المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌19 - التهجد (1) ‌ ‌1 - باب التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَقَوْلِهِ عز وجل: - التوضيح لشرح الجامع الصحيح - جـ ٩

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

‌19 - التهجد

(1)

‌1 - باب التَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ

وَقَوْلِهِ عز وجل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79].

1120 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ" أَوْ "لَا إِلَهَ غَيْرُكَ". قَالَ

(1)

من "اليونينة".

ص: 9

سُفْيَانُ: وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ: "وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ". قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ: سَمِعَهُ مِنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [6317، 6385، 7442، 7499 - مسلم: 769 - فتح: 3/ 3]

ذكر فيه حديث ابن عباس: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ

" الحديث بطوله.

الشرح:

التهجد عند العرب -كما نقله ابن بطال-: التيقظ والسهر بعد نومة من الليل، قال: والهجود أيضًا: النوم، يقال: تهجد، إذا سهر، وهجد إذا نام

(1)

. قَالَ الجوهري: هجد وتهجد أي: نام ليلا، وهجد وتهجد سهر، وهو من الأضداد، ومنه قيل لصلاة الليل: التهجد

(2)

.

وقال ابن فارس: المتهجد: المصلي ليلًا

(3)

. كما ذكر البخاري، وفي بعض نسخ البخاري، أي: اسهر به، وعليه مشى ابن التين وابن بطال أي: اسهر نافلة لك

(4)

. وقيل له: تهجد؛ لإلقاء الهجود عن نفسه. ونقل ابن التين عن علقمة والأسود: التهجد بعد النوم، وهو في اللغة السهر، ونقل النووي عن العلماء أنَّ التهجدَ أصلُه: الصلاة في الليل بعد النوم

(5)

.

ثم قيام الليل سنة مؤكدة، وادعى بعض السلف -كما حكاه القاضي- أنه يجب على الأمة من قيام الليل ما يقع عليه الاسم ولو قدر حلب شاة، وهو غَلَطٌ مردود، ولا شك أنَّ التطوع المطلق الذي لا سبب له ليلًا أفضل منه نهارًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاةِ بعد

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 108.

(2)

"الصحاح" 2/ 555.

(3)

"مجمل اللغة" 2/ 899.

(4)

"شرح ابن بطال" 3/ 107.

(5)

"المجموع" 3/ 534.

ص: 10

الفريضة صلاة الليل" أخرجه جسلم من حديث أبي هريرة

(1)

.

ولأنها تُفْعَل في وقت الغفلة فكانت أهم، فإن قسم الليل نصفين فالثاني أفضل، أو ثلاثًا فالثلث الأوسط أفضل، أو أسداسًا فالسدس الرابع والخامس أفضل؛ لقصة داود في "الصحيح":"كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه"

(2)

.

ويكره قيام كل الليل دائمًا؛ للحديث الصحيح فيه: "وإن لجسدك عليك حقا" قاله لعبد الله بن عمرو

(3)

.

لا يكره إحياء بعض الليالي سيما العشر الأواخر فيستحب، وكذا ليلتا العيدين، فقد ورد أن من أحياهما لم يمت قلبه يوم تموت القلوب

(4)

.

(1)

مسلم (1163) كتاب: الصيام، باب: فضل صوم المحرم.

(2)

سيأتي هذا الحديث برقم (1131) كتاب: التهجد، باب: من نام عند السحر.

(3)

سيأتي هذا الحديث برقم (1975) كتاب: الصوم، باب: حق الجسم في الصوم.

(4)

ورد بهامش الأصل ما نصه: حديث "من أحيا ليلة العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب" ذكره الدارقطني من رواية مكحول، عن أبي أمامة. قال: ورواه ثور عن مكحول وأسنده معاذ بن جبل، والمحفوظ أنه موقوف على مكحول وفي رواية:"من قام ليلتى العيدين محتسبًا لله" بمثله. رواه ابن ماجه هكذا من رواية ابن عباس مرفوعًا، وفيه عنعنة بقية. قاله المؤلف. بمعناه في مصنف آخر.

قلت: روى ابن ماجه (1782) من حديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قام ليلتي العيد محتسبًا لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب"، ورواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 56 (898) بلفظ:"من أحيا ليلة الفطر أو ليلة الأضحى لم يمت قلبه إذا ماتت القلوب" ثم قال: قال الدارقطني: ورواه عمر بن هارون عن جرير عن ثور عن مكحول، وأسنده عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم والمحفوظ أنه موقوف على مكحول ا. هـ.

قال البوصيري في "الزوائد": إسناده ضعيف؛ لتدليس بقية. اهـ. وضعف العراقي إسناده في "تخريج الإحياء" 1/ 342 (1297)، وقال الألباني: ضعيف جدًّا =

ص: 11

وحقيقة التهجد عندنا أن يصلي من الليل شيئًا وإن قل.

وهل يسمى الوتر تهجدًا، أو هو غيره؟ اضطرب عندنا فيه. وفي "الأم" للشافعي أنه يسمى تهجدًا

(1)

.

وقوله: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] تعني: فضلًا لك عن فرائضك. وقال قتادة: تطوعًا وفضيلة

(2)

.

= "الضعيفة"(521).

وروى الطبراني في، "الأوسط" 1/ 57 (159) بسنده إلى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من صلى ليلة الفطر والأضحى، لم يمت قلبه يوم تموت القلوب" ثم قال: لم يُرْوَ هذا الحديث عن ثور إلا عمر بن هارون، تفرد به جرير. اهـ.

قلت: أخرجه الديلمي في "الفردوس" 3/ 619 (5936)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 198 (3203) كتاب: الصلاة، باب: إحياء ليلتي العيد، ثم قال: رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وفيه: عمر بن هارون البلخي، والغالب عليه الضعف، وأثنى عليه ابن مهدي وغيره، لكن ضعفه جماعة كثيرة والله أعلم. اهـ. وحكم عليه الألباني بالوضع "الضعيفة"(520).

وروى الشافعي بسنده عن أبي الدرادء قال: من قام ليلتي العيد لله محتسبًا فلم يمت قلبه حتى تموت القلوب. رواه البيهقي في "السنن" 3/ 319 (6293) و"الشعب" 3/ 341 (3711)، وذكر النووي لفظي:"من أحيا" و"من قام .. " ثم قال: رواه الشافعي، وابن ماجه من رواية أبي أمامة مرفوعًا وموقوفًا، وعن أبي الدرداء موقوفًا والجميع ضعيف. اهـ. "الخلاصة" 2/ 847.

هذا وقد روى المروزي بسنده في "البر والصلة" ص 33 (63) عن الحسين بن الحسن قال: سمعت ابن المبارك يقول: بلغني أنه من أحيا ليلة العيد أو العيدين لم يمت قلبه حين تموت القلوب. قال ابن القيم في "زاد المعاد" 2/ 247: ولا يصح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء. اهـ. وانظر: "الضعيفة"(5163).

(1)

"الأم" 1/ 69، 1/ 142.

(2)

رواه عنه الطبري في "تفسيره" 8/ 130 (22620)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 2342 (13366).

ص: 12

والنافلة في اللغة: الزيادة. واختلف في المعنى الذي من أجله خص بذلك الشارع صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: لأنها كانت عليه فريضة ولغيره تطوع، فقال: أتمها نافلة لك، قاله ابن عباس؛ كما نقله ابن بطال

(1)

.

ومنهم من قَالَ بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه ثم نسخت؛ فصارت نافلة، أي: تطوعًا.

وقال مجاهد: إنما قيل له ذلك؛ لأنه لم يكن فعله ذلك يكفر عنه شيئًا في الذنوب؛ لأن الله تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكان له نافلة فضلٍ وزيادة، وأما غيره فهو كفارة له وليس له نافلة

(2)

، وهذا خاص به.

ومن قَالَ بأنه كان واجبًا عليه قَالَ معنى قوله: (نافلة له) على التخصيص. أي: فريضة لك زائدة على الخمس، خصصت بها من بين أمتك.

وصوب الطبري الأول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خصه الله بما فرضه عليه من قيام الليل من بين أمته، ولا معنى لقول مجاهد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أشد استغفارًا لربه بعد نزول آية الغفران

(3)

، وذلك أن هذِه السورة نزلت عليه بعد منصرفه من الحديبية، وأنزل عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر:1] عام قبض وقيل له فيها: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] وكان يعد استغفاره في المجلس الواحد مائة مرة

(4)

. قَالَ:

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 108.

(2)

رواه الطبري في "تفسيره" 8/ 130 (22618).

(3)

يشير إلى قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .

(4)

روى أبو داود (1516)، والترمذي (3434)، وابن ماجه (3814) عن ابن عمر قال: إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم. وهذا لفظ أبي داود. =

ص: 13

ومعلوم أن الرب تعالى لم يأمره أن يستغفره إلا بما يغفر له باستغفاره. قَالَ: فبان فساد قول مجاهد

(1)

.

وحديث ابن عباس أخرجه مسلم

(2)

والأربعة.

وشيخ البخاري فيه (علي بن عبد الله) هو ابن المديني.

و (سفيان) هو ابن عيينة. ورواه مالك في "الموطأ" عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس، كذا رواه جماعة "الموطأ"

(3)

، ورواه بعض من جمع حديث مالك، فذكره عن مالك، عن أبي الزبير، عن عطاء، عن ابن عباس، كما رواه يحيى

(4)

.

وقول البخاري: (قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ عَبْدُ الكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ: "وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ") يعني: أن عبد الكريم زاد عن طاوس هذِه الزيادة.

في كتاب أبي نعيم الأصبهاني. قَالَ سفيان: كنت إذا قلتُ له: -يعني: لعبد الكريم أبي أمية- آخر حديث سليمان -يعني: ابن أبي مسلم الراوي عن طاوس-: "ولا إله غيرك" قَالَ: "ولا حول ولا قوة إلا بالله" قَالَ سفيان: وليس هو في حديث سليمان.

وليس لعبد الكريم هذا في كتاب البخاري غير هذا الموضع، وهو أبو

= وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1357)، و"الصحيحة"(556).

وروى مسلم في "صحيحه"(2702) عن الأغر المزني مرفوعًا: إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.

(1)

"تفسير الطبري" 8/ 130.

(2)

مسلم برقم (2227) في الصلوات، باب ذكر الخبر المبين دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

"موطأ مالك" ص 150، "رواية يحيى" 1/ 246، رواية أبي مصعب، باب: ما جاء في الدعاء.

(4)

"موطأ مالك" ص 150 وهو عنده كما عند جماعة "الموطأ" ولم يذكر الداني في "أطراف الموطأ" 2/ 550 الطريق المذكورة (عن عطاء) بل ذكر (طاوس).

ص: 14

أمية عبد الكريم بن أبي المخارق قيس -ويقال: طارق- المعلم البصري نزيل مكة، روى عن أنس بن مالك وغيره، وعنه أبو حنيفة ومالك، وهو واهٍ، وقد بين مسلم جرحه في مقدمته

(1)

، ولم ينبه البخاري على شيء من أمره، فهو محتمل عنده، كما قَالَ في "تاريخه": كل من لم أبين جرحه فهو على الاحتمال، وإذا قلتُ: فيه نظر، فلا يحتمل.

(2)

ووهم ابن طاهر فادَّعى أنهما أخرجا له في الحج حديثًا واحدًا

(3)

، والذي أخرجا له ذلك هو عبد الكريم الجزري

(4)

كما خرجا به، مات سنة سبع وعشرين ومائة، أفاده ابن الحذاء، وأهمله المزي

(5)

تبعًا لعبد الغني

(6)

.

وقوله: (قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ: سمعته مِنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ عَنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم) مقصوده بهذاَ أن سليمان سمعه من طاوس، فإن في السند الأول أتى عنه بالعنعنة، وعبارة أبي نعيم

(1)

"صحيح مسلم" المقدمة ص 16 - 17.

(2)

لم نجد قول البخاري هذا في المطبوع من التاريخ، ولم يقف عليه أحد من الباحثين فيما نعلم، أفاده د. أحمد معبد، ونقل هذا النص أيضا المزي في "تهذيب الكمال" 18/ 265 ولو ثبت هذا عن البخاري لكان قاعدة يهرع إليها في الحكم على الرجال المسكوت عنهم في "التاريخ".

(3)

"الجمع بين رجال الصحيحين" 1/ 324.

(4)

هو عبد الكريم بن مالك الجزري. أبو سعيد الحراني، مولى عثمان بن عفان ويقال: مولى معاوية بن أبي سفيان، رأى أنس بن مالك، عن أحمد بن حنبل: ثقة، ثبت. وعن يحيى: حديث عبد الكريم عن عطاء رديء. وقال ابن حجر: لم يخرج البخاري من روايته عن عطاء إلا موضعًا واحدًا معلقًا، واحتج به الجماعة.

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 6/ 88 (1794)، و"تهذيب الكمال" 18/ 252.

(5)

"تهذيب الكمال" 18/ 259 (3506).

(6)

ورد بهامش الأصل: وكذلك الذهبي تبعًا للمزي.

ص: 15

الأصبهاني: وقال سفيان: كان سليمان بن أبي مسلم سمعه من طاوس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من وجهين:

أحدهما:

قوله: (كان إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ")

فيه: تهجده صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يدعو عند قيامه، ويخلص الثناء على الله بما هو أهله، والإقرار بوعده ووعيده.

وفيه: الأسوة الحسنة. وفي رواية ابن عباس السالفة حين بات عند ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم لما استيقظ تلا العشر الآيات من آخر آل عمران، فبلغ ما شهده، أو بلغه، وقد يكون كله في وقت واحد وسكت هو عنه أو نسيه الناقل.

ثانيهما:

في معاني الدعاء الواقع فيه: قوله: ("أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ") كذا في أصل الدمياطي، وفي بعضها بحذف:"أَنْتَ" وفيه لغات

(1)

: قيام، وقيوم، وقيم، وفي "الموطأ":"أنت قيام"

(2)

وهما من صفاته تعالى. والقيوم بنص القرآن، وقائم، ومنه قوله تعالى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]، قَالَ الهروي: ويقال: قوَّام. قَالَ مجاهد وأبو عبيد: القيوم: القائم على كل شيء

(3)

. أي: مدبر أمر خلقه. وقال ابن عباس: هو الذي لا يزول.

وقرأ علقمة: (الحي القيم). وقرأ عمر: (القيام)

(4)

.

(1)

فوقها في الأصل: (ثلاث) ولم يعلم عليها بشيء، بعلامة اللحق.

(2)

"الموطأ" ص 150 باب: ما جاء في الدعاء. رواية أبي مصعب.

(3)

رواه ابن جرير في "تفسيره" 3/ 7 (5767).

(4)

انظر: "المحتسب" 1/ 151.

ص: 16

واختلف في معناه فقيل: القائم بخلقه المدثر لهم. وقيل: الذي لا يزول. كما تقدم، وأصله: قَيْوِم على وزن فيعل مثل صيِّب، وهذا قول البصريين.

وقال الكوفيون: أصل قيم: قويم، قَالَ ابن كيسان: ولو كان كذلك ما جاز تغييره، كما لم يغير سويق وطويل.

وقال ابن الأنباري: أصل القيوم: القَيْووم، فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن جعلنا ياءً مشددة، وأصل القيام: القَيْوَام. قَالَ الفراء: وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفيعال، ويقولون للصواغ: صياغ

(1)

. وقيل: (قيام). على المبالغة من (قام) بالشيء: إذا هيأ له ما يحتاج إليه. وقيل فيهما: خالقهما وممسكهما أن يزولا.

وقوله: ("وَمَنْ فِيهِنَّ") أي: أنت القائم على كل نفسٍ بما كسبت وخالقها ورازقها ومميتها ومحييها. وقيل في معنى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] أفمن هو حافظ على كل نفس لا يغفل ولا يمل، فالمعنى: الحافظ لهما ومن فيهن

(2)

.

وقوله: ("أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ومن فيهن") أي: بنورك يهتدي من في السموات والأرض. قاله ابن بطال

(3)

.

وقال ابن التين: يحتمل أن يكون من قوله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] قيل: معناه: ذو نور السموات والأرض. وروي عن ابن عباس معناه: هادي أهلهما

(4)

.

(1)

"معاني القرآن" للفراء 1/ 190.

(2)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الرابع والتسعين كتبه مؤلفه.

(3)

"شرح ابن بطال" 3/ 109.

(4)

رواه الطبري في "تفسيره" 9/ 320 (26085).

ص: 17

وروي عنه أيضًا وعن مجاهد: معناه: مدبرهما، شمسهما وقمرهما ونجومهما

(1)

. وقال ابن عرفة: {نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] أي: منيرهما

(2)

. فعلى قول من قَالَ: معناه: ذو نور، فنوره القرآن. وقال كعب: محمد

(3)

. فهو يعود إلى أنه ذو النور الذي هدى به أهل السموات والأرض. ويحتمل على هذا الوجه أن يكون معناه: ذو النور الذي أضاءت السموات والأرض به. وإن قلنا: معناه: هادي أهلهما. فيحتمل أن يكون معناه: أن الهدى الذي يهدي به منير، نير في نفسه، ويحتمل أن يريد أنه ينير قلوب المؤمنين.

وإذا قلنا: معناه: مدبرهما، فمعناه به يكون ومن خلقه وتدبيره الشمس والقمر والنجوم التي هي تنيرهما، ويحتمل أن يكون: النور الذي بمعنى: الهداية، وأنه بتدبيره تعالى يهتدون، وقرئ:(الله نَوَّر السموات والأرض). بفتح النون والواو مشددة. وقيل: منزه فيهما من كل عيب، ومبرأ من كل ريبة. وقيل: إنه اسم مدح، يقال: فلان نور البلد وشمس الزمان. وقال أبو العالية: مزينهما بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والأولياء والعلماء

(4)

.

وقوله: ("أنت مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ") أي: مالكهما ومالك من فيهما، وخالقهما وما فيهما، وهو تكذيب لمن قَالَ:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181].

وقوله: ("أَنْتَ الحَقُّ") هو اسم من أسمائه وصفة من صفاته،

(1)

"تفسير الطبري" 9/ 320 - 321 (26085).

(2)

"تفسير البغوي" 3/ 345، و"تفسير القرطبي" 12/ 257.

(3)

"تفسير الطبري" 9/ 322 (26093).

(4)

"تفسير القرطبي" 12/ 257.

ص: 18

ومعناه: المحقق وجوده، وكل شيء صح وجوده وتحقق فهو حق، ومنه قوله تعالى:{الْحَاقَّةُ (1)} [الحاقة: 1] أي: الكائنة حقًا بغير شك.

وهذا الوصف للرب جل جلاله بالحقيقة والخصوصية لا ينبغي لغيره إذ وجوده لنفسه، فلم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، وما عداه بما يقال عليه ذلك فهو بخلافه.

وقال ابن التين: "أَنْتَ الحَقُّ" يحتمل أن يريد أنه اسم من أسمائه، ويحتمل أن يريد أنه الحق ممن يدعي المشركون أنه إله من قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان: 30] وظاهر قوله في هذا: الحق، يعود إلى الصدق، ويتعلق تسميته إلهًا. بمعنى أن من سمَّاه إلهًا قَالَ الحق. من سمَّى غيره: إلهًا. كذب.

وقوله: ("وَوَعْدُكَ الحَقُّ") يعني: إنه متحقق لا شك فيه، ولا يَخْلِف ولا يُخلف الميعاد؛ {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} إلا ما تجاوز عنه {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] وقيل في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22]: وعد الجنة من أطاعه، ووعد النار من كفر به؛ وفاءً بوعده، وكان عائدًا إلى معنى الصدق، ويحتمل أن يريد به أن وعده حق بمعنى: إثبات أنه قد وعد بالبعث والحشر والثواب والعقاب؛ إنكارًا لقول من أنكر وعده بذلك وكذب الرسل فيما بلغوه من وعده ووعيده.

وقوله: ("وَلقَاؤُكَ حَقٌّ") أي: البعث، وقيل: الموت؛ وفيه ضعف، فأنت المميت لسائر الخلق وناشرهم للقاء والجزاء.

وقوله: ("وَقَوْلُكَ حَقٌّ") أي: صدق وعدل. وقال ابن التين: يقول: ووعدك صدق.

ص: 19

وقوله: ("وَالْجَنَّةُ حَقُّ، وَالنَّارُ حَقٌّ") فيه: الإقرار بهما وبالأنبياء كما سيأتي.

وقال ابن التين: فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن خبره بذلك لا يدخله كذب ولا تغيير.

ثانيها: أن خبر من أخبر عنه بذلك وبلغه حق.

ثالثها: أنهما قد خلقتا.

وقوله: ("وَالنَّيِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ") يقول: إنهم رسل الله، وأعيد ذكر نبينا ولخصوصيته، كما قَالَ:{وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98].

وقوله: ("وَالسَّاعَةُ حَقٌّ") يحتمل الوجهين السابقين في الجنة والنار، فهي محققة، وفيه: الإقرار بهذِه الأمور كلها، و (السَّاعة): القطعة من الزمان؛ لكن لما لم يكن هناك كواكب تقدر فيها بالأزمان سميت بالساعة. يعني: يوم القيامة.

وقوله: ("اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ") أي: استسلمت وانقدت لأمرك ونهيك، وسلمت ورضيت وأطعت، من قولهم: أسلم فلان لفلان. إذا انقاد وعطف عليه، ومنه قوله تعالى:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)} [الصافات: 103].

وقوله: ("وَبِكَ آمَنْتُ") أي: صدقت بك، وبما أنزلت من أخبار وأمر ونهي. وظاهره أن الإيمان ليس بحقيقة الإسلام، وإنما الإيمان التصديق. وقال القاضي أبو بكر: الإيمان المعرفة بالله. والأول أشهر في كلام العرب. قَالَ تعالى: {مَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي: بمصدق. إلا أن الإسلام إذا كان بمعنى الأنقياد والطاعة فقد ينقاد المكلف بالإيمان فيكون مؤمنًا مسلمًا، وقد ينقاد بغير الإيمان فيكون

ص: 20

مسلمًا لا مؤمنًا. قَالَ تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات: 14] الآية. فأثبت لهم الإسلام ونفي عنهم الإيمان فتقرر أن ما أثبت غير ما نفى، ومن قَالَ: الإيمان هو الإسلام فهو راجع إلى ذلك.

وقوله: ("وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ") أي: تبرأت من الحول والقوة، وصرفت أمري إليك، وأيقنت أنه لن يصيبني إلا ما كتب لي، وفوضت أمري إليك، ونعم المفوض إليه. قَالَ الفراء:{الْوَكِيلُ} : الكافي.

وقوله: ("وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ") أي: أطعت أمرك، والمنيب: المقبل بقلبه إلى الرب جل جلاله، فأنا راجع إليك. أي: في تدبير ما فوضته إليك أو إلى عبادتك.

وقوله: ("وَبِكَ خَاصَمْتُ") أي: بما آتيتني من البراهين، احتججت على من عاند فيك وكفر، وجمعته بالحجة، وسواء خاصم فيه بلسان أو سيف.

وقوله: ("وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ") يعني: إليكَ احتكمت مع كل من أبى قبول الحق والإيمان، لا غيرَكَ ممن كانت الجاهلية تحاكم إليه من صنم وكاهن وغير ذلك، فأنت الحكم بيني وبين من خالف ما جئت به، وكان صلى الله عليه وسلم يقول عند القتال:"اللهم أنزل الحق" ويستنصر. وقيل: ظاهره: لا نحاكمهم إلا إلى الله ولا نرضى إلا بحكمه. قَالَ تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] وقال: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114].

وقوله: ("فَاغفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ .. " إلى آخره).

ص: 21

هذا من باب التواضع والخضوع والإشفاق والإجلال، فإنه مغفور له ذلك، ولنقتدي به في أصل الدعاء والخضوع وحسن التضرع والرغب والرهب، وفي هذا الدعاء المعين. وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهم إني أستغفرك من عمدي وخطئي وجهلي وظلمي وكل ذلك عندي"

(1)

يقر على نفسه بالتقصير. ويقول: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي .. " إلى آخره

(2)

.

وبهذا رفع الله رسله وأنبياءه أنهم مجتهدون في الأعمال؛ لمعرفتهم بعظمة من يعبدونه، وأمتهم أحرى بذلك.

والمغفرة: تغطية الذنب، وكل ما غطي فقد غفر، ومنه: المِغْفَر.

وقوله: ("ومَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ") أمر الأنبياء بالإشفاق والدعاء إلى الله والرغبة إليه أن يغفر ما يكون من غفلة تعتري البشر. وما قدَّم: ما مضى. وما أخَّر: ما يستقبل. وذلك مثل قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] حمله أهل التفسير -كما نقله عنهم ابن التين- على أن الغفران تناول من أفعاله الماضي والمستقبل.

وقوله: ("وَمَا أَعْلَنْتُ") أي: ما تحرك به لسان أو نطق به.

وقوله: ("أَنْتَ المُقَدِّمُ وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ") أي: أنت الأول والآخر، قاله ابن التين.

وقال ابن بطال: يعني: أنه قدم في البعث إلى الناس على غيره صلى الله عليه وسلم

(1)

يأتي (6398) من حديث أبي موسى مرفوعًا: "رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي وجهلي وهذلي وكل ذلك عندي".

(2)

يأتي برقم (744) كتاب: الأذان، باب: ما يقول بعد التكبير.

ص: 22

بقوله: "نحن الآخرون السابقون"

(1)

ثم قدَّمه عليهم يوم القيامة بالشفاعة بما فضله به على سائر الأنبياء، فسبق بذلك الرسل

(2)

.

وقوله: ("لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا باللهِ") أي: لا أستطيع تحولًا ولا تصرفًا بنية ولا فعل ولا قول إلا بقوتك التي جعلت فيَّ أو تجعل، ولا قوة لي في شيء من أمري إلا بما جعلت فيَّ من قوتك، وكذلك سائر الخلق.

(1)

سلف برقم (238).

(2)

"شرح ابن بطال" 3/ 110.

ص: 23

‌2 - باب فَضلِ قِيَامِ اللَّيلِ

1121 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُ غُلَامًا شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَىِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ. [انظر: 440 - مسلم: 2479 - فتح: 3/ 6]

1122 -

فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ". فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلًا. [1157، 3739، 3741، 7016، 7031 - مسلم: 2479 - فتح: 3/ 6]

ذكر فيه عن سالم عن أبيه قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرى رُؤْيَا إلى أن قال: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ" فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا.

هذا الحديث تقدم في باب: نوم الرجال في المسجد. مختصرًا مقتصرًا على ذكر نومه في المسجد

(1)

، ويأتي في فضل من تعارَّ من الليل، ومناقب ابن عمر، والأمن وذهاب الروع في المنام

(2)

،

(1)

سلف برقم (440) كتاب: الصلاة، باب: نوم الرجال في المسجد.

(2)

سيأتي برقم (1156) أبواب: التهجد، باب: فضل من تعارَّ من الليل فصلى، و (3738، 3740) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب، و (7028) كتاب: التعبير، باب: الأمن وذهاب الشروع في المنام.

ص: 24

وأخرجه مسلم

(1)

والأربعة.

ومحمود (خ، م، ت، س، ق)

(2)

الذي يروي عن عبد الرزاق هو ابن غيلان. وجعل خَلَف هذا الحديث في مسند ابن عمر، وجعل بعضه في مسند حفصة،

وأورده ابن عساكر في مسند ابن عمر، والحميدي في مسند حفصة

(3)

، وذكر في رواية نافع عن ابن عمر أنها من مسند ابن عمر. وقال: إذ لا ذكر فيها لحفصة. فحاصله أنهم جعلوا رواية سالم من مسند حفصة، ورواية نافع من مسند ابن عمر.

إذا تقرر ذلك؛ فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

إنما كانت الرؤيا تقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها من الوحي، وهي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، كما نطق به عليه أفضل الصلاة والسلام

(4)

، فكان أعلم بذلك من كل أحد، وتفسيره من العلم الذي يجب الرغبة فيه.

ثانيها:

فيه تمني الرؤيا الصالحة ليعرف صاحبها ما له عند الله، وتمني الخير والعلم والحرص عليه.

(1)

"صحيح مسلم"(2479) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(2)

ورد بهامش الأصل: محمود شيخ (خ، م، ت).

(3)

"الجمع بين الصحيحين" للحميدي 4/ 242 - 243 (3472).

(4)

سيأتي الحديث الدال على ذلك برقم (6983) كتاب: التعبير، باب: رؤيا الصالحين.

ص: 25

ثالثها:

جواز النوم في المسجد لقوله: (وَكُنْتُ أَنَامُ فِي المَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وفي رواية: أعزب

(1)

. ولا كراهة فيه عند الشافعي

(2)

.

قَالَ الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم فيه. وقال ابن عباس: لا تتخذه مبيتًا

(3)

ومقيلا.

وذهب إليه قوم من أهل العلم.

قَالَ ابن العربي: وذلك لمن كان له مأوى، فأما الغريب فهي داره، والمعتكف فهو بيته، ويجوز للمريض أن يجعله الإمام في المسجد إذا أراد افتقاده، كما كانت المرأة صاحبة الوشاح ساكنة في المسجد

(4)

، وكما ضرب الشارع قبة لسعدٍ في المسجد حَتَّى سأل الدم من جرحه

(5)

.

ومالك وابن القاسم يكرهان المبيت فيه للحاضر

(6)

القوي، وجوَّزه ابن القاسم للضعيف الحاضر. وقال بعض المالكية: من نام فاحتلم ينبغي أن يتيمم لخروجه منه.

رابعها:

فيه: رؤية الملائكة في المنام وتحذيرهم له؛ لقوله: (فَرَأَيْتُ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ).

وفيه: الانطلاق بالصالح إليها في المنام؛ تخويفًا.

(1)

سلفت هذِه الرواية برقم (440) كتاب: الصلاة، باب: نوم الرجال في المسجد.

(2)

"الأم" 1/ 46.

(3)

"سنن الترمذي" 2/ 139. عقب الرواية (321)

(4)

سلف حديث هذِه المرأة برقم (439) كتاب: الصلاة، باب: نوم المرأة في المسجد.

(5)

هذا الحديث سلف برقم (463) كتاب: الصلاة، باب: الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم، وانظر:"عارضة الأحوذي" 2/ 117 - 118.

(6)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 533 "المنتقى" 1/ 312.

ص: 26

ومعنى: (فإذا هي مطوية كطي البئر). يعني: مبنية الجوانب، فإن لم تبن فهي القليب.

والقرنان: منارتان عن جانبي البئر تجعل عليها الخشبة التي تعلق عليها البكرة.

وقوله: (فإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ). (إنما أخبرهم؛ ليزدجروا)

(1)

سكوته عن بيانهم، إما أن يكون لئلا يغتابهم إن كانوا مسلمين، وليس ذلك بما يختم عليهم بالنار، وإما أن يكون ذلك تحذيرًا كما حذر ابن عمر، نبه عليه ابن التين.

وفيه: الاستعاذة من النار، وأنها مخلوقة الآن، لقوله:(فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار).

ومعنى (لَمْ تُرَعْ) لم تخف. أي: لا روع عليك ولا ضرر ولا فزع.

خامسها:

إنما قصَّها على حفصة أخته أم المؤمنين أن تذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفيه: استحياء ابن عمر أن يذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضيلته بنفسه.

وفيه: القص على النساء، وتبليغ حفصة، وقبول خبر المرأة.

وقوله: فقال: ("نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ") فيه: القول بمثل هذا إذا لم يخش أن يفتتن بالمدح.

سادسها:

قوله: ("لَوْ كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ"). فيه: فضيلة قيام الليل، وهو ما بوب عليه البخاري، وهو منجٍ من النار.

(1)

من (ج).

ص: 27

قَالَ المهلب: وإنما فسر الشارع هذِه الرؤيا في قيام الليل -والله أعلم- من أجل قول الملك: لم ترع. أي: لم تعرض عليك لأنك مستحقها، إنما ذكرت بها. ثم نظر الشارع في أحوال عبد الله فلم يرَ شيئًا يغفل عنه من الفرائض فيذكر بالنار، وعلم مبيته في المسجد، فعبر بذلك؛ لأنه منبه على قيام الليل فيه بالقرآن، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم رأى الذي علمه ونام عنه بالليل تشدخ رأسه بالحجر إلى يوم القيامة في رؤياه صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقال القرطبي: إنما فسر الشارع من رؤية عبد الله بالنار أنه ممدوح؛ لأنه عرض على النار ثم عوفي منها وقيل له: لا روع عليك، وهذا إنما هو لصلاحه وما هو عليه من الخير غير أنه لم يكن يقوم من الليل، إذ لو كان ذلك لما عرض على النار ولا رآها، ثم إنه حصل لعبد الله من تلك الرؤيا يقين مشاهدة النار والاحتراز منها، والتنبيه على أن قيام الليل بما يتقى به النار، ولذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك

(2)

.

وروى سنيد، عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر مرفوعًا:"قالت أم سليمان لسليمان: يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تدع الرجل فقيرًا يوم القيامة"

(3)

(1)

سيأتي الحديث الدال على هذا برقم (1386) كتاب: الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين.

(2)

"المفهم" 6/ 409، 410.

(3)

رواه ابن ماجه (1332) كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في قيام الليل، والعقيلي في "ضعفائه" 4/ 456، وابن حبان في "المجروحين" 3/ 136، والطبراني في "الصغير" 1/ 210 (337)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 4/ 183 - 184 (4746)، وابن الجوزي في "الموضوعات" 3/ 250 (1478)، والمزي في "تهذيبه" 32/ 457، والذهبي في "السير" 13/ 165، وفي "تذكرة الحفاظ" 2/ 602. =

ص: 28

وفي الحديث من طريق أبي هريرة: "الرؤيا ثلاث: فرؤيا حق، ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان فمن رأى ما يكره فليقم فليصل"

(1)

.

سادسها: فيه: فضل عبادة الشاب.

= وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله، ويوسف لا يتابع على حديثه.

وقال البوصيري في "زوائده"(435): هذا إسناد فيه سنيد بن داود، وشيخه يوسف ابن محمد؛ وهما ضعيفان.

وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(279).

(1)

سيأتي برقم (7017) كتاب: التعبير، باب: القيد في المنام.

ص: 29

‌3 - باب طُولِ السُّجُودِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ

1123 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلَاتَهُ، يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُنَادِي لِلصَّلَاةِ. [انظر: 619 - مسلم: 736 - فتح: 3/ 7]

ذكر فيه حديث عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي من الليل

(1)

إِحْدى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كَانَتْ تِلْكَ صَلَاتَهُ، يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ .. الحديث.

وقد سلف في الوتر بطوله

(2)

، ويأتي بعضه في باب: الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر

(3)

.

وطول سجوده صلى الله عليه وسلم في قيام الليل؛ لاجتهاده فيه بالدعاء والتضرع إلى الرب جل جلاله؛ إذ ذاك أبلغ أحوال التواضع والتذلل إليه، وهو الذي أبى إبليس منه فاستحق اللعن بذلك إلى يوم الدين والخلود في النار أبدًا، فكان صلى الله عليه وسلم يطول في السجود في خلوته ومناجاته لله تعالى شكرًا على ما أنعم به عليه، وقد كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وفيه: الأسوة الحسنة لمن لا يعلم ما يفعل به، أي: تمثيل فعله صلى الله عليه وسلم في صلاته بالليل وجميع أفعاله، ويلجأ إلى الله في سؤال العفو

(1)

عليها في الأصل علامة أنها نسخة.

(2)

برقم (994) كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر.

(3)

برقم (1160) كتاب: التهجد، باب: الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر.

ص: 30

والمغفرة، فهو الميسر لذلك عز وجهه. وكان السلف يفعلون ذلك.

قَالَ أبو إسحاق: ما رأيت أحدًا أعظم سجدة من ابن الزبير

(1)

.

وقال يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير يسجد حَتَّى تنزل العصافير على ظهره وما تحسبه إلا جذم حائط

(2)

.

(1)

روى هذا الأثر ابن أبي شيبة 1/ 274 (3143)، والفاكهي في "أخبار مكة" 2/ 318 (1581).

(2)

رواه أحمد في "الزهد" ص 249.

ص: 31

‌4 - باب تَرْكِ الْقِيَامِ لِلْمَرِيضِ

1124 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ. [1125، 4950، 4951، 4983 - مسلم: 1797 - فتح: 3/ 8]

1125 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ. فَنَزَلَتْ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 1 - 3]. [انظر: 1124 - مسلم: 1797 - فتح: 3/ 8]

ذكر فيه حديث الأَسْوَدِ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ. وفي رواية له: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتِ امْرَأَة مِنْ قُرَيْشٍ: أَبْطَأَ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ. فَنَزَلَتْ: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} .

الشرح:

هذا الحديث يأتي في تفسير: {وَالضُّحَى (1)} أيضًا

(1)

.

وقوله: (لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ) هو شك من الراوي. وكان ذلك؛ لأنه لم يكلف إلا ما يطيق، قَالَ تعالى:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل: 2]{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] والمريض يكتب له عمله الذي يعمل في الصحة إذا غلب عليه.

وسيأتي في الجهاد من حديث أبي موسى: "إذا مرض العبد أو سافر يكتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا"

(2)

، وفي حديث آخر: "من كان له

(1)

برقم (4950، 4951).

(2)

يأتي برقم (2996) باب: يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة.

ص: 32

حظ من العبادة، ومنعه الله منها بمرض، فإن الله عز وجل يتفضل عليه بهبة ثوابها"، وفي آخر: "ما من عبد يكون له صلاة يغلبه عليها نوم إلا كتب له آخر صلاله، وكان نومه عليه صدقة"

(1)

.

ولما لم يقم صلى الله عليه وسلم وقت شكواه، ولم تسمعه المرأة يصلي حينئذٍ ظنت هذا الظن. والقصة واحدة، رواها جندب. وقد روي أن خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أبطأ عنه الوحي: إن ربك قد قلاك. فنزلت: {وَالضُّحَى (1)} إلى قوله: {فَتَرْضَى}

(2)

فأعطاه الله ألف قصر في الجنة من لؤلؤ، ترابها المسك، في كل قصر ما ينبغي له. ذكره بقي ابن مخلد في "تفسيره"

(3)

.

وقد قيل في هذا الحديث: "من لم يرزأ في جسمه فليظن أن الله قد قلاه"، ولكن روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:"لا يحزن أحدكم أن لا يراني في منامه إذا كان طالبًا للعلم فله في ذلك العوض".

وقال ابن التين: ذكر احتباس جبريل في هذا الباب ليس في موضعه.

قال: وقول الكافرة: أبطأ عليه شيطانه -يعني: جبريل- ففيه ما كان يلقى من الأذى.

وفيه: استعماله ما أمر به من الصبر، وما ذكره ماش في الكافرة على ما رواه الحاكم من حديث زيد بن أرقم، أن قائل ذلك امرأة أبي

(1)

ورد بهامش الأصل: (من خط الشيخ، ذكره الواقدي وفيه لما علم من صحة نفسه) وهذِه الرواية في "سنن أبي داود"(1314) باب: من نوى القيام فنام، وصححها الألباني في "صحيح أبي داود" 5/ 59 (1187).

(2)

رواه ابن جرير في "تفسيره" 12/ 624 (37512).

(3)

وروى هذِه الزيادة ابن جرير أيضًا في "تفسيره" 12/ 624 (37514).

ص: 33

لهب

(1)

، فنزلت السورة. وقال: هذا إسناد صحيح، إلا أني وجدت له علة فذكرها

(2)

. وفي "تفسير سنيد بن داود" أن قائل ذلك عائشة، وفيه نظر؛ لأن السورة مكية بالاتفاق.

وزعم أبو عبد الله محمد بن علي بن عسكر أن قائلة ذلك أحد عماته.

وروى ابن جرير عن جندب بن عبد الله قَالَ: امرأة من أهله، أو من قومه وُدع محمد

(3)

. ولابن إسحاق أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخضر، وذي القرنين، والروح، فوعدهم بالجواب إلى غدٍ، ولم يستثنِ، فأبطأ عليه جبريل اثنتي عشرة ليلة، وقيل أكثر من ذلك، فقال المشركون: ودعه ربه، فنزل جبريل بالضحى، وقوله:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا}

(4)

[الكهف: 23 - 24].

ومعنى {وَالضُّحَى (1)} أي: ورب الضحى. وقيل: إنه يقسم بما شاء من خلقه.

و {سَجَى} [الضحى: 2] سكن، أو استوى، أو جاء، أو غطى كل شيء، أو أظلم، أو ذهب؛ أقوال، يقال: سجى يسجو إذا سكن، وإنما يسكن إذا غطيت ظلمته.

({وَدَّعَكَ})[الضحى: 3] من التوديع، ولا تستعمل ودعك إلا في قليل من الكلام، ومن قرأ بتشديد الدال يقول: ما هو آخر عهدك بالوحي. ومن خفف يقول: ما تركك؛ والمعنى واحد.

(1)

ورد بهامش الأصل: من خط الشيخ: وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان واسمها العوراء.

(2)

"المستدرك" 2/ 526 - 527.

(3)

"تفسير الطبري" 12/ 623 (37503).

(4)

"سيرة ابن هشام" 1/ 321 - 322.

ص: 34

وقال أبو عبيدة: التشديد من التوديع، والتخفيف من ودع يدع إذا سكن.

و {قَلَى} . يُقال: قلاه يقليه ويقلاه قَلاء وقِلاء إذا أبغضه؛ إذا كسرت قصرت، وإذا فتحت مددت.

ص: 35

‌5 - باب تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ

وَطَرَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا عليهما السلام لَيْلَةً لِلصَّلَاةِ.

1126 -

حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ هِنْدٍ بِنْتِ الْحَارِثِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً فَقَالَ:"سُبْحَانَ اللهِ! مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتْنَةِ؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ". [انظر: 115 - فتح: 3/ 10]

1127 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عليه السلام لَيْلَةً فَقَالَ:"أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا. فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا. ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهْوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهْوَ يَقُولُ:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} . [الكهف: 54]

1128 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهْوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، وَمَا سَبَّحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا. [1177 - مسلم: 718 - فتح: 3/ 10]

1129 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ:"قَدْ رَأَيْتُ الذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ". وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. [انظر: 729 - مسلم: 761، 782 - فتح: 3/ 10]

ص: 36

ذكر فيه حديث أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللهِ! مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفتن؟ .. " الحديث.

وحديث الزهري: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، أنه عليه السلام طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ .. الحديث.

وحديث عائشة: أنه عليه السلام صلى ذات ليلة في المسجد .. الحديث، وعنها إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ العَمَلَ .. إلى آخره.

الشرح:

أما قوله: (وطَرَقَ فَاطِمَةَ وعليًا) قد أسنده في الباب.

ومعنى (طرقهما): أتاهما ليلًا، هذا هو المشهور، وقيل: طرقه: أتاه.

وقوله في الحديث: (لَيْلَةٍ) للتأكيد. وحكى ابن فارس أن طرق: أتى كما تقدم

(1)

، فعلى هذا يكون لنا ليلًا على البيان لوقت مجيئه أنه كان بالليل.

وحديث أم سلمة سلف في باب العلم، والعظة بالليل من كتاب العلم

(2)

.

وحديث علي يأتي في تفسير سورة الكهف في قوله تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}

(3)

[الكهف: 54].

وقوله فيه: ("أَلَا تُصَلِّيَانِ؟ ") أي: النافلة.

وفيه: كراهة احتجاج علي، وأراد منه أن ينسب نفسه إلى التقصير.

(1)

"مجمل اللغة" 1/ 595.

(2)

سبق برقم (115).

(3)

سيأتي برقم (4724).

ص: 37

وفيه: أن السكوت يكون جوابًا.

وفيه: ضرب الفخذ عند التوجع والأسف.

وفيه: تروعه بالقرآن، وسرعة الانصراف عمن كره مقالته، وحفظ علي لما رأى منه، وبثه إياه؛ ليتأسى به غيره، وقبول خبر الواحد. ورواية الرجل عن أبيه عن جده.

وكان علي بن الحسين يوم قتل الحسين ابن سبع عشرة سنة. ولما أمر بقتل من أثبت منهم قام إليه عمرو بن حريث، فنظر إليه، فوجده قد أثبت، فقال: لم ينبت فترك

(1)

.

قَالَ الزهري: وما رأيت قرشيًّا أفضل منه

(2)

.

وقوله: ({وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا})[الكهف: 54] احتج به من قَالَ: الإنسان ها هنا عام في سائر الناس المؤمن والكافر، وقيل: هو الكافر خاصة مثل: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر:2] فهذِه أكثر من عشر فوائد معجلة.

وحديث عائشة: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل. أخرجه مسلم

(3)

. وفي بعض الروايات تقديم قولها: (مَا سَبَّحَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم .. ) إلى آخره على قولها: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيَدَعُ العَمَلَ)

(4)

، وحديثها الآخر سلف في باب إذا كان بين الإمام والقوم حائط وغيره

(5)

.

(1)

ذكره ابن سعد في "الطبقات" 5/ 221.

(2)

انظر: "المعرفة والتاريخ" 1/ 544.

(3)

مسلم برقم (718) باب: استحباب صلاة الضحى ..

(4)

"سنن أبي داود"(1293) باب: صلاة الضحى.

(5)

برقم (729) كتاب: الأذان.

ص: 38

إذا تقرر ذلك، فالكلام على أحاديث الباب من أوجه:

أحدها:

قوله: (فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ). يحتمل وجهين، كما قَالَ ابن الجوزي.

أحدهما: فيفرضه الله تعالى.

والثاني: فيعملوا به اعتقادًا أنه مفروض.

وقال ابن بطال: ظاهر حديث عائشة أن من الفرائض ما يفرضه الله تعالى على العباد من أجل رغبتهم فيها وحرصهم؛ والأصول ترد هذا التوهم، وذلك أن الله تعالى فرض على عباده الفرائض، وهو عالم بثقلها وشدتها عليهم، أراد محنتهم، بذلك لتتم الحجة عليهم فقال:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]. وحديث موسى ليلة الإسراء حين رده من خمسين صلاة إلى خمس. قَالَ: ويحتمل حديث عائشة -والله أعلم- معنيين:

أحدهما: أنه يمكن أن يكون هذا القول منه في وقت فرض قيام الليل عليه دون أمته، لقوله في الحديث الآخر:"لم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن ثفرض عليكم"

(1)

، فدل على أنه كان فرضًا عليه وحده.

وروى ابن عباس أن قيام الليل كان فرضًا عليه، فيكون معنى قول عائشة: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل. يعني: إن كان يدع عمله لأمته، ودعواهم إلى فعله معه لا أنها أرادت أنه كان يدع العمل أصلًا وقد فرضه الله عليه، أو ندبه إليه؛ لأنه كان أتقى أمته، وأشدهم اجتهادًا.

ألا ترى أنه لما اجتمع الناس من الليلة الثالثة أو الرابعة لم يخرج إليهم، ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة في بيته، فخشي أن يخرج

(1)

حديث (1129).

ص: 39

إليهم، والتزموا معه صلاة الليل أن يسوي الله عز وجل بينه وبينهم في حكمها، فيفرضها عليهم من أجل أنها فرض عليه، إذ المعهود في الشريعة مساواة حال الإمام والمأموم في الصلاة، فما كان منها فريضة فالإمام والمأموم فيه سواء، وكذلك ما كان منها سنة أو نافلة.

الثاني: أن يكون خشي من مواظبتهم على صلاة الليل معه أن يضعفوا عنها فيكون من تَرَكَها عاصيًا لله تعالى في مخالفته لنبيه وترك اتِّباعه، متوعدًا بالعقاب على ذلك؛ لأن الله تعالى فرض اتباعه فقال:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وقال في ترك اتَّباعه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] فخشي على تاركها أن يكون كتارك ما فرض الله عليه؛ لأن طاعة الرسول كطاعته، وكان صلى الله عليه وسلم رفيقًا بالمؤمنين رحيمًا بهم. ويأتي في باب: ما يكره من السؤال. في كتاب الاعتصام، زيادة إن شاء الله

(1)

.

وقال ابن التين -بعد أن ذكر السؤال في أنه كيف يجوز أن تكتب عليهم صلاة الليل وقد أكمل الله عدد الفرائض ورد عدد الخمسين إلى الخمس-: قيل: صلاة الليل كانت مكتوبة عليه، وأفعاله التي تتصل بالشريعة واجب على الأمة الاقتداء به فيها، وكان أصحابه إذا رأوه يواظب على فعلٍ في وقت معلوم يقتدون به ويرونه واجبًا، فَتَرَك الخروج إليهم في الليلة الرابعة لئلا يدخل ذلك في حد ما وجب، والزيادة إنما يتصل وجوبها عليهم من جهة وجوب الاقتداء بأفعاله لا من جهة ابتداء فرض زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر فتجب عليه، ولا يدل ذلك على زيادة فرض في جملة الشرع المفروض في الأصل.

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 117 - 118، وانظر ما سيأتي (7289 - 7297).

ص: 40

وجواب ثان؛ وهو أن الله فرض الصلاة خمسين ثم حط معظمها بشفاعة نبيه وجعل عزائمها خمسًا، فإذا عادت الأمة فيما استوهبت وألزمت متبرعة ما كانت استعفت منه لم يستنكر ثبوته فرضًا عليهم. وقد ذكر الله تعالى فريقًا من النصارى ابتدعوا رهبانية {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ثم لامهم لما قصروا فيها في قوله:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] فخشي الشارع أن يكونوا مثلهم بقطع العمل شفقة على أمته.

وأجاب عن أمره أبا هريرة بالضحى والوصاية بها من وجهين:

أحدهما: أنه أفرده به وعلم أنه لا يثابر عليه الصحابة كمداومة أبي هريرة عليه، فأمن الافتراض به.

قلتُ: لم يفرده به بل شاركه فيه أبو ذر وأبو الدرداء كما سلف.

والثاني: أن يكون أوصاه بالمداومة عليها بعد موته صلى الله عليه وسلم، وهو وقت يؤمن فيه الافتراض.

قَالَ الداودي: وفي تخلفه؛ لئلا يفرض عليهم الفرار من قدر الله.

وفيه: صلاة النافلة جماعة، والجمع في المسجد ليلًا.

وقولها: (وَمَا سَبَّحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا). كذا ثبت من حديث عروة عنها، والسبحة -بضم السين- النافلة. وقيل: الصلاة. قَالَ تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)} [الصافات: 143] قَالَ المفسرون: من المصلين. وفي مسلم

(1)

عنها من طريق عبد الله بن شقيق كما سلف: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ فقالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه

(2)

. وفيه عن معاذة عنها

(1)

كتب فوقها في الأصل: (ت، س) أي: الترمذي والنسائي.

(2)

"صحيح مسلم"(717) كتاب صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى.

ص: 41

من حديث قتادة وغيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعًا ويزيد ما شاء

(1)

. وفي رواية: ما شاء الله

(2)

.

والمراد بالنفي في الأول في علمها، وإثباتها بسبب وهو المجيء من السفر، فلا تعارض وقول النسائي: خالفها عروة وعبد الله بن سفيان. وليس الأمر على ما ذهب إليه؛ لأن عروة إنما روى عنها نفي صلاة الضحى لغير سبب. ورواية معاذة عنها أنه صلاها لسبب، وذلك إذا قدم من سفر أو غيره كما سلف في الرواية الأخرى، نبه على ذلك ابن التين.

وقَالَ ابن الجوزي: رواية إثباتها مقدمة على نفيها.

وقال ابن عبد البر

(3)

: وأما قولها: (مَا سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ).

فهو: أن من علم من السنن علمًا خاصًا يؤخذ به عند بعض أهل العلم دون بعضٍ، فليس لأحدٍ من الصحابة إلا وقد فاته من الحديث ما أحصاه غيره، والإحاطة ممتنعة، وإنما حصل المتأخرون على علم ذلك منذ صار العلم في الكتب، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار كثيرة حسان في صلاة الضحى.

وذكر حديث أم هانئ، ثم ذكر طريقًا منه من حديث أبي الزبير عن عكرمة بن خالد عن أم هانئ أنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فصلى ثماني ركعات، فقلت: يا رسول الله، ما هذِه الصلاة؟ قَالَ:"صلاة الضحى"

(4)

، ثم قَالَ: ألا ترى أن أم هانئ قد علمت من صلاة

(1)

"صحيح مسلم"(719/ 78) باب: استحباب صلاة الضحى.

(2)

"صحيح مسلم"(79/ 719) باب: استحباب صلاة الضحى.

(3)

"التمهيد" 8/ 134 - 145.

(4)

رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" 2/ 226 (1816).

ص: 42

الضحى ما جهلت عائشة؟ وأين أم هانئ في الفقه والعلم من عائشة.

ثم أورد أيضًا حديث أبي ذر: "يصبح على كل سلامَى من ابن آدم صدقة" وفيه: "ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" أخرجه مسلم

(1)

، وأوصى أبا ذر وأبا الدرداء وأبا هريرة بركعتي الضحى

(2)

، ثم روى حديث معاذ بن أنس في ذلك، وإسناده لين ضعيف

(3)

، من حديث نعيم بن همار عنه

(4)

، فهؤلاء كلهم قد عرفوا من صلاة الضحى ما جهله غيرهم.

(1)

برقم (720) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى.

(2)

حديث أبي ذر رواه النسائي 4/ 217 - 218، وأحمد 5/ 173، وابن خزيمة (1083، 1221، 2122).

وحديث أبي الدرداء رواه مسلم (722).

وحديث أبي هريرة سيأتي برقم (1178)، ورواه مسلم (721).

(3)

حديث معاذ بن أنس لم يروه ابن عبد البر كما ذكر المصنف رحمه الله وإنما علقه، فقال: وروى ابن وهب عن يحيى بن أيوب، عن زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"من قعد في مصلاه حين ينصرف من الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى، لا يقول إلا خيرًا، غفر له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر".

قلت: رواه مسندًا أبو داود (1287)، والبيهقي 3/ 49 من طريق ابن وهب، به.

قال المنذري في "المختصر" 2/ 84: سهل بن معاذ ضعيف، والراوي عنه زبان ضعيف أيضًا.

وضعف النووي الحديث في "الخلاصة" 1/ 571 (1937)، والألباني في "ضعيف أبي داود"(238).

(4)

هكذا سياق الكلام بالأصل، ويفهم منه أن نعيم بن همار روى عن معاذ بن أنس حديثه هذا، وليس كذلك، ففي "التمهيد" 8/ 142 - وهو المصدر الذي ينقل منه المصنف- ذكر ابن عبد البر حديثًا آخر في صلاة الضحى عن نعيم ابن همار مرفوعًا بإسناده إليه.

وحديث نعيم بن همار رواه أبو داود (1289)، ومن طريقه ابن عبد البر من طريق =

ص: 43

وذكر أيضًا حديث عتبان بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم صلى في بيته سبحة الضحى، وقاموا وراءه فصلوا

(1)

. ثم قَالَ: وقد كان الزهري يفتي بحديث عائشة ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل الضحى قط، وإنما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلونها بالهواجر، ولم يكن عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمر يصلونها ولا يعرفونها. قَالَ ابن عمر: وإنما صلاة القوم بالليل. وقال طاوس: أوَّل من صلاها الأعراب. وقال ابن عمر: ما صليتها منذ أسلمت. أخرجه عبد الرزاق

(2)

.

وروى معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قَالَ: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئًا أحب إليَّ منها، وهذا نحو قول عائشة.

ثم ذكر حديث معاذة عنها في صلاتها وقال: إنه منكر غير صحيح عندي

(3)

. وهو مردود، وقد علمت أن مسلمًا أخرجه

(4)

.

وجمع النووي بين حديث إثباتها ونفيها أنه كان يصليها وقتًا؛ ويتركها وقتًا خشية الافتراض كما ذكرت عائشة، ويُتأول قولها:(ما كان يصليها إلا أن يجيء من مغيبه): على أن معناه: ما رأيته -كما قالت في الرواية الثانية- ما رأيته يصلي سبحة الضحى.

= مكحول عن كثير بن مرة عن نعيم بن همار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله عز وجل: يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول نهارك أكفك آخره".

قال النووي في "المجموع" 3/ 531، وفي "الخلاصة" 1/ 569 (1928): إسناده صحيح. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1167).

(1)

سلف برقم (425)، ورواه مسلم (33/ 263).

(2)

"المصنف" 3/ 81 (4879).

(3)

انتهى كلام ابن عبد البر بتصرف. "التمهد" 8/ 134 - 145.

(4)

مسلم (719) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى ..

ص: 44

وسببه أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يكون عند عائشة في وقت الضحى إلا في نادر من الأوقات، فإما مسافرٌ أو حاضر في المسجد أو غيره أو عند بعض نسائه، ومتى يأتي يومها بعد تسعة، فيصبح قولها:(ما رأيته يصليها). وتكون قد علمت بخبره أو خبر غيره أنه صلاها.

أو المراد بها: يصليها ما يداوم عليها. فيكون نفيًا للمداومة لا لأصلها -قَالَ-: وأما ما صح عن ابن عمر قَالَ في الضحى: هي بدعة

(1)

، فمحمول على أن صلاتها في المسجد والتظاهر بها كما كانوا يفعلونه بدعة؛ لا أن أصلها في البيوت ونحوها. أو يقال: قوله: بدعة. أي: المواظبة عليها؛ لأن الشارع لم يواظب عليها خشية أن تفرض، وهذا في حقه.

وقد ثبت استحباب المحافظة عليها في حقنا بحديث أبي الدرداء وأبي ذر وأبي هريرة

(2)

. ويقال: إن ابن عمر لم يبلغه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وأمره بها، وكيفما كان فالجمهور على استحبابها، ولربما نقل التوقف فيها عن ابن عمر وابن مسعود

(3)

.

وذكر المنذري وجهًا آخر فقال: ويجمع بينهما بأنها أنكرت صلاة الضحى المعهودة حينئذ عند الناس على الذي اختاره من السلف من صلاتها ثماني ركعات، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها أربعًا ويزيد ما شاء، فيصليها مرة ستًا ومرة ثمانيًا، وأقل ما تكون ركعتين، وقد رأى جماعة صلاتها في بعض الأيام دون بعض؛ ليخالف بينها وبين الفرائض.

(1)

سيأتي برقم (1775)، ورواه مسلم (1255/ 22).

(2)

تقدم تخريجها قريبًا.

(3)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 5/ 130.

ص: 45

وقال عياض: إنه الأشبه عندي في الجمع

(1)

.

وقال القرطبي: يحتمل أن يقال: إنما أنكرت عائشة الاجتماع لها في المسجد -أي: وإنما سنتها البيت- وهو الذي قَالَ فيه عمر: بدعة.

قال: وقد روي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود أنهم كانوا لا يصلونها. قَالَ: وهذا إن صح محمول على أنهم خافوا أن تتخذ سنة، أو يظن بعض الجهال وجوبها، ويحتمل أنها بدعة. أي: حسنة.

كما قَالَ في قيام رمضان. وقد روي عنه: ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل من صلاة الضحى. وهذا منه نص على ما تأولناه.

قَالَ: وقول عائشة: (وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا) بالسين المهملة والباء الموحدة، وهي الرواية المشهورة، أي: لأفعلها

(2)

.

قلتُ: وفي "الموطأ" -كما عزاه ابن الأثير-: أنها كانت تصليها ثماني ركعات، وروي عنها: لو نشر إليَّ أبواي من قبري ما تركتها

(3)

.

قَالَ: وقد وقع في "الموطأ": لأستحبها. من الاستحباب، والأول أولى

(4)

.

ولعلها سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم الحض عليها، وأنه إنما تركها -يعني: المداومة عليها- لأجل ما ذكرته قبل، وهذا يشكل على ما صححه أصحابنا من أن الضحى كانت واجبة عليه وعلى أمته، ومن شأنه أنه إذا عمل عملًا أثبته.

(1)

"إكمال المعلم" 3/ 53.

(2)

"المفهم" 2/ 356 - 357.

(3)

"الموطأ" ص 113، بلفظ: نشر لي.

(4)

هذا من تتمة كلام القرطبي في "المفهم" 2/ 357.

ص: 46

فرع:

وأول وقتها ارتفاع الشمس، وآخره ما لم تزل الشمس، وأفضل وقتها ربع النهار، كما قاله الغزالي في "الإحياء"

(1)

، والماوردي، وهو حين ترمض الفصال، وعند الأكثرين: أكثرها ثمانية.

وقال الروياني والرافعي وغيرهما: أكثرها اثنتا عشرة ركعة

(2)

، وفيه حديث ضعيف

(3)

.

قَالَ المهلب

(4)

: في حديث عائشة أن قيام رمضان بإمام ومأمومين سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى بصلاته ناس ائتموا به، وهذا خلاف من أزرى فقال: سخره عمر ولم يثق إليه في مقالته ولا صدق؛ لأن الناس كانوا يصلون لأنفسهم أفذاذًا، إنما فعل عمر التخفيف عنهم فجمعهم على قارئ واحد يكفيهم القراءة ويفرغهم للتدبر.

واحتج قوم من الفقهاء بقعوده صلى الله عليه وسلم عن الخروج إلى أصحابه الليلة الثالثة أو الرابعة وقالوا: إن صلاة رمضان في البيت أفضل للمنفرد من فعلها في المسجد. منهم مالك وأبو يوسف والشافعى

(5)

، وقال

(1)

"إحياء علوم الدين" 1/ 260.

(2)

"العزيز" للرافعي 2/ 130.

(3)

روى الترمذي (473)، وابن ماجه (1380) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى الضحى ثنتى عشرة ركعة بني الله له قصرًا من ذهب في الجنة.

وهو حديث ضعيف -كما ذكر المصنف- وضعفه النووي في "الخلاصة" 1/ 571 (1938)، والألباني في "ضعيف ابن ماجه"(291)، وفي "ضعيف الجامع"(5658).

(4)

كما في "شرح ابن بطال" 3/ 119.

(5)

"المدونة" 1/ 193، "الأم" 1/ 125 وهو القول القديم للشافعي والمذهب على خلافه.

ص: 47

مالك: كان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وأنا أفعل ذلك، وما قام صلى الله عليه وسلم إلا في بيته

(1)

. وذكر ابن أبي شيبة عن ابن عمر وسالم وعلقمة والأسود أنهم كانوا لا يقومون مع الناس في رمضان

(2)

. وقال الحسن البصري: لأن تفوه بالقرآن أحبُّ إليك من أن يفاه عليك

(3)

.

ومن الحجة لهم أيضًا حديث زيد بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم حين لم يخرج إليهم قَالَ لهم: "إني خشيت أن تفرض عليكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" أخرجه مسلم

(4)

، فأخبر أن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده.

وخالفهم آخرون فقالوا: صلاتها في الجماعة أفضل. قَالَ الليث: لو أن الناس في رمضان قاموا لأنفسهم وأهليهم حَتَّى تترك المساجد حَتَّى لا يقوم (أحد)

(5)

فيها، لكان ينبغي أن يخرجوا إلى المسجد حَتَّى يقوموا فيه

(6)

. لأن قيام الليل في رمضان الأمر الذي لا ينبغي تركه، وهو مما سن الفاروق للمسلمين وجمعهم عليه. وذكر ابن أبي شيبة عن عبد الله ابن السائب قَالَ: كنت أصلي بالناس في رمضان، فبينما أنا أصلي سمعت تكبير عمر على باب المسجد، قدم معتمرًا، فدخل فصلى

(1)

انظر: "التمهيد" 4/ 98.

(2)

روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 168 (7713 - 7714، 7717).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 168 (7718).

(4)

برقم (781) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.

(5)

من ابن بطال 3/ 119.

(6)

عزاه لليث ابن قدامة في "المغني" 1/ 426.

ص: 48

خلفي. وكان ابن سيرين يصلي مع الجماعة، وكان طاوس يصلي لنفسه ويركع ويسجد معهم

(1)

.

وقال أحمد: كان جابر يصليها في جماعة

(2)

. وروي عن علي وابن مسعود مثل ذلك، وهو قول محمد بن عبد الحكم، وممن قَالَ: إن الجماعة أفضل عيسى بن أبان والمزني وبكار بن قتيبة وأحمد بن أبي عمران.

واحتج أحمد في ذلك بحديث أبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم خرج لما بقي من الشهر سبع فصلى بهم حَتَّى مضى ثلث الليل، ثم لم يصل بنا السادسة، ثم خرج الليلة الخامسة فصلى بنا حَتَّى مضى شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله، لو نفلتنا. فقال:"إن القوم إذا صلوا مع الإمام حَتَّى ينصرف كتب قيام تلك الليلة" ثم خرج السابعة وخرجنا، وخرج بأهله حَتَّى خشينا أن يفوتنا الفلاح، وهو السحور. أخرجه ابن أبي شيبة

(3)

.

وكل من اختار الانفراد فينبغي أن يكون ذلك على أن لا ينقطع معه القيام في المسجد، كما نبه عليه الطحاوي

(4)

، فأما الذي ينقطع منه ذلك فلا.

(1)

"المصنف" 2/ 168 - 169 (7719 - 7721).

(2)

انظر: "المغني" 2/ 605.

(3)

"المصنف" 2/ 166 (7694).

والحديث رواه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي 3/ 83 - 84، وابن ماجه (1327).

وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1245)، وفي "الإرواء"(447).

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 314.

ص: 49

قَالَ: وقد أجمعوا على أنه لا يجوز تعطيل المساجد عن قيام رمضان، فصار هذا القيام واجبًا على الكفاية، فمن فعله كان أفضل ممن انفرد، كالفروض التي على الكفاية، أما الذين لا يصبرون ولا يقوون على القيام فالأفضل لهم حضورها؛ ليسمعوا القرآن وتحصل لهم الصلاة، ويقيموا السُّنَّة التي قد صارت علمًا. ذكره ابن القصار، وهو مقالة عندنا.

وفي حديث أم سلمة وعلي -السالفين أول الباب- دلالة على فضل صلاة الليل، وإنباه النائمين من الأهل والقرابة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أيقظ لها عليًّا وابنته من نومهما؛ حثًّا لها على ذلك في وقت جعله الله لخلقه سكنًا لما علم عظم ثواب الله تعالى عليها، وشرفت عنده منازل أصحابها اختار لهم إحراز فضلها على السكون والدعة، وأيقظهن ليخبرهن بما أُنزل؛ ليزدادوا خشوعًا؛ وليصلوا ليلًا. قالت عائشة: وإذا أراد أن يوتر أيقظني

(1)

.

وفيه: السمر بالعلم.

وفي حديث عليًّ رجوع المرء عما ندب إليه إذا لم يوجب ذلك، وأنه

ليس للعالم والإمام أن يشتد في النوافل.

وقوله: (أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ) كلام صحيح قنع به صلى الله عليه وسلم من العذر في النافلة، ولا يعذر بمثل هذا في الفرض.

وقوله: (أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ) هو كقول بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك

(2)

. وهو معنى قوله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42]

(1)

سلف برقم (512) باب: الصلاة خلف النائم.

(2)

رواه مسلم (680) كتاب: المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائته واستحباب تعجيل قضائها.

ص: 50

الآية. أي أن نفس النائم ممسكة بيد الله، وأن التي في اليقظة مرسلة إلى جسدها غير خارجة من قدرة الله، فقنع صلى الله عليه وسلم بذلك وانصرف.

وأما ضربه فخذه وقوله: ({وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا})[الكهف: 54] فإنه ظن أنه أحرجهم وندم على إنباههم، وكذلك لا يحرج الناس إذا حضوا على النوافل ولا يضيق عليهم، إنما يذكروا في ذلك ويشار عليهم.

وقوله: ("مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتْنَ ومِنَ الخَزَائِنِ") قاله لما أعلمه ربه تعالى بوحيه بأنه يفتح على أمته من الغنى والخزائن، وعرفه أن الفتن مقرونة بها بعده مخوفة على من فتحت عليه، ولذلك آثر كثير من السلف القلة على الغنى خوف التعرض لفتنة المال، وقد استعاذ الشارع صلى الله عليه وسلم من فتنته كما استعاذ من فتنة الفقر.

وقوله: ("وصَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ") أزواجه. يعني: من يوقظهن لصلاة الليل، وهو دال على أن الصلاة تنجي من شر الفتن ويعتصم بها من المحن.

وقوله: ("كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ") يريد: كاسية بالثياب الواصفة لأجسامهن لغير أزواجهن، ومن يحرم عليه النظر إلى ذلك منهن، وهن عاريات في الحقيقة، فربما عوقبت في الآخرة بالتعري الذي كانت إليه مائلة في الدنيا مباهية بحسنها، فعرف صلى الله عليه وسلم أن الصلاة تعصم من شر ذلك، وقد فسر مالك أنهن لابسات رقيق الثياب، وقد يحتمل -كما قَالَ ابن بطال- أن يريد صلى الله عليه وسلم بذلك النهي عن لبس رقيق الثياب واصفًا كان أو غير واصف خشية الفتنة

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 117.

ص: 51

وقال ابن التين: يحتمل وجهين: أن تكون ناعمة في الدنيا عجلت لها جنتها وتكون عارية يوم القيامة في الموقف والنار -أو في الموقف- ثم تصير إلى رحمة الله، وأن تكون كاسية عند نفسها عارية عند الناس للباسها ما يصف، كالغلائل ونحوها، وما يشف كالثوب الرقيق الصفر يلصق بالبدن فلا يخفي عن الناظر شيء، وهي عارية لظهور محاسنها، وقيل: كاسيات من النعم عاريات من الشكر. وقيل: إنهن يكشفن بعض أجسادهن، ويشددن الخمر من ورائهن فتنكشف صدورهن فكن كالعاريات، ولا تستر جميع أجسادهن، وقد بسطنا الكلام على هذا في كتاب العلم، وأعدناه لطول العهد به، وسيأتي لنا عودة إلى هذا في باب: لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، من كتاب الفتن

(1)

.

وقوله في أوله: ("سُبْحَانَ اللهِ") هو تعظيم لما رأى، وتنبيه أن من سمعه إذا صيح به التفت، ومعنى:"سُبْحَانَ اللهِ": تنزيهه وبراءته من السوء، وقد سلف.

(1)

انظر ما سيأتي برقم (7068 - 7069).

ص: 52

‌6 - باب قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ

وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَتَّى تَفَطَّرَ قَدَمَاهُ. وَالْفُطُورُ: الشُّقُوقُ.

{انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]: انْشَقَّتْ.

1130 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ -أَوْ سَاقَاهُ - فَيُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ:"أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ". [4836، 6471 - مسلم: 2819 - فتح: 3/ 14]

ثم ذكر فيه حديث المغيرة: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيَقُومُ ليُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ -أَوْ سَاقَاهُ- فَيمالُ لَهُ، فَيَقُولُ:"أفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ ".

هذا الحديث ذكره في التفسير

(1)

كما ستعلمه إن شاء الله

(2)

.

وقوله: (حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ) يقال: ورم يرم: إذا ربا، وهو فعل يفعل من نادر الكلام، وشاذة كما قاله ابن التين

(3)

.

وفيه: أنه كان يفعل من العبادة ما ينهى عنه أمته؛ لعلمه بقوة نفسه؛ ولما لا يخشى عليه من الملول في ذلك.

وقوله: (فيقال له): أي: ألا ترفق بنفسك؟ وقد روي أنه قيل له: غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال:"أفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا".

وفيه: أن السجود والصلاة شكر النعم.

قَالَ المهلب: وفيه: أَخْذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن

(1)

فوقها في الأصل: في سورة الفتح.

(2)

برقم (4836) كتاب: التفسير، باب:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} .

وفوق لفظ الجلالة في الأصل: من طريقيه.

(3)

ورد بهامش الأصل: قال ابن دريد في "الجمهرة" حين ذكر الماضي والمضارع والمصدر وهذا من الشاذ.

ص: 53

أضر ذلك ببدنه؛ لأنه حلال، وله أن يأخذ بالرخصة، ويكلف نفسه ما عفت له به وسمحت.

قَالَ: إلا أن الأخذ بالشدة أفضل، ألا ترى قوله أي في الجواب:"أفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ " فكيف من لم يعلم أنه استحق النار أم لا؟ فمن وفق للأخذ بالشدة فله في الشارع أفضل الأسوة، وإنما ألزم الأنبياء والصالحون أنفسهم شدة الخوف، وإن كانوا قد آمنوا لعلمهم بعظيم نعم الله تعالى عليهم، وأنه بدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في شكره تعالى بأكثر مما افترض عليهم فاستقلوا ذلك، ولهذا المعنى قَالَ طلق بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ونعمه أكثر من أن تحصى، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين

(1)

، وهذا كله مفهوم من قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]

(2)

.

(1)

رواه ابن المبارك في "الزهد" ص 101 (302)، وأبو نعيم في "الحلية" 3/ 65.

(2)

ورد بهامش الأصل: آخر 9 من 4 من تجزئة المصنف.

ص: 54

‌7 - باب مَنْ نَامَ عِنْدَ السَّحَرِ

1131 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:"أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عليه السلام، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا". [1152، 1153، 1974، 1175، 1976، 1977، 1978، 1979، 1980، 3418، 3419، 3420، 5052، 5053، 5054، 5199، 6134، 6277 - مسلم: 1159 - فتح: 3/ 16]

1132 -

حَدَّثَنِي عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَشْعَثَ، سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَيُّ الْعَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتِ: الدَّائِمُ. قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ.

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنِ الأَشْعَثِ قَالَ: إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ فَصَلَّى. [6461، 6462 - مسلم: 741 - فتح: 3/ 16]

1133 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ذَكَرَ أَبِي، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلاَّ نَائِمًا. تَعْنِي: النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 742 - فتح: 3/ 16]

ذكر فيه حديث عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ صَلَاةُ دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا".

وحديث مسروق: قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: أَيُّ العَمَلِ كَانَ أَحَبَّ إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتِ: الدَّائِمُ. قُلْتُ: مَتَى كَانَ يَقُومُ؟ قَالَتْ: يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارخَ.

وحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ: أنا أَبُو الأَحْوَصِ- واسمه سلاَّم بن سليم الحنفي، مات هو ومالك، وحماد بن زيد، وخالد الطحان سنة سبع وسبعين ومائة- عَنِ الأَشْعَثِ قَالَ: إِذَا سَمِعَ الصَّارخَ قَامَ فَصَلَّى.

ص: 55

قلتُ: والصارخ: الديك.

حديث عائشة قالت: ما ألفاه السحر عندي إلا نائمًا، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.

الشرح:

أما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه مسلم

(1)

، والأربعة أيضًا مختصرًا أو مطولًا. وكرره البخاري قريبًا

(2)

.

وفي الصوم في مواضع ستة

(3)

، وفي أحاديث الأنبياء في موضعين

(4)

، والنكاح

(5)

، والأدب

(6)

، وفضائل القرآن

(7)

، والاستئذان

(8)

.

وذكر عبد الحق في "أحكامه" أن عطاء رواه عن عبد الله بن عمرو، وهو خطأ، بينهما السائب بن فروخ كما أخرجه مسلم

(9)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1159) في الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به.

(2)

برقم (1974) باب: حق الضيف في الصوم.

ثم إن الناسخ زاد سطرًا؛ كتب في أوله (زائد) وفي نهايته إلى، وتعني أنها زيادة ونصها (في باب حق الضيف: حدثنا إسحاق بن راهويه كما صرح به أبو نعيم، وقال الجياني: لم ينسبه أبو نصر من شيوخنا).

قلت: سيأتي تعليق المصنف هذا هناك.

(3)

برقم (1975) باب: حق الجسم في الصوم، و (1976) باب: صوم الدهر، و (1977) باب: حق الأهل في الصوم، و (1978) باب: صوم يوم وإفطار يوم، و (1979، 1980) باب: صوم داود عليه السلام.

(4)

برقم (3418 - 3419) باب: قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} و (3420) باب: أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام.

(5)

برقم (5199) باب: لزوجك عليك حق.

(6)

برقم (6134) باب: حق الضيف.

(7)

برقم (5052 - 5054) باب: في كم يقرأ القرآن.

(8)

برقم (6277) باب: مَن أُلقي له وسادة.

(9)

مسلم (1159/ 186).

ص: 56

وعطاء هذا هو ابن أبي رباح، صرح به المزي، وذكر الطرقي أنه ابن السائب.

وروى البزار منه: "وكان لا يفر إذا لاقى" من حديث الحجاج بن أرطاة، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو

(1)

، كذا أخرجه الطبراني من طريق حجاج، عن عطاء، ومن طريق الأوزاعي، عن عطاء، عنه

(2)

.

قَالَ القرطبي: ظن من لا بصيرة عنده: إنه حديث مضطرب، وليس كذلك، فإنه إذا تتبع اختلافه، وضم بعضه إلى بعض انتظمت صورته، وتناسب مساقه إذ ليس فيه اختلاف وتناقض، بل يرجع اختلافه إلى أن ذكر بعضهم ما سكت عنه غيره، وفصل بعض ما أجمله غيره

(3)

.

وحديث عائشة الأول أخرجه أيضًا في الرقاق

(4)

. وأخرجه مسلم (د) أيضًا

(5)

.

و (أشعث) في إسناده هو أبي الشعثاء سليم بن أسود.

وشيخ البخاري فيه (محمد) قد أسلفنا أنه ابن سلام، وكذا نسبه ابن السكن.

قَالَ الجياني: وفي نسخة أبي ذر، عن أبي أحمد الحموي: حَدَّثنَا محمد بن سالم.

وقال أبو الوليد الباجي: محمد بن سالم ذكر البخاري، وساق الحديث: حَدَّثنَا محمد بن سالم -وعلى سالم علامة الحموي- قَالَ:

(1)

"البحر الزخار" 6/ 379 (2397).

(2)

أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 195 وقال: رواه الطبراني في الكبير.

(3)

"المفهم" 3/ 224.

(4)

برقم (6461 - 6462) باب: القصد والمداومة على العمل.

(5)

برقم (741) باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم ..

ص: 57

وسألت عنه أبا ذر فقال: أراه ابن سلام، وسها فيه أبو محمد الحموي.

ولا أعلم في طبقة شيوخ البخاري محمد بن سالم.

ورواه الإسماعيلي عن محمد بن يحيى المروزي، ثنا خلف بن هشام، ثنا أبو الأحوص، عن أشعث، عن أبيه، عن مسروق، أو الأسود قَالَ: سألت عائشة .. الحديث. ثم قَالَ: لم يذكر البخاري بعدُ أشعث في هذا الوجه.

وفي رواية أبي داود: كان إذا سمع الصراخ قام فصلى

(1)

.

وذكر أبو نعيم أن البخاري رواه عن عبدان، عن ابن المبارك، عن شعبة. والذي في البخاري عبدان، عن أبيه، عن شعبة، فاعلمه. وحديثها الآخر أخرجه مسلم

(2)

.

إذا عرفت ذلك؛ فالكلام عليها من أوجه:

أحدها:

قوله: ("أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ صَلَاةُ دَاوُدَ") يريد لمن عدا النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل: 1 - 2] الآيات وقد سلف أن هذا الأفضل لمن قسم الليل أسداسًا.

وفي "كتاب المحاملي": وإن صلى بعض الليل، فأي وقت أفضل؟

فيه قولان:

أحدهما: أن يصلي جوف الليل.

والثاني: وقت السحر؛ ليصلي صلاة الفجر وهو غريب.

وقوله: ("وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كان يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ

(1)

"سنن أبي داود"(1317) باب: وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل.

(2)

برقم (742) باب: صلاة الليل، وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل.

ص: 58

يَوْمًا") ظاهره أنه أفضل من صوم الدهر عند عدم التضرر، وقد صرح به بعض أصحابنا، ولا شك أن المكلف لم يتعبد بالصيام خاصة، بل به وبالحج والجهاد وغير ذلك.

فإذا استفرغ جهده في الصوم خاصة انقطعت قربه، وبطلت سائر العبادات، فأمر أن يستبقي قوته لها.

وبين ذلك في الحديث الآخر في قصة داود: "وكان لا يفر إذا لاقى"

(1)

.

وبين ذلك لعبد الله بن عمرو فقال: إنك إذا قمت الليل -يريد كله- هجمت له العين، ونفهت له النفس، لا صام من صام الدهر

(2)

، وقيل: النهي لمن صام الأيام المنهي عنها، وقيل في قوله:(لا أفضل من ذلك) بالنسبة إلى المخاطب لما علم من حاله ومنتهى قوته، وأن ما هو أكثر من ذلك يضعفه عن فرائضه، ويقعد به عن حقوق نفسه.

الثاني:

وجه ترجمة البخاري من هذا الحديث: نوم داود السدس الأخير، وقام ثلثه، وهو الوقت الذي ينادى فيه: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟

(3)

ونومه السدس الأخير؛ ليستريح من نصب القيام السابق.

ووجه كونها أحب؛ لأنها أرفق على النفس وأبعد من الملل المؤدي إلى الترك، والله يحب أن يديم فضله ويوالي نعمه أبدا، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم:

(1)

يأتي برقم (1979) كتاب: الصوم، باب: صوم داود عليه السلام.

(2)

الموضع السابق.

(3)

يأتي برقم (1145) أبواب: التهجد، باب: الدعاء والصلاة من آخر الليل.

ص: 59

"إن الله لا يمل حَتَّى تملوا"

(1)

يعني: أنه لا يقطع المجازاة على العبادة حَتَّى تقطعوا العمل، فأخرج لفظ المجازاة بلفظ الفعل؛ لأن الملل غير جائز على الرب جل جلاله، ولا من صفاته، ووجه كون أحب العمل إليه الدائم؛ لأن مع الدوام على العمل القليل يكون العمل كثيرًا، وإذا تكلف المشقة في العمل انقطع عنه وتركه فكان أقل.

الثالث:

قولها: (كَانَ يَقُومُ إِذَا سَمِعَ الصَّارخ) هو نحو من قول ابن عباس: نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، كذا قاله ابن التين.

وقال ابن بطال: هذا في حدود الثلث الآخر لتحري وقت نزول الرب تعالى: أي أمره

(2)

.

وقولها: (مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلا نَائِمًا) أي: مضطجعًا على جنبه؛ لأنها قالت في حديث آخر: فإن كنت يقظانة حَدَّثَني وإلا اضطجع حَتَّى يأتيه المنادي للصلاة

(3)

؛ فتحصل بالضجعة الراحة من نصب القيام، ولما يستقبله من طول صلاة الصبح؛ ولذلك كان ينام عند السحر.

وهذا كان يفعله صلى الله عليه وسلم في الليالي الطوال وفي غير رمضان؛ لأنه قد ثبت عنه تأخير السحور على ما يأتي في الباب بعده.

(1)

يأتي برقم (5861) كتاب: اللباس، باب: الجلوس على الحصير ونحوه.

(2)

"شرح ابن بطال" 3/ 123.

(3)

يأتي برقم (1161) باب: مَن تحدث بعد الركعتين ولم يضطجع.

ص: 60

‌8 - باب مَنْ تَسَحَّرَ

(1)

فَلَمْ يَنَمْ حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ

1134 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ نَبِىَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رضي الله عنه تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى. قُلْنَا لأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلَاةِ؟ قَالَ: كَقَدْرِ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً. [انظر: 576 - فتح: 3/ 18]

ذكر فيه حديث أنس: أَنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا .. الحديث.

وقد سلف في باب: وقت الفجر

(2)

.

وفيه: تأخير السحور، والمراد بالصلاة: صلاة الصبح، وترجم عليه

البخاري في الصيام باب: كم قدر بين السحور وصلاة الصبح

(3)

.

إلا أول ما قام إليه ركعتا الفجر؛ لأنه حين كان قبلَ الفجر وبينهما مقدارُ ما ذكر، ففي تلك المدة صلى ركعتي الفجر ثم قعد ينتظر الصلاة

(4)

.

(1)

أشير في الهامش إلى أن بعد هذِه الكلمة (في نسخة: ثم قام إلى الصلاة).

(2)

برقم (576) كتاب: مواقيت الصلاة.

(3)

برقم (1921).

(4)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الخامس بعد التسعين، كتبه مؤلفه غفر الله له.

ص: 61

‌9 - باب طُولِ الْقِيَامِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ

1135 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ. قُلْنَا: وَمَا هَمَمْتَ؟ قَالَ: هَمَمْتَ أَنْ أَقْعُدَ وَأَذَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 773 - فتح: 3/ 19]

1136 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. [انظر: 245 - مسلم: 255 - فتح: 3/ 19]

ذكر فيه حديث أبي وائل

(1)

، وهو شقيق بن سلمة، عن عبد الله قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَلَمْ يَزَلْ قَائِمًا .. الحديث.

وحديث حذيفة: كَانَ إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ.

وهذا سلف في الطهارة

(2)

، لكن لا مناسبة له هنا؛ لأن الشوص ليلا لا يدل على طول صلاة ولا قصرها. نعم، حديثه الآخر في مسلم: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع .. الحديث بطوله

(3)

، فكأنه أشار إليه ولا شك أن السواك من كمال هيئة الصلاة والتأهب (لها، قلنا:)

(4)

وأخذ النفس بما تؤخذ به نهارا، فكأن ليله

(1)

ورد بهامش الأصل: من خط الشيخ وقع هنا في ابن بطال إنه يمكن يكون غلط من الناسخ فله في غير موضعه وعاجلته المنية [يعني: البخاري أو ناسخ الصحيح، كما في ابن بطال] عن تهذيب كتابه وتصفحه، وله فيه مواضع مثل هذا دالة على أنه مات قبل تحريره.

(2)

برقم (245) باب: السواك.

(3)

مسلم برقم (772) باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل.

(4)

ما في الصلب هو صورته التقريبية في الأصل، ووجدنا أنه المصنف قد نقل -دون أن يشير- عن ابن المنير في "المتواري" ص 119، وفيه: والتأهب (للعبارات) =

ص: 62

نهارا، وهو دليل على طول القيام فيه إذ النافلة المخففة لا تتهيأ له هذا التهيؤ الكامل

(1)

.

وحديث عبد الله أخرجه مسلم

(2)

، وهو ظاهر الدلالة على طول القيام؛ لأنه هم أن يقعد ويذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عبد الله جلدًا مقتديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم محافظًا على ذلك.

وقد اختلف العلماء: هل الأفضل في صلاة التطوع: طول القيام أو كثرة الركوع والسجود؟ فذهبت طائفة إلى الثاني، وروي عن أبي ذر أنه كان لا يطيل القيام ويطيلهما، فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة، وحط عنه بها خطيئة"

(3)

، وروي عن ابن عمر أنه رأى فتى يصلي قد أطال صلاته فلما انصرف قَالَ: من يعرف هذا؟ قَالَ رجل: أنا، قَالَ عبد الله: لو كنت أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا قام العبد يصلي أتي بذنوبه فجعلت على رأسه وعاتقه، فكلما ركع وسجد تساقطت عنه"

(4)

.

= فلعل ما وقع هنا تحريف لا وجه له، لاضطراب العبارة.

(1)

انظر: "المتواري" ص 115.

(2)

برقم (773) باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل.

(3)

رواه أحمد في "مسنده" 5/ 147، والبخاري في "تاريخه" 7/ 430، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 476، والبيهقي في "الكبرى" 3/ 10 كتاب: الصلاة، باب: من استحب الإكثار من الركوع والسجود. من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن المخارق قال: مررت بأبي ذر بالربذة .. الحديث.

(4)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 477، والبيهقي في "الكبرى" 3/ 10 كتاب: الصلاة، باب: مَن استحب الإكثار من الركوع والسجود. وفي "شعب الإيمان" 3/ 145 - 146 (3146)، من طريق معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن يزيد بن أرطأة، عن جبير بن نفير، عن عبد الله بن عمر به، ورواه =

ص: 63

وقال يحيى بن رافع: كان يقال: لا تطيل القراءة في الصلاة فيعرض لك الشيطان فيفتنك

(1)

.

وقال آخرون بالأول، واحتجوا بحديث أبي سفيان عن جابر قَالَ: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل؟ قَالَ: "طول القنوت"

(2)

، وهو قول إبراهيم وأبي مجلز والحسن، وإليه ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد

(3)

.

وقال أشهب: هو أحب إلى لكثرة القراءة على سعة ذلك كله

(4)

، وليس في حديث أبي ذر وابن عمر ما يمنع هذا إذ يجوز أن يكون المراد: فإن زاد مع ذلك طول القيام كان أفضل، وكان ما يعطيهم الله من الثواب أكثر، فهذا أولى ما حمل عليه معنى الحديث.

وكذا حديث ابن عمر ليس فيه تفضيلهما على طول القيام، وإنما فيه ما يعطاه المصلي على الركوع والسجود من حط الذنوب عنه، ولعله يعطى بطول القيام أفضل من ذلك -نبه عليه الطحاوي-، وحديث ابن مسعود يشهد بصحة هذا القول.

وفي الحديث أن مخالفة الإمام أمر سوء كما قَالَ ابن مسعود.

وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] الآية.

= أبو نعيم في "الحلية" 6/ 99 - 100 من طريق عيسى بن يونس، عن ثور، عن أبي المنيب، قال: رأى ابن عمر فتى يصلي .. الحديث. وقال: غريب من حديث أبي المنيب وثور لم نكتبه إلا من حديث عيسى بن يونس.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 224 (8351) كتاب: الصلوات.

(2)

رواه مسلم (756/ 165) باب: أفضل الصلاة طول القنوت.

(3)

انظر: "شرح معاني الآثار" 1/ 477، و"البحر الرائق" 2/ 96 - 97.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 526 - 527.

ص: 64

وكذا قَالَ صلى الله عليه وسلم للذين صلوا خلفه قيامًا وهو جالس: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به .. " إلى آخره

(1)

، فينبغي أن يكون ما خالف الإمام من أمر الصلاة وغيرها بما لا ينبغي.

وفيه: أن السواك من السنن ولا شك فيه، وهو من الفطرة، واستحبابه عند القيام من النوم، وقد سبق في موضعه، والاختلاف في الشوص، قَالَ الحربي: يستاك عرضا وهو قول أكثر أهل اللغة.

(1)

سلف برقم (378).

ص: 65

‌10 - باب (صَلَاةِ اللَّيْلِ)

(1)

صلى الله عليه وسلم

-

وَكَمْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ؟

1137 -

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ:"مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ". [انظر: 472 - مسلم: 749 - فتح: 3/ 20]

1138 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً. يَعْنِي بِاللَّيْلِ. [مسلم: 764 - فتح: 3/ 20]

1139 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، فَقَالَتْ: سَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ، سِوَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ. [فتح: 3/ 20]

1140 -

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ. [1147 - مسلم: 738 - فتح: 3/ 20]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها:

حديث بن عمر أنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيلِ؟

قَالَ: "مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْبرْ بِوَاحِدَةٍ".

(1)

ورد في هاش الأصل ما يدل على أن في نسخة: كيف كان صلاة النبي.

ص: 66

ثانيها:

حديث ابن عباس قال: كانت

(1)

صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.

يَعْنِي: بِاللَّيْلِ.

ثالثها:

روي عن مسروق، عن عائشة: أن صلاته عليه السلام بِاللَّيْلِ، فَقَالَتْ: سَبْعٌ وَتسْعٌ وَإِحْدى عَشْرَةَ، سِوى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ.

طريق آخر: عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنها: كَانَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا الوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الفَجْرِ.

الشرح:

حديث ابن عمر تقدم في باب: الوتر

(2)

، وعليه أكثر أهل العلم، وحديث ابن عباس أخرجه مسلم أيضًا

(3)

، وكذا الترمذي وصححه

(4)

.

زاد أبو داود: منها ركعتا الفجر

(5)

.

وراويه عن ابن عباس أبو جمرة -بالجيم والراء- نصر بن عمران الضبعي.

وحديث عائشة الأول من أفراده.

والثاني أخرجه مسلم أيضًا

(6)

، ورواه ابن نمير بلفظ: كانت صلاته عشر ركعات ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة

(7)

.

(1)

ورد في هامش س ما نصه: في نسخة الدمياطي بخطه: (كان).

(2)

برقم (749) باب: صلاة الليل مثنى مثنى والوتر ركعة من آخر الليل.

(3)

برقم (461) باب: ما جاء في الوتر بركعة.

(4)

الترمذي (442).

(5)

"سنن أبي داود"(1365) باب: في صلاة الليل.

(6)

برقم (738) باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل ..

(7)

مسلم برقم (738/ 128).

ص: 67

وشيخ البخاري في الطريق الأول من حديث عائشة: إسحاق عن عبيد الله.

قَالَ الجياني: لم أجده منسوبًا لأحد من رواة الكتاب، وذكر أبو نصر أن إسحاق الحنظلي يروي عن عبيد الله بن موسى في "الجامع"

(1)

، ويؤيد ذلك أن أبا نعيم أخرجه كذلك، ثم قَالَ في آخره: رواه -يعني: البخاري- عن إسحاق عن عبيد الله، وكذا ذكره الدمياطي أنه ابن راهويه، لكن الإسماعيلي رواه في كتابه عن إسحاق بن سيار النصيبي، عن عبيد الله، وإسحاق هذا صدوق ثقة كما قاله ابن أبي حاتم

(2)

، لكن ليس له رواية في الكتب الستة، ولا ذكره البخاري في "تاريخه الكبير"، فتعين أنه الأول.

وفيه أبو حصين بفتح أوله وهو عثمان بن عاصم بن حصين، كوفي، أسدي، مات سنة ثماني وعشرين ومائة

(3)

.

وشيخ البخاري في الثاني: عبيد الله بن موسى وهو العبسي، مات سنة ثلاث عشرة ومائتين، حدث عنه وعن رجل عنه

(4)

.

إذا تقرر ذلك، فثلاث عشرة مبنية على الفتح، وأجاز الفراء سكون الشين من عشر.

وقول ابن عباس: (ثلاث عشرة) بينه في مبيته عند خالته ميمونة ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر، ثم

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 982.

(2)

"الجرح والتعديل" 2/ 237.

(3)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" 6/ 321. و"التاريخ الكبير" 6/ 240 - 241 (2277). و"الجرح والتعديل" 6/ 160 - 161 (883).

(4)

انظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" / 400. و"التاريخ الكبير" 5/ 401 (1293).

و"الجرح والتعديل" 5/ 334 (1582). و"تهذيب الكمال" 19/ 164 (3689).

ص: 68

اضطجع حَتَّى جاءه المؤذن، ثم خرج فصلى

(1)

الصبح، وفي أخرى ذكرها ست مرات ثم أوتر، ثم اضطجع، ثم ركع الفجر

(2)

.

وقول عائشة: (سَبْعٌ، وَتِسْعٌ، وَإِحْدى عَشْرَةَ، سِوى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ) تريد ليلةً: سبعًا، وأخرى تسعًا، وأخرى إحدى عشرة، وهو أكثر ما كان يصلي كما أخبرت به عائشة: ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا أخرجاه

(3)

.

وروي عنها: ثلاث عشرة فيحتمل أنها نسيت رواية: إحدى عشرة، أو أسقطت: ركعتي الفجر، أو وصفته بأكثر فعله وأغلبه. وفي "الموطأ" من حديث هشام، عن أبيه، عنها أنه كان يصلي ثلاث عشرة، ثم يصلي إذا سمع نداء الصبح ركعتين

(4)

، وسندها لا شك في صحته. وقد أخرجها البخاري في باب: ما يُقرأ في ركعتي الفجر، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك به، وقال: ركعتين خفيفتين

(5)

.

فلعل الثلاث عشرة بإثبات سنة العشاء التي بعدها، أو أنه عدا الركعتين الخفيفتين عند الافتتاح، أو الركعتين بعد الوتر جالسًا؛ لكن روي في باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وغيره، عن عبد الله بن

(1)

سلف برقم (992) كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوترِ، ويأتي برقم (4570) كتاب: التفسير، باب:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} .

(2)

التخريج السالف.

(3)

يأتي برقم (1147) باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره، ورواه ومسلم برقم (738) باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل.

(4)

"الموطأ" ص 95.

(5)

يأتي برقم (1170) باب: ما يقرأ في ركعتي الفجر.

ص: 69

يوسف، عن مالك، عن سعيد، عن أبي سلمة أنه سأل عائشة فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة

(1)

.

ثم اعلم أنه اختلف عن ابن عباس أيضًا، فروي عن مالك، عن مخرمة بن سليمان، عن غريب، عنه أنه صلى أيضًا إحدى عشرة بالوتر

(2)

.

وروى شريك بن أبي نمر، عن كريب، عنه أنه صلى أيضًا إحدى عشرة ركعة

(3)

. وعن سعيد بن جبير، عنه مثله

(4)

.

وروى المنهال بن عمرو، وعن علي بن عبد الله بن عباس، عنه في مبيته إحدى عشرة ركعة بالوتر. أخرجه الطحاوي

(5)

.

وروي عن عائشة ما تقدم، وعنها: إحدى عشرة سوى ركعتي الفجر، وروي عن زيد بن خالد الجهني- حين رمق صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل: ثلاث عشرة بالوتر

(6)

.

وقد أكثر الناس القول في هذِه الأحاديث، فقال بعضهم: إن هذا الاختلاف جاء من قبل عائشة وابن عباس؛ لأنَّ رواةَ هذِه الأحاديث ثقاتٌ حفاظ، وكل ذلك قد عمل به الشارع ليدل على التوسعة في ذلك، وأن صلاة الليل لا حد فيها لا يجوز تجاوزه إلى غيره، وكلٌّ سنة.

(1)

يأتي برقم (1147) باب: ما جاء في الوتر.

(2)

هذِه الرواية في مسلم برقم (763/ 182) باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه.

(3)

تأتي هذِه الرواية برقم (4569) كتاب: التفسير.

(4)

"شرح معاني الآثار" 1/ 286 - 287.

(5)

"شرح معاني الآثار" 1/ 287.

(6)

هذِه الرواية عند مسلم (765).

ص: 70

وقال آخرون: بل جاء الاختلاف فيها من قبل الرواة، وإن الصحيح منها إحدى عشرة بالوتر. وقد كشفت عائشة هذا المعنى، ورفعت الإشكال فيه بقولها: ما زاد على إحدى عشرة. وهي أعلم الناس بأفعاله؛ لشدة مراعاتها له، وهي أضبط من ابن عباسٍ؛ لأنه إنما رقب صلاته مرة حين بعثه العباس

(1)

؛ ليحفظ صلاته بالليل، وعائشة رقبت ذلك دهرها كلّه؛ فما روي عنها بما خالف إحدى عشرة، فهو وَهَمٌ، ويحتمل الغلط في ذلك أن يقع من أجل أنهم عدوا ركعتي الفجر مع الإحدى عشرة فتمت بذلك ثلاثة عشرة، وقد جاء هذا المعنى بينًا في طريق عبد الرزاق، عن الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن كريب، عنه في مبيته عند ميمونة

(2)

، وروى ابن وهب من طريق عروة، عن عائشة كذلك

(3)

.

فكل ما خالف هذا عنها فهو وَهَمٌ، قالوا: ويدلُّ على صحة ذلك قول ابن مسعودٍ للرجل الذي قَالَ: قرأت المفصل في ركعة: هذا كهذِّ الشعر لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينها. فذكر عشرين سورةً من المفصل سورتين في كلِّ ركعةٍ

(4)

. فدلَّ هذا على أنَّ حزبه بالليل عشر ركعات، ثم يوتر بواحدة قاله المهلب وأخوه عبد الله

(5)

.

(1)

مسلم برقم (763/ 193).

(2)

جاء هذا الطريق عند عبد الرزاق 2/ 403 (3862) باب: رفع الإمام صوته بالقراءة، وفي 3/ 36 - 37 (4707) باب: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل ووتره.

(3)

هذِه الرواية في مسلم (736/ 122) باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم ..

(4)

سلفت هذِه الرواية برقم (775) باب: الجمع بين السورتين في الركعة.

(5)

كما في "شرح ابن بطال" 3/ 130.

ص: 71

وقال آخرون: الذي يأتلف الأحاديث، وينفي التعارض عنها -والله أعلم- أنه قد روى أبو هريرة وعائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام من الليل يصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين

(1)

. فمن عدهما جعلها ثلاث عشرة سوى ركعتي الفجر، ومن أسقطهما جعلها إحدى عشرة؛ وأما قول عائشة: إن صلاته بالليل سبع وتسع، فقد روى الأسود أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل تسع ركعات فلما أسن صلَّى سبع ركعات

(2)

.

وروي عنها: أنه كان يصلي بعد السبع ركعتين وهو جالس، وبعد التسع كذلك

(3)

.

قَالَ المهلب: وإنما كان يوتر بتسع -والله أعلم- حين يفاجئه الفجر، وأما إذا اتسع له فما كان ينقص عن عشر؛ للمطابقة التي بينها وبين الفرائض التي امتثلها صلى الله عليه وسلم في نوافله وامتثلها في الصلوات المسنونة

(4)

.

(1)

رواية أبي هريرة في "مسلم" برقم (768) باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه.

ورواية عائشة عنده أيضًا برقم (767).

(2)

هذِه الرواية من طريق يحيى الجزار عن عائشة، أخرجها النسائي 3/ 237، وفي "الكبرى" 1/ 425 - 426 (1348، 1351 - 1350، 1353). وعبد الرزاق في "مصنفه" 3/ 41 (4715) باب: صلاة النبي من الليل ووتره.

وأما رواية الأسود عن عائشة، فهذا لفظها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل تسع ركعات. دون الزيادة المذكورة في حديث يحيى عنها.

وقد أخرج رواية الأسود النسائي في "الكبرى" 1/ 425 - 426 (1349 - 1350، 1353).

(3)

هذِه الرواية في "مصنف عبد الرزاق" 3/ 39 (4713) باب: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل ووتره.

(4)

كما في "شرح ابن بطال" 3/ 131.

ص: 72

قَالَ أبو عمر: وقد روي في هذا الخبر أنه صلى الله عليه وسلم يسلم من كل اثنين من صلاته تلك، وروي غير ذلك

(1)

.

وقوله: (صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى) يقضي على كل ما اختلف فيه من ذلك.

ثم ذكر حديث كريب، عنه؛ في مبيته. وفيه الاضطجاع بعد الوتر وقبل ركعتي الفجر، وعدها خمس عشرة.

ثم ذكر حديث مالك، عن مخرمة بن بكير، عن كريب، وفيه: خمس عشرة.

قَالَ: ولم يختلف عن مالك في إسناده، ومتنه، وأكثر ما روي عنه في ركوعه في صلاة الليل ما روي عنه في هذا الخبر عن ابن عباس، وليس في عدد الركعات من صلاة الليل حد محدود عند أحد من أهل العلم، وإنما:"الصلاة خير موضوع"

(2)

.

وقال الطرقي: اختلف الرواة على أبي سلمة في حديث: ما زاد بلفظ المقبري ما سلف، وروى جماعة عنها: كان يصلي من الليل ثلاث عشرة منها ركعتا الفجر. منهم من فصَّل، ومنهم من أجمل. وزاد عروة: فإذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن حَتَّى يأتيه المؤذن.

قَالَ: وقال مسروق: سألت عائشة عن صلاة الليل، فقالت: سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر. وفي رواية الأسود: ثلاث عشرة. ثم إنه صلى إحدى عشرة وترك ركعتين، ثم إنه قبض حين قبض وهو يصلي سبع ركعات. قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وست

(1)

"التمهيد" 8/ 121.

(2)

"التمهيد" 13/ 214. والحديث تقدم تخريجه.

ص: 73

وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة، ولم يكن يدع ركعتين قبل الفجر.

وفي الصحيحين والأربعة من حديث هشام، عن أبيه، عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يصلي ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح.

ولمسلم عن عبد الله بن شقيق: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تطوعه. وفيه: ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، وفيه: وكان إذا طلع الفجر يصلي ركعتين

(1)

.

وللنسائي من حديث يحيى بن الجزار عنها قالت: كان يصلي من الليل تسعًا، فلما أسن وثقل صلى سبعًا

(2)

.

وقد روى يحيى بن الجزار عن ابن عباس قَالَ: كان صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثمان ركعات، ويوتر بثلاث، ويصلي ركعتين قبل صلاة الفجر

(3)

.

وقد روي أيضًا عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث عشرة ركعة، فلما كبر وضعف أوتر بتسع

(4)

.

(1)

"صحيح مسلم"(730) باب: جواز النافلة وقاعدًا ..

(2)

"المجتبى" 3/ 238.

(3)

"المجتبى" 3/ 237.

(4)

هذِه الرواية في "الترمذي"(457) باب: ما جاء في الوتر بسبع. والنسائي 3/ 237

كتاب: قيام الليل وتطوع النهار. قال أبو عيسى: حديث أم سلمة حديث حسن.

وهذِه الرواية صحح الألباني إسنادها في "صحيح الترمذي".

ص: 74

ولأبي داود من حديث سعد بن هشام بن عامر عن عائشة (قالت)

(1)

: قلتُ: حدثيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: كان يوتر بثماني ركعات لا يجلس إلا في التاسعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس فتلك إحدى عشرة، فلما أسن وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة، ثم يصلى ركعتين وهو جالس، فتلك تسع ركعات. وفيه: وكان إذا غلبت عيناه من الليل بنوم صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. ولمسلم نحوه

(2)

.

وأخرج الترمذي -مصححًا- قولها: منعه من ذلك مرض أو غلبته عيناه صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، قَالَ: فأتيت ابن عباس فحدثته، فقال: والله هذا هو الحديث

(3)

. وفي رواية: يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس فيذكر الله ثم يدعو ثم يسلم تسليمًا يسمعنا ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم، ثم يصلي ركعة، فتلك إحدى عشرة، فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ اللحم، أوتر بسبع، وصلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم

(4)

.

وعنده من حديث زرارة بن أوفى عنها: فيصلي ثمان ركعات ولا يجلس في شيء منهن إلا في الثامنة فإنه كان يجلس ثم يقوم ولا يسلم فيصلي ركعة يوتر بها ثم يسلم، يرفع بها صوته

(5)

.

(1)

كذا بالأصل، ولعلها (قال).

(2)

"صحيح مسلم"(746) باب: جامع صلاة الليل ومَنْ نام عنه أو مرض. و"سنن أبي داود"(1342، 1352) باب: في صلاة الليل.

(3)

"سنن الترمذي"(445) باب: إذا نام عن صلاته بالليل صلَّى بالنهار.

(4)

رواه أبو داود (1343) باب: في صلاة الليل. وهذِه الرواية صححها الألباني في "صحيح أبي داود" 5/ 89 (1214).

(5)

"سنن أبي داود"(1347 - 1348) باب: في صلاة الليل.

ص: 75

وفي رواية: ولا يقعد في شيء منها حَتَّى يقعد في الثامنة ولا يسلم، ويقرأ في التاسعة ثم يقعد فيدعو بما شاء الله أن يدعو، ويسأله ويرغب إليه، وسلم تسليمة واحدة، ثم يقرأ وهو قاعد بأم القرآن، ويركع وهو قاعد، ثم يقرأ الثانية ويركع ويسجد وهو قاعد، وبدعو بما شاء. أي: يدعو ثم يسلم وينصرف. فلم تزل تلك صلاته حَتَّى بَدَّن

(1)

فنقص من التسع ثنتين، فجعلها إلى الست والسبع، وركعة وهو قاعد حَتَّى قبض على ذلك

(2)

.

قَالَ المنذري: ورواية زرارة عن سعد عنها هي المحفوظة، وعندي في سماع زرارة منها نظرٌ، فإن أبا حاتم الرازي قَالَ: قد سمع زرارة من عمران وأبي هريرة وابن عباس، ثم قَالَ: وهذا ما صح له، وظاهره عدم سماعه منها

(3)

.

وفي أبي داود أيضًا من حديث علقمة بن وقاص عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر بتسع ركعات، ثم أوتر بسبع ركعات، ويركع ركعتين وهو جالس بعد الوتر يقرأ فيهما، فإذا أراد أن يركع قام فركع ثم سجد

(4)

.

ولما أورد الترمذي في وصف صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل حديث ابن عباس وحديث عائشة: كان يصلي من الليل تسع ركعات. قَالَ: وفي الباب عن أبي هريرة وزيد (م. عو) بن خالد الجهني والفضل بن عباس. ثم

(1)

ورد بهامش الأصل: هذا صوابه، وروي بدن بضم الدال وأنكره غير واحد مخففًا ما لم تكن هذِه صفته وذلك لأن معناها على فطنة .. لحمه وأما معاه مشددة فأسن مفعل من السنن.

(2)

"سنن أبي داود"(1346) باب: في صلاة الليل.

(3)

انتهى كلام المنذري "مختصر السنن" 2/ 101. وانظر: "الجرح والتعديل" 3/ 603 (2727)، و"مراسيل ابن أبي حاتم" ص 63.

(4)

"سنن أبي داود"(1351) باب: في صلاة الليل.

ص: 76

قَالَ: وأكثر ما روي عنه في صلاة الليل ثلاث عشرة ركعة مع الوتر، وأقل ما وصف من صلاته من الليل تسع ركعات

(1)

.

قلتُ: أما حديث أبي هريرة فلا عدد فيه يحصره، وأما حديث زيد فهو ثلاث عشرة بالوتر، وأما حديث الفضل: فصلى عشرًا وأوتر بواحدة ثم ركع ركعتي الفجر.

وذكر القاضي عياض عن العلماء أن كل واحد من ابن عباس وزيد وعائشة أخبر بما شاهد.

وأما الاختلاف في حديث عائشة فقيل: منها، وقيل: من الرواة عنها، فيحتمل أن إخبارها بإحدى عشرة منهن الوتر الأغلبُ، وباقي رواياتها إخبار منها بما كان يقع نادرًا في بعض الأوقات، وأكثره: خمس عشرة بركعتي الفجر، وأقله: سبع.

وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قراءة أو النوم أو لعذر مرض أو غيره أو في بعض الأوقات عند كبر السنن، كما قالت: لما أسن صلى سبع ركعات، أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل، كما رواها زيد، وروتها عائشة، وبعد ركعتي الفجر تارة، وتحذفها تارة أو تعد أحدهما، وقد تكون عدت راتبة العشاء مع ذلك تارة، وحذفتها تارة.

ونقل أبو عمر عن أهل العلم أنهم يقولون: إن الاضطراب عنها في أحاديثها في الحج، والرضاع، وصلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، وقصر صلاة المسافر لم يأت إلا منها؛ لأن الذين يروون عنها حفاظ أثبات

(2)

.

(1)

"سنن الترمذي" 2/ 305.

(2)

"التمهيد" 8/ 226 - 228.

ص: 77

وقال القرطبي: قد أشكلت هذِه الأحاديث على كثير من العلماء حَتَّى إن بعضهم نسبوا حديث عائشة في صلاة الليل إلى الاضطراب، وهذا إنما يصح إذا كان الراوي عنها واحدًا أو أخبرت عن وقت، والصحيح أن كل ما ذكرته صحيح من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات متعددة وأحوال مختلفة حسب النشاط ولتبيين أن كل ذلك جائز

(1)

.

ثم هذِه الأحاديث دالة على سنية قيام الليل لأنه صلى الله عليه وسلم فعله وواظب عليه، وأن الوتر من صلاة الليل، وقد كنا ألممنا ببعض في (

)

(2)

في كتاب العلم في باب: السمر في العلم في حديث ابن عباس في مبيته في بيت ميمونة.

ونختم ذلك بكلام المحاملي في "لبابه" حيث قَالَ: صلاة الوتر على ستة أنواع: ركعة واحدة، ثلاث ركعات مفصولة، خمس لا يقعد إلا في آخرهن ويسلم، سبع يقعد في السادسة ولا يسلم ثم يقوم إلى السابعة ويتمها، تسع ركعات يتشهد في الثامنة ولا يسلم ثم يقول، إلى التاسعة فيتمها، إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ثم فرده

(3)

.

(1)

"المفهم" 2/ 367.

(2)

غير واضحة بالأصل، ولعلها تقارب (كناشته).

(3)

"اللباب" ص 136 - 137.

ص: 78

‌11 - باب قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ وَنَوْمِهِ، وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} إلى قوله: {سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:1 - 7] وَقَوْلِهِ: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} إلى قوله: {وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20].

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَشَأَ: قَامَ بِالحَبَشِيَّةِ، وِطَاءً: مُوَاطَأَةَ القُرْآنِ أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ {لِيُوَاطِئُوا} : لِيُوَافِقُوا [فتح: 3/ 21]

1141 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ وَلَا نَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ. تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ حُمَيْدٍ. [1972، 1973، 3561 - فتح: 3/ 22]

ثم ذكر فيه عن حميد عن أنس: كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ، وَيَصُومُ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لَا يُفْطِرَ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَّا رَأَيْتَهُ وَلَا نَائِمًا إِلَّا رَأَيْتَهُ، تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ حُمَيْدٍ.

الشرح:

ما ذكره البخاري عن ابن عباس في تفسير {نَاشِئَةَ} ذكره عبد بن حميد في "تفسيره" من حديث سعيد بن جبير عنه به سواء

(1)

، وذكر

(1)

عزاه إليه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 443 - 444.

ص: 79

ابن فارس نحوه قَالَ: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6] يريد: القيام والانتصاب للصلاة

(1)

.

فمعنى: نشأ بالحبشية: قام. ولعلها وافقت اللغة العربية في هذا الحبشية.

وقال ابن عباس أيضًا: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} : أوله، ونحو ما بين المغرب والعشاء. وقال الحسن والحكم: هي من العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن ابن عباس وابن الزبير: الليل كله ناشئة

(2)

. وقول أكثر الناس فيما حكاه ابن التين عنهم وصححه، والمعنى: إن الساعات الناشئة من الليل -إن المبتدئة القبلية- بعضها في إثر بعض.

وقال الأزهري: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6] قيامه، مصدر جاء على فاعلة كعاقبة. وقيل: ساعاته. وقيل: كل ما حدث بالليل وبدأ فهو ناشئة.

وقال نفطويه: كل ساعة قامها قائم من الليل فهي ناشئة.

وقوله: (وَطِاءً مواطأة). قَالَ الأخفش: {أَشَدُّ وَطْئًا} أي: قيامًا.

وأصل الوطء في اللغة: الثقل. ومنه الحديث: "اللهم اشدد وطأتك على مضر"

(3)

وقيل: أشد وطاء أشد ثباتًا من النهار، نحو ما في البخاري، من قولك: وطئت الشيء: ثبتُّ عليه. وذكر الإسماعيلي في قوله: {وَطْئًا} أنه على التفسير المذكور: القراءة وطاء، ممدود، والمعنى في وطأ مهموز. أي أثبت للقيام، وكأنه يريد أن القيام بعد قومه أعون على القيام ويقيم القراءة.

(1)

"مجمل اللغة" 2/ 868.

(2)

رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 282 (35205).

(3)

يأتي برقم (6200) كتاب: الأدب، باب: تسمية الولد.

ص: 80

وحديث أنس يأتي إن شاء الله في الصوم في باب ما يذكر من صومه وإفطاره بالسند واللفظ

(1)

.

وراويه عن حميد هو: محمد بن جعفر بن أبي كثير.

وسليمان هو: ابن بلال كما صرح به خلف، وأبو خالد هو: سليمان بن حيان، وذكره المزي بلفظ: وقال سليمان، بدل: تابعه. نعم ذكره بلفظ: وقال في الصوم كما سيأتي، وذكر أن في البخاري حديث أبي خالد في الصلاة والصوم عن محمد -وهو ابن سلام- عن أبي خالد، وذاك في الصوم فقط لا هنا فاعلمه.

وذكر الإسماعيلي أن القاضي أبا يوسف حدث عن محمد بن أبي بكر، ثنا يحيى بن سعيد وحميد: سئل أنس عن صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ: وافقه المعتمر.

إذا تقرر ذلك: فالحديث دال على أن أعمال التطوع ليست منوطة بأوقات معلومة، وإنما هي على قدر الإرادة والنشاط فيها، فكان صلى الله عليه وسلم ليس له في شهر من المشهور صيام معروف ولا فطر معروف، وكذا صلاته كانت تختلف، تارة يصلي وتارة ينام، وذلك -والله أعلم- بحسب التيسير.

وأما الآية الأولى وهي قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ} [المزمل: 2 - 3] ففيها أقوال: منها أن قوله {قُمِ اللَّيْلَ} ليس معناه الفرض بدليل أن بعده {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ} [المزمل: 3 - 4] وليس كذا يكون الفرض، وإنما هو ندب وحض. وقيل: هو حتم. ثالثها: أنه حتم وفرض عليه وحده. روي ذلك عن ابن عباس،

(1)

برقم (1972).

ص: 81

وحجة هذا القول الحديث السالف خشية الافتراض علينا

(1)

؛ فدل على أنه لم يكن فرضًا علينا، ويجوز أن فُرض ثم نُسخ بقوله:{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] وعلى هذا جماعة من العلماء.

روى النسائي

(2)

من حديث عائشة: افتُرِضَ القيام في أول هذِه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه حولًا حَتَّى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا، ثم نزل التخفيف في آخرها، فصار قيام الليل تطوعًا بعد أن كان فريضة

(3)

، وهو قول ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وجماعة، فيما حكاه عنهم النحاس

(4)

.

وقال الحسن وابن سيرين: صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر (حلب)

(5)

شاة

(6)

، وهذا أسلفناه فيما مضى

(7)

. قَالَ إسماعيل بن إسحاق: أحسبهما قالا ذلك لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] قَالَ الشافعي

(8)

: سمعت بعض العلماء يقول: إن الله تعالى أنزل فرضًا في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس فقال: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ} الآية ثم نسخ هذا بقوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ثم احتمل قوله {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أن يكون فرضًا ثابتًا لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ}

(1)

سلف برقم (1129) باب: تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل ..

(2)

ورد بهامش الأصل: وحديث عائشة في مسلم أيضًا.

(3)

"المجتبى" 3/ 199 - 200.

(4)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" 1/ 220 - 221.

(5)

كُتبت في الهامش وكتب فوقه (سقط).

(6)

"المصنف" لابن أبي شيبة 2/ 73 (6607، 6608) مَن كان يأمر بقيام الليل.

(7)

ورد بهامش الأصل: لكن لم يذكر قائله إلا هنا.

(8)

"الأم" 1/ 59.

ص: 82

[الإسراء: 79] فوجب طلب الدليل من السنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا واجب من الصلوات إلا الخمس.

قَالَ أبو عمر: قول بعض التابعين: قيام الليل فرضًا

(1)

، ولو كقدر حلب شاة، قولٌ شاذ متروك؛ لإجماع العلماء أن قيام الليل نسخ بقوله:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] الآية

(2)

.

وقد أسلفنا أن الأصح عندنا نسخه في حقه صلى الله عليه وسلم.

ومعنى الآية السالفة: التقدير -والله أعلم- أنه منصوب بإضمار فعل كأنه قَالَ تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل: 2] فعلم تعالى أن هذا الليل يختلف الناس في تقديره على قدر أفهامهم وطاقتهم على القيام، فقال: أو انقص من نصف الليل بعد إسقاط ذلك القليل قليلًا أو زد عليه، وكان هذا تخييرًا من الله تعالى إرادة الرفق بخلقه والتوسعة عليهم، {وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا}: اقرأه على ترتيل، قاله مجاهد.

{قَوْلًا ثَقِيلًا} حرامه وحلاله، قاله مجاهد، وقال الحسن: العمل به

(3)

.

{نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} بعد النوم. أي: ابتداء عمله شيئًا بعد شيء، وهو من نشأ إذا ابتدأ، وقد سلف، وفيه ما فيه من الخلاف. {أَشَدُّ وَطْئًا}: أمكن موقعًا، وقد سلف ما فيه. قَالَ قتادة: أثبت في الخير وأشد في الحفظ للتفرغ بالليل

(4)

. ومن قرأ: وطْأً. فالمعنى: أشد مهادًا للتصرف في التفكر والتدبر، قاله مجاهد

(5)

، يواطئ السمع والبصر والقلب.

(1)

فوقها في الأصل: كذا.

(2)

"التمهيد" 8/ 124 - 125.

(3)

رواه عنه الطبري في "تفسيره" 12/ 281 (35190).

(4)

رواه الطبري في "تفسيره" 12/ 283 (35214، 35215).

(5)

"تفسير الطبري" 12/ 284 (35219 - 35223).

ص: 83

{وَأَقْوَمُ قِيلًا} أي: أثبت للقراءة، قاله مجاهد. قَالَ بعضهم: ولهذا المعنى فرض الله صلاة الليل بالساعات، جزءًا من الليل لا جزءًا من القرآن، إرادة التنبيه على تفهمه وتدبره، والعمل بالقلب وأنه ليس بهَذِّ الحروف وجريه على اللسان، وأن الثواب بمقدار تمام الساعات التي يقرأ فيها.

{سَبْحًا طَوِيلًا} " فراغًا وحقيقته لغة: التصرف والحركة.

وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي: لن تطيقوه. وصحح ابن التين أنه منسوخ بقوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المزمل: 20].

ص: 84

‌12 - باب عَقْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى قَافِيَةِ الرَّأْسِ إِذَا لَمْ يُصَلِّ بِاللَّيْلِ

1142 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ".

1143 -

حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّؤْيَا قَالَ:"أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ". [انظر: 845 - مسلم: 2275 - فتح: 3/ 24]

ذكر فيه حديث أبي هريرة: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَة، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كسْلَانَ".

وحديث سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا: "أمَّا الذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالحَجَرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ القُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ

(1)

وَيَنَامُ عَنِ الصلاةِ المَكْتُوبَةِ".

الشرح:

حديث أبي هريرة يأتي إن شاء الله في صفة إبليس

(2)

، وأخرجه مسلم

(1)

ضبطها الناسخ بفتح وكسر الفاء الثانية، وكتب فوقها معًا.

(2)

برقم (3229) كتاب: بدء الخلق.

ص: 85

(د. س) أيضًا

(1)

، والأعرج هو: عبد الرحمن بن هرمز.

وحديث سمرة مختصر من حديث طويل يأتي بطوله آواخر الجنائز

(2)

، وأخرجه النسائي

(3)

، وأخرج مسلم منه وأبو داود والترمذي قطعة

(4)

، وكرر البخاري هذِه القطعة في التفسير في سورة التوبة في قوله:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}

(5)

[التوبة: 102] وفي أحاديث الأنبياء

(6)

والتعبير

(7)

، وأخرجه مختصرًا ومطولًا في الجنائز

(8)

، وبدء الخلق

(9)

، والبيوع

(10)

، والجهاد

(11)

، والأدب

(12)

.

و (أبو رجاء) هو: عمران العطاردي.

وإسماعيل هو: ابن علية.

و (مؤمل)(في د س) شيخ البخاري هو: ابن هشام أبو هاشم ختن إسماعيل بن علية، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين

(13)

.

(1)

برقم (676) باب: ما روي فيمن نام الليل.

(2)

برقم (1386) باب: ما قيل في أولاد المشركين.

(3)

"السنن الكبرى" 6/ 358 (11226) كتاب: التفسير.

(4)

برقم (2275) كتاب: الرؤيا، باب: رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

برقم (4674).

(6)

برقم (3354) باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} .

(7)

برقم (7049) باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.

(8)

برقم (1386).

(9)

برقم (3236) باب: إذا قال أحدكم: آمين.

(10)

برقم (2085) باب: آكل الربا وشاهده وكاتبه.

(11)

برقم (2791) باب: درجات المجاهدين في سبيل الله.

(12)

برقم (6096) باب: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} .

(13)

مؤمل هذا: قال أبو حاتم: صدوق، ووثقه أبو داود والنسائي وابن حبان.

وانظر ترجمته في: "الجرح والتعديل" 8/ 375 (1714). و"الثقات" 9/ 188.

و"تهذيب الكمال" 29/ 186 (6323).

ص: 86

إذا تقرر؛ ذلك فالكلام على الحديث الأول من وجوه:

أحدها:

التبويب ليس مطابقًا لما أورده من الحديث، فإن ظاهره أنه يعقد على رأس من يصلي ومن لم يصل، وهذا الاعتراض للمازري، ويتأول كلام البخاري على إرادة استدامة العقد إنما يكون على من ترك الصلاة، وجعل من صلى وانحلت عقده كمن لم يعقد عليه لزوال أثره

(1)

.

فإن قلت: فالصديق وأبو هريرة كانا يوتران أول الليل وينامان آخره.

قيل: أراد الذي ينام ولا نية له في القيام، وأما من صلى من النافلة ما قدر له ونام بنية القيام فلا يدخل في ذلك؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من امرئٍ يكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه صلاة"

(2)

ذكره ابن التين.

الثاني:

القافية: مؤخر الرأس، وقافية كل شيء آخره. ومنه: قافية الشِّعْر.

وقال ابن الأثير: القافية: القفا، وقيل: مؤخر الرأس، وقيل:

وسطه

(3)

. وقال ابن حبيب: وسطه وأعلاه وأعلى الجسد.

(1)

"المعلم بفوائد مسلم" للمازري 1/ 222.

(2)

رواه أبو داود (1314) كتاب: الصلاة، باب: مَنْ نوى القيام فنام، والنسائي 3/ 257، من كان له صلاة بالليل فغلبه عليه النوم، وفي 3/ 258، وأحمد في "مسنده" 6/ 63، 6/ 72، ومالك في "الموطأ" ص 93 كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الليل من حديث عائشة. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" 5/ 59 (1187).

(3)

"النهاية في غريب الحديث" 4/ 94.

ص: 87

الثالث:

يحتمل أن يكون هذا العقد حقيقًا بمعنى السحر للإنسان ومنعه من القيام؛ فيعمل فيمن خذل ويصرف عمن وفق، قَالَ تعالى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ (4)} فشبه تعالى فعل الشيطان بفعل الساحر الذي يأخذ خيطًا ويعقد عليه عقدة ويتكلم عليه فيتأثر المسحور عند ذلك. وقيل: من عقد القلب وتصميمه. فكأنه يوسوس في نفسه ويحدثه بأن عليك ليلًا طويلًا فيتأخر عن القيام.

الرابع:

فسر بعضهم العقد الثلاث؛ وقال: هي الأكل والشرب والنوم، ألا ترى أنه من أكثر الأكل والشرب كثر نومه لذلك، واستبعد لقوله:"إذا هو نام" فجعل العقد حينئذٍ، والظاهر أنه مَثَلٌ واستعارة من عقد بني آدم وليس بذلك العقد نفسها، ولكن لما كان بنو آدم يمنعون بعقدهم ذلك بصرف من يحاول فيما عقده كان هذا مثله من الشيطان للنائم الذي لا يقوم من نومه إلى ما يجب من ذكر الله والصلاة.

الخامس:

إنما خص العقد بالثلاث؛ لأن أغلب ما يكون انتباه النائم في السحر، فإن اتفق له أن يستيقظ ويرجع للنوم ثلاث مرات لم تنتقض النومة الثالثة في الغالب إلا والفجر قد طلع، نبه عليه القرطبي

(1)

.

السادس:

قوله: ("يَضْرِبُ مكان كُلَّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ") يريد: يضرب بالرقاد. ومنه {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ} [الكهف: 11]

(1)

"المفهم" 2/ 409.

ص: 88

معناه: أن ذلك مقصود الشيطان بذلك العقد، ويعني بقوله:"عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ" تسويفه بالقيام والإلباس عليه في بقية الليل من الطول ما له فيه فسحة.

وقوله: ("لَيْلٌ طَوِيلٌ") رفع على الابتداء أو على الفاعل بإضمار فعل أي: بقي عليك.

وقال القرطبي في رواية مسلم: وروايتنا الصحيحة: "ليل طويل" على الابتداء والخبر، ووقع في بعض الروايات: عليك ليلًا طويلًا، على الإغراء. والأول أولى من جهة المعنى؛ لأنه الأمكن في الغرور من حيث أنه يخبره عن طول الليل ثم يأمره بالرقاد بقوله:"فَارْقُدْ"، وإذا نصب على الإغراء لم يكن فيه إلا الأمر بملازمة طول الرقاد، وحينئذٍ يكون قوله: فارقد ضائعًا

(1)

.

السابع:

قوله: ("فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ") فيه -كما قَالَ أبو عمر-: أن الذكر يطرد الشيطان وكذا الوضوء والصلاة، قَالَ: ويحتمل أن يكون الذكر: الوضوء والصلاة لما فيهما من معنى الذكر يختص بهما الفضل في طرد الشيطان

(2)

.

قلتُ: بعيد؛ فقد غاير بينه وبينها، ويحتمل أن تكون كذلك سائر أعمال البر.

الثامن:

قوله: ("فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَة") فيه ما قلناه.

(1)

"المفهم" 2/ 409.

(2)

"التمهيد" 19/ 45 - 46.

ص: 89

وقوله: ("فَإِنْ صَلى انْحَلَّتْ عُقْدَه") هو بالجمع، وفي بدء الخلق زيادة:"كلها"

(1)

وروي في غيره بالإفراد.

قَالَ صاحب "المطالع" اختلف في الأخير منها فقط، فوقع في "الموطأ" لابن وضاح بالجمع، وكذا ضبطناه في البخاري، وكلاهما صحيح، والجمع أوجه وقد جاء في مسلم في الأولى:"عُقْدَةٌ" وفي الثانية: "عقدتان" وفي الثالثة: "انحلت العقد"

(2)

.

التاسع:

المراد بالصلاة هنا: الفريضة، قاله ابن التين، قَالَ: وقيل: النافلة، واحتج له بالحديث الذي بعد هذا:"بال الشيطان في أذنه"

(3)

.

ومعنى: ("أصبح نشيطًا طيب النفس") للسرور بما وفقه الله له من الطاعة ووعده به من ثوابه، مع ما يبارك في نفسه، وتصرفه في كل أموره مع ما زال عنه من عقد الشيطان وتثبيطه.

وقوله: ("وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ") وذلك لما عليه من عقد الشيطان، وآثار تثبيطه واستيلائه ولم يزل عنه.

قال أبو عمر: وزعم قوم أن في هذا الحديث ما يعارض الحديث الآخر: "لا يقولن أحدكم خبثت نفسي"

(4)

لقوله: "خَبِيثَ النَّفسِ"

(1)

تأتي برقم (3269) باب: صفة إبليس وجنوده.

(2)

مسلم (776).

(3)

حديث (1144).

(4)

يأتي برقم (6179) كتاب: الأدب، باب: لا يقال: خبثت نفسي. ورد في هامش الأصل ما نصه: الظاهر أن الشارع إنما نهى عن أن يقول الإنسان خثبت نفسي لما فيه من ذكر الخبث كأنه كرهه، وأما قوله هنا:"وإلا أصبح خبيث النفس كسلان" يدل على جواز استعمال هذا اللفظ مع الكراهة.

ص: 90

وليس كذلك لأن النهي إنما ورد عن إضافة المرء ذلك إلى نفسه كراهية لتلك الكلمة وتشاؤمًا بها إذا أضافها الإنسان إلى نفسه، فإن الخبث: الفسق، قَالَ تعالى:{الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26]، والحديث الثاني:"أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ" ذمًّا لفعله وعيبًا له، ولكل واحد من الخبرين وجه فلا معنى للتعارض، فالنهي منصب أن يقول هذا اللفظ عن نفسه، وهذا إخبار عن صفة غيره

(1)

.

العاشر:

ظاهر الحديث أن من لم يجمع بين الأمور الثلاثة، وهي الذكر والوضوء والصلاة فهو داخل فيمن يصبح خبيث النفس كسلان.

قَالَ المهلب: قد فسر الشارع معنى العقد وهو: "عليك ليل طويل فارقد"، فكأنه يقولها إذا أراد النائم الاستيقاظ إلى حزبه، فينعقد في نفسه أنه بقي من الليل بقية طويلة حَتَّى يروم بذلك إتلاف ساعات ليله وتفويت حزبه فإذا ذكر الله انحلت عقدة أي: علم أنه قد مر من الليل طويل، وأنه لم يبق منه طويل، فإذا قام وتوضأ استبان له ذلك أيضًا، وانحل ما كان عقد في نفسه من الغرور والاستدراج، فإذا صلى واستقبل القبلة، انحلت الثالثة؛ لأنه لم يصغ إلى قوله، ويئس الشيطان منه، ولما كان مؤخر الرأس فيه العقل

(2)

والفهم، فعقده فيه إثباته في فهمه أنه بقي عليه ليل طويل، فيصبح نشيطًا طيب النفس؛ لأنه مسرور بما قدم مستبشرٌ بما وعده ربه من الثواب والغفران، وإلا أصبح مهمومًا بجواز كيد الشيطان عليه، وكسلان بتثبيط الشيطان له عما كان اعتاده من فعل الخير.

(1)

"التمهيد" 19/ 47.

(2)

ورد في هامش الأصل: هذا على قول من يقول: إن العقل في الرأس ومذهب الشافعي أنه في القلب وفيه قول ثالث.

ص: 91

وأما الحديث الثاني: فـ"يثلغ" بمثناة تحت مضمومة ثم مثلثة ثم لام ثم غين معجمة أي: يشدخ، والشدخ: فضخ الشيء الرطب بالشيء اليابس، ومعنى:"يرفضه": يتركه، وهو بفتح الفاء وكسرها كما ذكره ابن التين عن الضبط وعن أهل اللغة أي يترك تلاوته حَتَّى ينساه أو يترك العمل به.

وعبارة ابن بطال: يترك حفظه والعمل بمعانيه، قَالَ: فأما إذا ترك حفظ حروفه وعمل بمعانيه فليس برافض له، قد أتى في الحديث "أنه بحشر يوم القيامة أجذم"

(1)

أي: مقطوع الحجة، والرافض له يثلغ رأسه كما سلف، وذلك لعقد الشيطان فيه، فوقعت العقوبة في موضع المعصية.

وقوله: ("يَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ المَكْتُوبَةِ") يعني: لخروج وقتها وفواته، وهذا إنما يتوجه إلى تضييع صلاة الصبح وحدها لأنها التي تبطل بالنوم، وهي التي أكد الله المحافظة عليها، وفيها تجتمع الملائكة. وسائر الصلوات إذا ضيعت فحملها محملها، لكن لهذِه الفضل. ا. هـ

(2)

وفي رواية: "فأتينا على رجلٍ مضطجع على قفاه ورجل قائم على

(1)

روى أبو داود (1474) عن سعد بن عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله عز وجل يوم القيامة أجذم"، ورواه أيضًا عبد الرزاق في "مصنفه" 3/ 365 (5989) كتاب: فضائل القرآن، باب: تعاهد القرآن ونسيانه، وعبد بن حميد في "المنتخب" 1/ 273 (307). والطبراني في "الكبير" 6/ 23 (5391)، والخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي" 1/ 110 (85)، كلهم من طريق يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائدة عن سعد بن عبادة به، قال الألباني: إسناده ضعيف، يزيد ضعيف، وعيسى مجهول، ولم يسمع من ابن عبادة، "ضعيف أبي داود" 10/ 86 (261).

(2)

"شرح ابن بطال" 3/ 135.

ص: 92

رأسه بفهر أو صخرة فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذِه حَتَّى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو فعاد إليه فضربه"

(1)

.

واعترض الإسماعيلي فقال: هذا الحديث لا يدخل في هذا الباب، وليس رفض القرآن: ترك الصلاة بالليل، وهو عجيب منه، فسيأتي في الحديث في الجنائز:"والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علَّمه الله القرآن فنام عنه بالليل حَتَّى نسيه، ولم يعمل به بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة"

(2)

.

‌باب

كذا في أصول البخاري، وفي أصل

(3)

ابن بطال:

(1)

يأتي برقم (1386) كتاب: الجنائز، باب: ما قيل في أولاد المشركين.

(2)

السابق.

(3)

ورد بهامش الأصل: وكذا في نسختي وعليها: نفسه.

ص: 93

‌13 - باب إِذَا نَامَ وَلَمْ يُصَلِّ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ

(1)

1144 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ، مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ. فَقَالَ:"بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ". [3270 - مسلم: 774 - فتح: 3/ 28]

ذكر فيه حديث عَبْدِ اللهِ: قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقِيلَ: مَا زَالَ نَائِمًا حَتَّى أَصْبَحَ، مَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ. فَقَالَ:"بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ".

وسيأتي في باب: صفة إبليس إن شاء الله، وفيه:"أو في أذنيه"

(2)

، وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجه أيضًا

(3)

.

وهو على ظاهره إذ لا إحالة فيه ويفعل ذلك استهانة به، وبه صرح الداودي وعياض

(4)

وغيرهما.

ويحتمل أن يكون تمثيلًا له ضرب له حين غفل عن الصلاة كمن ثقل سمعه وبطل حسه؛ لوقوع البول الضار في أذنه بقول الراجز:

بال سهيل في الفضيخ ففسد.

وليس لسهيل بول، وإنما هو نجم يطلع فيفسد الفضيخ بعده، وإذا أراد غير البول منه فلا ينكر إن كانت هذِه الصفة. قَالَه الخطابي

(5)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 136، وانظر "اليونينية" 2/ 52.

(2)

يأتي برقم (3270) كتاب: بدء الخلق.

(3)

"صحيح مسلم"(474) باب: ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، و"المجتبي" 3/ 204، الترغيب في قيام الليل، و"سنن ابن ماجه" (1330) باب: ما جاء في قيام الليل.

(4)

"إكمال المعلم" 3/ 139.

(5)

"أعلام الحديث" 1/ 636.

ص: 94

وخص البول في الذكر إبلاغًا في التنجيس، وخص الأذن؛ لأنها حاسة الانتباه، والمهلب (والطحاوي)

(1)

نحى إلى هذا فقالا: هذا على سبيل الإغياء من تحكم الشيطان في العقد على رأسه بالنوم الطويل.

قَالَ ابن مسعود: كفي المرء من الشر أن يبول الشيطان في أذنه

(2)

.

فمن نام الليل كله، ولم يستيقظ عند الأذان، ولا تذكر، فالشيطان سد ببوله أذنيه، وأي استهانة أعظم من هذِه حيث صيَّره كنيفًا معدًّا للقاذورات، نسأل الله السلامة.

(1)

كذا في الأصل، وتشابكت حروفه ولعله كذلك، حتى بدت كأنها شطب ثناهما في قوله (فقالا). الآتية.

(2)

رواه عنه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 125 (34544) كتاب: الزهد.

ص: 95

‌14 - باب الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ

وَقَالَ تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} أَيْ: مَا يَنَامُونَ.

1145 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَأَبِي عَبْدِ اللهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ". [6321، 7494 - مسلم: 758 - فتح: 3/ 29]

ثم ذكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُنْزِلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَي السَّمَاء الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيلِ الأخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَاَغْفِرَ لَهُ".

الشرح:

الهجوع: نوم الليل خاصة. وقيل في معنى الآية: قل ليلة تمر عليهم لم يصيبوا فيها خيرًا.

وقوله: (أَيْ: يَنَامُونَ). هو ما فسره به جماعات. قَالَ إبراهيم: قليلًا ما ينامون

(1)

. وقال الضحاك: قليلًا من الناس

(2)

. وقال أنس: يصلون طويلًا ما ينامون. وعن الحسن: كانوا يتنفلون بين العشاء والعتمة.

فعلى قول إبراهيم يجوز أن تكون (ما) زائدة أو مصدرًا مع ما بعدها، وهو قول أهل اللغة. وعلى قول أنس والحسن (ما) نافية. وعلى قول الضحاك هذا الصنف قليل من الناس.

(1)

الطبري في "تفسيره" 11/ 454 (32125).

(2)

المصدر السابق 11/ 454 (32128، 32125).

ص: 96

وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم

(1)

والأربعة، ويأتي في الدعوات والتوحيد

(2)

. قَالَ الترمذي: وفي الباب عن عليًّ وابن مسعود وجبير بن مطعم ورفاعة الجهني وأبي الدرداء وعثمان بن أبي العاص

(3)

.

وقال الطرقي: في الباب: (ورافع بن عرابة)

(4)

وابن عباس وجابر بن عبد الله وعمرو بن عنبسة وأبي موسى. وقال ابن الجوزي: حديث النزول رواه جماعة منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود والنواس بن سمعان وأبو ثعلبة الخشني وعائشة في آخرين. وعدد بعض من أسلفناه.

إذا تقرر ذلك، فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

الحديث ليس فيه ذكر الصلاة لكنها محل الدعاء والاستغفار والسؤال، وترجم له في الدعاء باب: الدعاء نصف الليل

(5)

. ومراده: النصف الأخير. فإنه قَالَ: حين يبقى ثلث الليل الآخر.

ثانيها:

قوله: ("يُنْزِلُ") هو بضم أوله، من أنزل. قَالَ ابن فورك: ضبط لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بضم الياء من ينزل، وذكر أنه ضبط عمن سمع منه من الثقات الضابطين

(6)

. وكذا قَالَ

(1)

"صحيح مسلم"(758) باب: الترغيب في الدعاء ..

(2)

يأتي برقم (6321) باب: الدعاء نصف الليل. و (7494) باب: قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ} .

(3)

"سنن الترمذي" 2/ 308.

(4)

كذا في الأصل ولعله رفاعة بن عرابة.

(5)

يأتي برقم (6321).

(6)

"مشكل الحديث وبيانه" ص 220.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 5/ 417: وحرَّف بعضهم لفظ =

ص: 97

القرطبي: قد قيده بعض الناس بذلك فيكون معدى إلى مفعول محذوف. أي: يُنزل الله ملكًا. قَالَ: والدليل على صحة هذا ما رواه النسائي من حديث الأغر عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يمهل حَتَّى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديًا يقول: هل من داع فيستجاب له" الحديث

(1)

. وصححه عبد الحق

(2)

.

الثالث:

جاء هنا: "حين يبقى ثلث الليل الآخر".

= الحديث فرواه يُنزل من الفعل الرباعي المتعدي. اهـ. وسيأتي لاحقًّا تعليق حول المسألة عمومًا.

(1)

"المفهم" 2/ 386 - 387.

والحديث في "السنن الكبرى" 6/ 124 (10316).

(2)

"الأحكام الوسطي" 2/ 52.

قلت: وأبدع شيخ الإسلام في الرد على من احتج بهذا الحديث فقال: من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المنادي يقول ذلك، فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه مع أنه خلاف اللفظ المستفيض المتواتر الذي نقلته الأمة خلفًا عن سلف، فاسد في المعقول، فعلم أنه من كذب بعض المبتدعين، كما روى بعضهم ينزل بالضم. اهـ "مجموع الفتاوى" 5/ 372.

وقال في 5/ 384: حديث موضوع. قلت: يعني بهذا اللفظ. وقال: فإن قيل: فقد روي أنه يأمر مناديًا فينادي، قيل: هذا ليس في الصحيح فإن صح أمكن الجمع بين الخبرين بأن ينادي هو ويأمر مناديًا ينادي، أما أن يعارض بهذا النقل الصحيح المستفيض الذي اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول مع أنه صريح في أن الله تعالى هو الذي يقول:"من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له؟ " فلا يجوز. اهـ "مجموع الفتاوى" 12/ 311.

والحديث أورده الألباني في "الضعيفة"(3897) وصدر كلامه بقوله: منكر بهذا السياق، ثم ذهب يضعفه فأجاد والله وأفاد بما لا تراه في مكان آخر، فبلغ في الكلام عليه ثلاث عشرة صفحة.

ص: 98

وكذا أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع من "صحيحه"

(1)

، وأخرجه مسلم بألفاظ:

أحدها: هذا.

ثانيها: "حين يمضي ثلث الليل الأول"

(2)

.

ثالثها: "لشطر الليل -أو ثلث الليل- الآخر"

(3)

.

وذكر الترمذي أن الرواية الأولى أصح الروايات

(4)

، وصححها أيضًا غيره، فذكر القاضي عياض

(5)

أن النزول عند مضي الثلث الأول. و"من يدعوني .. " إلى آخره في الثلث الآخر. وقال: يحتمل الشارع أعلم بالأول فأخبر به ثم بالثاني فأخبر به، فسمع أبو هريرة الخبرين فنقلهما، وأبو سعيد خبر الثلث الأول فأخبر به مع أبي هريرة. وقال ابن حبان في "صحيحه": صح "حين يمضي شطر الليل أو ثلثاه"، و"حين يبقى ثلث الليل الآخر"، و"حتى يذهب ثلث الليل الأول"، فيحتمل أنه في بعض الليالي: حين يبقى ثلث الليل الآخر، وفي بعضها حين يبقى ثلث الليل الأول

(6)

.

قلتُ: ويجوز -والله أعلم- أن يكون ابتداء الأمر من أول الثلث الثاني إلى الثالث.

(1)

هذا الموضع، وبرقم (6321) الدعوات، باب: الدعاء نصف الليل. و (7494) كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ} .

(2)

"صحيح مسلم"(758/ 169) باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل ..

(3)

"مسلم"(758/ 171).

(4)

"سنن الترمذي" 2/ 309.

(5)

"إكمال المعلم" 2/ 309.

(6)

"صحيح ابن حبان" 3/ 202.

ص: 99

ثم اعلم أن صفات القديم

(1)

جل جلاله إما أن يكون استحقها لنفسه أو لصفة قامت به أو لفعل يفعله، ولا يطلق شيء من الألفاظ في أوصافه وأسمائه المتفرعة عما تقدم إلا بتوقيف كتاب أو سنة أو اتفاق الأمة دون قياس، فلا مجال له فيها، وقيل ما يرد من مثل هذِه الأخبار من مثل هذا اللفظ -أعني: ينزل- إلا ونظيره في القرآن. قَالَ تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22] و {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمَامِ} [البقرة: 210]، وقوله:{فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ} [النحل: 26] وأهل البدع يحملونها إذا وردت في القرآن على التأويل (الصحيح)

(2)

، ويأتون من جمل الأخبار على مثل ذلك جحدًا منهم لسنة المصطفي صلى الله عليه وسلم، واستخفافًا بذوي النهى الناقلين، {وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32].

ولا فرق بين الإتيان والمجيء والنزول إذا أضيف إلى جسم يجوز عليه الحركة والنقلة التي هي تفريغ مكان وشغل غيره، فإذا أضيف ذلك إلى من لا يليق به الانتقال والحركة كان تأويل ذلك على حسب ما يليق بنعته وصفته تعالى، فالنزول لغة يستعمل لمعان خمسة مختلفة: بمعنى الانتقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] والإعلام: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193)} [الشعراء: 193] أي: اعلم به الروح الأمين

(1)

ليست من أسمائه أنه (القديم) وكما هو معلوم متقرر أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية، فكان الأولى أن يقول:{الْأَوَّلُ} لأنه لفظ التنزيل.

قال "شارح الطحاوية" ص 67: وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله (القديم) وليس هو من أسماء الله تعالى الحسنى، فإن (القديم) في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره .. ولم يستعمل إلا في المتقدم على غيره لا فيما يسبقه عدم .. "شرح الطحاوية" لابن أبي العز ص 167.

(2)

في (ج): الصريح.

ص: 100

محمدًا صلى الله عليه وسلم، وبمعنى القول:{سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ} [الأنعام: 93] أي: سأقول مثل ما قال. والإقبال على الشيء، وذلك مستعمل في كلامهم جار في عرفهم، يقولون: نزل من مكارم الأخلاق إلى دنيها. أي: أقبل إلى دنيها ونزل قدر فلان عند فلان إذا انخفض، وبمعنى نزول الحكم، من ذلك قولهم: كنا في خير وعدل حَتَّى نزل بنا بنو فلان.

أي: حكمهم. وذلك كله متعارف عند أهل اللغة.

وإذا كانت مشتركة المعنى وجب حمل ما وصف به الرب جل جلاله

من النزول على ما يليق به من بعض هذِه المعاني التي لا تقتضي له ما لا يليق بنعته من إيجاب حدث يحدث في ذاته، وهو إقباله على أهل الأرض بالرحمة والاستعطاف بالتذكير والتشبه الذي يلقى في قلوب أهل الخير منهم

(1)

، والزواجر التي تزعجهم إلى الإقبال على الطاعة ووجدناه تعالى

(1)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الصواب والمأثور عن سلف الأمة وأئمتها أنه لا يزال فوق العرش. ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا ولا يكون العرش فوقه. وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم بل الله منزه عن ذلك.

وأما قول النافي: إنما ينزل أمره ورحمته؛ فهذا غلط لوجوه. وقد تقدم التنبيه على ذلك على تقدير كون النفاة من المثبتة للعلو. وأما إذا كان من النفاة للعلو والنزول جميعًا؛ فيجاب أيضًا بوجوه:

أحدها: أن الأمر والرحمة إما أن يراد بها أعيان قائمة بنفسها كالملائكة، وإما أن يراد بها صفات وأعراض. فإن أريد الأول؛ فالملائكة تنزل إلى الأرض في كل وقت. وهذا خص النزول بجوف الليل، وجعل منتهاه سماء الدنيا.

والملائكة لا يختص نزولها لا بهذا الزمان ولا بهذا المكان. كان أريد صفات وأعراض مثل ما يحصل في قلوب العابدين في وقت السحر من الرقة والتضرع وحلاوة العبادة ونحو ذلك: فهذا حاصل في الأرض ليس منتهاه السماء الدنيا.

الثاني: إن في الحديث الصحيح: انه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يقول: "لا أسال =

ص: 101

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عن عبادي غيري"، ومعلوم أن هذا كلام الله الذي لا يقوله غيره.

الثالث: أنه قال: "ينزل إلى السماء الدنيا، فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر"، ومعلوم أنه لا يجيب الدعاء ويغفر الذنوب ويعطي كل سائل سؤله إلا الله، وأمره ورحمته لا تفعل شيئًا من ذلك.

الرابع: نزول أمره ورحمته لا تكون إلا منه؛ وحينئذ فهذا يقتضي أن يكون هو فوق العالم، فنفس تأويله يبطل مذهبه؛ ولهذا قال بعض النفاة لبعض المثبتين: ينزل أمره ورحمته؛ فقال له المثبت: فممن ينزل؟! ما عندك فوق شيء؛ فلا ينزل منه لا أمر ولا رحمة ولا غير ذلك؟! فبهت النافي وكان كبيرًا فيهم.

الخامس: أنه قد روى في عدة أحاديث: "ثم يعرج" وفي لفظ "ثم يصعد".

السادس: أنه إذا قدر أن النازل بعض الملائكة، وأنه ينادي عن الله كما حرف بعضهم لفظ الحديث فرواه "يُنزل" من الفعل الرباعي المتعدي عن الله كما حرف بعضهم لفظ الحديث فرواه "ينزل" من الفعل الرباعي المتعدي أنه يأمر مناديا ينادي؛ لكان الواجب أن يقول: من يدعو الله فيستجيب له؟ من يسأله فيعطيه؟ من يستغفر فيغفر له؟ كما ثبت في "الصحيحين"، "وموطأ مالك" و"مسند أحمد بن حنبل"، وغير ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وإذا أحب الله العبد نادى في السماء يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه؛ فيحبه جبريل؛ ثم ينادي جبريل: إن الله يحب فلانا فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم وضع له القبول في الأرض"، وقال في البغض مثل ذلك. فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الفرق بين نداء الله ونداء جبريل. فقال في نداء الله: "يا جبريل! إني احب فلانا فأحبه". وقال في نداء جبريل: "إن الله يحب فلانا فأحبوه"، وهذا موجب اللغة التي بها خوطبنا، بل وموجب جميع اللغات، فإن ضمير المتكلم لا يقوله إلا المتكلم. فأما من أخبر عن غيره فإنما يأتى باسمه الظاهر وضمائر الغيبة. وهم يمثلون نداء الله بنداء السلطان ويقولون: قد يقال: نادى السلطان، إذا أمر غيره بالنداء -وهذا كما قالت الجهمية المحضة في تكليم الله لموسى: إنه أمر غيره فكلمه، لم يكن هو المتكلم، فقال لهم: إن السلطان إذا أمر غيره أن ينادي أو يكلم غيره أو يخاطبه؛ فإن المنادى ينادي: معاشر الناس! أمر السلطان بكذا، أو رسم بكذا، لا يقول إني أنا أمرتكم بذلك. =

ص: 102

خص بالمدح المستغفرين بالأسحار، ويحتمل أن يكون ذلك فعلًا يظهر بأمره فيضاف إليه كما يقال: ضرب الأمير اللص، ونادى الأمير في البلد، وإنما أمر بذلك فيضاف إليه الفعل كما مضى أنه عن أمره ظهر، إذا احتمل ذلك في اللغة لم ينكر أن يكون لله ملائكة يأمرهم بالنزول إلى السماء الدنيا بهذا الدعاء والنداء فيضاف ذلك إلى الله.

وحديث النسائي السالف يعضده، وقد سئل الأوزاعي عن معنى هذا الحديث فقال: يفعل الله ما يشاء، وهذِه إشارة منه إلى أن ذلك فعل يظهر منه عز وجل، وذكر حديث كاتب مالك عنه أنه قَالَ في هذا الخبر: ينزل أمره ورحمته، وقد رواه مطرف عنه أيضًا

(1)

، وأنكر بعض المتأخرين هذا اللفظ، فقال: كيف يفارقه أمره؟. وهذا كلام من اعتقد أنه ينزل أمره القديم، وليس كذلك، وإنما المراد ما أشرنا إليه، وهو ما يحدث عن أمره، قَالَ الإمام أبو بكر محمد بن فورك: روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يؤيد هذا التأويل، وهو بضم الياء من ينزل، وقد تقدم نقل ذلك عنه، فإذا كان ذلك محفوظًا فوجهه ظاهر

(2)

.

= ولو تكلم بذلك لأهانه الناس ولقالوا: من أنت حتى تأمرنا؟! والمنادي كل ليلة يقول: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " كما في ندائه لموسى عليه السلام: (إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكري)، وقال:(إني أنا الله رب العالمين). ومعلوم أن الله لو أمر ملكًا أن ينادي كل ليلة أو ينادي موسى لم يقل الملك: "من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألنى فأعطيه؟ من يستغفرنى فاغفر له؟ "، ولا يقول:"لا أسأل عن عبادي غيري".

"مجموع الفتاوى" 5/ 415 - 418.

(1)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: نقل عن مالك رواية أنه تأول "ينزل إلى

السماء الدنيا" أنه ينزل أمره. لكن هذا من رواية حبيب كاتبه وهو كذاب باتفاقهم.

وقد رويت من وجه آخر لكن في الإسناد مجهول. "مجموع الفتاوى" 16/ 405.

(2)

"مشكل الحديث وبيانه" ص 220 وما قبله أيضًا هو من كلام ابن فورك.

ص: 103

وقد سئل بعض العلماء عن حديث التنزيل، فقال: تفسيره قول إبراهيم حين أفل النجم: {لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76] فَطَلَبَ رَبُّا لا يجوز عليه الانتقال والحركات، ولا يتعاقب عليه النزول، وقد مدحه الله تعالى بذلك وأثنى عليه في كتابه بقوله:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {مِنَ المُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] فوصفه باليقين، وحكي عن بعض السلف في هذا الحديث وشبهه الإيمان بها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها.

وكان مكحول والزهري يقولان: أمرُّوا الأحاديث

(1)

. وقال أبو عبد الله: نحن نروي هذِه الأحاديث ولا نرفع بها المعاني. وإلى نحو هذا نحى مالك في سؤال الاستواء على العرش

(2)

.

وحمل الداودي مذهبه في هذا الحديث على نحو من ذلك وقال فيما تقدم عنه: نقله حبيب، وليس حبيب بالقوي

(3)

. وضعفه غيره أيضًا لكنا أسلفنا أنه لم ينفرد به.

فصارت مذاهب العلماء في هذا الحديث وشبهه ثلاثة:

فرقة قائلة بالتأويل كما سلف محتجين بالحديث الآخر: "إذا تقرب

(1)

رواه عن مكحول والزهري البيهقي في "الأسماء والصفات" 2/ 377 (945).

(2)

روى البيهقي بسنده إلى عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى (5)} ، كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء، ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه.

قال: فأخرج الرجل. "الأسماء والصفات" 2/ 304 - 305 (866، 867).

(3)

ورد في هامش الأصل ما نصه: حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك، قال الذهبي في "المغني": قال أحمد: كان يكذب وقال أبو داود كان يضع الحديث، توفى سنة 218 روى له بن ماجه.

ص: 104

إليَّ ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة"

(1)

. وفرقة قالت بالوقف عن جميعها. وفرقة قالت بالتأويل في بعضها.

سئل مالك في "العتبية" عن الحديث الذي جاء في جنازة سعد بن معاذ في العرش

(2)

: قال: لا يتحدث به، وما يدعو الإنسان إلى أن يتحدث به، وهو يرى ما فيه من التغرير؟!

وحديث "إن الله خلق آدم على صورته"

(3)

. وحديث الساق

(4)

.

قَالَ ابن القاسم: لا ينبغي لمن يتقي الله أن يتحدث بمثل هذا. قيل له: فالحديث الذي جاء: إن الله يضحك

(5)

. فلم يره من هذا وأجازه، وكذلك حديث النزول. ويحتمل أن يفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أن حديث النزول والضحك صحيحان لا طعن فيهما، وحديث اهتزاز العرش قد سلف الإنكار له والمخالفة فيه من الصحابة. وحديث الصورة والساق ليس تبلغ أسانيدهما في الصحة درجة حديث النزول

(6)

.

(1)

يأتي برقم (7405) كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} .

(2)

حديث اهتزاز العرش لموت سعد، يأتي برقم (3803) كتاب: مناقب الأنصار، باب: مناقب سعد بن معاذ.

(3)

يأتي هذِه الحديث برقم (3326) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: خلق آدم وذريته.

(4)

يشير إلى حديث أبي هريرة وأبي سعيد الطويل الآتي برقم (7439) وفيه: "فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه: فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن .. " الحديث.

(5)

يأتي هذا الحديث برقم (2826) كتاب: الجهاد والسير، باب: الكافر يقتل المسلم ثمَّ يسلم ..

(6)

انظر: "المنتقى" 1/ 357.

ص: 105

والثاني: أن التأويل في النزول أبين وأقرب، والعذر بسوء التأويل فيها أبعد، وبالله التوفيق.

وفي الحديث أيضًا أن آخر الليل أفضل الدعاء والاستغفار، قَالَ تعالى:{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 18] وروى محارب بن دثار، عن عمه، أنه كان يأتي المسجد في السحر ويمر بدار ابن مسعود، فيسمعه يقول: اللهم إنك أمرتني فأطعت ودعوتني فأجبت، وهذا سحر فاغفر لي. فسئل ابن مسعود عن ذلك فقال: إن يعقوب عليه السلام أخر نيته إلى السحر بقوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}

(1)

. وروى الجريري أن داود سأل جبريل، أي الليل أسمع؟ فقال: لا أدري غير أن العرش يهتز في السحر

(2)

.

وقوله: أسمع، يريد أنها أرفع للسمع، والمعنى أنها أولى بالدعاء وأرجى للاستجابة، وهذا كقول ضماد حين عرض عليه الشارع الإسلام فقال: سمعت كلامًا لم أسمع قط كلامًا أسمع منه

(3)

، يريد أبلغ ولا أنجع في القلب

(4)

(1)

روى هذا الأثر سعيد بن منصور في "سننه" 5/ 410 (1144). والطبري في "تفسيره" 7/ 300 (19876). والطبراني في "الكبير" 9/ 104 (5848). وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 68 لأبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 155 وقال: رواه الطبراني، وفيه: عبد الرحمن ابن إسحاق الكوفي، وهو ضعيف.

(2)

روى هذا الأثر ابن أبي شيبة 7/ 91 (34240). كتاب الزهد، وأبو نعيم في "الحلية" 6/ 203.

(3)

هذا الحديث رواه "مسلم"(868) كتاب: الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة.

(4)

ورد في هامش الأصل: ثم بلغ في السادس بعد التسعين كتبه مؤلفه سامحه الله.

ص: 106

‌15 - باب مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَأَحْيَا آخِرَهُ

وَقَالَ سَلْمَانُ لأَبِي الدَّرْدَاءِ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: قُمْ الآن. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ سَلْمَانُ".

1146 -

حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَيْفَ صَلَاةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ وَيَقُومُ آخِرَهُ، فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَي فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ وَثَبَ، فَإِنْ كَانَ بِهِ حَاجَةٌ اغْتَسَلَ، وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ. [مسلم: 937 - فتح: 3/ 32]

وذكر حديث الأسود عن عائشة: كَانَ يَنَامُ أَوَّلَهُ وَيَقُومُ آخِرَهُ .. الحديث.

أما حديث سلمان فسيأتي في الصوم والأدب مسندًا

(1)

. وقال الترمذي: حسن صحيح

(2)

.

و (أبو الدرداء) اسمه: عويمر بن زيد.

وحديث عائشة أخرجه مسلم أيضًا

(3)

. قَالَ الإسماعيلي: هذا حديث يغلط في معناه الأسود، فإن الأخبار الجياد: كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وأمر بذلك من سأله

(4)

. وإنما كان يقوم آخره لأجل حديث النزول السالف، وهذا كان فعل السلف.

(1)

في الصوم برقم (1968) باب: من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع.

وفي الأدب برقم (6139) باب: صنع الطعام والتكلف للضيف.

(2)

"سنن الترمذي" 4/ 609.

(3)

برقم (739) باب: صلاة الليل ..

(4)

سلف من حديث عائشة برقم (288) أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب، غسل فرجه، وتوضأ للصلاة.

ص: 107

وروى الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد القاري قَالَ: قَالَ عمر: الساعة التي تنامون فيها أعجب إليَّ من الساعة التي تقومون فيها

(1)

. وقال ابن عباس في قيام رمضان: ما تتركون منه أفضل بما تقومون فيه

(2)

.

وفيه: دلالة على أن في رجوعه من الصلاة إلى فراشه قد كان يطأ ويصبح جنبًا ثم يغتسل، وقد كان لا يفعل ذلك. قيل: وظاهره عدم وضوئه للنوم مع الجنابة.

(1)

روى هذا الأثر ابن أبي شيبة 2/ 167 (7707).

(2)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 167 (7707).

ص: 108

‌16 - باب قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ

1147 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي". [انظر: 2013، 3569، 1140 - مسلم: 738 - فتح: 3/ 33]

1148 -

حَدَّثَنَا محمدُ بْنُ الُمثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحيَى بن سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: مَا رَأَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي شَيْءِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ جَالِسًا، حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا، فَإذَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ ثَلَاثُونَ أَؤ أَرْبَعُونَ آيَةً قَامَ فَقَرَأَهُنَّ، ثُمَ رَكَعَ. [انظر: 1118 - مسلم: 731 - فتح: 3/ 33]

ذكر فيه حديث عائشة: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ .. الحديث.

وحديثها أيضًا: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي شَئٍ مِنْ صَلَاةِ اللَّيلِ جَالِسًا، حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا، فَإِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ السُّورَةِ ثَلَاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيةً قَامَ فَقَرَأَهُنَّ، ثُمَّ رَكَعَ.

الشرح:

حديث عائشة الأول يأتي في الصوم وصفته صلى الله عليه وسلم

(1)

، وأخرجه مسلم

(1)

في الصوم برقم (2013) باب: فضل مَن قام رمضان. وفي صفته صلى الله عليه وسلم برقم (3569) باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه.

ص: 109

أيضًا، وأبو داود والنسائي، والترمذي، وقال: حسن صحيح

(1)

.

أخرجاه عن مالك عن سعيد المقبري عن أبي سلمة عنها.

قَالَ أبو عمر: وهكذا هو في "الموطأ" عند جماعة الرواة فيما علمت، ورواه محمد بن معاذ بن المستهل، عن القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب عن أبي سلمة، عنها. والصواب الأول

(2)

.

وأخرجه البخاري في الاعتصام وصفته صلى الله عليه وسلم من حديث سعيد بن ميناء عن جابر

(3)

. وحديثها الثاني أخرجه مسلم أيضًا

(4)

، وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وقد أسلفنا اختلاف الآثار في عدد صلاته صلى الله عليه وسلم قريبًا.

واختلف العلماء في عدد الصلاة في رمضان، فذكر ابن أبي شيبة: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا إبراهيم (ت. ق)

(5)

بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر

(6)

، وروي مثله عن عمر بن الخطاب وعليٍّ وأُبي بن

(1)

مسلم برقم (738) باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم .. ، و [أبو داود برقم (1341) باب: في صلاة الليل، والترمذي برقم (439) باب: ما جاء في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، والنسائي 3/ 234 باب: كيف الوتر بثلاث؟].

(2)

"التمهيد" 21/ 69.

(3)

برقم (3569) باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه، وبرقم (7281) باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(4)

برقم (731) باب: جواز النافلة قائمًا وقاعدًا ..

(5)

ورد في هامش الأصل: إبراهيم (ت. ق) هذا جد ابن أبي شيبة المكنى بأبي شيبة ضعيف تركه غير واحد. قال الذهبي في "الكاشف" ترك حديثه، وقال البخاري: سكتوا عنه وقال يزيد بن هارون في كاتبه ما قضى على الناس في زمانه أعدل منه توفي سنة 169. (ت ق).

(6)

"المصنف" 2/ 166 (7691) كم يصلي في رمضان من ركعة.

ص: 110

كعب

(1)

، وبه قَالَ الكوفيون والشافعي وأحمد

(2)

، إلا أن إبراهيم هذا هو جد ابن شيبة، وهو ضعيف فلا حجة في حديثه، والمعروف القيام بعشرين ركعة في رمضان عن عمر وعليًّ، قاله ابن بطال

(3)

ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء، ونقله ابن رشد عن داود

(4)

.

وقال عطاء: أدركت الناس يصلون ثلاثًا وعشرين ركعة، الوتر منها ثلاثًا

(5)

.

وروى ابن مهدي عن داود بن قيس. قَالَ: أدركت الناس في المدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان يصلون ستًّا وثلاثين ركعة، ويُوتَرُ بثلاث

(6)

. وهو قول مالك وأهل المدينة

(7)

، وجعله الشافعي خاصًّا بأهل المدينة؛ لشرفهم وفضل مهاجرهم. ونقل ابن رشد عن ابن القاسم عن مالك: الوتر بركعة

(8)

. وحكي [أن]

(9)

الأسود بن يزيد، كان يقوم بأربعين ركعة ويوتر بسبع.

وقول عائشة: (يُصَلِّي أَرْبَعًا ثُمَّ أَرْبَعًا ثُمَّ ثَلَاثًا) قد أسلفنا في أبواب الوتر أن ذلك مرتب على قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى" لأنه مفسر وقاض على المجمل، وقد جاء بيان هذا في بعض طرق هذا

(1)

"المصنف" 2/ 165 (7680 - 7681،7683).

(2)

انظر: "المبسوط" 2/ 144، "الأم" 1/ 125، "المغني" 2/ 604.

(3)

"شرح ابن بطال" 3/ 141.

(4)

"بداية المجتهد" 1/ 400.

(5)

رواه عن عطاء ابن أبي شيبة 2/ 165 (7688).

(6)

روى هذا الأثر ابن أبي شيبة 2/ 166 (7688).

(7)

"المدونة" 1/ 193، "المعونة" 1/ 150.

(8)

وهي روايتان عن ابن القاسم انظر: "المنتقى" 1/ 223.

(9)

زيادة يقتضيها السياق ليست في الأصول.

ص: 111

الحديث، روى ابن أبي ذئب والأوزاعي، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة بالوتر يسلم بين كل ركعتين

(1)

.

فإن قلت: إذا كان يفصل بالسلام فما الحكمة في الجمع؟

قلتُ: لينبه على أن صفتهما وطولهما من جنس واحد وأن الآخر بعدها ليست من جنسها وإن كانت أخذت من الحسن والطول حظها.

وقيل في قولها: (يُصَلِّي أَرْبَعًا ثُمَّ أَرْبَعًا ثُمَّ ثَلَاثًا). أي: أنه كان ينام بينهن.

وروي نحوه عن ابن عباس، وفيه دلالة على جواز فعل ذلك، بل هو عند أبي حنيفة: أفضل التطوع أن يصلي أربعًا بتسليمة

(2)

. واحتج من قَالَ ذلك بحديث الليث، عن ابن أبي مليكة، عن يعلى، عن أم سلمة أنها وصفت صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل وقراءته فقالت: كان يصلي ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى، ثم يقوم فيوتر

(3)

.

(1)

رواه النسائي في "السنن الكبرى" 1/ 512 (1649).

(2)

انظر: "بدائع الصنائع" 1/ 294، "تبيين الحقائق" 1/ 172.

(3)

رواه أبو داود (1466) باب: استحباب الترتيل في القراءة، والترمذي (2923) باب: ما جاء كيف كان قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ والنسائي في "المجتبى" 2/ 181، 3/ 214، وأحمد في "مسنده" 6/ 294، و 6/ 300. وابن خزيمة في "صحيحه" 2/ 188 (1158) باب: الترتل بالقراءة في صلاة الليل. والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 201، وفي "شرح مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 8/ 198 (5847). وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" 3/ 141 (554) نعت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.

والحاكم في "المستدرك" 1/ 309، 310 كتاب: صلاة التطوع.

كلهم من طريق الليث عن عبد الله بن عبيد الله ابن أبي مليكة عن يعلى أنه سأل أم سلمة. الحديث.

قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ليث بن سعد عن ابن أبي مليكة عن يعلى بن بملك عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقطِّع =

ص: 112

وقولها: (أتنام قبل أن توتر؟) كأنها توهمت أن الوتر إثر الصلاة على ما شاهدته من أبيها؛ لأنه كان يوتر إثرها، فلما رأت منه خلاف ذلك سألته عن ذلك فأخبرها أن عينيه تنامان ولا ينام قلبه -أي: عن مراعاة الوقت- وليس ذلك لأبيها، وهذِه من أعلى مراتب الأنبياء، ولذلك قَالَ ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي. لأنهم يفارقون سائر البشر في نوم القلب، ويساوونهم في نوم العين، وكان يغط ثم يصلي. قَالَ عكرمة: كان محفوظًا، وإنَّما كان يتوضأ من الانتباه من النوم وإن كان لا يتوضأ بعد نومه؛ لأنه كان يتوضأ لكل صلاة، ولا يبعد أن يتوضأ إذا غامر قلبه النوم واستولى عليه، وذلك في النادر، كنومه في الوادي إلى أن طلعت الشمس، ليسنَّ لأمته أن الصلاة لا يسقطها خروج الوقت وإن كان معلومًا بنوم أو نسيان.

وفي حديث عائشة الآتي: قيامه صلى الله عليه وسلم بالليل، ومعنى قيامه عند الركوع؛ لئلا يخلي نفسه من فضل القيام في آخر الركعة، وليكون انحطاطه إلى الركوع والسجود من قيام إذ هو أبلغ وأشد في التذلل والخشوع.

وفيه: دليل للمذهب الصحيح أنه يجوز أن يقال: رمضان. بغير

= قراءته. وحديث الليث أصح ا. هـ.

وقال أبو عبد الله الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.

وقال الألباني في "ضعيف أبي داود": 10/ 85 (260): إسناده ضعيف؛ يعلى بن مملك مجهول.

قلت: رواية ابن جريج التي أشار إليها الترمذي أخرجها في "سننه"(2927)، وعبد الرزاق في "مصنفه" 3/ 38 (4709)، وابن حبان في "صحيحه" 6/ 366 (2639).

ص: 113

إضافته إلى شهر، وإنما سألها أبو سلمة عن صلاته في رمضان ليقف على حقيقة ركعاته.

وفيه: أن تطويل القراءة في القيام وتحسين الركوع والسجود أكثر من تكثير الركوع والسجود. وعكست طائفة، وفصلت أخرى فقالت: تطويل القيام في الليل أفضل وتكثير الركوع والسجود في النهار أفضل. ومذهب الشافعي أن تطويل القيام أفضل

(1)

.

وفيه: جواز الركعة الواحدة بعضها قيامًا وبعضها قعودًا، وهو مذهبنا ومالك وأبي حنيفة وعامة العلماء

(2)

، وسواء قام ثم قعد أو عكس، ومنعه بعض السلف. وعن أبي يوسف ومحمد بن الحسن وأشهب: لا تجزئه.

وقولها: من صلاة الليل جالسًا. اختلف في كيفية الجلوس في الصلاة، فعن أبي حنيفة: يقعد في حال القراءة كما يقعد في سائر الصلاة، وإن شاء توبع وإن شاء احتبى. وعن أبي يوسف: يحتبي. وعنه: يتربع إن شاء. وعن محمد: يتربع. وعن زفر: يقعد كما (يقعد)

(3)

في التشهد. وعن أبي حنيفة في صلاة الليل: يتربع من أول الصلاة إلى آخرها. وقال أبو يوسف: إن جاء في وقت الركوع والسجود يقعد كما يقعد في تشهد المكتوبة. وعن أبي يوسف: يركع متربعًا، وإذا أراد الركوع ثنى رجله اليسرى وافترشها

(4)

، وهومخير بين أن يركع من قعود وبين أن يقوم عند آخر قراءته.

(1)

انظر: "معرفة السنن والآثار" 4/ 42، "المجموع" 3/ 238.

(2)

انظر: "معرفة السنن والآثار" 4/ 32، "المدونة" 1/ 79 - 80، "المبسوط" 1/ 208، "المغنى" 2/ 567 - 568.

(3)

من (ج).

(4)

انظر: "البناية" 2/ 649.

ص: 114

قَالَ في "المغني": فإن الأمرين جميعًا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روته عائشة عنه

(1)

. والإقعاء مكروه، والافتراش عندنا أفضل من التربع على أظهر أقوال الشافعي

(2)

.

ثالثها: ينصب ركبته اليمنى كالقارئ بين يدي المقرئ. وعند مالك: يتربع. كما ذكره القرافي في "الذخيرة"

(3)

، وقال في "المغني" عن أحمد: يقعد متربعًا في حال القيام ويثني رجليه في الركوع والسجود

(4)

، ثم القعود في حقه صلى الله عليه وسلم كالقيام في حال القدرة وغيرها تشريفًا له وتخصيصًا.

(1)

"المغني" 2/ 569.

(2)

انظر: "روضة الطالبين" 1/ 235.

(3)

"الذخيرة" 2/ 163.

(4)

"المغني" 2/ 569.

ص: 115

‌17 - باب فَضْلِ الصلاة عند الطُّهُورِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَفَضْلِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الوُضُوءِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

1149 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الفَجْرِ:"يَا بِلَالُ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلَامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ". قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: "دَفَّ نَعْلَيْكَ" يَعْنِي: تَحْرِيكَ. [مسلم: 2458 - فتح: 3/ 34]

ذكر فيه حديث أبي هريرة: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الفَجْرِ: "يَا بِلَالُ، حَدِّثْنِي بِأرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ .. " الحديث.

أخرجه النسائي

(1)

، كما نبه عليه ابن عساكر، وأهمله الطرقي، وذكر أبو مسعود والطرقي أن مسلمًا أخرجه في الفضائل، وكذا ذكره الحميدي في المتفق عليه في مسند أبي هريرة

(2)

.

واسم أبي أُمامة: حماد بن أسامة. وأبو حيان اسمه: يحيى بن سعيد بن حيان التيمي. واسم أبي زرعة: هَرِمْ بن عمرو بن جرير بن عبد الله.

قوله: "بأرجى عمل عملته" أي: لأنه قد يعمل في السر ما لا يعلمه صلى الله عليه وسلم، وإنما رجى بلال ذلك لما علم أن الصلاة أفضل الأعمال بعد الإيمان.

وفيه: سؤال الصالحين عما يهديهم الله إليه من الأعمال المقتدى بهم فيها ويتمثل رجاء بركتها.

(1)

في "السنن الكبرى" 5/ 64 (8236).

(2)

"الجمع بين الصحيحين" للحميدي 3/ 164 (2387).

ص: 116

و"دفَّ نعليك" بالفاء المشددة. أي: تحريك نعليك كما هو في بعض نسخ البخاري، والدف: الحركة الخفيفة. -وهو بفتح الدال المهملة- وحكى أبو موسى المديني في "مغيثه" إعجامها. قَالَ صاحب "العين": دف الطائر؛ إذا حرك جناحيه، ورجلاه في الأرض

(1)

. وقال ابن التين: دوي نعلك: حفيفهما، وما يسمع من صوتهما، والدف: السير السريع. وفي رواية ابن السكن: "دوي نعليك" -بضم الدال المهملة- وهو الصوت، وعند الإسماعيلي:"حفيف نعليك". وللحاكم: "خشخشتك أمامي"

(2)

.

وقوله: ("بين يدي في الجنة") أي: أنه رأه بموضع بين يديه، كأن بلالًا تقدمه.

وفي الحديث دليل على أن الله تعالى يعظم المجازاة على ما يسر به العبد بينه وبين ربه مما لا يطلع عليه أحد. وقد استحب ذلك العلماء -أعني: أعمال البر- ليدخرها، ومن ذلك ما وقع لبلال، فإنه لم يعلم به الشارع حَتَّى أخبره.

وفيه: فضيلة الوضوء والصلاة عقبها؛ لئلا يبقى الوضوء خاليًا عن مقصوده، وإنما فعل ذلك بلال؛ لأنه علم أن الصلاة أفضل الأعمال بعد الإيمان كما سلف، فلازم.

وقوله: (لم أتطهر طهورًا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت). قد يستدل به من يرى أن كل صلاة لها سبب تصلى، وإن كان وقت الكراهة، والطهور هنا يحتمل الأمرين: الغسل والوضوء.

(1)

"العين" 8/ 11.

(2)

"المستدرك" 1/ 313 كتاب: صلاة التطوع، وفي 3/ 285 كتاب: معرفة الصحابة.

ص: 117

‌18 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّشْدِيدِ فِي العِبَادَةِ

1150 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقَالَ:"مَا هَذَا الحَبْلُ؟ ". قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ". [مسلم: 784 - فتح: 3/ 36]

1151 -

قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"مَنْ هَذِهِ؟ ". قُلْتُ: فُلَانَةُ لَا تَنَامُ بِاللَّيْلِ. فَذُكِرَ مِنْ صَلَاتِهَا، فَقَالَ:"مَهْ، عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا". [انظر: 43 - مسلم: 785 - فتح: 3/ 36]

ذكر فيه حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتيْنِ .. الحديث.

وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْن مَسْلَمَةَ

(1)

، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَة مِنْ بَنِي أَسَدٍ .. الحديث.

أما حديث أنس فأخرجه مسلم في الصلاة

(2)

، وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

وأغرب الحميدي فذكره في أفراد البخاري

(3)

.

(1)

ورد في هامش الأصل ما نصه: عبد الله بن مسلمة القعنبي شيخ البخاري، فإذا قال البخاري: قال فلان، أو قال لي فلان وما أشبه ذلك فكان المسند إليه القيل فإن قيل بدله حدثنا لكن الغالب استعمال ذلك في المذاكرة، وقيل: قال لي فلان أرفع من قال فلان.

(2)

برقم (784) باب: أمر مَن نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن ..

(3)

"الجمع بين الصحيحين" 2/ 630 (2077).

ص: 118

وشيخ البخاري فيه: أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج.

وزينب هذِه هي ابنة جحش، كما جاء في رواية أبي بكر بن أبي شيبة وغيره

(1)

. وفي أبي داود: حمنة بنت جحش

(2)

. وقال ابن الجوزي في حديث: فقالوا فلانة تصلي: هي حمنة. وقيل: أختها زينب أم المؤمنين. وقيل: ميمونة بنت الحارث. وذكر في "الموطأ" أنها الحولاء بنت تويت

(3)

.

وأما حديث عائشة فقد سلف مسندًا في باب: أحب الدين إلى الله أدومه من كتاب الإيمان من حديث يحيى بن سعيد عن هشام

(4)

، ورواه أبو نعيم من حديث محمد بن غالب، عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك، وقال في آخره: ورواه -يعني: البخاري- وقال: قَالَ عبد الله بن مسلمة، وأسنده الإسما عيلي من طريق يونس، عن ابن وهب، عن مالك. ورواه مسلم من حديث ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة

(5)

.

وفيه: الحث على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق، وقد قَالَ تعالى:{لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] والله أرحم بالعبد من نفسه.

(1)

قال الحافظ ابن حجر: جزم كثير من الشراح تبعًا للخطيب في "مبهماته" بأنها بنت جحش أم المؤمنين، ولم أر ذلك في شيء من الطرق صريحًا. ووقع في شرح الشيخ سراج الدين بن الملقن أن ابن أبي شيبة رواه كذلك، لكني لم أر في "مسنده" و"مصنفه" زيادة على قوله:"قالوا لزينب" أخرجه عن إسماعيل بن علية عن عبد العزيز ا. هـ "الفتح" 3/ 36.

(2)

في "سنن أبي داود" برقم (1312) باب: النعاس في الصلاة.

(3)

"الموطأ" ص 93 باب: ما جاء في صلاة الليل.

(4)

حديث (43).

(5)

برقم (785) باب: أمر مَن نعس في صلاته.

ص: 119

وفيه: الأمر بالإقْبَال عليها بنشاط، وإذا فتر فليقعد حَتَّى يذهب الفتور، وإزالة المنكر باليد لمن تمكن منه، وجواز التنفل في المسجد وذلك لأنها كانت تصليها فيه فلم ينكر عليها، وكراهية الاعتماد على الشيء في الصلاة، ويأتي إن شاء الله في باب: استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة

(1)

، من كره ذلك ومن أجازه، وإنما كره التشديد في العبادة، خشية الفتور والملالة، وقد قَالَ الشارع:"خير العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل"

(2)

وقَالَ الرب جل جلاله: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فكره الإفراط في العبادة؛ لئلا ينقطع عنها المرء فيكون كأنه رجوع فيما بذله من نفسه للرب جل جلاله وتطوع به.

وقوله: (فذكر من صلاتها) هو من قول عروة أو من رواة الحديث، وهو تفسير لقول عائشة: لا تنام الليل. ووصفتها بالامتناع من النوم؛ لأنه دأب الصالحين.

واختلف قول مالك فيمن يحيى الليل كله، فكرهه مرة، وهو مذهب الشافعي، وفي الشارع أسوة حسنة، كان يصلي أدنى من ثلثي الليل ونصفه، ثم رجع فقال: لا بأس به ما لم يضر بصلاة الصبح

(3)

.

وقوله: ("لا يمل حَتَّى تملوا") أي: لا يمل من الثواب حَتَّى تملوا أنتم من العمل الذي هو شأنكم. ومعنى الملل من الله: ترك الإعطاء.

ومعناه هنا: السآمة. إلا أنه لما كان الأمر من الترك وصف تركه

(1)

انظر ما سيأتي برقم (1198).

(2)

يأتي برقم (5861) كتاب: اللباس، باب: الجلوس على الحصير ونحوه.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 526، "التهذيب" 2/ 235، "البيان" 2/ 282.

ص: 120

بالملل على معنى المقابلة، وليس فيه ما يدل على أنه يمل العطاء إذا مللنا العمل، إلا من جهة دليل الخطاب إذا علق بالغاية، وبه قَالَ القاضي أبو بكر، وذكر الداودي أن أحمد بن أبي سليمان قَالَ: معناه: لا يمل وأنتم تملون. وقيل هي ها هنا بمعنى: حين. فهذِه أربعة أقوال.

وقال الهروي: قيل: إن الله لا يمل أبدًا مللتم أو لم تملوا، فجرى هذا مجرى قول العرب: حَتَّى يبيض القار

(1)

.

ومعنى: ("فعليكم بما تطيقون من الأعمال") يحتمل الندب لنا إلى أن نكلف بما لنا به طاقة أو نهينا عما لا نطيق، والأمر بالاقتصار على ما يطيقه، وهو الأليق.

وقوله: ("من الأعمال") أراد به عمل البر؛ لأنه ورد على سببه،

وهو قول مالك: إن اللفظ الوارد على سبب مقصور عليه؛ ولأنه ورد من جهة صاحب الشرع فيجب أن يحمل على الأعمال الشرعية.

وقوله: ("بما تطيقون") يريد: بما لكم المداومة عليه طاقة، وقد اختلف السلف في التعليق بالحبل في النافلة عن الفتور والكسل، فذكر ابن أبي شيبة عن أبي حازم أن مولاته كانت في أصحاب الصفة قالت: وكانت لنا حبال نتعلق بها إذا فترنا ونعسنا في الصلاة، فأتى أبو بكر فقال: اقطعوا هذِه الحبال وأفضوا إلى الأرض. وقال حذيفة في التعلق في الصلاة: إنما يفعل ذلك اليهود

(2)

.

ورخص في ذلك آخرون. قَالَ عراك بن مالك: أدركت الناس في رمضان يربط لهم الحبال فيمسكون بها من طول القيام

(3)

.

(1)

كما في "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير 4/ 360.

(2)

"المصنف" 1/ 297 (3403 - 3404).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 1/ 297 (3410) مَن كان يتوكأ.

ص: 121

وقد أسلفنا الكلام على هذا الحديث في باب: أحب الدين إلى الله أدومه

(1)

، ولما طال العهد أشرنا إليه أيضًا.

(1)

راجع شرح حديث (43).

ص: 122

‌19 - باب مَا يُكْرَهُ مِنْ تَرْكِ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمَنْ كَانَ يَقُومُهُ

1152 -

حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُبَشِّرٌ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الحَسَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَ اللهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ".

وَقَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنَا ابن أَبِي العِشْرِينَ، حَدَّثَنَا الأوزَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ الَحكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ مِثْلَهُ. وَتَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ. [انظر: 1131 - مسلم: 1159 - فتح: 3/ 37]

ذكر فيه حديث عَبَّاسِ بْنُ الحُسَيْنِ، ثَنَا مُبَشِّرٌ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ.

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلِ أَبُو الحَسَنِ أنا

(1)

عَبْدُ اللهِ، أنا

(2)

الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العَاصي قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم:"يَا عَبْدَ اللهِ، لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيلِ".

ثم قال: وَقَالَ هِشَامٌ: أنا ابن أَبِي العِشْرِينَ، ثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْييَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ مِثْلَهُ. تَابَعَهُ عَمْرُو ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ.

الشرح:

هذا الحديث أخرجه مسلم في الصوم، والنسائي، وابن ماجه

(1)

في هامش الأصل علامة أنه في نسخة (ثنا).

(2)

في هامش الأصل علامة أنه في نسخة (ثنا).

ص: 123

هنا

(1)

.

واختلف على الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو وأبي عمرو. فرواه عبد الله بن المبارك، ومبشر بن إسماعيل الحلبي، وجماعات عن يحيى، عن أبي سلمة

(2)

. ورواه عمرو بن أبي سلمة، وعبد الحميد بن حبيب ابن أبي العشرين وغيرهما عنه، عن يحيى، عن عمر بن ثوبان، عن أبي سلمة

(3)

فأدخلوا بين يحيى وأبي سلمة عمر بن الحكم بن ثوبان.

قَالَ ابن أبي حاتم: سألت أبي عن حديث عبد الحميد فقال: قَالَ أبي: الناس يقولون يحيى عن أبي سلمة، لا يدخلون بينهم عمر، وأحسب أن بعضهم قَالَ: يحيى، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

ومتابعة عمرو أخرجها مسلم، عن أحمد بن يوسف، عنه

(5)

.

ومتابعة هشام -وهو ابن عمار- أسندها الإسماعيلي فقال: أخبرني ابن أبي حسان، ومحمد بن محمد، ثنا هشام بن عمار، فذكره. ورواها أبو نعيم أيضًا فقال: حَدَّثنَا أبو الحسين محمد بن المظفر، ثنا محمد بن خريم، ثنا هشام، فذكره

(6)

.

(1)

مسلم برقم (1159) باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به .. ، والنسائي في "المجتبى" 3/ 253، ذم من ترك قيام الليل. وابن ماجه برقم (1221) باب: ما جاء في قيام الليل.

(2)

هذا الطريق في "السنن الكبرى" للنسائي برقم 1/ 411 (1303).

(3)

هذا الطريق عند ابن خزيمة في "صحيحه" برقم (1129) 2/ 173 باب: كراهة ترك صلاة الليل ..

(4)

"علل الحديث" 1/ 125 (344).

(5)

برقم (1159/ 185) باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به ..

(6)

"المسند المستخرج على صحيح مسلم" 3/ 237 (2634).

ص: 124

وعبد الحميد -كاتب الأوزاعي- ليس بالقوي. قاله النسائي.

وعباس -شيخ البخاري وهو القنطري- قَالَ: عبد الله بن أحمد: كان ثقة، سألت أبي عنه فذكره بخير، وقال أبو حاتم: مجهول، مات سنة أربعين ومائتين، وعنه البخاري فقط

(1)

.

وفيه: النهي عن ترك تهجد اعتاده، وكذا ما أخذ فيه من العمل، ثم قطعه، وقد عاب الله قومًا بذلك فقال:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] فاستحقوا الذم حين لم يفوا بما تطوعوا به، ولا رعوه حق رعايته، فصار رجوعًا منهم عنه، فكذلك لا ينبغي أن يلتزم بعبادة ثم يرجع عنها، بل ينبغي الترقي كل يوم في درج الخير، ويرغب إلى الله أن يجعل خاتمة عمله خيرًا، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يحب من العمل إلا ما دام عليه صاحبه وإن قل

(2)

. فإن كان قطعه لعذر كمرض ونحوه فأجره مستمر، كما نطق به الحديث الصحيح الآتي في البخاري:"كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا"

(3)

. وفي كتاب الله ما يشهد لذلك قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} [التين: هـ] يعني: بالهرم والضعف {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التين: 6] أي: غير مقطوع، وإن ضعفوا عن العمل يكتب لهم أجر عملهم في الشباب والصحة.

(1)

انظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" 7/ 7 (24). و"الجرح والتعديل" 6/ 215 (1182). و"تهذيب الكمال" 14/ 207 - 208 (3116).

(2)

ورد في هامش الأصل ما نصه: من خط الشيخ: واعلم أن ابن بطال لما ذكر ترجمة الباب لم يذكر حديثه ولا تعليقه وإنما ذكر فيه حديث الباب بعده.

(3)

يأتي برقم (2996) كتاب: الجهاد والسير، باب: يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة.

ص: 125

واعلم أن ابن بطال لما ذكر الباب لم يذكر حديثه، ولا تعليقه، وإنما ذكر فيه حديث الباب بعده

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 146.

قلت: كرر الناسخ في حاشيته هذِه الفقرة وكتبناها كما أشار إلى ذلك فقال: من خط الشيخ

فذكرها.

ص: 126

‌20 - باب

1153 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي العَبَّاسِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ " قُلْتُ: إِنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ. قَالَ: "فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ هَجَمَتْ عَيْنُكَ وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقٌّ، وَلأَهْلِكَ حَقٌّ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ". [انظر: 1131 - مسلم: 1159 - فتح: 3/ 38]

كذا ذكره ولم يترجم له.

وذكر فيه حديث أبي العباس السائب بن فروخ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ

" الحديث.

ويأتي في الصوم

(1)

، وأحاديث الأنبياء

(2)

وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي في الصوم

(3)

.

رواه عن أبي العباس عمرو، وهو ابن دينار، وعنه سفيان وهو ابن عيينة، وعنه علي بن عبد الله؛ وهو ابن المديني، والحميدي، وقال: حَدَّثَنَا سفيان، ثنا عمرو بن دينار، سمعت أبا العباس الأعمى، سمعت عبد الله بن عمرو، فذكره.

فيه: سؤالُ الكبيرِ الكبيرَ عن عمل بعض رعيته إذا بلغه، والشفقة عليهم،

وتأديبهم، وإرشادُهم إلى مصالحهم دينًا ودنيا، وحملهم على طا قتهم.

(1)

برقم (1979) باب: صوم داود عليه السلام.

(2)

برقم (3419) باب: قول الله تعالى: "وآتينا داود زبورًا".

(3)

"صحيح مسلم"(1159) كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، و"سنن الترمذي" (770) كتاب: الصوم، باب: ما جاء في سرد الصوم، و"سنن النسائي" 4/ 209: 212 كتاب: الصوم، باب: صوم يوم وإفطار يوم.

ص: 127

وقوله: ("هجمت عينك") أي: غارت وضعفت ودخلت في موضعها، ومنه الهجوم على القوم أي: الدخول عليهم. زاد الداودي: "ونحل جسمُك".

وقوله: ("ونفهت نفسك") أي: أعيت بفتح الفاء، كذا قيده شيخنا قطب الدين، وبخط الدمياطي علامة كسرها، وذلك ربما أدى إلى ترك الفروض.

وقوله: ("إن لنفسك حقًّا") يريد: ما جعل الله للإنسان من الراحة المباحة، فيستخرج الطاعة منها مع سلامتها.

وقوله: ("ولأهلك حقًا") يريد في الوطء وإنفاق الصحبة، وغير ذلك؛ لأنه ربما أضعفه ذلك عن طلب الكفاف.

ص: 128

‌21 - باب فَضْلِ مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى

(1)

1154 -

حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الفَضْلِ، أَخْبَرَنَا الوَلِيدُ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ للهِ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ". [فتح: 3/ 39]

1155 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي الهَيْثَمُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه -وَهُوَ يَقْصُصُ فِي قَصَصِهِ- وَهُوَ يَذْكُرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ أَخًا لَكُمْ لَا يَقُولُ الرَّفَثَ". يَعْنِى بِذَلِكَ: عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ.

وَفِينَا رَسُولُ اللهِ يَتْلُو كِتَابَهُ

إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ

أَرَانَا الهُدَى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنَا

بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ

إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ

تَابَعَهُ عُقَيْلٌ. وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ وَالأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. [6151 - فتح: 3/ 39]

1156 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ، فَكَأَنِّي لَا أُرِيدُ مَكَانًا مِنَ الجَنَّةِ إِلاَّ طَارَتْ إِلَيْهِ، وَرَأَيْتُ كَأَنَّ اثْنَيْنِ أَتَيَانِي أَرَادَا أَنْ يَذْهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَتَلَقَّاهُمَا مَلَكٌ فَقَالَ: لَمْ تُرَعْ، خَلِّيَا عَنْهُ. [انظر: 440 - مسلم: 2479 - فتح: 3/ 39]

(1)

ورد بعده في الأصل: قال أبو عبد الله: تعار: استيقظ. وعليها (نسخة من

إلى).

ص: 129

1157 -

فَقَصَّتْ حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى رُؤْيَايَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ". فَكَانَ عَبْدُ اللهِ رضي الله عنه يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ. [انظر: 1122 - مسلم: 2479 - فتح: 3/ 40]

1158 -

وَكَانُوا لَا يَزَالُونَ يَقُصُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرُّؤْيَا أَنَّهَا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَتْ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيْهَا فَلْيَتَحَرَّهَا مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ". [2015، 6991 - مسلم: 1165 - فتح: 3/ 40]

ذكر فيه حديث عبادة بن الصامت:

عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إله إِلَّا اللهُ" الحديث.

وعن الليث، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابن شِهَابٍ، عن الهَيْثَمُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ

أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه -وَهُوَ يَقْصُصُ فِي قَصَصِهِ- وَهُوَ يَذْكُرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَخًا لَكُمْ لَا يَقُولُ الرَّفَث". يَعْنِي بِذَلِكَ: عَبْدَ الله بْنَ رَوَاحَةَ.

وَفِيينَا رَسُولُ اللهِ يَتْلُو كِتَابَهُ

إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ ساطِعُ

أَرَانَا الهُدى بَعْدَ العَمَى فَقُلُوبُنَا

بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ

إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ

تَابَعَهُ عُقَيْلٌ. وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ وَالأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وذكر حديث ابن عمر: قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ .. الحديث.

الشرح:

حديث عبادة من أفراده، وأخرجه الأربعة: أبو داود في الأدب

(1)

،

(1)

"سنن أبي داود"(5060) باب: يقول الرجل إذا تعار من الليل.

ص: 130

والترمذي في الدعوات وقال: حسن غريب صحيح

(1)

، والنسائي في اليوم والليلة

(2)

، وابن ماجه في الدعوات

(3)

.

وفيه: الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي

(4)

.

وحديث أبي هريرة أخرجه أيضًا في هجاء المشركين من الأدب

(5)

، وهو من أفراده أيضًا، ورواه الإسماعيلي من حديث أصبغ عن ابن وهب، عن يونس. والإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن يونس.

وقوله: (تابعه عقيل) أي: تابع يونس عقيل في رواية ابن شهاب عن الهيثم.

والزبيدي هو محمد بن الوليد الحمصي.

وسعيد هو ابن المسيب.

والأعرج عبد الرحمن بن هرمز. وحديث ابن عمر تقدم بعضه في فضل قيام الليل

(6)

(7)

.

وأيوب هو ابن أبي تميمة. وأخرجه مسلم

(8)

.

وشيخ البخاري أبو النعمان هو محمد بن الفضل السدوسي عارم،

(1)

"سنن الترمذي"(3414) باب: ما جاء في الدعاء إذا تنبه من الليل.

(2)

"عمل اليوم والليلة" ص 253 (867).

(3)

"سنن ابن ماجه"(3878) باب: ما يدعو إذا انتبه من الليل.

(4)

ورد في هامش الأصل ما نصه: قول الشيخ: وفيه الوليد ثنا الأوزاعي: أشار به إلى أن الوليد مدلس لكنه صرح بالتحديث.

(5)

سيأتي برقم (6151).

(6)

ورد في هامش الأصل: وفي نوم الرجال في المسجد.

(7)

سبق برقم (1121) كقال: التهجد.

(8)

"صحيح مسلم"(2479) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل عبد الله بن عمر.

ص: 131

مات في صفر، بعد العشرين والمائتين

(1)

.

إذا عرفت ذلك فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

("تعار من الليل") استيقظ، وقيل: إنما يكون مع صوت. وقيل: لا يقال: تعار إلا لمن قام وذكر. وظاهر الحديث الأولُ؛ لأنه قَالَ: "من تعار .. فقال" فعطف القول بالفاء على (تعار)، فهذا من قوله تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة: - 152] فجمع في هذا الحديث ما في هذِه الآية، ومن ذكره الله لا يعذبه، ومن قبل له حسنة قبل له سائر عمله؛ لأنه يعلم عواقب الأمور وما يحبط الأعمال، فلا يقبل شيئًا ثم يحبطه، قاله الداودي.

ثانيها:

حديث عُبادةَ شريف عظيم القدرة وفيه ما وَعَدَ الله عباده على التيقظ من نومهم لهَجة ألسنتهم بشهادة التوحيد له والربوبية، والإذعان له بالملك، والاعتراف له بالحمد على جزيل نعمه التي لا تحصى، رطبة أفواههم بالقدرة التي لا تتناهى، مطمئنة قلوبهم بحمده وتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق بالإلهية من صفات النقص، والتسليم له بالعجز عن القدرة عن نيل شيء إلا به، فإنه وعد بإجابة دعاء من بهذا دعاه، وقبول صلاة من بعد ذلك صلى، وهو تعالى لا يخلف الميعاد.

فينبغي لكل من بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به، ويخلص نيته لربه العظيم أن يرزقه حظًّا من قيام الليل، فلا عون إلا به، ويسأله فكاك

(1)

ورد في هامش الأصل: في "الكاشف" سنة أربع. وفي

لابن عساكر: وقيل: سنة ثلاث.

ص: 132

رقبته من النار، وأن يوفقه لعمل الأبرار، وأن يتوفاه على الإسلام، فقد سأل ذلك الأنبياء الذين هم خيرة الله وصفوته من خلقه، فمن رزقه الله حظًّا من قيام الليل فليكثر شكره على ذلك، ويسأله أن يديم له ما رزقه، وأن يختم له بفوز العاقبة وجميل الخاتمة.

قَالَ أبو عبد الله الفربري: أجريت هذا الدعاء على لساني عند انتباهي من النوم ثم نمت فجاءني جاءٍ فقرأ هذِه الآية: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ (24)} [الحج: - 24].

ثالثها:

قوله: ("فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلل شيء قدير") وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ فيه أنه "خير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي"

(1)

.

وروى عنه أبو هريرة أنه قال: "من قَالَ ذلك في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حَتَّى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل بما جاء، إلا أحد عمل أكثر من عمله ذلك"

(2)

.

(1)

رواه مالك في "الموطأ" 1/ 245 (621) كتاب: الجمعة، باب: ما جاء في الدعاء، وعبد الرزاق 4/ 378 (8125) كتاب: المناسك، باب: فضل أيام العشر والتعريف في الأمصار، والبيهقي 5/ 117 كتاب: الحج، باب: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة. ثم قال: هذا مرسل، وقد روي عن مالك بإسناد آخر موصولًا ووصله ضعيف.

ورواه الترمذي (3585) كتاب: الدعوات، باب: في الدعاء يوم عرفة، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي".

(2)

سيأتي برقم (3293) كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده.

ص: 133

وقوله: ("الحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة

إلا بالله"). وفي نسخة: "ولا إله إلا الله " خرج مالك عن سعيد بن

المسيب أنه قَالَ: الباقيات الصالحات قول العبد ذلك، بزيادة لا إله

إلا الله

(1)

. كما ذكرناه عن بعض النسخ فجعلها خمسًا بتقديم وتأخير.

وروي عن ابن عباس: هي: سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر

(2)

. جعلها أربعًا.

رابعها:

قوله: ("إن أخًا لكم") القائل هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دال على أن حسن الشعر محمود كحسن الكلام، وبين أن قوله صلى الله عليه وسلم:"لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حَتَّى يريه، خير له من أن يمتلئ شعرًا"

(3)

لا يراد به كل الشعر، إنما المراد الشعر الذي فيه الباطل والهجر من القول؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد نفي عن ابن رواحة بقوله هذِه الأبيات؛ قول الرفث، وإذا لم تكن من الرفث فهي في حيز الحق، والحق مرغوب فيه، مأجور عليه صاحبه، وذكر هذِه الأبيات لأن فيها أنه صلى الله عليه وسلم يبيت يجافي جنبه عن فراشه، وهو صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا ما فيه الفضل، فلما كان تلاوة القرآن وهجر الفراش من الفضائل لما فعله، فهو داخل في هذا الباب.

خامسها:

قوله في حديث ابن عمر: (إحدى رؤياي). كذا هنا ويجوز رُؤَتَيَّ أو

(1)

"الموطأ" ص 148 (23) كتاب: القرآن، باب: ما جاء في ذكر الله تبارك وتعالى.

(2)

رواه الطبري في "التفسير" 8/ 230 (23091 - 23093).

(3)

سيأتي برقم (6155) كتاب: الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر.

ص: 134

رؤاتيَّ، وفيه: أن قيام الليل ينجي من النار، وقد سلف.

وقوله: (" أرى رؤياكم قد تواطت في العشر الأواخر") هكذا وقع في سائر النسخ وأصله مهموز، تواطأت على وزن تفاعلت، لكنه وقع على التسهيل، ومعنى "تواطأت": اتفقت واجتمعت. ذكره الداودي

(1)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: وفي أصل الدمياطي بالهمزة.

ص: 135

‌22 - باب المُدَاوَمَةِ عَلَى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ

1159 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ -هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ- قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا، وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدَعُهُمَا أَبَدًا. [انظر: 619 - مسلم: 724 - فتح: 3/ 42]

ذكر فيه حديث عائشة قالت: صَلى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم العِشَاءَ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ، وَرَكْعَتَيْنِ جَالِسًا، وَرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدَعُهُمَا أَبَدًا.

هذا بعض طرق عائشة في قيام الليل.

وفيه: تأكد ركعتي الفجر، وأنهما من أشرف التطوع؛ لمواظبته عليهما، وملازمته لهما، وعند المالكية خلاف هل هي سنة أم من الرغائب؟ فالصحيح عندهم أنها سنة

(1)

، وهو قول جماعة العلماء، وذهب الحسن البصري إلى وجوبها

(2)

، وهو شاذ لا أصل له، قاله الدوادي. ولم يثبت من عائشة هنا في الحضر ولا في السفر. والمراد بـ (بين النداءين): الأذان والإقامة، وهو وقتها.

وقوله: (وركعتين جالسًا). هذا فعله بعض الأحيان؛ لبيان الجواز، وإلا فالمستقرأ من حاله أن الوتر كان آخر صلاته، ففي مسلم كان يصلي من الليل حَتَّى تكون آخر صلاته الوتر

(3)

؛ فهو قال -كما قَالَ البيهقي- على تركها بعد الوتر

(4)

وقد أمر بأن نجعل آخر صلاتنا بالليل وترًا،

(1)

انظر: "المعونة" 1/ 118.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 49 (6330) كتاب: الصلوات، باب: في ركعتي الفجر.

(3)

"صحيح مسلم"(749) كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى.

(4)

"شرح معاني الآثار" 4/ 76 كتاب: الصلاة، باب: الحلق والجلوس في المسجد. =

ص: 136

أخرجاه

(1)

.

فائدة: روى البيهقي من حديث أبي غالب عن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في هاتين الركعتين وهو جالس {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1]، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1)} [الكافرون: 1] وفي رواية له عن أنس مثله

(2)

، وعن أنس أيضًا: فقرأ فيهما بالرحمن والواقعة

(3)

.

وترجم المحاملي في كتابه: باب: ركعتين بعد الوتر، ثم قَالَ: ويصلي بعد الوتر ركعتين قاعدًا متربعًا، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة {إِذَا زُلْزِلَتِ} وفي الثانية بعدها {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1)} وإذا ركع وضع يديه على الأرض، ويثني رجليه كما يركع القائم ومثله في السجود يثني رجليه،

(4)

وهو غريب.

فائدة:

في فضل ركعتي الفجر سيأتي في البخاري من حديث عائشة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه عليهما

(5)

.

وصح من حديثها: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"

(6)

وفي لفظ: "هما أحب إلى من الدنيا جميعًا"

(7)

.

= ورواه مسلم برقم (751) كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل مثنى مثنى.

(1)

"السنن الكبرى" 3/ 33 كتاب: الصلاة، باب: في الركعتين بعد الوتر.

(2)

المصدر السابق.

(3)

المصدر السابق.

(4)

"اللباب" ص 137.

(5)

سيأتي برقم (1169) كتاب: التهجد، باب: تعاهد ركعتي الفجر ومن سماهما تطوعًا.

(6)

رواه مسلم (725/ 96) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتي الفجر والحث عليهما.

(7)

رواه مسلم (725/ 97).

ص: 137

وفي لفظ: ما رأيته في شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر

(1)

. ويروى ولا إلى غنيمة. رواه ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد ابن عمير عنها

(2)

.

وقال أبو هريرة: لا تدع ركعتي الفجر ولو طرقتك الخيل

(3)

.

وهذا رواه أحمد وأبو داود مرفوعًا عنه: "لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل"

(4)

.

وقال عمر: هما أحب إلى من حمر النعم

(5)

. وقال إبراهيم: إذا صلى ركعتي الفجر ثم مات أجزأه من صلاة الفجر

(6)

.

وقال علي: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إدبار النجوم قَالَ: "ركعتين بعد الفجر". قَالَ علي: وإدبار السجود ركعتين بعد المغرب

(7)

.

(1)

سيأتي برقم (1169) كتاب: التهجد، باب: تعاهد ركعتي الفجر، ورواه مسلم برقم (724/ 95) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتي الفجر.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 49 (6322) كتاب: الصلوات، باب: في ركعتي الفجر، وابن خزيمة في "صحيحه" 2/ 160 - 161 (1108) كتاب: الصلاة، باب: المسارعة إلى الركعتين قبل الفجر اقتداء بالنبي المصطفي صلى الله عليه وسلم، وابن حبان في "صحيحه" 6/ 210 (2457) كتاب: الصلاة، باب: النوافل.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 49 (6323) كتاب: الصلوات، باب: في ركعتي الفجر.

(4)

"سنن أبي داود"(1258) كتاب: الصلاة، باب: في تخفيفهما، و"مسند أحمد" 2/ 405. ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 299.

قال الألباني في "ضعيف سنن أبي داود"(233): إسناده ضعيف، قال عبد الحق الإشبيلي: ليس بالقوي وعلته ابن سيلان واسمه على الأرجح: عبد ربه، وحاله مجهولة.

(5)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 49 (6325) كتاب: الصلوات، باب: في ركعتي الفجر.

(6)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 49 (6328).

(7)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 259 (8752 - 8753) كتاب: الصلوات، باب: في {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} و {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} . وفيه: ركعتان قبل الفجر، والطبري في =

ص: 138

وروي مثله عن عمر وأبي هريرة

(1)

.

فرع:

اختلف العلماء في الوقت الذي يقضيها فيه من فاتته، فأظهر أقوال الشافعي: تقضى مؤبدًا ولو بعد الصبح

(2)

. وهو قول عطاء وطاوس، ورواية عن ابن عمر، وأبى مالك ذلك

(3)

، ونقله ابن بطال عن أكثر العلماء

(4)

.

وقالت طائفة: يقضيها بعد طلوع الشمس، روي ذلك عن ابن عمر والقاسم بن محمد

(5)

، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، ورواية البويطي عن الشافعي

(6)

.

وقال مالك ومحمد بن الحسن: يقضيهما بعد الطلوع إن أحب

(7)

.

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يقضيهما من فاتته، وليسا بمنزلة الوتر

(8)

.

= "تفسيره" 11/ 501 (32410 - 32411)، و 11/ 436 (31973 - 31977) كلاهما عن علي موقوفًا.

(1)

رواهما ابن أبي شيبة 2/ 259 (8754 - 8755)، والطبراني في "تفسيره" 1/ 436 (31978).

(2)

انظر: "روضة الطالبين" 1/ 337.

(3)

رواه ابن المنذر في "الأوسط" 5/ 227.

(4)

"شرح ابن بطال" 3/ 150.

(5)

"الأوسط" 5/ 227.

(6)

"الأوسط" 5/ 228.

(7)

"الاستذكار" 2/ 133، "مختصر خلافيات البيهقي" 1/ 273.

(8)

"الأصل" 1/ 161.

ص: 139

فرع:

عند المالكية من دخل المسجد وقد أصبح صلى ركعتي الفجر فقط.

وقيل: بعد التحية، ولو ركع في بيته ففي ركوعه روايتان، ثم في تعيينها قولان

(1)

.

فرع:

من لم يصلهما وأدرك الإمام في صلاة الصبح أو أقيمت عليه فقالت طائفة: "لا صلاة إلا المكتوبة"، وروي عن عمر وابنه وأبي هريرة

(2)

وبه قَالَ الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور

(3)

.

وفيه قول ثان: أنه يصليهما في المسجد والإمام يصلي، روي ذلك عن ابن مسعود

(4)

، وبه قال الثوري والأوزاعي، إلا أنهما قالا: إن خشي أن تفوته الركعتان دخل مع الإمام، وإن طمع بإدراك الركعة الثانية صلاهما ثم دخل مع الإمام، وقال أبو حنيفة مثله، إلا أنه قَالَ: لا يركعهما في المسجد

(5)

.

وقال مالك: إن دخل المسجد فلا يركعهما وليدخل معه في الصلاة، وإن كان خارج المسجد ولم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعهما، وإن خاف أن تفوته الأولى فليدخل وليصلي معه، ثم يصليهما إن أحب بعد طلوع الشمس.

(1)

"الذخيرة" 2/ 401.

(2)

"الأوسط" 5/ 230.

(3)

"الأوسط" 5/ 231، "المغني" 2/ 119.

(4)

"الأوسط" 5/ 231 - 232.

(5)

"الهداية" 1/ 77.

ص: 140

فرع:

من ظن أن الفجر طلع فركعهما، ثم علم أنه ركعهما قبل طلوعه أعادهما، ذكره في "المدونة"

(1)

وقال ابن الماجشون: لا يعيدهما، وذكره عن ربيع والقاسم وسالم، وإن لم يعلم هل كان طلع: ففي "المدونة": أرجو أن لا بأس به، وقال أشهب: إذا ركعهما وهو لا يوقن بالفجر لم تجزئاه

(2)

.

فرع:

ثبت في الصحيحين -كما سيأتي- من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يخففهما حَتَّى إني لأقول: هل قرأ فيهما؟ ومشهور مذهب مالك أنه لا يقرأ فيهما إلا بأم القرآن

(3)

، وقيل: وسورة قصيرة

(4)

. وقيل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ} [البقرة: 136] وقيل: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64] وسيأتي ذلك في بابه واضحًا.

(1)

"المدونة" 1/ 118.

(2)

"النوادر والزيادات" 1/ 497.

(3)

"المدونة" 1/ 118، "التفريع" 1/ 268.

(4)

"الذخيرة" 2/ 399.

ص: 141

‌23 - باب الضِّجْعَةِ عَلَى الشِّقِّ الأَيْمَنِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ

1160 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَىِ الفَجْرِ، اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ. [انظر: 619 - مسلم: 724 - فتح: 3/ 43]

ذكر فيه حديث أبي الأَسْوَدِ، -وهو محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة- عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ، اضْطَجَعَ عَلَى شِقهِ الأَيْمَنِ.

ص: 142

‌24 - باب مَنْ تَحَدَّثَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ

1161 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الحَكَمِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي، وَإِلاَّ اضْطَجَعَ حَتَّى يُؤْذَنَ بِالصَّلَاةِ. [انظر: 619 - مسلم: 743 - فتح: 3/ 43]

ذكر فيه حديث أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي، وَإِلَّا اضْطَجَعَ حَتَى يُؤْذَنَ بِالصَّلَاةِ.

الشرح:

أما حديثها الثاني فأخرجه مسلم أيضًا وأبو داود

(1)

والترمذي وصححه ولفظه: كان إذا صلى ركعتي الفجر، فإن كانت له إليَّ حاجة كلمني وإلا خرج إلى الصلاة. ثم قَالَ: وقد كره بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم الكلام بعد طلوع الفجر حَتَّى يصلي صلاة الفجر، إلا ما كان من ذكر الله أو مما لا بد منه، وهو قول أحمد وإسحاق

(2)

.

ولفظ أبي داود: وكان إذا قضى صلاته من آخر الليل نظر، فإن كنت مستيقظة حَدَّثَني، وإن كنت نائمة أيقظني وصلى الركعتين، ثم اضطجع حَتَّى يأتيه المؤذن فيؤذنه بصلاة الصبح، فيصلي ركعتين خفيفتين ثم يخرج إلى الصلاة.

(1)

"صحيح مسلم"(743) كتاب: صلاة المسافرين، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم.

"سنن أبي داود"(1262 - 1263) كتاب: التطوع، باب: الاضطجاع بعدها.

(2)

"سنن الترمذي"(418) في الصلاة، باب: ما جاء في الكلام بعد ركعتي الفجر.

ص: 143

وراويه

(1)

عن أبي سلمة سالم أبو النضر، وراويه عن سفيان وهو ابن عيينة.

قَالَ البيهقي: ورواه مالك خارج "الموطأ" عن سالم فذكر الحديث عقب صلاة الليل، وذكر اضطجاعه بعد ركعتين قبل ركعتي الفجر، وساق طريق أبي داود السالفة، ثم قَالَ: وهذا بخلاف رواية الجماعة عن أبي سلمة. ثم ساق طريق مسلم عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى من الليل ثم أوتر ثم صلى الركعتين، فإن كنت مستيقظة حَدَّثَني وإلا اضطجع حَتَّى يأتيه المؤذن. ثم أخرج من طريق الحميدي: حَدَّثَنَا سفيان، ثنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة، فإذا أراد أن يوتر حركني برجله، وكان يصلي الركعتين فإن كنت مستيقظة حَدَّثَني، وإلا اضطجع حَتَّى يقوم إلى الصلاة

(2)

.

قَالَ الحميدي: كان سفيان يشك في حديث أبي النضر ويضطرب فيه، وربما شك في حديث زياد، ويقول: يختلط علي.

ثم قَالَ غير مرة: حديث أبي النضر كذا، وحديث زياد كذا، وحديث محمد بن عمرو كذا، على ما ذكرت كل ذلك.

وأما حديثها الأول، فهو من أفراد البخاري، وأخرجه البيهقي من حديث معمر، عن الزهري، عن عروة عنها، ثم قَالَ: أخرجه البخاري وكذلك رواه الأوزاعي وجماعات عددهم عن الزهري، وكذلك قاله أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة.

(1)

ورد في هامش الأصل: يعني: راوي حديث "الصحيح" الذي ساقه.

(2)

"سنن البيهقي الكبرى" 3/ 45 - 46 كتاب: الصلاة، باب: ما ورد في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.

ص: 144

قلتُ: هو طريق البخاري وخالفهم مالك، فذكر الاضطجاع بعد الوتر، ثم ساقه وعزاه إلى مسلم، كذا قاله مالك، والعدد أولى بالحفظ من الواحد، قَالَ: ويحتمل أن يكونا محفوظين، فنقل مالك أحدهما ونقل الباقون الآخر، واختلف فيه أيضًا عن ابن عباس، فروي عنه أنه كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع.

وروى كريب عنه ما دل على أن اضطجاعه كان بعد الوتر، قَالَ: ويحتمل في ذلك ما احتمل في رواية مالك

(1)

. وذكر عن الذهلي أن الصواب الاضطجاع بعد الركعتين.

وقال مسلم في "التمييز": وهم مالك في ذلك، وخولف فيه عن الزهري، وسلف عن جماعة رووا عنه أن الاضطجاع بعدهما إذا علمت ذلك.

واختلف العلماء في الضجعة بعد ركعتي الفجر، فذهبت طائفة إلى أنها سنة يجب العمل بها، وعبارة ابن عبد البر: ذهب قوم إلى أن المصلي بالليل إذا ركع ركعتي الفجر كان عليه أن يضطجع، وزعموا أنها سنة، واحتجوا بحديث الباب وغيره بما ذكرناه، وقال: هكذا قَالَ كل من رواه عن ابن شهاب، إلا مالك بن أنس فإنه جعل الاضطجاع فيه بعد الوتر، واحتجوا أيضًا بحديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا صلى أحدكم ركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه"

(2)

.

(1)

"السنن الكبرى" 3/ 44 - 45.

(2)

رواه أبو داود (1261) كتاب: الصلاة، باب: الاضطجاع بعدها، والترمذي (420) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، وابن حبان 6/ 22 (2468) كتاب: الصلاة، باب: النوافل. والبيهقي 3/ 45 كتاب: =

ص: 145

وذهبت طائفة إلى أنها ليست سنة، وإنما كانت راحة لطول قيامه، واحتجوا بالحديث الثاني عن عائشة، وقد قَالَ ابن القاسم عن مالك: إنه لا بأس بها إن لم يرد بها الفضل. وقال الأثرم: سمعت أحمد يسأل عنها فقال: ما أفعله أنا، فإن فعله رجل. ثم سكت، كأنه لم يعبه إن فعله. قيل له: لمَ لمْ تأخذ به؟ قَالَ: ليس فيه حديث يثبت. قلتُ له: حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. قَالَ: رواه بعضهم مرسلًا

(1)

.

وقال ابن العربي: إنه معلول؛ لم يسمعه أبو صالح من أبي هريرة، وبين الأعمش وأبي صالح كلام

(2)

.

وذكر البيهقي أن الأول في رواية أبي هريرة فكأنه فعله صلى الله عليه وسلم؛ للرواية التي هي عن محمد بن إبراهيم، عن أبي صالح سمعت أبا هريرة يحدث مروان بن الحكم، أنه صلى الله عليه وسلم كان يفصل بينها وبين الصبح بضجعة على شقه الأيمن

(3)

.

وذكر الأثرم من وجوه عن ابن عمر أنه أنكره، وقال: إنها بدعة.

وعن إبراهيم

(4)

وأبي عبيدة وجابر بن زيد، أنهم أنكروا ذلك، ومشهور مذهب مالك أنها لا تسن

(5)

. وقال عياض في هذا الاضطجاع: الاضطجاع بعد صلاة الليل وقبل ركعتي الفجر.

= الصلاة، باب: ما ورد في الاضطجاع عند ركعتي الفجر.

وصححه النووي -كما سيأتي، والألباني في "صحيح أبي داود" (1146) قائلًا: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

(1)

انظر: "التمهيد" 8/ 125 - 126.

(2)

"عارضة الأحوذي" 2/ 217.

(3)

"السنن الكبرى" 3/ 45 الصلاة، باب ما ورد في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 54 (6386) كتاب: الصلوات، باب: من كرهه 2/ 55 (6392).

(5)

انظر: "المنتقى" 1/ 215.

ص: 146

وفي الرواية الأخرى عنها، أنه كان صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد ركعتي الفجر.

وفي حديث ابن عباس أن الاضطجاع كان كالأول

(1)

قَالَ: وهذا فيه رد على الشافعي وأصحابه، في أن الاضطجاع بعدها سنة.

قَالَ: وذهب مالك وجمهور العلماء وجماعة من الصحابة إلى أنها بدعة، وأشار إلى أن رواية الاضطجاع مرجوحة، ولم يقل أحد في الاضطجاع قبلها أنه سنة، فكذا بعدهما

(2)

.

وقالت عائشة: فإن كنت مستيقظة حَدَّثَني، وإلا اضطجع. فهذا يدل على أنه ليس بسنة، واعترض النووي فقال: الصحيح -أو الصواب إن شاء الله- أن الاضطجاع بعد سنة الفجر سنة، لحديث أبي هريرة السالف:"إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه". رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح على شرط الشيخين. وقال الترمذي: حسن صحيح، قَالَ: فهذا صحيح صريح في الأمر بالاضطجاع

(3)

.

وأما حديث عائشة بالاضطجاع بعدها وقبلها، وحديث ابن عباس قبلها، فلا يخالف هذا، فإنه لا يلزم من الاضطجاع قبلها ألا يضطجع بعدها ولعله عليه السلام ترك الاضطجاع بعدها في بعض الأوقات بيانًا للجواز لو ثبت الترك فلعله كان يضطجع قبل وبعد

(4)

.

وقال القرطبي: هذِه ضجعة الاستراحة، وليست بواجبة عند الجمهور، ولا سنة خلافًا لمن حكم بوجوبها من أهل الظاهر، ولمن

(1)

سبق برقم (183) كتاب: الوضوء، باب: قراءة القرآن بعد الحدث وغيره.

(2)

انظر: "المجموع" 3/ 523 - 524.

(3)

"المجموع" 3/ 523 - 524.

(4)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 9/ 16 - 20.

ص: 147

حكم بسنتها، وهو الشافعي. وذكر حديث عائشة: فإن كنت مستيقظة حَدَّثَني

الحديث

(1)

.

وذكر البيهقي عن الشافعي أنه أشار إلى الاضطجاع للفصل بين النافلة والفريضة. ثم سواء كان ذلك الفصل بالاضطجاع، أو التحديث، أو التحول عن ذلك المكان أو غيره، والاضطجاع غير متعين لذلك

(2)

.

ولما ذكر ابن بطال أن هذِه الضجعة سنة يجب العمل بها أنه فعلها أنس، وأبو موسى الأشعري، ورافع بن خديج، ورواية ضعيفة عن ابن عمر ذكرها ابن أبي شيبة

(3)

، وروى مثله عن ابن سيرين، وعروة

(4)

.

قلتُ: وحكاها ابن حزم عن جماعة: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وسليمان بن يسار، وأبي موسى الأشعري، وأصحابه، وأبي الدرداء، وأبي رافع، كذا قَالَ، وإنما هو رافع بن خديج، قَالَ: -يعني ابن بطال- وذهب جمهور العلماء إلى أن هذِه الضجعة إنما كان يفعلها للراحة من تعب القيام وكرهوها، وممن كرهها النخعي.

وذكر ابن أبي شيبة قَالَ: قَالَ أبو الصديق الناجي: رأى ابن عمر قومًا قد اضطجعوا بعد ركعتي الفجر، فأرسل إليهم فنهاهم، فقالوا:

(1)

انظر: "المفهم" 2/ 373 - 374.

(2)

"السنن الكبرى" 3/ 46 - 47.

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 54 كتاب: الطهارة، باب: الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.

(4)

"شرح ابن بطال" 3/ 151.

ص: 148

نريد السنة. قَالَ ابن عمر: ارجع إليهم فأخبرهم أنها بدعة

(1)

. ورواه البيهقي أيضًا

(2)

.

وعن ابن المسيب قَالَ: رأى ابن عمر رجلًا اضطجع بعد الركعتين، فقال: احصبوه.

وقال أبو مجلز: سألت -أعني: ابن عمر- عنها فقال: يتلعب بكم الشيطان.

وعن مجاهد: صحبت ابن عمر في السفر والحضر فما رأيته اضطجع بعد ركعتي الفجر. وعن إبراهيم قَالَ: قَالَ عبد الله: ما بال الرجل إذا صلى الركعتين يتمعك كما تتمعك الدابة والحمار، إذا سلم فقد فصل. ونحوه عن ابن جبير، وعن الحسن بن عبيد الله قَالَ: كان إبراهيم يكره الضجعة المذكورة. وعنه أنها ضجعة الشيطان، وعن الحسن كراهتها.

وقال ابن جبير: لا يضطجع بعد الركعتين قبل الفجر، واضطجع بعد الوتر -وكل هذِه الآثار في كتاب ابن أبي شيبة- وعن عبد الكريم أن عروة دخل المسجد والناس في الصلاة فركع ركعتين، ثم أمَسَّ جنبه الأرض، ثم قام فدخل مع الناس في الصلاة. وعن ابن عون، عن محمد كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع. وعن أبي هريرة الأمر بها

(3)

.

وفي أبي داود عن أبي بكرة قَال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة

(1)

"المصنف" 2/ 55 (6394) وانظر "شرح ابن بطال" 3/ 151.

(2)

"السنن الكبرى" 3/ 46.

(3)

"المصنف" 2/ 54 - 55 (6378 - 6396) كتاب: الصلوات، باب: الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ومن كرهه.

ص: 149

الصبح، وكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة أو حركه برجله

(1)

، فيه أبو الفضل الأنصاري، وهو غير مشهور. وقال المهلب: هذِه الضجعة منه إنما كانت في الغِبِّ؛ لأنه كان أكثر عمله أن يصليها إذا جاء المؤذن للإقامة. وقال ابن قدامة: إنها سنة على جنبه الأيمن. وأنكره ابن مسعود. وكان القاسم وسالم (يفعلونه)

(2)

. واختلف فيه عن ابن عمر. وروي عن أحمد أنه ليس بسنة؛ لأن ابن مسعود أنكره

(3)

.

وحكمة الاضطجاع على الأيمن أن لا يستغرق في النوم؛ لأن القلب في جهة اليسار، فيتعلق حينئذٍ فلا يستغرق، بخلاف ما إذا نام على يساره فإنه في دعة واستراحة فيستغرق.

قَالَ ابن بطال: والحديث الثاني يبين أن الضجعة ليست بسنة، وأنها للراحة، من شاء فعلها، ومن شاء تركها. ألا ترى قول عائشة:(فإن كنت مستيقظة حَدَّثَني، وإلا اضطجع). فدل أن اضطجاعه إنما كان يفعله إذا عدم التحديث معها؛ ليستريح من نصب القيام.

وفي سماع ابن وهب: قيل: فمن ركع ركعتي الفجر، أيضطجع على شقه الأيمن؟ قَالَ: لا. يريد: لا يفعله استنانًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله استنانًا، وكان ينتظر المؤذن حَتَّى يأتيه

(4)

.

وإنما ترك الشارع الاستغفار وحدثها، وقد مدح تعالى المستغفرين بالأسحار؛ لأن السحر يقع على ما قبل الفجر كما يقع على ما بعده. ومنه

(1)

"سنن أبي داود"(1264) كتاب: الصلاة، باب: الاضطجاع بعدها.

وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(234).

(2)

في الأصل عليها (كذا).

(3)

"المغني" 2/ 542.

(4)

"شرح ابن بطال" 3/ 152.

ص: 150

قيل للسحور: سحور؛ لأنه طعام في السحر قبل الفجر، وقد كان صلى الله عليه وسلم أخذ بأوفر الحظ من القيام، واستغفار الملك العلام. وقد سلف أنه قبل الفجر مطلوب، لقوله:"من يستغفرني فأغفر له؟ "

(1)

والتكلم في أثنائه من شأن يصلحه، وعلمٍ ينشره لا يخرجه عن الاسم المرغوب.

واختلف السلف في الكلام بعد ركعتي الفجر، فقال نافع: كان ابن عمر ربما تكلم بعدهما. وقال إبراهيم: لا بأس أن يسلم ويتكلم بالحاجة بعدهما. وعن الحسن وابن سيرين مثله. وكره الكوفيون الكلام قبل صلاة الفجر إلا بخير

(2)

. وكان مالك يتكلم في العلم بعد ركعتي الفجر، فإذا سلم من الصبح لم يتكلم مع أحد حَتَّى تطلع الشمس.

قال مالك: لا يكره الكلام قبل الفجر وإنما يكره بعده إلى طلوع الشمس

(3)

.

وممن كان لا يرخص في الكلام بعد ركعتي الفجر: قَالَ مجاهد: رأى ابن مسعود رجلًا يكلم آخر بعد ركعتي الفجر فقال: إما أن تذكر الله، وإما أن تسكت. وعن سعيد بن جبير مثله. وقال إبراهيم: كانوا يكرهون الكلام بعدهما، وهو قول عطاء. وسُئل جابر بن زيد: هل تفرق بين صلاة الفجر وبين الركعتين قبلهما بكلام؟ قَالَ: لا، إلا أن يتكلم بحاجة إن شاء. ذكر هذِه الآثار ابن أبي شيبة

(4)

.

(1)

سلف برقم (1145).

(2)

انظر: "الأصل" 1/ 158، "المبسوط" 1/ 157.

(3)

"المدونة" 1/ 119.

(4)

"المصنف" 2/ 55 - 56 (6397 - 6410) كتاب: الصلوات، باب: الكلام بعد ركعتي الفجر، وباب: من كان لا يرخص في الكلام بينهما.

ص: 151

والقول الأول أولى؛ لشهادة السنة الثابتة له، ولا قول لأحد مع السنة.

واختلفوا في التنفل بعد طلوع الفجر. وكرهت طائفة الصلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر، وروي ذلك عن عمر، وابن عباس، وابن المسيب، ورواية عن عطاء

(1)

. وحجتهم حديث موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر"

(2)

.

ويروى أيضًا من مرسلات ابن المسيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(3)

.

وأجاز ذلك آخرون، روي هذا عن طاوس، والحسن البصري، ورواية عن عطاء قالوا: إذا طلع الفجر صل ما شئت. ذكر هذا عبد الرزاق

(4)

. وعندنا كراهته إلا بعد فعل الفرض.

(1)

روى من هذِه الآثار عبد الرزاق 3/ 51 - 52 (4753) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة بعد طلوع الفجر، وابن أبي شيبة 2/ 137 (7368 - 7370) كتاب: الصلوات، باب: من كره إذا طلع الفجر أن يصلي أكثر من ركعتين.

(2)

رواه عبد الرزاق 3/ 53 (4760) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة بعد طلوع الفجر.

(3)

المصدر السابق 3/ 53 (4756).

ورواه البيهقي 2/ 466 كتاب: الصلاة، باب: من لم يصل بعد الفجر إلا ركعتي الفجر ثم بادر بالفرض، ثم قال: وروي موصولًا بذكر أبي هريرة فيه، ولا يصح وصله.

وانظر: "شرح ابن بطال" 3/ 152: 154.

(4)

"مصنف عبد الرزاق" 3/ 53 - 54 (4759، 4761، 4762) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة بعد طلوع الضحى.

ص: 152

‌25 - باب مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى

وَيُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ وَأَبِي ذَرٍّ وَأَنَسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ

وَعِكْرِمَةَ وَالزُّهْرِيِّ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ: مَا أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ أَرْضِنَا إِلَّا يُسَلِّمُونَ فِي كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنَ صلاة النَّهَارِ.

1162 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي المَوَالِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ يَقُولُ:"إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي -أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ- فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي -قَالَ: - وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ". [6382، 7390 - فتح: 3/ 48]

1163 -

حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ بْنَ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ". [444 - مسلم: 714 - فتح: 3/ 48]

1164 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ. [انظر: 380 - مسلم: 658 - فتح: 3/ 48]

ص: 153

1165 -

حَدَّثَنَا [يَحْيَى] بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الجُمُعَةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ. [انظر: 937 - مسلم: 729، 882 - فتح: 3/ 48]

1166 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ -أَوْ قَدْ خَرَجَ- فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ". [انظر: 930 - مسلم: 875 - فتح: 3/ 49]

1167 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ سُلَيْمَانَ المَكِّيُّ، سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: أُتِيَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي مَنْزِلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ دَخَلَ الكَعْبَةَ. قَالَ: فَأَقْبَلْتُ فَأَجِدُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَرَجَ، وَأَجِدُ بِلَالًا عِنْدَ البَابِ قَائِمًا، فَقُلْتُ: يَا بِلَالُ، صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الكَعْبَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ فَأَيْنَ؟ قَالَ: بَيْنَ هَاتَيْنِ الأُسْطُوَانَتَيْنِ. ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي وَجْهِ الكَعْبَةِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى. وَقَالَ عِتْبَانُ: غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَ مَا امْتَدَّ النَّهَارُ، وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ. [انظر: 397 - مسلم: 1329 - فتح: 3/ 49]

ذكر فيه أحاديث:

أحدها:

حديث أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم انصرف.

وهو ثابت في بعض النسخ، وفي أصل الدمياطي أيضًا. نعم ذكره بعد حديث أبي قتادة، وهو مختصر من حديث تقدم في باب الصلاة على الحصير

(1)

.

(1)

سبق برقم (380) كتاب: الصلاة.

ص: 154

الحديث الثاني:

حديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة.

الحديث

ويأتي في الدعوات في باب الدعاء عند الاستخارة

(1)

، والتوحيد في باب:{قُلْ هُوَ القَادِرُ}

(2)

[الأنعام: 65]. وأخرجه الأربعة في الصلاة

(3)

خلا النسائي ففي النكاح، والنعوت، واليوم والليلة

(4)

. قَالَ الترمذي: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي، وهو مدني ثقة. قَالَ: وفي الباب عن ابن مسعود، وأبي أيوب

(5)

.

ثم الكلام عليه من أوجه:

أحدها:

قوله: (يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن). فيه ما كان من شفقته بأمته، وإرشادهم إلى مصالحهم دينًا ودنيا، فكان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن؛ لشدتهم في الحالات كلها كشدة حاجتهم إلى القراءة في كل الصلوات. والاستخارة مشتقة من سؤال الخير.

(1)

برقم (6382).

(2)

برقم (739).

(3)

رواه أبو داود (1538) كتاب: الوتر، باب: في الاستخارة، والترمذي (480) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستخارة، وابن ماجه (1383) كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الاستخارة.

(4)

رواه النسائي 6/ 80 - 81 كتاب: النكاح، باب: كيف الاستخارة، وفي "السنن الكبرى" 4/ 412 (7729) كتاب: النعوت، باب: علام الغيوب، و 6/ 128 (10332) كتاب: عمل اليوم والليلة، باب: يقول إذا هم بالأمر.

(5)

ورد في هامش الأصل: من خط الشيخ: رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان.

ص: 155

وقوله: ("فليركع ركعتين من غير الفريضة") فيه استحباب ذلك.

ويفعل في كل وقت عندنا إلا وقت الكراهة على الأصح؛ لأن سببها متأخر. وفيه تسمية ما يتعين فعله من العبادات فرائض. ولا يسمى به المندوب وإن كان فيه معنى الفرض، وهو التقدير، ولكنه أمر خص به المكتوبة حتمًا في لسان الشارع.

ثانيها:

معنى: "أستخيرك" استعمل في لسان العرب على معانٍ منها سؤال الفعل، فالتقدير: أطلب منك الخير فيما هممت به. والخير هو كل معنى زاد نفعه على ضره. ومعنى: "وأستقدرك بقدرتك": أسألك تهيئة الخير والقدرة. وفيه: دلالة على أن العبد لا يكون قادرًا إلا مع الفعل، لا قبله، كما يقول القدرية، فإن البارئ هو خالق العلم بالشيء للعبد، والهم به، والقدرة عليه، والفعل مع القدرة، وذلك كله موجود بقدرة الله.

قَالَ ابن بطال: والقادر والقدرة من صفات الذات، والقدرة والقوة بمعنى واحد مترادفات، فالبارئ تعالى لم يزل قادرًا قويًّا ذا قدرة وقوة، قَالَ: وذكر الأشعري أن القدرة والقوة والاستطاعة اسم لا يجوز أن يوصف به مستطيع لعدم التوقف بذلك، وإن كان قد جاء القرآن بالاستطاعة فقال:{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّك} [المائدة: 112] وإنما هو خبر عنهم ولا يقضي إثباته صفة له تعالى ثابتة لهم عقب هذا، وقراءة من قرأ:(هل تستطيع ربك) بمعنى: هل تستطيع سؤاله. قال: وقد أخطئوا في الأمرين جميعهم لاقتراحهم على نبيهم وخالقهم ما لم يأذن فيه ربهم تعالى

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 10/ 418.

ص: 156

وقوله: ("وأسألك من فضلك العظيم") كل عطاء الرب جل جلاله فضل، فإنه ليس لأحد عليه حق في نعمة ولا في شيء، فكل ما يهب فهو زيادة مبتدأة من عنده لم يقابلها منَّا عوض فيما مضى، ولا يقابلها فيما يستقبل، فإن وفق للشكر والحمد فهو نعمة سؤل وفضل يفتقر أيضًا إلى حمد وشكر هكذا إلى غير نهاية، خلاف ما تعتقده المبتدعة التي تقول: إنه واجب على الله أن يبتدئ العبد بالنعمة، وقد خلق له القدرة، وهي باقية فيه، دائمة له أبدًا يعصي ويطيع.

وقوله: ("فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم") فيه تصريح بعقيدة أهل السنة، فإنه نفي العلم عن العبد والقدرة وهما موجودان، وذلك يناقض في بادئ الرأي، والحق والحقيقة فيه الاعتراف بأن العلم لله والقدرة لله، ليس للعبد من ذلك شيء إلا ما خلق له يقول: فأنت يا رب تقدر قبل أن تخلق فيَّ القدرة، وتقدر مع خلقها، وتقدر بعدها. وأما على الحقيقة في الأقوال كلها مصرف لك ومحل لمقدوراتك وكذلك في العلم.

وقوله: ("وأنت علام الغيوب") المعنى: أنا أطلب مستأنفًا لا يعلمه إلا أنت، فهب لي منه ما ترى أنه خير لي في ديني ومعاشي، وعاجل أمري وآجله، وهي أربعة أقسام: خير يكون له في دينه دون دنياه، وهذا هو المقصود للإبدال، ولا صبر على عموم الخلق فيه.

ثانيها: خير له في دنياه خاصة ولا يعرض على دينه، فذلك حظ حقير.

ثالثها: خير في العاجل، وذلك يحصل في الدنيا ويحتمل للابتداء، ويكون في الآخرة أولى.

ص: 157

رابعها: خير في الانتهاء، وذلك أولاه وأفضله، ولكن إذا جمع الأربعة فذلك الذي ينبغي للعبد أن يسأل ربه، ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر، إنك على كل شيء قدير"

(1)

.

وقوله: "وبارك لي فيه" أي: أدمه وضاعفه.

وقوله: ("وعاقبة أمري -أو قَالَ: عاجل أمري وآجله") شك أي الكلمتين قَالَ.

وقوله: ("واصرفه عني واصرفني عنه") أي: لا تعلق بالي به وبطلبه. ومن دعاء بعض أهل الطريق: اللهم لا تتعب بدني في طلب ما لم تقدره لي.

وقوله: ("واقدر لي الخير") أي: اقضه، قَالَ الشيخ أبو الحسن: أهل المشرق يضمون الدال منه، وأهل بلدنا يكسرونها، ولا أدري كيف قرأه أبو زيد.

وقوله: "ثم أرضني" كذا في البخاري، وفي الترمذي زيادة:"به"

(2)

ولأبي داود: "ثم رضي به"

(3)

أي: اجعلني راضيًا به إن وجد، أو بعدمه إن عدم. والرضى: سكون النفس إلى القدر والقضاء.

(1)

رواه مسلم (2720) كتاب: الذكر والدعاء، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل.

(2)

حديث (480).

(3)

حديث (1538).

ص: 158

ففيه: أنه يجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله، وصرف أزمنتها، والتبرء من الحول والقوة، وأن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور ولا جليلها حَتَّى يسأل الله فيه، ويسأله أن يحمله فيه على الخير ويصرف عنه الشر إذعانًا بالافتقار إليه في كل أمره والتزامًا لذلة العبودية له، وتبركًا لاتباع سنة سيد المرسلين في الاستخارة، وربما قدر ما هو خير ويراه شرًا نحو قوله:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216].

وفي قوله: "وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي" حجة على القدرية الذين يزعمون أن الله لا يخلق الشر -تعالى الله عما يفترون- فقد أبان في هذا الحديث أن الله هو المالك للشر والخالق له، وهو المدعو لصرفه عن العبد؛ لأن محالًا أن يسأله العبد صرف ما يملكه العبد من نفسه وما يقدر على اختراعه دون تقدر الله عليه.

وقوله: ("ويسمي حاجته") أي: إما بلسانه أو بقلبه لأنه من الدعاء والعمل الذي يتقرب به إلى الله.

"إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلَّيَ رَكْعَتَيْنِ".

وقد سلف في باب: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين

(1)

.

الحديث الرابع: حديث ابن عمر:

صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بعدها.

الحديث.

وقد سلف في باب: الصلاة بعد الجمعة

(2)

، ويأتي في: التطوع بعد

(1)

سبق برقم (444) كتاب: الصلاة.

(2)

سبق برقم (937) كتاب: الجمعة.

ص: 159

المكتوبة

(1)

، وأخرجه مسلم وأبو داود مختصرًا، والترمذي مطولًا

(2)

.

الحديث الخامس:

حديث شعبة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ -أَوْ قَدْ خَرَجَ- فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ".

وقد سلف في باب: صلاة الجمعة

(3)

، وأخرجه مسلم والأربعة

(4)

.

قَالَ الأصيلي: خالف شعبةَ فيه أصحابُ عمرو بن دينار: ابن جريج، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة فرووه عن عمرو عن جابر في قصة سليك، وكذلك روى أبو الزبير عن جابر، فانفرد شعبة بما لم يتابع عليه، لم تكن زيادة زادها الحافظ على غيره؛ بل هي قصة منقلبة عن وجهها. وقال يحيى بن معين: أحق أصحاب عمرو بن دينار بحديثه سفيان بن عيينة

(5)

.

وقال الداودي: أراه إنما روى الحديث على تأويله الذي روي أن

(1)

سيأتي برقم (1172) كتاب: التهجد.

(2)

"صحيح مسلم"(729) كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، و (882) كتاب: الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة، "سنن أبي داود" (1252) كتاب: الصلاة، باب: تفريغ أبواب التطوع، و (1132) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة بعد الجمعة، "سنن الترمذي" (434) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أنه يصليهما في البيت.

(3)

سلف برقم (930) كتاب: الجمعة، باب: التحية والإمام يخطب.

(4)

"صحيح مسلم"(875) كتاب: الجمعة، باب: إذا رأى الإمام رجلًا جاء وهو يخطب.

أبو داود (1115)، والترمذي (510) والنسائي 3/ 103 وابن ماجه (1112).

(5)

انظر: "تاريخ عثمان الدارمي" ص 55 (67).

ص: 160

رجلًا دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب -وبه بذاذة- فأمره أن يصلي ركعتين ليفطن له الناس وقد سلف هذا.

وقوله: ("أو قد خرج") يعني: دخل المسجد وخرج على القوم.

الحديث السادس: حديث سيف بن سليمان:

سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: أُتِيَ ابن عُمَرَ فِي مَنْزِلِهِ. الحديث.

وهذا سلف في باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]

(1)

.

قَالَ البخاري: وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوْصَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى.

وهذا يأتي إن شاء الله تعالى

(2)

.

وَقَالَ عِتْبَانُ بن مالك: غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَمَا امْتَدَّ النَّهَارُ، وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ.

وهذا سلف

(3)

، وفي هذا دلالة على صلاة النافلة جماعة.

إذا عرفت ذلك:

فترجمة الباب أن التطوع مثنى مثنى، وما ذكره من الأحاديث المتواترة شاهد له عمومًا وخصوصًا، قولًا وفعلًا، وحديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعًا:"أربع ركعات قبل الظهر لا تسليم فيهن يفتح لهن أبواب السماء"

(4)

إنما أراد اتصالهن ذلك الوقت لا أنه لا سلام

(1)

برقم (397) كتاب: الصلاة.

(2)

برقم (1178) كتاب: التهجد، باب: صلاة الضحى في الحضر.

(3)

برقم (425) كتاب: الصلاة، باب: المساجد في البيوت.

(4)

رواه أبو داود (1270). وابن ماجه (1157)، والبيهقي 2/ 488 وضعفه.

وضعفه أيضًا النووي في "المجموع" 3/ 504. وقال في "الخلاصة" 1/ 538 (1817): ضعفه يحيى القطان وأبو داود والحفاظ، ومداره على عبيدة بن معتب

ص: 161

بينهن؛ لما صح من صلاته قبل الظهر وغيرها ركعتين توفيقًا

(1)

بين الأدلة، ثم إنه دالٌّ على فضل الأربع إذا اتصلت وفعلت في هذا الوقت، ولا يدل على أن أكثر من الأربع لا يكون أفضل منها إذا كانت منفصلة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد يذكر فضل الشيء ويكون هناك ما لو قاله أو فعله لكان أفضل، ألا ترى أنه قَالَ:"اتقوا النار ولو بشق تمره"

(2)

ولا شك أن رطل تمر أفضل منها، فنبه بذكره على أربع على أن الأكثر يكون أفضل، فلو صلى عشرين بتسليمة بين كل ركعتين كان أفضل من أربع متصلة.

وقد اختلف العلماء في التطوعات ليلًا ونهارًا، وقد أسلفناه فيما مضى في باب: ما جاء في الوتر، ومذهب ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأبي ثور: مثنى مثنى. وهو قول أبي يوسف ومحمد في صلاة الليل

(3)

، وقال أبو حنيفة: أما صلاة الليل فإن شئت ركعتين وإن شئت أربعًا أو ستًّا أو ثمانيًا. وكره الزيادة على ذلك. قاله أبو حنيفة وتبعه صاحباه

(4)

.

وهو ضعيف بالاتفاق سيِّئ الحفظ.

وقال الحافظ: في إسناده عبيدة بن معتب، وهو ضعيف. "الدراية" 1/ 199.

وانظر: "صحيح أبي داود"(1153).

(1)

دل على ذلك حديث سبق برقم (937) كتاب: الجمعة، باب: الصلاة بعد الجمعة وقبلها.

(2)

سيأتي برقم (1417) كتاب: الزكاة، باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة.

(3)

انظر: "مختصر خلافيات البيهقي" 1/ 223، "التمهيد" 4/ 170 - 171، "الحاوي الكبير" 2/ 288.

(4)

انظر: "الهداية" 1/ 72.

ص: 162

فأما النهار فإن شئت ركعتين وإن شئت أربعًا. وكرهوا الزيادة على ذلك، احتج أبو حنيفة بحديث عائشة السالف: كان يصلي أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا

(1)

. وأجيب عنه بأنه ليس فيه أن الأربع بسلام واحد، وإنما أرادت العدد في قولها: أربعًا ثم أربعًا ثم ثلاثًا. بدليل قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى"

(2)

وهذا يقتضي ركعتين ركعتين بسلام بينهما على ما سلف في باب: كيف صلاة الليل.

ورد الطحاوي على أبي حنيفة بحديث الزهري عن عروة عنها أنه كان يسلم بين كل اثنتين منهن. وقال: هذا الباب إنما يؤخذ من جهة التوقيف والاتباع لما فعله الشارع وأمر به وفعله أصحابه من بعده، فلم يجد عنه من فعله ولا من قوله أنه أباح أنه يصلي بالليل أكثر من ركعتين، وهذا أصح القولين عندنا

(3)

.

وأما صلاة النهار فالحجة فيه حديث أبي أيوب السالف، وقد سلف بيانه. وقال عبد الله: كان عبد الله يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا لا يفصل بينهن بتسليم

(4)

. وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يصلي بالليل ركعتين وبالنهار أربعًا

(5)

، وما سلف أولى.

(1)

سبق برقم (1147) كتاب: التهجد، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم هو بالليل في رمضان وغيره.

(2)

سبق برقم (472) كتاب: الصلاة، باب: الحِلَق والجلوس في المسجد.

(3)

انظر: "شرح معاني الآثار" 1/ 336.

(4)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 335.

(5)

السابق 1/ 334.

ص: 163

‌26 - باب الحَدِيثِ بَعْدَ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ

1168 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: أَبُو النَّضْرِ حدَّثنِي أبي، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كُنْتُ مُسْتَيْقِظَةً حَدَّثَنِي وَإِلاَّ اضْطَجَعَ. قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَرْوِيهِ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ. قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ ذَاكَ. [انظر: 619 - مسلم: 724، 743 - فتح: 3/ 44]

ذكر فيه حديث عائشة السالف في باب: من تحدث بعد الركعتين

ولم يضطجع

(1)

. وقد أسلفنا الكلام هناك، ومذاهب العلماء فيه.

وسفيان المذكور في إسناده هو ابن عيينة. وعلي بن عبد الله هو ابن المديني.

(1)

برقم (1161) كتاب: التهجد.

ص: 164

‌27 - باب تَعَاهُدِ رَكْعَتَيِ الفَجْرِ وَمَنْ سَمَّاهُمَا تَطَوُّعًا

1169 -

حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَىْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ. [انظر: 619 - مسلم: 724 - فتح: 3/ 45]

ذكر فيه حديث عائشة:

لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ.

وأخرجه مسلم أيضًا

(1)

، ورواه حفص بن غياث عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرع إلى شيء من النوافل إسراعه إلى ركعتي الفجر، ولا إلى غنيمة ذكره الإسماعيلي، والعلماء متفقون على تأكد ركعتي الفجر إلا أنهم اختلفوا في تسميتها هل هي واجبة أو سنة، أو من الرغائب على أقوال سلفت في باب: المدوامة عليها. وإلى الوجوب ذهب الحسن البصري كما ذكره ابن أبي شيبة عنه

(2)

، وإلى السنة ذهب الشافعي وأحمد وأشهب وإسحاق وأبو ثور

(3)

، وأبى كثير منهم أن يسميها نافلة.

قَالَ مالك في "المختصر": ليستا بسنة، وقد عمل بهما المسلمون ولا ينبغي تركهما.

(1)

"صحيح مسلم"(724) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر.

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 49 (6322) كتاب: الصلوات، باب: في ركعتي الفجر.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 494.

ص: 165

وقال ابن عبد الحكم وأصبغ: إنهما ليستا بسنة، وهما من الرغائب

(1)

. ومعنى الرغائب: ما رغب فيه. واصطلاح المالكية فيه أوقفوا هذا اللفظ على ما تأكد من المندوب إليه وكانت له مزية على النوافل المطلقة، واختلفوا في السنن، فقال أشهب: إنها كل ما تقرر ولم يكن للمكلف الزيادة فيه بحكم التسمية المختصة به كالوتر. وعند مالك: أنها ما تكرر فعل الشارع له في الجماعات كالعيدين ونحوهما، فإن لم يكن فمن الرغائب.

حجة من أوجبها: قضاء الشارع لها في حديث الوادي

(2)

، ولم يأت عنه أنه قضى شيئًا من السنن بعد خروج وقتها غيرهما، كذا قيل، لكن فاتته سنة الظهر بعدها فقضاها بعد العصر

(3)

، وحجة من سنها: مواظبة الشارع عليها وشدة تعاهده لها أن النوافل تصير سننًا بذلك.

وحجة من لم يسمها سنة: حديث الباب جعلتهما من جملة النوافل، وقد روى ابن القاسم عن مالك أن ابن عمر: كان لا يركعهما في السفر

(4)

.

فرع: لا بد من تعيينها لأن لها وقتًا كالعيد.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 494، "المهذب" 1/ 280، "المبدع" 2/ 3.

(2)

سبق برقم (595) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الأذان بعد ذهاب الوقت.

(3)

دل على ذلك حديث سيأتي برقم (1233) كتاب: السهو، باب: إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 494.

ص: 166

‌28 - باب مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الفَجْرِ

1170 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. [انظر: 619 - مسلم: 724، 736 - فتح: 3/ 45]

1171 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمَّتِهِ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ح. وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى -هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى إِنِّي لأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الكِتَابِ؟! [انظر: 619 - مسلم: 724 - فتح: 3/ 46]

ذكر فيه حديثين عن عائشة: أولهما:

كان يُصَلِّي من اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةَ، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ.

ثانيهما:

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عمته عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبحِ، حَتَّى إِنِّي لأَقُولُ: هَلْ قَرَأَ بِأُمِّ الكِتَابِ؟!

وأخرجه مسلم

(1)

أيضًا

(2)

. رواه عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري المدني عن عائشة محمدُ بن عبد الرحمن بن أسعد بن

(1)

فوقها في الأصل تخريج من أبي داود والنسائي: (د. س).

(2)

مسلم برقم (724) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر.

أبو داود (1255)، النسائي 2/ 156.

ص: 167

زرارة، كذا ذكره البخاري وغيره، وقيل: محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن سعد. وقيل: ابن أسعد.

قَالَ المزي: هو ابن أخي عمرة بنت عبد الرحمن. قَالَ: وهو محمد ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة

(1)

، قلت: فعلى هذا هو ابن ابن أخيها لا ابن أخيها، بيَّن ذلك الجياني، فقال: محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة وسعد أخو أسعد. قاله يحيى القطان، يروي عن عمته عمرة وغيرها، ثم قَالَ: هكذا أتى في هذا الحديث، وإنما هي عمة أبيه، فإنها عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة

(2)

. وكذا قَالَ أبو طاهر وابن عساكر: إنها عمة أبيه.

فمن قَالَ: محمد بن عبد الرحمن بن سعد. فقد نسبه إلى جده لأبيه، ومن قال: محمد بن عبد الرحمن بن أسعد فإلى جده لأمه، وهذا روى عنه يحيى بن سعيد وشعبة وغيرهما، كان واليًا على المدينة زمن عمر بن عبد العزيز، مات سنة أربع وعشرين ومائة، وهو ثقة وله أحاديث

(3)

،

(1)

"تهذيب الكمال" 25/ 609 ترجمة (5399).

(2)

"تقييد المهمل" 2/ 535 - 536.

(3)

محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري المدني، ابن أخي عمرة بنت عبد الرحمن، وهو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زُرارة. فمن قال: محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة نسبه إلى جد لأبيه، ومن قال: محمد عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة نسبة إلى جده لأمه. وكان عاملَ عمر ابن عبد العزيز على المدينة فيما قال: يحيى بن أبي كثير وغيره.

ذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة، وقال: توفي سنة أربع وعشرين ومائة، وهو ثقة، وله أحاديث.

وقال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، روى له الجماعة، "الطبقات الكبرى"[القسم المتمم] ص 286 (175)، انظر "التاريخ الكبير" 1/ 148 =

ص: 168

وذكر أبو مسعود أن محمد بن عبد الرحمن هذا هو أبو الرجال، وأبو الرجال هو: محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان، ويقال: ابن عبد الله بن حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري، لقب بأبي الرجال؛ لأن له عشرة أولاد رجال

(1)

، وجده حارثة بدري، وسبب اشتباه ذلك على أبي مسعود أنه روى عن عمرة -وعمرة أمه- لكنه لم يرو عنها هذا الحديث؛ ولأنه روى عنه يحيى بن سعيد وشعبة. وقد نبه على ذلك الخطيب فقال في حديث محمد بن عبد الرحمن، عن عمته عمرة، عن عائشة في الركعتين بعد الفجر من قَالَ: في هذا الحديث عن شعبة، عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن، فقد وهم؛ لأن شعبة لم يرو عن أبي الرجال شيئًا، وكذلك من قَالَ: عن شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أمه عمرة.

وذكر الجياني أن محمد بن عبد الرحمن أربعة من تابعي أهل المدينة، أسماؤهم متقاربة، وطبقتهم واحدة

(2)

، وحديثهم مخرج في

= (443)، وانظر:"الجرح والتعديل" 7/ 316 (1714)، وانظر:"الثقات" 7/ 363، وانظر:"تهذيب الكمال" 25/ 609 (5399).

(1)

محمد بن عبد الرحمن بن حارثة بن النعمان أبو الرجال ويقال محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حارثة بن مالك بن النجار الأنصاري النجاري، أبو الرجال، المدني. كنيته أبو عبد الرحمن، وأبو الرجال لقبُ لُقّب به لولده، وكانوا عشرة رجال منهم: حارثة بن أبي الرجال، وعبد الرحمن بن أبي الرجال. وكان جده حارثة بن النعمان من أهل بدر، قال محمد بن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وقال: أبو داود، والنسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في كتاب "الثقات"، انظر:"الطبقات الكبرى" القسم المتمم ص 287 - 288 (176)"التاريخ الكبير" 1/ 150 (444)، "الجرح والتعديل" 7/ 317 (1717)، "الثقات" لابن حبان 7/ 366، "تهذيب الكمال" 25/ 602 (5395).

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: في قوله: وطبقاتهم واحدة نظر؛ وذلك أن محمد بن =

ص: 169

الكتابين

(1)

.

والأول: (محمد)

(2)

بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر وأبي سلمة، روى عنه يحيى بن أبي كثير، وروى عن أمه عن عائشة، وروى عنه يحيى الأنصاري

(3)

، وذكر ابن عساكر في حديث:"يقطع السارق" أن أبا مسعود الدمشقي ذكر أن يحيى بن أبي كثير رواه عن محمد بن عبد الرحمن -يعني: أبا الرجال- عن أمه عمرة عن عائشة. قَالَ ابن عساكر: وذكر حديث يحيى عن محمد بن عبد الرحمن هذا، هو ابن سعد بن زرارة، لا عن أبي الرجال. قَالَ: ورواه آخرون عن أبي إسماعيل القناد فقال: عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن عمرة.

والثاني: (محمد)

(4)

بن عبد الرحمن بن نوفل أبو الأسود يتيم عروة

(5)

.

الثالث: (محمد)

(6)

بن عبد الرحمن يعني: ابن زرارة

(7)

.

= عبد الرحمن بن ثوبان والباقون من اتباع التابعين من طبقة الثلاثة، وهو محمد بن المغيرة بن أبي ذئب- مع الأربعة.

(1)

"تقييد المهمل" 2/ 535.

(2)

فوقها في الأصل (ع) يعني: روى له الجماعة.

(3)

محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشِيُّ العامري، مولاهم أبو عبد الله المدني، قال محمد بن سعد وأبو زُرعة والنسائي: ثقة، وقال أبو حاتم: هو من التابعين لا يُسأل عن مثله، وذكره ابن حبان في كتاب:"الثقات"، انظر:"الطبقات الكبرى"، و"الجرح والتعديل" 7/ 312 (1697)، "الثقات" لابن حبان: 5/ 369، و"تهذيب الكمال" 25/ 596 (5393).

(4)

فوقها في الأصل (ع) يعني: روى له الجماعة.

(5)

"تقييد المهمل" 2/ 535.

(6)

فوقها في الأصل (ع) يعني: روى له الجماعة.

(7)

السابق.

ص: 170

والرابع: (محمد)

(1)

بن عبد الرحمن أبو الرجال

(2)

.

والمراد بالنداء الثاني؛ لأن الأول للتأهب.

إذا تقرر ذلك:

فاختلف العلماء في القراءة في ركعتي الفجر على أربعة مذاهب، حكاها الطحاوي:

أحدها: لا يقرأ فيهما.

ثانيها: يخفف، يقرأ فيهما بأم القرآن خاصة، روي ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو مشهور مذهب مالك كما سلف قبيل باب الضجعة.

ثالثها: يخفف، ولا بأس أن يقرأ مع أم القرآن سورة قصيرة، رواه ابن القاسم عن مالك، وهو قول الشافعي، وروي عن إبراهيم النخعي

(3)

ومجاهد أنه لا بأس أن يطيل القراءة فيهما، ذكره ابن أبي شيبة

(4)

.

رابعها: قَالَ أبو حنيفة: ربما قرأت فيهما حزبي من القرآن، وهو قول أصحابه، واحتج لهم الطحاوي فقال: لما كانت ركعتا الفجر من أشرف التطوع، كما سلف من أنهما خير من الدنيا وما فيها، كان الأولى أن يفعل فيها أشرف ما يفعل في التطوع من إطالة القراءة فيهما، وهو عندنا أفضل من التقصير؛ لأنه من طول القنوت الذي فضله الشارع في التطوع على غيره

(5)

.

(1)

فوقها في الأصل: (خ، م، س، ق).

(2)

السابق 2/ 536.

(3)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 300.

(4)

"المصنف" 2/ 52 (6357) كتاب: الصلوات، باب: من قال: لا بأس أن تطولا.

(5)

"شرح معاني الآثار" 1/ 296 - 300.

ص: 171

ومن قَالَ: لا قراءة فيهما. احتج بحديثي الباب، وجوابه رواية شعبة عن محمد بن عبد الرحمن: سمعت عمتي عمرة تحدث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر صلى ركعتين، أقول يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، فهذا خلاف أحاديث عائشة الأخرى؛ لأنها أثبتت في هذا الحديث قراءة أم القرآن، فذلك حجة على من نفاها، وهو حجة أيضًا لمن قَالَ: يقرأ فيهما بأم القرآن خاصة؛ لأنها مع الفجر من حيث الصورة كالرباعية، ومن سنة الرباعية أن تكون ركعتان منها بأم القرآن، وقد يجوز أن يقرأ فيهما بالفاتحة وغيرها، وتخفف القراءة حَتَّى يقال على التعجب من تخفيفه: هل يقرأ فيهما بالفاتحة؟

وحجة من قَالَ بسورة قصيرة معها ما رواه أبو نعيم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عمر قَالَ: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم أربعًا وعشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل صلاة الغداة، وفي الركعتين بعد المغرب:{قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ (1)} و {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)} .

وروى أبو وائل عن عبد الله مثله وقال: ما أحصي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بذلك. وبه كان يأخذ ابن مسعود، ذكره ابن أبي شيبة

(1)

، وقد روي مثله من حديث قتادة عن أنس، ومن حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركعتي الفجر خاصة

(2)

وهي على أبي حنيفة، ومن جوز تطويل القراءة فيهما؛ لأنه لم يحفظ عنه خلافها، ولا قياس لأحد مع وجود السنة الثابتة، وقد ذكر لابن سيرين قول النخعي فقال: ما أدري ما هذا؟ وكان أصحاب ابن مسعود يأخذون في ذلك

(1)

"المصنف" 2/ 50 (6338) كتاب: الصلوات، باب: ما يقرأ به فيهما.

(2)

"شرح معاني الآثار" 1/ 298.

ص: 172

بحديث ابن عمر وبحديث ابن مسعود في تخفيف القراءة

(1)

، وتخفيفهما -والله أعلم- لمزاحمة الإقامة؛ لأنه كان لا يصليهما في أكثر أحواله إلا حَتَّى يأتيه المؤذن للإقامة، وكان يغلس بصلاة الصبح

(2)

.

فرع:

يستحب عندنا أيضًا أن يقرأ فيهما بـ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ} [البقرة: 136] و {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64] ثبت في "الصحيح"

(3)

من حديث ابن عباس وفيه أيضًا من حديثه في الأولى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا .. } الآية التي في البقرة، وفي الآخرة منهما {آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، وروي أيضًا أنه قرأ في الأولى:{آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة:285] وفي الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ} [آل عمران:64]

(4)

.

فائدة:

في قولها: (ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين)، ظاهره أنهما في بيتها، وروى ابن حبيب: فعلهما في المسجد أحب إليَّ؛ لأنهما من السنن التي ينبغي إظهارها، ولذلك واظب الشارع عليها.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 50 (6342).

(2)

دل عليه حديث سيأتي برقم (560) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت المغرب.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: يعني "صحيح مسلم".

وهو عند مسلم (727) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتي سنة الفجر، وابن خزيمة 2/ 163 - 164 (1115) كتاب: الصلاة، باب: ما يستحب قراءته في ركعتي الفجر.

(4)

رواه أحمد 1/ 265.

ص: 173

‌29 - باب التَّطَوُّعِ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ

1172 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الجُمُعَةِ، فَأَمَّا المَغْرِبُ وَالعِشَاءُ فَفِي بَيْتِهِ. قَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ: بَعْدَ العِشَاءِ فِي أَهْلِهِ. تَابَعَهُ كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ وَأَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ. [انظر: 937 - مسلم: 729، 882 - فتح: 3/ 50]

1173 -

وَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي حَفْصَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ مَا يَطْلُعُ الفَجْرُ، وَكَانَتْ سَاعَةً لَا أَدْخُلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا. تَابَعَهُ كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ وَأَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الزِّنَاد، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ: بَعْدَ العِشَاءِ فِي أَهْلِهِ. [انظر: 618 - مسلم: 723 - فتح: 3/ 50]

ذكر فيه حديث عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ. الحديث.

وقد سلف قريبًا في باب: ما جاء في التطوع مثنى مثنى

(1)

، تابعه كثير بن فرقد، وأيوب عن نافع. وقال ابن أبي الزناد: عن موسى بن عقبة، عن نافع: بعد العشاء في أهله. كذا هو ثابت في عدة نسخ، وكذا ذكره أبو نعيم في "مستخرجه"، ويقع في بعضها بعد قوله: فأما المغرب والعشاء ففي بيته. قَالَ ابن أبي الزناد: إلى آخره، تابعه كثير ابن فرقد وأيوب عن نافع.

وحديث أيوب أخرجه الترمذي

(2)

، والمراد بسجدتين: ركعتان. عبر

(1)

برقم (1165) كتاب: التهجد.

(2)

"سنن الترمذي"(433) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء أنه يصليهما في البيت.

ص: 174

عن الركوع بالسجود، وهو يبين حديث الكسوف (ركعتين في سجدة)

(1)

، أي: في ركعة. على ما روته عائشة

(2)

.

وقوله: (ففي بيته). أي: في بيت حفصة، كذا ذكره الداودي، ولا تعارض بين حديثه هذا وحديثه السالف في باب: الصلاة بعد الجمعة

(3)

، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حَتَّى ينصرف فيصلي ركعتين. فإن ظاهره أنه مخالف له للعشاء والجمعة، وقد أسلفنا ما يوضحه هناك.

وقوله: (كانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها) هو من قوله: {مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الفَجْرِ} [النور: 58]، وقيل: إن هذِه الآية للنساء خاصة.

أي: إن سبيل الرجال أن يستأذنوا في كل وقت، والنساء يستأذن في هذِه الأوقات خاصة، حكاه النحاس

(4)

. ثم تطوعه صلى الله عليه وسلم بهذِه النوافل قبل الفرائض وبعدها؛ لأن أفضل الأوقات أوقات صلوات الفريضة.

وفيها تفتح أبواب السماء للدعاء، ويقبل العمل الصالح، فلذلك يحيها صلى الله عليه وسلم بالنوافل، ولكن في حديث ابن عمر التنفل قبل العصر

(5)

.

(1)

سلف برقم (1051)، كتاب: الكسوف، باب: طول السجود في الكسوف.

(2)

سيأتي برقم (1064) كتاب: الكسوف، باب: الركعة الأولى في الكسوف أطول.

(3)

رقم (937) كتاب: الجمعة.

(4)

انظر: "الناسخ والمنسوخ" 2/ 554 - 555 (722 - 723).

(5)

رواه أبو داود (1271) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة قبل العصر، والترمذي (430)، وأحمد 2/ 117، وابن حبان 6/ 206 (2453) كتاب: الصلاة، باب: النوافل، وابن خزيمة 2/ 206 (1193) كتاب: الصلاة، باب: من جعل قبل العصر أربعًا، قال الترمذي: غريب حسن، وقال الألباني في "صحيح أبي داود" (1154): حسن.

ص: 175

وقد روي عن عليٍّ أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبلها أربع ركعات يفصل بينهما بسلام

(1)

. وفي الترمذي: "رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعًا". استغربه، وصححه ابن حبان

(2)

.

وقد اختلف السلف في ذلك، فكان بعضهم يصلي أربعًا، وبعضهم ركعتين، وبعضهم لا يرى الصلاة قبلها، فممن كان يصلي أربعًا علي، وقد رواه

(3)

كما سلف. وقال إبراهيم: كانوا يحبون أربعًا قبل العصر.

وممن كان يصلي ركعتين، روى سفيان وجرير، عن منصور، عن إبراهيم قَالَ: كانوا يركعون الركعتين قبل العصر ولا يرون أنها من السنة

(4)

.

وممن كان لا يصلي فيها شيئًا، روى قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يصلي قبل العصر شيئًا، وقتادة عن الحسن مثل ذلك

(5)

. وروى فُضيل، عن منصور، عن إبراهيم أنه رأى إنسانًا يصلي قبل العصر، فقال: إنما العصر أربع. والصواب عندنا -كما قال الطبري- أن الفصل في التنفل قبل العصر بأربع ركعات؛ لصحة الخبر بذلك عن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ساقه من حديث عاصم بن ضمرة عن علي قَالَ: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى أربع ركعات قبل العصر. وأما قول

(1)

رواه الترمذي (429) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الأربع قبل العصر، والبيهقي 2/ 473، كتاب: الصلاة، باب: من جعل قبل العصر أربع ركعات.

(2)

الترمذي (430)، ابن حبان 6/ 206 (2453) وتقدم تخريجه قريبًا.

(3)

ورد بهامش الأصل: فاعل رواه علي.

(4)

رواه عبد الرزاق 3/ 69 (48309) كتاب: الصلاة، باب: التطوع قبل الصلاة وبعدها.

(5)

رواه ابن أبي شيبة عن ابن عون عن الحسن 2/ 20 (5985) كتاب: الصلوات، باب: في الركعتين قبل العصر.

ص: 176

ابن عمر: (فأما المغرب والعشاء في بيته). فقد اختلف في ذلك، فروى قوم من السلف منهم زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عوف أنهما كانا يركعان الركعتين بعد المغرب في بيوتهم

(1)

.

وقال العباس بن سهل بن سعد: لقد أدركت زمن عثمان وإنه ليسلم من المغرب فما أرى رجلًا واحدًا يصليهما في المسجد، كانوا يبتدرون أبواب المسجد يصلونها في بيوتهم

(2)

.

وقال ميمون بن مهران: كانوا يحبون الركعتين بعد المغرب، وكانوا يؤخرونها حَتَّى تشتبك النجوم

(3)

.

وروي عن طائفة أنهم كانوا يتنفلون النوافل كلها في بيوتهم دون المسجد. روي عن عبيدة أنه كان لا يصلي بعد الفريضة شيئًا حَتَّى يأتي أهله

(4)

.

وقال الأعمش: ما رأيته متطوعًا حياته في مسجد إلا مرة صلى بعد الظهر ركعتين، وكانت طائفة لا تتنفل إلا في المسجد، روى عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يصلي سُبحته مكانه

(5)

، وكان أبو مجلز يصلي بين الظهر والعصر في المسجد الأعظم. وروى ابن القاسم عن مالك قال: التنفل في المسجد هو شأن الناس في النهار، وبالليل في بيوتهم

(6)

، وهو قول الثوري، وحجة ذلك حديث حذيفة: صليت مع

(1)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 53 (6371) كتاب: الصلوات، باب: من كان يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته.

(2)

المصدر السابق برقم (6373).

(3)

المصدر السابق برقم (6376) باب: من قال: يؤخر الركعتين بعد المغرب.

(4)

السابق 2/ 52 - 53 (6367 - 6369) باب: من كان لا يتطوع في المسجد.

(5)

المصدر السابق رقم (2015) باب: من رخص أن يتطوع مكانه.

(6)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 525، "البيان والتحصيل" 1/ 261.

ص: 177

رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم صلى حَتَّى لم يبق في المسجد أحد.

وعن سفيان بن جبير قَالَ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بعد المغرب ركعتين، ويصليهما حين ينصدع أهل المسجد، وإنما كره الصلاة في المسجد لئلا يرى جاهل عالمًا يصليها فيه فيراها فريضة، أو كراهة أن يخلي منزله من الصلاة فيه، أو حذرًا من الرياء، أو عارض من خطرات الشيطان، فإذا سلم من ذلك فإن الصلاة فيه حسنة، وقد بين بعضهم علة كراهة من كرهه: لا يرونكم الناس فيرون أنها سنة.

قَالَ الطبري: والذي يقول: إن حديث حذيفة، وسفيان بن جبير.

وقوله: "صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة"

(1)

هي صحاح كلها، لا يدفع شيءٌ منها شيئًا، وذلك نظير ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يعمل العمل؛ ليتأسى به فيه، ثم يعمل بخلافه في حال آخر؛ ليعلم بذلك من فعله أن أمره بذلك على وجه الندب، وأنه غير واجب العمل به

(2)

.

(1)

سلف برقم (731) كتاب: الأذان، باب: صلاة الليل.

(2)

بهامش الأصل: ثم بلغ في السابع بعد التسعين. كتبه مؤلفه غفر الله له.

آخره 10 وهو آخر الجزء 4 من تجزئة المصنف.

ص: 178

‌30 - باب مَنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ

1174 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الشَّعْثَاءِ جَابِرًا قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيًا جَمِيعًا، وَسَبْعًا جَمِيعًا. قُلْتُ: يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ، أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ العَصْرَ، وَعَجَّلَ العِشَاءَ وَأَخَّرَ المَغْرِبَ. قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّهُ. [انظر: 543 - مسلم: 705 - فتح: 3/ 51]

ذكر فيه حديث ابن عباس:

صَلَّيْتُ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيًا جَمِيعًا، وَسَبْعًا جَمِيعًا. قُلْتُ: يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ، أَظُنُّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ العَصْرَ، وَعَجَّلَ العِشَاءَ وَأَخَّرَ المَغْرِبَ. قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّهُ.

الشرح:

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا

(1)

. وفي رواية للبخاري: قَالَ أيوب: لعله كان في ليلة مطيرة، قَالَ: عسى

(2)

.

قَالَ الداودي: وليس فيه أنه لم يصلِ قبل الظهر ولا بعد العشاء، ولا أنه صلى.

قَالَ مالك: أرى ذلك بعذر المطر

(3)

.

قلتُ: في مسلم: ولا مطر. وما قاله مالك في المطر مشهور مذهبه في غير المغرب والعشاء خلافه. وقيل: إنه لا يمنعه، وإنما كره أن يقدم العصر على وقتها المختار.

(1)

"صحيح مسلم"(705) كتاب: صلاة المسافرين، باب: الجمع بين الصلاتين في الحضر.

(2)

سبقت برقم (543) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: تأخير الظهر إلى العصر.

(3)

"الموطأ" ص 109.

ص: 179

وقال ابن الماجشون: لو فعله فاعل لغير حاجة جاز؛ لأنه يصلي كل صلاة في وقتها. يعني: في الظهر والعصر. أي: والمغرب والعشاء مثله، إلا أن يريد أن وقت المغرب عند الغروب فيه خلاف عندهم.

وقال ابن بطال: إنما ترك التنفل فيه؛ لأن السنة عند جميع الصلوات ترك التنفل، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أمته أن التطوع ليس بلازم لا يسع تركه؛ ولذلك كان ابن عمر لا يتنفل في السفر

(1)

.

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 164 - 165.

ص: 180

‌31 - باب صَلَاةِ الضُّحَى فِي السَّفَرِ

1175 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ تَوْبَةَ، عَنْ مُوَرِّقٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ لَا. قُلْتُ فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: لَا إِخَالُهُ. [انظر: 77 - فتح: 3/ 51]

1176 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: مَا حَدَّثَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرَ أُمِّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ. [انظر: 1103 - مسلم: 336 - فتح: 3/ 51]

ذكر فيه حديث مورق:

قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: أَتُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَعُمَرُ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا أخَالُهُ.

وحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:

مَا حَدَّثنَا أَحَدٌ أَنَّهُ رَأى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرَ أُمَّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَاغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.

الشرح:

حديث ابن عمر من أفراده دون الخمسة. ويحيى فيه هو ابن سعيد القطان. وسيأتي في فضل مسجد قباء عن ابن عمر: كان لا يصلي من الضحى إلا في يومين: يوم يقدم مكة، فإنه كان يقدمها ضحى فيطوف، ثم يصلي خلف المقام، وفي مسجد قباء

(1)

.

(1)

برقم (1191) كتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: مسجد قباء.

ص: 181

وحديث أم هانئ تقدم في باب من تطوع في السفر

(1)

، وهو ظاهر لما ترجم له، فإنه صلى الله عليه وسلم كان بمكة مسافرًا غير مقيم.

وأما حديث ابن عمر، ونفيه المطلق فوجه إيراده هنا أن البخاري حمله على السفر خاصة؛ لأنه قد ثبت صلاتها في الحضر من حديث أبي هريرة، وغيره: أوصاني خليلي بها

(2)

. فإذا حمل حديث ابن عمر على السفر كان جمعًا بين الأحاديث. وإذا حمل على الإطلاق وقع التعارض والاختلاف، فالجمع أولى. ويؤيده أن ابن عمر كان لا يتنفل في السفر. قَالَ: ولو كنت متنفلًا لأتممت

(3)

. وهذا أولى مما فعله ابن بطال حيث قَالَ: إنه ليس من هذا الباب، وإنما يصلح في الباب الذي بعده في من لم يصل الضحى. قَالَ: وأظنه من غلط الناسخ

(4)

. وهذا لا يُقال في غور هذا المصنف العميق الكامل النظر في أصول الشريعة العريق. وما ذكرناه هو جواب ابن المنير

(5)

، وهو جواب دقيق.

وقول ابن أبي ليلى: (ما حدثنا أحد أنه رأى ذلك)، فلا حجة فيه ترد ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلاها، وأمر بصلاتها من طرق جمة. وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا عن كثير، ويوجد عند الأقل.

وقد روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله

(1)

برقم (1103) كتاب: تقصير الصلاة.

(2)

سيأتي برقم (1178) كتاب: التهجد، باب: صلاة الضحى في الحضر.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 1/ 334 (3827) كتاب: الصلوات، باب: من كان لا يتطوع في السفر.

(4)

"شرح ابن بطال" 3/ 165.

(5)

انظر: "المتواري" ص 120.

ص: 182

حدثني الضحاك بن عبد الله القرشي، عن أنس رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعات. وإذا جازت في السفر، فالحضر أولى بذلك. وقد سلف حديث أم هانئ، وحديث أنس هذا.

وذكر الطبري أن سعد بن أبي وقاص وأم سلمة كانا يصليان الضحى ثمانيًا. وعن ابن مسعود مرفوعًا: "من صلى الضحى عشر ركعات بني له بيت في الجنة"

(1)

. وعن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بني الله له بها قصرًا من ذهب في الجنة"

(2)

. وعنه أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى ست ركعات

(3)

.

وعن جابر مثله

(4)

.

وعن عائشة أنها كانت تصلي الضحى ستًّا

(5)

.

وعن علي أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعًا

(6)

. وعن عائشة مثله، وبه كان يأخذ علقمة، والنخعي، وسعيد بن المسيب.

(1)

رواه أحمد 3/ 146، وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 326، والضياء في "المختاره" 6/ 209 (2221).

(2)

رواه الترمذي (437) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى، وابن ماجه (1380) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى، والطبراني في "المعجم الصغير" 1/ 305 (506)، قال أبو عيسى: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وضعفه ابن حجر في "تلخيص الحبير" 2/ 20. وتقدم تخريجه والكلام عليه.

(3)

رواه الطبراني في "الأوسط" 2/ 68 (1276).

(4)

رواه الطبراني في "الأوسط" 3/ 137 - 138 (2724).

(5)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 177 (7812) كتاب: الصلوات، باب: كم يصلي من ركعة؟

(6)

رواه الترمذي (598) كتاب: الصلاة، باب: كيف كان تطوع النبي صلى الله عليه وسلم، والنسائي 2/ 119 - 120 كتاب: الإمامة، باب: الصلاة قبل العصر، وابن ماجه (1161) كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيما يستحب من التطوع بالنهار، وأحمد 1/ 85، وأبو يعلى 1/ 269 (318). وقال الألباني في "صحيح الترمذي": حسن.

ص: 183

وعن عتبان بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم صلى في بيته سبحة الضحى ركعتين

(1)

.

وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يصلي سبحة الضحى ركعتين

(2)

.

وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم أوصاه بركعتي الضحى

(3)

، وقال:"من حافظ عليها غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر"

(4)

.

وعن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي الضحى ركعتين

(5)

. وعن الضحاك مثله. وليس منها حديث يدفع صاحبه. وذلك أنه من صلى الضحى أربعًا جائز أن يكون رآه في حال فعله ذلك، ورآه غيره في حالة أخرى صلى ركعتين ورآه آخر في حال آخر صلاها ثمانيًا، وسمعه آخر يحث على أن تصلي ستًّا، وآخر يحث على ركعتين، وآخر على عشر، وآخر على اثنتي عشرة، فأخبر كل واحد منهم عما رأى وسمع.

(1)

ذكره ابن خزيمة في "صحيحه" 2/ 216 كتاب: الصلاة، باب: ذكر الأخبار المنصوصة والدالة على خلاف قول من زعم أن تطوع النهار أربعًا لا مثنى.

(2)

رواه الطبراني في "مسند الشاميين" 2/ 223 (1227).

(3)

ما يدل على ذلك سيأتي برقم (1178) كتاب: التهجد، باب: صلاة الضحى في الحضر.

(4)

رواه الترمذي برقم (476) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى.

وقال: وقد روى وكيع بن شميل وغير واحد من الأئمة هذا الحديث عن نهاس بن قهم، ولا نعرفه إلا من حديثه، وابن ماجه برقم (1382) كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" 1/ 338 (329)، 1/ 411 (462)، وأحمد 2/ 443، وضعفه النووي في "المجموع" 3/ 530، وفي "الخلاصة" 1/ 570 - 571 (1936). والألباني في "ضعيف ابن ماجه"(292).

(5)

سيأتي برقم (1191) كتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: مسجد قباء.

ص: 184

ومن الدليل على صحة ما قلناه في ذلك ما روي عن زيد بن أسلم قَالَ سمعت عبد الله بن عمرو يقول لأبي ذر: أوصني يا عم. قَالَ: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني عنه فقال: "من صلى الضحى ركعتين لم يُكتب من الغافلين، ومن صلى أربعًا كُتب من العابدين، ومن صلى ستًا لم يلحقه في ذلك اليوم ذنب، ومن صلى ثمانيًا كتب من القانتين، ومن صلى ثنتي عشرة ركعة بني الله له بيتًا في الجنة"

(1)

.

وقال مجاهد: صلى النبي صلى الله عليه وسلم يومًا الضحى ركعتين، ثم يومًا أربعًا، ثم يومًا ستًّا، ثم يومًا ثمانيًا، ثم ترك. فأبان بهذا الخبر عن صحة ما قلناه من احتمال خبر كل مخبر ممن تقدم قوله أن يكون إخباره بما أخبر به الشارع في صلاة الضحى كان على قدر ما شاهده وعاينه.

فالصواب أن يصلى على غير عدد، كما قاله الطبري. وقد روي عن قوم من السلف. قَالَ إبراهيم: سأل رجل الأسود قَالَ: كم أصلي الضحى؟ قَالَ: كما شئت.

وقد أسلفنا عددها عندنا، وحاصل ما ذكرناه أن الصحابة الذين رووا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إثبات الضحى قولًا وفعلًا في الباب وما سلف اثنا عشر صحابيًا: أم هانئ، وأنس، وأبو ذر، وأبو هريرة (ك)، وأبو الدرداء، وابن مسعود، وجابر (م)، وعائشة، وعلي (ت)، ونعيم بن

(1)

رواه البزار كما في "كشف الأستار" 1/ 334 - 335 (694) كتاب: الصلاة، باب: صلاة الضحى.

وقال: لا نعلمه إلا عن أبي ذر، ولا روى ابن عمر عنه إلا هذا، قلت: رواه زيد بن أسلم عن ابن عمر، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 236 كتاب: الصلاة، باب: صلاة الضحى، وقال: رواه البزار، وفيه: حسين بن عطاء، ضعفه أبو حاتم وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويدلس.

ص: 185

همار (د)، وعمر، ومعاذ بن أنس، وبقي عليك بما أفاده الترمذي: أبو أمامة (ك)، وعبيد (ط) بن عبد السلمي، وابن أبي أوفي، وأبو سعيد (ت)، وزيد بن أرقم (م، ك)، وابن عباس (ك)

(1)

، ومما زدناه عليه: عقبة بن عامر، روى الحاكم من حديث أبي الخير عنه قَالَ: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيها: بالشمس وضحاها، والضحى. ورواه من حديث نعيم بن همار عن عقبة ثم قَالَ: لا أعلم أحدًا ذكر عقبة في هذا الإسناد غير قتادة

(2)

.

وأما الشاميون فإنهم يعدون نعيم بن همار في الصحابة، وبريدة أخرجه الحاكم

(3)

، وابن عمر أخرجه الحاكم أيضًا. وروىِ حديث أبي أمامة السالف أنه صلى الله عليه وسلم ذكر هذِه الآية:{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)} [النجم: 37] قَالَ: "هل تدرون ما وفَّى؟ وفَّى عمل يومه بأربع ركعات الضحى".

قَالَ الحاكم: صحبت جماعة من أئمة الحديث الحفاظ الأئمة الأثبات فوجدتهم يختارون هذا العدد، ويصلون هذِه الصلاة أربعًا لتواتر الأخبار الصحيحة فيه، وإليه أذهب

(4)

. وحديث الست ركعات أخرجه الحاكم من حديث جابر وقد سلف، ومن حديث أبي الدرداء:"ومن صلى ستًّا كفي ذلك اليوم"

(5)

.

(1)

"سنن الترمذي" عقب الرواية (473) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

"المستدرك" 1/ 312 كتاب: صلاة التطوع، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(4)

عزاه ابن حجر في "الفتح" 3/ 54 للحاكم في "المفرد في صلاة الضحى".

(5)

رواه البيهقي في "السنن الصغرى" 1/ 847، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" =

ص: 186

وحديث الثمانية روته أم هانئ، وهو مجمع على صحته. قَالَ أحمد، وقد سئل عن صلاة الضحى، فقال: المثبت عن أم هانئ ثماني ركعات.

وروى بكير بن الأشج، عن الضحاك بن عبد الله، عن أنس أنه قَالَ: رأيت رسول الله في سفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعات

(1)

.

وقد سلف في الباب الماضي عن فعل عائشة أيضًا. وسلف من حديث أبي الرداء

(2)

.

وحديث العشر أخرجه البيهقي من حديث أبي ذر: "وإن صليتها عشرًا لم يكتب لك ذلك اليوم ذنب"

(3)

وسلف من حديث ابن مسعود.

وحديث اثني عشر أخرجه الترمذي من حديث أنس، واستغربه. وابن ماجه

(4)

وأخرجه الحاكم من حديث أم سلمة، وعائشة، ولفظه في حديث أبي هريرة: "إن للجنة بابًا يُقال له الضحى، فإذا كان يوم

= 2/ 237 كتاب: الصلاة، باب: صلاة الضحى، وقال: رواه الطبراني في "الكبير"، وفيه: موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معين وابن حبان، وضعفه ابن المديني وغيره، وبقية رجاله ثقات.

(1)

رواه أحمد 3/ 146، 3/ 156، وابن خزيمة في "صحيحه" 2/ 230 (1228) كتاب: الصلاة، باب: استحباب مسألة الله عز وجل في صلاة الضحى رجاء الإجابة، والحاكم 1/ 314 كتاب: صلاة التطوع، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذا اللفظ. وأبو نعيم في "الحلية" 8/ 326، والضياء المقدسي في:"المختارة" 6/ 208 (2220).

(2)

انظر: التخريج قبل السابق.

(3)

"السنن الكبرى" 3/ 48 - 49 كتاب: الصلاة، باب: ذكر خبر جامع لأعداده، وقال الذهبي في "المهذب" 2/ 979 (4358): في إسناده نظر.

(4)

"سنن الترمذي" برقم (473) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى، و"سنن ابن ماجه" برقم (1380) كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى، وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(291).

ص: 187

القيامة نادى منادٍ أين الذين كانوا يديمون على صلاة الضحى، هذا بابكم فادلخوه برحمة الله" وفي رواية أخرى:"لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب" ثم قَالَ: هذا إسناد احتج بمثله مسلم

(1)

. ومما زدناه جبير بن مطعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى. أخرجه الحاكم. ووقع في كلام الحاكم أن حديث زيد بن أرقم اتفقا على إخراجه، وليس كما ذُكرَ وإنما هو من أفراد مسلم. قَالَ الحاكم: وقد صحت الروايات عن أمير المؤمنين، والسبطين الحسن والحسين، وجماعة من أهل البيت أنهم كانوا يواظبون عليها. ومما زدناه الحسن أخرجه الحاكم. وفي كتاب المحاملي: ومن دخل مكة، وأراد أن يصلي الضحى أول يوم اغتسل وصلاها، فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة

(2)

.

(1)

"المستدرك" 1/ 314 كتاب: صلاة التطوع، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ.

(2)

سلف برقم (1103) وخرجه البخاري في مواضع أخر.

ص: 188

‌32 - باب مَنْ لَمْ يُصَلِّ الضُّحَى وَرَآهُ وَاسِعًا

1177 -

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا. [انظر: 1128 - مسلم: 718 - فتح: 3/ 55]

ذكر فيه حديث عائشة:

مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحى، وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا.

وأخرجه مسلم أيضًا

(1)

. زاد معمر في روايته: وما أحدث الناس شيئًا أحب إلى منها

(2)

. وقد سلف الكلام عليه في باب تحريضه صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل واضحًا

(3)

.

قَالَ البيهقي: وعندي -والله أعلم- أن المراد به ما رأيته داوم عليها، وإني لأسبحها أي: أداوم عليها. قَالَ وكذا قولها: وما أحدث الناس شيئًا يعني المداومة عليها

(4)

.

وفي الحديث السالف إثبات فعلها إذا جاء من مغيبه. وروى في ذلك جابر بن عبد الله

(5)

، وكعب بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(6)

، وحديثها يصلي

(1)

"صحيح مسلم" برقم (718) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان.

(2)

رواه عبد الرزاق 3/ 78 - 79 (4868) في الصلاة، باب صلاة الضحى، والبيهقي 3/ 49 في الصلاة، باب ذكر الحديث الذي روي في ترك الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى.

(3)

دل على ذلك الحديث السالف برقم (1128) كتاب: التهجد.

(4)

"السنن الكبرى" 3/ 49 السابق.

(5)

سيأتي برقم (2097) كتاب: البيوع، باب: شراء الدواب والحمير.

(6)

سيأتي برقم (3088) كتاب: الجهاد والسير، باب: الصلاة إذا قدم من سفر.

ص: 189

أربعًا ويزيد ما شاء الله

(1)

، وهو دال على صحة التأويل المذكور. وقد ثبتت العلة في تركه المداومة عليها بقولها في آخره: وإن كان ليدع العمل، وهو يحب أن يعمله، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.

وقال أبو بكر محمد بن إسحاق: هذِه كلمة تكلمت بها عائشة على المسامحة والمساهلة، وقد يشركها كثير من الصحابة في جهل ذلك، روى الحاكم إنكارها عن أبي بكرة، قَالَ: ولم يصح، ولو صح لكان معناه ما ذكر في حديث عائشة وأنس، ثم أعله. وهو خلاف رواياته الصحيحة، وأبو هريرة، ووهاه.

وقد أخذ قوم من السلف بحديث ابن عمر السالف، وعائشة هذا، ولم يروا صلاة الضحى. وقال بعضهم بأنها بدعة كما سلف.

روى الشعبي، عن قيس بن عباد قال: كنت اختلف إلى ابن مسعود السنة كلها، فما رأيته مصليًا الضحى

(2)

.

وقال إبراهيم النخعي: حَدَّثَني من رأى ابن مسعود صلى الفجر، ثم لم يقم لصلاة حَتَّى أُذن لصلاة الظهر، فقام فصلى أربعًا

(3)

.

وكان ابن عون لا يصليها

(4)

.

وقال ابن عمر: بدعة

(5)

. كما سلف تأويله. وقال مرة: ونعمت

(1)

روى ما يدل على ذلك مسلم برقم (719) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى.

(2)

روى ذلك عن عبد الرزاق 3/ 80 (4875) كتاب: الصلاة، باب: صلاة الضحى.

(3)

روى ذلك الطبراني 9/ 259 (9284).

(4)

عنه عبد الرزاق 3/ 80 - 81 (4876) كتاب: الصلاة، باب: صلاة الضحى.

(5)

رواه عنه ابن أبي شيبة 2/ 175 (7782) كتاب: الصلوات، باب: من كان لا يصلي الضحى.

ص: 190

البدعة. وقال مرة: ما ابتدع المسلمون بدعة أفضل منها

(1)

.

وقال أنس: صلاته يوم الفتح كان سنة الفتح، لا سنة الضحى. ولما فتح خالد بن الوليد الحيرة صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لم يسلم فيهن، ثم انصرف. وهذا تأويل لا يدفع صلاة الضحى لتواتر الروايات بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل السلف بعده.

وذهب قوم من السلف أنها تصلى في بعض الأيام دون بعض، واحتجوا بحديث عائشة: لا إلا أن يجيء من مغيبه

(2)

.

وروى عطية عن أبي سعيد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حَتَّى نقول: لا يدعها. ويدعها حَتَّى نقول: لا يصليها

(3)

. وكان ابن عباس يصليها يومًا، ويدعها عشرة أيام

(4)

. وكان ابن عمر لا يصليها، فإذا

(1)

رواه عنه ابن أبي شيبة 2/ 176 (7799) كتاب: الصلوات، باب: من كان يصليها.

بلفظ: من أحسن ما أحدثوا سبحتهم هذِه.

(2)

مسلم (717) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب الصلاة الضحى.

(3)

رواه الترمذي برقم (4779) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في صلاة الضحى. وقال: حديث حسن غريب، وأحمد 3/ 21، وعبد بن حميد في "المنتخب" 2/ 68 (889)، وأبو يعلى في "مسنده" 2/ 456 - 457 (12709)، وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي".

قلت: وفيه عطية العوفي، وهو ضعيف، عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي القيسي أبو الحسن الكوفي، قال: أبو زرعة: لين، وقال ابن معين: صالح، وضعفه النسائي وأبو حاتم، وزاد أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن حجر في "تقريبه": صدوق يخطئ كثيرًا وكان شيعيًا مدلسًا، انظر:"الضعفاء الكبير" 3/ 359 (1392)، و"الجرح والتعديل" 6/ 382 (2125)، و"المجروحين" 2/ 176، و"تهذيب الكمال" 2/ 145 (3956)، و"تقريب التهذيب"(4616).

(4)

ابن أبي شيبة 2/ 175 (7791) كتاب: الصلوات، باب: من كان يصليها.

ص: 191

أتى مسجد قباء صلى، وكان يأتيه كل سبت

(1)

. وعن إبراهيم: كانوا يكرهون أن يحافظوا عليها كالمكتوبة، ويصلون ويدعون

(2)

. وعن سعيد بن جبير: إني لأدع صلاة الضحى وأنا أشتهيها مخافة أن أراها حتمًا عليّ

(3)

.

(1)

البيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 449 (4187) باب: في المناسك، فضل الحج والعمرة.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 175 (7793) كتاب: الصلوات، باب: من كان يصلي الضحى.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 175 (7783) كتاب: الصلوات، باب: من كان لا يصلي الضحى.

ص: 192

‌33 - باب صَلَاةِ الضُّحَى فِي الحَضَرِ

قَالَهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

1178 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الجُرَيْرِيُّ -هُوَ ابْنُ فَرُّوخٍ- عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْديِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ. [1981 - مسلم: 721 - فتح: 3/ 56]

1179 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ -وَكَانَ ضَخْمًا- لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ الصَّلَاةَ مَعَكَ. فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا، فَدَعَاهُ إِلَى بَيْتِهِ، وَنَضَحَ لَهُ طَرَفَ حَصِيرٍ بِمَاءٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ فُلَانُ بْنُ فُلَانِ بْنِ جَارُودٍ لأَنَسٍ رضي الله عنه: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُهُ صَلَّى غَيْرَ ذَلِكَ اليَوْمِ. [انظر: 670 - فتح: 3/ 57]

وهذا ذكره مسندًا

(1)

.

وذكر فيه حديث أبي هريرة (د. ت. س) أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ. وعدَّ منها صلاة الضحى.

وحديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم صلى عند عتبان ركعتين فقال فلان بن فلان بن الجارود لأنس: أكان عليه السلام يصلي الضحى؟ فقال: ما رأيته صلى غير ذلك اليوم.

(1)

أي: ترجمة الباب عن عتبان. قال الحافظ في "الفتح" 3/ 57: كأنه يشير -يعني: البخاري- إلى ما رواه أحمد من طريق الزهري عن محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيته سبحة الضحى

" وقد أخرجه مسلم وكذلك المصنف مطولًا ومختصرًا وسيأتي بعد بابين. اهـ بتصرف.

وقد سلف برقم (424) كتاب: الصلاة، باب: إذا دخل بيتًا يصلي حيث شاء ..

ص: 193

الشرح:

الحديثان أخرجهما مسلم أيضًا

(1)

. وحديث أنس ليس صريحًا في أنها صلاة الضحى. نعم روى الحاكم من حديث عتبان بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم صلى في بيته سبحة الضحى فقاموا وراءه فصلوا. وقد سلف حديث عتبان في باب: هل يصلي الإمام بمن حضر؟ وهل يخطب يوم الجمعة في المطر؟

(2)

.

وقوله: (أوصاني خليلي) لا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلًا من أمتي، لاتخذت أبا بكر"

(3)

لأن الممتنع أن يتخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غيرهَ خليلًا. ولا يمتنع أن يتخذ الصحابي وغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم خليلًا.

وفيه: فضيلة صلاة الضحى، والحث عليها، وأنها ركعتان، وصيام ثلاثه أيام من كل شهر، والوتر قبل النوم. وهو محمول على من لا يستيقظ آخر الليل، فإن أمن فالتأخير أفضل؛ للحديث الصحيح: وانتهى وتره إلى السحر.

وقوله: (وقال فلان بن فلان بن جارود) قيل: إنه عبد الحميد بن المنذر

(4)

، وله ترجمة.

(1)

"صحيح مسلم" برقم (721) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان.

(2)

برقم (670) كتاب: الأذان.

(3)

سلف برقم (466) كتاب: الصلاة، باب: الخوخة والممر في المسجد.

(4)

ورد بهامش الأصل: ذكر المصنف في "تحفته" أن عبد الحميد ذكره ابن حبان في "ثقاته". ذكر -أي: ابن حبان- أنه المعني بقول البخاري في باب صلاة الضحى في الحضر: قال فُلان بن فلان بن جارود لأنس:

الحديث فاعلمه.

رأيت عبد الحميد في ثقات ابن حبان ولم أو هذا الكلام في ترجمته فلعله رآه في بعض النسخ.

ص: 194

‌34 - باب الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ

1180 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لَا يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا. [انظر: 937 - مسلم: 729، 882 - فتح: 3/ 58]

1181 -

حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ المُؤَذِّنُ وَطَلَعَ الفَجْرُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. [انظر: 618 - مسلم: 723 - فتح: 3/ 58]

1182 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الغَدَاةِ. تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَعَمْرٌو عَنْ شُعْبَةَ. [مسلم: 730 - فتح: 3/ 58]

ذكر فيه حديث ابن عمر:

حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا. الحديث

سلف قريبًا في باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى

(1)

، وهو مطابق لما ترجم له. وحديث عائشة:

كان النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الغَدَاةِ. فما زاد، ولعل وجهه أنه صلى ركعتين فما زاد.

ثم قال البخاري: تابعه ابن أبي عدي وعمرو عن شعبة يعني أنهما تابعا يحيى بن سعيد على روايته عن شعبة. وابن أبي عدي: (ع) هو

(1)

برقم (1165) كتاب: التهجد.

ص: 195

محمد بن إبراهيم، وعمرو (خ مقرونًا، د): هو ابن مرزوق أبو عثمان الباهلي مولاهم بصري. وتابعهما عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، أخرجه النسائي، لكن بزيادة مسروق قبل عائشة، ثم قَالَ: ولم يتابع عليه

(1)

. وتابعه محمد بن جعفر عن شعبة كالجماعة، وصوب المنيعي إثبات مسروق، ووهم إسقاطه.

قَالَ الإسماعيلي: وقد ذكر سماع (ابن المنتشر)

(2)

عن عائشة غير واحد. فالعمل في ذلك على عثمان بن عمر فإن يحيى بن سعيد لم يكن ليحمل كذا إن شاء الله وقد جاء به غندر ووكيع وكفي بهما، قال: وتابع يحيى ابن المبارك ومعاذ بن معاذ وابن أبي عدي، ووهب ابن جرير.

وفي الترمذي والنسائي من حديث المغيرة بن زياد عن عطاء -وهو ابن أبي رباح- عن عائشة مرفوعًا: "من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة دخل الجنة: أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر"

(3)

. قَالَ الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه. ومغيرة بن زياد قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه

(4)

. وقال النسائي: هذا خطأ، ولعله

(1)

"سنن النسائي" 3/ 251 كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: المحافظة على الركعتين قبل الفجر.

(2)

في الأصل فوقها: هو محمد.

(3)

"سنن الترمذي"(414) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة.

و"سنن النسائي" 3/ 260 - 261 كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ثواب من صلى في اليوم والليلة ثنتي عشرة ركعة.

(4)

المغيرة بن زياد البجلي، أبو هاشم، ويقال: أبو هاشم الموصلي، وقال: =

ص: 196

أراد عنبسة بن أبي سفيان، فصحف -يعني حديث عنبسة- عن أم حبيبة مرفوعًا: "من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة: أربعًا قبل الظهر

" الحديث

(1)

.

ولمسلم من حديث عبد الله بن شقيق: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن تطوعه، فقالت: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعًا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين .. الحديث

(2)

.

وللترمذي: قبل الظهر ركعتين. وصححه

(3)

. والأول هو المشهور من رواية عائشة.

وفي الترمذي من هذا الوجه: كان إذا لم يصلِ أربعًا قبل الظهر، صلاهن بعدها. ثم قَالَ: حسن غريب

(4)

.

واختلفت الأحاديث في التنفل قبل الظهر وبعدها. ففي حديث عائشة

= أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث، منكر الحديث، أحاديثه مناكير، وقال ابن معين: ليس به بأس، له حديث واحد منكر. ووثقه مرة أخرى، ووثقه العجلي، وقال أبو حاتم وأبو زرعة: لا يحتج به، صالح، صدوق، ليس بذاك القوي، وقال أبو زرعة في موضع آخر: في حديثه اضطراب، وقال ابن حجر في "تقريبه": صدوق له أوهام، انظر:"معرفة الثقات" 2/ 292 (1771)، و"الجرح والتعديل" 8/ 222 (998)، و"تهذيبب الكمال" 28/ 359 (6126)، و"تقريب التهذيب"(6834).

(1)

رواه مسلم برقم (728) كتاب: صلاة المسافرين، باب: فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن. وانظر: "البدر المنير" 4/ 283 - 284، و"تلخيص الحبير" 2/ 12، و"الدراية" 1/ 197.

(2)

"صحيح مسلم" برقم (730) كتاب: صلاة المسافرين، باب: جواز النافلة قائمًا وقاعدًا.

(3)

"سنن الترمذي" برقم (425) في الصلاة، باب: ما جاء في الركعتين بعد الظهر.

(4)

"سنن الترمذي" برقم (426)، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي".

ص: 197

ما علمته، وفي حديث ابن عمر المذكور في الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم ركع ركعتين قبلها، وركعتين بعدها.

ولأبي داود من حديث البراء: ركعتين قبلها

(1)

. واستغربه الترمذي وحسنه

(2)

. ولا تخالف بينها؛ لأن كل واحد أخبر بما رأى. وأجاب الداودي بأن ابن عمر قد ينسى بعض ذلك. وكان جماعة من السلف يفعلون ذلك.

وروي عن ابن مسعود وابن عمر، والبراء، وأبي أيوب أنهم كانوا يصلون قبل الظهر. وعن ابن المسيب مثله

(3)

.

وقال إبراهيم: من السنة أربع قبل الظهر وركعتان بعدها سنة

(4)

.

وصوب الطبري الروايتين، وأن كلًا منهما صحيح، والأربع في كثير أحواله، وركعتين في قليلها.

وإذا كان ذلك كذلك فللمرء أن يصلي قبل الظهر ما شاء؛ لأن ذلك تطوع، وقد ندب الله المؤمنين إلى التقرب إليه بما أطاقوا من فعل الخير.

والصلاة بعد الزوال وقبل الظهر كانت تعدل بصلاة الليل في الفضل.

روي هذا عن جماعة من السلف. وذكر ابن قدامة الحنبلي أن الراتبة عندهم قبل الظهر ركعتان، وركعتان بعدها. واستدل بحديث ابن عمر

(1)

"سنن أبي داود" برقم (1222) كتاب: الصلاة، باب: التطوع في السفر، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" برقم (224).

(2)

"سنن الترمذي"(550) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التطوع في السفر.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 16 - 17 (5940)، (5944)، (5946)، (5948)، كتاب: الصلوات، باب: في الأربع قبل الظهر من كان يستحبها.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 19 (5970) الصلاة، باب فيما يحب من التطوع بالنهار.

ص: 198

هذا

(1)

. وقال الشافعي: قبل الظهر أربع. وقال صاحب "البداية" الحنفي: أربع قبلها، وركعتان بعدها

(2)

. واستدل بحديث عائشة في الباب، وبحديث أم حبيبة. أخرجه الترمذي وصححه، وعنها:"من صلى أربعًا قبل الظهر، وأربعًا بعدها، حرمه الله على النار" أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب. وقال مرة: حسن صحيح غريب

(3)

. وأخرجه أبو داود، والنسائي أيضًا

(4)

.

ولأبي داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي أيوب مرفوعًا:"أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء"

(5)

وللترمذي عن علي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الظهر أربعًا، وبعدها ركعتين. ثم قَالَ: حسن، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة، ومن بعدهم يختارون أن يصلي الرجل قبل الظهر أربعًا. وهو قول الثوري، وابن المبارك، وإسحاق

(6)

.

(1)

"المغني" 2/ 539.

(2)

"الهداية" 1/ 72.

(3)

"سنن الترمذي" برقم (427 - 428) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الركعتين بعد الظهر، وصححهما الألباني في "صحيح الترمذي".

(4)

"سنن أبي داود" برقم (1269) كتاب: الصلاة، باب: الأربع قبل الظهر وبعدها، و"سنن النسائي" 3/ 265 كتاب: قيام الليل، باب: ثواب من صلى في اليوم والليلة، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (1152).

(5)

"سنن أبي داود"(1270) كتاب: الصلاة، باب: الأربع قبل الظهر وبعدها، و"شمائل الترمذي" ص 130 (294) باب: صلاة الضحى، و"سنن ابن ماجه" (1157) كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: في الأربع ركعات قبل الظهر، وقال الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (1153): حديث حسن دون قوله: "ليس فيهن تسليم". وتقدم تخريجه.

(6)

انظر: "سنن الترمذي"(424) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الأربع قبل الظهر، وقال الألباني في "صحيح الترمذي": صحيح.

ص: 199

ولابن منصور في "سننه" من حديث البراء قَالَ: "من صلى قبل الظهر أربعًا كان كمن تهجد من ليلته، ومن صلاهن بعد العشاء كان كمثلهن من ليلة القدر".

وللترمذي من حديث عبد الله بن السائب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي أربعًا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال:"إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح" وقد سلف. قَالَ الترمذي: حديث حسن غريب، وفي الباب عن علي، وأبي أيوب

(1)

.

وله من حديث عمر رفعه: "أربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن من صلاة السحر، فليس شيء إلا يسبح الله تلك الساعة، ثم قرأ: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ اليَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} الآية [النحل: 48] كلها". ثم قَالَ: حديث غريب

(2)

.

قَالَ القرطبي: واختلف العلماء هل للفرائض رواتب مسنونة أو ليس لها؟ فذهب الجمهور وقالوا: هي سنة مع الفرائض. وذهب مالك في المشهور عنه: إلى أنه لا رواتب في ذلك، ولا توقيت عدا ركعتي الفجر؟ حماية للفرائض. ولا يمنع من تطوع بما شاء إذا أمن ذلك. قَالَ: وذهب العراقيون من أصحابنا إلى استحباب الركوع بعد الظهر، وقبل العصر، وبعد المغرب

(3)

.

(1)

"سنن الترمذي"(478) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة عند الزوال، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".

(2)

"سنن الترمذي"(3128) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة النحل، وضعفه الألباني في "ضعيف الترمذي".

(3)

"المفهم" 2/ 365.

ص: 200

‌35 - باب الصَّلَاةِ قَبْلَ المَغْرِبِ

1183 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنِ الحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ المُزَنِيُّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ المَغْرِبِ". -قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: "لِمَنْ شَاءَ". كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. [7368 - فتح: 3/ 59]

1184 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَرْثَدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ اليَزَنِيَّ قَالَ: أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الجُهَنِيَّ فَقُلْتُ: أَلَا أُعْجِبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ، يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ المَغْرِبِ. فَقَالَ عُقْبَةُ: إِنَّا كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ؟ قَالَ: الشُّغْلُ. [فتح: 3/ 59]

ذكر فيه حديث ابن بريدة:

عن عَبْدُ اللهِ المُزَنِيُّ، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -قَاْلَ:"صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ المَغْرِبِ". -قَالَ فِي الثَّالِثَةِ- "لِمَنْ شَاءَ" كَرَاهِةَ أَنْ يَتَخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةَ.

وحديث مرثد بن عبد الله اليزني:

قَالَ: أَتَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الجُهَنِيَّ فَقُلْتُ: أَلَا أُعجِّبُكَ مِنْ أَبِي تَمِيمٍ؛ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ المَغْرِبِ. فَقَالَ عُقْبَةُ: إِنَّا كُنَا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: فَمَا يَمْنَعُكَ الآنَ؟ قَالَ: الشُغْلُ.

الشرح:

حديث عبد الله ذكره البخاري أيضًا في آخر كتاب الاعتصام، في باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم على التحريم إلا ما يعرف إباحته، بهذا اللفظ والسند

(1)

.

وكذا أخرجه كذلك أبو داود

(2)

، وسلف في باب كم بين الأذان والإقامة

(1)

سيأتي برقم (7368).

(2)

"سنن أبي داود"(1281) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة قبل المغرب.

ص: 201

من كتاب الأذان بلفظ: "بين كل أذانين صلاة". أخرجاه

(1)

.

وابن بريدة اسمه: عبد الله أخو سليمان. وعبد الله الراوي: هو ابن مُغَفَّل بالغين المعجمة

(2)

والفاء. والحُسَين الراوي عنه هو ابن ذكوان المعلم. قَالَ الإسماعيلي: قَالَ ابن حساب: محمد بن عبيد في حديثه عن عبد الله، كنيته ونسبه لا أدري: ابن معْقل، أو ابن مغفل، فذكره.

قَالَ البيهقي: ورواه حيان بن عبيد الله، عن ابن بريدة، عن أبيه، وأخطأ في إسناده، وأتى بزيادة لم يتابع عليها، وهي أن بين كل أذانين ركعتين ما خلا المغرب

(3)

.

قَالَ ابن خزيمة: هو خطأ، إنما الخبر عن ابن بريدة، عن ابن مغفل، لا عن أبيه

(4)

.

قلتُ: وحيان هذا وثقه ابن حبان وغيره، وإن جهل.

والحديث الثاني أخرجه النسائي

(5)

. وأبو تميم عبد الله بن مالك الجيشاني المصري. مات سنة سبع وسبعين. يقال: أسلم في حياة رسول الله. إذا تقرر ذلك:

فاختلف السلف في التنفل قبل المغرب، فأجازه طائفة من الصحابة

(1)

برقم (624) كتاب: الأذان، ورواه مسلم برقم (838) كتاب: صلاة المسافرين، باب: بين كل أذانين صلاة.

(2)

ورد بهامش الأصل: يعني: المشددة المفتوحة، قوله: والفاء يعني: المفتوحة أيضًا.

(3)

"السنن الكبرى" 2/ 474 كتاب: الصلاة، باب: من جعل قبل صلاة المغرب ركعتين.

(4)

هو في "السنن الكبرى" للبيهقي مسندًا 2/ 474.

(5)

"سنن النسائي" 1/ 282 - 283 كتاب: المواقيت، باب: الرخصة في الصلاة قبل المغرب.

ص: 202

والتابعين والفقهاء، وممن فعله أبيُّ بن كعب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص

(1)

.

وقال حميد عن أنس: رأيتهم إذا أذن المؤذن يبتدرون السواري فيصلون

(2)

.

وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت أصحاب محمد يصلون عند كل تأذين

(3)

.

وكان الحسن، وابن سيرين يركعان قبل المغرب

(4)

، وهو قول أحمد وإسحاق. والحجة لهم من حديث المزني:"لمن شاء" وممن كان لا يصليها، قَالَ إبراهيم النخعي: لم يصلها أبو بكر ولا عمر ولا عثمان

(5)

. وقَالَ إبراهيم: هما بدعة، قَالَ: وكان خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكوفة عليٌّ وابن مسعود وحذيفة وعمار، فأخبرني من رمقهم كلهم فما رأى أحدًا منهم يصلي قبل المغرب. وهو قول مالك، وأبي حنيفة والشافعي.

قَالَ المهلب: والحجة لهم أن هذا كان في أول الإسلام ليدل على أن وقت الفجر في وقت النافلة، في هذا الوقت قد انقطع بمغيب الشمس، وحلت النافلة والفريضة، ثم التزم الناس مبادرة الفريضة؛ لئلا يتباطأ الناس بالصلاة عن الوقت الفاضل. ويختلف أمر الناس في

(1)

روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة 2/ 138 - 139 (7377، 7385) من كان يصلي ركعتين قبل المغرب.

(2)

ابن أبي شيبة 2/ 138 (7378).

(3)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 138 (7381).

(4)

رواه ابن ألي شيبة عن الحسن 2/ 138 (7384).

(5)

البيهقي 2/ 476 كتاب: الصلاة، باب: من جعل قبل صلاة المغرب ركعتين.

ص: 203

المبادرة بالصلاة، إذ المغرب لا يشكل على العامة والخاصة، وغيرها من الصلوات يشكل أوائل أوقاتها، وفيها مهلة حتى يستحكم الوقت؛ فلذلك أبيح الركوع قبل غيرها من الصلوات.

وقال ابن قدامة: ظاهر كلام أحمد أنهما جائزان، وليسا بسنة. قَالَ الأثرم: سألت أحمد عنهما، قَالَ: ما فعلته قط إلا مرة حين سمعت الحديث. وقال: فيهما أحاديث جياد -أو قَالَ: صحاح- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، والتابعين، إلا أنه قَالَ:"لمن شاء" فمن شاء صلى. وقال: هذا ينكره الناس، وضحك كالمتعجب، وكل هذا عندهم عظيم

(1)

.

وقال ابن العربي: لم يفعلها أحد بعد الصحابة

(2)

. واختلف أصحابنا فيه على وجهين: أشهرهما لا يستحب. والصحيح عند المحققين استحبابها

(3)

؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، منها حديثا الباب، وحديث أنس قَالَ: كان المؤذن إذا أذن قام الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حَتَّى يخرج النبي صلى الله عليه وسلم. وهم كذلك يصلون ركعتين حَتَّى إن الرجلَ الغريب ليدخل المسجد، فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. أخرجاه

(4)

، وقد سلف في (كتاب)

(5)

(1)

"المغني" 2/ 546.

(2)

"عارضة الأحوذي" 1/ 300.

(3)

انظر: "روضة الطالبين" 1/ 327.

(4)

سلف برقم (503) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة إلى الإسطوانة، و"صحيح مسلم" (837) كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب.

(5)

في الأصل: باب.

ص: 204

الأذان

(1)

. ولأبي داود من حديث أنس قَالَ: صليت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ المختار: قلتُ لأنس: أرآكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نعم رآنا. فلم يأمرنا، ولم ينهنا

(2)

.

وللبيهقي عن سعيد بن المسيب قَالَ: كان المهاجرون لا يركعون ركعتين قبل المغرب، وكانت الأنصار يركعونهما، وكان أنس يركعهما. قَالَ البيهقي: كذا قَالَ سعيد بن المسيب.

وقد روينا عن عبد الرحمن بن عوف أنه قَالَ: كنا نركعهما، وكان من المهاجرين

(3)

-وكأنه أراد غيره أو الأكثر منهم- ثم ساق بسنده إلى زرًّ قَالَ: كان ابن عوف، وأبي بن كعب يصليان قبل المغرب ركعتين، وبسنده إلى مكحول عن أبي أمامة قَالَ: كنا لا ندعهما في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن حبيب بن مسلم قَالَ: رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يهبون إليها كما يهبون إلى المكتوبة

(4)

. يعني: إلى الركعتين قبل المغرب. وحجة المانع حديث أبي داود، عن طاوس قَالَ: سُئل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب، فقال: ما رأيت أحدًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما

(5)

، ورخص في الركعتين بعد العصر.

ولما ذكر الداودي حديث الباب قَالَ: يدل على قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتحروا

(1)

برقم (625) كتاب: الأذان، باب: كم بين الأذان والإقامة.

(2)

"سنن أبي داود"(1282). والحديث رواه مسلم (836)!

(3)

"السنن الكبرى" 2/ 475.

(4)

"السنن الكبرى" 2/ 476 كتاب: الصلاة، باب: من جعل قبل صلاة المغرب ركعتين.

(5)

"سنن أبي داود"(1284) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة قبل المغرب، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود"(237).

ص: 205

بصلاتكم طلوع الشمس، ولا غروبها"

(1)

وقول ابن عمر: لا أنهى أحدًا أن يصلي أية ساعة شاء من ليل أو نهار، هذا عند طلوع الشمس وعند غروبها

(2)

.

وقوله: "بين كل أذانين صلاة"، وفي الحديث الآخر: كان إذا أذن (بالمغرب)

(3)

ابتدروا السواري، فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك.

فائدة:

يدخل في الحديث السالف: "بين كل أذانين صلاة"

(4)

قبل العشاء.

وبه صرح المحاملي في "لبابه"، فقال: ويصلي بعد العشاء الآخرة ركعتين، وقبلها ركعتين

(5)

. ولم أر من صرح به من متقدمي أصحابنا سواه. وقد رواه الشافعي في البويطي عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

سلف برقم (582) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس.

(2)

رواه عنه ابن أبي شيبة 2/ 137 (7363) كتاب: الصلوات، باب: من كان ينهى عن الصلاة.

(3)

في (ج) المؤذن.

(4)

سلف برقم (624).

(5)

"اللباب في الفقه الشافعي" ص 135، ولم ينص صراحة على ذلك وإنما قال: يصلي بين كل أذانين ركعتين إلا المغرب.

ص: 206

‌36 - باب صَلَاةِ النَّوَافِلِ جَمَاعَةً

ذَكَرَهُ أَنَسٌ وَعَائِشَةُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

1185 -

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِهِ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ. [انظر: 77 - فتح 3/ 60]

1186 -

فَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ سَمِعَ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَنْصَارِيَّ رضي الله عنه -وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بِبَنِي سَالِمٍ، وَكَانَ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَادٍ إِذَا جَاءَتِ الأَمْطَارُ، فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ قِبَلَ مَسْجِدِهِمْ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي، وَإِنَّ الوَادِيَ الذِي بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي يَسِيلُ إِذَا جَاءَتِ الأَمْطَارُ، فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ، فَوَدِدْتُ أَنَّكَ تَأْتِي فَتُصَلِّي مِنْ بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"سَأَفْعَلُ". فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ:"أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟ ". فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَي المَكَانِ الذِي أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ، فَحَبَسْتُهُ عَلَى خَزِيرٍ يُصْنَعُ لَهُ، فَسَمِعَ أَهْلُ الدَّارِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، فَثَابَ رِجَالٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَثُرَ الرِّجَالُ فِي البَيْتِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُم: مَا فَعَلَ مَالِكٌ؟ لَا أَرَاهُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: ذَاكَ مُنَافِقٌ، لَا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُلْ ذَاكَ، أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. يَبْتَغِى بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ؟ ". فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. أَمَّا نَحْنُ فَوَاللهِ لَا نَرَى وُدَّهُ وَلَا حَدِيثَهُ إِلاَّ إِلَي المُنَافِقِينَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ". قَالَ مَحْمُودٌ: فَحَدَّثْتُهَا قَوْمًا فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ، صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَتِهِ التِي تُوُفِّىَ فِيهَا، وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِمْ بِأَرْضِ الرُّومِ، فَأَنْكَرَهَا عَلَيَّ أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: وَاللهِ مَا أَظُنُّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا قُلْتَ قَطُّ. فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَجَعَلْتُ للهِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي حَتَّى أَقْفُلَ مِنْ غَزْوَتِي، أَنْ

ص: 207

أَسْأَلَ عَنْهَا عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه إِنْ وَجَدْتُهُ حَيًّا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ، فَقَفَلْتُ فَأَهْلَلْتُ بِحَجَّةٍ -أَوْ بِعُمْرَةٍ-، ثُمَّ سِرْتُ حَتَّى قَدِمْتُ المَدِينَةَ فَأَتَيْتُ بَنِي سَالِمٍ، فَإِذَا عِتْبَانُ شَيْخٌ أَعْمَى يُصَلِّي لِقَوْمِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ مَنْ أَنَا، ثُمَّ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثَنِيهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ. [انظر: 424 - مسلم: 263 - فتح: 3/ 60]

حديث أنس سلف مسندًا في باب الصلاة على الحصير

(1)

. وحديث عائشة سلف في الكسوف

(2)

.

ثم ذكر فيه حديث محمود بن الربيع: أنه عقل مجَّها بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه .. إلى آخره.

وفيه: فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا، وقد سلف في كتاب العلم

(3)

، وباب: المساجد في البيوت

(4)

. وهو كما ترجم له من جواز الجماعة في النافلة. قَالَ ابن حبيب: لا بأس أن يؤم النفر في النافلة في صلاة الضحى وغيرها كالرجلين والثلاثة، وأما أن يكون مشتهرًا جدًا، ويجتمع له الناس فلا. قاله مالك. واستثنى ابن حبيب قيام رمضان؛ لما في ذلك من سنة أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم

(5)

.

ولنذكر هنا من فوائده فوق الخمسين فائدة، فقد طال العهد به:

إحداها: أن من عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقل منه فعلًا يعد صحابيًّا.

ثانيها: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة لأولاد المؤمنين، وفعل ذلك ليعقل عنه الغلمان، وتعدلهم به الصحبة لينالوا فضلها، وناهيك بها.

(1)

برقم (380) كتاب: الصلاة.

(2)

برقم (1044) باب: الصدقة في الكسوف.

(3)

برقم (77) باب: متى يصح سماع الفجر.

(4)

برقم (425) كتاب: الصلاة.

(5)

انظر: "الذخيرة" 2/ 403.

ص: 208

ثالثها: استئلافه لآبائهم بمزحه مع بنيهم.

رابعها: مزحه ليكرم به من يمازحه.

خامسها: استراحته في بعض الأوقات؛ ليستعين على العبادة في وقتها.

سادسها: إعطاء النفس حقها، ولا يشق عليها في كل الأوقات.

سابعها: اتخاذ الدلو.

ثامنها: أخذ الماء بالفم منه.

تاسعها: إلقاء الماء في وجه الطفل.

عاشرها: صلاة القبائل الذين حول المدينة في مساجدهم المكتوبة وغيرها.

الحادية عشرة: إمامة الضعيف البصر.

والتخلف عن المسجد في الطين والظلمة. وصلاة المرء المكتوبة وغيرها في بيته. وسؤال الكبير إتيانه إلى بيته ليتخذ مكان صلاته مصلى. وذكر المرء ما فيه من العلل متعذرًا، ولا تكون شكوى فيه.

وأجاب الشارع من سأله. وسير الأتباع مع التابع. وصحبة أفضل الصحابة إياه. وتسميته لأبي بكر وحده لفضله. وأن صاحب البيت أعلم بأماكن بيته فهو أدرى به.

الحادية بعد العشرين: التبرك بآثار الصالحين، وطلب العين تقديمًا على الاجتهاد، فإن كل موضع صلى فيه الشارع فهو عين لا يجتهد فيه، وطلب الصلاة في موضع معين لتقوم صلاته فيه مقام الجماعة ببركة من صلى فيه، وترك التطلع في نواحي البيت، وصلاة النافلة جماعة في البيوت، وفضل موضع صلاته صلى الله عليه وسلم، وأن نوافل النهار تصلى ركعتين

ص: 209

كالليل، وأن المكان المتخذ مسجدًا ملكه باقٍ عليه، وأن النهي أن يوطن الرجل مكانًا للصلاة إنما هو في المساجد دون البيوت، وصلاة الضحى.

الحادية بعد الثلاثين: صنع الطعام الكثير عند إتيانه لهم، وإن لم يعلم بذلك، وعدم التكلف فيما يصنع، فكان لا يعيب طعامًا، وهو أدوم على فعل الخيرات.

والخزير بالخاء والزاي المحجمتين: طعام يتخذ من دقيق ولحم كما ذكر الخطابي

(1)

. قَالَ الجوهري: يقطع اللحم صغارًا على ما في القدر، فإذا نضج ذر عليه الدقيق، وإن لم يكن لحمًا فهو عصيدة

(2)

.

وقال ابن فارس: هي دقيق ملبك بشحم أي: يخلط بشحم، كانت العرب تعير به

(3)

.

وقال أبو الهيثم: إذا كان من دقيق فهي خزيرة، وإن كان نخالة فهي حريرة

(4)

. والاكتفاء بالإشارة. ويجوز أن يكون تلفظ به معها، وأنه يعبر بالدار عن المحلة التي فيها الدور، ومثله في الحديث: "خير دور الأنصار بنو النجار

" ثم عدد جماعة، وفي آخره: "وفي كل دور الأنصار خير"

(5)

. وكذا حديث: أمر ببناء المساجد في الدور، وتنظيفها

(6)

. أراد المحال. وكذا قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ}

(1)

"أعلام الحديث" 1/ 645.

(2)

"الصحاح" 2/ 644.

(3)

"المجمل" 2/ 288.

(4)

انظر: "لسان العرب" 2/ 1148.

(5)

سيأتي الحديث برقم (1481) كتاب: الزكاة، باب: خرص التمر. من حديث أبي حميد الساعدي.

(6)

رواه أبو داود (4559) كتاب: الصلاة، باب: اتخاذ المساجد في الدور، والترمذي (594) كتاب: الصلاة، باب: ما ذكر في تطيب المساجد، وابن ماجه =

ص: 210

[الأعراف: 145] واجتماع القبيل إلى الموضع الذي يأتيه الكبير ليؤدوا حقه، ويأخذوا حظهم منه، وعيب من حضر على من تخلف ونسبته إلى أمر يتهم به، وهو مالك بن الدخشم، شهد بدرًا واختلف في شهوده العقبة، وظهر من حسن إسلامه ما ينفي عنه تهمة النفاق، وكراهية من يميل إلى المنافقين في حديثه ومجالسته، وأن من رمى مسلمًا بالنفاق لمجالسته لهم لا يعاقب ولا يقال له: أثمت. وأن الشارع كان يأتيه الوحي ولا شك فيه.

الحادية بعد الأربعين: أنه لا يحب الله ورسوله منافق، وأن الكبير إذا علم بصحة اعتقاد من نسب إلى غيره يقول له: لا تقل ذلك. وأن من عيب بما يظهر منه لم يكن عيبة، وأن من تلفظ بالشهادتين واعتقد حقيقة ما جاء به مات على ذلك فاز ودخل الجنة، وأصابه بذنوبه سفع منها، وإخبار من سمع الحديث من صاحب صاحبًا مثله وغيره ليثبت ما سمع ويشهد ما عند الذي يخبره من ذلك، وإنكار من روى حديثًا من غير أن يقطع بنفيه، وقيل: إن الإنكار؛ لأن ظاهره تحريم دخول النار على من قَالَ: لا إله إلا الله. كقول بعض أهل الأهواء.

وقيل: معنى التحريم هنا: تحريم الخلود في النار، وغزو أرض الروم، وكان أبو أيوب تخلف عن الخروج مع يزيد قبل ذلك العام،

= (758) كتاب: المساجد، باب: تطهير المساجد وتطييبها، وأحمد 6/ 279، وأبو يعلى في "مسنده" 8/ 152 (4698)، وابن خزيمة في "صحيحه" 2/ 270 (1294) كتاب: الصلاة، باب: الأمر ببناء المساجد في الدور، وابن حبان في "صحيحه" 4/ 513 (1634) كتاب: الصلاة، باب: المساجد، وهو في 2/ 439 - 440، كتاب: الصلاة، باب: في تنظيف المساجد وتطييبها بالخلوق وغيره، كلهم عن عائشة، وقال الألباني:"صحيح أبي داود"(480): إسناده صحيح على شرط الشيخين.

ص: 211

ثم ندم وقال: ما عليَّ لو خرجت أقاتل على نفسي من الآخرة، ولكل أحد ما يحتسب. والمراجعة؛ فإن محمود بن الربيع الأنصاري أوجب على نفسه إن سلم أن يأتي عتبان فيسأله، وكان محمود مقيمًا بالشام، وذكر العمرة ليصف ما جرى وليتأسى به أن يجمع في طريقه العمرة والسفر إلى أبي أيوب والرحلة في العلم. وأن ذكر ما في الإنسان على وجه التعريف ليس عيبة لذكره عمى عتبان.

الحادية بعد الخمسين: إمامة الأعمى وجلب الحديث لصلاته بهم جماعة في النافلة، والإسرار بالنوافل، وفيه غير ذلك بما سلف، فلابد لك من مراجعته.

ص: 212

‌37 - باب التَّطَوُّعِ فِي البَيْتِ

1187 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَيُّوبَ وَعُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلُوا فى بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلَاتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا". تَابَعَهُ عَبْدُ الوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ. [انظر: 432 - مسلم: 777 - فتح: 3/ 62]

ذكر فيه حديث وهيب عَنْ أَيُّوبَ وَعُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابن عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اجْعَلُوا فى بُيُويكُمْ مِنْ صَلَاِتكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا". تَابَعَهُ عَبْدُ الوَهَّابِ، عَنْ أَيُّوبَ.

وقد سلف في باب: كراهية الصلاة في المقابر

(1)

، وهذِه المتابعة أخرجها مسلم عن ابن مثنى عن عبد الوهاب

(2)

، والإسماعيلي عن ابن مثنى، وابن خلاد عن عبد الوهاب، وهذا الحديث من التمثيل البديع، وذلك لتشبيهه البيت الذي لا يصلى فيه بالقبر الذي لا يمكن المبيت فيه عبادة، وشبه النائم بالليل كله بالميت الذي انقطع منه فعل الخير، وقد قَالَ عمر بن الخطاب: صلاة المرء في بيته نور، فنوروا بيوتكم.

وقد سلف هناك أن للعلماء في معنى الحديث قولين: هل المراد النافلة أو الفرض؟ والأول أظهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يختلف عنه أنه أنكر التخلف عن الجماعات في حضور المساجد.

(1)

برقم (432) كتاب: الصلاة.

(2)

"صحيح مسلم"(777) 209 كتاب: صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.

ص: 213

20

كتاب فضل الصلاة في مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالمدْينَةِ

ص: 215

‌20 - كتاب فضل الصلاة في مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالمدْينَةِ

(1)

‌1 - باب فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ

1188 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ المَلِكِ [بْنُ عُمَيْرٍ]، عَنْ قَزَعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ رضي الله عنه أَرْبَعًا قَالَ: سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثِنْتَىْ عَشْرَةَ غَزْوَةً ح. [انظر: 586 - مسلم: 827،415 - فتح: 3/ 63]

1189 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَمَسْجِدِ الأَقْصَى". [مسلم: 1397 - فتح: 3/ 63]

1190 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ، وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ". [مسلم: 1314 - فتح: 3/ 63]

(1)

ليس في الأصل، والمثبت من الصحيح.

ص: 217

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

حديث قَزَعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخدري أَرْبَعًا قَالَ: سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قد غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثِنْتَى عَشْرَةَ غَزْوَةً.

ثانيها: حديث سعيد عن أبي هريرة: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَي ثَلًاثةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الآقصَى".

ثالثها: حديث أبي عبد الله الأغر -واسمه سلمان- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أيضًا: "صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هذا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إلا المَسْجِدَ الحَرَامَ".

الشرح:

حديث أبي سعيد أتى به في الباب بعده مطولًا، وفي آخره:"ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" كما سيأتي في الحج والصوم أيضًا

(1)

، ولم يخرجه غيره مجموعًا بتمامه من طريق قزعة عن أبي سعيد.

وفي بعض نسخ البخاري إيراده آخر الباب، وكذا ذكره أبونعيم، وأخرجه مسلم مقطعًا، قطعة في الحج:"لا تسافر المرأة" إلى آخره، ومثلها من حديث أبي صالح عنه

(2)

، وقطعة في الصيام، وهي النهي عن صوم العيدين

(3)

، وأخرجاه من حديث يحيى بن عمارة عن أبي

(1)

برقم (1197) كتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة، باب: مسجد بيت المقدس، وبرقم (1864) كتاب: جزاء الصيد، باب: حج النساء، وبرقم (1995) كتاب: الصوم، باب: الصوم يوم النحر.

(2)

"صحيح مسلم" برقم (827/ 415) كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، وبرقم (1340/ 423) كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع

(3)

"صحيح مسلم" برقم (827/ 140) كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى.

ص: 218

سعيد

(1)

وقطعة في: "لا صلاة بعد الصبح" من حديث عطاء بن يزيد بن أبي سعيد

(2)

، وأخرجه البخاري أيضًا كذلك

(3)

، وابن ماجه من حديث قزعة عنه

(4)

، وقطعة الباب "لا تشد" أخرجها هنا مختصرًا بدونها.

قَالَ الحميدي: أهمل، ولم يبين تمامه

(5)

. وأخرجها مسلم من حديث قزعة أيضًا في الحج، وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن صحيح

(6)

.

وذكر الدارقطني أنه اختلف فيه على قزعة، فذكره، ثم قَالَ: والصحيح قول من قَالَ: قزعة عن أبي سعيد

(7)

.

وقال الداودي: ذكر حديث أبي سعيد ولم يذكر ما فيه، ثم أتى بحديث أبي هريرة بعد. يعني أنهما جميعًا حدثا بالحديث. وقد ذكره بعد في باب: مسجد بيت المقدس، وذكر الأربع وأنهن أعجبنه.

(1)

سيأتي برقم (1991) كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الفطر، ومسلم برقم (827/ 141) كتاب: الصيام، باب: النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى.

(2)

"صحيح مسلم"(827) كتاب: صلاة المسافرين، باب: الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها.

(3)

سلف برقم (586) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس.

(4)

"سنن ابن ماجه"(1249) كتاب: إقامة الصلاة، باب: النهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر.

(5)

"الجمع بين الصحيحين" 2/ 435.

(6)

"صحيح مسلم"(827/ 415) كتاب: الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره، و"سنن الترمذي" (326) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في أي المساجد أفضل، و"سنن ابن ماجه" (1410) كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس.

(7)

"علل الدارقطني" 11/ 305 - 307.

ص: 219

قَالَ ابن التين: وأضاف إليهن ابن مسلمة رابعًا، وهو مسجد قباء.

وحديث أبي هريرة الأول أخرجه مسلم أيضًا

(1)

(2)

، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث سلمان الأغر، عن أبي هريرة بلفظ:"إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيلياء"

(3)

.

وشيخ البخاري فيه علي هو ابن المديني، وشيخه سفيان هو ابن عيينة. قَالَ الدارقطني: تفرد الزهري واختلف عنه فذكره، ثم قَالَ: وكلها محفوظة عنه

(4)

.

وحديثه الثاني أخرجه مسلم أيضًا

(5)

، وقد رواه عن أبي هريرة غير الأغر، رواه عنه سعيد بن المسيب وأبو صالح، والوليد بن رباح، (م) وعبد الله بن إبراهيم بن قارظ، وأبو سلمة، وعطاء

(6)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1397) كتاب: الحج، باب: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.

(2)

رمز الناسخ فوقها (د. س. ق) وانظر [أبو داود (2033)، النسائي 2/ 37، ابن ماجه (1409)].

(3)

"صحيح مسلم"(1397)513.

(4)

"علل الدارقطني" 9/ 402 - 403.

(5)

"صحيح مسلم"(1394) كتاب: الحج، باب: فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة ورمز الناسخ فوق مسلم (د. س. ق)، وانظر:["سنن النسائي" 2/ 35 كتاب: المساجد، باب: فضل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه، و"سنن ابن ماجه" (1404) كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام].

(6)

رمز في الأصل فوق الرواة إشارة إلى مخرجي رواياتهم.

فرمز فوق سعيد بن المسيب (م. ق)[قلت انظر مسلم (1394/ 505) وابن ماجه (1404)]، ورمز فوق أبي صالح (م) [مسلم (1394/ 508) وفيه قال: أخبرني عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أنه سمع أبا هريرة

فذكره]، ورمز فوق الوليد بن رباح (ت) لترمذي (3916)]، ورمز فوق عبد الله بن إبراهيم بن قارظ (م) [مسلم =

ص: 220

قَالَ أبو عمر: لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث في "الموطأ" عن زيد بن رباح وعبيد الله بن عبد الله الأغر، عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة.

ورواه محمد بن مسلمة المخزومي عن مالك، عن ابن شهاب، عن أنس، وهو غلط فاحش وإسناده مقلوب، ولا يصح فيه عن مالك إلا حديثه في "الموطأ" عن زيد

(1)

. كما سلف.

وروي عن أبي هريرة من طرق متواترة كلها صحاح ثابتة، وطرقه الدارقطني فأبلغ

(2)

، ورواه ابن عمر وميمونة، وطرقه الدارقطني، وجابر وابن الزبير

(3)

وإسناده حسن أخرجه أحمد، وأبو ذر أخرجه الطحاوي

(4)

.

إذا تقرر ذلك فالكلام عليها من أوجه:

= (1394/ 507 - 508)] ورمز فوق أبي سلمة (م)[مسلم (1394/ 507)]، ورمز فوق عطاء (قط) [ولم أقف عليه في "سنن الدارقطني" وأشار إلى روايته في "العلل" فقال: ورواه عطاء بن أبي رباح، واختلف عنه، فرواه ابن المبارك عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وعائشة، وكذلك قال أبو مريم عن عطاء. ورواه الزنجي بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ "العلل" 9/ 397. قلت: انظر "المسند" 2/ 277، 278].

(1)

"التمهيد" 6/ 16.

(2)

"علل الدارقطني" 9/ 48 - 49 (1634) و 9/ 395 - 400 (1816).

(3)

رمز في الأصل فوق ابن عمر (ق)[ابن ماجه (1405) قلت: هو في مسلم (1395) ورمز فوق ميمونة (خ. م. س) [البخاري لم أقف عليه فيه، ومسلم (1396)، والنسائي 2/ 33]، ورمز فوق جابر (ق)[ابن ماجه (1406)]، ورمز فوق ابن الزبير (قط)[ولم أقف عليه في "سننه" وذكره في تطريقه؛ لحديث أبي هريرة في "العلل" 9/ 398 وهو في "المسند" 4/ 5 كما عزاه إليه المصنف وسيأتي تخريجه].

(4)

رواه في "شرح مشاكل الآثار" 2/ 67 - 68 (608).

ص: 221

أحدها:

قوله: ("مسجد الأقصى") هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وقد أجازه الكوفيون، وتأوله البصريون على الحذف. أي: مسجد المكان الأقصى، وسمي الأقصى؛ لبعده عن المسجد الحرام.

ثانيها:

فيه فضيلة هذِه المساجد الثلاثة وميزتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء عليهم السلام، وتفضيل الصلاة فيها، وشد الرحال -أي: سروج الجمال- إلى هذِه المساجد الثلاثة، وإعمال المطي إليها مشروع قطعًا.

واختلفوا في الشد والإعمال إلى غيرها كالذهاب إلى قبور الصالحين وإلى المواضع الفاضلة، ونحو ذلك، فقال الجويني: يحرم شد الرحال إلى غيرها. وهو الذي أشار القاضي حسين إلى اختياره

(1)

، والصحيح عند أصحابنا، وهو مختار الإمام والمحققين: أنه لا يحرم ولا يكره، قالوا: والمراد: أن الفضيلة الثابتة إنما هي في شد الرحال إلى هذِه الثلاثة خاصة.

قَالَ ابن بطال: هذا الحديث في النهي عن إعمال المطي، إنما هو عند العلماء فيمن نذر على نفسه الصلاة في مسجد من سائر المساجد غير الثلاثة المذكورة.

(1)

ورد في هامش الأصل ما نصه: الذي قاله الشيخ محمى الدين في "شرح مسلم" أن القاضي عياضًا أشار إلى اختياره، والظاهر أن في نسخة شيخنا من "شرح مسلم" نقل ذلك عن القاضي وسقط منها (عياض) فالشافعية المتأخرون من الخراسانين إذا أطلقوا: القاضي. يريدون حُسينًا، فوضحه شيخنا فوهم (

).

وعبارة شيخنا هي عبارة النووي في "شرح مسلم" فلهذا غلب على ظني أنه القاضي عياض.

ص: 222

قَالَ مالك: من نذر صلاة في مسجد لا يصل إليه إلا براحلة فإنه يصلي في بلده إلا أن ينذر ذلك في المساجد الثلاثة، فعليه السير إليها، وأما من أراد الصلاة في مساجد الصالحين والتبرك بها متطوعًا بذلك، فمباح له قصدها بإعمال المطي وغيره، ولا يتوجه إليه النهي في الحديث.

وقال الخطابي: اللفظ لفظ خبر ومعناه الإيجاب فيما ينذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك فيها، يريد أنه لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك غير هذِه المساجد

(1)

.

(1)

"أعلام الحديث" 1/ 647.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن موجودًا في الإسلام في زمن مالك، وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم. فأما هذِه القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن هذا ظاهرًا فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك، ولهذا لما سأل سائل لمالك عن رجل نذر أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إن كان أراد المسجد فليأته وليصل فيه، وإن كان أراد القبر فلا يفعل، للحديث الذي جاء "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد". وكذلك من يزور قبور الأنبياء والصالحين ليدعوهم، أو يطلب منهم الدعاء، أو يقصد الدعاء عندهم لكونه أقرب إجابة في ظنه، فهذا لم يكن يعرف على عهد مالك، لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، "مجموع الفتاوى" 27/ 384 - 385.

وقال أيضًا ردًا على من قال: إن السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين قربة، وإنه إن نذر السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين أنه يفي بهذا النذر. فقال: هذا القول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإن أطلقوا القول بأن السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، قربه، أو قالوا هو قربة مجمع عليها: فهذا حق إذا عرف مرادهم بذلك، كما ذكر ذلك القاضي عياض، وابن بطال وغيرهما: فمرادهم السفر المشروع إلى مسجده، وما يفعل فيه من العبادة المشروعة التي تسمى زيارة لقبره، ومالك وغيره يكرهون أن تسمى زيارة لقبره. فهذا الإجماع على هذا المعنى صحيح لا ريب فيه. =

ص: 223

وقال ابن الجوزي: اختلف العلماء فيما إذا نذر أن يصلي في هذِه المساجد الثلاثة، فمذهب أحمد أنه يلزمه، وقال أبو حنيفة لا يلزمه بل يصلي حيث شاء. وعن الشافعي كالمذهبين. انتهى.

ولا يعترض بأن أبا هريرة أعمل المطي إلى الطور، فلما انصرف لقيه بصرة بن أبي بصرة، فأنكر عليه خروجه وقال له: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد"

(1)

فدل أن مذهب بصرة حمل الحديث على العموم في

= ولكن ليس هذا إجماعًا على ما صرحوا بالنهي عنه، أو بأنه ليس بقربة ولا طاعة.

والسفر لغير المساجد الثلاثة قد صرح مالك وغيره: كالقاضي إسماعيل، والقاضي عياض، وغيرهما: أنه منهي عنه، لا يفعله لا ناذر ولا متطوع، وصرحوا بأن السفر إلى المدينة وإلى بيت المقدس لغير الصلاة في المسجدين هو من السفر المنهي عنه ليس له أن يفعله، وإن نذره، سواء سافر لزيارة أي نبي من الأنبياء، أو قبر من قبورهم، أو قبور غيرهم. أو مسجد غير الثلاثة: فهذا كله عندهم من السفر المنهي عنه، فكيف يقولون: إنه قربة،

ولكن الإجماع على تحريم اتخاذه قربة لا يناقض النزاع في الفعل المجرد، وهذا الإجماع المحكي عن السلف والأئمة لا يقدح فيه خلاف بعض المتأخرين إن وجد، ولكن إن وجد أن أحد من الصلحاء المعروفين من السلف قال: إنه يستحب السفر لمجرد زيارة القبور، أو لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين كان هذا قادحًا في هذا الإجماع، ويكون في المسألة ثلاثة أقوال.

ولكن الذي يحكي الإجماع لم يطلع على هذا القول، كما يوجد ذلك كثيرًا لكثير من العلماء، ومع هذا فهذا القول يرد إلى الكتاب والسنة، لا يجوز إلزام الناس به بلا حجة، فإن هذا خلاف إجماع المسلمين. "مجموع الفتاوى" 27/ 231 - 232.

(1)

رواه النسائي 3/ 113: 115 كتاب: الجمعة، باب: الساعة التي في يوم الجمعة، ومالك 1/ 178 (463) كتاب: الجمعة، باب: الساعة التي في يوم الجمعة، وعبد الرزاق 1/ 178 (463) كتاب: المناسك، باب: ما تشد إليه الرحال، وأحمد 6/ 7، وابن حبان في "صحيحه" 7/ 7 (2772) كتاب: الصلاة، بابك صلاة الجمعة،

ص: 224

النهي عن إعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة على كل حال، فدخل فيه الناذر والمتطوع؛ لأن بصرة إنما أنكر على أبي هريرة خروجه إلى الطور؛ لأن أبا هريرة كان من أهل المدينة التي فيها أحد المساجد الثلاثة التي أمر بإعمال المطي إليها، ومن كان كذلك فمسجده أولى بالإتيان.

وليس في الحديث أن أبا هريرة نذر السير إلى الطور، وإنما ظاهره أنه خرج متطوعًا إليه، وكان مسجده بالمدينة أولى بالفضل من الطور؛ لأن مسجد المدينة ومسجد بيت المقدس أفضل من الطور.

وقد اختلف العلماء فيمن كان بالمدينة فنذر المشي إلى بيت المقدس، فقال مالك: يمشي ويركب. زاد الأوزاعي: ويتصدق.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلي في مسجد المدينة أو مكة؛ لأنهما أفضل منه. وقال سعيد بن المسيب: يقومان مقام مسجد بيت المقدس.

وقال الشافعي: يمشي إلى مسجد المدينة والأقصى إذا نذر ذلك، ولا يتبين لي وجوبه؛ لأن البر بإتيان بيت الله فرض، والبر بإتيان هذين نافلة

(1)

.

وقال ابن المنذر: من نذر المشي إلى المسجد الحرام والأقصى وجب عليه ذلك؛ لأن الوفاء به طاعة، وإن نذر الأقصى إن شاء مشى إليه، وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام؛ لحديث جابر أن رجلاً قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس.

والطبراني 2/ 276 - 277 (2157 - 2159)، وابن الأثير في "أسد الغابة" 1/ 237، وصححه الألباني في "صحيح النسائي".

(1)

انظر: "مغني المحتاج" 4/ 363.

ص: 225

قَالَ: "صل ها هنا" ثلاثًا

(1)

.

وقال أبو يوسف: لا يقوم الأقصى مقام المسجد الحرام. وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة ومحمد: أن من جعل لله عليه أن يصلي في مكان فصلى في غيره أجزأه. واحتج لهم الطحاوي بأن معنى حديث "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"

(2)

أن المراد به الفريضة لا النافلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"

(3)

.

وقال ابن التين: هذا الحديث دليل لنا على الشافعي، فإنه أعمل المطي إليهما، والصلاة فيهما قربة، فوجب أن يلزم بالنذر كالمسجد الحرام، وانفصل بعضهم بأن قَالَ: قد تشد الرحال إلى المسجد الحرام فرضًا للحج أو العمرة، وفي مسجد المدينة للهجرة في حياته، وكانت واجبة على الكفاية في قول بعض العلماء، فأما إلى بيت المقدس فهي فضيلة.

وقد يتأول الحديث على أنه لا يعتكف إلا في هذِه المساجد الثلاثة فيرحل إليها، وهو قول بعض السلف.

فرع:

إذا لزم المضي إليهما، فهل يلزمه المشي؟

(1)

رواه أبو داود (3305)، وأحمد 3/ 363، والحاكم 4/ 304 وقال: صحيح على شرط مسلم.

(2)

"شرح معاني الآثار" 3/ 125 - 126.

(3)

سيأتي برقم (6113) كتاب: الأدب، باب: ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله.

حديث زيد بن ثابت.

ص: 226

في "المدونة": يأتيهما راكبًا. وقال ابن وهب: ماشيًا وإن بعد.

وقيل: إن كان قريبًا بالأميال مشى. وقيل: لا يمشي وإن كان ميلًا، وأما المسجد الحرام فإنه يأتيه ماشيًا.

ثالثها:

اختلف العلماء في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام" ومعناه كما قَالَ أبو عمر، فتأوله قومٌ، منهم ابن نافع صاحب مالك على أن الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون ألف درجة، وأفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة، وقال به جماعة من المالكيين، ورواه بعضهم عن مالك.

وذكر أبو يحيى الساجي قَالَ: اختلف العلماء في تفضيل مكة على المدينة، فقال الشافعي: مكة أفضل البقاع كلها، وهو قول عطاء والمكيين والكوفيين. وقال مالك والمدنيون: المدينة أفضل من مكة

(1)

.

واختلف أهل البصرة والبغداديون في ذلك، فطائفة يقولون: مكة، وطائفة يقولون المدينة. وعامة أهل الأثر والفقه (يقولون)

(2)

: إن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة.

وقال القرطبي: اختلف في استثناء المسجد الحرام: هل ذلك أن المسجد الحرام أفضل من مسجده صلى الله عليه وسلم، أو هو؛ لأن المسجد الحرام أفضل من غير مسجده؟ فإنه أفضل المساجد كلها والجوامع.

(1)

انظر: "الذخيرة" 4/ 84.

(2)

من (ج).

ص: 227

وهذا الخلاف في أي البلدين أفضل؟ فذهب عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة، وحملوا الاستثناء على تفضيل الصلاة في مسجد المدينة بألف صلاة على سائر المساجد، إلا المسجد الحرام فبأقل من الألف، واحتجوا بما قَالَ عمر: صلاة في المسجد الإكرام غير من مائة صلاة فيما سواه

(1)

.

ولا يقول عمر هذا من تلقاء نفسه، ولا من اجتهاده، فعلى هذا تكون فضيلة مسجده على المسجد الحرام بتسعمائة وعلى غيره بألف.

وذهب الكوفيون والمكيون وابن وهب وابن حبيب من أصحابنا إلى تفضيل مكة، واحتجوا بما زاد قاسم بن أصبغ وغيره في هذا الحديث من رواية عبد الله بن الزبير بعد قوله:"إلا المسجد الحرام" قَالَ: "وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة"

(2)

.

قَالَ: وهذا الحديث رواه عبد بن حميد وقال فيه: "بمائة ألف صلاة"

(3)

وهذِه الروايات منكرة لم تشتهر عند الحفاظ، ولا خرّجها أصحاب الصحيح، ولا شك أن المسجد الحرام مستثنى من قوله:"من المساجد" وهي بالاتفاق مفضولة، والمستثنى من المفضول مفضول إذا سكت عليه، فالمسجد الحرام مفضول، لكنه (يقال)

(4)

: مفضول بألف؛ لأنه قد استثناه منها، فلابد أن يكون له مزية على غيره من المساجد ولم يعينها الشرع، فيوقف فيها، أو يعتمد على قول عمر.

(1)

رواه الحميدي في "مسنده" 2/ 179 - 180 (970).

(2)

رواه أحمد 4/ 5، والبيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 485 (4142) كتاب: المناسك، باب: إتيان المدينة وزيارة.

(3)

"المنتخب" 1/ 465 (520).

(4)

كذا بالأصل، ولعلها: لا يقال.

ص: 228

قَالَ: ويدل على صحة ما قلناه زيادة عبد الله بن قارظ بعد قوله: "إلا المسجد الحرام": "فإني آخر الأنبياء، ومسجدي آخر المساجد"

(1)

فربطُ الكلام بفاء التعليل مشعر بأن مسجده إنما فضل على المساجد كلها؛ لأنه متأخر عنها، ومنسوب إلى نبي متأخر عن الأنبياء في الزمان، فتدبره

(2)

.

وقال عياض: أجمعوا على أن موضع قبره صلى الله عليه وسلم أفضل بقاع الأرض

(3)

.

ومن دلائل تفضيل مكة: حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وهو واقف على راحلته بمكة-: "والله إنك لخير بلاد الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". رواه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح

(4)

.

وعن عبد الله بن الزبير قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي" حديث حسن رواه أحمد بن حنبل في "مسنده"، والبيهقي وغيرهما بإسناد حسن

(5)

.

(1)

رواه مسلم (1394) 507 كتاب: الحج، باب: فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة وأبو نعيم في "المستخرج" 4/ 55 - 56 (3218) كتاب: حرمة مكة والمدينة، باب: في فضل الصلاة في مسجد المدينة.

(2)

"المفهم" 3/ 504 - 506.

(3)

"إكمال المعلم" 4/ 511.

(4)

"سنن الترمذي"(3925) كتاب: المناقب، باب: في فضل مكة.

و"السنن الكبرى" للنسائي 2/ 479 - 480 (4252 - 4253) كتاب: الحج، باب: فضائل مكة والمدينة. وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".

(5)

رواه أحمد 4/ 5، وعبد بن حميد في "المنتخب" 1/ 465 (520)، والبزار كمال في "كشف الأستار" 1/ 214 (425) كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في المساجد =

ص: 229

قَالَ أبو عمر

(1)

: وأما تأويل ابن نافع فبعيد عند أهل المعرفة باللسان ويلزمه أن يقول: إن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعف،، وتسعة وتسعين ضعفًا.

وإذا كان هكذا، لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزء اللطيف على تأويل ابن نافع.

ثم ساق بإسناده إلى ابن عيينة، عن زياد بن سعد، عن ابن عتيق، سمعت ابن الزبير، سمعت عمر يقول: صلاة في المسجد الحرام خير من مائة ألف صلاة فيما سواه -يعني من المساجد- إلا مسجد رسول الله.

فهذا عمر، وابن الزبير، ولا مخالف لهما من الصحابة يقول: تفضل الصلاة في المسجد الحرام على مسجد المدينة.

وتأول بعضهم هذا الحديث أيضًا عن عمر على أن الصلاة في مسجد المدينة خير من تسعمائة صلاة في المسجد الحرام، وهذا تأويل لا يعضده أصل.

وزعم بعض المتأخرين أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بمائة صلاة، ومن غيره بألف صلاة،

= الثلاث وقال: اختلف على عطاء ولا نعلم أحدًا قال: فإنه يزيد على مائة، إلا ابن الزبير، ورواه عبد المالك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر، ورواه ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة أو عائشة، ورواه ابن أبي ليلى عن عطاء، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة وابن حبان في "صحيحه" 4/ 499 (1620) كتاب: الصلاة، باب: المساجد. والبيهقي 5/ 246 كتاب: الحج، باب: فضل الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 504. وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في "الكبير"، ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح.

وقال الذهبي في "المهذب" 4/ 2007 (8508): سنده صالح.

(1)

"التمهيد" 6/ 18 - 34 وسيطيل النفل عنه.

ص: 230

واحتج بحديث ابن الزبير عن عمر المذكور. قَالَ: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه مختلف في إسناده وفي لفظه، وقد خالفه فيه من هو أثبت منه.

واستدلوا بحديث سليمان بن عتيق، عن ابن الزبير، سمعت عمر يقول: صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها فضيلة عليه بمائة صلاة. فهذا حديث سليمان فيه من نقل الثقات نصًّا خلاف ما تأولوه.

وذكر حديث ابن عمر الذي فيه أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وروي عن أبي الدرداء وجابر مثل ذلك بزيادة: "وفي بيت المقدس بخمسمائة"

(1)

.

وقال عبد الله بن مسعود: ما للمرأة أفضل من صلاة بيتها إلا المسجد الحرام

(2)

.

وهذا تفضيل منه للصلاة فيه على الصلاة في مسجد الرسول؛ وقد قَالَ لأصحابه: "صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة"

(3)

.

وقد اتفق مالك، وسائر العلماء على أن صلاة (الفرض)

(4)

يبرز لها في كل بلد إلا مكة فإنها تصلى في المسجد الحرام. فهذا عمر، وعلي،

(1)

حديث أبي الدرداء، رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 484 - 485 (4140) في فضل الحج والعمرة. وانظر:"ضعيف الترغيب والترهيب" 1/ 378 - 379.

وحديث جابر، فرواه أيضًا البيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 486 (4144).

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 2/ 158 (7613)، والبيهقي 3/ 131.

(3)

سلف برقم (731) كتاب: الأذان، باب: صلاة الليل بمعناه.

(4)

كذا في الأصل، وفي "التمهيد" 6/ 31 - وهوالمصدر الذي ينقل منه المصنف هنا-: العيدين، وهو أصوب.

ص: 231

وابن مسعود، وأبو الدرداء، وجابر يفضلون مكة ومسجدها، وهم أولى بالتقليد ممن تقدمهم

(1)

.

واستدل بعض أصحاب مالك على تفضيل المدينة بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" أو "ما بين بيتي ومنبري روضة" الحديث

(2)

.

وركبوا عليه قوله: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها"

(3)

ولا دلالة فيه كما قَالَ أبو عمر

(4)

؛ لأن قوله هذا إنما أراد ذم الدنيا والزهد فيها، والترغيب في الآخرة، فأخبر أن اليسير من الجنة خير من الدنيا كلها، وأراد بذكر السوط على التقليل، بل موضع نصف سوط من الجنة الباقية خير من الدنيا الفانية. قَالَ: وإني لأعجب ممن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقف بمكة على الحزورة، وقيل: على الحجون، فقال:"والله إني لأعلم أنك خير أرض الله، وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت" وهذا حديث صحيح. وقد سلف

(5)

.

(1)

كذا في الأصل، وفي "التمهيد" 6/ 34: بعدهم. وهوالصواب وها هنا انتهى كلام ابن عبد البر 6/ 18 - 34 بتصرف.

(2)

سيأتي برقم (1196) كتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب: فضل ما بين القبر والمنبر. مقتصرًا على الجزء الثاني منه.

ورواه مسلم كاملًا برقم (1391) كتاب: الحج، باب: ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة. ولم يأت في رواية صحيحة (قبري) بل: (بيتي) فليعلم.

(3)

سيأتي برقم (3250) كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة. من حديث سهل بن سعد الساعدي.

(4)

"التمهيد" 2/ 287 - 290.

(5)

رواه الترمذي برقم (3925) كتاب: المناقب، باب: فضل مكة قال أبو عيسى، حسن غريب صحيح. والنسائي في الكبرى 2/ 479، برقم (4252) كتاب: الحج =

ص: 232

وذكره من طريق عبد الله بن عدي بن الحمراء، ومن طريق معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

قَالَ: وقد روي عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها.

لكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة. وكان مالك يقول: مِنْ فضل المدينة على مكة أني لا اعلم بقعة فيها قبر نبي معروف غيرها. كأنه يريد ما لا يُشك فيه

(1)

.

وعن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: اختلفوا في دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: سمعته يقول: "لا يقبض نبى إلا في أحب الأمكنة إليه" فقال: ادفنوه حيث قُبض. وفي لفظ: حيث قبضه الله؛ فإنه لم تقبض روحه إلا في مكان طيب

(2)

.

وروى ابن عبد البر في أواخر "تمهيده" عن عطاء الخرساني أن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة، فيخلق من التراب ومن النطفة، فذلك قوله تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} الآية [طه: 55]

(3)

واختلف هل يراد بالصلاة هنا الفرض أو

= باب: فضائل مكة والمدينة. وابن ماجه (3108)، كتاب: المناسك، باب: فضل مكة. وأحمد في "المسند" 4/ 305، برقم (18715). والفسوي في "المعرفة والتاريخ" 1/ 244. والحاكم: 3/ 7، كتاب: الهجرة وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. والمزي في "التهذيب" 15/ 292. وفي "أسد الغابة" 3/ 336 برقم (3068). وصححه الألباني في "صحيحى الترمذي وابن ماجه".

(1)

انتهى كلام ابن عبد البر.

(2)

رواه الترمذي (1018) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة. وقال: حديث غريب. والبزار في "البحر الزخار" 1/ 130 (60 - 61). وأبو يعلى في "مسنده" 1/ 46 (45). وصححه الألباني في "صحيح الترمذي".

(3)

"التمهيد" 24/ 400.

ص: 233

أعم منه؟ وإلى الأول ذهب الطحاوي

(1)

، وإلى الثاني ذهب مطرف من أصحاب مالك. ومذهبنا أنه أعم.

فتقرر أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف هذا ما نعتقده، وفي مسجد المدينة بألف. وقد أسلفنا عن الأقصى أنها بخمسمائة، وفي حديث أبي ذر بمائتين وخمسين صلاة

(2)

.

وفي حديث ميمونة بألف

(3)

، وهو من باب الترقي والفضل، كما نبه عليه الطحاوي.

ثم النافلة في البيوت أفضل من صلاتها في المساجد الثلاثة، ثم هذا فيما يرجع إلى الثواب، ولا يتعدى إلى الإجزاء عن الفوائت، حتى لو كان عليه صلاتان فصلى في المسجد الحرام صلاة لم تجزئه عنهما بالاتفاق. ثم الفضيلة في الصلاة في مسجده خاص بنفس مسجده

(1)

"شرح معاني الآثار" 3/ 128.

(2)

رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 1/ 444 - 446 (432) كتاب: الصلاة، باب: بيان مشكل ما روي عنه عليه السلام في المساجد لا تشد الرحال إلا إليها .. ، والطبراني في "الأوسط" 8/ 148 (8230). والبيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 486 (4145) باب: في المناسك، فضل الحج والعمرة. وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا الحجاج، وسعيد بن بشير، تفرد به عن الحجاج: إبراهيم بن طهمان، وتفرد به عن سعيد: محمد بن سليمان بن أبي داود.

وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 7 كتاب: الحج، باب: الصلاة في المسجد الحرام.

وقال: الهيثمي: رواه الطبراني في "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح.

(3)

رواه النسائي 2/ 33 كتاب: المساجد، باب: فضل الصلاة في المسجد الحرام.

وأحمد 6/ 333. والبخاري في "التاريخ الكبير" 1/ 302 ترجمة (958). وأبو يعلى 13/ 30 - 31 (7113). والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 126. والبيهقي 10/ 83 كتاب: النذور، باب: من لم ير وجوبه بالنذر.

ص: 234

الذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده

(1)

، فيحرص المصلي على ذلك.

وقال ابن بطال: كلا الطائفتين في تفضيل مكة والمدينة يرغب لحديث أبي هريرة: "صلاة في مسجدي هذا" إلى آخره. ولا دلالة فيه أو أحد منهما، وإنما يفهم منه أن صلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد.

ثم استثنى المسجد الحرام. وحكم الاستثناء عند أهل اللسان إخراج الشيء بما دخل فيه هو وغيره بلفظ شامل لهما، وإدخاله فيما خرج منه هو وغيره بلفظ شامل لهما.

وقد مثل بعض أهل العلم بلسان العرب الاستثناء في الحديث بمثال بيَّن معناه.

فإن قلتَ: اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة إلا العراق، جاز أن يكون العراق مساويًا لليمن، وجاز أن يكون فاضلًا، وأن يكون مفضولًا. فإن كان مساويًا فقد علم فضله، وإن كان فاضلًا أو مفضولًا لم يقدر مقدار المفاضلة بينهما إلا بدليل على عدة درجات، إما زائدة على ذلك، أو ناقصة عنها، فيحتاج إلى ذكرها

(2)

.

واحتج من فضل مكة من طريق النظر أن الرب جل جلاله فرض على عباده قصد بيته الحرام مرة في العمر، ولم يفرض عليهم قصد مسجد المدينة.

قالوا: ومن قول مالك: أن من نذر الصلاة في مسجد المدينة

(1)

ورد بهامش الأصل: كذا قاله النووي، وخالفه المحب الطبري وذكر لما قاله حديثًا من عند ابن النجار صاحب "تاريخ المدينة" البغدادي، وأثرًا عن عمر- رضي الله عنه وكذا ذكره في "مناسكه" كما ذكره في "أحكامه".

(2)

"شرح ابن بطال" 3/ 180 - 181.

ص: 235

والمشي إليه، أنه لا يلزمه المشي إليه، وعليه أن يأتيه راكبًا، ومن نذر المشي إلى مكة، فإنه يمشي إليها ولا يركب، فدل هذا من قوله أن مكة أفضل؛ لأنه لم يوجب المشي إليها إلا لعظيم حرمتها، وكبير فضلها. والمراد بقوله:"خير من ألف صلاة" أنها أكثر ثوابًا. قَالَ ابن حبيب: وذلك إذا كان عدد الرجال المصلين فيه دون ذلك، وأما إن كانوا أكثر من ذلك فالثواب على عدد تضعيفهم. وكذلك قَالَ في تضعيف صلاة الجماعة بخمسة وعشرين جزءًا في مسجد أو غيره على صلاة الفذ.

قَالَ: وفي صلاة المسجد الحرام بمائة ألف فيما سواه، وهذا سلف، وفي مسجد إيلياء بخمسمائة على ما سواه، وفي الجامع حيث المنبر والخطبة بخمس وسبعين على ما سواه من المساجد. قَالَ في ذلك كله: إن كانوا أكثر مما في الموضع من التضعيف كان التضعيف على العدد، وإن كانوا أقل أو مثل ذلك فعلى ما جاء فيه. قَالَ: وبذلك جاءت الروايات.

فائدة: في "الأوسط" للطبراني من حديث أبي هريرة "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الخيف، ومسجد الحرام، ومسجدي هذا" ثم قَالَ: لم يروه عن كلثوم إلا حماد بن سلمة

(1)

. ولم يذكر مسجد الخيف في شد الرحال إلا في هذا الحديث.

وقال البخاري: لا يتابع خُثيم في ذكر مسجد الخيف، ولا يعرف له سماع من أبي هريرة

(2)

.

(1)

"الأوسط" 5/ 211 (5110).

(2)

"التاريخ الكبير" 3/ 210 (718) ترجمة: خثيم بن مروان.

ص: 236

ومن الموضوعات من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده إلحاق مسجد الجَنَد بالثلاثة

(1)

. وقد أسلفنا عن ابن التين أن ابن مسلمة أضاف إليهن رابعًا، وهو: مسجد قباء.

فائدة:

فضلت مكة المدينة من وجوه:

وجوب قصدها للحج والعمرة، وهما واجبان.

ووجوب الإحرام لهما.

إقامته بمكة ثلاث عشرة أو خمس عشرة بخلاف المدينة فإنه عشر سنين.

أنها أكثر طارقًا من المدينة سيما من الأنبياء والمرسلين، آدم فمن دونه الذين حجوها.

التقبيل والاستلام.

وجوب استقبال كعبتها حيثما كنا.

حرمة استدبارها واستقبالها عند قضاء الحاجة.

أن حرمتها يوم خلق الله السماوات والأرض.

بوأها الله تعالى لإبراهيم، وابنه إسماعيل. ومولدًا لسيد الأمة. حرمًا آمنًا في الجاهلية والإسلام.

قوله تعالى فيها: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ} [التوبة: 28] عبر بالمسجد الحرام عن الحرم كله.

الاغتسال لها، وكذا المدينة.

(1)

ذكره في "التمهيد" 38/ 23. وقال: حديث منكر لا أصل له.

ص: 237

‌2 - باب مَسْجِدِ قُبَاءٍ

1191 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -[هُوَ: الدَّوْرَقِيُّ]- حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما كَانَ لَا يُصَلِّي مِنَ الضُّحَى إِلاَّ فِي يَوْمَيْنِ: يَوْمَ يَقْدَمُ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقْدَمُهَا ضُحًى، فَيَطُوفُ بِالبَيْتِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ المَقَامِ، وَيَوْمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ، فَإِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ. قَالَ: وَكَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا. [1193، 1194، 7326 - مسلم: 1399 - فتح: 3/ 68]

1192 -

قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يَصْنَعُونَ، وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، غَيْرَ أَنْ لَا تَتَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا. [انظر: 582 - مسلم: 828 - فتح: 3/ 68]

ذكر فيه حديث ابن عمر: أَنَّه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَزُورُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا.

ثم ترجم عليه:

ص: 238

‌3 - باب مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ

1193 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا.

وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَفْعَلُهُ. [انظر: 1191 - مسلم: 1399 - فتح: 3/ 69]

ثم ذكره بزيادة: كُلَّ سَبْتٍ. وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يَفْعَلُهُ.

ثم ترجم عليه:

ص: 239

‌4 - باب إِتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا

1194 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْتِى قُبَاءً رَاكِبًا وَمَاشِيًا.

زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ عَنْ نَافِعٍ: فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. [انظر: 1191 - مسلم: 1399 - فتح: 3/ 69]

ثم ذكره بزيادة: فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ.

فأما الحديث الأول فأخرجه مسلم

(1)

، وكذا الثالث

(2)

والثاني أخرجاه

(3)

.

وزعم الطرقي أن أبا داود أخرجه ولم يعزه ابن عساكر إليه. وفي "أخبار المدينة" لابن شبة من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيه صبيحة سبع عشرة من رمضان

(4)

.

ومن حديث الدراوردي عن شريك بن عبد الله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء يوم الاثنين. و (قباء) يذكر ويؤنث، ويمد ويقصر، ويصرف ولا يصرف، ست لغات، والأفصح المد مع التذكير والصرف.

ومنع ابن التين القصر فقال: هو ممدود على كل حال. وهو من عوالي المدينة قريب منها. وقال في "المطالع": إنه على ثلاثة أميال منها. قَالَ: وأصله باسم بئر هناك، وألفه واو.

(1)

"صحيح مسلم" برقم (1399) كتاب: الحج، باب: فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته.

(2)

"صحيح مسلم" برقم (1399) السابق.

(3)

"صحيح مسلم" برقم (828) كتاب: صلاة المسافرين، باب: الأوقات التى نهي عن الصلاة فيها.

(4)

"أخبار المدينة المنورة" 1/ 44.

ص: 240

وقال البكري: وقباء موضع آخر في طريق مكة من البصرة

(1)

، وهو مسجد بني عمرو بن عوف، وهو أول مسجد أسس على التقوى على قول ستعلمه. وأول من وضع فيه حجرًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر، ثم عمر.

والحديث دال على فضله، وفضل مسجده والصلاة فيه، وزيارته راكبًا وماشيًا، وهكذا جميع المواضع الفاضلة تزار كذلك.

وفي إتيانه إياه يوم السبت دلالة على جواز تخصيص بعض الأيام ببعض الأعمال الصالحة، والمداومة على ذلك.

وأصل مذهب مالك كراهة تخصيص شيء من الأوقات بشيء من القرب إلا ما ثبت به توقيف، حكاه القرطبي

(2)

.

وقال النووي: الصواب جواز تخصيص بعض الأيام (بالزيارة)

(3)

، وكره ابن مسلمة المالكي ذلك. ولعله لم تبلغه الأحاديث

(4)

.

ثم إتيانه مسجد قباء دال على أن ما قرب من المساجد الفاضلة التي في المصر لا بأس أن يؤتى ماشيًا وراكبًا، ولا يكون فيه ما نهى أن تعمل المطي إليه، قاله الداودي، قَالَ: ولم يذكر فيه أنه كان يصلي فيه إذا أتاه ضحى، وكان هو يصلي فيه؛ لئلا يخرج منه حتى يصلي. وقال بعضهم: إتيانه إياه مع أن مسجده أفضل؛ لتكثر المواضع التي يتقرب إلى الله فيها.

قَالَ ابن التين: وهذا كما قَالَ مالك أن التنفل في البيوت أحب إليه منه في مسجد الرسول إلا للغرباء، فإن تنفلهم في مسجده أحب إليه.

(1)

"معجم ما استعجم" 3/ 1045 - 1046.

وانظر: "معجم البلدان" 4/ 302 - 303.

(2)

"المفهم" 3/ 510.

(3)

في الأصل: بالزيادة، خطأ.

(4)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 9/ 171.

ص: 241

وقال ابن رشد: إنما كان يأتيه لمواصلة الأنصار، والاجتماع بهم فيه، لا لصلاة فريضة، ولا نافلة؛ لأن صلاة الفريضة في مسجده، والنافلة في بيته أفضل.

وقال الطحاوي: ما روي من إتيانه ليصلي فيه ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أن يكون الراوي قاله من عنده؛ لعلمه أنه (لا يجلس)

(1)

فيه إلا صلى فيه قبل أن يجلس. على أن قوله: (فيصلي فيه) حرف انفرد به واحد من الرواة، وعسى أن يكون وهمًا؛ لأن الجماعة أولى بالحفظ من الواحد. فأما صلاته في بيته التطوع فأفضل من الصلاة في مسجده. ومسجده فوق مسجد قباء في الفضل، فتكون صلاته في مسجد قباء لأجل التحية.

وجاء في مسجد قباء: "صلاة فيه كعمرة"رواه ابن ماجه، والترمذي من حديث أسيد بن ظهير الأنصاري رضي الله عنه. قَالَ الترمذي: وفي الباب عن سهل بن حنيف: وحديث أسيد غريب، لا نعرف له شيئًا يصح غيره

(2)

.

ورواه ابن أبي شيبة من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبيه مرفوعًا

(3)

، وروي (عن)

(4)

سعد بن أبي وقاص، وابن عمر أنهما قالا ذلك

(5)

.

(1)

في الأصل: ليجلس. وهو خطأ، وما أثبثناه الموافق للسياق.

(2)

"سنن الترمذي" برقم (324) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة في مسجد قباء. و"سنن ابن ماجه" برقم (1411) كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في الصلاة في مسجد قباء.

وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1159).

(3)

"المصنف" 2/ 151 (7529) كتاب: الصلوات، باب: في الصلاة في مسجد قباء.

(4)

من (ج).

(5)

"المصنف" 2/ 151 (7531 - 7532).

ص: 242

واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى على قولين:

أحدهما: أنه مسجد المدينة، قَالَه ابن عمر، وابن المسيب

(1)

، ومالك في رواية أشهب

(2)

.

ووجهه ما أخرجه الترمذي من حديث أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قَالَ: امترى رجل من بني خدرة، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أُسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر: هو مسجد قباء. فأتيا رسول الله- صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال:"هذا -يعني: مسجده- وفي ذلك خير كثير" قَالَ الترمذي: حديث حسن صحيح

(3)

.

ورواه وكيع، عن ربيعة بن عثمان، حَدَّثَني عمران بن أبي أنس، عن سهل قَالَ: اختلف رجلان فذكره

(4)

.

(1)

رواه عنهما ابن أبي شيبة 2/ 150 - 151 (7522 - 7524)، (7526) كتاب: الصلوات، باب: في المسجد الذي أسس على التقوى.

(2)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 8/ 259.

(3)

"سنن الترمذي" برقم (323) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في المسجد الذي أسس على التقوى.

وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(266).

(4)

روى هذا الحديث ابن أبي شيبة في "مصنفه" 2/ 150 (7521) كتاب: الصلوات، باب: في المسجد الذي أسس على التقوى، وأحمد 5/ 331، وعبد بن حميد في "المنتخب" 1/ 420 (466)، والطبري في "تفسيره" 6/ 475 (17232)، وابن حبان في "صحيحه" 4/ 482 (1604) كتاب: الصلاة، باب: المساجد، والطبراني 6/ 207 (6025).

وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 34، وقال: رواه كله أحمد والطبراني باختصار ورجالهما رجال الصحيح.

ص: 243

وعن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله

(1)

.

وذكر الدارقطني عن كثير بن الوليد، عن مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وهو قول ابن عمر، وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس.

والثاني: أنه مسجد قباء، وهو قول مجاهد، وعروة، وقتادة

(2)

، والبخاري -فيما حكاه ابن التين- وابن عباس، والضحاك، والحسن

(3)

فيما حكاه ابن النقيب. قَالَ تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ} وهذا يقتضي السبق، ومسجد قباء أسبق {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] وهم أهل مسجد قباء. كما أخرجه الترمذي من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة. وقال: غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي أيوب، وأنس، ومحمد بن عبد الله بن سلام

(4)

. وأخرجه الدارقطني من حديث أبي أيوب، وجابر، وأنس، وكذا الطحاوي من حديثهم

(5)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 150 (7520) كتاب: الصلوات، باب: في المسجد الذي أسس على التقوى، والطبري في "تفسيره" 6/ 474 (17221)، والحاكم 2/ 334 كتاب: التفسير.

وقال الذهبي: صحيح.

(2)

ذكر عنهم ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 501.

(3)

رواه عن ابن عباس الطبري في "تفسيره" 6/ 474 (17226 - 17227).

وذكرها عنهم جميعًا ابن الجوزي في "زاد المسير" 3/ 501.

(4)

"سنن الترمذي"(3100) كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التوبة- وقال الألباني في "صحيح الترمذي": صحيح.

(5)

"شرح مشكل الآثار" 1/ 421 - 422 (398)(تحفة) وقال: حديث متصل.

ص: 244

قَالَ ابن العربي: وثبت أن ناسًا من المنافقين بنوا مسجدًا، وكانوا ينتمون إلى بني عمرو بن عوف، وقالوا: يا رسول الله، بنيناه لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة، وقصدوا الفرار به عن مسجد قباء، فاعتذر رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، وأخرهم إلى قدومه

(1)

. فلما قدم أنزل الله: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} الآية. قَالَ: ولا خلاف أنهم أهل قباء. والأثر مشهور جدًّا صحيح عن جماعة لا يحصون عدًّا، فهو أولى من العمل بحديث أبي سعيد.

وبوب البخاري في باب هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم: أسس النبي صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف المسجد الذي أسس على التقوى

(2)

. ولا شك أن أولئك الرجال قد كانوا في مسجده صلى الله عليه وسلم؛ لأن مسجده كان معمورًا بالمهاجرين والأنصار، وما سواهم ممن صحبه، قاله الطحاوي

(3)

.

قَالَ: والحديث الذي ذكره ابن العربي روي عن سعيد بن جبير، وهو منقطع لا تقاوم بمثله الأحاديث المتصلة، قَالَ: فثبت أنه مسجد المدينة لا مسجد قباء

(4)

.

(1)

"أحكام القرآن" 2/ 1012.

(2)

سيأتي برقم (3906) كتاب: مناقب الأنصار. وهو حديث طويل.

(3)

"شرح المشكل" 1/ 423.

(4)

القائل الذي عناه المصنف في هذِه العبارة هو الطحاوي، وهو نص كلامه في "شرح المشكل" 1/ 423 لكنه خلط في قوله: والحديث الذي ذكره ابن العربي فلا يمكن للطحاوي أن ينقل عن ابن العربي؛ لأن الطحاوي توفي في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وولد ابن العربي في سنة ثمان وستين وأربعمائة!

لكن المصنف يقصد أن الطحاوي ذكر الحديث الذي ذكره ابن العربي وهو الحديث الذي رواه الطحاوي (420): حدثنا: إبراهيم بن مرزوق، حدثنا عارم، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال: .. الحديث.

ص: 245

قَالَ السهيلي وغيره: وبمكن أن يكون كلاًّ منهما أسس على التقوى، غير أن قوله:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يرجح الأول؛ لأن مسجد قباء أسس قبل مسجده، غير أن اليوم قد يراد به المدة والوقت، وكلاهما أسس على هذا من أول يوم، أي: من أول عام من الهجرة.

وقد اختلف فيمن نذر الصلاة في مسجد قباء، فذكر ابن حبيب عن ابن عباس أنه أوجبه فيه. وفي كتاب ابن المواز: لا، إلا أن يكون قريبًا جدًّا فليأته، فليصل فيه.

قَالَ ابن حبيب: قَالَ مالك: إن كان معه في البلد مشى إليه وصلى فيه.

وقال ابن التين: أوجب ابن عباس مشيه على من نذره من المدينة.

قَالَ: ولا خلاف أن إتيانه قربة لمن قرب منه، وليس ذلك بمخالف للنهي عن شد الرحال لغير الثلاثة؛ لأن إتيانه من المدينة ليس من باب شد الرحال، ولا إعمال المطي؛ لأنه من صفات الأسفار المتباعدة، وقطع المسافات الطويلة، ولا يدخل في ذلك أيضًا ركوبه إلى مسجدٍ قريب لجمعة وغيرها؛ لأنه جائز إجماعًا، بل هو واجب في بعض الأحيان.

ولو أن آتيًا أتى قباء من بلد بعيد، وتكلف فيه من السفر ما يوصف بشد الرحال، وإعمال المطي لكان مرتكبًا للنهي على هذا القول.

وقال محمد بن مسلمة في "المبسوط": من نذر أن ياتى مسجد قباء فيصلي فيه لزمه ذلك. والأول أظهر

(1)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في التاسع بعد التسعين. كتبه مؤلفه، غفر الله له.

ص: 246

‌5 - باب فَضْلِ مَا بَيْنَ القَبْرِ وَالمِنْبَرِ

1195 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْر، عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ المَازِنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ". [مسلم: 1390 - فتح: 3/ 70]

1196 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي". [1888، 6588، 7335 - مسلم: 1391 - فتح: 3/ 70]

ذكر فيه حديث عبد الله (س) بن زيد المازني أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا بَيْنَ بَيْتي وَمِنْبَرِي رَوْضَة مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ".

وحديث خبيب بن عبد الرحمن -بضم الخاء المعجمة- عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

بمثله وزاد: "وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي".

أخرجهما مسلم في الحج

(1)

، والثاني يأتي في الحج، والحوض، والاعتصام

(2)

.

وروى الثاني مالك به، لكنه قَالَ: عن أبي هريرة، أو أبي سعيد

(3)

،

(1)

"صحيح مسلم" برقم (1390 - 1391) باب: ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة.

(2)

برقم (1888) كتاب: فضائل المدينة، باب: كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، وبرقم (6588) كتاب: الرقاق، باب: في الحوض، وبرقم (7335) باب: ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم ..

(3)

"الموطأ" 1/ 201 - 202 (518) في الجمعة، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد.

ص: 247

وانفرد معن بن عيسى، وروح بن عبادة فقالا: عن أبي هريرة، وأبي سعيد من غير شك

(1)

.

وروي عن مالك بإسقاط أبي سعيد

(2)

. والحديث محفوظ لأبي هريرة، نبه على ذلك أبو عمر

(3)

.

قَالَ الداني في "أطرافه": وتابع عبيد الله العمري عن خبيب جماعة

(4)

. ورواه محمد بن سليمان البصري، عن مالك، عن ربيعة، عن سعيد، عن ابن عمر قَالَ: أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وضعت منبري على ترعة من ترع الجنة، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"

(5)

ولم يتابع عليه، وابن سليمان ضعيف.

وروى أحمد بن يحيى الكوفي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا:"ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"

(6)

وهو إسناد

(1)

رواه ابن عبد البر في "التمهيد" 2/ 285.

(2)

هذِه الرواية في "التمهيد" 2/ 286 - 287.

(3)

"التمهيد" 2/ 286.

(4)

"الإيماء إلى أطراف أحاديث كتاب الموطأ" 3/ 268.

(5)

رواه الطحاوي في "المشكل- تحفة الأخيار" 3/ 370 (1870) في الحج، باب: بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" 4/ 72، وأبونعيم في "الحلية" 3/ 264، 6/ 341، وقال: هذا حديث غريب من حديث ربيعة تفرد به محمد بن سليمان عن مالك عنه. قلت: ومحمد بن سليمان. قال ابن عبد البر: ضعيف، وقال الأسدي: منكر الحديث. "لسان الميزان" 6/ 152 ترجمة (7492).

(6)

رواه بهذا الإسناد الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" كما في "تحفة الأخيار" 3/ 371 (1873) كتاب: الحج، باب: مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "بين قبري ومنبري .. "، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" 4/ 72، والخطيب في "تاريخ بغداد" 12/ 160.

ص: 248

خطأ كما قاله أبو عمر

(1)

. ومن الموضوعات: حديث ابن عمر المرفوع: "ما بين منبري وقبري و (اصطوانة)

(2)

التوبة روضة من رياض الجنة"

(3)

.

إذا تقرر ذلك، فالصحيح في الرواية:"بيتي" وروي مكانه: "قبري"، وجعله بعضهم تفسيرًا و"بيتي"، قاله زيد بن أسلم، والظاهر بيت سكناه، والتأويل الآخر جائز؛ لأنه دفن في بيت سكناه. وروي:"ما بين حجرتي ومنبري"

(4)

والقولان متفقان؛ لأن قبره في حجرته، وهي بيته.

وقام الإجماع على أن قبره أفضل بقاع الأرض كلها، والروضة في كلام العرب: المكان المطمئن من الأرض فيه النبت والعشب

(5)

. وحمل كثير من العلماء الحديث على ظاهره فقالوا: ينقل ذلك الموضِع بعينه إلى الجنة، قَالَ تعالى:{وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] دلت أن الجنة تكون في الأرض يوم القيامة، ويحتمل أن يريد به أن العمل الصالح في ذلك الموضع يؤدي بصاحبه إلى الجنة كما قَالَ صلى الله عليه وسلم:"ارتعوا في رياض الجنة"

(6)

يعني: حلق الذكر والعلم لما كانت مؤدية

(1)

"التمهيد" 17/ 181.

(2)

كذا بالأصل، والتصحيح من "اللسان" و"القاموس".

(3)

رواه الإسماعيلي في "مسند عمر بن الخطاب" كما في "لسان الميزان" 4/ 64 في ترجمة عبد الملك بن زيد الطائي، من حديث عمر لا ابنه.

(4)

رواه أحمد 2/ 534.

(5)

انظر: "لسان العرب" 3/ 1775.

(6)

رواه الترمذي برقم (3509) كتاب: الدعوات، قال: هذا حديث حسن غريب. عن أبي هريرة.

وله شاهد رواه الترمذي برقم (3510) كتاب: الدعوات. قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس.

وأحمد 3/ 150، وأبو يعلى 6/ 155 (3432)، والطبراني في "الدعاء" 3/ 1643 - 1644 (1890)، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 398 (529) باب: =

ص: 249

إلى الجنة، فيكون معناه التحريض على زيارة قبره رضي الله عنه، والصلاة في مسجده، وكذا:"الجنة تحت ظلال السيوف"

(1)

واستبعده ابن التين، وقال: يؤدي إلى السفسطة والشك في العلوم الضرورية. وقال: إنها من رياض الجنة الآن، حكاه ابن التين، وأنكره. قَالَ: والعمل على التأويل الثاني يحتمل وجهين:

أحدهما: أن اتباع ما يتلى فيه من القرآن والسنة يؤدي إلى رياض الجنة، فلا يكون فيها للبقعة فضيلة إلا لمعنى اختصاص هذِه المعاني دون غيرها.

والثاني: أن يريد أن ملازمة ذلك الموضع بالطاعة يؤدي إليها؛ لفضيلة الصلاة فيه على غيره. قَالَ: وهو أبين؛ لأن الكلام إنما خرج على تفضيل ذلك الموضع، وذلك أن مالكًا في "موطئه" أدخله في فضل الصلاة في مسجده على سائر المساجد

(2)

، ويشبه أن يكون تأول هذا الوجه، وإنما خصت الروضة بهذا؛ لأنها ممره بينه وبين منبره، ولصلاته فيها.

وقال الخطابي: معنى الحديث تفضيل المدينة، وخصوصًا البقعة

= في محبة الله عز وجل. من حديث أنس.

وله شاهد رواه أبو يعلى في "مسنده" 3/ 390 - 391 (1865 - 1866)، والحاكم 1/ 494 - 495 كتاب: الدعاء. وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: عمر ضعيف.

والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 397 - 398 (528) باب: في محبه الله عز وجل. من

حديث جابر

وضعف الألباني الأول في "ضعيف الترمذي".

وحسَّن الثاني في "صحيح الترمذي".

(1)

سيأتي برقم (2818) كتاب: الجهاد والسير، باب: الجنة تحت بارقة السيوف.

(2)

"الموطأ" 1/ 201 - 202 في الجمعة، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد.

ص: 250

التي بين البيت والمنبر، يقول: من لزم الطاعة فيها آلت به إلى روضة من رياض الجنة، ومن لزم العبادة عند المنبر سقي في الجنة من الحوض

(1)

.

وقال أبو عمر: كأنهم يعنون أنه لما كان جلوسه، وجلوس الناس إليه يتعلمون القرآن والدين والإيمان هناك شبه ذلك الموضع بروضة لكريم ما يجتبى فيه، وإضافتها للجنة؛ لأنها تقود إليها كما قَالَ:"الجنة تحت ظلال السيوف"، يعني أنه عمل يوصل بذلك إلى الجنة، وكما يقال: الأم باب من أبواب الجنة. يريد أن برها يوصل المسلم إلى الجنة

(2)

. مع أداء فرائضه، وهذا جائز شائع مستعمل في لسان العرب تسمية الشيء بما يئول إليه ويتولد عنه.

قَالَ: وقد استدل أصحابنا على أن المدينة أفضل من مكة بهذا الحديث، وركّبوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها"

(3)

. ولا دليل فيه، وقد سلف. وقوله صلى الله عليه وسلم:("ومنبري على حوضي") أي: بجانبه، قاله الداودي. قَالَ ابن التين: وفيه نظر. وفي رواية أخرى سلفت: "على ترعة من ترع الجنة"

(4)

والترعة: الدرجة

(5)

.

والأظهر: أن المراد به منبره الذي كان يقوم في الدنيا عليه، يعيده الله بعينه، ويرفعه، ويكون في الحوض، ونقله القاضي عن أكثر العلماء

(6)

.

وقيل: إن له هناك منبرًا على حوضه يدعو الناس إليه. وإن كان ابن

(1)

"أعلام الحديث" 1/ 649.

(2)

"الاستذكار" 7/ 234.

(3)

سيأتي برقم (3250) كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة. وانظر: "الاستذكار" 7/ 235.

(4)

سلف تخريجه في حديث (1196).

(5)

انظر: "لسان العرب" 1/ 428.

(6)

"إكمال المعلم" 4/ 509.

ص: 251

التين قَالَ: إنه ليس بالبين، إذ ليس في الخبر ما يقتضيه. وقد قدمنا عنه استبعاد تأويل ما سلف، وقال: إنه سفسطة، فكيف تأول هنا بأن لزومه الطاعة يؤدي إلى ورود حوضه؟ بل يمره على ظاهره، ولا مانع من ذلك

(1)

. وقيل: معناه أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة فيه يورد صاحبه الحوض، ويقتضي شربه منه. وسيأتي الكلام على حوضه في بابه إن شاء الله.

وللباطنية في هذا الحديث من الغلو والتحريف ما لا ينبغي أن يلتفت إليه، كما نبه عليه القرطبي، ففي الصحيح: أن في أرض المحشر أقوامًا على منابر؛ تشريفًا لهم وتعظيمًا كما قَالَ: "إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة"

(2)

، وإذا كان ذلك في أئمة العدل، فأحرى الأنبياء، وإذا كان ذلك للأنبياء فأولى بذلك سيدهم، فيكون منبره بعينه، ويزاد فيه ويعظم ويرفع وينور على قدر منزلته، حَتَّى لا يكون لأحد في ذلك اليوم منبر أرفع منه

(3)

لسيادته وسؤدده.

والإيمان بالحوض عند جماعة علماء المسلمين واجب الإقرار به، وقد نفاه أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، فإنهم لا يصدقون لا بالشفاعة ولا بالحوض ولا بالدجال. ثم ذكر أحاديث الحوض من طرق.

والحوض هو: الكوثر. حافتاه قباب اللؤلؤ وتربته المسك، وفيه آنية لا يعلم عددها إلا الله، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدًا، وفيما أورده البخاري دلالة واضحة على ما ترجم له، وهو فضل ما بين القبر والمنبر، وتفسير القبر بالبيت.

(1)

ورد في الأصل عبارة: والأظهر أن المراد به منبره وعليها علامة (زائد من

إلى).

(2)

رواه مسلم (1827) كتاب: الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل.

(3)

"المفهم" 3/ 503 - 504.

ص: 252

‌6 - باب مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ

1197 -

حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ، سَمِعْتُ قَزَعَةَ -مَوْلَى زِيَادٍ -قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ بِأَرْبَعٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْجَبْنَنِي وَانَقْنَنِي، قَالَ:"لَا تُسَافِرِ المَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلاَّ مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ. وَلَا صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ: الفِطْرِ وَالأَضْحَى، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاتَيْنِ: بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ، وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى، وَمَسْجِدِي". [انظر: 586 - مسلم: 827 - فتح: 3/ 70]

ذكر فيه حديث قزعة مولى زياد: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه يُحَدِّثُ بِأَرْبَعٍ عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْجَبْنَيي وَانَقْنَنِي .. الحديث.

سلف في أول باب فضل الصلاة في مسجد مكة

(1)

، والآنق -بالفتح-: الفرح والسرور. وكذا ضبطه الدُّمياطي وشرحه بذلك، وحذف الكلام عليه ابن بطال

(2)

رأسًا لتقدمه في الباب المذكور. وقال ابن التين: آنقنني، أي: فرحني. قَالَ: وفي رواية أخرى: وآثقنني. بالثاء المثلثة، وفي رواية بالمثناة، قَالَ: ولا وجه لها في اللغة.

وقولى: ("ولا صلاة بعد الصبح حَتَّى تطلع الشمس"). قَالَ ابن التين: فيه دليل لنا على الشافعي أن من صلى الصبح لا يركع ركعتي الفجر إذا لم يكن ركعهما، وقد سلف ذكره.

وقوله: ("ولا صلاة بعد العصر حَتَّى تغرب الشمس")

(3)

أي: بعد فعلها. ويحتمل أن المراد: بعد الفراغ منها وإن لم يفعل هو، كما في

(1)

برقم (1188) كتاب: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة.

(2)

انظر "شرح ابن بطال" 3/ 185 انتقل من الباب السابق إلى التالي دون إشارة.

(3)

سلف برقم (586) في المواقيت، باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس.

ص: 253

حديث أبي سعيد الآخر

(1)

.

ولا خلاف بين الأمة في جواز فعل صلاة اليوم عند الطلوع والغروب لمن فاتته، إلا ما يروى عن أبي طلحة ولا يثبت.

وفي "رءوس المسائل" عن أبي حنيفة: لا يصلي حينئذ صبح يومه، ويصلي عصر يومه. قَالَ عنه: ولو افتتح الصبح فطلعت الشمس بعد أن صلى ركعة بطلت صلاته وإن كان صبح يومه. وانفرد أبو حنيفة فقال: لا يجوز فعل الفائته وقت النهي

(2)

.

واحتج بهذا الحديث، وهو عندنا مقصور على النافلة، ويرد عليه بحديث:"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"

(3)

وهو عام في سائر الأوقات ويخص خبره السالف، فيكون معناه: إلا الفوائت، بدلالة هذا الخبر.

وصلاة الجنازة إذا خرج الوقت المختار للصبح والعصر فيها قولان للمالكية: أشهرهما: لا تفعل

(4)

. وسجود التلاوة يجري مجرى ذلك. وفي الخسوف أربع روايات عندهم.

(1)

سيأتي برقم (1864) كتاب: جزاء الصيد، باب: حج النساء.

(2)

انظر: "بدائع الصنائع" 1/ 127.

(3)

سبق برقم (597) في مواقيت الصلاة، باب: من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة.

(4)

انظر: "المدونة" 1/ 171 - 172.

ص: 254

21

كتاب العمل في الصلاة

ص: 255

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

‌21 - كتاب العمل في الصلاة]

(1)

‌1 - باب اسْتِعَانَةِ اليَدِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْتَعِينُ الرَّجُلُ فِي صَلَاتِهِ مِنْ جَسَدِهِ بِمَا شَاءَ. وَوَضَعَ أَبُو إِسْحَاقَ قَلَنْسُوَتَهُ فِي الصَّلَاةِ وَرَفَعَهَا. وَوَضَعَ عَلِيٌّ كَفَّهُ عَلَى رُصْغِهِ الأَيْسَرِ، إِلاَّ أَنْ يَحُكَّ جِلْدًا أَوْ يُصْلِحَ ثَوْبًا.

1198 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ كُرَيْبٍ -مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها -وَهْىَ: خَالَتُهُ - قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ عَلَى عَرْضِ الوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ، فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ العَشْرَ آيَاتٍ خَوَاتِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَي

(1)

غير موجود بالأصل، والمثبت من مطبوع "البخاري".

ص: 257

شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي اليُمْنَى يَفْتِلُهَا بِيَدِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ المُؤَذِّنُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ. [انظر: 117 - مسلم: 763 - فتح: 3/ 71]

ثم ذكر حديث ابن عباس ومبيته عند ميمونة بطوله.

الشرح:

قوله في أثر أبي إسحاق: (ورفعها) كذا في الأصول، وفي بعضها: أو رفعها. بالألف، وحكاه صاحب "المطالع" خلافًا في الرواية وقال: حذفها هو الصواب.

وقوله: (على رصغه). قال ابن التين: وقع في البخاري بالصاد، وهو لغة في الرسغ بالسين، قاله الخليل، قال: وقال غيره: صوابه بالسين وهو مفصل الكف في الذراع، والقدم في الساق.

وقوله: (إلا أن يحك .. ) إلى آخره هو من قول البخاري.

وحديث ابن عباس في مبيته سلف من أول البخاري إلى هنا في اثني عشر موضعًا

(1)

، ويستثنى من الاستعانة في الصلاة الاختصار، فإنه مكروه، وهو وضع اليد على الخاصرة، والنهي إما لأنه فعل الجبابرة، أو اليهود في صلاتهم كما سيأتي

(2)

.

ووضع الكف على الرسغ كرهه مالك في الفريضة، وأجازه في

(1)

سلف أول موضع برقم (117) كتاب: العلم، باب: السمر في العلم.

(2)

برقم (3458) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل.

ص: 258

النافلة لطول القيام

(1)

، وقد سلف، وروي أنه صلى الله عليه وسلم أغلق بابًا بين يديه وهو في الصلاة

(2)

.

ورأى ابن عمر ريشة في الليل فظنها عقربًا فضربها برجله

(3)

، وقد كره ذلك مالك، إلا أن يؤذيه في رواية ابن القاسم، وفي رواية عنه: لا بأس به، وفيها الفعل

(4)

.

وكان صلى الله عليه وسلم يغمز عائشة بيده إذ سجد فتقبض رجليها

(5)

.

وهذا كله دليل على أن الفعل اليسير الذي لا يقع معه كبير شغل لا يؤثر في إبطال الصلاة، ويكره لغير عذر، ثم العمل في الصلاة القليل عندنا مغتفر دون الكثير، وقسمه المالكية ثلاثة أقسام: يسير جدًّا، كالغمز وحك الجسد والإشارة فمغتفر عمده وسهوه، وكذا التخطي إلى الفرجة القريبة، وأكثر من هذا يبطل عمده دون سهوه كالانصراف من الصلاة والمشي الكثير، والخروج من المسجد يبطل عمده وسهوه.

(1)

"المدونة" 1/ 76.

(2)

رواه أبو داود برقم (922) كتاب: الصلاة، باب: العمل في الصلاة. والترمذي برقم (601) كتاب: الصلاة، باب: ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع. والنسائي 3/ 11 كتاب: السهو، باب: المشي أمام القبلة خطى يسيرة. وأحمد 6/ 31. وابن حبان في "صحيحه" 6/ 119 (2355) كتاب: الصلاة، باب: ما يكره للمصلي. والبيهقي 2/ 265 - 266 كتاب: الصلاة، باب: من تقدم أو تأخر في صلاته من موضع إلى موضع. من حديث عائشة قال الترمذي: حسن غريب. وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (855). وقال الذهبي في "المهذب" 2/ 704 (3048): برد وثقوه وضعفه ابن المديني.

(3)

روى عنه ذلك ابن أبي شيبة 1/ 432 (4971) كتاب: الصلوات، باب: في قتل العقرب في الصلاة.

(4)

"النوادر والزيادات" 1/ 237.

(5)

سيأتي هنا برقم (1209) باب: ما يجوز من العمل في الصلاة.

ص: 259

واختلف في الأكل والشرب في السهو، قَالَ ابن القاسم: يبطل كالعمد. وقال ابن حبيب: لا، إلا أن يطول جدًا كسائر الأفعال. وهذا الباب هو من باب العمل اليسير في الصلاة، وهو معفو عنه عند

العلماء.

والاستعانة باليد في الصلاة في هذا الحديث: هو وضع الشارع يده على رأس ابن عباس، وفتله أذنه.

واستنبط البخاري منه: أنه لما جاز للمصلي أن يستعين بيده في صلاته فيما يخص به غيره على الصلاة ويعينه عليها وينشط لها كان استعانته في أمر نفسه؛ ليقوى بذلك على صلاته وينشط لها إذا احتاج إلى ذلك أولى.

وقد اختلف السلف في الاعتماد في الصلاة والتوكؤ على الشيء، فذكر البخاري عن ابن عباس وعليًّ ما سلف، وقالت طائفة: لا بأس أن يستعين في صلاته بما شاء من جسده وغيره.

ذكره ابن أبي شيبة. قَالَ: كان أبو سعيد الخدري يتوكأ على عصاه.

وعن أبي ذر مثله، وعن عطاء: كان أصحاب محمد يتوكئون على العصا في الصلاة. وأوتد عمرو بن ميمون وتدًا إلى حائط، فكان إذا سئم القيام في الصلاة أو شق عليه أمسك بالوتد يعتمد عليه

(1)

.

وقال الشعبي: لا بأس أن يعتمد على الحائط. وكرهت ذلك طائفة، فروى ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كره أن يعتمد على الحائط في المكتوبة إلا من علة، ولم ير به بأسًا في النافلة

(2)

. ونحوه قَالَ مالك

(1)

"المصنف" 1/ 297 (3405 - 3407) كتاب: الصلوات، باب: من كان يتوكأ.

(2)

"المصنف" 1/ 424 (4877 - 4878) كتاب: الصلوات، باب: الرجل يعتمد على الحائط وهو يصلي.

ص: 260

في "المدونة"

(1)

. وكرهه ابن سيرين في الفريضة والتطوع

(2)

.

وقال مجاهد: إذا توكأ على الحائط ينقص من صلاته بقدر ذلك

(3)

.

وقد سلف في باب: ما يكره من التشديد في العبادة. زيادة في هذا المعنى.

وقول البخاري: (إلا أن يحك جلدًا أو يصلح ثوبُا) يريد: فإنه لا حرج عليه فيه؛ لأنه أمر عام لا يمكن الاحتراز منه.

(1)

"المدونة" 1/ 75.

(2)

رواه عنه ابن أبي شيبة 1/ 424 (4878).

(3)

"المصنف" 1/ 424 (4876).

ص: 261

‌2 - باب مَا يُنْهَى [عَنْهُ]

(1)

مِنَ الكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ

1199 -

حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَالَ:"إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا".

حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُرَيْمُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ. [1216 - 3875 - مسلم: 538 - فتح: 3/ 72]

1200 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عِيسَى -[هُوَ ابْنُ يُونُسَ]- عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ قَالَ لِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] الآيَةَ، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ. [4534 - مسلم: 539 - فتح: 3/ 72]

ذكر فيه حديث عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: كُنَا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُو فِي الصَّلاةِ، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ، سَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا وَقَالَ:"إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا"

(2)

.

وعَنْ عَبْدِ الله نَحْوَهُ.

وحديث أبي عمرو الشيباني: قَالَ لِي زيدُ بْنُ أَرْقَمَ: إِنْ كُنَّا لنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ، حَتَّى نَزَلَتْ:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] الآيَةَ، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.

(1)

ليست في الأصول، والمثبت من "الصحيح".

(2)

ورد بهامش الأصل ما يدل أنه في نسخة: لشغلا.

ص: 262

الشرح:

حديث ابن مسعود أخرجه هنا وفي باب: لا يرد السلام في الصلاة كما سيأتي، وفي هجرة الحبشة

(1)

. وأخرجه مسلم أيضًا

(2)

.

وفي رواية: ونأمر بحاجتنا، وفيه:"إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وأن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة"

(3)

.

وحديث زيد بن أرقم أخرجه مسلم أيضًا، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي

(4)

.

وللبخاري: ويسلم بعضنا على بعض، ويأتي قريبًا

(5)

. ولفظ

(1)

سيأتي برقم (1216) كتاب: العمل في الصلاة، باب: لا يرد السلام في الصلاة، وبرقم (3875) كتاب: مناقب الأنصار، باب: حجرة الحبشة.

(2)

"صحيح مسلم" برقم (538) كتاب: المساجد، باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته. ورمز فوقها في الأصل (د. س)[أبو داود (923، 924) والنسائي 3/ 19].

(3)

رواها أبو داود برقم (924) كتاب: الصلاة، باب: رد السلام في الصلاة. والنسائي 3/ 19 كتاب: السهو، باب: الكلام في الصلاة. والحميدي 1/ 205 - 206 (94). وأحمد 1/ 377. وأبو يعلى 8/ 384 (4971). وابن حبان في "صحيحه" 6/ 15 - 16 (2243) كتاب: الصلاة، باب: ما يكره للمصلى وما لا يكره. والبيهقي 2/ 248 كتاب: الصلاة، باب: ما لا يجوز من الكلام في الصلاة. وأيضًا 2/ 260 كتاب: الصلاة، باب: من رأى أن يرد بعد الفراغ من الصلاة. كلهم من حديث ابن مسعود. قال الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (857): إسناده حسن صحيح، وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين؛ غير أنهما أخرجا لعاصم -وهو ابن أبي النجود- مقرونًا بغيره.

(4)

"صحيح مسلم" برقم (539): كتاب: المساجد، باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، أبو داود (949)، الترمذي (405، 2986)، النسائي 3/ 18.

(5)

برقم (1202) كتاب: العمل في الصلاة، باب: من سمى قومًا أو سلم في الصلاة.

ص: 263

الترمذي: كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه حَتَّى نزلت:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِين} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام

(1)

.

وليس لأبي عمرو الشيباني عن زيد في "الصحيحين" غير هذا الحديث الواحد.

وعيسى في إسناده: هو ابن يونس. وذكر الترمذي عقب حديث زيد أن في الباب: عن ابن مسعود ومعاوية بن الحكم

(2)

.

إذا تقرر ذلك: فالمصلي مناج لربه جل جلاله، فواجب عليه أن لا يقطع مناجاته بكلام مخلوق، وأن يقبل على ربه ويلتزم بالخشوع، ويعرض عما سوى ذلك، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم:"إن في الصلاة لشغلًا" وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} والقنوت في هذِه الآية، كما قَالَ ابن بطال: الطاعة والخشوع لله تعالى

(3)

.

ولفظ الراوي يشعر أن المراد به: السكوت؛ لقوله: (حَتَّى). التي هي للغاية، والفاء التي تشعر بتعليل ما سبق، وقيل فيها غير ذلك، والأرجح حمله على ما أشعر به كلام الراوي، فإن المشاهدين للوحي والتنزيل يعلمون سبب النزول والقرائن المحتفة به، وقول الصحابي في الآية: نزلت في كذا، يتنزل منزلة المسند.

(1)

"سنن الترمذي" برقم (405) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في نسخ الكلام في الصلاة.

(2)

"سنن الترمذي" عقب الرواية (405). ورمز في الأصل فوق معاوية بن الحكم (م. د. س)[مسلم (537)، وأبو داود (930) والنسائي 3/ 15].

(3)

"شرح ابن بطال" 3/ 187.

ص: 264

وقوله: (وأمرنا بالسكوت). وفي رواية: ونهينا عن الكلام

(1)

، فكل ما يسمى كلامًا منهي عنه وما لا يسمى كلامًا، وأراد إلحاقه به فهو بطريق القياس، فليراع شرطه في مراعاة الفرع للأصل، واعتبر أصحابنا ظهور حرفين وإن لم يفهما فإنه أقل الكلام، وقام الإجماع على أن الكلام فيها عامدًا عالمًا بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك وشبهه تبطل الصلاة، وأما الكلام لمصلحتها فقال الأربعة والجمهور: تبطل أيضًا

(2)

.

وجوزه الأوزاعي وبعض أصحاب مالك، وطائفة قليلة؛ لأنه في تصحيح ما فيه من أمرها

(3)

.

واعلم أن حديث ابن مسعود وزيد بن أرقم صريحان في أن الكلام كان مباحًا في الصلاة ثم حرم.

واختلفوا: متى حرم؟ فقال قوم: بمكة. واستدلوا بحديث ابن مسعود ورجوعه من عند النجاشي إلى مكة. وقال آخرون: بالمدينة. بدليل حديث زيد بن أرقم، فإنه من الأنصار أسلم بالمدينة، وسورة البقرة مدنية، خصوصًا هذِه الآية، وقالوا: ابن مسعود لما عاد إلى مكة من الحبشة رجع إلى النجاشي إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز لبدر.

وقَالَ الخطابي: إنما نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة

(4)

.

(1)

رواه مسلم (539).

(2)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 3/ 215، "فتح الباري" لابن رجب 9/ 420، "الأوسط" 3/ 234، "المغني" 2/ 454.

(3)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 3/ 215 - 7/ 390، "التمهيد" 3/ 247.

(4)

"أعلام الحديث" 1/ 413.

ص: 265

وأجاب الأولون بأن الظاهر تجدد هذا الحال في غيبة ابن مسعود الأولى، فإنه قَالَ: فلما رجعنا من عند النجاشي. ولم يقل: في المرة الثانية.

وحملوا حديث زيد على أنه إخبار عن الصحابة المتقدمين، كما يقول القائل: قتلناكم وهزمناكم. يعنون: الآباء والأجداد.

وقول الخطابي يحتاج إلى تأريخ، والتأريخ بعيد كما نبه عليه ابن الجوزي، وأبدى ابن حبان فيه شيئًا حسنًا، فإنه قَالَ: قد توهم من لم يحكم صناعة العلم أن نسخ الكلام في الصلاة بالمدينة؛ لحديث زيد بن أرقم، وليس كذلك؛ لأن الكلام في الصلاة كان مباحًا إلى أن رجع ابن مسعود وأصحابه من عند النجاشي فوجدوا إباحة الكلام قد نسخت، وكان بالمدينة مصعب بن عمير يقرِّئ المسلمين ويفقههم، وكان الكلام بالمدينة مباحًا كما كان بمكة، فلما نسخ ذلك بمكة تركه الناس بالمدينة، فحكى زيد ذلك الفعل، لا أن نسخ الكلام كان بالمدينة

(1)

.

وقال ابن بطال: زعم الكوفيون أن حديث ابن مسعود وزيد ناسخ لقصة ذي اليدين

(2)

، وسيأتي ما فيه في موضعه قريبًا، والآثار متواترة على أن قدوم ابن مسعود من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لم يرد السلام كان بمكة، وإسلام أبي هريرة كان بالمدينة عام خيبر فلا نسخ إذن، لا يقال: إن حديث زيد ناسخ لحديث ذي اليدين لانتفاء التأريخ، غير أن زيدا أقدم إسلاما من أبي هريرة، ويحتمل أن يكون معنى حديث زيد: فأمرنا بالسكوت. يعني: إلا بما كان من الكلام في

(1)

"صحيح ابن حبان" 6/ 19 - 21.

(2)

"شرح ابن بطال" 3/ 220.

ص: 266

مصلحة الصلاة، فهو غير داخل في النهي عن الكلام فيها ليوافق حديث أبي هريرة، فلا تعارض إذن.

ودل حديث زيد على النوع المنهي عنه من الكلام في الصلاة، وهو قوله: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم أحدنا صاحبه لحاجته.

والأمة مجمعة على تحريم هذا النوع من الكلام في الصلاة على مثل ذلك.

دل حديث ابن مسعود أنهم كانوا يسلمون بعض على بعض في الصلاة، الحديث. فبان في الحديثين النوع المنهي عنه من الكلام في الصلاة لمصلحتها، وهذا تأويل أولى؛ لئلا تتضاد الأحاديث. وقال ابن التين: الكلام نوعان: سهو، ومحمد، فالعمد مبطل إذا لم يكن لإصلاحها، والسهو لا يبطلها ويسجد له، وهو قول الشافعي

(1)

.

وقال أبو حنيفة: تبطل صلاته بالكلام سهوًا إلا لفظ السلام، دليلنا خبر ذي اليدين، فإنه صلى الله عليه وسلم تكلم، وعنده أنه فرغ منها فلما تبين له بني، فإن قلتَ: هذا عند إباحة الكلام، بدليل أن ذا اليدين تكلم عامدًا، وكذلك أبو بكر وعمر ولم يستأنفوا

(2)

. فالجواب أن تحريم الكلام مكي، وقصة ذي اليدين مدنية. فإن قلتَ لي: إنما هو التحريم الأول. قلتُ: لا يُعرف التحريم إلا مرة.

وحديث زيد بن أرقم محمول على الجهر بالقراءة، وفيه بعد، وكلام ذي اليدين بناه على أنها قصرت وأن فعله لم يقع سهوًا، وإنما وقع استظهارًا، ولو ثبت الكلام فهو لمصلحة الصلاة وإجابة الشارع.

(1)

انظر: "الأوسط" 3/ 237، "المجموع" 4/ 17.

(2)

سبق برقم (482) كتاب: الصلاة، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.

ص: 267

ولنختم الكلام بفوائد ملخصة:

فحديث ابن مسعود، وزيد، وكذا جابر

(1)

كما سيأتي قريبًا

(2)

دالة على تحريم الكلام في الصلاة سواء كان لمصلحتها أم لا، وقد سلف. وتحريم رد السلام فيها باللفظ، وهو إجماع وأنه لا تضر الإشارة، بل يستحب رده بالإشارة، وبهذه الجملة قَالَ الشافعي والأكثرون، منهم مالك وأحمد وأبو ثور.

وقال جماعة من العلماء: يرد نطقًا، منهم أبو هريرة وجابر والحسن وسعيد بن المسيب وقتادة وإسحاق

(3)

.

وقيل: يرد في نفسه. وقال عطاء والنخعي والثوري ومحمد: يرد بعد السلام، وهو قول أبي ذر وأبي العالية

(4)

.

وقال أبو حنيفة: لا يرد لفظًا ولا إشارة بكل حال

(5)

. وقال عمر بن عبد العزيز ومالك وجماعة: يرد إشارة لا نطقًا

(6)

، ومن قَالَ: يرد نطقا لم تبلغه الأحاديث.

(1)

رمز فوقها في الأصل (م. و)[مسلم (540) وأبو داود (926)، والترمذي (351) مختصرًا، والنسائي 3/ 6، وابن ماجه (1018)].

(2)

برقم (1217) كتاب: العمل في الصلاة، باب: لا يرد السلام في الصلاة.

(3)

روى ذلك ابن أبي شيبة عن أبي هريرة وجابر 1/ 419 (4814 - 4815) كتاب: الصلوات: باب: من كان يرد ويشير بيده أو برأسه.

وذكرها ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 251 - 252.

(4)

رواها ابن أبي شيبة عن إبراهيم وأبي العالية 1/ 418 - 419 (4808، 4818، 4822) عن ابن أبي ذر وإبراهيم وأبي العالية. وانظر: "الأوسط" 3/ 253.

(5)

انظر: "شرح السنة" 3/ 236 - 237، "المجموع" 4/ 37، "الشرح الكبير" 4/ 47.

(6)

رواه ابن أبي شيبة 1/ 419 (4811، 4816 - 4817، 4820) عن ابن عمرو وأبي مجلز وابن عباس. وانظر: "الأوسط" 3/ 252.

ص: 268

وأما ابتداء السلام عليه، فمذهبنا أنه لا يسلم عليه، فإن سلم لم يستحق جوابًا

(1)

. وعن مالك روايتان: الكراهة والجواز

(2)

.

وعن أبي حنيفة: يرده في نفسه. وعند أبي يوسف: لا يرد في الحال، ولا بعد الفراغ.

وقوله: ("إن في الصلاة شغلًا") يعني: إن المصلي يشتغل بصلاته، ولا يعرج على سلام ولا غيره. واكتفي بذكر الموصوف عن الصفة، فكأنه قَالَ: شغلًا كافيًا أو مانعًا من الكلام وغيره.

واعلم أن شيخنا علاء الدين ذكر هنا في شرحه الكلام على الصلاة الوسطي في أوراق عدة، وليس محل الكلام فيها، ولا تعلق له بالباب وإن وقع في الآية، وقد أفرده بالتأليف الحافظ شرف الدين الدمياطي فكفى، وقد لخصته في أوراق، وأشرت إليه في موضعه

(3)

.

(1)

انظر: "روضة الطالبين" 1/ 292.

(2)

انظر: "حلية العلماء" 2/ 131.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: ثم بلغ في المائة. كتبه مؤلفه.

ص: 269

‌3 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالحَمْدِ فِي الصَّلَاةِ لِلرِّجَالِ

1201 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَجَاءَ بِلَالٌ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: حُبِسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَؤُمُّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنْ شِئْتُمْ. فَأَقَامَ بِلَالٌ الصَّلَاةَ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَصَلَّى، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا، حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِالتَّصْفِيحِ -قَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرُونَ مَا التَّصْفِيحُ؟ هُوَ التَّصْفِيقُ- وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا التَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّفِّ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللهَ، ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرَى وَرَاءَهُ، وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى. [انظر: 684 - مسلم: 421 - فتح: 3/ 75]

ذكر فيه حديث سَهْلٍ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَحَانَتِ الصَّلَاةُ .. الحديث. سلف في باب: من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول

(1)

. ويأتي أيضًا

(2)

.

وفيه: أن غير الإمام إذا أراد الصلاة يستأذن القوم؛ لقول أبي بكر: إن شئتم. وهو بعلمهم أنه أفضلهم بعد رسول الله، وجواز إمامة المفضول الفاضل إذا سبق في الدخول في الصلاة، والرغبة في الصف الأول، ورفع اليدين بحمد الله.

والتصفيح -بالحاء- هو: التصفيق بصفحتي الكف. وبالقاف: أن يضرب اليمنى على اليسرى. وقيل غير ذلك بما سلف هناك.

(1)

برقم (684) كتاب: الأذان.

(2)

برقم (1204) كتاب: العمل في الصلاة، باب: التصفيق للنساء.

ص: 270

وحمد الصديق لما أهله النبي صلى الله عليه وسلم من تقدمه بين يديه. وعن ابن القاسم فيمن أخبر في الصلاة بما يسره فحمد الله، أو بمصيبة فاسترجع، أو أخبر بشيء فقال: الحمد لله على كل حال، أو الذي بنعمته تتم الصالحات: لا يعجبني، وصلاته تجزئه. قَالَ أشهب: إلا أن يريد بذلك قطع الصلاة. قَالَ: ولو قرأ الإمام {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1)} فقال المأموم: كذلك الله. لم تفسد صلاته.

وفيه أيضًا من الفقه: أن الإمام لا يجب له تأخيرها عن وقتها المختار وإن غاب الإمام الفاضل.

وفيه: أن الإقامة إلى المؤذن، وهو أولى بها، وقد اختلف في ذلك، فقال بعضهم: من أذن فهو يقيم. وقال مالك والكوفيون: لا بأس بأذان المؤذن وإقامة غيره

(1)

.

وفيه: أن التسبيح جائز للرجال والنساء عندما ينزل بهم من حاجة تنوبهم، ألا ترى أن الناس أكثروا بالتصفيق لأبي بكر ليتأخر للنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا قَالَ مالك والشافعي: إن من سبح في صلاته لشيء ينوبه، أو أشار إلى إنسان، فإنه لا يقطع صلاته

(2)

.

وخالف في ذلك أبو حنيفة كما أسلفناه هناك فقال: إن سبح أو حمد الله جوابًا لإنسان فهو كلام، وإن كان منه ابتداء لم يقطع، وإن وطئ على حصاة أو لسعه عقرب فقال: بسم الله. أراد بذلك الوجع فهو كلام.

وقال أبو يوسف في الأمرين: ليس بكلام. وقول أبي حنيفة مخالف للحديث؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذا سبح التفت إليه" وفهم الصحابة من هذا

(1)

"المدونة" 1/ 63، "المبسوط" 1/ 132.

(2)

"المدونة" 1/ 98، "روضة الطالبين" 1/ 291.

ص: 271

أنهم إذا سبحوا بالإمام ولم يفهم عنهم أن يكثروا ذلك حَتَّى يفهم، ألا ترى أنهم أكثروا التصفيق حَتَّى التفت أبو بكر، ولو لم يكن التسبيح على نية إعلام الساهي ما رددوه حَتَّى فهم

(1)

.

وقد بين الشارع أن الالتفات في الصلاة إنما يكون من أجل التسبيح، فهو مقصود بذلك.

وفيه: أن الالتفات في الصلاة لا يقطعها.

وفيه: أنه لا بأس بتخلل الصفوف والمشي إلى الصف الأول بمن يليق به الصلاة فيه؛ لأن شأن الصف الأول أن يقوم فيه أفضل الناس علمًا ودينًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى"

(2)

يعني -والله أعلم-: ليحفظوا عنه ويعوا ما كان منه في صلاته صلى الله عليه وسلم، وكذلك يصلح أن يقوم في الصف الأول من يصلح أن يلقن ما تعايا عليه من القراءة، ومن يصلح للاستخلاف للصلاة.

وفيه: دليل على جواز الفتح على الإمام وتلقينه إذا أخطأ. وقد اختلف العلماء فيه، فأجازه الأكثرون، وممن أجازه عثمان وعلي وابن عمر، وروي عن عطاء والحسن وابن سيرين

(3)

، وهو قول مالك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق

(4)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 309، "الأصل" 1/ 205، 206.

(2)

روى هذا الحديث مسلم (432) كتاب: الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول ....

(3)

رواها عنهم ابن أبي شيبة 1/ 417 - 418 (4793، 4794، 4796 - 4797، 4800، 4802) كتاب: الصلوات، باب: من رخص في الفتح على الإمام.

(4)

انظر: "مختصراختلاف العلماء" 1/ 299، "المدونة" 1/ 103، "الأوسط" 4/ 222 - 225، "المغني" 2/ 457.

ص: 272

وكرهته طائفة، روي ذلك عن ابن مسعود والشعبي والنخعي، وكانوا يرونه بمنزلة الكلام

(1)

، وهو قول الثوري والكوفيين

(2)

.

وروي عن أبي حنيفة: إن كان التسبيح جوابًا قطع الصلاة، وإن كان مرور إنسان بين يديه لم يقطع. وقال أبو يوسف: لا يقطع وإن كان جوابًا.

واعتل من كرهه بأن قَالَ: التلقين كلام لا قراءة. والأول أولى؛ لأنه إذا جاز التسبيح جازت التلاوة؛ لأنه لو قرأ شيئًا من القرآن غير قاصد التلقين لم تفسد صلاته عند الجميع، فإذا كان كذلك لم يغير ذلك معناه، قصد به تلقين إمامه أو غيره، كما لو قرأ ما أمر بقراءته في صلاته وعمد بها إسماع من بحضرته؛ ليتعلمه لم تفسد بذلك صلاته.

وقال الطحاوي: لما كان التسبيح لما ينوبه في صلاته مباحًا، ففتحه على الإمام أحرى أن يكون مباحًا

(3)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة عن النخعي وابن مسعود 1/ 417 (4787 - 4788) كتاب: الصلوات، باب: من كره الفتح على الإمام.

(2)

انظر: "الأوسط" 4/ 224.

(3)

"مختصر اختلاف العلماء" 1/ 300.

ص: 273

‌4 - باب مَنْ سَمَّى قَوْمًا أَوْ سَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِ

مُوَاجَهَةً وَهُوَ لَا يَعْلَمُ

1202 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نَقُولُ: التَّحِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ وَنُسَمِّي، وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"قُولُوا: التَّحِيَّاتُ للهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ للهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ". [انظر: 831 - مسلم: 402 - فتح: 3/ 76]

ذكر فيه حديث عبد الله بن مسعود: كُنَّا نَقُولُ: التَّحِيَّةُ فِي الصَّلاةِ وَنُسَمِّي، وَيُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لله .. " الحديث.

وقد سلف في التشهد

(1)

، وفيه هنا زيادة، وهي قوله:(ويسلم بعضنا على بعض) أي: يقول: السلام على فلان. ليس أنه يخاطبه، فإن خاطبه بطلت. ذكره الداودي وابن أبي زيد في "نوادره". وقال ابن التين: لم أره لغيره.

وقوله: (من سمَّى قومًا). يريد: ما كانوا يفعلونه أولًا من مواجهة بعضهم بعضا ومخاطبتهم، قبل أن يأمرهم الشارع بهذا التشهد، فأراد البخاري؛ ليعرفك أنه لما لم يأمر بإعادة تلك الصلاة التي سمَّى فيها

(1)

برقم (831) كتاب: الأذان.

ص: 274

بعضهم بعضًا عُلم أنه من فعل هذا جاهلًا أنه لا تفسد صلاته، وقال مالك والشافعي: إنه من تكلم في صلاته ساهيًا لم تفسد صلاته

(1)

.

وقوله: (أو سلم على غيره وهولا يعلم). يعني: لا يعلم المسلم عليه، ولا يسمع السلام عليه. وأمره صلى الله عليه وسلم بمخاطبته في التحيات بقوله:"السلام عليك أيها النبي" وهو أيضًا خطاب في الصلاة لغير المصلي، لكن لما كان خطابه صلى الله عليه وسلم حيًّا وميتًا من باب الخشوع ومن أسباب الصلاة المرجو بركتها، لم يكن كخطاب المصلي لغيره.

وفي هذا دليل على أن ما كان من الكلام عامدًا في أسباب الصلاة أنه جائز سائغ، بخلاف قول أبي حنيفة والشافعي، وإنما أنكر تسميتهم للناس بأسمائهم؛ لأن ذلك يطول على المصلي ويخرجه بما هو فيه من مناجاة الرب إلى مناجاة الناس شخصًا شخصًا، فجمع لهم هذا المعنى في قوله:"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" فهو وإن خاطب نفسه فقد خاطب أيضًا غيره معه، لكنه بما يرجا بركته فيها، فكأنه منها.

وقوله: (كُنَّا نَقُولُ: التَّحِيَّةُ فِي الصَّلَاةِ). صح عنه: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد

(2)

، وفي ذلك دلالتان على فرضه: قوله: (قبل أن يفرض). والثاني: (أمره صلى الله عليه وسلم).

وأجاب ابن التين بما لا يظهر، فقال: قوله: (قبل أن يفرض علينا) إخبار عن اعتقاده أن التشهد فرض وليس بحجة. قلتُ: اعتقاد الصحابي مقدم على اعتقادك.

(1)

"النوادر والزيادات" 1/ 275، "روضة الطالبين" 1/ 290.

(2)

رواه البيهقي عن ابن مسعود 2/ 138 كتاب: الصلاة، باب: مبتدأ فرض التشهد.

وقال الذهبي في "المهذب" 2/ 584 (2522): إسناده صحيح.

ص: 275

قَالَ: وعلى أنه محمول على التقدير، كأنه قَالَ قبل أن تقدر ألفاظه، وكذلك قوله:"قولوا: التحيات" معناه: التقدير. قلت: مجاز.

قَالَ: وعلى أنه لو سلم أن ظاهره الوجوب لحملناه على الندب.

بدليل قوله: إذا جلست قدر التشهد، فقد تمت صلاتك. قلتُ: مدرج، والأصل حمله على الوجوب.

وقوله: ("التحيات لله، والصلوات والطيبات") أخذ به أبو حنيفة وأحمد، وأخذ الشافعي بتشهد ابن عباس

(1)

ومالك بتشهد عمر

(2)

، وكله واسع، وقد سلف ذلك.

(1)

رواه مسلم برقم (403) كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة.

(2)

رواه مالك 1/ 193 (499) كتاب: الجمعة، باب: التشهد في الصلاة.

ص: 276

‌5 - باب التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ

1203 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ". [مسلم: 422 - فتح: 3/ 77]

1204 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ". [انظر: 684 - مسلم: 421 - فتح: 3/ 77]

ذكر فيه حديث أبي هريرة: "التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنَّسَاءِ".

وحديث سهل بن سعد مثله، وفي نسخة:"والتصفيح" بالحاء، وهذا الحديث سلف قريبًا

(1)

ونبهنا على تقدمه وحكمه.

وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم

(2)

.

وسفيان في إسناده هو ابن عيينة، وقد قام الإجماع على أن سنة الرجل إذا نابه شيء في صلاته التسبيح، وإنما اختلفوا في النساء، فذهبت طائفة إلى أنها تصفق، وهو ظاهر الحديث، قاله النخعي والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، ورواية عن مالك حكاها ابن شعبان

(3)

.

(1)

برقم (1201) كتاب: العمل في الصلاة، باب: ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال.

(2)

"صحيح مسلم"(422) كتاب: الصلاة، باب: تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في الصلاة.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 310، "حلية إلعلماء" 2/ 130، "المغني" 2/ 454.

ص: 277

وذهب آخرون إلى أنها تسبح، وهو قول مالك

(1)

، وتأول أصحابه قوله:"إنما التصفيق للنساء" أنه من شأنهن في غير الصلاة، فهو على وجه الذم لذلك، فلا يفعله في الصلاة امرأة ولا رجل

(2)

.

ويؤيده حديث حماد بن زيد، عن أبي حازم، عن سهل في هذا الحديث:"وليصفح النساء"

(3)

.

وإنما كره لها التسبيح؛ لأن صوتها فتنة، ولهذا منعت من الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة. وترجم له البخاري قريبًا باب: من صفق جاهلًا من الرجال في صلاته لم تفسد صلاته، وقال: فيه سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

.

ووجه ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر من صفق بالإعادة، ففيه جواز العمل اليسير في الصلاة. وادعى شيخنا قطب الدين: أنه لم يذكر في هذا الباب -أعني: من صفق جاهلًا- وقد علمت أنه فيه، وكذا هو في أصل الدمياطي، وفي بعض النسخ حذف هذا الباب.

(1)

"المدونة" 1/ 98.

(2)

"الاستذكار" 2/ 312.

(3)

سيأتي برقم (7190) كتاب: الأحكام، باب: الإمام يأتي قومًا فيصلح بينهم.

(4)

قبل حديث (1215).

ص: 278

‌6 - باب مَنْ رَجَعَ القَهْقَرَى فِي صَلَاتِهِ، أَوْ تَقَدَّمَ بِأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ

.

رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

1205 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ: قَالَ يُونُسُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ المُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي الفَجْرِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يُصَلِّي بِهِمْ، فَفَجَأَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، قَدْ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى عَقِبَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَي الصَّلَاةِ، وَهَمَّ المُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فِي صَلَاتِهِمْ فَرَحًا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا، ثُمَّ دَخَلَ الحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ، وَتُوُفِّيَ ذَلِكَ اليَوْمَ. [انظر: 680 - مسلم: 419 - فتح: 3/ 77]

وعن أنس أَنَّ المُسْلِمِينَ بَيْنَا هُمْ فِي الفَجْرِ، يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِهِمْ .. الحديث.

أما حديث سهل فسلف قريبًا، وفيه: لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم واتصل بالصف رجع أبو بكر القهقرى، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا إن كان حين وصل إلى الصف دخل في الصلاة، ثم تقدم إلى موضع أبي بكر، فهو فعل في الصلاة.

وحديث أنس: أن الصديق لما أحس بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم نكص على عقبيه. واعتراض شيخنا قطب الدين هنا ليس بطائل. وحديث أنس من أفراده. وزاد أحمد بن جميل المروزي مع يونس معمرًا، أخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم.

وعبد الله فيه هو ابن المبارك. وشيخ البخاري بشر بن محمد المروزي، سلف في باب الوحي، مات سنة أربع وعشرين ومائتين.

ص: 279

وهذِه الصلاة هي الفجر كما صرح به في الحديث. والتي غلب عليها وقال: "مروا أبا بكر"

(1)

هي العشاء، والصلاة التي خرج يهادى بين رجلين هي الظهر

(2)

.

وقوله: (ففجأهم). قَالَ ابن التين: كذا هو في الكتب بالألف، وحقيقته أن يكتب بالياء؛ لأنه مكسور العين، فهو مثل: وطئهم، وكذا هو بخط الدمياطي.

وفيه: أن المتقدم والتأخر لما ينزل بالمصلي جائز.

وفيه: تفسير لحديث أبي بكرة: "زادك الله حرصا ولا تعد"

(3)

أن ذلك لم يرد بقوله: "لا تعد" أن صلاتك لا تجزئك؛ لأنه لم يأمره بالإعادة، إذ لا فرق بين مشي القائم -كما هو في هذا الحديث- وبين مشي الراكع كما في حديث أبي بكرة، فلما لم تنتقض صلاة الصديق لتأخره وتقدمه علم أن الراكع أيضًا إذا تقدم أو تأخر لا تبطل صلاته.

وفيه: جواز مخاطبة من ليس في صلاة لمن هو في صلاة، وجواز استماع المصلي إلى ما يخبره به من ليس في صلاة، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لما أشار إليهم بيده:"أن أتموا صلاتكم". سمعوا منه وأكملوا صلاتهم ولم يضرهم ذلك.

(1)

سلف برقم (682) كتاب: الأذان، باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة.

ورواه مسلم برقم (418) كتاب: الصلاة، باب: استخلاف الإمام إذا عرض له عذر.

(2)

سلف برقم (687) ورواه مسلم (418).

(3)

سلف برقم (783) كتاب: الأذان، باب: إذا ركع دون الصف.

ص: 280

قال ابن بطال: وهو قول مالك

(1)

.

وقوله: (كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ). كذا في أصل الدمياطي بخطه.

وقال الشيخ قطب الدين: في سماعنا إسقاط لفظ: (حجرة). وفي الإسماعيلي وأبي نعيم إثباتها.

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 194.

ص: 281

‌7 - باب إِذَا دَعَتِ الأُمُّ وَلَدَهَا فِي الصَّلَاةِ

1206 -

وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَادَتِ امْرَأَةٌ ابْنَهَا، وَهْوَ فِي صَوْمَعَةٍ قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ. قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي. قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ. قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي. قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ. قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي. قَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا يَمُوتُ جُرَيْجٌ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وَجْهِ المَيَامِيسِ. وَكَانَتْ تَأْوِي إِلَي صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الغَنَمَ، فَوَلَدَتْ، فَقِيلَ لَهَا: مِمَّنْ هَذَا الوَلَدُ؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ، نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ. قَالَ جُرَيْجٌ: أَيْنَ هَذِهِ التِي تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِي؟ قَالَ: يَا بَابُوسُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: رَاعِى الغَنَمِ". [2482، 3436، 3466 - مسلم: 2550 - فتح: 3/ 78]

قَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ، عَنْ عَبْدِ الرحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ: قَالَ أَبُو

هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَادَتِ امْرَأَةٌ ابنهَا، وَهْو فِي صَوْمَعَةٍ، قَالَتْ: يَا جُرَيْجُ. قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتي .. " الحديث.

هكذا أخرجه البخاري تعليقًا هنا، وأسنده في كتاب المظالم وأحاديث الأنبياء عن مسلم بن إبراهيم، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة

(1)

.

وروى الحديث في (

)

(2)

من طريق الأعرج عن أبي هريرة

(3)

.

وأخرجه مسلم في الأدب من كتاب البر والصلة، من حديث حميد

(1)

سيأتي برقم (2482) كتاب: المظالم، باب: إذا هدم حائطًا فليبني مثله.

وبرقم (3436) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} .

(2)

بياض بالأصول.

(3)

سيأتي برقم (3466) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث الغار.

ص: 282

بن هلال، عن أبي رافع، عن أبي هريرة

(1)

.

وأسنده من حديث الليث أبو نعيم من حديث يحيى بن بكير، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج -وهو عبد الرحمن بن هرمز- عن أبي هريرة. بأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأسنده الإسماعيلي من حديث عاصم بن علي عن الليث به، وفيه زيادة:"أن رجلًا يقال له جريج كان راهبًا -وفي: (زواني المدينة) بدل: (المياميس) - فعرف أن ذلك يصيبه". وفيه: "فأرسل إليه، فأُنزل وانطلق به إلى ملكهم، فلما مروا به نحو بيت الزواني خرجن يضحكن، فتبسم، فقالوا: لم تضحك حين مُر بالزواني؟ " وفيه: "فقال: أبي والدي، وسماه أباه، فأبرأ الله عز وجل جريجًا وأعظم أمره".

وبخط الدمياطي على حاشية أصله: روى الليث بن سعد، عن يزيد بن حوشب، عن أبيه قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان جريج الراهب فقيهًا عالمًا لعلم أن إجابة أمه خير من عبادة ربه عز وجل". حوشب هذا هو ابن طخمة -بالميم- الحميري.

وأخرج الشيخان من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج عابدًا فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج". وأتته ثانية وثالثة كذلك .. الحديث بطوله

(2)

.

(1)

"صحيح مسلم" برقم (2550) باب: تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها.

(2)

سيأتي برقم (3436) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ} ورواه مسلم برقم (2550).

ص: 283

إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه:

أحدها: "المياميس" الزواني، كما سلف، الواحدة: مومسة.

والجمع: مومسات -بضم الميم الأولى وكسر الثانية- و (ميامِس)

(1)

، وجاء هنا: مياميس، وهو جائز.

وقال ابن الجوزي: أصحاب الحديث يقولون: مياميس. بزيادة ياء.

قَالَ لنا ابن الخشاب: ليس قولهم صحيحًا.

وقال صاحب "المطالع": المومسات: المجاهرات بالفجور. وبالياء رويناه عن جميعهم، وكذا ذكر أصحاب العربية، وروي: الميأميس. بالهمز.

الثاني: قوله: ("يا بابوس") هو اسم ولدها- كما قاله الداودي، وقال القزاز: هو الصغير. ووزنه فاعول، فاؤه وعينه من جنس واحد، وهو قليل. وقيل: اسم عجمي. وبخط الدمياطي: بابوس: الرضيع بالفارسية. وهو ما ذكره ابن بطال إثر الحديث

(2)

.

الثالث: الحديث دال على أنه لم يكن الكلام في الصلاة ممنوعًا في شريعة جريج، فلما لم يأت من إجابتها ما هو مباح له استجيبت دعوة أمه فيه، وقد كان الكلام في شريعتنا جائزًا في الصلاة حَتَّى نزلت:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وسيأتي في البخاري من حديث أبي سعيد بن المُعَلَّى قَالَ: كنت أصلي في المسجد فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، كنت أصلي. قَالَ: "ألم يقل الله: {اسْتَجَابُوا لِلَّهِ

(1)

وقع بالأصل: مياميس. خطأ، ويبينه سياق ما بعده وانظر:"لسان العرب" 8/ 4927.

(2)

"شرح ابن بطال" 3/ 195.

ص: 284

وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}؟

" الحديث

(1)

.

ولا يجوز أن يوبخه الشارع على ترك الإجابة إلا وقت إباحة الكلام في الصلاة، فلما نسخ ذلك لم يجز للمصلي إذا دعت أمه أو غيرها أن يقطع صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"

(2)

وحق الله عز وجل الذي شرع فيه ألزم من حق الأبوين حَتَّى يفرغ منه، لكن العلماء يستحبون أن يخفف صلاته ويجيب أبويه.

وصرح أصحابنا فقالوا: من خصائص سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لو دعا إنسانًا وهو في الصلاة وجبت عليه الإجابة، ولا تبطل.

وحكى الروياني في "بحره" ثلاثة أوجه في إجابة أحد الأبوين:

أصحها: لا تجب الإجابة.

ثانيها: تجب وتبطل.

ثالثها: تجب ولا تبطل.

والظاهر: عدم الوجوب إن كانت الصلاة فرضًا وقد ضاق الوقت، وكذا إن لم يضق؛ لأنها تلزم بالشروع، خلافًا للإمام، وإن كانت نافلة أجابهما إن علم تأذيهما بالترك، وهو من إطلاق عبد الملك المالكي أن إجابة الأم في النافلة أفضل، وقاسه على الشارع أن إجابته أفضل من التمادي في النافلة. وذكر القاضي أبو الوليد في قصة ذي اليدين: أن حكم الإجابة مختص بالشارع؛ للآية السالفة، وأنه في الفريضة.

(1)

سيأتي برقم (4703) كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآنَ العَظِيمَ (87)} .

(2)

سيأتي برقم (7257) كتاب: أخبار الآحاد، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق.

ص: 285

وفي الوجوب في حق الأم دون الأب حديث مرسل يوافق الوجوب، رواه ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن المنكدر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إذا دعتك أمك في الصلاة فأجبها، وإذا دعاك أبوك فلا تجبه"

(1)

وقَالَ مكحول: رواه الأوزاعي عنه

(2)

، وقال العوام: سألت مجاهدًا عن الرجل يقام عليه في الصلاة ويدعوه أمه أو والده. قَالَ: يجيبهما

(3)

.

وفي البخاري، فيما سلف: إن منعته أمه شهود العشاء في جماعة لم يطعها

(4)

. وقاله مالك، وإن منعته الجهاد أطاعها، والفرق بينهما وإن كانا سنة أن الخروج إلى الصلاة الغالب فيه الأمن بخلاف الجهاد، كذا فرق ابن التين بينهما.

وفي كتاب "البر والصلة" عن الحسن في الرجل تقول له أمه: أفطر. قَالَ: يفطر وليس عليه قضاء، وله أجر الصوم والبر، وإذا قالت له أمه: لا تخرج إلى الصلاة. فليس لها في هذا طاعة، هذا فريضة

(5)

، فدل هذا أن قياس قوله: إذا دعته في الصلاة. أن لا يجيبها.

فأما مرسل ابن المنكدر فالفقهاء على خلافه ولا أعلم به قائلًا غير مكحول، ويحتمل أن يكون معناه إذا دعته أمه فليجبها، يعني: بالتسبيح، وبما أبيح للمصلي الاستجابة به، كما ذكر ابن حبيب قَالَ: من أتاه أبوه ليكلمه وهو في نافلة فليخفف ويسلم ويكلمه، وإذا نادته أمه فليبتدرها بالتسبيح، وليخفف وليسلم.

(1)

"المصنف" 2/ 193 (8013) باب: في الرجل يدعوه والده وهو في الصلاة.

(2)

ابن أبي شيبة 2/ 193 (8014).

(3)

ابن أبي شيبة 2/ 194 (8015).

(4)

معلقًا قبل الرواية (644) عن الحسن.

(5)

انظر: كتاب "البر والصلة" للمروزي ص 34 (64).

ص: 286

وأما قول مجاهد: إذا أقيمت عليه الصلاة ودعاه أبوه وأمه فليجبهما

(1)

. فيحتمل أن يكون أمره بإجابتهما إذا كان الوقت واسعًا ولم يدخل في الصلاة، فيجتمع له إجابة أبويه وقضاء الصلاة في وقتها، والحاصل إجابة دعوة الوالدة في السراء والضراء.

وقوله: ("اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي") إنما سأل أن يلقي في قلبه الأفضل، ويحمله على أولَى الأمرين به، فحمله على التزام مراعاة حق الله تعالى على حق أمه، وقد يمكن أن يكون جريج نبيًّا؛ لأنه كان في زمن يمكن فيه النبوة، قاله ابن بطال

(2)

.

فإن قلتَ: يحتمل أن يكون حديث أبي سعيد بن المعلى السالف قبل تحريم الكلام في الصلاة كما قلت، فكيف جاز له ترك مجاوبة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الكلام مباحًا؟

فالجواب: أنه يمكن أن يتأول أبو سعيد قوله: {اسْتَجِيبُوا} [الأنفال: 24] إذا كنتم في غير صلاة، فعذره صلى الله عليه وسلم بذلك حين رأى التزام السكوت في الصلاة تعظيمًا لشأنها، كما تأول أصحابه يوم الحديبية حين أمرهم بالحلاق أن لا يحلقوا لما لم يبلغ الهدي محله.

فإن قلتَ: فيحتمل أن يدعوه وقت تحريم الكلام في الصلاة؟.

فالجواب أنه يحتمل ذلك، ويكون استجابته له بالتسبيح، فيوجز في صلاته، فتجتمع طاعة الله بإتمام الصلاة وطاعة الرسول بالاستجابة له.

وأظهر التأويلين أن يدعوه صلى الله عليه وسلم وقت إباحة الكلام في الصلاة.

(1)

رواه عنه هناد في "الزهد" 2/ 478 (973).

(2)

"شرح ابن بطال" 3/ 197.

ص: 287

وقد احتج قوم من أهل الظاهر بحديث أبي سعيد، وزعموا أن كلامه عليه الصلاة والسلام يوم ذي اليدين خصوص له، وقالوا: لا يجوز لأحد أن يفعل ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قَالَ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] فلا يتكلم أحد ولا يجيب غير الرسول (وهذا ما عليه جمهور أصحابنا)

(1)

.

وقال ابن بطال: لا حجة فيه؛ لأن معنى الآية: استجيبوا بما استجاب به المصلي من قول: سبحان الله، وإشارة تفهم عنه كما كان صلى الله عليه وسلم يرد السلام على الأنصار بالإشارة حين دخلوا عليه في مسجد قباء وهو يصلي

(2)

. وكذلك قَالَ: "من نابه شيء في صلاته فليسبح"

(3)

.

وفي الحديث أيضًا دلالة على أن من أخذ بالشدة في أمور العبادات كان أفضل إذا علم من نفسه قوة على ذلك؛ لأن جريجًا دعا الله في التزام الخشوع له في صلاته وفضله على الاستجابة لأمه، فعاقبه الله على ترك الاستجابة لها، بما ابتلاه من دعوة أمه عليه، ثم أراه فضل ما آثره من مناجاة ربه والتزام الخشوع له أن جعل له آية معجزة في كلام الطفل، فخلصه بها من محنة دعوة أمه عليه.

وفيه أيضًا: أن من دعته أمه في صلاة لا يخشى فواتها أن يجيبها،

(1)

عليها في الأصل علامة (لا .. إلى).

(2)

روى هذا الحديث أبو داود (927) في الصلاة، باب: رد السلام في الصلاة، والترمذي (368) باب: ما جاء في الإشارة في الصلاة، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي 3/ 5 في السهو، باب: رد السلام بالإشارة في الصلاة، وابن ماجه (1017) كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: المصلي يسلم عليه كيف يرد. عن ابن عمر. وقال الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (860): إسناده حسن صحيح.

(3)

سبق برقم (684) كتاب: الأذان، باب: من دخل ليؤم الناس ..

ص: 288

ثم يعود إليها، وقد أسلفنا ما فيه. وقال عبد الملك: إن كانت صلاته نافلة، فإجابة الأم أفضل من صلاة النافلة.

فإن قلتَ: كيف قَالَ: من أبوك، والزاني لا يلحق به الولد؟

فالجواب إما أن يكون لاحقًا في شرعهم، أو المراد: مِنْ ماء مَنْ أنت؟ وسماه أبًا مجازًا.

قَالَ القرطبي: وقد يتمسك به من قَالَ: إن الزنا يحرم كالحلال. وهو رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة"، وفي "الموطأ": أن الزنا لا يحرم حلالًا

(1)

.

قَالَ: ويستدل به أيضًا أن المخلوقة من زناه لا تحل للزاني بأمها، وهو المشهور خلافًا لابن الماجشون، وهو -أعني: قول ابن الماجشون- الأصح عند الشافعية، ووجه التمسك على المسألتين أنه صلى الله عليه وسلم حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنا للزاني، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بشهادته له بذلك، فكانت تلك النسبة صحيحة، فيلزم على هذا أن تجري بينهما أحكام الأبوة والبنوة من التوارث والولايات وغير ذلك.

وقد اتفق

(2)

المسلمون على ألا توارث بينهما، فلم تصح تلك النسبة؛ لأنا نجيب عن ذلك بأن ذلك موجب ما ذكرنا، وقد ظهر ذلك في الأم من الزنا، فإن أحكام الأمومة والبنوة جارية عليهما، فما انعقد على الإجماع من الأحكام أنه لا يجوز بينهما استثنيناه، وبقي

(1)

"الموطأ" 1/ 581 (1505) كتاب: النكاح، باب: ما جاء في تزوج الرجل المرأة قد مسها على ما يكره.

(2)

وقع بهامش الأصل: حكى ابن قيم الجوزية في "الهدي" في استلحاق ولد الزنا وتوريثه عن إسحاق ومن وافقه أنه يلحق به إذا ادعاه الزاني ويرثه. اهـ.

ص: 289

الباقي على أجل ذلك الدليل

(1)

.

وفيه أيضًا: وقوع كرامات الأولياء، وهو قول جمهور أهل السنة

(2)

والعلماء، وقد نسب لبعض العلماء إنكارها، والظن بهم أنهم ما أنكروا أصلها؛ لتجويز العقل لها، ولما وقع في الكتاب والسنة، وإخبار صالحي هذِه الأمة بما يدل على وقوعها، وإنما محل الإنكار ادعاء وقوعها فيمن ليس موصوفًا بشروطها، ولا هو أهل لها.

وفيه: أن كرامات الأولياء قد تقع باختيارهم وطلبهم، وهو الصحيح عند أصحابنا المتكلمين، ومنهم من قَالَ: لا تقع باختيارهم وطلبهم.

وفيه: أن الكرامات قد تكون بخوارق العادات على جميع أنواعها، ومنعه بعضهم وادعى أنها تختص بمثل إجابة دعاء ونحوه، وهذا غلط من قائله وإنكار للحس، بل الصواب جريانها بقلب الأعيان، وإحضار الشيء من المعدوم ونحوه.

وروى عمارة أن جريجًا سأله وهو في بطنها

(3)

فأجابه ثم أجابه حين ولد، وهذا من تفضل الرب جل جلاله على من أطاعه. قَالَ أبو عبد الملك: وهذا من عجائب بني إسرائيل، وهو من أخبار الآحاد.

فائدة:

تكلم أيضًا في المهد: شاهد يوسف، كما ذكره القرطبي عن

(1)

انظر: "المفهم" 6/ 514.

(2)

وقع بهامش الأصل: من خط الشيخ: كذا عبر به القرطبي، وعبارة النووي أنه مذهب أهل السنة خلافًا للمعتزلة.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: قال صاحب "المطالع": روي ذلك من طريق غير ثابت أنه ناداه في بطن أمه قبل أن يخرج، ثم قال: وقد جاء في "الصحيح": "من أبوك يا غلام؟ " وهذا يدل على أنه كان مولودًا. ملخص.

ص: 290

ابن عباس

(1)

، ويحيى بن زكريا عن الضحاك. ورضيع التي تقاعست عن الأخدود، رواه صهيب. والحديث:"لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة"

(2)

، وذكر الأولين ظاهره الحصر، ولا شك أن الأوائل لا خلاف فيهم والباقون مختلف فيهم، أو أن الله أطلع نبيه ثانيًا زيادة على ما أطلعه الله عليه أولًا

(3)

.

وقال ابن عباس وعكرمة: كان صاحب يوسف رجلًا ذا لحية

(4)

.

وقال مجاهد: الشاهد هو القميص

(5)

.

(1)

"المفهم" 6/ 512.

(2)

سيأتي برقم (3436)، ورواه مسلم (2550).

(3)

في هامش الأصل ما نصه: من خط الشيخ: وتكلم أيضًا في المهد مبارك اليمامة كلمه رسول الله ذكره في "الدلائل"["دلائل النبوة" البيهقي 6/ 59].

(4)

رواه الطبري 7/ 192 - 193 (19121، 19129، 19131 - 19132).

وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 2128 (11504).

(5)

روى ذلك الطبري في "تفسيره" 7/ 193 (19139 - 19141).

ص: 291

‌8 - باب مَسْحِ الحَصَى فِي الصَّلَاةِ

1207 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَيْقِيبٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ: "إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً"[مسلم: 546 - فتح: 3/ 79]

ذكر فيه حديث مُعَيْقِيب أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الرَّجُلِ يُسَوِّي التُّرَابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قَالَ: "إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَوَاحِدَةً".

هذا الحديث أخرجه مسلم، والأربعة أيضًا

(1)

، وليس لمعيقيب في الصحيحين غيره، وقيل: إنه ابن أبي فاطمة الدوسي، لم يكن في الصحابة أجزم غيره، حكاه ابن التين. وكان عمر جعله على بيت المال، وكان يأكل معه ويقول له: كل مما يليك.

وقوله: ("إِنْ كُنْتَ فَاعِلًا") يدل على أن ترك الواحدة أفضل يعني: وهو في الصلاة؛ لأنه إذا كثر صار عملًا، وترك الواحدة أفضل إن لم يؤذه ما بالمكان.

وفي "الموطأ" عن أبي ذر: مسح الحصى مسحة واحدة، وتركها خير من حمر النعم

(2)

. أي: يتصدق بها، قاله سحنون، والأوزاعي، وغيرهما. أو يستديم ملكها ويقتنيها، كما ذكره أبو عبد الملك. ولا شك في العفو عن العمل القليل، وإليه الإشارة بقوله:"فواحدة".

وروي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يمسحون الحصى لموضع

(1)

"صحيح مسلم" برقم (546) كتاب: المساجد، باب: كراهية مسح الحصى وتسوية التراب في الصلاة، وأبو داود (946)، والترمذي (380)، والنسائي 3/ 7، وابن ماجه (1026).

(2)

"الموطأ" 1/ 163 (421) كتاب: الصلاة، باب: مسح الحصباء في الصلاة.

ص: 292

سجودهم مرة واحدة، وكرهوا ما زاد عليها، روي ذلك عن ابن مسعود، وأبي ذر، وأبي هريرة

(1)

، وهو قول الأوزاعي، والكوفيين

(2)

.

وروي عن ابن عمر أنه كان إذا أهوى ليسجد مسح الحصى مسحًا خفيفًا

(3)

، وكان مالك لا يرى بالشيء الخفيف منه بأسًا

(4)

.

وقال ابن جريج: قلتُ (لعطاء)

(5)

: أكانوا يشددون في مسح الحصى لموضع الجبين ما لا يشددون في مسح الوجه من التراب؟ قَالَ: أجل، وإنما أبيح مسح الحصى مرة وهو يسير؛ لأن المصلي لا يعمل بجوارحه في غير الصلاة، ومسح الحصى ليس من الصلاة، فلا ينبغي له ذلك، ولا أن يأخذ شيئًا ولا أن يضعه، فإن فعل لم تبطل ولا سهو عليه.

(1)

رواها عنهم ابن أبي شيبة 2/ 179 (7828 - 7829، 7832) كتاب: الصلوات، باب: من رخص في ذلك.

وابن المنذر في "الأوسط" 3/ 258 - 259.

(2)

"المبسوط" 1/ 26، "الأوسط" 3/ 259.

(3)

رواه عنه ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 258، والبيهقي 2/ 285 كتاب: الصلاة، باب: كراهية مسح ..

(4)

وقد كرهه في رواية أخرى.

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 237.

(5)

من (ج).

ص: 293

‌9 - باب بَسْطِ الثَّوْبِ فِي الصَّلَاةِ لِلسُّجُودِ

1208 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا غَالِبٌ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شِدَّةِ الحَرِّ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُنَا أَنْ يُمَكِّنَ وَجْهَهُ مِنَ الأَرْضِ بَسَطَ ثَوْبَهُ فَسَجَدَ عَلَيْهِ. [انظر: 385 - مسلم: 620 - فتح 3/ 80]

ذكر فيه حديث أنس: كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شِدَةِ الحَرِّ .. الحديث.

هذا الحديث سلف في باب السجود على الثوب في شدة الحر

(1)

، وكانوا لا يصلون على الثياب إلا عند الضرورة، وذلك أن السجود في الصلاة موضع خشوع وتواضع، فإذا ألصق وجهه بالأرض كان آكد ما يفعله من التواضع وحكم ما أنبتته الأرض -وكان باقيًا على صفته الأصلية مثل: الخمرة والحصير وشبهها- حكم الأرض لا كراهة في ذلك، وأما ما أنبتته الأرض وانتقل عن صفته الأصلية كثياب القطن والكتان مشهور مذهب مالك كراهة ذلك إلا في حر أو برد.

وأجاز ابن مسلمة أن يسجد على ثياب القطن والكتان. وجه الأول حديث الباب، ووجه الثاني مراعاة الأصل، وذلك أن نباته من الأرض، ومنها خرج، فلا يراعى ما طرأ عليه بعد. وأما الطنافس وثياب الصوف وشبه ذلك مما لم تنبته الأرض فيكره السجود عليه عندهم قطعًا، إلا أن يكون من حر أو برد.

وهذا الباب أيضًا من العمل اليسير في الصلاة، وهو مستجاز؛ لأنه من أمور الصلاة، وقد أمر الشارع بالإبراد من الحر؛ ولئلا يتعذب الناس

(1)

برقم (385) كتاب: الصلاة.

ص: 294

بفيح جهنم، ولا يتمكن من السجود، ولا المبالغة فيه في زمن الحر، إلا أن يتقيه بثوبه لشدة حر الحجارة.

وقد ترجم لحديث أنس في البابين أيضًا.

ص: 295

‌10 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ العَمَلِ فِي الصَّلَاةِ

1209 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كُنْتُ أَمُدُّ رِجْلِي فِي قِبْلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَرَفَعْتُهَا، فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهَا. [انظر: 382 - مسلم: 512، 744 - فتح: 3/ 80]

1210 -

حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً قَالَ:"إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي، فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ، فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَي سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ سُلَيْمَانَ عليه السلام: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. فَرَدَّهُ اللهُ خَاسِيًا". ثُمَّ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: "فَذَعَتُّهُ" بِالذَّالِ أَيْ: خَنَقْتُهُ، وَ"فَدَعَّتُّهُ" مِنْ قَوْلِ اللهِ:{يَوْمَ يُدَعُّونَ} [الطور:13] أَيْ: يُدْفَعُونَ وَالصَّوَابُ: فَدَعَتُّهُ، إِلاَّ أَنَّهُ كَذَا قَالَ بِتَشْدِيدِ العَيْنِ وَالتَّاءِ. [انظر: 461 - مسلم: 541 - فتح: 3/ 80]

ذكرفيه حديث عائشة قَالَتْ: كُنْتُ أَمُدُّ رِجْلِي فِي قِبْلَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُو يُصَلِّي .. الحديث.

وقد سلف في باب الصلاة عليَّ الفراش

(1)

.

وحديث أبي هريرة: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً فقال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي، فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلَاةَ عَلَيَّ، فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَذَعَتُّهُ .. " الحديث.

وقد سلف في باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد

(2)

.

وقوله هنا: "فذعتُه" أي خنقته، وهو بالدال. والذال: الدفع العنيف.

(1)

برقم (382) كتاب: الصلا ة.

(2)

برقم (461) كتاب: الصلاة.

ص: 296

قيل: هما سواء، وقيل: هو بالمعجمة لا غير.

قَالَ صاحب "المطالع": وعند ابن الحذاء في حديث ابن أبي شيبة بذال وغين معجمتين.

وفي بعض نسخ البخاري هنا إثر الحديث عن النضر بن شميل: فذعته بالذال خنقته، وفدعته من قول الله تعالى:{يَوْمَ يُدَعُّونَ} [الطور: 13] أي يدفعون، والصواب: فذعته. أي بالمعجمة إلا أنه كذا قَالَ بتشديد العين والتاء وفي حاشيته: فدععته، بتكرار العين. وقال ابن التين عن الخطابي: الذعت: شدة الخنق، بالذال المعجمة

(1)

.

وذكر عن الخليل أنه الضرب بالأرض والتلويث. وقال الداودي عن النضر: فذعته بالذال: خنقته. وفدعته من قول الله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ} [الطور: 13] أي: يدفعون. قَالَ: والصواب: فذعته، إلا أنه بتشديد العين والتاء.

ثم قَالَ: فقوله: والصواب: فذعته. إنما يجوز ذلك إذا كانت الرواية بالغين، وأما بالعين من {يُدَعُّونَ} فلا يجوز إلا التشديد؛ لأنه إنما يقال في التخفيف: ودع يدع. مع أن الفعل الماضي منها قلما تستعمله العرب. قَالَ: ومنه قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3].

وقوله: (هو من قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ})[الطور: 13] ليس بصحيح، ولو كان كذلك لكان: دعوته.

قَالَ ابن التين: وقول الداودي أيضًا غير صحيح؛ لأن فاء الفعل الذي ذكره واو فكان يقول: فودَّعته. بتشديد الدال وتخفيفها، وفيه روايات كثيرة. فدعته وفدعّتّه بتشديد العين والتاء، ولا يصح إلاعلى

(1)

"أعلام الحديث" 1/ 651.

ص: 297

التكثير من دعت. والصحيح منها ما ذكرناه فيما تقدم أنها ذال معجمة، وعين غير معجمة مخففة، والتاء مشددة.

وقوله: ("فَذَكَرْتُ قَوْلَ أخي سُلَيْمَانَ") قَالَ الداودي: لما احتمل قول سليمان {لَا يَنْبَغِي} [ص: 35] لشيء منه أو جميعه كفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفعل.

وقوله: ("فَرَدَّهُ اللهُ خاسئا") أي: مبعدًا. وقد أسلفنا غير مرة اغتفار العمل اليسير في الصلاة دون الكثير، والإجماع قائم على أنه غير جائز، والمرجع فيه إلى العرف، وغمزهُ صلى الله عليه وسلم رِجْلَ الصِّدِّيقَةِ في الصلاة هو من العمل اليسير، ولا يلحق مكرره بالكثير؛ لأجل تفرقه.

وروى عبد الرزاق مفسرًا صورة الشيطان فقال: "عرض لي في صورة هر". فهذا معنى قوله: "فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ" أي: صوره لي في صورة هرًّ شخصًا يمكنه أخذه، فأراد ربطه، فهو من العمل اليسير في الصلاة، وربطه بسارية قد يحتاج إلى عمل كثير، لكن قد هم به الشارع، ولا يهم إلا بجائز، ومما استخف العلماء من العمل في الصلاة أخذ البرغوث والقملة، ودفع المار بين يدي المصلي، والإشارة، والالتفات الخفيف، والمشي الخفيف، وقتل الحية والعقرب، وقد أمر بهما الشارع، وهذا كله إذا لم يقصد المصلي بذلك العبث في صلاته ولا التهاون بها.

وممن أجاز أخذ القملة في الصلاة وقتلها الكوفيون والأوزاعي.

وقال أبو يوسف: قد أساء، وصلاته تامة. وكره الليث قتلها في المسجد، ولو قتلها لم يكن عليه شيء. وقال مالك: لا يقتلها في المسجد، ولا يطرحها فيه، ولا يدفنها في الصلاة.

ص: 298

وقال الطحاوي: لو حك بدنه لم يكره، كذلك أخذ القملة وطرحها

(1)

.

ورخص في قتل العقرب في الصلاة ابن عمر والحسن

(2)

والأوزاعي، واختلف قول مالك فيه: فمرة كرهه ومرة أجازه، وقال: لا بأس بقتلها إذا آذته. وخففه، وكذلك الحية والطير يرميه بحجر يتناوله من الأرض، فإن لم يطل ذلك لم تبطل صلاته

(3)

.

وأجاز قتل الحية والعقرب في الصلاة الكوفيون والشافعى وأحمد

إسحاق

(4)

، وكره قتل العقرب في الصلاة إبراهيم النخعي

(5)

.

وسئل مالك عمن يمسك عنان فرسه في الصلاة ولا يتمكن من وضع يديه بالأرض. قَالَ: أرجو أن يكون خفيفًا ولا يتعمد ذلك.

وروى علي بن زياد عن مالك في المصلي يخاف على صبي بقرب نارٍ فذهب ينحيه. قَالَ: إن انحرف عن القبلة ابتدأ، وإن لم ينحرف بني.

وسئل أحمد عن رجل أمامه سترة فسقطت فأخذها فأركزها. قَالَ: أرجو أن لا يكون به بأس. فذكر له عن ابن المبارك أنه أمر رجلًا صنع ذلك بالإعادة قَالَ: لا آمره بالإعادة، وأرجو أن يكون خفيفًا. وأجاز مالك والشافعي حمل الصبي في الصلاة المكتوبة، وهو قول أبي ثور

(6)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 316 - 317، "المدونة" 1/ 100.

(2)

رواه عنهما ابن أبي شيبة 1/ 432 (4971، 4974) كتاب: الصلوات، باب: في قتل العقرب في الصلاة، وانظر:"الأوسط" 3/ 270 - 271.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 237.

(4)

انظر: "الأصل" 1/ 199، "المجموع" 4/ 37، "المغني" 2/ 399.

(5)

انظر: "الأوسط" 3/ 271، "شرح السنة" 3/ 268.

(6)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 236، "الأوسط" 3/ 277.

ص: 299

‌11 - باب إِذَا انْفَلَتَتِ الدَّابَّةُ فِي الصَّلَاةِ

وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنْ أُخِذَ ثَوْبُهُ يَتْبَعُ السَّارِقَ وَيَدَعُ الصَّلَاةَ.

1211 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الأَزْرَقُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: كُنَّا بِالأَهْوَازِ نُقَاتِلُ الحَرُورِيَّةَ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ، وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا -قَالَ شُعْبَةُ: هُوَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ- فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الخَوَارِجِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْعَلْ بِهَذَا الشَّيْخِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ الشَّيْخُ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَكُمْ، وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّ غَزَوَاتٍ أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَثَمَانَ، وَشَهِدْتُ تَيْسِيرَهُ، وَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَنْ أُرَاجِعَ مَعَ دَابَّتِي، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجِعُ إِلَى مَأْلَفِهَا فَيَشُقَّ عَلَيَّ. [6127 - فتح: 3/ 81]

1212 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ بِسُورَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ رَكَعَ حَتَّى قَضَاهَا وَسَجَدَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا حَتَّى يُفْرَجَ عَنْكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُ فِي مَقَامِي هَذَا كُلَّ شَىْءٍ وُعِدْتُهُ، حَتَّى لَقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السَّوَائِبَ". [انظر: 1044 - مسلم: 901 - فتح: 3/ 81]

وذكر فيه عن الأزرق

(1)

بن قيس قَالَ: كُنَّا بِالأَهْوَازِ نُقَاتِلُ الحَرُورِيَّةَ، فَبَيْنَا أَنَا عَلَى جُرُفِ نَهَرٍ إِذَا رَجُل يُصَلِّي، وَإِذَا لِجَامُ دَابَّتِهِ بِيَدِهِ، فَجَعَلَتِ الدَّابَّةُ تُنَازِعُهُ، وَجَعَلَ يَتْبَعُهَا. قَالَ شُعْبَةُ: هُو أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ .. الحديث.

(1)

كتب فوقها في الأصل: مسندًا.

ص: 300

وعن عروة

(1)

قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ سُورَةً طَوِيلَةً .. الحديث. وفيه:"حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أتقَدَّمُ".

الشرح:

قصة الأزرق ستأتي في الأدب

(2)

، وهو من أفراده، وفي بعض روايات الإسماعيلي: كنا نقاتل الأزارقة بالأهواز مع المهلب بن أبي صفرة

(3)

، وفيه: فمضت الدابة وانطلق أبو برزة حَتَّى أخذها ثم رجع القهقرى، فقال رجل كان يرى رأي الخوارج. وفيه: فقلت للرجل: ما أرى الله إلا مخزيك، تسب رجلًا من الصحابة! وفيه: قَالَ: قلتُ: كم صلى؟ قَالَ: ركعتين. وهو عند البرقاني. وفي رواية حماد بن زيد عنده: فجاء أبو برزة الأسلمي فدخل في صلاة العصر.

وحديث عائشة سلف في الخسوف

(4)

.

و (الأهواز) قَالَ صاحب "العين": هي سبع كور بين البصرة وفارس، لكل كورة منها اسم، وتجمعها الأهواز، ولا تفرد واحدة منها بهوز

(5)

.

كذا قاله صاحب "المحكم"

(6)

.

وقال غيره: بلاد واسعة متصلة بالجبل وأصبهان. وقال البكري: بلد يجمع سبع كور: كورة الأهواز، وجُنْدَيْ سابور، والسوس، وسُرَّق، ونهر بين، ونهر تبرا

(7)

. وقال ابن السمعاني: يقال لها الآن: سوق الأهواز.

(1)

كتب فوقها في الأصل: مسندٌ.

(2)

برقم (6127) باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا".

(3)

رمز فوقها بالأصل: (د. ت. س).

(4)

برقم (1044) كتاب: الكسوف، باب: الصدقة في الكسوف.

(5)

"العين" 4/ 73.

(6)

"المحكم" 4/ 294.

(7)

"معجم ما استعجم" 1/ 206 وانظر: "معجم البلدان" 1/ 284 - 286.

ص: 301

وفي "الكامل"

(1)

لأبي العباس المبرد أن الخوارج تجمعت بالأهواز مع نافع بن الأزرق سنة أربع وستين، فلما قتل نافع وابن عبيس رئيس المسلمين من جهة ابن الزبير ثم خرج إليهم حارثة بن بدر، ثم أرسل إليهم ابن الزبير عثمان بن عبيد الله، ثم تولى القباع فبعث إليهم المهلب، وكل من هؤلاء الأمراء يمكنون معهم في القتال جبنًا، فلعل ذلك انتهى إلى سنة خمس. لكن أبو برزة مات سنة ستين، وأكثر ما قيل: سنة أربع

(2)

.

والحرورية -بفتح الحاء المهملة وضم الراء- نسبة إلى حروراء موضع

(3)

.

وذكر أبو برزة العلة في فعله وهي الكلفة التي تلحقه في طلبها.

ولا خلاف بين الفقهاء في أن من انفلتت دابته وهو في الصلاة فإنه يقطع الصلاة ويتبعها.

واختلف قول مالك في الشاة إذا أكلت العجين أو قطعت الثوب وهو يصلي، فقال مرة: لا يقطع الفرض. وقال ابن القاسم وغيره: يقطعه.

وكذا قَالَ ابن القاسم في المسافر تنفلت دابته ويخاف عليها، أو على صبي، أو أعمى يخاف أن يقع في بئر أو نار، أو ذكر متاعًا يخاف أن يتلف، فذلك عذر يبيح له أن يستخلف، ولا يفسد على من خلفه شيئًا. وقال مالك في "المختصر": من خشي على دابته الهلاك أوعلى صبي رآه في الموت، فليقطع صلاته.

(1)

"الكامل في اللغة والأدب" 2/ 225 وما بعدها.

(2)

وقع بهامش الأصل تعليقه نصه: تناقض قول الذهبي في وفاة أبي برزة فقال في "الكاشف" بقي إلى سنة 64 وقال في "التجريد": توفي سنة 60.

(3)

انظر: "معجم البلدان" 2/ 245.

ص: 302

قَالَ ابن التين: والصواب أنه إذا كان شيء له قدر يخشى فواته يقطع، وإن كان يسيرًا فتماديه على صلاته أولى من صيانة قدر يسير من ماله. هذا حكم الفذ والمأموم، فأما الإمام ففي كتاب ابن سحنون: إذا صلى ركعة ثم انفلتت دابته وخاف عليها أو خاف على صبي أو أعمى أن يقعا في بئر، أو ذكر متاعًا يخاف تلفه، فذلك عذر يبيح له أن يستخلف، ولا يفسد على من خلفه شيئًا.

وعلى قول أشهب إن لم يبعد واحد عنهم بنى قياسًا على قوله: إذا خرج لغسل دم رآه في ثوبه أحب إليَّ أن يستأنف. وإن بنى أجزأه.

وقول أبي برزة للذي أنكر عليه قطع الصلاة واتباع دابته: (شهدت تيسير النبي صلى الله عليه وسلم). يعني: تيسيره على أمته في الصلاة وغيرها، ولا يبعد أن يفعل هذا أبو برزة من رأيه دون أن يشاهده من الشارع.

وصحف الداودي (تيسيره) بـ (تُستر) فقال: فتح تُستر كان في زمن عمر. وهو تصحيف عجيب، فالحديث يدل على خلافه.

وقوله: (وَإِنِّي غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِتَّ غَزَوَاتٍ أو سبعًا أو ثمانيًا). هو شك من المحدث أو من أبي برزة. وفيه أنه إذا هضم (من)

(1)

امرئ ذكر فعله وفضائله.

وقوله: (وَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَنْ أُرَاْجعَ مَعَ دَابَّتِي، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَدَعَهَا تَرْجعُ إِلَي مَأُلَفِهَا فَيَشُقَّ عَلَيَّ.). أخبر أن قطعه للصلاة واتباعه لدابته أفضل من تركها، وإن رجعت إلى مكان علفها وموضعها في داره، وهو المراد بمألفها. أي: الموضع الذي ألفته واعتادته، فكيف إن خشي عليها أنها لا ترجع إلى داره فهذا أشد لقطعه للصلاة واتباعه لها، ففي هذا حجة

(1)

كذا بالأصل، ولعلها: حق.

ص: 303

للفقهاء في أن كل ما خشي تلفه من متاع أو مال أو غير ذلك من جميع ما بالناس إليه حاجة أنه يجوز قطع الصلاة وطلبه، وذلك في معنى قطع الصلاة لهرب الدابة.

وأما قوله- صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة: "لَقَدْ رَأَيْتُ أُرِيدُ أَنْ آخُذَ قِطْفًا مِنَ الجَنَّةِ حِينَ رَأَيْتُمُونِي جَعَلْتُ أَتَقَدَّمُ" فهذا المشي عمل في الصلاة. وكذلك قوله بعده: "حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ" عمل أيضًا إلا أنه ليس فيه قطع للصلاة ولا استدبار للقبلة، ولا مشي كثير مثل من يمشي (ممن)

(1)

انفلتت دابته وبعدت عنه، فدل أن المشي إلى دابته خطى يسيرة نحو تقدمه صلى الله عليه وسلم إلى القطف، وكانت دابته قريبًا منه في قبلته أنه لا يقطع صلاته.

وقد سئل الحسن البصري عن رجل صلى فأشفق أن تذهب دابته.

قَالَ: ينصرف. قيل له: أيتم على ما مضى؟ قَالَ: إذا ولى ظهره القبلة استأنف الصلاة

(2)

.

وسئل قتادة عن رجل دخلت الشاة بيته وهو يصلي فطأطأ رأسه ليأخذ القصبة يضربها. قَالَ: لا بأس بذلك

(3)

.

(1)

بالأصل: من.

(2)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 261 (3288) كتاب: الصلاة، باب: الرجل يكون في الصلاة فيخشى أن يذهب دابته ..

(3)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الحادي بعد المائة. كتبه مؤلفه غفر الله له.

ص: 304

‌12 - باب مَا يَجُوزُ مِنَ البُصَاقِ وَالنَّفْخِ فِي الصَّلَاةِ

وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: نَفَخَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سُجُودِهِ فِي كُسُوفٍ.

1213 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ المَسْجِدِ، فَتَغَيَّظَ عَلَى أَهْلِ المَسْجِدِ وَقَالَ:"إِنَّ اللهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ، فَإِذَا كَانَ فِي صَلَاتِهِ فَلَا يَبْزُقَنَّ" أَوْ قَالَ "لَا يَتَنَخَّمَنَّ". ثُمَّ نَزَلَ فَحَتَّهَا بِيَدِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: إِذَا بَزَقَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْزُقْ عَلَى يَسَارِهِ. [انظر: 406 - مسلم: 547 - فتح: 3/ 84]

1214 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى". [انظر: 241 - مسلم: 413، 551 - فتح: 3/ 54]

ثم أسند فيه حديث ابن عمر أنه عليه السلام رَأى نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ المَسْجِدِ .. الحديث.

وحديث أنس: "إِذَا كَانَ أحدكم فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلَا يَبْزُقَنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ .. " الحديث.

أما حديث عبد الله بن عمرو المعلق فأخرجه أبو داود والنسائي والترمذي في "شمائله"

(1)

. وإنما قَالَ: ويذكر. لأنه من رواية عطاء بن السائب، ولم يخرج له إلا حديثًا واحدًا مقرونًا، واختلط بآخره

(1)

"سنن أبي داود" برقم (1194) كتاب: الصلاة، باب: من قال: يركع ركعتين، و"سنن النسائي" 3/ 137 - 138 كتاب: الكسوف، باب: كيف صلاة الكسوف و"شمائل الترمذي" ص 145 (325) باب: ما جاء في بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" برقم (1079).

ص: 305

فيحتج بمن سمع منه قبله.

وحديث ابن عمر وأنس سلفا في المساجد

(1)

.

وشيخ البخاري في حديث أنس: محمد، وهو بندار. واعترض أبو عبد الملك بأن البخاري ذكر النفخ ولم يذكر له حديثًا، وهو عجيب، فقد ذكره معلقًا.

إذا عرفت ذلك، فاختلف العلماء في النفخ في الصلاة متعمدًا، فكرهه طائفة ولم توجب على من نفخ إعادة، روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس والنخعي

(2)

، ورواية عن مالك، وهو قول أبي يوسف وأشهب وأحمد وإسحاق

(3)

، وقالت طائفة: هو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة. وروي عن سعيد بن جبير

(4)

، وهو قول مالك في "المدونة"

(5)

: وكذا من تنحنح، وعندنا البطلان إن بان حرفان

(6)

.

احتج للأول بأنه صلى الله عليه وسلم يحتمل أنه سها أو تنفس صعداء، وبدر ذلك منه من الخوف من الكسوف، وأنها أيضًا ليست حروف هجاء، واحتج مالك للثاني بقوله:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]

(1)

برقم (405 - 406) كتاب: الصلاة، باب: حك البزاق باليد من المسجد.

(2)

روى ذلك ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 245 - 246.

(3)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 301، "الذخيرة" 2/ 140، "المغني" 2/ 452. وروي عن أحمد رواية ثانية: بأن النفخ بمنزلة الكلام وقال أيضًا: قد فسدت صلاته.

انظر: "المغني" 2/ 451.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 67 (6537) كتاب: الصلوات، باب: في النفخ في الصلاة.

وذكره ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 246.

(5)

"المدونة" 1/ 101.

(6)

انظر: "المجموع" 4/ 11، 21.

ص: 306

وفي المسألة قول ثالث: أنه إن كان يسمع كالكلام فيقطع الصلاة، وهو قول أبي حنيفة والثوري ومحمد، ورجح ابن بطال الأول فقَالَ: إنه أولى لما ذكره البخاري

(1)

.

وذكر ابن أبي شيبة عن أبي صالح أن قريبًا لأم سلمة صلى فنفخ، فقالت أم سلمة: لا تفعل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لغلام لنا أسود:"يا رباح، ترب وجهك"

(2)

وقال ابن بريدة: كان يقال: من الجفاء أن ينفخ الرجل في صلاته

(3)

.

فدل هذا أن من كرهه إنما جعله من الجفاء وسوء الأدب، لا أنه بمنزلة الكلام عنده، ألا ترى أن أم سلمة لم تأمر قريبها حين نفخ في الصلاة بإعادتها؟ ولو كان بمنزلة الكلام عندها ما تركت بيان ذلك، ولا فعله الشارع، ويدل على صحة هذا اتفاقهم على جواز التنخم والبصاق في الصلاة، وليس في النفخ من النطق بالفاء والهمزة أكثر مما في البصاق من النطق بالفاء والتاء اللتين يفهمان من رمي البصاق، ولما اتفقوا على جواز البصاق في الصلاة جاز النفخ فيها، إذ لا فرق في أن كل واحد منهما بحروف.

ولذلك ذكر البخاري حديث البصاق في هذا الباب؛ ليستدل به على جواز النفخ؛ لأنه لم يسند حديث عبد الله بن عمرو، واعتمد على الاستدلال من حديث النخامة والبصاق وهو استدلال حسن.

وأما البصاق اليسير فإنه يحتمل في الصلاة، إذا كان على اليسار أو تحت القدم كما في الحديث، غير أنه ينبغي إرساله بغير نطق بحرف مثل

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 205.

(2)

"المصنف" 2/ 68 (6548) كتاب: الصلوات، باب: النفخ في الصلاة.

(3)

"المصنف" 2/ 67 - 68 (6546).

ص: 307

التاء والفاء اللتين يفهمان من رمي البصاق؛ لأن ذلك من النطق، وهو خلاف الخشوع فيها.

وورد: "من نفخ في صلاته فقد تكلم"

(1)

(2)

.

وفي "المصنف" عن ابن جبير: ما أبالي نفخت في الصلاة أو تكلمت، النفخ في الصلاة كلام.

وكان إبراهيم يكرهه، وكذا ابن أبي الهذيل، ومكحول وعطاء وأبو عبد الرحمن والشعبي وأم سلمة ويحيى بن أبي كثير.

وعن ابن عباس: النفخ في الصلاة يقطع الصلاة

(3)

.

وقوله: ("إِنَّ اللهَ قِبَلَ أَحَدِكُمْ، فَإِذَا كَانَ فِي صَلَاِتهِ فَلَا يَبْزُقَنَّ") خص النهي إذ ذاك لشرف الصلاة والاستقبال.

والمراد بقول: ("قبل أحدكم") ثوابه وإحسانه من قبل وجهه، فيجب تنزيه تلك الجهة عن البصاق أو ما أمره بتنزيهه وتعظيمه قبل وجهه، وأن في تعظيم تلك الجهة تعظيم الرب جل جلاله. وقيل: معناه أن مقصوده بينه وبينها فَيُصَان، وهذا كله في البصاق الظاهر.

(1)

ورد بهامش الأصل ما نصه: قوله: وورد "من نفخ

" إلى آخره، هو حديث في النسائي أنه عليه السلام مَرّ برباح وهو يصلي، فنفخ في سجوده فقال "يا رباح لا تنفخ إن من نفخ فقد تكلم" وفي سنده عنبسة بن الأزهر قال أبو حاتم: لا بأس به وليس بحجة انتهى، وقد ذكره عبد الحق وضعفه بسبب عنبسة فاعلمه.

(2)

رواه النسائي في "الكبرى" 1/ 196 (548) كتاب: السهو، باب: النهي عن النفخ في الصلاة، وعبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 189 (3017) كتاب: الصلاة، باب: النفخ في الصلاة. عن أم سلمة.

(3)

"المصنف" 2/ 67 - 68 (6537 - 6540، 6542، 6543 - 6545، 6547 - 6549).

ص: 308

و (النخامة): النخاعة، قاله ابن فارس

(1)

. قَالَ الداودي: وهي الشيء الخاثر ينزل من الرأس أو يخرج من الصدر فيخالط البصاق. و (حتها): أزالها؛ لأنه كريه المنظر.

وقول سلمان إبراهيم النخعي أن البصاق نجس

(2)

. خلاف الإجماع ولا يكتفي بدفن الدم في المسجد، قَالَ مالك: من دمى فوه فيه فلينصرف حَتَّى يزول عنه. قَالَ: ولا بأس أن يبصق أمامه أو عن يساره أو عن يمينه، والأفضل عن اليسار

(3)

.

قَالَ أبو عبد الملك: ولعل هذا الحديث لم يبلغ مالكا. ومعنى قوله: ("تحت قدمه اليسرى") أي: مع دفنه.

(1)

"مجمل اللغة" 2/ 861.

(2)

روى هذين الأثرين ابن حزم في "المحلى" 1/ 139.

(3)

انظر: "المدونة" 1/ 99.

ص: 309

‌13 - باب مَنْ صَفَّقَ جَاهِلًا مِنَ الرِّجَالِ فِي صَلَاتِهِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ

فِيهِ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ - رضى الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

هذا الحديث سلف الكلام عليه مع الترجمة.

ص: 310

‌14 - باب إِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي تَقَدَّمْ أَوِ انْتَظِرْ فَانْتَظَرَ فَلَا بَأْسَ

1215 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ، فَقِيلَ لِلنِّسَاءِ:"لَا تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا". [انظر: 362 - مسلم: 441 - فتح: 3/ 86]

ذكر فيه حديث سهل بن سعد قَالَ: كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ عَاقِدُو أُزْرِهِمْ مِنَ الصِّغَرِ عَلَى رِقَابِهِمْ .. الحديث.

وقد سلف في باب: إذا كان الثوب ضيقًا

(1)

، وقطعة منه معلقًا في باب: عقد الإزار على القفا في الصلاة

(2)

.

وقوله: (من الصغر) أي: من صغر الثياب، وهذا في أول الإسلام حين القلة، ثم جاء الفتوح.

والتقدم في هذا الحديث هو تقدم الرجال بالسجود النساء؛ لأن النساء إذا لم يرفعن رءوسهن حَتَّى يستوي الرجال جلوسًا فقد تقدموهن بذلك، وصرن منتظرات لهم.

وفيه: جواز وقوع فعل المأموم بعد الإمام بمدة، ويصح إتمامه كمن زحم ولم يقدر على الركوع والسجود حَتَّى قام الناس.

وفيه: جواز سبق المأمومين بعضهم لبعض في الأفعال، ولا يضر ذلك.

وفيه: إنصات المصلي لمخبر يخبره.

(1)

برقم (362) كتاب: الصلاة.

(2)

قبل الرواية (352) كتاب: الصلاة.

ص: 311

وفيه: جواز الفتح على المصلي وإن كان الذي يفتح عليه في غير صلاة؛ لأنه قد يجوز أن يكون القائل للنساء: "لا ترفعن رءوسكن حَتَّى يستوي الرجال جلوسًا". ومثله حديث: كان النساء يسرعن الانصراف إذا قضوا

(1)

الصلاة؛ لئلا يلحقهم

(2)

الرجال، والعكس كذلك

(3)

.

وفيه: التنبيه على جواز إصغاء المصلي في الصلاة إلى الخطاب الخفيف، وتفهمه، والتربص في إتيانها لحق غيره، ولغير مقصود الصلاة، فيؤخذ من هذا صحة انتظار الإمام في الركوع للداخل؛ ليدرك الإحرام والركعة إذا كان ذلك خفيفا، ويضعف القول بإبطال الصلاة بذلك، وهو قول سُحنون بناءً على أن الإطالة -والحالة هذِه- أجنبية عن مقصود الصلاة

(4)

.

(1)

ورد بالأصل فوق هذِه الكلمة: كذا.

(2)

ورد بالأصل فوق هذِه الكلمة: كذا.

(3)

سبق برقم (870، 827) وكتاب: الأذان، باب: سرعة انصراف النساء من الصبح.

(4)

قال سحنون بانتظار الإمام إذا أحسَّ أحدًا دخل المسجد وإن طال ذلك.

انظر "الذخيرة" 2/ 274، "التاج والإكليل" 1/ 405، "مواهب الجليل" 1/ 404.

ص: 312

‌15 - باب لَا يَرُدُّ السَّلَامَ فِي الصَّلَاةِ

1216 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنْتُ أُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيَّ، فَلَمَّا رَجَعْنَا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ وَقَالَ:"إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا". [انظر: 1199 - مسلم: 538 - فتح: 3/ 86]

1217 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِنْظِيرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ لَهُ فَانْطَلَقْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ وَقَدْ قَضَيْتُهَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَىَّ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِى مَا اللهُ أَعْلَمُ بِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَعَلَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ عَلَيَّ أَنِّي أَبْطَأْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِي أَشَدُّ مِنَ المَرَّةِ الأُولَى، ثُمَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ فَقَالَ:"إِنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي". وَكَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَي غَيْرِ القِبْلَةِ. [انظر 400 - مسلم: 540 - فتح: 3/ 86]

ذكر فيه حديث علقمة، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنْتُ أُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُو فِي الصَّلَاةِ فَيَرُدُّ عَلَيَّ .. الحديث.

وحديث عطاء عن جابر: قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ لَهُ فَانْطَلَقْتُ .. الحديث.

وقد سلف الأول في باب: ما ينهى من الكلام

(1)

، والثاني ذكرته فيه، وأخرجه مسلم أيضًا

(2)

، وأخرجه أيضًا من حديث أبي الزبير عن جابر

(3)

، وحكى ابن بطال هنا الإجماع أنه لا يرد السلام نطقًا

(4)

، وقد أسلفناه في موضعه.

(1)

برقم (1199) كتاب: العمل في الصلاة.

(2)

"صحيح مسلم"(538) كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ..

(3)

"صحيح مسلم"(540).

(4)

"شرح ابن بطال" 3/ 188.

ص: 313

قَالَ: واختلفوا: هل يرد بالإشارة؟ فكرهته طائفة، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وهو قول أبي حنيفة والشافعى وأحمد وإسحاق وأبي ثور

(1)

.

واحتجٍ الطحاوي لأصحابه بقوله: فلم يرد عليه. وقال: "إن في الصلاة شغلًا"

(2)

.

واختلف فيه قول مالك، فمرة كرهه ومرة أجازه، وقال: ليرد مشيرًا بيده ورأسه.

ورخصت فيه طائفة، روي عن سعيد بن المسيب وقتادة والحسن

(3)

.

وفيه قول ثالث أنه يرد إذا فرغ، وقد سلف هناك.

واحتج الذين رخصوا في ذلك بما رواه ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين قَالَ: لما قدم عبد الله من الحبشة وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلم عليه فأومأ وأشار برأسه

(4)

.

وعن ابن عمر قَالَ: سألت صهيبًا: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع حين يسلم عليه وهو يصلي؟ قَالَ: يشير بيده

(5)

.

(1)

هذِه العبارة فيها اضطراب.

فممن قال: يستحب رد السلام بالإشارة ابن عمر وابن عباس والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال أبو حنيفة لا يرد لا لفظًا ولا إشارة. بل هو ما ذكره المصنف في أول فوائد حديث رقم (1199) من نهاية شرح الحديث.

انظر: "المجموع" 4/ 37، "الشرح الكبير" 4/ 47.

(2)

"شرح معاني الآثار" 1/ 455 - 456.

(3)

ذكرها ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 251.

(4)

"المصنف" 1/ 419 (4819) كتاب: الصلوات، باب: من كان يرد ويشير بيده أو برأسه.

(5)

روى هذا الحديث أبو داود (925) كتاب: الصلاة، باب: رد السلام في الصلاة، =

ص: 314

وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قباء فجاء الأنصار يسلمون عليه وهو يصلي، فأشار إليهم بيده

(1)

.

وقال عطاء: سلم رجل عليّ ابن عباس وهو يصلي وأخذ بيده فصافحه وغمزه

(2)

.

وقد ثبتت الإشارة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة في آثار كثيرة ذكرها البخاري في آخر كتاب الصلاة كما ستعلمه قريبًا

(3)

، فلا معنى لقول من أنكر الرد بالإشارة، وكذلك اختلفوا في السلام على المصلي كما أسلفناه هناك، فكره ذلك قوم. وروي عن جابر بن عبد الله قَالَ: لو دخلت على قوم وهم يصلون ما سلمت عليهم

(4)

. قَالَ أبو مجلز:

= والترمذي (367) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الإشارة في الصلاة، وابن أبي شيبة 1/ 418 - 419 (4811) كتاب: الصلوات، باب: من كان يرد ويشير بيده أو برأسه، وأحمد 4/ 332، وابن الجارود في "المنتقى" 1/ 196 (216)، وابن المنذر في "الأوسط" 3/ 249 - 250، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 454، والبيهقي 2/ 259 كتاب: الصلاة، باب: الإشارة في الصلاة. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(858).

(1)

رواه أبو داود (927) في الصلاة، باب: رد السلام في الصلاة. والترمذي (368) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الإشارة في الصلاة، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن الجارود في "المنتقى" 1/ 195 - 196 (215)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 453 - 454، والبيهقي 2/ 259 في الصلاة، باب: الإشارة برد السلام. وقال الألباني في "صحيح أبي داود"(860): إسناده حسن صحيح.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 1/ 419 (4820) باب: من كان يرد ويشير بيده أو برأسه.

(3)

ستأتي برقم (1234) كتاب: السهو، باب: الإشارة في الصلاة.

(4)

رواه عنه ابن أبي شيبة بلفظ: ما كنت لأسلم على رجل وهو يصلي، زاد أبو معاوية: ولو سلم عليَّ لرددت عليه. 1/ 419 (4815) كتاب: الصلوات، باب: من كان يرد ويشير بيده أو برأسه.

ص: 315

السلام على المصلي عَجزٌ

(1)

، وكرهه عطاء والشعبي

(2)

ورواه ابن وهب عن مالك، وبه قَالَ إسحاق

(3)

. ورخصت فيه أخرى، روي ذلك عن ابن عمر

(4)

وهو قول مالك في "المدونة"، قَالَ: لا يكره السلام عليه في فريضة ولا نافلة

(5)

، وفعله أحمد

(6)

.

(1)

"المصنف" 1/ 418 (4805) كتاب: الصلوات، باب: الرجل يسلم عليه في الصلاة.

(2)

رواه ابن أبي شيبة عن الشعبي 1/ 418 (4806).

وذكره عنهما ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 250.

(3)

ذكره عنهم ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 250.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 1/ 419 (4816) كتاب: الصلوات، باب: من كان يرد ويشير بيده أو برأسه.

(5)

"المدونة" 1/ 98.

(6)

انظر: "الشرح الكبير" 4/ 48.

ص: 316

‌16 - باب رَفْعِ الأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ لأَمْرٍ يَنْزِلُ بِهِ

1218 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَجَاءَ بِلَالٌ إِلَي أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتِ الصَّلَاةُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَال: نَعَمْ، إِنْ شِئْتَ. فَأَقَامَ بِلَالٌ الصَّلَاةَ، وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ، وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا، حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيحِ -قَالَ سَهْلٌ: التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ-. قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَفَتَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدَهُ، فَحَمِدَ اللهَ، ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ، إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللهِ". ثُمَّ التَفَتَ إِلَي أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 684 - مسلم: 421 - فتح: 3/ 87]

ذكر فيه حديث سهل بن سعد: بَلَغَ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ .. الحديث، وفيه: فرفع أبو بكر يده وحمد الله.

وقد سلف في باب: من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول

(1)

، وفي باب: ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال قريبًا

(2)

.

(1)

برقم (684) كتاب: الأذان.

(2)

برقم (1201) كتاب: العمل في الصلاة.

ص: 317

ورفع الأيدي فيه استسلام وخشوع لله عز وجل في غير الصلاة، فكيف الصلاة التي هي موضوعة للخشوع والضراعة إلى الله، والحجة في الحديث رفع الصديق يديه بحضرة الشارع ولم ينكر ذلك عليه.

ص: 318

‌17 - باب الخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ

1219 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نُهِيَ عَنِ الخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ هِشَامٌ وَأَبُو هِلَالٍ: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [1220 - مسلم 545 - فتح: 3/ 88]

1220 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نُهِىَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا. [انظر: 1219 - مسلم: 545 - فتح: 3/ 88]

ذكر فيه حديث أيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نُهِيَ عَنِ الخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ هِشَامٌ وَأَبُو هِلَالٍ: عَنِ ابن سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

وعن هِشَامٍ، ثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نُهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا.

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا

(1)

، وقال أبو داود: يعني: يضع يده على خاصرته

(2)

. وأبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي، روى له الأربعة، وكره ذلك؛ لأنه من فعل الجبارين المتكبرين أو اليهود أو الشيطان، وأن إبليس هبط من الجنة كذلك.

قالت عائشة: هكذا أهل النار في النار

(3)

. وقيل: هو أن يصلي الرجل وبيده عصًا يتوكأ عليها مأخوذ من المخصرة، قاله الهروي

(4)

.

وقيل: لا يتم ركوعها ولا سجودها، كأنه مختصرها. وقيل: أن يقرأ

(1)

"صحيح مسلم"(545) كتاب: العمل في الصلاة، باب: الحضر في الصلاة.

(2)

"سنن أبي داود" عقب الرواية (947) في الصلاة، باب: الرجل يصلي مختصرًا.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 1/ 399 (4592) كتاب: الصلوات، باب: الرجل يضع يده على خاصرته في الصلاة.

(4)

انظر: "غريب الحديث" 1/ 185.

ص: 319

فيها من آخر السورة آية أو آيتين، ولا يتم السورة في فرضه، قاله أبو هريرة. ومنه اختصار السجدة، وهو أن يقرأ بها فإذا انتهى إليها جاوزها.

وقيل: يختصر الآيات التي فيها السجدة فيسجد فيها.

وكرهه ابن عباس وعائشة والنخعي، وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي والكوفيين، وقال ابن عباس في المختصر: إن الشيطان يخصر كذلك، ورأى ابن عمر رجلًا وضع يديه على خاصرتيه فقال: هذا الصلب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، وقال مجاهد: وضع اليد على الحقو استراحة أهل النار في النار

(1)

.

وروي من حديث أبي هريرة: "الاختصار في الصلاة راحة أهل النار"

(2)

.

وقال الخطابي: المعنى أنه فعل اليهود في صلاتهم

(3)

، وهم أهل النار لا على أن لأهل النار المخلدين فيها راحة. قَالَ تعالى:{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} [الزخرف: 75] وقال أبو الحسن اللخمي: يمكن أن يكون راحتهم هذا النذر، ومعلوم أن الإنسان يفعل مثل ذلك عند الإعياء.

(1)

"المصنف" 1/ 399 - 400 (4590، 4593، 4595).

(2)

روى هذا الحديث ابن خزيمة في "صحيحه" 2/ 57 (909) كتاب: الصلاة، باب: ذكر العلة التي لها زجر عن الاختصار في الصلاة، إذ هي راحة أهل النار .... ، وابن حبان في "صحيحه" 6/ 63 (2286) كتاب: الصلاة، باب: ما يكره للمصلي وما لا يكره، والطبراني في "الأوسط" 7/ 85 (6925). وقال: لم يرو هذا الحديث عن هشام بن حسان إلا عبد الله بن الأزور، تفرد به: عيسى بن يونس، والبيهقي 2/ 287 كتاب: الصلاة، باب: كراهية التخصر في الصلاة.

وقال الذهبي في "المهذب" 2/ 726 (3154): منكر.

(3)

"معالم السنن" 1/ 201.

ص: 320

‌18 - باب يفكر الرَّجُلُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ

.

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِنِّي لأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ.

1221 -

حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا عُمَرُ -هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ- قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم العَصْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَأَى مَا فِي وُجُوهِ القَوْمِ مِنْ تَعَجُّبِهِمْ لِسُرْعَتِهِ فَقَالَ:"ذَكَرْتُ وَأَنَا فِي الصَّلَاةِ تِبْرًا عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يُمْسِيَ أَوْ يَبِيتَ عِنْدَنَا فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ". [انظر: 851 - فتح: 3/ 89]

1222 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُذِّنَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا سَكَتَ المُؤَذِّنُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ أَدْبَرَ، فَإِذَا سَكَتَ أَقْبَلَ، فَلَا يَزَالُ بِالمَرْءِ يَقُولُ لَهُ: اذْكُرْ مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى". قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ. وَسَمِعَهُ أَبُو سَلَمَةَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. [انظر: 608 - مسلم: 389 - فتح: 3/ 89]

1223 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: يَقُولُ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ. فَلَقِيتُ رَجُلًا فَقُلْتُ: بِمَ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم البَارِحَةَ فِي العَتَمَةِ؟ فَقَالَ لَا أَدْرِي. فَقُلْتُ: لَمْ تَشْهَدْهَا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: لَكِنْ أَنَا أَدْرِي، قَرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا. [فتح: 3/ 90]

ثم ذكر فيه عن عقبة بن الحارث: قَالَ: صليتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم العَصْرَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ سَرِيعًا دَخَلَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ .. الحديث.

وعن الأَعْرَجِ عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِذَا أُذِّنَ بالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ .. " الحديث. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِذَا فَعَلَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُو قَاعِدٌ. وَسَمِعَهُ أَبُو سَلَمَةَ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ص: 321

وعن سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَقُولُ النَّاسُ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ .. الحديث.

الشرح:

أما أثر عمر فرواه ابن أبي شيبة، عن حفص، عن عاصم، عن أبي عثمان النهدي عنه: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة

(1)

.

وحديث عقبة تقدم في باب: من صلى بالناس فذكر حاجته

(2)

.

وحديث أبي هريرة الأول تقدم في الأذان

(3)

، ووجه إدخاله هنا: أذكر كذا إلى آخره. وقول أبي سلمة يأتي قريبًا في السهو

(4)

، وحديثه الثاني من أفراده.

وأثر عمر إنما كان فيما يقل فيه التفكر، يذكر في نفسه: أخرج فلانًا ومعه كذا من العدد، فيأتي على ما يريده في أقل شيء من الفكرة، وأما إن تابع التفكر وأكثر حَتَّى لا يدري كم صلى، فهذا لاهٍ في صلاته. قَالَ ابن التين: ويجب عليه الإعادة.

وقول أبي هريرة: (يقول الناس: أكثر أبو هريرة). ثم ذكر ما قَالَ

للرجل، وما قيل له فإنما يغبط الناس بحفظه، وبينها لئلا ينساها، وقد كان ابن شهاب يحدث خادمه بالحديث لئلا ينسى، وليس من أهله، وكان إذا خرج إلى البادية صنع طعامًا لهم وحدثهم لئلا ينسى.

وفيه: أنه أكثر من العلم، وكان حافظًا له ضابطًا. والإكثار ليس عيبًا، وإنما يكون عيبًا فيه إذا خشي قلة الضبط، فقد يكون من الناس

(1)

"المصنف" 2/ 188 (7951) كتاب: الصلوات.

(2)

برقم (851) كتاب: الأذان.

(3)

برقم (639) باب: هل يخرج من المسجد لعلة؟.

(4)

سيأتي برقم (1232) باب: السهو في الفرض والتطوع.

ص: 322

غير مكثر من العلم ولا ضابط له مثل هذا الرجل لم يحفظ ما قرأ به صلى الله عليه وسلم في العتمة.

وفيه: أنه قد يجوز أن ينفي فعل الشيء عمن لم يحكمه؛ لأن أبا

هريرة قَالَ للرجل: لم تشهدها؟ يريد شهودًا تامًا، فقال الرجل: بل شهدتها. كما يقال للصانع إذا لم يحسن صنعته: ما صنعت شيئًا. يريدون الإتقان، وللمتكلم: ما قلتَ شيئًا. إذا لم يعلم ما يقول.

وقول الرجل لأبي هريرة: لا أدري بما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. يدل على أنه كان مفكرًا في صلاته، فلذلك لم يدر ما قرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذا تقرر ذلك: فالفكر في الصلاة أمر غالب لا يمكن الاحتراز من جميعه، لما جعل الله للشيطان من السبيل إلى تذكيرنا ما يُسهينا به عن صلاتنا، وخير ما اشتغل به في الصلاة مناجاة الجليل جل جلاله، ثم بعده الفكر في إقامة حدود الله كالفكر في تفريق الصدقة كما فعله صلى الله عليه وسلم، أو في تجهيز جيش الله تعالى على أعدائه المشركين كما فعل عمر

(1)

.

وروى هشام بن عروة، عن أبيه: قَالَ عمر: (إني)

(2)

لأحسب جزية البحرين وأنا في الصلاة

(3)

. ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم: "من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه"

(4)

للحض على الإقبال على الصلاة، وليجاهد الشيطان في ذلك بما رغبهم فيه وأعلمهم من غفران الذنوب لمن أجهد نفسه فيه.

(1)

"المصنف" 2/ 188 (7951).

(2)

في الأصل أنه.

(3)

السابق (7950).

(4)

سلف برقم (159).

ص: 323

وهذا الانصراف من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل في معنى التخطي؛ لأن على الناس كلهم الانصراف بعد الصلاة، فمن بقي في موضعه فهو مختار لذلك، وإنما التخطي في الدخول في المسجد لا في الخروج منه.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اذكر كذا، اذكر كذا" فإن أبا حنيفة أتاه رجل قد دفع مالًا ثم غاب عن مكانه سنين، فلما. انصرف نسي الموضع الذي جعله، فذكر ذلك لأبي حنيفة؛ تبركًا برأيه، ورغبة في فضل دعائه، فقال له أبو حنيفة: توضأ هذِه الليلة وصل، وأخلص النية في صلاتك لله، وفرغ قلبك من خواطر الدنيا، ومن كل عارض فيها.

فلما جاء الليل فعل الرجل ما أمره به واجتهد أن لا يجري على باله شيئًا من أمور الدنيا، فجاءه الشيطان، فذكَّره بموضع المال فقصده من وقته، فوجده، فلما أصبح غدا إلى أبي حنيفة فأخبره بوجوده للمال، فقال أبو حنيفة: قدرت أن الشيطان سيرضى أن يشغله عن إخلاص فعله في صلاته لله تعالى ويصالحه على ذلك بتذكيره بما يقدمه من ماله ليلهيه عن صلاته استدلالًا بهذا الحديث. فعجب جلساؤه من جودة انتزاعه لهذا المعنى الغامض من هذا الحديث، وذكره ابن الجوزي في "الأذكياء"

(1)

.

(1)

"الأذكياء" ص 76.

ص: 324

22 كتاب السهو

ص: 325

بسم الله الرحمن الرحيم

‌22 - كتاب السهو

‌1 - باب فِي السَّهْوِ إِذَا قَامَ مِنْ رَكْعَتَيِ الفَرِض

1224 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ قَامَ فَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ وَنَظَرْنَا تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ، ثُمَّ سَلَّمَ. [انظر: 829 - مسلم: 570 - فتح: 3/ 92]

1225 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ مِنِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ لَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ. [انظر: 829 - مسلم: 570 - فتح: 3/ 92]

ذكر فيه حديث عَبْدِ اللهِ ابن بُحَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ مِنْ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ .. الحديث.

ص: 327

وعنه: قَامَ مِنِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ .. الحديث.

وقد سلف في باب: من لم ير التشهد الأول واجبًا

(1)

. ويأتي قريبًا

(2)

، وهذِه الصلاة هي الظهر كما بينت في الطريق الثاني، وهذا الحديث هو أحد الأحاديث التي عليها مدار باب سجود السهو، وعليها تشعبت مذاهب العلماء.

ثانيها: حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين

(3)

.

ثالثها: حديثه: "إذا لم يدر أحدكم كم صلى"

(4)

.

رابعها: حديث عمران بن حصين

(5)

.

خامسها: حديث ابن مسعود

(6)

.

سادسها: حديث عبد الرحمن بن عوف

(7)

.

وقوله: (ثم قام فلم يجلس). هو موضع استدلال البخاري في الترجمة.

وفيه سجود السهو قبل السلام، وقد اختلف العلماء فيه على ثلاث فرق:

فرقة قالت: إنه قبل السلام مطلقًا، زيادة كان أو نقصانًا، وتعلقت بظاهر هذا الحديث، وهو أظهر أقوال الشافعي

(8)

، ورواية عن أحمد،

(1)

برقم (829) كتاب: الأذان.

(2)

برقم (1230) كتاب: السهو، باب: من يكبر في سجدتي السهو.

(3)

سلف برقم (482) كتاب: الصلاة، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره.

(4)

سيأتي برقم (1231) كتاب: السهو، باب: إذا لم يدر كم صلى ثلاثًا أو أربعًا سجد سجدتين وهو جالس.

(5)

رواه مسلم برقم (574) كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود.

(6)

سلف برقم (404) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القبلة، ومن لم ير الإعادة ..

(7)

سيأتي تخريجه.

(8)

انظر: "المجموع" 4/ 41.

ص: 328

حكاها أبو الخطاب

(1)

، وهو مروي عن أبي هريرة ومكحول والزهري وربيعة والليث ويحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي

(2)

.

واحتجوا أيضًا بحديث ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف في ذلك، أخرجه الترمذي وابن ماجه، قَالَ الترمذي: حسن صحيح، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال مرة: على شرط مسلم

(3)

.

وقال البيهقي: وصله يحيى بن عبد الله، وهو ضعيف

(4)

.

وَطرقَهُ الدارقطني في "علله" ثم قَالَ: فرجع الحديث إلى إسماعيل ابن مسلم، وهو ضعيف

(5)

.

واحتجوا أيضًا بأحاديث:

أحدها: حديث أبي سعيد الخدري، وفيه:"يسجد سجدتين قبل أن يسلم" أخرجه مسلم منفردًا به، ورواه مالك مرسلا

(6)

، وقال الدارقطني:

(1)

"الانتصار في المسائل الكبار" 2/ 367.

(2)

رواه ابن أبي شيبة عن مكحول والزهري 1/ 387 (4449) كتاب: الصلوات، باب: من كان يقول: اسجدهما قبل أن تسلم. وذكر هذِه الآثار جميعها ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 308.

(3)

رواه الترمذي برقم (398) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان وقال: حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه (1209) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن شك في صلاته فرجع إلى اليقين، والحاكم 1/ 324 - 325 كتاب: السهو، باب: سجدتا السهو إذ لم يدركم صلى. وقال: هذا حديث مفسر صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(326).

(4)

"السنن الكبرى" 2/ 332 كتاب: الصلاة، باب: من شك في صلاته فلم يدر صلى ثلاثًا أو أربعًا، ووقع فيها: حسين بن عبد الله.

(5)

"علل الدارقطني" 4/ 257 - 260.

(6)

"صحيح مسلم" برقم (571) كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له.

"الموطأ" ص 80.

ص: 329

القول لمن وصله

(1)

. وخالف البيهقي فقال: كان الأصل الإرسال

(2)

.

ثانيها: حديث معاوية، أخرجه النسائي من حديث ابن عجلان، عن محمد بن يوسف مولى عثمان، عن أبيه، عنه، ثم قَالَ: ويوسف ليس بمشهور

(3)

.

قلتُ: ذكره ابن حبان في "ثقاته"

(4)

، وقال الدارقطني: لا بأس به

(5)

.

وأخرجه البيهقي في "المعرفة" وقال: وكذلك فعله عقبة بن عامر الجهني وقال: السنة الذي صنعت. وكذا سجدهما ابن الزبير، كما قاله أبو داود

(6)

، وهو قول الزهري

(7)

.

قَالَ البيهقي: قد اختلف فيه عن عبد الله بن الزبير

(8)

.

ثالثها: حديث أبي هريرة، وسيأتي، وأخرجه مسلم

(9)

والأربعة

(10)

.

(1)

"علل الدارقطني" 11/ 263.

(2)

"السنن الكبرى" 2/ 331 كتاب: الصلاة، باب: من شك في صلاته فلم يدر صلى ثلاثًا أو أربعًا.

(3)

"المجتبى" 3/ 33 - 34، "السنن الكبرى" 1/ 207 (594)، 1/ 373 (1183).

وليس في المصدرين قول النسائي: ويوسف ليس بمشهور.

وذكره المزي في "التحفة" 8/ 451 (11452) وعزاه للنسائي، ثم قاله: قرأت بخط النسائي: يوسف ليس بالمشهور.

(4)

"الثقات" 5/ 551.

(5)

انظر: "سؤالات البرقاني" للدارقطني 1/ 63 (466).

(6)

"سنن أبي داود" عقب الحديث (1035) كتاب: الصلاة، باب: من قام من ثنتين ولم يتشهد.

(7)

"سنن أبي داود" عقب الرواية (1035). ورواه عنه ابن أبي شيبة 1/ 387 (4449) كتاب: الصلوات، باب: من كان يقول: اسجدهما قبل أن تسلم.

(8)

"السنن الكبرى" 2/ 235 في الصلاة، باب: سجود السهو في النقص من الصلاة.

(9)

"صحيح مسلم" برقم (573) في المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له.

(10)

أبو داود (1008)، الترمذي (399)، النسائي 3/ 20، ابن ماجه (1214).

ص: 330

رابعها: حديث ابن عباس أخرجه الدارقطني

(1)

.

خامسها: حديث ابن مسعود، وغير ذلك من الأحاديث. قَالَ الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول الشافعي، يرى سجود السهو كله قبل السلام، ويقول: هذا الناسخ لغيره من الأحاديث. ويذكر أن آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان على هذا.

وهو قول أكثر الفقهاء من أهل المدينة مثل يحيى بن سعيد وربيعة وغيرهما

(2)

، وقال الشافعي في القديم: أخبرنا مطرف بن مازن

(3)

، عن معمر، عن الزهري قَالَ: سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتي السهو قبل السلام وبعده، وآخر الأمرين قبل السلام. وذكر أن صحبة معاوية متأخرة، وفي "سنن حرملة": سأل عمر بن عبد العزيز ابن شهاب: [متي]

(4)

تسجد سجدتي السهو؟ فقال: قبل السلام؛ لأنهما من الصلاة وما كان من الصلاة فهو مقدم قبل السلام. فأخذ به عمر بن عبد العزيز.

ثم ذكر حديث أبي هريرة الذي فيه: قبل أن يسلم ثم (يسلم)

(5)

. وقد سلف، وقال: ففي روايته ورواية معاوية، وصحبته متأخرة. وحديث ابن بحينة تأكيد هذِه الطريقة التي رواها مطرف

(6)

.

(1)

"سنن الدارقطني" 1/ 373 - 374 كتاب: الصلاة، باب: في ذكر الأمر بالأذان والإمامة وأحقهما.

(2)

"سنن الترمذي" عقب الحديث (391).

(3)

بهامش الأصل: مطرف بن مازن عن معمر، قال الذهبي في "المغني" في ترجمته: ضعفوه، وقال ابن معين: كذاب.

["المغني في الضعفاء" 2/ 662 (6280)].

(4)

زيادة يقتضيها السياق، من "معرفة السنن".

(5)

في الأصل: سلم، والمثبت من "المعرفة".

(6)

انظر: "معرفة السنن والآثار" 3/ 278 - 280.

ص: 331

قلتُ: وتحتمل الأحاديث التي جاء فيها: بعد السلام، أن يكون المراد: بعد السلام على رسول الله في التشهد، أو تكون أخرت سهوًا وعلم به بعده.

وقالت فرقة أخرى أنه بعده مطلقًا، وهو قول أبي حنيفة والثوري والكوفيين

(1)

، وهو مروي عن علي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمار وابن عباس وابن الزبير وأنس والنخعي وابن أبي ليلى والحسن البصري

(2)

، واستدلوا بأحاديث:

أحدها: حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين.

ثانيها: حديث ابن مسعود، وقد سلف الأول في باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ويأتي أيضًا

(3)

، والثاني في باب: ما جاء في القبلة، ويأتي بعد

(4)

، وخبر الواحد رواه الجماعة كلهم، وفيه: فسجد سجدتين بعد ما سلم

(5)

.

ثالثها: حديث عمران بن حصين، أخرجاه والأربعة

(6)

، ورجح ابن القطان انقطاعه فيما بين ابن سيرين وعمران

(7)

.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 274.

(2)

روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 1/ 386 - 387 (4436، 4438)، (4441 - 4447) كتاب: الصلوات، باب: في السلام في سجدتي السهو قبل السلام أو بعده، وابن المنذر في "الأوسط" 3/ 309 - 310.

(3)

سلف برقم (482) وسيأتي في الباب بعده، وبرقم (6051) في الأدب.

(4)

سلف برقم (404) كتاب: الصلاة، وسيأتي في الباب بعده، وبرقم (6671) كتاب: الإيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيًا في الإيمان.

(5)

سيأتي برقم (7249) كتاب: أخبار الآحاد.

(6)

لم يخرجه البخاري، فهو من أفراد مسلم عنه رواه برقم (574)، ورواه أبو داود (1018، 1039)، الترمذي (395) والنسائي 3/ 26، وابن ماجه (1215).

(7)

"بيان الوهم والإيهام" 2/ 553 - 554.

ص: 332

رابعها: حديث عبد الله بن جعفر، أخرجه أبو داود والنسائي

(1)

، وقال: فيه مصعب بن شيبة، وهو منكر الحديث

(2)

وعتبة بن الحارث، وليس بمعروف، وقيل: عقبة، وقال أحمد: لا يثبت.

وقال البيهقي: إسناده لا بأس به

(3)

. وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، وقال: الصحيح عتبة لا عقبة

(4)

.

خامسها: حديث المغيرة بن شعبة، رواه أبو داود

(5)

والترمذي وصححه

(6)

. قَالَ البيهقي في "المعرفة": وإسناد حديث ابن بحينة أصح

(7)

.

(1)

"سنن أبي داود"(1033) كتاب: الصلاة، باب: من قال: بعد التسليم، و"سنن النسائي" 3/ 30 كتاب: السهو، باب: التحري، و"الكبرى" 1/ 207 (593) كتاب: السهو، باب: من شك في صلاته.

(2)

ورد في الأصل بعدها: قلت: هو من رجال مسلم. وعليها لا .. إلى.

(3)

"السنن الكبرى" 2/ 336 كتاب: الصلاة، باب: من قال: يسجدهما بعد التسليم على الإطلاق.

(4)

"صحيح ابن خزيمة" 2/ 116 (1033) كتاب: الصلاة، باب: الأمر بسجدتي السهو إذا نسي المصلي شيئًا من صلاته.

وقال الذهبي في "المهذب" 2/ 772 (3382): (عتبة ويقال عقبة لا يدرى من هو، ومصعب ليس بذاك). وضعفه النووي في "الخلاصة" 2/ 641 - 642. والألباني في "ضعيف الجامع" (5647).

(5)

ورد بهامش (س): من خط الشيخ (

) وهم ابن الأثير في (

) فعزاه إلى أبي داود و (

) هو كذلك فيه.

(6)

"سنن أبي داود"(1037) كتاب: الصلاة، باب: من نسي أن يتشهد وهو جالس.

و"الترمذي"(365) كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الإمام ينهض في الركعتين ناسيًا.

(7)

"معرفة السنن والآثار" 3/ 277 (4559).

ص: 333

واحتجوا أيضًا بحديث ثوبان

(1)

، وفيه مقال، وبحديث ابن عمر وأنس وسعد

(2)

.

وقالت فرقة ثالثة: كله قبله إلا في موضعين الذين ورد سجودهما بعده، وهما: إذا سلم في بعض من صلاته، أو تحرى الإمام فبنى على غالب ظنه؛ لحديث ذي اليدين: سلم من ركعتين وسجد بعد السلام

(3)

.

وحديث عمران: سلم من ثلاث وسجد بعد السلام.

وحديث ابن مسعود في التحري بعد السلام

(4)

، وهو قول أحمد بن

(1)

رواه أبو داود برقم (1038) كتاب: الصلاة، باب: من نسي أن يتشهد وهو جالس، وابن ماجه برقم (1219) كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن سجدهما بعد السلام، وأحمد 5/ 280، والطبراني 2/ 92 (1414)، والبيهقي 2/ 337 كتاب: الصلاة، باب: من قال: يسجدهما بعد التسليم. وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود"(954).

(2)

روى حديث ابن عمر ابن خزيمة في "صحيحه" 2/ 112 (1026) كتاب: السهو، باب: في تحسين الركعة التي يشك في نقصها، والحاكم 1/ 322 كتاب: السهو، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وروى حديث أنس: البيهقي 2/ 333 كتاب: الصلاة، باب: من شك في صلاته فلم يدر صلى ثلاثًا أو أربعًا.

قال الذهبي في "المهذب" 2/ 769 (3371): غريب. والبزار كما في "كشف الأستار"(575) كتاب: الصلاة، باب: السجود للنقصان، وروى حديث سعد أبو يعلى في "مسنده" 2/ 103 - 104 (759) قال أبو عثمان: لم نسمع أحدًا يرفع هذا غير أبي معاوية، والحاكم 1/ 323 كتاب: السهو، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، والبيهقي 2/ 344 كتاب: الصلاة، باب: من سها فلم يذكر حتى ..

(3)

راجع حديث (482).

(4)

سلف برقم (401) كتاب: الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان.

ص: 334

حنبل، وبه قَالَ سليمان بن داود الهاشمي من أصحاب الشافعي، وأبو خيثمة، وابن المنذر

(1)

.

وذكر الترمذي عن أحمد قَالَ: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجدتي السهو فيستعمل كل على جهته، وكل سهو ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فقبل السلام.

وقال إسحاق نحو قول أحمد في هذا كله، إلا أنه قَالَ: كل سهو ليس فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فإن كانت زيادة في الصلاة يسجدهما بعد السلام وإن كان نقصًا فقبله

(2)

.

وحكى أبو الخطاب

(3)

عن أحمد مثل قول إسحاق، وهو قول مالك وأبي ثور، وأحد أقوال الشافعي

(4)

.

وعن ابن مسعود: كل شيء شككت فيه من صلاتك من نقصان ركوع أو سجود فاستقبل أكبر ظنك، واجعل سجدتي السهو من هذا النحو قبل السلام، أو غير ذلك من السهو واجعله بعد التسليم

(5)

.

(1)

"الأوسط" 3/ 312.

(2)

"سنن الترمذي" عقب الرواية (391) باب ما جاء في سجدتي السهو.

(3)

"الانتصار في المسائل الكبار" 2/ 366 - 367.

(4)

انظر: "المجموع" 4/ 41 - 42، "المدونة" 1/ 126.

(5)

رواه أحمد 1/ 429 من طريق محمد بن الفضل، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود موقوفًا.

ورواه أبو داود (1028)، وأحمد 1/ 429، والدارقطني 1/ 378، والبيهقي 2/ 356 من طريق محمد بن مسلمة عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود مرفوعًا.

وقال البيهقي: وهذا غير قوي ومختلف في رفعه ومتنه. وزاد في "المعرفة" 3/ 282: وأبو عبيدة عن أبيه مرسل. وقال الذهبي في "السير" 6/ 146: لو صح هذا لكان فيه فرج عن ذوي الوسواس.

ص: 335

وقال علقمة والأسود: يسجد للنقص ولا يسجد للزيادة. حكاه عنهما الشيخ أبو حامد وابن التين، وهو عجيب.

وقالت الظاهرية: لا يسجد للسهو إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها الشارع، وغير ذلك فإن كان فرضًا أتى به، وإن كان ندبًا فليس عليه شيء.

قَالَ داود: تستعمل الأحاديث في مواضعها على ما جاءت عليه، ولا يقاس عليها، وقَالَ ابن حزم: سجود السهو كله بعد السلام إلا في موضعين، فإن الساهي فيهما مخير بين أن يسجد سجدتي السهو بعد السلام، وإن شاء قبله.

أحدها: من سها فقام من ركعتين ولم يجلس ولم يتشهد -فهذِه سواء كان إمامًا أو فذا- فإنه إذا استوى قائمًا فلا يحل له الرجوع إلى الجلوس، فإن رجع وهو عالم بأن ذلك لا يجوز ذاكرًا لذلك بطلت صلاته، وإن فعل ذلك ساهيًا لم تبطل، وهو سهو يوجب السجود، ولكن يتمادى في صلاته، فإذا أتم التشهد الأخير فإن شاء سجد السهو قبل السلام، وإن شاء بعده.

والثاني: أن لا يدري في كل صلاة تكون ركعتين أصلى ركعة أم ركعتين؟ وفي كل صلاة تكون ثلاثًا أصلى ركعة أو ركعتين أو ثلاثًا؟ وفي كل صلاة رباعية كذلك، فهذا يبني على الأقل، فإذا تشهد الأخير فهو غير كما ذكرنا

(1)

.

وللشافعي قول آخر: أنه يتخير إن شاء قبل السلام وإن شاء بعده، والخلاف عندنا في الإجزاء، وقيل: في الأفضل. وادعى الماوردي

(1)

"المحلى" 4/ 170 - 171.

ص: 336

اتفاق الفقهاء -يعني: جميع العلماء- عليه

(1)

.

وقال صاحب "الذخيرة" الحنفي: لو سجد قبل السلام جاز عندنا.

قَالَ القدوري: هذا في رواية الأصول قَالَ: وروي عنهم أنه لا يجوز؛ لأنه أداه قبل وقته. ووجه رواية الأصول أن فعله حصل في فعل مجتهد فيه، فلا يحكم بفساده، وهذا لو أمرناه بالإعادة يتكرر عليه السجود، ولم يقل به أحد من العلماء

(2)

، وذكر في "الهداية" أن هذا الخلاف في الأولوية

(3)

.

وذكر ابن عبد البر: كلهم يقولون: لو سجد قبل السلام فيما يجب السجود (بعده)

(4)

أو بعده فيما يجب قبله لا يضر

(5)

، وهو موافق لنقل الماوردي السالف.

وقال الحازمي: طريق الإنصاف أن نقول: أما حديث الزهري الذي فيه دلالة على النسخ ففيه انقطاع، فلا يقع معارضًا للأحاديث الثابتة، وأما بقية الأحاديث في السجود قبل السلام وبعده قولًا وفعلًا، فهي وإن كانت ثابتة صحيحة وفيها نوع تعارض، غير أن تقديم بعضها على بعض غير معلوم برواية موصولة صحيحة، والأشبه حمل الأحاديث على التوسع وجواز الأمرين

(6)

.

(1)

"الحاوي الكبير" 2/ 214.

(2)

انظر: "المحيط البرهاني" 2/ 308.

(3)

"الهداية" 1/ 80.

(4)

في الأصل: أو بعده، والمثبت هو الصواب.

(5)

"التمهيد" 5/ 33.

(6)

"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" للحازمي ص 90.

ص: 337

فوائد:

الأولى: الحديث دال على سنية التشهد الأول والجلوس له، إذ لو كانا واجبين لما جبرا بالسجود كالركوع وغيره، وبه قَالَ مالك والشافعي وأبو حنيفة

(1)

، وقال أحمد في طائفة قليلة: هما واجبان، وإذا سها جبرهما بالسجود على مقتضى الحديث

(2)

.

الثانية: التكبير مشروع لسجود السهو بالإجماع، وقد ذكر في حديث الباب وفي حديث أبي هريرة أيضًا، وكان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يكبر في كل خفض ورفع

(3)

، ومذهبنا تكبيرات الصلاة كلها سنة غير تكبيرة الإحرام فركن وهو قول الجمهور

(4)

، وأبو حنيفة يسمي تكبيرة الإحرام واجبة، وعن أحمد في رواية، والظاهرية أنها كلها واجبة

(5)

.

الثالثة: الصحيح عندنا أنه لا يتشهد وكذا في سجود التلاوة كالجنازة

(6)

، ومذهب أبي حنيفة: يتشهد

(7)

.

وقال ابن قدامة: إن كان قبل السلام سلم عقب التكبير، وإن كان

(1)

"بدائع الصنائع" 1/ 163، "بداية المجتهد" 1/ 262، "الحاوي الكبير" 2/ 132.

(2)

وقال أيضًا في رواية أخرى: بسنية التشهد الأول، انظر:"الإفصاح" 1/ 298، "المغني" 2/ 217.

(3)

سلف برقم (785) كتاب: الأذان، باب: إتمام التكبير في الركوع.

(4)

"الحاوي الكبير" 2/ 95، "المجموع" 3/ 250، "المغني" 2/ 128.

(5)

"المنتقى" 1/ 146، "المحلى" 3/ 232.

(6)

قال النووي رحمه الله: وهل يتحرم للسجدتين ويتشهد ويسلم؟

قال إمام الحرمين: حكمه حكم سجود التلاوة وقطع الشيخ أبو حامد في تعليقه بأنه يتشهد ويسلم، ونقله عن نصه في القديم، وادعى الاتفاق عليه، فإن قلنا: يتشهد فوجهان، وقيل قولان: الصحيح المشهور: أنه يتشهد بعد السجدتين كسجود التلاوة، والثاني: يتشهد قبلها ليليهما السلام أ. هـ "المجموع" 4/ 72.

(7)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 275، "الاختيار" 1/ 97 - 98.

ص: 338

بعده تشهد وسلم. قَالَ: وبه قَالَ ابن مسعود والنخعي، وقتادة والحكم وحماد والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي في التشهد والتسليم

(1)

، وعن النخعي: أيضًا يتشهد لها ولا يسلم، وعن أنس والحسن والشعبي وعطاء: ليس فيهما تشهد ولا تسليم

(2)

، وعن سعد بن أبي وقاص وعمار وابن أبي ليلى

(3)

وابن سيرين وابن المنذر: فيهما تسليم بغير تشهد.

قَالَ ابن المنذر: التسليم فيهما ثابت من غير وجه

(4)

، وفي ثبوت التشهد عنه نظر.

وقال أبو عمر: لا أحفظه مرفوعًا من وجه صحيح

(5)

.

وعن عطاء: إن شاء تشهد وسلم وإن شاء لم يفعل

(6)

.

وفي "شرح الهداية": يسلم ثنتين

(7)

. وبه قَالَ الثوري وأحمد

(8)

، ويسلم عن يمينه وشماره. وفي "المحيط": ينبغي أن يسلم واحدة عن يمينه، وهو قول الكرخي

(9)

وبه قَالَ النخعي كالجنازة

(10)

. وفي "البدائع": يسلم تلقاء وجهه

(11)

.

(1)

"المغني" 2/ 431.

(2)

روى هذِه الآثار ابن أبي شيبة 1/ 388 (4462 - 4464) كتاب: الصلوات، باب: ما قالوا بينهما تشهد أم لا؟ ومن قال: لا يسلم فيهما، وابن المنذر في "الأوسط" 3/ 314.

(3)

ابن أبي شيبة 1/ 387 (4453 - 4454) كتاب: الصلوات، باب: التسليم في سجدتي السهو. وانظر: "الأوسط" 3/ 316 - 317.

(4)

"الأوسط" 3/ 317.

(5)

"التمهيد" 10/ 209.

(6)

ذكر هذا الأثر ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 316.

(7)

انظر: "فتح القدير" 1/ 501.

(8)

"المغني" 2/ 363.

(9)

انظر: "حاشية شلبي" 1/ 192.

(10)

رواه عنه ابن أبي شيبة 1/ 388 (4456) باب: التسليم في سجدتي السهو.

(11)

"بدائع الصنائع" 1/ 174.

ص: 339

وفي صفة السلام منهما روايتان عن مالك:

إحداهما: أنه في السر والإعلان لسائر الصلوات.

والثانية: أنه يسر ولا يجهر به، وكذا الخلاف في الجنازة

(1)

.

الرابعة: لا يتكرر السجود حقيقة فإنه صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول، والجلوس له اكتفي بسجدتين، وهو قول أكثر أهل العلم، وعن الأوزاعي: إذا سها سهوين مختلفين تكرر ويسجد أربعًا، وقال ابن أبي ليلى: يتكرر السجود بعد السهو، وقال ابن أبي حازم وعبد العزيز ابن أبي سلمة: إذا كان عليه سهوان في صلاة واحدة، منه ما يسجد له قبل السلام، ومنه ما يسجد له بعد السلام، فليفعلهما كذلك

(2)

.

الخامسة: جمهور العلماء عليَّ أن سجود السهو في التطوع كالفرض، وقال ابن سيرين وقتادة: لا سجود فيه

(3)

، وهو قول غريب ضعيف عن الشافعي

(4)

.

السادسة: متابعة الإمام عند القيام من هذا الجلوس واجب، وقد وقع كذلك في الحديث، ويجوز أن يكونوا علموا حكم هذِه الحادثة أو لم يعلموا فسبحوا، وأشار إليهم أن يقوموا، نعم اختلفوا فيمن قام من اثنتين ساهيًا هل يرجع إلى الجلوس؟

فقالت طائفة بهذا الحديث، وأن من استتم قائمًا، واستقل من الأرض فلا يرجع وليمض في صلاته، وإن لم يستو قائمًا جلس،

(1)

انظر: "المعونة" 1/ 108.

(2)

انظر: "الأوسط" 3/ 318.

(3)

رواه عنهما ابن أبي شيبة 1/ 386 (4434 - 4435) كتاب: الصلوات، باب: الرجل يسهو في التطوع ما يصنع.

(4)

"البيان" 2/ 349 - 350.

ص: 340

وروي ذلك عن علقمة وقتادة وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو قول الأوزاعي

(1)

وابن القاسم في "المدونة" والشافعي

(2)

.

وقالت أخرى: إذا فارقت أليته الأرض وإن لم يعتدل فلا يرجع ويتمادى ويسجد قبل السلام. رواه ابن القاسم عن مالك في "المجموعة"

(3)

.

وقالت ثالثة: يقعد وإن كان استتم قائمًا، روي ذلك عن النعمان بن بشير والنخعي والحسن البصري إلا أن النخعي قَالَ: يجلس ما لم يفتتح القراءة، وقال الحسن: ما لم يركع

(4)

.

وفي "المدونة" لابن القاسم قَالَ: إن أخطأ فرجع بعد أن قام سجد بعد السلام. وقال أشهب وعلي بن زياد: قبل السلام؛ لأنه قد وجب عليه السجود في حين قيامه، ورجوعه إلى الجلوس زيادة، وقال سحنون: تبطل صلاته. قَالَ ابن القاسم: ولا يرجع إذا فارق الأرض ولم يستتم قيامه، وخالفه ابن حبيب

(5)

.

وعلة الذين قالوا: يقعد وإن استتم قائمًا القياس على إجماع الجميع أن المصلي لو نسي الركوع من صلاته وسجد ثم ذكر وهو ساجد أن عليه أن يقوم حَتَّى يركع، فكذلك حكمه إذا نسي قعودًا في موضع قيام حَتَّى

(1)

رواه عن علقمة ابن أبي شيبة 1/ 390 (4488 - 4489) كتاب: الصلوات، باب: من كان يقول: إذا لم يستقم قائمًا فليس عليه سهو. وذكرها جميعًا ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 290 - 291.

(2)

"المدونة" 1/ 130، "المجموع" 4/ 57، 61.

(3)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 358.

(4)

ذكر هذِه الآثار ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 290 - 291.

(5)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 358 - 359.

ص: 341

قام أن عليه أن يعود له إذا ذكره، والصواب كما قَالَ الطبري: قول من قَالَ: إذا استوى قائمًا يمضي في صلاته ولا يقعد فإذا فرغ سجد للسهو لحديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم حين اعتدل قائمًا لم يرجع إلى الجلوس بعد قيامه، وقد روي عن عمر وابن مسعود ومعاوية وسعيد والمغيرة بن شعبة، وعقبة بن عامر أنهم قاموا من اثنتين فلما ذكروا بعد القيام لم يجلسوا وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك

(1)

.

وفي قول أكثر العلماء أنه من رجع إلى الجلوس بعد قيامه من ثنتين أنه لا تفسد صلاته إلا ما ذكر ابن أبي زيد عن سحنون أنه قَالَ: أفسد الصلاة برجوعه

(2)

.

والصواب: قول الجماعة؛ لأن الأصل ما فعله، وترك الرجوع رخصة ويبينه أن الجلسة الأولى لم تكن فريضة؛ لأنها لوكانت فريضة لرجع، وقد سجد عنها فلم يقضها، والفرائض لا ينوب عنها سجود ولا غيره، ولابد من قضائها في العمد والسهو.

وقد شذت فرقة فأوجبت الأولى فرضًا، وقالوا: هي مخصوصة من بين سائر الصلاة أن ينوب عنها سجود السهو كالعرايا من المزابنة، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعًا، لا يقاس عليها شيء من أعمال البر في الصلاة.

ومنهم من قَالَ: هي فرض. وأوجب الرجوع إليها ما لم يعمل المصلي بعدها ما يمنعه من الرجوع إليها، وذلك عقد الركعة التي قام

(1)

رواه ابن أبي شيبة 1/ 390 - 391 (4492، 4498) كتاب: الصلوات، باب: ما قالوا: فيما إذا نسي فقام في الركعتين ما يصنع. عن المغيرة وعقبة، وذكرها جميعًا ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 288 - 289.

(2)

"النوادر والزيادات" 1/ 358.

ص: 342

إليها برفع رأسه منها، وقولهم مردود بحديث الباب فلا معنى للخوض فيه، وإنما ذكر ليعرف فساده.

ونقل ابن بطال إجماع العلماء على أن من ترك الجلسة الأولى عامدًا أن صلاته فاسدة، وعليه إعادتها، قالوا: وهي سنة على حالها فحكم تركها عمدًا حكم الفرائض

(1)

. ولا يسلم له هذا الإجماع، نعم أجمعوا على أن الجلسة الأخيرة فريضة إلا ابن عُلَيَّة فقال: ليست بفرض قياسًا على الجلسة الوسطى، واحتج بحديث الباب في القيام من ثنتين، والجمهور حجة على من خالفهم على أنه يوجب فساد من لم يأت بأعمال الصلاة كلها سننها وفرائضها، وقوله مردود بقوله، ويرده أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم:"وتحليلها التسليم"

(2)

والتسليم لا يكون إلا بجلوس فسقط قوله

(3)

.

السابعة: قوله: (فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه) أي: قارب قضاءها وأتى بجميعها غير السلام، ولو طال سجود السهو قبل السلام، فهل يعاد له التشهد؟ فيه روايتان عن مالك:

أشهرهما: نعم، وإن انصرف عن صلاته فذكر سجدتي السهو قبل

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 214.

(2)

رواه أبو داود (61) في الطهارة، باب فرض الوضوء، والترمذي (3) في الطهارة، باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، وقال: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، وابن ماجه (275) في الطهارة وسننها، باب مفتاح الصلاة الطهور، وأحمد 1/ 123، والدارمي 1/ 539 - 540 (714) كتاب: الطهارة، باب: مفتاح الصلاة الطهارة، والحاكم 1/ 132 كتاب: الطهارة. من حديث علي، وصححه الحاكم، وكذا الحافظ في "الفتح" 2/ 322، والنووي في "المجموع" 3/ 289، وقال الألباني في "صحيح أبي داود" (55): إسناده حسن صحيح.

(3)

"شرح ابن بطال" 3/ 214.

ص: 343

السلام بالقرب، قَالَ محمد: يسجدهما في موضع ذكر ذلك إلا في الجمعة يتمها في المسجد، وإن أتم ذلك في غير المسجد لم تجزه الجمعة

(1)

.

قَالَ الشيخ أبو محمد: يريد إذا فاتتا قبل السلام؛ ووجهه أنه سجود من صلاة الجمعة قبل التحلل منها، فلا يكون إلا في موضع الجمعة لسجود الصلاة.

الثامنة: السجود في الزيادة لأحد معنيين؛ ليشفع ما قد زاد إن كان زيادة كثيرة، كما سيأتي الحديث فيه.

وإن كانت قليلة فالسجدتان ترغمان أنف الشيطان -كما نطق به الحديث أيضًا

(2)

- الذي أسهى واشتغل حَتَّى زاد فأغيظ الشيطان بهما؛ لأن السجود هو الذي استحق إبليس بتركه العذاب في الآخرة والخلود في النار، فلا أرغم له منه.

فرع:

سها في سجدتي السهو لا سهو عليه، قاله النخعي والحكم وحماد ومغيرة وابن أبي ليلى والبتي والحسن

(3)

.

(1)

"النوادر والزيادات" 1/ 365، "المنتقى" 1/ 84.

(2)

رواه مسلم (571)، وابن ماجه (1210).

(3)

روى ذلك عنهم ابن أبي شيبة 1/ 389 (4470 - 4473) كتاب: الصلوات، باب: في السهو في سجدة السهو، وانظر:"الأوسط" 3/ 326 - 327.

ص: 344

‌2 - باب إِذَا صَلَّى خَمْسًا

1226 -

حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ". قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ مَا سَلَّمَ. [انظر: 401 - مسلم: 572 - فتح: 3/ 93]

ذكر فيه حديث علقمة عن عبد الله أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ ". قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا. فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ.

هذا الحديث تقدم في باب: ما جاء في القبلة

(1)

، وهذا الحديث دال لمذهب مالك وأبي حنيفة، وقد تقدم من أدلة من رجح أنه قبل السلام حديث أبي سعيد، وأن عطاء أرسله

(2)

.

وحديث ابن مسعود لا مزيد على إسناده في الجودة، وكذا ما في معناه، والخبر السالف اضطرب في وصله وإرساله.

وحاصل المذاهب سبعة:

كله بعد السلام، قاله أبو حنيفة.

كله قبله، قاله الشافعي.

الزيادة بعد والنقص قبل.

وكذا إذا اجتمعا، قاله مالك.

المتيقن أنه نقص والسهو المشكوك فيه قبله، والمتيقن أنه زيادة بعد، قاله ابن لبابة

(3)

، وذكر الداودي نحوه عن مالك.

(1)

برقم (404) كتاب: الصلاة.

(2)

سبق تخريجه في حديث (1225).

(3)

"المنتقى" 1/ 177.

ص: 345

الكل سواء، قاله مالك في "المجموعة".

يسجد للنقص فقط دون زيادة، قاله علقمة والأسود.

إذا اجتمع سهو نقص وزيادة سجدهما، قاله الأوزاعي وعبد العزيز

(1)

.

واختلف العلماء فيمن قام إلى خامسة، فقالت طائفة بظاهر هذا الحديث: إن ذكر وهو في الخامسة قبل كمالها رجع وجلس وتشهد وسلم، وإن لم يذكر إلا بعد فراغه من الخامسة؛ فإنه يسلم ويسجد للسهو وصلاته مجزية عنه، هذا قول عطاء والحسن والنخعي والزهري

(2)

، وإليه ذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور

(3)

.

وقال أبو حنيفة: إذا صلى الظهر خمسًا ساهيًا نظر؛ فإن لم يقعد في الرابعة قدر التشهد فإن صلاة الفرض قد بطلت، ويضيف إلى الخامسة سادسة، وتكون نافلة، ويعيد الفرض، وإن جلس في الرابعة مقدار التشهد فصلاته مجزئة ويضيف إلى الخامسة سادسة، وتكون الخامسة والسادسة نفلًا، وإن ذكر وهو في الخامسة قبل أن يسجد فيها ولم يكن جلس في الرابعة رجع إليها فأتمها كما يقول، وسجد للسهو بعد السلام

(4)

.

(1)

هو ابن أبي سلمة كما في "الأوسط" 3/ 318، "النوادر والزيادات" 1/ 363.

(2)

ذكرها ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 293 - 294.

(3)

انظر: "المدونة" 1/ 126، "الأوسط" 3/ 293 - 294، "المجموع" 4/ 74، "المغني" 2/ 428 - 429.

(4)

انظر: "الهداية" 1/ 81.

ص: 346

ولا ينفك أصحاب أبي حنيفة في هذا الحديث عن أحد وجهين: إما أن يكون صلى الله عليه وسلم قعد في الرابعة قدر التشهد، فإذا سجد ولم يزد على الخامسة سادسة أولم يقعد فإنه لم يعد الصلاة، وهم يقولون قد بطلت صلاته، ولوكانت باطلة لم يسجد صلى الله عليه وسلم للسهو، ولأعاد الصلاة.

وعبارة شيخنا قطب الدين في تحرير مذهب أبي حنيفة: ذهب أصحابه إلى أنه إن سها عن القعدة حَتَّى قام إلى الخامسة رجع إلى القعدة ما لم يسجد للخامسة، وذلك لأنه لم يستحكم خروجه من الفرض وألغى الخامسة؛ لأن ما دون الركعة ليس له حكم الصلاة بدليل النهي، ويسجد للسهو لتأخير الواجب، وإذا قيد الخامسة بسجدة استحكم دخوله في ركعة كاملة في النفل فخرج به عن الفرض قبل تمامه فبطلت صلاته، وإن كان قعد في الرابعة مقدار التشهد ثم سها وقام إلى الخامسة وقيدها بسجدة ضم إليها ركعة أخرى، وتمت صلاته، وكانت الركعتان له نافلة ويسجد للسهو.

قالوا: وحديث ابن مسعود محمول عندهم على ما إذا قعد في الرابعة مقدار التشهد، وذلك لأن الراوي قَالَ: صلى خمسًا. ولا ظهر بدون ركنه وهو القعدة الأخيرة.

قَالَ السرخسي منهم:

وإنما قام إلى الخامسة على ظن أن هذِه القعدة الأولى، والصحيح أنهما لا ينوبان عن سنة الظهر؛ لأن شروعه فيهما لم يكن عن قصد، وفي صلاة العصر لا يضم إلى الخامسة ركعة أخرى بل يقطع التنفل بعد الفرض

(1)

.

(1)

"المبسوط" 1/ 228.

ص: 347

وروى هشام عن محمد أنه يضيف إليها ركعة أخرى، وكذا روى الحسن عن أبي حنيفة

(1)

، وهو الصحيح؛ لأن الكراهة إنما تقع إذا كان التنفل بعده عن قصد.

وفي "قاضي خان": إذا قام قدر التشهد، روى البلخي عن أصحابنا أنه لا يتابعه القوم؛ لأنه أخطأ بيقين، ولكن ينتظرونه قعودًا حَتَّى يعود، ويسلموا معه، فإن قيد الخامسة بالسجدة سلم القوم.

ثم الحديث دال لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور أن من زاد في صلاته ركعة ناسيًا لا تبطل صلاته، بل إن علم بعد صلاته فقد مضت صلاته صحيحة، ويسجد للسهو إن ذكر بعد السلام بقريب، وإن طال فالأصح عندنا أنه لا يسجد، وان ذكر قبل السلام عاد إلى القعود، سواء كان في قيام أو ركوع أو سجود أو غيرها، ويتشهد ويسجد للسهو ويسلم.

والزيادة على وجه السهو لا تبطل الصلاة، سواء قلت أو كثرت إذا كانت من جنس الصلاة، فلو زاد ركوعًا أو سجودًا أو ركعة أو ركعات كثيرة ساهيًا فصلاته صحيحة في كل ذلك، ويسجد للسهو استحبابًا لا إيجابًا.

وحكى القاضي عياض عن مذهب مالك أنه إن زاد نصف الصلاة لم تبطل صلاته بل هي صحيحة ويسجد للسهو، وإن زاد النصف فأكثر فمن أصحابه من أبطلها، وهو قول مطرف وابن القاسم، ومنهم من قَالَ: إن زاد ركعتين بطلت، وإن زاد ركعة فلا، وهو قول عبد الملك وغيره

(2)

.

(1)

انظر: "المحيط البرهاني" 2/ 320.

(2)

"إكمال المعلم" 2/ 509 - 510.

ص: 348

وقال ابن قدامة: متى قام إلى خامسة في الرباعية أو إلى رابعة في المغرب أو إلى ثالثة في الصبح لزمه الرجوع متى ما ذكر فيجلس، فإن كان قد تشهد عقب الركعة التي تمت بها صلاته سجد للسهو وسلم، وإن كان ما تشهد تشهد وسجد للسهو ثم سلم، وذكر قول أبي حنيفة، وقال: ونحوه قَالَ حماد بن أبي سليمان، قَالَ: وقال قتادة والأوزاعي فيمن صلى المغرب أربعًا: يضيف إليها أخرى، فتكون الركعتان تطوعًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد:"ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم"

(1)

، "وإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان"، أخرجه مسلم

(2)

، وفي أبي داود وابن ماجه:"كانت الركعة له نافلة وسجدتان"

(3)

، ولنا حديث ابن مسعود، يعني هذا. ثم قَالَ: والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس عقب الأربعة؛ لأنه لم ينفل، ولأنه قام إلى خامسة معتقدًا أنه قام عن ثالثة، ولم تبطل صلاته بهذا، ولم يضف إلى الخامسة أخرى، وحديث أبي سعيد حجة عليهم أيضًا، فإنه جعل الزائدة نافلة من غير أن يفصل بينها وبين التي قبلها بجلوس، وجعل السجدتين يشفعانها ولم يضم إليها ركعة أخرى

(4)

.

ثم في بعض طرق هذا الحديث فقال: أزيد في الصلاة شيء؟ فقال: "إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون، وأنسى كما تنسون، فإذا نسي

(1)

سبق تخريجه.

(2)

"صحيح مسلم"(571) كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة.

(3)

"سنن أبي داود" برقم (1024) كتاب: الصلاة، باب: إذا شك في الثنتين والثلاث

، "سنن ابن ماجه" برقم (1210) كتاب: إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن شك في صلاته.

(4)

"المغني" 2/ 428 - 430 بتصرف.

ص: 349

أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس". ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد

(1)

.

وهو مما يستشكل ظاهره؛ لأن ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لهم هذا الكلام بعد أن ذكر أنه زاد أو نقص قبل أن يسجد للسهو، ثم بعد أن قاله سجد للسهو، ومتى ذكر كذلك فالحكم أنه يسجد ولا يتكلم، ولا يأتي بمناف للصلاة، والجواب عنه من أوجه:

أحدها: أن (ثُمَّ) هنا ليست لحقيقة الترتيب، وإنما هي لعطف جملة على جملة، وليس معناه أن التحويل والسجود كان بعد الكلام، بل إنما كانا قبله.

ويؤيده أنه جاء في حديث ابن مسعود هذا: فزاد أو نقص، فلما سلم قيل له: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ قَالَ:"وما ذاك؟ " قالوا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة، فسجد سجدتين ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال:"إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر" الحديث

(2)

.

وهي صريحة أن التحول والسجود كان قبل الكلام فتحمل الثانية عليها جمعًا بين الروايتين، وحمل الثانية على الأولى أولى من عكسه؛ لأن الأولى على وفق القواعد.

ثانيها: أن يكون هذا قبل تحريم الكلام.

ثالثها: أنه وإن كان عامدًا بعد السلام لا يضره، وهو أحد وجهي أصحابنا، أنه إذا سجد لا يصير عائدًا إلى الصلاة حَتَّى لو أحدث فيه لا تبطل صلاته، والأصح: نعم.

(1)

رواه مسلم (572/ 94).

(2)

سلف برقم (401).

ص: 350

وقولهم: أزيد في الصلاة؟ سؤال من جوز النسخ على ما ثبت من العبادة، ويدل على هذا أنهم كانوا يتوقعونه.

وقوله: "وما ذاك؟ " سؤال من لم يَشْعر ما وقع منه، ولا يقين عنده ولا غلبة ظن.

وقال ابن حبان: إخبار ذي اليدين أن الشارع تكلم على أن الصلاة قد تمت، وذو اليدين توهم أن الصلاة ردت إلى الفريضة الأولى فتكلم على أنه في غير صلاة، وأن صلاته قد تمت، فلما استثبت صلى الله عليه وسلم أصحابه، كان من استثباته على يقين أنه قد أتمها، وجواب الصحابة له؛ لأنه كان من الواجب الإجابة عليهم، وإن كانوا في الصلاة، فأما اليوم فالوحي قد انقطع وأقرت الفرائض، فإن تكلم الإمام، وعنده أن الصلاة قد تمت بعد السلام لم تبطل، وإن سأل المأمومين فأجأبوه بطلت، وإن سأل بعض المأمومين الإمام عن ذلك بطلت صلاته، والعلة في سهو الشارع التعلم

(1)

.

والله الهادي إلى الصواب.

(1)

"صحيح ابن حبان" 6/ 406 - 407 كتاب: الصلاة، باب: سجود السهو.

ص: 351

‌3 - باب إِذَا سَلَّمَ فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ فِي ثَلَاثٍ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ مِثْلَ سُجُودِ الصَّلَاةِ أَوْ أَطْوَلَ

1227 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ أَوِ العَصْرَ فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ذُو اليَدَيْنِ: الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللهَ، أَنَقَصَتْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ:"أَحَقٌّ مَا يَقُولُ؟ ". قَالُوا: نَعَمْ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ. قَالَ سَعْدٌ: وَرَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ صَلَّى مِنَ المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، فَسَلَّمَ وَتَكَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 482 - مسلم: 573 - فتح: 3/ 96]

ذكر فيه حديث أبي سلمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظُّهْرَ أو العَصْرَ فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ ذُواليَدَيْنِ .. الحديث.

وقد سلف في باب: هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس

(1)

.

وأخرجه أيضًا النسائي، وقال: لا أعلم أحدًا ذكر في هذا الحديث: ثم سجد سجدتين غير سعد بن إبراهيم، يعني: الراوي عن أبي سلمة

(2)

.

قَالَ البيهقي: ويحيى بن أبي كثير لم يحفظ سجدتي السهو عن أبي سلمة، وإنما حفظهما عن ضمضم بن جوشن، عن أبي هريرة، وقد حفظهما سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، ولم يحفظهما الزهري لا عن أبي سلمة، ولا عن جماعة حدثوه بهذِه القصة عن أبي هريرة

(3)

. ثم ذكر اختلافًا فيه عنه.

(1)

برقم (714) كتاب: الأذان.

(2)

"السنن الكبرى" 1/ 199 - 200 (560) كتاب السهو، باب: ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين ..

(3)

"السنن الكبرى" 2/ 358 كتاب: الصلاة، باب: الكلام في الصلاة.

ص: 352

وقوله في آخر الحديث: (قَالَ سَعْدٌ: وَرَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ صَلَّى مِنَ المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، فَسَلَّمَ وَتكَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى مَا بَقِيَ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم).

قَالَ أبو بكر بن أبي شيبة: حَدَّثَنَا غندر عن شعبة عن سعد. فذكره

(1)

.

وقال أبو نعيم: رواه -يعني: البخاري- عن آدم عن شعبة، وزاد: قَالَ سعد: ورأيت عروة

إلى آخره.

وأورده الإسماعيلي من طريق معاذ ويحيى، عن شعبة، ثنا سعد بن إبراهيم: سمعت أبا سلمة عن أبي هريرة .. الحديث. ثم قَالَ في آخره: رواه غندر: فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين. لم يقل: ثم سلم ثم سجد. ثم قَالَ: لم يتضمن هذا الحديث ما ذكره في الترجمة، وخرج ما ذكره من ترجمة هذا الباب في الباب الذي يليه.

وكذا قَالَ ابن التين: لم يأت في الحديث بشيء بما يشهد السلام من ثلاث، وقد قَالَ سحنون: إنما يجوز ذلك لمن سلم من ثنتين على مثل خبر ذي اليدين، وكذا قوله: فسجد مثل سجود الصلاة أو أطول. لم يأت فيه بشيء، لكن في الباب الذي بعده: فسجد مثل سجوده أو أطول.

وذكر السلام من الثلاث مسلمٌ من حديث عمران في حديث ذي اليدين

(2)

، فأشار إليه في الترجمة كما فعل في باب: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة. لم يذكره كذلك وإنما أشار إليه فيها.

(1)

"المصنف" 1/ 392 (4511) كتاب: الصلوات، باب: ما قالوا: فيه إذا انصرف وقد نقص من صلاته وتكلم.

(2)

"صحيح مسلم" برقم (574) في المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له.

ص: 353

وقوله: (الظهر أو العصر). بَيَّنَ في "الموطأ" أنها العصر

(1)

، وفي البخاري في كتاب: الأدب أنها الظهر

(2)

، وفي رواية: إحدى صلاتي العشي

(3)

.

وفي كتاب أبي الوليد: إحدى صلاتي العشاء. ولعله غلط من الكاتب.

وقوله: (فقال له ذو اليدين) اسمه الخرباق، وقد سلف

(4)

، وهذا على باب الإنكار لفعله مع أنه شرع الشرائع، وعنه يؤخذ، إلا أنه جوز عليه النسيان، وجوز أن يكون حدث فيها تقصير، فطلب منه بيان ذلك، فصادف سؤاله من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقينًا أن صلاته كملت أو شكًّا في ذلك.

وقوله: فقال: "أحق ما يقول؟ " يحتمل أن يقوله وهو متيقن كمال صلاته فيستشهد على رد قول ذي اليدين بقولهم، وتبين هذا بقوله في الخبر الآخر:"كل ذلك لم يكن"

(5)

. تيقنا منه لكمال صلاته، ولو شك في تمامها لأخذ من الإتيان بما شك فيه، فلما أخبروه بتصديق قول ذي اليدين طرأ عليه الشك فأحذ في التمام.

ويحتمل أن يقوله وهو شاك في تمامها بقول ذي اليدين، فأراد اليقين، وجاز له الكلام مع الشك؛ لأنه تيقن كمالها وحدوث الشك

(1)

"الموطأ" ص 79.

(2)

سيأتي برقم (6501) كتاب الأدب، باب ما يجوز من ذكر الناس ..

(3)

سلفت برقم (482)، ورواها مسلم (573).

(4)

جاء مصرحًا باسمه هكذا في حديث عمران بن حصين عند مسلم (574)، وأبي داود (1018).

(5)

رواه مسلم (573/ 99) كتاب: المساجد، باب: في الصلاة والسجود له.

ص: 354

بعده، فوجب الرجوع إليها، وهذا أصل مختلف فيه للمالكية يرد لأصحابهم مسائل منه اختلفوا فيها.

قَالَ ابن حبيب: إذا سلم الإمام على يقين ثم شك بنى على يقينه، وإن سأل من خلفه فأخبروه أنه لم يتم فقد أحسن، وليتم ما بقي وتجزئهم.

ولو كان الفذ سلم من اثنتين على يقين ثم شك، فقال أصبغ: لا يسأل من خلفه، فإن فعل فقد أخطأ، بخلاف الإمام الذي يلزمه الرجوع إلى يقين من معه

(1)

.

فهذِه المسألة مبنية على أن الشك بعد السلام على اليقين مؤثر يوجب الرجوع إلى الصلاة، إلا أنهم لم يجعلوا ذلك كمن شك داخل الصلاة؛ لأنه لو شك ذا قبل السلام لم يجز له أن يسأل أحدًا، فإن فعل استأنف، قاله ابن حبيب

(2)

. وكذا لو سلم على شك ثم سألهم. وقيل: يجزئه

(3)

.

وقوله: (فصلى ركعتين أخراوتين). كذا وقع في أكثر الروايات، وصوابه: أخرتين. وكذا وقع في بعضها، نبه عليه ابن التين.

فرع في التكبير للرجوع: قَالَ ابن نافع: إن لم يكبر بطلت صلاته؛ لأنه خرج منها بالسلام.

وقال ابن القاسم عن مالك: كل من جاز له البناء بعد الانصراف لقرب ذلك فليراجع بإحرام.

ومتى يكبر؟ قَالَ ابن القاسم: يكبر ثم يجلس. وقال غيره: يحرم

(1)

"النوادر والزيادات" 1/ 386 - 387.

(2)

"النوادر والزيادات" 1/ 387.

(3)

انظر: "الذخيرة" 2/ 319 - 320.

ص: 355

وهو جالس، فإن لم يدخل بإحرام ففي الفساد قولان، قَالَ الأصيلي: ورجوعه بنية يجزئه عن ابتداء الإحرام كما فعل الشارع.

تنبيه:

نقل ابن التين عن القاضي أنه قَالَ في "إشرافه": اجتمع على الشارع أشياء من السهو: كلامه، وسلامه من اثنتين، واستثباته، فسجد لهنّ سجودًا واحدًا فصار فيه حجة إذا وجب عليه سجود يكفيه سجدتان وإن كثر، وقال الأوزاعي وعبد العزيز: إذا وجب عليه سجود قبل وسجود بعد سجدهما جميعًا.

ثم ما ترجم به البخاري رد على أهل الظاهر في قولهم: إنه لا يسجد أحد من السهو إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها الشارع: وهو السلام من ثنتين على حديث ذي اليدين، والقيام من ثنتين على حديث ابن بحينة إلا أنه يجعل السجود في ذلك بعد السلام، أو من صلى الظهر خمسًا على حديث ابن مسعود، وفي البناء على اليقين على حديث أبي سعيد الخدري، وفي التحري على حديث ابن مسعود.

وجماعة الفقهاء يقولون: إن من سلم في ثلاث ركعات أو قام في ثلاث، أو نقص من صلاته ماله بال، أو زاد فيها فعليه سجود السهو؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علم الناس في السلام من ثنتين والقيام منها وزيادة خامسة، وفي البناء على اليقين والتحري سجود؛ ليستعملوا ذلك في كل سهو يكون في معناه.

واحتجوا في ذلك أيضًا بحديث ابن مسعود: أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذا شك أحدكم في الصلاة فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين"

(1)

(1)

سلف برقم (401) كتاب: الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان.

ص: 356

فأمر الشارع بالسجود لكل سهوٍ، وهو عام إلا أن يقوم دليل.

وفي قصة ذي اليدين من الفقه: أن اليقين لا يجب تركه بالشك حَتَّى يأتي بيقين يزيله، ألا ترى أن ذا اليدين كان على يقين من أن فرض صلاتهم تلك أربع ركعات، فلما أتى بها على غير تمامها، وأمكن القصر من جهة الوحي، وأمكن النسيان لزمه أن يسبقهم حَتَّى يصيره إلى يقين يقطع به الشك.

وفيه أيضًا: أن من سلم ساهيًا في صلاته وتكلم وهو يظن أنه قد أتمها، فإنه لا يضره ذلك ويبني على صلاته.

واختلف قول مالك كيف (يرجع)

(1)

المصلي إلى إصلاح صلاته؟

فقال في "المدونة": كل من رجع لإصلاح ما بقي عليه من صلاته فليرجع بإحرام. وقال في رواية ابن وهب: إنه إن لم يكبر فلا يضره ذلك مع إمام كان أو وحده. وقال ابن نافع: إن لم يدخل بإحرام أفسد صلاته على نفسه وعلى من خلفه إن كان إمامًا.

وقال الأصيلي: رواية ابن وهب هي القياس؛ لأن رجوعه إلى صلاته بنية تجزئه من ابتداء إحرام كما فعل الشارع، وهذا أسلفناه عنه. وقال غيره: إن لم يكبر في رجوعه لا شيء عليه، ثم هو حجة للشافعي ومالك في عدم إبطال الصلاة بالكلام ناسيًا -خلافًا لأبي حنيفة وأصحابه- والثوري والنخعي وقتادة

(2)

.

(1)

في الأصل: رجع، والمثبت هو اللائق بالسياق.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 270، "عيون المجالس" 1/ 322 - 323، "المجموع" 4/ 17.

وقول النخعي وقتادة رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 2/ 330 - 331 (3571، 3573).

ص: 357

وابن وهب وابن كنانة المالكيان قالا: إنما كان حديث ذي اليدين في بدء الإسلام، ولا أرى لأحد أن يفعله اليوم

(1)

، والعمد لمصلحة الصلاة يبطلها عندنا، خلافًا لمالك

(2)

.

وقال الأوزاعي: إن تكلم لغرض يجب عليه لم تفسد صلاته، وإن كان لغير ذلك فسدت والفرض عليه رد السلام، أو أن يرى أعمى يقع في بئر فينهاه

(3)

.

(1)

انظر: "الاستذكار" 4/ 318 - 319.

(2)

انظر: "عيون المجالس" 1/ 323، "المجموع" 4/ 17.

(3)

انظر: "الأوسط" 3/ 234، "عيون المجالس" 1/ 324.

ص: 358

‌4 - باب مَنْ لَمْ يَتَشَهَّدْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ

وَسَلَّمَ أَنَسٌ وَالحَسَنُ وَلَمْ يَتَشَهَّدَا. وَقَالَ قَتَادَةُ لَا يَتَشَهَّدُ. [فتح: 3/ 97]

1228 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم انْصَرَفَ مِنِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُواليَدَيْنِ: أَقُصِرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَصَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ؟ ". فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ. فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى اثْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ. [انظر: 482 - مسلم: 573 - فتح 3/ 98]

حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا حَمَّادٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ قال: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: فِي سَجْدَتَيِ الَسَّهْو تَشَهُّدٌ؟ قَالَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

وذكر فيه حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين. ثم ذكر عن حَمَّادٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: فِي سَجْدَتَيِ السَّهْو تَشَهُّدٌ؟ قَالَ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.

الشرح:

حديث أبي هريرة سلف في باب: هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس

(1)

. وباب: تشبيك الأصابع في المسجد

(2)

.

وأما أثر أنس والحسن فأخرجهما ابن أبي شيبة، عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن وأنس: أنهما سجدا سجدتي السهو بعد السلام ثم قاما ولم يسلما

(3)

.

(1)

سلف برقم (715).

(2)

سلف برقم (482) كتاب: الصلاة.

(3)

"المصنف" 1/ 387 (4444) كتاب: الصلوات، باب: في السلام في سجدتي =

ص: 359

قَالَ: وحديث ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب أن أنس بن مالك قعد في الركعة الثالثة فسبحوا به، فقام وأتمهن أربعًا، فلما سلم سجد سجدتين، ثم أقبل على القوم بوجهه وقال: افعلوا هكذا

(1)

.

ونقل ابن قدامة وابن بطال وابن عبد البر وغيرهم

(2)

، عن أنس والحسن وعطاء: ليس فيهما تشهد، ولا تسليم.

وتعليق قتادة يرسخ ما نقله هؤلاء، وقد سلفت روايته عن شيخه كذلك.

وحماد في الأخير هو: ابن زيد.

ورواه عن حماد أبو الربيع أيضًا، وفي حديثه: لم أحفظ فيه عن أبي هريرة شيئًا، وأحب إليَّ أن يتشهد

(3)

.

واختلف العلماء في سجدتي السهو: هل فيهما تشهد وسلام؟ وقد ورد وجود ذلك وعدمه في بعض الأحاديث، فقالت طائفة: لا فيهما.

وقالت أخرى: نعم فيهما. وقالت ثالثة: لا تشهد فيهما، وفيهما السلام.

وقد أسلفنا ذلك قبل: إذا صلى خمسًا. وقال بالثاني ابن مسعود والنخعي والحكم، ورواه عن قتادة واستحسن ذلك الليث

(4)

، وقاله

= السهو قبل السلام أو بعده.

(1)

"المصنف" 1/ 390 (4486) كتاب: الصلوات، باب: من كان يقول: في كل سهو سجدتان.

(2)

"شرح ابن بطال" 3/ 223، "التمهيد" 10/ 207، "المغني" 2/ 431.

(3)

رواه البيهقي 2/ 355 كتاب: الصلاة، باب: من قال: يتشهد بعد سجدتي السهو ثم يسلم.

(4)

رواه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود والنخعي والحكم 1/ 388 (4458، 4460، 4466) كتاب: الصلوات، باب: ما قالوا: فيهما تشهد أم لا؟ ومن قال: لا يسلم فيهما. وذكرها جميعًا ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 315.

ص: 360

مالك في "العتبية" و"المجموعة"

(1)

، وهو قول الأوزاعي والثوري والكوفيين، والشافعي، ذكره ابن المنذر، والأصح عندنا لا يتشهد وهو ما حكاه الطحاوي عن الشافعي والأوزاعي

(2)

.

وفيهما قول رابع: إن سجد قبل السلام لم يتشهد، وإن سجد بعده تشهد، رواه أشهب عن مالك، وهو قول ابن الماجشون وأحمد.

وادعى المهلب أنه ليس في حديث ذي اليدين تشهد ولا تسليم، قَالَ: ويحتمل ذلك وجهين:

أحدهما: أن يكون صلى الله عليه وسلم تشهد فيهما وسلم، ولم ينقل ذلك المحدث.

والثاني: أنه لم يتشهد فيهما ولا سلم، وألحق المسلمون بها بين السجدتين سنن الصلاة لما كانت صلاة كبر الشارع لهما، فأضيف إليهما التشهد والسلام تأكيدًا لهما، وهو غريب منه، فقد قَالَ ابن المنذر في التسليم فيهما: إنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه

(3)

.

وفي ثبوت التشهد عنه نظر، وقد سلف كلام أبي عمر فيه، وفي حديث ذى اليدين حجة لمالك على غيره في قوله: إن سجود السهو كله في الزيادة قبل السلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم زاد في حديث ذي اليدين السلام والكلام، ثم أكمل صلاته وسجد له بعده.

ولما ذكر ابن التين عن الحسن أنه لا يسلم منهما ولا يتشهد، قَالَ: هكذا حكي عنه، وهو خلاف ما في البخاري عنه أنه فعل إلا أن يكون روايته في البخاري أنه فعل ذلك في سجود السهو قبل السلام.

قلتُ: لا تنافي بينهما.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 364.

(2)

"مختصر اختلاف العلماء" 1/ 275.

(3)

"الأوسط" 3/ 316.

ص: 361

‌5 - باب مَنْ يُكَبِّرُ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ

1229 -

حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيِ العَشِيِّ -قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَكْثَرُ ظَنِّي العَصْرَ- رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَي خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ المَسْجِدِ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا: أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذُو اليَدَيْنِ فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: "لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ". قَالَ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. [انظر: 482 - مسلم: 573 - فتح: 3/ 99]

1230 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الأَسْدِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ، فَلَمَّا أَتَمَّ صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، فَكَبَّرَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، وَسَجَدَهُمَا النَّاسُ مَعَهُ مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الجُلُوسِ. تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي التَّكْبِيرِ. [انظر: 829 - مسلم: 570 - فتح: 3/ 99]

ذكر فيه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِحْدى صَلَاتَيِ العَشِيِّ .. لحديث.

وحديث عَبْدِ اللهِ ابن بُحَيْنَةَ الأَسْدِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ .. الحديث. ثم قال: تَابَعَهُ ابن جُرَيْجٍ، عَنِ ابن شِهَابٍ فِي التَّكْبِيرِ.

الشرح:

حديث أبي هريرة وابن بحينة سلفا.

وقوله: (حليف بني عبد المطلب) تقدم في باب: من لم ير التشهد

ص: 362

الأول واجبًا، أن الصحيح الذي عليه المؤرخون إسقاط عبد؛ لأن جده حالف المطلب بن عبد مناف

(1)

.

أما التكبير في سجود السهو فهو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ المهلب: وكذلك ألحق المسلمون فيهما التشهد والسلام.

وقد سلف قبيل باب: إذا صلى خمسًا ما فيه من الخلاف

(2)

.

وفيه من الفقه:

أنه لو انحرف عن القبلة في صلاته ساهيًا أو مشى قليلًا أنه لا يخرجه ذلك عن صلاته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وخرج السرعان، وقالوا: إنه قصرت الصلاة، فلم ينقص ذلك صلاتهم؛ لأنه كان سهوًا، فدل أن السهو لا ينقص الصلاة، وقد أسلفنا عن بعضهم: لا يستعمل اليوم مثل هذا في الخروج من المسجد، والكلام -ليس الإعادة والعمل الكثير- في الصلاة مسقط لخشوعها.

فلذلك استحب العلماء إعادتها من أولها إذا كثر العمل مثل هذا، وقد أسلفنا: إن تكرر السهو هل يكرر السجود؟ وأن أكثر أهل العلم على المنع، وهو قول النخعي وربيعة ومالك والثوري والليث والكوفيين والشافعي وأبي ثور، منهم من قَالَ: يسجد في ذلك كله قبل السلام، ومنهم من قَالَ: بعده. على حسب أقوالهم في ذلك، وحجته حديث الباب، فإنه حصل فيه أمور سلفت، ولم يزد على سجدتين. وقال مالك: إنه إذا اجتمع سهوان زيادة ونقصان سجد قبل

(1)

راجع حديث (829).

(2)

راجع حديث (1224) كتاب: الصلاة.

ص: 363

السلام

(1)

. أخذًا بحديثي الباب.

وقوله: (سُرعان الناس). قَالَ ابن التين: كذا وقع هنا بالضم. وقال ابن فارس بفتحها، وفتح الراء أيضًا

(2)

. وفيه جواز تسمية القصير والطويل من الناس.

وقوله: ("لم أنس ولم تقصر") هو بيان لقوله في الرواية الأخرى: "كل ذلك لم يكن"

(3)

وهو رد على من قَالَ أنهما لم يجتمعا، وأن أحدهما كان.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 278، "عيون المجالس" 1/ 340، "الأوسط" 3/ 317 - 318.

(2)

"المجمل" 1/ 493.

(3)

رواها مسلم (573/ 99).

ص: 364

‌6 - باب إِذَا لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَهْوَ جَالِسٌ

.

1231 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ الدَّسْتَوَائِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ الأَذَانَ، فَإِذَا قُضِىَ الأَذَانُ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا وَكَذَا. مَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ إِنْ يَدْرِي كَمْ صَلَّى، فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَحَدُكُمْ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهْوَ جَالِسٌ". [انظر: 608 - مسلم: 389 - فتح: 3/ 103]

ذكر فيه حديث أبي هريرة: "إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ .. " الحديث.

سلف في باب الأذان، وتذكر الرجل الشيء في الصلاة

(1)

. وذكرنا هناك أنه إنما يفعل الشيطان ذلك؛ لئلا يشهد للمؤذن بما يسمعه منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع مدى صوت المؤذن" الحديث

(2)

. فيفعل اللعين ذلك مرارًا، وذكرنا هناك غير هذا أيضًا.

وقوله: ("فإذا ثُوب بها") أي: أقيمت الصلاة.

وقوله: ("فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ") قد سلف الخلاف في ضبط "يخطر". وقال ابن التين: وقع هنا عند أبي الحسن بضاد غير مرفوعة -أي: غير مشالة- وقال: هكذا قرأ لنا أبو زيد، والصواب: يخطر.

(1)

برقم (1222) كتاب: الحمل في الصلاة، باب: يفكر الرجل الشيء في الصلاة.

(2)

سبق برقم (609) كتاب: الأذان، باب: رفع الصوت بالنداء. حديث أبي سعيد.

ص: 365

وقوله: "حَتَّى يظل" أي: لا يعرف كلم صلى.

ثم اعلم أن حديث أبي هريرة هذا بخلاف حديث أبي سعيد: "إذا شك أحدكم فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم"

(1)

. وذكر الطبري عن بعض أهل العلم أنه يأخذ بأيهما أحب لعدم التأريخ، ومنهم من رجح حديث أبي سعيد بالقياس؛ لأن محمل من شك أنه لم يفعل، والركعة في ذمته بيقين، فلا تبرأ بشكٍ.

وقال أبو عبد الملك: يحمل حديث أبي هريرة هذا على من استنكحه

(2)

السهو، وقال: لو كان حكمه حكم حديث أبي سعيد لبينه.

وردوه عليه، والأولى أن يكون حديث أبي سعيد مفسرًا له، وأن بعض الرواة قصر في ذكره، على أن حديث أبي هريرة حمل على كل ساهٍ، وأن حكمه السجود، ويرجع في بيان حكم المصلي فيما يشك فيه وفي موضع سجوده من صلاته إلى سائر الأحاديث المفسرة، وهو قول أنس وأبي هريرة والحسن وربيعة ومالك والثوري والشافعي

(3)

وأبي ثور وإسحاق، وما حمله عليه أبو عبد الملك هو ما فسره الليث ابن سعد، وقاله مالك وابن القاسم.

وعن مالك قول آخر: لا يسجد له أيضًا. حكاه ابن نافع عنه، وقال ابن عبد الحكم: لو سجد بعد السلام كان أحبَّ إليَّ

(4)

.

(1)

رواه مسلم برقم (571) كتاب: المساجد، باب: السهو في الصلاة والسجود له.

(2)

أي:/ غلبة، انظر:"لسان العرب" 8/ 4536.

(3)

رواه ابن أبي شيبة عن الحسن وأنس 1/ 385 (4417) كتاب: الصلوات، باب: في الرجل يصلي فلا يدري زاد أو نقص.

وذكره عنهم ابن المنذر في "الأوسط" 3/ 308.

(4)

انظر: "المنتقى" 1/ 176 - 178.

ص: 366

وقال آخرون: إذا لم يدر كم صلى أعادها أبدًا حَتَّى يحفظ. روي عن ابن عباس وابن عمر والشعبي وشريح وعطاء وسعيد بن جبير

(1)

، وبه قَالَ الأوزاعي

(2)

. وحكي عن عطاء وميمون بن مهران وسعيد بن جبير قول آخر: إنهم إذا شكوا في الصلاة أعادوها ثلاث مرات، فإذا كانت الرابعة لم يعيدوا. وهما مخالفاق للآثار كلها، وكأنهما قصدا الاحتياط، ولا معنى لمن حد ثلاث مرات.

فرع: لو غلب على ظنه التمام فهو شك عندنا وعند مالك وأصحابه، وقيل: تجزئه بحديث ابن مسعود في التحري

(3)

.

وهو مذهب أبي حنيفة قَالَ: من شك في صلاته فلم يدر كم صلى؛ فإن وقع له ذلك كثيرًا بني على اجتهاده وغالب ظنه، وإن كان ذلك أول ما عرض له فليستأنف صلاته

(4)

.

وحديث ابن مسعود فيه: "فليتحر الصواب، فيتم ما بقي؛ ثم يسجد سجدتين" ذكره البخاري في الإيمان والنذور كما ستعلمه

(5)

. وهو لا يقوم يتم بل يستأنف، والحديث بخلافه.

وروي عن مكحول والأوزاعي أنه من بني على اليقين فليس عليه سجدتان، ومن لم يبن فليسجد. ذكره الطبري، وهو خلاف حديث ابن مسعود وغيره في السجود لمن بني على اليقين، وهو خلاف قول الفقهاء.

(1)

رواها ابن أبي شيبة 1/ 385 - 386 (4421 - 4425)، (4427 - 4430) كتاب: الصلوات، باب: من قال: إذا شك فلم يدرِ كم صلى.

(2)

انظر: "التمهيد" 3/ 283.

(3)

سلف برقم (401) كتاب: الصلاة، باب: التوجه نحو القبلة حيث كان.

(4)

"مختصر الطحاوي" ص 30.

(5)

برقم (6671) باب: إذا حنث ناسيًا في الأيمان.

ص: 367

‌7 - باب السَّهْوِ فِي الفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ

وَسَجَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ وِتْرِهِ.

1232 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ". [انظر: 608 - مسلم: 389 - فتح: 3/ 104]

ثم ذكر حديث أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي جَاءَه الشَّيْطَانُ فَلَبَسَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُو جَالِسٌ".

الشرح:

هذا الحديث يأتي في صفة إبليس إن شاء الله

(1)

، وما نقله عن ابن عباس إنما يأتي عليَّ قول من يقول: إن الوتر سُنَّة.

وقد أسلفنا قبيلُ إذا صلى خمسًا أن جمهور العلماء على أن النفل كالفرض في ذلك؛ لإطلاق الأحاديث؛ وإرغامًا للشيطان أيضًا، فيرجع خاسئًا بالسجود الذي حرمه والخيبة التي آب بها.

والكلام في الحديث كالكلام في حديث الباب قبله، منهم من جعله مبنيًا على حديث البناء على اليقين، ومنهم من جعله في المستنكح، ومنهم من أخذ بظاهره مطلقًا ولم يوجب عليه الإتيان بركعة على حسب ما سلف في الباب قبله.

(1)

برقم (3285) كتاب: بدء الخلق.

ص: 368

‌8 - باب إِذَا كُلِّمَ وَهُوَ يُصَلِّي فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَاسْتَمَعَ

1233 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَالمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَزْهَرَ رضي الله عنهم أَرْسَلُوهُ إِلَي عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقَالُوا: اقْرَأْ عليها السلام مِنَّا جَمِيعًا وَسَلْهَا عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ صَلَاةِ العَصْرِ وَقُلْ لَهَا: إِنَّا أُخْبِرْنَا أَنَّكِ تُصَلِّينَهُمَا وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكُنْتُ أَضْرِبُ النَّاسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ عَنْهُمَا. فَقَالَ كُرَيْبٌ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَبَلَّغْتُهَا مَا أَرْسَلُونِي. فَقَالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ. فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ فَأَخْبَرْتُهُمْ بِقَوْلِهَا، فَرَدُّونِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلُونِي بِهِ إِلَى عَائِشَةَ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْهَا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى العَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الجَارِيَةَ فَقُلْتُ: قُومِي بِجَنْبِه، قُولِي لَهُ: تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا. فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ. فَفَعَلَتِ الجَارِيَةُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ:"يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ"[4370 - مسلم: 834 - فتح: 3/ 105]

ذكر فيه حديث غريب أَنَّ ابن عَبَّاسٍ، وَالمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأزهر أَرْسَلُوهُ إِلَي عَائِشَةَ .. الحديث.

وهو حديث أم سلمة عن الركعتين بعد العصر، وفيه: فأشار بيده فاستأخرت عنه. وأخرجه مسلم

(1)

،

ويأتي في المغازي أيضًا

(2)

، وذكره تعليقًا في باب ما يصلى بعد

(1)

"صحيح مسلم"(834) كتاب: صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر.

(2)

(4370) باب: وفد عبد القيس.

ص: 369

العصر من الفوائت ونحوها، فقال: وقال كريب: عن أم سلمة: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر ركعتين. الحديث، وقد سلف

(1)

.

وقوله: (كنت أضرب مع عمر الناس عليها). كذا هو بالضاد المعجمة، وهو الصحيح؛ لأنه جاء في "الموطأ": كان عمر يضرب عليها

(2)

. روى السائب بن يزيد أنه رأى عمر يضرب المنكدر على الصلاة بعد العصر

(3)

. وروي: أصرف. بالصاد المهملة والفاء.

واختلف العلماء في الإشارة المفهمة في الصلاة، فقال مالك والشافعي: لا تقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تقطعها كالكلام. واحتجوا بحديث أبي هريرة مرفوعًا: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، ومن أشار في صلاله إشارة تفهم عنه فليعد"

(4)

واحتج الأولون بحديث الباب وقالوا: قد جاء من طرق متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإشارة مفهمة، فهي أولى من هذا الحديث، وليست الإشارة

(1)

قبل حديث (590) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما يصلي بعد العصر من الفوائت ونحوها. تعليقًا.

(2)

"الموطأ" ص 154.

(3)

رواه مالك ص 154، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة 2/ 134 (7339) كتاب: الصلوات، باب: من قال: لا صلاة بعد الفجر.

(4)

رواه أبو داود (944) كتاب: الصلاة، باب: الإشارة في الصلاة، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 453 كتاب: الصلاة، باب: الإشارة في الصلاة، والدارقطني في "سننه" 2/ 83، 84 كتاب: الجنائز، باب: الإشارة في الصلاة، والبيهقي 2/ 262 كتاب: الصلاة، باب: الإشارة فيما ينوبه في صلاته

قال أبو داود: هذا الحديث وهم.

وقال الألباني في "ضعيف أبي داود" برقم (169): إسناده ضعيف رجاله ثقات، محمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعنه، فالوهم منه، أو ممن دلسه عنه، وقال أحمد: لا يثبت إسناده.

ص: 370

في طريق النظر كالكلام؛ لأن الإشارة إنما هي حركة عضو، وقد رأينا حركة سائر الأعضاء غير اليد في الصلاة لا تفسدها وكذلك حركة اليد.

وفيه: جواز استماع المصلي إلى ما يخبره به من ليس في الصلاة، وقد روى موسى عن القاسم أن من أخبر في الصلاة بما يسره فحمد الله، أو بمصيبة فاسترجع، أو يخبرُ بالشيء فيقول: الحمد لله على كل حال، أو الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. فلا يعجبني وصلاته مجزئة، ومداومته صلى الله عليه وسلم على هاتين الركعتين بعد العصر دائمًا من خصائصه، وليس لنا ذلك على الأصح.

وفيه: أنه ينبغي أن يسأل أعلم الناس بالمسألة، وأن العلماء إذا اختلفوا يرفع الأمر إلى الأعلم والأفقه لملازمة سبقت له، ثم يقتدى به وينتهى إلى فعله.

وفيه: فضل عائشة وعلمها؛ لأنهم اختصوها بالسؤال قبل غيرها، وإنما رفعت المسألة إلى أم سلمة؛ لأن عائشة كانت تصليهما بعد العصر، وعلمت أن عند أم سلمة من علمها مثل ما عندها، وأنها قد رأته صلى الله عليه وسلم يصليهما في ذلك الوقت في بيتها، فأرادت عائشة أن تستظهر بأم سلمة؛ تقوية لمذهبها؛ من أجل ظهور نهيه صلى الله عليه وسلم عنها؛ وخشية الإنكار؛ لقولها متفردة. وقد حفظ عن عائشة أنها قالت: ما تركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي سرًّا ولا جهرًا

(1)

، تريد: جهرًا منها، وكان لا يصليهما في المسجد؛ مخافة أن يثقل على أمته.

(1)

سلف برقم (592) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها.

ورواه مسلم برقم (835/ 300) كتاب: صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد العصر.

ص: 371

وادعى ابن بطال أن الركعتين صلاهما ذلك اليوم في بيت أم سلمة هنا غير اللتين كان يلتزم صلاتهما في بيت عائشة بعد العصر، وإنما كانت الركعتان بعد الظهر على ما جاء في الحديث، فأراد إعادتهما ذلك الوقت؛ أخذًا بالأفضل، لا أن ذلك واجب عليه في سننه؛ لأن السنن والنوافل إذا فاتت أوقاتها لم يلزم إعادتها

(1)

. هذا لفظه، ولا يسلم له، وبناه على مذهبه في السنن، وعندنا أنها تقضى أبدًا.

وقال ابن التين: مذهب عائشة أنها تبيح النافلة في هذا الوقت، وأقسمت أنه صلى الله عليه وسلم ما تركها في بيتها

(2)

. وقال مثل قولها داود، خاصة أنه لا بأس بعد العصر ما لم تغرب، ودليل مالك والجمهور النهي.

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 233.

(2)

سلف برقم (591) كتاب: مواقيت الصلاة، باب: ما يصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها.

ورواه مسلم برقم (835/ 299) في صلاة المسافرين، باب: معرفة الركعتين اللتين ..

ص: 372

‌9 - باب الإِشَارَةِ فِي الصَّلَاةِ

قَالَهُ كُرَيْبٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

1234 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَجَاءَ بِلَالٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتِ الصَّلَاةُ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ؟ النَّاسَ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ. فَأَقَامَ بِلَالٌ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللهَ وَرَجَعَ القَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ، إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللهِ. فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ حِينَ يَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ إِلاَّ التَفَتَ، يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: مَا كَانَ يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 684 - مسلم: 421 - فتح: 3/ 107]

1235 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها وَهِيَ تُصَلِّي قَائِمَةً، وَالنَّاسُ قِيَامٌ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ. فَقُلْتُ آيَةٌ؟ فَقَالَتْ بِرَأْسِهَا أَيْ: نَعَمْ. [انظر: 86 - مسلم: 905 - فتح: 3/ 107]

1236 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ

ص: 373

رضي الله عنها -زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ جَالِسًا، وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ:"إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا". [انظر: 688 - مسلم: 412 - فتح: 3/ 108]

هو الحديث الذي سلف في الباب قبله.

وقوله: (عن النبي صلى الله عليه وسلم). يعني: عن فعله أو مسندًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنه موقوف عليها.

ثم ذكر حديث سهل بن سعد الساعدي: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ .. الحديث.

وقد سلف في عدة مواضع: من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول

(1)

. ما يجوز من التسبيح والحمد للرجال

(2)

. رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به، والبخاري رواه هنا عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، ورواه أيضًا قتيبة فيه، عن عبد العزيز بن أبي حازم

(3)

، فيكون له فيه شيخان.

ثم ذكر حديث أسماء: دَخَلْتُ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي .. الحديث.

وقد سلف في مواضع، أولها: العلم، في باب: من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس

(4)

.

(1)

برقم (684) كتاب: الأذان.

(2)

برقم (1201) كتاب: العمل في الصلاة.

(3)

برقم (1218) كتاب: العمل في الصلاة، رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به.

(4)

برقم (86) كتاب: العلم.

ص: 374

ثم ذكر حديث عائشة: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَهُو شَاكٍ فَأشَارَ إِلَيْهِمْ أَنِ اجْلِسُوا .. الحديث.

وقد سلف في باب: أهل العلم والفضل أحق بالإمامة

(1)

، وهذا الباب كالذي قبله.

فيه: الإشارة المعهودة باليد والرأس.

وفيه: جواز استفهام المصلي ورد الجواب باليد والرأس، خلافًا لقول الكوفيين. وروى ابن القاسم عن مالك: من كُلِّم في الصلاة فأشار برأسه أو بيده فلا بأس بما خف، ولا يكثر. وقال ابن وهب: لا بأس أن يشير في الصلاة بلا ونعم.

وقد اختلف قول مالك: إذا تنحنح في الصلاة لرجل ليسمعه، فقال في "المختصر": إن ذلك كالكلام. وروى عنه ابن القاسم أنه لا شيء عليه؛ لأن التنحنح ليس بكلام، وليس له حروف هجاء، قاله الأبهري

(2)

.

وحديث سهل فيه أنواع من الفقه والأدب، فلنشر ههنا إلى اثني عشر وإن سلفت:

أولها: مبادرة الصحابة إلى الصلاة خوف الوقت إذا انتظر مجيئه.

ثانيها: جواز الصلاة بإمامين بعضها خلف واحد، وتمامها خلف آخر.

ثالثها: جواز الائتمام بمن تقدم إحرام المأموم عليه.

رابعها: جواز صلاة الشخص بعضًا إمامًا وبعضًا مأمومًا.

خامسها: إن العمل اليسير كالخطوة والخطوتين لا يفسد.

(1)

برقم (688) كتاب: الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به.

(2)

انظر: "شرح ابن بطال" 3/ 234.

ص: 375

سادسها: إن سنة الرجال فيما ينوبهم التسبيح، وأن النساء التصفيق، وهو ضرب اليمين على ظهر اليسار.

سابعها: صلاة الشارع خلف أمته.

عاشرها: تفضيل الصديق.

الحادي عشر: الرضا بإمامته لو ثبت وتم عليه، ولذلك أشار إليه.

الثاني عشر: جواز الدعاء في الصلاة مع رفع اليدين عند حدوث نعمة يجب شكرها. وذلك أن الصديق عقل من إشارته صلى الله عليه وسلم أنه أمر إكرام لا إيجاب، ولولا ذلك ما استجاز مخالفة أمره.

وقوله: (لا يَنْبَغِي لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

يحتمل وجهين، أبداهما ابن التين:

أحدهما: أنه تواضَعَ واستَصْغَرَ نفسه؛ إذ من الفضائل تقدم الأفاضل.

والثاني: أن أمر الصلاة في حياته كان يختلف، فلم يُؤْمَن حدوث زيادة أو نقص وتغير في الحالة، والمستحق لها سيد الأنبياء والمرسلين.

قَالَ: ويشبه أن يكون الصديق قد استدل مع ذلك بشقه الصفوف إلى أن خلص إلى الأول. أي: لو لم يرد ذلك لصلى حيث انتهى به المقام و (

)

(1)

قيامهم في حديث عائشة ما بينه حديث جابر أنه فعله تواضعًا ومخالفة لأهل فارس في قيامهم على رءوس ملوكهم

(2)

، ويحتمل أن

(1)

كلمة غير واضحة بالأصل.

(2)

رواه مسلم برقم (413) كتاب: الصلاة، باب: ائتمام المأموم بالإمام، وأبو داود برقم (602) كتاب: الصلاة، باب: الإمام يصلي من قعود، والنسائي 3/ 9 كتاب: السهو، باب: الرخصة في الالتفات في الصلاة يمينًا وشمالًا، وابن ماجه برقم (1240) كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في: إنما جعل الإمام ليؤتم به.

ص: 376

يكون قاموا في موضع الجلوس؛ تعظيمًا له، فأمرهم باتباعه والجلوس معه إذا جلس للتشهد.

وادعى ابن القاسم أنه كان في النافلة. وقال أحمد وإسحاق بظاهر الحديث: يصلي المأموم جالسًا وإن قدر على القيام إذا صلى الإمام جالسًا

(1)

.

والحميدي والبخاري وغيرهما ادعوا نسخه بصلاة الصديق خلفه في مرضه الذي مات فيه قائمًا

(2)

، ومشهور مذهب مالك أنه لا يجوز أن يكون إمامًا إذا كان من وراءه قادرًا على القيام، وأبو حنيفة والشافعي والأوزاعي جوَّزوه

(3)

. وبالله التوفيق

(4)

.

آخر كتاب الصلاة

ويتلوه في الجزء الثاني كتاب الجنائز

فرغ من تعليقه بدار السنة الكائنة بالقاهرة،

في مدة آخرها منتصف شعبان المكرم من سنة خمس وثمانين وسبعمائة:

إبراهيم بن محمد بن خليل سبط بن العجمي الحلبي.

الحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(1)

انظر: "المغني" 3/ 61.

(2)

سلف برقم (689) كتاب: الأذان، باب: إنما جعل الإمام ليؤتم به.

(3)

انظر: "الهداية" 1/ 58، "عيون المجالس" 1/ 361 - 363، "المنتقى" 1/ 238.

(4)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ في الثاني بعد المائة. قراءة علي ومقابلة بأصلي. نفعه الله وإياي، مؤلفه غفر الله له.

ص: 377

23

كتاب الجنائز

ص: 379

‌23 - كتاب الجنائز

‌1 - باب فِي الجَنَائِزِ، وَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ

وَقِيلَ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: أَلَيْسَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مِفْتَاحُ الجَنَّةِ؟

قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ مِفْتَاحٌ إِلاَّ لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ، وَإِلَّا لَمْ يُفْتَحْ لَكَ. [فتح 3/ 109]

1237 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ، عَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأَخْبَرَنِي -أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي- أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ". قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟! قَالَ: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ". [1408، 2388، 3222، 5827، 6268، 6443، 6444، 7487 - مسلم: 94 وسيأتي بعد الحديث 991 في كتاب الزكاة (32) - فتح: 3/ 110]

1238 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ". وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ. [4497، 6683 - مسلم: 92 - فتح: 3/ 110]

ص: 381

ثم ذكر فيه حديث أبي ذر: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أتانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأخْبَرَنِي -أَوْ قال: بَشَّرَنِي- أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بالله شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ". قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟! قال: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ".

وحديث شقيق عن عبد الله: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ". وَقُلْتُ أَنَا: مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بالله شَيْئَا دَخَلَ الجَنَّةَ.

الشرح:

ترجمة الباب بعض من حديث صحيح أخرجه أبو داود عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" قال الحاكم: صحيح الإسناد

(1)

. ولأبي زرعة عند وفاته فيه حكايته، أخبرنا بها الوجيه العوفي السكندري المعمر مشافهة، عن

(1)

أبو داود (3116)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 351، 500.

ورواه أحمد 5/ 247، والبزار في "البحر الزخار" 7/ 77 (2625)، والشاشي في "مسنده" 3/ 270 - 271 (1372 - 1373)، والطبراني 20/ 112 (221)، وفي "الدعاء" 3/ 1485 (1471)، والخطيب في "الموضح" 2/ 185 - 186، والمزي في "تهذيب الكمال" 13/ 574، والذهبي في "تذكرة الحفاظ" 2/ 620 - 261 من طريق أبي عاصم النبيل -الضحاك بن مخلد- عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح ابن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل.

وهو حديث صحيح -كما ذكر المصنف هنا- وكذا صححه في "البدر المنير" 5/ 189، وعبد الحق الأشبيلي في "أحكامه" 2/ 118.

وحسن النووي في "المجموع" 5/ 102 إسناده. وكذا الألباني في "أحكام الجنائز" ص 48.

وقال الحافظ في "شرح المشكاة" كما في "الفتوحات" 4/ 109: سنده صحيح.

وحسَّن الحديث في "أماليه" كما في "الفتوحات" 4/ 104. وكذا الألباني في "الإرواء" (687).

وقال الألباني في "صحيح أبي داود"(2729): إسناده حسن صحيح.

ص: 382

ابن رواح عامة، أنا السلفي، أنا أبو علي البرداني، ثنا إبراهيم بن هناد النسفي، ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد القطان، ثنا أبو عبد الله محمد بن مسلم بن وارة الرازي قال: حضرت مع أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي عند أبي زرعة الرازي وهو في النزع فقلت لأبي حاتم: تعال حتَّى نلقنه الشهادة، فقال أبو حاتم: إني لأستحي من أبي زرعة أن ألقنه الشهادة، ولكن تعال حتَّى نتذاكر الحديث فلعله إِذَا سمعه يقول، فبدأت فقلت: حَدَّثَنَا أبو عاصم النبيل، ثنا عبد الحميد بن جعفر، فأرتج عَلَي الحديث حتَّى كأني ما سمعته ولا قرأته، فبدأ أبو حاتم فقال: حَدَّثنَا محمد بن بشار، ثنا أبو عاصم النبيل، عن عبد الحميد ابن جعفر، فأرتج عليه كأنه ما قرأه، فبدأ أبو زرعة فقال: حَدَّثَنَا محمد بن بشار، ثنا أبو عاصم النبيل، ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عريب، عن ابن سيرين مرة، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كان آخر كلامه لا إله إلا الله" وخرجت روحه مع الهاء قبل أن يقول: "دخل الجنة" وذلك سنة اثنتين وستين ومائتين

(1)

.

وقول وهب وقع في حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البيهقي من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي أهل كتاب فيسألونك عن مفتاح الجنة، فقل شهادة

(1)

هذِه القصة رواها المصنف رحمه الله في "البدر المنير" 5/ 189 - 191، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 1/ 345 - 346 - مختصره- والحاكم في "معرفة علوم الحديث" ص 76، والخليلي في "الإرشاد" 2/ 677 - 678، والخطيب في "تاريخ بغداد" 10/ 335، والمزي في "تهذيب الكمال" 19/ 101 - 102، والذهبي في "السير" 13/ 85 من عدة وجوه.

ص: 383

أن لا إله إلا الله، ولكن مفتاح بلا أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك"

(1)

.

وفي "سيرة ابن إسحاق": لما أرسل العلاء بن الحضرمي: "إذا سُئلت عن مفتاح الجنة، قل: معناها لا إله إلا الله"

(2)

.

وفي "مسند أبي داود الطيالسي" من حديث أبي يحيى القتات عن مجاهد، عن جابر مرفوعًا:"مفتاح الجنة الصلاة"

(3)

.

وذكر أبو نعيم في كتابه "أحوال الموحدين الموقنين" أن أسنان هذا المفتاح في الطاعات الواجبة من القيام بطاعة الله تعالى وتأديتها، والمفارقة للمعاصي ومجانبتها.

وكذا قال ابن بطال: إنه أراد بالأسنان القواعد التي بني الإسلام عليها التي هي كمال الإيمان ودعائمه خلاف قول الغالية من المرجئة

(1)

روى الإمام أحمد في "المسند" 5/ 242، والبزار في "البحر الزخار" 7/ 103 - 104 (2660)، والطبراني في "الدعاء" 3/ 1448 (1479) من طريق شهر بن حوشب عن معاذ مرفوعًا: مفاتيح الجنة لا إله إلا الله. هكذا مختصرًا.

وشهر لم يسمع من معاذ، قاله البزار.

وبهذا ضعفه الهيثمي في "المجمع" 1/ 16 فقال: فيه: انقطاع بين شهر ومعاذ، وإسماعيل بن عياش روايته عن أهل الحجاز ضعيفة وهذا منها. والحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة"(1311).

والحديث الذي ذكره المصنف هنا وعزاه للبيهقي، ذكره الحافظ في "الفتح" 3/ 109 كذلك وزاد نسبته "للشعب". وكذا في "التعليق" 2/ 454 وضعف إسناده. والله أعلم.

وأما تعليق وهب بن منبه فوصله البخاري في "التاريخ الكبير" 1/ 95، وأبو نعيم في "الحلية" 4/ 66، والحافظ في "التغليق" 2/ 453 - 454.

(2)

انظره بتفصيل في "الروض الأنف" 4/ 250.

(3)

"مسند الطيالسي" 3/ 337 (1899). =

ص: 384

والجهمية الذين يقولون: إن الفرائض ليست إيمانًا، وقد سماها الله تعالى إيمانًا بقوله:{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، وقال تعالى:{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] واستئذانهم له عمل مفترض عليهم فسُمُّوا به مؤمنين كما سُمُّوا بإيمانهم بالله ورسوله

(1)

.

وقال الداودي: قول وهب بمعنى التشديد، ولعله لم يبلغه حديث أبي ذر

(2)

، وحديث عتبان

(3)

، وحديث معاذ

(4)

فيتأمل المعنى: من قال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه فهو مفتاح له أسنان، إلا أنه إن خلط ذلك بالكبائر حتى مات مصرا عليها لم تكن أسنانه بالتامة، فربما طال علاجه، وربما يسر له الفتح بفضله.

= ورواه الترمذي (4)، وأحمد 3/ 340، والعقيلي في "الضعفاء" 2/ 137، وابن عدي 4/ 241، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" 1/ 176، والبيهقي في "الشعب" 3/ 4 (2711 - 2712)، والخطيب في "الموضح" 1/ 350 - 351 من طريق سليمان بن قرم بن معاذ الضبي عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن جابر بن عبد الله.

والحديث أشار المصنف لضعفه في "البدر المنير" 3/ 449 - 450، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(5265).

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 237.

ويبدو أنه من كلام المهلب نقله عنه ابن بطال، فقبل هذِه الفقرة بفقرتين.

قال ابن بطال: قال المهلب، ونقل كلامًا، وبعد الفقرة التي نقلها المصنف هنا.

قال ابن بطال: قال المؤلف، وهل يعني إلا نفسه؟ والله أعلم.

(2)

هو حديث الباب (1237) وسيأتي في عدة مواضع، وسيذكره المصنف قريبًا.

(3)

سلف برقم (425) مطولًا، ورواه مسلم (33).

(4)

هو حديث معاذ المذكور أول الباب، وقد تقدم تخريجه.

ص: 385

وروي عن عبد الله بن معقل قال: كان وهب بن منبه [جالسًا]

(1)

في مجلس ابن عباس فسُئل: أليس تقول: إن مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال علي: وجدت في التوراة: ولكن اتخذوا له أسنانًا، فسمع ذلك ابن عباس فقال: أسنانه والله عندي:

أولها: شهادة أن لا إله إلا الله، وهو المفتاح.

والثاني: الصلاة، وهو القنطرة.

والثالث: الزكاة، وهي الطهور.

والرابع: الصوم، وهو الجُنة.

والخامس: الجهاد.

والسادس: الأمر بالمعروف وهو الألفة.

والسابع: الطاعة، وهي العصمة.

والثامن: الغسل من الجنابة وهي السريرة. وقد خاب من لا سن له، هذا والله أسنانها.

وحديث أبي ذر يأتي في اللباس أيضًا.

وفيه: "ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" ثلاثًا "على رغم أنف أبي ذر" وكان أبو ذر إذا حدث به يقول: وإن رغم أنف أبي ذر.

قال أبو عبد الله: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم وقال: لا إله إلا الله، غُفر له

(2)

.

(1)

في الأصل: جالسٌ، والصواب ما أثبتناه.

(2)

سيأتي برقم (5827) كتاب: اللباس، باب: الثياب البيض.

ص: 386

وهو يوضح ما استبعد من أنه ليس موافقًا التبويب الذي فيه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله؛ إذ فيه: ثم مات على ذلك. ودل أيضًا أن من قالها وارتعد ومات على اعتقادها كذلك. ففي مسلم من حديث عثمان مرفوعًا: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة"

(1)

.

وفيه من حديث أبي هريرة: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله"

(2)

ولابن ماجه مثله من حديث عبد الله بن جعفر بزيادة: "الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين"

(3)

.

وحديث عبد الله أخرجه البخاري في موضع آخر بلفظ: قال رسول الله كلمة وقلت أخرى. قال: "من ماتَ يجعل لله ندًا دَخَلَ النَّار" وقلت: من مات لا يجعل لله ندًا دخل الجنة

(4)

. وفي رواية وكيع وابن نمير لمسلم بالعكس: "مَنْ ماتَ لا يشرك بالله شيئًا دَخَلَ الجنَّة" وقلت أنا: مَنْ مَاتَ يشركُ بالله شيئًا دَخَلَ النار

(5)

.

(1)

مسلم (26) كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا.

(2)

مسلم (917) كتاب: الجنائز، باب: تلقين الموتي لا إله إلا الله.

(3)

"سنن ابن ماجه"(1446) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في تلقين الميت لا إله إلا الله. وقال البوصيري في "الزوائد"(478): أصله في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة، وإسناد حديث عبد الله بن جعفر فيه مقال، إسحاق لم أرَ من وثقه ولا من جرحه. وكثير بن زيد قال فيه أحمد: ما أرى به بأسًا، وقال ابن معين: ليس شيء .. وباقي رجاله ثقات.

والحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة"(4317)، وفي "ضعيف ابن ماجه"(307).

(4)

سيأتي برقم (4497) كتاب: التفسير، باب: قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا} .

(5)

مسلم (92) كتاب: الإيمان، باب: من لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة.

ص: 387

وفيه رد على من قال: إن ابن مسعود سمع أحد الحكمين، فرواه وضم إليه الحكم الآخر قياسًا على القواعد الشرعية. الظاهر أنه نسي مرة وهي الأولى وحفظ مرة وهي الأخرى فرواهما مرفوعين كغيره من الصحابة. ودخول المشرك النار دخول تأبيد.

إذا تقرر ذلك فالإجماع قائم على أن من مات على ذلك دخل الجنة لكن بعد الفصل بين العباد، ورد المظالم إلى أهلها، فيزحزح عنها ويباعد ويعجل له الدخول، أو يصيبه سفع من النار بكبائر ارتكبها.

وفيه رد على الرافضة والإباضية وأكثر الخوارج في قولهم: إن أصحاب الكبائر والمذنبين من المؤمنين يخلدون في النار بذنوبهم، والقرآن ناطق بتكذيبهم قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] والحجة عليهم أن قبول العمل يقتضي ثوابًا، والتخليد ينافيه. وقد أخبر الصادق في كتابه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]. وترك المثوبة على الإحسان لا يليق بالربوبية. وقول ابن مسعود السالف أصل في القول بدليل الخطاب وإثبات القياس.

وقول أبي ذر: وإن زنى وإن سرق؟ إنما ذكره لأنه عليه السلام قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"

(1)

وما في معناه، فوضح له عليه السلام إن وقع ذلك منه.

(1)

سيأتي برقم (2475) كتاب: المظالم، باب: النهي بغير إذن صاحبه، ورواه مسلم (57) في الإيمان، نقصان الإيمان بالمعاصي، من حديث أبي هريرة (.

ص: 388

‌2 - باب الأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ

1239 -

حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَشْعَثِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ، عَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ، أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ المَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ المَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ القَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ العَاطِسِ. وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الفِضَّةِ، وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، وَالحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالقَسِّيِّ، وَالإِسْتَبْرَقِ. [2445، 5175، 5635، 5650، 5838، 5849، 5863، 6222، 6235، 6654 - مسلم: 2066 - فتح: 3/ 112].

1240 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ". تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. وَرَوَاهُ سَلَامَةُ، عَنْ عُقَيْلٍ. [مسلم: 2612 - فتح: 3/ 112]

ذكر فيه حديث البراء أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ .. الحديث.

وحديث أبي هريرة: "حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ -فذكر منها-: وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ".

أما حديث البراء فأخرجه البخاري في عشرة مواضع من "صحيحه"

(1)

، وسقط منه هنا الخصلة السابعة من المنهي عنها، وهي

(1)

سيأتي برقم (2445) كتاب: المظالم، باب: نصر المظلوم، (5175) كتاب: النكاح، باب: حق إجابة الوليمة والدعوة، (5635) كتاب: الأشربة، باب: آنية الفضة، (5650) كتاب: المرضى، باب: وجوب عيادة المريض، (5838) كتاب: اللباس، باب: لبس القسي، (5849) كتاب: اللباس، باب: الميثرة الحمراء، (5863) كتاب: اللباس، باب خواتيم الذهب، (6222) كتاب: =

ص: 389

ركوب المياثر، أخرجها في الاستئذان والأشربة

(1)

وفي موضع، عن المياثر الحمر

(2)

. وجاء: وإبرار القسم أو المقسم

(3)

. وفي أصل الدمياطي: القسم، وفي الحاشية: المقسم من غير شك. وهنا: عن خاتم الذهب. وفي موضع آخر: عن خواتيم أو تختم الذهب

(4)

. وفي موضع: عن خاتم الذهب أو خواتيم الذهب

(5)

. وفي موضع مسلم: الشرب في آنية الفضة، فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة

(6)

. وفي لفظ: إفشاء السلام، بدل: رده

(7)

.

وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم بزيادة: وتنصح له إذا غاب أو شهد "وإذا استنصحك فانصحه"

(8)

. وشيخ البخاري فيه محمد هو الذهلي صرح به غير واحد

(9)

.

= الأدب، باب: تشميت العاطس إذا حمد، (6235) كتاب: الاستئذان، باب: إفشاء السلام، (6654) كتاب: الإيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} .

(1)

يأتيا برقم (5635، 6235).

(2)

هي رواية (5838) ورواية (5849).

(3)

(2445، 5175).

(4)

الرواية الآتية برقم (6235).

(5)

(5635، 5650).

(6)

مسلم (2066) كتاب: اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة.

(7)

(5175).

(8)

مسلم (2162) كتاب: السلام، باب: من حق المسلم للمسلم رد السلام.

(9)

قال الحافظ الجياني في "تقييد المهمل" 3/ 1042 - 1043: لم ينسب محمدًا هذا أحد من شيوخنا، وذكر أبو نصر في كتابه فقال: يقال: إنه محمد بن يحيى الذهلي.

وقال الحافظ في "هدي الساري" ص 238: قال الكلاباذي: محمد هذا يقال: إنه الذهلي.

وجزم به الحافظ السيوطي في "التوشيح" 3/ 1047.

ص: 390

وقول البخاري: تابعه عبد الرزاق، أنا معمر، ورواه سلامة، عن عقيل. هذِه المتابعة أخرجها مسلم عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري

(1)

.

إذا تقرر ذلك فالكلام على الحديث الأول من أوجه تحتمل مؤلفًا:

أحدها:

إنما ذكر بعض الأوامر التي أمروا بها في وقت، فمنها: اتباع الجنائز، ودفنها، والصلاة عليها من فروض الكفاية عند جمهور العلماء. وقال أصبغ: الصلاة عليه سنة، والمشي عندنا أمامها بقربها أفضل

(2)

وعند المالكية ثلاثة أقول

(3)

:

ثالثها:

المشاة أمامها، ومشهور مذهبهم كمذهبنا. وقال أبو حنيفة: خلفها

(4)

. وأما النساء فيتأخرن، ويجوز عندهم للقواعد ويحرم على مخشية الفتنة، وفيما بينهما الكراهة إلا في القريب جدًّا كالأب والابن والزوج.

والأصح عندنا الكراهة في اتباعهن فقط إذا لم يتضمن حرامًا، وقيل: حرام. قال الداودي: فاتباع الجنائز حملها بعض الناس عن

(1)

متابعة عبد الرزاق عن معمر، فقط هي التي رواها مسلم (2162/ 4) وأما رواية سلامة في عقيل فلم يذكر المصنف هنا من وصلها، وكذا الحافظ فوصل متابعة عبد الرزاق في "التغليق" 2/ 454 - 455، ولم يتعرض لرواية سلامة. وقال في "الفتح" 3/ 113 فأما رواية سلامة فأظنها في "الزهريات" للذهلي.

(2)

انظر: "الذخيرة" 2/ 456، 465.

(3)

انظر: "الذخيرة" 2/ 465.

(4)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 404.

ص: 391

بعض، قال: وهو واجب على ذي القرابة الحاضر والجار وكذا عيادة المريض، ونراه التأكد لا الوجوب الحقيقي.

ثم الاتباع على ثلاثة أقسام: أن يصلي فقط، فله قيراط

(1)

. ثانيها: أن يذهب فيشهد دفنها، فله اثنان

(2)

. ثالثها: أن يكفنه.

وروي عن ابن عمر أنه كان يقرأ عنده بعد الدفن أول البقرة وخاتمتها

(3)

.

ثانيها:

عيادة المريض، وهي مطلوبة، وفيها أحاديث جمة ذكر البخاري بعضها فيما يأتي

(4)

، وهي بعد ثلاث، وفيه حديث

(5)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: الصلاة فقط لا يحصل له القيراط الموعود به، ولكن يحصل له أجر، وإنما يحصل القيراط بشهودها من بيتها والصلاة عليها وهو ما جاءت به الأحاديث، وصرح به بعض أصحاب الشافعي فاعلمه.

(2)

دليل ذلك ما روي عن أبي هريرة مرفوعًا: "من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا وكان معه حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط".

سلف برقم (47) وهذا لفظه، وسيأتي، ورواه مسلم (945).

ورواه مسلم بنحوه (946) عن ثوبان.

(3)

رواه البيهقي 4/ 56 - 57.

(4)

ستأتي هذِه الأحاديث في كتاب: المرضى (5649، 5651، 5654، 5656 - 5659، 5663) وغير ذلك.

(5)

قلت: وجدت فيه حديثين:

أولهما: حديث أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث.

رواه ابن ماجه (1437)، وابن حبان في "المجروحين" 3/ 34، والطبراني في "الأوسط" 4/ 72 (3642)، وفي "الصغير" 1/ 293 (484)، وابن عدي في "الكامل" 8/ 18، والبيهقي في "الشعب" 6/ 542 (9216). =

ص: 392

ثالثها:

إجابة الداعي، إن كانت إلى نكاح فجمهور العلماء على الوجوب، قالوا: والأكل واجب على المفطر، وعندنا مستحب. وغيرها يراه العلماء حسنًا من باب الألفة وحسن الصحبة.

(1)

رابعها:

نصر المظلوم فرض على من قدر عليه ويطاع أمره

(1)

.

= من طريق مسلمة بن علي عن ابن جريج عن حميد الطويل عن أنس بن مالك.

قال ابن حبان 3/ 33: مسلمة بن علي ممن يقلب الأسانيد ويروي عن الثقات ما ليس من حديثهم توهمًا، فلما فحش ذلك منه، بطل الاحتجاج به.

وقال البيهقي 6/ 541: إسناده غير قوي.

وقال البوصيري في "المصباح" 2/ 20: قال أبو حاتم: هذا باطل منكر. وقال الحافظ في "الفتح" 10/ 113: حديث ضعيف جدًّا؛ تفرد به مسلمة بن علي، وهو متروك. وعدَّ هذا الحديث من منكراته في ترجمته من "التهذيب" 4/ 77. وضعف إسناده أيضًا السفاريني في "غذاء الألباب" 2/ 8.

وأورده الألباني في "الضعيفة"(145) وقال: موضوع.

ثانيها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يعاد المريض إلا بعد ثلاث". رواه الطبراني في "الأوسط" 4/ 18 (3503)، وابن عدي في "الكامل" 4/ 48، وابن الجوزي في "الموضوعات" 3/ 490 (1716) من طريق روح بن غطيف [ووقع في "الأوسط": بن جناح] عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.

قال ابن عدي: منكر بهذا المتن، وليس بمحفوظ عن الزهري.

وقال ابن الجوزي: حديث لا يصح.

وقال الحافظ في "الفتح" 10/ 113: فيه متروك: وقال الحافظ السيوطي في "درره"(464): حديث منكر. وقال الألباني في "الضعيفة"(146): موضوع.

وفي الباب عن ابن عباس وعن أنس أيضًا بلفظ آخر.

انظرهما في: "الدرر المنتثرة" ص (145)، و"كشف الخفاء"(1795)، و"الضعيفة"(1389).

(1)

وسيأتي حديث أنس مرفوعًا: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا". برقم (2443 - 2444).

ص: 393

وإبرار المقسم خاص فيما يحل، وهو من مكارم الأخلاق، فإن ترتب على تركه مصلحة فلا، كقول الشارع للصديق لما قال له:"أصبتَ بعضًا وأخطأت" فأقسم عليه ليخبره، قال:"لا تقسم"

(1)

ولم يخبره.

خامسها:

رد السلام فرض على الكفاية عند مالك والشافعي

(2)

. وعند الكوفيين فرض عين على كل أحد من الجماعة

(3)

، وحكاه صاحب "المعونة" أيضًا، قال: الابتداء بالسلام سنة ورده آكد من ابتدائه

(4)

.

وأقله: السلام عليكم.

قال مالك: ولا ينبغي سلام الله عليك

(5)

.

سادسها:

تشميت العاطس بالمهملة والمعجمة

(6)

متأكد

(7)

، وهو قوله في جواب العاطس: رحمك الله، إذا حمد الله، وليرد: يهديكم الله

(1)

سيأتي برقم (7046) كتاب: التعبير، باب: من لم يرَ الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب، ورواه مسلم (2269) كتاب: الرؤيا، باب: في تأويل الرؤيا، وأحمد 1/ 236.

(2)

انظر: "المنتقى" 7/ 279، "طرح التثريب" 8/ 103.

(3)

انظر: "عمدة القاري" 6/ 363.

(4)

"المعونة" 2/ 570.

(5)

انظر: "المنتقى" 7/ 279.

(6)

أي: تشميت العاطس بالشين المعجمة، وتسميت العاطس بالسين المهملة، من شمَّت العاطس تشميتًا، وسمَّته تسميتًا. انظر:"الصحاح" 1/ 254، و"النهاية" 2/ 397، و"لسان العرب" 4/ 2087 مادة: سمت.

و"النهاية" 2/ 499، و"لسان العرب" 4/ 2319 - 2320 مادة: شمت.

(7)

دليل ذلك حديث أبي هريرة الآتي برقم (6223).

ص: 394

ويصلح بالكم

(1)

. وروي عن الأوزاعي أن رجلًا عطس بحضرته فلم يحمد، فقال له: كيف تقول إذا عطست؟ قال: الحمد لله، فقال له: يرحمك الله. وجوابه كفاية خلافًا لبعض المالكية: قال مالك: ومن عطس في الصلاة حمد في نفسه. وخالفه سحنون فقال: ولا في نفسه

(2)

.

سابعها:

قوله: (ونهانا عن آنية الفضة) هو نهي تحريم، وكذا الذهب؛ لأنه أشد، فإن التختم به على الرجال حرام بخلاف الفضة والحرير والديباج والقسي والإستبرق كررها وهي كلها حرمه تأكيدًا. والديباج بكسر الدال، والقسي بفتح القاف وتشديد السين قال القزاز: والمحدثون تقوله بكسر القاف، والوجه الفتح، وهي ثياب مغلفة بالحرير، تعمل بالقس بقرب دمياط

(3)

. والإستبرق: ثخين الديباج على الأشهر، وقيل: رقيقه. فالحرير حرام على الرجال من غير ضرورة وتداوٍ.

وما غالبه الحرير حرام. وفي إجازته في الغزو قولان: الجواز لابن حبيب، والمنع لغيره

(4)

قال في "الواضحة": ولم يختلفوا في إجازة لباس الخز. وليس بين الخز وما عداه من القطن وغيره فرق إلا الاتباع، واعترض ابن التين فقال: ذكر في الحديث ستًّا، ويحتمل أنه أراد آنية الفضة وآنية الذهب، فاجتُزِئَ بأحدهما عن الآخر، وهو عجيب منه، فقد ذكرناها لك فيما مضى فاستفدها.

وأما حديث أبي هريرة فالحق فيه بمعنى حق حرمته عليه، وجميل

(1)

دليل ذلك أيضًا ما سيأتي برقم (6224).

(2)

انظر: "المنتقى" 7/ 285.

(3)

انظر: "معجم ما استعجم" 3/ 1073 - 1074، و"معجم البلدان" 4/ 346.

(4)

انظر: "المنتقى" 7/ 223.

ص: 395

صحبته له لا أنه من الواجب، ونظيره حديث:"حقٌّ على المسلمِ أنْ يغتسلَ كلّ جُمعة"

(1)

وستأتي هذِه الأحكام مبسوطة في مواطنها من الاستئذان والسلام، ودعوة الوليمة وغير ذلك، وإنما أشرنا إليها هنا.

(1)

بنحوه تقدم برقم (858) ورواه مسلم (846) من حديث أبي سعيد الخُدري.

وتقدم أيضًا برقم (897 - 898)، ورواه مسلم (898) من حديث أبي هريرة.

ص: 396

‌3 - باب الدُّخُولِ عَلَى المَيِّتِ بَعْدَ المَوْتِ إِذَا أُدْرِجَ فِي كَفَنِهِ

1241، 1242 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ وَيُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها -زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ المَسْجِدَ، فَلَمْ يُكَلِّمِ النَّاسَ حَتَّى نَزَلَ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَتَيَمَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ مُسَجًّى بِبُرْدِ حِبَرَةٍ- فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللهِ، لَا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ، أَمَّا المَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مُتَّهَا.

قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه خَرَجَ وَعُمَرُ رضي الله عنه يُكَلِّمُ النَّاسَ. فَقَالَ: اجْلِسْ. فَأَبَى. فَقَالَ اجْلِسْ. فَأَبَى، فَتَشَهَّدَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَمَالَ إِلَيْهِ النَّاسُ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} إِلَى {الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]. وَاللهِ لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ [الآيَة] حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ، فَمَا يُسْمَعُ بَشَرٌ إِلاَّ يَتْلُوهَا.

الحديث 1241 [3667، 3669، 4452، 4455، 4456، 5709، 5710 - فتح: 3/ 113].

الحديث 1242 [4454، 4457، 5711 - فتح: 3/ 113].

1243 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ أُمَّ العَلَاءِ -امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ بَايَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ المُهَاجِرُونَ قُرْعَةً، فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

ص: 397

"وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ قَدْ كرَمَهُ؟ ". فَقُلْتُ: بِأبي أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ فَمَنْ يُكرِمُهُ اللهُ؟ فَقال: "أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، والله إِنِّي لأرْجُو لَهُ الخَيْرَ، والله مَا أَدْرِي -وَأَنَا رَسُولُ اللهِ- مَا يُفْعَلُ بِي". قالتْ: فَوَاللهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا.

حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ مِثْلَهُ. وَقال نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ:"مَا يُفْعَلُ بِهِ" وَتَابَعَهُ شعَيْبٌ وَعَمرُو بن دِينَارٍ وَمَعْمَرٌ. [2687، 3929، 7003، 7004، 7018 - فتح 3/ 114]

1244 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ المُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي، وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْهَانِي، فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"تَبْكِينَ أَوْ لَا تَبْكِينَ، مَا زَالَتِ المَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ". تَابَعَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ المُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه. [1293، 2816، 4080 - مسلم: 2471 - فتح: 3/ 114]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها: حديث الزهري عن سلمة عن عائشة: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَرَسِهِ مِنْ مَسْكَنِهِ بِالسُّنْحِ حَتَّى دَخَلَ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ .. الحديث.

ثانيها: حديث أم العلاء في قصة عثمان بن مظغون: فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَغُسِّلَ وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ، دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، .. الحديث.

الشرح:

أما حديث عائشة فيأتي في المغازي أيضًا

(1)

وذكره الحميدي وغيره من حديث هشام عن أبيه عنها

(2)

، وكذا ابن أبي أحد عشر في "جمعه"،

(1)

سيأتي برقم (4452 - 4453) كتاب: المغازي، باب: مرض النبي ووفاته.

(2)

ذكره الحميدي في "جمعه" 1/ 94 - 95 (14) في مسند الصديق، في أفراد =

ص: 398

لكن خرجه في فضل الصديق بطوله.

وحديث أم العلاء يأتي في الهجرة

(1)

والتعبير

(2)

.

وقال يحيى بن بكير: قال الليث: قوله عليه السلام هذا قبل أن تنزل عليه سورة الفتح، وذلك أن عثمان توفي قبل مقدمهم المدينة

(3)

.

وزعم الطبراني أن أم العلاء هذِه زوج زيد بن ثابت

(4)

.

وزعم ابن الأثير أن المرأة المقول لها: "وما يدريك" هي أم السائب زوجة عثمان.

وقيل: أم العلاء الأنصارية. وقيل: أم خارجة بن زيد. قال: وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس: لما مات عثمان قالت له زوجته: هنيئًا لك الجنة، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث

(5)

. فيحتمل أن يكون كل منهما قالت ذلك.

= البخاري من حديثه فقال: في ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة، وعن ابن عباس من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عنهما. وساقه.

(1)

برقم (3929) كتاب: مناقب الأنصار، باب: مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة.

(2)

برقم (7003 - 7004، 7018).

(3)

هذا القول فيه نظر؛ ففي الحديث التصريح بأن عثمان بن مظعون هاجر إلى المدينة، ثم توفي بها.

وكذا كل من ترجم لعثمان جزم بأنه هاجر إلى المدينة وتوفي بها، وذكروا أنه حضر بدرًا ومات سنة اثنتين من الهجرة.

انظر ترجمته في: "معجم الصحابة" للبغوي 4/ 338، و"معجم الصحابة" لابن قانع 2/ 258 (774)، و"معرفة الصحابة" 4/ 1954 (2015)، و"الاستيعاب" 3/ 165 (1798)، و"أسد الغابة" 4/ 598 (3588)، و"الإصابة" 2/ 464 (5453).

(4)

قال في "المعجم الكبير" 25/ 139: أم العلاء الأنصارية امرأة زيد بن ثابت ثم أسند لها هذا الحديث من ثلاث طرق، وأسند لها حديثًا آخر.

(5)

انتهى كلام ابن الأثير من "أسد الغابة" 3/ 600. =

ص: 399

وبخط الدمياطي: أم العلاء بنت الحارث بن ثابت بن حارثة، وعمتها كبشة بنت ثابت

(1)

.

من المتابعات: قال البخاري: وَقال نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلِ، تَابَعَهُ شُعَيْبٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمَعْمَرٌ.

قول نافع رواه الإسماعيلي من حديث عبد الله بن يحيى المعافري، ثنا نافع به

(2)

.

ومتابعة شعيب ذكرها البخاري مسندة في الشهادات

(3)

.

ومتابعة معمر ذكرها مسندة أيضًا في التعبير

(4)

، ومتابعة عمرو بن

= وحديث يوسف بن مهران رواه ابن سعد 3/ 398 - 399، وأحمد 1/ 237 - 238، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 105، والطبراني 9/ 37 (8317)، والحاكم 3/ 190.

وسكت عنه، فقال الذهبي: سنده صالح. وقال الهيثمي في "المجمع" 3/ 17: فيه علي بن زيد، وفيه كلام وهو موثق.

وقال الحافظ في "الفتح" 12/ 411: علي بن زيد فيه ضعف.

وذكره الهيثمي أخرى في 9/ 302 وقال: رجاله ثقات وفي بعضهم خلاف. وصحح إسناده العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"(2127).

(1)

انظر ترجمة أم العلاء في: "الاستيعاب" 4/ 502 (3623)، و"أسد الغابة" 7/ 369 (7539)، و"الإصابة" 4/ 478 (1422).

وترجمها المزي في "تهذيب الكمال" 35/ 375 (7996)، و"تحفة الأشراف" 13/ 93 فقال: أم العلاء بنت الحارث بن ثابت بن خارجة [بدل: حارثة وهو ما نقله المصنف بخط الدمياطي] بن ثعلبة بن الجلاس بن أمية بن حذارة [وفي "التحفة": جدارة] بن عوف بن الحارث بن الخزرج

(2)

رواه الإسماعيلي في "المستخرج" كما في "التغليق" 3/ 456، وكما في "عمدة القاري" 6/ 371: حدثنا القاسم بن زكريا، ثنا الحسن بن عبد العزيز الجروي، به.

(3)

ستأتي برقم (2687) باب: القرعة في المشكلات.

(4)

ستأتي برقم (7018) كتاب: التعبير، باب: العين الجارية في المنام.

ص: 400

دينار

(1)

. وحديث جابر أخرجه مسلم لكنه جعل بدل محمد بن المنكدر الراوي عن جابر محمد بن علي بن حسين

(2)

.

قال البخاري: تابعه ابن جريج: أخبرني محمد بن المنكدر، سمع جابرًا يعني: تابع ابن جريج شعبة

(3)

.

إذا تقرر ذلك؛ فأما حديث عائشة فالسُنُح -بسين مهملة مضمومة ثم نون مثلها ثم حاء مهملة-: منازل بني الحارث من الخزرج بينها وبين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميل. وزعم صاحب "المطالع"

(4)

أن أبا ذر كان يقوله بإسكان النون، واقتصر عليه

(5)

. ومعنى مسجى: مغطى وحِبرة -بكسر الحاء-: موشى من اليمن.

وقال الداودي: أخضر، وتبعه ابن التين فقال: هو ثوب أخذر

(1)

هكذا ذكرها المصنف رحمه الله وعلقها أيضًا، فلم يذكر من وصلها! بل قد يخيل للقارئ أنها أخرجها مسلم؛ لما بعدها من سياق الكلام، وليس كذلك.

والمتابعة وصلها الحافظ في "التغليق" 2/ 456.

وقال العيني في "العمدة" 6/ 371: متابعة عمرو بن دينار وصلها ابن أبي عمر في "مسنده" عن ابن عيينة عنه.

(2)

ورد بهامش الأصل: ما ذكره المصنف عن مسلم وقع في رواية ابن ماهان وأما غيره فعن جابر في الطرق كلها محمد بن المنكدر. اهـ.

قلت: ما ورد بالهامش هذا هو الصواب؛ فرواه مسلم (2471/ 129 - 130) من طريق سفيان بن عيينة وشعبة وابن جريج ومعمر وعبد الكريم بن مالك، خمستهم عن محمد بن المنكدر، عن جابر.

(3)

هذِه المتابعة وصلها مسلم في "صحيحه"(2471) -كما تقدم- ومن طريقه وصلها الحافظ في "التغليق" 2/ 457.

(4)

ورد بهامش الأصل: كذا قيده أبو عبيد البكري في معجمه بضم النون، وأما صاحب المطالع فلم يذكر غير ما ذكر عن أبي ذر.

(5)

انظر: "معجم ما استعجم" 3/ 760، و"معجم البلدان" 3/ 264.

ص: 401

يستحب للموتى أن يسجوا به، وربما كفنوا فيه.

وفيه: جواز كشف الثوب عن الميت إذا لم يبدُ منه أذى، وجواز تقبيل الميت عند وداعه، والتأسي، فإن الصديق تأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قبل عثمان بن مظعون كما صححه الترمذي

(1)

. وروي أن أبا بكر أغمضه.

وفيه: جواز البكاء على الميت من غير نوح. وكذا في قوله عليه السلام: "تبكين أو لا تبكين" إباحة البكاء أيضًا، وسيأتي موضحًا في موضعه.

وقول الصديق: لا يجمع الله عليك موتتين. إنما قاله هو، وغيره قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، وسيبعث ويقطع أيدي رجال وأرجلهم كما سيأتي في فضائل الصديق

(2)

. فأراد أن يجمع الله عليه

(1)

"سنن الترمذي"(989).

ورواه أيضًا في "الشمائل المحمدية"(327)، وأبو داود (2163)، وابن ماجه (1456)، وأحمد 6/ 43، 55، 206، وعبد بن حميد في "المنتخب" 3/ 939 - 240 (1524)، والحاكم 1/ 361، 3/ 190، والبيهقي 3/ 407 من طريق سفيان الثوري عن عاصم بن عبيد الله عن القاسم بن محمد، عن عائشة، به.

قال الحاكم 1/ 361: هذا حديث متداول بين الأئمة، إلا أن الشيخين لم يحتجا بعاصم بن عبيد الله. وقال في 3/ 190: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال المنذري في "مختصر السنن" 4/ 308: عاصم بن عبيد الله، تكلم فيه غير واحد من الأئمة؛ لذا ضعفه الألباني في "الإرواء"(693)، بالرغم من أنه صححه في "مختصر الشمائل"(280)، و"صحيح ابن ماجه"(1191)!

والحديث صح من وجه آخر، فرواه ابن عبد البر في "التمهيد" 21/ 224 من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم، به.

فقال في "الاستذكار" 8/ 412: وجه صحيح حسن.

وروي من طريق آخر، لكنه ضعيف، انظر:"الضعيفة"(6010).

(2)

قائل ذلك هو عمر الفاروق رضي الله عنه، كما سيأتي في حديث عائشة (3667).

ص: 402

موتتين في الدنيا بأن يميته هذِه ثم يحيى ثم يميته أخرى. قاله ابن بطال

(1)

.

وقال الداودي: لم يجمع عليك كرب بعد هذا الموت، قد عصمك الله من عذابه ومن أهوال يوم القيامة. وقال أيضًا: معناه: لا يموت موتة أخرى في قبره كما يحيى غيره في القبر فيُسأل ثم يقبض.

وأبعد من قال: أراد موتك وموت شريعتك. ويرده قوله: من كان يعبد محمدًا فإنه قد مات. وليس هذا بمعارض لقوله تعالى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]؛ لأن:

الأولى: الخلقة من التراب ومن نطفة؛ لأنهما موات، والموات كله لم يمت نفسه إنما الرب أماته.

والثانية: التي تُمَوْتُ الخلق والحياة المراد بها في الدنيا وبعد الموت في الآخرة. هذا قول ابن مسعود، وآخرين

(2)

. فقوله: لا يجمع الله عليك موتتين لقوله تعالى {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلَّا المَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان: 56] وحكي في الآية قول آخر عن الضحاك أن الأولى: ميتة، والثانية: موتة في القبر بعد الفتنة والمساءلة، واحتج بأنه لا يجوز أن يقال للنطفة والتراب ميت، وإنما الميت من تقدمت له حياة. وهو غلط، قال تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] ولم تتقدم لها حياة قط، وإنما خلقها الله تعالى جمادًا ومواتًا. وهذا من سعة كلام العرب.

(1)

"شرج ابن بطال" 3/ 240.

(2)

روى الطبري في "تفسيره" 11/ 44 (30293) عن ابن مسعود في قوله في هذِه الآية، قال: هي كالتي في البقرة {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28].

ورواه بنحوه الطبراني 9/ 214 (9044 - 9045)، والحاكم 2/ 437 وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

ص: 403

وفيه: أن الصديق أعلم من عمر، وهذِه إحدى المسائل التي ظهر فيها ثاقب علمه، وفضل معرفته، ورجاحة رأيه، وبارع فهمه، وحسن انتزاعه بالقرآن، وثبات نفسه، ولذلك مكانته عند الأمة لا يكون فيها أحد، ألا ترى أنه حين تشهد وبدأ بالكلام مال الناس إليه وتركوا عمر، ولم يكن ذلك إلا لعظيم منزلته في نفوسهم على عمر وسمو محله عندهم، أخذوا ذلك رواية عن نبيهم. وقد أقر بذلك عمر حين مات الصديق فقال: والله ما أحب أن ألقى الله بمثل عمل أحد إلا بمثل عمل أبي بكر، ولوددت أني شعرة في صدره

(1)

.

وذكر الطبري عن ابن عباس قال: والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وبيده الدرة، وهو يحدث نفسه ويضرب قدمه بدرته ما معه غيري إذ قال: يا ابن عباس، هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا أدري والله يا أمير المؤمنين. قال: فإنه ما حملني على ذلك إلا قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} إلى قوله: {شُهَدَاءَ} [البقرة: 143] فوالله إن كنتُ لأظن أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها

(2)

.

وفي تأويل عمر الحجة لمالك في قوله: في الصحابة مخطئ ومصيب في التأويل

(3)

.

(1)

روى الشطر الأخير منه معاذ بن المثنى في زيادات مسدد كما في "المطالب العالية" 15/ 718 (3876)، وابن أبي الدنيا في "المتمنين"(86)، من طريق سفيان عن مالك بن مغول قال: قال عمر.

ورواه ابن أبي الدنيا (88)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 30/ 343 من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي عمران الجوني قال: قال عمر.

(2)

"تاريخ الطبري" 2/ 238.

(3)

انظر: "شرح ابن بطال" 3/ 240 - 242.

ص: 404

ثم اعلم أن ذكر عائشة هذا الخديث قال على اهتمامها بأمر الشريعة وأنها لم يشغلها ذلك عن حفظ ما كان من أمر الناس في ذلك اليوم.

وفيه: غيبة الصديق عن وفاته عليه السلام؛ لأنه أصبح ذلك اليوم صالح الحال فخرج إلى أرضه.

وفيه: أنهم كانت لهم أموال يبتغون بها الكفاف ويصونون بها وجوههم عن المسألة لقولها: أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح.

وفيه:. إنه حين تصدق بماله كله أراد العين.

وفيه: أنهم كانوا لا يسرعون إلى بيع الربع

(1)

؛ لما فيه من العدة والعزة.

وفيه: الدخول على البنت بغير استئذان، ويجوز أن يكون عندها غيرها، فصار كالمحفل لا يحتاج الداخل إلى إذن. وروي أنه استأذن فلما دخل أذن للناس.

وقولها: (فدخل المسجد) يحتمل أن يكون للصلاة وللمرور فيه.

وقوله: (فتيمم النبيَّ). أي: قصده.

وقوله: (بأبي أنت) هي كلمة تقولها العرب للحي والميت تبجيلا ومحبة، أي: فداك أبي.

وقول أبي بكر لعمر: اجلس؛ فأبى، إنما كان ذلك لما داخل عمر من الدهشة والحزن. وقد قالت أم سلمة في "الموطأ": ما صدقت بموت

(1)

الربع -بفتح الراء وإسكان الباء- هي الدار، وتجمع على رباع وربوع وأرباع وأربُع.

انظر: "الصحاح" 3/ 1211 - 1215، و"النهاية" 2/ 186 - 190 مادة: ربع.

ص: 405

رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت وقع الكرازين

(1)

(2)

. قال الهروي: هي الفئوس

(3)

وقيل: تريد وقع المساحي تحث التراب عليه صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون عمر ظن أن أجله عليه السلام لم يأت، وأن الله منّ على العباد بطول حياته. ويحتمل أن يكون أنسي قوله:{إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ} إلى {أَفَإِنْ مَاتَ} [آل عمران: 144] وكان يقول مع ذلك: ذهب محمد لميعاد ربه كما ذهب موسى لمناجاة ربه، وكان في ذلك ردع للمنافقين واليهود حتى اجتمع الناس. وأما أبو بكر فرأى إظهار الأمر تجلدًا، ولما تلى الآية كانت تعزيًا وتصبرًا.

وأما حديث أم العلاء ففيه أنه لا يقطع لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، ولكن يرجى للمحسن ويخاف على المسيء.

وقوله: "والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي" فيحتمل أن يكون

(1)

"الموطأ" 1/ 384 (973)

ومن طرقه ابن سعد في "طبقاته" 2/ 304 عن معن بن عيسى، عنه، أنه بلغه أن أم سلمة .. الحديث.

قال ابن عبد البر في "التمهيد" 24/ 401: حديث لا أحفظه عن أم سلمة متصلًا، والمعروف حديث عائشة، وإن صح حديث أم سلمة

اهـ. بتصرف.

قلت: حديث عائشة رواه ابن أبي شيبة 3/ 34 (11838)، وإسحاق بن راهويه 2/ 429 - 430 (993)، وأحمد 6/ 62، 242، 274، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 514، والبيهقي في "الدلائل" 7/ 256، وابن عبد البر في "التمهيد" 24/ 369، 397 من طريق فاطمة بنت محمد بن عمارة، عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ليلة الأربعاء.

وهو المحفوظ، كما تقدم نقله عن ابن عبد البر.

(2)

ورد بهامش الأصل: واحدها كرزن وكرزين وكرزم وهي الفئوس كما قال.

(3)

انظر: "النهاية في غريب الحديث" 4/ 162 - 163.

ص: 406

قبل إعلامه بالغفران له، وقد رئي ما يفعل به

(1)

، وهو الصواب؛ لأنه عليه السلام لا يعلم من ذلك إلا ما يوحى إليه. وقال الداودي:"ما أدري ما يفعل بي"، وَهَم.

وقوله: "ما أدري ما يفعل بي" أي في أمر الدنيا مما يصيبهم فيها؛ لأنه وإن كان وعده بالظهور فقد كان قبل ذلك مواطن خاف فيها الشدة.

وسورة الأحقاف مكية

(2)

، والفتح مدنية

(3)

.

وقوله: (ما يفعل به) قاله قبل أن يخبر أن أهل بدر من أهل الجنة

(4)

.

فإن قلت: هذا المعنى يعارض قوله في حديث جابر: "ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه".

فالجواب أنه لا تعارض بينهما، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فأنكر على أم العلاء قطعها على ابن مظعون إذ لم يعلم هو من أمره شيئًا. وفي حديث جابر قال ما علمه بطريق الوحي؛ إذ لا يقطع على مثل هذا إلا بوحي، فلا تعارض.

ومعنى قولها: (اقتسم المهاجرون قرعة .. ) إلى آخره. يعني أنهم اقتسموا للسكنى؛ لأن المهاجرين لما هاجروا إلى المدينة لم يمكنهم استصحاب أموالهم فدخلوها فقراء، فاقتسمهم الأنصار بالقرعة في نزولهم عليهم وسكناهم في منازلهم.

(1)

من ذلك ما سيأتي برقم (1386).

(2)

يشير إلى قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9].

(3)

ويشير إلى قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].

على أن آية الأحقاف فيها أنه صلى الله عليه وسلم لا يدري ما يفعل به وبالناس أو المؤمنين. وآية الفتح فيها أنه صلى الله عليه وسلم قد غفر الله كل ذنوبه. والله أعلم.

(4)

يأتي حديث علي الدال على ذلك (3007)، ورواه مسلم (2494).

ص: 407

وقولها: (فطار لنا) أي: حصل وقدر في نصيبنا وسهمنا. وكان بنو مظعون ثلاثة: عثمان

(1)

وعبد الله وقدامة بدريون أخوال ابن عمر.

وقوله: ("وما يدريك أن الله أكرمه") نهاها عن القطع بذلك.

وأما حديث جابر: ففيه ة جواز البكاء على الميت كما سلف، ونهي أهل الميت بعضهم بعضًا عن البكاء للرفق بالباكي، وسكوت الشارع لما يجد الباكي من الراحة.

وقوله: ("تبكين .. ") إلى آخره، يعزيها بذلك ويخبرها بما صار إليه من الفضل.

وقوله: ("حتى رفعتموه") أي: من غسله؛ لأنه نسب الفعل إلى أهله، قاله الداودي. وقال بعد هذا: يعني حين رُفع ليُقْبَّر وهو الصحيح؛ لأنه قتل شهيدًا يوم أحد ولم يغسل، وقتل عبد الله كان يوم أحد وكان أهل الشرك مثلوا به جدعوا أنفه وأذنيه

(2)

.

وعمته اسمها فاطمة

(3)

.

(1)

ورد بهامش الأصل: توفي عثمان في شعبان بعد سنتين ونصف من الهجرة، وهو أول من دفن بالبقيع، وأول من توفي من المهاجرين بالمدينة. وأخوه عبد الله من السابقين أيضًا كأخيه توفي سنة 30، قاله ابن سعد، نقله عنه الذهبي في "التجريد".

وأما قدامة فتوفي سنة 36 وهو ابن ثماني وستين سنة، قاله النووي في "التهذيب".

(2)

سيأتي ذلك في حديثي (1293، 2816)، ورواه مسلم (2471).

(3)

ورد في هامش الأصل: كذا سميت في هذا الحديث هنا اهـ.

قلت: إنما قال الناسخ ما قاله هذا؛ لأنه في أكثر روايات الحديث لم تأت مسماة، إنما يقال: عمة جابر. والله أعلم.

وهي فاطمة بنت عمرو بن حرام، شقيقة عبد الله بن عمرو بن حرام.

انظر ترجمتها في: "معرفة الصحابة" 6/ 3414 (3976)، و"الاستيعاب" 4/ 454 (3495)، و"أسد الغابة" 7/ 229 (7184)، و"الإصابة" 4/ 384 (849).

ص: 408

وقوله: "تبكين" وفي موضع آخر: "لم تبكي؟ " أو "لا تبكي"

(1)

. قال القرطبي: كذا صحت الرواية بلم التي للاستفهام

(2)

. وفي مسلم: "تبكي"

(3)

بغير نون؛ لأنه استفهام لمخاطب عن فعل غائبة.

قال القرطبي

(4)

: ولو خاطبها بالاستفهام خطاب الحاضرة قال: لم تبكين؟ بالنون. وفي رواية: "تبكيه أو لا تبكيه"

(5)

وهو إخبار عن غائبة، ولو كان خطاب المحاضرة لقال: تبكينه أو لا تبكينه بنون فعل للواحدة الحاضرة.

ومعنى هذا أن عبد الله مكرم عند الملائكة وإظلاله بأجنحتها؛ لاجتماعهم عليه ومبادرتهم بصعود روحه مبشرة بما أعد الله له من الكرامة

(6)

.

أو أنهم أظلوه من الحر لئلا يتغير، أو لأنه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله.

وروى بقي بن مخلد عن جابر: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أبشرك أن الله أحيا أباك وكلمه كفاحًا، وما كلم أحدًا قط، إلا من وراء حجاب" الحديث

(7)

وفيه منقبة ظاهرة له لم تسمع لغيره من الشهداء، في دار الدنيا.

(1)

سيأتي برقم (1293، 2816).

(2)

"المفهم" 6/ 387.

(3)

(2471/ 129).

(4)

"المفهم" 6/ 388.

(5)

هذِه الرواية عند مسلم (2471/ 130).

(6)

انتهى كلام القرطبي.

(7)

رواه بقي بن مخلد كما في "الاستيعاب" 3/ 84 - 85.

ورواه أيضًا الترمذي (3010)، وابن ماجه (190، 2800)، وابن حبان 15/ 490 - 491 (7022)، والحاكم 3/ 203 - 204، والبيهقي في "الدلائل" 3/ 298 - 299، والواحدي في "أسباب النزول"(263)، ومن طريقه ابن الأثير في "الأسد" 3/ 347، والمزي في "تهذيب الكمال" 13/ 394 جميعًا من طريق موسى =

ص: 409

‌4 - باب الرَّجُلِ يَنْعَى إِلَي أَهْلِ المَيِّتِ بِنَفْسِهِ

1245 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الذِي مَاتَ فِيهِ، خَرَجَ إِلَي المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. [1318، 1327، 1328، 1333، 3880، 3881 - مسلم: 951 - فتح: 3/ 116].

1246 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ -وَإِنَّ عَيْنَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَتَذْرِفَانِ- ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ فَفُتِحَ لَهُ". [2798، 3063، 3630،3757، 4262 - فتح: 3/ 116].

ذكر فيه حديث أبي هريرة: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الذِي مَاتَ فِيهِ .. الحديث.

وحديث أنس أنه عليه السلام قال: "أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ .. " الحديث.

= ابن إبراهيم بن كثير بن بشير، طلحة بن خراش قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: .. الحديث مطولًا.

وموسى بن إبراهيم وطلحة وثقهما ابن عبد البر في "الاستيعاب" 3/ 85.

وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وحسن المنذري إسناده في "الترغيب والترهيب" 2/ 206 (2116). وخالف البوصيري فضعف إسناده في "المصباح" 1/ 27 بموسى بن إبراهيم وطلحة.

والحديث حسنه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(157، 2258)، وحسن إسناده في "الظلال" (602). وزاد: رجاله مصدوقون على ضعف في موسى بن إبراهيم.

وصححه في "صحيح الجامع"(7905).

وقال في "صحيح الترغيب"(1361): حسن صحيح.

ص: 410

الشرح:

قال المهلب: هذا صواب الترجمة: باب: الرجل ينعى إلى الناس الميت بنفسه

(1)

. وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم والأربعة

(2)

. وحديث أنس من أفراده، ويأتي في الجهاد

(3)

، وعلامات النبوة

(4)

، وفضل خالد في المغازي

(5)

. والنعي: الإخبار. ولا بأس بالإعلام به للصلاة وغيرها لهذين الحديثين، والحديث الآتي في الذي توفي ليلًا:"ما منعكم أن تعلموني"

(6)

بخلاف نعي الجاهلية فإنه مكروه، وهو النداء بذكر مفاخره ومآثره، وكان الشريف إذا مات أو قتل بعثوا راكبًا إلى القبائل ينعاه إليهم.

وعليه يحمل ما رواه ابن ماجه والترمذي من حديث حذيفة قال: إذا مت فلا تؤذنوا لي أحدا، إني أخاف أن يكون نعيا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي. استغربه الترمذي

(7)

.

(1)

وحكاه ابن بطال في "شرحه" 3/ 243 عن المهلب أيضًا.

ووقع في رواية الكشميهني وأبي ذر الهروي- كما في هامش اليونينة 2/ 72: نفسه، مكان: بنفسه.

وقال الحافظ في "الفتح" 3/ 116: وقع للكشميهني بحذف الموحدة، وفي رواية الأصيلي بحذف: أهل اهـ قال العيني في "العمدة" 6/ 372: وليس لها وجه.

(2)

"صحيح مسلم"(951) كتاب: الجنائز، باب: في التكبير على الجنازة.

(3)

برقم (2798) باب: تمني الشهادة.

(4)

برقم (3630) باب: علامات النبوة.

(5)

برقم (4262) باب: غزوة مؤتة من أرض الشام.

(6)

الآتي في الباب التالي (1247).

(7)

الترمذي (986)، ابن ماجه (1476).

ورواه أيضا أحمد 5/ 406، والبيهقي 4/ 74، والمزي في "تهذيب الكمال" 5/ 376 - 377 من طريق حبيب بن سليم العيسي عن بلال بن يحيى العبسي عن حذيفة. =

ص: 411

وقال به الربيع بن خيثم وابن مسعود وعلقمة

(1)

.

وهذا التفصيل هو الصواب الذي تقتضيه الأحاديث الصحيحة.

وحديث النجاشي أصح من حديث حذيفة.

وقال صاحب "البيان" -من أصحابنا-: يكره نعي الميت وهو أن ينادى في الناس أن فلانًا قد مات ليشهدوا جنازته.

وفي وجه حكاه الصيدلاني: لا يكره

(2)

.

وفي "حلية" الروياني -من أصحابنا-: الاختيار أن ينادى به ليكثر المصلون.

وقال الماوردي: اختلف أصحابنا هل يستحب الإيذان للميت

= ونقل المصنف عن الترمذي أن استغربه، وهو غريب؛ لأن في مطبوع الترمذي بتحقيق العلامة أحمد شاكر.

قال الترمذي: حسن صحيح. وفي بعض النسخ: حسن، فقط، وكذا كل من نقل الحديث ذكر أن الترمذي حسنه.

وفي "عارضة الأحوذي" 4/ 207: قال الترمذي: حسن صحيح.

ونقل المنذري في "الترغيب والترهيب" 4/ 186 (5360)، والنووي في "الأذكار"(459)، والمزي 5/ 377، والذهبي في "المهذب" 3/ 1423 (6370)، والمباركفوري في "تحفة الأحوذي" 4/ 51 أن الترمذي حسنه.

فقول الترمذي فيه بين: حسن صحيح، أو: حسن، فلم أجد من نقل عنه أنه استغربه، والله أعلم.

والحديث صححه ابن العربي 4/ 206.

وقال الحافظ في "الفتح" 3/ 117: إسناده حسن. وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب"(3531).

(1)

رواه عنهم ابن أبي شيبة 2/ 475 (11206 - 11207، 11209 - 11210)، 2/ 476 (11220) عن الربيع بن خيثم أيضًا.

(2)

"البيان" 3/ 52.

ص: 412

وإشاعة موته في الناس بالنداء عليه والإعلام، فاستحبه بعضهم لكثرة المصلين والداعين له. وقال بعضهم: لا يستحب ذلك وقال بعضهم: يستحب ذلك للغريب دون غيره، وبه قال ابن عمر.

وجزم البغوي وغيره -من أصحابنا- بكراهة النعي والنداء عليه للصلاة وغيرها

(1)

. وقال ابن الصباغ: قال أصحابنا: يكره النداء عليه ولا بأس أن يعرف أصدقاؤه

(2)

، وبه قال أحمد

(3)

.

وقال أبو حنيفة: لا بأس به

(4)

. ونقله العبدري عن مالك أيضًا. ونقل ابن التين عن مالك كراهة الإنذار بالجنائز على أبواب المساجد والأسواق؛ لأنه من النعي، وهو من أمر الجاهلية. قال علقمة بن قيس: الإنذار بالجنائز من النعي، وهو من أمر الجاهلية

(5)

.

وقال البيهقي: ويروى النهي أيضًا عن ابن عمر وأبي سعيد وسعيد بن المسيب وعلقمة وإبراهيم النخعي والربيع بن خثيم

(6)

.

قلت: وأبي وائل وأبي ميسرة وعلي بن الحسين وسويد بن غفلة ومطرف بن عبد الله ونصر بن عمران -أبي جمرة- كما حكاه عنهم في "المصنف"

(7)

.

(1)

"التهذيب" 2/ 434.

(2)

انظر: "المجموع" 5/ 173.

(3)

انظر: "الفروع" 2/ 192.

(4)

انظر: "المحيط البرهاني" 3/ 101 - 102، و"تبيين الحقائق" 1/ 240.

(5)

رواه بنحوه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 390 (6053)، وابن أبي شيبة 2/ 475 (11210).

(6)

"السنن الكبرى" 4/ 74.

(7)

"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 475 (11208 - 11209، 11212، 11214 - 11216). وفي الأثرين الأخيرين: عن مطرف، عن أخيه. =

ص: 413

والنجاشي: ملك الحبشة واسمه أصحمة -كما سيأتي في البخاري-

(1)

بن أبجر

(2)

، وجاء صحمة

(3)

بتقديم الحاء على الميم

(4)

، وعكسه

(5)

، وقيل: بالخاء المعجمة

(6)

.

وقال مقاتل في "نوادره": اسمه مكحول بن صصة

(7)

.

= وفي الثاني: عن أبي حمزة [وهو خطأ. صوابه: جمرة] عن أبيه.

أبوه هو عمران بن عصام الضبعي في "تهذيب الكمال" 29/ 1363 أنه نصر.

(1)

برقم (1334) كتاب: الجنائز، باب: التكبير على الجنازة أربعًا، برقم (3877، 3879) كتاب: مناقب الأنصار، باب: موت النجاشي.

(2)

وقع في "البداية والنهاية" 3/ 77 ط. مكتبة المعارف، و 3/ 84 ط. دار المعرفة: ابن أبجر -كما وقع هنا- والتصحيح عن القاموس نقلًا عن محمود الإمام!

ووقع في "الإنابة" 1/ 80: ابن بجري. وفي "الإصابة" 1/ 109: ابن أبحر اهـ.

قلت: فلعل الصواب: أصحمة بن أبجر، بالجيم المعجمة.

(3)

ورد بهامش الأصل: لعله أصحمة.

(4)

على وزن ركوة بغير همزة وفتح الصاد وسكون الحاء، هكذا وقع في "مسند ابن أبي شيبة". حكاه القاضي عياض في "إكمال المعلم" 3/ 414، والقرطبي في "المفهم" 2/ 609، والنووي في "شرح مسلم" 7/ 22، والحافظ في "الفتح" 3/ 203، والعيني في "العمدة" 7/ 51، والسيوطي في "التوشيح" 3/ 1103.

(5)

أي: صمحة، بتقديم الميم على الحاء، نقله ابن أبي شيبة عن يزيد، كما حكاه القاضي والقرطبي والنووي وقالوا صحمة وصمحة، شاذان والصواب: أصحمة بالألف.

(6)

أي: أصخمة، وهو ما نقله الحافظ في "الفتح" 3/ 203، والعيني 7/ 51، والسيوطي 3/ 1103 عن الإسماعيلي، وأنه غلطه.

وزاد الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 3/ 84 أنه وقع في رواية: مصحمة، بزيادة ميم في أولهن وقال: قال يونس عن ابن إسحاق: اسم النجاشي: مصحمة وهو في "سير ابن إسحاق" ص 201 (293)، وفي نسخة صححها البيهقي: أصخم. وحكى الحافظ في "الفتح" 3/ 203 عن الكرماني أن في بعض النسخ في رواية محمد بن سنان: أصحبة، بالباء بدل الميم، وكذا حكاه العيني.

(7)

نقل ذلك مغلطاي في "الإنابة" 1/ 80 عن مقاتل في "نوادر التفسير": اسمه: مكحول بن صِصِة بكسر الصادين.

ص: 414

ووقع في "صحيح مسلم": كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي. وهو غير النجاشي الذي صلى عليه

(1)

. ولعله عبر ببعض ملوك الحبشة عن الملك الكبير -ويسمي الأبجري- أو لآخر قام مقامه بعده، فإنه اسم لكل من ملك الحبشة وقد تقدم.

وفي بعض طرقه "مات اليوم رجل صالح فقوموا للصلاة على أخيكم"

(2)

. ومعناه: عطية

(3)

. والنجاشي بتشديد الياء وتخفيفها بفتح النون وكسرها

(4)

.

وفيه نزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199] الآية وذلك لما صلى عليه قال قوم من المناففين: صلى عليه وليس من أهل دينه فنزلت

(5)

. وكان آمن به على يد جعفر بن أبي طالب، وأخذ عمن هاجر إليه من أصحابه فآواهم وأسر إيمانه لمخالفته الحبشة له، فلما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، وهو من علامات نبوته. وقيل: سقطت عنه الهجرة إذ لم

(1)

مسلم (1774) من حديث أنس، وورد في الرواية الأولى التصريح بذلك: وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

وانظر: "إكمال المعلم" 6/ 125، و"شرح النووي" 12/ 112.

(2)

سيأتي برقم (3877).

(3)

قاله ابن إسحاق في "السيرة"(293)، والقاضي والقرطبي والنووي ناقلًا إياه عن ابن قتيبة، والذهبي في "تاريخ الإسلام" 2/ 625، وابن كثير والكرماني في "شرحه" 7/ 115 وغير واحد. وانظر لمزيد ضبط:"مشارق الأنوار" 1/ 63، و"الإعلام" للمصنف 4/ 381 - 384.

(4)

انظر ترجمة النجاشي في "معرفة الصحابة" 1/ 354 (244)، و"أسد الغابة" 1/ 119 (188)، و"سير أعلام النبلاء" 1/ 428 (85)، و"الإنابة إلى معرفة المختلف فيهم من الصحابة" 1/ 80 (48)، و"الإصابة" 1/ 109 (473).

(5)

رواه الطبري في "تفسيره" 3/ 559 - 560 (8376 - 8381).

ص: 415

يمكنه ذلك

(1)

.

وقوله: (خرج إلى المصلى) يقتضي أن ذلك أمر يتعين عندهم في الصلاة على الجنازة. وفي السهيلي

(2)

من حديث سلمة بن الأكوع أنه صلى عليه بالبقيع

(3)

. وقد يستدل به على منع الصلاة في المسجد.

ويجاب بأنه خرج لكثرة المصلين والإعلام. وفيه حجة لمن جوز الصلاة على الغائب.

وبه قال الشافعي

(4)

وابن جرير وأحمد

(5)

خلافًا لأبي حنيفة ومالك

(6)

. وعن أبي حنيفة جوازه فيما قرب من البلاد، حكاه ابن التين.

وكانت صلاته عليه في رجب، سنة تسع. ومن ادعى أن الأرض طويت له حتى شاهده، لا دليل له، وإن كانت القدرة صالحة لذلك.

وسواء كان الميت في جهة القبلة أم لا. فالمصلي يستقبل، صلى عليه أم لا، قربت المسافة أم بعدت. واستحسن في "البحر" ما ذهب إليه الخطابي

(7)

أنه يصلى عليه إذا لم يصل عليه أحد

(8)

، وكذا كانت قصة النجاشي.

(1)

انظر: "سيرة ابن هشام" 1/ 343 - 364.

(2)

ورد بهامش الأصل: هذا في "سنن ابن ماجه".

(3)

"الروض الأنف" 2/ 94. وليس فيه ذكر لسلمة بن الأكوع.

والحديث رواه ابن ماجه (1534) وغيره عن أبي هريرة. وانظر: "الإرواء"(729).

(4)

انظر: "المهذب" 1/ 439، "الوسيط" 1/ 359.

(5)

"المغني" 3/ 446.

(6)

انظر: "القبس" 2/ 446، "الذخيره" 2/ 468، "النوادر والزيادات" 1/ 620 - 621.

(7)

"معالم السنن" 1/ 270 - 271.

(8)

ورد بهامش الأصل: هي رواية عن أحمد أخذ بها ابن تيمية.

ص: 416

ووقع في كلام ابن بطال تخصيص ذلك بالنجاشي، قال: بدليل إطباق الأمة على ترك العمل بهذا الحديث -وأخطأ في ذلك

(1)

- قال: ولم أجد لأحد من العلماء إجازة الصلاة على الغائب إلا ما ذكره ابن أبي زيد عن عبد العزيز بن أبي سلمة فإنه قال: إذا استؤذن أنه غرق أو قُتل أو أكلته السباع ولم يوجد منه شيء صلي عليه كما فعل بالنجاشي

(2)

، وبه قال ابن حبيب

(3)

.

وقال ابن عبد البر: أكثر أهل العلم يقولون: إن ذلك مخصوص به.

وأجازه بعضهم إذا كان في يوم الموت، أو قريب منه

(4)

.

قلت: وأبعد الحسن فيما حكاه عنه في "المصنف": إنما دعا له

(5)

.

يعني: ولم يصلِّ عليه، وهو عجيب.

فرع:

لو صلى على الأموات الذين ماتوا في يومه وغسلوا في البلد الفلاني ولا يعرف عددهم جاز، قاله في "البحر" وهو صحيح لكن لا يختص ببلد.

فرع غريب: من فروع ابن القطان أن الصلاة على الغائب وإن جازت لكنها لا تسقط الفرض.

وقوله: (فصف بهم) دليل على أن سنة هذِه الصلاة الصف كسائر الصلوات وقوله: (فكبر أربعًا). هذا آخر ما استقر عليه آخر أمره

(1)

هذا الاعتراض من قول المصنف رحمه الله.

(2)

"النوادر والزيادات" 1/ 620.

(3)

"شرح ابن بطال" 3/ 243.

(4)

"التمهيد" 6/ 328.

(5)

"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 46 (11955).

ص: 417

- عليه السلام

(1)

. وقال ابن أبي ليلى: يكبر خمسًا

(2)

، وإليه ذهبت الشيعة.

وقيل: ثلاث، قاله بعض المتقدمين

(3)

. وقيل: أكثره سبع، وأقله ثلاث

(4)

، ذكره القاضي أبو محمد.

وقيل: ست. ذكره ابن المنذر عن علي

(5)

. وقال عن أحمد: لا ينقص من أربع ولا يزاد على سبع. وقال ابن مسعود: يكبر ما كبر إمامُه

(6)

.

ووقع في كلام ابن بطال: إنما نعى النجاشي وخصه بالصلاة عليه وهو غائب عنه؛ لأنه كان عند أهل الإسلام على غير الإسلام فأراد أن يعلم بإسلامه

(7)

. وفيه نظر؛ لأنه عليه السلام نعى جعفر بن أبي طالب وأصحابه.

ومعنى قوله في حديث أنس: ("لتذرفان") يعني: الدمع.

وفيه: جواز البكاء على الميت.

وفيه: أن الرحمة التي تكون في القلب محمودة.

(1)

وهو قول عمر وعلي وابن مسعود والبراء وعقبة بن عامر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة والحسن بن علي وابن عمر وابن سيرين وابن الحنفية وأبي مجلز وعبد الله بن أوفي والنخعي وقيس بن أبي حازم وسويد. فيما رواه عنهم ابن أبي شيبة 2/ 493 - 496 (11416 - 11446) من فعلهم.

(2)

وهو مروي عن زيد بن أرقم وابن مسعود ومعاذ بن جبل وحذيفة وعلي. "المصنف" 2/ 496 (11447 - 11454).

(3)

مروي عن ابن عباس وأنس بن مالك وجابر بن زيد. "المصنف"(11455 - 11457).

(4)

هو قول بكر بن عبد الله، فيما رواه في "المصنف"(11464).

(5)

رواه أيضًا عنه ابن أبي شيبة (11435، 11454، 11463، 11465 - 11466).

(6)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 2/ 496 (11450)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 497.

(7)

"شرح ابن بطال" 3/ 243.

ص: 418

وفيه: جواز التأسي بفعل الشارع.

وفيه: ما يغلب البشر من الوجد.

وقوله: ("ثم أخذها خالد من غير إمرة") يعني: أنه لم يسمه حين قال: إن قتل فلان ففلان.

وفيه: جواز المبادرة للإمامة إذا خاف ضياع الأمر فرضي به الشارع فصار أصلًا في الضرورات إذا وقعت في معالم أمر الدين.

وفيه: أن من تغلب من الخوارج ونصب حاكمًا فوافق حكمه الحق فإنه نافذ لحكم أهل العدل، وكذلك أنكحتهم.

وفيه: أن الإمام الذي لا يد على يده يحكم لنفسه بما يحكم لغيره، ويعقد النكاح لنفسه. وقد قطع الصديق يد السارق الذي سرق الحلي من بيته، فحكم لنفسه

(1)

.

(1)

روى مالك في "الموطأ" 2/ 835 - 836، وعنه الشافعي في "المسند" 2/ 85 (281)، ومن طريقهما البيهقي 8/ 273 عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد: أن رجلًا من أهل اليمن أقطع اليد والرجل، قدم فنزل على أبي بكر الصديق .. ثم إنهم فقدوا عقدًا لأسماء بنت عميس .. الحديث مطولًا.

ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 187 (18769) عن الثوري، به، مختصرًا.

قال المصنف رحمه الله في "البدر المنير" 8/ 681: قال الحافظ ضياء الدين المقدسي في "أحكامه": القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق لا أراه أدرك زمان جده. اهـ.

قلت: لذا أورد الحافظ الذهبي هذا الحديث في "المهذب" 7/ 3413 (13482): منقطع. وقال الحافظ في "التلخيص" 4/ 70: في سنده انقطاع.

وقال في "الدراية" 2/ 112: قصة منقطعة. ورواه عبد الرزاق في "المصنف" 10/ 188 - 189 (18774)، ومن طريقه الدارقطني 3/ 184 - 185، والبيهقي 8/ 49 من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة، بنحوه.

قال الحافظ الذهبي في "المهذب" 6/ 3138 (12449): سنده صحيح.

وقال الحافظ في "الدراية" 2/ 112: على شرط الصحيح.

ص: 419

وكذا إن كان لولده فهو حكم له، وهو عندنا خاص بالشارع.

وفيه: جواز دخول الحظر في الوكالات وتعليقها بالشرائط، ذكره الخطابي

(1)

. وما ذكره من القطع لنفسه هو قول مالك ولكنه لا يغرمه.

وقال محمد بن عبد الحكم: لا يقطع ولا يغرمه.

فرع:

لم يذكر التسليم هنا في حديث النجاشي. وذكر في حديث سعيد بن المسيب، رواه ابن حبيب عن مطرف عن مالك

(2)

. واستغربه ابن عبد البر، قال

(3)

: إلا أنه لا خلاف علمته بين العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفقهاء في السلام منها وإنما اختلفوا هل هي واحدة أو اثنتان؟ فالجمهور على تسليمة واحدة، وهو أحد قولي الشافعي

(4)

، وقالت طائفة: تسليمتين، وهو قول أبي حنيفة

(5)

، والشافعي

(6)

، وهو قول الشعبي

(7)

، ورواه

(8)

عن إبراهيم

(9)

.

(1)

"أعلام الحديث" 1/ 666 - 667.

(2)

رواه ابن حبيب في "المواضحة" كما عند ابن عبد البر في "الاستذكار" 8/ 241 - 242.

(3)

"الاستذكار" 8/ 241 - 243.

(4)

انظر: "الأم" 1/ 240، "التهذيب" 2/ 437، "والبيان" 3/ 70، و"الشرح الكبير" 2/ 439.

(5)

انظر: "المحيط البرهاني" 3/ 75، و"شرح فتح القدير" 2/ 123، و"الاختيار" 1/ 142.

(6)

انظر: "الأم" 1/ 240، و"التهذيب" 2/ 437، و"الشرح الكبير" 2/ 439، و"المجموع" 5/ 200.

(7)

رواه عنه ابن أبي شيبة 2/ 599 (11503).

(8)

كذا بالأصل، وفي "الاستذكار" 8/ 242: ورواية، وهو الصواب؛ فروى ابن أبي شيبة (11508) عنه أنه كان يسلم على الجنازة عن يمينه وعن يساره.

(9)

التخريج السابق.

ص: 420

وممن روي عنه واحدة: عمر وابنه، وعلي، وابن عباس، وأبو هريرة، وجابر، وأنس، وابن أبي أوفي، وواثلة، وسعيد بن جبير، وعطاء، وجابر بن زيد، وابن سيرين، والحسن، ومكحول

(1)

، وإبراهيم في رواية

(2)

. وقال الحاكم: صحت الرواية في الواحدة عن علي، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، وابن أبي أوفي أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة

(3)

.

قال ابن التين: وسأل أشهب مالكًا: أيكره السلام في صلاة الجنائز؟ قال: لا. وقد كان ابن عمر يسلم. قال: واستناد مالك إلى فعل ابن عمر دليل على أنه عليه السلام لم يسلم في صلاته على النجاشي ولا غيره.

(1)

انظرها عنهم في "مصنف عبد الرزاق" 3/ 493 - 494 (6444، 6446 - 6447)، و"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 499 - 500 (11491 - 11502، 11504 - 11506).

(2)

انتهى كلام ابن عبد البر بتصرف.

(3)

"المستدرك" 1/ 360.

ص: 421

‌5 - باب الإِذْنِ بِالجَنَازَةِ

وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "أَلَا آذَنْتُمُونِي". [انظر: 458]

1247 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ:"مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي؟ ". قَالُوا: كَانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا -وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ- أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ. فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. [انظر: 857 - مسلم:954 - فتح: 3/ 117]

ثم ذكر حديث ابن عباس: مَاتَ إِنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقال:"مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي؟ ". قالوا: كَانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا -وَكَانَتْ ظُلْمَةٌ - أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ. فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ.

الشرح:

أما تعليق أبي رافع فسلف مسندًا في باب: كنس المسجد

(1)

.

وحديث ابن عباس أخرجه مسلم مختصرًا أنه عليه السلام صلى على قبر بعد ما دفن فكبر عليه أربعًا

(2)

.

والبخاري أخرجه عن محمد ثنا أبو معاوية، وأبو معاوية روى عنه المحمدان ابن المثني وابن سلام شيخا البخاري

(3)

.

(1)

بر قم (458) كتاب: الصلاة.

(2)

مسلم (954/ 68) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على القبر.

(3)

ولم ينسبه المزي في "التحفة" 5/ 32 (5766).

وقال الحافظ في "الفتح" 3/ 117: هو ابن سلام كما جزم به أبو على بن السكن في روايته عن الفربري. وكذا قال العيني في "العمدة" 6/ 380، والقسطلاني في =

ص: 422

وروي عن الشعبي مرة فقال: بعد موته بثلاث

(1)

.

وروي: بعد ما دفن بليلتين

(2)

. وروي بعد شهر.

قال الدارقطني: تفرد بهذا بشر بن آدم

(3)

. وخالفه غيره فقال: بعد ما دفن

(4)

.

أما فقه الباب:

ففيه: الإذن بالجنازة والإعلام به وقد سلف ما فيه في الباب قبله.

وهو سنة بخلاف قول من كره ذلك كما سلف.

= "إرشاد الساري" 284/ 3. وهو ما جزم به السيوطي في "التوشيح" 3/ 1051، وزكريا الأنصاري في "المنحة" 3/ 321.

(1)

رواه الدارقطني 2/ 78، ومن طريقه البيهقي 4/ 46، والخطيب في "تاريخ بغداد" 7/ 455 من طريق إسحاق بن منصور عن هريم بن سفيان عن الشيباني عن الشعبي، به.

والحديث بهذا اللفظ صححه الألباني في "الصحيحة"(3031).

(2)

رواه الطبراني في "الأوسط" 1/ 245 (802) من طريق محمد بن الصباح الدولابي قال: نا إسماعيل بن زكريا، عن الشيباني، به.

قال الطبراني: لم يقل أحد ممن رواه عن الشيباني: بليلتين، إلا إسماعيل بن زكريا، تفرد به محمد بن الصباح.

وذكره البيهقي 4/ 46 وعزاه لكتابه "الخلافيات".

وبهذا اللفظ رواه أيضًا الذهبي في "السير" 10/ 673 من طريق محمد بن الصباح، به.

(3)

رواه الدارقطني 2/ 78، ومن طريقه البيهقي 4/ 46 من طريق بشر بن آدم عن أبي عاصم عن سفيان عن الشيباني، به.

ووصف الحافظ في "الفتح" 3/ 205 هذِه الروايات الثلاثة بأنها شاذة. وانظر: "الإرواء" 3/ 183 - 184.

(4)

رواه بهذا اللفظ أحمد 1/ 224، وأبو يعلى 4/ 400 - 401 (2523)، وابن حبان 8/ 354 (3085)، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين" 2/ 127 (156)، والبيهقي 4/ 46، وابن الجوزي في "التحقيق" 2/ 16 (895).

ص: 423

وروي عن ابن عمر أنه كان إذا مات له ميت تحيَّن غفلة الناس ثم خرج بجنازته، والحجة في السنة لا فيما خالفها، وقد روي عن ابن عمر في ذلك ما يوافق السنة، وذلك أنه نعي له رافع بن خُديج. قال: كيف تريدون أن تصبحوا به؟ قالوا: نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى قرى حول المدينة فيشهدوا. قال: نعم ما رأيتم. وكان أبو هريرة يمر بالمجالس فيقول: إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته

(1)

. وصلاته عليه السلام على هذا الفتى؛ لأنه كان يخدم المسجد.

وقد روى أبو هريرة في هذا الحديث أن رجلًا أسود أو امرأة سوداء كان يكون في المسجد يقمه فمات

(2)

.

وروى مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضها -وكان صلى الله عليه وسلم يعود المساكين- فقال:"إذا ماتت فآذنوني". فخرج بجنازتها ليلًا، وذكر الحديث

(3)

. فإنما صلى على القبر؛ لأنه كان وعد ليصلي عليه؛

(1)

حكاه ابن الحاجب في "جامع الأمهات" ص 67 - 68، وعنه نقله المصنف رحمه الله كما سيأتي عزوه.

(2)

هو الحديث السالف برقم (458).

(3)

"الموطأ" 1/ 227.

وعنه الشافعي في "المسند" 1/ 208 - 209، ومن طريقه النسائي 4/ 40، وفي الكبرى" 1/ 623 (2034)، والروياني 2/ 294 (1238)، وابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 207.

ورواه البيهقي 4/ 48 من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب، بنحوه بأطول.

قال ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 254: لم يختلف على مالك في "الموطأ" في إرسال هذا الحديث. وهو حديث مسند متصل صحيح من غير حديث مالك، من حديث الزهري وغيره. اهـ.

ثم رواه 6/ 263 - 264 عن أبي أمامة عن أبيه سهل بن حنيف، موصولًا. =

ص: 424

ليكرمه بذلك؛ لإكرامه بيت الله؛ ليحتمل المسلمون من تنزيه المساجد، ما ينالون به هذِه الفضيلة.

وسيأتي اختلاف العلماء في الصلاة على القبر بعد ما يدفن في بابه

(1)

، ومشهور مذهب مالك أنه لا يصلى على القبر، فإن دفن بغير صلاة فقولان، وعلى النفي أقوال: ثالثها: يخرج ما لم يطل

(2)

. والخروج بالجنازة ليلًا جائز، والأفضل نهارًا؛ لانتفاء المشقة، وكثرة المصلين، فإن كان لضرورة فلا بأس، رواه علي عن مالك

(3)

. وكراهتهم المشقة عليه من باب تعظيمه وإكرامه، مع أنه كان لا يوقظ من نومه؛ لأنهم كانوا لا يدرون ما يحدث له في نومه.

وفيه: تعجيل الجنازة فإنهم ظنوا أن ذلك آكد من إيذانه.

وقوله: (فأتى قبره، فصلى عليه). ظاهر في الصلاة عليه، وقد سلف ما فيه عن مشهور مذهب مالك كما نقله ابن الحاجب

(4)

.

وقال ابن التين: جمهور أصحابهم على الجواز، خلافًا لأشهب وسحنون فإنما قالا: إن نسي أن يصلي على الميت، فلا يصلي على قبره وليدع له. قال سحنون: ولا أجعله ذريعة إلى الصلاة على القبور.

= وقال الألباني في "الإرواء" 3/ 186: إسناد صحيح، وفيه إرسال لا يضر.

فائدة: المرأة المبهمة في هذا الحديث اسمها: أم محجن، جزم بذلك ابن طاهر المقدسي في "إيضاح الاشكال"(187)، وابن بشكول في "غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 27.

(1)

انظر الحديثين الآتيين برقم (1336، 1337) باب: الصلاة على القبر بعد ما يدفن.

(2)

ذكر الثلاثة الآثار هذِه ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 327

(3)

انظر: "المنتقى" 2/ 13.

(4)

"جامع الأمهات" ص 67 - 68، وقد تقدم.

ص: 425

قال ابن القاسم: وسائر أصحابنا يصلي على القبر إذا فاتت الصلاة على الميت، وأما إذا لم تفت وكان قد صلي عليه فلا يصلي عليه، وقال ابن وهب عن مالك، ذلك جائز

(1)

.

وبه قال الشافعي وعبد الله بن وهب صاحب مالك وابن عبد الحكم، وأحمد، وإسحاق، وداود، وسائر أصحاب الحديث.

قال أحمد بن حنبل: روي الصلاة على القبر عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان

(2)

.

(1)

انظر: "المنتقى" 2/ 14.

(2)

حكاه عنه ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 261، و"الاستذكار" 8/ 247، وابن قدامة في "المغني" 3/ 444 - 445، وابن ضويان في "منار السبيل" 1/ 163.

قلت: روي من حديث ابن عباس وأبي هريرة وأنس ويزيد بن ثابت وعامر بن ربيعة وجابر بن عبد الله وبريدة بن الحصيب وأبي سعيد الخدري وأبي أمامة بن سهل بن حنيف والحصين بن وحوح وأبي أمامة بن ثعلبة الأنصاري وسعد بن عبادة.

أما حديث ابن عباس فهو حديث الباب (1247)، والسالف برقم (857)، ورواه مسلم (954).

وأما حديث أبي هريرة فهو السالف برقم (458) وهو في الباب معلقًا، ورواه مسلم (956).

وأما حديث أنس بن مالك فرواه مسلم (955).

وأما حديث يزيد بن ثابت فرواه النسائي 4/ 84 - 85، وابن ماجه (1528)، وأحمد 4/ 388، والحاكم 3/ 591، والبيهقي 4/ 35، 48، وابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 271 - 272 من طريق خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت، بنحوه.

قال الألباني في "الإرواء" 3/ 185: سنده صحيح.

وأما حديث عامر بن ربيعة فرواه ابن ماجه (1529)، وأحمد 3/ 444 - 445، وابن عبد البر 6/ 267، 268، 269 من طريق ابنه عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، بنحوه.

قال الألباني في "الإرواء" 3/ 185: سنده صحيح على شرط مسلم. =

ص: 426

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأما حديث جابر فرواه النسائي 4/ 85 من طريق حبيب بن أبي مرزوق عن عطاء عن جابر، بنحوه.

قال الألباني 3/ 185: سنده صحيح لكنه أخطأ فأسقط عطاء من السند، فجعله عن حبيب بن أبي مرزوق عن جابر.

وأما حديث بريدة بن الحصيب فرواه ابن ماجه (1532)، والبيهقي 4/ 48 من طريق علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه، بنحوه.

قال الذهبي في "المهذب" 3/ 1391 (6233): إسناده لين.

قال الألباني 3/ 185: فيه ضعف.

لكن ذكره الحافظ في "الفتح" 1/ 553 وقال: إسناده حسن!

وأماحديث أبي سعيد فرواه ابن ماجه (1533).

قال الألباني: فيه ابن لهيعة.

وأما حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف، فتقدم تخريجه قريبًا، وهو مرسل، وصله ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 263 - 264 فجعله من مسند سهل بن حنيف.

وحديثي الحصين بن وحوح وأبي أمامة بن ثعلبة الأنصاري فرواهما ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 272 - 274.

وحديث سعد بن عبادة رواه أيضًا 6/ 264.

وعدَّ الحافظ ابن عبد البر الستة وجوه التي ذكرها الإمام أحمد أنها أحاديث سهل ابن حنيف الموصول، وحديث سعد بن عبادة، وحديث أبي هريرة، وحديث عامر ابن ربيعة، وحديث أنس، وحديث ابن عباس "التمهيد" 6/ 262 - 263.

ثم قال 6/ 271: وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر من ثلاثة أوجه سوى هذِه الستة الأوجه المذكورة وكلها حسان، ثم ذكر أحاديث يزيد بن ثابت والحصين بن وحوح وأبي أمامة بن ثعلبة، ثم قال: فالله أعلم أيها أراد الإمام أحمد بن حنبل.

وكذلك وصف أحاديث يزيد والحصين وأبي أمامة بن ثعلبة في "الاستذكار" 8/ 248 بأنها حسان.

أما الألباني لما خرج الحديث في "الإرواء"(736) وقال: صحيح متواتر. ذكر أحاديث ابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك ويزيد بن ثابت وعامر بن ربيعة =

ص: 427

قال أبو عمر: وكرهها النخعى والحسن وهو قول أبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي والحسن بن حي والليث بن سعد. قال ابن القاسم: قلت لمالك: فالحديث الذي جاء في الصلاة عليه. قال: قد جاء، ليس عليه العمل

(1)

.

قلت: وبعضهم أجاب بالخصوصية بأن صلاته عليهم نور كما صح، وبأنه الولي فلا تسقط بصلاة غيره وهو قول جماعة منهم، ومنهم من قال: تسقط ولا تعاد.

قال أبو عمر: وأجمع من رأى الصلاة على القبر: أنه لا يصلى عليه إلا بقرب ما يدفن. وأكثر ما قالوا في ذلك: شهر

(2)

. وقال أبو حنيفة: لا يصلى على قبر مرتين، إلا أن يكون الذي صلى عليها غير وليها، فيعيد وليها الصلاة عليها إن كانت لم تدفن فإن دفنت أعادها على القبر

(3)

.

= وجابر. ثم قال: لعل الإمام أحمد يعني بالوجوه الستة، هذِه الطرق الست، فإنها أصح الطرق.

ثم ذكر حديث بريدة وأبي سعيد وأبي أمامة بن سهل المرسل.

(1)

"التمهيد" 6/ 260، و"الاستذكار" 8/ 246.

(2)

نقل أبو عمر هذا الإجماع في "الاستذكار" 8/ 251.

(3)

نقله ابن عبد البر في "الاستذكار" 8/ 251.

ص: 428

‌6 - باب فَضْلِ مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فَاحْتَسَبَ

وَقَالَ اللهُ عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]

1248 -

حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ". [1381 - فتح: 3/ 118]

1249 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا. فَوَعَظَهُنَّ، وَقَالَ:"أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ، كَانُوا حِجَابًا مِنَ النَّارِ". قَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَانِ؟ قَالَ "وَاثْنَانِ". [انظر: 101 - مسلم: 2633 - فتح: 3/ 118]

1250 -

وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنِ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:"لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ". [انظر: 102 - مسلم: 2634 - فتح: 3/ 118]

1251 -

حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ، فَيَلِجَ النَّارَ إِلاَّ تَحِلَّةَ القَسَمِ".

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]. [6656 - مسلم: 2632 - فتح: 3/ 118]

ذكر فيه حديث أَنَسٍ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنَ النَّاسِ مِنْ مُسْلِمٍ يُتَوَفَّى لَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ".

وحديث أبي سعيد: أَنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ لَنَا يَوْمًا. فَوَعَظَهُنَّ، وَقال:"أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَ لَهَا ثَلَاَثةٌ مِنَ الوَلَدِ، كَانُوا حِجَابًا مِنَ النَّارِ". قالتِ امْرَأَة: وَاثْنَانِ؟ قال: "وَاثْنَانِ". وَقال شَرِيكٌ، عَنِ ابن الأَصْبَهَانِيِّ: حَدَّثنِي أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله

ص: 429

عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. قال أَبُو هُرَيْرَةَ:"لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ".

وحديث أبي هريرة: "لَا يَمُوتُ لِمُسْلِم ثَلَاَثةٌ مِنَ الوَلَدِ، فَيَلِجَ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ القَسَمِ". قال أَبُو عَبْدِ اللهِ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71].

الشرح:

يقال: احتسب فلان ولده: إِذَا مات كبيرًا، وافترطه: إِذَا كان صغيرا، قاله ابن فارس

(1)

، وابن سيده

(2)

، والأزهري

(3)

، وآخرون

(4)

، وقال ابن دريد: احتسب فلان بكذا أجرًا عند الله

(5)

، فيشتمل الكبير أيضًا، وحديث أنس أخرجه مسلم أيضًا

(6)

وللنسائي "من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة" فقامت امرأة فقالت: واثنان، قال:"واثنان" قالت: امرأة: يا ليتني، قُلْتُ: واحدا

(7)

.

وحديث أبي سعيد أخرجه البخاري أيضًا كما سلف في العلم

واضحًا

(8)

، وقوله: وقال شريك عن ابن الأصبهاني إلى آخره، كذا ذكره هنا، وقال في كتاب العلم: وعن شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، سمعت أبا حازم، عن أبي هريرة وقال "ثلاثة لم يبلغوا الحنث"

(9)

.

(1)

"مجمل اللغة" 1/ 234 مادة: حسب.

(2)

"المحكم" 9/ 129 مادة: طرف، في مقلوبه: فرط.

(3)

"تهذيب اللغة" 1/ 811 مادة: حسب. و 3/ 2773 مادة: فرط.

(4)

وانظر: "الصحاح" 1/ 110، و"لسان العرب" 2/ 866 مادة: حسب.

(5)

ورد بهامش الأصل: ولفظ ابن دريد في "الجمهرة": احتسب فلان عند الله خيرًا، إذا قدمه. اهـ. قلت: هو كما قال المعلق، وانظر:"الجمهرة" 1/ 277 في مقلوب مادة: بحس.

(6)

برقم (2634)(153) من حديث أبي هريرة.

(7)

"المجتبى" 4/ 23 - 24، كتاب: الجنائز، باب: ثواب من احتسب ثلاثة من صلبه.

(8)

برقم (101) باب: هل يجعل النساء يوم على حدة في العلم.

(9)

السالف بعد حديث (102) وفيه: وعن عبد الرحمن بن الأصبهاني، بنحو ما ذكر المصنف رحمه الله وليس فيه قوله: وعن شعبة.

ص: 430

والتعليق عن شريك رواه ابن أبي شيبة عنه عن عبد الرحمن: أتاني أبو صالح يعزيني عن ابن لي فأخذ يحدث عن أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من امرأة تدفن ثلاثة أفراط إلا كانوا لها حجابًا من النار" فقالت امرأة: يا رسول الله قدمت اثنين، قال:"ثلاثة"، ثمَّ قال:"واثنين واثنين" قال أبو هريرة: الفرط: من لم يبلغ الحنث

(1)

.

وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم أيضًا بلفظ: جاءت امرأة بصبي لها فقالت: يا رسول الله ادع الله لَهُ فلقد دفنت ثلاثة، فقال:"دفنتي ثلاثة؟ "، قالت: نعم، قال:"لقد احتظرت بحظار شديد من النار"

(2)

وفي لفظ: "صغارهن دعاميص الجنة، يتلقى أحدهم أباه فيأخذ بثوبه أو بيده فلا ينتهي حتَّى يدخله الله وأباه الجنة"

(3)

، وللنسائي:"ما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهم، يقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتَّى يدخل أبوانا، فيقال لهم: أدخلوا الجنة أنتم وأبواكم"

(4)

.

وفي حديث عن أبي عبيدة، عن أبيه

(5)

مرفوعًا: "وواحد" واستغربه الترمذي، وفيه معه مجهول

(6)

.

(1)

"المصنف" 3/ 37 (11875)، في الجنائز، باب: في ثواب الولد يقدمه الرجل.

ووصله الحافظ بإسناد من طريقه في "التغليق" 2/ 458 - 459.

(2)

مسلم (2636) كتاب: البر والصلة، باب: فضل من يموت له ولد فيحتسبه.

(3)

مسلم (2635).

(4)

"المجتبى" 4/ 25، باب: من يتوفى له ثلاثة.

(5)

ورد بهامش الأصل: لم يسمع من أبيه.

(6)

الترمذي (1061) وقال: حديث غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه ورواه أيضًا ابن ماجه (1606) من طريق إسحاق بن يوسف، عن العوام بن حوشب عن أبي محمد مولى عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة. به.

والمجهول الذي عناه المصنف رحمه الله هو أبو محمد مولى عمر بن =

ص: 431

إِذَا تقرر ذَلِكَ فالأحاديث المذكورة وغيرها دالة عَلَى أن أطفال المسلمين في الجنة، وهو عندي إجماع

(1)

، ولا عبرة بالمجبرة حيث جعلوهم تحت المشيئة، فلا يعتد بخلافهم ولا بوفاقهم، وهو قول مهجور مردود بالسنة، وإجماع من لا يجوز عليهم الغلط؛ لاستحالة غفران الذنوب للآباء رحمة لهم دون أولادهم، فإن الآباء رحموا بهم. وسيأتي الكلام في الأطفال في موضعه إن شاء الله

(2)

.

نعم ذهب جماعة إلى التوقف في أطفال المشركين أن يكونوا في جنة أو نار، منهم: ابن المبارك،، وحماد، وإسحاق وعُدِّي إلى أولاد المسلمين. وما عارض ذلك فإما ضعيف الإسناد، والأحاديث الصحيحة مقدمة عليها. ومنها حديث سمرة الثابت في الصحيح: حديث الرؤيا "وأما الولدان حول إبراهيم فكل مولود يولد على الفطرة" قيل: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال: "وأولاد

= الخطاب، كذا قال عنه الحافظ في "التقريب"(8345).

فالحديث فيه علتان:

الأولى: الإرسال أو الانقطاع؛ فأبو عبيدة -واسمه عامر- لم يسمع من أبيه. كما قاله الترمذي في هذا الموضع، وقال في "السنن" 1/ 28 عقب حديث (17): وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه، ولا يعرف اسمه. وهو ما صرح به المزي في "التهذيب" 14/ 61. وقال الحافظ في "التقريب" (8231): الراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه.

الثانية: جهالة أبي محمد مولى عمر. والله أعلم.

لذا قال الحافظ عن هذا الحديث في "الفتح" 3/ 119: ليس فيه ما يصلح للاحتجاج. وضعفه الألباني في "ضعيف ابن ماجه"(351).

(1)

نقله ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 348.

(2)

انظر ما سيأتي برقم (1381 - 1382) باب: ما قيل في أولاد المسلمين، و (1383 - 1385) باب: ما قيل في أولاد المشركين.

ص: 432

المشركين"

(1)

. وحديث: "إن الله خلق النار وخلق لها أهلًا وهم في أصلاب آبائهم". ساقط ضعيف، مردود بالإجماع والآثار كما قاله أبو عمر

(2)

:

(1)

يأتي برقم (7047) كتاب: التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، ورواه مسلم (2275).

(2)

"التمهيد" 3/ 350.

قلت: كذا قالا، وفيه نظر؛ فالحديث رواه مسلم في "صحيحه" 2662/ 31: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن طلحة بن يحيى، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين .. الحديث.

وهذا هو الطريق الذي ذكره ابن عبد البر، وأعله بطلحة بن يحيى فقال: ضعيف لا يحتج به.

فيبدو -والله أعلم- أن المصنف رحمه الله نقل عن ابن عبد البر، ولم ينتبه إلى أن الحديث رواه مسلم.

وانتبه لذلك العيني رحمه الله فقال في "عمدة القاري" 6/ 387: كيف يقال: إنه ساقط وطلحة ضعيف، والحديث أخرجه مسلم. اهـ.

ومع ذلك فابن عبد البر نفسه اضطرب قوله في الحديث، فقال في الموضع الحالي 6/ 351: وهذا الحديث مما انفرد به طلحة بن يحيى، فلا يعرج عليه.

ثم ذكره مرة أخرى في 18/ 104 - 105 فرواه بإسنادين عن طلحة بن يحيى: أحدهما من طريق الترمذي، ثم قال: وزعم قوم أن طلحة بن يحيى انفرد بهذا الحديث، وليس كما زعموا!

ثم قال: وقد رواه فضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة، كما رواه طلحة بن يحيى سواء.

ثم ذكره من طريق المروزي.

قلت: متابعة فضيل بن عمرو رواها أيضًا مسلم 2662/ 30.

ثم قال في "الاستذكار" 8/ 393 بعد ذكر الحديث بدون إسناد: هو حديث رواه طلحة بن يحيى وفضيل بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة عن عائشة، وليس ممن يعتمد عليه عند بعض أهل الحديث اهـ. =

ص: 433

وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)} [المدثر: 38 - 39] قال علي: هم أطفال المسلمين

(1)

. نقله أبو عمر عنه،

= والحديث من طريق طلحة بن يحيى ذكره الإمام أحمد في "العلل ومعرفة الرجال" 2/ 11 (380) وأنكره عليه.

ونقل تضعيف الحديث عن الإمام أحمد، العقيلي في "الضعفاء" 2/ 226، والعلامة ابن القيم في "أحكام أهل الذمة" 2/ 1073، والذهبي في "الميزان" 3/ 57، والحافظ في "التهذيب" 2/ 244.

وقال الحافظ الذهبي في "السير" 14/ 462 بعد روايته الحديث بإسناده: رواه جماعة عن طلحة، وهو مما ينكر من حديثه، لكن أخرجه مسلم، وأبو داود والنسائي وابن ماجه.

تتمة:

وجه العلامة النووي هذا الحديث وقال في سياق الجمع بينه وبين ما يعارضه من الأحاديث والآثار، فقال: أجاب العلماء بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، فلما علم قال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يموت له .. الحديث. وغير ذلك من الأحاديث، والله أعلم. اهـ "شرح مسلم" 16/ 207 بتصرف.

وانظر أيضًا: "أحكام أهل الذمة" 2/ 1077 - 1078، و"عمدة القاري" 6/ 387.

(1)

رواه ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 352، 18/ 115.

ورواه أيضًا عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 263 (3389)، وابن أبي شيبة 7/ 120 - 121 (34500)، والطبري في "تفسيره" 12/ 318 (35479 - 3548)، والعقيلي في "الضعفاء" 3/ 212، وابن حبان في "المجروحين" 2/ 95، وابن عدي في "الكامل" 6/ 286، والحاكم في "المستدرك" 2/ 507، والخطيب في "الموضح" 2/ 293، والضياء في "المختارة" 2/ 76 (454) من طريق عثمان أبي اليقظان عن زاذان عن علي.

وعثمان ضعف كما ذكر العقيلي وابن عدي، وقال ابن حبان: كان ممن اختلط حتى لا يدري ما يحدث به، فلا يجوز الاحتجاج بخبره الذي وافق الثقات ولا الذي انفرد به عن الأثبات؛ لاختلاط البعض بالبعض.

ص: 434

وقال: لا مخالف له من الصحابة

(1)

. قلت: وروى عبد بن حميد في "تفسيره" عنه أنهم أولاد المشركين

(2)

.

وقوله: ("ما من الناس من مسلم") شرط فيه الإسلام؛ لأنه لا نجاة لكافر يموت أولاده. ويحتمل أن يكون ذلك كما قال ابن التين: لأن أجره على مصابه يكفر عنه ذنوبه، فلا تمسه النار التي يعاقب بها أهل الذنوب، ففي هذا تسلية للمسلمين في مصابهم بأولادهم.

وقوله: "لم يبلغوا الحنث" هو بالنون والثاء، يقول لم يبلغوا أن تجري عليهم الحدود. والحنث في الأيمان يحلُّها الولد. قال أبو المعالي: بلغ الحنث. أي: بلغ مبلغًا يجري عليه الطاعة والمعصية. وفي "المحكم": الحنث: الحلم

(3)

. وقال البخاري: إنه الذنب. قال القزاز: الذنب العظيم أن يبلغوا أن تكتب ذنوبهم من قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحِنْثِ العَظِيمِ (46)} [الواقعة: 46] أي: الذنب. وقال صاحب "المطالع": ذكر الداودي أنه رُوي بالخاء المعجمة أي: فعل المعاصي، قال: وهذا لا يُعرف إنما هو بالحاء المهملة، وكذا استغربه ابن التين فقال: لم يروه غيره كذلك.

(1)

"التمهيد" 6/ 351 - 352.

(2)

وانظر عن هذِه المسألة في "التمهيد" 6/ 348 - 353 ومنه استدل المصنف رحمه الله كلامه هنا. 18/ 93 - 133 وفي الموضع الثاني هذا بحث نفيس ذهبي ندر مثله، فليراجه ففيه درر وجواهر.

وانظر أيضًا: "الإبانة" لابن بطة 2/ 69 - 94 ولمحققه في المسألة تعليقات جياد.

ولفاضل البركوي: "رسالة في أحوال أطفال المسلمين" انظرها بحاشية "شرح شرعة الإسلام" ص 194 إلى ص 360.

(3)

"المحكم" 3/ 223 مقلوب الحاء والثاء والنون.

ص: 435

قوله: ("إلا تحلة القسم") قد فسره البخاري بالورود، وكذا فسره العلماء أي: فلا يردها إلا بقدر ما يبر الله قسمه.

قال أبو عبيد: موضع القسم مردود إلى قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68] وقيل: القسم مضمر والعرب تقسم وتضمر المقسم به ومثله قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] معناه: وإن منكم والله لمن ليبطئن وكذلك {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] المعنى: والله إلا واردها، وقال غيره: لا قسم في هذِه الآية فتكون له تحلة وهو معنى قوله: "إلا تحلة القسم" إلا الشيء لا يناله معه مكروه فمعناه عَلَى هذين التأويلين: أن النار لا تمسه إلا قدر وروده عليها ثمَّ ينجو بعد ذَلِكَ لقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي} [مريم: 72] الآية، وقيل: يقرون عليها وهي خامدة

(1)

، وقيل: يمرون عَلَى الصراط وهو جسر عليها قاله ابن مسعود

(2)

وكعب الأحبار، ورواية عن ابن عباس. وقيل: ما يصيبهم في الدنيا من الحمى. قال مجاهد: الحمى من فيح جهنم، وهي حظ المؤمن من النار

(3)

. لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الحمى مِنْ فيحِ جهنَّمَ فأبْرِدُوها بالماءِ"

(4)

.

وقيل: المراد به المشركون، وحكي عن ابن عباس أيضًا

(5)

واحتج

(1)

قاله خالد بن معدان فيما رواه الطبري 8/ 364 (23836).

(2)

رواه الطبري (23846).

(3)

رواه الطبري في "تفسيره" 8/ 366 (23850).

(4)

يأتي برقم (3261) من حديث ابن عباس.

وبرقم (3262)، ورواه مسلم (2212) من حديث رافع بن خديح.

وبرقم (3263)، ورواه مسلم (2210) من حديث عائشة.

وبرقم (3264، ورواه مسلم (2209) من حديث ابن عمر.

وبرقم (5724)، ورواه مسلم (2211) من حديث أسماء.

(5)

رواه الطبري 8/ 366 (23847).

ص: 436

بقراءة بعضهم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}

(1)

أو تكون عَلَى مذهب هؤلاء {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} بخروج المتقين من جملة من يدخلها؛ ليعلم فضل النعمة بما شاهد فيه أهل العذاب، وبه قال الحسن وابن مسعود

(2)

وقتادة: أن ورودها ليس دخولها -وقواه الزجاج

(3)

- وابن عباس

(4)

ومالك فيما حكاه ابن حبيب

(5)

.

وغيرهما قالوا: إنه الدخول، فتكون عَلَى المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت عَلَى إبراهيم.

وقال ابن بطال: العرب إِذَا أرادت تقليل مكث الشيء وتقصير مدته شبهوه بتحليل القسم، فيقولون: ما يقيم فلان عند فلان إلا تحلة القسم، ومعناه: لا تمسه إلا قليلا، وتوهم ابن قتيبة أنه ليس بقسم وقد جاء في ذَلِكَ حديث مرفوع، فذكره

(6)

، وقال أبو عمر: ظاهر قوله فتمسه النار أن

(1)

هي قراءة ابن عباس وعكرمة، ذكرها عنهما ابن خالوبه في كتابه "مختصر في شواذ القرآن" ص 89.

(2)

رواه الطبري (23852 - 23853).

(3)

حكاه عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 256.

(4)

الطبري (23854).

(5)

انظر: "المنتقى" 2/ 28.

(6)

"شرح ابن بطال" 3/ 247. وهو من كلام الخطابي نقله عنه ابن بطال.

والحديث المرفوع المشار إليه رواه زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه مرفوعًا: "من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تبارك وتعالى متطوعًا لا يأخذه سلطان، لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ".

رواه أحمد 3/ 437 - 438 - واللفظ له- والطبراني 20 (402) من طريق ابن لهيعة.

ورواه أحمد 3/ 437 - 438، وأبو يعلى 3/ 163 (1490)، والطبراني 20/ 185 (403)، وابن عدي في "الكامل" 4/ 74 - 75 من طريق رشدين بن سعد. كلاهما عن زبان، به. =

ص: 437

الورود: الدخول؛ لأن المسيس حقيقته في اللغة: المماسة

(1)

. روي عن عباس

(2)

وعلي أن الورود: الدخول. وكذا رواه أحمد عن جابر

(3)

.

= قال المنذري في "الترغيب" 2/ 158 - 159 (1919): رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ولا بأس به في المتابعات.

وقال الهيثمي في "المجمع" 5/ 287 - 288: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وفي أحد إسنادي أحمد، ابن لهيعة وهو أحسن حالًا من رشدين.

وقال الحافظ في "الفتح" 6/ 83: حديث ليس على شرط البخاري، وإسناده حسن. اهـ بتصرف.

لكن الحديث ضعف إسناده الحافظ ابن رجب في "التخويف من النار" ص 251، وضعفه الألباني في "ضعيف الترغيب"(786) من أجل زبان بن فائد.

(1)

"التمهيد" 6/ 353.

(2)

رواه الطبري 8/ 364 (23833، 23835).

(3)

"المسند" 3/ 328 - 329.

ورواه أيضًا عبد بن حميد في "المنتخب" 3/ 53 (1104)، والبيهقي في "الشعب" 1/ 336 - 337 (370)، وابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 355 - 356 من طريق غالب بن سليمان أبو صالح عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال: اختلفنا ها هنا في الورود .. فلقيت جابر بن عبد الله .. فأهوي بإصبعيه إلى أذنيه، وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله يقول: "الورود: الدخول .. " الحديث مرفوعًا.

قال البيهقي: إسناده حسن.

وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" 4/ 231 (5491): رواه أحمد ورواته ثقات: والبيهقي بإسناد حسنه.

وتبعه الهيثمي فقال في "المجمع" 7/ 55، 10/ 360: رواه أحمد ورجاله ثقات.

وتحرفت (سمية) في الموضعين إلى (سمينة).

وقال الحافظ ابن كثير في "التفسير" 9/ 279: غريب.

وقال الحافظ ابن رجب في "التخويف من النار" ص 250: أبو سمية لا ندري من هو.

والحديث ضعفه الألباني في "الضعيفة"(4761)، وفي "ضعيف الترغيب"(2110) بأبي سمية، وفي "ضعيف الجامع"(6156).

وروى أحمد 3/ 383 - 384 عن أبي الزبير أنه سمع جا بر بن عبد الله يسأل عن الورود، =

ص: 438

وقال قوم: الورود للمؤمنين أن يروا النار ثمَّ ينجوا منها الفائزون ويصلاها مَنْ قُدِّر عليه. قال

(1)

: ويحتمل أن تكون تحلة القسم [استثناءً منقطعًا]

(2)

فيكون المعنى: لكن تحلة القسم أي: لا تمسه النار أصلًا كلامًا تامًا ثمَّ ابتدأ إلا تحلة القسم لا بد منها لقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}

(3)

قال: والوجه عندي في هذا الحديث وشبهه أنها لمن حافظ عَلَى أداء فرائضه واجتنب الكبائر

(4)

.

قال أبو عبيد: وهذِه الآية أصلٌ لمن حلف ليفعلن كذا ثمَّ فعل منه شيئًا أنه يبر في يمينه فيكون قَدْ بر في القليل كما بين في الكثير، وليس يقول ذَلِكَ مالك.

وقوله: ("إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم") قيل: إن الهاء راجعة إلى الأب. وقيل: إلى الرب جل جلاله؛ لأن لَهُ الفضل والمنة، فذكر ما للآباء من الفضل ولم يذكر ما في الأولاد، لكن إِذَا رحم بهم الآباء فالأبناء أولى بالرحمة وأحرى

(5)

.

= قال: نحن يوم القيامة على كذا وكذا .. الحديث مطولًا، وفيه قطعة مرفوعة.

والحديث هذا رواه مسلم (191) بشنده ومتنه سواء.

(1)

القائل هو ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 361.

(2)

في الأصل: استثناء منقطع، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(3)

"التمهيد" 6/ 361.

(4)

"التمهيد" 6/ 362.

(5)

فائدة: قوله: في حديث أبي سعيد الخدري (1249): قالت امرأة.

هي أم مبشر، وقيل: أم سليم الأنصارية والدة أنس بن مالك، وقيل: أم هانئ.

ذكر الثلاث ابن بشكوال في "غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 136 - 138 ولم يجزم بإحداهن. =

ص: 439

‌7 - باب قَوْلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ القَبْرِ: اصْبِرِي

1252 -

حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ: "اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي". [1283، 1302، 7154 - مسلم: 926 - فتح: 3/ 125]

ذكر فيه حديث أَنَسٍ: مر النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِيَ تَبْكِي فَقال: "اتَّقِي اللهَ وَاصْبِرِي" .. الحديث. هذا الحديث صحيح أخرجه مسلم أيضًا وأبو داود، والترمذي، والنسائي

(1)

، ويأتي في الأحكام أيضًا

(2)

وإنما أمرها صلى الله عليه وسلم بالصبر لعظيم ما وعد الله عليه من جزيل الأجر.

قال ابن عون: كل عمل لَهُ ثواب إلا الصبر، قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] فأراد صلى الله عليه وسلم أن لا يجتمع عليها مصيبتان مصيبة الهلاك، ومصيبة فقد الأجر الذي يبطله الجزع، فأمرها بالصبر الذي لا بد للجازع من الرجوع إليه بعد سقوط أجره،

= وذكر الحافظ في "الفتح" 3/ 121 - 122 أنها أم سليم أو أنها أم مبشر، وذكر أن ابن بشكوال زاد: أم هانئ، ثم قال: ويحتمل أن يكون كل منهن سأل عن ذلك في ذلك المجلس.

وإلى نحو ما ذكر الحافظ ذهب العيني في "عمدة القاري" 6/ 389، وكذا القسطلاني في "إرشاد الساري" 3/ 287، وكذا زكريا الأنصاري في "المنحة" 3/ 323.

(1)

"صحيح مسلم"(926) كتاب: الجنائز، باب: في الصبر على المعصية عند الصدمة الأولى، "سنن أبي داود" (3124) كتاب: الجنائز، باب: الصبر عند المصيبة، "سنن الترمذي" (988) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء أن الصبر في الصدمة الأولى، "المجتبى" 4/ 22 كتاب: الجنائز، باب: الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة.

(2)

برقم (7154) باب: ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بواب.

ص: 440

وقد أحسن الحسن بن أبي الحسن البصري في البيان عن هذا المعنى فقال: الحمد لله الذي آجرنا عَلَى ما لا بد لنا منه، وأثابنا عَلَى ما لو تكلفنا سواه صرنا إلى معصيته؛ فلذلك قال لها صلى الله عليه وسلم:"اتقي الله واصبري" أي: اتقي معصيته بلزوم الجزع الذي يحبط الأجر واستشعري الصبر عَلَى المصيبة بما وعد الله عَلَى ذَلِكَ، وقال بعض الحكماء لرجل عزَّاه: إن كل مصيبة لم يذهب فرح ثوابها بألم حزنها، لهي المصيبة الدائمة والحزن الباقي. وفي الحديث دليل عَلَى جواز زيارة القبور؛ لأنه لو لم يجز لما ترك بيانه، ولأنكر عَلَى المرأة خلوتها عند القبر، وسيأتي تمام هذا المعنى في بابه إن شاء الله

(1)

.

وفيه دلالة أيضًا عَلَى تواضعه وكونه لم ينتهرها لمّا ردت عليه قوله بل عذرها بمصيبتها وذلك من خلقه الكريم

(2)

.

وفيه: النهي عن البكاء بعد الموت.

وفيه: الموعظة للباكي بتقوى الله والصبر كما سلف.

(1)

انظر ما سيأتي برقم (283) باب: زيارة القبور.

(2)

وذلك لأنه في الحديث الآتي (1283) فيه زيادة أن الرسول بعد ما قال لها: "اتقي الله واصبري". قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم الحديث.

ص: 441

‌8 - باب غُسْلِ المَيِّتِ وَوُضُوئِهِ بِالمَاءِ وَالسِّدْرِ

وَحَنَّطَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما ابنا لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَلَهُ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: المُسْلِمُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا. وَقَالَ سَعْيدٌ: لَوْ كَانَ نَجِسًا مَا مَسِسْتُهُ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "المُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ". [انظر 283]

1253 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتِ ابْنَتُهُ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مَنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي". فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ:"أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ". تَعْنِي: إِزَارَهُ. [انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح: 3/ 125]

ثم ذكر حديث أُمِّ عَطِيةَ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَتِ ابنتُهُ فَقال: "اغْسِلْنَهَا ثَلاثًا إلى قوله: بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، .. الحديث.

الشرح

أما أثر ابن عمر فأخرجه مالك في "موطئه" عن نافع أن ابن عمر حنط ابنا لسعيد بن زيد وحمله ثمَّ دخل المسجد فصلى ولم يتوضأ

(1)

،

(1)

"الموطأ" 1/ 27 (59). وقوله: ابنا لسعيد بن زيد، هو عبد الرحمن بن سعيد بن زبد. جزم بذلك الحافظ في "تغليق التعليق" 2/ 460 فيما رواه بسنده من طريق أبي الجهم العلاء بن موسى عن الليث عن نافع أنه رأى ابن عمر حنط عبد الرحمن بن سعيد بن زيد، فذكره.

وكذا قال في "هدي الساري" ص 268، و"الفتح" 3/ 126: اسمه عبد الرحمن، رويناه في نسخة أبي الجهم.

وبه جزم العيني في "العمدة" 6/ 395، والقسطلاني في "إرشاد الساري" 3/ 288.

ص: 442

وروى ابن أبي شيبة عنه أنه لا غسل على غاسله

(1)

. وأما أثر ابن عباس فرواه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء عنه أنه قال: لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن ليس بنجس حيا ولا ميتا

(2)

.

ورواه الحاكم عنه مرفوعًا، ثمَّ قال: صحيح على شرطهما

(3)

، ثمَّ رواه من طريق عمرو ابن أبي عمرو عن عكرمة عنه مرفوعًا:"ليس عليكم من غسل ميتكم غسل إِذَا غسلتموه فإن ميتكم ليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم" ثمَّ قال: صحيح الإسناد على شرط البخاري، قال: وفيه رفض لحديث مختلف فيه عَلَى محمد بن عمرو بأسانيد: "من غسل ميتا فليغتسل"

(4)

.

(1)

"المصنف" 2/ 469 (11140)، كتاب: الجنائز، باب: من قال: ليس علي غاسل الميت غسل.

(2)

"المصنف" 2/ 469 (11134).

ورواه أيضًا سعيد بن منصور في "السنن" كما في "التغليق" 2/ 460، وكما في "الفتح" 3/ 127 وصحح الحافظ إسناده.

(3)

"المستدرك" 1/ 385.

ورواه أيضًا الدارقطني 2/ 70، والبيهقي في "سننه" 1/ 306، وفي "المعرفة" 5/ 233 - 234 (7367) والحافظ في "التغليق" 2/ 460 - 461 من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس.

قال البيهقي في "السنن" 1/ 306: المعروف موقوف.

وقال الحافظ: قال الضياء في "الأحكام": إسناده عندي على شرط صحيح، والذي يتبادر إلى ذهني أن الموقوف أصح. اهـ "التغليق" 2/ 461.

(4)

"المستدرك" 1/ 386.

ورواه أيضًا الدارقطني 2/ 76، والبيهقي 1/ 306، وابن الجوزي في "التحقيق" 1/ 202 - 203 (230) من طريق أبي شيبة إبراهيم بن عبد الله، ثنا خالد بن مخلد، ثنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو، به.

ورواه البيهقي 1/ 306 من طريق معلى ومنصور بن سلمة. =

ص: 443

وأما أثر سعد فرواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن سعيد القطان، عن الجعد، عن عائشة بنت سعد قالت: أوذن سعد بجنازة سعيد بن زيد وهو بالبقيع فجاءه فغسله وكفنه وحنطه، ثمَّ أتى داره فصلى عليه، ثمَّ دعا بماء فاغتسل ثمَّ قال: لم أغتسل من غسله ولو كان نجسًا ما غسلته؛ ولكن اغتسلت من الحر

(1)

.

وأما تعليق: "إن المؤمن لا ينجس" فقد سلف مسندًا في كتاب

= وفي 3/ 398 من طريق ابن وهب.

ثلاثتهم عن عمرو بن أبي عمرو، به موقوفًا.

قال البيهقي 1/ 306: لا يصح رفعه، والمرفوع ضعيف، والحمل فيه على أبي شيبة كما أظن.

وتعقبه الذهبي فقال في "المهذب" 1/ 303 - 304 (1318): أبو شيبة ثقة، قال أبو حاتم: إبراهيم صدوق، لكن هذا من مناكير خالد فإنه يأتي بأشياء منكرة، مع أنه شيخ محتج به في الصحيح، وفيه ابن عقدة الحافظ، مجروح. اهـ بتصرف.

وكذا تعقبه المصنف في "البدر المنير" 4/ 659: إبراهيم بن عبد الله ثقة.

وأعله عبد الحق في "أحكامه" 2/ 151 بعمرو بن أبي عمرو فقال: لا يحتج به.

واعترضه ابن القطان في "البيان" 3/ 212 ورأى أن الحمل على أبي شيبة فيه أولى من عمرو، فإنه ضعيف وعمرو مختلف فيه.

والحديث المرفوع قال عنه الحاكم -كما ذكر المصنف- صحيح الإسناد على شرط البخاري. وأقره المصنف في "البدر المنير" 4/ 658 - 659.

وحسن الحافظ في "التلخيص" 1/ 137 إسناد المرفوع وصحح إسناد الموقوف في "التغليق" 2/ 461.

وحسن الألباني أيضًا إسناد المرفوع في "أحكام الجنائز" ص (72)، ثم ترجح عنده أن الصواب في الحديث الموقوف، فأورده في "الضعيفة"(6304) وضعفه مرفوعًا، وصححه موقوفًا.

وأما الحديث الذي أشار إليه الحاكم: من غسل ميتًا فليغتسل، يأتي الكلام عليه قريبًا في هذا الباب.

(1)

"المصنف" 2/ 469 (11139). ووصله الحافظ في "التغليق" 2/ 460 - 461.

ص: 444

الطهارة

(1)

. وحديث أم عطية أخرجه مسلم

(2)

، لكن لا ذكر للوضوء فيه كما ترجم لَهُ، وهو أصل السنة في غسل الموتى وعليه عوَّل العلماء وهذِه البنت هي زينب كما ثبت في مسلم

(3)

.

وزعم الترمذي أنها أم كلثوم يعني: المتوفاة سنة تسع. وفيه نظر

(4)

، وترجم لَهُ تراجم ستأتي منها: جعلُ الكافور في آخره

(5)

. ووقع للداودي أيضًا أنها أم كلثوم ماتت عند عثمان قال: وماتت عنده رقية في سنة ثمان وهذا غلط فهي زينب، وأما رقية فماتت قبلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر في رمضان عَلَى رأس سبعة عشر شهرًا من مهاجره، وماتت فاطمة سنة إحدى عشرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بستة أشهر كذا في البخاري

(6)

، وقيل: بعده بثلاثة أشهر.

وقصد البخاري بما صَدَّرَ به الباب من أن المؤمن لا ينجس أن غسله ليس لكونه نجسًا، ولذلك غسل بالماء والسدر مبالغة في التنظيف، وهو من نكته الحسان، ثمَّ الذي عليه جمهور العلماء أن غسل الميت لا يوجب الغسل وحمله لا يوجب الوضوء وحديث:"من غسل ميتًا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ"

(7)

قد علمت كلام الحاكم أنه مختلف فيه

(8)

.

(1)

برقم (285) باب: الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره.

(2)

(939) الجنائز، باب: في غسل الميت.

(3)

مسلم (939/ 40).

(4)

عزى الحافظ في "الفتح" 3/ 128، والعيني في "العمدة" 6/ 398.

هذا القول لمغلطاي في "التلويح" ويبدو أن المصنف نقله عنه، ثم قال الحافظ: ولم أر في الترمذي شيئًا من ذلك. وكذا قال العيني.

(5)

يأتي برقم (1258 - 1259) باب: يجعل الكافور في آخره.

(6)

يأتي برقم (3093)، و (4240 - 4241).

(7)

رواه أبو داود (3161، 3162)، والترمذي (993) وابن ماجه (1463) وأحمد 2/ 272، 2/ 433، 2/ 454، من حديث أبي هريرة. قال الترمذي: حديث حسن.

(8)

"المستدرك" 1/ 386. وقد تقدم. =

ص: 445

وعبارة ابن التين: ليس بثابت، وهو إسراف منه

(1)

، وقد أوضحت

= والحديث مروي من حديث أبي هريرة وعائشة وعلي وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان والمغيرة.

أشهرها حديث أبي هريرة، وهو الذي كثر كلام العلماء حوله تصحيحًا وتضعيفًا.

والحديث صححه غير واحد من أهل العلم:

فقال الترمذي في "السنن" 3/ 310: حديث أبي هريرة حديث حسن.

وصححه ابن حزم في "المحلى" 1/ 250، 2/ 23 - 25، وابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" 3/ 283 - 285.

وقال شيخ الإسلام في "شرح العمدة" 1/ 362: حديث أبي هريرة رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي، وإسناده على شرط مسلم.

ومال المصنف رحمه الله لتصحيحه في "الإعلام" 4/ 442 ونقل تصحيح ابن حبان وابن السكن للحديث.

وقواه ابن القيم في "الحاشية" كما في "تهذيب السنن" 4/ 305 - 306.

وخرجه الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد في "الإمام" 2/ 372 - 379 تخريجًا جيدًا ومال لتصحيحه، وانظر أيضًا تخريجًا له في 3/ 55، 58 - 65.

وكذا صنع المصنف رحمه الله في "البدر المنير" 2/ 524 - 543 ومال أيضًا لتصحيحه.

وقال الحافظ في "التلخيص" 1/ 137: حديث أبي هريرة بكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسنًا.

وذكر الألباني طرق الحديث وصححه، انظر:"الإرواء"(144)، "الثمر المستطاب" 1/ 12 - 13، "تمام المنة" ص (112)، "أحكام الجنانز" ص 71.

(1)

قلت: وضعفه غير واحد من أهل العلم، فضعف أبو حاتم حديث حذيفة كما في "العلل" 1/ 354 (1046). وأعل الدارقطني حديث أبي هريرة في "العلل" 9/ 293 - 294. وقال الترمذي: قال البخاري: إن أحمد بن حنبل وعلي بن عبد الله قالا: لا يصح في هذا الباب شيء.

وقال البخاري: وحديث عائشة في هذا الباب ليس بذاك.

"العلل الكبير" 1/ 402 - 403.

وضعف الدارقطني في "السنن" 1/ 300 - 303 حديث عائشة وأبي هريرة. =

ص: 446

حاله في تخريجي لأحاديمث الرافعي، ولو ثبت لحمل عَلَى الاستحباب

(1)

.

قال مالك في "العتبية": أدركت الناس عَلَى أن غاسل الميت يغتسل واستحبه ابن القاسم وأشهب.

وقال ابن حبيب: لا غسل عليه ولا وضوء

(2)

.

وللشا فعي قولان: الجديد: هذا والقديم: الوجوب

(3)

. وبالغسل قال ابن المسيب وابن سيرين والزهري كما حكاه ابن المنذر.

وقال الخطابي: لا اعلم أحدًا قال بوجوب الغسل منه

(4)

.

وأوجب أحمد وإسحاق الوضوء منه

(5)

.

قلت: وبعدمه قال ابن مسعود وسعد وابن عمر وابن عباس وجابر

(6)

، ومن التابعين: القاسم وسالم والنخعي والحسن

(7)

، وهو قول المذاهب الثلاثة خلا مالكًا، قال ابن القاسم: روي عنه الغسل قال: وعليه أدركت الناس

(8)

. قال: ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت

= وأعل عبد الحق في "أحكامه" 2/ 151 حديث أبي هريرة. وكذا ابن الجوزي في "العلل المتناهية" مضيفًا إليه حديثي حذيفة وعائشة (622 - 630).

وضعف النووي حديث أبي هريرة في "المجموع" 5/ 143 - 144. وقال في "شرح مسلم" 7/ 6: حديث ضعيف بالاتفاق.

وقال الحافظ في "الفتح" 3/ 127: قال الذهلي فيما حكاه الحاكم في "تاريخه": ليس فيمن غسل ميتًا فليغتسل حديث ثابت.

(1)

"البدر المنير" 2/ 524 - 543. وانظر: 4/ 657.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 546.

(3)

انظر: "المجموع" 5/ 144.

(4)

"معالم السنن" 1/ 267.

(5)

انظر: "المغني" 1/ 256.

(6)

رواه عنهم ابن أبي شيبة 2/ 469 (11134 - 11140).

(7)

رواه ابن أبي شيبة (11145 - 11146) عن إبراهيم النخعي والشعبي.

(8)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 546.

ص: 447

عميس لما غسلت أبا بكر، سألت من حضر من المهاجرين والأنصار هل عليها غسل قالوا: لا

(1)

.

ولعل الوجه في استحباب ذَلِكَ مبالغة الغاسل في غسله وينشط والوضوء لأجل الصلاة عليه ومما يدل عَلَى طهارة الميت مع ما سلف صلاة الشارع عَلَى سهيل ابن بيضاء وأخيه في المسجد

(2)

إذ لو كان نجسًا لما أدخله فيه وفي ما نشف به خلافًا لابن عبد الحكم وسحنون

(3)

والمختار: المنع.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ("اغسلنها") هو أمر، وظاهره الوجوب، وهو مذهبنا، والأصح عند المالكية، وقال النووي: إنه إجماع المسلمين

(4)

.

وقوله: ("اغسلنها ثلاثا أو خمسا") يقتضي مراعاة الوتر في غسلها وهو كذلك فيستحب التكرار وترا ثلاثًا فأكثر فإن لم يحصل الإنقاء زيد.

وقال ابن حزم: الثلاث فرض

(5)

. وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا قال بمجاوزة السبع

(6)

. وقال الماوردي: أكثره سبع، وما زاد سرف

(7)

.

(1)

رواه الإمام مالك في "الموطأ" 1/ 223، وعنه عبد الرزاق 3/ 410 (6123) عن عبد الله بن أبي بكر: أن أسماء بنت عميس .. الحديث. قال العلامة الألباني: قصة أن أسماء بنت عميس غسلت زوجها ليست صحيحة؛ لانقطاعها.

وعبد الله بن أبي بكر هذا ليس هو ابن أبي بكر الصديق كما قد يتوهم، بل هو عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وهو ثقة إمام من شيوخ مالك، ولكنه لم يدرك أسماء. اهـ "تمام المنة" ص 121 - 122 بتصرف.

(2)

رواه مسلم (973) كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على الجنازة في المسجد.

(3)

انظر: "المنتقى" 2/ 5.

(4)

انظر: "المنتقى" 2/ 3، "المجموع" 5/ 112.

(5)

"المحلى" 5/ 113.

(6)

"التمهيد" 6/ 191.

(7)

"الحاوي الكبير" 3/ 11.

ص: 448

وقال أبو حنيفة: إِذَا غسل ثلاثًا كان وترًا فإذا زاد على ذَلِكَ لم يراع الوتر

(1)

.

والحديث حجة عليه، قال النخعي: غسل الميت وتر، وتجميره وتر، وتكفينه وتر

(2)

.

فرع: يوضع عَلَى سريره عرضًا كالقبر فيما قاله أبو حنيفة عَلَى شقه الأيمن، وقيل: يوضع كما تيسر باعتبار ضيق المكان وسعته، وعند غيرهم: مستقبل القبلة، كما في صلاة المريض بالإيماء.

فرع: أقله استيعاب بدنه بالماء ولا تجب نية الغاسل عندنا عَلَى الأصح، والوتر ندب كما سلف.

فرع: ويوضأ عندنا كما ترجم له وهو المشهور عند المالكية

(3)

قالوا: وفي تكراره بتكرر الغسل قولان، وفي كونه تعبدًا أو للنظافة قولان، وعليهما اخُتلف في غسل الذمي واختلف في وجوب غسله بالمطهر مرة دون سدر وكافور وغيرهما، وفي كراهة غسله بماء زمزم قولان لهم، إلا أن يكون فيه نجاسة

(4)

.

فرع: لو خرج بعد الغسل منه شيء وجب إزالته فقط، وإليه ذهب المزني وأكثر أصحاب مالك، وقيل: مع الغسل إن خرج من الفرج وقبل الوضوء، وقال ابن القاسم: إن وضّئ فحسن، وإنما هو الغسل.

وقال أحمد: يعاد غسله إلى سبع ولا يزاد عليها، فإن خرج منه شيء

(1)

انظر: "المنتقى" 2/ 3.

(2)

روى ذلك عنه ابن أبي شيبة 2/ 450 (10905) و 2/ 464 (11070) و 2/ 467 (11113).

(3)

انظر: "المنتقى" 2/ 5، "النوادر والزيادات" 1/ 543، "المجموع" 5/ 144.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 544 - 545.

ص: 449

بعد ما كفن رفع، ولا يلتفت إلى ذَلِكَ، وهو قول إسحاق

(1)

. وقوله: "بماء وسدر" هو السنة في ذَلِكَ.

والخطمي مثله فإن عدم فما يقوم مفامه كالأشنان والنطرون ذكره ابن التين، ولا معنى لطرح ورق السدر في الماء كما تفعل العامة، وأنكرها أحمد ولم تعجبه

(2)

ومثله من قال: يحك الميت بالسدر ويصب عليه الماء فتحصل طهارته بالماء وحده، والجمهور عَلَى أن الغسلة الأولى: تكون بالماء، والثانية: بالسدر معه، والثالثة: بماء فيه كافور، وعن ابن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية فيغسل بالماء والسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور

(3)

.

ومنهم من ذهب إلى أن الغسلات كلها بالماء والسدر وهو قول أحمد

(4)

مستدلًا بهذا الحديث، وغيره من الأحاديث، ولما غسلوه صلى الله عليه وسلم غسلوه بماء وسدر ثلاث غسلات كلهن بهما، ذكره أبو عمر قال: ومنهم من يجعل الأولى بهما والثانية بالماء القراح والثالثة بالكافور

(5)

.

وأعلم التابعين بالغسل ابن سيرين ثمَّ أيوب بعده، وعندنا: الأولى بماء وسدر، والثانية: بالماء القراح بعد زواله، وهذِه أول الثلاث وغسلة السدر لا نحسب منها عَلَى الأصح، ويستحب عندنا أن يجعل في كل غسلة قليل كافور.

(1)

انظر: "المغني" 3/ 380 - 381.

(2)

انظر: "المغني" 3/ 379.

(3)

رواه عنه البيهقي 3/ 389، كتاب: الجنائز، باب: ما يغسل به الميت وسنة التكرار في غسله.

(4)

انظر: "المغني" 3/ 379.

(5)

"التمهيد" 1/ 375.

ص: 450

وقوله: ("واجعلن في الأخيرة كافورًا أو شيئًا من كافور") هو آكد، والحكمة في الكافور أن الجسم يتصلب به وينفر الهوام من رائحته، وفيه إكرام الملائكة، وخصه صاحب "المهذب" بالثالثة

(1)

، والجرجاني بالثانية وهما غريبان

(2)

، وانفرد أبو حنيفة فقال: لا يستحب الكافور، والسنة قاضية عليه

(3)

.

والحقو -بكسر الحاء وفتحها- والفتح أعرف وهو الإزار، وسمي حقوًا؛ لأنه يشد عليه وهو الخصر. وذكر في باب: هل تكفن المرأة في إزار الرجل؟ فنزع من حقوه إزاره

(4)

. وهو صحيح أيضًا سمي الحقو موضع عقد الإزار.

ومعنى: ("أشعرنها") اجعلنه شعارا لها، والشعار: ما يلي الجسد والدثار ما فوقه

(5)

؛ سمي شعارًا؛ لأنه يلي الجسد، والحكمة في إشعاره به تبركًا بآثاره الشريفة. ففيه التبرك بآثار الصالحين ولباسهم

(6)

.

(1)

"المهذب" للشيرازي 1/ 421.

(2)

انظر: "المجموع" 5/ 135، 136.

(3)

ذكر هذا القول العيني في "العمدة" 1/ 399 عن المصنف رحمه الله وتعقبه قائلًا: لم يقل أبو حنيفة هذا أصلًا.

وقال في "البناية" 3/ 216: ثم في الثالثة يجعل الكافور في الماء.

وما قاله العيني نص عليه الطحاوي في "مختصره" ص 40 - 41، والكاساني في "بدائع الصنائع" 1/ 301، وأبو المعالي البخاري في "المحيط البرهاني" 3/ 47، وابن الهمام في "فتح القدير" 2/ 105، وإبراهيم الحلبي في "منية المصلي" ص 337.

(4)

يأتي برقم (1257).

(5)

من هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث فتح حنين المروي من حديث عبد الله بن يزيد، قال صلى الله عليه وسلم:"الأنصار شعار والناس دثار". رواه مسلم (1061).

(6)

تبع المصنف رحمه الله على هذا القول الحافظ ابن حجر في "الفتح" 3/ 129 - 130، وكذا العيني في "العمدة" 6/ 399 فقال: هو أصل في التبرك بآثار الصالحين. وفيه نظر. =

ص: 451

واختلف في صفة إشعارها إياه فقيل: يجعل لها مئزرًا، وقيل، تلف فيه، وقد يستدل به عَلَى أن النساء أحق بغسل المرأة من الزوج، وبه قال الحسن والثوري والشعبي وأبو حنيفة

(1)

، والجمهور على خلافه فإنه أحق منهم الثلاثة والأوزاعي وإسحاق

(2)

. قَدْ أوصت فاطمة زوجها عليًّا بذلك وكان بحضرة الصحابة ولم ينكر

(3)

، فصار إجماعًا

(4)

.

= قال العلامة ابن بازرحمه الله: التبرك بآثار الصالحين غير جائز، وإنما يجوز ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة لما جعل الله في جسده وما ماسه من البركة، وأما غيره فلا يقاس عليه لوجهين:

أحدهما: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

الثاني: أن فعل ذلك مع غيره صلى الله عليه وسلم من وسائل الشرك فوجب منعه. والله أعلم. اهـ.

من تعليقاته على "فتح الباري" 3/ 130.

(1)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 176.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 549، "المجموع" 5/ 115، 122، "المغني" 3/ 461 - 462.

(3)

رواه الشافعي في "المسند" 1/ 206 (571)، وعبد الرزاق في "المصنف" 3/ 409 - 410 (6122)، والدارقطني 2/ 79، والحاكم 3/ 163 - 164، والبيهقي في "السنن" 3/ 396 - 397، وفي "المعرفة" 5/ 231 - 232 (7357، 7359، 7361) من طرق عن أسماء بنت عميس أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصت أن تغسلها إذا ماتت هي وعلي، فغسلتها هي وعلي رضي الله عنه.

قال ابن الأثير في "الشافي" 2/ 389: روي الحديث من وجوه عدة متفقة على أن عليًّا -كرم الله وجهه- غسلها، وإنما اختلفت في أنها وصته وبعضهم لم يذكر الوصية في حديثه. ونقل ابن الجوزي في "التحقيق" 2/ 6 عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث.

وقال الذهبي في "المهذب" 3/ 1328 - 1329 (5913): الحديث فيه انقطاع.

والحديث عزاه الألباني في "الإرواء"(701) للحاكم والبيهقي، وحسنه ونقل المصنف في "البدر المنير" 5/ 375 - 376 عن البيهقي، وكذا الحافظ في "التلخيص" 2/ 143 اعتراضًا على الحديث ثم توجيهًا له، فليرجع إليهما.

(4)

انظر: "التمهيد" 1/ 380 - 381.

ص: 452

وأجمعوا عَلَى أنها تغسل زوجها؛ لأنها في عدته

(1)

.

وفي أمره صلى الله عليه وسلم باستعمال الكافور دليل عَلَى جواز استعمال المسك وكل ما جانسه من الطيب، وأجاز المسك أكثر العلماء، وأمر علي به في حنوطه وقال: هو من فضل حنوطه صلى الله عليه وسلم

(2)

. واستعمله أنس وابن عمر وسعيد بن المسيب

(3)

، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق

(4)

، وكرهه عمر وعطاء والحسن ومجاهد.

وقال الحسن وعطاء: إنه ميتة

(5)

.

وفي استعمال الشارع لَهُ في حنوطه حجة عَلَى من كرهه.

وقال أشهب: إن عدم الكافور وعظمت مؤنته طيب الميت بغيره وترك

(6)

.

فرع: في طهارة ميتة الآدمي خلاف مشهور: مذهب الشافعي طهارته

(7)

، وفيه قولان في مذهب مالك، وقال ابن القصار: ليس لمالك نص وقد رأيت لبعض أصحابه أنه طاهر، وهو الصواب.

(1)

نقل هذا الإجماع ابن المنذر في "إجماعه"(97)، وأبو الحكم البلوطي في "الأنباه" كما في "الإقناع" لابن القطان 2/ 581 (10255)، وابن عبد البر في "التمهيد" 1/ 380، وفي "الاستذكار" 8/ 198.

(2)

رواه عنه ابن أبي شيبة 2/ 461 (11036)، كتاب: الجنائز، باب: في المسك في الحنوط من رخص فيه.

(3)

"المصنف" 2/ 460 - 461 (11031 - 11034، 11038).

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 555، "المجموع" 5/ 159، "المغني" 3/ 388، 389.

(5)

رواه عنهم ابن أبي شيبة 2/ 461 (11039، 11041 - 11043).

(6)

انظر: "المنتقى" 2/ 4.

(7)

انظر: "المجموع" 1/ 183، 286، 5/ 146.

ص: 453

قُلْتُ: وقول ابن عباس شاهد لَهُ، وقد سلف.

وقوله: ("أو أكثر من ذَلِكَ إن رأيتن ذَلِكَ") عَلَى معنى تفويض هذا الأمر إلى الغاسل واجتهاده. وقد قال ابن سيرين معنى ذَلِكَ: الأمر بالغسل ثلاثًا وإن خرج منه شيء فسبعًا. وقيل: إن رأيتن الزيادة عند الحاجة.

والكاف من ذَلِك مكسورة؛ لأنه لمؤنث

(1)

.

وقوله: ("فإذا فرغتن فآذنني") أي: أعلمنني يريد من غسلها، ويروى أنه فعل ذَلِكَ؛ ليقرب عهد الحقو بجسمه ويكون نقله منه إليها رجاء الخير لها في ذَلِكَ.

(1)

كذا ضبطت في اليونينية 2/ 73 فضبطت بالوجهين بالفتح والكسر.

ص: 454

‌9 - باب مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُغْسَلَ وِتْرًا

1254 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي". فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ:"أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ".

فَقَالَ أَيُّوبُ: وَحَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ:"اغْسِلْنَهَا وِتْرًا". وَكَانَ فِيهِ: "ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا". وَكَانَ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: "ابْدَءُواَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا". وَكَانَ فِيهِ أَنَّ أُمَّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: وَمَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ. [انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح: 3/ 130]

ذكر فيه حديث أمِ عطية السالف في الباب قبله بزيادة: "اغْسِلْنَهَا وِتْرًا" وكان فيه: "ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا" وكان فيه أنه قال: "ابدأنَّ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا" وكان فيه أن أم عطية قالت: وَمَشَطْنَاهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ.

وشيخه فيه محمد وهو: ابن سلام، كما نسبه ابن السكن

(1)

.

(1)

نقله الجياني في "تقييد المهمل" 3/ 1020 - 1021 عن ابن السكن، وقال: وقد صرح البخاري باسمه في الأضاحي [حديث (5550)] وغير موضع، فقال: حدثنا محمد بن سلام، نا عبد الوهاب.

وقال الحافظ في "الفتح" 3/ 130: محمد شيخه لم ينسب في أكثر الروايات، ووقع عند الأصيلي: حدثنا محمد بن المثنى.

وقال نحو هذا الكلام في "هدي الساري" ص 238.

وجزم زكريا الأنصاري في "المنحة" بأنه ابن المثنى، قال: كما في مسلم.

قلت: حديث مسلم (939/ 36 - 43) ليس فيه عن محمد بن المثنى، والله أعلم.

ص: 455

وفقه الباب سلف في الباب قبله، ومعنى أمره بالوتر: ليستشعر المؤمن في أفعاله بالوحدانية، كما قال صلى الله عليه وسلم لسعد حين رآه يشير بإصبعين في دعائه:"أحِّدْ أحِّدْ"

(1)

وإنما أمر بالبداءة باليمين؛ لأنه كان يحب التيمن في شأنه كله أي: في التنظفات

(2)

.

وقوله: ("مواضع الوضوء منها") معناه عند مالك أن يبدأ بها عند الغسل الذي هو محض العبادة في غسل الجسد من أذى وهو المستحب.

وقال أبو حنيفة: لا يوضأ الميت. وقد سلف الخلاف فيه في الباب قبله.

وقولها: (ومشطنا رأسها ثلاثة قرون) أي: ثلاثة ضفائر ضفيرتين وناصيتها كما جاء مبينا في رواية أخرى

(3)

. وبه قال الشافعي وأحمد إسحاق وابن حبيب

(4)

، وقال الأوزاعي والكوفيون: لا يستحب المشط ولا الضفر بل يرسل الشعر عَلَى جانبيها مفرقًا

(5)

. ولم يعرف ابن القاسم الضفر بل قال: يلف

(6)

. وقيل تجعل الثلاث خلفها وهو

(1)

رواه أبو داود (1499)، والنسائي 3/ 38، وأحمد 2/ 420، وأبو يعلى 2/ 123 (793)، والحاكم 1/ 536، والضياء في "المختارة" 3/ 149 (947) من طريق الأعمش عن أبي صالح، عن سعد.

وفي الباب عن أبي هريرة وبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وأشار الدارقطني لصحة حديث سعد في "العلل" 4/ 397.

وقال الحاكم: حديث صحيح على شرطهما، إن كان أبو صالح سمع من سعد.

وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1344) قال: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

(2)

من ذلك ما سلف برقم (168) عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله. ورواه مسلم (268).

(3)

تأتي هذِه الرواية برقم (1262) باب: يجعل شعر المرأة ثلاثة قرون.

(4)

"الأم" 1/ 235، "المغني" 3/ 393، "المنتقى" 2/ 6.

(5)

انظر: "المغني" 3/ 393.

(6)

انظر: "المنتقى" 2/ 6.

ص: 456

السنة كما سيأتي، وادعى من منع بأنه لم يطلع الشارع عليه وهو غلط منه ففي صحيح ابن حبان:"واجعلن لها ثلاثة قرون"

(1)

.

ووقع في كلام ابن بطال: إنه لا يحفظ ذكر السبع في حديث أم عطية إلا من رواية حفصة بنت سيرين عنها ولم يرو ذَلِكَ محمد بن سيرين، عن أم عطية إلا أنه روى هذِه الألفاظ عن أخته، عن أم عطية، وروى سائره عن أم عطية، ولا يضره ذَلِكَ، وإنما ذكره بناء عَلَى مذهبه يكرر إلى السبع وإن لم يحصل الإنقاء زيد

(2)

.

(1)

"صحيح ابن حبان" 7/ 304 - 305 (3033) كتاب: الجنائز، باب: فصل في الغسل.

(2)

"شرح ابن بطال" 3/ 253.

ص: 457

‌10 - باب يُبْدَأُ بِمَيَامِنِ المَيِّتِ

1255 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا". [انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح: 3/ 130]

ذكر فيه حديث أم عطية أيضًا: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا". وقد عرفت حكمه في الباب قبله، ومواضع الوضوء أفضل الميامن وفضلت؛ لأنها موضع الغرة والتحجيل، قال ابن سيرين: يبدأ بها ثمَّ بالميامن

(1)

.

وقال أبو قلابة: يبدأ بالرأس واللحية ثمَّ الميامن

(2)

.

(1)

رواه عنه ابن أبي شيبة 2/ 449 (10893) كتاب: الجنائز، باب: ما أول ما يبدأ به من غسل الميت.

(2)

رواه عنه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 397 - 398 (6077) كتاب: الجنائز، باب: غسل الميت.

ص: 458

‌11 - باب مَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنَ المَيِّتِ

1256 -

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَالِدٍ الحَذَّاءِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا غَسَّلْنَا بِنْتَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَنَا وَنَحْنُ نَغْسِلُهَا: "ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ". [انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح: 3/ 131]

ذكر فيه حديث أم عطية المذكور، وقد علمته.

ص: 459

‌12 - باب هَلْ تُكَفَّنُ المَرْأَةُ فِي إِزَارِ الرَّجُلِ

؟

1257 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمَّادٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَنَا:"اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي". فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَنَزَعَ مِنْ حِقْوِهِ إِزَارَهُ وَقَالَ:"أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ". [انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح: 3/ 131]

ذكر فيه حديثها أيضًا، ولا خلاف بين العلماء أنه يجوز أن تكفن المرأة في ثوب الرجل وعكسه.

قال ابن المنذر: وأكثر العلماء يرى أنها تكفن في خمسة أثواب.

قال ابن القاسم: الوتر أحب إلى مالك في الكفن، وإن لم يوجد إلا ثوبان لفت فيهما

(1)

.

وقال أشهب: لا بأس بالإكفان في ثوب الرجل والمرأة.

وقال ابن شعبان: المرأة في عدد الأكفان أكثر من الرجل وأقله لها خمسة، وقال أبو حنيفة وجماعة: أدنى ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسنة فيها خمسة

(2)

.

وقال ابن المنذر: درع وخمار ولفافتان: لفافة تحت الدرع تلف بها، وأخرى فوقه، وثوب لطيف يشد عَلَى وسطها يجمع ثيابها.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 558.

(2)

انظر: "الفتاوى التاتارخانية" 2/ 145.

ص: 460

‌13 - باب يَجْعَلُ الكَافُورَ فِي آخِرِهِ

1258 -

حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي". قَالَتْ: فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ فَقَالَ:"أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ".

وَعَنْ أيُّوبَ، عَنْ حفْصَةَ، أمَّ عَطِيَّةَ رضي الله عنه بنَحوِهِ. [انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح: 3/ 131]

1259 -

وَقَالَتْ: إِنَّهُ قَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ". قَالَتْ حَفْصَةُ: قَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها: وَجَعَلْنَا رَأْسَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ. [انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح: 3/ 132]

ذكر فيه حديث أم عطية أيضا.

ص: 461

‌14 - باب نَقْضِ شَعَرِ المَرْأَةِ

وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُنْقَضَ شَعَرُ المَيِّتِ.

1260 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَيُّوبُ: وَسَمِعْتُ حَفْصَةَ بِنْتَ سِيرِينَ قَالَتْ: حَدَّثَتْنَا أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها أَنَّهُنَّ جَعَلْنَ رَأْسَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ قُرُونٍ نَقَضْنَهُ، ثُمَّ غَسَلْنَهُ، ثُمَّ جَعَلْنَهُ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ. [انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح:3/ 132]

ثم ذكر حديث أم عطية وفيه: ثلاثة قرون نقضنه ثمَّ غسلنه ثمَّ جعلنه ثلاثةَ قرونٍ.

وأثر ابن سيرين رواه ابن أبي شيبة عن حفص حدثنا أشعث عن محمد أنه كان يقول: إِذَا غُسِّلَت المرأة ذُئِبَ شعرها ثلاثة ذوائب ثمَّ جعل خلفها

(1)

.

والبخاري روى حديث أم عطية عن أحمد، ثنا ابن وهب وهو أحمد بن صالح المصري فيما نسبه ابن السكن

(2)

. وقيل: أحمد بن عيسى التستري حكاه الجياني

(3)

.

(1)

"المصنف" 2/ 457 (10992).

ورواه سعيد بن منصور كما في "التغليق" 2/ 462: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، ثنا ابن عون عن محمد بن سيرين.

(2)

حكاه عنه الجياني في "تقييد المهمل" 3/ 943.

(3)

"تقييد المهمل" 3/ 944.

وقال الحافظ في "الفتح" 3/ 132: قوله: حدثنا أحمد، كذا للأكثر غير منسوب، ونسبه أبو علي بن شبويه عن الفربري: أحمد بن صالح. وجزم زكريا الأنصاري في "المنحة" 3/ 330 بأنه ابن صالح.

ص: 462

ومعنى نقضُ شعر المرأة؛ لكي يبلغ الماء البشرة ويعم الغسل جميع جسدها ويضفر شعرها بعده أحسن من استرساله وانتشاره؛ لأن التضفير يجمعه ويضمه.

وأفاد العيني فنقل ما قاله المصنف رحمه الله ثم قال: قال ابن مسنده الأصفهاني: كلما قال البخاري في "الجامع": حدثنا أحمد عن ابن وهب فهو ابن صالح المصري، وإذا حدث عن أحمد بن عيسى ذكره بنسبته.

"عمدة القاري" 6/ 404.

ص: 463

‌15 - باب كَيْفَ الإِشْعَارُ لِلْمَيِّتِ

؟

وَقَالَ الحَسَنُ: الخِرْقَةُ الخَامِسَةُ تَشُدُّ بِهَا الفَخِذَيْنِ وَالوَرِكَيْنِ تَحْتَ الدِّرْعِ.

1261 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ سِيرِينَ يَقُولُ: جَاءَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ مِنَ اللاَّتِي بَايَعْنَ، قَدِمَتِ البِصْرَةَ، تُبَادِرُ ابْنًا لَهَا فَلَمْ تُدْرِكْهُ- فَحَدَّثَتْنَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَغْسِلُ ابْنَتَهُ فَقَالَ: "اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي". قَالَتْ: فَلَمَّا فَرَغْنَا أَلْقَى إِلَيْنَا حَقْوَهُ فَقَالَ: "أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ". وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدْرِي أَيُّ بَنَاتِهِ. وَزَعَمَ أَنَّ الإِشْعَارَ: الفُفْنَهَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَأْمُرُ بِالمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلَا تُؤْزَرَ. [انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح: 3/ 133].

ثم ساق حديث أم عطية

(1)

، وفي آخره: وَلَا أَدْرِي أَيُّ بَنَاتِهِ. وَزَعَمَ أَنَّ الإِشْعَارَ: الفُفْنَهَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابن سِيرِينَ يَأُمُرُ بِالمَرْأَةِ أَنْ تُشْعَرَ وَلَا تُؤْزَرَ.

وقد أسلفنا أنها زينب، وفسر عطاء الأشعار باللف أيضًا، فإذا لفت فيه فما ولي جسمها منه فهو شعار لها، وما فضل منه، فتكرير لفه عليها أستر لها من أن تؤزر فيه مطلقًا دون أن يلف عليها ما فضل منه فلذلك فسر أن الإشعار أريد به لفها في الإزار، وكان ابن سيرين أعلم التابعين بعمل الموتى هو وأيوب بعده كما سلف.

(1)

تنبيه: أهمل البخاري رحمه الله ذكر نسب شيخه في هذا الموضع أيضًا، وقد تقدم الكلام عليه في الحديث السالف.

وجزم زكريا الأنصاري في هذا الموضع من "منحته" بأنه ابن صالح أيضًا، قال: كما في نسخة.

ص: 464

وقول الحسن السالف

(1)

حسن في غير الإزار الذي أعطاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه؛ لأنه أراد أن يعمها به، وابن سيرين أعلم بما روى بل إنه المفهوم من كلام الشارع. وقول الحسن: في الخامسة قاله ابن القاسم أن المرأة تزاد عَلَى ثلاثة أثواب مئزر وخمار لحاجتها إلى الستر

(2)

.

(1)

تعليق الحسن المذكور قبل حديث الباب هذا وصله ابن أبي شيبة في "مصنفه" 2/ 465 (11087): حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن قال: تكفن المرأة في خمسة أثواب: درع وخمار وحقو ولفافتين. ذكر ذلك الحافظ في "تغليق التعليق" 2/ 463.

وكذا عزاه في "الفتح" 3/ 133 فقال: قد وصله ابن أبي شيبة نحوه.

(2)

انظر: "المنتقى" 2/ 8.

ص: 465

‌16 - باب هَلْ يُجْعَلُ شَعَرُ المَرْأَةِ ثَلَاثَةَ قُرُونٍ

؟

1262 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أُمِّ الهُذَيْلِ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: ضَفَرْنَا شَعَرَ بِنْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. تَعْنِي ثَلَاثَةَ قُرُونٍ. وَقَالَ وَكِيعٌ: قَالَ سُفْيَانُ: نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا. [انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح: 3/ 133]

ذكر فيه حديث أم عطية أيضًا: ضَفَرْنَا شَعَرَ بِنْتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. تَعْنِي ثَلَاثَةَ قُرُونٍ. وَقال وَكيعٌ: قال سُفْيَانُ: نَاصِيَتَهَا وَقَرْنَيْهَا. وقد سلف ما فيه.

وقوله: وقال وكيع. رواه الإسماعيلي من حديث عبد الله بن عمرو عنه به

(1)

، ورواه من حديث البخاري عن سفيان وقبيصة عن سفيان، ورواه الفريابي عن سفيان.

(1)

رواه الإسماعيلي في "المستخرج" كما في "التغليق" 2/ 463: حدثنا محمد بن علوية، ثنا عمرو بن عبد الله، ثنا وكيع، عن سفيان، عن هشام، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: لما غسلنا ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ضفرنا شعرها ثلاثة قرون ناصيتها وقرنيا ثم ألقينها خلفها.

ثم قال: حفصة بنت سيرين هي أم الهذيل.

تنبيه: ذكر المصنف رحمه الله أن الحديث رواه الإسماعيلي من حديث عبد الله ابن عمرو عن وكيع، والذي وقع في "المستخرج" كما نقله الحافظ: عمرو بن عبد الله.

والصواب ما وقع في "التغليق"؛ ففي ترجمة وكيع من "التهذيب" 3/ 469 ذكر المزي في الرواة عنه: عمرو بن عبد الله الأودي، وليس فيهم من يسمى عبد الله بن عمرو. والله أعلم.

ص: 466

‌17 - باب يُلْقَى شَعَرُ المَرْأَةِ خَلْفَهَا

1263 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَتْنَا حَفْصَةُ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"اغْسِلْنَهَا بِالسِّدْرِ وِتْرًا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ، فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي". فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ، فَضَفَرْنَا شَعَرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا.

[انظر: 167 - مسلم: 939 - فتح: 3/ 134]

ذكر فيه حديث أم عطية أيضًا وفيه: فَضَفَرْنَا شَعَرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا. يعني: تحت الثياب قبل أن يجعل عليها شيء من الثياب، وقد سلفت الإشارة إلى هذا وأنه السنة.

ص: 467

‌18 - باب الثِّيَابِ البِيضِ لِلْكَفَنِ

1264 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ [بنُ المبَارَكِ]، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. [1271، 1272، 1273، 1387 - مسلم: 941 - فتح: 3/ 135]

ذكر فيه حديث عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلم كُفِّن فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُوليَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ.

هذا الحديث أخرجه مسلم والأربعة

(1)

، وترجم لَهُ البخاري أيضًا: الكفن بغير قميص

(2)

، والكفن بغير عمامة

(3)

، وهو أصح الروايات في كفنه، والحلة اشتريت ليكفن فيها فلم يكفن فيها، كما أخرجه مسلم

(4)

.

ولأبي داود: كفن في ثوبين وبردة حبرة. قالت عائشة: أتوا بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه

(5)

.

وفي الترمذي: كفن في ثلاثة أثواب: حُلَّة نجرانية وقميصه الذي مات فيه

(6)

.

(1)

مسلم (941)، وأبو داود (3151)، والترمذي (699)، والنسائي 4/ 35، وابن ماجه (1469).

(2)

يأتي برقم (1271 - 1272).

(3)

يأتي برقم (1273).

(4)

مسلم (941).

(5)

"سنن أبي داود"(3152) كتاب: الجنائز، باب: في الكفن.

(6)

لم أقف عليه في "جامع الترمذي"، ولما طرَّفه المزي في "التحفة" 5/ 250 (6496) قصر عزوه على أبي داود وابن ماجه.

والحديث ذكره المصنف رحمه الله في "الإعلام" 4/ 417، وخرجه في "البدر المنير" 5/ 213 وقصر عزوه في المصدرين على أحمد في "المسند" وأبي داود =

ص: 468

وفي ابن ماجه: في ثلاث رياط بيض سحولية

(1)

.

ولابن سعد عن الشعبي: برد يمانية غلاظ: إزار ورداء ولفافة

(2)

.

وروى علي: في سبعة، ولا يصح

(3)

.

= وابن ماجه، ولم يعزه للترمذي.

والحديث رواه أبو داود (3153) وابن ماجه (1471) وأحمد 1/ 222، والطبراني 11/ 404 - 405 (12146)، والبيهقي 3/ 400 من طريق عبد الله بن إدريس عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب نجرانية، الحلة ثوبان وقميصه الذي مات فيه.

والحديث ضعفه النووي في "شرح مسلم" 7/ 8، وفي "خلاصة الأحكام" 2/ 95 (3375)، والذهبي في "المهذب" 3/ 1332 (5930)، والمصنف في "الإعلام" 4/ 417، وفي "البدر المنير" 5/ 213. والحافظ في "التلخيص" 2/ 108، وفي "الدارية" 1/ 230، والشوكاني في "النيل" 2/ 701. والألباني في "ضعيف ابن ماجه"(318).

(1)

ابن ماجه (1470) من حديث عبد الله بن عمر.

وحسن البوصيري إسناده في "الزوائد"(490)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1200) بحديث عائشة.

(2)

"الطبقات الكبرى" 2/ 285.

(3)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 2/ 287، وأحمد 1/ 94، 102، والبزار في "البحر الزخار" 2/ 245 (646)، وابن حبان في "المجروحين" 2/ 3، وابن عدي 9/ 205، والضياء في "المختارة" 2/ 351 (733) من طريق حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي ابن الحنفية، عن أبيه علي.

قال ابن حبان: عبد الله بن محمد بن عقيل سيء الحفظ.

والحديث ضعفه ابن حزم في "المحلى" 5/ 118 - 119. وابن الجوزي في "العلل" 2/ 415. وأعله ابن طاهر في "التذكرة" بابن عقيل كما نقله المصنف عنه في "البدر المنير" 5/ 215. وكذا أعله الحافظ في "التلخيص" 2/ 108.

وقال المصنف في "البدر" 5/ 215 والألباني في "أحكام الجنائز" ص 85: حديث منكر.

ص: 469

وللبزار: ثلاثة سحولية وقميصه وعمامته وسراويله والقطيفة التي جعلت تحته.

ويمانية بتخفيف الياء عَلَى الفصيح، وسحولية بفتح السين عَلَى الأكثر أي بيض، وقال الأزهري: بالفتح مدينة وبالضم الثياب

(1)

، وحكى ابن الأثير الضم في القرية

(2)

.

والكرسف: القطن. والتكفين واجب بالإجماع

(3)

، وأبعد من قال: إنه سنة. ومحله أصل التركة ويقدم عليه ما تعلق بالعين كالجاني والمرهون وغيرهما

(4)

. وانفرد خلاس بن عمر، فقال: إنه من ثلث التركة

(5)

، وقال طاوس: إن كان المال قليلًا فمن الثلث وإلا فمن رأس المال

(6)

، فإن كفن في واحد فهو الواجب. قال أبو حنيفة: ويكون مسيئًا والأفضل ثلاثة: وأجمعوا- كما قال أبو عمر أنه لا يكفن في ثوب يصف ما تحته

(7)

.

وروي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم زر قميصه الذي كفن فيه. قال ابن سيرين: وأنا زررت عَلَى أبي هريرة. قال ابن عون: وأنا زررت عَلَى ابن سيرين. قال حماد: وأنا زررت عَلَى ابن عون

(8)

.

(1)

"تهذيب اللغة" 2/ 1645.

(2)

"النهاية" 2/ 347.

(3)

نقله ابن حزم في "مراتب الإجماع" ص 61.

(4)

كأن تكون التركة شيئا مرهونا أو عبدا جانيا.

(5)

رواه عنه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 435 - 4365 (6225).

قال الحافظ في "الفتح" 3/ 141: قال ابن المنذر: إنها رواية شاذة.

(6)

رواه عبد الرزاق (6226). وراجع كلام ابن المنذر السالف نقله.

(7)

"الاستذكار" 8/ 216.

(8)

حديث رواه ابن عدي في "الكامل" 1/ 310، والخطيب في "تاريخ بغداد" 4/ 259 - 260. قال الخطيب: لا يصح رفعه. وقال المصنف في "البدر المنير" 5/ 212: حديث منكر.

ص: 470

وقوله: (ليس فيها قميص ولا عمامة). حمله الشافعي والجمهور عَلَى أنه ليس في الكفن موجودٌ فلا يستحب ذَلِكَ وهو تأويل البخاري فإنه ترجم عليه كما سيأتي: الكفن بغير قميص

(1)

، والكفن بغير عمامة

(2)

.

وحمله مالك وأبو حنيفة عَلَى أنه ليس معدودًا بل يحتمل أن يكون ثلاثة أثواب زيادة عليها ولا يكره عندنا التكفين فيهما عَلَى الأصح، وهما مباحان عند المالكية وكان جابر وعطاء لا يعممان الميت، وقال بهما ابن عمر. وأبعد بعضهم فقال المراد بقولها

(3)

: ليس فيها قميص أي: جديد، أو له دخاريص، أو الذي غسل فيه بل نزع عنه.

وفيه استحباب التكفين في الأبيض كما ترجم لَهُ، وهو إجماع، وقد

أمر به صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح في "جامع الترمذي" وغيره

(4)

والكفن في غيره جائز، ومن أطلق عليه الكراهية فمعناها خلاف الأولى ولو كانت

(1)

يأتي برقم (1271 - 1272).

(2)

يأتي برقم (1273).

(3)

في الأصل: بقوله.

(4)

الترمذي (994) من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا:"البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم".

ورواه أيضًا أبو داود (3878، 4061)، وابن ماجه (1472، 3566)، وأحمد 1/ 247، 274، 328، 355، 363، والبيهقي 3/ 245، 5/ 33.

والحديث صححه ابن حبان 12/ 242 (5423)، والحاكم 1/ 354 على شرط مسلم. وابن القطان في "بيانه" 2/ 180. والنووي في "المجموع" 7/ 224.

والمصنف رحمه الله هنا، وفي شرح حديث (5826) كما سيأتي، وفي "البدر المنير" 4/ 671. والألباني في "أحكام الجنائز" ص 82 على شرط مسلم، وصححه في "مختصر الشمائل" (54)، وفي "صحيح ابن ماجه" (1201).

ص: 471

كلها حبرة لم تكره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يلبسها في العيدين والجمعة، وتكره المصبغات وغيرها من ثياب الزينة.

وفي المعصفر قولان للمالكية: قالوا: ويكره السواد، قالوا: ويجوز بالوَرْس والزعفران.

وفي الحرير ثلاثة أقوال عندهم، ثالثها: يجوز للنساء دون الرجال

(1)

، وجره عامة العلماء التكفين فيه مطلقًا. قال ابن المنذر: ولا أحفظ خلافه.

فرع:

غسل صلى الله عليه وسلم في قميص، والظاهر أنه نزع؛ لئلا يصير شفعا؛ ولئلا يؤدي إلى بلاء الكفن.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 563 - 564.

ص: 472

‌19 - باب الكَفَنِ فِي ثَوْبَيْنِ

1265 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ -أَوْ قَالَ: فَأَوْقَصَتْهُ- قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا". [1266، 1267، 1268، 1839، 1849، 1850، 1851 - مسلم: 1206 - فتح: 3/ 135]

ذكر فيه حديث ابن عباس: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَوَقَصَتْهُ -أَوْ قال: فَأَوْقَصَتْهُ- قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ .. " الحديث.

وأخرجه مسلم أيضًا

(1)

. وترجم عليه باب: الحنوط للميت، ثمَّ ذكره ولفظه فأقصعته أو قال: فأقعصته، وفيه:"ولا تحنطوه"

(2)

ثمَّ ترجم عليه باب: كيف يكفن المحرم ثمَّ ذكره فيه من طريقين عن ابن عباس

(3)

، وهذا الرجل لا أعلمه ورد مسمى، وكان وقوعه عنها عند الصخرات موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قاله ابن حزم

(4)

.

وفيه: إطلاق الواقف عَلَى الراكب.

والراحلة: الناقة تطلق عَلَى الذكر والأنثى.

والوقص: كسر العنق، والظاهر أن:(أو) من الراوي عن ابن عباس وهما لغتان والثلاثي أفصح.

(1)

"صحيح مسلم"(1206) كتاب: الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات.

(2)

سيأتي برقم (1266).

(3)

يأتيا برقم (1267 - 1268).

(4)

انظر: "حجة الوداع" ص 120، 171.

ص: 473

والقعص: قتله لحينه، ومنه قعاص الغنم، والقصع: الشدخ وهو خاص بكسر العظم، وقد يستعار في كسر الرقبة عَلَى بعده.

وقوله: ("لا تحنطوه") هو بالحاء المهملة؛ أي: لا تمسوه حنوطًا، والحنوط والحناط أخلاط من طيب تجمع للميت خاصة لا تستعمل في غيره. وترجم لَهُ الحنوط

(1)

؛ لأن فيه: "ولا تحنطوه" للمحرم؛ فدل أنه إِذَا لم يكن محرمًا يحنط وهو مستحب عَلَى الأصح، وقيل: واجب وجزم ابن الحاجب استحبابه، ثمَّ قال: والكافور أولى

(2)

، وهو يفهم أنه غير الحنوط وهو أحد أجزاء الحنوط والتخمير التغطية.

وقوله: ("ولفوه في ثوبيه") إنما لم يزده ثالثًا؛ إكرامًا له كما في الشهيد لم يزد عَلَى ثيابه.

وقوله: ("فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا") معناه: عَلَى هيئته التي مات عليها؛ ليكون ذَلِكَ علامة لحجه، كالشهيد يأتي وأوداجه تشخب دمًا، وقال الداودي: يخرج من قبره فيأتي بما كان بقي عليه وهو غيرهن، وفي رواية أخرى:"ملبدًا"

(3)

. أي: عَلَى هيئته ملبدًا شعره بصمغ ونحوه، وفي أفراد مسلم:"ولا رأسه"

(4)

قال البيهقي: وذِكْر الوجه وَهَمٌ من بعض رواته في الإسناد، والمتن الصحيح:"لا تغطوا رأسه" كذا أخرجه البخاري، وذكر الوجه فيه غريب

(5)

.

(1)

الحديث التالي (1266).

(2)

"مختصر ابن الحاجب" ص 67.

(3)

رواه مسلم (1206/ 99) كتاب: الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات.

(4)

"صحيح مسلم"(1206/ 99) كتاب: الحج، باب: ما يفعل بالحرم إذا مات.

(5)

"السنن الكبرى" 3/ 393، كتاب: الجنائز، باب: المحرم يموت.

ص: 474

أما فوائده:

فالأولى: قال مالك وأبو حنيفة: لا أحب لأحد أن يكفن في أقل من ثلاثة أثواب، وإن كفن في ثوبين فحسن عَلَى ظاهر هذا الحديث: في ثوبيه.

الثانية: ظاهر الحديث بقاء حكم الإحرام بعد الموت، وبه قال عثمان، وعلي، وابن عباس، وعطاء، والثوري، وإسحاق، والشافعي، وأحمد، وأهل الظاهر فيحرم ستر رأسه وتطييبه ولم يقل به مالك ولا أبو حنيفة، وهو مذهب الحسن، والأوزاعي، وحكي عن عثمان، وعائشة، وابن عمر، وطاوس وهو مقتضى القياس؛ لأن بالموت انقطع التكليف

(1)

.

والشافعي قدم ظاهر الحديث عَلَى القياس، وأجيب عن الحديث بأنه خاص بذلك الرجل، ولذلك قال:"فإنه" وما قال: المحرم ولذلك لا يطاف به، ولا يكمل مناسكه ولأنه أمر بغسله بالسدر والمحرم ممنوع منه، كما حكاه ابن المنذر في "إشرافه" وهو غريب عنه.

وللشافعي أن يقول: العلة الإحرام وهي عامة في كل محرم، والأصل عدم الخصوص، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال:"يبعث المرء عَلَى ما مات عليه"

(2)

وهو عام في كل صورة ومعنى، والشهيد يأتي يوم القيامة ودمه شهيد، واعتذر الداودي فقال: لم يبلغ مالكًا هذا الحديث. فإن قُلْت: قَدْ غسل ابن عمر وابنه واقدًا بالجحفة وخمر رأسه ووجهه، وكفنه يوم مات وهو محرم، وقال: لولا أنه أحرم

(1)

انظر: "المجموع" 5/ 166، "المغني" 3/ 478.

(2)

رواه مسلم (2878/ 83) من حديث جابر.

ص: 475

لطيبناه. أخرجه في "الموطأ"

(1)

.

قلتُ: لعله لم تبلغه السنة، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن عطاء سُئِلَ عن المحرم يغطي رأسه إِذَا مات؟ [قال]

(2)

: غطّى ابن عمر وكشف غيره.

وقال طاوس: يغيب رأس المحرم إِذَا مات.

وقال الحسن: إِذَا مات المحرم فهو حلال، وكذا قاله علي وعائشة، وعامر

(3)

.

وقال أبو جعفر: المحرم يغطى رأسه ولا يكشف.

قال ابن حزم: وصح عن عائشة تحنيطه وتطييبه وتخمير رأسه. قال: وقد صح عن عثمان خلافه

(4)

.

الثالثة: فيه أن الكفن منَ رأس المال وقد سلف.

الرابعة: أن المحرم لا يكفن إلا في مثل لباسه غير مخيط.

الخامسة: أن للمحرم أن يبدل ثوبيه بثوبين غيرهما لرواية "وكفنوه في ثوبين"، وقد ذكرها البخاري كذلك من ثلاث طرق وإن كان في الرواية:"ثوبين".

السادسة: غسله بالسدر وأنه جائز للمحرم وفيه رد عَلَى مالك وأبي حنيفة وآخرين حيث منعوه.

السابعة: أن إحرام الرجل في الرأس دون الوجه ورواية الوجه، قد علمت ما فيها، وفي رواية للطرطوشي في كتاب "الحج" من حديث أبي الشعثاء عنه مرفوعًا:"لا تخمروا رأسه وخمروا وجهه"

(5)

.

(1)

"موطأ مالك" 1/ 415 (1048) كتاب: المناسك، باب: تخمير المحرم وجهه.

(2)

ليست بالأصل، والمثبت من "مصنف ابن أبي شيبة".

(3)

"المصنف" 3/ 290 (14428 - 14431).

(4)

"المحلى" 5/ 151.

(5)

روى الشافعي في "المسند" 1/ 205 (568)، ومن طريقه البيهقي 3/ 393 من =

ص: 476

الثامنة: أن الميت إِذَا مات محرمًا لا يكمل عليه غيره كالصلاة، وقد وقع أجره عَلَى الله.

التاسعة: فيه أن من شرع في طاعة ثمَّ حال بينه وبين إتمامها الموت فيرجى لَهُ أن الله تعالى يكتبه في الآخرة من أهل ذَلِكَ العمل، ويقبله منه إِذَا صحت النية، ويشهد لَهُ قوله تعالى:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} [النساء: 100] الآية.

العاشرة: الموت يبطل الصلاة وفي الصوم وجهان:

أصحهما: نعم كالصلاة.

والثاني: لا كالإحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: "أنت تفطر عندنا الليلة" رواه ابن حبان في "صحيحه"

(1)

، والحاكم في "مستدركه"، وقال: صحيح الإسناد

(2)

.

= طريق سفيان، عن إبراهيم بن أبي حرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه .. " الحديث.

والحديث حسن إسناده المصنف رحمه الله في "خلاصة البدر المنير" 2/ 31.

(1)

"صحيح ابن حبان" 15/ 357 - 361 (6919).

ورواه أيضًا إسحاق بن راهويه في "مسنده" كما في "المطالب العالية" 18/ 42 - 47 (4372)، والبزار في "البحر الزخار" 2/ 42 - 45 من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي نضرة عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري قال: سمع عثمان .. الحديث مطولًا.

قال البوصيري في "الإتحاف" 8/ 10، والحافظ في "المطالب" 18/ 47: رواته [وقال الحافظ: رجاله] ثقات سمع بعضهم من بعض.

وقال في "مختصر زوائد البزار" 2/ 169: إسناده صحيح؛ لأن أبا سعيد ثقة، والباقون من رجال الصحيح.

(2)

"المستدرك" 3/ 102 - 103 من حديث ابن عمر، مختصرًا.

ص: 477

فائدة:

قال ابن التين في كتاب الحج في قوله: "ولا تغطوا رأسه": دلالة عَلَى أن للإحرام تعلقًا بها، وكذلك الوجه، وبه قال ابن عمر ومالك، وغطى عثمان وجهه. قال: واختلف أصحابنا: هل ذَلِكَ عَلَى الكراهة أو التحريم؟ وقال أبو حنيفة: الوجه كالرأس. وقال الشافعي: لا تعلق له بالوجه.

ص: 478

‌20 - باب الحَنُوطِ لِلْمَيِّتِ

1266 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ إِذْ وَقَعَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَأَقْصَعَتْهُ -أَوْ قَالَ: فَأَقْعَصَتْهُ- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا". [انظر: 1265 - مسلم: 1206 - فتح: 3/ 136]

ص: 479

‌21 - باب كَيْفَ يُكَفَّنُ المُحْرِمُ

1267 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ -وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -وَهْوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُمِسُّوهُ طِيبًا، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّ اللهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّدًا". [انظر: 1265 - مسلم: 1206 - فتح: 3/ 137]

1268 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرٍو وَأَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: كَانَ رَجُلٌ وَاقِفٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ فَوَقَعَ عَنْ رَاحِلَتِهِ -قَالَ أَيُّوبُ: فَوَقَصَتْهُ، وَقَالَ عَمْرٌو: فَأَقْصَعَتْهُ- فَمَاتَ، فَقَالَ:"اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ" قَالَ أَيُّوبُ: "يُلَبِّي". وَقَالَ عَمْرٌو: "مُلَبِّيًا". [انظر: 1265 - مسلم: 1206 - فتح: 3/ 137].

ص: 480

‌22 - باب الكَفَنِ فِي القَمِيصِ الذِي يُكَفُّ أَوْ لَا يُكَفُّ، وَمَنْ كُفِّنَ بِغَيْرِ قَمِيصٍ

1269 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، وَصَلِّ عَلَيْهِ وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ فَقَالَ:"آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ". فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ: أَلَيْسَ اللهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى المُنَافِقِينَ؟! فَقَالَ: "أَنَا بَيْنَ خِيرَتَيْنِ، قَالَ:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]. [4670، 4672، 5796 - مسلم: 2400 - فتح: 3/ 138]

1270 -

حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ.

ذكر فيه حديث ابن عمر: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيِّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابنهُ إِلَي النَّبِيِّ رضي الله عنه فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ .. الحديث.

وحديث جابر: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا دُفِنَ فَأخْرَجَهُ، فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ.

الشرح:

هذِه الترجمة ضبطها الدمياطي بخطه (يُكَف) بضم أوله وفتح ثانيه، وقال في الحاشية: صوابه: الذي يكفي أو لا يكفي -بالياء- وليته اقتصر عَلَى الأول، وتبع في الثاني المهلب فإنه قال ذَلِكَ، قال: ومعناه طويلًا

ص: 481

كان ذَلِكَ القميص أو قصيرًا فإنه يجوز الكفن فيه، وكان عبد الله بن أبي طويلًا، ولذلك كسا العباس قميصه، وكان العباس بائن الطول.

وقال ابن التين: هكذا وقعت هذِه الترجمة فضبطها بعضهم بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الفاء، وبعضهم بإسكان الكاف وكسر الفاء، وقرأه بعضهم بضم الياء، والأول أشبه بالمعنى

(1)

، وفيهما دلالة عَلَى الكفن في القميص، وقد سلف ما فيه.

وأجاب المخالف بأنه صلى الله عليه وسلم إنما دفعه إليه للمكافأة؛ لأنه لما أتي بأسارى بدر كان العباس في جملتهم، ولم يكن عليهم ثوب فنظر صلى الله عليه وسلم لَهُ قميصًا فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه صلى الله عليه وسلم إياه فكافأه صلى الله عليه وسلم بأن كفنه في قميصه، كما سيأتي في البخاري في باب: هل يخرج الميت من القبر لعلة؛ لئلا يكون للكافر عليه يد

(2)

.

وأراد أن يخفف عنه من عذابه مادام ذَلِكَ القميص عليه، ورجاء أن يكون معتقد البعض ما كان يظهر من الإسلام فينفعه الله بذلك، ويدل عليه أن الله إنما أعلمه بأمره ونهاه عن الصلاة عليه وعلى غيره بعد ما صلى عليه، وأما حين صلى عليه لم يعلم حقيقة أمره ولا باطنه، ويجوز أن يكون فعله تألّفًا لابنه ولعشيرته.

وروى عبد بن حميد في "تفسيره" أنه أوصى النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاه إليه بأن تشهد غسلي إِذَا من وتكفني في ثلاثة أثواب من (

)

(3)

وتمشي مع جنازتي وتصلي عليَّ ففعل، وقال الحاكم: مرض ابن أبي في شوال عشرين ليلة وهلك في ذي القعدة سنة تسع منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من

(1)

انظر: اليونينية 2/ 76.

(2)

يأتي برقم (1350) كتاب: الجنائز.

(3)

بياض بالأصل مقدار كلمة.

ص: 482

تبوك، وكان صلى الله عليه وسلم يعوده، وقال له وهو يجود بنفسه: إذا مت احضر غسلي وأعطني قميصك أكفن فيه، فأعطاه قميصه الأعلى، وكان عليه قميصان، فقال عبد الله: أعطني قميصك الذي يلي جسدك، فأعطاه إياه، وصلى عليه واستغفر لَهُ وسيأتي بعض هذا

(1)

. وفي "المعاني" للزجاج أن ابن أبي هو الذي رد الثوب الأول ليأخذ الثاني، وقال:"إن قميصي لن يغني عنه شيئًا من الله إني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام بهذا السبب". فيروى أنه أسلم من الخزرج ألف لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالصلاة عليه فنزل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ}

(2)

[التوبة: 84] الآية.

وقال ابن التين: لعل هذا كان في أول الإسلام قبل الأحكام؛ لأن من مات له والد كافر لا يغسله ولده المسلم ولا يدخله قبره إلا أن يخاف أن يضيع فيواريه، نص عليه مالك في "المدونة"

(3)

.

وروي أن عليًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن أباه مات، فقال:"اذهب فواره" ولم يأمره بغسله

(4)

.

(1)

"المستدرك" 1/ 341 كتاب: الجنائز، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(2)

انظر: "زاد المسير" 3/ 480 - 481.

والحديث رواه الطبري في "تفسيره" 6/ 440 (17073) عن قتادة.

(3)

"المدونة" 1/ 168.

(4)

رواه أبو داود (3214)، والنسائي 1/ 110، وأحمد 1/ 97، وابن الجارود 2/ 144 (550)، والبيهقي 1/ 304 و 3/ 398، والمزي في "التهذيب" 29/ 257 - 258 والذهبي في "السير" 7/ 384 - 385 من طريق أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي.

والحديث أشار البيهقي لضعفه، وتبعه النووي فضعفه في "المجموع" 5/ 144 وخولفا في ذلك:

فقال الرافعي في "الأمالي الشارحة لمفردات الفاتحة": حديث ثابت مشهور. كذا نقله عنه المصنف في "البدر المنير" 5/ 239. =

ص: 483

وروي أنه أمره بغسله ولا أصل لَهُ، كما قاله القاضي عبد الوهاب

(1)

.

وقال الطبري: يجوز أن يقوم عَلَى قبر والده الكافر لإصلاحه ودفنه قال: وبذلك صح الخبر وعمل به أهل العلم.

وقال ابن حبيب: لا بأس أن يحضره ويلي أمر تكفينه حتَّى يخرجه ويبرأ به إلى أهل ذمته، فإن كُفي دفنه وأَمِنَ مِن الضيعة عليه فلا يتبعه، وإن خشي ذَلِكَ فليقدم جنازته معتزلًا منه ويحتمله

(2)

.

وروي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك.

وقوله: ("أنا بين خيرتين"). قال الداودي: هو غير محفوظ، والمحفوظ ما رواه أنس من جعل النهي بعد قوله: أليس قَدْ نهاك.

وليس القرآن بمعنى التخيير، وإنما هو بمعنى النفي، ولا نسلم لَهُ بل هو صحيح محفوظ، وذكر السبعين عَلَى التكثير، وكأن عمر رضي الله عنه فهم النهي من الاستغفار لاشتمالها عليه، وروي أن جبريل أخذ برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه فقال:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] الآية

(3)

.

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لأستغفرن لهم أكثر من سبعين" فنزلت: {سَوَاءٌ

= وصححه الحافظ في "الإصابة" 4/ 117. واعترض على تضعيف البيهقي له في "التلخيص" 2/ 114.

وقال العلامة أحمد شاكر في تعليقه على "المسند"(759): إسناده صحيح.

وصححه الألباني في "الإرواء"(717)، و"الصحيحة"(161)، وفي "الثمر المستطاب" ص 25، و"أحكام الجنائز" ص 170، و"تمام المنة" ص 123.

(1)

انظر: "تلخيص الحبير" 2/ 114 - 115.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 663.

(3)

رواه الطبري 6/ 439 - 440 (17068).

ص: 484

عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} [المنافقون: 6] الآية

(1)

فتركه.

واستغفار الشارع لسعة حلمه عمن يؤذيه، أو لرحمته عند جريان القضاء عليهم، أو إكرامًا لولده. وقيل: معنى الآية الشرط أي: إن شئت فاستغفر، وإن شئت فلا. مثل قوله تعالى:{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} [التوبة: 53]، وقيل: معناهما سواء، وقيل: معناه: المبالغة في اليأس.

وقال الفراء: ليس بأمر، إنما هو على تأويل الجزاء

(2)

. وقال النحاس: منهم من قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] منسوخ بقوله: {وَلَا تُصَلِّ} [التوبة: 84] ومنهم من قال: لا، بل هي عَلَى التهديد لهم. وتوهم بعضهم أن قوله:{وَلَا تُصَلِّ} ناسخ لقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، وهو غلط فإن تلك أنزلت في أبي لبابة وجماعة معه لما ربطوا أنفسهم لتخلفهم عن تبوك

(3)

.

والحديث الثاني ظاهره مضاد للأول أنه أخرجه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه، وهناك أعطى قميصه لولده.

قال الداودي: الله أعلم أي الأمرين كان، ويحتمل أن يكون المراد بالإعطاء: الإنعام، قاله ابن التين، أو أنه خلع عنه القميص الذي كفن فيه وألبسه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه بيده الكريمة.

وقال ابن الجوزي: يجوز أن يكون جابر شهد ما لم يشهد ابن عمر، ويجوز أن يكون أعطاه قميصين قميص الكفن ثمَّ أخرجه فألبسه آخر، وكان ذَلِكَ إكرامًا لولده أو لأنه ما سُئِلَ شيئًا قط فقال: لا

(4)

.

(1)

رواه الطبري 6/ 439 (17066).

(2)

"معاني القرآن" للفراء 1/ 441.

(3)

"الناسخ والمنسوخ" 2/ 463، 467 - 468.

(4)

جاء ذلك في حديث يأتي برقم (6034) كتاب: الأدب، باب: حسن الخلق والسخاء.

ص: 485

وروى عبد بن حميد، عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لم يخدع إنسانًا قط غير أن ابن أُبي قال يوم الحديبية كلمة حسنة وهي أن الكفار قالوا له: طف أنت بالبيت فقال: لا، لي في رسول الله أسوة حسنة، فلم يطف

(1)

.

وفيه إخراج الميت بعد دفنه؛ لأمر يعرض، وهو دليل لابن القاسم الذي يقول بإخراجه إِذَا لم يصل عليه للصلاة ما لم يخش التغيير، وقال ابن وهب: إِذَا سُوي عليه التراب فات إخراجه.

وقال يحيى بن يحيى: وقال أشهب: إِذَا أهيل عليه فات إخراجه أي: ويصلى عليه في قبره

(2)

وقد سلف. وفي نسبته عمرُ إلى النفاق دلالة عَلَى جواز الشهادة عَلَى الإنسان بما فيه من حال الحياة والموت عند الحاجة وإن كانت مكروهة.

قال الإسماعيلي: وفيه جواز المسألة لمن عنده حدة تبركًا، وعبد الله بن أُبي هذا هو الذي {تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور: 11] في قصة الصديقة

(3)

، وهو الذي قال:{لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، وقال:{لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7]

(4)

ورجع يوم أحد بثلث العسكر إلى المدينة بعد أن خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

(5)

.

والبابان بعده سلفا قريبًا.

(1)

كذا عزاه السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 339.

(2)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 630 - 631.

(3)

سيأتي هذا الخبر برقم (2661)، ورواه مسلم (2770).

(4)

يأتي هذا الخبر برقم (3518، 4905، 4907)، ورواه مسلم (2584) من حديث جابر.

وبرقم (4900 - 4904)، ورواه مسلم (2772) من حديث زيد بن أرقم.

(5)

انظر: "سيرة ابن هشام" 3/ 8.

ص: 486

‌23 - باب الكَفَنِ بِغَيْرِ قَمِيصٍ

1271 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُفِّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابِ سَحُولَ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. [انظر: 1264 - مسلم: 941 - فتح: 3/ 140]

1272 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. [انظر: 1264 - مسلم: 941 - فتح: 3/ 140]

ص: 487

‌24 - باب الكَفَنِ وَلَا عِمَامَةٌ

1273 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ. [انظر: 1264 - مسلم: 941 - فتح: 3/ 140].

ص: 488

‌25 - بادٍ الكَفَنِ مِنْ جَمِيعِ المَالِ

وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: الحَنُوطُ مِنْ جَمِيعِ المَالِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يُبْدَأُ بِالكَفَنِ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ، ثُمَّ بِالوَصِيَّةِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: أَجْرُ القَبْرِ وَالغَسْلِ هُوَ مِنَ الكَفَنِ.

1274 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ المَكِّيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ، وَقُتِلَ حَمْزَةُ -أَوْ رَجُلٌ آخَرُ- خَيْرٌ مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا، ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي. [1275، 4045 - فتح: 3/ 140]

ثمَّ ذكر حديث إبراهيم بن سعد عن سعد عن أبيه أنه قال: أُتِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَوْمًا بِطَعَامِهِ فَقال: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا بُرْدَةٌ .. الحديث.

وترجم له:

ص: 489

‌26 - باب إِذَا لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ

1275 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رضي الله عنه أُتِيَ بِطَعَامٍ وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ -وَأُرَاهُ قَالَ:- وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ -أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا- وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا. ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ. [انظر: 1274 - فتح: 3/ 142].

الشرح:

هذِه الترجمة رواها ابن أبي حاتم قال: سألت أبي عن حديث ثمامة البصري، عن أبي الزبير، عن جابر: الكفن من جميع المال، فقال: حديث منكر

(1)

.

وإبراهيم بن سعد هذا هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، روى عن أبيه، عن جده، عن عبد الرحمن، جد أبيه، ولإبراهيم هذا ابن يسمى يعقوب، ثقة، فهم خمسة من نسق فقهاء ثقات.

وهو دال عَلَى ما بوب له البخاري، ونقله في بعض نسخه عن الحميدي أن الكفن من رأس المال وقد سلف ما فيه، وهو قول الجمهور، والحجة لهم أن مصعب بن عمير وحمزة لم يوجد لكل واحد منهما ما يكفن فيه إلا بردة قصيرة فكفنه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلتفت إلى غريم، ولا إلى وصية ولا إلى وارث، وبداه عَلَى ذَلِكَ كله.

(1)

"علل ابن أبي حاتم" 1/ 370 (1098).

ص: 490

وفي "صحيح الحاكم" من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم مرّ عَلَى حمزة وقد جُدع فقال: "لولا أن تجد صفية تركته حتَّى يحشره الله تعالى من بطون الوحش والطير" وكفنه في نمرة إِذَا خمر رأسه بدت رجلاه وإذا خمرت رجلاه بدا رأسه

(1)

.

وفيه: جواز التكفين في ثوب واحد عند عدم غيره، كما ترجم لَهُ بعدُ

(2)

، والأصل: ستر العورة، وإنما استحب لهما صلى الله عليه وسلم التكفين في تلك الثياب التي ليست بسابغة؛ لأنهم فيها قتلوا وفيها يبعثون إن شاء الله.

وكفن المرأة من مالها عند الشعبي وأحمد

(3)

، وعندنا: عَلَى الزوج عَلَى اضطراب فيه

(4)

. وللمالكية ثلاثة أقوال: ثالثها: إن كانت فقيرة فعلى الزوج، وفي كفن من تجب نفقته كالأب والابن قولان لهم ولو سرق بعد دفنه فثالثها لهم

(5)

. إن لم يقسم مالها أعيد.

(1)

"المستدرك" 1/ 365 و 2/ 120 و 3/ 196. ورواه أيضًا أبو داود (3136)، والترمذي (1016)، وابن سعد 3/ 14 - 15، وأحمد 3/ 128، والدارقطني 4/ 116 - 117، والبيهقي 4/ 10 من طريق أسامة ابن زيد عن الزهري عن أنس.

قال الحاكم وابن دقيق العيد في "الاقتراح" ص 112: إسناده صحيح على شرط مسلم.

وقال النووي في "المجموع" 5/ 226: إسناده حسن أو صحيح.

وحسنه المصنف رحمه الله في "البدر المنير" 5/ 243، والألباني في "أحكام الجنائز" ص 74 وص 80 وزاد: على شرط مسلم. وحسنه في "صحيح الجامع"(5324).

(2)

حديث (1275).

(3)

انظر: "المغني" 3/ 457 - 458.

(4)

انظر: "المجموع" 5/ 148 - 149.

(5)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 564، 565.

ص: 491

ومصعب هذا أول من هاجر إلى المدينة، وكان يقرئهم القرآن، وذكر البخاري في المناقب باب: مصعب بن عمير، ولم يذكر فيه شيئًا وكأنه أحال عَلَى ما ذكره هنا لشهرته

(1)

.

والبردة: النمرة كالمئزر ربما ائتزر به وربما ارتدي، وربما كان لأحدهم بردتان، يأتزر بإحداهما ويرتدى بالأخرى، وربما كانت كبيرة، وقيل: النمرة كل شملة مخططة من مآزر الأعراب.

وقال القتبي: هي بردة يلبسها الإماء. وقال ثعلب: هو ثوب مخطط تلبسه العجوز. وقيل: كساء، وقال القزاز: هي دراعة تلبس أو تجعل عَلَى الرأس فيها لونان: سواد وبياض.

وفيه: أن العالم يذكر سير الصالحين، وتقللهم من الدنيا؛ لتقل رغبتهم فيها، ويبكي من تأخر لحاقه بالأخيار، ويشفق من ذَلِكَ؛ ألا ترى أنه بكى وترك الطعام.

وفيه: أنه ينبغي للمرء أيضًا أن يتذكر نعم الله عنده، ويعترف بالتقصير عن أداء شكره، ويتخوف أن يقاصَّ بها في الآخرة، ويذهب سعيه فيها، وبكاء عبد الرحمن -وإن كان أحد العشرة المشهود لهم بالجنة- هو ما كانت عليه الصحابة من الإشفاق والخوف من التأخر عن اللحاق بالدرجات العلى وطول الحساب

(2)

.

(1)

انظر ما سيأتي (3897، 3914، 3924).

(2)

تنبيه: فات المصنف رحمه الله ذكر من وصل الآثار المعلقة التي ذكرها البخاري قبل حديث (1274) فانظرها جملة في "تغليق التعليق" 2/ 463 - 465، و"الفتح" 3/ 141، و"عمدة القاري" 6/ 419 - 420.

ص: 492

‌27 - باب إِذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنًا إِلَّا مَا يُوَارِي رَأْسَهُ أَوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى رَأْسَهُ

1276 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا شَقِيقٌ، حَدَّثَنَا خَبَّابٌ رضي الله عنه قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ -وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا- قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً، إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ. [3897، 3913، 4047، 4082، 6432، 6448 - مسلم: 940 - فتح: 3/ 142]

ذكر فيه حديث خباب وفيه أن مُصْعَب بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً، إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ، الحديث، فَأَمَرَنَا أَنْ نُغَطِّيَ رَأسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ.

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا

(1)

. وفي بعض روايات البخاري: قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة

(2)

. وفي أخرى: وترك نمرة، خرجه في المغازي، وفي باب: هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غيره

(3)

.

ومعنى أينعت: نضجت وأدركت، ويقال: ينعت. ومنه قوله تعالى {وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99]. وقال الحجاج في خطبته: أرى رءوسًا قد أينعت

(4)

. أي: حان قطافها.

(1)

"صحيح مسلم"(945) باب: في كفت الميت.

(2)

يأتي برقم (4047، 4082).

(3)

يأتي برقم (3897، 6448).

(4)

قطعة من حديث رواه الطبري في "تاريخه" 3/ 547، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" 12/ 127، 129 - 130.

ص: 493

ويهدبها: يجتنيها بضم الدال وكسرها. وقول خباب هذا، مما أشعر به نفسه من الخوف مع أخذهم الكفاف، وهذِه صفة المؤمن.

وفيه: أن الثوب إِذَا ضاق فتغطية الرأس أولى أن يبدأ به من رجليه؛ لشرفه.

قال المهلب: إنما أمر بتغطية الأفضل إِذَا أمكن ذَلِكَ بعد ستر العورة ولو ضاق الثوب عن تغطية رأسه وعورته لغطيت بذلك عورته وجعل عَلَى سائره من الإذخر -وهو بالذال المعجمة معروف- لأن ستر العورة واجب في حال الموت والحياة، والنظر إليها ومباشرتها باليد محرم إلا من حل لَهُ من الزوجين، كذا قال. وهو ظاهر عَلَى من يقول أن الكفن يكون ساترًا لجميع البدن وأن الميت يصير كله عورة وإلا فالظاهر إنما ستره طلبًا للأكمل.

وفيه: ما كان عليه صدر هذِه الأمة من الصدق في وصف أحوالهم ألا ترى إلى قوله: (فمنا من لم يأكل من أجره شيئًا) يعني: لم يكسب من الدنيا شيئا ولا اقتناه، وقصر نفسه عن شهواتها؛ لينالها موفرة في الآخرة.

و (منها من أينعت لَهُ ثمرته) يعني: من كسب المال، ونال من عرض الدنيا.

وفيه: أن الصبر عَلَى مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار ودرجات الأخيار، فمن صبر عَلَى ذَلِكَ عوفي من حر النار.

فائدة: خباب هو ابن الأرتِّ -بتشديد المثناة فوق- تميمي، وقيل: خزاعي بدري من السابقين، مات سنة سبع وثلاثين وصلى عليه عليٌّ

(1)

.

(1)

انظر: "معجم الصحابة" للبغوي 2/ 271، و"الاستيعاب" 2/ 21 (646)، و"أسد الغابة" 2/ 114 (1407).

ص: 494

ومصعب بن عمير

(1)

هو أول من هاجر إلى المدينة -كما سلف في الباب قبله- وهو أخو أبي عزيز الذي فدي يوم بدر بأربعة آلاف، ثمَّ أسلم وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه

(2)

. وأختهما هند أُم شيبة بن عثمان، أمهم أم خناس بنت مالك من بني عامر بن لؤي، وأخوهم أبو الروم قديم الإسلام

(3)

، أمه أم رومة، وأبو يزيد أخوهم، قتل كافرًا يوم أحد، كلهم أولاد عمير بن هاشم بن عبد مناف، شهد أبو الروم أُحدًا وقتل باليرموك، وقيل: اسم أبي عزيز زرارة، وكان حامل لواء المشركين يوم بدر، ويوم أحد حتَّى قتله ابن قميئة الليثي -لعنه الله- عن نيف وأربعين سنة.

(1)

انظر: ترجمة مصعب في: "معرفة الصحابة" 5/ 2556 (2724)، و"الاستيعاب" 4/ 36 (2582)، و"أسد الغابة" 5/ 181 (4929)، و"الاصابة" 3/ 421 (8002).

(2)

انظر ترجمة أبي عزيز بن عمير في "معرفة الصحابة" 5/ 967 (3343)، و"الاستيعاب" 4/ 277 (3121)، و"أسد الغابة" 6/ 213 (6096)، و"الإصابة" 4/ 133 (672).

(3)

انظر ترجمة أبي الروم في: "الاستيعاب" 4/ 223 (2991)، و"أسد الغابة" 6/ 113 (5885)، و"الإصابة" 4/ 72 (422).

ص: 495

‌28 - باب مَنِ اسْتَعَدَّ الكَفَنَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ

1277 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ رضي الله عنه، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا -أَتَدْرُونَ مَا البُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ- قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي، فَجِئْتُ لأَكْسُوَكَهَا. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ فَقَالَ: اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا. قَالَ القَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ. قَالَ: إِنِّي وَاللهِ مَا سَأَلْتُهُ لأَلْبَسَهَا، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. [2093، 5810، 603 - فتح: 3/ 143]

ذكر فيه حديث سهل بن سعد أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ .. الحديث. وفيه: إنما سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. فَكَانَتْ كَفَنَهُ.

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا

(1)

، وهو ظاهر لما ترجم لَهُ من إعداد الكفن.

وفيه هدية المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبول السلطان إياها من الفقير، وترك مكافأته عليها بخلاف من قال: إن هدية الفقير للمكافأة، مع أن من شأنه صلى الله عليه وسلم المكافأة.

وفيه أنه يسأل السلطان الفاضل والرجل العالم الشيء الذي لَهُ القيمة للتبرك به.

(2)

(1)

قلت: بل هو من أفراده لم يخرجه مسلم؛ والحديث ذكره الحميدي في كتابه "الجمع بين الصحيحين" 1/ 556 (925) في مسند سهل وهو ابن سعد في أفراد البخاري عنه.

وأيضًا لما ذكره المزي في "التحفة" 4/ 114 (4721) عزاه للبخاري وابن ماجه فقط.

(2)

تقدم العليق على مسألة التبرك.

ص: 496

وقوله: فيها حاشيتها: أي أنها لم تقطع من ثوب فلا تكون لها حاشية، أو تكون لها حاشية واحدة؛ لأنها بعض ثوب، قاله الداودي، وقال غيره: حاشية الثوب هدبه، وكأنها جديدة لم تقطع ولم تلبس؛ لأنها دائرة بعد.

و (فيها حاشيتها) قال القزاز: حاشيتا الثوب: ناحيتاه اللتان في طرفهما الهدب، وقال الجوهري: الحاشية واحدة حواشي الثوب، وهي جوانبه

(1)

.

وفيه: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي حتَّى لا يجد شيئًا فيدخل بذلك في جملة المؤثرين عَلَى أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

وفيه: جواز المسألة بالمعروف، وأنه لم يكن يرد سائلًا.

وفيه: بركة ما لبسه الشارع بما يلي جسده.

وفيه: جواز إعداد الشيء قبل وقت الحاجة إليه. وقد حفر بعض الصالحين قبورهم بأيديهم، ليمتثلوا حلول الموت فيهم، وأفضل ما ينظر في وقت المهد وفسحة الأجل الاعتداد للمعاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"أفضل المؤمنين إيمانًا أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لَهُ استعدادا"

(2)

(1)

"الصحاح" 6/ 2313.

(2)

رواه ابن ماجه (4259) من طريق نافع بن عبد الله، عن فروة بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر.

قال المنذري في "الترغيب والترهيب"(5053): إسناده جيد.

ورواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 540 - 541 من طريق حفص بن غيلان، عن عطاء بن أبي رباح، به.

وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ورواه الطبراني في "الكبير" 12/ 417 (13536)، وفي "الأوسط" 6/ 308 (6488)، وفي "الصغير" 2/ 189 - 190 (1008) من طريق مالك بن مغول، عن =

ص: 497

وقال الضمري: لا يستحب أن يعد الإنسان لنفسه كفنًا؛ لئلا يحاسب عليه، وهو صحيح إلا إِذَا كان من جهة يقطع بحلها أو من أثر أهل الخير والصلحاء والعباد فإنه حسن.

= معلى الكندي، عن مجاهد، عن ابن عمر.

قال المنذري في "الترغيب والترهيب"(5053): إسناده حسن.

وقال الحافظ العراقي في "تخريج الاحياء"(3255، 4349): إسناده جيد.

وانظر: "الصحيحة"(1384).

ص: 498

‌29 - باب اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الجَنَائِزَ

1278 -

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ خَالِدٍ [الحَذَّاءِ]، عَنْ أُمِّ الهُذَيْلِ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَي رضي الله عنها قَالَتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا. [انظر: 313 - مسلم: 938 - فتح: 3/ 144]

ذكر فيه حديث أم عطية قالتْ: نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.

هذا الحديث سلف في باب الطيب للمرأة عند غسلها في المحيض

(1)

.

ومعنى (لم يعزم علينا): أي لم يوجب ويفرض، أو لم يشدد. وقال الداودي: يعني: اتباعها إلى الكُدى، وهي القبور. قال: ولعل قولها: (ولم يعزم علينا) أي: أن لا نأتي أهل الميت، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة في ممشاه، فسألها:"أين أردت" فقالت: أتيت إلى فلان أعزيهم، فقال:"لعلك بلغت معهم الكُدى" فقالت: معاذ الله وقد سمعت منك ما سمعت، فقال:"لو بلغت معهم الكُدى ما رأيت الجنة حتَّى يراها جد أبيك". قال الحاكم فيه: حديث صحيح عَلَى شرط الشيخين

(2)

.

(1)

برقم (313) كتاب: الحيض.

(2)

"المستدرك" 1/ 373، 374.

ورواه أيضًا أبو داود (3123)، والنسائي 4/ 27 - 28، وأحمد 2/ 168 - 169 و 223، والبيهقي 4/ 60 و 77 - 78، والمزي في "التهذيب" 9/ 114 - 115 من طريق ربيعة بن سيف المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

والحديث صححه الحاكم على شرط الشيخين -كما ذكر "المصنف" وصححه ابن حبان 7/ 450 - 451 (3177)، وكذا ابن القطان في "بيانه" 5/ 361 (2534) و 5/ 317 (2837)، وحسنه المنذري في "الترغيب" 4/ 190 (5380)، وكذا الحافظ في "الفتوحات" 4/ 139 والحديث فيه: ربيعة بن سيف، ضعفه النسائي عقب إخراجه الحديث. =

ص: 499

وقول أم عطية دال لقول ابن حبيب: يكره خروج النساء في الجنائز من غير نوح وبكاء في جنازة الخاص من قرابتهن، وغيره قال: ينبغي للإمام منعهن من ذَلِكَ، ففي الحديث:"ارجعن مازورات غير مأجورات"

(1)

وفي "المدونة"

(2)

: كان مالك يوسع للنساء في الخروج إلى الجنائز، وقد خرجت أسماء تقود فرسًا للزبير وهي حامل حتَّى عوتب في ذَلِكَ.

فإن قُلْت بإباحة ذَلِكَ فتخرج المتجالة لَهُ عَلَى القريب وغيره، وتخرج الشابة عَلَى الولد والوالد والزوج والأخ. ومن لم يكن مثلهم فيكره خروجها لجنازته، وقد سلف في باب الأمر باتباع الجنائز شيء مما نحن فيه أيضًا.

= وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 421: حديث لا يثبت. وكذا ضعفه عبد الحق في "أحكامه" 2/ 152، وضعف النووي إسناده في "المجموع" 5/ 237، وفي "خلاصة الأحكام" 2/ 1005 (3595). وأنكره الذهبي في "المهذب" 3/ 1403 - 1404 (6295) و 3/ 1427 - 1428 (6389).

وقول الحاكم تكلم فيه ابن دقيق العيد -فيما نقله عنه الشوكاني في "النيل" 2/ 811. وعده الألباني من أوهامه الفاحشة كما في "ضعيف أبي داود" (560) وقال: حديث منكر. وضعفه في "ضعيف النسائي"(113)، وفي "الرد المفحم" 1/ 108.

(1)

رواه ابن ماجه (1578)، والبيهقي 4/ 77، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" 2/ 420 (1507) من طريق إسماعيل بن سلمان، عن دينار أبي عمر، عن محمد بن الحنفية، عن علي مرفوعًا.

والحديث أشار البغوي لضعفه في "شرح السنة" 5/ 465 فذكره بصيغة التمريض دون إسناد، وكذا الذهبي أشار لضعفه في "المهذب" 3/ 1427 (6388). وضعف النووي في "الخلاصة" 2/ 1004 (3594)، والمصنف رحمه الله في "الإعلام" 4/ 465 إسناده. وضعفه الألباني في "الضعيفة"(2742)، وفي "ضعيف ابن ماجه" (344). وانظر:"النوادر والزيادات" 1/ 577.

(2)

"المدونة" 1/ 169.

ص: 500

قال ابن المنذر: روينا عن ابن مسعود وابن عمر وأبي أمامة وعائشة أنهم كرهوا للنساء اتباع الجنائز وكره ذَلِكَ إبراهيم ومسروق والنخعي والحسن ومحمد بن سيرين، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق

(1)

.

وقال الثوري: اتباع النساء بدعة

(2)

، وعن أبي حنيفة: لا ينبغي ذَلِكَ للنساء، وروى إجازة اتباع النساء الجنائز عن ابن عباس. والقاسم، وسالم، وعن الزهري وربيعة، وابن الزناد مثله، ورخص مالك في ذَلِكَ وقال: قد خرج النساء قديمًا في الجنازة، وخرجت أسماء تقود فرس الزبير وهي حامل

(3)

، ما أرى بخروجهن بأسًا إلا في الأمر المستنكر.

وقد احتج بعض من كره ذَلِكَ بحديث الباب ومن أجازه أيضًا، وقال المهلب: هذا الحديث يدل عَلَى أن النهي من الشارع عَلَى درجات فمنه نهي تحريم ونهي تنزيه ونهي كراهة، وقال القرطبي

(4)

: ظاهر الحديث التنزيه وإليه صار الجمهور وبه قال الشافعي

(5)

.

وقال ابن حزم: لا يمنعن من اتباعها، وآثار النهي عن ذَلِكَ ليست تصح؛ لأنها إما عن مجهول أو مرسلة، أو عمن لا يحتج به وأشبه شيء في حديث الباب وهو غير مسند؛ لأنا لا ندري من هو الناهي، ولعله بعض الصحابة ثمَّ لو صح مسندًا لم يكن فيه حجة بل كان يكون كراهة فقط، وقد صح خلافه، روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة

(1)

انظر: "المغني" 3/ 401.

(2)

انظر: "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 405.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

"المفهم" 2/ 591.

(5)

انظر: "المجموع" 5/ 236 - 237.

ص: 501

أنه صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأى عمر امرأة فصاح بها، فقال لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب"

(1)

.

قُلْتُ: أخرجه الحاكم وقال: صحيح عَلَى شرط الشيخين، وليس بجيد لأنه منقطع، كما بينه البيهقي، قلت: وفيه مجهول

(2)

، وإنما قالت أم عطية: ولم يعزم علينا؛ لأنها فهمت عن الشارع أن ذَلِكَ النهي إنما أراد به ترك ما كانت الجاهلية تقوله من الفجر وزور الكلام وقبيحه ونسبة الأفعال إلى الدهر، فهي إذا تركت ذَلِكَ وبدلت منه الدعاء والترحم عليه كان حقيقًا، فهذا يدل أن الأوامر تحتاج إلى معرفة تلقي الصحابة لها ونظر كيف تلقوها

(3)

.

ما أسلفناه عن ابن حزم في دعواه أن حديث أم عطية غير مسند، ليس بجيد منه فقد أخرجه ابن شاهين من حديث خالد الحذّاء عن أم الهذيل، عن أم عطية قالت: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا.

ثمَّ قال: وقد روي عن يزيد بن أبي حبيب أنه صلى الله عليه وسلم حضر جنازة رجل فلما وضعت؛ ليصلي عليها أبصر امرأة فسأل عنها فقيل: هي أخت الميتة فقال لها: "ارجعي" فلم يصل عليها حتَّى توارت. وقال لامرأة أخرى: "ارجعي وإلا رجعت" وأحسن حالات المرأة مع الجنازة أنها لا تؤجر في حضورها

(4)

.

(1)

"المحلى" 5/ 160.

(2)

"المصنف" 2/ 482 (11295) كتاب: الجنائز، من رخص أن تكون المرأة مع الجنازة، "المستدرك" 1/ 381 كتاب: الجنائز، "السنن الكبرى" 4/ 70.

وانظر: "معرفة السنن والآثار" 5/ 345. وضعفه الألباني في "الضعيفة" (3603).

(3)

"المحلى" 5/ 160.

(4)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" 1/ 279 (314).

ص: 502

وقال الحازمي: أما اتباع الجنائز فلا رخصة لهن فيه

(1)

.

فرع:

انفرد الشعبي فقال: لا تصلي النساء عَلَى الجنازة، وما أبعده ولا خفاء في فعلها وحدهن، قال ابن القاسم: يصلين أفرادًا عَلَى الأصح واحدة بعد واحدة عَلَى الأصح

(2)

.

(1)

"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" للحازمي ص 102.

(2)

انظر: "المنتقى" 2/ 18.

ص: 503

‌30 - باب إِحْدَادِ المَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا

1279 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ المُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: تُوُفِّىَ ابْنٌ لأُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ، فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وَقَالَتْ: نُهِينَا: أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلاَّ بِزَوْجٍ. [انظر: 313 - مسلم: 938 - فتح: 3/ 145]

1280 -

حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ الشَّأْمِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها بِصُفْرَةٍ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ، فَمَسَحَتْ عَارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عَنْ هَذَا لَغَنِيَّةً، لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا". [1281، 5334، 5339، 5345 - مسلم: 1486 (62) - فتح: 3/ 146].

1281 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ -زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا". [انظر: 1280 - مسلم: 1486 - فتح: 3/ 146]

1282 -

ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا، فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ، ثُمَّ قَالَتْ: مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ، غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ [يَقُول]:"لَا يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا". [5335 - مسلم: 1487 - فتح: 3/ 146]

ذكر فيه عن محمد بن سيرين قال: تُوُفِّيَ ابن لأُمِّ عَطِيَّةَ، فَلَمَّا كَانَ اليَوْمُ الثَّالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وَقالتْ: نُهِينَا أَنْ نُحِدَّ أَكْثَرَ مِنْ

ص: 504

ثَلَاثٍ إِلَّا بِزَوْجٍ، وعن زينب قالتْ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ مِنَ الشَأُمِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِصُفْرَةٍ ثمَّ ساقه مطولًا أيضًا.

وحديث أم عطية سلف مطولًا في أثناء الحيض

(1)

، وحديث زينب

(2)

.

وقد سلف الكلام هناك علَى الإحداد، وفوائد الحديث فراجعه منه

(3)

.

(1)

برقم (313) باب: الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض.

(2)

ورد بهامش الأصل: هذا في أصل شيخنا بياض وتتمة عزوه: أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، البخاري هنا عن إسماعيل، وفي الطلاق عن عبد الله بن يوسف، كلاهما عن مالك، وفيه أيضًا عن محمد بن كثير، عن الثوري، كلاهما عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، خرجه أيضًا عن آدم بن أبي إياس، عن شعبة، وفي الجنائز أيضًا عن الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، ثلاثتهم عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، به.

ومسلم في الطلاق عن يحيى بن يحيى، عن مالك، به. وعن الناقد وابن أبي عمر كلاهما عن ابن عيينة. وعن محمد بن المثنى، عن محمد بن جعفر؛ وعن عبيد الله ابن معاذ، عن ليث، عن شعبة.

وأبو داود عن القعنبي عن مالك، به.

والترمذي في النكاح عن إسحاق بن موسى، عن معن، عن مالك، به.

وقال: حسن صحيح.

والنسائي فيه عن الحارث بن مسكين. وفيه وفي التفسير عن محمد بن سلمة، كلاهما عبد الرحمن بن القاسم عن مالك. وفي التفسير أيضًا عن عمرو بن منصور، عن عبد الله بن يوسف، به. وعن هناد عن وكيع عن شعبة، به.

واعلم أن للمزي: قال مسلم: عبيد الله بن معاذ، وسمعت عنه، ويتبع في ذلك أبا مسعود، عنها؛ لأنهما قد ذكرا: عبيد الله بن معاذ في هذه (

) وتبعها أبو القاسم على ذلك، وليس في "صحيح مسلم". ولأم حبيبة في حديث عبيد الله بن معاذ أصلًا.

[انظر: " تحفة الأشراف" 11/ 317 - 318].

(3)

راجع الحديث السالف (313).

ص: 505

ونقل ابن بطال إجماع العلماء عَلَى أن من مات أبوها أو ابنها وكانت ذات زوج وطالبها زوجها بالجماع في الثلاثة الأيام التي أبيح لها الإحداد فيها أنه يُقضَى لَهُ عليها بالجماع فيها

(1)

. وقيل معنى قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] أي: عن الزينة.

(1)

"شرح ابن بطال" 3/ 269.

ص: 506

‌31 - باب زِيَارَةِ القُبُورِ

1283 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: "اتَّقِى اللهَ وَاصْبِرِي". قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ. فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ: لَمْ أَعْرِفْكَ. فَقَالَ: "إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى". [انظر: 1252 - مسلم: 926 - فتح: 3/ 148]

ذكر فيه حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم مر بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ .. الحديث. وقد سلف في باب: قول الرجل للمرأة عند القبر: اتقي الله واصبري

(1)

.

أهل العلم قاطبة -كما قال الحازمي- عَلَى الإذن في زيارة القبور للرجال

(2)

، وفي "صحيح مسلم" من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول:"السلام عليكم دار قوم مؤمنين"

(3)

، ومن حديث بريدة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إِذَا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا .. الحديث

(4)

.

وغير ذَلِكَ من الأحاديث وكره قوم ذَلِكَ؛ لأنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث في النهي عنها، وقال الشعبي: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن زيارة القبور لزرت قبر ابنتي

(5)

.

(1)

برقم (1252) كتاب: الجنائز.

(2)

انظر: "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" ص 101 - 102.

(3)

"صحيح مسلم"(974) كتاب: الجنائز، باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها.

(4)

"صحيح مسلم"(975).

(5)

رواه عبد الرزاق مرسلًا عن الشعبي 3/ 569 (6706) كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور، وابن أبي شيبة 3/ 32 (11823) كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور.

ص: 507

قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون زيارة القبور، وعن ابن سيرين مثله

(1)

، ثمَّ وردت أحاديث بنسخ النهي وإباحة زيارتها، ففي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة:"زوروا القبور فإنها تذكر الموت"

(2)

ومن حديث بريدة: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"

(3)

.

وروى ابن أبي شيبة من حديث أنس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور، ثم قال:"زوروها ولا تقولوا هجرا"

(4)

. وروي من حديث ابن مسعود أيضًا

(5)

.

(1)

"مصنف عبد الرزاق" 3/ 569 (7607) كتاب: الجنائز، باب: في زيارة القبور، "مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 32 (11821) كتاب: الجنائز، باب: من كره زيارة القبور.

(2)

مسلم (676) كتاب: الجنائز، باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

مسلم (977).

(4)

"المصنف" 3/ 30 (11804).

ورواه أيضًا أحمد 3/ 237 و 250، والحاكم 1/ 375 و 376 من طريق يحيى بن عبد الله بن الحارث الجابر التيمي عن عمرو بن عامر عن أنس.

قال المصنف في "البدر المنير" 5/ 343: يحيى الجابر ضعفوه.

وضعفه الألباني في " أحكام الجنائز" ص 229 من هذا الوجه.

ورواه الحاكم 1/ 376 من طريق إبراهيم بن طهمان عن يحيى بن عباد عن أنس.

وجود المصنف في "البدر" 5/ 343، هذا الإسناد، وحسنه الألباني في "الجنائز" ص 229.

(5)

رواه ابن ماجه (1571)، والحاكم 1/ 375، وعنه البيهقي 4/ 77 من طريق ابن جريج، عن أيوب بن هانئ عن مسروق بن الأجدع عن ابن مسعود مرفوعًا:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة".

أعله الحافظ الذهبي في "المهذب" 3/ 1426 - 1427 (6384) بأيوب بن هانئ.

وحكى المصنف رحمه الله في "البدر المنير" 5/ 342 - 343 اختلافًا في أيوب.

وقال الحافظ في "التلخيص" 2/ 137: أيوب مختلف فيه. وضعف الألباني الحديث في "ضعيف ابن ماجه"(343). =

ص: 508

وفي "المستدرك" من حديث أبي ذر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "زُر القبور وتذكر بها الآخرة" ثم قال: رواته ثقات

(1)

. وللزمخشري: "ولا تزرها بالليل"

(2)

.

وحديث الباب يشهد لأحاديث الإباحة لأنه عليه السلام إنما عرض عليها الصبر ورغبها فيه، ولم يُنكر عليها جلوسها عنده، ولا نهاها عن زيارته؛ لأنه لا يترك أحدًا يستبيح ما لا يجوز بحضرته ولا ينهاه؛ لأن

= ورواه أحمد 1/ 452، وابن أبي شيبة 3/ 31 (11808) من طريق فرقد السبخي، عن جابر بن يزيد، عن مسروق، به. وفرقد قال عنه الحافظ في "التقريب" (5384): صدوق عابد؛ لكن لين الحديث كثير الخطأ.

(1)

"المستدرك" 1/ 377 و 4/ 330.

ورواه عنه البيهقي في "الشعب" 7/ 15 (9291) من طريق موسى بن داود الضبي، عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، عن أبي مسلم الخولاني، عن عبيد ابن عمير عن أبي ذر.

قال الحاكم في الموضع الأول -كما نقله المصنف-: حديث رواته عن آخرهم ثقات. وقال في الثاني: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وتبعه الحافظ العراقي فقال في "تخريج الإحياء"(4429): إسناده جيد.

والحديث ضعفه غير واحد، فقال البيهقي في "الشعب" 7/ 15: يعقوب بن إبراهيم هذا أظنه المدني المجهول، وهذا متن منكر.

وقال الذهبي في "التلخيص" 1/ 377: منكر، ويعقوب هو القاضي أبو يوسف حسن الحديث، ويحيى لم يدرك أبا مسلم فهو منقطع، أو أن أبا مسلم رجل مجهول.

وأعله المصنف رحمه الله في "البدر المنير" 5/ 344 بيعقوب بن إبراهيم، وبالانقطاع بين يحيى وأبي مسلم.

وقال الحافظ في "التلخيص" 2/ 137: سنده ضعيف. وقال في "اللسان" 6/ 302: متن منكر. والحديث ضعفه أيضًا الألباني في "الضعيفة"(3663) وفيه استدرك على كلام البيهقي المتقدم ذكره، فلينظر.

(2)

بنحوه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" 66/ 188.

ص: 509

الله فرَضَ عليه التبليغ والبيان لأمته. فحديث أنس وشبهه ناسخ لأحاديث النهي في ذلك، وحديث بريدة صريحٌ فيه، وأظن الشعبي والنخعي لم تبلغهما أحاديث الإباحة.

وكان الشارع يأتي قبور الشهداء عند رأس الحول فيقول: "السلامُ عليكم بما صَبرتم فنِعم عُقبى الدارد"، وكان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك

(1)

.

وزار الشارع قبر أمه يوم الفتح في ألف مقنع. ذكره ابن أبي الدنيا

(2)

.

وذكر ابن أبي شيبة عن علي وابن مسعود وأنس إجازة الزيارة

(3)

.

وكانت فاطمةُ تزور قبر حمزة كل جمعة

(4)

. وكان ابن عمر يزورُ قبرَ

(1)

رواه عبد الرزاق في المصنف 3/ 573 - 574 (6716): عن رجل من أهل المدينة عن سهيل بن أبي صالح، عن محمد بن إبراهيم التيمي قال .. فذكره.

(2)

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "القبور" كما عزاه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(4426).

ورواه من طريقه الحاكم في "المستدرك" 1/ 375.

ورواه أيضًا 2/ 605، وكذا ابن عدي 9/ 93، والبيهقي 7/ 15 (9290)، وابن عبد البر في "التمهيد" 3/ 230 جميعًا من طريق يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، به.

قال الحاكم 1/ 375: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وزاد في 2/ 605: إنما أخرج مسلم وحده حديث محارب بن دثار ..

قال العراقي (4426): شيخ ابن أبي الدنيا، أحمد بن عمران الأخنسي، متروك، وانظر:"البدر المنير" 5/ 340 - 341.

(3)

"المصنف" 3/ 30 - 31 (11804 - 11805، 11808) عنهم مرفوعًا.

(4)

"مصنف عبد الرزاق" 3/ 572 (6713) عن ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كانت فاطمة ..

ورواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 377 و 3/ 28، وعنه البيهقي 4/ 78 من طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن أباه علي بن الحسين حدثه عن أبيه أن فاطمة

=

ص: 510

أبيه فيقفُ عليه ويدعو له

(1)

. وكانت عائشةُ تزور قبرَ أخيها عبد الرحمن وقبره بمكةَ

(2)

، ذكره أجمع عبد الرزاق.

وقال ابن حبيب: لا بأس بزيارة القبور والجلوس إليها والسلام عليها عند المرورِ بها، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

وسُئل مالك عن زيارتها فقال: قد كان نهي عنه ثم أذِن فيه، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيرا لم أرَ بذلك بأسا

(3)

. وروي عنه أنه كان يُضعفُ زيارتها

(4)

، وقوله الذي تُضعِّفهُ الآثارُ. وعملُ السلف أولى بالصواب.

وحمل بعضهم حديث لعن زوَّارات القبور

(5)

على مَنْ يُكثر منها؛ لأن زوَّارات للمبالغة.

= قال الحاكم 1/ 377: حديث رواته ثقات، وقال 3/ 28: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(1)

"المصنف" لعبد الرزاق 3/ 570 (6709 - 6710) وفيه: قبروا قبر أخيه.

(2)

"المصنف"(6711) عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة قال: رأيت عائشة ..

ورواه الحاكم 1/ 376 وعنه البيهقي 4/ 78 من طريق يزيد بن زريع، عن بسطام بن مسلم، عن أبي التياح يزيد بن حميد عن عبد الله بن أبي مليكة، به.

عزاه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(4428) لابن أبي الدنيا في كتاب: القبور وقال: إسناده جيد.

وصححه الألباني في "الإرواء"(775).

(3)

"النوادر والزيادات" 1/ 654.

(4)

السابق 1/ 656.

(5)

روي من حديث أبي هريرة وابن عباس وحسان بن ثابت.

حديث أبي هريرة رواه الترمذي (1056)، وابن ماجه (1576)، وأحمد 2/ 337، 356، وابن حبان 7/ 452 (3178) والبيهقي 4/ 78 من طريق أبي عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور.

قال عبد الحق في "أحكام" 2/ 151: في إسناده عمر بن أبي سلمة، وهو ضعيف =

ص: 511

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عندهم. وذكر ابن القطان اعتراض على هذا في "البيان" 5/ 511 - 512. وأعله القرطبي في "المفهم" 2/ 633 بعمر بن أبي سلمة أيضًا.

وقال الألباني في "الإرواء" 3/ 233: رجاله ثقات رجال الشيخين غير عمر بن أبي سلمة. وقال في "أحكام الجنائز" ص 235: رجال إسناد الحديث ثقات كلهم، غير أن في عمر بن أبي سلمة كلامًا لعل حديثه لا ينزل به عن مرتبة الحسن، لكن حديثه هذا صحيح لما له من الشواهد.

أما حديث ابن عباس فقد رواه أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي 4/ 94 - 95، ابن ماجه (1575)، وأحمد 1/ 229، 287، 324، 337، وابن حبان 7/ 452 - 454 (3179 - 3180)، والحاكم 1/ 374، والبيهقي 4/ 78 من طريق محمد بن جحادة، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج.

قال ابن حبان: أبو صالح هذا اسمه ميزان، بصري ثقة، وليس بصاحب الكلبي، ذاك اسمه باذام.

وقال الحاكم: أبو صالح هذا ليس بالسمان المحتج به، إنما هو باذان، ولم يحتج به الشيخان.

وضعف عبد الحق الحديث في "الأحكام" 2/ 151 وجزم بأن أبا صالح هنا هو صاحب الكلبي الضعيف. واعترض ابن القطان عليه في "البيان" 5/ 563 - 564 وكلامه يشعر بتوثيق أبي صالح.

وحديث ابن عباس ضعفه الألباني في "الإرواء"(761)، وفي "الضعيفة"(225)، وقال في "تمام المنة" ص 297: الحديث على شهرته ضعيف الإسناد، وانظر:"البدر المنير" 5/ 346 - 349.

وأما حديث حسان بن ثابت فقد رواه ابن ماجه (1574)، وأحمد 3/ 442 - 443، والحاكم 1/ 374، والبيهقي 4/ 78 من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن بهمان، عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زورات القبور.

قال البوصيري في "الزوائد"(530): إسناد صحيح، رجاله ثقات.

والحديث بمجموع طرقه الثلاث صححه الألباني في "الإرواء"(774).

ص: 512

قال القرطبي: ويُمكن أن يُقال إنَّ النِّساءَ إنما يُمنعن من إكثار الزيارة؛ لما يؤدي إليه الإكثار من تضييع حقوق الزوجِ، والتبرج والشهرة والتشبه عن تلازم القبور لتعظيمها، ولما يخاف عليها من الصراخ، وغير ذلك من المفاسد، وعلى هذا يُفرق بين الزائرات والزوَّارات

(1)

.

قلتُ: والحديث ورد بهما.

والأمة مُجمعة على زيارة قبرِ نبينا صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وكان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبره المكرم، فقال: السلام عليك يا رسولَ الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليكم يا أبتاه

(2)

.

ومعنى النهي عن زيارة القبور إنما كان في أول الإسلام عند قربهم بعبادة الأوثان واتخاذ القبور مساجد، فلما استحكم الإسلام وقوي في قلوب الناس وأُمنت عبادة القبور والصلاة إليها، نُسخ النهي عن زيارتها؛ لاْنها تُذكِرُ بالآخرةِ، وتُزهد في الدنيا.

وروينا عن طاوس قال: كانوا يستحبون أن لا يتفرقوا عن الميتِ سبعة أيام، لأنهم يُفتنون ويُحاسبون في قبورهم سبعةَ أيامٍ.

وفي حديثِ أنس ما كان عليه من التواضع والرفق بالجاهل؛ لأنه لم

(1)

"المفهم" 2/ 633.

وقال الألباني: تبين من تخريج الحديث أن المحفوظ فيه إنما هو بلفظ: زوارات؛ لاتفاق حديث أبي هريرة وحسان عليهن وكذا حديث ابن عباس في رواية الأكثرين. "أحكام الجنائز" ص 236.

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف" 3/ 576 (6724) وابن سعد في "طبقاته" 4/ 156، وابن أبي شيبة 3/ 29 (11792)، والبيهقي 5/ 245 من طريق نافع عنه.

وصححه الألباني في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"(100).

ص: 513

ينتهر المرأةَ حين قالت له: إليك عني. وعذرها بمصيبتها، وإنما لم يتخذ بوَّابين؛ لأن الله أعلمه أنه يعصمه من الناس

(1)

.

وفيه: أنه من اعتذر إليه بعذرٍ لائح أنه يجب عليه قبوله.

فرع:

انفرد الماوردي بقوله: لا تجوز زيارةُ المسلمِ قبرَ قريبه الكافِر، مُستدلا بقوله {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}

(2)

[التوبة: 84]. والأحاديث على خلاف ما قال.

(1)

يشير المصنف إلى قوله تعالى في سورة المائدة: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [آية: 67].

(2)

"الحاوي الكبير" للماوردي 3/ 19.

قال النووي في "المجموع" 5/ 120: هذا غلط.

ص: 514

‌32 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ" إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ

لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". [انظر: 893] فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} [فاطر: 18] وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ البُكَاءِ فِي غَيْرِ نَوْحٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا". [انظر: 3335 - فتح: 3/ 150] وَذَلِكَ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ.

1284 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ وَمُحَمَّدٌ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ: إِنَّ ابنا لِي قُبِضَ فَائْتِنَا. فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: "إِنَّ لله مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ". فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ -قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ- كَأَنَّهَا شَنٌّ. فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا؟ فَقَالَ:"هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ". [5655، 6602، 6655، 7377، 7448 - مسلم: 923 - فتح: 3/ 151]

1285 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَرَسُولُ

ص: 515

اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى القَبْرِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ قَالَ: فَقَالَ: "هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟ ". فَقَالَ أَبُو: طَلْحَةَ أَنَا. قَالَ: "فَانْزِلْ". قَالَ: فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا.

[1342 - فتح: 3/ 151]

1286 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا -أَوْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَي أَحَدِهِمَا. ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ، فَجَلَسَ إِلَي جَنْبِي- فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمَرَ رضي الله عنهما لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ: أَلَا تَنْهَى عَنِ البُكَاءِ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". [مسلم: 928 - فتح: 3/ 151]

1287 -

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَدْ كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ. ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ادْعُهُ لِي. فَرَجَعْتُ إِلَي صُهَيْبٍ فَقُلْتُ: ارْتَحِلْ فَالحَقْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِي يَقُولُ وَاأَخَاهُ، وَاصَاحِبَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِي عَلَيَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ"؟!. [1290، 1292 - مسلم: 927 - فتح: 3/ 151]

1288 -

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها فَقَالَتْ: رَحِمَ اللهُ عُمَرَ، وَاللهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ لَيُعَذِّبُ المُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إِنَّ اللهَ لَيَزِيدُ الكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". وَقَالَتْ حَسْبُكُمُ القُرْآنُ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَاللهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما شَيْئًا. [1289، 3978 - مسلم: 929 - فتح: 3/ 151]

1290 -

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ -وَهْوَ: الشَّيْبَانِيُّ- عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ رضي الله عنه جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ:

ص: 516

وَاأَخَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ"؟ [انظر: 1287 - مسلم: 927 - فتح: 3/ 152]

1289 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها -زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا". [انظر: 1288 - مسلم: 932 - فتح: 3/ 152]

وذكر عن أسامة بن زيد، قال: أَرْسَلَتِ ابنةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ: إِنَّ ابأ لِي قُبِضَ فَائْتِنَا .. الحديث بطوله.

وعن أنس: شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالسٌ عَلَى القَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ. الحديث.

وعن ابن أبي مليكة: تُوُفِّيَتِ ابنة لِعُثْمَانَ بِمَكَةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا .. الحديث.

وعن أبي بردة عن أبيه: لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ: وَاأَخَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ المَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ"؟

وعن عائشة: إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِي عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا".

الشرح:

أما قوله: (قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يُعَذَّبُ المَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْه") فذكره بعده مسندًا، وأما قوله:(إِذَا كَاْنَ النَّوْحُ مِنْ سُنتِّهِ) كذا في الدمياطي وفي بعض النسخ باب: إِذَا كَاْنَ النَّوْحُ من سنته

(1)

، وضبطه بالنون ثم

(1)

في بعض النسخ: إذا كان النوح من سببه اهـ من هامش اليونينية.

ص: 517

مثناة فوق، وقال صاحب "المطالع": وهو عند أكثر الرواة أي: بما سَنَّه واعتاده، إذ كان من العرب من يأمر بذلك أهله قَالَ شاعرهم:

إذا من فابكيني بما أنا أهله

وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد

وهو الذي تأوله البخاري، وهو أحد التأويلات في الحديث، ولبعضهم بالباء الموحدة المكررة أي: من أجله. وذكر عن محمد بن ناصر السلامي أن الأول تصحيف والصواب الثاني، وأي سُنة للميت؟

وأما حديث: ("كلكم راعٍ") فسيأتي مسندًا من حديث ابن عمر

(1)

.

وأما قول عائشة في: (فإذا لم يكن النوح من سنته) فيأتي في الباب مسندًا.

وأما حديث: "لا تقتل نفس ظلمًا". يأتي مسندًا في الديات من حديث ابن مسعود

(2)

.

وأما حديث أسامة فأخرجه مسلم

(3)

.

وقول البخاري: (حَدَّثنَا عبدان) ومحمد: هو ابن مقاتل، ويأتي في الطب أيضًا والنذور والتوحيد

(4)

، وأخرجه أيضًا أبو داود والنسائي وابن ماجه

(5)

.

(1)

سيأتي برقم (2554) كتاب: العتق، باب: كراهية التطاول على الرقيق.

(2)

سيأتي برقم (6867) باب: قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} .

(3)

"صحيح مسلم"(923) كتاب: الجنائز، باب: البكاء على الميت.

(4)

سيأتي برقم (5655) كتاب: المرضى، باب: عيادة الصبيان، وبرقم (6655) كتاب: الأيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} ، وبرقم (7377) كتاب: التوحيد، باب: ما جاء في قول الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ} .

(5)

"سنن أبي داود"(3125) كتاب: الجنائز، باب: في البكاء على الميت، و"سنن النسائي" 4/ 21 - 22 كتاب: الجنائز، باب: الاحتساب عند نزول المصيبة.

و"سنن ابن ماجه"(1588) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في البكاء على الميت.

ص: 518

وأما حديث أنس: فهو من أفراده، وقال فليح بن سليمان: أُراه يعني: الذنب، وقال في آخر:{وَلِيَقْتَرِفُوا} [الأنعام: 113]: ليكتسبوا

(1)

، وفي رواية للفريابي في "مسنده":"لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله" فلم يدخل عثمان القبر

(2)

.

وأما حديث ابن أبي مُليكة

(3)

وأبي بردة عن أبيه

(4)

وعائشة فأخرجهما مسلم أيضًا

(5)

.

إذا تقرر ذلك فالكلام في أمور:

أحدها:

بنت النبي صلى الله عليه وسلم المرسِلة ذكر ابن بشكوال وغيره أنها زينب

(6)

، والابنة المتوفاة أم كلثوم، ماتت سنة تسع

(7)

. وفي "تاريخ البخاري الأوسط":

(1)

سيأتي برقم (1342) باب: من يدخل قبر المرأة.

(2)

يأتي تخريجه بنحوه قريبًا.

(3)

"صحيح مسلم"(928) كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

(4)

"صحيح مسلم"(927) باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

(5)

"صحيح مسلم"(932) باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

(6)

"غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 305.

وبه جزم الحافظ في "الفتح" 3/ 156، والعيني في "العمدة" 6/ 438، وزكريا الأنصاري في "المنحة" 3/ 356.

(7)

يقصد المصنف رحمه الله الابنة المتوفاة في حديث أنس بن مالك (1285).

فجزم المصنف بأنها أم كلثوم، وقال ابن بشكوال: قيل: هي زينب وقيل: إنها رقية وقيل: أم كلثوم، والأول أصح إن شاء الله؛ والحجة لما صححناه، وساق بإسناده من طريق ابن أبي شيبة: ثنا شريح بن النعمان قال: ثنا فليح، عن هلال بن علي، عن أنس قال: شهدنا جنازة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث.

ثم قال: وذكر البخاري أيضًا قال: ثنا محمد بن سنان قال: ثنا فليح بن سليمان قال: ثنا هلال بن علي عن أنس بن مالك قال: شهدنا دفن أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. الحديث "غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 150 - 152.

ص: 519

لما ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله: "لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة" فلم يدخل عثمان القبر

(1)

. قَالَ البخاري: لا أدرى ما هذا؟ النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد رقية

(2)

، أي: لأنها ماتت وهو ببدر

(3)

. وقال الطبري: روى أنس أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها قَالَ: "لا ينزل في قبرها أحدٌ قارف الليلة"

(4)

فذكر رقية فيه وهم

(5)

، وقال الخطابي: يشبه قوله: شهدنا بنتًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أنها كانت ابنة لبعض بناته فنسبت إليه

(6)

. وابنة عثمان هي أم أبان كما قاله أبو عمر

(7)

، لكن له ابنتان كل منهما أم أبان، فالكبرى أمها رملة بنت شيبة بن ربيعة، والصغرى أمها نائلة بنت الفرافصة، فالله أعلم أيهما.

(1)

"التاريخ الأوسط" 1/ 404. وهو في "التاريخ الصغير" 1/ 18.

ورواه أيضًا أحمد 3/ 229، 270، والحاكم في "المستدرك" 4/ 47 وصححه على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن حزم في "المحلى" 5/ 145، وابن بشكوال في "الغوامض" 1/ 151 - 152 من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، به.

(2)

قاله ابن بشكوال 1/ 152.

وقال أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث خطأ من حماد بن سلمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشهد دفن رقية ابنته، ولا كان ذلك القول منه في رقية، وإنما كان ذلك القول منه في أم كلثوم ثم قال: ولفظ حديث حماد بن سلمة أيضًا في ذلك منكر مع ما فيه من الوهم في ذكر رقية اهـ "الاستيعاب" 4/ 400.

(3)

انظر ما سيأتي برقم (3130، 4066).

(4)

رواه البخاري في "التاريخ الصغير" 1/ 18.

(5)

قلت: وجزم الحافظ في "الفتح" 3/ 158، والعيني في "العمدة" 6/ 442، والسيوطي في "التوشيح" 3/ 1072، وزكريا الأنصاري في "المنحة" 3/ 358، والقسطلاني في "الإرشاد" 3/ 312 بأن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم المتوفاة هي أم كلثوم زوجة عثمان.

(6)

"أعلام الحديث" 1/ 681.

(7)

"التمهيد" 17/ 276 - 277.

قلت: وجاء مصرحًا باسمها هكذا عند مسلم (928).

ص: 520

ثانيها:

إرسال ابنته إليه عند موت ابنها له فوائد: الأولى: بركة موعظته وشهوده. ثانيها: لما ترجو لنفسها من الصبر عند رؤيته. ثالثها: لئلا يظن حاسد أنه ليس لها عنده كبير مكان.

ثالثها:

قولها: (إِنَّ ابنا لِي قُبِضَ) تريد: قارب ذلك لا جرم، قَالَ ابن ناصر: حضر. وفي رواية أخرى للبخاري: احتضر

(1)

. وفي أخرى له: ابنتي قد حضرت

(2)

. والابن لا أعلم اسمه، ومن خط الدمياطي اسمه علي، والبنت اسمها: أميمة. وقيل: أمامة بنت أبي العاصي بن الربيع

(3)

. ذكرها ابن بشكوال

(4)

.

رابعها:

قوله: (فَأرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلَامَ) هو بضم الياء، وروي بفتحها. قَالَ ابن التين: ولا وجه له إلا أن يريد: يقرأ عليك. فيحتمل أن يكون فعل ذلك؛ لشغل كان فيه؛ أو لئلا يرى ما يوجعه؛ لأنه كان بالمؤمنين رفيقًا، فكيف بذريته؟! ولما يرى من وجع أمه، فلما عزمت عليه رأى إجابتها.

(1)

ستأتي برقم (6655) كتاب: الأيمان والنذور، باب: قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} .

(2)

ستأتي برقم (5655) كتاب: المرضى، باب: عيادة الصبيان.

(3)

ورد بهامش الأصل ما نصه: أما أمامة فتوفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في صحبة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وكان تزوجها علي قبله بوصاية فاطمة له بذلك، وأما أميمة فلا أعلم بنتًا لزينب يقال لها أميمة.

(4)

"غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 305. وانظر: "الفتح" 3/ 156، و"العمدة" 6/ 438.

ص: 521

خامسها:

"إِنَّ لله مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى" أي: له الخلق كله، وبيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ لأنه لما خلق الدواة واللوح والقلم أمر القلم أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، لا معقب لحكمه.

سادسها:

قوله: (وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا شَنٌّ) الشن: السقاء البالي، وضبطه بعضهم بكسر الشين، وليس بشيء، وقعقعته: صوته عند التحريك، وذلك ما يكون من المحتضر من تصعيد النفس، وفي رواية: كأنها شنة

(1)

.

وقوله: ("هذِه رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ") وفي لفظ: "فِي قُلُوبِ مَنْ شاءَ من عِباده"

(2)

وقد صح أن الله تعالى خلق مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين وجعل في عباده رحمة، فبها يتراحمون ويتعاطفون وتحن الأم على ولدها، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى التسعة والتسعين، فأظل بها الخلق، حَتَّى إن إبليس -رأس الكفر- يطمع لما يرى من رحمة الله عز وجل

(3)

.

سابعها:

قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر). الظاهر -والله أعلم- أن المراد: جالسٌ بجانبه، واستدل به ابن التين على إباحة الجلوس على

(1)

ستأتي برقم (7448) كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ} .

(2)

سيأتي برقم (5655) كتاب: المرضى، باب: عيادة الصبيان.

(3)

سيأتي برقم (6000) كتاب: الأدب، باب: جعل الرحمة مائة جزء، ورواه مسلم (2752).

ص: 522

القبر، وهو قول مالك

(1)

، وزيد بن ثابت وعلي، وقال ابن مسعود وعطاء: لا تجلس عليه

(2)

. وبه قَالَ الشافعي والجمهور

(3)

لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلُّوا إليها"

(4)

.

وقوله: ("لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبرٍ") أخرجهما مسلم

(5)

وظاهر إيراد المحاملي وغيره

(6)

-ولفظه: قال أصحابنا: تجصيص القبر مكروه والقعود عليه حرام، وكذلك الاستناد إليه والاتكاء عليه- أنه حرام.

ونقله النووي في "شرح مسلم" عن الأصحاب

(7)

، وتأوله مالك، وخارجة بن زيد على الجلوس لقضاء الحاجة، وهو بعيد.

فرع:

لا يوطأ أيضًا إلا لضرورة ويكره أيضًا الاستناد إليه احترامًا.

(1)

انظر: "التاج والإكليل" 3/ 74، "مواهب الجليل" 3/ 75.

(2)

روى عنهما عبد الرزاق في "مصنفه" 3/ 510 - 511 (6509)، (6512 - 6513) كتاب: الجنائز، باب: المزابي والجلوس على القبر.

(3)

انظر: "المجموع" 5/ 287 - 288، "المغني" 3/ 440.

(4)

مسلم (972) من حديث أبي مرثد الغنوي.

(5)

"مسلم"(971) في الجنائز، باب: النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه.

(6)

ورد بهامش الأصل ما نصه: والشيخ في "المهذب" لكن الذي في "الروضة" مجزومًا به الكراهة وكذا في "شرح المهذب" في آخر باب الدفن ثم أعاد المسألة في باب التعزية من الشرح المذكور وقال: وكره الشافعي والجمهور الجلوس عليه ودوسه، وقال الشيخ في "المهذب" والمحاملي في "المقنع": لا يجوز. وقد نقل التحريم في "شرح مسلم" عن أصحابنا. كما قاله الشيخ، وذكر الصيمري في "شرح الكفاية" أنه لا يحل لأحد أن يمشي على قبر، ولا ينبغي أن يستند إليه، هذا لفظه. بعض كلام المهمات.

(7)

"صحيح مسلم بشرح النووي" 7/ 27 - 28.

ص: 523

ثامنها:

(فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ): هو بفتح الميم، قَالَ ابن التين: المشهور في اللغة أن ماضيه: دمَع بفتح الميم، فيجوز في مستقبله تثليث العين، وذكر أبو عبيدة لغة أخرى أن ماضيه: مكسور العين فيتعين الفتح في المستقبل، وفعله صلى الله عليه وسلم هذا دال على أن النهي عن البكاء إنما هو عن الصياح كما سيأتي

(1)

.

تاسعها:

فيه استحباب إدخال القبر الرجال ولو كان الميت امرأة؛ لأنه يحتاج إلى قوة، وهم أحرى بذلك، وأيضًا لا يخشى عليهم انكشاف العورة، وقد أمر الشارع أبا طلحة أن ينزل في القبر المذكور.

ومعنى: "لَمْ يُقَارِفِ" بالقاف السابقة ثم بالفاء اللاحقة في آخره، وقد أسلفنا عن فليح أنه قَالَ في الأصل بعد هذا: أي: لم يذنب. وقيل: لم يُجامِع أهله، وهو أظهر، وإنما أراد بعد الطهارة لما يرجى في ذلك للمنزولة في قبرها، وعُلِّلَ أيضًا بأنه حينئذ يقرب بالتلذذ بالنساء، والمدفونة امرأة، فخاف عليه أن يذكِّره الشيطان ما كان فيه تلك الليلة، ويقال: إن تِلك الليلة بات عثمان عند بعض جواريه فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك، فمنعه من النزول في قبرها؛ لأنه لم ينظر في نفسه انقطاع صهارته من سيد الخلق في الصورة، ولا تألم لفراق زوجته، ولا استحب حكاية هذا، وهو من حسن لطفه أنه لم يؤاخذ أحدًا بما فعل ولكن يعرض، وهكذا كان دأبه صلى الله عليه وسلم.

(1)

برقم (1293) كتاب: الجنائز، باب: ما يكره من النياحة على الميت.

ص: 524

فرع:

لو تولى النساء حل ثيابها في القبر فحسن، نص عليه في "الأم"

(1)

.

العاشرة:

فيه دلالة على أنه ليس بذي محرم منها، وإن لم يكن ذو محرم فيختار منهم من يدليها، قاله ابن التين، قَالَ: وقد يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم نزل في قبرها واستعان بمن دلاها معه.

الحادية عشرة:

حديث عمر وابنه: "إن الميت يعذب ببكاء الحي" وإنكار عائشة بقولها: رحم الله عمر وابنه، ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكنه قَالَ:"إن الله ليزيد الكافر ببكاء أهله عليه عذابًا". وقالت: حسبكم القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

وفي لفظ قالت: فما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قط: "إن الميت يعذب ببكاء أهله" ولكنه قَالَ: "إِنَّ الكافر يزيده الله بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَذَابًا"

(2)

. وفي لفظ قالت: إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مُكَذَّبين، ولكن السمع يخطئ

(3)

. وفي لفظ: قَالَ ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: يرحم الله عمر، لا والله مَا حَدَّثَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك

(4)

. وفي لفظٍ قالت: وَهَلَ ابن عمر، إنما قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

قال الشافعي رحمه الله: وإن ولي إخراجها من نعشها وحل عقد من الثياب إن كان عليها وتعاهدها النساء فحسن، "الأم" 1/ 245.

(2)

سيأتي هنا برقم (1288) باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله ..

(3)

رواه مسلم (929) كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

(4)

سيأتي برقم (1288).

ص: 525

"إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن"

(1)

. وذلك مثل قوله: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قام على القليب يوم بدر، وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم:"إنهم يسمعون ما أقول" وقد وهل، وإنما قَالَ:"إنهم ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق" حَتَّى نزلت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ المَوْتَى} [النمل: 80]{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي القُبُورِ} [فاطر: 22] يقولون حين تبوءوا مقاعدهم من النار

(2)

. وفي لفظ: يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب، ولكن نسي أو أخطأ

(3)

، وكل هذِه الألفاظ في الصحيح، وأجاب بعضهم بأن حديث عمر وابنه مجمل فسرته عائشة.

وفيه نظرٌ من وجوه بيَّنها ابن الجوزي:

أحدها: أن الذي روته عائشة حديث وهذا حديث، ولا تناقض بينهما، لكل واحد منهما حكمه.

ثانيها: أنها أنكرت برأيها، وقول الشارع عند الصحة لا يلتفت معه إلى رأي أحد.

ثالثها: أن ما ذكرته لا يحفظ عن غيرها، وحديث عمر محفوظ عنه

(4)

وعن ابنه

(5)

والمغيرة

(6)

، وهم أولى بالضبط.

وقد اختلف العلماء في معنى تعذيبه ببكاء أهله عليه على أقوال:

(1)

سيأتي برقم (3978) كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل.

(2)

سيأتي برقم (3979) كتاب: المغازي، باب: قتل أبي جهل.

(3)

رواه مسلم (932) كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهل عليه.

(4)

حديث الباب (1286).

(5)

أحاديث الباب أيضًا (1287 - 1290).

(6)

يأتي برقم (1291)، ورواه مسلم (933).

ص: 526

أصحها: وهو تأويل الجمهور على أنه محمولٌ على من أوصى به، كما كانت العرب تفعله؛ لأنه بسببه وهو منسوب إليه، وإليه ذهب البخاري في قوله: إذا كان النوح من سنته -يعني: أنه يوصي بذلك- أو من سببه بها على ما سلف، وهو قول الظاهر، وأنكروا قول عائشة وأخذوا بالأحاديث السالفة.

ثانيها: أنه يعذب بسماعه بكاء أهله، ويرق لهم ويسوؤه إتيانه ما يكره ربه، قَالَ القاضي عياض: وهو أولى الأقوال، وفيه حديث قيلة مطولًا، وفيه:"والذي نفس محمد بيده، إن إحداكن لتبكي فتستعبر إليه صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم"

(1)

.

قال الطبري: الدليل على أن بكاء الحي على الميت تعذيب من الحي له لا تعذيب من الله ما رواه عوف عن خلاس بن عمرو، عن أبي هريرة قَالَ: إنَّ أعمالكم تعرض على أقربائكم فإن رأوا خيرًا فرحوا به، وإن رأوا شرًّا كرهوه، وإنهم ليستخبرون الميت إذا أتاهم من مات بعدهم، حَتَّى إن الرجل ليسأل عن امرأته أتزوجت أم لا؟

ثالثها: كانوا يعددون في نواحهم جرائم الموتى ويظنونه محمودًا كالقتل وشن الغارات، فهو يُعذب بما ينوحون به عليه، وقيل: يقال للميت إذا ندبوه: أكنت كذاك؟ فذاك التوبيخ عذاب.

رابعها: إن قوله: ("ببكاء") أي: عند بكاء أهله يعذب بذنبه، قَالَ القاضي حسين: يجوز أن يكون الله قدر العفو عنه، إن لم يبكوا عليه،

(1)

"إكمال المعلم" 3/ 371 - 372.

والحديث رواه ابن سعد 1/ 317 - 320، والطبراني 25/ 7 (1) مطولًا.

قال الهيثمي في "المجمع" 6/ 9 - 12: رجاله ثقات. وحسن الحافظ إسناده في "الفتح" 3/ 155.

ص: 527

فإذا بكوا وندبوا وناحوا عُذِّب بذنبه لفوات الشرط.

خامسها: أنه محمول على الكافر وغيره من أصحاب الذنوب، صححه الشيخ أبو حامد

(1)

.

سادسها: أنه مخصوص بشخص بعينه، ذكره القاضي أبو بكر بن

الطيب احتمالًا، وذهبت عائشة إلى أن أحدًا لا يعذب بفعل غيره، وهو إجماع للآية السالفة {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

وقوله: ({وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا})[الأنعام: 164] وكل حديث أتى فيه النهي عن البكاء فمعناه: البكاء الذي يتبعه الندب والنياحة عند العلماء، فإنه إذًا يسمى بكاء؛ لأن الندب على الميت كالبكاء عليه، فإن البكاء بالمد: الصوت. وبالقصر: الدمع، كما نص عليه أهل اللغة: الخليل والأزهري والجوهري وغيرهم

(2)

.

والإشكال في تعذيب الحي بذلك للنهي عنه، وأما تعذيب الميت فقد علمت ما فيه، وحكى الخطابي عن بعض أهل العلم أن معظم عذاب المعذب في قبره يكون عند نزوله لَحْدَهُ، وما ذهبت إليه عائشة أشبه بدلائل الكتاب، وما زِيدَ في عذاب الكافر باستيجابه لا بذنب غيره؛ لأنه إذا بكي عليه تذكر فتكاته وغاراته، فهو مستحق للعذاب بذلك، وأهله يعدون ذلك من فضائله، وهو يعذب من أجلها، فإنما يعذب بفعله لا ببكاء أهله عليه، هذا معنى قول عائشة: إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه. وهو موافق لقوله تعالى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وقد اختلف في معنى هذِه الآية، فقيل: إنه المذنب

(1)

انظر: "أسنى المطالب" 1/ 336.

(2)

"العين" 5/ 417 - 418، "تهذيب اللغة" 1/ 379، "الصحاح" 6/ 2284.

وانظر: "المجمل" 1/ 132، و"لسان العرب" 1/ 337.

ص: 528

لا يؤخذ غيره بذنبه. وقيل: لا يعمل المرء بالإثم اقتداء بغيره كما قَالَ الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. وإذا أول الحديث السالف، خرج عن معنى ما أنكرته

(1)

، ولكن تأويل عمر في قوله لصهيب: أتبكي عليَّ؟ ثم ذكر الحديث يدل على أن الحديث محمول على ظاهره لا كما فهمت عائشة، على أن الداودي قَالَ: قول عائشة: إن الله ليزيد الكافر. إلى آخره ردًّا لقولها: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وما أرى هذا محفوظًا عنها، وقول ابن عباس: الله أضحك وأبكى، يعني: أنه لم يذكر ذلك إلا بحق، وأنه أذن في الجميل منه، فلا يعذب على ما أذن فيه، ويؤيد ذلك قوله:"إنما هي رَحْمَةٌ يضعهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ"

(2)

.

(1)

"أعلام الحديث" 1/ 683 - 684، و"معالم السنن" 1/ 263 - 264.

(2)

ورد بهامش الأصل: ثم بلع رابعًا كتبه مؤلفه غفر الله له.

ص: 529

‌33 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى المَيِّتِ

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ.

وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، (وَاللَّقْلَقَة)

(1)

الصَّوْتُ.

1291 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ المُغِيرَةِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ". [مسلم:4، 933 - فتح: 3/ 160]

1292 -

حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ". تَابَعَهُ عَبْدُ الأَعْلَى: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ. وَقَالَ آدَمُ، عَنْ شُعْبَةَ، "المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ عَلَيْهِ". [انظر: 1287 - مسلم: 927 - فتح: 3/ 161]

وذكر فيه حديث المُغِيرَةِ: "إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبِ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمَّدًا فَلْيَتَبَؤَأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ".

وحديث شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيبِ، عَنِ ابن عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"المَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ". تَابَعَهُ عَبْدُ الأَعْلَى: ثنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ثَنَا شعبة، ثَنَا قَتَادَةُ. وَقَالَ آدمُ، عَنْ شُعْبَةَ:"المَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الحَيِّ عَلَيْهِ".

(1)

في الأصل: القلقة.

ص: 530

الشرح:

أما تعليق عمر فأسنده البيهقي من حديث الأعمش عن شقيق قَالَ: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة من آل المغيرة يبكين عليه. فقيل لعمر: أرسل إليهن فانههن. فقال عمر: ما عليهن أن يهرقن دموعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقع أو لقلقة

(1)

.

وأمَّا قوله: (والنقع: التراب على الرأس)

(2)

. فهو أحد الأقوال فيه، وقال ابن فارس: النقع: الصراخ. ويقال: هو النقيع. والنقع: الغبار

(3)

، وقال الهروي: إنه رفع الصوت واللقلقة، كأنها حكاية الأصوات إذا كثرت

(4)

. قَالَ شِمْر في قوله: (ما لم يكن نقع ولا لقلقة)، أي: شق الجيوب، وقال الإسماعيلي: النقع هنا: الصوت العالي، واللقلقة: حكايته ترديد النواحة.

وقال صاحب "المطالع"

(5)

: النقع: الصوت بالبكاء. قَالَ: وبهذا فسره البخاري. وهو غريب، فالذي فسره ما قدمناه عنه. وقال الأزهري: هو صوت لذم الخدود إذا ضربت

(6)

. وقال في "المحكم": إنه الصراخ

(7)

. ويقال: هو النقيع. وقيل: وضعهن على رءوسهن النقع، وهو الغبار. وهو موافق لتفسير البخاري.

(1)

"السنن الكبرى" 4/ 71 كتاب: الجنائز، باب: سياق أخبار تدل على جواز البكاء بعد الموت. ورواه أيضًا الحاكم 3/ 297 وغيرهما. وصححه الحافظ كما في "الفتوحات الربانية" 4/ 105.

(2)

"لسان العرب" 8/ 4527 - 4528.

(3)

"المجمل" 2/ 883.

(4)

"غريب الحديث" 2/ 41.

(5)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: ذكر صاحب "المطالع" التفسيرين: الأول وهذا، وعزاهما إلى البخاري.

(6)

"تهذيب اللغة" 4/ 3649 - 3651.

(7)

"المحكم" 1/ 134 - 135.

ص: 531

وقال الكسائي: هو صنعة الطعام في المآتم. قَالَ أبو عبيد: النقيعة: طعام القدوم من السفر لا هذا

(1)

. وقال الجوهري: النقيع: الصراخ. ونقع الصوت واستنقع، أي: ارتفع

(2)

. وفي "الموعَب": نقع الصارخ بصوته، وأنقع إذا تابعه. وفي "الموعَب" و"الجمهرة"

(3)

: إنه الصوت واختلاطه في حرب أو غيرها. فتحصلنا على ثلاثة أقوال فيه.

وأما قوله: (واللقلقة: الصوت)

(4)

. فهو كما قَالَ، وقد أسلفنا كلام الهروي فيه، وكذا كلام الإسماعيلي. وقال القزاز: هو تتابع الصوت كما تفعل النساء في المآتم، وهو شدة الصوت. وقال ابن سيده عن ابن الأعرابي: تقطيع الصوت. وقيل: الجلبة

(5)

.

قَالَ الداودي: لما قَالَ عمر: دعهن يبكين على أبي سليمان -يعني: خالدًا- قَالَ له طلحة: أما الآن تقول هذا، وأما في حياته فبعته بالرسن، وما مثلك ومثله إلا كما قَالَ الأول:

لألفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادا

وذلك أن عمر حين قتل خالد قومًا ممن كان ارتد ثم تاب ولم ير أن توبته تنفعه

(6)

. فأراد عمر أبا بكر على أن يقيد منه، فأبى عليه، فلما أكثر عليه قَالَ له: ليس ذلك عليك منه، تأول فأخطأ. ووداهم أبو بكر، فأراد عمر أبا بكر على عزل خالد من الشام وقال له: إنه جعل يعطي المال ذا

(1)

"غريب الحديث" 2/ 40.

(2)

"الصحاح" 3/ 1292.

(3)

"الجمهرة" لابن دريد 2/ 943.

(4)

"الصحاح" 4/ 1550 و"لسان العرب" 7/ 4063.

(5)

"المحكم" 6/ 85.

(6)

انظر ما سيأتي برقم (4339).

ص: 532

الشرف وذا النبلاء، فاكتب إليه أن لا ينفق درهمًا إلا بإذنك، فقال أبو بكر: ما كنت لأفعل ذلك به وهو بإزاء العدو. فلم يزل به عمر حَتَّى كتب إليه بذلك، فكتب إليه: ما أطيق ذلك وأنا بإزاء العدو، فجئ على عملك بمن بدا لك. فقال أبو بكر: من يعذرني من عمر، من يقوم لي مقام خالد؟ فقال عمر: أنا، ولا أنفق من المال درهمًا إلا بإذنك. فأمره بالخروج، فلما فرغ من جهازه قَالَ بعض من لا ينفس على عمر: عمدت إلى رجل كفاك أكثر أمرك تغيبه عن وجهك. فقال: صدقت قل له: أقم فقد بدا لنا، فقال: سمعًا وطاعةً. فلم يلبث أن توفي أبو بكر، فقال عمر: كذبت الله، أنْ أشرتُ على أبي بكر برأي أخالفه فكتب إلى خالدٍ: أن لا تنفق من المال إلا بإذني، فكتب إليه لا أطيق ذلك وأنا بإزاء العدو فجئ على عملك بمن بدا لك. فعزله وأمَّر أبا عبيدة مكانه.

فإن قلت: نهى عمر صهيبًا عن بكائه عليه فيما مضى، وهنا لم ينه عنه. قلتُ: لأن صهيبًا بكى عمر بندب وصياح، فقال: واصاحباه واأخاه. فنهاه لأجل ذلك. وحديث المغيرة: "من نيح عليه" إلى آخره أخرجه مسلم بزيادة عن علي بن ربيعة قَالَ: أول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره

(1)

. وحديث عمر أخرجه مسلم أيضًا

(2)

.

أما حكم الباب: فالنوح حرام بالإجماع؛ لأنه جاهلي وكان صلى الله عليه وسلم يشترط على النساء في مبايعتهن على الإسلام أن لا ينحن

(3)

.

(1)

"صحيح مسلم"(933) كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

(2)

"صحيح مسلم"(927/ 17).

(3)

دل على ذلك حديث يأتي برقم (1306) كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك.

ص: 533

وفي الباب عن أربعة عشر صحابيًّا في لعن فاعله والوعيد والتبرؤ: ابن مسعود (خ

(1)

، م

(2)

)، وأبي موسى (خ

(3)

، م

(4)

) وأم عطية (خ، م)

(5)

وعبد الله بن معقل بن مقرن تابعي وأبي مالك الأشعري (م)

(6)

وأبي هريرة وأم سلمة (م)

(7)

وابن عباس في (ت)

(8)

ومعاوية وأبي سعيد (د)

(9)

وأبي أمامة (ق)

(10)

وعلي وجابر وقيس بن عاصم (ت)، وجنادة بن مالك

(11)

.

وأما حديث: يا رسول الله، إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد لي أن أسعدهم فقال:"إلا آل فلان"

(12)

فجوابه: إما

(1)

سيأتي برقم (1294) كتاب: الجنائز، باب: ليس منا من شق الجيوب.

(2)

"صحيح مسلم"(103) كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية.

(3)

سبق برقم (1290) كتاب: الجنائز، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه".

(4)

"صحيح مسلم"(927/ 19) كتاب: الجنائز، باب: الميت يعذب ببكاء أهله عليه.

(5)

سيأتي برقم (1306) كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك، و"صحيح مسلم" (936) كتاب: الجنائز، باب: الشديد في النياحة.

(6)

"صحيح مسلم"(934).

(7)

وجدته من حديث أم سلمة فقط في "صحيح مسلم"(922) كتاب: الجنائز، باب: البكاء على الميت.

(8)

"سنن الترمذي" عقب الرواية (1004) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت.

(9)

"سنن أبي اود"(3128) كتاب: الجنائز، باب: في النوح.

(10)

"سنن ابن ماجه"(1585) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في ضرب الخدود وشق الجيوب.

(11)

"سنن الترمذي"(1000) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في كراهية النوح.

(12)

"صحيح مسلم"(937) كتاب: الجنائز، باب: التشديد في النياحة.

ص: 534

الخصوصية بها أو كان قبل تحريمها، وهو فاسد، أو يكون قوله:"إلا آل فلان" إعادة لكلامها على وجه الإنكار.

والباب دال على أن النهي عن البكاء على الميت إنما هو إذا كان فيه نوح، وأنه جائز بدونه، فقد أباح عمر لهن البكاء بدونه.

وشرط الشارع في حديث المغيرة أنه يُعذب بما نيح عليه. فدل أن البكاء بدونه لا عذاب فيه. وحديث جابر الآتي في الباب بعده دال له؛ لأن زوجته بكت عليه بحضرته. ولم يزد على أكثر من تسليتها بقوله: "إنَّ الملائكة تظله بأجنحتها حَتَّى رفع"

(1)

فسلَّاها عن حزنها عليه بكرامة الله تعالى له، ولم يقل لها: إنه يعذب ببكائك عليه.

وحديث: ("من كذب عليَّ متعمدًا"). إلى آخره سلف أول

الكتاب

(2)

بشرحه مبسوطًا، والكذب حقيقة: الإخبار بالشيء على ما ليس هو به. وشرطت المعتزلة فيه العمدية. والخطاب دال على أن من الكذب ما لم يتعمده قائله ويقع عليه اسم كاذب فهو رد عليهم.

(1)

حديث (1293).

(2)

برقم (110) كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي.

ص: 535

‌34 - باب

1293 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ المُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: جِيءَ بِأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ، قَدْ مُثِّلَ بِهِ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ سُجِّيَ ثَوْبًا، فَذَهَبْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكْشِفَ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَكْشِفُ عَنْهُ فَنَهَانِي قَوْمِي، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُفِعَ فَسَمِعَ صَوْتَ صَائِحَةٍ، فَقَالَ:"مَنْ هَذِهِ؟ ". فَقَالُوا: ابْنَةُ عَمْرٍو -أَوْ أُخْتُ عَمْرٍو- قَالَ: "فَلِمَ تَبْكِي؟ -أَوْ لَا تَبْكِي- فَمَا زَالَتِ المَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ". [انظر: 1244 - مسلم: 2471 - فتح: 3/ 163]

كذا ذكره من غير ترجمة، وأسقط التبويبَ كلُّ مَنْ شَرَحَه.

ذكر فيه حديث سُفْيَانَ، عن ابن المُنْكَدِرِ، عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: جِيءَ بأَبِي يَوْمَ أُحُدٍ .. الحديث. سلف في باب: الدخول على الميت بعد الموت

(1)

.

وقوله: ("فلِمَ تبكي" أو "لا تبكي") قَالَ الداودي: هو شك من الراوي.

وقوله: ("فلِم تبكي") يدل على أنها غائبة؛ لأنه لو خاطبها لقال: تبكين.

وقوله: أو "لا تبكي" يدل على أنها مخاطبة؛ لأن الياء لا تثبت مع النهي في الغائبة إلا على بعد، وفي الحديث السالف:"تبكين" أو "لا تبكين"

(2)

.

(1)

برقم (1244) كتاب: الجنائز.

(2)

حديث (1244).

ص: 536

‌35 - باب لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوبَ

1294 -

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا زُبَيْدٌ اليَامِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ". [1297، 1298، 3519 - مسلم: 103 - فتح: 3/ 163]

ذكر فيه حديث عبد الله، يعني: ابن مسعود: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوى الجَاهِلِيَّةِ".

وهو حديث أخرجه ومسلم أيضًا

(1)

، وترجم عليه أيضًا: ليس منا من ضرب الخدود

(2)

. وما ينهى من الويل ودعوى الجاهلية

(3)

.

ومعنى ("ليس منا"): ليس من أهل سنتنا ولا من المهتدين بهدينا، وليس المراد به الخروج من الدين جملة، إذ المعاصي لا يكفر بها عند أهل السنة، اللهم إلا أن يعتقد حلَّ ذلك، وأما سفيان الثوري فقال بإجرائه على ظاهره من غير تأويل؛ لأن إجراءه كذلك أبلغ في الانزجار كما يذكر في الأحاديث التي صيغتها: ليس منا من فعل كذا.

وخصَّ الخدود بالضربِ دون سائرِ الأعضاءِ؛ لأنه الواقع منهنَّ عند المصيبة، ولأن أشرف ما في الإنسان الوجه فلا يجوز امتهانه وإهانته بضرب ولا تشويه ولا غير ذلك مما يشينه، وقد أُمِر الضارب باتقاء الوجه

(4)

.

(1)

"صحيح مسلم"(103) كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب.

(2)

يأتي الحديث تحته برقم (1297).

(3)

يأتي الحديث تحته برقم (1298).

(4)

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه. يأتي برقم (2559)، ورواه مسلم (2612).

ص: 537

والخدود: جمعُ خدٍّ، وليس للإنسان إلا خدَّان، وهذا من باب قوله تعالى:{وَأَطرَافَ النَهَارِ} [طه: 130] ولما تضمن ضرب الخدود عدم الرضا بالقضاء والقدر، ووجود الجزع، وعدم الصبر وضرب الوجه الذي نهي عن ضربه من غير اقتران مصيبة كان فعله حرامًا مؤكد التحريم. والجيوب: جمع جيب، وهو: ما يشق من الثوب، ليدخل فيه الرأس، وحرم لما فيه من إظهار السخط وإضاعة المال.

والجاهلية: ما قبل الإسلام، والمراد بدعواها هنا: ما كانت تفعله عند الموت برفع الصوت ويدخل ذلك تحت الصالقة.

وفي حديث آخر: "ودعا بالويل والثبور"

(1)

فتبين بذلك أنه من دعاء الجاهلية. وفي رواية لمسلم "أو" في الموضعين

(2)

وتحمل رواية الواو عليها.

قَالَ الحسن في قوله تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] قال: لا ينحن، ولا يشققن، ولا يخمشن وجهًا، ولا ينشرن شعرًا، ولا يدعون ويلًا.

وقد نسخ الله تعالى ذلك بشريعة الإسلام وأمر بالاقتصاد في الحزن والفرح وترك الغلو في ذلك، وحَض على الصبر عند المصائب

(1)

رواه ابن ماجه (1585) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن ضرب الخدود، وابن حبان في "صحيحه" 7/ 427 - 428 (3156) كتاب: الجنائز، باب: فصل في النياحة ونحوها، ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 2/ 486 (11343) كتاب: الجنائز، باب: ما ينهى عنه بما يصنع على الميت.

وقال البوصيري في "الزوائد" ص 231 (536): له شاهد في الصحيح، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1289).

(2)

"صحيح مسلم"(103/ 165) كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية.

ص: 538

واحتساب أجرها على الله وتفويض الأمور كلها إليه. فقَالَ تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} إلى قوله: {المُهْتَدُونَ} [البقرة: 156، 157] فحق على كل مسلم مؤمن أن لا يحزن على ما فات، وأن يحمل نفسه على الصبر إلى الممات، لينال أرفع الدرجات، وهي الصلاة والرحمة والهدى، فهي هداية لمن اهتدى.

ص: 539

‌36 - باب رِثَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ ابْنَ خَوْلَةَ

1295 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ بَلَغَ بِي مِنَ الوَجَعِ وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلاَّ ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَى مَالِي؟ قَالَ:"لَا". فَقُلْتُ: بِالشَّطْرِ؟ فَقَالَ: "لَا" ثُمَّ قَالَ: "الثُّلُثُ وَالثُّلْثُ كَبِيرٌ -أَوْ كَثِيرٌ- إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ:"إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا إِلاَّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، ثُمَّ لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ، اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ البَائِسُ سَعْدُ ابْنُ خَوْلَةَ" يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. [انظر: 56 - مسلم: 1628 - فتح: 3/ 164]

ذكر فيه حديث سعد بن أبي وقاص قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يعُودُنِي عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ .. الحديث في آخره: لكن البَائِسُ سَعْدُ ابن خَوْلَةَ" يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ.

هذا الحديث أخرجه البخاري في مواضع عشرة من "صحيحه"

(1)

(1)

سلف برقم (56) كتاب: الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، سيأتي برقم (2742) كتاب: الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء، خير من أن يتكففوا الناس.

وبرقم (2744)، وبرقم (3936) كتاب: مناقب الأنصار، باب: قوله: "اللهم

أمض لأصحابي هجرتهم"، وبرقم (4409) كتاب: المغازي، باب: حجة الوداع.

وبرقم (5354) كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل وبرقم (5659) كتاب: المرضى، باب: موضع اليد على المريض، وبرقم (5668) كتاب: المرضى، باب: ما رخص للمريض أن يقول إن وجع، وبرقم (6373) كتاب: =

ص: 540

ومسلم والأربعة

(1)

، والكلام عليه من أوجه:

أحدها:

هذا ليس من مراثي الموتى، وإنما هو إشفاق منه من موته بمكة بعد هجرته منها وكراهة ما حدث عليه، من ذلك يقول القائل للحي: أنا أرثي لك بما يجري عليك. كأنه يتحزن له، قاله الإسماعيلي، وهو كما قَالَ.

وأما حديث ابن أبي أوفى: كان صلى الله عليه وسلم ينهي عن المرائي. فأخرجه الحاكم وقال: صحيح غريب

(2)

.

وقال ابن أبي صفرة: قوله: (يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة).

من قول سعد في بعض الطرق، وأكثرها أنه من قول الزهري وليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قَالَ القاضي: ويحتمل أن يكون قوله: (أن مات بمكة). و (يرثي له).

من كلام غيره تفسيرًا لمعنى (البائس) إذ روي في رواية: "لكن سعد ابن خولة البائس قد ماتَ في الأرض التي قد هاجَرَ منها"

(3)

.

واختلف في قصة سعد ابن خولة فقيل: لم يهاجر من مكة حَتَّى مات فيها. وقيل: بل هاجر. -أي: الثانية-، وشهد بدرًا -أي: وغيرها- ثم انصرف إلى مكة ومات بها. قاله البخاري، فعلى هذا سبب ترثيه

= الدعوات، باب: الدعاء برفع الوباء والوجع، وبرقم (6733) كتاب: الفرائض، باب: ميراث البنات.

(1)

"صحيح مسلم"(1628) كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، وأبو داود (2864) والترمذي (2116) والنسائي 6/ 241، وابن ماجه (2708).

(2)

"المستدرك" 1/ 383 كتاب: الجنائز.

ورواه أيضًا ابن ماجه (1592).

وضعفه الألباني في "الضعيفة"(4724).

(3)

"إكمال المعلم" 5/ 367.

ص: 541

سقوط هجرته لرجوعه مختارًا وموته بها، وعلى الأول سببها موته بمكة على أي حال وإن لم يكن باختياره؛ لما فاته من الثواب والأجر الكامل بالموت في دار هجرته.

الثاني:

سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. واسم والده: مالك، مات سنة خمس وخمسين. وسعد ابن خولة -وقال أبو معشر: ابن خولي- هو زوج سبيعة الأسلمية

(1)

.

وخولة: قَالَ ابن التين: عند أهل اللغة والعربية ساكن الواو، وكذلك رواه بعضهم. وقال الشيخ أبو الحسن: ما سمعت قط أحدًا قرأه إلا بفتحها، والمحدثون على ذلك. وقال الشيخ أبو عمران عكس ذلك، واختلف فيه: هل هو من بني عامر بن لؤي صلبة أو مولاهم؟ مات بمكة عند زوجته في حجة الوداع

(2)

. قاله يزيد بن أبي حبيب.

وقال الطبري: وهو من أفراده. كما قَالَ ابن عبد البر: مات في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فخرج سعد مختارًا: لا لحج ولا لجهاد؛ لأنه لم يفرض حجًّا

(3)

.

وأما سعد بن أبي وقاص فإنه خرج حاجًّا، ولو مات فيها لم يكن في معنى سعد ابن خولة الذي رثى له الشارع؛ لأن من خرج لفرض وجب عليه وأدركه أجله فلا حرج عليه، ولا يقال له: بائس، ولا يسمى: تاركًا لدار هجرته، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إنَّ مَنْ ماتَ بمكةَ فلا يُدفن بها".

(1)

انظر: "الطبقات الكبرى" 3/ 308.

(2)

انظر: "معجم الصحابة" 3/ 50، و"الاستيعاب" 2/ 153 - 154 (933)، و"أسد الغابة" 2/ 343 (1983).

(3)

"الاستيعاب" 2/ 154 (933).

ص: 542

الثالث:

هذِه الابنة اسمها: عائشة، كما سيأتي في البخاري

(1)

، ثم عوفي سعد بعد ذلك وجاءه عدة أولاد ثمانية.

الرابع: في ألفاظه:

العيادة: الزيارة

(2)

، ولا يقال ذلك إلا لزيارة المريض، وعام حجة الوداع هي السنة العاشرة من الهجرة، وسميت: حجة الوداع؛ لأنه ودعهم فيها، وتسمى أيضًا: البلاغ؛ لأنه قَالَ: "هل بلغت"

(3)

، وحجة الإسلام؛ لأنها الحجة التي تتام فيها حج أهل الإسلام ليس فيها مشرك، هذا قول الزهري.

قَالَ سفيان بن عيينة: كان ذلك يوم فتح مكة، حينئذ عاد عليه السلام سعدا

(4)

. وهو من أفراده، قَالَ البيهقي: خالف سفيان الجماعة فقال: عام الفتح، والصحيح: في حجة الوداع

(5)

. والوجع: اسم لكل مرض.

قَالَ أبو موسى: رويناه بضم الواو على ما لم يسم فاعله، والذي في اللغة وجع على وزن علم

(6)

، وكذلك هو في رواية أخرى

(7)

، ومعنى

(1)

سيأتي برقم (5659) كتاب: المرضى، باب: وضع اليد على المريض، والحديث في "صحيح مسلم" برقم (1628) كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث ولم يصرح فيها بالابنة وإنما ذكر بقوله: عن ثلاثة من ولد سعد.

(2)

انظر: "الصحاح" 2/ 514، و"لسان العرب" 5/ 3159.

(3)

انظر ما سيأتي برقم (1741).

(4)

رواه البيهقي 6/ 268 - 269 كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث.

(5)

"السنن الكبرى" 6/ 269.

(6)

انظر: "الصحاح" 3/ 1294، و"لسان العرب" 8/ 4772.

(7)

ستأتي برقم (3936) كتاب: مناقب الأنصار، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم".

ص: 543

اشتد بي: قَوِي، وفي رواية: أشفيت منه على الموت

(1)

. أي: قاربت، ولا يقال: أشفي إلا في الشر بخلاف أشرف وقارب.

وقوله: (ولا يرثني إلا ابنة). أي: من الولد وخواص الورثة، وإلا فقد كان له عصبة. وقيل: معناه: لا يرثني من أصحاب الفروض سواها. وقيل غير ذلك.

وقوله: (فأتصدق -وفي نسخة: أفاتصدق- بثلثي مالي؟) يحتمل أن يريد به منجزًا ومعلقًا بما بعد الموت. وفي رواية للبخاري تأتي: فأوصي. بدل: فأتصدق

(2)

.

وقوله: (بالشطر). أي: النصف. بدليل رواية البخاري الآتية: فأوصي بالنصف

(3)

.

وقوله: ("الثلث والثلث كثير") يجوز في الثلث الأول نصبه ورفعه.

وقوله: "كثير" أو "كبير" أي: بالثاء المثلثة أو بالباء الموحدة.

وقوله: ("والثلث كثير")، قَالَ الشافعي: يحتمل أن يكون معناه: كثير أي: (غير)

(4)

قليل

(5)

، وهذا أولى معانيه كما قَالَ.

وقوله: ("أن تذر") بفتح الهمزة وكسرها

(6)

.

(1)

انظر التخريج السالف.

(2)

سيأتي برقم (5659) كتاب: المرضى، باب: وضع اليد على المريض.

(3)

انظر: التخريج السابق.

(4)

في الأصل: عن.

(5)

"الأم" 4/ 30.

(6)

ورد بهامش الأصل: قال ابن الجوزي: سمعناه من رواة الحديث بالكسر، وقال لنا عبد الله بن أحمد النحوي: إنما هو بالفتح ولا يجوز الكسر؛ لأنه لا جواب له.

وكذا قال القرطبي: روايتنا الفتح، ووهم من كسرها من (أن) جعلها شرطًا إذ لا جواب له، ويبقى خبر لا رافع له. "المفهم" 4/ 545.

ص: 544

والعاله: الفقراء، جمع عائل. وقيل: العيل والعاله: الفاقة، وقيل: العائل: الكثير العيال

(1)

. وحكاه الكسائي، وليس بالمعروف في اللغة كما قاله ابن التين.

ومعنى "يتكففون الناس": يسألون الصدقة بأكفهم.

وقوله: ("لعلك أن تخلَّف") إلى آخره المراد بتخلفه طول عمره، وكان كذلك، عاش زيادة على أربعين سنة

(2)

فانتفع به وضرر به آخرون، قتل الكفار وسبى وغنم، وقيل: إن عبيد الله بن زياد أمَّر ابنه عمر على الجيش الذين لقوا الحسين فقتلوه، حكاه ابن التين.

وقال ابن بطال: لما أُمر سعد على العراق أتي بقوم ارتدوا فاستتابهم، فتاب بعضهم وأصر بعضهم، فقتلهم، فانتفع به من تاب وتضرر به الآخرون

(3)

.

وحكى الطحاوي هذا عن بكير بن الأشج، عن أبيه عامر أنه سأله عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأن المرتدين كانوا يسجعون سجع مسيلمة، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف

(4)

.

قَالَ بعض العلماء من أهل المعرفة: (العل) معناها الترجي، إلا إذا وردت عن الله ورسله وأوليائه، فإن معناها: التحقيق، ومعنى إمضاء هجرتهم: إتمامها لهم من غير إبطال، فيرجعون إلى المدينة.

(1)

انظر: "الفائق" 3/ 40، و"النهاية في غريب الحديث" 3/ 321، و"لسان العرب" 5/ 3176.

(2)

ورد بهامش الأصل تعليق نصه: توفي سعد بن أبي وقاص سنة 55. قاله في "الكاشف".

(3)

"شرح ابن بطال" 8/ 145.

(4)

"مشكل الآثار" 13/ 222.

ص: 545

ومعنى "ولا تردهم على أعقابهم" أي: بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية، فيخيب قصدهم ويسوء حالهم، ويقال لكل من رجع إلى حال دون ما كان عليه: رجع على عقبه وحار، ومنه الحديث:"أعوذ بك من الحور بعد الكور"

(1)

أي: من النقصان بعد الزيادة.

والبائس: الذي عليه أثر البؤس، وهو الفقر والقلة. قَالَ الأصيلي: البائس: الذي ناله البؤس، وقد يكون بمعنى: مفعول كقوله: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي: مرضية.

ومعنى: يرثي: يتوجع ويسوؤه ما فعل بنفسه، وذلك أنها دار هجروها لله، فأحب أن يكون محياهم ومماتهم بغيرها؛ لئلا يكون ذلك عودًا فيما تركوه لله، وقد جرت السنة أن يحفظ على الميت شعار القرب كما قلنا في الشهيد والمحرم، ولو كان نقل الميت من موضع إلى موضع جائزًا لنقله إلى موضع هجرته، وقد روى الطبراني في "معجمه الكبير" أنه صلى الله عليه وسلم أمر إن مات سعد في مرضه هذا أن يخرج من مكة وأن يدفن في طريق المدينة

(2)

.

وفي "مسند أحمد" أنه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يا عمرو (القاري)

(3)

: إنْ مات سعد بعدي فها هنا فادفنه نحو طريق المدينة". وأشار بيده هكذا

(4)

، وقد أسلفنا أنه إنما رثى له؛ لأنه مات ولم يهاجر، وهو غلط، بل

(1)

رواه مسلم من حديث عبد الله بن سرجس رقم (1343) كتاب: الحج، باب: ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج وغيره.

(2)

أورده الهيثمي في "المجمع" 4/ 212 - 213، وقال: رواه أحمد والطبراني، وفيه: عياض بن عمرو القاري، لم يجرحه أحد ولم يوثقه. ولم أقف عليه في المطبوع من "المعجم الكبير" فلعله من المفقود.

(3)

في الأصل: الداري، والمثبت من "مسند أحمد".

(4)

"مسند أحمد" 4/ 60.

ص: 546

أسلم وهاجر، وهو بدري كما عده البخاري فيهم

(1)

، وشهد أيضًا أُحدًا والخندق والحديبية، وإنما رثى له؛ لأنه هاجر ولم يصبر على هجرته حَتَّى يموت في البلد الذي هاجر إليه، ولكنه مات في البلد الذي هاجر منه لغير ضرورة، ولهذا قَالَ عمر: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك ووفاة ببلد رسولك

(2)

؛ لأنه حرم على المهاجر الرجوع إلى وطنه الذي هجره لله؛ ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم: "يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا"

(3)

، وكان عثمان وغيره لا يطوف طواف الوداع

(4)

إلا ورواحلهم قد رحلت. وقيل: إنما مات بمكة في حجة الوداع ورثى له؛ لأن من هاجر من بلده يكون له نور الهجرة من الأرض التي هاجر منها إلى الأرض التي هاجر إليها إلى يوم القيامة، فحرم ذلك النور لما مات بمكة.

الخامس: في فوائده:

وقد وصلتها في "شرح العمدة"

(5)

زيادة على عشرين ونذكرها هنا ملخصة.

فيه: استحباب عيادة المريض، وعيادة الإمام أصحابه وأنها مستحبة في السفر كالحضر وأولى، وجواز ذكر المريض ما يجده من شدة

(1)

انظر ما ذكره البخاري بعد حديث (4027) باب: تسمية من سمي من أهل بدر. من كتاب: المغازي.

(2)

سيأتي برقم (1890) باب: كراهية النبي أن تعرى المدينة.

(3)

سيأتي برقم (3933) كتاب: مناقب الأنصار، باب: إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه.

(4)

ورد بهامش الأصل ما نصه: وفي بعض طرق هذا الصحيح وفي حجة الوداع فاعلمه.

(5)

"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" 8/ 21 - 46.

ص: 547

المرض لا في معرض السخط والشكوى، بل لمداواة وعلاج أو دعاء صالح أو وصية، أو استفتاء عن حاله، ولا يكون ذلك قادحًا في خيره وأجر مرضه، وإباحة جمع المال. وفي رواية لمسلم: إن لي مالًا كثيرًا

(1)

.

واستحباب الصدقة لذوي الأموال، ومراعاة الوارث في الوصية وتخصيص جواز الوصية بالثلث، خلافًا لأهل الظاهر، وشذ من قَالَ: إن الثلث إنما هو لمن ليس له وارث يستوفي تركته. ومن قَالَ: إنه إذا لم يكن له ورثة يضع جميع ماله حيث شاء، وإليه ذهب إسحاق، وحكي عن ابن مسعود

(2)

. وذهب بعضهم إلى أنه ينقص عن الثلث، وهو الأحسن في الرافعي و"الروضة"

(3)

.

قَالَ ابن عباس: الثلث حيف، والربع حيف. وقال الحسن: السدس

أو الخمس أو الربع

(4)

. وقال إسحاق: الربع، إلا أن يكون في ماله شبهة فله استغراق الثلث. وقال الشافعي: إذا ترك ورثته أغنياء لم يكن له أن يستوعب الثلث، وإذا لم يدعهم أغنياء اخترتُ له أن لا يستوعبه

(5)

.

وأوصى أنس بمثل نصيب أحد ولده، وأوصى عمر با لربع

(6)

، والصديق بالخمس، وقال: رضيت لنفسي بما رضي الله لنفسه. يعني: خمس الغنيمة

(7)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1628) كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث.

(2)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 227 (30894) كتاب: الوصايا، باب: من رخص أن يوصي بماله كله.

(3)

"العزيز" 7/ 41، "روضة الطالبين" 6/ 122.

(4)

انظر "الاستذكار" 23/ 34.

(5)

"الأم" 4/ 30.

(6)

رواه عبد الرزاق 9/ 66 - 67 (16363) كتاب: الوصايا، باب: كم يوصي الرجل من ماله، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" 3/ 357.

(7)

رواه عبد الرزاق 9/ 66 - 67 (16363).

ص: 548

وفيه: أن الثلث في الوصايا في حد الكثرة.

وقد اختلفت المالكية في مسائل، ففي بعضها جعلوه داخلًا في حد الكثرة بالوصية لقوله عليه السلام:"والثلث كثير" وفيه بحث، وقد أجمع العلماء في الأعصار المتأخرة على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بما زاد على الثلث إلا بإجازته

(1)

، وشذ بعض السلف في ذلك، وهو قول أهل الظاهر، فمنعوها وإن أجازها الورثة

(2)

، وأما من لا وارث له فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث

(3)

، وجوزه أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق، وأحمد في رواية

(4)

.

وفيه: أن طلب الغنى للورثة راجح على تركهم عالة، ومن هذا الوجه أخذ ترجيح الغني على الفقير. وحديث:"ثلاث كيات للذي خلف ثلاثة دنانير"

(5)

لا بد من تأويله، وأوله أبو حاتم بن حبان بأنه كان يسأل الناس إلحافًا وتكثرًا، ومن هنا استحب النقص من الثلث

(6)

.

وفيه: الحث على صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب، وأن صلة

(1)

انظر: "الإجماع لابن المنذر" ص 100.

(2)

"المحلى" 9/ 317.

(3)

انظر: "المعونة" 2/ 508، "البيان" 8/ 156، "الشرح الكبير" 17/ 217.

(4)

انظر: "أحكام القرآن للجصاص" 2/ 112، "الشرح الكبير" 17/ 216 - 217.

(5)

سيأتي برقم (2289) كتاب: الحوالات، باب: إن أحال دين الميت على رجل جاز، مختصرًا دون لفظ:"ثلاث كيات"، وروى هذا الحديث بتمامه النسائي 4/ 65 كتاب: الجنائز، باب: الصلاة على من عليه دين، وأحمد 4/ 47، وابن حبان في "صحيحه" 8/ 54 - 55 (3264) كتاب: الزكاة، باب: الوعيد لمانع الزكاة، والطبراني 7/ 31 - 32 (6290)، والبيهقي 6/ 72 كتاب: الضمان، باب: وجوب الحق بالضمان، كلهم من حديث سلمة بن الأكوع.

(6)

"صحيح ابن حبان" 8/ 55.

ص: 549

القريب الأقرب والإحسان إليه أفضل من الأبعد، وأن الإخلاص شرط في الثواب والإنفاق في وجوه الخير، وأن المباح بالنية يصير قربة، فإن وضع اللقمة في فم الزوجة إنما يكون عادة عند ملاعبتها وتسلية من كره حالة يخالف ظاهرها الشرع ولا سبب له فيها، وأن الإنسان قد يكون له مقاصد دينية فيقع في مكاره تمنعه منها فيخلص منها بالرجاء وسؤال الرب جل جلاله إتمام العمل على وجه لا يدخله نقص، وفضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح، وجواز تخصيص عموم الوصية المذكورة في القرآن بالسنة، وهو قول الجمهور.

وفيه: معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لسعد من طول عمره وفتح البلاد وانتفاع أقوام وضر آخرين ومنقبة ظاهرة لسعد، وفضائل عديدة منها: مبادرته إلى الخيرات، وكمال شفقته صلى الله عليه وسلم، وتعظيم أمر الهجرة.

وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر سعدًا بالوصية للأقربين بعد أن أخبره أنه لا يرثه إلا ابنة، ولو كانت آية الوصية للأقربين غير منسوخة لأمره به، فدل على أنها لا تجب، والذي عليه عامة العلماء أنها منسوخة. وقال الشعبي والنخعي: إنما كانت على وجه الندب؛ لأن الشارع مات ولم يوص، ودخل عليُّ على مريض فأراد أن يوصي، فنهاه، وقال: الله تعالى يقول: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] وأنت لم تدع مالًا فدع مالك لأهلك وغير ذلك

(1)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 6/ 230 (30936)، كتاب الوصايا، باب: في الرجل يكون له المال الجديد القليل، أيوصي فيه؟، والحاكم 2/ 273 - 274 كتاب: التفسير.

ص: 550

وهذِه خواتم نختمه بها:

الأولى: هذا الحديث في مسلم: إني خفت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها. فقال: "اللهم اشف سعدًا". ذكره ثلاثًا، وفيه:"إن صدقتك من مالك صدقة، وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة"

(1)

وللحاكم وقال: على شرط الشيخين، فوضع يده على جبهتي ثم مسح صدري وبطني، ثم قَالَ:"اللهم اشف سعدًا وأتمم له هجرته"

(2)

.

الثانية: هذا الحديث رواه البخاري هنا من طريق مالك عن الزهري، وأخرجه الأربعة من طريق ابن عيينة عن الزهري

(3)

. قَالَ الطحاوي: روى عن ابن عيينة هذا الحديث بما يقضي له على مالك

(4)

.

ثالثها: قَالَ ابن عبد البر: وهو حديث اتفق أهل العلم على صحة سنده، وجعله جمهور الفقهاء أصلًا في مقدار الوصية، وأنه لا يتجاوز بها الثلث، إلا أن في بعض ألفاظه اختلافًا عند نقلته، فمن ذلك ابن عيينة قَالَ فيه عن الزهري: عام الفتح. انفرد بذلك عن ابن شهاب فيما علمت، وقد رويناه من طريق معمر وجماعات عددهم، عن ابن شهاب: عام حجة الوداع.

قَالَ ابن المديني: الذين قالوا: حجة الوداع. أصوب

(5)

.

(1)

"صحيح مسلم"(1628) كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث.

(2)

"المستدرك" 1/ 342 كتاب: الجنائز، باب: ثواب عيادة المريض.

(3)

"سنن أبي داود"(2864) كتاب: الوصايا، باب: ما جاء فيما يجوز للموصي في ماله و"سنن الترمذي"(2116) كتاب: الوصايا، باب: ما جاء في الوصية بالثلث، و"سنن النسائي" 6/ 241 - 242 كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث، و"سنن ابن ماجه" (2708) كتاب: الوصايا، باب: الوصية بالثلث.

(4)

"تحفة الأخيار بترتيب مشكل الآثار" 6/ 161 كتاب: المواريث والوصية والهبة، باب: بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لسعد لما عاده في مرضه.

(5)

"التمهيد" 8/ 375 - 376.

ص: 551

رابعها: قَالَ القرطبي: وقوله: ("ورثتك") دلالة على أنه كان له ورثة غير الابنة المذكورة

(1)

. قلتُ: ليس صريحًا فيه.

خامسها: جاء في "الصحيح": أخلف بعد أصحابي

(2)

. أي: أخلف بمكة بعد أصحابي المهاجرين المنصرفين معك. قاله أبو عمر. قَالَ: ويحتمل أن يكون لما سمع الشارع يقول: "إنك لن تنفق نفقة" وتنفق: فعل مستقبل، أيقن أنه لا يموت من مرضه ذاك أو ظنه فاستفهمه، هل يبقى بعد أصحابه؟ فأجابه بضرب من قوله:"لن تنفق نفقة تبتفي بها وجه الله".

وقوله: ("إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا .. ") إلى آخره

(3)

. وقال القرطبي: هذا الاستفهام إنما صدر من سعد مخافة المقام بمكة إلى الوفاة فيكون قادحًا في هجرته، كما جاء في بعض الروايات: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها. فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك لا يكون وإن طال عمره

(4)

. وقال القاضي عياض: حكم الهجرة باق بعد الفتح لهذا الحديث

(5)

.

وقيل: إنما كان ذلك لمن كان هاجر قبل الفتح، فأما من هاجر بعده فلا، وأبعد من قَالَ: إن وجوب الهجرة واستدامتها قد ارتفع يوم الفتح، وإنما لزم المهاجرون المقام بالمدينة بعد الهجرة؛ لنصرته صلى الله عليه وسلم والأخذ

(1)

"المفهم" 4/ 545.

(2)

سيأتي برقم (3936) كتاب: مناقب الأنصار، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم".

(3)

"التمهيد" 8/ 387.

(4)

"المفهم" 4/ 547.

(5)

"إكمال المعلم" 5/ 365.

ص: 552

عنه، فلما مات ارتحل أكثرهم عنها، وتأولوا بما تقدم؛ لأن ذلك إنما كان مخافة نقص أجورهم، وقد يجاب بأن خروجهم لأجل الجهاد وإظهار الدين.

وقيل: لا يحبط أجر هجرة المهاجر بقاؤه بمكة -شرفها الله- إذا كان لضرورة دون الاختيار، وقال قوم: المهاجر بمكة يحبط هجرته كيفما كان.

وقيل: لم تفرض الهجرة إلا على أهل مكة خاصة. وقال القرطبي: من نقض الهجرة خاف المهاجرون حيث تحرجوا من مقامهم بمكة -شرفها الله- في حجة الوداع، وهذا هو الذي نقمه الحجاج على أبي ذر لما ترك المدينة ونزل الربذة وقال: تغربت يا أبا ذر، فأجابه بأن قَالَ: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو

(1)

. انتهى.

وقوله: (أبو ذر). صوابه سلمة بن الأكوع، فإن أبا ذر مات قبل أن يولد الحجاج بدهر، وعلى تقدير صحته فنزول الربذة لا يقدح؛ لأنه لم يهاجر منها.

(1)

"المفهم" 4/ 548.

ص: 553

‌37 - باب مَا يُنْهَى مِنَ الحَلْقِ عِنْدَ المُصِيبَةِ

1296 -

وَقَالَ الحَكَمُ بْنُ مُوسَى: ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، أَنَّ القَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ حَدَّثَهُ: قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى قَالَ: وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ، وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنَ الصَّالِقَةِ وَالحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ. [مسلم: 104 - فتح: 3/ 165]

هذا التعليق أسنده مسلم إلى الحكم بن موسى. ورواه عنه أبو يعلى في "مسنده" والحسن بن سفيان، واعتذر ابن التين عن البخاري كونه لم يسنده بأنه لا يخرج للقاسم بن مخيمرة، وزعم بعضهم أنه لا يخرج للحكم أيضًا إلا هذا غير محتج بهما، وإن كان الدارقطني ذكرهما فيمن خرج له البخاري، فإن غيره قيد، وكأنه الصواب، وامرأة أبي موسى: هي أم عبد الله (م. د. س) بنت أبي دومة، كذا ذكر في كتاب النسائي.

وخرجه مسلم أيضًا عن الحلواني، عن عبد الصمد، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن أبي موسى مرفوعًا.

قَالَ القاضي عياض: يرويه عن شعبة موقوفًا ولم يرفعه عن عبد الصمد.

"صحيح مسلم"(104) كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية.

رواه من طريق أبي يعلى ابن حبان في "صحيحه" 7/ 423.

"سنن النسائي" 4/ 21 كتاب: الجنائز، باب: شق الجيوب.

"صحيح مسلم"(104) كتاب: الإيمان، باب: تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب.

"إكمال المعلم" 1/ 376.

ص: 554

قلتُ: ذكر الدارقطني أن البخاري رفعه أيضًا عن عبد الملك، قَالَ ذلك أبو ظفر عن البخاري. قَالَ: والموقوف عن عبد الملك أثبت.

والحجْر: بفتح الحاء وكسرها، ذكره ابن سيده في "مثلثه"

(1)

.

والصَّالِقَة -بالصاد والسين- التي ترفع صوتها عند المصيبة بالولولة

(2)

.

والحَالِقَة: التي تحلق رأسها عند المصيبة

(3)

.

والشَّاقَّة: التي تشق ثوبها وجيبها عندها. وأصل البراء: الانفصال، وهو يحتمل أن يراد به ظاهره، وهو البراءة من فاعل هذِه الأمور. وقال المهلب:(برئ منه). أي: لم يرض بفعله، فهو منه بريء في وقت ذلك الفعل لا أنه بريء من الإسلام.

أما حكم الباب: فالحلق عند المصيبة حرام، كالندب والنياحة، ولطم الخدود، وشق الجيب، وخمش الوجه، ونشر الشعر، والدعاء بالويل والثبور، ومن وقع في لفظ الكراهة فالمراد بها التحريم.

وقوله: (أنا بريء ممن بَرئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم). يعني: بريء من فعلها كما قَالَ حين بلغه قتل خالد قومًا قالوا: صبأنا، صبأنا، "أبرأ إليك مما صَنَعَ خالد"

(4)

، والمؤمن لا تجب البراءة منه بالذنوب إلا أن يرتد، والعياذ بالله.

(1)

كذا في الأصل، ولعله ابن السيد البطليوسي صاحب "المثلث" انظر "المثلث" 1/ 438.

(2)

انظر: "لسان العرب" 4/ 2484.

(3)

انظر: "لسان العرب" 2/ 966.

(4)

سيأتي برقم (4339) كتاب: المغازي، باب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة.

ص: 555

‌38 - باب لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ

1297 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ". [انظر: 1294 - مسلم: 103 - فتح: 3/ 166]

فيه حديث: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ".

وقد سلف

(1)

، وكذا الباب بعده.

(1)

برقم (1294) كتاب: الجنائز، باب: ليس منا من شق الجيوب.

ص: 556

‌39 - باب مَا يُنْهَى مِنَ الوَيْلِ وَدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ المُصِيبَةِ

1298 -

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ". [انظر: 1294 - مسلم: 103 - فتح: 3/ 166]

ذكر فيه الحديث المذكور، وقد عرفته. وفي بعض نسخ البخاري:

قَالَ أبو عبد الله: ليس من سنتنا. وقد تقدم التأويل بذلك.

ص: 557

‌40 - باب مَنْ جَلَسَ عِنْدَ المُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ

1299 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ البَابِ -شَقِّ البَابِ- فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ فَقَالَ: انْهَهُنَّ. فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ: وَاللهِ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ:"فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ". فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ العَنَاءِ. [1305، 4263 - مسلم: 935 - فتح: 3/ 166]

1300 -

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا حِينَ قُتِلَ القُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ. [انظر: 1001 - مسلم: 677 - فتح: 3/ 167]

ذكر فيه حديث عائشة: لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ زيد بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ البَابِ، شَقِّ البَابِ .. الحديث.

وحديث أنس: قَنَتَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شَهْرًا حِينَ قُتِلَ القُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ.

حديث أنس سلف في القنوت

(1)

، وحديث عائشة أخرجه مسلم أيضًا

(2)

، وقتل زيد بن حارثة وصاحباه في غزوة مؤتة -بالهمز وتركه- بالبلقاء من أرض الشام في جمادى الأولى، وقيل: الآخرة سنة ثمان.

(1)

برقم (1001) كتاب: الوتر.

(2)

"صحيح مسلم"(935) كتاب: الجنائز، باب: التشديد في النياحة.

ص: 558

فالتقوا مع هرقل على القرية المذكورة في جموعه. يقال: مائة ألف غير من انضم إليهم من المستنفرة، فقتل هؤلاء، ثم اتفق المسلمون على خالد ففتح الله له فقتلهم، وقدم البشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم أخبرهم بذلك قبل قدومه. وكان هؤلاء الثلاثة من أحب الناس إليه.

قَالَ لجعفر: "أشبهت خلقي وخلقي"

(1)

وقال أخرى: "لا أدري أفرح بقدوم جعفر أو بفتح خيبر"

(2)

.

وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا"

(3)

"وإنه لمن أحب الناس إليَّ ولقد كان خليقًا للإمارة"

(4)

، وكان ابن رواحة أحد النقباء واحد شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يدافعون عنه. وقال فيه:"أن أخًا لكم لا يقول الرفث"

(5)

.

وقوله: (صائر). قيل: صوابه: صير -بكسر أوله وإسكان ثانيه- أي: شقه -بفتح الشين- وهو الموضع الذي ينظر منه كالكوة

(6)

،

(1)

سيأتي برقم (2699) كتاب: الصلح، باب: كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان.

(2)

رواه بن أبي شيبة عن الشعبي 6/ 384 (32196) كتاب: الفضائل، باب: ما ذكر في جعفر بن أبي طالب، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 4/ 281، وله شاهد من حديث عمر بن علي، رواه الحاكم 3/ 208 كتاب: معرفة الصحابة، وله شاهد من حديث أبي جحيفة عن أبيه، رواه الطبراني 22/ 100 (244)، ورواه أيضًا في "المعجم الأوسط" 2/ 287 (2003) وقال: لا يروي هذا الحديث عن مسعر إلا مخلد، تفرد به: الوليد بن عبد الملك، وقال الهيثمي في "المجمع" 9/ 271 - 272: رواه الطبراني في الثلاثة وفي رجال "الكبير" أنس بن سالم، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

(3)

سيأتي برقم (2699).

(4)

سيأتي برقم (3730) كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

سلف برقم (1155) كتاب: التهجد، باب: فضل من تعار من الليل فصلى.

(6)

انظر: "لسان العرب" 4/ 2300، 2536.

ص: 559

وليس يريد: (أنظر من شق الباب) بالكسر؛ لأن الشق: الناحية ولم يرد ذلك، وكون نساء جعفر لم يطعن الناهي؛ إما لأنهن لم يصرح لهن بنهي الشارع، فظنن أنه كالمحتسب في ذلك؛ أو لأنهن غلبن على أنفسهن لحرارة المصيبة.

وقوله: ("فاحث") روي بكثر الثاء وضمها؛ لأنه من حثى يحثي ويحثو

(1)

. وتأوله بعضهم على أن البكاء كان معه نوح، فلذلك نهاهن.

وقال بعضهم: كان من غير نوح؛ لأنه يبعد أن الصحابيات يتمادين على محرم، والنهي عن البكاء المجرد للتنزيه أو للأدب لا للتحريم.

والعناء -بالمد- المشقة والتعب. وللعذري عند مسلم: من الغي -بغين معجمة وياء مشددة- وهو ضد الرشد. وللطبري مثله إلا أنه بالعين المهملة المفتوحة، ولبعضهم بكسرها وكلاهما وهم، والصواب الأول، ولم ترد عائشة الاعتراض على رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وإنما أرادت: إنك لا تقدر على فعل ما أمرك به، وما تركته من التعب. قَالَ القرطبي: ولم يكن أمره للرجل بذلك ليفعله بهن، ولكن على طريق أن هذا يسكنهن إن فعلته، فافعله إن أمكنك وهو لا يمكنك. وفيه دليل على أن المنهي عن المنكر إن لم ينته عوقب وأدب إن أمكن

(2)

.

وقوله: (جلس يعرف فيه الحزن)، إنما هو لما جعل الله تعالى فيه من الرحمة بأمته وحزن عليهم؛ لأنهم أئمة المسلمين، وهذا الحديث أسهل ما جاء في معنى البكاء

(3)

.

(1)

انظر: "الفائق في غريب الحديث" 1/ 260.

(2)

"المفهم" 2/ 589.

(3)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ خامسًا كتبه مؤلفه غفر الله له.

ص: 560

قَالَ الطبري: إن قَالَ قائل: إن أحوال الناس في الصبر متفاوتة، فمنهم من يظهر حزنه على المصيبة في وجهه بالتغير له، وفي عينيه بانحدار الدموع. ولا ينطق بالسيئ من القول، ومنهم من يظهر ذلك في وجهه وينطق بالهجر المنهي عنه، ومنهم من يجمع ذلك كله ويزيد عليه إظهاره في مطعمه وملبسه، ومنهم من يكون حاله في حال المصيبة وقبلها سواء. فأيهم المستحق اسم الصبر؟ قيل: قد اختلف السلف في ذلك فقال بعضهم: المستحق لاسم الصبر هو الذي يكون في حالها مثله قبلها، ولا يظهر عليه حزن في جارحة ولا لسان. قَالَ غيره -كما زعمت الصوفية-: إن الولي لا تتم له ولاية إلا إذا تم له الرضا بالقدر، ولا يحزن على شيء، والناس في هذا الحال مختلفون، فمنهم من في طبعه الجلد وقلة المبالاة بالمصائب، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فالذي يكون في طبعه الجزع ويملك نفسه ويستشعر الصبر أعظم أجرًا من الذي الجلد طباعه.

قَالَ الطبري: كما روي عن ابن مسعود أنه لما نعي له أخوه عتبة قَالَ: لقد كان من أعز الناس عليّ وما يسرني أنه بين أظهركم اليوم حيًّا. قالوا: وكيف وهو من أعز الناس عليك؟ قَالَ: (والله)

(1)

إني لأؤجر فيه أحب إليَّ من أن يؤجر فيَّ.

وقال ثابت: إن صلة بن أشيم مات أخوه، فجاءه رجل وهو يطعم، فقال: يا أبا الصهباء، إن أخاك قد مات. قَالَ: هلم فكل، قد نعي لنا إذًا فكل. قَالَ: والله ما سبقني إليك أحد، فمن نعاه؟ قَالَ: بقول الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)}

(2)

[الزمر: 30].

(1)

من (م).

(2)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 7/ 137، وأبو نعيم في "الحلية" 2/ 238 - 239.

ص: 561

وقال الشعبي: كان شريح يدفن جنائزه ليلًا يغتنم ذلك، فيأتيه الرجل

حين يصبح، فيسأله عن المريففيقول: هدأ، لله الشكر، وأرجو أن

يكون مستريحًا

(1)

. أخذه من قصة أم سليم. وكان ابن سيرين يكون عند

المصيبة كما هو قبلها يتحدث ويضحك، إلا يوم ماتت حفصة فإنه

جعل يكشر وأنت تعرف في وجهه

(2)

. وسئل ربيعة: ما منتهى الصبر؟

قَالَ: أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه

(3)

. وقال

آخرون: الصبر المحمود هو ترك العبد عند حدوث المكروه عليه

وصفه وبثه للناس، ورضاه بقضاء ربه وتسليمه لأمره.

وأما جزع القلب، وحزن النفس، ودمع العين، فإن ذلك لا يخرج العبد عن معاني الصابرين، إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز له فعله؛ لأن نفوس بني آدم مجبولة على الجزع من المصائب. وقد مدح الله الصابرين ووعدهم جزيل الثواب عليه، والثواب إنما هو على ما اكتسبوه من أعمال الخير، دون ما لا صنع لهم فيه، وتغير الأجساد عن هيئاتها، ونقلها عن طباعها الذي جبلت عليه لا يقدر عليه إلا الذي أنشأها.

والمحمود من الصبر ما أمر الله به، وليس فيما أمر به تغيير جبلته عما خلقت به. والذي أمر به عند نزول النبلاء الرضا بقضائه، والتسليم لحكمه، وترك شكوى ربه، وبذلك فعل السلف. قَالَ ربيعة بن كلثوم: دخلنا على الحسن وهو يشتكي ضرسه، فقال:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}

(4)

.

(1)

رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 3/ 521 - 522 (6557، 6558) كتاب: الجنائز، باب: الدفن بالليل. ورواه ابن سعد في "الطبقات" 6/ 144.

(2)

رواه البيهقي في "الشعب" 7/ 245 (10176) باب: في الصبر على المصائب.

(3)

روه أبو نعيم في "الحلية" 3/ 262.

(4)

رواه البيهقي في "الشعب" 7/ 217 (10064) باب: في الصبر على المصائب.

ص: 562

وروى المقبري، عن أبي هريرة مرفوعًا: قَالَ: "قَالَ الله عز وجل: إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوَّاده أنشطته من عقالي، وبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ويستأنف العمل"

(1)

.

(1)

رواه الحاكم 1/ 348 - 349، والبيهقي في "السنن" 3/ 375، وفي "الشعب"7/ 187 - 188 (9943) من طريق علي بن المديني عن أبي بكر الحنفي عن عاصم بن محمد بن زيد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، به.

قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وقال البيهقي في "الشعب" 7/ 187: إسناده صحيح.

وصححه الألباني في "الصحيحة"(272).

فائدة حديثية: قال البيهقي: زعم بعض الحفاظ أن مسلمًا أخرج هذا الحديث في كتابه عن القواريري عن أبي بكر الحنفي، ثم اعترض عليه بأن هذا الحديث إنما يروى عن عاصم عن عبد الله بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، كذلك رواه قرة بن عيسى عن عاصم. ورواه معاذ بن معاذ عن عاصم بن محمد عن عبد الله بن سعيد عن أبيه أو جده عن أبي هريرة، وعبد الله بن سعيد شديد الضعف، وقد نظرت في كتاب مسلم رحمه الله فلم أجد هذا الحديث، ولم يذكره أيضًا أبو مسعود الدمشقي في تعليق الصحيح. اهـ "الشعب" 7/ 188.

لكن تعقب أبو الفضل بن عمار الشهيد فيما استدركه على كتاب مسلم من الأحاديث المعللة، فقال: ووجدت فيه عن القواريري عن أبي بكر الحنفي، عن عاصم بن محمد العمري، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه عن أبي هريرة .. وساقه.

ثم قال: وهذا حديث منكر، وإنما رواه عاصم بن محمد عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبيه، وعبد الله بن سعيد شديد الضعف.

ورواه معاذ بن معاذ عن عاصم بن محمد، عن عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، وهو حديث يشبه أحاديث عبد الله بن سعيد. اهـ.

"علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج" ص 117 - 119.

ذكر ذلك الحافظ في "إتحاف المهرة" 15/ 467 - 468 (19707)، وفي "النكت الظراف" 10/ 301 وأفاد فيه أن البيهقي يعني بقوله بعض الحفاظ: ابن عمار الشهيد. =

ص: 563

وقال طلحة بن مصرف: لا تشك ضرك ولا مصيبتك. قَالَ: وأنبئت أن يعقوب بن إسحاق عليهما السلام دخل عليه جاره فقال: يا يعقوب، ما لي أراك قد تهشمت وفنيت ولم تبلغ من السنن ما بلغ أبوك؟ قَالَ: هشمني ما ابتلاني الله من يوسف، فأوحى الله تعالى إليه: أتشكوني إلى خلقي؟! قَالَ: يا رب، خطيئة فاغفرها لي. قَالَ: قد غفرتها لك. فكان بعد ذلك إذا سئل قَالَ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [يوسف: 86] الآية

(1)

.

وقد توجع الصالحون على فقد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحزنوا له أشد الحزن. قَالَ طاوس: ما رأيت خلقًا من خلق الله أشد تعظيمًا لمحارم الله من ابن عباس، وما ذكرته قط فشئت أن أبكي إلا بكيت، ورأيت على خديه مثل الشراكين من بكائه على رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

. وقال أبو عثمان: رأيت عمر بن الخطاب لما جاءه [نعي]

(3)

النعمان بن مقرن وضع يده على رأسه وجعل يبكي

(4)

، ولما مات سعيد بن الحسن بكى عليه الحسن حولًا فقيل له: يا أبا سعيد، تأمر بالصبر وتبكي؟! قَالَ: الحمد لله الذي جعل هذِه الرحمة في قلوب المؤمنين يرحم بها

= والحديث ذكره الحافظ ابن رجب في "شرح علل الترمذي" 2/ 768 - 769 وعزاه لمسلم في "صحيحه".

وذكر ذلك الألباني في "الصحيحة" 1/ 550 ووهَّم الحافظ ابن رجب في عزوه الحديث لمسلم!.

(1)

رواه الطبري في "تفسيره" 7/ 281 - 282 (19726).

(2)

رواه أحمد بن حنبل في "فضائل الصحابة" 2/ 1204 (1837) وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 329.

(3)

زيادة يقتصها السياق ليتضح المعنى وانظر "الآحاد والمثاني" 2/ 306.

(4)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 48 (11980) كتاب: الجنائز، باب: في الرجل ينتهي إليه نعي الرجل ما يقول.

ص: 564

بعضهم بعضًا بدمع العين، وبحزن القلب، وليس ذلك من الجزع، إنما الجزع ما كان من اللسان واليد، الحمد لله الذي لم يجعل بكاء يعقوب على يوسف وبالًا عليه، وقد بكى عليه حَتَّى ابيضت عيناه من الحزن

(1)

.

وقال يحيى بن سعيد: قلتُ لعروة: إن ابن عمر يشدد في البكاء على الميت، فقال: قد بكى على أبيه، وبكى أبو وائل في جنازة خيثمة.

فهؤلاء معالم الدين لم يروا إظهار الوجد على المصيبة بجوارح الجسم إذا لم يتجاوزوا فيه المحظور خروجًا من معنى الصبر، ولا دخولًا في معنى الجزع، وقد بكى الشارع على ابنته زينب

(2)

، وعلى ابنه إبراهيم وفاضت عيناه، وقالِ:"هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده"

(3)

. وبكى لفقد جلة الإسلام وفضلاء الصحابة، فإذا كان الإمام المتبع به نرجو الخلاص من ربنا، وكان قد حزن بالمصيبة وأظهر ذلك بجوارحه ودمعه، وأخبر أن ذلك رحمة جعلها الله في قلوب عباده، فقد صح قول من وافق ذلك وسقط ما خالفه.

(1)

رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" 7/ 178، والبيهقي في "الشعب" 7/ 242 - 243 (10166) باب: في الصبر على المصائب.

(2)

سلف ما يدل على ذلك برقم (1285) كتاب: الجنائز، باب: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه.

(3)

سيأتي برقم (1303) باب: قول النبي: "إنا بك لمحزونون".

ص: 565

‌41 - باب مَنْ لَمْ يُظْهِرْ حُزْنَهُ عِنْدَ المُصِيبَةِ

.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: الجَزَعُ القَوْلُ السَّيِّئُ وَالظَّنُّ السَّيِّئُ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]

1301 -

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الحَكَمِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: اشْتَكَى ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ البَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: كَيْفَ الغُلَامُ؟ قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ. وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، قَالَ: فَبَاتَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَانَ مِنْهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا". قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ القُرْآنَ. [5470 - مسلم: 2144 (23) - فتح: 3/ 169]

وذكر فيه حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، قال: اشْتَكَى ابن لأَبِي طَلْحَةَ، فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارجٌ .. الحديث، وفي آخره:"لَعَلَّ الله أَنْ يُبَارِكَ لهما فِي ليلتهما". قَالَ سُفْيَانُ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ القُرْآنَ.

الشرح:

حديث أنس هذا قَالَ أبو نعيم في "مستخرجه": يقال: إن هذا مما تفرد به البخاري، وقال المزي: هذا حديث غريب تفرد به بشر بن الحكم يعني: شيخ البخاري

(1)

، قيل: لم يروه أحد عنه غير البخاري، وكأنهما

(1)

"تحفة الأشراف" 1/ 82.

ص: 566

يشيران إلى التفرد بالسند لا المتن؛ لأن المتن رواه عن أنس عندهما أنس ابن سيرين، وثابت عند مسلم

(1)

، وحميد عند أبي نعيم

(2)

، وعبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة عند الإسماعيلي، وللبخاري: فقال صلى الله عليه وسلم: "أعرستم الليلة؟ " قَالَ: نعم، قَالَ:"اللهم بارك لهما". فولدت غلامًا فقال لي أبو طلحة: أحمله حَتَّى تأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث معه بتمرات، فحنكه وسماه عبد الله

(3)

. ولمسلم: لما مات قالت لأهلها: لا تخبروا أبا طلحة بابنه حَتَّى أكون أنا أخبره، فجاء فقربت له عشاءً، فأكل وشرب، ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها، فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قالت: فاحتسب ابنك. الحديث

(4)

.

وروى معمر، عن ثابت، عن أنس أنه لما جامعها قالت له ذلك

(5)

، وللإسماعيلي: وكان أبو طلحة صائمًا. وللبيهقي: وكان أبو طلحة يحب الابن، ولأبي داود:"يبارك لكما في غابر ليلتكما"

(6)

.

إذا تقرر ذلك، فالكلام على ذلك من أوجه:

أحدها:

البث في الآية: أشد الحزن قَالَ بعض السلف: قول العبد: إنا لله وإنا إليه راجعون. كلمة لم يعطها أحد قبل هذِه الأمة، ولو علمها

(1)

"مسلم"(2144) كتاب: الأدب، باب: استحباب تحنيك المولود عند ولادته.

(2)

"الحلية" 2/ 57.

(3)

سيأتي برقم (5470) كتاب: العقيقة، باب: تسمية المولود.

(4)

مسلم 1244/ 107 بعد حديث (2457) كتاب: "فضائل الصحابة" باب: من فضائل أبي طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه.

(5)

رواه عبد بن حميد في "المنتخب" 3/ 120 - 121.

(6)

رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" 3/ 533 (2168).

ص: 567

يعقوب لم يقل: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] وقال سعيد بن جبير: لم تعط أمة من الأمم ما أعطيته هذِه الأمة من الاسترجاع، ثم تلا هذِه الآية:{يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}

(1)

.

الثاني:

هذا الابن المتوفي هو أبو عمير صاحب النغير، قاله ابن حبان والخطيب وغيرهما

(2)

، ولما خرجه الحاكم وسماه قَالَ: صحيح على شرطهما. و (فيه)

(3)

سنة غريبة في إباحة صلاة النساء على الجنائز. فإنَّ فيه أن أم سليم، كانت خلف أبي طلحة، وأبو طلحة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن معهم غيرهم

(4)

.

الثالث:

هدأ -بالهمز- سكن، ومنه هدأت الرِّجْلُ: إذا نام الناس. وأهدأت المرأة ولدها: سكتته لينام؛ لأن النفس كانت قلقة شديدة الانزعاج بالمرض، فسكنت بالموت، ولذلك قالت: أرجو أن يكون قد استراح.

وقولها: (أَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ) من حسن المعاريض وهو ما احتمل معنيين، فإنها أخبرت بكلام لم تكذب فيه، ولكن ورَّت به عن المعنى الذي كان يحزنها، ألا ترى أن نفسه قد هدأ كما قالت بالموت وانقطاع النفسس، وأوهمته أنه استراح قلقه، وإنما استراح من نصب الدنيا وهمها.

(1)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 117 (9691) باب: الصبر على المصائب.

(2)

"صحيح ابن حبان" 16/ 158 (7188) كتاب: إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة.

(3)

من (م).

(4)

"المستدرك" 1/ 365 كتاب: الجنائز.

ص: 568

الرابع:

فيه منقبة عظيمة لأم سليم بصبرها ورضاها بقضاء الله تعالى.

الخامس:

فلما أصبح اغتسل. فيه: تعريض بالإصابة، وقد صرح بها في بعض الروايات

(1)

، وقوله:("لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما") يحتمل أن يكون خبرًا ودعاءً، فأجاب الله تعالى قوله، فحملت تلك الليلة بعبد الله بن أبي طلحة، والد إسحاق، راوي الحديث، فحنَّكه صلى الله عليه وسلم وسماه، وكان من خير أهل زمانه، وآتاهما الله تعالى ذلك لصبرهما، والذي لهما عند الله أعظم.

السادس:

الأولاد الذين أشار إليهم سفيان

(2)

، هم: القاسم، وعمير، وزيد، وإسماعيل، ويعقوب، وإسحاق، ومحمد، وعبد الله

(3)

، وإبراهيم، ومعمر، وعمارة، وعمر

(4)

، ذكرهم ابن الجوزي، وعدتهم اثنا عشر.

السابع:

وهو فقه الباب: عدم إظهار الحزن عند المصيبة، وترك ما أبيح لي من إظهار الحزن الذي لا إسخاط فيه لله تعالى، كما فعلت أم سليم فإنها اختارت الصبر، ومن قهر نفسه وغلبها على الصبر ممن تقدم ذكره في الباب قبل هذا فهو آخذ بأدب الرب جل جلاله في قوله:{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].

(1)

سيأتي الحديث على ذلك برقم (5470).

(2)

ورد بهامش الأصل: إنما نقله سفيان عن رجل من الأنصار غير مسمى، كذا في الصحيح.

(3)

في الأصل: عبيد الله، ورد بهامش الأصل ما نصه: لعل صوابه عبد الله.

(4)

انظر "الطبقات الكبرى" 5/ 74.

ص: 569

الثامن:

فيه من الفقه: جواز الأخذ بالشدة وترك الرخصة لمن قدر عليها، وأن ذلك مما ينال به العبد رفيع الثواب وجزيل الأجر.

التاسع:

التسلية عند المصائب.

العاشر:

فيه: أن المرأة تتزين لزوجها تعرضًا للجماع لقوله: (ثم هيأت شيئًا) أراد: هيأت شيئًا من حالها.

الحادي عشر:

أن من ترك شيئًا لله تعالى، وآثر ما ندب إليه، وحض عليه من جميل الصبر، أنه معوض خيرًا بما فاته، ألا ترى قوله:(فَرَأَيْتُ تِسْعَةَ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ القُرْاَنَ). ولقد أخذت أم سليم في الصبر إلى أبعد غاية، على أن النساء أرق أفئدة؛ لأنا نقول: إن ما في نسائها ولا في الجلد من الرجال مثل أم سليم؛ لأنها كانت تسبق الكثير من الرجال الشجعان إلى الجهاد، وتحتسب في مداواة الجرحى، وثبتت يوم حنين في ميدان الحرب، والأقدام قد زلزلت، والصفوف قد انتفضت. والمنايا قد فغرت، فالتفت إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يدها خنجر فقالت: يا رسول الله أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك، فليسوا بشرًّ منهم

(1)

.

(1)

روى مسلم ما يدل على ذلك من حديث أنس برقم (1809) كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة النساء مع الرجال.

ص: 570

‌42 - باب الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى

وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: نِعْمَ العِدْلَانِ، وَنِعْمَ العِلَاوَةُ {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ (157)} [البقرة: 156 - 157]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ (45)} [البقرة: 45}.

1302 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى"

(1)

. [انظر: 1252 - مسلم: 926 - فتح: 3/ 171]

وذكر فيه حديث أنس: "الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى".

أما حديث أنس فسلف في الباب

(2)

، وأما أثر عمر فأخرجه البيهقي من حديث سعيد بن المسِّيب عنه

(3)

.

والعِدْلَان كما قَالَ المهلب: الصلوات والرحمة، والعلاوة {وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] وقيل: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156].

والعِلَاوَة: التي يثاب عليها.

وقال ابن التين عن أبي الحسن: العدل الواحد: قول المصاب إنا لله .. إلى آخرها، والعدل الثاني: الصلوات التي عليهم من الله تعالى، والعلاوة {وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 157]، وهو ثناء من الله

(1)

ورد بهامش الأصل: معنى كلام الشيخ: قال ابن التين: إن غندرًا وزر بن حبيش لم يؤثر عليهما كذب قط. قاله هنا؛ لأن في السنة غندرًا.

(2)

برقم (1283) كتاب: الجنائز، باب: زيارة القبور.

(3)

"السنن الكبرى" 4/ 65 كتاب: الجنائز، باب: الرغبة في أن يتعزى بما أمر الله تعالى به من الصبر والاسترجاع.

ص: 571

تعالى عليهم. وقال الداودي: إنما هو مثل ضرب للجزاء، فالعدلان: عدلا البعير والدابة، والعلاوة: الغرارة التي توضع في وسط العدلين مملوءة. يقول: وكما حملت هذِه الراحلة وسعها، وأنها لم يبق موضع تحمل عليه، فكذلك أُعطي هذا الأجر وافرًا، فعلى قول الداودي يكون العدلان والعلاوة {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} إلى {المُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] وقال صاحب "المطالع": العدل هنا نصف الحمل على أحد شقي الدابة، والحمل: عدلان، والعلاوة: ما جعل فيهما. وقيل: ما علق على البعير، ضرب ذلك مثلًا لقوله {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} قَالَ: فالصلوات عدل، والرحمة عدل، {وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} العلاوة.

وأحسن ما جاء في التعزية حديث أم سلمة الثابت: "من أصابته مصيبة، فقال كما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيرًا منها، إلا فعل الله به ذلك". قالت أم سلمة: قلتُ ذلك عند موت أبي سلمة، ثم قلتُ في نفسي: من خير من أبي سلمة؟ فأعقبها الله برسول الله صلى الله عليه وسلم، فتزوجها

(1)

.

فيقول المعزي: آجركم الله في مصيبتكم، وعوضكم خيرًا منها {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}. ومعنى إنا لله: نحن وأموالنا وعبيدنا لله يبتلينا بما شاء، ونحن إليه نرجع، فيجزينا على صبرنا، وبين ذلك بقوله:

(1)

رواه مسلم (918) كتاب: الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة. ومالك 1/ 389 (985) كتاب: الجنائز، باب: الحسبة بالمصيبة، وأحمد 6/ 309، والطبراني 23/ 262 (3550)، والبيهقي 4/ 65 كتاب: الجنائز، باب: الرغبة في أن يتعزى بما أمر الله تعالى به من الصبر والاسترجاع، ورواه أيضًا في "الشعب" 7/ 118 (9697) باب: في الصبر على المصائب.

ص: 572

{صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} وهي الغفران والثناء الحسن، ومنه الصلاة على الميت إنما في الدعاء.

وقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 145] في الصبر قولان:

أحدهما: الصوم، قاله مجاهد

(1)

.

والثاني: عن المعاصي. والصلاة أي: عند المصائب، كما قَالَ ابن عباس: إنها الاستعانة بالصلاة عند المصائب. فكان إذا دهمه أمر صلى

(2)

. قَالَ علي: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد

(3)

.

والضمير في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] إما عائد إلى الصلاة أو إن فعلتم ذلك، والخاشعون: المؤمنون حقًّا. والخشوع: التواضع، والمؤمن حقًّا متواضع.

وإنما كان الصبر عند الصدمة الأولى؛ لأنها أعظم حرارة وأشد مضاضة، يريد أن الصبر المحمود عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة؛ لأنه يسلو على مر الأيام، فيصير الصبر طبعًا، وقد قَالَ بعض الحكماء: لا يؤجر الإنسان على مصيبة في نفسٍ أو مال لأجل ذاتها، فإن ذلك طبع لا صنع له فيه، وقد يصيب الكافر مثله فيصبر، وإنما يؤجر على قدر نيته واحتسابه. فإن قلت: قد علمت أن العبد منهي عن الهجر، وتسخط قضاء الرب في كل حال، فما وجه خصوص نزول النائبة بالصبر في حال حدوثها؟ قيل: وجه خصوص

(1)

ذكره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 387.

(2)

ذكره ابن كثير في "تفسيره" 1/ 390.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 6/ 172 (30430) كتاب: الإيمان والرؤيا، باب: ما ذكر فيما يطوى عليه المؤمن من الخلال.

ص: 573

ذلك أن في النفس عند هجوم الحادثة محرك على الجزع، ليس في غيرها مثله، وبتلك يضعف على ضبط النفس فيها كثير من الناس، بل يصير كل جازع بعد ذلك إلى السلو ونسيان المصيبة، والأخذ بقهر الصابر نفسه وغلبته هواها عند صدمته؛ إيثارًا لأمر الله على هوى نفسه، ومنجزًا لموعوده. بل السالي عن مصابه لا يستحق اسم الصبر على الحقيقة؛ لأنه آثر السُّلُوَّ على الجزع واختاره، وإنما الصابر على الحقيقة من صبر نفسه، وحبسها عن شهوتها، وقهرها عن الحزن والجزع والبكاء الذي فيه راحة النفسس وإطفاء لنار الحزن، فإذا قابل سَوْرَة الحزن وهجومه بالصبر الجميل، واسترجع عند ذلك، وأشعر نفسه أنه لله مِلك، لا خروج له عن قضائه، وإليه راجع بعد الموت، ويلقي حزنه بذلك، انقمعت نفسه، وذلت على الحق، فاستحقت جزيل الأجر.

ص: 574

‌43 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ

"

وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"تَدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ".

1303 -

حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا قُرَيْشٌ -هُوَ: ابْنُ حَيَّانَ- عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ -وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ عليه السلام- فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ، وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ: "يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ". ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ". رَوَاهُ مُوسَى، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [مسلم: 2315 - فتح: 3/ 172]

وذكر فيه حديث قُريش: -وهُوَ ابن حَيَّانَ- عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ -وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ عليه السلام- فَأخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ .. الحديث، إلى قوله:"وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ". رَوَاهُ مُوسَى، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

الشرح:

أما نفس الرحمة فهو نفس حديث أنس، وأما حديث ابن عمر المعلق فقد سلف مسندًا في عيادة سعد بن عبادة

(1)

.

وقوله: (رواه موسى .. إلى آخره) أسنده مسلم، عن شيبان بن فروخ

(1)

بل سيأتي برقم (1304) باب: البكاء عند المريض.

ص: 575

وهدبة بن خالد كلاهما، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بطوله

(1)

، ثم رواه من حديث ابن علية، عن أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن أنس، وفي آخره:"إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين يكملان إرضاعه في الجنة"

(2)

ولابن سعد عن البراء: "إنه صديق شهيد"

(3)

وللترمذي من حديث جابر: فوضعه في حجره وبكى، فقال له ابن عوف: أتبكي وقد نهيت عن البكاء؟! قَالَ: "لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين"

(4)

.

إذا عرفت ذلك فالكلام عليه من أوجه:

أحدها:

حيان بمثناة تحت. والقين: الحداد. وقيل: كل صانع قين. حكاه ابن سيده. وقان الحديدة قينًا: عملها. وقان الإناء يقينه قينا: أصلحه

(5)

. والظئر: زوج المرضعة، والمرضعة أيضًا ظئر، وأصله: عطف الناقة على غير ولدها ترضعه. والاسم: الظأر، قاله صاحب "المطالع". وعبارة ابن الجوزي: الظئر: المرضعة، ولما كان زوجها يكفله سمي ظئرًا. وقال ابن سيده: الظئر: العاطفة على ولد غيرها، المرضعة من الناس والإبل، الذكر والأنثى في ذلك سواء. وهو عند سيبويه اسم للجميع

(6)

، وغلط من قَالَ في قوله: كان ظئرًا لإبراهيم. أي:

(1)

"صحيح مسلم"(2315) كتاب: الفضائل، باب: رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك.

(2)

"صحيح مسلم"(2316).

(3)

"الطبقات الكبرى" 1/ 140.

(4)

"سنن الترمذي"(1005) كتاب: الجنائز، باب: الرخصة في البكاء على الميت، وقال: هذا حديث حسن.

(5)

"المحكم" 6/ 314.

(6)

انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 3/ 154، و"لسان العرب" 5/ 2741.

ص: 576

رضيعه؛ لأن أبا سيف كان كالراب. وقوله في بعض طرقه: يكيد بنفسه

(1)

-هو بفتح الياء - أي: يجود بها، من كاد يكيد. أي: قارب الموت.

ثانيها:

ولد إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان، ولما ولد تنافست فيه نساء الأنصار أيتهن ترضعه، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر، وزوجها البراء بن أوس، وكنيتها أم سيف امرأة قين، يقال أبو سيف، واسمها خولة بنت المنذر

(2)

.

ومات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من ربيع الأول سنة عشر، ذكره ابن سعد

(3)

.

وعن ابن جرير: مات قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر يوم كسوف الشمس، وله ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا أو ثمانية عشر شهرًا. وقال ابن حزم: سنتان غير شهرين

(4)

. وأغرب ما فيه من أبي داود: مات وله سبعون يومًا.

وأول من دفن بالبقيع عثمان بن مظعون ثم هو

(5)

، رش على قبره ماء. وقال الزهري: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو عاش إبراهيم لوضعت

(1)

رواه مسلم من حديث أنس (2315) كتاب: الفضائل، باب: برحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال. وأبو داود (3126) كتاب: الجنائز، باب: البكاء على الميت، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" 1/ 140، وأحمد 3/ 194.

(2)

ورد بهامش الأصل ما نصه: خولة بنت المنذر أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، كذا استدركت على أبي عمر، وكذا صرح بها غير واحد. وقيل: خولة بنت المنذر أم بردة وأم سيف وأرضعت إبراهيم.

(3)

"الطبقات الكبرى" 1/ 143.

(4)

نص على ذلك في "جوامع السيرة" ص 38 - 39.

(5)

رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 7/ 272 (36012) كتاب الأوائل.

ص: 577

الجزية عن كل قبطي"

(1)

وعن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ في إبراهيم: "لو عاش ما رق له خال"

(2)

وهو ابن مارية القبطية، وجميع ولده من خديجة غيره، ومجموعهم ثمانية: القاسم، وبه كان يكنى، والطاهر، والطيب -ويقال: إنه الطاهر- وإبراهيم، وبناته: زينب زوج أبي العاص، ورقية وأم كلثوم زوجتا عثمان وفاطمة زوج علي.

واختلف في الصلاة عليه فصححه ابن حزم

(3)

، وقال أحمد: منكر جدًّا

(4)

.

وقال السدي: سألت أنسًا: أصلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم

(5)

؟

(1)

رواه ابن سعد في "طبقاته" 1/ 144، وقال الألباني في "الضعيفة" (2293): موضوع.

(2)

رواه ابن سعد في "طبقاته" 1/ 144.

(3)

"المحلى" 5/ 158.

(4)

انظر: "زاد المعاد" 1/ 514، وقال العلامة الألباني في هامش كتابه "أحكام الجنائز" ص 104: وقد ذكر ابن القيم في "زاد المعاد" عن الإمام أحمد أنه قال: هذا حديث منكر، ولعله يعني أنه حديث فرد فإن هذا منقول عنه في بعض الأحاديث المعروفة الصحة.

واعلم أنه لا يخدج في ثبوت الحديث أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على ابنه إبراهيم؛ لأن ذلك لم يصح عنه وإن جاء من طرق، فهي كلها معلولة إما بالإرسال وإما بالضعف الشديد، كما تراه مفصلًا في "نصب الراية" 2/ 279 - 280، وقد روى أحمد 3/ 281 عن أنس أنه سُئل: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم؟ قال: لا أدري. وسنده صحيح. ولو كان صلى عليه، لم يخف ذلك على أنس إن شاء الله، وقد خدمه عشر سنين.

(5)

ورد بهامش الأصل: قال النووي في "التهذيب": وصلى عليه رسول الله وكبر صلى الله عليه وسلم أربع تكبيرات هذا قول جمهور العلماء وهو الصحيح، وروى ابن إسحاق بإسناده عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه، قال ابن عبد البر: هذا غلط، فقد =

ص: 578

قَالَ: لا أدري

(1)

. وروى عطاء بن عجلان عن أنس أنه كبر عليه أربعًا

(2)

، وهو أفقه. أعني: عطاء. وعن جعفر بن محمد، عن أبيه أنه صلى، وهي مرسلة

(3)

، فيجوز أن يكون اشتغل بالكسوف عن الصلاة أو المثبت تقدم.

ثالثها:

استدل بعضهم لمالك ومن قَالَ بقوله أن اللبن للفحل حيث قال: وكان ظئرًا لإبراهيم، وهم سائر الفقهاء

(4)

. وقال ابن عمر، وابن الزبير، وعائشة: لا يحرم. وكانت عائشة يدخل عليها من أرضعه أخواتها ولا يدخل من أرضعه نساء إخوتها

(5)

.

رابعها:

فيه جواز تقبيل من قارب الموت وشمه، وذلك كالوداع والتشفي منه قبل فراقه.

خامسها:

قد سلف فيما سلف من الأبواب بيان البكاء والحزن المباحين، وهذا الحديث أبين شيء وقع في البكاء، وهو يبين ما أشكل من المراد بالأحاديث المخالفة له، وفيه ثلاثة أوجه جائزة: حزن القلب،

= أجمع جماهير العلماء على الصلاة على الأطفال إذا استهلوا وهو عمل مستفيض في السلف والخلف. انتهى.

(1)

رواه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 140، وأحمد 3/ 281.

(2)

انظر: التخريج السابق.

(3)

رواه ابن سعد في "طبقاته" 1/ 141.

(4)

انظر: "أحكام القرآن" للجصاص 2/ 180، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 375 - 376، "الأم" 5/ 26، "المغني" 9/ 520 - 522.

(5)

روى هذِه الآثار ابن حزم في "المحلى" 2/ 10 - 3.

ص: 579

والبكاء، والقول الذي لا تحذير فيه، وأن الممنوع النوح وما في معناه مما يفهم أنه لم يرض بقضاء الله ويتسخط له، إذ الفطرة مجبولة على الحزن، وقد قَالَ الحسن البصري: العين لا يملكها أحد، صبابة المرء بأخيه. وروى ابن أبي شبية من حديث أبي هريرة أنه عليه السلام كان في جنازة مع عمر فرأى امرأة تبكي فصاح عليها عمر، فقال عليه السلام:"دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب"

(1)

فعذرها صلى الله عليه وسلم مع قرب العهد؛ لأن بعده ربما يكون بلاء الثكل، وفتور فورة الحزن.

فإذا كان الحزن على الميت رثاء له ورقة عليه، ولم يكن سخطًا ولا تشكيًا، فهو مباح كما سلف قبل هذا لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنها رحمة".

سادسها:

فيه شدة إغراق النساء في الحزن، وتجاوزهن الواجب فيه لنقصهن، ومن رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه. وقال الحسن البصري في قوله تعالى:{وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] أن المودة: الجماع. والرحمة: الولد، ذكره ابن وهب

(2)

.

(1)

"المصنف" 2/ 482 (11295) كتاب: الجنائز، باب: من رخص أن تكون المرأة مع الجنازة والصياح، ولا يرى به بأسًا. وتقدم تخريجه بأفضل من ذلك.

(2)

ذكره القرطبي عن الحسن في "تفسيره" 14/ 17، وذكره عن ابن عباس ومجاهد أيضًا.

ص: 580

‌44 - باب البُكَاءِ عِنْدَ المَرِيضِ

1304 -

حَدَّثَنَا أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الحَارِثِ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ:"قَدْ قَضَى؟ ". قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَبَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى القَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فَقَالَ:"أَلَا تَسْمَعُونَ إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ العَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ القَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَي لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَضْرِبُ فِيهِ بِالعَصَا، وَيَرْمِي بِالحِجَارَةِ، وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ. [مسلم: 924 - فتح: 3/ 175]

ذكر فيه حديث ابن عمر: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوى .. الحديث.

وفيه: فَبَكَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَما رَأى القَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا .. الحديث.

وهو قال على ما ترجم له من جواز البكاء عند المريض، وليس ذلك من الجفاء عليه والتقريع له، وإنما هو إشفاق عليه، ورقة وحرقة لحاله.

وقد بين في الحديث أنه لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، وإنما يعذب بالقول السيئ ودعوى الجاهلية.

وقوله: ("أو يرحم") أي: إن لم ينفذ الوعيد في ذلك، وإذا قَالَ خيرًا واستسلم للقضاء.

وقوله: (فوجده في غاشية أهله). يريد من كان حاضرًا عنده منهم، ويبعد أن يكون المراد: ما يتغشاه من كرب الوجع الذي به، وإن أبداه ابن التين احتمالًا.

ص: 581

ومعنى: ("قد قضى؟ ") أي: مات.

وقوله: (وكان عمر يضرب فيه بالعصا ويرمي بالحجارة ويحثي -أو يرمي- بالتراب). إنما كان يضرب في البكاء بعد الموت لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا وجبت فلا تبكين باكية"

(1)

، وكان يضربهن أدبًا لهن؛ لأنه الإمام، كذا أوله الداودي. وقال غيره: إنما كان يضرب في بكاء مخصوص، وقبل الموت وبعده سواء، وذلك إذا نُحْنَ ونحوه. وقوله:(ويحثي التراب). تأسي بقوله صلى الله عليه وسلم في نساء جعفر: "احث في أفواههن التراب"

(2)

.

(1)

رواه أبو دواد من حديث جابر بن عتيك (3111) كتاب: الجنائز، باب: في فضل من مات في الطاعون، والنسائي 4/ 13 كتاب: الجنائز، باب: النهي عن البكاء على الميت، ومالك 1/ 393 - 394 (996) كتاب: الجنائز، باب: النهي عن البكاء. وعبد الرزاق في "مصنفه" 3/ 562 (6695) كتاب: الجنائز، باب: الصبر، والبكاء، والنياحة، وابن حبان في "صحيحه" 7/ 461 (3189)، 7/ 463 (3190) كتاب: الجنائز، باب: فصل في الشهيد، والطبراني 2/ 191 (1779)، والحاكم في "المستدرك" 1/ 352 كتاب: الجنائز، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه رواته مدنيون قرشيون، وعند حديث مالك جمع مسلم بن الحجاج بدأ بهذا الحديث من شيوخ مالك. والبيهقي 4/ 69 - 70 كتاب: الجنائز، باب: من رخص في البكاء إلى أن يموت الذي يُبكى عليه، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(2723).

(2)

سلف برقم (1299) باب: من جلس عند المصيبة.

ص: 582

‌45 - باب مَا يُنْهَى عَنِ النَّوْحِ وَالبُكَاءِ وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ

1305 -

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: لَمَّا جَاءَ قَتْلُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ، وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ شَقِّ البَابِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى، فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ غَلَبْنَنِي -أَوْ غَلَبْنَنَا الشَّكُّ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَوْشَبٍ- فَزَعَمَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ". فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَكَ، فَوَاللهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ العَنَاءِ. [انظر: 1299 - مسلم: 935 - فتح: 3/ 176]

1306 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ البَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ: أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأُمِّ العَلَاءِ، وَابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةِ مُعَاذٍ وَامْرَأَتَيْنِ. أَوِ ابْنَةِ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةِ مُعَاذٍ وَامْرَأَةٍ أُخْرَى. [4892، 7215 - مسلم: 936 - فتح: 3/ 176]

ذكر فيه حديث عائشة: لَمَّا جَاءَ قَتْلُ زيدِ بن حارِثة .. إلى آخره.

وقد سلف قريبًا في باب: من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن

(1)

، وشيخه فيه: محمد بن عبد الله بن حوشب. قَالَ الأصيلي: لم يرو عنه أحد غير البخاري. قلتُ: أي: من أصحاب الكتب الستة، وإلا فقد روى عنه ابن وارة.

(1)

انظر: "المصدر السابق" حديث (1299).

ص: 583

وحديث أم عطية: أَخَذَ عَلَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ البَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ، فَمَا وَفَتْ مِنَّا امْرَأَةٌ غَيْرَ خَمْسِ نِسْوَةٍ: أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأُمِّ العَلَاءِ، (وَابْنَةِ أَبِي)

(1)

سَبْرَةَ امْرَأَةِ مُعَاذٍ، (وَامْرَأَتَيْنِ)

(2)

. أَوِ ابنةِ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةِ مُعَاذٍ وَامْرَأَةٍ أخْرى.

وهذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا

(3)

، وقد أسلفنا معنى هذا الباب، وأن النوح والبكاء على سنة الجاهلية حرام، قد نسخه الإسلام، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم كان يشترط على النساء في بيعة الإسلام أن لا يَنُحن؛ تأكيدًا للنهي؛ وتحذيرًا منه، وفيه: أنه من نهي عما لا ينبغي له ففعله ولم ينته أنه يؤدب على ذلك ويزجر، ألا ترى إلى قوله:"فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ" حين انصرف المرة الثالثة، وقال: إنهن غلبننا. وهذا يدل على أن بكاء نساء جعفر وزيد الذي نهين عنه لم يكن من النوح المحرم؛ لأنه لو كان محرمًا لزجرهن حَتَّى ينتهين عنه. ولا يؤمن على النساء عند بكائهن الهائج لهن أن يضعف صبرهن فيصلن به نوحًا محرمًا، فلذلك نهاهن قطعًا للذريعة.

وفيه من الفقه:

أن للعالم أن ينهى عن المباح إذا اتصل به فعل محذور أو خيف معه، فمن يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وهذا الحديث يدل أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السالف:"فإذا وجبت فلا تبكين باكية"

(4)

على الندب جمعًا بين الأحاديث، فقد قال: "لكن حمزة لا بواكي

(1)

في الأصل: وابنة ابن أبي، والمثبت من اليونينية.

(2)

في الأصل: امرأتان، والمثبت من اليونينية.

(3)

"صحيح مسلم"(936) كتاب: الجنائز، باب: التشديد في النياحة.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 584

له"

(1)

وحديث أم عطية دال على أن النوح بدعوى الجاهلية حرام؛ لأنه لم يقع في البيعة من غير فرض. وقولها: (فما وفت منا امرأة غير خمس).

هو مصداق لإخبار الشارع عنهن بنقص العقل والدين، ومن خلق من الضلع الأعوج كيف يستقيم ويرجع إلى الحق وينقاد؟!

وفي أفراد مسلم من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعًا: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة" وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب"

(2)

.

وللبخاري عن ابن عباس موقوفًا: خلال من خلال الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة ونسي -يعني: الراوي- الثالثة. قَالَ سفيان: ويقولون: إنها الاستسقاء بالأنواء

(3)

.

(1)

رواه ابن ماجه (1591)، وأحمد 2/ 40، 84، 92، والحاكم في "المستدرك" 3/ 194 - 195، والبيهقي 4/ 70 من طريق أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر، به مرفوعًا.

وصححه الحاكم على شرط مسلم. وقال الألباني في "صحيح ابن ماجه"(1293): حسن صحيح.

وفي الباب عن أنس.

(2)

"صحيح مسلم"(934) كتاب: الجنائز، باب: التشديد في النياحة.

(3)

سيأتي برقم (3850) كتاب: مناقب الأنصار، باب: القسامة في الجاهلية.

ص: 585

‌46 - باب القِيَامِ لِلْجَنَازَةِ

1307 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ". قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. زَادَ الحُمَيْدِيُّ:"حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ". [1308 - مسلم: 958 - فتح: 3/ 177]

ذكر فيه حديث سفيان عن الزُّهْرِيّ، عَنْ سَالِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ ابْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ".

قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ، أنا عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وفي بعض نُسخ البخاري: زَادَ الحُمَيْدِيُّ: "حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ أَوْ تُوضَعَ".

هذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا ولفظه: "حَتَّى تخلفكم أو توضع"

(1)

وفي لفظٍ له: "إذا رأى أحدكم الجنازة فإن لم يكن معها فليقم حين يراها تخلفه، إذا كان غير متبعها"

(2)

.

إذا تقرر ذلك فمعنى القيام للجنازة -والله أعلم- على التعظيم لأمر الميت، والإجلال لأمر الله؛ لأن الموت فزع، فيستقبل بالقيام له والجد.

وقد روي هذا المعنى مرفوعًا من حديث ابن عمر: "إنما تقومون إعظامًا لمن يقبض النفوس". رواه أحمد والحاكم. وقال: صحيح الإسناد

(3)

.

وروي من حديث أبي سعيد مرفوعًا: "الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة

(1)

"صحيح مسلم"(958) كتاب: الجنائز، باب: القيام للجنازة.

(2)

"صحيح مسلم"(958).

(3)

"مسند أحمد" 2/ 168، و"مستدرك الحاكم" 1/ 357 كتاب: الجنائز.

ص: 586

فقوموا" رواه ابن أبي الدنيا من هذا الوجه، وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة

(1)

. وقد أخذ بظاهر حديث الباب جماعة من الصحابة، والتابعين، والفقهاء كما سنقف على ذلك في الباب بعد بعده.

ورأت طائفة ألا يقوم للجنازة إذا مرت به، وقالوا: لمن تبعها أن يجلس وإن لم توضع. ونقله الحازمي عن أكثر أهل العلم

(2)

. واحتجوا بحديث عليًّ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم للجنازة ثم جلس بعد. أخرجه مسلم

(3)

.

ولابن حبان: كان يأمر بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك

(4)

.

وفي لفظ: قام ثم قعد

(5)

. وفي آخر: قام فقمنا، ورأيناه قعد فقعدنا

(6)

.

وقال عليٌّ: ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة، فلما نسخ ذلك نهى عنه

(7)

. وفي لفظٍ: قام مرة ثم نهى عنه

(8)

.

فدل هذا: أن القيام منسوخ بالجلوس.

وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب، وعروة

(9)

، ومالك، وأبو حنيفة

(1)

"المصنف" 3/ 41 (11906) باب: من قال: يقام للجنازة إذا مرت.

(2)

"الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" ص 93.

(3)

"صحيح مسلم"(962) كتاب: الجنائز، باب: نسخ القيام للجنازة.

(4)

"صحيح ابن حبان" 7/ 326 - 327 (3056) كتاب: الجنائز، باب: فصل في القيام للجنازة.

(5)

رواه مسلم عن علي بن أبي طالب (962) كتاب: الجنائز، باب: نسخ القيام للجنازة، والترمذي (1044) كتاب: الجنائز، باب: الرخصة في ترك القيام لها، والنسائي 4/ 77 - 78 كتاب: الجنائز، باب: الوقوف للجنائز، والبيهقي 4/ 27 كتاب: الجنائز، باب: حجة من زعم أن القيام للجنازة منسوخ.

(6)

رواه مسلم (962/ 84)، والنسائي 4/ 78.

(7)

رواه عبد الرزاق 3/ 459 (6311) كتاب: الجنائز، باب: القيام حين ترى الجنازة.

(8)

رواه البزار في "المسند" 3/ 122 (908).

(9)

رواه عبد الرزاق 3/ 461 - 462 (6315)، (6320) كتاب: الجنائز، باب: القيام حين ترى الجنازة.

ص: 587

وأصحابه، والشافعي

(1)

. وكان ابن عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون قبل أن توضع الجنازة

(2)

، فهذا ابن عمر يفعل هذا. وقد روي عن عامر بن ربيعة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك. فدل تركه لذلك ثبوت نسخ ما حدث به عامر. وأنكرت عائشة القيام لها، وأخبرت أن ذلك كان من فعل الجاهلية

(3)

.

وقال عبد الملك بن حبيب وابن الماجشون: ذلك على التوسعة، والقيام فيه أجر وحكمه باق

(4)

.

وقول مالك أولى؛ لحديث عليًّ السالف. وقال صاحب "المهذب": هو مخير بين القيام والقعود

(5)

.

وقال جماعة: يكره القيام إذا لم يرد المشي معها

(6)

، وبه قَالَ أبو حنيفة. وقال المتولي: يستحب

(7)

القيام

(8)

. وحديث علي مبين للجواز.

فأما القيام على القبر حَتَّى تقبر، فقال القرطبي: كرهه قوم، وعمل به آخرون. رُوي ذلك عن عليًّ وعثمان وابن عمر، وأمر به عمرو بن العاصي

(9)

.

(1)

انظر: "تبيين الحقائق" 1/ 244، "التمهيد" 6/ 269، "الأم" 1/ 247.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 4 (11519) كتاب: الجنائز، باب: من رخص في أن يجلس قبل أن توضع.

(3)

رواه البيهقي 4/ 28 كتاب: الجنائز، باب: حجة من زعم أن القيام للجنازة منسوخ.

(4)

انظر: "المنتقى" 2/ 24.

(5)

"المهذب" 1/ 444 - 445.

(6)

عزاه النووي إلى بعض الشافعية، "المجموع" 5/ 241.

(7)

ورد بهامش الأصل ما نصه: واختاره النووي في "شرح المهذب" و"شرح مسلم".

(8)

انظر: "شرح مسلم للنووي" 7/ 38.

(9)

رواه ابن أبي شيبة عن علي 3/ 25 (11755) كتاب: الجنائز، باب: في الرجل يقوم على قبر الميت، وانظر:"المفهم" 2/ 620.

ص: 588

‌47 - باب مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ

؟

1308 -

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جَنَازَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا -أَوْ تُخَلِّفَهُ -أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُخَلِّفَهُ". [انظر: 1307 - مسلم: 958 - فتح: 3/ 178].

ذكر فيه حديث نافع عَنِ ابن عُمَرَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا رَأى أَحَدُكُمْ جَنَازَةً فَإنْ لَمْ يَكُنْ مَاشِيًا مَعَهَا فَلْيَقُمْ حَتَّى يُخَلِّفَهَا -أَوْ تُخَلِّفَهُ- أَوْ تُوضَعَ مِنْ قَبْلِ أنْ تُخَلِّفَهُ".

ص: 589

‌48 - باب مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَا يَقْعُدُ حَتَّى تُوضَعَ عَنْ مَنَاكِبِ الرِّجَالِ، فَإِنْ قَعَدَ أُمِرَ بِالقِيَامِ

1310 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ -يَعْنِي: ابْنَ إِبْرَاهِيمَ- حَدَّثَنَا هِشَامٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ". [انظر: 1309 - مسلم: 959 - فتح: 3/ 178]

1309 -

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِيَدِ مَرْوَانَ فَجَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه فَأَخَذَ بِيَدِ مَرْوَانَ فَقَالَ: قُمْ فَوَاللهِ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ. [1310 - مسلم: 959 - فتح: 3/ 178]

ذكر فيه حديث أبي سعيد مرفوعًا: "إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ".

وحديث سعيد المقبري عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فَأخَذَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِيَدِ مَرْوَانَ فَجَلَسَا قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ، فَجَاءَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه فَأخَذَ بِيَدِ مَرْوَانَ فَقَالَ: قُمْ والله لَقَدْ عَلِمَ هذا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ.

وهذا من أفراد البخاري، والأول أخرجه مسلم أيضًا

(1)

. وقد أخذ بظاهر هذا الحديث طائفة، وكانوا يقومون للجنازة إذا مرت بهم، روي ذلك عن أبي مسعود البدري، وأبي سعيد الخدري، وقيس بن سعد، وسهل بن حنيف، وسالم بن عبد الله

(2)

. زاد ابن حزم: والمسور بن

(1)

"صحيح مسلم"(959) كتاب: الجنائز، باب: القيام للجنازة.

(2)

رواه عبد الرزاق 3/ 459 (6310)، (6319)، (6322)، (6323)، (6327)، وابن المنذر في "الأوسط" 5/ 393 - 394.

ص: 590

مخرمة وقتادة وابن سيرين والشعبي والنخعي

(1)

.

وقال أحمد وإسحاق: إن قام لم أعِبْهُ، وإن قعد فلا بأس. ذكره ابن المنذر

(2)

، وقد سلف نسخه.

وإن أئمة الفتوى على ترك القيام. قال ابن المنذر: وممن رأى أن لا يجلس من تبعها حَتَّى توضع عن مناكب الرجال أبو هريرة وابن عمر وابن الزبير والحسن بن علي والنخعي والشعبي والأوزاعي

(3)

، وأما أمر أبي سعيد لمروان بالقيام فهو من أفراده كما قَالَ ابن بطال

(4)

، وممن روي عنه القيام للجنازة إذا مرت بهم ممن ذكرناهم في الباب قبل هذا، لم يحفظ عن أحد منهم قول أبي سعيد، وقعود أبي هريرة ومروان دليل على أنهما

(5)

علما أن القيام ليس بواجب، وأنه أمر متروك ليس عليه العمل؛ لأنه لا يجوز أن يكون العمل على القيام عندهم ويجلسان، ولو كان أمرًا معمولًا ما خفي مثله على مروان؛ لتكرر مثل هذا الأمر، وكثرة شهودهم الجنائز، والعمل في هذا على ما فعله ابن عمر والصحابة من الجلوس قبل وضعها.

(1)

"المحلى" 5/ 154.

(2)

"الأوسط" 5/ 395.

(3)

"الأوسط" 5/ 392 - 393.

(4)

"شرح ابن بطال" 3/ 294.

(5)

ورد بهامش الأصل: قد ذكر المؤلف في التبويب الآتي بعده أنهما لم يبلغهما النسخ، وهو يناقض هذا.

ص: 591

‌49 - باب مَنْ قَامَ لِجَنَازَةِ يَهُودِيٍّ

1311 -

حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقُمْنَا بِهِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ. قَالَ:"إِذَا رَأَيْتُمُ الجَنَازَةَ فَقُومُوا". [مسلم: 960 - فتح: 3/ 179]

1312 -

حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ -وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ- قَاعِدَيْنِ بِالقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ فَقَامَا. فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، أَيْ: مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَا: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ. فَقَالَ: "أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟ ". [1313 معلقًا- مسلم: 961 - فتح: 3/ 179]

1313 -

وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرٍو عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كُنْتُ مَعَ قَيْسٍ وَسَهْلٍ رضي الله عنهما فَقَالَا: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. [انظر: 1312]

قَالَ زَكَرِيَّاءُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى: كَانَ أَبُو مَسْعُودٍ وَقَيْسٌ يَقُومَانِ لِلْجِنَازَةِ. [فتح: 3/ 180]

ذكر فيه حديث جابر: مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقُمْنَا.

فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيًّ. قَالَ:"فإذا رَأَيْتُم الجَنَازَةَ فَقُومُوا".

وحديث سهل بن حنيف وقيس بن سعد بالقادسية، وفيه:"أَليْسَتْ نَفْسًا؟ ".

وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ: عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ ابن أَبِي لَيْلَى قَالَ: كُنْتُ مَعَ قَيْسٍ وَسَهْلٍ رضي الله عنهما فَقَالَا: كُنَّا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 592

وَقَالَ زَكَرِيَّاءُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابن أَبِي لَيْلَى قال: كَانَ (أَبُو)

(1)

مَسْعُودٍ وَقَيْسٌ يَقُومَانِ لِلْجِنَازَةِ.

الشرح:

حديث جابر أخرجه مسلم وقال فيه: "إن الموت فزع"

(2)

ولم يذكر البخاري هذِه اللفظة. وحديث سهل وقيس أخرجهما مسلم

(3)

، وتعليق أبي حمزة أخرجه أبو نعيم من حديث عبدان عنه، والحاكم وقال: على شرط مسلم من حديث أنس فقال: "إنما قمنا للملائكة" لما قيل له: إنها جنازة يهودي

(4)

.

قَالَ الشافعي في "اختلاف الحديث": وهذا -أعني: القيام- لا يعدو أن يكون منسوخًا، أو يكون قام لعلة قد رواها بعض المحدثين، وهي كراهته أن تطوله جنازة يهودي

(5)

. قلتُ: أو آذاه ريحها كما أخرجه ابن شاهين

(6)

. وأيها كان فقد جاء عنه تركه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمره.

وقال الحازمي: اختلف أهل العلم في هذا فقال بعضهم: يقوم إذا رآها. وأكثر أهل العلم على أنه ليس على أحد القيام لها. روينا ذلك عن عليٍّ، وابنه الحسن وعلقمة والأسود والنخعي ونافع بن جبير. زاد ابن حزم: ابن عباس، وأبا هريرة. وبه قَالَ أهل الحجاز، وذهبوا إلى أن الأمر بالقيام منسوخ

(7)

.

(1)

في الأصل: ابن. والمثبت من اليونينية، وأبو سعود المذكور هو البدري.

(2)

"صحيح مسلم"(960) كتاب: الجنائز، باب: القيام للجنازة.

(3)

"صحيح مسلم"(961).

(4)

"المستدرك" 1/ 357 كتاب: الجنائز.

(5)

"اختلاف الحديث" ص 157.

(6)

"ناسخ الحديث ومنسوخه" ص 300 - 301.

(7)

"الاعتبار" ص 93، 94.

ص: 593

وفي الترمذي -مضعفًا- من حديث عبادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنازة حَتَّى توضع في اللحد، فمر حبر من اليهود فقال: هكذا نفعل. فقال: "اجلسوا خالفوهم" فجلس

(1)

.

وقوله: (فقيل له إنها من أهل الأرض)، أي: من أهل الذمة، وأبدل هذا الداودي بقوله: من أهل. الذمة، ثم قَالَ: إنما شك أي الكلمتين قَالَ. ثم قَالَ: والذي في الروايات: أي: من أهل الذمة. على طريق البيان والتفسير؛ لأن أهل تلك الأرض كانوا أهل ذمة فنسبها إليهم، وقول أبي هريرة فيما مضى صدق لأبي سعيد؛ لأنهما لم يبلغهما النسخ.

فائدة:

القادسية أول مرحلة لمن خرج من الكوفة إلى المدينة، وهي التي كان بها حرب المسلمين مع الفرس

(2)

. وذكر ياقوت خمس بلاد أخرى، وأهمل اثنتين: سر من رأى، مات بها المستعين الخليفة، قَالَ القزاز: والقادسية بمرو الروذ

(3)

.

(1)

الترمذي (1020).

ورواه أيضًا أبو داود (3176)، وابن ماجه (1545) من طريق عبد الله بن سليمان ابن جنادة بن أبي أمية، عن أبيه سليمان بن جنادة عن جده عن عبادة بن الصامت. والحديث ضعفه المصنف هنا، وقال في "البدر المنير" 5/ 229: إسناده ضعيف. وقال البخاري في "التاريخ الكبير" 4/ 6: حديث منكر. وضعف الحافظ أيضًا إسناده في "الفتح" 3/ 181.

(2)

انظر: "معجم البلدان" 4/ 291 - 293.

(3)

ورد بهامش الأصل: آخر 3 من تجزئة المصنف.

ص: 594

‌50 - باب حَمْلِ الرِّجَالِ الجِنَازَةَ دُونَ النِّسَاءِ

1314 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهُ صَعِقَ". [1316، 1380 - فتح: 3/ 181]

ذكر فيه حديث أبي سعيد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي .. " الحديث. وترجم عليه باب: قول الميت على الجنازة: قدموني

(1)

وهو من أفراده، وخرجه أيضًا في باب كلام الميت على الجنازة

(2)

، ووجه مناسبته للترجمة قوله:("واحتملها الرجال") فإن النساء يضعفن عن ذلك ولو كان الميت أنثى، وربما انكشف منها شيء بسببه.

إذا عرفت ذلك فالكلام عليه من أوجه:

أحدها: قوله: ("إذا وضعت") الظاهر أن المراد: وضعها على أعناقهم، ويحتمل أن يريد الوضع على السرير، وسئل في "المدونة": من أي جوانب السرير أحمل، وبأيها أبدأ؟ فقال: ليس فيه شيء مؤقت، ورأيته يرى الذي يذكر الناس تبدأ باليمين بدعة

(3)

.

وقال ابن مسعود: حمل الأربع هي السنة

(4)

، وبه قَالَ أشهب وابن

(1)

سيأتي برقم (1316).

(2)

سيأتي برقم (1380).

(3)

"المدونة" 1/ 160 - 161.

(4)

رواه عبد الرزاق 3/ 512 (6517) كتاب: الجنائز، باب: صفة حمل النعش، وابن أبي شيبة 2/ 481 (11281) كتاب: الجنائز، باب: ما قالوا فيما يجزئ من حمل جنازة.

ص: 595

حبيب

(1)

. واختلف في صفة الحمل فقال أشهب: يبدأ بالمقدم الأيمن من الجانب الأيمن، ثم المؤخر -يريد الأيمن- ثم المقدم الأيسر، ثم يختم بالمؤخر الأيسر. وقال ابن حبيب: يبدأ بيمين الميت -وهو يسار السرير المقدم- ثم الرجل اليمنى من الميت، ثم الرجل اليسرى، ثم يختم بالمقدم الأيمن وهو يسار الميت

(2)

.

ثانيها: قوله: ("فإنْ كانتْ صالحةً قالتْ: قَدِّمُوني"). وذلك أن تأخيرها لا فائدة فيه، وفي تعجيلها ستر لها، ومبادرة لغيرها.

وقوله: (وإِنْ كانتْ غيرَ صَالِحَةٍ قالتْ: يا ويلها") وفي الرواية الأخرى: "قالت لأَهْلِهَا يَا وَيْلَهَا"

(3)

. وهي كلمة تقولها العرب عند الشر تقع فيه، وتقول ذلك لغيره، وويحك، وويك وويل ومعناهن واحد. وقيل: الويل: وادٍ في جهنم. والمتكلم بذلك الروح، ويجوز أن يرده الله تعالى إليه، فإنما يسمع الروح من هو مثله ويجانسه، وهم الملائكة والجن.

ومعنى ("صَعِقَ"): مات. والمراد: يسمعها كل شيء مميز، وهم الملائكة والجن، وإن روي أن البهائم تسمعها. وقد بيَّن عليه السلام المعنى الذي من أجله مُنع الإنسان أن يسمعها، وهو أنه كان يصعق لو سمعها، فأراد الله تعالى الإبقاء على عباده، والرفق بهم في الدنيا لتعمر، ويقع فيها البلوى والاختبار

(4)

.

(1)

انظر: "بلغة السالك" 1/ 201، "حاشية الدسوقي" 1/ 421.

(2)

المصدر السابق.

(3)

ستأتي برقم (1316).

(4)

ورد بهامش الأصل: ثم بلغ سادسًا كتبه مؤلفه غفر الله له.

ص: 596

‌51 - باب السُّرْعَةِ بِالجِنَازَةِ

وَقَالَ أَنَسٌ: أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ، فامْشِوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَخَلْفَهَا وَعَنْ يَمِينِهَا، وَعَنْ شِمَالِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ قَرِيبًا مِنْهَا.

1315 -

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ". [مسلم: 944 - فتح: 3/ 182]

وذكر فيه حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أَسْرِعُوا بِالجِنَازَةِ .. " الحديث.

الشرح:

أثر أنس أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حميد، عنه في الجنازة: أنتم مشيعون لها تمشون أمامها وخلفها، وعن يمينها، وعن شمالها

(1)

. وأخرجه عبد الرزاق أيضًا

(2)

. وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم، والأربعة، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد من حديث أبي بكرة: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنكاد نرمل بالجنازة رملًا، ثم ذكر له شاهدًا صحيحًا

(3)

.

(1)

"المصنف" 2/ 477 (11231) كتاب: الجنائز، باب: في المشي أمام الجنازة من رخص فيه.

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 3/ 445 (62610) كتاب: الجنائز، باب: المشي أمام الجنازة.

(3)

"صحيح مسلم"(944) كتاب: الجنائز، باب: الإسراع بالجنازة وأبو داود (3181)، والترمذي (1015)، والنسائي 4/ 41 - 42 وابن ماجه (1477)، و"المستدرك" 1/ 355 كتاب: الجنائز.

ص: 597

وللترمذي: "ما دون الخبب". وأعله

(1)

. وللبخاري في "تاريخه" عن محمود بن لبيد قَالَ: أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى تقطعت نعالنا يوم مات سعد بن معاذ

(2)

، وأمر عمر بالإسراع بجنازته، وكذا عمران بن الحصين، وابن عمرو، وابن عمر، وعلقمة. وقال أبو الصديق الناجي: إن كان الرجل؛ لينقطع شسعه في الجنازة فما يدركها

(3)

.

وقال إبراهيم: كان يقال: انبسطوا بجنائزكم، ولا تدبوا بها دب اليهود

(4)

. وكان محمد والحسن يعجبهما الإسراع بها

(5)

.

وفي ابن ماجه بإسناد فيه ليث عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى قَالَ: مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة يسرعون بها، فقال: " (لتكون)

(6)

عليكم السكينة"

(7)

.

(1)

"سنن الترمذي"(1011) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في المشي خلف الجنازة، وقال أبو عيسى: هذا حديث لا يعرف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه، وأبو ماجد رجل مجهول لا يُعْرف إنما يُروى عنه حديثان عن ابن مسعود، و"علل الترمذي" 1/ 407 باب: ما جاء في المشي خلف الجنازة، وقال: سألت محمدًا -يعني البخاري- عنه فقال: أبو ماجد منكر الحديث، وضعفه جدًا، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(5066). وانظر تخريجه مفصلًا في "البدر المنير" 5/ 230 - 232، و"تلخيص الحبير" 2/ 112.

(2)

"التاريخ الكبير" 7/ 402 ترجمة (1762).

(3)

روى عنه ابن أبي شيبة 2/ 480 (11268) كتاب: الجنائز، باب: في الجنازة يسرع بها إذا خرج بها أم لا.

(4)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 480 (11272).

(5)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 480 (11273).

(6)

كذا بالأصول، وفي "سنن ابن ماجه": لتكن.

(7)

"سنن ابن ماجه"(1479) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في شهود الجنائز، قال البوصيري: ليث هو ابن أبي مسلم ضعيف تركه يحيى القطان وابن معين وابن مهدي ومع ضعفه ورد في الصحيحين، وقال الألباني في "ضعيف ابن ماجه" (322): منكر.

ص: 598

وأخذ قوم بهذا فقالوا: عدم الإسراع بها أفضل بل نمشي بها مشيًا لينًا، وأخذ قوم بالأول وقالوا: الإسراع بها أفضل. وقد روي عن أبي هريرة أنهم كانوا معه في جنازة، فمشوا بها مشيًا لينًا، فانتهرهم أبو هريرة وقال: كنا نرمل بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وذكر ابن المنذر أن الثاني مذهب ابن عباس

(1)

، وقد يكون حديث أبي موسى فيه عنف في مشيهم ذلك تجاوزوا ما أمروا في حديث أبي هريرة في السرعة، وقد ورد مصرحًا به في حديث أبي موسى المذكور: مُرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة يسرعون بها في المشي، وهي تمخض مخض الزق فقال:"عليكم بالقصد في جنائزكم"

(2)

فأمرهم بالقصد؛ لأن تلك السرعة يخاف منها على الميت. وقد أمر بما دون الخبب كما سلف، وهو المراد بالسرعة في حديث أبي هريرة، وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه، وهو قول جمهور العلماء

(3)

.

وفي "المبسوط": ليس في المشي بالجنازة شيء مؤقت، غير أن العجلة أحب إلى أبي حنيفة من الإبطاء

(4)

، وقال ابن قدامة: لا خلاف بين الأئمة في استحباب الإسراع بها

(5)

.

(1)

"الأوسط" 5/ 379 - 380.

(2)

رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" 1/ 421 (524)، وابن أبي شيبة 2/ 479 (11262) كتاب: الجائز، من كره السرعة في الجنازة، وأحمد 4/ 406، والروياني في "مسنده" 1/ 324 (491)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 479، والطبراني في "الأوسط" 6/ 137 (6020)، والبيهقي 4/ 22 كتاب: الجائز، باب: من كره شدة الإسراع بها، وضعفه الألباني في "السلسلة الضعيفة" 8/ 354 (3896).

(3)

انظر: "الهداية" 1/ 100، "الخرشي على مختصر خليل" 2/ 128، "البيان" 3/ 89، "المبدع" 2/ 266.

(4)

"المبسوط" 2/ 56.

(5)

"المغني" 3/ 394.

ص: 599

قلتُ: وهو مشي الناس على سجيتهم، لا السعي المفرط، وما جاء عن السلف من كراهة الإسراع بها محمول على هذا الذي يخاف منه الانفجار أو خروج شيء منه.

وروي عن النخعي أنه قال: بطئوا بها، ولا تدبوا دبيب اليهود والنصارى

(1)

.

وقال ابن حبيب: لا يمش بالجنازة الهوينا، ولكن مشي الرجل الشاب في حاجته

(2)

. وكذلك قَالَ الشافعي: يسرع بها إسراع سجية مشي الناس

(3)

. وفي "المعرفة" عنه: فوق سجية المشي

(4)

.

وقد قيل: إن المراد بالإسراع تعجيل الدفن بعد يقين موته. ووجهه حديث الحصين

(5)

بن وَحْوَح

(6)

أن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: "إني لأرى طلحة إلا وقد حدث به الموت، فآذنوني به وعجلوا، فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله"

(7)

.

(1)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 480 (11272) كتاب: الجنائز، باب: في الجنازة يسرع بها إذا خرج بها أم لا.

(2)

انظر: "التاج والإكليل" 3/ 34.

(3)

"الأم" 1/ 241.

(4)

"معرفة السنن والآثار" 5/ 266 (7480).

(5)

ورد بهامش الأصل ما نصه: الحصين صحابي.

(6)

هو حصين بن وحوح الأنصاري المدني صحابي، انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" 6/ 548.

(7)

رواه أبو داود (3159) كتاب: الجنائز، باب: التعجيل بالجنازة، والطبراني 4/ 28 (3554)، وفي "الأوسط" 8/ 126 (8168)، والبيهقي 3/ 386 - 387 كتاب: الجنائز، باب: ما يستحب من التعجل بتجهيزه إذا بان موته، وذكره الهيثمي في "المجمع" 9/ 365 كتاب: المناقب، باب: ما جاء في طلحة بن البراء، وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" وقد روى أبو داود بعض هذا الحديث، وسكت عليه، فهو حسن إن شاء الله.

وضعفه الألباني في "الضعيفة"(3232).

ص: 600

وأما قول أنس: (أَنْتُمْ مُشَيِّعُونَ، فامشوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَخَلْفَهَا) فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب:

أحدها: يمشي أمامها وخلفها وحيث شاء. هذا قول أنس بن مالك، ومعاوية بن قرة، وسعيد بن جبير، وبه قَالَ الثوري

(1)

، واحتجوا بما رواه يونس بن يزيد عن الزهري، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها

(2)

.

ثانيها: أن المشي أمامها أفضل، واحتجوا بحديث ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر يمشون أمام الجنازة. رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه ابن حبان

(3)

.

وفي رواية للنسائي، وابن حبان زيادة: وعثمان

(4)

.

(1)

ذكرها ابن المنذر في "الأوسط" 5/ 384.

(2)

رواه الترمذي (1010) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في المشي أمام الجنازة.

وقال: سألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث خطأ أخطأ فيه محمد ابن بكر، وإنما يروى هذا الحديث عن يونس عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم. وابن ماجه (1483) باب: ما جاء في المشي أمام الجنازة. والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 481، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي"(805)، "الإرواء"(739).

(3)

"سنن أبي داود"(3179) كتاب: الجنائز، باب: المشي أمام الجنازة، و"سنن الترمذي"(1007)، و"سنن النسائي" 4/ 56 باب: مكان الماشي من الجنازة، و"سنن ابن ماجه"(1482)، و"صحيح ابن حبان" 7/ 317 (3045) كتاب: الجنائز، باب: حمل الجنازة.

وصححه الألباني في "الإرواء" 3/ 186 (739).

(4)

"سنن النسائي" 4/ 56 باب: مكان الماشي من الجنازة، و"صحيح ابن حبان" 7/ 320 (3048).

ص: 601

وروي مرسلًا عن الزهري.

قَالَ الترمذي: وأهل الحديث يرون أنه أصح، قاله ابن المبارك

(1)

.

واختار البيهقي ترجيح الموصول؛ لأن واصلها ثقة

(2)

، وكذا ابن المنذر حيث قَالَ في "إشرافه": ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان كانوا يمشون أمام الجنازة.

وقال ابن حزم: لم يخف علينا قول الجمهور من أصحاب الحديث أن خبر همام هذا خطأ، ولكن لا يلتفت إلى هذا الخطأ في رواية الثقة إلا ببيان لا يشك فيه

(3)

وهو قول ابن عمر، وابن عباس، وطلحة، والزبير، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وأبي أسيد، حكاه في المصنف عنه

(4)

، وإليه ذهب القاسم وسالم وبقية الفقهاء السبعة المدنيين، والزهري ومالك والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم

(5)

. وقال الزهري: والمشي خلف الجنازة من خطأ السنة

(6)

، واحتج أحمد بتقديم عمر ابن الخطاب الناس أمام جنازة زينب بنت جحش، وبحديث ابن عمر، وبعمل الخلفاء الراشدين المهديين.

وقال ابن شهاب: ذلك عمل الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هلم جرا

(7)

.

وفي "المصنف" عن أبي صالح قَالَ: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يمشون أمامها. وحكاه أيضًا عن علقمة والأسود والقاسم والحسن والحسين

(1)

"سنن الترمذي"(1009) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في المشي أمام الجنازة.

(2)

"السنن الكبرى" 4/ 23 كتاب: الجنائز، باب: المشي أمام الجنائز.

(3)

"المحلى" 5/ 165.

(4)

"المصنف" 2/ 476 - 478 (11224).

(5)

انظر: "المدونة" 1/ 160، "الأم" 1/ 240 - 241، "المغني" 3/ 397 - 398.

(6)

رواه مالك في (موطئه) ص 156.

(7)

رواه مالك ص 156.

ص: 602

وعبد الله بن الزبير وعبيد بن عمير والعقَّار بن المغيرة بن شعبة

(1)

.

ثالثها: أن المشي خلفها أفضل، وهو قول علي بن أبي طالب

(2)

. وبه قَالَ أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والثوري وإسحاق وأهل الظاهر

(3)

.

قَالَ الطحاوي: وهو قول ابن مسعود وأصحابه، واحتجوا بما رواه أبو الأحوص، عن أبي فروة الهمداني عن زائدة بن خراش، عن ابن أبزى، عن أبيه قال: كنت أمشي في جنازة فيها أبو بكر وعمر وعلي، وكان أبو بكر وعمر يمشيان أمامها، وكان علي يمشي خلفها، فقال علي: إن (فضل)

(4)

الذي يمشي خلف الجنازة على الذي يمشي أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وإنهما ليعلمان من ذلك مثل الذي أعلم، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس

(5)

. ورواه أحمد في "مسنده": عن علي أن عمرو بن حريث سأله فقال علي: إن فضل المشي خلفها على بين يديها كفضل الصلاة المكتوبة في الجماعة على الوحدة. فقال عمرو: إني رأيت أبا بكر وعمر يمشيان أمامها. فقال علي: إنما كرها أن يخرجا الناس

(6)

.

وحكى الأثرم أنه ذكر هذا لأبي عبد الله، فتكلم في إسناده. ومثل هذا لا يقال بالرأي وإنما هو بالتوقيف، وقد روي عن ابن عمر مثل ذلك

(7)

.

وروى نافع قَالَ: خرج عبد الله بن عمر إلى جنازة فرأى معها نساء،

(1)

"المصنف" 2/ 477 - 478 (11228 - 11243) كتاب: الجنائز، باب: في المشي أمام الجنازة.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 477 (11239).

(3)

انظر: "المبسوط" 2/ 56، "المحلى" 5/ 164 - 165.

(4)

من (م).

(5)

"شرح معاني الآثار" 1/ 483.

(6)

"المسند" 1/ 97.

(7)

ذكره الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 483.

ص: 603

فوقف ثم قَالَ: ردهن فإنهن فتنة الحي والميت. ثم مضى فمشى خلفها، قلتُ: يا أبا عبد الرحمن، كيف المشي في الجنازة، أمامها، أم خلفها؟ قال: أما تراني أمشي خلفها. فهذا ابن عمر يفعل هذا، وهو الذي يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يمشي أمامها

(1)

. فدل ذلك على أن فعل الشارع ذلك على جهة التخفيف على الناس، لا لأن ذلك أفضل من غيره.

وقد روى مغيرة عن إبراهيم قَالَ: كانوا يكرهون السير أمام الجنازة، وتأولوا في تقديم عمر بن الخطاب للناس في جنازة زينب أم المؤمنين، أن ذلك كان من أجل النساء اللاتي كن خلفها، فكره عمر للرجال مخالطتهن؛ لا لأن المشي أمامها أفضل. وقد روى يونس، عن ابن وهب أنه سمع من يقول ذلك، قَالَ إبراهيم: كان الأسود إذا كان في الجنازة نساء مشى أمامها، وإذا لم يكن معها نساء مشى خلفها

(2)

.

ولا فرق عندنا بين الماشي والراكب، وخالف الخطابي

(3)

، وتبعه الرافعي في "شرح المسند" فقال: الأفضل للراكب أن يكون خلفها بلا خلاف. وعبارة ابن الحاجب: وفي التشييع

(4)

.

ثالثها: المشهور المشاة يتقدمون، وأما النساء فيتأخرون، وفي "المصنف" قيل لعلقمة: يكره المشي خلف الجنازة؟ قَالَ: إنما يكره السير أمامها

(5)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 485.

(3)

"معالم السنن" 4/ 316.

(4)

"مختصر ابن الحاجب" ص 67.

(5)

"المصنف" 2/ 479 (11255).

ص: 604

وعن ابن عون: كان الحسن وابن سيرين لا يسيران أمامها

(1)

، وقال سويد بن غفلة: الملائكة يمشون خلف الجنازة

(2)

. وعن أبي الدرداء أن من تمام أجر الجنازة تشييعها من أهلها، والمشي خلفها

(3)

. وقال أبو معمر في جنازة ابن ميسرة: امشوا خلف جنازته، فإنه كان مشاءً خلف الجنائز

(4)

. وعن مسروق مرفوعًا مرسلًا: "لكل أمة قربان، وقربان هذِه الأمة موتاها، فاجعلوا موتاكم بين أيديكم". وقال أبو أمامة: لأن لا أخرج معها أحب إليَّ من أن أمشي أمامها

(5)

.

ولأبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تتبعوا الجنازة بصوت ولا نار، ولا يُمشى بين يديها"

(6)

.

وللدارقطني من حديث عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه: جاء ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أن أمه توفيت وهي نصرانية وهو محب، فقال له صلى الله عليه وسلم:"اركب دابتك، وسر أمامها، فإنك إذا سرت أمامها لم تكن معها"

(7)

.

وفي "صحيح الحاكم" من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي عن يمينها وشمالها قريبًا منها، والسقط يُصلى عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة" ثم قَالَ:

(1)

"المصنف" لابن أبي شيبة 2/ 479 (11260).

(2)

ذكره ابن عبد البر في "التمهيد" 6/ 217.

(3)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 477 (11236).

(4)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 477 (11237).

(5)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 478 (11241 - 11242).

(6)

"سنن أبي داود"(3171) كتاب: الجنائز، باب: في النار يتبع بها الميت، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود".

(7)

"سنن الدارقطني" 2/ 75 - 76 كتاب: الجنائز، باب: وضع اليمنى على اليسرى.

ص: 605

صحيح على شرط البخاري

(1)

. وقال البيهقي: مشكوك في رفعه

(2)

. وكان يونس يَقِفُه على زياد.

فان قلتَ: الشارع أمر باتباع الجنازة، ولفظ الاتباع لا يقع إلا على التالي، ولا يسمى المتقدم تابعًا بل هو متبوع، قلتُ: لا نسلم ذلك. فإن قيل: حق الشفيع أن يتقدم على الشافع، والقوم شفعاء، قلتُ:

ينتقض بالصلاة عليه، فإنهم شفعاء فيها وقد تأخروا عنه، والشفاعة في الصلاة لا في التشييع. قَالَ ابن شاهين: هذا باب مشكل من القطع فيه بنسخ، فيجوز أن يكون مشى صلى الله عليه وسلم بين يديها لعلة وخلفها لعلة، كما كان إذا صلى سلم واحدة، فلما كثر الناس عن يمينه وخلا اليسار سلم عن يمينه وشماره، ثم جاءت الرخصة منه بأنه يمشي حيث شاء، وقد جاء في المشي خلفها من الفضل ما لم يجيء في المشي أمامها، ولا يسلم له ذلك

(3)

.

فصل:

قوله: (وقال غيره: قريبًا منها). أي: لأنه إذا بعد لم يكن مشيعًا، فإن بعد عنها فإن كان بحيث ينسب إليها لكثرة الجماعة، حصل له فضل المتابعة، وإلا فلا، ولو مشى خلفها حصل له أصل فضيلة المتابعة، وفاته كمالها على ما قررناه عند الشافعي ومتابعيه.

فصل:

وقوله في الحديث: ("فشر تضعونه عن رقابكم") يعني: تعب

(1)

"المستدرك" 1/ 363 كتاب: الجنائز.

(2)

"السنن الكبرى" 4/ 24 - 25 كتاب: الجنائز، باب: المشي خلفها.

(3)

"الناسخ والمنسوخ" ص 294.

ص: 606

حمله، ويحتمل أن يراد به من أهل النار. وقيل: إن الميت السعيد إذا سمع من يقول: على رفقكم -يعني: المهل- أنه كان القائل أبغض الخلق إليه ولو كان أحبهم إليه في الدنيا. والشقي عكس ذلك، إذا سمع من يقول: أسرعوا. كان أبغض الناس إليه ولو كان أحبهم إليه في الدنيا. وإذا قَالَ: على رفقكم كان أحبهم إليه.

فرع: قَالَ ابن المنذر: ومن تبع الجنازة حيثما مشى فيها، فليكثر ذكر الموت، والفكر في صاحبهم، وأنهم صائرون إلى ما صار إليه، وليستعد للموت وما بعده

(1)

.

وسمع أبو قلابة صوت قاص في جنازة فقال: كانوا يعظمون الموت بالسكينة

(2)

. وآلى ابن مسعود أن لا يكلم رجلًا رآه يضحك في جنازة

(3)

.

وقال مطرف بن عبد الله: كان الرجل يلقى الخاص من إِخوانه في الجنازة له عهد عنده، فما يزيد على التسليم ثم يعرض عنه، حَتَّى كأن له عليه موجدة اشتغالًا بما هو فيه، فإذا خرج من الجنازة سأله عن حاله ولاطفه.

وفي سماع أشهب: قَالَ أسيد بن حضير: لو كنت في حالتي كلها مثلي في ثلاث: إذا ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قرأت سورة البقرة

(4)

.

(1)

"الأوسط" 5/ 384.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 474 (11200) باب: في رفع الصوت في الجنازة.

(3)

رواه البيهقي في "شعب الإيمان" 7/ 11 (9271) باب: في الصلاة على من مات من أهل القبلة، وابن عبد البر في "التمهيد" 4/ 87.

(4)

ورد بهامش الأصل: لعله: وإذا مشيت في جنازة.

وانظر: "البيان والتحصيل" 18/ 25 - 26.

ص: 607

‌52 - باب قَوْلِ المَيِّتِ وَهُوَ عَلَى الجِنَازَةِ قَدِّمُونِي

1316 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لأَهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَ الإِنْسَانُ لَصَعِقَ". [انظر: 1314 - فتح: 3/ 184]

سلف في باب حمل الرجال الجنازة بحديثه

(1)

.

(1)

برقم (1314).

ص: 608

‌53 - باب مَنْ صَفَّ صَفَّيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً عَلَى الجِنَازَةِ خَلْفَ الإِمَامِ

1317 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ. [1320، 1334، 3877، 3878، 3879 - مسلم: 952 - فتح: 3/ 186]

ذكر فيه حديث جابر: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ.

هذا الحديث أخرج أصله مسلم بدون قوله: (فكنت في الصف الثاني أو الثالث)

(1)

. ولا شك أن الصفوف على الجنازة من سنة الصلاة عليها، وقد صح أن مالك بن هبيرة كان إذا صلى على جنازة، فاستقل الناس جزَّأهم ثلاثة أجزاء، ثم قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليه ثلاث صفوف فقد أوجب" حسنه الترمذي، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ورواه أحمد بلفظ:"فقد غفر له". ولفظ الحاكم بهما

(2)

(3)

، ولهذا قَالَ أصحابنا: يسن جعل صفوفهم ثلاثة فأكثر، وبه قَالَ أحمد

(4)

.

قَالَ الطبري: فينبغي لأهل الميت إذا لم يخش عليه التغير أن ينتظروا اجتماع قوم، يقوم منهم ثلاث صفوف؛ لهذا الخبر.

(1)

"صحيح مسلم"(952) كتاب: الجنائز، باب: في التكبير.

(2)

ورد أعلى هذِه الكلمة في الأصل: أي: باللفظين.

(3)

"سنن الترمذي"(1028) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في الصلاة على الجنازة والشفاعة للميت، و"المسند" 4/ 79، "المستدرك" 1/ 362 كتاب: الجنائز.

وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(5668).

(4)

انظر: "المجموع" 5/ 172، "المغني" 3/ 420.

ص: 609

وقد روي من حديث أبي هريرة وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "من صلى عليه مائة من المسلمين إلا شفعوا فيه"

(1)

ومن حديث ابن عباس مرفوعًا: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا، لا يشركون بالله شيئًا إلا شفعهم الله فيه". أخرجه مسلم من هذا الوجه

(2)

، ومن حديث عائشة بلفظ:"ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه" وروي مثله عن أنس

(3)

، ووجه الاختلاف في هذِه الأحاديث الواردة فيمن يصلي على الميت فيغفر له بصلاتهم، أنها وردت جوابًا لسائلين بحسب سؤالهم، فإنه جواب من لا ينطق عن الهوى، فسأله سائل عن المائة هل يشفعون فيه؟ فأجاب بنعم. وآخر عن أربعين فقال مثل ذلك، ولعله لو سئل عن أقل من أربعين، لقال مثل ذلك.

وحديث مالك بن هبيرة يدل على أقل من أربعين لإمكان الثلاث صفوف أقل من أربعين، كما يمكن أن يكون أكثر، وإنما عين المائة والأربعين فيما سلف، وهي من حيز الكثرة؛ لأن الشفاعة كلما كثر المشفعون فيها كان أوكد لها، ولا تخلو جماعة من المسلمين لهم هذا المقدار أن يكون فيها فاضل لا ترد شفاعته، أو يكون اجتماع هذا العدد بالضراعة إلى الله مشفعًا عنده. وأما الصلاة على النجاشي فسلف ما فيها في باب النعي

(4)

.

(1)

رواه مسلم عن عائشة (947) في الجنائز، باب: من صلى عليه مائة شفعوا فيه.

(2)

"صحيح مسلم"(948) كتاب: الجنائز، باب: من صلى عليه أربعون شفعوا فيه.

(3)

حديث عائشة وأنس سبق تخريجهما.

(4)

سلف برقم (1242).

ص: 610

‌54 - باب الصُّفُوفِ عَلَى الجِنَازَةِ

1318 -

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ: نَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَي أَصْحَابِهِ النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا. [انظر: 1242 - مسلم: 951 - فتح: 3/ 186]

1319 -

حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم[أَنَّه] أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَصَفَّهُمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا. قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. [انظر: 857 - مسلم: 954 - فتح: 3/ 186]

1320 -

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ تُوُفِّيَ اليَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ الحَبَشِ، فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ". قَالَ: فَصَفَفْنَا فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَنَحْنُ صُفُوفٌ.

قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: عَنْ جَابِرٍ كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي. [انظر: 1317 - مسلم: 952 - فتح: 3/ 186]

ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

أحدها: حديث أبي هريرة: نَعَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَي أَصْحَابِهِ النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَفُّوا خَلْفَهُ، فَكبرَ أَرْبَعًا.

ثانيها: حديث الشعبي قال: أَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ فَصَفَّهُمْ فكَبَّرَ أَرْبَعًا. قُلْتُ مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: ابن عَبَّاسٍ.

ثالثها: حديث عطاء عن جابر: "قَدْ تُوُفِّيَ اليَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنَ

الحَبَشِ، فَهَلُمَّ فَصَلُّوا عَلَيْهِ". فَصَفَفْنَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَنحْنُ صُفُوفٌ.

قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ: عَنْ جَابرٍ: كُنْتُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي.

ص: 611

الشرح:

هذِه الأحاديث الثلاثة أخرجها مسلم

(1)

، والتعليق الأخير أخرجه مسلم من حديث أيوب عنه

(2)

. قَالَ ابن بطال: ويحتمل أن يكون أراد بترجمة الباب والباب قبله مخالفة عطاء. فإن ابن جريج قَالَ: قلتُ له: أفحق على الناس أن يسووا صفوفهم على الجنائز كما يسوونها في الصلاة؟ قَالَ: لا؛ لأنهم قوم يكبرون ويستغفرون

(3)

.

وقوله: (أتى على قبر منبوذ). يروى بإضافة القبر إليه، وهو المنبوذ، ففيه إسلام اللقيط الموجود بدار الإسلام، وبالتنوين. أي: منتبذًا ناحية عن القبور. ففيه كراهة الصلاة في المقابر؛ لأنه جعل انتباذ القبر شرطًا في الصلاة على القبر، وفي الحقيقة المدفون في القبر هو المنبوذ.

(1)

أما أولها فرواه برقم (951) كتاب: الجنائز، باب: في التكبير على الجنازة، وثانيها برقم (954) باب: الصلاة على القبر، وثالثها برقم (952).

(2)

"صحيح مسلم"(952).

(3)

رواه عبد الرزاق 3/ 529 (6587) كتاب: الجنائز، باب: تسوية الصفوف عند الصلاة على الجنائز، وانظر:"شرح ابن بطال" 3/ 303.

ص: 612

‌55 - باب صُفُوفِ الصِّبْيَانِ مَعَ الرِّجَالِ

1321 -

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَامِرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلًا فَقَالَ:"مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ ". قَالُوا: البَارِحَةَ. قَالَ: "أَفَلَا آذَنْتُمُونِي". قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ. فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ. [انظر: 857 - مسلم: 954 - فتح: 3/ 189]

ذكر فيه حديث ابن عباس أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقَبْرٍ قَدْ دُفِنَ لَيْلاً فَقَالَ: "مَتَى دُفِنَ هذا؟ ". قَالُوا: البَارِحَةَ. قَالَ: "أفلَا آذَنْتُمُونِي". قَالُوا: دَفَنَّاهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ فَكَرِهْنَا أَنْ نُوقِظَكَ. فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. قَالَ ابن عَبَّاسٍ: وَأَنَا فِيهِمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ.

هذا الحديث سلف في باب: الإذن بالجنازة

(1)

، وهو ظاهر فيما ترجم له من صلاة الصبيان مع الرجال على الجنائز؛ لأن ابن عباس كان إذ ذاك صغيرًا.

وفيه: من الفقه: تدريب الصبيان على شرائع الإسلام وحضورهم مع الجماعات؛ ليستأنسوا إليها؛ وتكون لهم عادة إذا لزمتهم وإذا ندبوا إلى صلاة الجنائز؛ ليتدربوا عليها، وهي فرض كفاية، ففرض العين أحرى. وقد نص عليه الشارع كما مر في الصلاة.

(1)

برقم (1247).

ص: 613

‌56 - باب سُنَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الجَنَازِة

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَى الجَنَازَةِ". وَقَالَ: "صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ". وَقَالَ: "صَلُّوا عَلَى النَّجَاشِيِّ". سَمَّاهَا صَلَاةً، لَيْسَ فِيهَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ، وَلَا يُتَكَلَّمُ فِيهَا، وَفِيهَا تَكْبِيرٌ وَتَسْلِيمٌ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُصَلِّي إِلَّا طَاهِرًا. وَلَا يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبِهَا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَقَالَ الحَسَنُ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَأَحَقُّهُمْ -يعني بالصَّلاةِ- عَلَى جَنَائِزِهِمْ مَنْ رَضُوهُمْ لِفَرَائِضِهِمْ. وَإِذَا أَحْدَثَ يَوْمَ العِيدِ أَوْ عِنْدَ الجَنَازَةِ يَطْلُبُ المَاءَ وَلَا يَتَيَمَّمُ، وَإِذَا انْتَهَى إِلَى الجَنَازَةِ وَهُمْ يُصَلُّونَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ بِتَكْبِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: يُكَبِّرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسَّفَرِ وَالحَضَرِ أَرْبَعًا. وَقَالَ أَنَسٌ: التَّكْبِيرَةُ الوَاحِدَةُ اسْتِفْتَاحُ الصَّلَاةِ. وَقَالَ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] وَفِيهِ صُفُوفٌ وَإِمَامٌ. [فتح 3/ 189]

1322 -

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ مَرَّ مَعَ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، فَأَمَّنَا فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ. فَقُلْنَا: يَا أَبَا عَمْرٍو مَنْ حَدَّثَكَ؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. [انظر: 857 - مسلم: 954 - فتح: 3/ 190]

ثم ذكر حديث الشعبي السالف في الصفوف على الجنازة

(1)

، وأراد البخاري بما ذكر الرد على الشعبي، فإنه أجاز الصلاة على الجنازة بغير طهارة. قَالَ: لأنها دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود، وهو قول ابن جرير، والشيعة، وابن علية، كما نقله أبو عمر، وإجماع المسلمين

(1)

سلف برقم (1319).

ص: 614

سلفًا وخلفًا على خلافه، فلا التفات إليه، وقد أجمعوا على أنها لا تصلى إلا إلى القبلة ولو كانت دعاء لجازت إلى غيرها

(1)

.

واحتجاج البخاري في الباب بما ذكر بعضه كافٍ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم سماها صلاة، وقول السلف الذين ذكرهم في الباب أن حكمها عندهم حكم الصلاة في أن لا تصلى إلا بطهارة وفيها تكبير وسلام، ولا تصلى عند طلوع الشمس ولا غروبها، وأنه صلى الله عليه وسلم أمهم فيها وصلوا خلفه كما فعل في الصلاة.

ولنتكلم على ما ذكره حرفًا حرفًا فنقول:

أما قوله: ("من صلى على الجنازة") فهو مسند من حديث أبي هريرة: "من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط، وإن اتبعها فله قيراطان" ذكره قريبًا في باب: من انتظر حَتَّى تدفن، بلفظ:"من شهد الجنازة حَتَّى يصلي"

(2)

وما سقناه لفظ مسلم

(3)

.

وأما قوله: ("صلوا على صاحبكم") فسيأتي من حديث سلمة بن الأكوع في الذي عليه ثلاثة دنانير فقال صلى الله عليه وسلم: "صلوا على صاحبكم" وهو أحد ثلاثيات البخاري

(4)

.

وأما قوله: ("صلوا على النجاشي") فسلف

(5)

.

وأما قوله: (سماها صلاة، ليس فيها ركوع ولا سجود ولا يتكلم فيها) فهو كما قَالَ.

(1)

"الاستذكار" 8/ 283 - 284.

(2)

سيأتي برقم (1325).

(3)

"صحيح مسلم"(945) كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها.

(4)

سيأتي برقم (2289) في الحوالات، باب: إن أحال دين الميت على رجل جاز.

(5)

برقم (1320) باب: الصفوف على الجنازة.

ص: 615

وأما قوله: (وفيها تكبير وتسليم). فهو كما قَالَ. لكن اختلف هل يسلم واحدة أو اثنتين؟ فقال كثير من أهل العلم: يسلم واحدة، روي ذلك عن علي، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وأبي هريرة، وأبي أمامة بن سهل، وأنس، وجماعة من التابعين، وقد سلف قبيل الإذن بالجنازة أيضًا

(1)

، وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق: فيسلم خفية

(2)

. كذا روي عن الصحابة والتابعين إخفاؤها. وعن مالك: يسمع بها من يليه

(3)

. والمشهور عندهم أن المأموم يسلم أيضًا واحدة لا اثنتين

(4)

. وقال الكوفيون: يسلم تسليمتين

(5)

. واختلف قول الشافعي على القولين

(6)

، والأظهر: ثنتان

(7)

. وبواحدة قَالَ أكثر العلماء؛ لبنائها على التخفيف، فعليه يلتفت يمينة ويسرة، والأشهر: لا، بل يأتي بها تلقاء وجهه

(8)

.

وهل يقتصر على: السلام عليكم، طلبًا للاختصار، أم يستحب زيادة: ورحمة الله؟ فيه وجهان لأصحابنا

(9)

، أصحهما الثاني. ولا يكفي: السلام عليك على الراجح، ولا يجب به الخروج على الأصح

(10)

.

(1)

رواها ابن أبي شيبة 2/ 499 - 500 (11491 - 11493)، (11498)، (11500) كتاب: الجنائز، باب: في التسليم على الجنازة كما هو.

(2)

انظر: "الكافي" ص 84، "المغني" 3/ 418.

(3)

"الموطأ" 1/ 396 (1002) كتاب: الجنائز، باب: الاختفاء.

(4)

انظر: "المعونة" 1/ 198، "حاشية العدوي على الكفاية" 1/ 375.

(5)

انظر: "مختصر الطحاوي" ص 42، "الاختيار" 1/ 124.

(6)

ورد بهامش الأصل: هذان القولان في الجديد، وبالاقتصار على واحدة قال في "الإملاء".

(7)

انظر: "روضة الطالبين" 2/ 127.

(8)

انظر: "المجموع" 5/ 200، "الإنصاف" 6/ 158.

(9)

ورد بهامش الأصل ما نصه: قال في "الروضة" في زيادة: ورحمة الله، فيه تردد، حكاه أبو علي.

(10)

انظر: "المجموع" 5/ 200.

ص: 616

وفي الجهر به قولان للمالكية

(1)

، وعند أبي يوسف: يتوسط بينهما.

ويرفع عندنا اليد في كل تكبيرة

(2)

، وللمالكية أقوال، ثالثها الشاذ: لا يرفع في الجميع

(3)

. وذهب الكوفيون، والثوري إلى الرفع في الأولى فقط

(4)

، وحكاه في "المصنف" عن النخعي، والحسن بن صالح

(5)

، وحكى ابن المنذر الإجماع على الرفع في أول تكبيرة

(6)

، وروي مثل قولنا عن ابن عمر، وسالم، وعطاء، والنخعي، ومكحول

(7)

، والزهري، والأوزاعي، وأحمد، إسحاق

(8)

، وفي الترمذي -غريبًا- عن أبي هريرة مرفوعًا: إذا صلى على جنازة رفع يديه في أول تكبيرة

(9)

زاد الدارقطني: "ثم لا يعود"، وعن ابن عباس عنده مثله بسند فيه الحجاج بن نصير

(10)

وغيره

(11)

.

(1)

انظر: "المنتقى" 2/ 20.

(2)

انظر: "البيان" 3/ 66.

(3)

انظر: "المنتقى" 2/ 12.

(4)

انظر: "الأصل" 1/ 424، "مختصر اختلاف العلماء" 1/ 391.

(5)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 491 (11386 - 11387) كتاب: الجنائز، باب: في الرجل يرفع يديه في التكبير على الجنازة.

(6)

"الأوسط" 5/ 426.

(7)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 490 - 491 (11380)، (11382)، (11384)، (11386).

(8)

انظر: "المغني" 3/ 417 - 418.

(9)

"سنن الترمذي"(1077) كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في رفع اليدين على الجنازة، وحسنه الألباني في "أحكام الجنائز" ص 147.

(10)

ورد بهامش الأصل ما نصه: ضعفوه وشذ ابن حبان فذكره في "الثقات" قاله في "الكاشف"، وقال في "المغني" ضعيف، وتركه بعضهم.

(11)

"سنن الدارقطني" 2/ 75 كتاب: الجنائز، باب: وضع اليمنى على اليسرى ورفع الأيدي عند التكبير.

ص: 617

وحكى صاحب "المبسوط" من الحنفية أن ابن عمر، وعليًّا قالا: لا يرفع اليد فيها إلا عند تكبيرة الإحرام

(1)

. وحكاه ابن حزم عن ابن مسعود وابن عمر، ثم قَالَ: لم يأت بالرفع فيما عدا الأولى نص ولا إجماع

(2)

.

وفي "المستدرك" صحيحًا عن عبد الله بن أبي أوفي أنه سلم عن يمينه وشماله، فلما انصرف قال: لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع، أو هكذا يصنع

(3)

وقال أحمد -فيما حكاه الخلال: وقيل له: أتعرف عن أحد من الصحابة أنه كان يسلم تسليمتين على الجنازة؟ - قَالَ: لا، ولكن يروى عن ستة من الصحابة أنهم كانوا يسلمون تسليمة واحدة خفية عن يمينهم، فذكر ابن عمر، وابن عباس، وابن أبي أوفي، وأبا هريرة، وواثلة، وزيد بن ثابت. وفي "المصنف" عن جابر بن زيد، والشعبي، والنخعي أنهم كانوا يسلمون تسليمتين

(4)

. قَالَ مالك في "المجموعة": ليس عليهم رد السلام على الإمام. وروى عنه ابن غانم

(5)

قَالَ: يرد على الإمام من يسمع سلامه

(6)

.

(1)

"المبسوط" 2/ 65، ولم يحكه إلا عن ابن عمر.

(2)

لم يحكه ابن حزم عن ابن عمر، بل عن ابن عباس، وحكى عن ابن عمر خلافه، فقال: وصح عن ابن عمر رفع الأيدي لكل تكبيرة، "المحلى" 5/ 176.

(3)

"المستدرك" 1/ 360 كتاب: الجنائز.

(4)

"المصنف" 2/ 500 (11503، 11508)، عن الشعبي، والنخعي وأما جابر فروى عنه في "المصنف" تسليمة واحدة (11497)، وانظر:"الأوسط" 5/ 447.

(5)

ورد بهامش الأصل: هو عبد الله بن عمر بن غانم، أبو عبد الرحمن الرعيني قاضي إفريقية، عن داود بن قيس وابن أنعم، وعنه القعنبي، مستقيم الحديث كذا قال في "الكاشف" وقال في "المغني" مجهول الحال، وأبهمه ابن حبان، وقوله: مستقيم الحديث. هي عبارة أبي داود فيه، وقد ذكره في "الميزان" فذكر فيه كلامًا آخر، فراجعه.

(6)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 590، "المنتقى" 2/ 20.

ص: 618

وأما قوله: (وكان ابن عمر لا يصلي إلا طاهرًا). فقد سلف أنه إجماع إلا من شذ.

وقوله: (ولا يصلي عند طلوع الشمس ولا غروبها ويرفع يديه).

أخرجه ابن أبي شيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن أنيس (د. ت، ثقة) بن أبي يحيى، عن أبيه (عو) أن جنازة وضعت فقام ابن عمر قائمًا، فقال: أين وليُّ هذِه الجنازة، ليصل عليها قبل أن يطلع قرن الشمس

(1)

. وحَدَّثَنَا وكيع عن جعفر بن برقان عن ميمون قَالَ: كان ابن عمر يكره الصلاة على الجنازة إذا طلعت الشمس وحين تغرب

(2)

.

وحدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي بكر -يعني: ابن حفص- قَالَ: كان ابن عمر إذا كانت الجنازة على العصر قَالَ: عجلوا بها قبل أن تطفل

(3)

الشمس

(4)

. ثم أخرج عنه أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة على الجنازة

(5)

.

وكره أكثر العلماء -فيما حكاه عنهم ابن بطال- الصلاة على الجنائز في غير مواقيت الصلاة

(6)

.

روي ذلك عن ابن عمر أنه كان يصلي عليها بعد العصر، وبعد الصبح إذا (صلاهما)

(7)

لوقتيهما

(8)

. وروى ابن وهب، عن ابن

(1)

"المصنف" 2/ 484 (11321) كتاب: الجنائز، باب: ما قالوا في الجنائز يصلى عليها عند طلوع الشمس وعند غروبها.

(2)

"المصنف" 2/ 484 (11324).

(3)

ورد بهامش الأصل: طفلت الشمس همت بالغروب. قاله في "الجمهرة".

(4)

"المصنف" 2/ 485 (11328).

(5)

سبق تخريجه.

(6)

"شرح ابن بطال" 3/ 306.

(7)

في الأصول: (صليتهما)، والمثبت من "الأوسط" لابن المنذر.

(8)

رواه ابن المنذر في "الأوسط" 5/ 396.

ص: 619

عباس، وعطاء، وسعيد ابن المسيب مثله، وهو قول في "المدونة"، قَالَ: لا بأس بالصلاة عليها بعد العصر حَتَّى تصفر الشمس، وبعد الصبح ما لم يسفر

(1)

. ونحوه قول الأوزاعي، والثوري، والكوفيين، وأحمد، وإسحاق، وكرهوا الصلاة عليها عند الطلوع والغروب والزوال

(2)

، وخالفهم الشافعي فأباحها كل وقت

(3)

، وهو قول ابن مصعب من المالكية إلا أن يتحرى ذلك، وهو بما خص من النهي.

ووقع في ابن الحاجب ما يوهم أن المنع لـ"الموطأ" في الجنازة -والذي فيه: إنما هو في سجود التلاوة

(4)

، فاعلمه- واحتج الكوفيون بحديث عقبة بن عامر في مسلم: ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيها أو أن نقبر فيها موتانا: عند الطلوع حَتَّى تبيض، وعند انتصاف النهار حَتَّى تزول، وعند الاصفرار حَتَّى تغيب

(5)

.

وحمله المخالف على ما إذا قصد التحري. قَالَ الشافعي: أخبرنا الثقة من أهل المدينة بإسناد لا أحفظه أنه صلى على عقيل ابن أبي طالب والشمس مصفرة قبل المغيب قليلاً ولم ينتظروا به المغيب

(6)

.

(1)

"المدونة" 1/ 171.

(2)

انظر: "الأصل" 1/ 429 - 430، "مختصر الطحاوي" ص 42، "المغني" 3/ 406 - 407.

(3)

"الأم" 1/ 247.

(4)

"الموطأ" ص 145 - 146.

(5)

"صحيح مسلم"(831) كتاب: صلاة المسافرين، باب: الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها.

(6)

"الأم" 1/ 248.

ص: 620

فرع:

(لو)

(1)

أخرها حَتَّى غربت، فروى ابن القاسم وابن وهب يبدأ بالمغرب، وقيل: هو واسع أن يبدأ بأيهما شاء، وبالمغرب أصوب. وأما رفع اليدين فقد سلف بيانه.

وأما قول الحسن: (أحق الناس بالصلاة على جنائزهم من رضوهم لفرائضهم). فإن أهل العلم اختلفوا فيمن أحق بالصلاة عليها: الولي أو الوالي؟ فقال أكثر أهل العلم: الوالي أحق من الولي. روي عن علقمة، والأسود والحسن، وجماعة

(2)

، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، والأوزاعي، والشافعي في القديم، وأحمد، وإسحاق

(3)

، إلا أن مالكًا قَالَ في الوالي والقاضي: إن كانت الصلاة إليهم، فهم أحق من الولي. وقال مطرف، وابن عبد الحكم، وأصبغ: ليس ذلك إلى من إليه الصلاة من قاضٍ، أو صاحب شرطة، أو خليفة الوالي الأكبر، وإنما ذلك إلى الوالي الأكبر الذي تؤدى إليه الطاعة

(4)

.

وعبارة ابن الحاجب: وإذا اجتمع الولي والوالي، فالولي الأصل، لا الفرع أولى، فإن كان صاحب الخطة فقولان لابن القاسم وغيره

(5)

أن الولي أولى إلا أن يكون صاحب الصلاة هو القاضي

(6)

، وقال أبو يوسف،

(1)

من (م).

(2)

رواه ابن أبي شيبة 2/ 483 - 484 كتاب: الجنائز، باب: ما قالوا في تقدم الإمام على الجنازة، وذكرها ابن المنذر في "الأوسط" 5/ 398.

(3)

انظر "الهداية" 1/ 98، "الكافي" ص 83، "روضة الطالبين" 2/ 121، "المغني" 3/ 406 - 407.

(4)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 584 - 585.

(5)

"مختصر ابن الحاجب" ص 68.

(6)

انظر: "المنتقى" 2/ 19.

ص: 621

والشافعي في الجديد: الولي أحق من الوالي، لوفور شفقته

(1)

. قَالَ تعالى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأحزاب: 6].

وحجة الأول: خوف الافتيات، وروى الثوري عن أبي حازم قَالَ: شهدت الحسين بن علي قَدَّمَ سعيد بن العاصي يوم مات الحسن بن علي، وقال له: تقدم فلولا السنة ما قدمتك

(2)

، وسعيد يومئذٍ أمير المدينة

(3)

.

قَالَ ابن المنذر: ليس في هذا الباب أعلى من هذا؛ لأن جنازة الحسن شهدها عوام الناس من الصحابة والمهاجرين والأنصار، فلم ينكر ذلك منهم أحد، فدل أنه كان عندهم الصواب

(4)

، وحكى ابن أبي شيبة عن النخعي، وأبي بردة، وابن أبي ليلى، وطلحة، وزبيد، وسويد بن غفلة: تقديم إمام الحي. وعن أبي الشعثاء، وسالم، والقاسم، وطاوس، ومجاهد، وعطاء أنهم كانوا يقدمون الإمام على الجنازة

(5)

.

وقوله: (فإذا أحدث يوم العيد أو عند الجنازة يطلب الماء ولا يتيمم .. ) إلى آخره، واختلف في صلاة الجنازة إذا خشي فوتها بالتيمم، قَالَ مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور: لا يتيمم

(6)

. وأجازه عطاء، وسالم، والنخعي، والزهري، وربيعة، والليث، ويحيى بن سعيد، وعكرمة، وسعد بن إبراهيم، والثوري وأبو حنيفة

(1)

انظر: "مجمع الأنهر" 1/ 182، "المجموع" 5/ 175.

(2)

ورد بهامش الأصل: قول الحسين: لولا السنة هو مثل قوله: من السنة كذا.

(3)

رواه عبد الرزاق 3/ 471 - 472 (6369) كتاب: الجنائز، باب: من أحق بالصلاة على الميت، ورواه ابن المنذر في "الأوسط" 5/ 399.

(4)

"الأوسط" 5/ 399.

(5)

"المصنف" 2/ 483 - 484.

(6)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 638، "المجموع" 5/ 181، "الفروع" 1/ 220.

ص: 622

والأوزاعي وابن وهب صاحب مالك، ورواية عن أحمد

(1)

، وقال ابن حبيب: الأمر فيه واسع

(2)

. حجة من أجاز خوف فوتها، والاهتمام بها حجة المانع لغيرها. ونقل ابن التين عن ابن وهب أنه يتيمم إذا خرج طاهرًا فأحدث، وإن خرج معها على غير طهارة لم يتيمم. وما نقلنا عن عطاء تبعنا فيه ابن المنذر

(3)

، والذي رواه ابن أبي شيبة عنه أنه لا يتيمم

(4)

.

وأما قوله: (يدخل معهم بتكبيرة). هذا رواية أشهب عن مالك في "العتبية" أنه يكبر ويشرع في الدعاء

(5)

، وروى عنه ابن القاسم في "المدونة": ينتظر حَتَّى يكبر أخرى فيكبر معه

(6)

، وعبر ابن الحاجب عن ذلك بقوله

(7)

. وفي دخول المسبوق بين التكبيرتين أو انتظار التكبير قولان: فإذا أتم ما أدرك من صلاته، قضى ما فاته، خلافًا للحسن. وإذا قلنا: يقضي، قضى الباقي بالتكبيرات، وفي قول: تباعًا. والخلاف عند المالكية أيضًا، قَالَ ابن القاسم في "المدونة": يكبر تباعًا

(8)

. وقال القاضي عبد الوهاب عن مالك: يدعو بين التكبيرتين إن لم يخف رفع الجنازة. ويحتمل أن يكون ذلك وفاقًا لابن القاسم.

(1)

انظر: "المبسوط" 1/ 118، "النوادر والزيادات" 1/ 639، "الفروع" 1/ 220.

(2)

انظر: "النوادر والزيادت" 1/ 639.

(3)

"الأوسط" 5/ 424.

(4)

"المصنف" 2/ 498 (11471) كتاب: الجنائز، باب: في الرجل يخاف أن تفوته الصلاة على الجنازة وهو غير متوضئ.

(5)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 636 - 637.

(6)

انظر: "المدونة" 1/ 163.

(7)

"مختصر ابن الحاجب" ص 68.

(8)

"المدونة" 1/ 163.

ص: 623

وقوله: (يدخل معهم بتكبيرة). لا يبعد أن يعطف على قول الحسن السالف، فإن ابن أبي شيبة رواه عن معاذ، عن أشعث، عن الحسن في الرجل ينتهي إلى الجنازة وهم يصلون عليها. قَالَ: يدخل معهم بتكبيرة

(1)

.

ثم روى عن أبي أسامة، عن هشام، عن محمد قَالَ: يكبر ما أدرك، ويقضي ما سبقه. وقال الحسن: يكبر ما أدرك ولا يقضي ما سبقه. كما أسلفناه عنه

(2)

.

قَالَ ابن العربي في "مسالكه": روى ابن القاسم عن مالك أن الرجل يكبر بتكبير الإمام، فإذا سلّم الإمام قضى ما عليه عملاً بقوله:"فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا". قَالَ: والإجماع من العلماء بالعراق والحجاز على قضاء التكبير دون الدعاء، وصوبه فأغرب.

وقوله: (وفيها صفوف وإمام). كأن البخاري قصد رد قول مالك، فإن ابن العربي نقل عنه في "مسالكه" أنه استحب أن يكون المصلون على الجنازة شطرًا واحدًا، ثم قَالَ: ولا أعلم له وجهًا؛ لأنه كلما كثرت الصفوف كان أفضل، وكذلك صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر صلاته عليها، ثم ساق حديث مالك بن هبيرة السالف

(3)

.

(1)

"المصنف" 2/ 499 (11489) كتاب: الجنائز، باب: في الرجل ينتهي إلى الإمام وقد كبر أيدخل معه أو ينتظر حتى يبدأ بالتكبير؟

(2)

"المصنف" 2/ 499 (11483) باب: في الرجل يفوته التكبير على الجنازة يقضيه أم لا.

(3)

سئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن تكثير الصفوف، مع عدم إكمال الصف الأول؟ فقال: الأصل أن يصلوا في صلاة الجنازة كما يصفون في الصلاة المكتوبة، فيكملون الصف الأول فالأول، أما عمل مالك بن هبيرة رضي الله عنه في سنده ضعف، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة الدالة على وجوب إكمال الصف الأول فالأول في الصلاة، "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة" 13/ 139.

ص: 624

وفي "شرح الهداية": إذا اجتمعت جنائز جاز أن يصلى عليهم صلاة واحدة، يجعلون واحدًا خلف واحد، ويلي الإمام الرجال، ومن كان أفضل فهو أولى أو يستوي فيه الحر والعبد، ويقدم الصبي الحر على العبد، ثم الخناثى ثم النساء ثم الصبيان. ولو جعلت الجنائز صفًّا واحدًا على الطول جاز.

وقيل: يوضع شبه الدرج رأس الثاني عند صدر الأول

(1)

، وإن شاءوا جعلوها واحدًا بعد واحدٍ. وإن شاءوا صفًّا واحدًا، وإن كان القوم سبعة قاموا ثلاثة صفوف خلفه ثلاثة ثم اثنان ثم واحد قلتُ: والأولى عندي: اثنان ثم اثنان ثم اثنان؛ لكراهية الانفراد.

وأما كون التكبير أربعًا فقد سلف

(2)

، وحديث الشعبي سلف أيضًا

(3)

.

(1)

هو قول ابن أبي ليلى كما في "المبسوط" 2/ 65.

(2)

برقم (1319) باب: الصفوف على الجنازة.

(3)

برقم (857) كتاب: الأذان، باب: وضوء الصبيان.

ص: 625

‌57 - باب فَضْلِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِذَا صَلَّيْتَ فَقَدْ قَضَيْتَ الذِي عَلَيْكَ.

وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ: مَا عَلِمْنَا عَلَى الجَنَازَةِ إِذْنًا، وَلَكِنْ مَنْ صَلَّى ثُمَّ رَجَعَ فَلَهُ قِيرَاطٌ.

1323 -

حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ حُدِّثَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم يَقُولُ: مَنْ تَبِعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ. فَقَالَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَيْنَا. [انظر: 47 - مسلم: 945 - فتح: 3/ 192]

1324 -

فَصَدَّقَتْ -يَعْنِى: عَائِشَةَ- أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ. {فَرَّطْتُ} [الزمر: 56] ضَيَّعْتُ مِنْ أَمْرِ اللهِ.

ثم ذكر حديث نافع: حُدِّثَ ابن عُمَرَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَنْ تَبعَ جَنَازَةً فَلَهُ قِيرَاطٌ. فَقَالَ: أَكْثَرَ علينا أَبُو هُرَيْرَةَ. فَصَدَّقَتْ -يَعْنِي: عَائِشَةَ- أَبَا هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُهُ. فَقَالَ ابن عُمَرَ: لَقَدْ فَرَّطْنَا فِي قَرَارِيطَ كَثيرَةٍ.

الشرح:

أما أثر زيد فأخرجه ابن أبي شيبة عن معاوية ووكيع عن هشام، عن أبيه، عن زيد بن ثابت: إذا صليتم على الجنازة فقد قضيتم ما عليكم فخلوا بينها وبين أهلها

(1)

.

وحديث أبي هريرة: أخرجه مسلم والأربعة

(2)

، وفي لفظ: "من اتبع

(1)

"المصنف" 3/ 4 (11527) باب: في الرجل يصلي على الجنازة له أن لا يرجع حتى يؤذن له.

(2)

"مسلم"(945) كتاب: الجنائز، باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، وأبو داود (3168)، الترمذي (1040)، النسائي 4/ 54 - 55 وابن ماجه (1539).

ص: 626

جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا وكان معها حَتَّى يصلي عليها"

(1)

. ولمسلم: "من خرج مع جنازة من بيتها"

(2)

. وليس في الحديث أن أبا هريرة رفعه، نعم، أخرجه مسلم مصرحًا به، وقول أبي مسعود وخلف والحميدي والطرقي رواه نافع عن أبي هريرة غير جيد، إذ في مسلم، روايته: أن نافعًا قَالَ: قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره، فقال ابن عمر: أكثر علينا أبو هريرة. فبعث إلى عائشة فصدقته

(3)

.

وفيه من حديث داود بن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه كان قاعدًا عند ابن عمر إذ طلع عليه خباب -صاحب المقصورة- قَالَ: يا عبد الله بن عمر، ألا تسمع ما يقول أبو هريرة. قَالَ: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وفيه: فأرسل خبابًا إلى عائشة يسألها

(4)

. وزعم خلف أن خبابا رواه عن أبي هريرة. وقال الحميدي: ليس له في "الصحيح" عن أبي هريرة. ولابن أبي شيبة من حديث الوليد بن عبد الرحمن فقال له ابن عمر: انظر ما تقول

(5)

.

ولابن زنجويه في "فضائله" من حديث سعيد بن أبي سعيد عن

(1)

سلف برقم (47) كتاب: الإيمان، باب: اتباع الجنائز من الإيمان.

(2)

"صحيح مسلم"(945/ 56).

(3)

انظر: "الجمع بين الصحيحين" 4/ 169 (3301).

(4)

رواه مسلم (945/ 56)، وأبو داود (3169) باب: فضل الصلاة على الجنائز وتشييعها. وأبو نعيم في "المستخرج" 3/ 30 (2120) كتاب: الجنائز، باب: فضل اتباع الجنائز.

والبيهقي 3/ 412 - 413 كتاب: الجنائز، باب: انصراف من شاء إذا فرغ من القبر.

(5)

"المصنف" 3/ 12 (11615) باب: في ثواب من صلى على الجنازة وتبعها حتى تدفن.

ص: 627

أبي هريرة. فذكره. وفيه: فدخل عبد الله على حفصة فقال: أسمعتي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم. فقال عبد الله: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.

وسيأتي في الباب بعده من حديث سعيد بن أبي سعيد

(1)

: وروى ابن أبي شيبة من حديث سالم البرَّاد عن ابن عمر قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهدها حَتَّى يقتضى قضاؤها فله قيراطان، القيراط مثل أحد"

(2)

.

قال الترمذي في "علله الكبير": سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: رواه عبد الملك بن عمير، عن سالم، عن أبي هريرة وهو الصحيح، وحديث ابن عمر ليس بشيء. ابن عمر أنكر على أبي هريرة حديثه. قَالَ: وسألته عن حديث أبي صالح عن ابن عمر فقال: إنما هو عن أبي هريرة

(3)

.

قوله: وحديث ابن عمر ليس بشيء.

وقوله: أكثر أبو هريرة. لم يتهمه بالكذب، بل خشي السهو، أو يكون لم يسمعه أبو هريرة من النبي -رضى الله عنه-.

وحديث الباب دال على ما ترجم له. واختلف العلماء في الانصراف من الجنازة هل يحتاج إلى إذن أم لا؟ فروي عن زيد بن ثابت، وجابر ابن عبد الله، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وقتادة، وابن سيرين، وأبي قلابة أنهم كانوا ينصرفون إذا وريت الجنازة،

(1)

برقم (1325) باب: من انتظر حتى تدفن.

(2)

"المصنف" 3/ 13 (1160).

(3)

"العلل الكبير" 1/ 417.

ص: 628

ولا يستأذنون

(1)

وهو قول الشافعي وجماعة من العلماء، ولمالك وأصحابه جواز الانصراف قبل الصلاة عليها وبعدها دون إذن

(2)

-وسيأتي في الباب بعده- وقالت طائفة: لا بد من الإذن في ذلك.

وروي عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، والمسور بن مخرمة، والنخعي أنهم كانوا لا ينصرفون حَتَّى يستأذنوا

(3)

.

وروى ابن عبد الحكم عن مالك قَالَ: لا يجب لمن يشهد جنازة أن ينصرف عنها حَتَّى يؤذن له، إلا أن يطول ذلك

(4)

.

والقول الأول أولى بالصواب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "من شهد" الحديث، فلفظة (حَتَّى): حض وترغيب لا لفظ حتم ووجوب، ألا ترى قول زيد السالف. وحديث جابر مرفوعًا:"أميران وليسا بأميرين: المرأة تحج مع القوم فتحيض، والرجل يتبع الجنازة فيصلي عليها، ليس له أن يرجع حَتَّى يستأمر أهل الجنازة" أخرجه البزار، وعلته أبو سفيان

(5)

، ورواه عمرو بن

(1)

رواه عبد الرزاق عن قتادة، القاسم، ابن الزبير 3/ 515 (6527 - 6528) باب: انصراف الناس من الجنازة قبل أن يؤذن لهم، وروى الآثار ابن أبي شيبة عن زيد، وجابر، ومحمد، والحسن 3/ 4 - 5 (11527)، (11529)، (11539) باب: الرجل يصلي على الجنازة له أن لا يرجع حتى يؤذن له.

(2)

قال الدسوقي في "حاشيته" 1/ 423، الانصراف قبل الصلاة مكروه مطلقًا سواء حصل طول في تجهيزها أو لا كان الانصراف لحاجة أو لغير حاجة كان الانصراف بإذن من أهلها أم لا، وأما إن كان الانصراف بعد الصلاة، وقبل الدفن فيكره إن كان بغير إذنٍ من أهلها. والحال أنهم لم يطولوا فإن كان بإذن أهلها فلا كراهة طولوا أولا، وإن طولوا فلا كراهة كان بإذن أهلها أم لا. أهـ

(3)

رواه عبد الرزاق 3/ 513 - 515 (6621 - 6624).

(4)

لم أقف على رواية ابن عبد الحكم عن مالك، لكن القول مذكور في "التفريع" 1/ 370، "الخرشي على مختصر خليل" 2/ 137.

(5)

رواه البزار كما في "كشف الأستار" 2/ 36 (1144) كتاب: الحج، باب: في =

ص: 629

عبد الجبار من حديث أبي هريرة أيضًا مرفوعًا مثله ولم يتابع عليه، ذكره العقيلي

(1)

وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفًا

(2)

.

وكذا عن ابن مسعود من قوله

(3)

. وللدارقطني من حديث عائشة مرفوعًا: "إذا صلى الإنسان على الجنازة انقطع ذمامها إلا أن يشاء أن يتبعها". ثم قَالَ: المحفوظ عن هشام، عن أبيه موقوفًا ليس فيه عائشة

(4)

، ولابن أبي شيبة عن إبراهيم، وطلحة اليامي، وعن جابر موقوفًا: ارجع إذا بدا لك. وقاله ابن سيرين، والحسن، وابن جبير، وابن عمر

(5)

.

= المرأة تحيض ولم تقض نسكها.

(1)

"الضعفاء الكبير" 3/ 287، وقال: هذا يروى بإسناد معل.

(2)

"المصنف" 3/ 5 (11538).

(3)

"المصنف" 3/ 5 (11533).

(4)

"العلل" 14/ 200 (3552).

(5)

"المصنف" 3/ 5.

ص: 630

‌58 - باب مَنِ انْتَظَرَ حَتَّى تُدْفَنَ

1325 -

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.

- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ [عَلَيْهَا] فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَ حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ". قِيلَ: وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: "مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ". [انظر: 47 - مسلم: 945 - فتح: 3/ 196]

ذكر فيه حديث سعيد بن أبي سعيد المقبري، عَنْ أبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ثم ساق من حديثِ الأعرج عن أبي هريرة، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ .. " الحديث.

قَالَ الإسماعيلي: جمع البخاري بين حديث الأعرج عن أبي هريرة، وبين حديث المقبري عن أبي هريرة على لفظ واحد، وإنما القِيراطان في مِثْلِ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ دون حديث المقبري، ولم يبين ذلك. وقد أسلفنا أن الحديث دال على أنه لا يحتاج إلى إذن في الانصراف عن الجنازة؛ لأن الشارع أخبر أن من شهدها فله كذا، ومن شهد الدفن فله كذا، فوكله إلى اختياره أن يرجع بقيراط من الأجر إن أحب أو بقيراطين، فدل على تساوي حكم انصرافه بعد الصلاة وبعد الدفن؛ لأنه لا إذن لأحد عليه فيه حين رد الاختيار إليه في ذلك.

وقد أجاز مالك وبعض أصحابه لمن شيعها أن ينصرف منها قبل أن

(1)

ورد بهامش الأصل: ثم ذكره من حديث ابن المسيب عن أبي هريرة.

ص: 631

يصلى عليها، فيما رواه أشهب عنه، وروى عنه ابن القاسم أنه لا ينصرف قبلها إلا لحاجة أو علة، قَالَ ابن القاسم: وذلك واسع كحاجة أو غيرها وليست بفريضة -يعني: إذا بقي من يقوم بها- قَالَ ابن حبيب: لا بأس أن يمشي الرجل مع الجنازة ما أحب، وينصرف عنها إذا شاء قبل أن يصلى عليها

(1)

. قاله جابر بن عبد الله

(2)

، وقد أوضحت الكلام على حديث أبي هريرة هذا في الإيمان في باب: اتباع الجنائز من الإيمان، فراجعه منه.

(1)

انظر: "النوادر والزيادات" 1/ 572 - 573.

(2)

رواه ابن أبي شيبة 3/ 4 - 6 (11528)، (11540) باب: في الرجل يصلي على الجنازة له أن لا يرجع حتى يؤذن له.

ص: 632

‌59 - باب صَلَاةِ الصِّبْيَانِ مَعَ النَّاسِ عَلَى الجَنَائِزِ

1326 -

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْرًا، فَقَالُوا: هَذَا دُفِنَ، أَوْ دُفِنَتِ البَارِحَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَصَفَّنَا خَلْفَهُ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا. [انظر: 857 - مسلم: 954 - فتح: 3/ 198]

ذكر فيه حديث ابن عباس السالف في باب: صفوف الصبيان مع الرجال على الجنازة قريبا

(1)

:

(1)

سلف رقم (1321).

ص: 633