباعيًا لكان ألد الرجل فهو ملد.
(1)
علم عليها في الأصل: كذا. [قلت: ولعله يقصد أن الصواب: (كنَّ)].
(2)
"الصحاح" 2/ 535.
15 - باب مَنْ أَخَذَ حَقَّهُ أَوِ اقْتَصَّ دُونَ السُّلْطَانِ
6887 -
حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، أَنَّ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ [يَوْمَ الْقِيَامَة] ". [انظر: 238 - مسلم: 855 - فتح 12/ 215]
6888 -
وَبِإِسْنَادِهِ: «لَوِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِكَ أَحَدٌ، وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ خَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ» . [6902 - مسلم: 2158 - فتح 12/ 216]
6889 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَدَّدَ إِلَيْهِ مِشْقَصًا. فَقُلْتُ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. [انظر: 6242 - مسلم: 2157 - فتح 12/ 216]
ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ".
وبإسناده: "لَوِ اطَلعَ عليك أحد في بَيْتِكَ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ فخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ".
حَدَّثنَا مُسَدَّد، ثَنَا يَحْييَ، عَنْ حُمَيْدٍ، أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَدَّدَ إِلَيْهِ مِشْقَصًا. فقُلْتُ: مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: أَنَسٌ رضي الله عنه.
الحديث الأول ظاهر لما ترجم له دون الثاني؛ لأن تسديد المشقص إليه كان من فعله، وكل سلطان يتأتى منه، وحديث سهل بن سعد الآتي في باب: من أطلع في بيت قوم ففقئوا عينه
(1)
، شاهد للباب أيضًا، وفي رواية صحيحة:"فلا تودية ولا قصاص"
(2)
.
(1)
يأتي برقم (6901).
(2)
رواه ابن حبان 13/ 351 (6004) ولفظه: "فلا دية ولا قصاص".
وروي عن عمر أيضًا مع أبي هريرة، وبه قال الشافعي، وفي "نوادر ابن أبي زيد" عن مالك مثله، والمعروف عن ابن وهب ويحيى بن عمر: إذا عضه فجذب يده فقلع سنه أنه لا شيء وهو هدر، ومشهور مذهب مالك: أن عليه القود كما سيأتي، وفي رواية لابن أبي عاصم:"حرج" بدل "جناح"
(1)
، وفي أخرى:"ما كان عليه من ذلك شيء"
(2)
وفي أخرى: "يحل لهم فقء عينه"(2). وروى من حديث ثوبان مرفوعًا: "لا يحل لامرئ من المسلمين أن ينظر في جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل"(2).
وقال الطحاوي: لم أجد لأصحابنا في المسألة نصًا، غير أن أصلهم أن من فعل شيئًا دفع به عن نفسه بما له فعله أنه لا يضمن ما تلف به كالمعضوض إذا انتزع يده مِنْ فيِّ العاض؛ لأنه دفع عن نفسه، فلما كان من حق صاحب البيت أن لا يطلع أحد في بيته قاصدًا لذلك أن له منعه ودفعه فكان ذهاب عينه هدرًا، على هذا يدل مذهبهم.
قال أبو بكر الرازي: ليس هذا بشيء، ومذهبهم أنه يضمن؛ لأنه يمكنه أن يمنعه من الاطلاع من غير فقء العين بخلاف المعضوض؛ لأنه لم يمكنه خلاصه إلا بكسر سن العاض
(3)
.
وروى ابن عبد الحكم عن مالك أن عليه القود؛ ولأنه عليه السلام قال: "لو أعلم أنك تنظر لفقأت عينك"
(4)
وهو لا يقول إلا ما يجوز فعله، ومن فعل ما يجوز فعله لم يكن عليه قود.
(1)
"الديات" ص 83.
(2)
"الديات" ص 84.
(3)
"التفسير الكبير" 23/ 199.
(4)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 6/ 111 (5670).
وقال المالكيون: مما يدل على أن الحديث خرج مخرج التغليظ، إجماعهم على أن رجلاً لو اطلع على عورة رجل أو بيته أو دخل داره بغير إذنه لا يجب عليه أن يفقأ عينه، وهجوم الدار أشد وأعظم من التسلل.
وقد اتفقوا على أن من فعل فعلًا استحق عليه العقوبة من قتل أو غيره؛ لأنه لا يسقط عنه سواء كان في موضعه أو فارقه. وقد روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم توعدوا ولم ينفذوه، فروى الزهري عن عمر أنه قال لقيس بن مكشوح المرادي: نبئت أنك تشرب الخمر. قال: والله يا أمير المؤمنين لقد أقللت وأسأت، أما والله ما مشيت خلف ملك قط إلا حدثت نفسي بقتله، قال: فهل حدثتك نفسك بقتلي؟ قال: لو هممت فعلت. قال: أما والله لو قلت لضربت عنقك، اخرج لعنك الله، والله لا بت الليلة معي فيها. فقال له عبد الرحمن بن عوف: لو قال: نعم، (ضربت عنقه؟)
(1)
قال: (لا)
(2)
والله، ولكن استرهبته بذلك
(3)
.
وروى جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال: قال علي رضي الله عنه: لا أوتى برجل وقع بجارية امرأته (إلا رجمته، فما كان إلا يسيرًا حتى أتي برجل وقع بجارية امرأته)
(4)
فقال: أخرجوه عني أخزاه الله.
قلت: وحمل الحديث على ظاهره أولى.
(1)
في الأصل: (لضربت عنقك) والمثبت من (ص 1).
(2)
من (ص 1).
(3)
ذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" 3/ 691، وعزاه لابن جرير في "تهذيب الآثار".
(4)
من (ص 1).
فصل:
اتفق أئمة الفتوى -كما نقله المهلب وغيره- على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض؛ لأن ذلك من الفساد، وإنما ذلك للسلطان أو منصوبه؛ ولهذا جعله الله لقبض أيدي الناس وليوصل الطالب إلى حقه وينتصف المظلوم من ظالمه، ولو ترك الأمر إلى أن ينتصف كل امرئ بنفسه فسدت الأمور، وقد يتجاوز الأمر فيأخذ ما يجب له أو يتجاوز ما يجب له، وتأول أكثرهم هذا الحديث على أنه خرج على التغليظ والتوعد والزجر عن الاطلاع على العورات، وإنما اختلفوا فيمن أقام الحد على عبده أو أمته كما سلف، ويجوز عند العلماء أن يأخذ حقه دون السلطان في المال خاصة إذا جحده إياه ولم يقم له بينة على حقه، على ما جاء في حديث هند مع أبي سفيان السالف قبل، فإن كان السلطان لا ينتصر للمظلوم ولا يوصله إلى حقه جاز له أن يقتص دون الإمام.
فصل:
قوله: "فخذفته" هو بالخاء والذال المعجمتين، أي: رميته بحصاة أو نواة تأخذها بين سبابتك، أو تجعل مخذوفة ترمي بها بين إبهامك والسبابة، قاله الهروي.
وقوله: "فسدد إليه مشقصًا" هو بالسين المهملة من سدد كما هو في الأصول، وقال ابن التين: رويناه بتشديد الشين (المعجمة، كذا قال، ومعناه: أوثقه. قال: وروي بالسين)
(1)
أي: قومه وهداه إلى ناحيته،
(1)
من (ص 1).
والمشقص من السهام: ما طال وعرض، وقيل: هو العريض النصل، وسلف الخلاف فيه.
فصل:
وقوله: ("نحن الآخرون السابقون") يعني: آخر الأمم في الدنيا وسابقيهم في الآخرة إلى الجنة، وأدخله في الباب وليس معه؛ لأنه سمع الحديثين معًا.
16 - باب إِذَا مَاتَ فِي الزِّحَامِ أَوْ قُتِلَ
6890 -
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُور، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: هِشَامٌ أَخْبَرَنَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ هُزِمَ المُشْرِكُونَ، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللهِ، أُخْرَاكُمْ. فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ، فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ اليَمَانِ فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللهِ، أَبِي أَبِي. قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ. قَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ اللهُ لَكُمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَمَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ. [انظر: 3290 - فتح 12/ 217]
ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها في قتل والد حذيفة السالف، وقد سلف فقهه ومذاهب العلماء فيه.
ومعنى: (مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ): ما تركوه ولا كفوا عنه، ومن ترك شيئًا فقد انحجز عنه.
17 - باب إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً فَلَا دِيَةَ (فيه)
(1)
6891 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ مِنْ هُنَيْهَاتِكَ. فَحَدَا بِهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنِ السَّائِقُ؟» قَالُوا: عَامِرٌ. فَقَالَ: «رحمه الله» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلاَّ أَمْتَعْتَنَا بِهِ. فَأُصِيبَ صَبِيحَةَ لَيْلَتِهِ، فَقَالَ الْقَوْمُ: حَبِطَ عَمَلُهُ، قَتَلَ نَفْسَهُ. فَلَمَّا رَجَعْتُ -وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ- فَجِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ. فَقَالَ:«كَذَبَ مَنْ قَالَهَا، إِنَّ لَهُ لأَجْرَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، وَأَيُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ؟!» . [انظر: 2477 - مسلم: 1802 - فتح 12/ 218]
زاد الإسماعيلي: ولا إذا قتل عمدًا.
ذكر فيه حديث سلمة رضي الله عنه: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَي خَيْبَرَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَسْمِعْنَا يَا عَامِرُ .. الحديث، ولم يبين فيه صفة قتل عامر نفسه كما ترجم له، حتى قال الإسْمَاعيلي: ليس مطابقًا لما بوب له. وبينه قبل في كتاب الأدب: أن سيفه كان قصيرًا فتناول به يهوديًّا ليضربه، فرجع ذبابه فأصاب ركبته فمات منه، وفي آخره:"قل عربي نشأ بها مثله" بدل قوله هنا: ("وَأَيُّ قَتْلٍ يَزِيدُهُ عَلَيْهِ")، وفي رواية أبي ذر:("وأي قتيل يزيد عليه"). قال ابن بطال: وأبو الفضل، وكأنه الصواب
(2)
.
واختلف العلماء فيمن قتل نفسه، أو أصابها عمدًا أو خطأ:
فقال ربيعة ومالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري: لا تعقله العاقلة.
وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق: ديته على عاقلته، فإن عاش فهي
(1)
ورد بهامش الأصل: (له)، وقال: كذا في بعض أصولي الذي راجعته الآن.
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 519.
له، وإن مات فهي لورثته
(1)
. واحتجوا بما روي أن رجلاً كان يسوق حمارًا، فضربه بعصا فأصابت عين نفسه ففقأتها، فقضى عمر رضي الله عنه بديته على عاقلته وقال: أصابته يد من أيدي المسلمين.
وحديث الباب حجة للأول؛ حيث لم يوجب الشارع لعامر دية على عاقلة ولا غيرها، ولو وجب عليها شيء لبينه؛ لأنه مكان يحتاج فيه إلى البيان، بل شهد له بأن له أجرين والنظر ممتنع أن يجب للمرء على نفسه شيء بدليل الأطراف، وكذا النفس.
واحتج مالك في ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] ولم يقل: من قتل نفسه خطأ، وإنما يجعل العقل فيما أصاب به إنسان إنسانًا، ولم يذكر ما أصاب به نفسه، ثم إن الدية إنما وجبت على العاقلة تخفيفًا على الجاني، فإذا لم يجب عليه لأحد شيء لم يحتج إلى التخفيف عنه، وجعلت الدية أيضًا على العاقلة معونة للجاني فتؤدى إلى غيره، فمحال أن يؤدى عنه إليه.
فصل:
قوله: ("إِنَّ لَهُ لأَجْرَينِ اثْنَثنِ، إِنَّهُ لَجَاهِد مُجَاهِدٌ") لعله يريد أنه نزل به من البلاء ما امتحن به حتى اختار الموت وتمناه، وهذا فسر به الهروي، قوله:("أعوذ بك من جهد البلاء").
وقوله: ("مجاهد") أي: في سبيل الله. وقيل: معناه جاهد في الخير مجاهد في سبيل الله، وروي:"إنه لجاهد ومجاهد"
(2)
أي: حضر مواطن من الجهاد عدة، مجاهد: جمع مجهد.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 114، و"المغني" 12/ 33 - 34.
(2)
ورد بهامش الأصل: الرواية الثانية في الحديث: "لجاهد مجاهد".
وقو له: ("وأي قتل (يزيده)
(1)
عليه") وروي: "يزيد"، وروي: "قتيل"، أي: أنه بلغ أرقى الدرجات وفضل النهاية، وإنما قالوا: حبط عمله؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وهذا إنما هو فيمن يتعمد قتل نفسه، إذ الخطأ لا ينهى عنه أحد.
قال الداودي: ويحتمل أن يكون هذا قبل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} .
وقوله: (أَسْمِعْنَا مِنْ هُنَياتِكَ) وروي: (هُنَيْهَاتِكَ) هنية: تصغير هناة، وأصلها: خصلات شعر.
وفيه: جواز قول الشعر والرجز لمن يستعين به على عمل البر الذي هو فيه؛ لأن فيه معونة على السير وراحة للقلوب.
(1)
في الأصل: (يزيد)، والمثبت من (ص 1).
18 - باب إِذَا عَضَّ رَجُلاً فَوَقَعَتْ ثَنَايَاهُ
6892 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَى، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلاً عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«يَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَكَ» . [مسلم: 1637 - فتح 12/ 219]
6893 -
حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ، أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ فِي غَزْوَةٍ، فَعَضَّ رَجُلٌ فَانْتَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَأَبْطَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 1848 - مسلم: 1674 - فتح 12/ 219]
ذكر فيه حديث زُرَارَةَ بْنَ أَوْفَي -وهو أبو حاجب العامري الجرمي قاضي البصرة- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا عَضَّ يَدَ رَجُلٍ فَنَزَعَ يَدَهُ مِنْ فيه فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتَاهُ، فَاخْتَصَمُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ:"يَعَضُّ أَحَدُكمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَكَ".
وحديث صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ فِي غَزْوَةٍ، فَعَضَّ رَجُلٌ (فَانْتَزَعَ)
(1)
ثَنِيَّتَهُ، فَأَبْطَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
حديث عمران رضي الله عنه سلف
(2)
، ولأبي داود من حديث يعلى:"إن شئت أن أمكنه من يدك فيعضها ثم تنزعها من فيه"
(3)
وهذا الرجل المعضوض أجير يعلى لا يعلى على ما صححه الحفاظ، وإن كان يحتمل تعدد الواقعة.
(1)
في الأصل: (فنزع).
(2)
حديث عمران لم يذكره البخاري إلا في هذا الموضع، والذي سلف هو حديث يعلي بن أمية الذي بعده، سلف برقم (1848).
(3)
أبو داود (4585).
واختلف العلماء في هذا الباب:
فقالت طائفة: من عض يد رجل فانتزع المعضوض يده من في العاض فقلع سنًّا من أسنان العاض، فلا شيء عليه في السن، وروي عن الصديق وشريح، وهو قول الكوفيين والشافعي، قالوا: ولو جرحه المعضوض في موضع آخر فعليه ضمانه
(1)
.
وقال ابن أبي ليلى ومالك: هو ضامن لدية السن.
وقال عثمان البتي: إن كان انتزعها من ألم ووجع أصابه فلا شيء عليه، وإن انتزعها من غير ألم فعليه الدية.
حجة الأولين حديث الباب، وفي لفظ:"أينزع يده من فيه فيعضه كما يعض الفحل، لا دية له" وهذا خبر لا تجوز مخالفته لصحته، ولعدم مخالف له.
قالوا: ولا يختلفون أن من شهر سلاحًا وأومأ إلى قتل رجل وهو صحيح العقل، فقتله المشهور عليه دفعًا له عن نفسه، أنه لا ضمان عليه، فإذا لم يضمن نفسه فدفعه عن نفسه كذلك لا يضمن مثله بدفعه إياه عن عضه.
احتج أصحاب مالك فقالوا: يحتمل أن يكون سقوط الثنية من شدة (العض)
(2)
لا من نزع صاحب اليد يده؛ لأنه قال: نزع يده فسقطت ثنية العاض؛ ولهذا لم يجب له شيء، وإن كان من فعل صاحب اليد، فقد كان يمكنه أن يخلص يده من غير قلع سنه، فلذلك وجب عليه ضمانها.
(1)
"المبسوط" 26/ 191، و"الأم" 7/ 138.
(2)
في الأصل: (النزع).
واعتذر ابن داود وابن بطال
(1)
عن هذا الحديث بأن مالكًا لم يروه، ولو رواه ما خالفه؛ ولأنه من رواية أهل العراق، وهو غير جيد؛ لأن حديث يعلي بن أمية -الذي هو مثل حديث عمران- رواه عنه ابنه صفوان وهما حجازيان، لا جرم أخذ به من (أصحابه)
(2)
ابن وهب ويحيى بن عمر، وحكي عن مالك أيضًا، وقال يحيى بن عمر: لو بلغ مالكًا ما خالفه.
ومن غرائب الحكايات: ما حكاه أبو الفرج الأصبهاني في "تاريخه": أن فلانًا -سماه- كان في سمار الوليد بن يزيد بن عبد الملك، فبينما هو عنده إذ نعس الخليفة فعطس الرجل عطسة شديدة انزعج لها الخليفة وقال: إنما أردت التشويش عليَّ بهذِه العطسة. فحلف أنها لعطاسته دائمًا. فقال: لئن لم تأتني بمن يشهد لك على ذلك لأنكلن بك، فجاء رجل من خواص الخليفة، فقال: أشهد أنه عطس يومًا فسقط ضرسان من أضراسه
(3)
.
فصل:
الثنية: مقدم الأسنان، ويعض: بفتح العين؛ لأن أصل ماضيه عضض على وزن علم، فيكون مستقبله يعضض، مثل: مس يمس (أصله: يمسس)
(4)
، ومنه قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] قال الجوهري: عن أبي عبيدة: وعضضه لغة في الرِّبَاب
(5)
. يعني: قبيلة.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 522.
(2)
غير واضحة بالأصل، والمثبت من (ص 1).
(3)
انظر: "الأغاني" 3/ 49 ففيها قصة شبيهة بهذه القصة.
(4)
من (ص 1).
(5)
"الصحاح" 3/ 1091. مادة (عضض).
19 - باب {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
(1)
[المائدة: 45]
6894 -
حَدَّثَنَا الأَنْصَاريُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ ابْنَةَ النَّضْرِ لَطَمَتْ
جَارِيَةً، فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ. [انظر: 2703 - مسلم: 1675 - فتح 12/ 223]
ذكر فيه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ ابنةَ النَّضرِ لَطَمَتْ جَارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ. قال تعالى:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} .
وأجمع العلماء أن هذِه الآية في العمد، فمن أصاب سن أحد عمدًا ففيه القصاص على حديث أنس هذا.
واختلف العلماء في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدًا:
فقال مالك: عظام الجسد كلها فيها القود إذ كسرت عمدًا: الذراعان والعضدان والساقان والقدمان والكعبان والأصابع، إلا ما كان مجوفًا مثل الفخذ وشبهه كالمأمومة والمنقلة والهاشمة والصلب، ففي ذلك الدية.
وقال الكوفيون: لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن، للآية السالفة، وهو قول الليث والشافعي. واحتج الشافعي فقال: إن دون العظم حائل من لحم وجلد وعصب، فلو استيقنا أنا نكسر عظمه كما كسر عظمه لا نزيد عليه ولا ننقص فعلنا، ولكنا لا نصل إلى العظم حتى ننال منه ما دونه بما ذكرنا أنا لا نعرف قدر ما هو أكثر أو أقل مما نال غيره، وأيضاً فلا نقدر أن يكون كسر ككسر أبدًا فهو ممنوع، وقد أتفقوا كما قال الطحاوي في عظم الرأس فكذلك سائر العظام،
(1)
كذا بالأصل، وفي "اليونينية" 9/ 8 {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}
ويفترق بأن الأول يؤدي إلى الهلاك غالبًا فتغدر لذلك.
حجة مالك حديث الباب في السن، ولما جاز فيه إذا كسرت وهي عظم فكذلك سائر العظام (إلا عظمًا)
(1)
أجمعوا أنه لا قصاص فيه؛ لخوف ذهاب النفس منه؛ ولأنه لا يقدر على الوصول فيه إلى مثل الجناية بالسواء، فلا يجوز أن يفعل ما يؤدي في الأغلب إلى التلف (إذا كان الخارج الأول لم يؤد فعله إلى التلف)
(2)
.
قال ابن المنذر: ومن قال: لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث، والخروج إلى النظر مع وجود الخبر، غير جائز، واتفق جمهور الفقهاء على أن دية الأسنان في الخطأ في كل سن خمس من الإبل. وذكر ابن القوطي في القود من اللسان إذا لم يكن مبلغًا اختلافًا.
وذكر عن محمد بن عبد الحكم أنه يقيد من الفخذ.
وقال ابن الجلاب فيما نقله القاضي عبد الوهاب عنه: إن كان الكسر من مفصل مستوٍ ففيه القصاص؛ لأن المماثلة ممكنة، وإن كان منتفيًا فلا قود فيه؛ إذ لا يمكن المماثلة، عملًا بقول مالك: إن كان يستطاع منه القود أُقيد منه. قال ابن القصار: هذه من عنده، وهو من أفراده
(3)
.
قال في "المعونة": واختلف عنه في المنقلة هل يقاد بها؟ وكذلك اختلف عنه في كسر غير الفخذ من الأعضاء
(4)
، قاله ابن الجلاب،
(1)
من (ص 1). وورد بهامش الأصل إشارة إلى هذا السقط.
(2)
من (ص 1).
(3)
انظر تفصيل هذه المسألة بنصها تقريبًا في: "الجامع لأحكام القرآن" 6/ 202.
وانظر أيضًا: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 112، "المدونة": 4/ 435، 441، "الإشراف" 3/ 118.
(4)
"المعونة" 2/ 261.
وقال الأبهري: ليس باختلاف، وقد أجاب مالك بجواب فقال: إن استطيع القود منه وإلا عقل المجني عليه وهذا أخص، ويجب رد الفروع إليه.
فصل:
الحديث ساقه البخاري مرة مطولاً، وأن الحالف فيه أنس بن النضر، ووقع في مسلم: أن الحالف أم الربيع
(1)
، والصواب الأول، ويجوز تعدد الواقعة.
قال أبو محمد بن حزم: ورد في أمر الربيع حديثان مختلفان، وحكمان اثنان في قضيتين مختلفتين لحادثة واحدة، أحد الحكمين في جراحة جرحتها الربيع إنسانًا، فقضى عليه السلام بالقصاص من تلك الجراحة، فحلفت أنها لا تقتص منها، فأبر الله قسمها ورضوا بالدية، والحكم الثاني: في ثنية امرأة كسرتها فقضى بالقصاص، فحلف أخوها أنس بن النضر أن لا يقتص منها ورضوا بالأرش، فقال عليه السلام:"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه"
(2)
فلا حرج كما ترى أنهما حديثان جراحة وثنية ودية وأرش، وحلفت أمها في الواحدة، وحلف أخوها في الثانية، وكان هذا قبل أحد؛ لأن أنس بن النضر قتل يوم أحد.
قال: وهذا الحديث يبين أن كل ما أخذه من له القصاص من جرح أو نفس فهو دية، سواء كان شيئًا مؤقتًا محدودًا أو كان قد تراضوا به في ترك القصاص الواجب، ونحن على يقين من أن الذي جرحته الربيع قد
(1)
حديث البخاري سلف برقم (2703)، ورواه مسلم (1675/ 24)، كتاب: القسامة، باب: إثبات القصاص في الأسنان.
(2)
انظر التخريج السابق.
أخذ مالاً بدل اقتصاصه من الجرح، ولم يأت أنه كان عددًا مؤقتا محدودًا، فإذا لم يأت ذلك، فنحن على يقين أنه لو كان في تلك الجراحة دية مؤقتة لا تزيد ولا تنقص لما حبس الله ذلك عنا ولا عفا أثره حتى لا ينقله أحد، فصح أن تلك الدية المأخوذة كانت فداء عن القصاص فقط، وبهذا نقول، فوضح أنه ليس في هذين الخبرين إلا القود على ما تراضيا عليه
(1)
.
(1)
"المحلى" 10/ 409 - 410.
20 - باب دِيَةِ الأَصَابِعِ
6895 -
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«هذِه وهذِه سَوَاءٌ» ، يَعْنِي: الخِنْصَرَ وَالإِبْهَامَ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. [فتح 12/ 225]
ذكر فيه حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"هذِه وهذِه سَوَاءٌ" يَعْنِي: الخِنْصرَ وَالإِبْهَامَ.
وعنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، نَحْوَهُ.
هذان الطريقان ذكرهما من حديث شعبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا، وكأنه ساق الثاني لتصريح ابن عباس بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن (كان)
(1)
روايته عنه بلفظ: عن، متصلة أيضًا.
والخنصر -بالكسر-: الأصبع الصغرى.
وذكره ابن أبي حاتم في "علله" من حديث عبيد الله بن موسى، عن همام، عن قتادة
(2)
.
ورواه ابن حزم من حديث محمد بن سليمان المنقري، ثنا سليمان بن داود، ثنا يزيد بن زريع، ثنا ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"في الأصابع عشر عشر" ثم قال: هذا حديث صحيح لإدخاله فيه المنقري ثقة، وسليمان بن داود
(1)
من (ص 1).
(2)
"علل الحديث" 1/ 461.
هو الهاشمي أحد الأئمة من نظراء أحمد بن حنبل وابن زريع لا يسأل عنه، وسماع (سعيد)
(1)
صحيح؛ لأنه سمع من أيوب، وقد روينا من طريق ابن وضاح: حدثنا موسى بن معاوية، حدثنا وكيع، حدثنا شعبة، فذكر الحديث الأول بلفظ:"هذِه وهذِه سواء" وجمع بين إبهامه وخنصره.
ومن طريق أبي داود بإسناد شعبة: "الأصابع سواء، والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء هذِه وهذِه (سواء)
(2)
"
(3)
. قال ابن حزم: لا نعلم في الديات في الأعضاء أثر يصح في توقيتها وبيانها إلا هذا
(4)
. قلت: قال علي بن المديني وأحمد في "عللهما": ثنا قريش بن أنس قال: حلف لي سعيد بن أبي عروبة بالله ما (كتب)
(5)
عن قتادة
(6)
.
وقال البزار في "سننه": يحدث عن جماعة ولم يسمع منهم
(7)
.
وقال الآجري عن أبي داود: كان ابن أبي عروبة في الاختلاط يقول: (عن)
(8)
قتادة عن أنس أو أنس عن قتادة وقوله: لا نعلم .. إلى آخره، قد صح فيه حديث آخر ذكره آدم بن أبي إياس العسقلاني تلميذ شعبة في كتاب شعبة بن الحجاج قال: حدثنا غالب التمار، عن حميد بن هلال، عن أوس بن مسروق التميمي، عن أبي موسى
(1)
في (ص 1): ابن سعد.
(2)
من (ص 1).
(3)
أبو داود (4559).
(4)
"المحلى" 10/ 411.
(5)
كلمة غير واضحة بالأصل، والمثبت من (ص 1).
(6)
"الطبقات الكبرى" لابن سعد 7/ 273.
(7)
"مسند البزار" 1/ 114.
(8)
من (ص 1).
الأشعري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأصابع كلها سواء"
(1)
قال شعبة: فقلت لغالب: عشر عشر، فقال: نعم، ولَمَّا رواه أبو داود أدخل حميدًا بين غالب ومسروق.
وعن أبي الوليد، عن شعبة، عن غالب، عن مسروق، قال أبو داود: رواه غندر، عن شعبة، عن غالب (قال)
(2)
: سمعت مسروقًا، ورواه النسائي عن أبي الأشعث، عن خالد، عن سعيد، عن قتادة، عن مسروق، وقال ابن عساكر: الصواب والصحيح: مسروق بن أوس.
قلت: وغالب هو: ابن مهران التمار، وثقه ابن سعد
(3)
، وذكره ابن حبان وغيره في "الثقات"
(4)
، وقال أبو حاتم الرازي: صالح الحديث
(5)
، وحميد حديثه في الصحيحين، وأوس بن مسروق ذكره ابن حبان في "ثقاته"
(6)
وخرج له مع ابن خزيمة في "صحيحيهما".
وروى ابن أبي عاصم في "الديات" بإسناد جيد من حديث الأسود بن عامر، عن حماد (بن سلمة)
(7)
، عن قتادة به، [و]
(8)
عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه عليه السلام قضى في العين القائمة إذا بخست، وفي اليد الشلاء إذا قطعت، والسن السوداء إذا كسرت ثلث الدية. قال الأسود: ثلث ديتها ليس
(1)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 9/ 384.
(2)
من (ص 1).
(3)
"الطبقات الكبرى" 7/ 269.
(4)
"الثقات" 7/ 308.
(5)
"الجرح والتعديل" 7/ 69.
(6)
5/ 456، ويقال له مسروق بن أوس.
(7)
من (ص 1).
(8)
في هامش (س): لعله سقط: و.
ثلث دية النفس
(1)
. قال: وثناه أبو بكر، ثنا يزيد بن هارون، ثنا ابن أبي عروبة، عن قتادة
(2)
، (ورواه ابن أبي عاصم من حديث يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة)
(3)
، عن عكرمة
(4)
. [و]
(5)
عن سعيد بن المسيب قال: بعث مروان إلى ابن عباس يسأله عن الأصابع فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليد خمسين فريضة في كل أصبع عشرة
(6)
.
فصل:
ثبت في كتاب الديات الذي كتبه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لآل عمرو بن حزم أنه قال: "في اليد خمسون من الإبل: في كل أصبع عشر من الإبل"
(7)
وأجمع العلماء على أن في اليد نصف الدية، وأصابع اليد والرجل سواء، وعلى هذا أئمة الفتوى، ولا فضل لبعض الأصابع عندهم على بعض.
قال ابن المنذر: روينا ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت، وجاءت رواية شاذة عن عمر
(8)
وعروة وابن الزبير بفضل بعض الأصابع على بعض.
روى الثوري وحماد بن زيد، عن يحيى، عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه جعل في الإبهام خمس عشرة، وفي البنصر تسعًا، وفي الخنصر
(1)
"الديات" ص 97.
(2)
"الديات" ص 97.
(3)
من (ص 1).
(4)
"الديات" ص 69 - 70.
(5)
زيادة لا يستقيم السياق بدونها.
(6)
" الديات" ص 70.
(7)
رواه أبو داود (4564).
(8)
"الإشراف على مذاهب أهل العلم" 3/ 109 - 110.
ستًّا، وفي السبابة والوسطى عشرًا عشرًا، حتى وجد في كتاب "الديات" عند آل عمرو بن حزم: أنه عليه السلام قال: "الأصابع كلها سواء" فأخذ به، وترك قوله الأول، ورواه جعفر بن عون عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال: قضى عمر رضي الله عنه في الإبهام بثلاث عشرة، والتي تليها ثنتي عشرة، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تليها (بتسع)
(1)
، وفي الخنصر بست، وروى معمر، عن هشام، عن عروة، عن أبيه قال: إذا قطعت الإبهام والتي تليها ففيها نصف دية اليد، فإذا قطعت إحداهما ففيها عشر من الإبل، ولم يلتفت أحد من الفقهاء إلى هذين القولين؛ لما ثبت عن صاحب الشريعة أنه قال:"هذِه وهذِه سواء" -يعني: الخنصر والإبهام- وحديث عمرو بن حزم: "في كل إصبع عشر من الإبل".
وذكر ابن المنذر، عن الشعبي قال: كنت جالسًا مع شريح إذ أتاه رجل فقال: أخبرني عن دية الأصابع؟ فقال: في كل إصبع عشر من الإبل، فقال: سبحان الله، أسواء هي؟ -يعني: الإبهام والخنصر- قال: ويحك، إن السنة منعت قياسكم، اتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالسنن، سواء أذناك ويداك تغطيهما العمامة والقلنسوة وفيها نصف الدية، وفي اليد نصف الدية.
قال ابن حزم: باليقين ندري أنه ليس هنا إلا عمد أو خطأ، وقد صح عن الشارع أنه قال:"رفع عن أمتي الخطأ"
(2)
وقال جل وتعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، فكان ممكنًا أن يستثني كل واحد منهما من الآخر، فيمكن أن يكون
(1)
في الأصول (بسبع)، ولعل ما أثبتناه الصواب؛ ليصبح المجموع خمسين.
(2)
تقدم تخريجه.
المراد بـ {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} ، و"رفع عن أمتي الخطأ" إلا في دية الأصابع، وكان يمكن أن يكون المراد في الأصابع عشر عشر خاصة في العمد لا في الخطأ، ولم يجز لأحد أن يصير إلى أخذ الأشباه إلابنص أو إجماع؛ لأنه خبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد وجدنا الناس مختلفين؛ فطائفة قالت: لا شيء في العمد -يعني: في الأصابع- إلا القود فقط، ولا دية هنالك
(1)
.
وقالت أخرى: فيه القود أو الدية، ووجدنا الاختلاف في وجود الدية في العمد في ذلك، ثم رجعنا إلى الخطأ في ذلك فلم نجد إجماعًا متفقًا على وجوب الدية في الخطأ في ذلك، ثم وجدنا القائلين بالدية في غير ذلك مختلفين فيما دون الثلث، فطائفة قالت: هي في مال الجاني، وأخرى قالت: هي على عاقلته، فلم نجد إجماعًا هنا في هذا، فبطل أن يجب في الخطأ في ذلك شيء؛ لأنه لا نص بيَّن هذِه العشرة على من هي؟ وإذا لم يبين بالنص والإجماع على من هي؟ فمن الباطل أن يكون الله يلزمنا غرامة لا يبين لنا من هو الملتزم (بها)
(2)
، فسقط أن يكون في الخطأ غرامة أصلاً فيما دون النفس، ورجعنا إلى العمد فلم يكن بد من إيجاب الدية -دية الأصابع- كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إما على العامد وإما على المخطئ، أو على عاقلته بنصوص القرآن التي أوردناها، فلم يبق إلا العامد، فالدية في ذلك واجبة على العامد بلا شك إذ لم يبين إلا هو.
(1)
"المحلى" 10/ 343.
(2)
من (ص 1).
وأيضا، فإن الله تعالى يقول:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وكان العامد مسيئًا بسيئة، فالواجب بنص القرآن أن يساء إليه بمثلها، والدية إذا أوجبها الله على لسان رسوله وفي إساءة مسيء فهي مثل سيئة ذلك المسيء بلا شك، وكذلك الحدود إذا أمر الله عز وجل بها أيضًا، فإذا كانت المماثلة بالقود في الأصابع وجبت المماثلة بالدية في ذلك، وفي حديث ابن المسيب: أن عمر رضي الله عنه قضى في الإبهام بخمس عشرة إلى آخر ما سلف، ووافقه على الأول غيره كما سلف.
وعن علي: الأصابع عشر عشر
(1)
، وسلف ما قاله الشعبي، وعن مسروق كذلك قال، ورويناه أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما
(2)
، وزيد بن ثابت قال: وليعلم العالمون أنه لم يأت عن أحد من الصحابة أن هذِه الدية في الخطأ، وأعجب من ذلك من لا يرى هذِه الدية في العمد أصلًا، ولا يراها إلا في الخطأ، فعكس الحق عكسًا
(3)
.
وأما مفاصل الأصابع، فروينا من حديث قتادة عن عكرمة، عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في كل أنملة بثلث دية الأصابع.
وعن سليمان بن موسى قال: في كتاب عمر بن عبد العزيز إلى الأجناد في كل قصبة من قصب الأصابع قطع أو شلت ثلث دية الأصابع، إلا ما كان من إبهامها فإنما لها قصبتان، ففي كل قصبة من الإبهام نصف ديتها، وعن إبراهيم مثله.
قال ابن حزم: ولا نعرف في هذا خلافًا. والذي نقول به (هو)
(4)
أنه
(1)
رواها عبد الرزاق في "مصنفه" 9/ 383، وابن أبي شيبة 5/ 368 (26992).
(2)
رواه النسائي 8/ 57.
(3)
"المحلى" 10/ 437.
(4)
من (ص 1).
- عليه السلام حكم في كل أصبع بعشر من الإبل، فواجب لا شك أن العشر المذكورة تقابل للأصبع، ففي كل جزء من الأصبع جزء من العشر، وأما الأصبع تشل فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"في الأصابع عشر عشر" فهذا عموم لا يخرج منه إلا ما أخرجه نص أو إجماع
(1)
.
وقد قيل: إن شلل الأصابع دية كاملة. والواجب القول بذلك؛ لعموم النص الذي ذكرنا، وأما كسره فيفتق صباح أو عشاء فلا شيء فيه عندنا، وهذا النص الذي ذكرناه يقتضي أن أصابع اليدين والرجلين سواء؛ لعموم ذكر الأصابع. وروينا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن رجل، عن مكحول، عن زيد بن ثابت أنه قال: في الأصبع الزائدة ثلث دية الأصبع. قال معمر: يعني: أن الأصبع الزائدة والسن الزائدة ثلث ديتها.
وقال آخرون: فيها حكم. وقال آخرون: لا شيء فيها. وفي حديث عمرو بن شعيب قال: كان في كتاب أبي بكر وعمر أن في الرِّجْل إذا يبست فلم يستطع أن يبسطها، أو بسطها فلم يستطع أن يقبضها، أو لم تنل الأرض، ففيها نصف الدية، فإن نال منها شيء الأرض فبقدر ما نقص منها. وفي اليد إذا لم يأكل بها ولم يشرب بها ولم يأتزر بها، ففيها نصف الدية.
فصل:
وذكر ابن أبي شيبة عن إبراهيم قال: كان يقال: إذا كسرت اليد أو الرجل ثم برأت ولم ينقص منها شيء أرشها مائة وثمانون درهمًا، وعن عبد الله بن ذكوان أن عمر رضي الله عنه قضى في رجل كسرت ساقه وجبرت
(1)
المصدر السابق.
واستقامت بعشرين دينارًا. وقال شريح: على الكاسر أجر الجابر. وعن زيد بن ثابت في الساق تكسر خمسون دينارًا، وإذا برأت على عثم ففيها خمسون دينارًا. وقال سليمان بن يسار: فيها قلوصان. وقال الحسن: يرضخ له شيء. وإذا قطعت اليد الشلاء ففيها ثلث الدية، قاله سعيد بن المسيب وإبراهيم وعمر بن الخطاب وابن عباس. وقال مسروق وإبراهيم: فيها حكم. وعن علي وعمر بن عبد العزيز وزيد بن ثابت: في الرجل نصف الدية
(1)
.
وفي حديث عكرمة بن خالد عن رجل من آل عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"في الرجل خمسون"
(2)
وقاله الشعبى عن ابن مسعود.
وفي "الموطأ" عن ربيعة قال: سألت ابن المسيب عن (
…
)
(3)
كم في أصبع المرأة؟ فقال: عشر من الإبل. قلت: فكم في أصبعين؟ فقال: عشرون من الإبل. قلت: فكم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل. فقلت: فكم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها! فقال سعيد، أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم، فقال سعيد: هي السنة يا ابن أخي
(4)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 374، 377 - 378 (27057 - 27058، 27101 - 27110).
(2)
رواه البزار في "مسنده" 1/ 386) (261) عن عكرمة بن خالد عن أبي بكر بن عبيد الله بن عمر عن أبيه عن عمر.
(3)
بياض في الأصل.
(4)
"الموطأ" ص 536.
21 - باب إِذَا أَصَابَ قَوْمٌ مِنْ رَجُلٍ هَلْ يُعَاقِبُ أَوْ يَقْتَصُّ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ
؟
وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ عَلِيٌّ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ وَقَالَا: أَخْطَأْنَا. فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمَا وَأُخِذَا بِدِيَةِ الأَوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا.
6896 -
وَقَالَ لِي ابْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ غُلَامًا قُتِلَ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: لَوِ اشْتَرَكَ فِيهَا أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ. وَقَالَ مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ: إِنَّ أَرْبَعَةً قَتَلُوا صَبِيًّا، فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَهُ. وَأَقَادَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلِيٌّ وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ مِنْ لَطْمَةٍ. وَأَقَادَ عُمَرُ مِنْ ضَرْبَةٍ بِالدِّرَّةِ. وَأَقَادَ عَلِيٌّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ. وَاقْتَصَّ شُرَيْحٌ مِنْ سَوْطٍ وَخُمُوشٍ. [فتح 12/ 227]
6897 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ، وَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا:«لَا تَلُدُّونِي» . قَالَ: فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ المَرِيضِ بِالدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ:«أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟!» . قَالَ: قُلْنَا: كَرَاهِيَةٌ لِلدَّوَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ لُدَّ وَأَنَا أَنْظُر، إِلاَّ الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ» . [انظر: 4458 - مسلم: 2213 - فتح 12/ 227]
(وَقَالَ مُطَرِّفٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ فَقَطَعَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه، ثُمَّ جَاءَا بِآخَر فَقَالَا: أَخْطَأْنَا. فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمَا وَأُخِذَا بِدِيَةِ الأَوَّلِ، وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا).
وهذا التعليق أخرجه الطبري عن بندار، عن شعبة، عن قتادة، عنه
(1)
.
ثم قال البخاري: وَقَالَ لِي محمد بن بَشَّارٍ: حَدّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رجلاً قتل غُلَامًا قُتِلَ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَوِ اشْتَرَكَ فِيهَا أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ به. وَقَالَ المُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ: أنَّ أَرْبَعَةً قَتَلُوا صَبِيًّا، فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَهُ.
هذا التعليق ذكره ابن أبي شيبة فقال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أن (رجلاً)
(2)
قتل بصنعاء، وأن عمر قتل به سبعة نفر، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا. وحدثنا وكيع، حدثنا هشام، عن قتادة، عن ابن المسيب قال: قال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا. وحدثنا وكيع، ثنا العمري، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء برجل، وقال بمثله. وحدثنا أبو معاوية عن مجالد، عن الشعبي، عن المغيرة بن شعبة أنه قتل سبعة برجل، وحكي نحوه عن علي رضي الله عنه وعن سليمان بن موسى وعطاء
(3)
.
وفي "موطأ مالك" عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب أن عمر رضي الله عنه قتل نفرًا خمسة أو ستة برجل واحد قتلوه قتل غيلة، فقال عمر رضي الله عنه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا
(4)
.
(1)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 89 (18462) من طريق معمر عن قتادة عنه، ورواه الدارقطني في "السنن" 3/ 182 من طريق مطرف عن الشعبي عنه.
(2)
في (ص 1): إنساناً.
(3)
"المصنف" 5/ 428 (27684 - 27690).
(4)
"الموطأ" ص 543.
قال ابن عبد البر: لم يقل أحد من رواة هذا الحديث فيه: قتل غيلة غير مالك
(1)
.
قلت: قد رواه البخاري عن غيره كما سلف، وفيه ذلك.
وروى الدارقطني من حديث يزيد بن عطاء، عن سماك، عن أبي المهاجر، عن عبد الله من بني قيس بن ثعلبة قال: كان رجل من أهل صنعاء يسبق الناس في كل سنة، فلما قدم وجد مع وليدته سبع رجال يشربون الخمر، فأخذوه فقتلوه وألقوه في بئر، فلما جاء الذي من بعده فسئل عنه، فأخبر أنه قضى بين يديه، والحديث فيه أن عمر رضي الله عنه كتب: اقتلهم (أجمعين)
(2)
واقتل (ما)
(3)
معهم فإنه لو كان أهل صنعاء اشتركوا في دمه لقتلتهم به
(4)
.
فصل:
وكأن البخاري رحمه الله أراد بأثر عمر رضي الله عنه الرد على محمد بن سيرين حيث قال في الرجل (يقتله الرجلان: يُقتل أحدهما)
(5)
وتؤخذ الدية من الآخر.
وقال الشعبي في الرجل يقتله النفر قال: يدفع إلى أولياء المقتول، فيقتلون من شاءوا ويعفون عمن شاءوا، ونحوه عن ابن المسيب والحسن وإبراهيم
(6)
.
(1)
"الاستذكار" 25/ 234.
(2)
في (ص 1): جميعًا.
(3)
من (ص 1).
(4)
"سنن الدارقطني" 3/ 201 - 202.
(5)
ساقط من الأصل، والمثبت من (ص 1).
(6)
"المصنف" 5/ 389 - 390.
فصل:
قال البخاري: وأقاد أبو بكر وابن الزبير وعلي وسويد بن مقرن رضي الله عنهم من لطمة، وأقاد عمر رضي الله عنه من ضربة بالدرة، وأقاد علي رضي الله عنه من ثلاثة أسواط، واقتص شريح من سوط وخموش.
أما التعليق عن أبي بكر فأخرجه ابن أبي شيبة عن شبابة، عن شعبة، وعن يحيى الحضرمي قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: لطم أبو بكر رجلاً لطمة فقيل: ما رأيت كاليوم هنعة ولطمه فقال أبو بكر: إن هذا أتاني ليستحملني فحملته، فإذا هو يمنعهم، فحلفت: لا أحمله. ثلاث مرات. ثم قال له: اقتص. فعفا الرجل
(1)
. وروى ابن وهب في "مسنده": حدثنا حيي بن عبد الله المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال لرجل: استقد -يعني من نفسه، وهو خليفة- فقال له عمر: والله لا يستقيد، ولا تجعلها سنة. قال أبو بكر: فمن لي من الله يوم القيامة؟ فقال عمر: ارضه. فأمر له أبو بكر براحلة وقطيفة وخمسة دنانير أرضاه بها
(2)
.
والتعليق عن ابن الزبير أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا عن ابن عيينة، عن عمرو، عنه: أنه أقاد من لطمة
(3)
.
والتعليق عن علي، أخرجه أيضًا عن أبي عبد الرحمن المسعودي عبد الله بن عبد الملك، عن ناجية أبي الحسن، عن أبيه، أن عليًّا قال في رجل لطم رجلاً فقال للملطوم: اقتص (منه)
(4)
(5)
. قال:
(1)
"المصنف" 5/ 462 (28001).
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى" 8/ 49.
(3)
"المصنف" 5/ 462 (27999).
(4)
من (ص 1).
(5)
"المصنف" 5/ 462 (27996).
وحدثنا أبو خالد، عن أشعث، عن فضيل، عن عبد الله بن معقل قال: كنت عند علي رضي الله عنه فجاءه رجل يساره، فقال علي: يا قنبر أخرج هذا واجلده، ثم جاء المجلود فقال: إنه زاد عليَّ ثلاثة أسواط. فقال له علي: ما تقول؟ قال: صدق يا أمير المؤمنين. قال: خذ السوط واجلد ثلاث جلدات، ثم قال: يا قنبر، إذا جلدت فلا تتعدى الحدود
(1)
.
والتعليق عن سويد أخرجه وكيع عن سفيان بن سعيد عن مغيرة، عن إبراهيم، عن الشعبي عنه.
والتعليق عن عمر رضي الله عنه أخرجه أبو الفرج الأصيهاني في "تاريخه" بإسناد ضعيف وانقطاع. والتعليق عن شريح رواه عن وكيع، ثنا سفيان، عن أبي إسحاق عنه: أنه أقاد من لطمة وخموش.
وروى ابن أبي عاصم من حديث ابن مرداس الثقفي قال: طردت إبلًا لأخي فتبعها نفر فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم فأقادهم به
(2)
. وسماه أبو عمر وغيره مرداس بن عروة، وذكروا حديثه هذا بلفظ: أن رجلاً رمى رجلاً بحجر فأمر به عليه السلام فأقاده منه.
فصل:
ذهب جمهور العلماء إلى أن الجماعة إذا قتلوا واحدًا قتلوا به أجمع على نحو ما فعل عمر، وروي مثله عن علي رضي الله عنه والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والنخعي والشعبي وجماعة أئمة الأمصار.
(1)
"المصنف" 5/ 463 (28005).
(2)
"الديات" ص 61.
وفيها قول ثان روي عن عبد الله بن الزبير ومعاذ: أن لولي المقتول أن يقتل واحدًا من الجماعة ويأخذ بقية الدية من الباقين، مثل أن يقتله عشرة أنفس فله أن يقتل واحدًا (منهم)
(1)
ويأخذ من التسعة تسعة أعشار الدية، وبه قال ابن سيرين والزهري
(2)
.
وفيها قول ثالث قاله أهل الظاهر: أنه لا قود على أحد منهم أصلاً، وعليهم الدية، وقاله ربيعة أيضًا، وهو خلاف ما أجمعت عليه الصحابة، حجة الجماعة قوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] فلا فرق بين أن يكون القاتل واحدًا أو جماعة لوقوع اسم القتلة عليهم؛ لأن الله جعل الحجة لولي المقتول عليهم، وعلى مثله يدل حديث عائشة رضي الله عنها في اللدود الذي ساقه البخاري في الباب، حيث أمر أن يلدَّ كل من في البيت لشهودهم
اللدود الذي نهاهم عنه وما كان من الألم واشتراكهم في ذلك، وهو حجة في قصاص الواحد من الجماعة، ولو لم تقتل الجماعة للواحد لأدى ذلك إلى رفع المثلة في القصاص الذي جعله الله حياة، ولم يشأ أحد أن يقتل أحدًا ثم لا يقتل به إلا ادعى من يقتله معه ليسقط عنه القتل، وأيضًا فإن النفس لا تتبعض بالإتلاف بدليل أنه لا يقال: قاتل بعض نفس؛ لأن كل واحد (قد)
(3)
حصل من جهته بعمل ما يتعلق به خروج الروح عنده، وهذا لا يتبعض لامتناع أن يكون بعض الروح خرج [بفعل]
(4)
أحدهم وبعضها بفعل الباقين، فكان كل
(1)
من (ص 1).
(2)
انظر: "الإشراف" 3/ 69.
(3)
من (ص 1).
(4)
زيادة ليست في الأصول يقتضيها السياق، وهي في "شرح ابن بطال" 8/ 527.
واحد منهم قاتل نفس، ومثل هذا لو أن جماعة رفعوا حجرًا لكان كل واحد منهم رافعًا له؛ لأن الحجر لا يتبعض كما أن النفس لا تتبعض.
فإن قلت: إنما يقال لكل واحد منهم: قاتل نفس، كما يقال في الجماعة: أكلنا الرغيف وليس كل واحد منهم أكل الرغيف كله، قيل: إنما كان هذا؛ لأن الرغيف يتبعض، فصح أن يقال لكل واحد: أكل بعض الرغيف، ولما لم يصح التبعيض في النفس لم يصح أن يقال: قاتل بعض نفس.
وقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الألف واللام للجنس، فتقديره: الأنفس بالأنفس وكذلك قوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] تقديره: الأحرار بالأحرار، فلا فرق بين جماعة قتلوا واحدًا أو جماعة؛ ولأن كل حق وجب للإنسان على غيره إذا انفرد، فإنه يجب عليه وإن شورك فيه، أصله حد القذف، وهو إجماع الصحابة.
فصل:
وأما القود من اللطمة وشبهها كضربة السوط والدرة، فقد ذكر البخاري ما أسلفناه عن عثمان وخالد بن الوليد مثل ذلك، وهو قول الشعبي وجماعة من أهل الحديث.
وقال الليث: إن كانت اللطمة في العين فلا قصاص فيها؛ للخوف على العين، ويعاقبه السلطان، وإن كانت على الخد ففيها القود.
وقالت طائفة: لا قصاص في اللطمة، روي هذا عن الحسن وقتادة، وهو قول مالك والكوفيين والشافعي
(1)
، وعبارة ابن التين أنه مشهور مذهب مالك.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 126، و"الإشراف" 3/ 119.
وقال الداودي: اختلف قول مالك فيه، بأن قال: ليس لطمة المريض والضعيف مثل لطمة القوي، وليس العبد الأسود يلطم مثل الرجل له الحالة والهيئة، وإنما في ذلك كله الاجتهاد فجهلنا بمقدار اللطمة
(1)
.
واختلفوا في القود من ضربة السوط والعصا، فقال ابن القاسم: يقاد فيها، قال الليث: ويزاد عليه للتعدي، وقال الشافعي والكوفيون: لا يقاد إلا أن يجرح.
وقال الشافعي: إن جَرَحَ السوطُ ففيه الحكومة
(2)
.
وحديث لدِّ الشارع لأهل البيت حجة لمن جعل القود في كل ألم، وإن لم يكن جرح ولا قصد لأذى، بسوط كان الألم أو بيد أو غيره، وقد قال ابن القاسم فيمن نتف لحية رجل أو رأسه أو شاربه عمدًا: يؤدب. وقال المغيرة: يعاقب ويسجن. (وقال أشهب في ذلك: وفي الأشعار القصاص)
(3)
.
وقال الشيخ أبو محمد في "نوادره": أعرف لأصبغ أن القصاص فيها بالوزن. قال: وعاب ذلك غيره، قصوره
(4)
القصاص على قول أشهب لو جنى على شعره فابيض شعره ببخر بالكبريت ونحوه من الأدوية المبيضة للشعر. فإن أتلف منبتها (غاشاه)
(5)
بالأدوية المانعة لنبات الشعر.
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 40.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 126.
(3)
من (ص 1).
(4)
"النوادر والزيادات" 14/ 40.
(5)
من (ص 1).
فصل:
سلف تفسير قتل الغيلة قريبًا، فراجعه.
فصل:
يأتي في الأحكام مذاهب العلماء -إن شاء الله تعالى- في الشاهد إذا تعمد الشهادة بالزور هل يلزمه الضمان؟ وملخص الكلام فيها هنا فقال عبد الملك: لا شيء عليهما إذا غلطا، وقال أشهب: عليهما الدية في مالهما. ونحوه في "المدونة"
(1)
وفيه قول ثالث ذكره ابن الجلاب: أن العاقلة تحمل الدية، فأما قول علي رضي الله عنه في العمد أنه يقطع. فهو قول أشهب إذا أقر شهود الزنا بالعمد بعد قتل الزاني أنهم يحدون ثم يقتلون، وابن القاسم يقول: يحدون ويضمنون الدية ولم يفرق بين عمد وخطأ، وفي كتاب محمد نحوه أنهم يدونه في العمد. وقال ابن الجلاب: الدية على العاقلة.
والحاصل أن في الخطأ والغلط ثلاثة أقوال: لا شيء عليه، يودون من مالهم، يودون العاقلة.
وفي العمد ثلاثة أقوال أيضًا: القصاص، والباقي كالباقي، والرابع يؤخذ بالاستقراء أن عاقلة الإمام تؤدي الدية. قاله فيمن رجم ثم وجد مجبوبًا، وقال أشهب: إن الدية في المال خطأ وعمدًا، وقال سحنون: إذا رجعوا لا عقوبة عليهم اتهموا في شهادتهم أو شكوا؛ لأنه يخاف إذا عوقبوا أن لا يرجع أحد عن شهادته باطل إذا أراد التوبة. وقال بعض المالكية: لو أدب المتهم لكان أهلًا لذلك.
(1)
"المدونة" 4/ 203.
فصل:
قوله: (وخموش) هو بضم الخاء المعجمة: الخدش، يقال: خمش وجهه، والخماشة ما ليس له أرش معلوم من الجراحات والجنايات، والدرة بكسر الدال: ما يضرب بها.
وقوله: (تمالأ عليه أهل صنعاء) أي: اجتمعوا وتواطئوا.
وقوله في حديث عائشة في اللدود: ("لا يبقى منكم أحد إلا لد وأنا أنظر") قال الداودي: يريد ليذهب بعض غيظه لمخالفتهم أمره.
22
كتاب القسامة
22 - كِتَابُ القَسَامَةِ
وَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» . [انظر: 2515، 2516] وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: لَمْ يُقِدْ بِهَا مُعَاوِيَةُ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ -وَكَانَ أَمَّرَهُ على الْبَصْرَةِ- فِي قَتِيلٍ وُجِدَ عِنْدَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ السَّمَّانِينَ إِنْ وَجَدَ أَصْحَابُهُ بَيِّنَةً، وَإِلاَّ فَلَا تَظْلِمِ النَّاسَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يُقْضَى فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
6898 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، زَعَمَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إِلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلاً، وَقَالُوا لِلَّذِى وُجِدَ فِيهِمْ: قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا. قَالُوا: مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلاً. فَانْطَلَقُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ انْطَلَقْنَا إِلَى خَيْبَرَ فَوَجَدْنَا أَحَدَنَا قَتِيلاً. فَقَالَ: «الْكُبْرَ الكُبْرَ» . فَقَالَ لَهُمْ: «تَأْتُونَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ» . قَالُوا: مَا لَنَا بَيِّنَةٌ. قَالَ: «فَيَحْلِفُونَ» . قَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ. [انظر: 2702 - مسلم: 1669 - فتح 12/ 229]
6899 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو رَجَاءٍ مِنْ آلِ أَبِي قِلَابَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو قِلَابَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ قَالَ: نَقُولُ: القَسَامَةُ القَوَدُ بِهَا حَقٌّ، وَقَدْ أَقَادَتْ بِهَا الخُلَفَاءُ. قَالَ لِي مَا تَقُولُ يَا أَبَا قِلَابَةَ؟ وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدَكَ رُءُوسُ الأَجْنَادِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى لَمْ يَرَوْهُ أَكُنْتَ تَرْجُمُهُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ وَلَمْ يَرَوْهُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَوَاللهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -أَحَدًا قَطُّ، إِلاَّ فِي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ، أَوْ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ رَجُلٌ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنِ الإِسْلَامِ.
فَقَالَ الْقَوْمُ: أَوَلَيْسَ قَدْ حَدَّثَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي السَّرَقِ
وَسَمَرَ الأَعْيُن ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِي الشَّمْسِ؟. فَقُلْتُ: أَنَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ نَفَرًا مِنْ عُكْلٍ ثَمَانِيَةً قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلَامِ، فَاسْتَوْخَمُوا الأَرْضَ فَسَقِمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَفَلَا تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا؟» . قَالُوا: بَلَى. فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَصَحُّوا، فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَطْرَدُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُدْرِكُوا فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، ثُمَّ نَبَذَهُمْ فِي الشَّمْسِ حَتَّى مَاتُوا. قُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاء؟! ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ وَقَتَلُوا وَسَرَقُوا. فَقَالَ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ: وَاللهِ إِنْ سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ. فَقُلْتُ: أَتَرُدُّ عَلَيَّ حَدِيثِي يَا عَنْبَسَةُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ جِئْتَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ، وَاللهِ لَا يَزَالُ هَذَا الجُنْدُ بِخَيْرٍ مَا عَاشَ هَذَا الشَّيْخُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ فِي هَذَا سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: دَخَلَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ
فَتَحَدَّثُوا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَقُتِلَ، فَخَرَجُوا بَعْدَهُ، فَإِذَا هُمْ بِصَاحِبِهِمْ يَتَشَحَّطُ فِي الدَّمِ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ صَاحِبُنَا كَانَ تَحَدَّثَ مَعَنَا، فَخَرَجَ بَيْنَ أَيْدِينَا، فَإِذَا نَحْنُ بِهِ يَتَشَحَّطُ فِي الدَّمِ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«بِمَنْ تَظُنُّونَ -أَوْ تَرَوْنَ- قَتَلَهُ؟» . قَالُوا: نَرَى أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلَتْهُ. فَأَرْسَلَ إِلَى اليَهُودِ فَدَعَاهُمْ. فَقَالَ: «آنْتُمْ قَتَلْتُمْ هَذَا؟» . قَالُوا: لَا. قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ نَفَلَ خَمْسِينَ مِنَ اليَهُودِ مَا قَتَلُوهُ؟» . فَقَالُوا: مَا يُبَالُونَ أَنْ يَقْتُلُونَا أَجْمَعِينَ ثُمَّ يَنْتَفِلُونَ. قَالَ: «أَفَتَسْتَحِقُّونَ الدِّيَةَ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ؟» . قَالُوا: مَا كُنَّا لِنَحْلِفَ، فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ. قُلْتُ: وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْلٌ خَلَعُوا خَلِيعًا لَهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَطَرَقَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْيَمَنِ بِالْبَطْحَاءِ، فَانْتَبَهَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَحَذَفَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ هُذَيْلٌ فَأَخَذُوا الْيَمَانِىَ فَرَفَعُوهُ إِلَى عُمَرَ بِالْمَوْسِمِ وَقَالُوا: قَتَلَ صَاحِبَنَا. فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ خَلَعُوهُ. فَقَالَ: يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْ هُذَيْلٍ مَا خَلَعُوهُ.
قَالَ: فَأَقْسَمَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلاً، وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنَ الشَّأْمِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقْسِمَ فَافْتَدَى يَمِينَهُ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَدْخَلُوا مَكَانَهُ رَجُلاً آخَرَ، فَدَفَعَهُ إِلَى أَخِي الْمَقْتُولِ فَقُرِنَتْ يَدُهُ بِيَدِهِ، قَالُوا: فَانْطَلَقَا وَالْخَمْسُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَخْلَةَ، أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ فَدَخَلُوا فِي غَارٍ فِي الْجَبَلِ، فَانْهَجَمَ الْغَارُ عَلَى الخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا فَمَاتُوا جَمِيعًا، وَأَفْلَتَ الْقَرِينَانِ وَاتَّبَعَهُمَا حَجَرٌ فَكَسَرَ رِجْلَ أَخِي المَقْتُولِ، فَعَاشَ حَوْلاً ثُمَّ مَاتَ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَقَادَ رَجُلاً بِالْقَسَامَةِ ثُمَّ نَدِمَ بَعْدَ مَا صَنَعَ، فَأَمَرَ بِالْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا فَمُحُوا مِنَ الدِّيوَانِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّأْمِ. [انظر: 233 مسلم:1671 - فتح 12/ 230]
(وَقَالَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ رضي الله عنه قَالَ لي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «شَاهِدَاكَ أَو يَمِينُهُ».) وهذا سلف عنده مسندًا.
ثم قال: وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: لَمْ يقِد بِهَا مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه.
وهذا قال ابن المنذر فيه: روينا عن معاوية وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: القسامة توجب العقل، ولا (تشترط)
(1)
الدم
(2)
.
قال البيهقي: روينا عن معاوية خلافه
(3)
.
وقال ابن بطال: (قوله)
(4)
: (لم يقد بها معاوية)، لا حجة فيه مع خلاف السنة (له)
(5)
والخلفاء الراشدين الذين أقادوا بها، أو يحتمل أن تكون المسألة لا لوث فيها، وقد صح عن معاوية أنه أقاد بها، ذكر ذلك أبو الزناد في احتجاجه على أهل العراق، قال: وقال لي خارجة بن زيد بن ثابت: نحن والله قتلنا بالقسامة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، إني لأرى يومئذ ألف رجل أو نحو ذلك فما اختلف منهم اثنان في ذلك
(6)
.
قال البيهقي: وأصح ما روي في القتل بالقسامة وأعلاه بعد حديث سهل: ما رواه عبد الرحمن بن أبي الزناد [عن أبيه]
(7)
قال: حدثني خارجة ابن زيد بن ثابت قال: قتل رجل من الأنصار -وهو (سكران)
(8)
- رجلاً من بني (النجار)
(9)
، ولم يكن على ذلك شهادة إلا (لطخ)
(10)
وشبهه
(1)
ورد بهامش الأصل: لعله تسقط.
(2)
"الإشراف" 3/ 147.
(3)
"سنن البيهقي" 8/ 127.
(4)
من (ص 1).
(5)
من (ص 1).
(6)
"شرح ابن بطال" 8/ 536.
(7)
ساقطة من الأصول والمثبت من "معرفة السنن والآثار" للبيهقي 12/ 20 حيث ينقل المصنف.
(8)
في الأصول: (سلمان) وهو خطأ، والمثبت من "معرفة السنن والآثار" 12/ 21.
(9)
في الأصول: (العجلان) وهو خطأ، والمثبت من "المعرفة" 12/ 21.
(10)
في الأصول: (لا تصلح)، والمثبت من "معرفة السنن والآثار" 12/ 21 وهو أشبه.
فاجتمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول، ثم يسلم إليهم فيقتلوه، قال خارجة: فركبت إلى معاوية فقصصت عليه القصة، فكتب إلى سعيد بن العاصىِ: إن كان ما ذكرنا [له]
(1)
حقًّا أن يحلفنا على القاتل، ثم يسلمه إلينا، فجئت إلى سعيد بالكتاب فأحلفنا خمسين يمينا ثم سلمه إلينا.
قال أبو الزناد: (وأمرني)
(2)
عمر بن عبد العزيز (فردد قسامة)
(3)
على سبعة نفر أو خمسة نفر.
ثم ساقه البيهقي بإسناده إليه، قال: رويناه من وجه آخر عن ابن أبي الزناد، عن أبيه من غير ذكر معاوية وسعيد، غير أنه قال: وفي الناس يومئذ الصحابة وفقهاء الناس ما لا يحصى، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول أن يقتلوا أو يسجنوا (فحلفوا)
(4)
خمسين يمينًا فقتلوا، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة. وروينا عن عمر رضي الله عنه أنه قال: القسامة توجب العقل ولا (تسقط بالدم)
(5)
، وهو عن عمر منقطع
(6)
.
وروى ابن أبي شيبة عن وكيع، عن حماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة أن ابن الزبير وعمر بن عبد. العزيز أقادا بالقسامة
(7)
، وحدثنا عبد الأعلى،
(1)
ساقطة من الأصول والمثبت من "معرفة السنن والآثار" 12/ 21.
(2)
كذا في الأصول، وفي "معرفة السنن والآثار" 12/ 21:(وأمر لي).
(3)
كذا في الأصول، وفي "معرفة السنن والآثار" 12/ 21:(فرددت قسامة).
(4)
في الأصل (فحلف) والمثبت من (ص 1) وهو الموافق لمصدر التخريج.
(5)
كذا في (ص 1)، وفي "معرفة السنن والآثار" 12/ 22:(تشيط الدم) وكذا هو في "السنن الكبرى" للبيهقي 8/ 129، وفي "مصنف عبد الرزاق" 10/ 41.
(6)
انتهى من "معرفة السنن والآثار" 12/ 21 - 22 بتصرف.
(7)
"المصنف" 5/ 242 (27821).
عن معمر، عن الزهري قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فسألني عن القسامة وقال: بدا لي أن أردها؛ إن الأعرابي يشهد، والرجل الغائب يجيء فيشهد. فقلت: يا أمير المؤمنين إنك لن تستطيع ردها، قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده
(1)
.
وثنا ابن نمير ثنا سعيد عن قتادة أن سليمان بن يسار حدث أن عمر ابن عبد العزيز قال: ما رأيت مثل القسامة (قط)
(2)
أقيد بها، والله تعالى يقول:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقالت الأسباط: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] قال سليمان: فقلت: القسامة حق، قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
. وكأن البخاري ذهب إلى ترك القتل بالقسامة لما ذكره من الآثارالتي صدر بها الباب بغير إسناد.
وحديث القسامة ذكره قبل التفسير، وفي باب الموادعة والمصالحة مع المشركين في باب فرض الخمس.
وروى ابن أبي شيبة عن عبد السلام بن حرب، عن عمرو، عن الحسن أن أبا بكر وعمر والجماعة الأول لم يكونوا يقتلون بالقسامة.
وحدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن الحسن بن عمرو، عن فضيل، عن إبراهيم قال: القود بالقسامة جور.
وفي رواية أبي معشر: القسامة يستحق فيها الدية، ولا يقاد فيها،
(1)
"المصنف" 5/ 439 (27798).
(2)
ساقطة من الأصل.
(3)
"المصنف" 5/ 439 (27799)، ولكن عن محمد بن بشرن عن سعيد.
وكذا قاله قتادة. وقال الزهري: لا يقتل بالقسامة إلا واحد
(1)
.
ثم قال البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة، وكان أمره على البصرة في قتيل وجد عند بيت من بيوت السمانين، وإن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة، وهذا خلاف ما أسلفناه عنه.
ثم ساق البخاري أيضًا من حديث أبي نعيم، ثنا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، زَعَمَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ انْطَلَقُوا إلى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا، وَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا .. الحديث. فوداه مائة من إبل الصدقة.
وسعيد هذا هو أبو الهذيل الطائي الكوفي، أخو عقبة، اتفقا عليه.
قال ابن عبد البر: وما نعلم في شيء من الأحكام المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاضطراب والتضاد ما في هذِه القصة، فإن الآثار فيها متضادة متدافعة، وهي قصة واحدة
(2)
.
وذكر أبو القاسم البلخي في "معرفة الرجال" عن ابن إسحاق قال: سمعت عمرو بن شعيب يحلف في المسجد الحرام: والله الذي لا إله إلا هو إن حديث سهل بن أبي حثمة في القسامة ليس كما حدث، ولقد أوهم.
وذكر أبو داود سليمان بن الأشعث بإسناد جيد عن عبد الرحمن بن بجيد أن سهلًا -والله- أوهم -الحديث- أنه عليه السلام كتب إلى يهود وقد وجد بين أظهرهم قتيل: "فدوه"، فكتبوا يحلفون بالله خمسين يمينًا
(1)
"المصنف" 5/ 442 - 443 (27823 - 27827).
(2)
"الاستذكار" 25/ 307 - 308.
ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلاً، فوداه رسول الله من عنده بمائة ناقة، وفي رواية رافع بن خديج فاختاروا منهم خمسين واستحلفهم فأبوا، وفي لفظ له عنده: فبدأ باليهود، وقال:"أيحلف خمسون منكم؟ " فأبوا، فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على اليهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم
(1)
.
ولابن إبي عاصم من حديث الزهري عن أنس أنه عليه السلام بدأ ببني حارثة في اليمين في دم صاحبهم المقتول بخيبر
(2)
، وقال أبو عمر: لم يخرجه البخاري إلا لإرسال مالك (له)
(3)
، وقد خطأ جماعة من أهل الحديث حديث سعيد بن عبيد، وذمُّوا البخاري في تخريجه، وتركه رواية يحيى بن سعيد
(4)
.
قال الأصيلي: أسنده عن يحيى: شعبة، وسفيان بن عيينة، وعبد الوهاب الثقفي، وعيسى بن حماد، وبشر بن المفضل، وهؤلاء ستة، وأرسله مالك عن يحيى بن سعيد (عن)
(5)
بشير بن يسار، ولم يذكر سهل بن أبي حثمة، وممن روى حديث يحيى مسندًا ابن عيينة وحماد بن زيد وعباد بن العوام.
وقال الأثرم: قال أحمد: الذي أذهب إليه في القسامة حديث بشير من رواية يحيى، فقد سلف، وصله عنه حفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد
(6)
.
(1)
أبو داود بأرقام (4525)، (4524)، (4526).
(2)
"الديات" ص 78.
(3)
من (ص 1).
(4)
"الاستذكار" 25/ 301.
(5)
في الأصل: ابن.
(6)
"الاستذكار" 25/ 305.
وأخرجه النسائي أيضًا من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن محيصة الأصغر أصبح قتيلًا على أبواب خيبر .. الحديث. وفي آخره: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم وأعانهم بنصفها. ثم قال: لا أعلم أحدًا تابع عمرًا على هذِه الرواية ولا سعيد بن عفير على روايته عن بشير
(1)
.
قلت: قد ذكره الدارقطني من حديث حبيب بن أبي ثابت عن بشير مثله
(2)
. وقال البيهقي: يحتمل أن رواية (سعيد لا تخالف رواية)
(3)
يحيى بن سعيد، عن بشير، وكأنه أراد بالبينة أيمان المدعين في اللوث، كما فسره يحيى بن سعيد، أو طالبهم بالبينة كما في هذِه الرواية. فلما لم يكن عندهم بينة عرض عليهم الأيمان كما في رواية يحيى بن سعيد، فلما لم يحلفوها ردها على اليهود كما في الروايتين جميعًا
(4)
.
(ويؤيده)
(5)
حديث عمرو بن شعيب ومرسل سليمان بن يسار -يعني: المذكورين قبل- قال: ومن تكلم في دين الله وفي أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي له أن يحتج في ذلك برواية الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)
(6)
في استحلافه خمسين من اليهود في قصة الأنصاري، ثم جعل عليهم
(1)
"سنن النسائي" 8/ 12.
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 109.
(3)
ساقطة من الأصل.
(4)
"سنن البيهقي" 8/ 120.
(5)
في (ص 1): ويؤكده.
(6)
من (ص 1).
الدية ولا يراد به عمر بن صبيح عن مقاتل بن حيان، عن صفوان، عن ابن المسيب، عن عمر في قضائه بنحو ذلك.
وقوله: (إنما قضيت عليكم بقضاء نبينا)؛ لإجماع أهل الحديث على ترك الاحتجاج بهما ولمخالفتهما في هذِه الرواية الثقات الأثبات.
وروى ابن أبي عاصم من حديث ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس .. الحديث. وفيه: فدعا عليه السلام اليهود بقسامتهم؛ لأنهم الذين ادعي عليهم الدم، فأمرهم أن يحلفوا خمسين يمينًا أنهم برآء من قتله، فنكلت يهود عن الأيمان، فدعى بني حارثة .. الحديث
(1)
.
ورواه مسلم عن سهل ورافع، وقد بين ليث في روايته عن يحيى بن سعيد عند مسلم، عن بشير أنه حسبان، وذلك أنه قال: قال (يحيى)
(2)
: حسبته قال: وعن رافع، فحصل بذلك شك يحيى في ذكر رافع
(3)
. فكأن روايته لم يذكر فيها شك في ذلك بحيث أن يقضى عليها بذكر الشك؛ (لأن زيادة الحفاظ مقبولة وإن جاز نفيه بعد الشك)
(4)
، وأن يستشكلَه بعد اليقين أيضًا جائز، وسهل إنما يروي عن رجال من كبراء قومه لصغره. هذا على قول من قال: عن. وأما من قال: عن رجل. فهو مرسل، واتصاله برافع، وقد حصل فيه ما بيناه.
ثم ساق البخاري من حديث أبي رجاء -واسمه سلمان، من آل أبي قلابة- ثنا أَبُو قِلَابَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ، ثُمَّ
(1)
"الديات" ص 78 - 79.
(2)
في الأصل: حدثني، والمثبت من (ص 1).
(3)
مسلم (1669)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: القسامة.
(4)
من (ص 1).
أَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ في القَسَامَةِ؟ قَالَوا: نَقُولُ: القَسَامَةُ القَوَدُ بِهَا حَقٌّ، قَدْ أَقَادَ بِهَا الخُلَفَاءُ. ثم ساقه بطوله.
وقد اختلف العلماء (في القسامة)
(1)
، فقال الجمهور: القسامة ثابتة عن الشارع يبدأ فيها المدعون بالأيمان، فإن حلفوا استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينًا (وبرئوا)
(2)
. وهو قول أهل المدينة: يحيى بن سعيد وأبي الزناد وربيعة ومالك، والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور
(3)
، وحجتهم حديث البخاري السالف الذي ذكرناه أولاً، وهو صريح، يبدأ به المدعين للدم باليمين. وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بأيمان المدعى عليهم ويذرون. روي عن عمر والشعبي والنخعي، وبه قال الثوري والكوفيون وأكثر البصريين واحتجوا بحديث سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار أنه عليه السلام قال للأنصار:"تأتون بالبينة على من قتله؟ " قالوا: ما لنا بينة. قال: "فيحلفون لكم؟ " قالوا: ما نرى بأيمان يهود. فأبوا، فبدأ بأيمان المدعى عليهم، وهم اليهود. واحتجوا أيضًا بما رواه ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام قال:"لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليهم" أخرجاه
(4)
.
وفيها قول ثالث: وهو التوقف عن الحكم بالقسامة. روي عن سالم بن عبد الله وأبي قلابة وعمر بن عبد العزيز والحكم بن عتيبة.
(1)
في (ص 1): في الحكم بالقسامة.
(2)
من (ص 1).
(3)
انظر: "المعنى" 12/ 205.
(4)
سلف برقم (2514). ورواه مسلم (1711).
قال ابن عبد البر: ورواية عن قتادة، وهو قول مسلم بن خالد الزنجي وفقهاء أهل مكة، وإليه ذهب ابن عيينة
(1)
. واحتج الجمهور بأن قالوا: حديث سعيد بن عبيد في تبدئة اليهود وهم عند أهل الحديث كما سلف؛ لأن جماعة من أهل الحديث أسندوا حديث بشير بن يسار، عن سهل أنه عليه السلام بدأ بالمدعين.
قال أحمد: الذي أذهب إليه في القسامة حديث يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، وقد وصله عنه حفاظ، وهو صحيح من حديث سعيد بن عبيد. وقد أسلفناه عنه أيضًا
(2)
.
قال الأصيلي: فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إبل الصدقة. والصدقة لا تعطي في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها.
قال ابن القصار والمهلب: وقد يجمع بين حديث سعيد ويحيى بأنه عليه السلام قال للأنصار: "أترضون نفل خمسين من اليهود ما قتلوه؟ " بعد علمه أن الأنصار قد نكلوا عن اليمين؛ لأنهم لم يعينوا أحدًا من اليهود فيقسموا عليه. والقسامة لا تكون إلا على معين، فلما علم نكولهم رد اليمين. وفي حديث يحيى حين (تكلم)
(3)
حويصة ومحيصة وعبد الرحمن، فقال لهم:"فتبرئكم يهود بأيمان" بعد أن قال لهم: "تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم" وقد روى ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه (أنه عليه السلام)
(4)
قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة" أخرجه الدارقطني من
(1)
"الاستذكار" 25/ 326 - 327.
(2)
سبق قريبًا.
(3)
في (ص 1): نكل.
(4)
من (ص 1).
حديث مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن جريج به. ومن حديث الزنجي، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنه عليه السلام (قال)
(1)
فذكر مثله. قال الدارقطني: خالفه عبد الرزاق وحجاج فروياه عن ابن جريج، عن عمرو مرسلاً، فبين أن اليمين في القسامة لا تكون في جهة المدعى عليه
(2)
.
وقد احتج مالك، في "الموطأ" لهذِه المسألة بما فيه الكفاية، فقال: إنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه، وأن الرجل إذا [أراد]
(3)
قتل الرجل [لم يقتله]
(4)
في جماعة من الناس وإنما يلتمس الخلوة فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة وعمل فيها كما يعمل في الحقوق بطلت الدماء واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت إلى ولاة المقتول ليبدءون بها ليكف الناس عن الدم، وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول. وهذا الأمر المجمع عليه عندنا، والذي سمعت ممن أرضى، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث أن يبدأ المدعون
(5)
. فإن قلت: الشارع إنما قال: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم"
(6)
على وجه الاستعظام لذلك والإنكار عليهم والتقرير لا على وجه الاستفهام لهم. فالجواب: أنه لا يجوز أن يريد الإنكار عليهم أصلاً، وذلك أن القوم لم يطلبوا
(1)
من (ص 1).
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 109.
(3)
ما بين المعكوفتين مثبت من "الموطأ"، وهو ساقط من الأصول.
(4)
ما بين المعكوفتين مثبت من "الموطأ"، وهو ساقط من الأصول.
(5)
"الموطأ" ص 548 - 549.
(6)
سيأتي برقم (7192).
فينكر ذلك عليهم، وإنما طلبوا الدم فبدأهم وقال لهم:"أتحلفون؟ " فعلم أنه شرع لهم اليمين وعلق استحقاقه الدم بها، وإنما كان يكون منكرًا عليهم لو بدءوا وقالوا: نحن نحلف
(1)
.
فصل:
وأما الذين أبطلوا الحكم بالقسامة، فإنهم ردوها بآرائهم لخلافها عندهم حديث:"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"
(2)
وهو خص القسامة بتقدمة المدعي بالأيمان وسنه لأمته.
وقد كانت في الجاهلية خمسين يمينًا على الدماء فأقرها الشارع فصارت سنة، بخلاف الأموال التي سنَّ فيها يمينًا واحدة، والأصول لا يرد بعضها بعضًا ولا يقاس بعضها علي بعض؛ بل يوضع كل واحد منها موضعه كالعرايا والمزابنة والمساقاة والقرائن مع الإجارات، وعلى المسلمين التسليم في كل ما سنَّ لهم.
فإن قلت: كيف يحكم للأولياء وهم غيب عن موضع القتل؟ قيل: اليمين يكون تارة علي وجه اليقين وتارة على وجه الاستدلال؛ كالشهادة تكون باليقين وتكون بالاستدلال على النسب والوفاة، وأن هذِه زوجة فلان وهذا باستدلال، كما يدعي الوارث لأبيه دينًا على رجل من حساب أبيه، فيحلف كما يحلف على يقين، وذلك على ما ثبت عنده بإخبار من يصدقه، ليس لأحد من العلماء يجيز لأحد أن يحلف علي ما لم يعلم، ولكنه يحلف علي ما لم يحضر إذا صح عنده وعلمه ما يقع العلم بمثله.
(1)
انظر: "شرح ابن بطال" 533 - 534.
(2)
سلف برقم (2514).
وقيل لابن المسيب: أعجب من القسامة أن يأتي الرجل يسأل عن القاتل والمقتول لا يعرف واحدًا منهما ويقسم، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها في قتيل خيبر، ولو علم أن الناس يجترئون عليها ما قضى بها
(1)
.
وقال أبو الحسن القابسي: العجب من عمر بن عبد العزيز على مكانته في العلم كيف لم يعارض أبا قلابة في موضعه وليس أبو قلابة من فقهاء التابعين؟
قال المهلب: وما اعترض به أبو قلابة من حديث العرنيين، لا اعتراض فيه على القسامة بوجه من الوجوه؛ لجواز قيام البينة والدلائل التي لا رفع لها على تحقيق الجناية على العرنيين، وليس هذا من طريق القسامة في شيء؛ لأنها إنما تكون في الدعاوى والاختفاء بالقتل حيث لا بينة ولا دليل، وأمرُ العرنيين كان بين ظهراني الناس، ويمكن فيه الشهادة؛ لأنهم كشفوا وجوههم لقطع السبيل والخروج عن المسلمين بالقتل واستياق الإبل، فقامت عليهم الشواهد البينة، فأمرهم غير أمر من ادعي عليه بالقتل، ولا شاهد يقوم عليه. وما ذكر من الذين انهدم عليهم الغار لا يعارض به ما تقدم من السنة في القسامة، وليس رأي أبى قلابة حجة على جماعة التابعين، ولا ترد بمثله السنن، وكذلك هو عبد الملك من الديوان لأسماء الذين أقسموا لا حجة فيه على إبطالها
(2)
، وقد يكون عبد الملك إنما قدم على ما صنع كأن لم يكن في تلك القصة ما يوجب القسامة من اللوث.
(1)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 38 (18277).
(2)
انظر: "شرح ابن بطال" 8/ 536 - 537.
فصل:
اختلفوا في وجوب القود بها فأوجبت طائفة القود بها، روي عن عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز والزهري وربيعة وأبي الزناد وابن أبي ذئب، وبه قال مالك والليث وأحمد وداود وأبو ثور، واحتجوا بحديث يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار أنه عليه السلام قال للأنصار:"أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟ " وهذا يوجب القود، وقال إسحاق: من قال بالقود فيها لا أعيبه، وأما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه (قال)
(1)
: لا يقاد بالقسامة، وإنما تجب فيها الدية.
وقالت أخرى: لا قود بها وإنما توجب الدية، روي عن عمر وابن عباس وهو قول النخعي والحسن، وإليه ذهب الثوري والكوفيون والشافعي- في مشهور مذهبه- وإسحاق
(2)
، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى، عن عبد الله، عن سهل بن أبي حثمة، وهو قوله عليه السلام للأنصار:"إما أن تدوا صاحبكم أو تؤذنوا بحرب"
(3)
. وهذا يدل على الدية لا على القود.
قالوا: ومعنى قوله عليه السلام في حديث يحيى بن سعيد: "وتستحقون دم صاحبكم" يعني به دية دم قتيلكم؛ لأن اليهود ليس بصاحب لكم، فإذا جاز أن يضمروا فيه جاز أن يضمر (فيه)
(4)
دية دم صاحبكم، فكان من حجة أهل المقالة عليهم أن قالوا: إن قوله: "إما أن تدوا صاحبكم"
(1)
من (ص 1).
(2)
انظر: "الاستذكار" 25/ 315 - 317.
(3)
رواه مالك في "الموطأ" ص 547، وسيأتي معلقًا قبل حديث (7162).
(4)
من (ص 1).
معارض لقوله: "تستحقون دم صاحبكم" فلما تعارض وجب طلب الدليل على أي المعنيين أولى بالصواب، فوجدنا الأول انفرد به ابن أبي ليلى في حديثه، وقد قال أهل الحديث: إن أبا ليلى لم يسمع من سهل. وفيه: أنه مجهول لم يرو عنه غير مالك.
واختلف في اسم أبي ليلى هذا كما قال أبو عمر، فقيل: عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل. وقيل: عبد الرحمن بن عبد الله بن سهل، وقال ابن إسحاق: عبد الله بن سهل
(1)
.
وقد اتفق جماعة من الحفاظ على يحيى بن سعيد على هذا الحديث وقالوا فيه: "تستحقون دم قتيلكم" يعني: يسلم إليكم القتيل؛ لأنه لم يقل: وتستحقون دية دم صاحبكم. والدليل على ذلك أنهم كانوا ادعوا قتل عمد لا خطأ، والذي يجب على قاتل العمد القود أو الدية إن اختار ذلك ولي القتيل.
وروى حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن بشير، عن سهل ورافع بن خديج أنه عليه السلام قال للأنصار:"يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته"
(2)
وهذا حجة قاطعة.
وهذا الحديث يبين أن قوله: "دم صاحبكم" معناه: القاتل؛ لأنه قتل الذي قتل وليهم، وقد يصح أن تقولوا: هذا صاحبنا الذي ادعينا عليه أنه قتل ولينا، ويجوز أن يكون معناه: وتستحقون دم قاتل صاحبكم؛ لأنه من ادعى إثبات شيء على صفة وحققه بيمينه، فإن الذي يجب له هو
(1)
"التمهيد" 24/ 150، "الاستذكار" 25/ 299، وانظر "الاستيعاب" 4/ 143 (2831).
(2)
رواه مسلم (1669).
الشيء الذي حققه بيمينه على صفته، فلو ادعى إتلاف عبد (أو دابة)
(1)
أو ثوب وحلف المدعي بعد نكول المدعى عليه حكم له بما ادعاه على صفته ولم يجب له سواه، والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فأخبر تعالى أن القود هو الذي يحيي النفوس؛ لأن القاتل إذا علم أنه يقتل، انزجر عن القتل وكف عنه أكثر من انزجاره إذا لزمته الدية.
فصل:
الناس في وجوب القسامة على معنيين: فقدم اعتبروا اللوث، فهم يطلبون ما يغلب على الظن، وتكون شبهة يتطرق بها إلى حراسة الدماء، ولم يطلب أحد في القسامة الشهادة القاطعة ولا العلم المثبت، وإنما طلبوا شبهة وسموها لطخة؛ لأنها تلطخ المدعى عليه بها. وبهذا قال مالك والليث والشافعي، إلا أنهم اختلفوا في اللوث، فذهب مالك في رواية ابن القاسم أنه الشاهد العدل، وروى عنه أشهب غير العدل
(2)
. وذهب الشافعي إلى أنه الشاهد العدل
(3)
أو أن يأتي ببينة مفرقة، وإن لم يكونوا عدولًا.
قال: وكذلك لو (دخل)
(4)
بيتًا مع قوم لم يكن معهم غيرهم، أو تكون جماعة في صحراء فيتفرقون على قتيل، أو يوجد قتيل وإلى جنبه رجل معه سكين مخضوبة بدم، وليس ثم أثر سبع ولا قدم إنسان آخر، ولا يقبل الشافعي قول المقتول: دمي عند فلان؛ لأن السنة
(1)
من (ص 1).
(2)
انظر: "الاستذكار" 25/ 310.
(3)
انظر: "الإشراف" 3/ 148.
(4)
ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص 1).
المجمع عليها أنه لا يعطى أحد بدعواه شيئًا. وعند مالك والليث أن القسامة تجب باللوث، أو بقول المقتول: دمي عند فلان
(1)
.
وقد سلف بيان هذِه المسألة قريبًا في باب: إذا قتل بحجر أو بعصى. وقوم أوجبوها، والدية بوجود القتل فقط واستغنوا عن مراعاة قول المقتول.
وعن الشافعي، وهو قول الثوري والكوفيين: ولا قسامة عندهم إلا في القتيل يوجد في المحلة خاصة، قالوا: فإذا وجد في محلة قوم وبه أثر من جراحة أو ضرب أو خنق، حلف أهل الموضع أنهم لم يقتلوه، ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن به أثر لم يكن على العاقلة شيء
(2)
. وكذا لو كان الدم يجري من أنفه أو دبره فليس قتيلاً، (فإن جرح من أذنه أو عينه فهو قتيل)
(3)
، وهذا لا سلف لهم فيه. وحديث يحيى بن سعيد عن بشير بخلاف قولهم؛ لأنه عليه السلام لم يحكم على اليهود بالدية بنفس وجود القتيل في محلتهم، ولم يطالبهم بها، بل أداها من عنده. ولو وجبت على أهل المحلة لأوجبها على اليهود. وأما اشتراطهم أن يكون به أثر فليس بشيء؛ لأنه قد يقتل بما لا أثر به.
قال ابن المنذر: والعجب من الكوفيين أنهم ألزموا العاقلة مالاً بغير بينة تثبت عندهم ولا إقرار منهم، بل ثَم أعجب من ذلك إلزامهم العاقلة جناية عمد ولا تثبت ببينة ولا إقرار؛ لأن الدعوى التي ادعاها المدعي لو ثبتت ببينة لم يلزم ذلك العاقلة، فكيف يجوز أن يلزموه بغير بينة؟ والخطأ محيط بهذا القول من كل وجه.
(1)
انظر المصدر السابق 3/ 148.
(2)
انظر: المصدر السابق 3/ 150 - 151
(3)
من (ص 1).
وذهب الليث ومالك والشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم فهو هدر
(1)
لا يؤخذ به أقرب الناس دارًا ولا غيره؛ لأن القتيل قد يقتل ثم يلقي على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤخذ أحد بمثل ذلك.
وقد قال عمر بن عبد العزيز: هذا بما يؤخر فيه القضاء حتى يقضي الله فيه يوم القيامة.
وقال القاسم بن مسعدة: قلت للنسائي: مالك لا يقول بالقسامة إلا بلوث. فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه؟ قال النسائي: أنزل مالك العداوة التي كانت بينهم وبين اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة.
وقال الشافعي: إذا كان من السبب الذي حكم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت القسامة، كانت خيبر دار يهود مختصة، وكانت العداوة بينهم وبين الأنصار ظاهرة. وخرج عبد الله بن سهل بعد العصر (فوجد قتيلًا قبل الليل)
(2)
، فكاد يغلب على من سمع هذا أنه لم يقتله إلا بعض اليهود
(3)
. وكذلك قال أحمد: إذا كان بين القوم عداوة كما كان بين الصحابة واليهود
(4)
.
ووجه قول مالك: أن قول المقتول يجب فيه القسامة، أن الغالب من الإنسان أنه يتخوف عند الموت ويجهد في التخلص من المظالم، ويرغب فيما عند الله تعالى ويحدث توبة، ولا يقدم على دعوى القتل ظلمًا، فصار أقوى من شهادة الشاهد وأقوى من قول من خالف أن
(1)
"الاستذكار" 25/ 315.
(2)
في الأصل: فوجد قبيل الليل، والمثبت من (ص 1).
(3)
"الأم" 6/ 78.
(4)
"المغنى" 12/ 193.
الولي يقسم إذا كان بقرب وليه وهو مقتول ومع الرجل سكتتين؛ لأنه يجوز أن يكون غيره قتله، فضعف هذا اللوث، ووجب أن يستعمل ما هو أقوى منه، وهو قول المقتول: دمي عند فلان. ولا يسلم ذلك له.
قال ابن أبي زيد: وأصل هذا في قصة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب بالبقرة وقال: قتلني فلان. فهذا يدل على قبول قوله: دمي عند فلان؛ لأنه كان في شرع بني إسرائيل، وسواء كان قبل الموت أو بعده.
واعترض عليه بأن ذلك كان معجزة لموسى وأنه كان بعد الموت.
تنبيه: المتقرر عند أبي حنيفة وصاحبيه، أنه إذا وجد القتيل في محلة وبه أثر، أو ادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه، أو على واحد منهم بعينه، استحلفوا من أهل المحلة خمسين يختارهم الولي، فإن لم يبلغوا خمسين كررت عليهم الأيمان، ثم يغرمون الدية. فإن نكلوا عن اليمين حبسوا حتى يقروا أو يحلفوا. وهو قول زفر. وروي عن الحسن بن زياد عن أبي يوسف: إذا أبوا أن يقسموا تركهم ولم يحبسهم وتجعل الدية على العاقلة في ثلاث سنين. وقالوا جميعًا: (إذا ادعى الولي على رجل من غير أهل المحلة، فقد أبرأ أهل المحلة وغيرهم
(1)
.
وقال ابن شبرمة)
(2)
: إذا ادعى الولي على رجل بعينه من أهل المحلة فقد أبرأ أهل المحلة، وصار دمه مهدرًا، إلا أن يقيم البينة على ذلك الرجل.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 177 - 178.
(2)
من (ص 1).
(وقال البتي: يستحلف من أهل المحلة خمسون رجلاً: ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً، ثم لا شيء عليهم غير ذلك، إلا أن يقيم البينة على رجل)
(1)
بعينه أنه قتله.
قال أبو عمر: وهذا القول مخالف لما قضى به عمر رضي الله عنه من رواية أبي
(2)
إسحاق، عن الحارث بن الأزمع: أن عمر استحلف الذي وجد عندهم القتيل (وأغرمهم)
(3)
الدية
(4)
.
فصل:
واختلفوا في العدد الذين يحلفون ويستحقون الدم، فقال مالك: لا يقسم في قتل العمد إلا اثنان فصاعدًا ترد الأيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينًا
(5)
، وذلك الأصل عندنا. والحجة أن الشارع عرضها على ولاة الدم بلفظ جماعة فقال:"تحلفون وتستحقون". وأقل الجماعة اثنان فصاعدًا وقال الليث: ما سمعت أحدًا أدركت يقول: أنه يقتصر على أقل من ثلاثة.
وقال الشافعي: إذا تركوا وارثًا استحق الدية بأن يقسم وارثه خمسين يمينًا. واحتج له أبو ثور فقال: قد جعل الله للأولياء أن يقسموا، فإذا لم يكن إلا واحدًا كان له ذلك، ولو لم تكن إلا ابنة وهي مولاته حلفت خمسين يمينًا وأخذ من الكل النصف بالنسب والنصف بالولاء
(6)
.
(1)
من (ص 1).
(2)
في الأصول (ابن) والمثبت من "الاستذكار".
(3)
في (ص 1): وأخذ منهم.
(4)
"الاستذكار" 25/ 313 - 314.
(5)
انظر: "الإشراف" 3/ 149.
(6)
انظر السابق.
فصل:
وفي قوله: ("تستحقون") دلالة على أن لا يمين (لهم)
(1)
مستحق، وعلى أن لا يحلف إلا وارث، كما نبه عليه ابن المنذر
(2)
.
وفيه من الفقه: أن تسمع حجة الخصم على الغائب، وأن أهل الذمة إذا منعوا حقًّا رجعوا حربًا. ومقابله: من منع حقًّا حتى يؤديه، وإن صح عنده أمر ولم يحضره أن له أن يحلف عليه؛ لأنه عليه السلام عرض على أولياء المقتول اليمين ولم يحضروا بخيبر.
فصل:
وفيه أيضًا: وجوب رد اليمين على المدعي في الحقوق. واختلف العلماء في ذلك. فقالت طائفة: إن من ادعى حقًّا على آخر ولا بينة له، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف برئ وإن لم يحلف ردت اليمين على المدعي، فإن حلف استحق وإلا فلا شيء له. روي هذا عن عمر وعثمان، وهو قول شريح والشعبي والنخعي، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور.
وذهب الكوفيون أن المدعى عليه إن لم يحلف لزمه الحق ولا ترد اليمين على المدعي
(3)
.
وكان أحمد لا يرى رد اليمين، وحجتهم في ذلك أنه عليه السلام حكم بالبينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، فلما لم يجز نقل حجة المدعى عليه وهي اليمين إلى المدعي؛ لأن قوله عليه السلام:"اليمين على المدعى عليه" إيجاب عليه أن يحلف، فإذا امتنع بما يجب عليه
(1)
في (ص 1): لغير.
(2)
"الإشراف" 3/ 149.
(3)
انظر: "شرح معاني الآثار" 4/ 149
أخذه الحاكم بالحق. هذا قول ابن أبي ليلى وغيره من أهل العلم.
واحتج أهل المقالة الأولى بحديث القسامة، وقالوا: إن الشارع جعل اليمين في جهة المدعي بقوله للأنصار: "أتحلفون؟ " فلما أبوا أحالها إلى اليهود (ليبرءوا)
(1)
بها. فلما وجدنا في سنته أن المدعي قد تنتقل إليه اليمين في الدماء وحرمتها أعظم، جعلناها عليه في الحقوق؛ لنأخذ بالأرفق، والمدعى عليه إذا نكل عن اليمين ضعفت جهته وصار متهمًا وقويت حجة المدعي؛ لأن الظاهر صار معه فوجب أن تصير اليمين في جهته لقوة أمره.
وقد احتج الشافعي على الكوفيين فقال: رد اليمين في كتاب الله في آية اللعان أيضًا؛ وذلك أن الله جعل اليمين على الزوج القاذف لزوجته إذا لم يأت بأربعة شهداء، وجعل له بيمينه البراءة من حد القذف، وأوجب الحد على الزوجة إن لم تلتعن، فهذِه يمين ردت على مدع كانت عليه البينة في رميه زوجته، فكيف ينكر من له فهم وإنصاف رد اليمين على المدعي؟
وقال ابن القصار: قد ذكر الله في كتابه اليمين على المدعي الصادق، فقال لنبيه:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، واحتج أيضًا بقوله تعالى:{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] قال أهل التفسير: يعني: تبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء.
(1)
في الأصل: (ليقرون) والمثبت موافق للسياق.
قلت: وروى الحاكم في "مستدركه" عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد
(1)
.
فصل:
قوله: (يَتَشَحَّطُ فِي الدَّمِ) التشحط: الاضطراب في الدم.
وقوله: ("أَتَرْضَوْنَ نَفَلَ خَمْسِينَ مِنَ اليَهُودِ؟ ") هو بالنون والفاء، أي: يمين خمسين. يقال: نفلته فتنفل. أي: حلفته فحلف، ونفل وانتفل إذا حلف، وأصل النفل النفي، يقال: نفلت الرجل عن نسبه، وانفل عن نفسك إذا كنت صادقًا. أي: انف ما قيل فيك، وسميت اليمين في القسامة نفلاً؛ لأن القصاص ينفى بها، ومنه حديث علي رضي الله عنه: لوددت أن بني أمية رضوا ونفلناهم خمسين رجلاً من بني هاشم يحلفون ما قتلنا عثمان ولا نعلم له قاتلًا
(2)
. يريد: نفلناهم.
وكذا قال صاحب "العين": انتفلت من الشيء: انتفلت منه
(3)
.
فنفل اليهود هو أيمانهم أنهم ما قتلوه، وإنتفاؤهم عن ذلك.
وقوله: (ثم ينفلون) هو بكسر الفاء وضمها. وفيه: تبرئة المدعى عليهم، إلا أنه مرسل لا يقابل به أخبار الجماعة المسندة التي قدمناها.
فصل:
وقوله: (قلت: وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْل خَلَعُوا حليفا لَهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ، فَطَرَقَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ البطحاء، فَانْتَبَهَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَحَذَفَهُ بِالسَّيْفِ
(1)
"المستدرك" 4/ 100.
(2)
رواه سعيد بن منصور في "سننه" 2/ 335 - 336 (2942).
(3)
"العين" 8/ 325 وفيه "قال .. فانتفلتُ منه أي أنكرت أن أكون فعلته.
فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ هُذَيْلٌ فَأَخَذُوا اليَمَانِيَ فَرَفَعُوهُ إلى عُمَرَ رضي الله عنه -بِالْمَوْسِمِ .. ) إلى آخره. كانت العرب يتعاهدون ويتعاقدون على النصرة والإعانة، وأن يؤخذ كل منهم بالآخر، فإذا أرادوا أن يتبرءوا من إنسان قد حالفوه، أظهروا ذلك للناس وسموا ذلك الفعل خلعًا، والمتبرأ منه خليعًا، أي: مخلوعًا، فلا يؤخذون بجنايته ولا يؤخذ بجنايتهم، فكأنهم قد خلعوا اليمين التي كانت قد لبسوها معه، وسموه خلعًا وخليعا مجازًا واتساعًا، وبه سمي الأمير والإمام إذا عزل خليعًا، كأنه قد لبس الخلافة والإمارة ثم خلعها.
فصل:
فإن قلت: قد اختلفت ألفاظ حديث القسامة، فرواه سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من إبل الصدقة. ورواه سائر الرواة عن يحيى بن سعيد، عن بشير: فوداه مائة من عنده. فما وجه الجمع؟ وإبل الصدقة للفقراء والمساكين، ولا تؤدى في الديات، فما وجه تأديتها في دية اليهود؟
فالجواب: أن رواية من روى: من عنده. تفسر رواية من روى: دفع من إبل الصدقة. وذلك أنه عليه السلام لما عرض الحكم في القسامة على أولياء الدم بأن يحلفوا ويستحقوا، ثم نفلهم إلى أن (يحلف)
(1)
لهم اليهود ويبرءوا من المطالبة بالدم. قالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار، وتعذر إنفاد الحكم؟ خشي عليه السلام أن يبقى في نفوس الأنصار ما تتقى عاقبته من مطالبتهم لليهود بعد حين، فرأى أن من المصلحة أن يقطع ذلك بينهم ووداه من عنده، وتسلف ذلك من إبل الصدقة حتى يؤديها بما يفيء
(1)
ساقطة من الأصل والمثبت من (ص 1).
الله عليه من خمس المغنم؛ لأنه عليه السلام لم يكن يجتمع عنده بما يعتبر له في سهمانه من الإبل ما يبلغ مائة لإعطائه لها، وتفريقها على أهل الحاجة؛ لقوله:"ما لي بما أفاء الله عليكم إلا الخمس، وهو مردود فيكم"
(1)
فمن روى: من إبل الصدقة. أخبر عن ظاهر الأمر ولم يعلم باطنه. ومن روى: من عنده. علم وجه القصة وباطنها فلم يذكر إبل الصدقة.
وكان في غرمه لها صلحًا عن اليهود وجهان من المصلحة:
أحدهما: أنه عوض أولياء الدم دية قتيلهم، فسكن بذلك بعض ما في نفوسهم، وقطع العداوة بينهم وبين اليهود.
والثاني: استئلاف اليهود بذلك. وكان حريصًا على إيمانهم.
وقيل: كانت الإبل من الخمس فعبر عنها بالصدقة. وقيل: كان ولاة الدم فقراء فأعطاهم من إبل الصدقة. يوضحه حديث "الموطأ": خرجوا إلى خيبر من جهد أصابهم
(2)
. وقد روى ابن أبي عاصم حديثًا يدل عليه في أمر الجنين المتقدم، أخرجه من حديث أبي المليح عن أبيه. فقال عليه السلام:(لأخي القاتلة "ديتها")
(3)
فقال: يا رسول الله، إن لها بنون فهم أحق بعقل أمهم مني. قال:"أنت أحق بعقل أختك من ولدها" فقال: يا رسول الله، مالي شيء يعقل منه. فقال:"يا حمل بن مالك اقبض من تحت يدك من صدقات هذيل مائة وعشرين شاة". قال ابن أبي عاصم: دل هذا على أن من كان من العاقلة فقيرًا لم يحمل ولم يرد قسطه على باقي العاقلة وأدى الإمام عنه
(4)
.
(1)
رواه أبو داود (2755).
(2)
"الموطأ" ص 547 رواية يحيى الليثي.
(3)
في "الديات" ص 117: (لأخي القاتل أديه).
(4)
"الديات" ص 117.
وقال ابن الطلاع: إنما أعطى الشارع من حق الغارمين الذين لهم سهم من الصدقة.
وفيه: دلالة أنه يعطي من الزكاة أكثر من نصاب.
فصل:
القسامة بفتح القاف وتخفيف السين: مشتقة من القسم، والإقسام -وهو: اليمين-: يقال: أقسمت: إذا حلفت وقسمت قسامة؛ لأن فيها اليمين. فالصحيح أنها اسم للأيمان. وقال الأزهري: إنها اسم للأولياء الذين يحلفون على استحقاق دم المقتول
(1)
.
فصل:
وحاصل الكلام فيها في ستة مواضع هل يوجب حكمًا أم لا؟ وما الذي يوجبه (به؟)
(2)
وما الذي يوجبها؟ ومن يبدأ باليمين؟ وفي موضع اليمين، وكم عدة من يحلف فيها؟ وقد أوضحنا ذلك بحمد الله ومنه. ويأتي بعضه، وأن الجمهور على أنها توجب حكمًا وأنه عند مالك القود في واحد. وقال الشافعي في الجديد: توجب الدية.
وإذا قلنا بوجوب الدية، فقال في القديم: يقاد من جميع المدعى عليهم. وهو قول المغيرة. وإذا قلنا: يقاد بها من واحد هل يقسم عليه؟ قاله مالك، أو على الجماعة، ثم يقتلون واحدًا؟ قاله أشهب.
فصل:
واختلف في مسائل هل توجب القسامة؟ محل الخوض فيها كتب الفروع وبسطه المالكية.
واختلف عندهم هل يحلف قائمًا أو قاعدًا؟ أو هل يستقبل القبلة؟ وهل
(1)
"تهذيب اللغة" 3/ 2963.
(2)
من (ص 1).
يزيد: عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم؟ وهل يحلف جميع العصبة إذا كانوا أكثر من خمسين؟ وإذا استوت حالتهم في كثير يمين هل يدعون أو يحلف جميعهم أو تستكمل على أحدهم؟ وإذا قلنا برد اليمين في الخطأ هل يجتزأ بيمين بعض؟ وإذا كانوا خمسين هل يحلف بعضهم؟
فصل:
تكلفت الحنفية في الجواب عن الحديث السالف إلا في القسامة.
فقال الطحاوي: معناه فإنه يحلف من لم يدع عليه القتل نفسه؛ قال: ويحتمل إلا في القسامة، فإنه لا يبرأ باليمين من الخصومة؛ لأن الدية تجب مع اليمين فيها.
قال لمن احتج لمالك: كما تبين أنكم خالفتم الخبر من وجه واحد.
قال: لا بل نخالفه من وجهين، وذلك أن الاستثناء من الإثبات نفي، فهو أثبت اليمين على من أنكر ونفاها بالاستثناء عنهم إلى غيرهم، فقلتم أنتم: أثبتها فيهم واستثنى إثباتًا على المنكر ثانيًا.
والثاني: أنه عليه السلام نفى بالاستثناء أن يكون اليمين على المنكر وحده، فأثبتم أنتم اليمين عليه وعلى غيره، فخالفتم الخبر من وجهين:
الشارع قال: "اليمين على من أنكر إلا في القسامة"
(1)
. قلتم أنتم: على من أنكر في القسامة.
والثاني: قلتم: اليمين على المنكر وغيره. وقالوا أيضًا: إلا القسامة، فإن اليمين فيها واحدة.
والجواب: أن الاستثناء يرجع إلى ما ذكر وتقدم، وإنما تقدم ذكر اليمين لا ذكر أعداده.
(1)
رواه الدارقطني 3/ 109 من حديث أبي هريرة ومن حديث عبد الله عمرو.
فصل:
قصة عمر فيمن وجد عند بيوت السمّانين لا يخالف مالكًا؛ لأنه لا يوجب بوجوده في المحلة شيئًا، وإنما يوجب الدية في ذلك أبو حنيفة، كما سلف أنه عليه السلام لم يوجب على اليهود شيئًا بوجود القتيل في محلتهم.
فصل:
قوله: ("الكبر، الكبر") هو منصوب على الإغراء، أي: الزموا تقدمة الكبير، أيضًا على تقدير فعل، أي: ليتكلم الكبير.
(والكبر)
(1)
بضم الكاف وسكون الباء: الكبير. قال الجوهري: هو (كبر)
(2)
قومه، أي: أقعدهم في النسب
(3)
.
فصل:
وقوله: ("تأتون بالبينة على من قتله") يستدل به على سماع حجة الخصم على الغائب.
فصل:
قوله: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ أَبْرَزَ سَرِيرَهُ يَوْمًا لِلنَّاسِ) أي: أظهره.
وقول الناس: (الْقَسَامَةُ حَقٌّ القَوَدُ بِهَا .. ) إلى آخره فيه حجة للجمهور القائلين بها.
وقوله: (وَنَصَبَنِي لِلنَّاسِ) أي: أقامني.
وقول أبي قلابة: (لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُمْ شَهِدُوا عَلَى (رَجُلٍ)
(4)
(1)
من (ص 1).
(2)
في الأصل: الكبير، والمثبت من ص 1.
(3)
"الصحاح" 2/ 802. مادة (كبر).
(4)
ساقطة من الأصل.
مُحْصَنٍ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ قَدْ زَنَى ولَمْ يَرَوْهُ (أَكُنْتَ)
(1)
تَرْجُمُهُ؟) قال الشيخ أبو الحسن: لم (يأت)
(2)
أبو قلابة بما نسبه؛ لأن الشهادة طريقها غير طريق اليمين.
قال: والعجب من عمر بن عبد العزيز على مكانته من العلم كيف لم يعارض أبا قلابة في قوله، وليس أبو قلابة من فقهاء التابعين، وهو عند الناس معدود في البلد؟!
وقد أسلفنا بعض هذا، ويدل على صحة مقالة الشيخ أبي الحسن في الفرق بين الشهادة واليمين أنه عليه السلام عرض على أولياء المقتول اليمين، وعلم أنهم لم يحضروا بخيبر.
وقوله: (قطع في السرق) هو بفتح السين والراء مصدر سرق سرقًا.
وقوله: (فنقهت أجسامهم) هو بكسر القاف على وزن علم.
وقوله: ("أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟ ") احتج به الشافعي -كما قدمناه- أن القسامة تجب بها الدية دون الدم. وفيه دليل أيضًا أن الحكم لا يكون بمجرد النكول دون أن يرد اليمين على المدعي، خلافًا لأبي حنيفة في منعه الرد؛ وموضع الدلالة أنه حلَّف المدعين.
فصل: في القتل بالقسامة:
جاء في حديث عمرو بن شعيب أنه عليه السلام قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك
(3)
، وفي حديث أبي المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة بالطائف
(4)
، وكلاهما منقطع
(5)
.
(1)
في الأصل: (لما).
(2)
كذا في الأصل وأعلاها كلمة: لعله. وفي الهامش: في الأصل: يمهل.
(3)
رواه أبو داود (4522)، والبيهقي 8/ 127.
(4)
رواه البيهقي 8/ 127.
(5)
قاله البيهقي 8/ 127.
فصل:
قال ابن حزم: أما من جعل اليمين في دعوى الدم خمسين (يمينًا)
(1)
ولا بد، لا حجة لهم إلا القياس، وأما من روى عن الزهري: أن القسامة كانت في أمر الجاهلية فأقرها الشارع تعظيمًا للدم ومن سنتها، وما بلغنا فيها أن القتيل إذا تكلم برئ أهله، وإن لم يتكلم حلف المدعي. وذلك فعل عمر، وهو الذي أدركنا الناس عليه. فمرسل، وفيه رجل متهم بالوضع
(2)
.
قال ابن عبد البر في "استذكاره": لم يختلف قول مالك وأصحابه أن قول المقتول قبل موته: دمي عند فلان. أنه لوث يوجب القسامة، ولم يتابع مالك على ذلك (أحد إلا الليث بن سعد. وروى ابن القاسم عن مالك)
(3)
: أن الشاهد الواحد العدل لوث. وفي رواية أشهب وإن لم يكن عدلاً فهو لوث. وقد أسلفنا ذلك عنه.
قال مالك: واللوث الذي ليس بقوي ولا قاطع.
واختلفوا في المرأة الواحدة هل يكون شهادتها لوثًا يوجب القسامة؟ وكذلك اختلفوا في النساء والصبيان
(4)
.
فصل:
قال ابن حزم: وأما المالكيون، فإنهم خالفوا هذا الحكم ولا يرون فيه قسامة أصلاً إذا لم يتكلم، وذكروا ما حدثناه عبد الله بن (ربيع)
(5)
، ثنا
(1)
في الأصل: (يومًا)، والمثبت من "المحلى".
(2)
"المحلى" 11/ 77 - 78 بتصرف.
(3)
من (ص 1).
(4)
"الاستذكار" 25/ 309 - 310.
(5)
في الأصل: (يذيع)، والمثبت من "المحلى".
محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول قسامة كانت في الجاهلية أن رجلاً من بني هاشم استأجره رجل من قريش، فانطلق معه، فمرَّ رجل من بني هاشم انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد عروة جوالقي. فأعطاه، فلما نزلوا عقل الإبل إلا بعيرًا واحدًا، فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير؟ (قال)
(1)
: ليس له عقال. قال: فأين عقاله؟ قال: أعطيته رجلاً من بني هاشم. فحذفه بعصى كان فيها أجله، فتركه وانصرف. فمرَّ به رجل من أهل اليمن، فقال له وهو يموت: أتشهد الموسم؟ قال: نعم. قال: إذا شهدته فنادي: يا آل قريش، ثم يابني هاشم، ثم اسأل عن أبي طالب فأخبره أن فلانًا قتلني في عقال، ومات المستأجر، فلما قدم الذي كان استأجره سأله أبو طالب عن صاحبهم: ما فعل؟ قال: مرض ومات، فمكث حينًا، ثم إن الرجل الذي شهد الموسم وأخبر أبا طالب الخبر، فقال: اختر منا إحدى ثلاث: إما أن تودي مائة من الإبل؛ فإنك قتلت صاحبنا خطأ، وإن شئت حلف خمسون من قومك: أنك لم تقتله، فإن أبيت قتلناك به. فأتى قومه فذكر ذلك لهم فقالوا: نحلف، فجاءت امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب أحب أن تجيز ابني هذا برجل غيره، ولا تصبر يمينه، ففعل.
وأتاه آخر منهم فقال: يا أبا طالب، نصيب كل رجل من الخمسين بعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان. فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا.
(1)
من (ص 1).
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف
(1)
.
قال ابن حزم: وإن كان قد احتجوا بهذا فلقد خالفوه في ثلاثة مواضع؛ لأن قول المقتول لم يتبين بشاهدين، وهم لا يرون القسامة بمثل هذا، وأن أبا طالب بدأ بالمدعى عليهم بالأيمان، وهم لا يقولون بهذا، وأن أبا طالب أقر أن ذلك الذي قتل الهاشمي خطأ، ثم قال له: إن أبيت قتلناك به. وهم لا يرون القود في قتيل الخطأ، فمن العجب احتجاجهم بخبر هم أول مخالف له.
وأما نحن، فلا ننكر أن تكون القسامة كانت في الجاهلية في القتيل توجد فأقرها الشارع على ذلك، وهو حق عندنا؛ لصحة الخبر، ومن غامض انتزاعهم، ولا حجة لهم فيه أيضًا؛ لأنه حكم كان في بني إسرائيل، ولا يلزمنا ما كان فيهم إلا أن يلزمناه - عليه أفضل الصلاة والسلام -، وهو قوله تبارك وتعالى:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: 72] ثم ذكر ما أسلفناه عن ابن جبير، عن ابن عباس من قصة البقرة، وأنهم ضربوا قبر الميت ببعضها فقام وقال: قتلني ابن أخي.
فإن احتجوا بحديث رض اليهودي رأس الجارية، فليس صحيحًا؛ لأنهم لا يرون القسامة بدعوى من لم يبلغ. والأظهر في هذِه الجارية أنها لم تبلغ؛ لأن في الحديث أنها جارية ذات أوضاح، وهذِه الصفة عند العرب -الذين بلغتهم يتكلم أنس بن مالك- يوقعونها على الصبية
(1)
سلف برقم (3845) كتاب مناقب الأنصار، باب: القسامة في الجاهلية. وانظر: "المحلى" 11/ 78 - 79.
لا على المرأة البالغة، وليس القود بالشاهدين إجماعًا، كما ادعاه بعضهم؛ لأن الحسن بن أبي الحسن يقول: لا يقبل في القود إلا أربعة، وقد صح أنه عليه السلام قال في حديث سهل لليهود:"إما أن تدوا صاحبكم أو تؤذنوا بحرب"
(1)
وكان ذلك قبل فتحها.
كما في الحديث الثابت عن بشير بن يسار: أن خيبر كانت يومئذٍ صلحًا، ولم تكن قط صلحًا بعد فتحها عنوة، بل كانوا ذمة يجري عليهم الصغار، ولا يسمون صلحًا، ولا يمكن أن يؤذنوا للحرب. فصح يقينًا أن ذلك الحكم من الشارع إجماع من جميع الصحابة، أولهم وآخرهم بيقين لا شك فيه؛ لأن اليهود بينهم وبين المدينة مائة ميل إلا أربعة أميال يتردد في ذلك الرسل، فلم يخف ذلك على أحد من الصحابة بالمدينة، ولا على اليهود، وليس الإسلام يومئذ في غير المدينة؛ إلا من كان مهاجرًا بالحبشة أو مستضعفًا بمكة. وكذا قال الشافعي: كانت خيبر دار يهود محضة لا يخالطهم غيرهم كما أسلفناه عنه
(2)
.
فصل:
قال ابن حزم: فإن قيل: فما تقولون في قتيل يوجد وفيه رمق فيحمل، فيموت في مكان آخر أو في الطريق؟
فجوابنا: أنه لا قسامة في هذا، إنما فيه التداعي فقط، فإن وجد أثر فيه فقد قلنا: أنه عليه السلام إنما حكم في المقتول، وليس كل ميت مات حتف أنفه مقتولًا.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
"المحلى" 11/ 80 - 83 بتصرف.
فإن تيقنا أنه قتل بأثر وجد فيه من ضرب أو شدخ وشبه ذلك، فهو مقتول بالقسامة فيه، فإن أشكل أمره فأمكن أن (يكون)
(1)
ميتًا حتف أنفه مقتولًا.
فإن تيقنا أنه بشئ وضع على فيه فقطع نفسه، فالقسامة فيه، وسواء وجدنا القتيل في دار أعدائنا من الكفار أو من المؤمنين، أو أصدقاء مؤمنين، أو كفار، أو في دار أخيه أو ابنه، أو حيث ما وجد فالقسامة في ذلك، وهو قول ابن الزبير ومعاوية بحضرة الصحابة، ولا يصح خلافهما عن أحد من الصحابة؛ فإنهما حكما في إسماعيل بن هبار؛ -وجد مقتولًا بالمدينة، وادعى قوم قتله- على ثلاثة من قبائل شتى متفرقة الدور، زهري وتيمي وليثي كناني، ولم يوجد المقتول بين أظهرهم
(2)
.
قال ابن حزم: وسواء وجد المقتول في مسجد، أو في دار (نفسه)
(3)
، أو في المسجد الجامع، أو في السوق، أو الفلاة، أو في سفينة، أو نهر يجرى، أو في بحر، أو على عنق إنسان، أو في سقف، أو في شجرة، أو في غار، أو على دابة واقفة، أو سائرة، فكله سواء كما ذكرناه.
وقالوا: إن وجد بين قريتين فإنه يذرع ما بينهما فإلي أيهما كان أقرب، حلفوا وودوا، فإن تعلقوا في ذلك بما رويناه عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري قال: وجد قتيل بين قريتين، فأمر عليه السلام فقيس بينهما إلى أيهما هو أقرب؟ (فوجد أقرب)
(4)
إلى إحداهما
(1)
ساقطة من الأصل.
(2)
"المحلى" 11/ 83 - 84 بتصرف.
(3)
من (ص 1).
(4)
ساقطة من الأصل.
بشبر، فقضى به على من كانت أقرب له
(1)
.
ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانت أم عمرو بن سعد عند الجلاس بن سويد بن الصامت، فقال الجلاس في تبوك: إن كان ما يقول محمد حقًّا، لنحن شر من الحمير. فسمعها عمير وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعى الجلاس فأنكر، فأنزل الله تعالى {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 74] فقال الجلاس: أي رب، فإني أتوب إلى الله. قال عروة: وكان مولى الجلاس قتل في بني عمرو بن عوف فأبى بنو عمرو أن يعقلوه، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقله على بني عمرو بن عوف
(2)
.
ومن حديث (عبد الله الشعبي)
(3)
عن مكحول: أن قتيلًا وجد في هذيل، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فدعى خمسين منهم، فأحلفهم كل رجل عن نفسه يمينًا بالله ما قتلنا ولا علمنا ثم أغرمهم الدية. ومن حديث شعبة عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم: كانت القسامة في الجاهلية، إذا وجدوا القتيل بين ظهراني قوم، أقسم منهم خمسون: ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، فإن عجزت الأيمان ردت عليهم، ثم عقلوا.
(1)
رواه أحمد 3/ 39، والبزار كما في "كشف الأستار" 2/ 209، والبيهقي في "السنن" 8/ 126 من طرق عن أبي إسرائيل عن عطية العوفي به.
وقال البزار: لا نعلمه عن النبي إلا بهذا الإسناد، وأبو إسرائيل ليس بالقوي. وقال البيهقي: تفرد به أبو إسرائيل، عن عطية العوفي وكلاهما لا يحتج بروايته.
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 46 - 47 (18303).
(3)
كذا في (ص 1)، وفي "المحلى" 11/ 85:(محمد بن عبد الله الشعبي)، وكلاهما خطأ؛ وصوابه:(محمد بن عبد الله الشعيثي) انظر: "تهذيب الكمال" 25/ 559 (5376).
ومن حديث مكحول: ثنا عمرو بن أبي خزاعة أنه قتل فيهم قتيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل القسامة على خزاعة: بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، وحلف كل منهم عن نفسه، وغرموا الدية
(1)
.
قال ابن حزم: لا يجب الاشتغال بهذِه كلها، أما الأول: فهالك؛ لأنه تفرد به عطية، وهو ضعيف جدًّا ساقط، وما ندري أحدًا وثقه
(2)
.
قلت: ذكره ابن سعد في "طبقاته" وقال: كان ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة
(3)
، وذكره أبو حفص البغدادي في "ثقاته"، وقال يحيى بن معين: صالح، وقال أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه
(4)
.
قال ابن حزم: رواه عنه أبو إسرائيل وهو إسماعيل بن أبي إسحاق بليَّة عن بليَّة؛ لأن الملائي ضعيف جدًّا، وليس في الذرع بين القريتين حديث غير هذا البتة لا مسند ولا مرسل
(5)
.
قلت: أبو إسرائيل اسمه إسماعيل بن خليفة، قال أحمد: يكتب حديثه. وقال ابن معين: لا بأس به. وفي رواية: صالح. وعند الساجي عنه: ثقة. وقال أبو حاتم: حسن الحديث جيد اللقاء. وقال أبو زرعة: صدوق
(6)
. وذكره ابن حبان في "ثقاته" وقال: يخطئ
(7)
، حكاه الصيريفيني عنه.
(1)
"المحلى" 11/ 85 - 86 بتصرف.
(2)
"المحلى" 11/ 86.
(3)
"الطبقات الكبرى" 6/ 304 غير أنه قال: ومن الناس من لا يحتج به.
(4)
"الجرح والتعديل" 6/ 382.
(5)
"المحلى" 11/ 86.
(6)
"الجرح والتعديل" 2/ 166.
(7)
الذي في "ثقات ابن حبان" 8/ 96: إسماعيل بن خليفة أبو هانئ الأصبهاني، أما أبو إسرائيل فهو: إسماعيل بن خليفة العبسي أبو إسحاق الملائي الكوفي، انظر:"تهذيب الكمال" 3/ 77.
وقال ابن سعد: يقولون: إنه صدوق
(1)
. ووثقه يعقوب بن سفيان الفسوي.
قال
(2)
: وخبر الجلاس (مرسل)
(3)
؛ لأن راويه عروة: أنه عليه السلام، وليس فيه أيضًا ذكر القسامة، ولا أنه وجد قتيلًا بينهم، إنما فيه أنه قتل فيهم، فالعقل عليهم على هذا، وهذِه صفة قتل الخطأ
(4)
.
قلت: عمير بن سعد راويه كان عاملًا لعمر على حمص، وتوفي بعد عمر، فسماع عروة منه غير ممتنع؛ يوضحه قول عروة آخره: فما زال عمير مكينًا عند الناس حتى مات
(5)
. فهذا إخبار من عروة برؤيته ومشاهدته، وإذا كان كذلك، كان حديثه هذا غير مرسل.
ثم قال ابن حزم: وأما حديث عمرو بن أبي خزاعة فمرسل، وعمرو مجهول
(6)
.
قلت: عمرو مذكور في كتب الصحابة فلا تضر جهالته
(7)
.
قال ابن حزم: وأما ما ذكروا عن عمر وعلي فالذي عن علي لا يصح البتة؛ لأنه عن أبي جعفر وهو منقطع، وعن الحارث وقد وصفه الشعبي بالكذب، وفيه أيضًا الحجاج بن أرطأة، والرواية عن عمر غير صحيحة، ولا يعلم في القرآن ولا السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا في الإجماع
(1)
"الطبقات الكبرى" 6/ 380.
(2)
يعني: ابن حزم.
(3)
من (ص 1) وسقطت في الأصل.
(4)
"المحلى" 11/ 86.
(5)
رواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 46 - 47 (18303).
وفيه: (فما زال عمير منها بعلياء حتى مات).
(6)
"المحلى" 11/ 86.
(7)
انظره في: "معرفة الصحابة" لأبي نعيم 4/ 2036 (2103)"الاستيعاب" 2/ 258 (1933)، "أسد الغابة" 4/ 221 (3911)، "الإصابة" 2/ 535 (5824).
قال ابن عبد البر: في صحبته نظر.
ولا في القياس أن يحلف مدعى عليه ويغرم
(1)
.
قلت: الرواية عن عمر أخرجها ابن أبي شيبة، عن عبد الرحيم، عن أشعث، عن الشعبي قال: قتل قتيل [بين]
(2)
وادعة وخيوان، فبعث معهم عمر المغيرة بن شعبة فقال: انطلق معهم فقس ما بين القريتين الحديث
(3)
. وحدثنا وكيع، ثنا إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن الحارث بن الأزمع قال: وجد قتيل باليمن بين وداعة وأرحب، فكتب عامل عمر إليه، فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن قس ما بين الحيين، الحديث
(4)
.
وكلا الإسنادين صحيح متصل؛ عبد الرحيم بن سليمان ثقة (حافظ)
(5)
مصنف، روى له الجماعة
(6)
، وأشعث هو ابن سوار الكندي من رجال مسلم، وإن كان قال أبو زرعة: فيه لين
(7)
.
وقال عبد الله بن أحمد الدورقي عن يحيى بن معين: ثقة
(8)
. وقال ابن عدي: لم أجد له فيما يرويه منكرًا، إنما في الأحايين يخلط في الأسانيد ويخالف
(9)
. وقال العجلي: لا بأس به
(10)
. وذكره أبو حفص البغدادي في "ثقاته"، وقال: قال عثمان بن أبي شيبة: هو صدوق.
(1)
"المحلى" 11/ 86.
(2)
من "المصنف".
(3)
"المصنف" 5/ 444 (27842).
(4)
"المصنف" 5/ 440 - 441 (27804 - 27805).
(5)
من (ص 1)
(6)
انظر: "تهذيب الكمال" 18/ 36 (3407).
(7)
انظر: "الجرح والتعديل" 2/ 272.
(8)
انظر: "تهذيب الكمال" 3/ 264 (524).
(9)
"الكامل في الضعفاء" 2/ 45.
(10)
"ثقات العجلي" 1/ 233 (109) وفيه: كوفي ضعيف وهو يكتب حديثه.
وخرج له ابن حبان في "صحيحه"
(1)
، وذكره في "ثقاته" الصيريفيني وصرح جماعة بسماع الشعبي من المغيرة، وسند الثاني لا يسأل عنهم.
والحارث ذكره ابن حبان في "ثقاته" ووصفه بالرواية عن عمر وابن مسعود، ووصفه أيضًا بأن الشعبي روى عنه، وقال: مات في إمارة النعمان بن بشير على الكوفة سنة ستين في آخر ولاية معاوية
(2)
.
وعند ابن حزم نفسه، أن الضحاك رواه عن محمد بن المنتشر
(3)
.
وفي "الاستذكار" روى الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن عمر أنه اشترط على أهل الذمة: إن قتل رجل من المسلمين بأرضكم فعليكم الدية
(4)
.
فصل ينعطف على ما مضى:
قيل: إن أول من حكم بالدية في القسامة عمر، وأنه لا يصح فيها عن أبي بكر شيء، من مراسيل الحسن
قال الحسن: القتل بالقسامة جاهلية
(5)
. وذكر عبد الرزاق أن هذِه القسامة أول قسامة كانت في الإسلام. وذكر أيضًا عن معمر قال: قلت لعبيد الله بن عمر: أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر وعمر؟ قال: لا، قلت: فكيف تجترئون عليها؟ فسكت، قال: فقلنا ذلك لمالك، فقال: لا نضع أمر رسول الله على الختل لو ابتلي بها أقاد بها.
(1)
من ذلك ما رواه 6/ 100 (2330) من طريقه عن ابن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في لُحفنا.
(2)
"ثقات ابن حبان" 4/ 126 - 127.
(3)
"المحلى" 11/ 65.
(4)
"الاستذكار" 25/ 316.
(5)
رواه البيهقي 10/ 222.
قال عبد الرزاق: وأنا ابن جريج، أخبرني يونس بن يوسف، قلت لابن المسيب: أعجب من القسامة يأتي الرجل فيُسأل عن القاتل والمقتول لا يعرف القاتل من المقتول، ثم يضل، قال: نعم، قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة في قتيل خيبر، ولو علم أن الناس يجترئون عليها ما قضى بها
(1)
.
قال ابن جريج: وسمعت ابن شهاب يقول: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون اليمين على المدعى عليهم إن كانوا جماعة، وعلى المدعى عليه إن كان واحدًا وعلى أوليائه، يحلف منهم خمسون رجلاً إذا لم تكن ببينة توجد، وإن نكل منهم رجل واحد ردت قسامتهم، ووليها المدعون فيحلفون مثل ذلك، فإن حلف منهم خمسون استحقوا الدية، وإن نقصت قسامتهم ورجع منهم واحد لم يعطوا الدية
(2)
.
قال ابن عبد البر: وهذا يخالف ما تقدم عن ابن شهاب، أنه يوجب القود بالقسامة؛ لأنه لم يوجب هنا إلا الدية
(3)
.
قال عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري، عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليهود -وبدأ بهم-: "يحلف منكم خمسون رجلاً" فأبوا فقال للأنصار الحديث، وفيه: فجعلها دية على اليهود؛ لأنه وجد بين أظهرهم
(4)
. قال أبو عمر: وهذا حجة قاطعة لأبي حنيفة وسائر أهل الكوفة
(5)
، وقد سلف ذلك أيضًا.
(1)
" مصنف عبد الرزاق" 10/ 37 - 38 (18276)، (18277).
(2)
السابق 10/ 28 (18254).
(3)
"الاستذكار" 25/ 320.
(4)
"مصنف عبد الرزاق" 10/ 27 - 28 (18252).
(5)
"الاستذكار" 25/ 320.
قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريج: أخبرني الفضل، عن الحسن أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ باليهود فأبوا أن يحلفوا، فرد القسامة على الأنصار وجعل العقل على اليهود
(1)
.
قال: وقد أنكر على مالك قوله: الأمر المجتمع عليه عندنا والذي أرضاه، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث: أن يبدأ المدعون في الأيمان في القسامة، وأنها لا تجب إلا بأحد أمرين: أن يقول المقتول: دمي عند فلان، أو يأتي ولاة الدم بلوث. قالوا: فكيف؟ قال: اجتمعت الأئمة في القديم والحديث، وابن شهاب يروي عن سليمان بن يسار وأبي سلمة، وأبو سلمة أثبت وأجل من بشير بن يسار، وهذا الحديث وإن لم يكن من روايته فمن رواية عن ابن شهاب، عن سليمان وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهيني الذي ادعى دم وليه على رجل من بني سعد بن ليث وكان أجرى (نفسه)
(2)
فوطئ على أصبغ الجهني، فمات منها.
فقال عمر للذي ادعى عليهم: أتحلفون بالله خمسين يمينًا أنه ما مات منها؟ فأبوا، وتحرَّجوا، فقال للمدعين: أتحلفون؟ فأبوا، فقضى بشطر الدية على السعديين.
قالوا: فأي [أئمة]
(3)
اجتمعت على ما قال؟ ولم يبدُ في ذلك ولا في قول المقتول: دمي عند فلان. عن أحد من أئمة المدينة، لا صاحب
(1)
"المصنف" 10/ 29 (18255).
(2)
كذا بالأصل، وفي "الاستذكار" 25/ 325 - حيث ينقل المصنف-:(فرسه) ولعله الصواب.
(3)
زيادة يقتضيها السياق، سقطت من الأصل، أثبتناها من "الاستذكار" 25/ 325 حيث ينقل المصنف.
ولا تابع ولا أحد يعلم قِيْله ممن يروى قوله. وقد أنكرت طائفة من العلماء الحكم بالقسامة ودفعوها جملة واحدة، ولم يقضوا بشيء منها
(1)
. كما سلف.
فصل:
اختلف فيما إذا كان الأولياء في القسامة جماعة: فقال مالك وأحمد: تقسم الأيمان بينهم بالحساب، ولا يلزم كل واحد منهم خمسون يمينًا، وإن كانوا خمسة حلف كل واحد منهم عشرة أيمان، فإن كانوا ثلاثة حلف كل واحد سبعة عشر يمينًا وجبر الكسر، إلا في إحدى الروايتين عن مالك، فإنه قال: يحلف منهم رجلان يمين القسامة وهي خمسون.
وقال الشافعي في أحد قوليه: يحلف كل منهم خمسين يمينًا. والآخر كقول مالك في المشهور عنه، وعن أحمد.
وقال أبو حنيفة: تكرر عليهم الأيمان بالإدارة بعد أن يبدأ أحدهم بالقرعة ثم يؤخذ على اليمين حتى يبلغ خمسين (يمينا)
(2)
.
فصل:
اختلف في إثبات القسامة في العبيد، فقال أبو حنيفة وأحمد: وعليهن قيمته في ثلاث سنين، ولا يبلغ بها دية الحر.
وقال مالك وأبو يوسف: لا، ولا غرامة وهو مهدر، وقاله الأوزاعي أيضًا بزيادة: ويغرمون ثمنه.
(1)
"الاستذكار" 25/ 325 - 326.
(2)
في الأصل: يومًا، ولعله سبق قلم.
وللشافعي قولان أصحهما: نعم، واختلف أيضًا هل تسمع أيمان النساء في القسامة؟ فقال الأولان: لا في العمد ولا في الخطأ.
وقال زفر: القسامة والقيمة يغرمونها
(1)
. والظاهرية جعلوه كالحر في كل أحكامه. وقال مالك: يسمع في الخطأ دون العمد
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 192 - 193.
23 - باب مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ
6900 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ فِي بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ -أَوْ بِمَشَاقِصَ- وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعُنَهُ. [انظر: 6242 - مسلم: 2157 - فتح 12/ 243]
6901 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَمَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ- فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَوْ أَعْلَمُ أَنْ تَنْتَظِرَنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنَيْكَ» . قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِذْنُ مِنْ قِبَلِ البَصَرِ» . [انظر: 5924 - مسلم: 2156 - فتح 12/ 243]
6902 -
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِعَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» . [انظر: 6888 - مسلم: 2158 - فتح 12/ 243]
ذكر فيه حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما السالفين في باب: من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان
(1)
. وزيادة حديث سهل في ذلك، وتكلمنا عليه واضحًا. ومعنى (يختله): يخدعه.
وقوله: مدرًى قال ابن فارس: مدرت المرأة سرحت شعرها. فعلى هذا يكون مدرًى منونًا؛ لأنه مفعل من درى.
(1)
سلفا برقمي (6887 - 6889).
24 - باب العَاقِلَةِ
6903 -
حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْل، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ وَقَالَ مَرَّةً: مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ. فَقَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا عِنْدَنَا إِلاَّ مَا فِي الْقُرْآنِ، إِلاَّ فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ، وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. [انظر: 111 - مسلم: 1370 - فتح 12/ 246]
ذكر فيه حديث أبي جحيفة الآتي بعد في باب لا يقتل المسلم بالكافر
(1)
، وفيه: قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. وذكره في البابين سواء سندًا ومتنًا. وقلَّ أن يتفق له ذلك، نعم ذكره في العلم عن شيخ آخر له كما أسلفنا هناك
(2)
.
وقام الإجماع على القول بالعقل في الخطأ لثبوت ذلك عن الشارع
(3)
، وقد روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في العقول:"في النفس مائة من الإبل .. " إلى آخره.
أرسله مالك
(4)
. وزاد فيه معمر: عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده
(5)
. وإن كان جده لم يدرك
(1)
يأتي برقم (6915).
(2)
سلف برقم (111) عن شيخه محمد بن سلام.
(3)
نقله ابن المنذر في "الإشراف" 3/ 127. وانظر: "الإقناع" 4/ 1967 (3810).
(4)
"الموطأ" ص 530.
(5)
رواه عنه عبد الرزاق في "المصنف" 9/ 306 (17314).
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي أدركه عمرو بن حزم.
وفي إجماع (الصحابة)
(1)
على القول به ما يغني عن الإسناد فيه.
واختلف العلماء في هذا الحديث في الإبهام وفي الأسنان على ما تقدم قبل هذا، وأجمعوا على ما في سائر الحديث من الديات. قال: وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في النفس مائة من الإبل، وقومها عمر بالذهب والورق فجعل على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم.
قال مالك: أهل الذهب أهل الشام ومصر، وأهل العراق أهل الورق
(2)
، كان صرفهم ذلك الوقت الدينار باثني عشر درهمًا، وكانت قيمة الإبل ألف دينار، وإنما تقوم الأشياء بالذهب والورق خاصة، على ما صنع عمر، هذا قول مالك والليث والكوفيين، وأحد قولي الشافعي.
وقال أبو يوسف ومحمد: يؤخذ في الدية أيضًا البقر والخيل والشاء، وروي عن عمر أيضًا، وبه قال الفقهاء السبعة المدنيون.
وقال مالك: لا يؤخذ في الدية بقر ولا غنم ولا خيل إلا أن يتراضوا بذلك فيجوز، ولو جاز أن تقوم بالشاء والبقر والخيل لوجب تقويمها على أهل الخيل بالخيل (وعلى أهل الطعام بالطعام)
(3)
، وهذا لا يقوله أحد
(4)
.
(1)
في (ص 1): العلماء
(2)
"الموطأ" ص 530.
(3)
من (ص 1)
(4)
انظر: "المبسوط" 26/ 78، "مختصر اختلاف العلماء" 5 - 97 - 99، "النوادر والزيادات" 13/ 471 - 472.
وأجمعوا أن الدية تقطع في ثلاث سنين للتخفيف على العاقلة ليجمعوها في هذِه المدة
(1)
.
فصل:
اختلف في الأصابع على ما سلف، وأما الأسنان فقضى عمر في الأضراس ببعير بعير، وقضى معاوية بخمس خمس، وبه قال مالك.
قال ابن المسيب: (والدية)
(2)
تنقص خمسًا في قضاء عمر، وتزيد ثلاثة أخماس في قضاء معاوية، فلو كنت أنا لجعلت الأضراس بعيرين بعيرين فتلك دية
(3)
.
فائدة:
اختلف لم سميت عاقلة؟
فقيل: هو من عقل يعقل أي يحمل، فمعناه: أنها تحمل عن القاتل، وقيل: هو من عقل يعقل أي منع يمنع، ودفع يدفع، وذلك أنه كان في الجاهلية كل من قتل التجأ إلى قومه؛ لأنه يطلب ليقتل فيمنعون منه القتل، فسميت عاقلة. أي: مانعة.
وقيل: سميت عاقلة من عقل النفس؛ لأن عاقلة القاتل يعقلون الإبل التي تجب عليهم، فسموا عاقلة لعقلهم الإبل في ذلك الموضع. ثم كثر استعمالهم لهذا الحرف حتى صار يقال: عقلته إذا أعطيت ديته، وإن كانت دنانير أو دراهم.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 100، "المعونة" 2/ 268 - 269، "المغني" 12/ 21 - 22.
(2)
من (ص 1)
(3)
رواه البيهقي 8/ 90.
وقال ابن فارس: عقلت القتيل إذا أعطيت ديته، وعقلت عنه إذا لزمته دية فأديتها عنه. قال: ذكر ذلك عن القتبي، وقال عن الأصمعي: كلمت أبا يوسف القاضي في ذلك بمحضر الرشيد فلم يفرق بين عقلته وأعقلت عنه حتى فهمته
(1)
.
فصل:
قول أبي جحيفة: سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء بما ليس في القرآن؟
إنما سأله لأجل دعوى الروافض أن عندهم كتاب الحصر، فيه علم كل شيء، وأداهم ذلك إلى أن جعل بعضهم عليًّا نبيًّا وبعضهم إلهًا، نبه عليه الداودي.
ومعنى (فلق الحبة): أخرج منها النبات، والنخل من النوى.
وقوله: (وبرأ النسمة) النفس، وكل دابة فيها روح فهي نسمة، وكان علي إذا اجتهد في اليمين حلف بهذا. وقيل: النسمة: الإنسان، (ومعنى)
(2)
برأ: خلق.
وقوله: (إلا فهمًا يعطي رجل في كتابه) يعني ما يفهم من فحوى كلامه، ويستدرك من باطن معانيه التي هي غير ظاهرها، وذلك جميع وجوه القياس والاستنباط التي يتوصل إليها من طريق الفهم (والتفهم)
(3)
.
وقوله: (العقل) يريد ما تحمله العاقلة وقد ثبتت الأخبار بأنه عليه السلام
(1)
"مجمل اللغة" 3/ 618.
(2)
في الأصل: (ومنه) والمثبت من (ص 1) وهو أصوب.
(3)
من (ص 1)
قضى بالعقل على العاقلة. قيل: ولا يختلف المسلمون أن دية الخطأ المحض على العاقلة، إلا ما روي عن الأصم: أن الديات كلها في مال القاتل، وذكر أنه مذهب الخوارج، وظاهر هذا يخالف قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] ولكنه توقيف من جهة السنة أريد به معونة القاتل من غير إجحاف بالعصبة المعينين، واختلف في مقدار ما يعنون به، فعندنا يضرب على الغني نصف دينار، وعلى المتوسط ربع في كل سنة.
وعن مالك: أكثر ما يؤخذ من الواحد نصف دينار، ورواه ابن القاسم. وروي عنه: كانوا يأخذون من الدية درهمًا ونصفًا من المائة
(1)
.
وقال ابن القاسم: روي عنه في السنة أكثر من دينار وقيل: أكثر من ربع. وفي "الزاهي": كان يجعل عليهم فيما مضى دينار أونصفه من كل مائة، يخرج له من عطائه. وقيل: ثلاثة دراهم في العام. وقيل: ما يطيقون. وقيل: ما اصطلحوا عليه. واختلف في الذي تحمله العاقلة. فقال مالك: الثلث فأعلى.
وقال أبو حنيفة: عقل الموضحة فأعلى. وذكر مغيرة أن العاقلة تحمل الثلث إجماعًا. وذكر ابن القصار، عن الزهري أنها لا تحمل الثلث وتحمل ما زاد
(2)
. وقال الشافعي في القديم: (تحمل)
(3)
ما دون الدية. وفي الجديد: تحمل ما قل وما كثر
(4)
.
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 100.
(2)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه"(17818).
(3)
في (ص 1): لا تحمل
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 113، "المدونة" 4/ 443، "المغني" 12/ 30 - 31.
فصل:
قام الإجماع على أنها تؤدى في ثلاث سنين، واختلفوا هل يؤخذ فيها البقر والشاء والخيل؟ فمنعه مالك وغيره، وأجاز ذلك أبو يوسف. وقد أسلفناه أولاً واضحًا.
فصل:
وقوله: (وفكاك الأسير) هذا واجب على جميع المسلمين، وقد اختلف هل يفك من الزكاة؟ واحتج من منعه بأنه يجب على سائر الناس، فلا يجوز أن يؤدى من مال الزكاة.
فصل:
وقوله: (وأن لا يقتل مسلم بكافر) هذا قول الجماعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقتل المسلم بالذمي ولا يقتل بالمستأمن، وبه قال النخعي والشعبي. وقد أسلفنا المسألة مبسوطة جدًا فراجعها.
25 - باب جَنِينِ الْمَرْأَةِ
6904 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. [انظر: 5758 - مسلم: 1681 - فتح 12/ 246]
6905 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيل، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فِي إِمْلَاصِ المَرْأَةِ، فَقَالَ المُغِيرَةُ: قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْغُرَّةِ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. [69076، 6908 م، 7371 - مسلم: 1683 - فتح 12/ 247]
6906 -
فَقَالَ: ائْتِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ، فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِهِ. [6908، 7318 - مسلم: 1683 - فتح 12/ 247]
6907 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنْ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ: مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي السِّقْطِ؟ وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. [انظر: 6905 - مسلم: 1683 - فتح 12/ 247]
6908 -
قَالَ: ائْتِ مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ عَلَى هَذَا. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ هَذَا. [انظر: 6906 - مسلم: 1683 - فتح 12/ 247]
6908 م - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ فِي إِمْلَاصِ المَرْأَةِ مِثْلَهُ. [انظر: 6905 - مسلم: 1683 - فتح 12/ 247]
ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْري فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيهَا بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. وقد سلف في الفرائض
(1)
.
(1)
برقم (6740) باب: ميراث المرأة والزوج مع الولد وغيره.
وحديث هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ المُغِيرَةِ: قَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْغُرَّةِ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. فَشَهِدَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِهِ.
ثم رواه من حديث هشام عن أبيه أَنَّ عُمَرَ نَشَدَ النَّاسَ: مَنْ سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي السِّقْطِ؟ فقَالَ المُغِيرَةُ: أَنَا سَمِعْتُهُ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. قَالَ: ائْتِ بمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ عَلَى هذا. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا أَشْهَدُ به عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ هذا.
ثم ساقه من حديث هشام، عن أبيه، أنه سمع المغيرة يحدث عن عمر: أنه اسْتَشَارَهُمْ في إِمْلَاصِ المَرْأَةِ. بمِثْلَهُ.
الشرح:
قد أسلفنا الكلام على ذلك في باب الفرائض، وأسلفنا أن الغرة الخيار، وأصلها البياض الذي يكون في وجه الفرس.
وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء. وسمي غرة لبياضه. ولا يقبل في الدية عبد أسود ولا جارية سوداء.
وليس ذلك شرطًا عند الفقهاء، وإنما الغرة عندهم ما بلغ منه نصف عشر الدية للعبيد والإماء، وإنما تجب الغرة في الجنين إذا سقط ميتًا كما سلف هناك، فإن سقط حيًّا ثم مات ففيه الدية كاملة.
وفي حديث ذي الجوشن "ما كنت لأقضيه اليوم بغرة"
(1)
سمى الفرس غرة، وأكثر ما يطلق على العبد والأمة، ويجوز أن يكون أراد بالغرة: النفيس من كل شيء، فالتقدير: ما كنت لأقضيه بالشيء النفيس المرغوب فيه.
(1)
رواه أبو داود (2786).
وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(481).
وذكرنا هناك الاختلاف في قيمة الغرة، فقال مالك في "الموطأ": ولم أسمع أن أحدًا يخالف في الجنين أنه لا تكون فيه الغرة حتى يزايل أمه ويسقط من بطنها (ميتًا)
(1)
، فإن خرج حيًّا ثم مات ففيه الدية
(2)
.
واحتج غيره له بأن الجنين إذا لم يزايل أمه في حال حياتها فحكمه حكم أمه ولا حكم له في نفسه؛ لأنه عضو منها، فلا غرة فيه؛ لأنه تبع لأمه.
وكذلك لو ماتت وهو في جوفها لم يجب فيه شيء لا دية ولا قصاص، فإن زايلها قبل موتها ولم يستهل ففيه غرة عبد أو أمة؛ لأن الشارع إنما حكم في جنين زايل أمه ميتًا، وهذا حكم مجمع عليه. وسواء كان الجنين ذكرًا أو أنثى إنما فيه غرة.
فإذا زايل أمه واستهل ففيه الدية كاملة؛ لأن حكمه قد انفرد عن حكم أمه وثبتت حياته، فكان (له)
(3)
حكم نفسه دون حكم أمه.
ألا ترى أنها لو أعتقت أمه لم يكن عتقًا له؟ ولو أعتقت وهي حامل به كان حرًّا بعتقها؟ ولا خلاف في هذا أيضًا.
(1)
من (ص 1).
(2)
"الموطأ" ص 534.
(3)
في (ص 1): حكمه.
26 - باب جَنِينِ الْمَرْأَةِ، وَأَنَّ العَقْلَ عَلَى الْوَالِدِ وَعَصَبَةِ الوَالِدِ لَا عَلَى الوَلَدِ
6909 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا. [انظر: 5758 - مسلم:1681 - فتح 12/ 252]
6910 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ قَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى دِيَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا. [انظر: 5758 - مسلم: 1681 - فتح 12/ 252]
أي: عقل المرأة المقتولة على والد القاتل وعصبته. كذا في كتاب ابن بطال.
وقوله: (لا على الولد) يريد به: أن ولد المرأة إذا كان من غير عصبتها لا يعقلون عنها. قال: وكذلك الإخوة من الأم لا يعقلون عن أختهم لأمهم شيئًا؛ لأن العقل إنما جعل على العصبة دون ذوي الأرحام. ألا ترى أن ميراثها لزوجها وبنيها، وعقلها على عصبتها. يريد أن من ورثها لا يعقل عنها حين لم يكن من عصبتها
(1)
.
ثم قال: قال ابن المنذر: وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور وكل من أحفظ عنهم
(2)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 552 - 553.
(2)
"الإشراف" 3/ 127، "شرح ابن بطال" 8/ 553.
ذكر فيه حديث أبي هريرة: أنه عليه السلام قَضَي فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ بِغُرَّةٍ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمَّ إِنَّ المَرْأَةَ التِي قَضَي عَلَيْهَا بِالْغُرَّةِ تُوُفِّيَتْ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنيهَا وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ العَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا.
وحديثه أيضًا: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْري بِحَجَرٍ .. الحديث. وقال: غُرَّةْ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بدِيَةِ المَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا.
معنى قوله: (وأن العقل على عصبتها) يريد عقل دية المرأة المقتولة لا عقل دية الجنين. يبين ذلك قوله في الحديث الثاني: وقضى بدية المرأة على عاقلتها. وقد أسلفنا هناك خلافًا فيمن تجب عليه الغرة، وأنها على العاقلة عند الشافعي
(1)
خلافًا لمالك، والحجة له قوله في الحديث:(وقضى بدية المرأة على عاقلتها) ولم يذكر ذلك في دية الغرة
(2)
.
وهذا ظاهر الحديث، وأيضًا فإن عقل الجنين لا يبلغ ثلث الدية، ولا تحمل العاقلة عند مالك إلا الثلث فصاعدًا
(3)
. هذا قول الفقهاء السبعة، وهو الأمر القديم عندهم.
وحجة الآخر ما رواه أبو موسى الزمني: ثنا عثمان، عن يونس، عن الزهري في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه عليه السلام قضى بديتها ودية الجنين على عاقلتها.
وما رواه مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن جابر أنه عليه السلام جعل غرة الجنين على عاقلة القاتلة.
(1)
"الأم" 6/ 89 - 90.
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 176، "المغني" 12/ 67.
(3)
"المدونة" 4/ 481.
أجاب الآخرون بالطعن في مجالد، وأنه ليس بحجة فيما انفرد به، وأبو موسى الزمني -وإن كان ثقة- فلم يتابعه أحد على قوله: ودية جنينها.
فصل:
اختلفوا: لمن تكون الغرة التي تجب في الجنين؛ فذكر ابن حبيب أن مالكًا اختلف قوله فيه. فمرة قال: إنها لأمه. وهو قول الليث، ومرة قال: إنها بين الأبوين، الثلثان للأب والثلث للأم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي
(1)
.
حجة الأول: أنها إنما وجبت لأم الجنين؛ لأنه لم يعلم إن كان الجنين حيًّا في وقت وقوع الضربة بأمه أم لا. وحجة الثاني: أن المضروبة لما ماتت منها قضى فيها الشارع بالدية مع قضائه بالغرة، فلو كانت الغرة للمرأة المقتولة إذًا لما قضى فيها بالغرة، ولكان حكم امرأة ضربتها امرأة فماتت من ضربتها فعليها ديتها ولا تجب عليها للضربة أرش.
وقد أجمعوا أنه لو قطع يدها خطأ فماتت من ذلك لم تكن لليد دية، ودخلت في دية النفس. فلما حكم الشارع مع دية المرأة بالغرة ثبت بذلك أن الغرة دية الجنين لا لها، فهي موروثة عن الجنين كما يورث ماله لو كان حيًّا فمات. قاله الطحاوي. وأسلفنا هناك الخلاف في الكفارة.
وفي كتاب ابن بطال في حكم الشارع في الجنين بغرة ولم يحكم فيه بكفارة حجة لمالك وأبي حنيفة على الشافعي وابن القاسم في إيجابه
(1)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 175، "المعونة 2/ 292، "النوادر والزيادات" 13/ 468.
كفارة عتق رقبة على من تجب عليه الغرة، ولا حجة له، ولو وجبت لحكم بها، وهي إنما تجب في إتلاف روح، ولسنا على يقين في أن الجنين كان حيًّا وقت ضرب أمه، ولو تيقنا ذلك لوجبت فيه الدية كاملة.
فلما أمكن أن يكون حيًّا (تجب فيه الدية كاملة، وأمكن أن يكون ميتًا)
(1)
لا يجب فيه شيء، قطع الشارع فيه التنازع والخصام بأن جعل فيه غرة ولم يجعل فيه كفارة، قاله ابن القصار.
وفي هذا الحديث حجة لمن أوجب دية شبه العمد على العاقلة -حيث قضى بالدية وقد رمتها بحجر- وهو قول الثوري والكوفيين والشافعي.
قالوا: ومن قتل إنسانًا بعصا أو حجر أو شبهه بما يمكن أن يموت به القتيل ويمكن ألا يموت فمات من ذلك، أن فيه الدية على عاقلة القاتل كما حكم الشارع في هذِه القصة بدية المرأة على العاقلة. قالوا: وهذا شبه العمد، والدية فيه مغلظة، ولا قود فيه.
وأنكر مالك والليث شبه العمد وقالا: هو باطل، وكل ما عمد به القتيل فهو عمد وفيه القود
(2)
.
والحجة لهم: ما روى أبو عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: أنه نشد الناس ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين؟ فقام حمل بن مالك قال: كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها
(1)
من (ص 1).
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 95 - 88، "المدونة" 4/ 433، "الأم" 6/ 91، "المغني" 12/ 16.
وجنينها، فقضى رسول الله في جنينها بغرة وأن تقتل المرأة
(1)
.
قالوا: وهذا مذهب عمر- رضي الله عنه أنه قال: يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل آكلة اللحم -قال الحجاج: يعني بعصا- ثم يقول: لا قود عليِّ، لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا أقدته
(2)
. وقد أوضحنا ذلك هنالك فراجعه
(3)
. وذكرنا هناك مقالة شيخ ابن بطال في اضطرابه
(4)
.
قال الطحاوي: فلما اضطرب حديث حمل بن مالك كان بمنزلة ما لم يرد فيه شيء، وثبت ما روى أبو هريرة والمغيرة رضي الله عنهما فيها، وهو نفي القصاص، ولما ثبت أنه جعل دية المرأة على العاقلة، ثبت أن دية شبه العمد على العاقلة.
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: شبه العمد على العاقلة.
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل، وليس فيهما قود
(5)
.
وقد تأول الأصيلي حديث أبي هريرة والمغيرة على مذهب مالك فقال: يحتمل أن يكون لما وجب قتل المرأة تطوع قومها على عاقلتها ببذل الدية (لأولياء المقتولة، ثم ماتت القاتلة فقبل أولياء المقتولة الدية)
(6)
. وقد يكون ذلك قبل موتها، فقضى عليهم الشارع بأداء ما تطوعوا به إلى أولياء المقتولة
(7)
.
(1)
رواه أبو داود (4572)، وابن ماجه (2641).
(2)
رواه ابن أبي شيبة 5/ 427 (27677).
(3)
انتهى من "شرح ابن بطال" 8/ 554 - 555
(4)
"شرح ابن بطال" 8/ 555 - 556.
(5)
"مختصر اختلاف العلماء" 5/ 91.
(6)
من (ص 1).
(7)
"شرح ابن بطال" 8/ 556.
فصل:
اختلف في ستة عشر مسألة من مسائل الجنين:
إحداها: إذا كان دمًا مجتمعًا هل له حكم الجنين؟
قال في "المدونة": وقال أشهب: لا شيء فيه حتى يكون علقة
(1)
.
ثانيها: إذا طرح حيًّا وتحرك أو عطس أو رضع ولم يستهل.
فقال مالك: لا يكون له حكم الحي لشيء من ذلك إلا أن يستهل.
وقال ابن وهب: الرضاع كالاستهلال
(2)
. وذكر القاضي عبد الوهاب في العطاس قولين.
وذكر ابن شعبان في الحركة قولين.
ثالثها: إذا استهل ثم مات بالحضرة هل تجب ديته بقسامة؟ قاله ابن القاسم، أو بغير قسامة؟ قاله أشهب
(3)
.
رابعها: إذا ضرب بطنها عمدًا فاستهل ثم مات، هل فيها القود؟ قاله ابن القاسم. أو الدية؟ قاله أشهب.
خامسها: إذا خرج بعد موت أمه، هل تجب فيه الدية؟ قاله أشهب ومحمد والشافعي
(4)
.
أو لا يجب (فيه شيء)
(5)
؟ قاله ابن القاسم في "المدونة"
(6)
وأبو حنيفة
(7)
.
(1)
"المدونة" 4/ 481.
(2)
"النوادر والزيادات" 13/ 465.
(3)
"النوادر والزيادات" 13/ 466.
(4)
"النوادر والزيادات" 13/ 467، "الشرح الكبير" للرافعي 10/ 503 - 504.
(5)
من (ص 1).
(6)
"المدونة" 4/ 481.
(7)
"مختصر اختلاف العلماء" 5/ 175.
سادسها: هل الغرة مال للجاني؟ قاله مالك في "المدونة"
(1)
. أو تحملها العاقلة؟ قاله عنه أبو الفرج.
وأسلفنا الخلاف أيضًا فيه.
سابعها: من يرث الغرة؟
وقد سلف الخلاف فيه، وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعى أن لأمه الثلث ولأبيه الثلثين، فإن كان له إخوة فلأمه السدس والباقي للأب.
وقال ربيعة وابن القاسم في أحد قوليه وأشهب ومالك: هو للأم، وهو كبضعة منها. وقال أيضًا: هو بين أبويه الثلث والثلثان، وأيهما خلا به فهو له، ويخلو به الأب إن خرج حيًّا بعد موتها من تلك الضربة. وهذا على أحد القولين السابقين.
ثامنها: هل فيه كفارة؟ وابن القاسم قال بها، وخالف أشهب
(2)
.
تاسعها: إذا خرج بعضه ثم ماتت الأم ذكر ابن شعبان فيه قولين.
وإذا كانت أمة أو نصرانية عند الضرب، ثم عتقت الأمة وأسلمت النصرانية قبل أن تطرحه. ذكر أيضًا في "الزاهي" على قولين في ذلك.
وإذا وجب دية الجنين على أهل الإبل هل يأتون بإبل؟ قاله أشهب.
أو يؤدون الغرة؟ قاله ابن القاسم
(3)
، والجاني يخير، قاله عيسى.
عاشرها: إذا كانت الأم نصرانية والأب عبدًا هل فيه ما في جنين المسلمة؟ قاله في "المدونة"
(4)
.
(1)
"المدونة" 4/ 482.
(2)
"النوادر والزيادات" 13/ 503.
(3)
"النوادر والزيادات" 13/ 464.
(4)
"المدونة" 4/ 512.
أو عشر دية أمه؟ قاله أشهب
(1)
.
حادي عشرها: إذا قلنا: عشر دية أمه، هل يرث الغرة إخوته وهم نصارى، أم لا
(2)
؟
الثاني عشر: يؤخذ في الغرة الخيل، ذكر في "الزاهي" قولين.
ثالث عشر: إذا قلنا: فيه الدية واستهل وكانت الضربة في البطن عند أشهب، أو في غيره عند ابن القاسم هل هي على العاقلة أو في ماله؟
رابع عشر: إذا ضربها في رأسها هل هي على العاقلة أو في ماله؟ أما على مذهب ابن القاسم، هل تكون فيه الدية؟ قاله الشيخ أبو محمد.
وذكر عن ابن القاسم. أو يقتص منه كما لو ضرب في البطن أو الظهر؟ قاله الشيخ أبو موسى بن شاس.
خامس عشر: هل في الجنين عشر قيمة أمه؟ قاله مالك وغيره. أو ما نقصها؟ قاله ابن وهب
(3)
. وقال أهل الظاهر: لا شيء فيه.
وقال أبو حنيفة: في جنين الأمة نصف عشر قيمته لو كان حيًّا، إن كان ذكرًا، أو عشر قيمته إن كان أنثى. كما قال: في جنين الحرة عشر ديته إن كان أنثى، أو نصف عشر ديته إن كان ذكرًا. فجنين الحرة والأمة عنده سواء أنه معتبر بنفسه لا بغيره.
وعند مالك والشافعي هما سواء وهو معتبر بغيره لابنفسه
(4)
.
(1)
"النوادر والزيادات" 13/ 469.
(2)
قال أشهب: يرث، وقال غيره: لا يرث أحد من أهل الذمة شيئًا؛ لأن الغرة على فرائض الله تورث، وإن لم يكن له وارث مسلم فبيت المال. انظر "النوادر والزيادات" 13/ 469.
(3)
"النوادر والزيادات" 13/ 469.
(4)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 202 - 203.
سادس عشر: إذا خرج بعض الجنين ثم مات، ذكر في "الزاهي" فيه قولين.
فصل:
استدل بعضهم بهذا الخبر على صحة قول مالك: أن المرأة تعاقل الرجل حتى تبلع ثلث ديته فيكون لها حينئذٍ نصف ماله؛ لأنه عليه السلام قضى في الجنين بما ذكر، ولم يفصل بين ذكر وأنثى؛ لأنه قليل في الدية، وكل ما حل محله دون الثلث تساويا فيه، وإذا ثبت الثلث أثر لقوله عليه السلام:"الثلث والثلث كثير"
(1)
.
قال أبو حنيفة والشافعي: جراحها على النصف كالدية، وروي عن ابن مسعود وشريح: تعاقله إلى الموضحة
(2)
.
وروي عن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار: تعاقله إلى المنقلة. وقال الحسن البصري: تعاقله إلى نصف الدية، فيكون في أربع أصابع أربعون من الإبل، وفي خمسة خمس وعشرون. فهذِه خمسة مذاهب.
فصل في رءوس مسائل:
الأب والابن يحملان مع العاقلة والأظهر أنه كواحد منهم. وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي: لا يؤدي شيئًا معهم، وفي "المعونة": وقيل: يحمل الأبن وإن كان أبوه أجنبيًّا؛ لأن البنوة عصبته بنفسها كالميراث والنكاح
(3)
.
(1)
سلف برقم (1295)، ورواه مسلم (1628 - 1629).
(2)
انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 5/ 105 - 106.
(3)
"المعونة" 2/ 269.
ونقله غيره عن أبي حنيفة، حجة من سلف قضاؤه عليه السلام بالدية على العاقلة (وبرار)
(1)
زوجها وبنتها. أجيب بأنه يحتمل أن يكون ولدها أنثى، وهي لا تحمل عقلاً، أو يكونوا صغارًا والصغيرة لا تحمل العقل.
فصل:
وقوله: (وأن العقل على عصبتها) يريد عقل دية المرأة المقتولة، لا عقل دية الجنين. كما سلف.
وقال أبو عبد الملك: يفهم من البخاري أن دية الجنين الغرة في كل مال الجانية، وهذا إذا قضى بالجنين في مال الضاربة ثم ماتت الأم.
وأما إذا تأخر القضاء حتى تموت المضروبة فتغرم العاقلة الكل. ذكره في الحج من المختلطة.
ومذهب مالك أيضًا: أن الضربة إذا كانت واحدة أن غرة الجنين وأمه على العاقلة
(2)
. ذكره فيها أيضًا.
قال أبو عبد الملك: وإنما قضى بالدية هنا ولم يقتص بها؛ لأنها لم تعمد قتلها. قال: وإن نزلت مثل هذِه النازلة في زماننا لقتلت الضاربة وغلب عليها أنها أرادتها.
وذلك أنه يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وإنما سقط القود في المصارعين لهذا المعنى.
قال بعضهم: ولا يصح تبويب البخاري أن العقل على الوالد وعصبته إلا على رواية أبي الفرج عن مالك: أن الجنين ديته على العاقلة، ولا يصح التبويب على ذلك.
(1)
في (ص 1): وبرأ.
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 13/ 466.
وهذا غير صحيح؛ بل يصح التبويب على أن دية المرأة على العاقلة وهم عصبة ولد المرأة.
تنبيه:
قوله في آخر الباب: (وقضى بدية المرأة على عاقلتها).
27 - باب مَنِ اسْتَعَانَ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا
وَيُذْكَرُ أَنَّ (أُمَّ سُلَمة)
(1)
رضي الله عنها بَعَثَتْ إِلَى مُعَلِّمِ الكُتَّابِ: أن ابْعَثْ لَي غِلْمَانًا يَنْفُشُونَ صُوفًا، وَلَا تَبْعَثْ إِلَيَّ حُرًّا.
6911 -
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ،
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ. قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَاللهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟ [انظر: 2768 - مسلم: 2309 - فتح 12/ 253]
ثم ساق حديث أنس رضي الله عنه: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ، أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي وَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ. قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَوَاللهِ مَا قَالَ لِي لِشَئءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صنَعْتَ هذا؟ وَلَا لِشَيءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هذا هَكَذَا؟
الشرح:
التعليق أخرجه وكيع، عن معمر، عن سفيان، عن ابن المنكدر، عنها. ولم يسمع منها. و (ينفشون) بضم الفاء، قاله الجوهري: نفشت الصوف والقطن أنفشه نفشا. ونفشت الإبل (والغنم)
(2)
نفوشًا: رعت ليلاً
(3)
.
(1)
كذا بالأصل وفي "اليونينية" 9/ 12: (أم سليم) وبالهامش: (أم سلمة) وأشار إلى أنها رواية أبي ذر الهروي.
(2)
من (ص 1).
(3)
"الصحاح" 3/ 1022.
وحديث الباب دال على جواز أستخدام الأحرار وأولاد الجيران فيما لا كثير مشقة عليه فيه، وفيما لا يخاف عليهم منه التلف.
كاستخدام الشارع أنسًا وهو صغير فيما أطاقه وقوي عليه. واشتراط أم سلمة ألا يرسل إليها حرًّا؛ فلأن الجمهور قائلون بأن من استعان صبيًّا حرًّا لم يبلغ، أو عبدًا بغير إذن مواليه فهلكا في ذلك العمل، فهو ضامن لقيمة العبد ولدية الصبي الحر على عاقلته.
ولا شك أن أم سلمة أم لنا، فمالنا كمالها، وعبيدنا كعبيدها.
وقال الداودي: يحتمل فعل أم سلمة؛ لأنها أمهم. وعلى هذا لا يفترق أن تفرق بين حر وعبد، ولو حمل الصبي على دابة يستقيها أويمسكها فوطئت الدابة رجلاً فقتلته. فقال مالك في "المدونة": الدية على عاقلة الصبي ولا ترجع على عاقلة الرجل
(1)
، وهو قول الثوري.
فإن استعان حرًّا بالغًا متطوعًا أو بإجارة، فأصابه شيء، فلا ضمان عليه عند جميعهم. إن كان ذلك العمل لا غرر فيه، وإنما يضمن من جنى أو تعدى.
واختلف إذا استعمل عبدًا بالغًا في شيء فعطب. فقال ابن القاسم: إن أستعمل عبدًا في بئر يحفرها ولم يؤذن له في الإجارة، فهو ضامن إن عطب. وكذلك إن بعثه بكتاب إلى سفر
(2)
.
وروى ابن وهب عن مالك: سواء أذن له سيده في الإجارة أم لا، لا ضمان عليه، فيما أصابه إلا أن يستعمله في غرر كثير؛ لأنه لم يؤذن له
(1)
"المدونة" 4/ 505.
(2)
"المدونة" 4/ 507.
في الغرر
(1)
.
وهذِه الرواية أحسن من قول ابن القاسم (وغيره)
(2)
.
فإن قلت: ما وجه قوله: (ما قال لي لشيء) .. إلى آخره. وظاهره يدل أنه تكرير يدخل فيه القسم الأول.
قيل: إنما أراد أنه لم يلمه في القسم الأول على شيء فعله وإن كان ناقصًا عن إرادته، ولا لامه في القسم الآخر على شيء ترك فعله خشية الخطأ فيه، فتركه أنس من أجل ذلك، فلم يلمه على تركه إذا كان يتجوزه منه لو فعله، وإن كان ناقصًا عن إرادته.
وإلى هذا أشار بقوله: (هذا هكذا)؛ لأنه كما يجوز عنه ما فعله ناقصًا عن إرادته، فله أن يتجوز عنه ما لم يفعله خشية مواقعة الخطأ فيه لو فعله ناقصًا؛ لشرف خلقه وحلمه.
فصل:
وقوله في أنس: "غلام كيس". الكيس خلاف الحمق. والرجل كيس مكيس، أي: ظريف قال
(3)
:
أما تراني كيسا مكيسا
…
بنيت بعد نافع مكيسا
(وقيل: الكيس: العاقل، والمعنى متقارب)
(4)
.
(1)
انظر: "المدونة" 3/ 403.
(2)
من (ص 1).
(3)
ورد بهامش الأصل: لعله سقط: الراجز.
(4)
من (ص 1).
28 - باب المَعْدِنُ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ
6912 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» . [انظر: 1419 - مسلم: 1710 - فتح 12/ 254]
ذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ .. " الحديث.
سلف في الزكاة، أخرجه هناك عن عبد الله بن يوسف، عن مالك
(1)
. وهنا بدَّل مالكًا بالليث والباقي سواء.
ثم قال:
(1)
سلف برقم (1499).
29 - باب العَجْمَاءُ جُبَارٌ
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانُوا لَا يُضَمِّنُونَ مِنَ النَّفْحَةِ، وَيُضَمِّنُونَ مِنْ رَدِّ الْعِنَانِ. وَقَالَ حَمَّادٌ: لَا تُضْمَنُ النَّفْحَةُ إِلاَّ أَنْ يَنْخُسَ إِنْسَانٌ الدَّابَّةَ. وَقَالَ شُرَيْحٌ: لَا تُضْمَنُ مَا عَاقَبَتْ أَنْ يَضْرِبَهَا فَتَضْرِبَ بِرِجْلِهَا. وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ: إِذَا سَاقَ الْمُكَارِي حِمَارًا عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَتَخِرُّ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا سَاقَ دَابَّةً فَأَتْعَبَهَا فَهْوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ، وَإِنْ كَانَ خَلْفَهَا مُتَرَسِّلاً لَمْ يَضْمَنْ.
6913 -
حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْعَجْمَاءُ عَقْلُهَا جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» . [انظر: 1499 - مسلم: 1710 - فتح 12/ 256]
ثم ساق الحديث بسند آخر غير ما سلف من حديث شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"الْعَجْمَاءُ عَقْلُهَا جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكازِ الخُمُسُ". وقد سلف شرحه في الزكاة واضحًا.
وأما أثر ابن سيرين فأخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، ثنا سفيان، (عن عاصم، عنه. وأثر حماد أخرجه أيضًا عن غندر، عن شعبة)
(1)
قال: سألت الحكم وحمادًا عن رجل واقف على دابة، فضربت برجلها. فقال حماد: لا يضمن. وقال الحكم: يضمن وأثر شريح أخرجه أيضًا عن أبي خالد، عن الأشعث، عن ابن سيرين، عنه. وأثر الشعبي أخرجه أيضًا
(1)
سقط من الأصل، وفي هامشه: سقط بقية الكلام على أثر ابن سيرين، وانتقل إلى أثر حماد فاعلمه. وهذا من الناسخ فيما يظهر والله أعلم. اهـ. والمثبت من (ص 1).
(عن هشيم)
(1)
، عن إسماعيل بن سالم، عنه به. قال: وثنا أبو خالد الأحمر، عن أشعث، عنه بلفظ: صاحب الدابة ضامن لما أصابت الدابة بيدها أو برجلها حتى ينزل عنها
(2)
.
وفي "علل أبي حاتم": سألت أبي عن حديث رواه بقية، عن عيسى بن عبد الله، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير مرفوعًا:"من ربط دابته على الطريق فما أصابت الدابة برجلها فهو له ضامن" فقال: هذا حديث باطل، إنما يرويه إسماعيل عن الشعبي، عن شريح. هذا الكلام من قبله، وعيسى لم يدرك ابن أبي خالد وهو ذاهب الحديث مجهول، روى عنه الوليد بن مسلم وبقية
(3)
.
فصل:
روى أبو داود من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"والنار جبار"
(4)
قال الدارقطني: عن معمر، لا أراها إلا وهمًا
(5)
.
وقال أحمد: ليس بشيء، لم يكن في الكتب وهو باطل، وليس بصحيح، قال: وأهل اليمن يكتبون النار: النير، ويكتبون البئر مثل ذلك، وإنما لقن عبد الرازق "والنار جبار"
(6)
وغيره أيضًا.
(1)
من (ص 1).
(2)
"مصنف أبي شيبة" 5/ 399، 400.
(3)
"علل أبي حاتم" 1/ 472 (1417).
(4)
"سنن أبي داود"(4594).
(5)
"سنن الدارقطني" 3/ 152.
(6)
"سنن الدارقطني" 3/ 153.
وقال يحيى بن معين كما نقله ابن عبد البر في "استذكاره": أصله البئر، ولكن معمرًا صحفه. قال ابن عبد البر: لم يأت يحيى على هذا بدليل، وليس هكذا ترد الأحاديث الثقات.
وقد ذكر وكيع عن عبد العزيز بن حصين، عن يحيى بن يحيى الغساني أن عمر بن عبد العزيز قضى أن النار جبار
(1)
.
فصل:
روى الدارقطني من حديث سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"والرجل جبار"
(2)
.
قال ابن حزم: قال قوم: سفيان ضعيف في الزهري، ولا ندري ما وجه هذا، سفيان ثقة ومن ادعى عليه خطأ فليبينه وإلا فروايته حجة، وهذا إسناد مستقيم لاتصال الثقات فيه
(3)
.
وقال الدارقطني: لا يتابع سفيان على قوله: "الرجل" وهو وهم، لأن الثقات الذين قد بينا أحاديثهم منهم مالك وابن عيينة ويونس ومعمر وابن جريج والزبيدي وعقيل والليث بن سعد، خالفوه لم يذكروا ذلك. وكذلك رواه عن أبي هريرة أبو صالح السمان والأعرج (ومحمد ابن زياد)
(4)
ومحمد بن سيرين وغيرهم عنه، لم يذكروا فيه "الرجل": وهو المحفوظ عن أبي هريرة والصواب
(5)
.
(1)
"الاستذكار" 25/ 216 - 217.
(2)
روراه الدارقطني 3/ 179.
(3)
"المحلى" 11/ 20 - 21.
(4)
من (ص 1).
(5)
"سنن الدارقطني" 3/ 152.
قلت: وقد ذكره بعد من حديث آدم، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة مرفوعًا:"الدابة جرحها جبار، والرجل جبار" الحديث. ثم قال: لم يروه عن شعبة غيره، قوله "الرجل جبار"
(1)
وفي موضع آخر: كذا قال: "الرجل جبار" ولم يتابعه أحد عن شعبة
(2)
.
وقال الشافعي: لا يصح " الرجل جبار" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحفاظ لم يحفظوا، وقال: هكذا مر أنه غلط
(3)
. وقال في موضع آخر: إنه خطأ
(4)
.
وقال ابن عبد البر: إنه حديث لا يثبته أهك العلم بالحديث
(5)
.
قلت: وأخرجه الدارقطني من طريق آخر عن عبد الله مرفوعًا: "العجماء جرحها جبار والبئر جبار" قال "كل جبار". أخرجه مرة من حديث محمد بن طلحة، عن عبد الرحمن بن ثروان، عن هزيل، عن عبد الله -أظنه مرفوعًا- فذكره
(6)
. ومرة من حديث أحمد بن عبيد بن إسحاق ثنا أبي، عن قيس، عن عبد الرحمن بن ثروان، عن هزيل، عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشك. ورواه عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل مرسلًا
(7)
.
(1)
"سنن الدارقطني" 3/ 154.
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 213.
(3)
"الأم" 7/ 138.
(4)
"مختصر المزني" بهامش الأم 5/ 180.
(5)
"التمهيد" 7/ 24.
(6)
"سنن الدارقطني" 3/ 154.
(7)
"سنن الدارقطني" 3/ 179، وانظر:"علل الدارقطني" 11/ 165 - 166.
قال ابن القصار: فإن صح فمعناه: الرجل جبار بهذا الحديث، وتكون اليد جباراً قياسًا على الرجل إذا كان ذلك بغير سبب ولا صنعه، وقال عليه السلام:"العجماء جبار" ولم يخص يدًا من رجل، فهو على العموم.
قال الشافعي: ومن اعتل أنه لا يرى رجلها فهو إذا كان سائقها لا يرى يدها، فينبغي أن يلزمه في القياس أن يضمن عن الرجل ولا يضمن عن اليد
(1)
.
فصل:
ولحديث الباب طريق آخر من حديث علي. (قال ابن أبي حاتم في "علله": سألت أبي وأبا زرعة عن حديث)
(2)
رواه مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"المعدن جبار" الحديث. فقالا: هو خطأ، وهو عن الشعبي، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح
(3)
.
وطريق آخر أخرجه ابن أبي عاصم من حديث سالم، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة أنه عليه السلام قال:"العجماء جرحها جبار"
(4)
.
ومن طريق آخر أخرجه ابن ماجه من طريق خالد بن مخلد، ثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار"
(5)
.
(1)
"الأم" 7/ 138. وانظر: "شرح ابن بطال" 8/ 561 - 562.
(2)
من (ص 1).
(3)
"علل الحديث" 1/ 214.
(4)
"الديات" ص 81.
(5)
"سنن ابن ماجه"(2673).
وطريق آخر أخرجه ابن ماجه أيضًا من حديث موسى بن عقبة ثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادة بن الصامت قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المعدن جبار والبئر جبار
(1)
.
فصل:
نقلنا في الزكاة إجماع العلماء على أن جناية البهائم نهارًا لا ضمان فيها إذا لم يكن معها أحد، فإن كان معها أحد فجمهور العلماء على الضمان، وكذا قال ابن المنذر: أجمع العلماء أنه ليس على صاحب الدابة المنفلتة ضمان فيما أصابت.
وكذا قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن العجماء إذا جنت جناية نهارًا، أو جرحت جرحًا لم يكن لأحد فيه سبب أنه هدر، ولا دية فيه على أحد ولا أرش.
واختلفوا في المواشي يهملها صاحبها ولا يمسكها ليلاً، فتخرج فتفسد زرعًا أو كرمًا، أو غير ذلك من ثمار الحوائط والأجنة وخضرها على ما في حديث ابن شهاب، عن حرام بن محيصة -يعني: الذي أسلفته هناك- ولا خلاف بينهم أن ما أفسدت المواشي وجنته نهارًا من غير سبب آدمي أنه هدر من الزرع وغيره؛ إلا ما روي عن مالك وبعض أصحابه في الدابة الضارية المعتادة الفساد، وأما السائق لها أو الراكب أو القائد فإنهم عند جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين ضامنون لما جنت (الدابة)
(2)
من أجلهم وبسببهم.
(1)
"سنن ابن ماجه"(2675).
(2)
من (ص 1).
وخالف أهل الظاهر كما سلف، وأنه لا يضمن إلا الفاعل القاصد.
قال أبو عمر: ولا خلاف علمته أن ما جنت يد الإنسان خطأ من الأموال أن يضمنه في ماله، فإن كان دمًا فعلى العاقلة (تسليمًا)
(1)
للسنة المجمع عليها. وفي معنى ما أجمعوا يبطل قول أهل الظاهر.
وروي عن عمر أنه ضمن الذي أجرى فرسه عقل ما أصاب الفرس، وعن شريح أنه كان يضمن الفارس ما أوطأته دابته بيد أو رجل، ويبرئ من النفحة.
قال إسماعيل القاضي: وقاله النخعي والحسن؛ وذلك لأن الراكب كان سببه.
وقال الشافعي: إذا كان الرجل راكبًا فما أصابت بيدها أو رجلها أو فمها أو ذنبها من نفس أو جرح فهو ضامن؛ لأن عليه منعها في تلك الحال، قال: وكذلك إذا كان سائقًا أو قائدًا، وهو قول ابن شبرمة وابن أبي ليلى.
قال الشافعي: وكذلك الإبل المقطرة بالبعير ولا قائد لها، ولا يجوز في هذا إلا في ضامن كل ما أصابت الدابة تحت الراكب أو لا يضمن إلا ما حملها عليه. لا يصح إلا أحد هذين القولين، فأما من ضمن من يدها ولم يضمن من رجلها فهو تحكم. ولو أوقفها في موضع ليس له أن يوقفها فيه ضمن، ولو أوقفها في ملكه لم يضمن. فإن كان في بيته كلب عقور فدخل إنسان فقتله لم يكن عليه شيء. قال المزني: سواء عندي أذن لذلك الإنسان أن يدخل أو لم يأذن.
(1)
في الأصل: (تسليمها) والمثبت من (ص 1). وانظر: "التمهيد" 7/ 22.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا ضمان على أصحاب البهائم فيما تفسد وتجني في الليل والنهار، إلا أن يكون راكبًا أو سائقًا أو قائدًا أو مرسلًا.
وقول الليث والأوزاعي في هذا الباب كله كقول مالك: لا يضمن ما أصابته الدابة برجلها من غير صنعه، ويضمن ما أصابت بيدها أو مقدمها إذا كان راكبًا عليها أو سائقًا أو قائدًا.
قال ابن عبد البر: من فرق بين الرجل والقدم في راكب الدابة أو سائقها أو قائدها فحجته أنه يمكنه التحفظ من جناية فمها ويدها إذا كان راكبًا أو قائدًا، ولا يمكنه ذلك من رجلها، ومن حجته أيضًا ما تقدم من أن "الرجل جبار". أي: على ما في إسناده
(1)
.
قال: ولا أعلم خلافًا عن مالك وأصحابه وسائر فقهاء الأمصار من أهل الحجاز والشام والعراق، من وقف دابته في موضع ليس له (أن يوقفها فيه، ولا يجوز له ذلك من ضيق أو غير ذلك بما ليس له
(2)
أن يفعله فجنت جناية أنه ضامنها، فإن وقفها في موضع يعرف الناس أن مثله توقف الدواب فيه مثل دابته. قال ابن حبيب: نحو دار نفسه أو باب المسجد أو دار العالم أو القاضي وشبهه، فلا ضمان عليه فيما جنت
(3)
.
قال ابن حزم: واختلف في معنى قوله: "والرجل جبار" فقالت طائفة: معناه: ما أصابت الدابة برجلها، وهذا أسلفته، وقال آخرون:
(1)
"التمهيد" 7/ 21 - 24.
(2)
من (ص 1).
(3)
"التمهيد" 7/ 27 - 28.
هو ما أصيب بالرجل من غير قصد في الطواف وغيره، وحكي ذلك عن بعض السلف. وروى ابن عيينة، عن أبي فروة، عن عروة بن الحارث، عن الشعبي قال: الرجل جبار
(1)
.
فصل:
معنى قوله: "البئر جبار" أنه لا ضمان على رب البئر وحافرها إذا سقط فيها إنسان أو دابة أو غير ذلك، فتلف أو عطب. هذا إذا كان حافرالبئر قد حفرها في موضع يجوز له أن يحفرها فيه، مثل أن يحفرها بفنائه أو في ملكه أو داره أو في صحراء الماشية، أو طريق واسع محتمل، ونحو ذلك، وهو قول مالك والشافعي وداود وأصحابهم، وقول الليث بن سعد.
وقال ابن القاسم عن مالك: إن حفر في داره بئرًا لسارق يرصده ليقع فيه أو وضع له حبالات أو شيئًا يتلف به السارق، فدخل السارق فعطب فهو ضامن، ووجه ذلك أنه لم يحفرها لمنفعة، وإنما حفرها قصدًا ليعطب غيره فصار جانيًا.
وقال الليث والشافعي: لا ضمان عليه في مثل هذا
(2)
.
وحكي عن العراقيين من أصحاب مالك أنه يقتل بالسارق، [و]
(3)
إن وقع فيه (غيره)
(4)
، كانت الدية على عاقلته. وقالوا: ضبط مذهب مالك أن إنسانًا لو طرح قشورًا في الطريق فقصد الهلاك والإتلاف فمات فيه أحد فعليه القود.
(1)
"المحلى" 11/ 20 - 21 بتصرف.
(2)
انظر: "التمهيد" 7/ 28.
(3)
زيادة يقتضيها السياق.
(4)
في الأصل: (غرة) والصواب ما أثبتناه.
وإنما قال مالك في حافر البئر في الطريق أو يربط دابته فيما لا يجوز له أنه ضامن؛ لأنه لم يفعله لقتل أحد. وفي رواية ابن وهب عن مالك فيمن برد قصبًا أو عيدانًا يجعلها على بابه لتدخل في رِجْلِ الداخل سارق أو غيره أنه يضمن، وإنما جعل فيه الدية؛ لأنه جعله في ملكه. وقال الشافعي وأبو حنيفة وصاحباه: له أن يحدث في الطريق ما لا يضر به، قالوا: وهو ضامن لما أصابه
(1)
.
قال ابن عبد البر: وقوله عليه السلام: "البئر جبار" يدفع الضمان عن ربها في كل ما يسقط فيها بغير صنع آدمي
(2)
.
وقال أبو عبيد
(3)
: وقوله: "البئر جبار" هي البئر العادية القديمة التي لا يعرف لها حافر ولا مالك، تكون في البوادي يقع فيها شيء، فذلك هدر إذا حفرها في ملكه أو حيث يجوز له حفرها فيه؛ لأنه صنع من ذلك ما يجوز له فعله.
قال مالك: والذي يجوز له من ذلك البئر يحفرها للمطر، والدابة ينزل عنها الرجل لحاجة فيقفها على الطريق، فليس على أحد في هذا غرم، وإنما يضمن (إذا فعل)
(4)
من ذلك ما لا يجوز له أن يصنعه على الطريق، فما أصابت من جرح أو غيره، وكان عقله دون ثلث الدية فهو في ماله، وما بلغ الثلث فصاعدًا فهو على العاقلة، وبهذا كله قال الشافعي وأبو ثور، وخالف في ذلك أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: من حفر بئرًا في موضع يجوز له ذلك فيه، أو وقف فيه دابة،
(1)
انظر: "النوادر والزيادات" 13/ 517 - 519.
(2)
"التمهيد" 7/ 29.
(3)
"غريب الحديث" 1/ 171.
(4)
من (ص 1).
فليس يبرئه من الضمان ما أجاز إحداثه، كراكب الدابة يضمن ما عطب منها وإن كان له أن يركبها أو يسير عليها. وهذا خلاف للحديث، ولا قياس مع النصوص
(1)
.
وقال الداودي: معنى الحديث أن من حفر بئرًا أو نزل ليصلحه فسقط عليه شيء من غير فعل أحد لم يكن فيه شيء.
فصل:
قال أبو عبيد: وأما قوله: "والمعدن جبار" فهي المعادن التي يخرج منها الذهب والفضة، فيجيء قوم يحفرونها بشيء مسمى لهم، وربما انهارت عليهم المعدن فقتلهم، فنقول: دماؤهم هدر، ولا خلاف في ذلك بين العلماء
(2)
.
فصل:
قال أبو عبيد: والعجماء: هي الدابة، وإنما سميت عجماء لأنها لا تتكلم، وكذلك كل من لا يقدر على الكلام فهو أعجم وأعجمي
(3)
. زاد غيره: وإن كان من العرب، ورجل أعجمي منسوب إلى العجم، وإن كان فصيحًا
(4)
، ورجل أعرابي إذا كان بدويًّا وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويًّا.
والجبار: الهدر الذي لا دية فيه، وإنما جعلت هدرًا إذا كانت منفلتة ليس لها قائد ولا راكب
(5)
. وقد سلف نقل ابن المنذر الإجماع فيه.
(1)
انظر هذِه المسألة في "الاستذكار" 25/ 214 - 216.
(2)
"غريب الحديث" 1/ 171.
(3)
"غريب الحديث" 1/ 170، وفيه: فهو أعجم ومستعجم.
(4)
انظر: "الصحاح" 5/ 1981.
(5)
"غريب الحديث" 1/ 170.
وما ذكره البخاري عن حماد وشريح والشعبي أنهم كانوا لا يضمنون النفحة إلا أن تنخس الدابة. فعليه أكثر العلماء؛ لأن ما فعلته من أذى ذلك فهي جناية راكبها أو (سائقها)
(1)
؛ لأنه الذي ولد لها ذلك.
قال مالك: فإن رمحت من غير أن يفعل بها شيئًا ترمح له، فلا ضمان عليه
(2)
. وهو قول الكوفيين والشافعي.
وأما قول ابن سيرين: كانوا لا يضمنون النفحة ويضمنون من رد العنان. فالنفحة: ما أصابت برجلها أو ذنبها فقالوا: لا ضمان وإن كان بسببه، وبين ما أصابت بيدها أو مقدمها فقالوا: عليه الضمان.
ولم يفرق مالك والشافعي بين الكل في وجوب الضمان على الراكب والقائد والسائق إذا كان ذلك من نخسه أو كبحه، وذكر الداودي أن قول ابن سيرين مثل قول مالك، وليس الأمر كذلك. إلا أن يكون رأى في ذلك شيئًا، فليس هو المعروف عنده
(3)
.
خاتمة:
حاصل ما للعلماء فيما تفسده البهائم إذا انفلتت ليلاً أو نهارًا، ثلاثة مذاهب: الضمان مطلقًا، وهو مذهب الليث.
وعدمه مطلقًا، إلا أن يكون له فعل فيها، وهو مذهب الكوفيين.
ثالثها: التفصيل بين ما أفسدته نهارًا فلا ضمان، إلا أن يكون صاحبها معها ويقدر على منعها، وبين ما أفسدته ليلاً فضمانه على أرباب المواشي، قاله مالك والشافعي
(4)
.
(1)
من (ص 1).
(2)
انظر: "النوادر والزيادات" 13/ 522.
(3)
انظر: "الاستذكار" 25/ 211 - 213.
(4)
انظر: "التمهيد" 7/ 23 - 24.
حجة المانع إطلاق حديث الباب، حيث لم يفرق بين جنايتها ليلاً أو نهارًا.
(حجة الثالث حديث حزام السالف وهو نص أنه لا ضمان بالنهار، ووجهه أنه لما كان لأرباب الماشية تسريحها نهارًا)
(1)
وكان على أرباب الثمار حفظها نهارًا، فإن فرطوا في الحفظ لم يتعلق لهم على أرباب المواشي ضمان.
ولما كان على أرباب المواشي حفظها ليلاً دون أصحاب الزروع، وفرط أهل المواشي في ترك الحفظ لزمهم الضمان، وعلى هذا جرت العادة ورتبة الشارع. وفيه جمع بين الحديثين، فهو أولى الأقوال بالصواب، إذ ليس أحدهما أولى (بالاستعمال)
(2)
من الآخر، فتعين ما ذكرناه.
فالعجماء جبار نهارًا لا ليلاً؛ لحديث حرام في (ناقة)
(3)
البراء
(4)
، وأما قول الليث فمخالف لهما.
فرع:
المعدن من العدون وهو: الإقامة، ومنه {جَنَّاتُ عَدْنٍ} . فالمعدن
يقام عليه ليلاً ونهارًا، وهو عروق في الأرض يستخرج منها الذهب والفضة. وفيه الربع، خلافًا لأبي حنيفة، حيث قال: الخمس
(1)
من (ص 1).
(2)
في (ص 1): بالاستماع.
(3)
في الأصل: (مناقب)، والمثبت من (ص 1).
(4)
الحديث رواه أبو داود (3570)، وابن ماجه (2332)، وأحمد 4/ 295، والنسائي في "الكبرى" 3/ 411 (5785)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 47 - 48، والبيهقي 8/ 341 من حديث الزهري عن حرام عن البراء.
كالركاز، فإن وجد فيه (بدرة)
(1)
.
فقال مالك في رواية ابن القاسم: فيها الخمس. وهو ما ذكرناه في كتاب الزكاة. وقال في رواية ابن نافع: فيها الزكاة. وقد أسلفنا هناك الفرق بينه وبين الركاز، وحد مالك الركاز.
وروى ابن القاسم عنه أن الركاز ما وجد في الأرض من قطع الذهب والفضة مخلصًا لا يحتاج في تصفيته إلى عمل كان من دفن الجاهلية أم لا، أو بما تنبته الأرض، أو مما دفن في الأرض مخلصًا غير الورق والذهب، كالثياب وغيرها.
ومعنى رواية ابن نافع أنه ما وضع في الأرض، وأن ما وجد فيها من (
…
)
(2)
ولم يتقدم ملك فهو معدن، وبه قال الشافعي.
قال محمد: الركاز ما دفن في الأرض من الذهب والورق خاصة، وقاله مالك مرة: أن ركاز النحاس والحديد والحرير والطيب واللؤلؤ، وقاله ابن القاسم أيضًا مرة
(3)
.
وقال الجوهري: إنه دفين الجاهلية، كأنه ركز في الأرض ركزًا
(4)
، أي: غرز.
وقال صاحب "العين": الركاز: لما وضع في الأرض، ولما يخرج من المعدن من قطع ذهب وورق
(5)
، وأما تراب المعدن فلا نعلم أحدًا هل اللغة سماه ركازًا، كما ذكره ابن التين وقال: إنه يرد على أبي
(1)
كذا بالأصل وفي "المنتقي" 2/ 102: (الندرة).
(2)
في الأصل: (تربوة) غير منقوطة. ولعلها: (الندرة).
(3)
انظر: "المنتقي" 2/ 102 - 104.
(4)
" الصحاح" 3/ 880.
(5)
"العين" 5/ 320.
حنيفة؛ لأنه يقول: الركاز: اسم لما يخرج من المعدن لما يوضع في الأرض من المال المدفون.
وقال الداودي: اختلف قول مالك فيما يلقيه البحر من عنبر أو جوهر، فقال: فيه الخمس. وقال: لا شيء فيه، وهذِه قولة لم تعرف لمالك، وإنما قال فيه الخمس عمر بن عبد العزيز وأبو يوسف وإسحاق والزهري.
(وقال الزهري)
(1)
: إن وجد عنبرة على ضفة بحر خمست، وإن غاص فيها لم تخمس، ولا شيء فيها. وقد أوضحنا الكلام على ذلك في الزكاة فراجعه.
(1)
من (ص 1).
30 - باب إِثْمِ مَنْ قَتَلَ (معاهدًا)
(1)
بِغَيْرِ جُرْمٍ
6914 -
حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الحَسَنُ، حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» . [انظر: 3166 - فتح 12/ 259]
ذكر فيه حديث مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَم يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا". هذا الحديث سلف في أثناء الجزية والموادعة. وتكلمنا على إسناده، وفيه دليل على أن المسلم إذا قتل الذمي لا يقتل به؛ لأن الشارع إنما ذكر الوعيد للمسلم وعظم الإثم في الآخرة، ولم يذكر بينهما قصاصًا في الدنيا.
ومعنى "لم يرح" معناه على الوعيد وليس على الجبر والإلزام، وإنما هذا لمن أراد الله تعالى إنفاذ الوعيد عليه. وزعم أبو عبيد أنه يقال: يُرِح وَيرِح أي بالضم من أرحت
(2)
.
وقال أبو حنيفة: أرحت الرائحة أروحها ورحتها إذا وجدتها.
وعند الهروي روي بثلاثة أوجه: يَرَح يَرِح يُرح يقال: رحت الشيء أراحه وروحته أريحه وأرحته الريحة إذا وجدت ريحه
(3)
.
وقال ابن التين: روينا يَرح بفتح الياء والراء.
وقال الجوهري: راح الشيء يراحه ويريحه، أي: وجدت ريحه،
(1)
(ص 1): ذميًّا.
(2)
"غريب الحديث" 1/ 76.
(3)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" 2/ 272.
قال: ومنه هذا الحديث، جعله أبو عبيد من (رحت)
(1)
الشيء أراحه، وكان أبو عمرو يقول:"لم يَرِحْ" من راح الشيء يريحه، والكسائي يقول:"لم يُرَح" يجعله من أرحت الشيء فأنا أريحه، قال: والمعنى واحد، وقال الأصمعي: لا أدري هو من رِحْت أو أَرَحْت
(2)
.
فصل:
جاء هنا: "من مسيرة أربعين عامًا". وقد روي عن شعبة عن الحكم بن عتيبة: سمعت مجاهدًا يحدث عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من (قدر)
(3)
مسيرة سبعين عامًا
(4)
"
(5)
وجاء في "الموطأ"
(6)
: "كاسيات عاريات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام"
(7)
.
ووجه الجمع أنه يحتمل أن يكون الأول أقصى أشد العمر في قول أكثر أهل العلم إذا ابن آدم زاد عمله واستحكمت بصيرته في الخشوع فيه، والتذلل والندم على ما سلف له، فكأنه وجد ريحها الذي يبعثه على الطاعة، وتمكن من قلبه الأفعال الموصلة إلى الجنة، فهذا وجد
(1)
في الأصل: (أرحت)، والمثبت هو الصواب كما في "الصحاح".
(2)
"الصحاح" 1/ 370. مادة [روح].
(3)
من (ص 1).
(4)
رواه أحمد في "مسنده" 2/ 171، وأبو داود الطيالسي في "مسنده" 1/ 300.
(5)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 171، 194. وقال العلامة أحمد شاكر رحمه الله (6592، 6834): إسناده صحيح.
(6)
"الموطأ" ص 569.
(7)
ورد في هامش الأصل: سقط من هنا شيء، وهو وجدان ريحها من سبعين عامًا، وعليه يدل كلامه بعد ذلك، وقد تقدم أيضًا.
ريحها على مسيرة أربعين عامًا.
فأما الثانية: فإنها آخر المعترك وهي أعلى منزلة من الأربعين في الاستبصار يعرض للمرء عندها من الخشية والندم لاقتراب أجله ما لم يعرض له قبل ذلك، وتزداد طاعته بالتوفيق، فيجد ريحها على هذا النحو.
وأما الثالثة: فهي فترة ما بين نبي ونبي، فيكون من جاء في آخر الفترة واهتدى باتباع النبي الذي كان قبلها ولم يضره طولها، فوجد ريحها على ذلك. ذكره ابن بطال
(1)
، وقد أسلفنأه أيضًا في أثناء الجزية والموادعة.
وقال الداودي: يحتمل هذا الحديث ألا يجد ريحها في الموقف، أي في بعض الأوقات، ويحتمل أن يكون هذا جزاء إن جوزي، وأن يكون في رجل بعينه، ويكون من المعاريض لقوله تعالى {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [النساء: 48].
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 564 - 565.
31 - باب لَا يُقْتَلُ المُسْلِمُ بِالْكَافِرِ
6915 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُس، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، أَنَّ عَامِرًا حَدَّثَهُمْ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ. وَحَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الفَضْلِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يُحَدِّثُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه هَلْ: عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ -وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَرَّةً: مَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ- فَقَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا عِنْدَنَا إِلاَّ مَا فِي الْقُرْآنِ- إِلاَّ فَهْمًا يُعْطَى رَجُلٌ فِي كِتَابِهِ- وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. [انظر: 111 - مسلم:1370 - فتح 12/ 260]
حدثنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الفَضْلِ، ثنا ابن عُيَيْنَةَ، ثَنَا مُطَرِّفٌ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ: سَأَلْتُ عَلِيًّا رضي الله عنه: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيء مِمَّا لَيْسَ في القُرْاَن؟ -قَالَ ابن عُيَيْنَةَ مَرَّةً: ممَا لَيْسَ عِنْدَ النَّاسِ- فَقَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا عِنْدَنَا إِلَّا مَا فِي القُرْآنِ -إِلَّا فَهْمًا يُعْطَي رَجُل في كِتَابِهِ- وَمَا فِي هذِه الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي هذِه الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفِكَاكُ الأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.
الشرح:
في بعض الأصول حدثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، ثنا مطرف أن عامرًا حدثهم، عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي رضي الله عنه. وحدثني صدقة بن الفضل. وأخرجه في العلم، عن محمد بن سلام، عن وكيع، عن سفيان. وقد أسلفنا الكلام على هذِه الجملة هناك واضحًا.
وأسلفنا أن الجمهور على أن المؤمن لا يقتل بالكافر، وأن أبا حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى قالوا: يقتل بالذمي دون المستأمن والمعاهد.
وبه قال سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي.
وحكم المستأمن والمعاهد عندهم حكم أهل الحرب، وقد سلف بيان الأدلة في ذلك.
ومن حجتهم حديث ربيعة، عن ابن البيلماني أنه قتل رجلاً مسلمًا برجل من أهل الذمة، وقال:"أنا أحق من وفَّى بذمته". وهو منقطع رواه
(1)
. وقام الإجماع على ترك المتصل من حديثه، فكيف بمنقطعه؟
ومن حجتهم القياس على القطع وهو قياس مع وجود النص. وقال مالك والليث في الغيلة إن عفا المقتول وأجازه الإمام، يغني؛ لأنه أمر اختلف فيه
(2)
.
وخولفا. وإجازة الإمام ليس حكمًا منه وإنما هو ترك حكم وجب عليه.
فإن قيل: حديث "لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده"
(3)
. يعني: بكافر؛ لأنه معلوم أن الإسلام يحقن الدم والعهد يحقنه.
قيل: به علمنا أن المعاهد يحرم دمه، وهي فائدة الخبر، ومحال أن يأمر الله تعالى بقتل الكافر حيث وجد، ثم يقول: إذا قتلوهم قتلوا بهم، والمعنى ألا يقتل مؤمن بكافر على العموم في كل كافر، ولا يقتل ذو عهد في عهده، قضية أخرى.
(1)
رواه الدارقطني 3/ 135، والبيهقي 8/ 30. وقال الألباني في "الضعيفة" (460): منكر.
(2)
انظر: "المدونة" 4/ 432.
(3)
رواه أبو داود (4530)، والنسائي 8/ 20، 24 من طرق عن علي ورواه أيضًا أبو داود (27514)، وأحمد 2/ 191 - 192 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وصححه الألباني في "الإرواء"(2208).
وهو عطف على "لا يقتل"، لأن هذا الذي أضمر لو أظهر، فقيل: لا يقتل مؤمن بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهده، ولو أفرد وحده، لقيل: لا يقتل ذو عهد، لم يكن قبله كلام لكان مستقيمًا، وإنما ضم هذا الكلام إلى القضية التي كانت قبلها، ليعلموا حين قيل لهم:"لا يقتل مؤمن بكافر" أنهم نهوا عن قتل كل ذي العهد في عهده، فاحتمل ذلك في كل ذي عهد من أهل الذمة المقيمين في دار الإسلام، وفيمن دخل بأمان.
وهو معنى قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} الآية [التوبة: 6]، فأعلم الله ذلك عباده.
32 - باب إِذَا لَطَمَ المُسْلِمُ يَهُودِيًّا عِنْدَ الغَضَبِ
رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
6916 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ» . [انظر: 2412 - مسلم: 2374 - فتح 12/ 263]
6917 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِكَ مِنَ الأَنْصَارِ لَطَمَ فِي وَجْهِي. قَالَ:«ادْعُوهُ» . فَدَعَوْهُ. قَالَ: «لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي مَرَرْتُ بِالْيَهُودِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى البَشَرِ. قَالَ: قُلْتُ: وَعَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: فَأَخَذَتْنِى غَضْبَةٌ فَلَطَمْتُهُ. قَالَ: «لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ» . [انظر: 2412 - مسلم: 2374 - فتح 12/ 263]
هذا أسند فيما مضى
(1)
.
ثم ساق حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأنبِيَاءِ". وفي رواية: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدْ لُطِمَ وَجْهُهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ مِنَ الأَنْصَارِ قد لَطَمَ وَجْهِي .. الحديث.
وفيه: ترك القصاص بين المسلم والكافر؛ إذ لم يقتص له من لطمة المسلم له، وهو قول جماعة الفقهاء كما سلف.
(1)
سلف برقم (3408).
وجه الدلالة: أنه لو كان فيه قصاص لبينه، وهذِه المسألة إجماعية؛ لأن الكوفيين لا يرون القصاص في اللطمة ولا الأدب، إلا أن يجرحه ففيه الأرش.
وفيه: جواز رفع المسلم إلى السلطان بشكوى الكافر به.
وفيه: خلقه عليه السلام وما جبله الله عليه من التواضع وحسن الأدب في قوله: "لا تخيروا بين الأنبياء" وفي الرواية الثانية "لا تخيروني من بين الأنبياء"، وذلك كقول الصديق: وليتكم ولست بخيركم
(1)
.
وقد سلف الكلام على هذا الحديث وما قد يعارضه والجمع بينها في أبواب الإشخاص والملازمة، أحسنها أنه من باب التواضع.
وقيل: أن يعلم أنه خيرهم، فينبغي لأهل الفضل الاقتداء بالشارع والصديق وغيرهما، فإن التواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين، وروى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"من أحب أن ينظر إلى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبي ذر"
(2)
.
وفيه: أن العرش جسم، وأنه ليس العلم، كما قاله سعيد
(3)
بن جبير، لقوله:"فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" والقائمة لا تكون إلا جسمًا، ومما يؤيد هذا قوله تعالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] ومحال أن يكون المحمول غير جسم، لأنه لو كان روحانيًّا لم يكن في حمل الملائكة الثمانية له عجب، ولا في حمل واحد، فلما عجب الله تعالى من حمل الثمانية له علمنا أنه جسم؛ لأن العجب في حمل الثمانية للعرش لعظمته وإحاطته.
(1)
رواه معمر بن راشد في "جامعه" 11/ 336 (20702).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 390 (32257).
(3)
ورد في هامش الأصل: الذي نقله البخاري عن ابن جبير أنه العلم في الكرسي.
وقوله: ("فإن الناس يصعقون يوم القيامة") قال الداودي: يعني النفخة. قال: في هذا الحديث بعض الوهم فذلك قوله: "فأكون أول من يفيق" ثم قال: "فلا أدري أفاق قبلي" وإنما قال: "أكون أول من تنشق عنه الأرض" وشك في الإفاقة.
قوله ("جوزي بصعقة الطور"). قال الجوهري: تقول: جزيته بما صنع وجازيته، بمعنًى
(1)
.
آخر الديات ومتعلقاتها ولله الحمد
(1)
"الصحاح" 6/ 2302.
88
كتاب استتابة المرتدِّين
والمعاندين وقتالهم
88 - كِتَابُ اسْتِتَابَةِ المُرْتَدِّينَ وَالمُعَانِدينَ وَقتَالِهمْ
1 - [باب] إِثْمِ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ وَعُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65].
6918 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيد، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}» .؟ [لقمان: 13] ". [انظر: 32 - مسلم: 124 - فتح 12/ 264]
6919 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّد، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا الجُرَيْرِيُّ. وَحَدَّثَنِي قَيْسُ ابْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الجُرَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
ابْنُ أَبِي بَكْرَة، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَكْبَرُ الكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ" ثَلَاثًا أَوْ "قَوْلُ الزُّورِ". فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. [انظر: 2654 - مسلم: 87 - فتح 12/ 264]
6920 -
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الكَبَائِرُ؟ قَالَ:«الإِشْرَاكُ بِاللهِ» . قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ» . قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْيَمِينُ الغَمُوسُ» . قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: «الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ» . [انظر: 6675 - فتح 12/ 264]
6921 -
حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ:«مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلَامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ» . [مسلم: 120 - فتح 12/ 265]
ذكر فيه أحاديث:
أحدها:
حديث عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ عليه السلام: "إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}؟ [لقمان: 13] ".
وقد سلف في الإيمان والتفسير وأحاديث الأنبياء
(1)
وغير ذلك.
(1)
سلف في "التفسير" برقم (4629)، وفي أحاديث الأنبياء برقم (3360).
ثانيها:
حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَكْبَرُ الكَبَائِرِ الاشْراكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ -ثَلَاثًا- وقَوْلُ الزُّورِ". فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. وقد سلف أيضًا.
ثالثها:
حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الكَبَائِرُ؟ قَالَ:"الإِشْرَاكُ باللهِ". قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "ثُمَّ عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ". قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْيَمِينُ الغَمُوسُ". قُلْتُ: وَمَا اليَمِينُ الغَمُوس؟ قَالَ: "الَّذِي يَقْتَطِعُ بها مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمِ بيمين هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ". وقد سلف قريبًا.
رابعها:
حديث أَبِي وَائِلٍ، عَنِ ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الجَاهِلِيَّة؟ قَالَ:"مَنْ أَحْسَنَ فِي الاسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الَجاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الاسلَامِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ والآخِرِ".
(الشرح)
(1)
:
الآية الأولى دالة على عظم الشرك، ولا شك أنه لا إثم أعظم منه، ولا عقوبة أشد من عقوبته في الدنيا والآخرة؛ لأن الخلود الأبدي لا يكون في ذنب غير الشرك بالله، ولا يحبط الإيمان غيره؛ لقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وإنما سمى الله عز وجل الشرك ظلمًا؛ لأن الظلم أصله وضع الشيء في
(1)
في الأصل: فصل.
غير موضعه؛ لأنه كان يجب عليه الاعتراف بالعبودية والإقرار بالربوبية حين أخرجه من العدم إلى الوجود وخلقه من قبل ولم يك شيئًا، ومنَ عليه بالإِسلام والصحة والرزق إلى سائر نعمه التي لا تحصى، فظلم نفسه ونسب النعمة إلى غير منعمها؛ لأن الله هو الرزاق والمحيي والمميت، فحصل الإشراك.
وذكر بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20] أن رجلاً من العباد عدَّ نَفَسَه في اليوم والليلة فبلغ أربعة عشر ألف نَفَس، فكم يرى لله تعالى على عباده من النعم في غير النفس مما يعلم ومما لا يعلم ولا يهتدى إليه، وقد أخبر الرب جل جلاله أن من بدل نعمة الله كفرًا فهو صالي إلى جهنم، وقال تعالى:{وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار (29)} [إبراهيم: 28، 29].
فصل:
وأما الآية الثانية فهي مما خوطب به، والمراد غيره، ومعناها: إذا اتصل بالموت؛ بدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} الآية [البقرة: 217].
وقيل: بنفس الردة تحبط أعماله، وفائدة الخلاف في إعادة الحج الذي حجه قبلها، واختلف في عود ملكه إذا أسلم، وفي عود أم ولده وزوجته، وفي إرثه من مات في حال ردته، وفي أفعاله ونكاحه إذا تزوج كتابية، وحكم ما عقده على نفسه من يمين بطلاق وغيره، وحد قاذفه، وفي بطلان إحصانه، والأصح عندنا أن ملكه موقوف، فإذا عاد إلى الإسلام استمر وإلا فلا.
فصل:
ومعنى حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "من أحسن في الإسلام" بالتمادي عليه ومحافظته والقيام بشروطه "لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية" ذكره المهلب. وقام الإجماع على أن الإسلام يجبُّ ما قبله
(1)
.
قال: ومعنى قوله: "ومن أساء في الإسلام" أي: في عقده والتوحيد بالكفر بالله، فهذا يؤاخذ بكل كفر سلف له في الجاهلية والإسلام، ولا تكون الإساءة إلا الكفر؛ لإجماع الأمة أن المؤمنين لا يؤاخذون بما عملوا في الجاهلية.
وقال الخطابي: ظاهره خلاف ما أجمعت عليه الأمة من أن الإسلام يجبُّ ما قبله، بقوله:{إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وتأويله إذا أسلم مرة لم يؤاخذ بما كان سلف من كفره، ولم يعاقب عليه، فإن كان أساء في الإسلام غاية الإساءة، وارتكب أكبر المعاصي ما دام تائبًا على الإسلام، وإنما يؤاخذ بما جاءه من المعصية في الإسلام، ويغفر ما كان منه في الكفر، ويبكّت به، يقال: أليس قد فعلت كيت وكيت وأنت كافر، هل منعك إسلامك معاودة مثله إذا أسلمت، ثم يعاقب عقوبة مسلم، ولا يخلد في النار
(2)
.
وقال أبو عبد الملك: إن من أسلم إسلامًا صحيحًا لا نفاق فيه ولا شك لم يؤاخذ للآية السالفة.
ومعنى "من أساء في الإسلام" أي أسلم رياء وسمعة فهو منافق يؤاخذ بالأول والآخر.
(1)
انظر. "أعلام الحديث" 4/ 2311.
(2)
"أعلام الحديث" 4/ 2311 - 2312.
وقال الداودي: معنى "من أحسن في الإسلام": مات عليه.
قال تعالى {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ومن أساء مات على غيره.
2 - باب حُكْمِ المُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ واستتابتهما
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ: تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ. وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيم (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)} [آل عمرن: 86 - 90]. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} [آل عمران:100]. وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)} [النساء: 137]. وَقَالَ: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] وَقَالَ: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَع اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون (108) لَا جَرَمَ} يَقُولُ: حَقًّا {أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} {مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 106 - 110] {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. [البقرة: 217].
6922 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْىِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . [انظر: 3017 - فتح 12/ 267]
6923 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: أَقْبَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعِي رَجُلَانِ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالآخَرُ عَنْ يَسَارِي، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَاكُ، فَكِلَاهُمَا سَأَلَ. فَقَالَ:
«يَا أَبَا مُوسَى» . أَوْ «يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ» . قَالَ: قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَطْلَعَانِي عَلَى مَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُمَا يَطْلُبَانِ الْعَمَلَ. فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى سِوَاكِهِ تَحْتِ شَفَتِهِ قَلَصَتْ، فَقَالَ:«لَنْ -أَوْ لَا- نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى -أَوْ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ- إِلَى الْيَمَنِ» . ثُمَّ اتْبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً قَالَ: انْزِلْ، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ. قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ: اجْلِسْ. قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. [انظر: 2261 - مسلم: 1733 - فتح 12/ 268]
تعليق ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن عبد الكريم، عمن سمع ابن عمر رضي الله عنهما
(1)
.
وتعليق الزهري أخرجه الدارقطني من حديث عبد الرزاق عن معمر عنه
(2)
.
(1)
"المصنف"5/ 557 (28978).
(2)
"السنن" 3/ 119.
وتعليق إبراهيم أخرجه ابن أبي شيبة عن عبد الصمد، عن هشام، عن حماد، عنه.
وحدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم: تستتاب فإن ثابت وإلا قتلت.
وحدثنا وكيع، ثنا سفيان، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم في المرتدة عن الإسلام قال: تستتاب فإن تابت وإلا قتلت، وحدثنا حفص، عن عبيد، عن إبراهيم قال: لا تقتل
(1)
.
وكأن البخاري أراد بهذا تضعيف حديث عدم قتلها. أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: "لا تقتل المرأة إذا ارتدت" ثم قال: لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رواه شعبة، ورواه عنه عبد الله بن عيسى
(2)
، وهو كذاب يضع الحديث على عفان، ثم رواه من حديث أبي رزين عنه في المرأة ترتد قال:(تحبس)
(3)
ولا تقتل
(4)
- وأورده ابن بطال بلفظ: لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام ولكن يحبسن ويجبرن عليه
(5)
.
وفي رواية لابن أبي شيبة من حديث أبي عاصم، عن سفيان، وأبي حنيفة، عن عاصم [عن]
(6)
أبي رزين بلفظ: [يحبسن]
(7)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 558 (28991، 8992) 6/ 446 (32768، 32772).
(2)
ورد بهامش الأصل: هو عبد الله بن عيسى الجزري.
(3)
كذا في الأصل، وعند الدارقطني: تجبر.
(4)
"سنن الدارقطني" 3/ 117 - 118.
(5)
"شرح ابن بطال" 8/ 573 موقوفًا.
(6)
في الأصول: (و)، والمثبت من "مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 557 (28985).
(7)
في الأصول: (يحبسا) والمثبت من "المصنف".
وقال ابن معين: كان الثوري يعيب على أبي حنيفة حديثًا كان يرويه [ولم]
(1)
يروه غيره عن عاصم عن أبي رزين، ثم ساقه من حديث عبد الرزاق عن سفيان، عن أبي حنيفة، عن عاصم. ومن طريق آخر عن أبي حنيفة، ومن طريق أبي عاصم، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين. قال أبو عاصم: نرى أن الثوري إنما دلسه على أبي حنيفة، فكتبتهما جميعًا
(2)
.
ثم رواه من طريق طلق بن غنام، عن أبي مالك النخعي، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس مثله، ولفظه: تحبس.
ومن حديث محمد بن إسماعيل بن عياش، عن أبيه، ثنا محمد بن عبد الملك الأنصاري ثنا الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ارتدت امرأة يوم أحد فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت، ومن حديث نجيح بن إبراهيم الزهري، ثنا معمر بن بكار السعدي، ثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن ابن المنكدر، عن جابر أن امرأة يقال لها أم (رومان)
(3)
ارتدت عن الإسلام، فأمر عليه السلام أن يعرض عليها الإسلام، فإن رجعت وإلا قتلت. ومن حديث حصين، عن ابن أخي الزهري، عن عمه، عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه بلفظ: إذا ارتدت عن الإسلام أن تذبح. وفي حديث الخليل بن ميمون الكندي ثنا عبد الله بن أذينة، عن هشام بن الغاز، عن ابن المنكدر عنه، وفيه: فأبت أن تسلم فقتلت
(4)
.
(1)
ليست في الأصول، والمثبت من "سنن الدارقطني".
(2)
"سنن الدارقطني" 3/ 2000 - 2001.
(3)
كذا في الأصول، وفي الدارقطني:(مروان).
(4)
"سنن الدارقطني" 3/ 118 - 119.
ثم ساق البخاري آيات مناسبة للتبويب، فقال: وقال الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} ، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)} ، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} الآية، وقال:{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ، {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ} ، إلي قوله:{لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ، {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} إلي {خَالِدُونَ} .
ثم ساق حديث عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابن عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنت أَنَا لَمْ أُحْرِقْهُمْ لِنَهْي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا بعذاب الله" وَلَقَتَلْتُهُمْ؛ لِقَوْل رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ".
وحديث أَبِي مُوسَي قَالَ: أَقْبَلْتُ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَعِي رَجُلَانِ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ إلى أن قال: "اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى -أَوْ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ- إِلَى اليَمَنِ". ثُمَّ اتَّبَعَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَي لَهُ وِسَادَةً قَالَ: انْزِلْ. فإِذَا عنده رَجُلٌ مُوثَقٌ. قَالَ: مَا هذا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ: اجْلِسْ. قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّي يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ.
وحديث عكرمة عن مولاه، وسلف في الجهاد، وهو من أفراده.
وأخرجه الإسماعيلي بلفظ: إن عليًّا أتي بقوم قد ارتدوا عن الإسلام -أو قال: زنادقة- ومعهم كتب لهم، فأمر بنار فأججت وألقاهم فيها.
وفي أبي داود من حديث أيوب أن عليًّا رضي الله عنه حرق ناسًا ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس .. الحديث. لم يتردد فيهم.
والترمذي كذلك ثم قال: حسن صحيح، والنسائي بلفظ: إن ناسًا ارتدوا عن الإسلام
…
الحديث. وفي رواية من طريق قتادة أن عليًّا رضي الله عنه أتي بأناس من الزط يعبدون وثنًا فأحرقهم، فقال ابن عباس .. الحديث
(1)
.
فصل:
قال ابن الطلاع في "أحكامه": لم يقع في شيء من المصنفات المشهورة أنه عليه السلام قتل مرتدًّا ولا زنديقًا، وقتل الصديق امرأة يقال لها: أم قرفة ارتدت بعد إسلامها
(2)
.
فصل:
روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن عبيد، عن أبيه قال: كان أناس يأخذون العطاء والرزق ويصلون مع الناس، وكانوا يعبدون الأصنام في السر، فأتى بهم علي رضي الله عنه، فوضعهم في المسجد -أو قال: في السجن- ثم قال: يأيها الناس ما ترون في قوم كانوا يأخذون معكم العطاء والرزق ويعبدون هذِه الأصنام؟ قال الناس: تقتلهم. قال: لا، ولكن أصنع بهم كما صنع بأبينا إبراهيم، فحرقهم بالنار.
ثم ساق عن أيوب بن النعمان قال: شهدت عليًّا رضي الله عنه في الرحبة وجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إن هنا أهل بيت لهم وثن في دار يعبدونه. فقام علي رضي الله عنه يمشي حتى انتهى إلى الدار فأمرهم
(1)
أبو داود برقم (4351)، والترمذي برقم (1458)، والنسائي 7/ 104 - 105.
(2)
رواه الدارقطني في "سننه" 3/ 114.
فدخلوا، فأخرجوا إليه تمثال (رجل)
(1)
، فألهب على أهل الدار
(2)
.
وعن سويد بن غفلة أن عليًّا حرق زنادقة بالسوق، فلما رمى عليهم النار قال: صدق الله ورسوله، ثم انصرف
(3)
. وعن قابوس بن أبي المخارق، عن أبيه قال: بعث علي رضي الله عنه محمد بن أبي بكر أميرًا على مصر، فكتب إليه يسأله عن زنادقة: منهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد غير ذلك، ومنهم من يدعي الإسلام، فكتب علي رضي الله عنه وأمره بالزنادقة أن يقتل من كان يدعي الإسلام ويترك سائرهم يعبدون ما شاءوا
(4)
.
وذكر أبو المظفر طاهر بن محمد الإسفرائيني في كتابه "التبصير في الدين" أن الذين حرقهم علي رضي الله عنه طائفة من الروافض تدعى السبائية ادعوا أن عليًّا إله، وكان رئيسهم عبد الله بن سبأ وكان أصله يهوديًّا
(5)
(6)
.
فصل:
اختلف العلماء في استتابة المرتد على قولين، فروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود
(7)
أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهو قول أكثر العلماء.
(1)
كذا في الأصل، وفي "المصنف": رخام.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 558 (28994 - 28995).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 558 (28993).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 558 - 559 (28996).
(5)
ورد في هامش هامش الأصل: كذا ذكر ابن تيمية أن الذين أحرقهم عليٌّ بالنار ادعوا فيه الإلهية في الرد على ابن مظهر.
(6)
"التبصير في الدين" ص 123.
(7)
انظر هذِه الآثار في "مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 556 - 557 (28976، 28977)، "شرح معاني الآثار" 3/ 210 - 212 (5105 - 5111).
وهل هي واجبة أو مستحبة؟ قولان للشافعي، أصحهما: أنها واجبة، والخلاف عند المالكية أيضًا ومذهبه الوجوب، وإذا قلنا: واجبة هل تأخيره ثلاثًا واجب أو مستحب، فيه روايتان عن مالك وكذلك الشافعي
(1)
، وقالت طائفة: لا يستتاب ويجب قتله حين يرتد في الحال، روي (ذلك)
(2)
عن الحسن البصري
(3)
وطاوس
(4)
، وذكره الطحاوي عن أبي يوسف
(5)
وهو قول أهل الظاهر، واحتج بحديث الباب:"من بدل دينه فاقتلوه" ولم يذكر فيه استتابة، وكذا حديث معاذ وأبي موسى: لا أجلس حتى يقتل، ولم يذكر استتابة هنا. نعم، روى ابن أبي شيبة من حديث حميد بن هلال أن معاذًا (قال: ما هذا؟ قيل: يهودي)
(6)
أسلم ثم ارتد وقد استتابه أبو موسى شهرين فقال معاذ: لا أجلس حتى أضرب عنقه
(7)
.
قال الطحاوي: جعل أهل هذِه المقالة حكم المرتد حكم الحربيين إذا بلغتهم الدعوة أنه يجب قتالهم دون أن يؤذنوا، قالوا: وإنما تجب الاستتابة لمن خرج عن الإسلام لا عن بصيرة، فأما إن خرج منه عن بصيرة فإنه يقتل دون استتابة
(8)
.
(1)
انظر: "عيون المجالس" 5/ 2083 - 2085، "البيان" للعمراني 12/ 46 - 47، "روضة الطالبين" 10/ 76.
(2)
من (ص 1).
(3)
انظر: "عيون المجالس" 5/ 2083، "المغني" 12/ 267.
(4)
رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 10/ 165 (18700)، وانظر المصدر السابق.
(5)
"شرح معاني الآثار" 3/ 210.
(6)
في الأصل: قتل يهوديًّا، والمثبت من (ص 1).
(7)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 557 (28979).
(8)
"شرح معاني الآثار" 3/ 210.
وقال عطاء: إن ولد في الإسلام ثم ارتد لم يستتب، وإن كان كافرًا وأسلم ثم ارتد فإنه يستتاب
(1)
.
وقال أبو يوسف: إن بدر بالتوبة خليت سبيله ووكلت أمره إلى الله تعالى
(2)
.
وقال أبو حنيفة: يستتاب ثلاث مرات في ثلاثة أيام في ثلاث جمع، كل يوم مرة أو كل جمعه مرة. وعن علي رضي الله عنه: يستتاب شهرًا. وعن الثوري: يستتاب أبدًا
(3)
، واختلف في مذهب مالك هل يخوَّف في الثلاثة الأيام بالقتل؟ وهل يقتل من ارتد إذا كان إسلامه عن ضيق أو غرم؟ قال ابن القصار: والدليل على أنه يستتاب الإجماع، وذلك أن عمر رضي الله عنه قال في المرتد الذي قتل: هلا حبستموه ثلاثة أيام، وأطعمتموه كل يوم رغيفًا، لعله يتوب الله عليه، اللهم لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني، ولم يختلف الصحابة في استتابة المرتد، فكأنهم فهموا من قوله:"من بدل دينه فاقتلوه" أن المراد بذلك إن لم يتب، يدل له قوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] عموم في كل كافر.
وأما حديث معاذ وأبي موسى فلا حجة فيه لمن لم يقل بالاستتابة؛ لأنه روي أنه كان استتابه أبو موسى كما سلف، وقد جاء عدم الاستتابة أيضًا وهو يخدش في الإجماع السالف. روى ابن أبي شيبة، عن غندر، عن سماك، عن ابن الأبرص، عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل كان نصرانيًّا فأسلم ثم تنصر، فسأله عن كلمة فقال له: ما أدري غير أن عيسى
(1)
انظر: "عيون المجالس" 5/ 2083.
(2)
"شرح معاني الآثار" 3/ 210.
(3)
انظر: "الهداية" 2/ 458، "عيون المجالس" 5/ 2085 - 2086
ابن الله. فقام إليه (علي)
(1)
نحّاه برجله، وقام الناس إليه فضربوه حتى قتلوه، وفي رواية: ثم أحرقه
(2)
.
وروى الدارقطني من حديث عبد الملك بن عمير قال: شهدت عليًّا رضي الله عنه وجيء بأخي بني عجل تنصر بعد إسلامه، فقال له علي: ما حديث حدثته عنك؟ قال: ما هو؟ (قال: أنك تنصرت. قال: أنا على دين المسيح. فقال علي)
(3)
: وأنا على دين المسيح. قال علي: ما تقول فيه؟ قال: فتكلم بكلمة خفيت عني، فقال علي رضي الله عنه: طئوه، فوطئوه حتى مات، قال: فقلت لرجل ما قال؟ فقال: المسيح ربه
(4)
. وروى ابن أبي شيبة أيضًا من حديث ليث عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا تساكنكم اليهود ولا النصارى إلا أن يسلموا، فمن أسلم منهم ثم ارتد فلا تضربوا إلا عنقه
(5)
.
فصل:
واختلفوا في استتابة المرتدة، فروي عن علي أنها لا تستتاب وتسترق، وبه قال عطاء وقتادة، ولم يقل بهذا جمهور العلماء، وقالوا: لا فرق بين استتابة المرتد والمرتدة.
وروي عن أبي بكر الصديق مثله، وممن قال به ابن عمر والحسن والأوزاعي والليث ومالك، وشذ أبوحنيفة وأصحابه فقالوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك، وقال: إنه راوي حديث
(1)
من (ص 1).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 559 (28998).
(3)
من (ص 1).
(4)
"سنن الدارقطني" 3/ 111 - 112.
(5)
ابن أبي شيبة 5/ 559 (29000).
الباب ولم ير قتل المرتدة، فهو أعلم بمخرج الحديث، بل تحبس إن كانت في دار الإسلام حتى تسلم، وإن لحقت بدار الحرب استرقت، وإن كانت أمة أجبرها سيدها على الإسلام، واحتجوا بأنه عليه السلام نهى عن قتل النساء، قالوا: والمرتدة لا تقاتل فوجب ألا تقتل كالحربية، حجة الجماعة حديث الباب و"من" فيه تصلح للذكر والأنثى فهو عموم يدخل فيه النساء أيضًا؛ لأنه عليه السلام لم يخص امرأة من رجل
(1)
.
قال ابن المنذر: وإذا كان الكفر من أعظم الذنوب وأجل حرم احترمه المسلمون من الرجال والنساء، ولله أحكام في عباده وحدود دون الكفر ألزمه عباده، منها: الزنا والسرقة وشرب الخمر وحد القذف والقصاص، وكانت الأحكام والحدود التي (هي)
(2)
دون الارتداد لازمة للرجال والنساء مع عموم الحديث "من بدل في دينه فاقتلوه" فكيف يجوز أن يفرق أحد بين أعظم الذنوب، فيطرحه عن النساء ويلزمهن ما دون ذلك، هذا غلط (بين)
(3)
.
وأما حديث ابن عباس السالف من رواية الثوري عن بعض أصحابه عن عاصم بن بهدلة، عن أبي رزين، عن ابن عباس رضي الله عنها قال: لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام ولكن يحبسن ويجبرن عليه
(4)
، فإنما رواه أبو حنيفة، عن عاصم
(5)
.
(1)
انظر: "مختصر الطحاوي" ص 259، "الهداية" 2/ 458، "شرح فتح القدير" 4/ 388، "عيون المجالس" 5/ 2083 - 2084، "الكافي" ص 584، "الأم" 6/ 159 - 165، "روضة الطالبين" 10/ 75، "المغني" 10/ 264 - 266.
(2)
من (ص 1).
(3)
من (ص 1).
(4)
ابن أبي شيبة 6/ 446 (32763).
(5)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 557 (28987).
وقد قال أحمد: لم يروه الثقات من أصحاب عاصم كشعبة وابن عيينة وحماد بن زيد، وإنما رواه الثوري، عن أبي حنيفة، وقد قال أبو بكر بن عياش: قلت لأبي حنيفة: هذا الذي قاله ابن عباس إنما قاله فيمن أتى بهيمة أنه لا قتل عليه، لا في المرتدة. قال: فتشكك فيه وتلون ولم يقم به. فدل على أنه خطأ، ولو صح لكان قول ابن عباس رضي الله عنهما يعارضه؛ لأن أبا بكر الصديق مخالف له، وقد قال: تستتاب المرتدة، ثم يرجع إلى حديث ابن عباس حديث الباب الذي هو حجة على كل أحد.
وأما قياسهم لها على الحربية فالفرق بينهما أن الحربية (إنما)
(1)
لم تقتل إذا لم تقاتل؛ لأن الغنيمة تتوقف بترك قتلها؛ لأنها تسبى وتسترق، والمرتدة لا تسبى ولا تسترق، فليس في استبقائها غنم.
فصل:
واختلفوا في الزنديق هل يستتاب، فقال مالك والليث وأحمد وإسحاق: يقتل ولا تقبل له توبة
(2)
، قال مالك: والزنادقة: ما كان عليه المنافقون من إظهار الإيمان وكتمان الكفر
(3)
.
واختلف قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فمرة قالا: يستتاب، ومرة قالا: لا
(4)
.
(1)
في الأصل: لأنها. والمثبت من "شرح ابن بطال" وهو الأليق بالسياق.
(2)
انظر: "عيون المجالس" 5/ 2081، "التمهيد" 10/ 155 - 157، "الشرح الكبير" 27/ 133 - 134، "الإنصاف" 27/ 133 - 137.
(3)
"التمهيد" 10/ 154.
(4)
"شرح السير الكبير" 5/ 179، "شرح فتح القدير" 6/ 71 - 72.
قال الشافعي: يستتاب كالمرتد، وهو قول أبي عبيد الله بن الحسن، وذكر ابن المنذر عن علي مثله
(1)
.
وقيل لمالك: لِمَ تقتله ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين وقد عرفهم؟ فقال: لأن توبته لا تعرف، وأيضاً فإن الشارع لو قتلهم وهم يظهرون الإيمان لكان قتلهم بعلمه، ولو كان قتلهم بعلم لكان ذريعة إلى أن يقول الناس: قتلهم للضغائن والعداوة، ولامتنع من الإسلام والدخول فيه إذا رأى الشارع يقتل من دخل في الاسلام؛ لأن الناس كانوا عهد بالكفر، هذا معنى قوله
(2)
.
وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: "لئلا يقول الناس إنه يقتل أصحابه"
(3)
، وحكى بعض المتأخرين على مذهب مالك: إن أتى تائبًا قبل أن يظهر عليه قبلت توبته، وإن ظهر عليه فاعترف ولم يرجع قبل ولم يورث، وإن اعترف ومات وكذب البينة وتمادى على الجحود قتل ولم تقبل توبته، ولم ينظر إلى جحود الآخر.
واحتج الشافعي
(4)
بقوله عز وجل في المنافقين {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجاددة: 16] وهذا يدل على أن إظهار الأيمان (جنة من القتل. قال: وقد جعل الشارع الشهادة بالأيمان)
(5)
تعصم الدم والمال، فدل أن من أهل القبلة من شهد بها غير مخلص وإنما تحقن دمه وماله وحسابه على الله تعالى.
(1)
"الإقناع" 2/ 585 - 586.
(2)
"التمهيد" 10/ 154.
(3)
سلف برقم (3518) كتاب: المناقب، باب: ما ينهى من دعوى الجاهلية.
(4)
"الأم" 6/ 158.
(5)
من (ص 1).
(وقد أجمعوا)
(1)
أن أحكام الدنيا على الظاهر، وإلى الله تعالى السرائر. وقد قال عليه السلام (لخالد بن الوليد
(2)
حين قتل الذي استعاذ بالشهادة)
(3)
: "أفلا شققت عن قلبه"
(4)
فدل أن ليس له إلا الظاهر.
قال: وأما قولهم: إن الشارع لم يقتل المنافقين لئلا نقول: إنه قتلهم بعلمه، وأنه يقتل أصحابه، قيل: وكذلك لم يقتلهم بالشهادة عليهم كما لم يقتلهم بعلمه، فدل أن ظاهر الإيمان جنة من القتل.
وفي (سنته)
(5)
عليه السلام في المنافقين دلالة على أمور:
منها: أنه لا يقتل من أظهر التوبة من الكفر بعد الإيمان.
ومنها: أنه حصن دماءهم وقد رجعوا إلى غير يهودية ولا نصرانية ولا دين يظهرونه، إنما أظهروا الإسلام وأسروا الكفر فأقرهم الشارع على أحكام المسلمين فناكحوهم ووارثوهم، وأَسْهَم لمن شهد الحرب منهم، ونزلوا في مساجد المسلمين ولا أبين كفرًا ممن أخبر الله تعالى عن كفره بعد إيمانه.
وقال ابن المواز: لو أظهروا نفاقهم قتلهم الشارع
(6)
.
والاتفاق على انتقال حكمهم اليوم عن الحكم الأول؛ لأن الحكم فيه اليوم القتل بما شهر من الكفر أحرى على مثل ذلك.
(1)
في الأصل: قلنا.
(2)
كذا في (ص 1) خالد بن الوليد. وهو خطأ وإنما هو أسامة بن زيد.
(3)
من (ص 1).
(4)
رواه مسلم (96/ 158) كتاب: الإيمان، باب: تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله، من حديث إسامة بن زيد.
(5)
بياض في الأصل، والمثبت من (ص 1).
(6)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 518، 519.
وذكر ابن حزم خلافًا (مستترًا)
(1)
في المسألة فقال: اختلف الناس في حكم المرتد، فقالت طائفة: لا يستتاب، وقالت طائفة: يستتاب وفرقت طائفة بين من أسر ردته وبين من أعلنها، وفرقت طائفة بين من ولد في الإسلام ثم ارتد وبين من أسلم بعد كفره ثم ارتد.
أما من قال لا يستتاب فانقسموا قسمين، فقالت طائفة: يقتل تاب أو لم يتب، راجع الإسلام أو لم يراجعه، وقالت طائفة أخرى: إن بادر فتاب قبلت توبته وسقط عنه القتل وإن لم تظهر توبته أنفذ عليه القتل، وأما من قال يستتاب فإنهم انقسموا أقسامًا، طائفة قالت: يستتاب أربعين يومًا فإن تاب وإلا قتل. وطائفة قالت: يستتاب شهرين فإن تاب وإلا قتل. وقالت أخرى: (نستتيبه)
(2)
مرة فإن تاب وإلا قتلناه. وقالت أخرى: ثلاث مرات. وقالت أخرى: ثلاثة أيام. وقالت أخرى: شهرًا
(3)
.
وروي عن مالك، والمشهور عنه: ثلاثة أيام
(4)
وهو أحد قولي الشافعي
(5)
، وقالت أخرى: مائة مرة. وقالت أخرى: يستتاب أبدًا ولا يقتل.
فأما من فرق بين المسر والمعلن، فقالت طائفة: من أسر ردته قتلناه دون استتابة ولم تقبل توبته، ومن أعلنها قبلناها. وقالت أخرى: إن أقر المسر وصدق البينة قبلت توبته، وإن لم يقر ولا صدق البينة قتلناه ولم
(1)
في (ص 1)(معتبرًا).
(2)
في (ص 1): يستتاب.
(3)
"المحلى" 11/ 188 - 189.
(4)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 491.
(5)
انظر: "روضة الطالبين" 10/ 76.
تقبل توبته، قال هؤلاء: وأما المعلن فتقبل توبته. وقالت طائفة أخرى: لا فرق بين المسر والمعلن في شيء من ذلك، فطائفة قبلت توبتهما معًا أقر المسر أو لم يقر، وطائفة لم تقبل توبة مسر ولا معلن.
قال: واختلفوا في الذمي أو الحربي يخرجان من كفر إلى كفر، فقالت طائفة: يتركان على ذلك ولا يمنعان منه، وهو قول أبي حنيفة ومالك
(1)
. وقالت أخرى: لا يتركان على ذلك أصلاً ثم افترق هؤلاء على فرقتين؛ فقالت فرقة: إن رجع الذمي إلى دينه الذي خرج منه ترك، وإلا قتل، (ولا يترك على الدين الذي خرج إليه)
(2)
، ولا يمكن من (الخروج)
(3)
إلى الدين الذي خرج منه.
قال الشافعي وأصحابنا: لا يقر على ذلك. ثم اختلف قول الشافعي، فمرة قال: إن رجع إلى الكفر الذي كان عليه ترك، وإلا قتل إلا أن يسلم. ومرة قال: لا يقبل منه الرجوع إلى الدين الذي خرج منه لا بد له من الإسلام أو السيف، وهو ظاهر حديث الباب "من بدل دينه فاقتلوه".
قال ابن حزم وبه يقول أصحابنا: احتج لأبي حنيفة ومن تبعه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]، وقال أيضًا:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1] قالوا: فقد جعل الله الكفر كله دينًا واحدًا، وقال تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] فمتى أجبر على الرجوع إلى بلاد الإسلام فقد أكره، وإن أجبر على الرجوع إلى دينه ودين الكفر فقد أجبر على اعتقاد الكفر، قالوا: واعتقاد جواز
(1)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 508.
(2)
في الأصل عبارة غير واضحة، والمثبت من (ص 1).
(3)
في (ص 1): الرجوع.
هذا كفر، ولقائل أن يقول: قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] نحن نعلم ولاية بعضهم لبعض، وليس فيها إقرارهم ولا حكم قتلهم ولا ما يفعل بهم أصلاً، وكذلك قوله:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1] ليس فيها إلا أنا مباينون لجميع الكفار بالعبادة، والدين، وليس فيها شيء من أحكامهم، وقال تعالى مخاطبًا لناٍ {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] فمن تولاهم منا فهو منهم كقوله {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] فهلا تركوا المرتد إليهم منا علي ردته، وإخبار الله أنه منهم، فإن لم تكن هذِه الآية حجة في إقرار المرتد منا إليهم على ذلك قالوا: ليسا بحجة، وأما آية الإكراه فلا حجة لهم فيها؛ لأنه لم يختلف أحد من الأمة كلها في أن هذِه الآية الكريمة ليست على ظاهرها؛ لأن الأمة مجمعة على إكراه المرتد عن دينه، فمن قائل: يكره ولا يقتل، ومن قائل:(يكره)
(1)
ويقتل.
فإن قالوا: خرج المرتد منا بدليل آخر عن حكم هذِه الآية، وإلا فهو كما قلتم، وإن المحتجين بقوله تعالى:{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وبقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 6] في أن الكفر كله شيء واحد.
وأما احتجاجهم بقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] فغير جيد؛ لأنها منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فإن احتجوا بما روي عن علي رضي الله عنه أنه رفع إليه أن يهوديًّا أو نصرانيًا تزندق فقال: دعوه تحوَّل من دين إلى دين. قيل لهم: هذا لا يصح؛ لأن ابن جريج قال فيه: حُدثت عن علي رضي الله عنه، ولو لم يقله لعلمنا أن حديثه
(1)
في (ص 1): بكفره.
عنه منقطع؛ لأنه لم يوجد إلا بعد سنين كثيره من (موت)
(1)
علي رضي الله عنه
(2)
.
فصل:
واختلف في ميراث المرتد كما سلف في الفرائض، فقال علي رضي الله عنه: هو لولده من المسلمين
(3)
، وعن ابن مسعود مثله
(4)
، وبه قال الليث بن سعد وإسحاق، وقال الأوزاعي: إن قتل في أرض الإسلام فماله لورثته من المسلمين
(5)
.
وقالت طائفة: إن كان له وارث على دينه فهو أحق به، وإلا فماله لورثته من المسلمين كما روينا عن إسحاق بن راشد أن عمر بن عبد العزيز كتب في رجل من المسلمين أسر فتنصر أن زوجته ترث منه وتعتد ثلاثة قروء، ويدفع ماله إلى ورثته من المسلمين لا أعلمه، قال: إلا أن يكون له وارث على دينه في أرضه فهو أحق به. وقالت طائفة: ميراثه لأهل دينه فقط، رويناه عن قتادة. وقال ابن جريج: الناس فريقان منهم من يقول: ميراث المرتد للمسلمين؛ لأنه ساعة يكفر يوقف فلا يقدر منه على شيء حتى ينظر أيسلم أم يكفر، منهم النخعي والحكم بن (عتيبة)، وفريق يقول: لأهل دينه. وقالت طائفة: إن راجع الإسلام فماله له، وإن قتل فماله لبيت المال لا لورثته من الكفار، قاله ربيعة ومالك وابن أبي ليلى والشافعي
(6)
.
(1)
في (ص 1): وفاة.
(2)
"المحلى" 11/ 189 - 197.
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 6/ 106 (10143).
(4)
المصدر السابق 10/ 340 (19297)، "مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 281 (31374).
(5)
انظر: "الحاوي الكبير" 8/ 145.
(6)
"المحلى" 11/ 197.
وقالت طائفة: إن راجع الإسلام فماله له، وإن قتل فماله لورثته من الكفار، قال بهذا الظاهريون
(1)
. وقال أبو حنيفة: إن قتل فماله لورثته من المسلمين وترثه زوجته كسائر ورثته، وإن فر ولحق بدار الحرب وترك ماله عندنا، فإن القاضي يقضي بذلك ويعتق أمهات أولاده ومدبره، ويقسم ماله بين ورثته من المسلمين على كتاب الله، فإن جاء مسلمًا أخذ من ماله ما وجد في أيدي ورثته، ولا ضمان عليهم فيما استهلكوه، هذا فيما كان بيده قبل الردة، وأما ما اكتسبه في حال ردته ثم قتل عنه أو مات فهو فيء للمسلمين.
وقالت طائفة: مال المرتد ساعة يرتد لجميع المسلمين قتل أو مات أو لحق بأرض الحرب أو راجع الإسلام، كل ذلك سواء، قال به أصحاب مالك فيما ذكره ابن شعبان عن أشهب
(2)
(وغيره)
(3)
فإن اختار رجل أرض الحرب أيصير بذلك مرتدًّا أم لا، ولذلك اعتضدنا بأهل الحرب على المسلمين وإن لم يفارق دار الإسلام، قال عليه السلام:"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"
(4)
وهولا يبرأ إلا من كافر، فأما إن كان فراره إلى أرض الحرب لظلم خافه ولم يحارب المسلمين ولا أعان عليهم، ولم يجد في المسلمين من يجيره فلا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره، وقد ذكر أن ابن شهاب كان [عازمًا]
(5)
على أنه إذا مات هشام بن عبد الملك يلحق بأرض الروم؛ لأن
(1)
المصدر السابق.
(2)
"المحلى" 11/ 198.
(3)
من (ص 1).
(4)
أبو داود (2645)، الترمذي (1604)، وقال الترمذي: سمعت محمدًا يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل.
(5)
ساقطة عن الأصول، والمثبت من "المحلى" 11/ 200.
الوليد بن يزيد كان نذر دمه إن قدر عليه، فمن كان هكذا فهو معذور، وكذلك من سكن بأرض الهند والسند والصين والترك والسودان والروم من المسلمين، فإن كان لا يقدر على الخروج من هنالك لثقل ظهر وقلة مال، أو لضعف جسم، أو لامتناع طريق فهو معذور، فإن كان هناك مجاورًا للكفار لخدمة أو كتابة فهو كافر، وإن كانت إقامته هناك لدنيا وهو يقدر على اللحاق بالمسلمين فما يبعد عن الكفر، وليس كذلك من سكن في طاعة أهل الكفر من العالية وممن جرى مجراهم؛ لأن أرض مصر والقيروان وغيرهما فالإسلام عندهم ظاهر، وهم على ذلك (لا يجاهرون)
(1)
بالبراءة من الإسلام، بل وإلى الإسلام ينتمون، وإن كانوا في حقيقة أمرهم كفار.
وأما من سكن في أرض القرامطة مختارًا فهو كافر بلا شك؛ لأنهم معلنون بالكفر وترك الإسلام، وأما من سكن في بلد تظهر فيه بعض الأهواء المخرجة إلى الكفر فليس بكافر؛ لأن اسم الإسلام هو الظاهر هناك من توحيد وإقرار بالرسالة وإقامة شرائع الإسلام، يؤيد هذا أنه عليه السلام استعمل عماله على خيبر وهم كلهم يهود، وإذا كان أهل الذمة في مدائنهم لا يمازجهم غيرهم، فلا يسمى الساكن فيهم لإمارة عليهم أو لتجارة بينهم كافرًا، ولا مسيئًا بل هو محسن مسلم، ودارهم دار إسلام لا دار شرك؛ لأن الدار إنما تنسب إلى الغالب عليها والحاكم عليها والمالك لها، ولو أن كافرًا (مجاهرًا)
(2)
غلب على دار من حد الإسلام وأقر المسلمين بها على حالهم إلا أنه (هو)
(3)
المالك المنفرد
(1)
في الأصول: مجاهرون، والمثبت من "المحلى" 11/ 200، وهو الأليق بالسياق.
(2)
كذا بالأصول، وفي "المحلى": مجاهدًا.
(3)
من (ص 1).
بها، وفي ضبطها وهو معلن بدين غير الإسلام كفر من بقي معه أو عاونه، وإن ادعى أنه مسلم، وأما من حملته الحمية من أهل الثغر من المسلمين فأتى بالمشركين الحربيين وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين أو على أخذ أموالهم أو سبيهم فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كالأتباع فهو هالك في غاية الفسوق، ولا يكون بذلك كافرًا؛ لأنه لم يأت شيئًا أوجب عليه كفرًا من قرآن أو إجماع، فإن كان حكم الكفار جاريًا عليه فهو بذلك كافر، فإن كانا متساويين لا يجري حكم أحدهما على الآخر، فما تراه بذلك كافرًا
(1)
.
وقال ابن التين: اختلف عندنا في الميراث على ثلاثة أقوال، فقال مالك: يرثه ورثته من المسلمين.
وقال أيضًا: لا يرثونه وميراثه لجميع المسلمين، وبه قال المغيرة وأشهب وابن عبد الحكم وابن نافع وعبد الملك وسحنون قالوا:(سبيل)
(2)
ماله سبيل دمه
(3)
.
وقال ابن القاسم: إن اعترف وتاب ولم تقبل توبته وقُتل لم يرثه ورثته، وإن جحد فقتل أو مات قبل أن يظهر عليه ورثوه. وفي كتاب محمد لمالك فيمن اعترف أن أباه مات على الزندقة وأنه كان يعبد الشمس قال: يرثه.
فصل:
ولد المرتد إن كان كبيرًا فحكمه حكم نفسه لا حكم أبيه، وكذا إن
(1)
انتهى من "المحلى" 11/ 194 - 201 بتصرف.
(2)
من (ص 1).
(3)
"النوادر والزيادات" 14/ 522 - 523.
كان صغيرًا؛ لأنه قد صح له عقد الإسلام إذ ولد وأبوه مسلم، فلا يكون مرتدًّا بارتداد أبيه، ولا أعلم فيه خلافًا كما قال ابن بطال
(1)
، فإن ادعى الكفر عند بلوغه استتيب فإن تاب وإلا قتل.
فصل:
قال الداودي: وإحراق عليٍّ الزنادقة ليس بخطأ؛ لأنه عليه السلام قال لقوم أخرجهم: "إن لقيتم فلانًا وفلانًا (فأحرقوهم)
(2)
بالنار" ثم قال: "إن لقيتموهما فاقتلوهما، فإنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب الله"
(3)
ولم يكن عليه السلام يقول في الغضب والرضا إلا حقًّا، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم: 3].
فصل:
قوله في حديث أبي موسى: (كأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت) أي: انضمت وارتفعت.
وقوله: (فقال أحدهما: أما أنا فأقوم وأنام وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي) أي: أحتسب فيها من الثواب؛ لأني أقوم بها على القيام.
وفيه: المجازاة على النية، وقد جاء:"نية المؤمن خير من عمله"
(4)
يعني: أنه ينوي ما لم يبلغه عمره.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 579، 580.
(2)
كذا في الأصل، وأعلاها (كذا).
(3)
سلف برقم (2954) كتاب: الجهاد والسير، باب: التوديع.
(4)
سبق تخريجه.
فصل:
الزنديق: بكسر الزاي: فارسي معرب وجمعه: زنادقة. قال سيبويه: الهاء في زنادقة بدل من ياء زنديق
(1)
. والاسم الزندقة، قال ثعلب: ليس زنديق من كلام العرب إنما يقولون زندق، وزندقي: إذا كان شديد البخل، وفي "الصحاح": الزنديق من الثنوية
(2)
أي: الذين يزعمون أن مع الله إلهًا ثانيًا -جل وتعالى عن ذلك- واختلف عندنا في حقيقته هل هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، أو الذي لا ينتحل دينًا. وادعى بعضهم أن المشهور الأول، لكن هذا هو المنافق فالأقرب الثاني.
(1)
"الكتاب" 1/ 293 - 294.
(2)
"الصحاح" 4/ 1489.
3 - باب قَتْلِ مَنْ أَبَى قَبُولَ الفَرَائِضِ وَمَا نُسِبُوا إِلَى الرِّدَّةِ
6924 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْر، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ قَالَ عُمَرُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْت أَن أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ؟!» . [انظر: 1399 - مسلم: 20 - فتح 12/ 275]
6925 -
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. [انظر: 1400 - مسلم: 20 - فتح 12/ 275]
ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في المرتدين الذي سلف في الزكاة، ولا شك من أبى قبول الفرائض حكمه مختلف فيه، فمن أبى أداء الزكاة -وهو ما ذكر في حديث البا- وهو مقر بوجوبها، فإن كان بين ظهرانينا ولم يطلب حربًا ولا امتنع بالسيف فإنها تؤخذ منه قهرًا وتدفع للمساكين ولا يقتل.
واختلف في الإجزاء، والمشهور عندنا أن الإمام إذا أخذها ونوى أجزأت، وهو المعروف من مذهب مالك خلافًا لابن الوراق البغدادي منهم؛ لانتفاء النية منه والأعمال لا توجد إلا بها
(1)
.
(1)
انظر: "عيون المجالس" 2/ 502، "الذخيرة" 3/ 135، "الأم" 2/ 22، "النجم الوهاج" للدميري 3/ 257.
قال مالك في "الموطأ": الأمر عندنا فيمن منع فريضة فلم يستطع أخذها منه كان حقًّا عليهم جهاده حتى يؤخذ منه
(1)
ومعناه إذا أقر بوجوبها لا خلاف في ذلك، وإنما قاتل الصديق مانعي الزكاة؛ لأنهم امتنعوا بالسيف ونصبوا الحرب للأمة.
وأجمع العلماء أن من نصب الحرب في منع فريضة أو منع حقًّا يجب عليه لآدمي أنه يجب قتاله، فإن أبى القتل على نفسه فدمه هدر
(2)
.
وأما الصلاة فمذهب الجماعة أن من تركها جاحدًا (كان مرتدًّا)
(3)
فيستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك جحد سائر الفرائض.
واختلفوا فيمن تركها تكاسلاً، وقال: لست أفعلها. فمذهبنا إذا ترك صلاة واحدة حتى أخرجها عن وقتها -واعتبر الجمهور وأصحابه وقت الضرورة- فإنه يقتل بعد الاستتابة إذا [أصر]
(4)
على الترك، والصحيح عندنا أنه يقتل حدًّا لا كفرًا
(5)
.
ومذهب مالك أنه يقال له: صل، ما دام الوقت باقيًا، فإن صلى ترك، وإن امتنع حتى خرج الوقت قتل، ثم اختلفوا، فقال بعضهم: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل
(6)
.
وقال بعضهم: يقتل لأن هذا حد لله تعالى يقام عليه لا تسقطه التوبة بفعل الصلاة، وهو بذلك فاسق كالزاني والقاتل لا كافر وهو مذهبنا كما سلف.
(1)
"الموطأ" ص 182.
(2)
انظر: "الاستذكار" 9/ 231، "الحاوي" للماوردي 3/ 73.
(3)
في (ص 1): فهو مرتد.
(4)
في الأصل: (أسر).
(5)
انظر: "الأم" 1/ 225، "الحاوي الكبير" 2/ 525.
(6)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 536، "عيون المجالس" 1/ 445.
وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: لا يقتل بوجه ويخلى بينه وبين الله
(1)
، والمعروف من مذهب الكوفيين أن الإمام يعزره حتى يصلي، وقال أحمد: تارك الصلاة مرتد كافر، وماله فيء، ويدفن في مقابر المشركين، وسواء ترك الصلاة جاحدًا لها أو تكاسلًا
(2)
. ووافق الجماعة في سائر الفرائض، أما إذا تركها لا يكفر، وقام الإجماع على أن تارك الصلاة يؤمر بفعلها، والمرتد لا يؤمر بفعل الصلاة، وإنما يؤمر بالإِسلام ثم الصلاة، واحتجوا بقوله عليه السلام:"خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء منهن فلم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة" أخرجه مالك في "الموطأ" وأبو داود واللفظ، وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه
(3)
، وصححه أبو حاتم وابن حبان، وقال ابن عبد البر: حديث صحيح ثابت
(4)
.
فدل الحديث أنه ليس بكافر؛ لأن الكافر لا يدخل الجنة، قال ابن أبي زيد: وحجته أيضًا إجماع الأمة على الصلاة عليه ووراثته بالإِسلام ودفنه مع المسلمين، وقد أسلفنا عن أحمد أنه لا يورث
(1)
نقله القاضي عبد الوهاب في "عيون المجالس" 1/ 446، والرافعي في "العزيز" 2/ 462.
ولم أقف عليه في كتب الحنيفية التي بين يدي، ولعل هذِه النسبة إليه غير صحيحة حتى إن القاضي عبد الوهاب قال بعد أن أورد هذا القول: وظاهر مذهبه أن الإمام يعزره حتى يصلي. اهـ.
(2)
"مسائل أحمد برواية عبد الله" ص 55، "الانتصار" 2/ 603، "المغني" 3/ 354.
(3)
أبو داود (1420) ابن ماجه (1401)، "الموطأ" ص 96.
(4)
"صحيح ابن حبان" 5/ 23 (1732)، "التمهيد" 23/ 288.
ويدفن في مقابر المشركين، وحجة الأول قوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} الآية [التوبة: 5]، فأمر بقتلهم إلا أن يتوبوا، والتوبة هي اعتقاد الإسلام الذي من جملته اعتقاد وجوب الصلاة وسائر العبادات، ألا ترى قول الصديق:(والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)، فلم ينكر ذلك عليه أحد ولا قالوا: لا تشبه الصلاة الزكاة.
(وفي أفراد مسلم من حديث جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة")
(1)
(2)
. وذكره ابن بطال بلفظ: "ما بين الإيمان والكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر"
(3)
؛ وهذِه الزيادة الأخيرة معروفة من حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" أخرجه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح وابن حبان والحاكم، وقال صحيح الإسناد ولا يعرف له علة، قال: وله شاهد على شرطهما فذكره عن شقيق، عن أبي هريرة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئًا تركه كفر غير الصلاة، وروى هذا الترمذي عن شقيق
(4)
(5)
، وحديث عبادة يرد به على أحمد.
(1)
من (ص 1).
(2)
مسلم (82/ 134) كتاب: الإيمان، باب: بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة.
(3)
"شرح اين بطال" 8/ 578.
(4)
ورد بهامش الأصل: إنما هو عن عبد الله بن شقيق فيما أخرجه
…
(5)
الترمذي (2621)، وعن عبد الله بن شقيق (2622)، والنسائي 1/ 231 - 232، وابن حبان 4/ 305 (1454)، والحاكم 1/ 6 - 7.
وقد ثبت أن الكافر يدخل النار لا محالة، فلا يجوز أن يقال فيه مثل هذا، فعلمنا أنه عليه السلام قصد من تركها متكاسلًا لا جاحدًا، ولا حجة لأحمد في إبائة إبليس من السجود وصار بذلك كافرًا؛ لأنه عاند الله واستكبر ورد عليه أمره مجاهرًا بالمعصية لله، فهو أشد من الجاحد أو مثله؛ لأنه جحدها واستيقنتها نفسه.
فرع:
روى ابن القاسم عن مالك: من قال لا أحج فلا يجبر على ذلك، وليس كمن قال لا أتوضأ ولا أصلي ولا أصوم رمضان، فإن هذا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، كقوله: لا أصلي
(1)
.
والفرق بين الحج وسائر الفرائض أن الحج لا يتعلق وجوبه بوقت معين، وإنما هو على التراخي والإمهال إلى الاستطاعة، وذلك موكول إلى دين المسلم وأمانته، ولو لزم فيه الفور لقيده الله بوقت كما قيد الصلاة والصيام بأوقات.
ومما يدل على أن الحج ليس على الفور، وغير لازم في الفروض المؤقتة، ألا ترى أن المصلي لا تلزمه الصلاة عند الزوال، وهو في سعة عن الفور إلى أن يفيء الفيء ذراعًا وإلى أن يدرك ركعة من آخر وقتها، ولم يكن بتأخيرها عن أول وقتها مضيعًا، كذلك فيما لم يوقت له وقت أولى بالإمهال والتراخي.
فصل:
سلف في الزكاة وجه استرقاق الصديق لورثتهم وسبيهم، وحكم عمر رضي الله عنه برد سبيهم إلى عشائرهم ومذاهب العلماء في ذلك.
(1)
"النوادر والزيادات" 14/ 536.
فصل:
(وقوله)
(1)
: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" يعني: وأن محمدًا رسول الله.
قال الداودي: وكان الصحابة على رأي عمر فتكلم عمر على لسانهم، ثم تكلموا.
وفيه: دليل أن الجذع من المعز يؤخذ في الزكاة، وهو قول مالك
(2)
.
وقال ابن حبيب: لا يؤخذ
(3)
، جعله كالأضحية.
ويحتمل أن يريد الصديق به التعليل، خرج كلامه عليه لا أنها تؤخذ على الحقيقة.
(1)
من (ص 1).
(2)
انظر: "المدونة" 1/ 267.
(3)
انظر: "المنتقى" 2/ 143.
4 - باب إِذَا عَرَّضَ الذِّمِّيُّ وَغَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُصَرِّحْ، نَحْوَ قَوْلِهِ: السَّامُ عَلَيْكَ
6926 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَعَلَيْكَ» . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ مَا يَقُول؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ:«لَا، إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» . [انظر: 6258 - مسلم: 2163 - فتح
12/ 280]
6927 -
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها -قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» . قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: «قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ» . [انظر: 2935 - مسلم: 2165 - فتح 12/ 280]
6928 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ: سَامٌ عَلَيْكَ. فَقُلْ: عَلَيْكَ» . [انظر: 6257 - مسلم: 2164 - فتح 12/ 280]
ذكر فيه حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: مَرَّ يَهُودِيٌّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السَّامُ عَلَيْكَ. فَقَالَ عليه السلام: "وَعَلَيكَ". ثم قال: "أَتدرُونَ ماذا قال؟ قَالَ: السَّامُ عَلَيكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَقْتُلُهُ؟ قَالَ:"لَا، إِذَا سَلَّمَ عَلَيكم أهلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيكمْ".
ثم ذكر حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها وابن عمر بمثله.
وقد سلف الكلام عليه (في السلام)
(1)
مع الكلام على السام، والمقصود هنا ما عقد له البخاري الباب وهي مسألة السباب.
وقد اختلف العلماء فيمن سبه، فروى ابن القاسم عن مالك أن من سبه من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم
(2)
، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة
(3)
، وهو قول الليث وأحمد وإسحاق، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي
(4)
، وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك فيمن سبه قالا: هي ردة يستتاب منها، فإن تاب نكل، وإن لم يتب قتل
(5)
.
وقال الكوفيون: من سبه أو عابه فإن كان ذميًّا عزر ولم يقتل، وهو قول الثوري، وقال أبو حنيفة: إن كان مسلمًا صار مرتدًّا بذلك
(6)
، واحتج الكوفيون بما ذكر البخاري في الباب.
قال الطحاوي: وقول اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السام عليك، لو كان مثل هذا الدعاء من مسلم لصار به مرتدًّا يقتل، ولم يقتله الشارع بذلك
(7)
؛ لأن ما هم عليه من الشرك أعظم من سبه، وحجة من رأى القتل على الذمي بسبه أنه قد نقض العهد الذي حقن دمه إذ لم يعاهده على سبه، فلما تعدى عهده إلى حال كفره يقتل إلا أن يسلم؛ لأن القتل إنما كان وجب عليه من أجل نقضه العهد الذي هو من حقوق الله تعالى، فإن أسلم ارتفع المعنى الذي من أجله وجب قتله.
(1)
من (ص 1).
(2)
"النوادر والزيادات" 14/ 525.
(3)
المصدر السابق 14/ 526.
(4)
"الإشراف" 3/ 160، "روضة الطالبين" 10/ 64.
(5)
"النوادر والزيادات" 14/ 526.
(6)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 505.
(7)
المصدر السابق 3/ 506.
وقال ابن سحنون: وقولهم إن من دينهم سبه يقال لهم: وكذا من دينهم قتلنا وأخذ أموالنا، فلو قتل واحدًا منا قتلناه؛ لأنا لم نعطهم العهد على ذلك، فكذا سبه إذا أظهره فإن قيل: فهو إذا أسلم بعد سبه تركتموه، وإذا أسلم وقد قتل مسلمًا قتلتموه. قيل: لأن هذا من حقوق العباد لا يزول بإسلامه، وذلك من حقوق الله تعالى يزول بالتوبة من دينه إلى ديننا
(1)
.
قلت: الآخر حق آدمي أيضًا، وحجة أخرى: وهو أنه عليه السلام قال: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ "
(2)
وقتله محمد بن مسلمة. والسب من أعظم الأذى وكذلك قتل عليه السلام ابن خطل يوم الفتح والقينتين كانتا تغنيان بسبه ولم تنفع ابن خطل استعاذته بالكعبة.
وقال محمد بن سحنون: وفرقنا بين من سبه من المسلمين وبين من سبه من الكفار فقتلنا المسلم ولم تقبل توبته؛ لأنه لم ينتقل من في دينه إلى غيره، إنما فعل شيئًا حده عندنا القتل ولا عفو فيه لأحد، فكان كالزنديق الذي لا تقبل توبته؛ لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر، والكتابي كان على الكفر، فلما انتقل إلى الإسلام بعد أن سب غفر له ما قد سلف، كما قال تعالى
(3)
: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقياس الكوفيين أن المسلم إذا سبه على المرتد خطأ؛ لأن المرتد كان مظهرًا لدينه فتصح استتابته، والمسلم لا يجوز له إظهار سبه، وإنما يكون مستترًا به، فكيف تصح له توبة.
(1)
انظر: "النوادر الزيادات" 14/ 528.
(2)
سلف برقم (2510)، ورواه مسلم (1801).
(3)
"النوادر والزيادات" 14/ 527.
وفرق في "المعونة" بأن الكافر يعلم منه اعتقاد ذلك، وإنما يقتل على إظهاره، والمسلم يعلم منه اعتقاد تعظيمه فسبه إياه دلالة على ردته، قال: ووجه قوله في الكافر إذا أسلم فإنه يقتل اعتبارًا بالمسلم، ووجه المنع الآية.
وقال ابن القاسم عن مالك: وكذا إن شتم نبيًّا من الأنبياء أو انتقصه قتل ولم يستتب كما لو شتم نبينا أو انتقصه، قال تعالى:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] وكذلك حكم الذمي إذا شتم أحدًا منهم يقتل إلا أن يسلم، وهذا كله قول مالك وابن القاسم وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ
(1)
، قال أهل هذِه المقالة: وإنما ترك الشارع قتل اليهودي القائل: السام عليك كما ترك قتل المنافقين وهو يعلم نفاقهم، وقيل: إنما دعوا واستووا، ولو سبوا لقتلوا، ولا حجة للكوفيين في أحاديث الباب.
وذكر البخاري بعده:
(1)
"النوادر والزيادات" 14/ 527.
5 - باب
6929 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. [انظر: 3477 - مسلم: 1792 - فتح 12/ 282]
حدثنا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا الأَعْمَشُ ثنا شَقِيق قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه: كَأَنَي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، فَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ:(اللهم)
(1)
اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وابن بطال وابن التين أدخلاه في الباب قبله، وقالا: حديث ابن مسعود في الذين أدموا نبيهم وضربوه كانوا كفارًا، والأنبياء - عليهم أفضل الصلاة والسلام - شأنهم الصبر على الأذى وكذلك أمروا، قال تعالى لنبيه:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] فلا حجة للكوفيين فيه
(2)
.
وذكر القرطبي أنه عليه السلام هو الحاكي وهو المحكي عنه وكأنه أوحي إليه بذلك قبل وقوع قصة أحد، ولم يعين له ذلك الشيء، فلما وقع له ذلك تعين أنه المعني بذلك
(3)
.
وقد سلف طرق منه في ذكر بني إسرائيل أخبرنا المسند المعمر أبو المحاسن يوسف الدلاصى، أنا ابن تامتيت، أنا ابن الصائغ، عن
(1)
في (ص 1): (رب).
(2)
"شرح ابن بطال" 8/ 583.
(3)
"المفهم" 3/ 651.
القاضي عياض قال: لا نعلم خلافًا في استباحة (دم)
(1)
من (سب)
(2)
بين علماء الأمصار وسلف الأمة، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره
(3)
. وأشار ابن حزم إلى الخلاف في تكفير المستخف به، والمعروف ما قدمناه
(4)
. قال ابن سحنون: أجمع العلماء أن شاتمه والمنتقص له كافر والوعيد جارٍ عليه بعذاب الله تعالى، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر
(5)
. واحتج إبراهيم بن (الحسين)
(6)
الفقيه في مثل هذا بقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة لقوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبكم
(7)
.
قلت: قتله له كان على غير هذا، كما ذكر الواقدي وسيف ( .. )
(8)
والحاكم. وقال الخطابي: لا أعلم أحدًا من السلف اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا
(9)
.
روى ابن وهب عن مالك: من قال: إن رداءه -ويروى: زره- وسخ، وأراد به عيبه، قتل
(10)
.
وقال بعض علمائنا: أجمع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة، وأفتى
(1)
ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص 1).
(2)
كذا في الأصل. وفي "الشفا"(سبه). وهو الصواب.
(3)
"الشفا" ص 215 - 216.
(4)
انظر: "المحلى" 11/ 408.
(5)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 526. ولم يذكر الإجماع على ذلك.
(6)
كذا في الأصل، وفي (ص 2):(الحسن بن خالد).
(7)
انظر: "سبل الهدى والرشاد" 12/ 24.
(8)
كلمة غير واضحة بالأصول.
(9)
"أعلام الحديث" 4/ 2311، 2411.
(10)
"النوادر والزيادات" 14/ 529.
القابسي فيمن قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمَّال يتيم أبي طالب بقتله
(1)
.
وأفتى ابن أبي زيد بقتل رجل سمع قومًا يتذاكرون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية، فقال لهم: تريدون تعرفون صفة محمد (هو في)
(2)
صفة هذا المار في خلقته ولحيته
(3)
.
وقال أحمد بن أبي سليمان: من قال: إنه عليه السلام كان أسود يقتل.
وقال في رجل قيل له: لا وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فعل الله برسول الله كذا (وذكر)
(4)
كلامًا قبيحًا فقيل له: يا عدو الله ما تقول؟ فقال: أشد من كلامه الأول ثم قال: إنما أردت برسول الله العقرب.
فقال ابن أبي سليمان للذي سأله أتشهد عليه وأنا شريكك؟ يريد في قتله وثواب ذلك
(5)
. وقال ابن عتاب: الكتاب والسنة موحيان بأن من قصده بأذي أو نقص معرضًا أو مصرحًا فقتله واجب
(6)
.
قال أبو الفضل
(7)
وكذلك أقول: حكم من غمصه أو غيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو السحر، وما أصابه من جرح أو هزيمة لبعض جيوشه أو أذى من عدو أو شدة من زمنة أو بالميل إلى نسائه فحكم هذا كله لمن قصد به النقيصة القتل، والحجة في ذلك قوله تعالي {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وقال في قاتل المؤمن مثل ذلك فمن لعنته في الدنيا القتل، قال تعالى: {مَلْعُونِينَ
(1)
انظر: "سبل الهدي والرشاد"12/ 24
(2)
في (ص 1): هي من.
(3)
انظر: "الشفا" ص 214 - 217.
(4)
في الأصل: وكذا، والمثبت من (ص 1).
(5)
انظر: "الشفا" ص 217.
(6)
المصدر السابق ص 219.
(7)
هو القاضي عياض.
أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الأحزاب: 61] وقال في المحاربين وذكر عقوبتهم: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] وقد يقع القتل بمعنى اللعن، قال تعالى:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} [الذاريات:10]، و {قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]، أي: لعنهم الله. وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء: 65] وقال تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إلى قوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2] ولا يحبط العمل إلا الكفر والكافر يقتل.
وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ} [المجادلة: 8] ثم قال: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8] وقال: {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] إلى قوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] قال أهل التفسير: كفرتم بقولكم في رسول الله.
وأما الآثار فذكر الدارقطني من حديث عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة، وقد خرجه ابن حبان وغيره: ثنا عبد الله بن موسى بن جعفر، عن علي بن موسى، عن أبيه عن جده، عن محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن الحسين بن علي، عن أبيه أن رسول الله قال:"من سب نبيًّا فاقتلوه، ومن سب أصحابي فاضربوه". وأخرجه الطبراني في "أصغر معاجمه" بلفظ "من سب الأنبياء [قُتِل]
(1)
ومن سب أصحابي جلد"
(2)
وفيه عبيد الله العمري
(1)
ساقطة من الأصل، والمثبت من "المعجم الصغير" للطبراني.
(2)
"المعجم الصغير" 1/ 393 (659).
ضعفه النسائي جدًّا، وقال: كذاب، وفي الصحيح:"من لكعب بن الأشرف فإنه يؤذي الله ورسوله؟ " كما سلف، ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة بخلاف غيره من المشركين وعلل بالأذى، فدل أن قتله إياه كان لغير الإشراك بل الأذى، وكذلك قتل أبي رافع. قال البراء كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُعين عليه. وفي حديث آخر أن رجلاً كان يسبه فقال:"من يكفيني عدوي؟ " فقال خالد: أنا فبعثه إليه فقتله
(1)
.
قال ابن حزم: وهو حديث صحيح مسند رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بلقين، قال ابن المديني: وهو اسمه، وبه يعرف.
وذكر عبد الرزاق أنه عليه السلام سبه رجل فقال: "من يكفيني عدوي؟ " فقال الزبير: أنا، فقتله
(2)
. وفي "صحيح مسلم" أن رجلاً كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعلي: "اذهب فاضرب عنقه"، فوجده مجبوبًا
(3)
.
وفيه بيان واضح كما قال ابن حزم: أن من آذاه وجب قتله
(4)
.
وروى البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عقبة بن أبي معيط نادى يا معاشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرًا؟ فقال له عليه السلام "بكفرك وافترائك على رسول الله".
وروى أن امرأة كانت تسبه فقال: "من يكفيني عدوتي؟ " فخرج إليها خالد فقتلها
(5)
.
(1)
انتهى من "الشفا" 2/ 215 - 221.
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 5/ 307 (9705).
(3)
مسلم (2771) كتاب: التوبة، باب: براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
"المحلى" 11/ 413.
(5)
"مصنف عبد الرزاق" 5/ 307 (9705).
وروي أن رجلاً كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث عليًّا والزبير إليه ليقتلاه، وروى ابن قانع أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، سمعت أبي يقول فيك قولًا قبيحًا فقتلته فلم يشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ المهاجر بن أبي أمية أمير اليمن لأبي بكر أن امرأة هناك في الردة غنَّت بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع يدها ونزع ثنيتها، فبلغ ذلك أبا بكر فقال له: لولا فعلت هذا لأمرتك بقتلها؛ لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هجت امرأة من خطمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "من لي بها؟ " فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله فنهض فقتلها وأخبره، فقال:"لا ينتطح فيها عنزان". وعن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزجرها فلا (تنزجر)
(1)
فلما كانت ذات ليلة فقتلها وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأهدر دمها، أخرجه أبو داود والنسائي
(2)
.
وفي حديث أبي برزة الأسلمي: كنت يومًا جالسًا عند أبي بكر فغضب على رجل من المسلمين، وحكى القاضي إسماعيل وغيره من الأئمة في هذا الحديث أنه سب أبا بكر، ورواه النسائي وأبو داود من حديث يزيد بن رافع، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبي برزة: أتيت أبا بكر رضي الله عنه وقد أغلظ لرجل فرده عليه قال: فقلت يا خليفة رسول الله دعني أضرب عنقه فقال: اجلس فليس ذاك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
. ولابن حزم: فقال أبو بكر:
(1)
في (ص 1): ترجع.
(2)
أبو داود (4361)، والنسائي 7/ 107 - 108.
(3)
أبو داود (4363)، والنسائي 7/ 110.
ليس هذا إلا لمن شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
. وأخرجه الحاكم في "مستدركه" أيضًا
(2)
، قال القاضي أبو بكر محمد بن نصر: ولم يخالف عليه أحد، واستدل الأئمة بهذا الحديث على قتل من أغضب النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما أغضبه أو آذاه أو سبه، ومن ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة وقد استشاره في قتل رجل سب عمر، فكتب إليه عمر أنه لا يحل قتل امرئ مسلم يسب أحدًا من الناس إلا رجلاً سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن سبه فقد حل دمه، زاد ابن حزم: والذي نفسي بيده لو قتلته لأقتلنك به، ولو قطعته لقطعتك به، ولو جلدته أقدته منك، وإذا جاءك كتابي فسبه كالذي سبني واعف عنه
(3)
.
وقال مالك: من شتم الأنبياء قتل
(4)
. فإن قلت: لما لم يقتل اليهودي الذي قال له: السام عليك، وهذا دعاء عليه، قلت: سلف الجواب عنه من كلام الطحاوي.
وقال عياض: قيل له هذا كان أول الإسلام، والشارع كان في أوله يتألف على الإسلام الناس، ويميل قلوبهم إليه، ويحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم ويدارئهم، ويقول (لأصحابه:"إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"
(5)
ويقول)
(6)
: "يسروا ولا تعسروا"
(7)
.
(1)
"المحلى" 11/ 410.
(2)
"المستدرك" 4/ 355.
(3)
"المحلى" 11/ 410.
(4)
انظر: "النوادر والزيادات" 14/ 527.
(5)
سلف برقم (220) كتاب: الوضوء، باب: صب الماء على البول في المسجد.
(6)
من (ص 1).
(7)
سلف برقم (69) كتاب: العلم، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، ورواه مسلم برقم (1732) كتاب: الجهاد والسير، باب: في الأمر بالتيسير وترك التنفير.
فلما استقر الإسلام وأظهره الله على الدين كله قتل من قدر عليه، حتى ألقوا بأيديهم ولقوه مسلمين وبواطن المنافقين مستترة وحكمه على الظاهر، وأكثر تلك الكلمات إنما كان يقولها القائل (منهم)
(1)
خفية أو مع أمثاله وينكرونها ويحلفون عليها حتى فاء كثير منهم باطنا
(2)
. وذكر ابن حزم أن قول القائل: فإن هذِه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى
(3)
، كان في خيبر
(4)
وهو كان قبل أن يأمر الله تعالى نبيه بقتل المرتدين، وكذا حديث النبي الذي أدماه قومه
(5)
.
وقوله: "لا يعلمون" يعني: بنبوته، وقال بعض أئمتنا: ولعله لم يثبت عنده عليه السلام من أقوالهم ما رفع إليه، وإنما نقله الواحد من لم يصل (رتبة)
(6)
الشهادة في هذا الباب من صبي أو عبد أو امرأة، والدماء لا تستباح إلا بعدلين، وعلى هذا يحمل أمر اليهودي في (السام)
(7)
وإنهم لووا به ألسنتهم ولم يبينوه، ألا ترى كيف نبهت عليه عائشة رضي الله عنها، ولو كان صرح بذلك لم تنفرد بعلمه، ولهذا نبه الشارع على فعلهم وقلة صدقهم في سلامهم وخيانتهم في ذلك ليًّا بألسنتهم وطعنًا في الدين
(8)
، أو لعله رأى أنه ليس بصريح سب
(1)
من (ص 1).
(2)
"الشفا" 2/ 225 - 226.
(3)
سلف برقم (3150) كتاب: فرض الخمس، باب: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم ..
(4)
ورد بهامش الأصل: لعله حنين.
(5)
"المحلى" 11/ 411.
(6)
من (ص 1)، وفي الأصل: في.
(7)
كذا في الأصل، وفي (ص 1): السلام.
(8)
"الشفا" 2/ 226 - 227.
ولا دعاء إلا بما لا بد له منه من الموت الذي لا بد من لحاقه لجميع البشر، وقيل: بل المراد: يسأمون دينكم، والسأم والسآمة: الملال، وهذا دعاء على سآمة الدين ليس بصريح سب كما ترجمه البخاري.
وقال بعض علمائنا: ليس هذا بتعريض بالسب إنما هو تعريض بالأذى، وقد تقدم أن الإيذاء والسب في حقه عليه السلام سواء.
قال أبو محمد بن نصر: ولم يذكر في هذا الحديث هل كان هذا اليهودي من أهل العهد والذمة أو الحرب، ولا يترك موجب الأدلة للأمر المحتمل، والأولى من ذلك كله والأظهر من هذِه الوجوه مقصد الاستئلاف لعلهم يؤمنون، ولذلك ترجم البخاري بعد هذا على حديث القسمة المتقدم في الغزوات باب؛ من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس عنه. فإن قلت: قد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لله
(1)
.
فاعلم أن هذا لا يقتضي أنه لا ينتقم ممن سبه أو آذاه أو كذبه، فإن هذِه من حرمات الله التي انتقم لها، وإنما يكون ما لا ينتقم له منه فيما لا يتعلق بسوء أدب مما لم يقصد فاعله أذاه، لكن مما جبلت عليه الأعراب من الجفاء والجهل أو جبل عليه البشر من الغفلة كجبذ الأعرابي، وكرفع صوت الآخر عنده، وكما كان من تظاهر زوجيه عليه، وأشباه هذا مما يحسن الصفح عنه، أو يكون هذا مما آذاه به كافر، رجا بعد ذلك إسلامه، كعفوه عن اليهودي الذي سحره -قلت:
(1)
سلف برقم (3560) كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه مسلم (2327) كتاب: الفضائل، باب: مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام
…
لكنه لم يسلم- وعن الأعرابي الذي أراد قتله، وعن اليهودية التي سمته
(1)
.
وذكر ابن حزم: أن اليهودية واليهودي والسحر كان يتعين قبل نزول سورة براءة، فهو منسوخ ولا يحل العمل بمنسوخ البتة
(2)
.
قال عياض: وأما من قال شيئًا من ذلك غير قاصد السب والإيذاء ولا معتقده، ولكنه تكلم بذلك جهلًا أو لضجر أو سكر اضطره إليه أو قلة ضبط لسانه وعجرفة وتهور في كلامه، فحكمه حكم الوجه الأول القتل دون تلعثم إذ لا يعذر أحد في الكفر لجهالة ولا لشيء مما ذكرناه إذا كان عقله في فطرته سليمًا، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان
(3)
، قال محمد بن سحنون: المأسور يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيدي العدو يقتل إلا أنه يعلم تبصره أو إكراهه، وعن ابن أبي زيد: لا يعذر بدعوى زلل اللسان في مثل هذا.
وأفتى القابسي فيمن شتم الشارع في سكره بأنه يقتل؛ لأنه يظن به أن يعتقد هذا ويفعله في صحوه، وأيضًا فإنه حد لا يسقطه السكر كالقذف والقتل وسائر الحدود؛ لأنه أدخله على نفسه؛ لأن من شرب الخمر على علم من زوال عقله بها وإتيان ما ينكر منه، فهو كالعامد لما يكون بسببه، ولهذا ألزمناه الطلاق والعتاق والقصاص والحدود
(4)
.
وقد اختلف أئمتنا في رجل أغضبه رجل فقيل له: صل على محمد النبي، فقال: لا صلى الله على من صلى عليه، فقيل لسحنون: هو كمن
(1)
"الشفا" 229 - 230.
(2)
"المحلى" 11/ 417.
(3)
"الشفا" 2/ 231.
(4)
المصدر السابق 2/ 232.
شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو شتم الملائكة الذين يصلون عليه، قال: لا، إذا كان على وصف من الغضب؛ لأنه لم يكن مضمرًا الشتم
(1)
.
وقال أصبغ وأبو إسحاق البرقي: لا يقتل؛ لأنه إنما شتم الناس
(2)
، وهذا نحو قول سحنون؛ لأنه لم يعذره بالغضب في شتمه عليه السلام، ولكنه لما احتمل الكلام عنده ولم يكن معه قرينة تدل على (شتمه الشارع ولا الملائكة ولا ثم مقدمة يحمل عليها كلامه، بل القرينة تدل على)
(3)
أن مراده الناس غير هؤلاء، وذهب الحارث بن مسكين القاضي وغيره في مثل هذا إلى القتل
(4)
. وعبارة ابن حزم: أصحابنا توقفوا في كفر من سب النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين.
وقالت طائفة: إنه ليس كفرًا، روينا عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى برجل قذف داود بالزنا إلا جلدته حدين
(5)
.
فصل:
ومن سب أحدًا من الصحابة جلد، وإن سب عائشة رضي الله عنها قتل، كما ذكره في "الزاهي" عن مالك قال: لقوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17] فمن عاد لمثله كفر، ومن كفر قتل، (قال)
(6)
: وفي سب أمهات المؤمنين غير عائشة قولان: أحدهما: يقتل؛ لأنه سب النبي صلى الله عليه وسلم بسبه الحليلة. والثاني: أنها كالصحابي يحد
(1)
المصدر السابق 2/ 235.
(2)
"النوادر والزيادات" 14/ 529 - 530.
(3)
من (ص 1).
(4)
"الشفا" 2/ 235.
(5)
"المحلى" 11/ 409.
(6)
من (ص 1).
حد المفتري. قال: ومن قال لواحد منهم هو ابن زانية وأمه مسلمة حُد عند بعض أصحابنا حدين، حدًّا له بسبه أمه، وحدًّا لها لإيمانها.
وقيل: من سب عائشة رضي الله عنها بما في القرآن براءتها منه فهو كفر، وإن سبها بخلافه فلا.
فصل:
وقوله عليه السلام لعائشة رضي الله عنها: "إن الله رفيق يحب الرفق" قال الشيخ أبو الحسن بن القابسي: لم يقع في كل حديث، ويجب إثبات هذا الاسم لهذا الحديث لصحته؛ إذ الأسماء لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة والإجماع.
واختلف الأصوليون هل تدخل الأسماء قياسًا مثل سيد وعارف؟
فصل:
رده عليه السلام على اليهود: "وعليكم" رواه أنس رضي الله عنه بالواو ورواية عائشة: "بل عليكم"، وفي رواية ابن عمر:"عليك"، وفي لفظ:"عليكم" بغير واو.
وقال ابن أبي حبيب: لم يقل وعليك؛ لأنه إذا قلتها حققت على نفسك ما قال، ثم أشركته معك فيه، ولكن عليك كأنه رد عليه.
والقاضي أبو محمد يقول: الراد: وعليكم
(1)
بالواو.
وقال الشيخ أبو محمد في "رسالته": ومن قال عليك السلام بكسر السين: وهي الحجارة فقد قيل ذلك.
وذكر عن ابن طاوس: يرد عليهم: علاك السام، أي: ارتفع عليك، والسام: الموت.
(1)
"المعونة" 2/ 570.
واختلف هل يرد عليهم السلام؟ فأباه أكثر العلماء وسمح فيه بعضهم
(1)
.
واختلف هل يبدءون؟ فمنعه الأكثر وأجازه بعضهم إذا كنت مفتقرًا إليه لحاجة
(2)
، وقد سلف كل ذلك في موضعه واضحًا.
(1)
انظر: "الآداب الشرعية" 1/ 389 - 390.
(2)
المصدر السابق 1/ 387 - 389.
6 - باب قَتْلِ الخَوَارِجِ وَالْمُلْحِدِينَ بَعْدَ إِقَامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]. وَكَانَ عبد الله ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللهِ، وَقَالَ: إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ.
6930 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا خَيْثَمَةُ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ: قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا فَوَاللهِ، لأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الحَرْبَ خَدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حُدَّاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [انظر: 3611 - مسلم: 1066 - فتح 12/ 283]
6931 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ فَسَأَلَاهُ عَنِ الحَرُورِيَّةِ: أَسَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟. قَالَ: لَا أَدْرِي مَا الحَرُورِيَّةُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ -وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا- قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ -أَوْ حَنَاجِرَهُمْ- يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ الرَّامِى إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ، فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ، هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَيْءٌ» [انظر:
3344 -
مسلم: 1064 - فتح 12/ 283]
6932 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -وَذَكَرَ الْحَرُورِيَّةَ- فَقَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . [فتح 12/ 283].
تبويب البخاري هذا معناه أنه لا يجب قتل خارجي ولا غيره إلا بعد الإعذار عليه، ودعوته إلى الحق وتبيين ما التبس عليه، فإن أبى من الرجوع إلى الحق وجب قتاله بدليل الآية المذكورة توجب التأسي به تعالى فيمن وجب قتاله أن يبين له وجه الصواب ويدعى إليه.
ثم ساق البخاري في الباب أحاديث.
والتعليق الذي ذكره عن ابن عمر رضي الله عنهما ذكر مسلم في "صحيحه" معناه مسندًا
(1)
، وفيه دليل على أنهم ليسوا بكفار؛ لأن الكافر لا يتأول كتاب الله بل يرده ويكذب به.
وفي كتاب "التبصير" للإسفراييني: كان (عبد الله بن عمرو)
(2)
وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وابن أبي أوفى وجابر وأنس بن مالك وأبي هريرة وعقبة بن عامر وأقرانهم يوصون إلى أخلافهم بأن لا يسلموا على القدرية ولا يعودوهم، ولا يصلوا خلفهم، ولا يصلوا عليهم إذا ماتوا
(3)
.
الحديث الأول:
حديث سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قال: قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم (حَدِيثًا)
(4)
فَوَاللهِ، لأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ
(1)
رواه مسلم من حديث أبي ذر مرفوعًا (1067) كتاب: الزكاة، باب: الخوارج شر الخلق والخليقة.
(2)
من (ص 1).
(3)
"التبصير في الدين" 1/ 21.
(4)
من (ص 1).
عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الحَرْبَ خَدْعَةٌ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أحُدَّاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
أخرجه البخاري عن عمر بن حفص، عن غياث، ثنا أبي، ثنا الأعمش، ثنا خيثمة، ثنا سويد به، وساقه في باب علامات النبوة عن محمد بن كثير، ثنا سفيان، عن الأعمش به
(1)
كما سلف هناك.
قال الإسماعيلي: خالف عيسى بن يونس فقال: عن الأعمش، حدثني عمرو بن مرة، عن خيثمة به. وهذا يبين أن في رواية البخاري انقطاعًا؛ لكنه صرح بالتحديث في خيثمة، فلعله سمعه من خيثمة مرة، ومرة من عمرو بن مرة، ووقع للدارقطني أن عيسى بن يونس رواه كرواية الجماعة وهو عجيب
(2)
.
قال الدارقطني: ورواه محمد بن طلحة عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن علي، ووهم فيه والصواب خيثمة، عن سويد ورواه أبو إسحاق السبيعي، واختلف عنه فرواه (إسرائيل)
(3)
عنه، عن قيس بن سويد، عن علي ووهم، ورواه يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق فضبطه عن أبي إسحاق، فقال عن أبي قيس الأودى، عن سويد، عن علي وهو الصواب
(4)
.
(1)
سلف برقم (3611) كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة ..
(2)
"العلل" 3/ 228.
(3)
في (ص 1): إسحاق.
(4)
"العلل" 3/ 228 - 229.
ولفظ إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن أبي قيس عند البزار:"قتالهم حق على كل مسلم".
وقال: رواه إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سويد، عن علي ولم يدخل إسرائيل بين أبي إسحاق وسويد أحدًا، وقد روي هذا المتن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه، رواه أبو سعيد وأبو هريرة وسهل بن حنيف وأبو بكرة
(1)
.
ثم ساق من حديث أبي بكرة من طريق عثمان الشحام، عن مسلم بن أبي بكرة، عن أبيه (مرفوعًا)
(2)
"سيخرج من أمتي أقوام أحداث الأسنان يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ألا إذا لقيتموهم فاقتلوهم ثم إذا لقيتموهم فاقتلوهم"
(3)
يعني: اقتلوهم ثم قال: هذا الحديث لا نعلم أحدًا يرويه عن أبي بكرة إلا بهذا الطريق، وقد روي هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه من وجوه بألفاظ مختلفة، وفي حديث أبي بكرة شيء ليس في حديث غيره، وفي لفظ: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان فقال: "إن هذا وأصحابه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يتعلقون بشيء من الدين" فقلنا: ألا نقتله؟ فقال: "لا"
(4)
.
وفي "سنن أبي داود" بإسناد جيد من حديث عبيدة، عن علي- رضي الله عنه مرفوعًا:"لولا أن تبطروا لنبأتكم ما وعد الله الذين يقتلونهم"
(5)
.
(1)
"مسند البزار" 2/ 187 - 189.
(2)
من (ص 1).
(3)
رواه أحمد 5/ 36، "المستدرك" 2/ 159.
(4)
رواه أحمد 5/ 42، والبزار كما في "كشف الأستار" 2/ 361.
(5)
أبو داود (4763)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(137).
وفي رواية: "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليست قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لاتَّكلوا عن العمل"
(1)
.
وفي "الشريعة" للآجري بإسناد جيد عن بكير، عن بسر، عن عبيد الله بن أبي رافع -مولى أم سلمة- عنه مرفوعًا أنه عليه السلام وصف أناسًا: "إني لأعرف صفتهم، يقولون الحق لا يجاوز تراقيهم (يمرقون)
(2)
هذا منهم -وأشار إلى حلقه- هم أبغض خلق الله إلى الله"
(3)
.
الحديث الثاني:
حديث أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ فَسَأَلَاهُ عَنِ الحَرُورِيَّةِ: أَسمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟. قَالَ: لَا أَدْرِي مَا الحَرُورِيَّةُ، سمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"يَخْرُجُ فِي هذِه الأمّةِ -وَلَمْ يَقُلْ مِنْهَا- قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلاِتهِمْ، يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِز حَنَاجِرَهُمْ -أَوْ- حُلُوقَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ الرَّامِي، إِلَى سَهْمِهِ، إِلَى نَصْلِهِ، إِلَى رِصَافِهِ، فَيَتَمَارى فِي الفُوقَةِ هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدَّمِ شَيْءٌ" وقد سلف.
(1)
رواه مسلم (1066/ 156) كتاب: الزكاة، باب: التحريض على قتل الخوارج.
(2)
من (ص 1).
(3)
"الشريعة" ص 30.
وله: "يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، والله لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"
(1)
.
ولمسلم "سيماهم التحليق هم شر الخلق أو من شر الخلق يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق"
(2)
.
وأخرجه أبو داود من حديث قتادة، عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك مرفوعًا "سيكون في أمتي اختلاف وفرقه، قوم يحسنون القول ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم، ثم لا يرجعون حتى يرتد على فرقة، فهم شر الخلق، والخليقة طوبى لمن قتلهم، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم" قالوا: يا رسول الله، ما سيماهم؟ قال:"التحليق"
(3)
.
وفي حديث قتادة، عن أنس رضي الله عنه نحوه:"سيماهم التحليق والتسبيد، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم"
(4)
.
قال أبو داود: التسبيد: استئصال الشعر.
ولابن ماجه: "يخرج قوم في آخر الزمان -أو في هذِه الأمة" وفيه: "إذا لقيتموهم أو رأيتموهم فاقتلوهم"
(5)
.
الحديث الثالث:
حديث ابن وَهْبٍ: حَدَّثَنِي عُمَرُ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ
(1)
سلف برقم (3344) كتاب أحاديث الأنبياء، باب:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}
(2)
مسلم (1065/ 149) كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وحفاتهم.
(3)
أبو داود (4765) وصححه الألباني في "صحيح الجامع"(3668).
(4)
أبو داود (4766) وفيه: "فإذا رأيتموهم فأنيموهم"، وابن ماجه (175).
(5)
ابن ماجه (175)، وصححه الألباني (8054).
-وَذَكَرَ الحَرُورِيَّةَ- فَقَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَمْرُقُونَ مِنَ الاسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ".
وعمر هذا هو ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أخو أبي بكر وعاصم وزيد وواقد، مدني عسقلاني اتفقا عليه، ولابن ماجه عنه مرفوعًا:"يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج قرن قُطع" قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلما خرج قرن قطع -أكثر من عشرين مرة- حتى يخرج في أعراضهم الدجال"
(1)
.
وفي الباب أحاديث غير من عددنا:
أولاً: حديث عمار أنه قال لسعد بن أبي وقاص: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم من أمتي يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية يقتلهم علي بن أبي طالب؟ " قال: نعم، ثلاث مرات. أخرج أبو القاسم الطبراني في "الأوسط"
(2)
.
وحديث جابر أخرجه مسلم وسلف في المغازي.
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان" الحديث أخرجه ابن ماجه
(3)
.
وحديث أبي ذر ورافع بن عمرو أخي الحكم الغفاري وابن عباس وأبي أمامة مرفوعًا مثل ذلك، وفي الأخير:"إنهم كلاب النار" ثلاثًا، للآجري مطولًا
(4)
.
(1)
ابن ماجه (174) وحسنه الألباني في "صحيح الجامع"(8171).
(2)
الطبراني في "الأوسط" 4/ 69 (3634)، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" 3/ 209: هذا حديث منكر.
(3)
ابن ماجه (168).
(4)
"الشريعة" ص 33 - 34 (57).
وله عن عائشة رضي الله عنها بإسناد فيه جهالة، وذكرت الخوارج: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنهم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي"
(1)
.
ولابن ماجه من حديث عبد الله بن أبي أوفي مرفوعًا: "الخوارج كلاب النار"
(2)
وحديث أبي برزة أخرجه النسائي، وفي أوله: فقام رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان، وقال: يا محمد ما عدلت في القسمة. وفي إسناده شريك بن شهاب، قال النسائي: ليس بالمشهور
(3)
، وأما ابن حبان فذكره في "ثقاته"
(4)
.
وفي "الكامل" للمبرد من حديث عبد الله بن عمر: "وعلامتهم ذو الخويصرة"، أو "ذو الخبيصرة"
(5)
، ويروى عن أبي صلى الله عليه وسلم أنه نظر إلى رجل ساجد إلى أن صلى فقال:"ألا رجل يقتله" فحسر أبو بكر عن ذراعيه وانتضى السيف وضمد نحوه، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أأقتل رجلاً يقول لا إله إلا الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يفعل" ففعل عمر مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قصد له عليٌّ فلم يره، فقال عليه السلام"لو قتل لكان أول فتنة أو آخرها"
(6)
.
فصل:
كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيًّا، سواء كان في زمن الصحابة أو بعدهم، كما نبه عليه الشهرستاني في "نحله"
(7)
.
(1)
السابق ص 32 (55).
(2)
ابن ماجه (173).
(3)
"سنن النسائي"(4103).
(4)
"الثقات" 4/ 360.
(5)
وفي "الكامل" ذو الخنيصرة 2/ 245.
(6)
رواه الحارث في "مسنده" كما في بغية الحارث ص 220 (701).
(7)
"الملل والنحل" ص 114.
والحرورية: هم الذين قال فيهم الشارع "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم" وهم المارقة الذين قال فيهم "سيخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين" إلى آخره، وأولهم ذو الخويصرة وآخرهم ذو الثدية وخروجهم قسمان: بدعتهم في الإمامة إذ جوزوها في غير قريش وكل من ينصبونه برأيهم، وهم أشد الناس قولًا بالقياس، وجوزوا ألا يكون في العالم إمام أصلاً، وإن احتيج إليهم فيجوز ولو عبدًا، وتخطيئهم عليًّا في التحكيم، وزادوا إلى الكفر واللعن وطعنوا على عثمان للأحداث التي عدوها، وطعنوا في أصحاب الجمل وصفين.
وقال الإسفرائيني في "تبصيره": يزعمون أن عليًّا وعثمان وأصحاب المل وصفين والحكمين وكل من رضي بالحكمين كفروا كلهم، وأن من أذنب ذنبًا من المسلمين فهو كافر ويخلد في النار، وهم عشرون فرقة.
وقال الآجري: لم يختلف العلماء قديمًا وحديثًا أن الخوارج قوم سوء عصاة لله ولرسوله، وهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون، وهم الشراة الأرجاس الأنجاس
(1)
.
وبإسنادنا إلى المبرد قال: جاء في الحديث أن عليًّا تلى بحضرته {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)} الآية [الكهف: 103]. فقال علي رضي الله عنه أهل حروراء منهم
(2)
، ويروى عن أبي الجلد أنه نظر إلى نافع بن الأزرق وإلى توغله وتعمقه، فقال: إني أجد لجهنم سبعة أبواب وأن أشدها حرًّا للخوارج فاحذر أن تكون منهم
(3)
.
(1)
"الشريعة" ص 23.
(2)
"الكامل في اللغة والأدب" 1/ 236.
(3)
المرجع السابق 1/ 246.
وقال الحسن بن أبي الحسن: دعاهم علي رضي الله عنه إلى دين الله: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} الآية [نوح: 7] فصار إليهم أبو الحسن فطحنهم طحنًا.
وعند عبد الرزاق، عن معمر، عن أبيه أن رجالًا سألوا ابن سيرين فقالوا: أتينا الحرورية زمان كذا وكذا، فإذا هم لا يسألون عن شيء غير أنهم يقتلون من لقوا، فقال ابن سيرين: ما علمت أن أحدًا كان يتحرج من قتل هؤلاء
(1)
.
فصل:
قام الإجماع على أن الخوارج إذا خرجوا على الإمام (العدل)
(2)
وشقوا عصى المسلمين ونصبوا راية الخلاف أن قتالهم واجب، وأن دماءهم هدر، وأنه لا يتبع مهزومهم ولا يجهز على جريحهم
(3)
.
قال مالك: فإن خيف منهم عودة أجهز على جريحهم وأتبع مدبرهم
(4)
، وإنما يقاتلون من أجل خروجهم علي الجماعة، والدليل على ذلك أنه عليه السلام إنما أذن في قتلهم عند خروجهم لقوله:"يخرج في آخر الزمان قوم سفهاء الأحلام" ثم قال: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم" فبان بذلك أنه لا سبيل للإمام على من كان يعتقد الخروج عليه أو يظهر ذلك بقول ما لم ينصب حربًا أو يخف سبيلاً، وهذا إجماع من سلف الأمة وخلفها، كما نبه عليه الطبري، وقد سئل الحسن
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 10/ 119 (18579).
(2)
من (ص 1).
(3)
"مراتب الاجماع" ص 209، "الإقناع" 3/ 1089.
(4)
انظر: "النوادر الزيادات" 14/ 539.
البصري عن رجل رأى رأي الخوارج فقال: العمل أملك بالناس من الرأي، إنما يجازي الله تعالى الناس بالأعمال.
قال الطبري: وهذا الذي قاله الحسن إنما هو فيما كان من رأي لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام، فأما الذي يخرج فإن الله تعالى أخبر أنه يحبط عمل صاحبه
(1)
.
فصل:
أسلفنا سبب تسميتهم خوارج، وأن سببه قوله عليه السلام:"سيخرج في آخر الزمان" وأول خارج خرج أهل النهروان، خرجوا على علي رضي الله عنه حين حكم الحكمين بينه وبين معاوية، وقالوا: لا حكم إلا لله، فقال علي رضي الله عنه كلمة حق أريد بها باطل. وشهدوا على علي بالكفر، وقالوا له: شككت في أمرك، وخلعت نفسك من الخلافة، وتركت قتال أهل البغي، فإن تبت رجعنا إليك، فناشدهم الله، واحتج عليهم ابن عباس بأن الله تعالى حكم في الصيد وفي رجل وامرأة، والحكم في الله فلم يبعها، ورد مدبرها أفضل، فقال ابن الكواء:(قتلهم)
(2)
الله، إنهم قوم خصمون.
فصل:
وأما قوله: "يمرقون من الدين" فالمروق عند أهل اللغة: الخروج، يقال: مرق من الدين مروقًا خرج ببدعة أو ضلالة، ومرق السهم من الغرض: إذا أصابه ثم نفذه، ومنه قيل للمرق: مرق لخروجه، ومرق السهم من الرمية، أي: المرمية، فعيلة بمعنى مفعولة، وجمهور
(1)
انظر: ابن بطال 8/ 585.
(2)
كذا في الأصل، وورد في الهامش: لعله أخبر.
العلماء على أنهم في خروجهم ذلك غير خارجين من جملة المؤمنين؛ لقوله عليه السلام: "فيتمارى في الفوق" لأن التماري: الشك، وإذا وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج الكُلِّي من الإسلام؛ لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يحكم له بالخروج منه إلا بيقين، وقد روي عن علي من غير طريق أنه سئل عن الخوارج من أهل النهروان أكفارٌ هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: المنافق لا يذكر الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: قوم ضل سعيهم وعموا عن الحق، بغوا علينا فقاتلناهم
(1)
.
وروى وكيع عن مسعر، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن علي رضي الله عنه قال: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك
(2)
.
فصل:
وقول ابن عمر رضي الله عنهما: (إنهم (انطلقوا)
(3)
إلى آيات في الكفار فجعلوها في المؤمنين) يدل أنهم ليسوا كفارًا كما أسلفناه.
قال أشهب: وقعت الفتنة والصحابة متوافرون، فلم يروا على من قاتل على تأويل القرآن قصاصًا في قتل ولا حد في وطء
(4)
، وبهذا قال مالك وابن القاسم. وخالف ذلك أصبغ، فقال: يقتل من قتل إن طلب ذلك وليه كاللص يتوب قبل أن يقدر عليه
(5)
. وهو مخالف لما ذكرناه عن الصحابة، وعن مالك وأصحابه.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 10/ 150 (18656).
(2)
"التمهيد" 23/ 337.
(3)
في (ص 1): (عمدوا).
(4)
ابن بطال 8/ 586، وفي "المدونة" القول لابن شهاب 1/ 409 - 410.
(5)
"النوادر والزيادات" 14/ 545.
فقال مالك: ما وجده أحد من ماله بعينه عندهم أخذه
(1)
، وهو قول الكوفيين والأوزاعي والشافعي
(2)
، وقد روي عن بعض أهل الكلام وأهل الحديث أن أهل البدع كفار ببدعهم، وهو قول أحمد
(3)
، وأئمة الفتوى بالأمصار على خلاف هذا، وروي عن مالك التكفير فيمن يقول بخلق القرآن، فإن احتج من كفرهم بحديث أبي سعيد:"يخرج في هذِه الأمة" ولم يقل: منها، وهو دليل على أنهم ليسوا من جملة المؤمنين، وقد تقدم:"إن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"، فيقال لهم: وقد روي في حديث أبي سعيد أنه عليه السلام قال: "يخرج من أمتي" وقد أسلفناه، وساقه ابن بطال من حديث مجالد عن أبي الوداك عنه
(4)
، وحديث أبي ذر "إن بعدي من أمتي" وحديث ابن عباس "ليقرأن القرآن ناس من أمتي ثم يمرقون"، وحديث عائشة:"هم شرار أمتي" وقوله: "قتل عاد" هو بالرفع على الأكثر، أي: مثل قتلهم، وروي بالفتح أي: على مثل قتلهم، وقتلهم إنما كان على الكفر.
فصل:
روينا في كتاب أبي جعفر القابسي في المنام الذي رأى به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه قلت: يا رسول الله، الخبر الذي رواه كعب بن مالك وأبو أمامة وأنس أن أمتك تفترق على ثلاث وسبعين فرقة. قال: بلى، ستفترق أمتي كل هذِه الفرق، وستدركهم رحمة الله وشفاعتي.
(1)
"المدونة" 1/ 407.
(2)
"مختصر اختلاف العلماء" 3/ 520، "الإشراف" 3/ 356.
(3)
"المغني" 12/ 256.
(4)
"شرح ابن بطال" 8/ 586.
ثم إن الأصل الذي أصلوه بأن يرجع الابتداع إلى أربعة مذاهب: الخوارج والشيعة والاعتزال والإرجاء، وكل واحد منهم على ثمانية عشر صنفًا، والابتداع كثير وكله داخل في:(رحمة الله وشفاعتي).
قلت: فمن قال إن الله جسم؟ فقال: إنه لم يرد بذلك تشبيهًا إنما أراد إثباتًا. فقلت القدرية؟ فقال: إنهم لا يريدون
(1)
بذلك نفي القدرة إنما أرادوا انتساب المعصية إلى أنفسهم، قلت: فالخوارج؟ قال: هم قوم وقعوا في الظلمة وهؤلاء كلهم من صدق الله وصدقني فيما بلغت، ويعادون أعداء الإسلام، ويوالون أولياءه، ويعلمون أن الله واحد وأني رسوله وأنهم مبعوثون بعد موتهم، ويجزون بأعمالهم، داخلون في رحمة الله وشفاعتي.
قلت: فحديث العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"ليذادن عن حوضي رجال؟ "
(2)
. فقال: هم قوم من مؤلفة القلوب لما مت طابقوا المنافقين فشكوا وارتدوا، وكانوا قبل الإسلام زنادقة، فلما فارقتهم رجعوا إلى دينهم وليس لهؤلاء في رحمة الله ولا في شفاعتي نصيب.
فصل:
وأما أهل الأهواء الذين على الإسلام مثل الإباضية والقدرية وشبههما ممن هو على خلاف ما عليه جماعة المسلمين من البدع والتحريف بتأويل كتاب الله، فإنهم يستتابون أظهروا ذلك أم أسروه، فإن تابوا وإلا قتلوا، وبذلك عمل عمر بن عبد العزيز
(3)
، ومن قتل منهم فميراثه لورثته؛ لأنهم مسلمون، وهذا إجماع وإنما قتلوا لرأيهم السوء.
(1)
في الأصل: (يرون)، والمثبت من (ص 1).
(2)
مسلم (249) كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة.
(3)
"الموطأ" 2/ 900 (1597)، "سنن البيهقي الكبرى"10/ 25 (20672).
وذكر ابن المنذر، عن الشافعي أنه لا يستتاب القدري وذم الكلام ذمًّا (شديدًا)
(1)
، وقال؛ لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء
(2)
. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا أعرض أحدًا من أهل الأهواء على السيف إلا الجهمية؛ فإنهم يقولون قولًا منكرًا.
وسئل سحنون عن قول مالك في أهل الأهواء لا يصلى عليهم، فقال: لا أرى ذلك ويصلى عليهم
(3)
. ومن قال لا يصلى عليهم كفَّرهم بذنوبهم، وإنما قاله مالك أدبًا لهم، قيل له: فيستتابون، فإن تاب وإلا قتل له كما قال مالك، قال: أما من كان بين أظهرنا فلا يقتل، وإنما يضرب مرة بعد أخرى ويحبس وينهى الناس عن مجالسته والسلام عليه تأديبًا له كما فعل عمر رضي الله عنه بصبيغ، حكي عنه بعد أدبه، ونهى الناس عنه
(4)
، فقد مضت السنة فيمن لم يتب من عمر ومضت فيمن تاب من أبي بكر، قيل له: فهؤلاء الذين نصبوا الحرب وماتوا عن الجماعة وقتلهم الإمام هل يصلى عليهم؟ قال: نعم، وهم من المسلمين، وليس بذنوبهم التي استوجبوا بها القتل ترك الصلاة عليهم، ألا ترى أن المحصن الزاني والمحارب والقاتل عمدًا قد وجمب عليهم القتل ولا تترك الصلاة عليهم، قيل له: فما تقول في الصلاة خلف أهل البدع؟ قال: لا تعاد في وقت ولا بعده، وبذلك يقول أصحاب مالك أشهب والمغيرة وغيرهما، وإنما يعيد من صلى
(1)
من (ص 1).
(2)
"الإشراف" 3/ 169.
(3)
"النوادر والزيادات" 14/ 540 - 541.
(4)
"النوادر والزيادات" 14/ 540، 541، 1/ 613.
خلف نصراني وهو مسلم، فكما تجوز صلاته لنفسه كذلك تجوز لغيره إذا صلى خلفه، بخلاف النصراني، ومن يوجب الإعادة أبدًا أنزله منزلة النصراني وركب قياس قول الإباضية والحرورية الذين يكفرون الناس بالذنوب
(1)
، وقد أسلفنا في كتاب الصلاة في باب: إمامة المفتون والمبتدع الاختلاف في الصلاة خلفهم.
فصل:
واختلفوا في (نفوذ)
(2)
شهادتهم فردها مالك
(3)
وأحمد وإسحاق
(4)
.
قال أبو هريرة: القدرية نصارى هذِه الأمة ومجوسها، وقال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي وأبو حنيفة: يجوز شهادة أهل الأهواء الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة إذا لم يستحل الشاهد منهم شهادة الزور
(5)
.
قال الشافعي: لا أرد شهادة أحد بشيء من التأويل له وجه يحتمله، إلا أن يكون منهم الرجل بائن المخالفة تباين العدو فأرده من جهة العداوة، قال: وشهادة من يرى إنفاذ الوعيد خير من شهادة من يستخف بالذنوب.
وأما ابن المنذر فذكر، عن شريك أنه لا تجوز شهادة أهل الأهواء وعدد من ذكرنا، قال: وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور قال: وقال أبو عبيد: البدع والأهواء كلها نوع واحد في الضلال كما قال
(1)
"النوادر والزيادات" 14/ 541.
(2)
في (ص 1). (رد).
(3)
"النوادر والزيادات" 8/ 292.
(4)
انظر: "المغني" 12/ 257.
(5)
"الاستذكار" 26/ 104.
ابن مسعود في حديثه: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"
(1)
فلا أرى لأحد منهم شهادة إذا ظهر فيها غلوه، وميله عن السنة للآثار المتواترة، ألا ترى إلى قول سعد في الخوارج فأولئك قوم زاغوا فأزاغ اللهُ قُلُوبَهُمْ وقال عليه السلام فيهم "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، وقال حذيفة: الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل فلا حظ لهم في الإسلام، وقال أبو حنيفة: كل من نسب إلى هوى يعرف بالمجانة والفسق فأرده للمجانة التي ظهرت فيه
(2)
.
فصل:
وقول علي رضي الله عنه: (فإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة).
قال ذلك في وقت قتاله للخوارج، معناه: أن المعاريض جائزة على ما جاء عن (عمر)
(3)
رضي الله عنه أنه قال: في المعاريض مندوحة عن الكذب
(4)
، وليس في هذا جواز إباحة الكذب الذي هو خلاف الحق؛ لأن ذلك منهي عنه في الكتاب والسنة، وإنما رخص في الحرب وغيره في المعاريض فقط؛ لأنه عليه السلام قال:"وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار"
(5)
، وقد سلف في الصلح في باب ليس بالكاذب الذي يصلح بين الناس
(6)
، مذاهب العلماء فيما يجوز من الكذب وما لا يجوز، وسلف شيء منه في باب الكذب في
(1)
النسائي 3/ 188.
(2)
انظر: "المغني" 14/ 148 - 149.
(3)
كذا بالأصول، وفي مصادر التخريج: عمران بن حصين.
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 283 (26087) من حديث عمران بن حصين.
(5)
سلف برقم (6094) ورواه مسلم (2607) من حديث عبد الله بن مسعود، وهذا اللفظ لمسلم.
(6)
سلف برقم (2692).
الحرب والجهاد
(1)
، وشيء في باب المعاريض مندوحة عن الكذب في كتاب الأدب
(2)
بما يقتضيه التبويب.
فصل:
ومعنى الحرب خدعة أي: ينقضي أمرها بخدعة واحدة، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، ويروى: بالضم وفيه الكسر أيضًا.
وقوله: ("في آخر الزمان") يعني: زمن الصحابة، قاله ابن التين.
وقوله: ("أحداث الأسنان") أي: شباب، يقال: رجل حدث، فإن ذكرت السن قلت: حديث السن، وجمع حديث حداث ككريم وكرام.
قال ابن التين: ورويناه بضم الحاء وتشديد الدال.
وقوله: ("سفهاء الأحلام") أي: عقولهم رديئة، قال الداودي:(ويقول)
(3)
أمثالهم سفهاء.
وقوله: ("يقولون من خير قول البرية")، أي: يحسنون القراءة ويحرفون في التأويل.
قال الجوهري: والحنجرة: الحلقوم
(4)
، وقال الداودي: هي في الحلق عند المذبح، والمعنى: أنهم لما تأولوا القرآن على غير تأويله لم يرتفع إلى الله ولا أثابهم عليه، إذ كانت أعمالهم لهم مخالفة لسفك دماء من حرم الله دمه وأخافهم سبيله، ويشهد لهذا قوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الآية [فاطر: 10]، فبان بهذا أن الكلم الطيب
(1)
سلف برقم (3031) كتاب: الجهاد والسير.
(2)
سلف برقم (6209).
(3)
من (ص 1).
(4)
"الصحاح" 2/ 624.
إنما يصعد إلى الله إذا صحبه عمل صالح يرفعه، ومتى لم يصحبه عمل لم يثب قائله ولا كان له في قوله غير العناء، وهذا يدل على أن الإيمان: قول وعمل.
فصل:
الحرورية، بفتح الحاء وضم الراء: منسوبون إلى قرية كانت أول مجتمعهم وتعاقدهم بها، ومنها حكموا وهي تمد وتقصر، والنصل: حديدة السهم، والرصاف: العقب الذي فوق مدخل السهم، كذا في ابن بطال
(1)
.
وعبارة ابن التين: إنه العصب يشد فوق مدخل العقب، (وعبارة الأحداني)
(2)
: العقب الذي فوق الرعط، والرعط: مدخل النصل في السهم، وقال الداودي: إنه ما قارب الحديد من العود، وقيل: هو الأنبوب، وهو بضم الراء وكسرها.
قال ابن التين: رويناه بهما جميعًا، وقال ابن سيده في "مخصصه" أبو عبيد: واحده رصفة، ابن السكيت: رصفته، أرصفه رصفًا، وشددت عليه الرصاف، أبو حنيفة: رصفه ورصفة، والجمع رصف ورصاف وأرصاف، وهي عقبة تشد على حمالة القوس العربية إلى عجسها
(3)
.
وفي "المحكم": هو العقب الذي يلوى فوق رعظ السهم إذا انكسر، وأما قول الشاعر:
(معابل)
(4)
غير أرصاف ولكن
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 590.
(2)
من (ص 1).
(3)
"المخصص" 3/ 61.
(4)
في الأصل: معالم، والمثبت من "لسان العرب".
لمصدر، وجمع رصفة علي رصف كشجرة وشجر، ثم جمع رصف علي أرصاف كأشجار، وأراد ظهار ريش أسود وهي الرصافة، وجمعها رصاف، والأرصفة والرصفة، وأرى أبا حنيفة جعل الرصاف واحدًا
(1)
، وفي "الجامع": الواحد رصافة.
فصل:
والفوق من السهم: موضع الوتر من السهم، وهما فوقان، قال في "المخصص ": وجمعه أفواق وفوق، وفوقة بكسر الفاء وفتحها مقلوب.
وعن أبي حنيفة: فوق وفوقة قال: وقيل: إن الفوق جمع فوقة، والقفا جمع قفوة، وقد يجعل الفوق واحدًا والجمع أفواقًا
(2)
، وقال في "المحكم": أقفت السهم وأوقفته ووقفت به كلاهما على القلب: وضعته في الوتر للرمي به
(3)
.
وفي "الجامع": الفوق من السهم: رأس السهم حيث يقع الوتر.
فصل:
وقوله ("ويتمارى في الفوقة: هل علق بها من الدم شيء؟ ") هو بكسر اللام من علق.
(1)
"المحكم" 8/ 205.
(2)
"المخصص" 2/ 35.
(3)
"المحكم" 8/ 205.
7 - باب مَنْ تَرَكَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ لِلتَّأَلُّفِ، وَأَنْ لَا يَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُ
6933 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ جَاءَ عَبْدُ اللهِ بْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟» . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ: «دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ فِي قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، يُنْظَرُ فِي نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي نَضِيِّهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ إِحْدَى يَدَيْهِ -أَوْ قَالَ: ثَدْيَيْهِ- مِثْلُ ثَدْيِ المَرْأَةِ -أَوْ قَالَ: مِثْلُ البَضْعَةِ- تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ» . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا قَتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، جِيءَ بِالرَّجُلِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَنَزَلَتْ فِيهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58]. [انظر: 3344 - مسلم: 1064 - فتح 12/ 290].
6934 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا يُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: قُلْتُ لِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الْخَوَارِجِ شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ -وَأَهْوَى بِيَدِهِ قِبَلَ العِرَاقِ-: «يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ» . [مسلم: 1068 - فتح 12/ 290].
ذكر فيه حديث أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ جَاءَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ ذِي الخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ: اعْدِلْ
…
الحديث، سلف بطوله في باب: علامات النبوة.
وقال هنا: "يُنْظَرُ فِي قُذَذه فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ" إلى آخر الحديث.
وحديث الشيباني -وهو أبو إسحاق الشيباني سليمان- ثَنَا يُسَيْرُ بْنُ عَمْرو -ويقال: بالهمز بدل الياء- المحاربي، قَالَ: قُلْتُ لِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الخَوَارجِ شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ -وَأَهْوى بِيَدِهِ قِبَلَ العِرَاقِ-: "يَخْرُجُ مِنْهُ قَوْم يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ".
واعترض الإسماعيلي فقال: الحديث الأول إنما هو في ترك القتل لا القتال المنفرد الذي لا يُقَاتِل كيف يُقَاتَل؟ فإذا أظهروا رأيهم ونصبوا للقتال فقتالهم حينئذٍ واجب، وإنما ترك قتل ذي الخويصرة؛ لأنه لم يكن أظهر ما قد يستدل بمثله على ما رواه؛ لأن قتل من يظهر عند الناس العبادة والصلاح قبل استحكام أمر الإسلام ورسوخه في قلوب الأبعدين منفر لهم عن الدخول في الإسلام، وكذا قال الداودي.
قوله: (باب: من ترك). ليس بشيء، لم يكن له فيه يومئذ مقاتل. ولو قال: لم يقتل لأصاب، وتسميته إياهم من الخوارج لم يكن يومئذٍ هذا الاسم، إنما سموا به لخروجهم على علي رضي الله عنه.
وقال ابن بطال: لا يجوز ترك قتال من خرج على الأمة وشق عصاها، وأما ذو الخويصرة فإنما ترك الشارع قتله؛ لأنه عذره لجهله، وأخبر أنه من قوم يخرجون ويمرقون من الدين، فإذا خرجوا وجب قتالهم
(1)
.
(1)
"شرح ابن بطال" 8/ 591.
وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام لم يكن ينتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله
(1)
، وكان يعرض عن الجاهلين.
وقد وصف الله تعالى كرم خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].
قال المهلب: والتآلف إنما كان في أول الإسلام؛ لحاجتهم إليه، أما إذ أعلى الله الإسلام ورفعه على غيره، فلا يجب التآلف إلا أن تنزل (بالمسلمين)
(2)
ضرورة يحتاج فيها إلى التآلف فللإمام ذلك.
فصل:
و (الرمية): الطريدة المرمية، فعيلة بمعنى مفعوله، يقال: شاة رمي إذا رميت، ويقال: بئس الرمية الأرنب. فتدخل الهاء كما ذكره ابن بطال
(3)
، وهي عبارة الأصمعي قال: هي الطريدة التي يرميها الصائد: وهي كل دابة مرمية.
قال ابن سيده: يذهب إلى أن الهاء غالبًا إنما تكون للإشعار بأن الفعل لم يقع بعد بالمفعول، وكذلك يقولون: هذِه ذبيحتك. للشاة التي لم تذبح بعد كالضحية، فإن وقع عليها الفعل فهي ذبيح
(4)
.
وفي "الصحاح": إنما جاءت الهاء لأنها صارت في عداد الأسماء، وليس هو على رميت فهي مرمية، وعدل به إلى فعيل
(5)
.
(1)
سلف برقم (3560).
(2)
في (ص 1): بالناس.
(3)
"شرح ابن بطال" 8/ 592.
(4)
"المخصص" 2/ 291.
(5)
" الصحاح" 6/ 2362، مادة:(رمي).
وفي "الجامع" للقزاز: الرمية ما رميت به من قسي. هكذا يقال مذكرًا كان أو مؤنثًا، فإذا بينته قلت: ظبية رمية، ونسر رمي، فيذكر مع اسم المذكر ويؤنث مع اسم المؤنث.
و (القذذ): ريش السهم، كل واحدة قذة، وقال ثابت: قذتا الجناحين جانباه.
قال أبو حاتم: القذتان: الأذنان. وعبارة ابن التين: القذذ: الريش، وهو جمع قذة: وهي الريشة، وأصل القذة: قطع أطراف الريش على مثال القذة.
وقال الداودي: القذذ عند الريش.
فصل:
والنضي بفتح النون وكسر الضاد
(1)
على مثال فعيل -كذا رويناه- وحكي كسر النون: وهو القدح قبل أن ينحت، قاله الأصمعي، وهو موافق للحديث؛ لأنه ذكر النصل قبل النضي في الحديث، وقال أبو عمرو الشيباني: هو أصل السهم، ويرده ما ذكرناه.
وفي "الصحاح": هو ما بين الريش والنصل
(2)
. وعبارته ما قارب الريش من العود، وقيل: إنه العود الذي عند أصل الأنبوبة، وتنضى أي: تخلع وتقرع.
وقوله: ("سبق الفرث والدم") يعني: أنه مر سريعًا في الرمية، وخرج لم يعلق به من الفرث والدم شيء، فشبه خروجهم من الدم ولم يتعلق منه شيء.، بخروج ذلك السهم.
(1)
ورد في هامش الأصل: حاشية: يعني المعجمة.
(2)
"الصحاح" 6/ 2511.
وقوله: ("تدردر") يعني: تضطرب تذهب وتجيء، ومثله: تذبذب وتقلقل وتزلزل قال الخطابي: ومنه: دردر الماء
(1)
. قلت: وأصل تدردر تتدردر، فحذفت إحدى التائين، أي: زحزح يجيء ويذهب. والثدي يذكر ويؤنث للمرأة والرجل، (قاله الجوهري
(2)
.
وقال ابن فارس: هو للمرأة، والجمع)
(3)
: ثدى.
قال: وثندؤة الرجل كثدي المرأة، وهو مهموز إذا ضم أوله، فإذا فتح لم يهمز، ويقال: هو طرف الثدي
(4)
.
فصل:
وقوله: ("على حين فرقة") قد أسلفنا هناك أنه روي بالنون، وبالخاء المعجمة والراء.
قال ابن التين: رويناه بالحاء المهملة وبالنون.
وضم الفاء من فرقة، أي: افتراق.
قال الداودي: يعني ما كان يوم صفين، وروي بالمعجمة، وكان النعتان جميعًا قال: ويحتمل أن يقولهما.
فصل:
وقول عمر رضي الله عنه: (دعني أضرب عنقه) ولم ينكر الشارع عليه، فيه دليل أن قتله مباح فإن إبقاءه جائز لعلة. وبقيت فوائد أسلفناها هناك.
(1)
"غريب الحديث" 1/ 379.
(2)
"الصحاح" 6/ 2291.
(3)
من (ص 1).
(4)
"مجمل اللغة" 1/ 157.
8 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ»
6935 -
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ» . [انظر: 85 - مسلم: 157 - فتح 12/ 302]
ثم ساقه كذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
فيه: إخبار عن المغيبات بحدوث الفتنة وقتال المسلمين بعضهم لبعض، وذلك من أعلام نبوته، ومعنى دعواهما: دينهما أو دعواهما في الحق عند أنفسهما واجتهادهما، ويقتل بعضهم بعضًا. وقد جاء في الكتاب والسنة الأمر بقتال الفئة الباغية إذا تبين بغيها، قال الله تعالى {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} [الحجرات: 9].
قال ابن أبي زيد: قال من لقينا من العلماء: معنى ذلك إذا بغت قبيلة على قبيلة فقاتلتها حمية وعصبية وفخرًا بالأنساب وغير ذلك من الثائرة رغبة عن حكم الإسلام، فعلى الإمام أن يفرق جماعتهم، فإن لم يقدر فليقاتل من تبين له ظلمه لصاحبه، وحلت دماؤهم حتى يقهروا، فإن تحققت الهزيمة عليهم وأيس من عودتهم فلا يقتل منهزمهم ولا يجار على جريحهم، وإن لم تتحقق الهزيمة ولا يؤمن رجوعهم فلا بأس بذلك ولا بأن يقتل الرجل في القتال معه أخاه، وذا قرابته وجده لأبيه وأمه، فأما الأب فلا.
وقال أصبغ: يقتل أباه وأخاه ولا تصاب أموالهم ولا حرمهم، فإن قدر على كف الطائفتين وترك القتال فلكل فريق طلب (الفريق)
(1)
الآخر
(1)
من (ص 1).
بما جرى بينهم في ذلك من دم ومال، ولا يهدر شيء من ذلك خلاف ما كان على تأويل القرآن، وقال: تعقبه ابن حبيب (بذلك)
(1)
.
وقال الداودي: هاتان الفئتان هما -إن شاء الله- أصحاب الجمل، وزعم علي رضي الله عنه أن طلحة والزبير رضي الله عنهما بايعاه فتعلق بذلك، وزعم طلحة والزبير أن الأشتر النخعي أكرههما على المشي إلى علي. وأخذ موسى هارون يجره إليه على التأويل وشدة الغضب في الله، فلم يعب الله ذلك من فعله، وقال عمر في حاطب: دعني أضرب عنقه فإنه منافق.
وقال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة: أنت منافق تجادل عن المنافقين، ولم يكن منافقًا، وعذر النبي صلى الله عليه وسلم أسيدًا بالتأويل.
(1)
من (ص 1).
9 - باب مَا جَاءَ فِي المُتَأَوِّلِينَ
6936 -
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ القَارِيَّ أَخْبَرَاه، أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَؤُهَا عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى سَلَّمَ ثُمَّ لَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ -أَوْ بِرِدَائِي- فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ، فَوَاللهِ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْرَأَنِي هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَؤُهَا. فَانْطَلَقْتُ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، وَأَنْتَ أَقْرَأْتَنِي سُورَةَ الْفُرْقَانِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ» . فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَؤُهَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«هَكَذَا أُنْزِلَتْ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ يَا عُمَرُ» . فَقَرَأْتُ، فَقَالَ:«هَكَذَا أُنْزِلَتْ» . ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» . [انظر: 2419 - مسلم: 818 - فتح 12/ 303]
6937 -
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ ح. حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]» [انظر: 32 - مسلم: 124 - فتح 12/ 303]
6938 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ ابْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَجُلٌ:
أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُن؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تَقُولُوهُ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. يَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ؟» . قَالَ: بَلَى. قَالَ: «فَإِنَّهُ لَا يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ". [انظر: 424 - مسلم: 33 - فتح 12/ 303]
6939 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ فُلَانٍ قَالَ: تَنَازَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَحِبَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِحِبَّانَ: لَقَدْ عَلِمْتُ الذِي جَرَّأَ صَاحِبَكَ عَلَى الدِّمَاءِ -يَعْنِي: عَلِيًّا- قَالَ: مَا هُوَ لَا أَبَا لَكَ؟ قَالَ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالزُّبَيْرَ وَأَبَا مَرْثَدٍ -وَكُلُّنَا فَارِسٌ- قَالَ: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ حَاجٍ -قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: هَكَذَا قَالَ أَبُو عَوَانَةَ: حَاجٍ- فَإِنَّ فِيهَا امْرَأَةً مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأْتُونِي بِهَا» . فَانْطَلَقْنَا عَلَى أَفْرَاسِنَا حَتَّى أَدْرَكْنَاهَا حَيْثُ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، وَكَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقُلْنَا: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي مَعَكِ؟ قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ. فَأَنَخْنَا بِهَا بَعِيرَهَا، فَابْتَغَيْنَا فِي رَحْلِهَا فَمَا وَجَدْنَا شَيْئًا، فَقَالَ صَاحِبِي: مَا نَرَى مَعَهَا كِتَابًا. قَالَ: فَقُلْتُ: لَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ حَلَفَ عَلِيٌّ: وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لأُجَرِّدَنَّكِ. فَأَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا -وَهْيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ- فَأَخْرَجَتِ الصَّحِيفَةَ، فَأَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ الله، قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَالِي أَنْ لَا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يُدْفَعُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلاَّ لَهُ هُنَالِكَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ. قَالَ:«صَدَقَ، لَا تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْرًا» . قَالَ فَعَادَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ، قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، دَعْنِي فَلأَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ: «أَوَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ فَقَدْ أَوْجَبْتُ لَكُمُ الجَنَّةَ». فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. [انظر: 3007 - مسلم: 2494 - فتح 12/ 304].
وقال اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ القَارِيَّ أَخْبَرَاهُ، أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الحديث بطوله أسنده في فضائل القرآن، فقال: ثنا سعيد بن عفير، ثنا الليث، فذكره
(1)
، وأخرجه في الإشخاص مختصرًا من حديث مالك عن ابن شهاب، به
(2)
.
ومعنى (لببته) يراد به: جررته، يقال: لببت الرجل ولببته: إذا جعلت في عنقه ثوبًا أو غيره وجررته، وأخذت بلبب فلان: إذا جمعت عليه ثوبه الذي هو لابسه وقبضت عليه نحره، وفي آخر الحديث:"إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه".
ثم ساق حديث عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه: لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82].
إلى آخره، سلف قريبًا، وفي التفسير أيضًا
(3)
، وشيخ البخاري فيه -في أحد طرقيه- يحيى بن موسى وهو أبو زكريا يحيى بن موسى بن عبد ربه بن سالم الحداني البلخي الكوفي، يقال له: يحيى بن موسى خت، وقيل: خت لقب موسى السختياني، مات سنة أربعين، وقيل: سنة ست وأربعين ومائتين، وهو من أفراد البخاري.
(1)
سلف برقم (4992) باب: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
(2)
سلف برقم (2419) كتاب: الخصومات.
(3)
سلف برقم (4629)، باب:{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} .
وحديث عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، وسلف في الصلاة
(1)
.
وحديث حصين عن فلان قال: تَنَازَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَحِبَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ -أي: بكسر الحاء المهملة ثم باء موحدة- ثم ساق حديث روضة خاخ أو حاج السالف في المغازي
(2)
، وفيه: فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ. أي: غرقتا بالدموع، وهو افعوعلت من الغرق.
وقوله: (عن فلان) قال الجياني: هو سعد بن عبيدة السلمي، وهو ختن أبي عبد الرحمن السلمي، يكني أبا حمزة
(3)
، كذا سمي بغير موضع من البخاري من حديث علي، ولا خلاف بين العلماء أن كل متأول معذور بتأويله غير مأثوم (فيه)
(4)
إذا كان تأويله ذلك سائغًا في لسان العرب، أو كان له وجه في العلم، ألا ترى أنه عليه السلام لم يعنف عمر في تلبيبه لهشام وعذره في ذلك؛ لصحة مراد عمر واجتهاده، وفيه ما كان عليه عمر رضي الله عنه من الشدة في دين الله، وكان هشام أيضًا قريبًا من ذلك، كان عمر بعد ذلك إذا كره أمرًا (يقول)
(5)
: هذا ما بقيت أنا وهشام بن حكيم. وكذا حديث ابن مسعود، فإنه عليه السلام عذر أصحابه في تأويلهم الظلم في الآية بغير الشرك لجوازه في التأويل، وكذا حديث ابن الدخشن فإنهم (اشتدوا)
(6)
على نفاقه بصحبته للمنافقين ونصيحته لهم، فبين لهم الشارع صدقه ولم يعنفهم في تأويلهم. وكذا في حديث حاطب: عذره الشارع في تأويله وشهد بصدقه، وقد سلف كثير من معاني هذا الحديث في الجهاد في باب: الجاسوس.
(1)
سلف برقم (425) باب: المساجد في البيوت.
(2)
سلف برقم (4274) باب: غزوة الفتح.
(3)
"تقييد المهمل" 2/ 341.
(4)
من (ص 1).
(5)
من (ص 1).
(6)
من (ص 1).
وقول أبي عبد الرحمن: لقد علمت ما الذي جرأ صاحبك على الدماء. يعني: عليًّا رضي الله عنه فإنه أراد قوله عليه السلام لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"
(1)
فكأنه أنس بهذا القول فاجترأ بذلك على الدماء، ولا يجوز أن يظن بعلي رضي الله عنه ذلك دون الاعتماد على تأويل صحيح واجتهاد راجح، وإن كان قوله عليه السلام:"لعل الله اطلع على أهل بدر" دليل ليس بحتم، ولكنه على أغلب الأحوال، وينبغي أن يحسن بالله الظن في أهل بدر وغيرهم من أهل الطاعات.
وقد اعترض بعض أهل البدع بهذا الحديث على قصة مسطح رضي الله عنه حين جلد في قذف عائشة، وكان بدريًّا وقالوا: كان ينبغي أن لا يحد لحاطب، والجواب أن المراد: غفر لهم عقاب الآخرة دون الدنيا، وقد قام الإجماع على أن كل من ركب من أهل بدر (ذنبًا)
(2)
بينه وبين الله فيه حد، أو بينه وبين الخلق من القذف أو الجراح أو القتل فإن عليه فيه الحد والقصاص، وليس يدل عقوبة المعاصي في الدنيا وإقامة الحدود عليه على أنه معاقب في الآخرة؛ لقوله عليه السلام في ماعز والغامدية: لقد تابا توبة لو قسمت على أهل الأرض لوسعتهم
(3)
لأن موضع الحدود أنها للردع والزجر وحقن الدماء وحفظ الحرمة وصيانة الأموال، وليس في عقاب النار شيء من ذلك، ولو أسقط الله. عقاب
(1)
سلف برقم (3007) كتاب: الجهاد والسير، باب: الجاسوس، ومسلم (2494/ 161) كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر.
(2)
غير واضحة بالأصل والمثبت من (ص 1).
(3)
رواه مسلم أي: حديث ماعز رضي الله عنه (1695/ 22). بلفظ: "لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة وسعتهم"، وحديث الغامدية رضي الله عنها (1969/ 24)، بلفظ:"لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم .. "، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنا.
الدارين لكان جائزًا، فغفر لحاطب هفوته في الدنيا إذ رأى ذلك مصلحة لما غفر له عقاب الآخرة، وقد يجعل الله لنبيه إسقاط بعض الحدود إذا رأى مصلحة.
وذكر الطبري أن في قوله: "اعملوا ما شئتم" فيه: دلالة بينة على خطأ ما قالته الخوارج والمعتزلة؛ لأنه لا يجوز في العدل والحكمة الصفح لأهل الكبائر من المسلمين عن كبائرهم؛ لأنه لم يكن مستنكرًا عند الشارع في عدل الله أن يصفح عن بعض من سبقت له من الطاعة سابقة، وسلفت له من الأعمال الصالحة سالفة عن جميع أعماله السيئة التي تحدث منه بعدها صغائر وكبائر فيتفضل بالعفو عنها إكرامًا له لما كان سلف منه قبل ذلك من الطاعة.
فصل:
(خاخ): موضع قريب من مكة، وقد سلف الخلف فيه.
وقوله: (أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء) يعني: ضربت بيدها إلى معقد بطاقها من جسدها وهو موضع حجزة السراويل من الرجل، وتقدم ما فيه من الغريب في الجهاد.
فصل:
وأما قوله عليه السلام في قصة مالك بن الدخشن: "ألا تقولوه (أليس)
(1)
يقول: لا إله إلا الله" كذا في الأصول، وأورده ابن بطال
(2)
كذلك، ثم قال: هكذا جاءت، والصواب:"ألا تقولونه" بإثبات النون، والمعنى: ألا تظنونه يقول ذلك، وقد جاء القول بمعنى الظن كثيرًا في اللغة
(1)
من (ص 1).
(2)
شرح ابن بطال" 8/ 595.
بشرط كونه في المخاطب، وكونه مستقبلاً، أنشد سيبويه لعمر بن أبي ربيعة المخزومي.
أمَّا الرحيل فدون بعد غدٍ
…
فمتى تقول الدار تجمعنا
(1)
يعني: فمتى تظن الدار تجمعنا، ويحتمل أن يكون قوله:"ألا تقولوه" خطابًا للواحد وللجماعة فلا يجوز حذف النون إذ لا موجب لحذفها، فإن كان خطابًا للواحد وهو أظهر في سياق الحديث، فهو على لغة من يُشبع الضمة كما قال الشاعر:
من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور
وإنما أراد: فأنظر، فأشبع ضمة الظاء فحدثت عنها واو.
فصل:
وقوله في حديث عمر: (فكدت أساوره) تقول العرب: ساورته من قولهم: سار الرجل يسور سورًا: إذا ارتفع. ذكره ابن الأنباري، عن ثعلب، وقد تكون أساوره من البطش؛ لأن السورة: البطش عن صاحب "العين"
(2)
، هذا ما في كتاب ابن بطال
(3)
، وفي كتاب ابن التين: أساوره أي: أواثبه، يقال: إن لغضبه سورة وهو سوار أي: وثاب معربد، وكذلك سار إليه: وثب، ثم ذكر بيتًا للأخطل في ذكره، ثم ذكر ما ذكره ابن بطال فقال: وقيل: هو من قول العرب: سار يسور إذا ارتفع ذكره.
(1)
"الكتاب" 1/ 124.
(2)
"العين" 7/ 289.
(3)
"شرح ابن بطال" 8/ 599.
وقال الداودي: أي أهجم عليه، واشتقاقه من التسور من أعلى الحائط ولا ينتظر أن يصل إلى الباب.
فصل:
وقوله: (كذبت) أي: في ظن عمر، قيل: الخلاف الذي وقع بين عمر وهشام غير معلوم، وقد أسلفنا معنى:"أنزل القرآن على سبعة أحرف" وما فيه من الخلاف، منها: أنها لغات، يعني: أن بعض الحروف أنزلت على ذلك، ليس أن كل حرف أنزل على سبع لغات، ولا أن حرفًا منها أنزل على سبع لغات، إنما يأتي في الحرف لغتان أو ثلاث، وفيه نظر؛ إذ لو كان كذلك لم ينكر القوم في أول الأمر بعضهم على بعض؛ لأنه من كانت لغته شيئًا فدخل عليها لم ينكر عليه، وفي فعل عمر- رضي الله عنه في هذا الخبر رد على القائل: إنها سبع لغات؛ لأن عمر قرشي عدوي، وهشام قرشي أسدي، ومحال أن ينكر عمر عليه لغته.
آخر كتاب المرتدين ولله الحمد