المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة التحقيق الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله - التوضيح للمسائل العقدية في مقدمة الرسالة القيروانية

[عبد الرحمن بن ناصر البراك]

فهرس الكتاب

‌مقدمة التحقيق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فهذا شرحٌ متوسطٌ لمقدمة الرسالة لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، لشيخنا عبد الرحمن البراك - حفظه الله - والذي اختار له اسم «التوضيح للمسائل العقدية في مقدمة الرسالة القيروانية لابن أبي زيد القيرواني» .

ولا يخفى على طالب علمٍ أهميةُ مقدمة هذه الرسالة ونفاستُها في علم العقيدة؛ فهي على وجازتها عظيمة النفع جدًا، غزيرة الفوائد، حاوية لأصول الاعتقاد على طريقة سلف الأمة رضي الله عنهم.

وقد عقد لها شيخنا سبعة مجالس أتى على جميعها بالشرح والبيان، وذلك ابتداءً من يوم السبت الثاني من شهر رجب إلى غاية السبت التاسع منه عام 1429 هـ. ضمن الدورة العلمية الخامسة عشرة في جامع شيخ الإسلام ابن تيمية بالرياض. وفُرِّغت تلك الدروس، ثم عُرضت مؤخرًا على شيخنا - حفظه الله - فكان يُقِرُّ ويُعدِّل، ويزيد وينقص، ويحرِّر ويدقق، حتى وصلت إلى هذه الصورة من التهذيب والتحرير، وقد عهد إلينا في المؤسسة أن نعتني بها فاستعنَّا بالله على ذلك، وكانت طريقة العمل في الإخراج كالتالي:

ص: 5

1 -

مقابلة المتن وضبطه على النسخة التي أخرجها الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله، ضمن كتابه:«الردود» ، واعتمدنا على الطبعة الأولى لدار «العاصمة» عام 1414 هـ، وهي العمدة في هذا الشرح، وننبِّهُ في الهامش إلى ما قد يكون من اختلاف بينها وبين النسخ الأخرى، كما ننبِّهُ إلى بعض ما وقع في المتن من إشكالات، وننقل ما يصوِّبه شيخنا في بعض المواضع منها.

2 -

مقابلة الشرح - بعد تفريغه - بأصله المسموع، وتصويب ما وقع في النسخة المفرَّغة من سَقطٍ أو تصحيفٍ.

3 -

تقسيم المتن إلى فقرات، ووضع عنوان لكل فقرة في أعلى الصفحة، ويليهما شرح الفقرة، وكل ذلك من صنع شيخنا - حفظه الله -.

4 -

قراءة الشرح على شيخنا - حفظه الله - كاملًا، قراءةَ ضبطٍ وتصحيحٍ، فكان يصوِّب ويُعدِّل، ويحذفُ ويُضيف، ويحرِّر ويُدقق، حتى استقام على هذه الصورة.

5 -

توثيق النقول التي وردت في الشرح، وعزوها إلى مصادرها.

6 -

ربط مباحث الشرح بكتب السلف والمحققين من أهل السنة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم رحمهما الله وغيرهما من المحققين.

7 -

إحالةُ بعض المباحث إلى مواضع أخرى موسَّعة من كتب شيخنا - حفظه الله -.

ص: 6

8 -

ضبط الكلمات المشكِلة، والعناية بعلامات الترقيم.

9 -

شرح الكلمات الغريبة من المعاجم المختصة ككتب غريب القرآن، وغريب الحديث، ومعاجم اللغة، وغيرها.

10 -

عزو الآيات إلى مواضعها من كتاب الله عز وجل، وإثباتها على رواية حفص عن عاصم.

11 -

تخريج جميع الأحاديث والآثار الواردة في الكتاب.

والطريقة في ذلك كالتالي:

أ-إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما نقتصر في العزو إليه إلا لفائدة؛ كأن يكون اللفظ المذكور لغيرهما.

ب-إذا كان الحديث في غير الصحيحين:

- خرَّجناه من أهم المصادر، كالسنن الأربعة ومسند أحمد وموطأ مالك وغيرها من المصادر الحديثية المعتبرة.

- لا نتوسع بذكر الطرق والشواهد، وإنما نحيلُ إلى بعض المراجع لمن أراد التوسّع والزيادة، وغالبًا ما تكون الإحالة إلى كتب التخريج والعلل.

- ننقل أحكام المحدثين - المتقدمين والمتأخرين - على الحديث صحةً أو ضعفًا.

- إن كان الحديث مرويًا عن أكثر من صحابي ذكرنا صاحب اللفظ وأشرنا إلى غيره تبعًا.

12 -

التعريف بالأعلام غير المشهورين.

ص: 7

13 -

التعريف بالفِرق والمقالات والكتب غير المشهورة.

14 -

صنعُ فهرسٍ تفصيلي للموضوعات وآخر إجمالي، وثبت للمصادر والمراجع.

ملاحظة: إذا ورد في الهوامش كلمة «شيخنا» فالمراد به صاحب الشرح شيخنا عبد الرحمن البراك - حفظه الله -.

وفي الختام نسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الشرح وأن يجزي شيخنا - حفظه الله - خير الجزاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللجنة العلمية في

مؤسسة وقف الشيخ

عبد الرحمن بن ناصر البراك

للتواصل:

جوال: 0505112242

البريد الإلكتروني:[email protected]

ص: 8

‌مقدمة

الحمدُ لله، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارك على عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهداه، أما بعد:

فهذا تعليقٌ على مقدمة كتاب: «الرسالة» لابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، وقد سميته:«التوضيح للمسائل العقدية في مقدمة الرسالة القيروانية لابن أبي زيد القيرواني» ، وهو من أشهر علماء المالكية، ومشهورٌ بأنَّه رحمه الله من أهل السنَّة في أبواب العقيدة، وتاريخُه متقدِّمٌ؛ لأنَّه من أعلام القرن الرابع، فإنَّه وُلد سنةَ عشر وثلاث مئة، وتُوفي سنةَ ستٍّ وثمانين وثلاث مئة، وممن أثنى عليه القاضي عياض في ترجمته لابن أبي زيد؛ قال:«وكان أبو محمَّدٍ إمامَ المالكية في وقته وقدوتَهم، وجامعَ مذهبِ مالك، وشارحَ أقوالِه، وكان واسعَ العلم، كثيرَ الحفظِ والرواية؛ كُتبه تشهدُ له بذلك»

(1)

.

وهذه الرسالةُ معظَّمةٌ عند المالكية، وهي متنٌ فقهيٌّ، وربما نشبِّهها ب «عمدةِ الفقهِ» من مصنفات الحنابلة، للموفَّق ابن قدامة إلَّا أنَّ ابنَ أبي زيد رحمه الله صدَّرها بذكر مسائل الاعتقاد.

(1)

ينظر: ترتيب المدارك (6/ 215 - 216).

ص: 9

ولشهرتها وتعظيمِ المالكيةِ لها ولمؤلفها؛ كثُرت العنايةُ بها، وكَثُرَ شُرَّاحُها وحُفَّاظُها وناظموها، فقد اعتنى بها الناسُ عنايةً عجيبةً: شرحًا ونظمًا ودرسًا وتدريسًا، حتى قيل إنها كُتِبَت بالذّهب

(1)

، ولا أقول: إنها أفضل من غيرها، ولكنَّ العادةَ أنَّ كلَّ أهلِ مذهبٍ يُعظِّمون علماءَ مذهبهم ومؤلفاتِهم، بل قد يتعصَّبون لهم، وإلَّا فقد قُرئت عليَّ، فوجدتُ أنَّها كتابُ فقهٍ مختصرٍ جدًا؛ ككتب الفقه المختصرة التي تكون عبارتُها فيها خفاءٌ؛ بسبب شدَّةِ الاختصارِ، ك «العمدة» في الفقه على مذهب الإمام أحمد مع أنَّ كتبَ الحنابلة أوضحُ عبارةً من المؤلفات في المذاهب الأخرى، وابنُ قدامة رحمه الله ضَمَّن كتابَه بعضَ الأحاديث، ونوَّه عن هذا في المقدمة.

و‌

‌مذهبُ أهل السنَّة في الاعتقاد ليس محصورًا على الحنابلة،

فالأئمةُ رحمهم الله كلُّهم على مذهب السَّلف، بل هم من السَّلف؛ لأنهم على مذهب مَنْ قبلهم من الصحابة والتابعين - رضوان الله عليهم -

(2)

.

وقد دخلت المذاهبُ الكلاميَّةُ على كثيرٍ من المتأخرين من أهل المذاهب الأربعة في مسائل الاعتقاد، فتجدُ هؤلاء ينتسبون إلى الأئمة في أبواب ومسائلِ الأحكامِ الفقهيةِ، ويخالفونَ الأئمةَ الذين ينتسبون

(1)

ينظر: معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان للدبَّاغ (3/ 111).

(2)

ينظر: منهاج السنة (2/ 105 - 106)، ومجموع الفتاوى (5/ 256)، والإيمان (ص 315)، وللاستزادة ينظر: اعتقاد الأئمة الأربعة لمحمد الخميس.

ص: 10

إليهم - كالشافعي ومالك مثلًا - في مسائلِ الاعتقاد في الجملة، فمُقِلٌّ ومُستكثِر

(1)

.

ويمكن أن يُستشهَد لهذا المعنى ببيتٍ لابن عاشر

(2)

؛ قال فيه:

في عقد الأشعري وفقه مالك

وفي طريقة الجنيد السالك

(3)

فتراه اتَّخذ ثلاثة أئمة: الأشعري في العقيدة، ومالك في الفقه، والجنيد

(4)

في السلوك.

(1)

كان المغاربة على مذهب السلف في أصول الدين زمن دولة المرابطين (451 - 541 هـ)، فلما أظهر محمد بن تومرت المغربي المصمودي (ت 524 هـ) دعوته؛ كفَّر مخالفيه من المغاربة، واتهمهم بالتشبيه والتجسيم، واستباح دماءهم وأموالهم، ودخل في حروب طاحنة مع المرابطين، وأدخل المغرب الإسلامي في فتنة دامية، وفرض الأشعريةَ على الرعيَّة، فكان شرًا على الملَّة من الحجاج بن يوسف بكثير، واستباح قتل مخالفيه من العلماء، وسمَّى أصحابه «موحدين» ، وهم جهميةٌ نُفاة لصفات الله تعالى، وعندما هلك واصل أتباعُه دعوتَهُ، وارتكبوا مجازر رهيبة في حق المرابطين عندما دخلوا مدينة مراكش سنة (541 هـ)، ويُروى أنهم قتلوا منهم سبعين ألف شخص! ينظر: السير للذهبي (19/ 539)، ومجموع الفتاوى (11/ 476)، والمنار المنيف لابن القيم (ص 153 - 154).

(2)

ابن عاشر: عبد الواحد بن أحمد بن علي بن عاشر، أندلسيّ الأصل، نشأ بفاس، له تصانيف منها:«المرشد المعين على الضروريّ من علوم الدين» ، وشرح على «مورد الظمآن في علم رسم القرآن». توفي في فاس في ذي الحجة سنة (1040 هـ) وعمره خمسون سنة. ينظر: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر (3/ 96)، وشجرة النور الزكية (1/ 434).

(3)

ينظر: متن ابن عاشر المسمى بالمرشد المعين على الضروري من الدين (ص 2، رقم البيت 5).

(4)

الجنيد: أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز، أصله من نهاوند وولد ونشأ ببغداد، وسمع بها الحديث وتفقه على أبي ثور، كان زاهدًا عابدًا، توفي سنة (297 هـ). ينظر: طبقات الصوفية (ص 129)، وسير أعلام النبلاء (14/ 66).

ص: 11

فالواجبُ اتباعُ ما مضى عليه الصدرُ الأوَّلُ من الصحابة والتابعين وأئمة الدين رضي الله عنهم، والتمسكُ بما مضى عليه الأئمة؛ فإنهم والتابعون ومَن سلك سبيلَهم هم أهلُ السنَّةِ والجماعةِ، لأنهم يعتمدون في دينهم - علمًا وعملًا - على كتاب الله وسنَّة رسوله وما مضى عليه الصحابة -رضوان الله عليهم - ومَن تبعهم بإحسان.

فهذا هو طريقُ السلامة والهُدى قبل أنْ يتفرَّق الناسُ وتتَّسعَ الفُرقةُ، فإنَّها حدثت في هذه الأمة مُبكِّرة، لكن لوجودِ الصحابة لم تنتشر، وأمَّا بدايات الفُرقةِ فقد كانت في عهد الصحابة في خلافة عليٍّ رضي الله عنه؛ فظهرت الخوارجُ والشيعةُ ثم القدريَّةُ، فكلُّهم وُجِدوا في عهد الصحابة رضي الله عنهم، ثم لم يزل الاختلافُ والافتراقُ يتَّسعُ وتعظُمُ المحنةُ، ولا سيّما في أُخريات القرن الثاني وما بعده، وبعد: فنبدأ بشرح خطبة المؤلف:

ص: 12

‌شرح خطبة المؤلف

(الحمدُ للهِ الذي ابتدأَ الإنسانَ بنعمته، وصوَّرَه في الأرحام بحكمتِه، وأَبرزَه إلى رِفقِه، وما يَسَّرَه له مِنْ رِزقه، وعلَّمه ما لم يكن يَعلم، وكان فضلُ اللهِ عليه عظيمًا، ونبَّهه بآثار صَنعتِه، وأَعذرَ إليه على أَلسنة المرسلين الخِيَرةِ مِنْ خَلقِه، فهدى مَنْ وفَّقه بفضله، وأَضلَّ مَنْ خَذلَه بِعدلِه، ويسَّر المؤمنين لليسرى، وشرح صدورَهم للذكرى، فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مُخلصين، وبما أَتتهم به رسلُه وكتبُه عاملين، وتعلَّموا ما علَّمهم، ووقفوا عند ما حدَّ لهم، واستغنوا بما أحلَّ لهم عمَّا حَرَّمَ عليهم).

يقول رحمه الله:

(الحمدُ للهِ الذي ابتدأَ الإنسانَ بنعمته):

الله تعالى هو الذي بدأ الإنسان بنعمته، ولم يكن منه أيُّ تسبُّبٍ، فمرَدُّ الأمر كلّه إليه، فهناك أمور لم يكن للإنسان فيها تسبُّبٌ أصلًا؛ فقد ابتدأَ الله الإنسانَ بنعمته فأوجده، وصوَّره، وشقَّ سمعَه وبصرَه، وأخرجه من بطن أمّه، فقال تعالى:{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، لكنه ما خرج إلا وقد جعل اللهُ فيه ما يحتاج

ص: 13

إليه في خَلْقِه، فصوَّرَه، وشقَّ سمعه وبصره، وخلقَ له الأعضاءَ: اليدين والرجلين واللسان والشفتين، فأصبح الإنسانُ مهيَّئًا للمَهَمَّات، وهذه النعمُ لم يكن للإنسان فيها تسبُّبٌ أصلًا.

فالله بدأه بنعمته، ونِعَمُ الله على الإنسان تترى؛ فخَلقَ الإنسانَ أطوارًا في بطن أمِّه، ثم أطوارًا بعد ولادته، فقال تعالى:{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [غافر: 67].

ونِعَمُ الله تعالى نوعان:

نِعَمٌ كونيةٌ ماديةٌ دنيويةٌ: وهي ما يتصلُ بخلقه، وتكوينه، وما يحتاج إليه.

ونِعَمٌ دينيةٌ: وهي النِّعمُ التي ساقها اللهُ على يد رُسلِه، وكل ذلك من الله ابتداءً

(1)

.

ومن نِعمِه سبحانه وتعالى ما جعل الله له سببًا من قِبل الإنسان؛ مثل ما يحصلُ للعبد بما وُفِّقَ له من أعمالٍ صالحةٍ، فالله يجزيه عليها، ودعاء يدعو به فيجيبُه سبحانه وتعالى، وهذه النِّعمُ التي للعبد فيها تسبُّبٌ مرَدُّها كلُّها إلى الله، فهو الذي وفَّقَ العبدَ للعمل الصالح، وقبِله منه، وهو الذي وفَّقه للدعاء، وأجابه؛ فالأمرُ عاد إليه سبحانه أولًا وآخرًا، فله الأمرُ كلُّه.

فعادت النِّعمُ كلُّها، أولُّها وآخرُها، وظاهرُها وباطنُها، وما له سببٌ من قِبَل الإنسان، وما ليس له سببٌ من قِبله، عاد ذلك كله إلى الله، لذلك قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل: 53]، فهذه الآيةُ فيها

(1)

ينظر: بدائع الفوائد (2/ 425 - 427).

ص: 14

عموم وحصر؛ أي: كلُّ نعمةٍ تحصل للعبد هي من الله وحده، فهو خالقُ الإنسان وخالقُ النِّعَم، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، وقال:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].

فلا يزالُ العبدُ يتقلَّبُ في نِعَم الله، وهذه النعمُ الماديةُ أو الكونيةُ مشتركةٌ بين العباد بَرِّهم وفاجرهم، وبين المؤمن والكافر، أمَّا النِّعمُ الدينيةُ فمختصَّةٌ بِمَنْ يختارهم الله ويصطفيهم.

قوله: (وصوَّرَه في الأرحام بحكمتِه):

وصوَّرَه: هذا وما بعده عطفٌ، وهو من عطفِ الخاصِّ على العام، فصوَّرَ اللهُ الإنسانَ في الأرحام بحكمته، وكثيرًا ما يُذكِّر اللهُ عبادَه بذلك، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} [آل عمران: 6]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَك (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاء رَكَّبَك (8)} [الانفطار]. وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِير (3)} [التغابن].

فاللهُ صوَّر الإنسانَ في الأرحام، ومَن الذي يزعمُ أنَّ له تسبُّبًا في تصوير نفسه واختيار صورته؟! لأنَّه يبدأُ في بطن أُمّه، فيتنقل في أطواره؛ نطفةً فعلقةً فمضغةً، ثم يُصوِّره اللهُ كيف شاء كما أخبر اللهُ بذلك مفصَّلًا في كتابه، ومن ذلك قولُه تعالى:{{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} [آل عمران: 6]، فهو تعالى يجعل لكل واحدٍ صورةً لا تماثل صورة الآخر، ولهذا لا نجد اثنين من الناس على صورةٍ واحدةٍ من جميع الوجوه؛

ص: 15

بحيث لا يُفرَّق بينهما لتماثلهما من كل وجه، ومن أسماء الله تعالى المصوِّرُ، قال تعالى:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24].

فالتصويرُ يكون بمشيئة اللهِ وقدرتِه وحكمتِه، وله الحكمةُ في تنويع الصُوَرِ، وفي خلقِ هذا على صورةٍ، وخلقِ الآخرِ على صورةٍ، فهم أولادٌ من أمٍّ وأبٍ، ويخرجون بصورٍ مختلفة، ولله في ذلك حِكَمٌ بالغةٌ.

والتصويرُ ظاهرٌ وباطنٌ، فالظاهرُ هو الصورةُ الظاهرةُ المرئية، والصورةُ الباطنةُ هي التي ينبني عليها اختلافُ الملَكاتِ والعقول، فهذا أيضًا نوعٌ من التصوير الذي تختلفُ فيه أحوالُ الإنسانِ، وهو سبحانه لا يخلقُ أو يصوّرُ بمحض المشيئةِ، بل لحكمةٍ عظيمةٍ، فلا يفعل شيئًا عَبَثًا أو لَعِبًا؛ بل خَلَقَ السماوات والأرض وما فيهنَّ بالحقِّ وللحقِّ.

قوله: (وأَبرزَه إلى رِفقِه، وما يَسَّرَه له مِنْ رِزقه):

هذا طَور ما بعد الولادة، (وأَبرزَه): أي: أخرجَه من بطن أُمّه، والمعنى: أن اللهَ أخرجَ الإنسانَ من بطن أُمّه، وأبرزه لهذه الحياة بعد أن كان في الظلمات الثلاث، والضميرُ في قوله:(مِنْ رِزقه) - يقول بعض الشُّرَّاح -: أنه يعودُ إلى الإنسان. فأبرزه إلى رِفْقِهِ، أي: لينتفع ويُرْزَق بما يسَّرَهُ اللهُ له من أنواع المنافع.

ويُحتمل أنَّ الضمير يعودُ إلى الله، وهو أظهرُ

(1)

؛ لأنَّ الضمائر في هذه الجُمل تعود إلى الله، أي: أبرزَ الإنسانَ ليتمتَّع برزقِ ربِّه له، ورِزقُ الله لعبده بما يسوقُه إليه من الإحسان ابتداءً، وأولُ الرفقِ ما جعله اللهُ

(1)

ينظر: شرح زروق (1/ 14)، والفواكه الدواني (1/ 23).

ص: 16

في قلب أمِّه من الحنان؛ حيث يعطِّفُهَا عليه، فتحملُه وترحمُه وتُحسِنُ إليه وترِقُّ له، فرِفقُ الأمِّ بابنها هو من رِفق ربّه به، وصرْفُ الآفاتِ عنه من رفقه تعالى.

وما يسرَّه اللهُ للعبد بعد ولادتِه من رزقه الحاضر، وهو أوّلُ رزقٍ يكسبه، وفي هذا الوقت تُعَدُّ للمولود الثيابُ والملابسُ قبل أن يُولدَ، فهل هذا من فِعل الإنسان؟! كذلك ما يُهيئ به ثديَا الأم، ممَّا تستعدُّ به من الرزق (اللبن)، فهذا مما يسَّره للطفل من الرزق.

ثم يتتابع هذا الرزقُ لعبده، ولو نقفُ مع هذا المعنى وقفاتٍ لانتهت أوقاتٌ في استعراض رزقِ اللهِ، فرزقُه ميسَّرٌ يبدأُ من مَولده، وهكذا يستمرُّ رِزقُ اللهِ لعبده.

ومن رِفق اللهِ أيضًا: ما يحصلُ للإنسان دونَ تسبُّبٍ منه، فما يحصل للطفل من خدمة الأبوين وعنايتِهما، لم يكن بتسبُّبٍ منه، بل هو من النعمِ التي يبتدئُ اللهُ بها العبدَ.

لكنْ نِعمُ اللهِ منها ما يُجريه على يد مَنْ شاء من الخلق، ومنها ما ليس كذلك، ثم بعد ذلك تتواصلُ النِّعمُ، إلى أنْ يكون من رزق الله ما يطلبُه الإنسان.

فهذا المولودُ مفطورٌ على طلب الرزق فأوَّلُ ما يولد يطلبُ الغذاء من ثدي أُمِّه فيلتقمُه ويرتضعُ اللبنَ، وإذا كَبُر وقَدِر طلب الرزقَ بعمله وسعى في الأرض لذلك، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ} [الملك: 15]، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ

ص: 17

اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]، وابتغاؤه يكون بالدعاء، وبفعل الأسبابِ التي خلقها اللهُ، وجعلها سببًا للأرزاق، فالرزقُ من: مطعمٍ ومشربٍ وملبسٍ ومسكنٍ، كلُّه من الله، ولا ينافي ذلك أن قدَّرَه الله بأسبابٍ، فإنَّ الأسبابَ والمسببات كلَّها خلقٌ لله، وكلها بقدَر اللهِ ومشيئته.

قوله: (وعلَّمه ما لم يكن يَعلم، وكان فضلُ اللهِ عليه عظيمًا):

كأنَّه في الأوَّل يشيرُ إلى الرزق المادي الذي يكون به غذاءُ الأبدانِ وقوامُها وبناؤها، وهنا يشيرُ إلى نوعٍ آخرَ، وهو من الرزق في الدنيا المتعلّق بالنفوس والعقول وهو العلم، يدل له قوله تعالى:{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]. لكنَّ الاستعدادَ للعلم موجودٌ، وأدواتُه موجودةٌ، فالإنسانُ منذ مولده قد ركَّب اللهُ فيه أصلَ العقلِ، وفيه السمعُ والبصرُ، كما قال تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل: 78].

لكنَّ تحصيلَها للعلم يكون تدريجيًّا؛ شيئًا فشيئًا، فيبدأُ التعلُّم منذ الصِّغر، أي: العلم الذي يُحصلُّه الإنسانُ بعد ولادته، فليس مقصورًا على العلم الذي يُحصلُّه بالدراسة وفي المدرسة بعد الكبر، بل يبدأُ التعلمَ منذ الصِّغر، فلا يَعرفُ الكلامَ إلا بتعليمٍ يتلقَّاه بسمعه، ويتلقَّى أيضًا ببصره بعضَ العلوم، فيميّزُ بين الإنسانِ والجدارِ، وبين أبويه، وبين إخوته، وينمو هذا العلمُ، وينمو العقلُ، وتنمو المداركُ شيئًا فشيئًا؛ حتى يبلغَ الإنسانُ ما قُدِّر له من ذلك.

ص: 18

وممَّا يدخل في كلام المؤلف: ما يتعلّمه بالتلقّي من أبويه وأُسرته وما حوله، وما يتعلَّمُه بعد الكِبر، وما يتعلَّمُه من شؤون الحياة، وما يتعلَّمُه من العلم الصحيحِ النافعِ، وهذا العلمُ هو الفضلُ العظيمُ الذي امتنَّ اللهُ به على نبيّه، حيث قال تعالى:{وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} [النساء].

ومن الأدلة على التعليم العام قوله تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم (5)} [العلق]، فالإنسانُ لم يكن يعلَم ثم علِم، وكلُّ علمٍ لدى الإنسانِ مسبوقٌ بالجهل، لكنَّ عِلمَ اللهِ هو الذي لم يتقدَّمْه جهلٌ؛ فعلمه تعالى قديمٌ، فلم يزل سبحانه بكلِّ شيءٍ عليمًا، أمَّا المخلوقات - بما فيهم الملائكة - فعلمُهم بتعليم من الله، قال اللهُ تعالى عن الملائكة:{عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وقال لنبيه:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} [النساء].

لكن هناك تفاضلٌ بين العباد في خَلقهم، وفي خُلقهم، وفي عِلمهم، وهذا التفاضلُ لا يعلمُ مَداهُ وتفاوتَه إلَّا الله، وهو ممَّا يُدركه الناسُ، ويكون في العلوم الكونية والشرعية، الدينية والدنيوية، قال تعالى:{كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) نظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا (21)} [الإسراء]، فالتفاضلُ بين الخلق يكون في علومهم ورزقهم وتكوينهم، والأنبياءُ - وهم أفضل الخلق - فَضَّل اللهُ بعضَهم على بعضٍ.

ص: 19

قوله: (ونبَّهه بآثار صَنعتِه، وأَعذرَ إليه على أَلسنة المرسلين الخِيَرةِ مِنْ خَلقِه):

هذه الأفعال معطوفةٌ على ما قبلها، (بآثار صَنعتِه)؛ يعني: أرشده، ودَلَّه بآثار صنعته، وهو هذا الوجود مِنْ: الإنسان والأرض والسماء والهواء، فهذا كلُّه صُنع الله الذي أتقن كلَّ شيء، فالسماواتُ والأرضُ والكواكبُ والهواءُ والسحابُ والإنسانُ والحيوانُ، كلُّ ذلك هو من آثار صنعتِه.

فهو خالقُ السماواتِ والأرضِ، ومَن فيهنّ، وما بينهما، وهو خالقُ الإنسان، فاللهُ تعالى نَبَّه الإنسانَ بآثارِ صنعتِه، ونبّهه إلى ما في هذه الصَّنعةِ من الدلالة على أنَّ لها صانعًا، وأنَّ هذا الصانعَ عليمٌ، وأنه حكيمٌ، ورحيمٌ، وقديرٌ، ففي الدلالات تنبيهٌ؛ كما قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد (53)} [فصلت]، وقال:{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِين (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون (21)} [الذاريات]، وقال:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون (3)} [الرعد].

فاللهُ نَبَّه الإنسانَ بآثار صَنعته، والذي ينتفع بذلك هو الذي ينتبِه، ويتفكَّرُ، ويعقلُ، أمّا المُعرِضُ فإنّه لا ينتبِه، قال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون (105)} [يوسف]، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُون (32)} [الأنبياء].

ص: 20

لكن الذين انتبهوا هم المذكورون في قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران].

فنفس الأحداثِ التي تجري الآن في هذا الوجود، مِنْ الناس مَنْ يعتبر بها وينتبه، كما قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَار (13)} [آل عمران].

فالمتفكّرُ والْمُوَفَّق ينتبهُ ويُلاحظُ ويتدبّرُ؛ ونتيجةٌ لهذا التنبُّهِ والتدبُّر يذكرُ ربَّه، ويُسبّحُ بحمده، وتزدادُ معرفتُه بالله. فهذا هو النوع الأوَّل، وهو التنبيه الكوني.

أمَّا النوع الثاني فهو: التنبيهُ الشرعيُّ، فالآياتُ الكونية فيها حجّةٌ على العباد، لكن لا يكون بها الإعذارُ وحدها، بل‌

‌ الإعذارُ يكون بإرسال الرسل،

كما قال تعالى: {رُّسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. فأرسلَ اللهُ الرسلَ ليُعرِّفوا العبادَ بربّهم، ويُعرِّفونهم بالطريقِ الموصِلِ إليه، وبمصيرِهم، ويُقيمون الأدلةَ على ما جاؤوا به، فمَن أطاعهم سعدَ وأفلحَ، ومَن عصاهم هلكَ، قال تعالى:{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]، وجاء في الحديث الصحيح:«لا أَحَدَ أَحَبُّ إِليه العُذرَ من اللهِ؛ ومن أَجلِ ذلك بعث المبشرين والمنذرين»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري (7416) - واللفظ له -، ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

ص: 21

ومن الناس من لا ينتبه ولا ينتفع، لا بالآيات الكونية: الأفقية والنفسية، ولا بالآيات الشرعية، وهم الذين لا يرجون لقاء الله؛ كما قال تعالى:{إَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون (7)} [يونس]، وقال تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون (105)} [يوسف]، وقال تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيم (7)} [لقمان].

فالرسلُ هم خِيرةُ اللهِ من خلقه، وهم أفضلُ الناسِ على الإطلاق، وهم فيما بينهم مُتفاضلون، إذ إرسالهم مسبوقٌ باختيارهم واصطفائهم، فهم المصطفَون الأخيار، قال تعالى:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، وقال تعالى:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَار (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَار (47)} [ص].

قوله: (فهدى مَنْ وفَّقه بفضله، وأَضلَّ مَنْ خَذلَه بِعدلِه):

هذا أثرُ إرسالِ الرسل، فبعد الإرسالِ يصيرُ الناسُ فريقين، و‌

‌الهدايةُ نوعان:

هدايةُ توفيقٍ، وهدايةُ إرشادٍ

(1)

، والمرادُ هنا بالهداية: هداية التوفيقِ لقَبول الحقِّ، وإجابة دعوةِ الرُّسل، وهذا فضلُ الله يؤتيه من

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (18/ 171 - 175)، وبدائع الفوائد (2/ 445 - 448)، وشرح العقيدة الطحاوية لشيخنا (ص 79). وذكر ابن تيمية وابن القيم قسمين آخرين وهما: الهداية إلى مصالح الدنيا، والهداية في الآخرة.

ص: 22

يشاء، قال تعالى:{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم (74)} [آل عمران]، {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء].

فبعد الدعوةِ يصيرُ الناسُ فريقين: أحدهما: موفَّقٌ مهدِيٌّ، والآخر: مخذولٌ ضالٌّ، والمقصود بقوله:(وأَضلَّ مَنْ خَذلَه بِعدلِه)؛ أي: جعلَه ضالًّا بخذلانه، والخذلانُ ضدُّ التوفيق، فيوجدُ تقابلٌ في الجُمل بين: الهدى والضلالِ، والتوفيقِ والخذلانِ، والفضلِ والعدلِ

(1)

.

فأفعالُه سبحانه دائرةٌ بين الفضلِ والعدلِ، إذن هو المحمودُ سبحانه وتعالى على عطائِه ومنعه، فله الحمدُ على كل حال، وهو أعلمُ حيث يجعلُ فضلَه، وأعلمُ حيث يجعلُ رسالاتِه سبحانه وتعالى.

ومن أدلة ما ذكره المؤلف من التوفيق والخذلان والهدى والإضلال قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (4)} [إبراهيم]. فواجبُ الرُّسلِ هو البيانُ؛ لأنَّه هو الذي يقدرون عليه، وله الحكمةُ البالغةُ في عطائه ومنعه، وتوفيقه لمن شاء، وخذلانه لمن شاء.

قوله: (ويسَّرَ المؤمنين لليسرى، وشرحَ صدورَهم للذكرى، فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين، وبقلوبهم مُخلصين، وبما أَتتهم به رسلُه وكتبُه عاملين):

في هذه الجملةِ وما بعدها تفصيلٌ لقوله: (فهدَى مَنْ وفقَه بفضلِهِ)، ووصفٌ لحال هذا الصِّنفِ المهديين الموَفَّقِين بفضله سبحانه وتعالى،

(1)

ينظر مشهد التوفيق والخذلان في: مدارج السالكين (2/ 25 - 31).

ص: 23

والمعنى: يسَّر مَنْ هداه ووفقه لليسرى؛ أي: للطريق الميسرةِ، طريقِ السعادةِ، فمَن كان من أهل السعادةِ؛ فإنَّ اللهَ يُيسِّره لعمل أهل السعادة؛ كما قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} [الليل].

(وشرَحَ صدورَهُم للذكرَى): أي: شرحَ صدورَهم فجعلها قابلةً للتذكير والذكرى التي جاءت بها الرسلُ، فهم جاءوا بالذِّكر والذكرى، وبالتذكير بربهم وبما خُلِق له الناس، والتذكيرِ بمصيرهم، فاللهُ تعالى يَسَّرَ المؤمنين لليسرى، وشرحَ صدورَهم للذكرى، كما قال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125]، وشرْحُ الصدرِ هو توسيعه حتى يقبل العبدُ الحقَّ، كما قال تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك (1)} [الشرح]، وفي دعاء موسى عليه السلام:{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)} [طه]، فشرحُ الصدرِ يتضمن السعادةَ، والسرور، فالانشراحُ الحقيقي هو الذي يكون سببه الإيمانُ والعلمُ الصحيحُ، أما الانشراحُ وسعةُ الصَّدرِ التي تحصلُ بأسباب دنيوية من الشهوات المحبَّبَة للإنسان فإنه يؤول إلى غمٍّ وهمٍّ وحزن.

فصار الذين شرح اللهُ صدورَهم للحقِّ قابلين مُحبِّين للذِّكرى، قال تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات].

ص: 24

وثمرة تيسيرهم لليسرى، وشرح صدورهم للذكرى؛ أنْ نطقتْ ألسنتُهم بالإيمان بالله، وهو‌

‌ معنى قول المؤلف: (فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين،

وبقلوبهم مُخلصين، وبما أَتتهم به رسلُه وكتبُه عاملين)، فقوله:(فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين): أي: شهدوا ألَّا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وأخلصوا دينَهم لله، ولا بدَّ للإيمان أنْ يكون ظاهرًا وباطنًا.

وقوله: (وبقلوبهم مُخلصين، وبما أَتتهم به رسلُه وكتبُه عاملين): هذه‌

‌ آثارُ هدايةِ الله وتوفيقِه

وتيسيره وشرحِه لصدورِهم، فهي أمورٌ ومعانٍ متلازمةٌ، وجملة ذلك صلاحُ الظاهرِ والباطنِ فظهرَ أثرُ هذه الهداية والتوفيق على قلوبهم اعتقادًا وعملًا، وعلى ألسنتهم نطقًا وإقرارًا، وعلى جوارحِهم كلِّها عملًا وحركةً وطاعةً، وصلاح القلب يستلزم صلاح الجوارح كما في الحديث الصحيح:«ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»

(1)

.

قوله: (وتعلَّموا ما علَّمهم): يحتملُ أن تكونَ بمعنى: عَلِموا ما علَّمهم، أو طلبوا علمَ ما علَّمهم.

قوله: (ووقفوا عند ما حدَّ لهم): أي: وقفوا عند حدودِ الله، فلم يتجاوزوا المباحَ إلى الحرام، ولم يتجاوزوا ما شرعَ اللهُ لهم إلى الابتداع، كما قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، فإنَّ هذا من وجوه الاستقامة، والوقوف عند حدود الله، فلا يتجاوزُ العبدُ

(1)

أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

ص: 25

ما حدَّ اللهُ له من المشروع إلى غير المشروع، ولا يتجاوزُ ما أباحَ اللهُ إلى ما حرَّمه، فهناك حدودٌ نهى اللهُ عن قربانها؛ وهي المحرمات؛ قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وحدودٌ نهى اللهُ عن تعَدِّيها؛ وهي المباحات والمأمورات، قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]

(1)

.

ولم يتعدّوا حدودَ الله علمًا ولا عملًا، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا (36)} [الإسراء]، فهذا وقوفٌ عند حدود اللهِ في العلم؛ فإذا سُئل الإنسانُ عمَّا لا يعلم؛ فليقل: اللهُ أعلم، فيقفُ الإنسانُ عند حدِّ ما علَّمه الله، فلا يَدَّعِي ما لا علمَ له به، ولا يقولُ على الله ما لا يعلم، وهذا ما أدَّب اللهُ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم إذ قال:{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف: 22]، {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف: 26].

قوله: (واستغنوا بما أحلَّ لهم عمَّا حَرَّمَ عليهم):

(واستغنوا): اكتفوا. وهذا أيضًا من الوقوف عند حدودِ الله؛ الاكتفاءُ بالمباح عن الحرام، فلا يتجاوزُ ما أباحَ اللهُ له إلى ما حرَّمَ؛ سواء كان في كلامه، أو في طعامه وشرابه، فهذا عامٌّ في الأفعال، والعبادات، فهم استغنوا بما أحلَّ لهم عمَّا حرَّم عليهم، وفيما أحلَّ اللهُ للعباد ممَّا يحتاجون إليه كفايةٌ وغُنيَةٌ عمَّا حرَّمَ عليهم؛ كما في الحديث: «إِنَّ الله لَمْ

(1)

ينظر: السياسة الشرعية (ص 155)، وإعلام الموقعين (3/ 242).

ص: 26

يَجعل شفاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عليها»

(1)

، فليس هناك حرامٌ يُعذَرُ الإنسانُ في الإقدام عليه إلَّا ما اضطر إليه؛ كحالة الضرورة إلى أكل الميتةِ ونحوها، فاللهُ تعالى أباحَ المحرَّمَ عند الضرورة رحمةً بعباده ورَفعًا للحرج، لكن في الحالة العامَّةِ أغنى العبادَ بما أحلَّ لهم من الطعام والشراب واللباس عمَّا حرَّم عليهم.

(1)

أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (1912)، وأحمد في «الأشربة» (159)، وأبو يعلى في «مسنده» (6966) - وعنه ابن حبان في «صحيحه» (1391) -، والطبراني في «الكبير» (23/ 326 رقم 749)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (19711)، من طرق، عن سليمان الشيباني، عن حسان بن مخارق، عن أم سلمة قالت: نبذتُّ نبيذًا في كوز، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغلي، فقال:«ما هذا؟» قلت: اشتكتْ ابنةٌ لي فنبذتُ لها هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» . ذكره الهيثمي في «المجمع» (5/ 86) وقال: «رواه أبو يعلى والطبراني، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح خلا حسان بن مخارق، وقد وثقه ابن حبان» .

وحسان هذا، ذكره البخاري في «تاريخه الكبير» (3/ 33، رقم 136)، وابن أبي حاتم في «الجرح التعديل» (3/ 235، رقم 1039) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في «ثقاته» (4/ 163).

وللحديث شاهد من حديث علقمة بن وائل عند مسلم (1984) عن أبيه وائل بن حجر الحضرمي، أن طارق بن سويد الجعفي، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه - أو كره - أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال:«إنه ليس بدواء، ولكنه داء» .

ومن حديث عبد الله بن مسعود عند عبد الرزاق في «مصنفه» (17097) من طريق الثوري، وابن أبي شيبة (23492) من طريق جرير، كلاهما عن منصور بن المعتمر، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله:«إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» . وذكره البخاري في صحيحه معلقًا في كتاب الأشربة «باب شراب الحلواء والعسل» (7/ 110)، قبل حديث (5614). وأخرجه الحاكم (7509) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، به. وإسناده صحيح.

وصحَّحه الألباني بشواهده في «الصحيحة» (1633).

ص: 27

‌مقدمة الرسالة

(أما بعد:

أَعاننا اللهُ وإيَّاك على رِعاية ودائِعه، وحِفظِ ما أَودعَنا من شرائعه.

فإنك سألتني أن أَكتبَ لك جملةً مختصرةً من واجب أمورِ الديانة، ممَّا تَنطقُ به الألسنةُ، وتعتقدُه القلوبُ، وتعملُه الجوارحُ، وما يتَّصلُ بالواجب من ذلك من السُّنن؛ من مؤكَّدِها ونوافلِها ورَغائبِها، وشيءٍ من الآداب منها، وجُمَلٍ من أُصول الفقهِ وفنونِه على مذهب الإمام مالكِ بنِ أنسٍ - رحمه الله تعالى - وطريقته، مع ما سهَّلَ سبيلَ ما أَشكل من ذلك، من تفسير الرَّاسخين، وبيانِ المتفقِّهين؛ لِمَا رَغِبْتَ فيه مِنْ تعليم ذلك للوِلدان، كما تُعلِّمُهم حُروفَ القرآنِ؛ ليَسبقَ إلى قلوبهم من فهم دينِ اللهِ وشرائعه، ما تُرجى لهم بركتُه، وتُحمَدُ لهم عاقبتُه، فأَجبتُك إلى ذلك؛ لِمَا رَجوتُه لنفسي ولك من ثواب مَنْ عَلَّمَ دينَ اللهِ أو دعا إليه).

هذه مقدمةُ المؤلّفِ، وقد تضمَّنت ذكرَ سببِ التأليفِ، وهو أنَّه طلبَ منه أحدُ المعلِّمينَ للقرآن

(1)

أنْ يكتبَ له من فنون العلم الشرعي؛

(1)

وهو محرز بن خلف البكري، وقيل: هو إبراهيم بن محمد السبائي، والأول أرجح. ينظر: شرح زروق (1/ 19)، ومعالم الإيمان (3/ 111).

ص: 28

عقائدِه، وأعمالِه، وأخلاقِه، وآدابِه، وفنونِ العلمِ مِنَ الأصولِ والفقهِ ما يُلقِّنُه ويعلِّمُه للأولاد، وهذا مطلبٌ شريفٌ يدلُّ على فقه هذا المعلِّم، ليجمع لهؤلاء الطُّلَّاب الصغارِ بين الحفظِ والفقهِ في مسائل الدِّينِ الاعتقاديةِ والعمليةِ والآدابِ والأخلاقِ المرضية، ومعلومٌ أنَّ هذا المطلبَ على صفة الاختصار، وقد فعلَ المؤلِّفُ، فألَّفَ هذا الكتابَ المعروفَ الذي سبقتِ الإشارةُ إلى أنَّه قد صار له شهرة وعُنِيَ به علماءُ المالكية؛ شرحًا، ونظمًا، ودراسةً، فالله يجزي فاعلَ الخيرِ ومن دعا إليه وكان سببًا فيه؛ فالكلُّ أهلٌ لثواب الله، وقد ذكرَ في هذه المقدمة أنَّه قد أجابَ إلى ما طُلِبَ منه، وفصَّل ذلك، وضمَّنَ هذه الرسالة ما طُلبَ منه من بيان الواجباتِ الشرعية والسننِ بأنواعها، والآدابِ، ومن فنونِ العلمِ الشرعي أصولِه وفروعِه.

وقد تضمَّنت جُمَلُ هذه المقدمة معاني جميلة وجليلة؛ لأنَّ لها دلالات ومعاني تستحقُّ توضيحَها والتعليقَ عليها، والاستفادةَ منها، وبيان ما ترمي إليه.

قوله: (أمَّا بعد): هذه الجملةُ يُؤتى بها في الخطب والمؤلفات للانتقال من الافتتاح إلى المقصود، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأتي بها في خطبه

(1)

، إذن: فاستعمالُها في الكلام والخطبة سُنَّةٌ، بعدما يثني على الله، فإنه يقول:«أمَّا بعد» ، ويفسِّرُها النحويون ب «أمَّا» الشرطية وجوابها؛ فيقولون:«أمَّا بعد» ؛ معناها: مهما يُذكر من شيءٍ بعد فهو كذا وكذا،

(1)

وقد بوَّب البخاري في «صحيحه» : «باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أمَّا بعد» ، وذكر جملة من الأحاديث (922 - 927).

ص: 29

ولهذا يؤتى بعدها بالفاء الجوابية

(1)

، إلَّا أَنَّ المؤلّفَ لم يأتِ بالفاء، فكان من المناسب أن يقول:«أمَّا بعد؛ فأعاننا اللهُ وإياك» .

ومن الخطأ الشائعِ حذف أمَّا وجوابها والاقتصار على الظرف فيقولون: «وبعد» ، وهذا الظرف مبنيٌّ على الضم؛ لأنَّه على نيَّة المضافِ إليه، والتقدير: وبعد ذلك؛ كقوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] على قراءة الضم، وهي: المشهورة

(2)

.

قوله: (أَعاننا اللهُ وإيَّاك على رِعاية ودائِعه، وحِفظِ ما أَودعَنا من شرائعه): هذه دعوةٌ حسنةٌ، فقوله:(أَعاننا اللهُ وإيَّاك): دعاءُ استعانة.

فأعانَ: فعلُ ماض، لكنه يؤتى به ويساوي: أسأل اللهَ أنْ يعينني وإياك، فالدعاءُ تارةً يأتي بفعل الطلب؛ اللهمَّ أعني، أو أستعينك يا اللهُ، أو بصيغةِ الفعلِ الماضي.

والمقصود بقول المؤلف: (على رِعاية ودائِعه) هي: الأمانات التي اؤْتُمِنَّا عليها، وربّما أَنَّ المؤلّفَ يُشيرُ إلى أنَّ هذا المُعلِّمَ مستودعٌ؛ وأنَّ الأولادَ وديعةٌ عنده، قد عُهِدَ إليه بتعليمهم، أو يريد ما هو أعمُّ من ذلك.

(وحِفظِ ما أَودعَنا من شرائعه): هذا تخصيصٌ بعد تعميمٍ، يعني: أنَّ الإنسان مودعٌ لودائعَ كثيرة، فنِعَمُ اللهِ، وما استرعي عليه من أهلٍ وولدٍ، وما عُهد إليه بحفظه؛ كلُّ ذلك وديعةٌ.

(1)

ينظر: الكتاب لسيبويه (3/ 137، 139)، والجنى الداني (ص 522)، وشرح ابن عقيل على الألفية (4/ 52).

(2)

وقرئ شاذًا بالكسر فيهما كما في قراءة أبي السَمَّال، والجحدري اليماني. ينظر: الكامل في القراءات العشر والأربعين الزائدة (ص 616)، وشواذ القراءات للكرماني (ص 374)، والبحر المحيط في التفسير (8/ 375).

ص: 30

ولكنْ أعظمُ هذه الودائعِ ما استودعَ اللهُ عبادَه من دينه وشرعه، فالواجباتُ الشرعيةُ أمانةٌ، قال الله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأحزاب: 72].

ولهذا قال: (على رِعاية ودائِعه، وحِفظِ ما أَودعَنا من شرائعه)، فالإنسانُ مسؤولٌ عن علمه وعمله؛ فكلُّه أمانةٌ، وعليه أنْ يقومَ بواجب علمه، وبسائر ما أوجبه اللهُ.

قوله: (فإنك سألتني أن أَكتبَ لك جملةً مختصرةً من واجب أمورِ الديانة، مما تَنطقُ به الألسنةُ، وتعتقدُه القلوبُ، وتعملُه الجوارحُ): هذا تصريحٌ بسببِ التأليف، فقوله:(من واجب أمور الديانة): يعني: في أمور الديانة، والديانةُ: التَّديُّنُ، فهي مصدرٌ؛ مثل العناية، والصناعة، يقال: يفعل هذا ديانةً؛ يعني تَدَيُّنًا وعبادةً.

وقوله: (مما تَنطقُ به الألسنةُ، وتعتقدُه القلوبُ، وتعملُه الجوارحُ): لأنَّ الدِّينَ يتعلَّقُ بهذه الجوانب، فمثلما نقول في الإيمان: اعتقادٌ بالجنان، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان؛ أي: بالجوارح.

فأمورُ الديانةِ تتعلَّقُ بهذه الجوارح والجوانح

(1)

، وتحقيقُ القيامِ بدِينِ الله إنما يكون بالاعتقاد الصحيح والقولِ الحقِّ، والعملِ الصالحِ ظاهرًا وباطنًا.

(1)

مراد شيخنا - حفظه الله - بالجوانح هنا: البواطن. وأصل الجوانح: أوائل الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر، كالضلوع مما يلي الظهر. ينظر: لسان العرب (2/ 429).

ص: 31

قوله: (وما يتَّصلُ بالواجب من ذلك من السُّنن؛ من مؤكَّدِها ونوافلِها ورَغائبِها، وشيءٍ من الآداب منها، وجُمَلٍ من أُصول الفقهِ وفنونِه على مذهب الإمام مالكِ بنِ أنسٍ - رحمه الله تعالى - وطريقته):

هذا وعدٌ من المؤلف بأنه سيذكر في هذه الرسالة ما طلبه السائلُ من بيان الواجبات الشرعية، وما يتَّصلُ بها من السنن المؤكدة وغير المؤكدة، وهو ما سمَّاه نوافلَ، وما يتبع ذلك من الآداب والرغائب، وأنه رحمه الله يفعل ذلك إجابةً للسائل، ورجاءَ ثوابِ اللهِ الذي يناله السائلُ والمجيبُ، وكلُّ مَنْ كان له يدٌ في نشر ذلك العلم؛ فهذا يقتضي أنَّ الرسالةَ قد تضمَّنت - على اختصارها - جميع أنواعِ المعاني الشرعية؛ اعتقادية وقولية وعملية، من واجباتٍ وسننٍ وآدابٍ وفضائلَ

(1)

.

ولا بدَّ أنَّه قد اقتصر على ما رآه من المهمات، وإلَّا فالعلمُ واسعٌ، وممَّا يُبَيِّنُ أنه قصد إلى ذكر هذه الجوانب على وجه الاختصار أَنَّه كتبه للأولاد الذين يتعلَّمون القرآنَ، وهم الأطفال، وتكون أعمارُهم من سبعٍ أو من ثمانٍ فما فوق إلى ما قبل البلوغ، وهؤلاء لا يناسبُهم إلَّا الاختصارُ والإيجازُ.

ويقول أيضًا إنه في هذا كلِّه قد مشى على مذهب الإمامِ مالكٍ رحمه الله وطريقتِه.

(1)

وجملتها (48) ترجمةً، منها بغير لفظ الباب، وقيل: إن عدد أبواب هذا المتن (44) بابًا، بعضها ملفوظ به وبعضها مقدر، وعدد مسائلها (4000) مسألة. ينظر: شرح التنوخي (1/ 16)، وشرح زروق (1/ 29)، والفواكه الدواني (1/ 57).

ص: 32

وأهلُ العلمِ لهم مذاهبُ واختياراتٌ واجتهاداتٌ وطرائقُ في فهم الأدلَّة؛ فكُلٌّ له اجتهادُه، وقد اشتهر في الفقه أربعةٌ من العلماء؛ وهم المعرفون بالأئمة الأربعة: أبو حنفية ومالك والشافعي وأحمد، فصار أصحابُهم مِنْ بعدهم على مذاهبهم، وبهذا وُجدت المذاهبُ الأربعةُ وصارت هذه المذاهبُ مدارسَ، فكلُّ طالب علمٍ يتخصص بمذهب من هذه المذاهب، وتفرَّقَ أصحابُ هذه المذاهب في البلاد حسب مَنْ وُجد فيها من أصحاب الأئمة الأربعة، ومن ذلك: اشتهارُ مذهبِ أبي حنفية في المشرق، ومالك في المغرب، وهذا أكثرُ ما يجري في الأمور العمليَّةِ.

أمَّا مسائل الاعتقادِ؛ فالأصلُ أنَّهم فيها على منهجٍ وطريقٍ واحدٍ، والتباعدُ والاختلافُ إنَّما يجري في المسائل العمليَّةِ كما هو ظاهرٌ، فأهلُ السنَّةِ والجماعةِ ليس بينهم خلافٌ في أصول مسائلِ الاعتقادِ، لكنْ يختلفون في المسائل العمليَّة، وهي: أبواب الطهارة، والعبادات والمعاملات.

والإمامُ ابن تيميّة يُقرِّرُ في كتابه «الاستقامة» أنَّ ما يتفقُ عليه أهلُ العلم هو أعظمُ وأكثرُ ممَّا يختلفون فيه؛ خلافًا لمن يظنُّ خلافَ ذلك، فيبدو للقارئ أنَّ مسائلَ الخلاف أكثرُ من مسائل الاتفاق، والأمرُ بالعكس، وليُرجع إلى هذا الموضع؛ فإنَّه نافعٌ في هذا المقام

(1)

.

(1)

ينظر: الاستقامة (1/ 55 - 65).

ص: 33

قوله: (مع ما سهَّلَ سبيلَ ما أَشكل من ذلك من تفسير الرَّاسخين، وبيانِ المتفقِّهين):

أي: مع ذِكر ما يسهل ذلك، من شروح الراسخين في العلم وبيانِ المتفقّهين. والراسخون في العلم: هم المتمكِّنون فيه، ومُراده بالمتفقِّهة: العالمون بالفقه، ولا يريد بالمتفقِّه المعنى الشائع وهو المشتغلُ بالفقه وإن لم يكن فقيهًا؛ لأنَّه عطف المتفقهة على الراسخين في العلم، والذين لديهم القدرةُ على بيان ما أشكلَ من المسائل هم المعتنون بالفقه، المجتهدون فيه.

قوله: (لِمَا رَغِبْتَ فيه مِنْ تعليم ذلك للوِلدان، كما تُعلِّمُهم حُروفَ القرآنِ): وقوله هذا كما تقدَّم؛ ليجمعَ لهم بين تعليم حروفِ القرآنِ وألفاظِه؛ ليُتقنوا النُّطقَ به، ويُضيف إلى ذلك تعلُّمَ أصولِ الاعتقادِ ومسائلَ في أبواب الفقه، وهكذا ينبغي أن لا يُقتصر في تعليم الشباب في حِلق التحفيظِ على حروف القرآن، بل ينبغي أن يُعَلَّمُوا أيضًا من الفقه، ومسائل العقيدةِ، فيقرَّرُ لهم بعض المختصرات في العقيدة والفقه؛ لتعليمهم أحكامَ دينهم، فإنَّ هذا أيضًا هو من مقاصد تعلُّمِ القرآن، فليس المقصودُ الوحيدُ من تعليم الأولاد القرآن تعلُّمَ ألفاظِه كما هو الحاصلُ من كثيرٍ من المسلمين؛ يقفون عند تعليم ألفاظ القرآن، ويَعنونَ ببعض التجويد فقط، وينشغلونَ بدراسة التجويدِ والقراءات عن العناية بالأحكام المأخوذة من القرآن والسنَّة.

ص: 34

وقد كان الصحابةُ والتابعون يتعلمونَ القرآنَ ولا يتجاوزون عشرَ آياتٍ حتى يتعلَّموا معانيهنَّ والعملَ بِهنَّ

(1)

، فينبغي أنْ يُلتفتَ إلى هذا المنهج وهو تعليمُ المعاني والأحكام.

(1)

قال أبو عبدُ الرَّحمن السُّلَمي: «حدثنا الذين كانوا يُقرِئونَنَا القرآنَ؛ كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرِهما أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشرَ آياتٍ لم يجاوِزُوها حتى يتعلَّموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلَّمْنَا القرآن والعلم والعمل جميعًا» . أخرجه ابن أبي شيبة (29929)، وأحمد (23482)، والطبري في «تفسيره» (1/ 74)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (1451) من طرق، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي.

وأخرجه الطحاوي (1450)، والحاكم (2047) من طريق عبد الله بن صالح، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، به. وعبد الله بن صالح وشريك النخعي سيئا الحفظ، وعطاء فيه لين واختلاط. ينظر تراجمهم بالتوالي في: ميزان الاعتدال (2/ 440 رقم 4383)، و (2/ 270 رقم 3697)، و (3/ 70 رقم 5641).

وأصح منه: ما أخرجه الطبري (1/ 74) من طريق الحسين بن واقد، عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن ابن مسعود، به.

وله شاهد عن ابن عمر قال: «لقد عشنا بُرهةً من دهرنا وإن أحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلَّمُ حلالَها وحرامَها، وما ينبغي أن يُوقف عنده فيها، كما تعلمون أنتم القرآن» ثم قال: «لقد رأيت رجالًا يؤتى أحدهم القرآن؛ فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما أمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، ينثره نثر الدقل!» أخرجه الحاكم (101) من طريق عبيد الله بن عمرو الرقي، عن زيد بن أبي أنيسة، عن القاسم بن عوف الشيباني، به. وقال:«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة ولم يخرجاه» وليس كما قال، فالقاسم بن عوف الشيباني: لم يرو له البخاري شيئًا، ولم يرو له مسلم إلا حديثًا واحدًا ليس له عنده غيره؛ كما قال المزي في «تهذيب الكمال» (23/ 401 رقم 4805)، وقد تكلَّم فيه بعض أهل العلم، لكنه يعتبر به.

ص: 35

وليس المقصودُ من تعليم المعاني تتبُّعَ ما في كتب التفسير من تشقيقات، والتوسعَ فيما يخرجُ به الإنسانُ عن مقصود التفسير؛ باللغويات والإعرابات وما أشبه ذلك.

ولهذا: عندما نُسْتَنْصَحُ عن كتب التفسير؛ ننصحُ بتفسير ابنِ كثيرٍ، وبتفسير الشيخِ عبدِ الرَّحمن السعدي؛ لأنهما أبعد عن التشقيقات.

فكثيرٌ من المفسرين يوغل في النواحي اللغويَّةِ؛ البلاغيةِ، والنحويةِ، وسرِّ التقديمِ والتأخيرِ، وما أشبهَ ذلك من الجوانب التي تَصرِفُ العقلَ عن المعاني المقصودة للقرآن، لكنَّ أصحابَ التخصّصِ الأمرُ في حقّهم أوسعُ.

قوله: (ليَسبقَ إلى قلوبهم من فهم دينِ اللهِ وشرائعه، ما تُرجى لهم بركتُه، وتُحمَدُ لهم عاقبتُه):

هذا معنًى جميلٌ؛ أي: لتسبقَ علومُ العقيدة الصحيحة والأحكام الشرعية إلى عقولهم، قبل أنْ يسبقَ إليها همومُ الدنيا، وأطماعُها، أو يسبقَ إلى عقولهم أفكارٌ دخيلةٌ وآراءُ سقيمةٌ يتلقَّونها من هنا وهناك. فأشارَ المؤلّفُ إلى هذا النوع من السبق وعظيمِ أثرِه؛ أي: سبقِ الخيرِ إلى القلوب.

قوله: (فأَجبتُك إلى ذلك؛ لِمَا رَجوتُه لنفسي ولك من ثواب مَنْ عَلَّمَ دينَ اللهِ أو دعا إليه):

أي: أجبتك إلى ما طلبتَ رجاءَ ثوابِ اللهِ الموعودِ لمن تعلَّمَ دينَ الله وعلَّمَه، ودعا إليه، وهكذا ينبغي أنْ يكون الغايةُ من التعلُّمِ والتعليمِ هو

ص: 36

(1)

أخرجه البخاري (38)، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (37)، ومسلم (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 37

‌وصية المؤلف بتعليم الصغار أصول العقيدة والعبادة

(واعلمْ أنَّ خيرَ القلوبِ أَوعاها للخير، وأَرجى القلوبِ للخير ما لم يَسبقِ الشَّرُّ إليه، وأَولى ما عُنِيَ به الناصحون ورغِبَ في أَجره الراغبون: إِيصالُ الخيرِ إلى قلوب أولادِ المؤمنين؛ ليرسخَ فيها، وتنبيهُهم على معالمِ الديانةِ، وحدودِ الشريعةِ؛ ليُراضوا عليها، وما عليهم أن تعتقدَه من الدِّين قلوبُهم، وتعملَ به جوارحُهم؛ فإنَّه رُويَ أنَّ تعليمَ الصِّغارِ لكتاب اللهِ يُطفئُ غضبَ اللهِ، وأنَّ تعليمَ الشيء في الصِّغَر كالنَّقش في الحَجر.

وقد مثَّلتُ لك مِنْ ذلك ما يَنتفعون - إن شاء اللهُ - بحفظه، ويَشرُفونَ بعلمه، ويسعدون باعتقاده والعملِ به.

وقد جاء أن يؤمَروا بالصلاة لِسَبع سنين، ويُضرَبوا عليها لعشرٍ، ويُفرَّقَ بينهم في المضاجع، فكذلك ينبغي أن يَعلموا ما فرضَ اللهُ على العباد من قولٍ وعملٍ قبل بُلوغهم؛ ليأتيَ عليهم البلوغُ وقد تمكَّن ذلك من قلوبهم، وسكنت إليه أنفسُهم، وأَنِسَتْ بما يعملون به من ذلك جوارحُهم.

وقد فرض اللهُ سبحانه وتعالى على القلب عملًا من الاعتقادات، وعلى الجوارح الظاهرةِ عملًا من الطاعات، وسأُفصِّلُ لك ما شرطتُ لك ذكرَه بابًا بابًا؛ ليَقربَ من فهم مُتعلِّميه - إن شاء الله تعالى -.

ص: 38

وإيَّاه نستخيرُ وبه نستعينُ، ولا حول ولا قوَّةَ إلَّا بالله العليِّ العظيمِ، وصلَّى اللهُ على سيدنا محمَّدٍ نبيِّه، وآلِه وصحبِه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا).

قوله: (واعلمْ أنَّ خيرَ القلوبِ أَوعاها للخير): يعني: أقبلَها للخير، وأكثرَها وعيًا وإدراكًا له.

قوله: (وأَرجى القلوبِ للخير ما لم يَسبقِ الشَّرُّ إليه): هذه لفتةٌ مهمَّةٌ من المؤلف وحكمةٌ قيّمةٌ، فأرجى القلوب إلى الخير؛ يعني: أحراها بالخير، والصلاح، وبالمعاني الجليلة، والاعتقاداتِ الصحيحةِ والأعمال الصالحة؛ هي القلوب التي لم يسبق إليها الشرُّ كتأثير الأبَوين بغرس الباطل في قلب الناشئ كما في الحديث:«فَأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه»

(1)

، فإنَّ القلبَ الذي يسبق إليه الشرُّ ويدخلُه ويحلُّه؛ لا يقبل الخيرَ إذا وَردَ عليه ودُعي إليه؛ فإنَّ الشرَّ ضدُّه، والضدان لا يجتمعان، وكذلك العكس، فالقلبُ الذي يسبق إليه الخيرُ ويستقرُّ فيه فإنَّه يدفع الشرَّ إذا وَردَ عليه أو دُعي إليه، ولهذا أرشد المؤلفُ إلى المبادرة بغرس الخيرِ في قلوب الناشئةِ، والمقصود: أنَّ الإنسان الخالي قلبه عن الاعتقادات الباطلة إذا عُرِضَ عليه الخيرُ تَقَبَّلَه؛ لأنَّ هذا هو مُوجبُ الفطرةِ، يقال: فلانٌ على الفطرة، فالقلوبُ مفطورةٌ على حبِّ الخير وإيثارِ الحقِّ، لكن

(1)

أخرجه البخاري (1358) - واللفظ له -، ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 39

إذا سبقَ إليها الشرُّ أفسدَ هذه الفطرة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مولودٍ إلا يُولد على الفطرة فَأبواهُ يُهَوِّدانهِ أَوْ يُنصِّرانه أَوْ يُمَجِّسانه» .

ومن المعلوم أنَّ الإنسان الذي يولدُ بين أبوين مسلمين؛ تَقَبُّلُه للخير - إذا تفتَّحَ عقلُه - معروفٌ وظاهرٌ، لكن مَنْ يولدُ بين كافرين إذا بلغ وقد تغيَّرتْ فطرتُه، فيحتاجُ في نقلِه من يهوديَّته ونصرانيَّته إلى جهدٍ جهيدٍ، فأرجى القلوب للخير وقبوله ووعيه ما لم يسبقِ الشرُّ إليه.

قوله: (وأَولى ما عُنِيَ به الناصحون ورغِبَ في أَجره الراغبون: إِيصالُ الخيرِ إلى قلوب أولادِ المؤمنين؛ ليرسخَ فيها):

أي: أولى ما عُنِيَ به الناصحون ورغِبَ في أجره الراغبون إيصالُ الخيرِ إلى أولاد المسلمين؛ ليرسخَ فيها ويتمكَّنَ ويسبقَ الشرَّ؛ لتسلمَ فِطَرهم وتستقيمَ وتستنيرَ بالخير، والعلم عقولهم.

وهذا لا شكَّ أنه خير ما يُقَدَّمُ للصغار الناشئين، وهو تقديمُ العلمِ والأدب والتربية الصالحة.

وهذا الخيرُ - كما تقدَّم - شاملٌ للأمور العلميَّةِ الاعتقاديَّة، والأمورِ العمليةِ من الأقوال السديدةِ، والأعمالِ الرشيدةِ، فالخيرُ الدينيُّ شاملٌ للمسائل العلميَّة والاعتقادات الصحيحة، وللأعمال الصالحة القلبيَّة، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان.

قوله: (وتنبيهُهم على معالمِ الديانةِ، وحدودِ الشريعةِ؛ ليُراضوا عليها، وما عليهم أن تعتقدَه من الدِّين قلوبُهم، وتعملَ به جوارحُهم؛ فإنَّه رُويَ

ص: 40

أنَّ تعليمَ الصِّغارِ لكتاب اللهِ يُطفئُ غضبَ اللهِ

(1)

، وأنَّ تعليمَ الشيء في الصِّغَر كالنَّقش في الحَجر

(2)

:

(1)

رواه الربيع بن حبيب في «مسنده» (23) من طريق أبي عُبيدة، عن جابر بن زيد، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم. والربيع بن حبيب الإباضي، مجهول ليست له ترجمة، وكذلك شيخه أبو عبيدة مسلم بن كريمة، وكتابه «المسند» هذا مشحون بالأحاديث المنكرة والباطلة، ثم هو منقطع بين أبي عبيدة وجابر بن زيد؛ لعدم الدليل على تتلمذ أبي عبيدة على جابر بن زيد. ينظر: الضعيفة (13/ 659، رقم 6302)، ومسند الربيع بن حبيب الإباضي دراسة نقدية، لسعد آل حميد.

وروي بلفظ آخر: «إن الله عز وجل لا يغضب، فإذا غضب سبَّحت الملائكة لغضبه، فإذا اطلع إلى الأرض فنظر إلى الولدان يقرؤون القرآن تملأ رضا» . أورده ابن عدي في «الكامل» (5/ 353 رقم 1018) في ترجمة عبد الله بن أيوب بن أبي علاج وقال: منكر. وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 182 رقم 266) وقال: لا يصح وألفاظه منكرة. والذهبي في «الميزان» (2/ 394) في ترجمة المذكور (4217) وقال: متَّهم بالوضع كذَّاب مع أنه من كبار الصالحين، ثم ذكر الحديثَ فقال عقبه: هذا كذب بيّن. ووافقه الحافظ ابن حجر في «اللسان» (4/ 438، ترجمة 4167).

(2)

روي بلفظ: «مثل الذي يتعلم العلم في صغره كالنقش في الحجر، ومثل الذي يتعلم العلم في كبره كالذي يكتب على الماء» . وعزاه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 125) للطبراني في «الكبير» عن أبي الدرداء، به. وقال الهيثمي:«فيه مروان بن سالم الشامي ضعفه البخاري ومسلم وأبو حاتم» . ومروان بن سالم الجزي هذا متهم؛ كما يشير إلى ذلك قول البخاري فيه: «منكر الحديث» . التاريخ الكبير (رقم 1602)، ورماه أبو عروبة الحراني والساجي بالوضع. وينظر: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (رقم 1255)، والمجروحين لابن حبان (3/ 13)، والميزان (4/ 90، رقم 8425)، وتهذيب التهذيب (رقم 171). وقال الألباني في الضعيفة (618):«موضوع» .

ورواه ابن الجوزي من طريق هناد بن إبراهيم النسفي بسنده عن بقية بن الوليد، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم العلم وهو شاب كان بمنزلة وسم في حجر، ومن تعلمه بعد كبر =

ص: 41

(ليُراضوا): من الرياضة والترويض؛ يعني ليُرَوَّضُوا ويَرْتَاضُوا على هذه الأخلاقِ والآدابِ، وأداءِ هذه الواجبات، وأشارَ - بهذه المناسبة - إلى حديثين، أحدُهما ضعيفٌ، والآخرُ موضوعٌ كما نصَّ على ذلك أهلُ العلم.

وقول المؤلف: (فإنَّه رُويَ أنَّ تعليمَ الصِّغارِ لكتاب اللهِ يُطفئُ غضبَ اللهِ، وأنَّ‌

‌ تعليمَ الشيء في الصِّغَر كالنَّقش في الحَجر):

معناهما - وخصوصًا الثاني - صحيحٌ؛ فالتعليمُ والتعلُّمُ في الصِّغر أثبتُ من التعلُّم في الكبر، وهذا أمرٌ محسوسٌ ومعروفٌ من الواقع؛ لأنَّ الشابَّ مَداركُه ومَلكاتُه وذِهنُه في حال قوَّتِه، والعوائقُ والشواغلُ بعيدةٌ منه، بخلاف الكِبَر، فالكبيرُ أوَّلًا: قواهُ الذهنيّة كقواه الجسدية قد وَهنتْ وضَعُفتْ. وثانيًا: أنَّه قد امتلأَ ذِهنُه بالشواغل، والذِّهنُ - يقولون - مثلُ الإناءِ؛ إذا امتلأَ الإناءُ لا تستطيعُ أنْ تضيفَ إلى ما فيه شيئًا.

أمَّا قوله: (أنَّ تعليمَ الصِّغارِ لكتاب اللهِ يُطفئُ غضبَ اللهِ): فهذا أيضًا لم يصحَّ حديثًا، لكن قد يُستشهدُ لمعناه بأنَّ هذا من نوع الصدقة، وفي الحديث:«وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ؛ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ»

(1)

. والصَّدقةُ بالعلم على الصغار وغيرهم أعظمُ من الصَّدقة بالمال.

= فهو بمنزلة كتاب على ظهر الماء». ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناد لا يُوثَّق، وبقية مدلس، ويروي عن الضعفاء، وأصحابه يُسَوُّون حديثه ويحذفون الضعفاء منه. ينظر: الموضوعات (1/ 353 - 354 رقم 435)، والضعيفة رقم (619).

(1)

أخرجه أحمد (22133)، والطبراني في «الكبير» (20، رقم 200) من طريق حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن شهر بن حوشب، عن معاذ، به. وعاصم بن أبي النجود فيه لين، وشهر بن حوشب مختلف في توثيقه وتضعيفه، ولم يدرك معاذًا. =

ص: 42

قوله: (وقد مثَّلتُ لك مِنْ ذلك ما يَنتفعون - إن شاء اللهُ - بحفظه): يعني: بيَّنتُ لك ممَّا طلبتَ ممَّا يحتاجُ الولدانُ إلى تعليمِه وتلقينِه وتربيتِهم وترويضِهم عليه، مثَّلتُ لك من ذلك ما يُرجَى أنْ يَنتفعوا به ويعودَ عليهم بالخيرِ والصلاح، ويستشهد على مسيسِ الحاجة إلى تعليمِ الأولادِ أمورَ دينهم بالحديثِ المشهورِ المعروف:«مُرُوا أَولادَكم بالصَّلاة لِسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع»

(1)

.

= وأخرجه عبد الرزاق (20303) - ومن طريقه أحمد (22016) -، والترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، والنسائي في «الكبرى» (11330) من طريق معمر، عن عاصم، عن أبي وائل، عن معاذ، به. وأبو وائل لم يسمع معاذًا؛ كما حقَّقه ابن رجب في «جامع العلوم» (2/ 135). ثم إن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه، وقال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب.

وأخرجه البزار (27 - كشف الأستار)، وابن حبان (214) من طريق علي بن الجعد، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن معاذ، به. وعبد الرحمن بن ثابت ضعيف، ومكحول لم يسمع من معاذ. وله طرق أخرى عن معاذ، قال ابن رجب: كلها ضعيفة. ينظر: جامع العلوم والحكم (2/ 135).

وللحديث شاهد عن: جابر، وأنس، وصححه الألباني بمجموع طرقه. ينظر الصحيحة (3284)، وإرواء الغليل (413).

(1)

أخرجه أحمد (6689)، وأبو داود (495) و (496)، والدارقطني (887)، والحاكم (708)، والبيهقي (5157) من طرق، عن سوار بن داود، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به.

وله طريق آخر من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني، عن أبيه، عن جده بنحوه: أخرجه أبو داود (494)، والترمذي (407)، والدارقطني (886)، والحاكم (721)، والبيهقي (5156). قال الترمذي:«حديث حسن» . وقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم» . وقال البيهقي في «خلافياته» (2/ 241، رقم 1462): «إسناده صحيح؛ فقد احتج مسلم بعبد الملك هذا عن أبيه عن جده، روى لهم في الصحيح» . وللحديث شواهد أخرى لا تخلو من مقال تنظر في: نصب الراية (1/ 296)، والبدر المنير (3/ 238)، والتلخيص الحبير (2/ 513، رقم 294)، وإرواء الغليل (1/ 266، رقم 247).

ص: 43

قوله: (وقد جاء أن يؤمَروا بالصلاة لِسَبع سنين، ويُضرَبوا عليها لعشرٍ، ويُفرَّقَ بينهم في المضاجع): يشير إلى حديث: «مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عَشْر، وفرقوا بينهم في المضاجع» ، ومعلوم أن هذا ليس لوجوب الصلاة عليهم فإنها لا تجب إلا إذا بلغوا، ولكن لترويضهم على أداء الصلاة حتى يعتادوها فإذا بلغوا، وجرى عليهم قَلمُ التكليف؛ كانوا متهيئين لأداء الواجبات فكانت سهلة عليهم فيُؤمرونَ بها ثلاثَ سنين بدون تأديبٍ، وبالعشرِ يُضرَبون ويُؤَدَّبون؛ لأنَّ البلوغَ قد قَرُبَ، فيمكن أنْ يبلغَ الإنسانُ في الإحدى عشرة سنة، أو الاثنتي عشرة سنة، فابن عشرٍ قد شارفَ على البلوغ، ولهذا يُقال: إنَّه ناهزَ البلوغَ؛ يعني: قاربَ البلوغَ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:«وفرِّقوا بينهم في المضاجع» ؛ يعني: إذا تمَّ لهم عشرٌ؛ فاضربوهم لأداء الصلاة، وفرِّقوا بينهم في المضاجع؛ أي: الفُرُش، فلكلِّ ابنٍ أو بنتٍ فِراشٌ، فيُفرَّقُ بين البنين مع بعضهم، وبين البنات مع بعضهنَّ، ويُفرَّقُ بين البنين والبنات، فأمرَ صلى الله عليه وسلم بأمرين عظيمين: الأمرُ بالصلاة والحمل عليها، وتجنيبهم دواعي الشرِّ ومداخلَ الشيطانِ.

فالمؤلفُ يستشهدُ بهذا على ورودِ الشريعةِ بتربية الصِّغارِ وتعليمهم قبلَ البلوغِ؛ ليستعدّوا وليعتادوا الخيرَ، وكما يُؤمرون بالصلاةِ يُؤمرون بالصيامِ، ولهذا كان الصحابة يأمرون أولادهم بصيام يوم عاشوراء لمَّا فُرض على الناس قبل فرض رمضان

(1)

، وكذا يجب أن يُنهى الصغار

(1)

أخرج البخاري (1960) واللفظ له، ومسلم (1136) عن الربيع بنت معوذ، قالت: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: «من أصبح مفطرًا، =

ص: 44

عن المنكرات، ولا يُقالُ: هذا صغيرٌ، وإن كانوا لو فعلوه لم يأثموا، ولم يستوجبوا عقابًا، لكن يجبُ على الآباءِ والأمهات أن يأمروهم وينهوهم، وفي هذا تربيةٌ لنفوسهم، وهي أهمُّ من تربيةِ أبدانهم بأنواع الأغذية وأسباب الوقاية.

قوله: (فكذلك ينبغي أن يَعلموا ما فرض اللهُ على العباد من قولٍ وعملٍ قبل بُلوغهم؛ ليأتيَ عليهم البلوغُ وقد تمكَّن ذلك من قلوبهم، وسكنت إليه أنفسُهم، وأَنِسَتْ بما يعملون به من ذلك جوارحُهم):

(من قولٍ): يعني: اعتقادٍ، فالقولُ يُطلقُ على الاعتقادِ كما يقولُ الأئمة:«الإيمانُ قولٌ وعملٌ» ، قولُ القلبِ واللسانِ، وعملُ القلبِ والجوارحِ

(1)

، فهكذا ينبغي أن يتعلَّمُوا ما فرضَ اللهُ عليهم من أمرِ الديانةِ من قولٍ وعملٍ.

(قبل بُلوغهم؛ ليأتيَ عليهم البلوغُ وقد تمكَّن ذلك من قلوبهم): هذا أمْرٌ معروفٌ في التربية؛ فإهمالُ الصغير وتركُ الحبلِ على الغارب له

(2)

؛ يتصرفُ بنزواتِه ونزعاتِه وجهلِه، فهذا فيه إضرارٌ به، وجِنايةٌ من وَلِيِّه عليه، حتى ولو كان الصبيُّ يتيمًا فإنه يجب أمرُه بالصلاة وضربُه عليها،

= فليتم بقية يومه ومن أصبح صائمًا، فليصم»، قالت: فكنا نصومه بعد، ونُصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار.

(1)

ينظر: (ص 158).

(2)

الغارب هو مُقدَّم السّنام في البعير، يُقَال: ألقيت حبله على غاربه إِذا تركته يذهب حَيْثُ يُرِيد، ويُضرب به المثل عند منح الحرية الكاملة، من دون قيد أو شرط. ينظر: جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (1/ 382).

ص: 45

فهذا من الإحسان إليه، وبعضُ الناس يتحرَّجُ من ضَرْبِ اليتيم، فيترك تربيتَه رحمةً به، وهذا خطأٌ؛ فإنَّ تربيتَه إحسانٌ إليه، وإهمالَه إساءةٌ إليه، فعامِلِ اليتيمَ بنحو ما تُعامل به أولادَك من وجوهِ وطرقِ التربيةِ البدنيةِ والروحيةِ، حتى إذا ارتاضَت نفوسُهم، وسكنَت جوارحُهم، وانقادَت طبائعُهم لِمَا كُلِّفُوا به؛ أدركهم البلوغُ وهم مستعدُّون لأداء ما افترضَ اللهُ عليهم، والحمدُ لله.

وهنا مسألة: الناشئُ الذي وُلد على الإسلامِ ويشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، إذا بلغَ هل يُكلَّفُ أن ينطقَ الشهادتين؟

الجواب: لا يكلَّف بذلك، فقد حصلَ منه النطقُ وللهِ الحمدُ، ويُشبِّهون هذا بمَن توضَّأ قبل دخولِ الوقت فإنَّه لا يُؤمَر بتجديده إذا دخلَ الوقتُ، فهذا قد أتى بالشهادتَين قبل التكليف، وصحَّ إسلامُه، فلا يحتاجُ إلى أن يُجدِّدَ إسلامَه إذا بلغَ؛ لأنَّه قد جاءَ بالإسلامِ وأتى بالشهادتين ونطقَ بهما قبل وجوبِهما عليه

(1)

.

قوله: (وقد فرض اللهُ سبحانه وتعالى على القلب عملًا من الاعتقادات، وعلى الجوارح الظاهرةِ عملًا من الطاعات.

وسأُفصِّلُ لك ما شرطتُ لك ذكرَه بابًا بابًا؛ ليَقربَ من فهم مُتعلِّميه - إن شاء الله تعالى -. وإيَّاه نستخيرُ وبه نستعينُ، ولا حول ولا قوَّةَ إلَّا بالله العليِّ العظيمِ، وصلَّى اللهُ على سيدنا محمَّدٍ نبيِّه، وآلِه وصحبِه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا):

ص: 46

أشارَ المُصنفُ إلى تعلُّقِ أحكامِ الدين وأمورِ الديانةِ بالقلبِ، واللسانِ، والجوارحِ - كما تقدَّمَ -، وهذه المُتعلَّقاتُ منها ما هو فرضٌ، ومنها ما هو مُستحبٌّ. فأعمال القلوب - مثلًا - منها ما هو واجبٌ، ومنها ما هو مُستحبٌّ، لكن الإيمان بأصول الإيمان على سبيل الإجمال فرض عين.

فنقول: الإيمانُ باللهِ، وملائكتِه، وكتبِه، ورسله، واليومِ الآخر، وبالقدرِ خيرِه وشرِّه، على سبيل الإجمال فرضُ عينٍ على كلِّ مُكلَّفٍ، لكنَّ معرفتَها على سبيلِ التفصيل فرضُ كفايةٍ، فكثيرٌ من المسلمين - أو أكثرُهم - لا يعرفون هذه الأصولَ تفصيلًا، إنما يعرفُ هذا أهل العلم، فإنهم يعرفُون من الإيمانِ بهذه الأصول تفصيلًا ما لا يعرفهُ العامَّةُ؛ لِعِلمهم بالكتاب والسنَّة، وهكذا أعمالُ القلوب والجوارح؛ منها ما هو فرضٌ، ومنها ما هو مُستحبٌّ.

و‌

‌اسمُ الدِّينِ شاملٌ لكلِّ ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم،

والرسولُ عليه الصلاة والسلام في حديثِ «جبريلَ» إنما ذكرَ مراتبَ الدِّينِ؛ وهي: الإسلام والإيمان والإحسان، وأصولَ كلِّ مرتبة؛ ثم قال:«فإنَّه جِبريلُ، أَتاكم يُعَلِّمُكم دِينكم»

(1)

، يعني: ما بيَّنه صلى الله عليه وسلم في تفسير الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ، لكنَّ تفصيلَ هذه الأصولِ مُبيَّنةٌ في الكتاب والسنَّةِ.

فمثلًا: الصلاةُ والزكاةُ والصيامُ مُجمَلةٌ في الحديث، لكن تحتاجُ إلى تفصيل أحكامِها، فمنه ما هو مُبيَّنٌ في القرآنِ وهو قليلٌ، وأكثرُه

(1)

أخرجه مسلم (8 - 1) - بهذا اللفظ - من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

ص: 47

بَيَّنَهُ الرسولُ بسنَّتِه القوليةِ والفعليةِ، كما قالَ:«صَلُّوا كَمَا رَأَيتمونِي أُصلِّي»

(1)

، وكذلك الحجِّ؛ قال تعالى:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، وجملةٌ من أحكامِ الحجِّ مُبَيَّنَةٌ في القرآنِ، وأكثرُه إنما بَيَّنته السُّنةِ، فحجَّ عليه الصلاة والسلام فعلَّم الناس المناسك، وقال:«لتأخذوا مناسِكَكُم»

(2)

، فنسألُ اللهَ البصيرةَ في الدِّين، والفقهَ فيه.

* * * * *

(1)

أخرجه البخاري (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم (1297) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

ص: 48

‌ما يجب تنزيه الله عنه

(باب ما تنطقُ به الألسنةُ وتعتقدُه الأفئدةُ من واجب أمورِ الديانات

من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان: أنَّ اللهَ إلهٌ واحدٌ لا إلهَ غيره، ولا شبيهَ له، ولا نظيرَ له، ولا ولدَ له، ولا والدَ له، ولا صاحبةَ له، ولا شريكَ له، ليس لأوَّليَّته ابتداءٌ، ولا لآخريَّته انقضاءٌ، ولا يبلغ كُنهَ صفتِه الواصفون، ولا يُحيطُ بأمره المتفكِّرون، يعتبرُ المتفكرون بآياته، ولا يتفكَّرون في ماهية

(1)

ذاته، ولا يُحيطون بشيءٍ من علمه إلَّا بما شاء، وَسِعَ كُرسيُّه السماواتِ والأرض، ولا يؤودُه حِفظُهما وهو العليُّ العظيمُ).

هذا هو البابُ الأولُ من كتابِ «الرسالة» بعد الخطبةِ والمقدمة، وخصَّه بالمسائلِ الاعتقاديةِ العِلميَّة.

وقوله: (باب ما تنطقُ به الألسنةُ وتعتقدُه الأفئدةُ من واجب أمورِ الديانات): يعني: هذا بابُ بيانِ ما يجبُ اعتقادُه بالقلب، والإقرارُ به باللسان؛ فإنَّ‌

‌ مسائلَ الدين قسمان:

مسائلُ علميةٌ اعتقادية، ومسائلُ عملية.

(1)

كذا في بعض النسخ، وقال علي بن خلف المنوفي في «كفاية الطالب الرباني» (1/ 96):«بياء مُشدَّدة بينها، وبين الألف همزة وقد تبدل هاءً، فيقال: (ماهية)» . وسيأتي مزيد بيان في (ص 62).

ص: 49

فمثلًا: مسائلُ الأسماءِ والصفاتِ، وما يتعلَّقُ بالملائكة، والإيمانُ باليومِ الآخر؛ هذه مسائلُ اعتقادية؛ يعني الواجبُ فيها الإيمانُ والتصديق، واليقينُ الجازم، ثم الإقرارُ وإظهارُ ذلك باللسان؛ فإنَّه لا يظهرُ ما في القلبِ إلا باللسان، لأنه هو الذي يُعبِّرُ عمَّا في القلبِ.

إذن: المسائلُ الآتيةُ كلُّها مسائلُ علميةٌ اعتقاديةٌ قولية، وقد تقدَّم

(1)

أنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ: قولُ القلبِ واللسان، يعني: اعتقادُ القلبِ، وإقرارُ اللسانِ، وعملُ الجوارحِ. فالداخلُ في الإسلام أولًا يؤمنُ بإلهيته سبحانه وتعالى ويؤمنُ برسولِه، وينطقُ الشهادتين، ولا يتحقَّقُ دخولُه في الإسلام إلا بأنْ ينطقَ الشهادتين، فإنْ نطقَ بهما وهو مُعتقدٌ لِمَا شهدَ به؛ صار مسلمًا، وإنْ نطقَ بهما وهو في الباطنِ على خلافِ ذلك؛ فهو مُنافقُ، ويتبين هذا التقرير بمعرفة أن أوَّل واجبٍ هو التوحيد، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فالتوحيدُ هو أصلُ دينِ الرُّسلِ من أوَّلهم إلى آخرهم، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون (25)} [الأنبياء].

فأوَّلُ واجبٍ على المكلَّفين: شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«أُمرتُ أن أُقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله»

(2)

؛ لأنَّ الشهادتين متلازمتان، لا تصحُّ إحداهما بدون الأخرى، ولا يَدخُل الكافرُ الأصليُّ في الإسلام إلَّا بهما،

(1)

في (ص 45) وتنظر: (ص 158).

(2)

أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 50

فلابدَّ منهما جميعًا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلامُ على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله

»

(1)

، فَعَدَّ الشهادتين أصلًا واحدًا من مباني الإسلام الخمسة.

لذلك قال أهلُ السنَّة: إنَّ أوَّلَ واجبٍ على العبد هو التوحيدُ، خلافًا لأهل الكلام الذين قالوا: إنَّ أوَّلَ واجبٍ هو النظرُ، ويريدون بالنظر التفكر في الأدلة الكونية مثلًا، فقالوا: إنَّ أوَّل واجبٍ هو النظرُ، وبعضُهم تنطَّع وقال: بل أوَّل واجبٍ القصدُ إلى النظر، وغلا بعضهم حتى قال: إنَّ أوَّل واجبٍ هو الشك! يعني أوَّل واجبٍ أن يَشكُّ الإنسانُ في الحقائق، فيشكُّ في وجود الله وفي إلهيته، ثم بعد ذلك ينظر في الأدلة!

فبئس ما قالوا، أنْ جعلوا الكفرَ هو أوَّلُ واجبٍ؛ لأنَّ الشكَّ بالله كفرٌ.

وهذه الأقوالُ ظاهرةُ الفسادِ والبطلان

(2)

.

والنظرُ مشروعٌ، وقد ندب اللهُ إليه العباد، لكن لا يقال: إنَّه أوَّل واجبٍ، فمَن كان عنده توقُّفٌ أو شكٌّ مثل حالِ الكفَّار؛ فعليه أن ينظرَ في الأدلة الكونية والشرعية؛ كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]، وقال:{{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ} [الروم: 8]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد].

(1)

أخرجه البخاري (8) - واللفظ له -، ومسلم (16) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

تنظر أقوال المتكلمين في مسألة النظر وأوَّل واجب في: الإنصاف فيما يجب اعتقاده للباقلاني (ص 28)، والشامل للجويني (ص 120 - 123)، وأبكار الأفكار للآمدي (1/ 170 - 172).

ص: 51

والنظرُ من الأسباب التي يَقوى بها إيمانُ المؤمن، ولهذا أثنى اللهُ على أوليائه أولي الألباب بالتفكُّر في المخلوقات؛ قال تعالى:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار (191)} [آل عمران]، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يرفع بصرَه إلى السماء، ويقرأ هذه الآيات من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

} إلى آخرها [آل عمران: 190]

(1)

، فالتفكُّر في الآيات الكونية، والتدبُّر للآيات الشرعية القرآنية؛ هما من أعظم أسبابِ زيادة الإيمان.

والمقصود: أنَّ النظرَ مشروعٌ، لكن لا يقال: إنَّه أوَّل واجبٍ، بل أوَّلُ واجبٍ هو التوحيد كما تقدم

(2)

.

قوله: (من واجب أمورِ الديانات): يريد: المسائل التي يجب اعتقادُها، والنطقُ والإقرارُ بها، فيجب على العبد الإيمان بها ظاهرًا وباطنًا، وذلك ممَّا أجمع عليه أهلُ السنَّةِ، بل منه ما أجمعت عليه الأمَّةُ، ولهذا قال المؤلف في مقدمة كتابه «الجامع»

(3)

: «فممَّا أجمعت عليه الأمَّة من أمور الديانة، ومن السنن التي خِلافُها بدعة وضلالة: أنَّ اللهَ - تبارك اسمه - له الأسماء الحسنى، والصفات العلى

»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (4569)، ومسلم (256)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

ينظر: درء التعارض (7/ 353)، (8/ 3)، ومجموع الفتاوى (16/ 328 - 331)، ومدارج السالكين (1/ 207)(4/ 440)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 23 - 24).

(3)

واسمه الكامل: «الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ» نشرته مؤسسة الرسالة والمكتبة العتيقة التونسية بتحقيق محمد أبو الأجفان، وعثمان بطيخ، وتضمن الكتاب أحد وعشرين بابًا في مواضيع مختلفة، وصدَّره ببابٍ في ذِكْرِ عقيدته ووجوب الاقتداء بالصحابة وترك البدع.

(4)

ينظر: الجامع (ص 107).

ص: 52

قوله: (من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان: أنَّ اللهَ إلهٌ واحدٌ لا إلهَ غيره): يريد: أنَّ ممَّا يجب اعتقادُه بالقلب والنطق به باللسان: أنَّ اللهَ هو الإله الذي لا إله غيره، وهذا‌

‌ أصلُ الدِّينِ الذي بعث اللهُ به رسلَه

من أوَّلهم إلى آخرهم، وهو‌

‌ معنى: لا إله إلا الله،

وحقيقتها: الإيمانُ بأنَّ اللهَ هو الإله الحقُّ الذي لا يستحقُّ العبادةَ سواه، فكلُّ معبودٍ سواه باطلٌ؛ كما قال تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم (163)} [البقرة].

والإلهُ بمعنى: المألوه؛ أي: المعبودُ

(1)

، فمعنى:«لا إلهَ إلا الله» : لا معبودَ بحقٍّ إلا الله

(2)

، فهذه كلمةُ التوحيدِ «لا إلهَ إلا الله» ، وليس معنى الإله: الخالقُ أو القادرُ على الاختراع كما يقولُه الغالطون من المتكلِّمين

(3)

، وهذا جهلٌ منهم بمعنى «لا إله إلا الله» ، ولهذا يُقال: المشركون من العرب أعلمُ منهم بمعنى «لا إله إلا الله» ؛ كما قال ذلك الشيخ محمدُ بن عبد الوهاب في كتابه: «كشف الشبهات»

(4)

، لا شكَّ أنَّ كلمة «لا إلهَ إلا الله» تتضمنُ توحيد الربوبية، لكن ليس هو المقصودُ

(1)

ينظر: الصحاح (6/ 223)، ومقاييس اللغة (1/ 127)، ولسان العرب (13/ 469).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (20/ 357)، ومجموع الفتاوى (8/ 378)، (13/ 202)، وبدائع الفوائد (1/ 242 - 243)، وتيسير العزيز الحميد (1/ 177 - 187).

(3)

هذا الفهم الخاطئ قالت به طائفة منهم الأشعري وغيره. ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 100)، والنبوات لابن تيمية (1/ 285)، والجواب الصحيح (3/ 294)، ودرء التعارض (1/ 226)، (9/ 377)، وشرح التدمرية لشيخنا (ص 520).

(4)

ينظر: كشف الشبهات بشرح شيخنا (ص 20).

ص: 53

بل المقصود منها توحيد العبادة فلو كان معناها لا خالق إلا الله لَقَبِلها المشركون ولَمَا أنكروها؛ لأنهم مُقرُّون بأنَّه لا خالق إلا الله؛ لقوله تعالى: {{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، فالفرقُ بين الموحِّدِ والمشرك هو توحيدُ العبادة، فالمسلمُ يُقرُّ به والمشركُ يُنكره؛ كما قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُون (35)} [الصافات]، وقال تعالى:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّاب (4) جَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب (5)} [ص]

(1)

، فلا بدَّ من التنبُّهِ لهذا الفرقِ بين المعنيين والفرق بين الفريقين.

وكلمةُ التوحيد جاءت في القرآنِ بألفاظٍ كثيرة، ومعناها واحد؛ فقال تعالى:{اللّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وقال:{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، وقال:{لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين (87)} [الأنبياء]، وقال:{لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14]، وقال:{إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُون (35)} [الصافات].

وجاءَت في هذه المواضعِ ونحوِها بصيغةِ الحصر الذي يكون بالنفي والاستثناء كما في الآيات أو ب «إنما» ؛ كقوله تعالى: {{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [طه: 98]

(2)

، وكلها من قَبيل قصرِ الصفةِ على الموصوف.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (1/ 23)، (10/ 669)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 386 - 387)، والاستغاثة (ص 163)، وبدائع الفوائد (4/ 1543 - 1544).

(2)

تارة تذكر بلفظها بالاسم الظاهر، وبالضمير بأنواعه: المتكلم والمخاطب والغائب، وتارة تذكر بمعناها بالنفي والإثبات، وتقديم المعمول. ينظر: شرح كلمة الإخلاص لشيخنا (ص 128 - 129).

ص: 54

ثم ذكرَ الشيخ جملةً ممَّا يجب تنزيهُ الله تعالى عنه، فقال:(لا شبيهَ له، ولا نظيرَ له، ولا ولدَ له، ولا والدَ له، ولا صاحبةَ له): وهذا كلُّه جاءَ التصريحُ بنفيِه في القرآن، فقال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91]، وقال تعالى:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]، وهذا في مواضعَ كثيرةٍ. وجاء التصريحُ ببعضه في سورةِ الإخلاص؛ فقال تعالى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} ، فتضمنَ هذا النفيُ: نفيَ الوالدِ والولدِ والكفءِ، وذلك يتضمنُ كمالَ الاسمين المُتقدِّمين: أحديَّته، وصَمَدِيَّته

(1)

، فهو الأحدُ الذي لا نظيرَ له ولا شريك، وهو الصمدُ الذي تَصمدُ إليه الخلائقُ، ولا تَجَزُّؤَ في ذاتِه سبحانه وتعالى. والشبيهُ والنظيرُ والمثل والكفء والندُّ ألفاظٌ متقاربةٌ.

وجاءَ في القرآن نفيُ الكُفءِ والندِّ والسّميّ؛ فقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم]، وقال تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} ، وقال تعالى:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَاداً} [البقرة: 22]، فهو سبحانه وتعالى لا سميَّ له، ولا كُفء له، ولا ندَّ له في أي شأنٍ من شؤونه، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لا في ذاتِه، ولا في صفاتِه، ولا في أفعاله، وهو تعالى يُوصفُ بالإثباتِ والنفيِ.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (17/ 108 - 111)، ومنهاج السنة (2/ 319)، والصواعق المرسلة (3/ 1019 - 1023)، وشرح التدمرية (ص 220)، والقواعد المثلى بتعليق شيخنا (ص 70) وما بعدها.

ص: 55

والمؤلفُ بدأَ بذكر النفي، وكان المناسبُ أن يبدأَ بإثبات أسمائِه ونفيِ ما يُضادّها، وذلك لوجهين:

أحدهما: أنَّ نصوصَ الإثبات في القرآن أكثرُ

(1)

.

الثاني: أنَّ ذِكْرَ الإثباتِ في الآيات مُقدَّمٌ على ذِكْرِ النفي كما في سورة الإخلاص، والآياتِ في آخر سورة الحشر، وقد يأتي النفيُ قبل الإثبات، وهو قليل، كقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]

(2)

.

قوله: (ولا شريكَ له): هذه عامةٌ في نفي الشريك؛ أي: لا شريك له في ربوبيته ولا إلهيته ولا في شيء من خصائصه، قال الله تعالى:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الفرقان: 2]، فليس له شريكٌ في الملكِ، فالملكُ كلُّه له، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22]، فلا أحدَ يملكُ ذرةً في السماواتِ والأرضِ، ولا شِركًا في ذرةٍ.

ولا شبيه له في أسمائِه وصفاتِه، فلا ربَّ غيرُه، ولا إله سواه.

(1)

ينظر: التسعينية (1/ 171 - 172)، والجواب الصحيح (4/ 406)، والصفدية (ص 143)، وجامع المسائل (8/ 109)، وشرح التدمرية (ص 92).

(2)

والصفات السلبية لا تذكر غالبًا إلا في الأحوال التالية: الأولى: بيان عموم كماله، والثانية: نفي ما ادعاه في حقه الكاذبون، والثالثة: دفع توَّهُمِ نقصٍ من كماله فيما يتعلق بهذا الأمر المعيّن. ينظر: القواعد المثلى بتعليق شيخنا (ص 74 - 75).

ص: 56

قوله: (ليس لأوَّليَّته ابتداءٌ، ولا لآخريَّته انقضاءٌ):

هذا يتضمنُ الإشارةَ إلى اسمين من أسماء الله الحسنى، وهما: الأوَّلُ، والآخرُ، فهو الأوَّلُ والآخر والظاهرُ والباطن، وجاءَ تفسيرُهما على لسان أعلمِ الخلق به صلى الله عليه وسلم، وذلك في قولِه في الدعاء:«اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ»

(1)

. فالمؤلف يقولُ: ممَّا يجبُ الإيمانُ به: أنَّه الأوَّلُ، وليس لأوليتِه ابتداءٌ، وأنه الآخرُ، وليس لآخريتِه انتهاء.

وهذان الاسمان يدلَّانِ على دوامِه أزلًا وأبدًا، وهما من لوازم كونه تعالى واجبُ الوجود، ومعنى واجبُ الوجود: أنه الذي لا يجوزُ عليه الحدوثُ ولا العدم، فلم يسبقْ وجودَه عدمٌ ولا يلحق وجوده عدم، فهو المُتقدِّمُ على كلِّ شيءٍ، والباقي بعد كلِّ شيءٍ

(2)

، فهو دائمٌ أزلاً وأبدًا، وما يبقى من الخلقِ كالجنة والنار؛ فبقاؤُهما بإبقائِه سبحانه، فليس بقاؤهما ذاتيًّا لهما، أما بقاؤُه سبحانه وتعالى فهو ذاتيٌّ له

(3)

، وينبغي أن يُعلَم أنَّ ذِكرَ اللهِ بواجب الوجود هو من قَبيل الإخبارِ بالحقيقة، لا من باب

(1)

أخرجه مسلم (2713) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

وللمتكلمين تعاريف أخرى تنظر في: المعجم الفلسفي لصليبا (2/ 541 - 542)، وشرح المصطلحات الفلسفية (ص 420 رقم 1770)، وينظر موقف أهل السنة من تعاريف المتكلمين في: الجواب الصحيح (3/ 289 - 290)، ومنهاج السنة (2/ 131 - 132)، ودرء التعارض (8/ 123 - 124)، والصفدية (ص 323 - 324)، (ص 444) ما بعدها.

(3)

تنظر: (ص 148).

ص: 57

التسميةِ والنعتِ، فليس من أسمائه واجبُ الوجودِ، ولا من صفاته التي يُثنى عليه بها

(1)

.

قوله: (ولا يبلغُ كُنهَ صفتِه الواصفون):

المعنى: أنَّه لا يُدركُ أحدٌ كُنْهَ صفاته، ولهذا امتنع التكييفُ، فلا يجوزُ التفكُّرُ في كيفيةِ ذاته، أو كيفيةِ صفاته، فلا يقال: كيف ينزل؟ كيف يجيءُ؟ كيف يغضبُ؟ كيف يتكلمُ؟ فكلُّ هذا ممتنعٌ، لا يجوزُ التفكيرُ فيه، ولا السؤالُ عنه لأنه لا سبيل إلى معرفته، ولهذا أنكرَ الأئمة ذلك وقالوا:«والكيفُ مجهولٌ»

(2)

، فأنكروا على من يسألُ عن كيفيةِ الاستواءِ وغيره من الصفاتِ.

قوله: (ولا يُحيطُ بأمره المتفكِّرون): يعني بحقيقتِه وشأنِه، فشأنُه لا يُحيطُ به المُتفكِّرون، فلا يجوزُ التفكّر في ذاتِه، وقد جاءَ في الأثرِ: «تَفكَّروا

(1)

ينظر تقرير هذه القاعدة في: مجموع الفتاوى (6/ 142)، ودرء التعارض (1/ 298)، والجواب الصحيح (5/ 8)، وبدائع الفوائد (1/ 284)، وشرح التدمرية (ص 417).

(2)

جاء هذا الأثر عن ربيعة ومالك. ينظر: الرد على الجهمية للدارمي (ص 66، رقم 104)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 441، رقم 664)، (3/ 582 رقم 928)، والإبانة الكبرى (7/ 163 رقم 121)، والحلية (6/ 325)، والأسماء والصفات للبيهقي (2/ 304، رقم 866 - 867 - 868)، والتمهيد لابن عبد البر (7/ 151) وقد صحَّح هذا الأثر عن مالك: الذهبي في «العلو» (ص 138، رقم 377)، وجوَّد إسناده ابن حجر في «الفتح» (13/ 406 - 407)، وقوَّاه الألباني في «مختصر العلو» (ص 141).

وقد رُوي عن أمِّ سلمة رضي الله عنها موقوفًا ومرفوعًا، ولكن ليس إسناده مما يُعتمد عليه. ينظر: شرح حديث النزول (ص 133).

ص: 58

في مخلوقات اللهِ، ولا تَفكَّروا في ذات اللهِ»

(1)

، قال ابنُ عبد البر: «وقد

(1)

روي عن ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا:

أخرجه مرفوعًا: أبو الشيخ في «العظمة» (رقم 3) من طريق أحمد بن مهدي، عن عاصم بن علي، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به. وإسناده ضعيف، عاصم بن علي وأبوه ضعيفان، والأب أضعف، وعطاء اختلط بِأَخَرَة

والصواب وقفه، كما رواه غير واحد عن عاصم بن علي، وتابعه خالد الطحان كما سيأتي.

وأخرجه موقوفًا: أبو الشيخ في «العظمة» (رقم 2)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (رقم 618)، و (887)، وابن بطة في «الإبانة» (رقم 108)، والأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (رقم 668) من طرق، عن عاصم بن علي، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، موقوفًا. ورواه بعضهم عن عاصم بن علي، عن عطاء، بإسقاط أبيه، وأورده ابن القيم في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (2/ 123)، وعزاه لعبد الله بن الإمام أحمد في «كتاب السنة» .

وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في «كتاب العرش» (رقم 16) من طريق خالد بن عبد الله الطحان، عن عطاء، به. وهذه متابعة جيدة لعاصم وأبيه، ولكن سماع خالد الطحان من عطاء بِأَخَرَة بعد اختلاطه.

وللمرفوع شواهد:

عن ابن عمر: عند أبي الشيخ في «العظمة» (رقم 1)، واللالكائي في «السنة» (رقم 927)، والبيهقي في «الشعب» (رقم 119) من طريق الوازع بن نافع، عن سالم، عن أبيه، به. والوازع هذا متروك!

وعن عبد الله بن سلام: عند أبي نعيم في «الحلية» (6/ 66)، وأبي الشيخ في «العظمة» (رقم 21) من طريق عبد الجليل بن عطية القيسي، عن شهر بن حوشب، عن عبد الله بن سلام مرفوعًا بنحوه. وعبد الجليل بن عطية وشهر بن حوشب، كلاهما ضعيفان.

وروي أيضًا: عن أبي ذر، وأبي هريرة، ويونس بن ميسرة مرسلًا، ولا يصح في الباب شيء. وحسَّن الذهبيُّ في «العرش» (2/ 171) الموقوف، وقال ابن حجر في «الفتح» (13/ 383):«موقوف، وسنده جيد» . أما الألباني فقد حسَّن المرفوع بمجموع طرقه، وكذا قال السخاوي:«وأسانيدها ضعيفة، لكن اجتماعها يكتسب قوة، والمعنى صحيح» . ينظر: المقاصد الحسنة (رقم 342)، والمداوي للغماري (3/ 279)، والصحيحة (1788).

ص: 59

نُهينا عن التفكُّر في الله، وأُمرنا بالتفكُّر في خلقه الدالِّ عليه»

(1)

؛ أي: تَفَكَّرْ في آياتِ الله الدالةِ على قدرته وعلمِه وحكمتِه ورحمتِه، ولا تُفَكِّرْ في ذاته؛ فإنه لا سبيلَ إلى معرفةِ كُنهِ ذاته، أو كُنهِ صفاته، ولهذا قالَ أهلُ العلم: إنَّه يجب الإيمان بما وَصَفَ الله به نفسه، أو وَصَفَه به رسولُه من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيل، فيجبُ الإيمان بصفاتِه بإثباتِ ما أثبتَه اللهُ لنفسه، ونفيِ مُماثلتِه لخلقه، ونفيِ العلم بالكيفية، فهذه الأمور الثلاثة هي مرتكز مذهب أهل السنة

(2)

، ويجبُ أن نعلمَ أنَّ لصفاته ولذاتِه كيفيةً لكن لا سبيلَ للعبادِ إلى معرفِتها، فالمنفيُّ هنا هو العلمُ

(3)

.

فإذن: ذاتُه لها كُنْهٌ، وصفةٌ، وحقيقةٌ، ولكن لا يبلغُ ذلك الواصفون، ولا يحيطُ به المُتفكرون، وممَّا يتصل بهذا المعنى قول بعضهم:«كلُّ ما خطر ببالك فاللهُ بخلاف ذلك» ، وهذه العبارةُ من الألفاظ المجملةِ التي تحتاج إلى تفصيل؛ فنقول: كلُّ ما خطر ببال العبدِ من الكيفيات في الذات والصفات فاللهُ بخلافِ ذلك؛ لأنَّ ما يخطرُ بالبال من الكيفيات أصلُه ما يعرفه الإنسانُ من كيفية المخلوقات المشاهدة، أمَّا ما يخطر بالبال من معاني الصفات؛ كالعلم والقدرة والسمع والبصر وغير ذلك؛ فلا يجوز أن

(1)

جامع بيان العلم (2/ 931، رقم 1769).

(2)

ينظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (ص 365 - 369)، وشرح العقيدة التدمرية (ص 87)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص 66)، وتوضيح مقاصد الواسطية (ص 73).

(3)

ينظر: بيان تلبيس الجهمية (8/ 305)، ومجموع الفتاوى (5/ 181)، (13/ 309) وشرح التدمرية (ص 78)، وشرح القصيدة الدالية (ص 67)، وتوضيح مقاصد الواسطية (ص 74).

ص: 60

يُقال: إنَّ اللهَ بخلاف ذلك، فإنه مُتَّصفٌ بهذه المعاني، فيُقال: إنَّه عليمٌ قديرٌ سميعٌ بصيرٌ، وإذا قيل: الله بخلاف ذلك؛ آلَ إلى التعطيل

(1)

.

قوله: (يَعتبر المُتفكرون بآياتِه، ولا يتفكَّرون في ماهية ذاتِه):

يعتبرُ المُتفكِّرُون في آياتِه الكونية، ويهتدُون إلى معرفةِ الله بالتفكُّرِ في مخلوقاته، والتدبر لآياته. ف‌

‌معرفةُ الله لها طريقان:

التفكرُ في آياته الكونيةِ، والتدبُّرُ لآياتِه الشرعية، فكلاهما طريقٌ يَعرف به العبادُ ربَّهم؛ كما قالَ سبحانه:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران].

وكثيرًا ما يذكر اللهُ في كتابه آياتِه الكونية، وهي: مخلوقاته ثم يُتبعها بذكر المنتفعين بها؛ كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون (3)} [الرعد]، وقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِين (22)} [الروم]، وقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُون (23)} [الروم]، وقوله:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون (24)} [الروم]، وهذا كثيرٌ في القرآن؛ يُنبهُ الله العبادَ إلى ما في آياتِه الكونيةِ السماوية والأفقيةِ والأرضيةِ والنفسية؛ قال تعالى:{{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53]، وقال:{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِين (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون (21)} [الذاريات]، فيعتبرُ أولو الألباب المُتفكِّرون المُتذكِّرون بآياتِه ولا يتفكرون في ذاتِه، وهذا هو الواجبُ.

(1)

ينظر: الرد على الجهمية والزنادقة (ص 208 - 209)، والاستقامة (1/ 137)، وبيان تلبيس الجهمية (2/ 321 - 322)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 45 - 46).

ص: 61

(ولا يتفكَّرُون في ماهيَّةِ ذاتِه): يعني في حقيقةِ ذاته، فالمعنى مُتقاربٌ: في ماهيتِه، أو في حقيقتِه، أو في كيفيتِه، أو في كُنْهِه.

لكن نؤمنُ بأنَّ له تعالى ذاتًا لا تشبهُ الذواتَ، وأنَّه قائمٌ بنفسه، غنيٌّ بذاتِه عن كلِّ ما سواه، فلا يفتقرُ إلى شيءٍ بوجهٍ من الوجوه.

تنبيه: في بعض نسخ الرسالة: ولا يتفكَّرون في مائيته بالهمز

(1)

، ويقول بعضُ أهلِ اللغة: إنَّ مائية وماهية معناهما واحد، وذلك يجري على لغة مَنْ يُبدل الهمزة هاء، وأنَّ أصلَ همزة ماء: هاء؛ بدليل أنك تقول في التصغير: مويه، وفي الجمع: مِياه، ولكن المشهور عند المناطقة: ماهية بالهاء، ويقولون: ماهيةُ الشيءِ: ما يُجابُ به مَنْ قال في شيءٍ: ما هو؟

(2)

قوله: (ولا يُحيطون بشيءٍ من علمه إلَّا بما شاء، وَسِعَ كُرسيُّه السماواتِ والأرض، ولا يؤودُه حِفظُهما وهو العليُّ العظيمُ):

هذا بعضُ «آيةِ الكرسي» ، فقوله تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ} : أي: لا يحيطُ العباد، والإحاطةُ غير مُطلق العلم، فنحن نرى الشمسَ ولا نُحيطُ بها رؤيةً، ونعلمُ أشياء كثيرةً ممَّا أخبرنا الله به من علومِ الغيب أو من الأخبارِ الواقعةِ في هذه الدنيا، لكننا لا نحيطُ بها، فالشيءُ لا يُحاط به،

(1)

وهو المثبت في أغلب النسخ كما في شرح التنوخي (1/ 22)، وشرح زروق (1/ 36)، وغُرر المقالة للمغراوي (ص 75)، والفواكه الدواني (1/ 68، 69)، وطبعة الشيخ بكر أبو زيد ضمن الردود (ص 487).

(2)

ينظر: الألفاظ المستعملة في المنطق للفارابي (ص 50)، ومحك النظر للغزالي (ص 257)، وآداب البحث والمناظرة (ص 47 - 48).

ص: 62

ولا تُدركُ حقيقتُه إلا بمشاهدتِه، أو مُشاهدةِ نظيره

(1)

. فاللهُ تعالى أخبرَ بأنَّ العبادَ لا يُحيطون بشيءٍ من علمه.

{بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} : يعني: من معلوماتِه إلا بما علَّمَهم، وهذا يُفسِّرُه قوله تعالى عن الملائكة:{لَا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]، وقال الخضرُ لموسى:«ما علمي وعلمك في علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر»

(2)

. فعلمُ الخلائقِ - الملائكة والإنس والجن - كلّهم لا نسبةَ له إلى علمِه سبحانه وتعالى.

وقِيل: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} : أي: العلم به لا يُحيطون بشيءٍ من ذلك إلا بما شاءَ، فالعبادُ لا يعلمون من شأنِ ربهم إلا ما علَّمهم،

(1)

ينظر: درء التعارض (9/ 10)، (5/ 73)، وشرح حديث النزول (ص 104)، وشرح التدمرية (ص 214).

(2)

أخرجه بنحوه البخاري (122)، (4726)، ومسلم (2380) من حديث ابن عباس، وأخرجه بهذا اللفظ: عبد الله بن الإمام أحمد في «زوائد المسند» (21119) من طريق عبد الله بن إبراهيم المروزي، حدثني هشام بن يوسف، في تفسير ابن جريج، الذي أملاه عليهم: أخبرني يعلى بن مسلم، وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، يزيد أحدهما على الآخر، وغيرهما، قال: قد سمعت يحدثه، عن سعيد بن جبير، قال: إنَّا لعند عبد الله بن عباس في بيته فذكره بطوله. وقال: «ووجدته في كتاب أبي: عن يحيى بن معين، عن هشام بن يوسف مثله» .

قلنا: عبد الله بن إبراهيم المروزي لم نجد له ترجمة إلا أنه قال عنه الخليفة النيسابوري: «عبد الله بن إبراهيم المروزي، حدث بنيسابور» . ينظر: تلخيص تاريخ نيسابور (ص 25). ولكن تابعه يحيى بن معين كما أشار عبد الله بن أحمد في وجاداته، وتابعه أيضًا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف به كما في البخاري (4726)، ولفظه:«والله ما علمي وما علمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر» .

ص: 63

والمعنيان صحيحَان، فلا علمَ للعباد بذاتِه وصفاته إلا ما علَّمَهم، ولا علمَ للعباد بشيءٍ ممَّا يعلمُه إلا بما شاءَ

(1)

، كما قال تعالى:{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]؛ فلا علمَ لأحدٍ - حتى الملائكة والأنبياء - إلا ما علَّمَهم، يقولُ اللهُ لأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)} [النساء]، وقال عن الملائكة:{لَا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].

فما جاءَ به الرسولُ عليه الصلاة والسلام من العلمِ العظيم، إنَّما كان بتعليمٍ من الله تعالى، فعلَّمَه بالوحيِ الذي أنزلَه من الكتابِ والحكمة.

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} : الكرسيُّ أصحُّ ما قِيل في تفسيره: أنه موضعُ قدمِي الربِّ

(2)

، ..................................................

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 679 - 680)، وتفسير سورة الفاتحة والبقرة للعثيمين (3/ 253)، والتعليق والإيضاح على تفسير الجلالين - الفاتحة والبقرة - لشيخنا (ص 566).

(2)

أخرجه محمد بن أبي شيبة في «كتاب العرش» (رقم 61)، والدارمي في «الرد على المريسي» (1/ 399)، والطبراني في «الكبير» (12/ 39، رقم 12404) والحاكم في «المستدرك» (3116)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (رقم 758) من طرق، عن سفيان الثوري، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، موقوفًا.

ورواية الطبراني: عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير، بإسقاط مسلم البطين، وهو منقطع؛ لأن عمار الدهني لم يسمع من سعيد بن جبير، كما قال أبو بكر بن عيَّاش. ينظر: تهذيب التهذيب (7/ 406 - 407 رقم 661).

وأخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (2/ 552) و (2/ 582) من وجهين آخرين عن عمار الدهني، به. =

ص: 64

.... وقِيل: العرش

(1)

، وقيل: العلمُ، أي: وسعَ علمُه، وروي

= وهذا الأثر عن ابن عباس قال عنه الدارمي: «عرفناه عن ابن عباس صحيحًا مشهورًا» ، وصحَّحه الحاكم على شرط الشيخين، والصواب أنه على شرط مسلم فقط؛ لأن البخاري لم يخرج لعمار الدهني. وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 323) وقال:«رجاله رجال الصحيح» . وذكره الذهبي في «العلو» (ص 76 رقم 123) وقال: «رواته ثقات» . وقال الألباني في «مختصر العلو» (ص 102): «هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، وتابعه يوسف بن أبي إسحاق عن عمار الدهني» .

والخبر موقوف لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما قال البيهقي وغيره. وينظر: السلسلة الضعيفة (13/ 268).

(1)

روي ذلك عن الحسن البصري: رواه عنه ابن جرير الطبري (4/ 539) بإسناده عن جويبر، عن الحسن، عن الضحاك، قال: كان الحسن يقول: «الكرسي: هو العرش» . وقال ابن كثير (1/ 671): «والصحيح أن الكرسي غير العرش، والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة، عن عمر في ذلك، وعندي في صحته نظر، والله أعلم» .

ويشير ابن كثير لما أخرجه الطبري (4/ 540) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة؛ فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال:«إن كرسيه وسع السماوات والأرض، وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع» ، ثم قال بأصابعه فجمعها:«وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله» .

وأخرجه ابن جرير من طريق أخرى عن إسرائيل نفسه به؛ إلا أنه زاد في إسناده فقال: عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.

وأخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (4/ 345)، والبزار (325) من هذه الطريق إلى قوله:«وإن له أطيطًا كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله» .

وللحديث ثلاث علل:

الأولى: جهالة عبد الله بن خليفة؛ قال الذهبي: «لا يكاد يُعرف» . الميزان (2/ 414 رقم 4290).

الثانية: لا يُعرف له سماع من عمر. قال ابن كثير: «وفي سماعه من عمر نظر» . تفسيره (1/ 681). =

ص: 65

هذا عن ابن عباس، ولا يصحُّ

(1)

، كما أنه لا يُعرَفُ في اللغة تفسيرُ الكرسي بالعلم.

= الثالثة: الاضطراب، فمرة يرويه عبد اللَّه بن خليفة مرسلًا، ومرة يرويه عن عمر من قوله.

وقال ابن كثير في «التفسير» (1/ 681): «عن عبد الله بن خليفة، وليس بذاك المشهور، وفي سماعه من عمر نظر، ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفًا، ومنهم من يرويه عنه مرسلًا، ومنهم من يزيد في متنه زيادةً غريبةً، ومنهم من يحذفها» .

وقد أعله شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (16/ 434 - 436)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 4 - 6)، وقال الألباني في «الضعيفة»:(4978): «منكر» .

(1)

أخرجه الطبري (4/ 537)، وابن أبي حاتم (2/ 490، برقم 2599)، واللالكائي في «السنة» (3/ 449 رقم 679)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (رقم 233) من طريق مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] قال: «علمه» . وخالف مطرفَ سفيانُ الثوري فرواه في تفسيره - كما في «فتح الباري» (8/ 199) - عن جعفر، عن سعيد بن جبير من قوله. وأخرجه عنه ابن حجر في «تغليق التعليق» (4/ 185)، وعلّقه البخاري في «صحيحه» في:«باب قوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)} [البقرة]» (6/ 31). والعهدة في هذا الاختلاف على جعفر بن أبي المغيرة، وخالفه مسلم البطين فرواه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس كما سبق، وهو المحفوظ. قال ابن منده في «الرد على الجهمية» (ص 44 رقم 15):«ولم يُتابع عليه جعفر، وليس هو بالقوي في سعيد بن جبير» ، وأقره الذهبي في «الميزان» (1/ 417 رقم 1536)، ثم قال:«قد روى عمار الدهني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كرسيه موضع قدمه، والعرش لا يقدر قدره» . فكأنه يشير إلى أن هذه الرواية هي المحفوظة. وقال الأزهري في «تهذيب اللغة» (10/ 33): «والصحيح عن ابن عباس في الكرسي ما رواه الثوري وغيره عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسي: موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره، وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها، والذي روي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم، فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار» .

ص: 66

لكن الذي عليه جمهورُ السَّلف: أنَّ المرادَ بالكرسيِّ موضعُ القدمين، وهو مخلوقٌ عظيم غيرُ العرشِ

(1)

.

والآيةُ تدلُّ على سعةِ الكرسيِّ وعِظمِه، وجاء في بعض الأحاديثِ كما عند ابن جرير:«ما السماواتُ السبعُ في الكرسي إلا كدراهمَ سبعة أُلقيت في تُرْس»

(2)

.

{وَلَا يَئُودُهُ} : يعني لا يشقُّ عليه، ولا يُعجزه حفظُ هذا العالَمِ العلويِّ والسفليِّ

(3)

. كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41]؛ أي: لا يمسكُهما أحدٌ غيره. وقال: {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]، فهو الحافظُ للعبادِ، والحافظُ لهذا الوجود، ولولا حفظُ الله لهذا العالم لدَكَّ بعضُه بعضًا، فهذا العالمُ: السماواتُ والأرضُ كلُّها مستقرَّة على وفقِ ما قدَّرَه سبحانه وتعالى، وهذه الأجرامُ العلويةُ من الكواكبِ؛ ماضيةٌ في مجاريها بقدرتِه سبحانه وتعالى.

(1)

ينظر: أصول السنة لابن أبي زَمَنين (ص 54)، وبيان تلبيس الجهمية (8/ 363 - 365)، ومجموع الفتاوى (6/ 584 - 585)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (2/ 368 - 371)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 190).

(2)

أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 539)، وأبو الشيخ في «العظمة» (2/ 587) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره بهذا اللفظ. قال الذهبي في «العلو» (ص 117 رقم 313):«هذا مرسل، وعبد الرحمن ضعيف» . وضعفه الألباني في «الضعيفة» (رقم 6118).

(3)

ينظر: غريب القرآن لابن قتيبة (ص 93)، والمفردات للراغب الأصبهاني (ص 97).

ص: 67

وختمَ اللهُ آيةَ الكرسيِّ باسمَين عظيمين كما بدأَها باسمَين آخرين، فبدأها باسمِه «الحيُّ القيوم» ، وقد قِيل: إنهما الاسمُ الأعظمُ

(1)

، وختمَها باسمَيه «العليُّ العظيمُ» ، واسمُه «العليُّ» يدلُّ على أنَّ له العلوَّ بكلِّ معانيه؛ علوُّ الذاتِ، والقَدْرِ، والقهرِ، وهو «العظيمُ» الذي لا أعظمَ منهسبحانه وتعالى، ولا نُدركُ كنهَ عظمتِه كما هو الشأنُ في سائرِ صفاته.

فاسمُه «العليُّ» هو من جملةِ ما يُستدلُّ به على علوِّ الذات

(2)

.

* * * * *

(1)

ينظر: جامع المسائل (8/ 107)، ومدارج السالكين (2/ 78)، والصواعق المرسلة (3/ 911 - 912)، وزاد المعاد (4/ 204)، وفتح الباري (11/ 224) وقد ذكر ابن حجر أربعة عشر قولًا في تحديد الاسم الأعظم.

(2)

تنظر أنواع أدلة العلو في: الكافية الشافية (2/ 307) وما بعدها، وإعلام الموقعين (4/ 67 - 75)، وتوضيح مقاصد الواسطية (ص 109)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 193). وقد ذكر ابن القيم ثلاثين طريقًا تدل على العلو. ينظر: الصواعق المرسلة (4/ 1280 - 1340).

ص: 68

‌ذكر بعض أسماء الله وصفاته

(العالمُ الخبيرُ، المدبِّرُ القديرُ، السميعُ البصيرُ، العليُّ الكبيرُ، وأنَّه فوقَ عرشِه المجيدِ بذاته، وهو في كلِّ مكانٍ بعلمه.

خلَق الإنسانَ ويعلم ما تُوسوس به نفسه، وهو أقربُ إليه من حبل الوريد، وما تسقطُ من ورقةٍ إلَّا يعلمها، ولا حبَّةٍ في ظُلمات الأرض ولا رَطبٍ ولا يابسٍ إلَّا في كتابٍ مبينٍ).

قوله: (العالمُ الخبيرُ، المدبِّرُ القديرُ، السميعُ البصيرُ، العليُّ الكبيرُ):

هذه جملةٌ من أسماءِ الله الحسنى، فبعدما ذكرَ جملةً ممَّا يجبُ تنزيه اللهِ عنه كالشبيه، والنظير، والشريك، والصاحبة، والولد، والوالد، إلى آخره.

ذكرَ جملةً من أسمائِه الحسنى التي يجبُ إثباتها له، وهو سبحانه وتعالى عليمٌ خبيرٌ كما وصفَ نفسه، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (62)} [العنكبوت]، وهذا العمومُ هو أعمُّ من كلِّ عمومٍ؛ لأنَّ ما من عامٍّ إلا وقد خُصَّ إلا قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (62)}

(1)

، فيَعلمُ ما كان، وما يكون، وما لا يكون لو كانَ كيف يكون.

(1)

ينظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 346)، والفروق للقرافي (4/ 246).

ص: 69

وقد تَمَدَّحَ سبحانه وتعالى بهذا الاسم في آيات كثيرة. واسمُه «الخبيرُ» أخصُّ من اسمه «العليمِ» ، لأنه يدلُّ على علمه بخفايا الأمورِ وغاياتِها، قال تعالى:{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (75)} [النمل]، وقال:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ} [آل عمران: 29]، واللهُ فصَّلَ في القرآن في ثنائه على نفسه بالعلم تفصيلًا كثيرًا كما سيُشير المؤلِّفُ إلى بعضِ ذلك.

وقوله: (العالمُ):‌

‌ لم يأتِ في القرآن لفظ العالِم مفردًا،

بل الواردُ: العليمُ، كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (75)} [الأنفال]، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير (34)} [لقمان]، {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)} [النساء]. أمَّا «العالمٌ» فلم يأتِ إلا مُضَافًا، كقوله:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73]، أو بصيغة الجمع؛ كقوله تعالى:{وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِين (81)} [الأنبياء] فإذا دعوت اللهَ؛ فقلْ: يا عليم، يا من هو بكلِّ شيءٍ عليمٍ، ولا تقلْ: يا عالم، بل قل: يا عالمَ الغيبِ والشهادةِ؛ فكان المناسبُ أن يقولَ: العليم الخبير.

وقوله: (المدبر القدير): أمَّا «القدير» ؛ فجاء مُطلقًا ومُقيَّدًا، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (20)} [البقرة]، {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)} [فاطر]، فيصح أن تقول: الله قدير، وتقول: إنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير. أمَّا «المدبر» ؛ فلا يُعَدُّ اسمًا

(1)

، لكنه حقٌّ، فيصحُّ أن تقول

(1)

وقد ورد في أحد طرق حديث سَرْدِ الأسماء، أخرجه ابن الأعرابي (1735)، والحاكم (42) - ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (10) -، والطبراني في «الدعاء» (112)، وأبو نعيم في «طرق حديث إن لله تسعة وتسعين اسمًا» =

ص: 70

في الإخبار: «الله المدبر» ، ولا تقول: من أسمائه المدبر؛ لأنه مشتقٌّ من قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس: 3]، وهو من معنى اسمه: الملك.

(السميع البصير): ذِكر هذين الاسمين من أسماء الله في القرآنِ كثيرٌ، وهما يدلان على إثبات صِفَتي السمع والبصر لله، كما تقتضيه قاعدة:«أنَّ كلَّ اسمٍ مُتضمِّنٌ لصفةٍ»

(1)

، فهو السميعُ والسمعُ صفته، والبصير والبصر صفته، فتقول: اللهُ تعالى ذو سمعٍ، وذو بصرٍ، وجاء في الحديث:«حِجابُه النورُ لو كَشفه؛ لأحرقتْ سُبُحاتُ وجهِه ما انتهى إليه بصرُه مِنْ خلقه»

(2)

، وقالت أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها:«الحمد لله الذي وَسِع سمعُه الأصواتَ»

(3)

، فسمْعُه واسعٌ لجميع الأصواتِ، يسمعُ

= (52) من طريق خالد بن مخلد، ثنا عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان، حدثني أيوب السختياني، وهشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة» وسرَد الأسماء، وفيه:«المدبر» .

قال البيهقي: «تفرد بهذه الرواية عبد العزيز بن الحصين بن الترجمان وهو ضعيف الحديث عند أهل النقل، ضعفه يحيى بن معين، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ويحتمل أن يكون التفسير وقع من بعض الرواة» . ينظر: ميزان الاعتدال (2/ 627 رقم 5095).

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (5/ 206)، (17/ 211)، والإيمان الأوسط (ص 471)، وبدائع الفوائد (1/ 162)، وشرح التدمرية (ص 103)، (ص 339)، والقواعد المثلى بتعليق شيخنا (ص 24).

(2)

أخرجه مسلم (179) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أحمد (24195)، والنسائي (3460)، وابن ماجه (188)، والحاكم (3791) من طريق الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، به. وعلَّقه البخاري بصيغة الجزم عن الأعمش به في:«باب قول الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} [النساء]» قبل حديث (7386)، =

ص: 71

أصواتَ المُسبِّحِين والدَّاعين والمُتكلمين بأنواعِ الكلام، بما في ذلك أقوالُ الكافرين، قال تعالى:{لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] أخبر بذلك تهديدًا لهم، وأخبرَ بسماع كلامِ الناس العادي؛ فقال:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] والواجبُ الأوَّلُ هو الإيمانُ بثبوت هذه الصفات لله ثم العمل بمقتضى هذا الإيمان، وهو تعظيم الله، ومراقبته وتقواه، فإذا استشعرَ العبدُ أنَّ الله يسمعُه ويراه، وأنَّ عِلمَه مُحيطٌ به، يعلمُ ما في نفسه؛ أوجبَ له ذلك الشعورُ الوقوفَ عند حدودِ الله، والمبادرةَ إلى أداء الواجبات، وإذا غفل عن ذلك وقع في التقصير في تقوى الله بعدم القيام بالواجبات، وبالوقوع في المنهيات.

(الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ): هذا هو بمعنى: (العلي العظيم)، وقد تقدَّم ذكرُهما وبيانُ ما يدلان عليه في الكلام على آيةِ الكرسي

(1)

.

قوله: (وأنه فوقَ عرشِه المجيدِ بذاته):

(وأنه فوق عرشه): معطوفٌ على قوله في أول الباب: (أنَّ الله إله واحد لا إله غيره).

= وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، تميم بن سلمة من رجاله، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين. وصححه الحاكم وهو بلفظ «تبارك الذي وسع سمعه» ، وقال ابن حجر في «التغليق» (5/ 339):«هذا حديث صحيح، وتميم وثقه ابن معين وغيره» . وينظر: الإرواء (7/ 175 رقم 2087).

(1)

تنظر: (ص 68).

ص: 72

(فوقَ عرشِه المجيدِ ذاته): يعني وممَّا يجبُ الإيمانُ به: أنَّه تعالى فوقَ عرشِه، وقالَ:(بذاته)؛ لأنَّ هذا هو محلُّ الافتراقِ بين أهلِ السنةِ والمُبتدعة، فالمُبتدعةُ يقولون: اللهُ فوق العرش، لكنَّ الفوقيةَ عندهم فوقيةٌ معنوية، ليست فوقيةَ ذات، فإنهم يُثبتون علوَّ القَدْرِ، لكنّ محلَّ النزاعِ بين أهل السنة والمتكلمين هو: علوُّ الذَّاتِ وفوقيةُ الذَّاتِ

(1)

، واللهُ تعالى له الفوقيةُ بكلِّ معانيها، وله العلوُّ بكلِّ معانيه، ذاتًا وقدرًا وقهرًا

(2)

، فالمؤلِّفُ رحمه الله صرَّحَ بفوقيَّةِ الذات؛ لقوله:(بذاته)، فكان ذلك صدمةً لمخالفيه من الأشاعرة، ولهذا ذكر شيخُ الإسلام أنَّ بعضَ أُولئك تأوَّلوا قولَ ابن أبي زيد فجعلوا المجيدَ صفةً لله، وقرأوه بالرفع، والصوابُ أنه مجرورٌ، صفةٌ للعرش، فصار المعنى على تأوليهم: أنَّ اللهَ مجيدٌ بذاته، وهذا تحريفٌ لكلام المؤلف، والصوابُ: أنَّ بذاته قيد لقوله: (فوق)، والكلامُ لا يحتمل إلَّا هذا المعنى، ومَن تأوَّله على خلافه فقد حرَّفه وكذَبَ على المؤلف، هذا مضمون كلامِ شيخ الإسلام، وهو في مجموع الفتاوى، المجلد الخامس، صفحة مئة وتسعةٍ وثمانين،

(1)

وقد ألَّف أهل السنة المؤلفات الكثيرة المفردة بصفة العلو، كما ذكروا هذه العقيدة في كتبهم العامة في العقائد وغيرها، ومن المؤلفات المفردة:«العرش وما روي فيه» لمحمد ابن أبي شيبة العبسي، و «إثبات صفة العلو» للموفق ابن قدامة المقدسي، و «الرسالة العرشية» لابن تيمية مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (6/ 545 - 583)، و «اجتماع الجيوش الإسلامية» لابن القيم، و «العلو للعلي العظيم» للذهبي وغيرها كثير من مؤلفات المعاصرين.

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى (16/ 106)، والكافية الشافية (2/ 314 - 315 رقم 1152 - 1158)، ومدارج السالكين (1/ 48)، والصواعق المرسلة (4/ 1324 - 1325)، ومعارج القبول (1/ 177 - 182).

ص: 73

وانظر أوَّلَ كلامِه في صفحة اثنين وثمانين ومئة

(1)

، وهذا التحريفُ الذي ذكره الشيخُ وأَبطله وقع من بعض المتأخرين ممن شرحَ رسالةَ ابن أبي زيد

(2)

، أمَّا من شرحها من تلاميذه فلم يفعلوا ذلك، بل شرحوها على ما يوافق مُرادَ ابن أبي زيد؛ من أنه تعالى فوق العرش بذاته، ومنهم:

(1)

أطلق هذه العبارة كثير من أهل العلم؛ كأبي جعفر بن أبي شيبة في «كتاب العرش» (ص 291)، وعثمان بن سعيد الدارمي، ويحيى بن عمار واعظ سجستان في «رسالته» ، والسجزي في كتاب «الإبانة» ، وحكى الإجماع فقال:«أئمتنا كالثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن زيد، والفضيل، وأحمد، وإسحاق متفقون على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان» . وأطلقها كذلك: ابن عبد البر، والقاضي عبد الوهاب، وأبو الحسن الكرجي، وعبد القادر الجيلي، وأبو إسماعيل عبد الله الأنصاري، وقال:«ولم تزل أئمة السلف تصرِّح بذلك» ، وكذا أطلق هذه اللفظة: أبو عمرو الطلمنكي، وأبو عمرو عثمان بن أبي الحسن الشهرزودي، وأحمد بن ثابت الطرقي الحافظ، وعبد العزيز القحيطي وطائفة، وقال شيخ الإسلام في «درء التعارض» (6/ 267): «

وأيضًا فعبد الله بن سعيد بن كُلاَّب، والحارث المحاسبي، وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن بن مهدي الطبري، وعامة قدماء الأشعرية يقولون: إن الله بذاته فوق العرش ويردُّون على النفاة غاية الرد، وكلامهم في ذلك كثير مذكور في غير هذا الموضع». وينظر: مجموع الفتاوى (5/ 189 - 190)، وبيان تلبيس الجهمية (1/ 167 - 170)، والعلو للذهبي (ص 235 - 236، 245، 246، 248، 261، 262 - 263)، واجتماع الجيوش الإسلامية (2/ 142، 164، 183، 197، 246، 276، 278 - 279، 280).

(2)

تنظر هذه التحريفات أو التشكيك في ثبوتها في: شرح التنوخي (1/ 24)، وشرح زروق (1/ 41)، والفواكه الدواني (1/ 76)، وكفاية الطالب الرباني (1/ 102)، (1/ 105).

ص: 74

مكي بن أبي طالب

(1)

، والقاضي عبد الوهاب

(2)

، ومعلومٌ أنَّ تلاميذه أعلمُ بمراده، فتدبَّر

(3)

.

(1)

مكي بن أبي طالب: أبو محمد مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار القيسي، أخذ بالقيروان عن ابن أبي زيد والقابسي، وحج ولقي بالمشرق جلة من الشيوخ وأخذ عنهم، ودخل قرطبة وأخذ عنه جماعة، غلب عليه علم القرآن وكان من الراسخين فيه، له من المصنفات: تفسير القرآن وسماه «الهداية إلى بلوغ النهاية» ، و «الإبانة عن معاني القراءات» ، و «مشكل إعراب القرآن» وغيرها، توفي سنة (437 هـ). ينظر: ترتيب المدارك (8/ 13)، والصلة في تاريخ أئمة الأندلس (2/ 273 رقم 1390)، والديباج المذهب (2/ 342).

(2)

ينظر: الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي (7/ 4610)، وشرح عقيدة الإمام مالك الصغير للقاضي عبد الوهاب (ص 26 - 27).

(3)

وممن أبان مراد ابن أبي زيد:

أبو بكر محمد بن موهب المقبري (ت 406 هـ) في «شرح الرسالة» ، ونقل كلامه المؤيد لعبارة شيخه ابن أبي زيد: شيخُ الإسلام ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 175)، وابنُ القيم في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (2/ 156)، والذهبي في «العلو» (ص 264). ولصريح كلام محمد بن موهب في إثبات علو الذات؛ شنَّع عليه زاهد الكوثري؛ فقال:«وأبو بكر محمد بن وهب (كذا في أصل الطبعتين) شارح رسالة ابن أبي زيد مسكين مضطرب بعيد عن مرتبة الحجة» ! تنظر: حاشية تحقيقه للسيف الصقيل (ص 109. ط السعادة)، و (ص 91. ط المكتبة الأزهرية).

وقال محمد بن الحسن المرادي القيرواني المالكي صاحب رسالة «الإيماء إلى مسألة الاستواء» : «والسادس: قول الطبري، وابن أبي زيد، والقاضي عبد الوهاب، وجماعة من شيوخ الحديث والفقه، وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر رضي الله عنه، وأبي الحسن، وحكاه عنه أعني عن القاضي أبي بكر القاضي عبد الوهاب نصًا، وهو أنه سبحانه مستوٍ على العرش بذاته، وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه

». نقله عنه بتمامه: القرطبي في «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» (2/ 121 - 129) ونقل جزءًا منه: ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 168 - 170) والذهبي في «العلو» (ص 261).

وممن فهم من كلام ابن أبي زيد إرادة الفوقية والعلو: العز بن عبد السلام، فقال:«ظاهر ما ذكره ابن أبي زيد القول بالجهة؛ لأنه فرّق بين كونه على العرش وبين كونه مع خلقه بعلمه» . فتاوى البُرزُلي (1/ 385).

وابن العربي المالكي في العواصم (ص 215): قال: «ثم جاءت طائفة ركبت عليه فقالت: «إنه فوق العرش بذاته» وعليها شيخ المغرب أبو محمد عبد الله بن أبي زيد».

وابن جزي الكلبي المالكي، في تفسير الآية (54) من الأعراف {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال:«حمَلَهُ قومٌ على ظاهِره؛ منهم ابنُ أبي زَيْدٍ وغيرُه» . التسهيل لابن جزي (2/ 348).

وصرح أيضًا: أبو العباس أحمد زروق في «شرح الرسالة» (1/ 42) بإشكال ظاهِرِه، وأنه مما يجب تأويله؛ فقال:«وبالجملة فإخراجه عن ظاهره المحال واجب، وعذر الشيخ في ذِكره واضح» .

وصرح التاج السبكي في «طبقات الشافعية» (9/ 78) بمراد ابن أبي زيد؛ فقال ناقمًا عليه وعلى ابن عبد البر: «وأما ما حكاه عن أبي عمر ابن عبد البر؛ فقد علم الخاص والعام مذهب الرجل ومخالفة الناس له، ونكير المالكية عليه أولًا وآخرًا مشهور، ومخالفته لإمام المغرب أبي الوليد الباجي معروفة، حتى إن فضلاء المغرب يقولون: لم يكن أحد بالمغرب يرى هذه المقالة غيره وغير ابن أبي زيد، على أن العلماء منهم من قد اعتذر عن ابن أبي زيد بما هو موجود في كلام القاضي الأجلّ أبي محمد عبد الوهاب البغدادي المالكي رحمه الله» .

ص: 75

فإذا ثَبتَ أنه تعالى فوق العرشِ بذاته؛ بطلَ قولُ الجهمية ومَن تَبعهم؛ إنه تعالى في كلِّ مكان.

و «مجيد» : صفةٌ للعرش؛ لأنه المُناسبُ في هذا السِّياقِ، والآيةُ في سورة البروجِ فيها قراءَتان

(1)

بالجرِّ: صفةٌ للعرش، وبالرفع: صفةٌ لله.

(1)

قرأ حمزة، والكِسائي، وخَلَف: بخفض الدال، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: برفعها. ينظر: السبعة في القراءات لابن مجاهد (ص 678)، والنشر في القراءات العشر (2/ 399).

ص: 76

والمحرِّفون اختاروا قراءةَ الرفع؛ ليكون معنى قول ابن أبي زيد: المجيدُ بذاته، وهذا الموضعُ مما يتميزُ به رحمه الله عن جمهور الأشاعرة، وهو إثباتُه لفوقية الذات، ولهذا عُدَّ من أهل السنَّةِ والجماعةِ.

قوله: (وهو في كلِّ مكانٍ بعلمِه):

في هذه الجملة مع التي قبلها تحقيقٌ لمذهب أهلِ السنَّة، وهو أنه تعالى بذاته فوق العرش، وعلمه في كلِّ مكان، وفي هذا إبطالٌ لقول الحلولية نفاة الفوقية القائلين بأنَّه تعالى في كلِّ مكانٍ بذاته، وليس هو تعالى فوق العرش.

فنصوصُ العلم ونصوصُ المعيَّةِ تدلُّ على أنه تعالى وإنْ كان فوق العرشِ؛ فعلمُه مُحيطٌ بكلِّ شيءٍ، وسمعُه واسعٌ لجميعِ الأصوات، وبصرُه نافذٌ لجميع المخلوقات، فيعلمُ ما يُسِرُّ العباد وما يُعلنُون، فلا تخفى عليه خافيةٌ؛ كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ} [آل عمران: 29].

إذن: هو نفسُه تعالى فوق العرشِ، وهو مع العبادِ بسمعِه وبصرِه وعلمه سبحانه وتعالى.

وقد وضَّحَ العلماءُ‌

‌ معنى المعيةِ العامة

بأنها معيَّةُ العلمِ

(1)

، فليس هو معهم بذاتِه بمعنى أنه مُختلطٌ بهم. يقول شيخُ الإسلام: «فإن هذا

(1)

ينظر: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد (ص 307 - 308)، ومنهاج السنة (8/ 372 - 375)، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص 245 - 247)، ومختصر الصواعق (3/ 1246 - 1249)، ومدارج السالكين (2/ 622).

ص: 77

لا تُوجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق»

(1)

، وليس قولُ أهل السنَّة بأنه تعالى معهم بعلمه من التأويل كما يزعمه المخالفون؛ بل هذا قد دلَّت عليه آيةُ المعيةِ، فإنَّها بُدِأت بالعلم وخُتِمت بالعلم، وهي قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (7)} [المجادلة]

(2)

. وما قاله المؤلف مطابق لما صحَّ عن الإمام مالك، وهو قوله:«اللَّه تبارك وتعالى في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان» ، رواه أحمد، وأبو داود

(3)

.

قوله: (خلق الإنسانَ ويعلم ما توسوسُ به نفسه، وهو أقربُ إليه من حبل الوريد):

هذا تفصيلٌ لما أجملَه في قوله: وعلمُه في كلِّ مكانٍ.

أخذه من قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد (16)} [ق]، فخصَّ بالعلم ما توسوس به نفسه؛ لأنَّه من أخفى الأشياء، وهذا كثيرٌ في القرآن؛ كقوله تعالى: {وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ

(1)

العقيدة الواسطية (ص 83 - 84)، وبشرح شيخنا (ص 156).

(2)

ثبت عن جمع من السلف أنهم قالوا: هو معهم؛ أي: بعلمه، منهم ابن عباس، والضحَّاك، ومقاتل بن حيَّان، وسفيان الثوري، ومالك، وأحمد بن حنبل وغيرهم، وحكى الطلمنكي وابن عبد البر إجماع الصحابة والتابعين ولم يخالفهم فيه أحد يُعتد بقوله. ينظر: الرد على الجهمية والزنادقة (ص 296 - 297)، والنقض على المريسي (1/ 442 - 443)، والشريعة (3/ 1074)، والتمهيد (7/ 138 - 139)، وشرح حديث النزول (ص 356 - 363)، وبيان تلبيس الجهمية (2/ 38).

(3)

ينظر: مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (1699).

ص: 78

الصُّدُور (154)} [آل عمران]: يعلم ما في أنفسكم، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ} [آل عمران: 29].

وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد (16)} : اختلفَ المفسرون في هذا القُرْب، فقِيل - وهو أكثرُ ما جاءَ عن المُفسِّرين من السلفِ -: إنَّ المُرادَ قربُه تعالى بملائكتِه المُوكَّلين بالعبدِ بحفظِ عمله، قال تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)} [الانفطار]، فقوله:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد (16)} ، نظيرُ قوله:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُون (85)} [الواقعة]، وأنَّ المرادَ قربُ الملائكةِ، وهم ملائكةُ التوفّي المُوكَّلين بتوفِّي أرواحِ العباد، وعلى هذا فلا تدلُّ الآيةُ على إثباتِ القربِ العامّ.

وقِيل؛ المرادُ بالآيتين: قربه تعالى بنفسه، وأنَّ هذا القربَ هو قربُه بعلمِه كما قِيل ذلك في المعية العامة.

والمصنِّفُ مشى على هذا المعنى الأخير؛ حيث قالَ: (وهو أقربُ إليه من حبلِ الوريدِ)، فظاهرُ هذا التعبيرِ أنَّه يُثبت القربَ العام، ولا إشكالَ على كلِّ تقديرٍ ولله الحمدُ، لكنَّ الأوَّلَ هو الراجحُ في تفسيرِ الآية، وهو المأثورُ عن أكثر السَّلفِ، وأنَّ المرادَ: قربُه تعالى بملائكته كآيةِ الواقعةِ

(1)

.

(1)

هو قول شيخ الإسلام وابن القيم في بعض كتبه. ينظر: بيان تلبيس الجهمية (6/ 25 - 40)، وشرح حديث النزول (ص 354) وما بعدها، ومجموع الفتاوى (6/ 20 - 23)، ومدارج السالكين (2/ 623)، (2/ 657)، ومختصر الصواعق المرسلة (3/ 1251).

ص: 79

والوريدُ: عرقٌ في جانب العنقُ مُتَّصلٌ بالقلب

(1)

.

وأمَّا القربُ في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، تدعون سميعًا بصيرًا قريبًا»

(2)

، فهو القربُ الخاصُّ بالدَّاعين والعابدين؛ كما في قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

فمن أهلِ العلم مَنْ يجعل القربَ عامًا وخاصًا كالمعية

(3)

، ومن العلماء مَنْ لا يُثبت إلَّا القربَ الخاصَّ؛ كما في الآية والحديث.

قوله: (وما تسقطُ من ورقةٍ إلَّا يعلمها، ولا حبَّةٍ في ظُلمات الأرض ولا رَطبٍ ولا يابسٍ إلَّا في كتابٍ مبينٍ):

هذه الجملةُ مُقتبسةٌ من آية في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ

} الآية [الأنعام: 59]، وهو من التفصيل في علم الله، فهو تعالى يعلمُ كلَّ شيء، ويعلم ما في السماواتِ والأرض، ومن ذلك أنَّ علمَه مُحيطٌ بهذه الأشياء الدقيقةِ الكثيرة التي لا يعلمُ عددَها ولا يُحصِيها إلا الله.

(1)

ينظر: غريب القرآن للسجستاني (ص 196)، والمفردات للراغب (ص 865).

(2)

أخرجه البخاري (7386) - واللفظ له -، ومسلم (2704) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(3)

كابن القيم في «طريق الهجرتين» (1/ 42 - 44)، وسماه «قرب الإحاطة العامة» ، والسعدي في «أصول وكليات التفسير» - مطبوع ضمن تفسيره - (1/ 29)، والهرَّاس في «شرح القصيدة النونية» (2/ 94).

ص: 80

وقوله تعالى: {مِنْ وَرَقَةٍ} : نكرةٌ في سياقِ النفي، دخلت عليها «من» الزائدة فتكون نصًّا في العموم، فيدخل فيها كلُّ ورقةٍ تسقط من أوراق الأشجارِ، وهذا غايةٌ في الكثرة والدِّقةِ، وعلمُ الله محيطٌ بجميع ذلك، ولهذا قال تعالى:{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (59)} [الأنعام]، فهذه الآيةُ قد تضمَّنَت إثباتَ إحاطةِ علمِه بالجزئياتِ، وإحاطةَ كتابِه بكل هذه المعلومات؛ كقوله تعالى:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11].

* * * * *

ص: 81

‌معاني المجد والجلال من صفاته تعالى

(على العرش استوى، وعلى المُلك احتوى، وله الأسماءُ الحسنى والصفاتُ العُلى، لم يَزل بجميع صفاتِه وأسمائِه، تعالى أن تكون صفاتُه مخلوقةً، وأسماؤه مُحدثةً.

كلَّم موسى بكلامه الذي هو صفةُ ذاتِه، لا خلقٌ من خلقه، وتجلَّى للجبل فصار دكًّا من جلاله).

يقولُ المؤلف في ذكرِه لبعضِ ما يجبُ الإيمانُ به من أسماءِ الله وصفاتِه: (على العرش استوى)؛ يعني: يجبُ الإيمانُ بأنَّه تعالى على العرشِ استوى؛ كما أخبرَ بذلك في سبعِ آياتٍ من القرآن، في ستةِ مواضعَ منها بلفظ:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في الأعراف ويونس والرعد والفرقان والسجدة والحديد، وفي طه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه]. وقد دلَّت هذه الآياتُ على أنَّ استواءَه على العرشِ كان بعد خلقِ السماواتِ والأرض، فقال تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54].

ص: 82

واستواؤُه على العرشِ يتضمَّنُ علوَّه تعالى على جميعِ المخلوقات؛ لأنَّ العرشَ أعلى المخلوقات، ولهذا تُعَدُّ الآياتُ والأحاديثُ الدالةُ على استوائِه تعالى على العرش من جملة أدلَّة العلوِّ

(1)

.

والاستواءُ على العرش جاءَ تفسيرُه عن السَّلف بأربع عبارات: علا وارتفعَ واستقرَّ وصعدَ، وهي معانٍ متقاربةٌ، وقد نظمها ابنُ القيم في نونيَّته

(2)

؛ فقال:

فلهم عبارات عليها أربعٌ

قد حُصِّلَت للفارس الطعَّان

وهي استقر وقد علا وكذلك ار

تَفَعَ الذي ما فيه من نُكران

وكذاك قد صعد الذي هو رابعٌ

وأبو عُبيدة صاحب الشيباني

يختار هذا القول في تفسيره

أدرى من الجهميِّ بالقرآن

وأهلُ السنَّةِ والجماعة يُثبتون هذه الصفة، بأنَّ الله تعالى فوقَ العرشِ كما تقدَّمَ

(3)

، وأنَّه فوق العرشِ المجيدِ بذاتِه، يؤمنون بذلك على المعنى المفهوم من استوَى في لغة العرب؛ لأنَّ الله خاطبَ عبادَه بلسانٍ عربيٍّ مُبين.

(1)

ينظر: هامش (ص 68).

(2)

ينظر: النونية (2/ 361 - 362، رقم 1353 - 1356).

(3)

تنظر: (ص 72).

ص: 83

ولهذا لَمَّا قيل للإمام مالك: كيف استوى؟ قال: «الاستواءُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ»

(1)

.

إذن: أهلُ السنَّة والجماعة يُثبتون العلوَّ والاستواء، وهما معنيان بينهما تناسُبٌ، كما تقدَّم أنَّ الاستواءَ يتضمنُ العلوَّ، لكن العلوَّ صفةٌ ثابتةٌ ذاتيةٌ لله تعالى أزلًا وأبدًا، والاستواءُ صفةٌ فعليَّةٌ، والعلوُّ: هو على جميعِ المخلوقاتِ ففيه عمومٌ، فتقول: اللهُ عالٍ على جميعِ خلقه، لكن في الاستواءِ لا يقال إلَّا أنَّه مستوٍ على العرش، فالاستواءُ مختصٌّ بالعرشِ.

ومن الفروق بين العلوِّ والاستواء: أنَّ الاستواءَ طريقُ العلمِ به هو الكتابُ والسنَّةُ والإجماعُ؛ أمَّا العلوُّ: فطريقُ العلم به السمعُ والعقل، فعلوُّه على خلقه ثابتٌ بالكتابِ والسنَّةِ والإجماعِ والعقلِ والفطرةِ

(2)

.

وأنكرَت المُعطلةُ: الجهميةُ والمُعتزلةُ ومَن وافقَهم كالأشاعرةِ عُلوَّه تعالى بذاتِه واستواءَه على عرشه، كما تقدَّم

(3)

، وزعموا أنَّ ذلك يدلُّ على حصره تعالى في مكان، ويستلزمُ أن يكون جسمًا؛ قالوا: والأجسام مُتماثلةٌ، فيلزمُ من ذلك التشبيه.

ولهم سوى ذلك شبهات قد كشَفها علماءُ أهلِ السنَّة وللهِ الحمدُ، وهي شبهاتٌ داحضةٌ، وما أخبرَ الله به عن نفسِه وأخبرَ به عنه رسولُه حقٌّ، فكلُّ ما عارضَه فهو باطلٌ، فالاستواءُ يجب الإيمانُ به كما جاءَ في جوابِ الإمام مالك وغيره، فيجبُ إثباتُ حقيقةِ الاستواءِ لله، مع

(1)

تقدم تخريجه في (ص 58).

(2)

ينظر شرح حديث النزول (ص 395)، ومجموع الفتاوى (5/ 122)، وشرح التدمرية (ص 280)، وتوضيح مقاصد الواسطية (ص 112).

(3)

تنظر: (ص 73).

ص: 84

نفي مُماثلتِه لاستواءِ المخلوق، فالمخلوقُ يُوصفُ بالاستواء؛ كما قال تعالى:{{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13]، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28].

لكن استواءه تعالى لا يُماثل استواءَ المخلوق، كما أنَّ ذاتَه لا تُماثل ذواتَ المخلوقين، ولا نعلمُ ولا نعقلُ كُنْهَ استوائِه كما تقدَّمَ، فلا يبلغُ كُنهَ صفاتِه الواصفون، فيجبُ الإثباتُ ونفيُ التمثيل ونفيُ العلمِ بالكيفية، فهذا ما يقومُ عليه مذهبُ أهل السنَّة، وهو تعالى مستوٍ على العرش، ولا يلزمُ من ذلك ما يلزمُ في استواءِ المخلوق على المخلوقِ، لأنه يستلزمُ حاجته وافتقارَه إليه، وأمَّا الله فهو مُستوٍ على العرش مع غِناه عنه، فإنَّه هو المُمسِكُ للعرش وما دون العرشِ، فلا بدَّ من هذا الفرقِ.

فعُلِمَ: أنَّ وصفَه بالاستواءِ لا يستلزمُ محظورًا، فاستواءُ المخلوق على المخلوقِ يستلزمُ خصائصَ المخلوق، أمَّا استواءُ الربِّ فلا يستلزمُ شيئًا من خصائصِ المخلوق.

وقوله: (وعلى المُلك احتوى): كلمةُ «احتوى» ما علمتُ أنها وردَت في حديثٍ ولا أثرٍ، لكنَّها وردت في كلام بعض العلماء؛ مثل ابن أبي زيدٍ، وعبد القادر الجيلاني رحمهما الله

(1)

وابن طالب المالكي

(2)

، وهو أقدم

(1)

وعبارة الشيخ عبد القادر: «وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك» . الغنية لطالبي طريق الحق (1/ 121)، وبمثلها في «اليواقيت والجواهر» للشعراني (1/ 121) وعزاها لكتاب «البهجة» فقال:«ورأيت في كتاب «البهجة» المنسوبة لسيدي الشيخ عبد القادر الجيلي .... ».

(2)

ابن طالب: عبد الله بن طالب القاضي تفقَّه بسحنون، وكان من كبار أصحابه ولقي المصريين: محمد بن عبد الحكم ويونس بن عبد الأعلى، وحج وانصرف =

ص: 85

من رويت عنه

(1)

، ونقلها عنهما أهل العلم ولم ينكروها

(2)

، ومعناه حقٌّ، وهو عموم الملك، كما قال تعالى:{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 107]، وقال تعالى:{وَلَم يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111].

ويلاحظ أنَّ اللهَ كثيرًا ما يَقْرِنُ بين ذِكرِ استوائِه على العرش، ومُلكِه للسماوات والأرض؛ كما في سورة طه:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)} [طه] يعني: هو على العرشِ استوى، وقد أحاطَ ملكه بكل شيء؛ كما في قوله:{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 83].

ويمكن أن يشبهُ هذا بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} ، إلى قوله:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِين (54)} [الأعراف].

=وولي قضاء القيروان مرتين، له مصنفات منها:«الرد على من خالف مالكًا» ، توفي سنة (275 هـ). ينظر: ترتيب المدارك (4/ 308)، والديباج المذهب (1/ 421).

(1)

ينظر: ترتيب المدارك (4/ 308)، ومعالم الإيمان (2/ 161).

(2)

وردت - دون نسبةٍ لمعيَّن - في نوادر الأصول للحكيم الترمذي (6/ 436) في مقالات التابعين وما دونهم في سجداتهم.

وذكرها قبل الشيخ عبد القادر الجيلاني: أبو علي الهاشمي في عقيدته، وتتابع العلماء في ذكر هذا اللفظ كالشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحفيده الشيخ سليمان بن عبد الله، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ عبد الرحمن السعدي، وغيرهم. ينظر: الإرشاد إلى سبيل الرشاد للهاشمي (ص 6)، ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب - الخطب المنبرية - (13/ 11)، وتيسير العزيز الحميد (1/ 122)، والدرر السنية (12/ 373، 380)، والخطب المنبرية للسعدي (ص 225).

ص: 86

والذين يَنفُون حقيقةَ الاستواءِ منهم مَنْ يتأوَّلُه بالاستيلاء، وهم أهلُ التأويل

(1)

، ومنهم مَنْ يُفوِّضُ، فيقول: اللهُ أعلمُ بمراده، وهم أهلُ التفويض، وسمَّاهم شيخُ الإسلام أهل التجهيل

(2)

؛ لأنَّ مذهبَهم يتضمَّنُ تجهيلَ الرسولِ والصحابة بمعاني نصوصِ الصفات، وهذه التسميةُ أدلُّ على حقيقة مذهبهم من تسميتهم أهل التفويض؛ لأنَّ التفويضَ منه ما هو واجبٌ؛ وهو التفويضُ في كيفيَّة الصفات، ويُقابلُهم أهلُ التأويل الذين يُفسِّرون الآياتَ بتفسيرٍ يُخرجونها به عن ظاهرِها، وكلٌّ من المذهبين - أعني التفويضَ والتأويل - باطلٌ، ومبنيٌّ على باطلٍ؛ لأنَّ كلًّا منهما مبنيٌّ على نفيِ الصفات، فأهلُ التأويلِ وقعوا في التحريفِ، وأهلُ التفويضِ وقعوا في التجهيلِ.

قوله: (وله الأسماءُ الحُسنَى):

اللهُ له الأسماءُ الحسنى، وهذا من الإثباتِ المُجمل؛ لأنَّها كلمةٌ عامة، كما قال الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء

(1)

وقد أفرد شيخُ الإسلام لذلك مؤلفًا يعرف ب: «رسالة في الاستواء وإِبطال قول من تأوَّله بالاستيلاء من نحو عشرين وجهًا» ، وقد ذكرها ابن رشيِّق في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية - ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام وتكملته - (ص 368)، وذكرها ابن عبد الهادي في «العقود الدرية» (ص 89) ولعلها - والله أعلم - رسالة «علو الله على سائر مخلوقاته» ، وهي مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى (5/ 136 - 152)، ولكن ذكر فيها اثني عشر وجهًا (ص 144 - 149)، وقد أوصل ابن القيم هذه الوجوه إلى اثنين وأربعين وجهًا كما في «مختصر الصواعق» (3/ 888 - 946).

(2)

ينظر: درء التعارض (1/ 15)، والجواب الصحيح (6/ 520)، والانتصار لأهل الأثر (ص 97 - 98)، والفتوى الحموية (ص 273).

ص: 87

الْحُسْنَى} [الحشر: 24]، وقال:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى (8)} [طه]، وقال:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180].

فكلُّ الأسماء الحسنى ثابتةٌ له سبحانه، لكن هذه الأسماءُ منها ما أطلعَ اللهُ عليه مَنْ شاءَ من العباد، ومنها ما استأثرَ بعلمِه كما في حديث دعاءِ الهمِّ:«أَسأَلُك بِكُلِّ اسمٍ هو لكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نفْسَك، أَوْ أَنْزَلتهُ فِي كِتابِكَ، أو عَلَّمتَه أَحدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتأْثرتَ به فِي عِلمِ الغَيبِ عِندكَ»

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد (3712)، وابن أبي شيبة (29318)، وأبو يعلى (5297) - وعنه ابن حبان (972) -، والطبراني في «الكبير» (10352)، والحاكم (1877) - وعنه البيهقي في «الأسماء والصفات» (رقم 7) -، من طريق فضيل بن مرزوق، عن أبي سلمة الجهني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، به.

وفي إسناده ضعفٌ من وجهين:

الأول: جهالة أبي سلمة الجهني، فلم يرو عنه غير فضيل بن مرزوق، وممن ذهب إلى جهالته: الذهبي في «الميزان» (4/ 533، رقم 10265)، وابن حجر في «اللسان» (9/ 83 رقم 8886)، والحسيني في «الإكمال» (رقم 1087)، والهيثمي في «المجمع» (10/ 136، رقم 17129)، وهو مقتضى صنيع الدارقطني في «العلل» (5/ 200، رقم 819). وقد اشتبه أبو سلمة الجهني بموسى الجهني على بعض النقَّاد، مع أن البخاري في «تاريخه» (9/ 39، رقم 341)، و (7/ 288، رقم 1229) فرّق بينهما، وكنى موسى بأبي عبد الله، وتابعه ابن حبان في «ثقاته» (7/ 449) و (7/ 659).

وموسى الجهني وأبو سلمة الجهني من طبقة واحدة، وكلاهما يروي عن القاسم بن عبد الرحمن؛ لذلك وقع الاشتباه بينهما، غير أن موسى الجهني معروف من رجال «التهذيب» ، ولا يُعرف لفضيل بن مرزوق رواية عنه، أما أبو سلمة الجهني فلم يرو عنه غير فضيل بن مرزوق.=

ص: 88

وأسماؤه تعالى ليست محصورةً في تسعةٍ وتسعين كما قد يُفهم من حديثِ: «إنَّ لله تِسعةً وتسعين اسمًا، مئةً إلَّا واحدًا، مَنْ أحصاها دَخلَ الجنةَ»

(1)

. قال العلماء: إنَّ هذا ليس فيه حصرٌ لأسمائه في هذا العددِ، بل فيه الإخبارُ عن أنَّ من أسمائه تسعة وتسعين اسمًا، مِنْ شأنها ومِن صفتِها وفضلِها: أنَّ من أحصَاها دخلَ الجنة، وهذا لا ينفي أن تكونَ له أسماءٌ أخرى، فيجبُ التنبُّهُ لذلك، فأسماؤُه كثيرةٌ، منها ما علَّمَه لمن شاءَ من عبادِه، ومنها ما استأثرَ بعلمه، يوضِّحُ ذلك لو قال قائلٌ: عندي مئة فرسٍ أعددتها للجهاد، لم يدلَّ على أنَّه ليس عنده سواها

(2)

.

=والثاني: اختُلف في سماع عبد الرحمن بن عبد الله من أبيه، فقال أبو حاتم وغيره: سمع من أبيه، وقال النسائي وغيره: لم يسمع من أبيه، واختلف قول ابن معين في ذلك، وهو وإن سمع من أبيه إلا أنه لم يسمع منه إلا قليلًا؛ لأنَّه كان صغيرًا، لذلك حكى العجلي في «الثقات» (رقم 963):«يقال: إنَّه لم يسمع من أبيه إلا حرفًا واحدًا: «محرم الحلال كمستحل الحرام» ، وقال ابن المديني:«سمع من أبيه حديثين: حديث الضبِّ، وحديث تأخير الوليد للصلاة» . ينظر: تهذيب الكمال (17/ 239، رقم 3877)، وتهذيب التهذيب (6/ 215 رقم 436).

وللحديث شاهد من حديث أبي موسى عند ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (339) من طريق عبد الله بن زبيد، عن أبي موسى، به. وعبد الله بن زبيد هو ابن الحارث اليامي، لم يوثقه غير ابن حبان، ولا يعرف له سماع من أبي موسى، وأورده الهيثمي في «المجمع» (10/ 136 - 137) ونسبه إلى الطبراني، وقال:«وفيه من لم أعرفه» .

(1)

أخرجه البخاري (2736)، ومسلم (2677) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

هذا قول أكثر العلماء، وقد نقل الإمام النووي اتفاق العلماء على أنَّ هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى. ينظر: شرح صحيح مسلم (17/ 5)، وجامع المسائل (9/ 128)، ومجموع الفتاوى (6/ 381)، (22/ 486)، وشفاء العليل (2/ 367)، وبدائع الفوائد (1/ 293 - 294).

ص: 89

والحُسنى: اسمُ تفضيلٍ، مثلُ الأحسنِ، وهذا أكملُ من أن يُقالَ: له الأسماءُ الحَسَنَةُ، فالأحسنُ والحُسنى: البالغُ في الحُسنِ غايته

(1)

.

فأسماؤُه مُتضمِّنةٌ لصفاتِ الكمال على وجهِ الكمال، وفي هذا الرد على الجهمية والمعتزلة.

قوله: (والصفاتُ العُلى): الصفاتُ هي المعاني الثابتة القائمة به سبحانه وتعالى، من علمِه، وسمعِه، وبصره، وكلامه، وأفعاله؛ كنزولِه، واستوائِه على العرش، ومحبته، وغضبه، ورضاه إلى غير ذلك من نُعوت جَلاله.

لكن ينبغي أن يُعلمَ أنَّ كلَّ اسم متضمِّنٌ لصفة، فهو العليمُ، والعلمُ صفته، فاسمُ العليمِ تضمَّنَ العلمَ، والحيُّ يتضمَّنُ الحياةَ، والسميعُ يتضمَّنُ السمعَ، والبصيرُ يتضمَّنُ البصرَ، وهكذا

(2)

.

لكن ليس كلُّ صفةٍ يُشتقُّ له تعالى منها اسمٌ، فمثلًا قوله:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقوله:{رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، وقوله:{وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46]، فلا تقُلْ: إنَّه تعالى المحبُّ والرَّاضي والكارهُ، وما إلى ذلك، فكلُّ اسمٍ مُتضمِّن لصفةٍ، فاسمُه العليمُ يدلُّ على ذاتِه وصفةِ العلمِ، وأمَّا الأفعالُ والصفاتُ الأخرى؛ فلا يلزمُ من ذلك أنْ يُشتقَّ له منها أسماءٌ

(3)

.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 141)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (1/ 78)، والتعليق على القواعد المثلى لشيخنا (ص 16)، (ص 21).

(2)

تقدم في (ص 71).

(3)

ينظر: بدائع الفوائد (1/ 284 - 285)، وطريق الهجرتين (2/ 719 - 720)، ومختصر الصواعق (1/ 745 - 746)، والتعليق على القواعد المثلى (ص 41)، والتعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري (رقم: 94، 106).

ص: 90

والصفاتُ العُلى يعني من حيث المعنى صفاتٌ عالية، كما قال تعالى:{وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 27]. هذا من الإثباتِ المجملِ؛ يعني له الوصفُ الأكملُ والأطيبُ والأفضلُ، فله المثلُ الأعلى في جميعِ نعوته سبحانه وتعالى.

قوله: (لم يزل بجميع صفاته وأسمائه): يعني: أنَّ أسماءَه وصفاته ثابتةٌ له في الأزل، لم تحدث بعد أن لم تكن، وهذا فعلٌ يدلُّ على الاستمرارِ في الماضي، ما زالَ في الماضي ولا يزال في المستقبل، كما يقولُ الطحَّاوي:«ما زالَ بصفاتِه قديمًا قبل خلقِه، لم يزدَدْ بكونهم شيئًا لم يكن قبلُهم من صفتِه، وكما كان بصفاتِه أزليًا، كذلك لا يزالُ عليها أبديًا»

(1)

. فصفاتُه الذاتية كلها لم تَزَلْ، يعني لم يَزَل عليمًا ولا يزال عليمًا، فليس لعلمه بداية ولا نهاية، ولم يزل حيًّا قيُّومًا، ولا يزالُ كذلك، ولم يزل سميعًا بصيرًا، ولا يزالُ كذلك، ولم يزل قديرًا، لم تحدثْ له قدرةٌ بعد أن لم يكن قادرًا؛ بل لم يزل على كلِّ شيءٍ قديرًا، ولا يزالُ كذلك، ولم يزل عزيزًا، والعزةُ صفته، ولا يزالُ كذلك، وهذا في الصفاتِ الذاتية ظاهرٌ.

أمَّا الصفاتُ الفعليةُ ففيها تفصيلٌ؛ لأنَّها تابعةٌ لمشيئته، فجنسُ الفعل وبعضُ أنواعه ممكن أن تقول: الله تعالى لم يزل فعَّالًا لِمَا يُريد، فكونُه فعَّالًا هذا صفةٌ لازمةٌ لذاته، فلم يزل قادرًا على الفعلِ، فعَّالًا لِمَا يريد، فما أرادَ أن يفعلَه فعلَه؛ لأنه لا يُعجزُه شيءٌ، ولا يمنعُه شيءٌ ممَّا أرادَه سبحانه وتعالى.

(1)

ينظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (1/ 96).

ص: 91

كذلك صفةُ الكلامِ هي صفةٌ ذاتيةٌ فعلية، ولهذا تقول: اللهُ لم يزل مُتكلِّمًا إذا شاءَ، فينبغي التقييدُ بما شاء. أمَّا أنواعُ الفعلِ مثل الاستواءِ؛ فلا تقلْ: اللهُ لم يزل مُستويًا على العرش؛ فالعرشُ مُحدَثٌ مخلوقٌ، فلا يُتَصوَّرُ أن تقولَ: إنَّه تعالى لم يزل مستويًا على العرش، بل تقول: لم يزل فعَّالًا لِمَا يريدُ، والاستواءُ من أفعاله، وكذلك المجيءُ يومَ القيامة من أفعاله، وكذلك النزولُ كلَّ ليلةٍ حين يبقى ثلثُ الليلِ الآخر

(1)

، وإذا عُلِمَ أنَّه تعالى لم يزل فعَّالًا لِمَا يريد؛ فمعنى ذلك دوامُ فاعليته ودوامُ أفعالِه؛ بمعنى: أنَّه ما من فعلٍ إلَّا وقَبْله فعل، وهذا لازمٌ من دوام فاعليته، ويُعبَّرُ عنه بتَسَلْسُلِ الأفعال؛ أي: أفعال الرب، وهذا لا خلاف فيه بين أهل السنَّة

(2)

.

قوله: (تعالى أن تكونَ صفاتُه مخلوقةً، وأسماؤُه مُحدثةً): هذا فيه تفصيلٌ؛ فالصفاتُ الفعلية نوعُها في الجملة قديمٌ، وأفرادُها حادثةٌ؛ مثل الكلامِ، يقولُ أهلُ العلم المُحقِّقون: إنَّ الكلامَ قديمُ النوعِ حادثُ الآحاد

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث متواتر. ينظر: نظم المتناثر (ص 178 رقم 206).

(2)

ينظر: درء التعارض (1/ 121 - 127)، (1/ 303 - 305)، (1/ 351 - 356)، (1/ 368 - 370)، (2/ 282 - 288)، (2/ 344 - 399)، ومنهاج السنة (1/ 146 - 148)، (1/ 176 - 178)، ومجموع الفتاوى (18/ 210 - 244)، والكافية الشافية (1/ 272 - 282).

(3)

ينظر: منهاج السنة (1/ 166)، (2/ 379)، والجواب الصحيح (3/ 212 - 313)، ومجموع الفتاوى (12/ 372).

ص: 92

ومعنى «قديم» : ما لا بدايةَ له

(1)

، وتكليمُه لموسى إنما حصلَ في وقته، وتكليمُه للأبوين في وقتِه، وتكليمُه لأهل الموقفِ يكون يومَ القيامة، فليس قديمًا، لكن نوعُ الكلام قديمٌ؛ بمعنى: أنَّ اللهَ لم يزل يتكلَّم بما شاء.

وأهلُ الكلام عندَهم اضطرابٌ في الصفاتِ الفعلية: منهم مَنْ ينفي الصفات الفعلية كما ينفي غيرها؛ وهم الجهميةُ والمعتزلةُ، ومنهم مَنْ يُثبتُها لكن يقولُ: إنها لازمةٌ لذاته لا تتعلقُ بها المشيئةُ؛ وهم الكُلَّابيَّة

(2)

؛ مثل الغضبِ، والرضا، والحبِّ، والبغضِ

(3)

.

(1)

هذا تفسير للقديم على اصطلاح المتكلمين، والقديم في اللغة: ما كان متقدمًا على غيره ولو كان مخلوقًا، كما قال تعالى:{حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} [يس]. ينظر: المبين في شرح معاني الحكماء والمتكلمين (ص 118 - 119 رقم 204)، والصفدية (ص 368)، وبيان تلبيس الجهمية (5/ 171)، والجواب الصحيح (3/ 268 - 269)، (4/ 483)، وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 129).

(2)

الكُلاَّبية: أتباع عبد الله بن سعيد بن كُلاَّب القطان البصري، رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، وسلك طريقته أبو الحسن الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال، يثبت ابن كُلَّاب وأتباعه الأسماء والصفات الخبرية إلا أنه ينفي الصفات الاختيارية بناءً على نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، وأوجب له ذلك: القول بأزلية صفات الأفعال، وهو أوَّل من ابتدع القول بالكلام النفسي، وقال في كلام الله والقرآن قولَه المشهور، وهو أنه ليس بحروف ولا صوت، وأنَّه معنى واحد، وأنَّ القرآن الذي يُتلى هو حكاية عن كلام الله مع قوله: إن القرآن غير مخلوق. ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 138)، (2/ 421 - 422)، (2/ 380)، ودرء التعارض (2/ 16)، والتسعينية (2/ 683)، وشرح حديث النزول (ص 406).

(3)

ينظر: رسالة الأفعال الاختيارية - ضمن: جامع الرسائل والمسائل (2/ 3 - 70)، ومجموع الفتاوى (6/ 217 - 267) - ودرء التعارض (2/ 3 - 156)، وشرح الأصبهانية (ص 499 - 501).

ص: 93

والأشاعرةُ وإن أثبتوا الصفات السبع المعروفة، فإنهم ينفون الصفاتِ الفعلية بناءً على أصلهم في نفي حلول الحوادث، وما ينفونه من الصفات كالمحبَّةِ والرضا والبُغضِ والغضبِ؛ منهم مَنْ يوجب فيها التفويض، ومنهم مَنْ يوجب فيها التأويل، فيؤولونها إمَّا بالإرادةِ، وإمَّا ببعضِ المخلوقاتِ من النِّعمِ والعقوباتِ

(1)

.

قوله: (كلَّم موسى بكلامه الذي هو صفةُ ذاته، لا خلقٌ من خلقه):

في هذا تقريرٌ لإثباتِ كلام الله، وأهلُ السنَّةِ والجماعة يُثبتون الكلامَ كما يُثبتون سائرَ الصفات، فيقولون: إنَّ الله كلَّمَ ويُكلِّمُ، وقال ويقول، وأنَّه يتكلم إذا شاءَ بما شاء كيف شاء، ويستشهدون بالنصوص الكثيرةِ من الكتابِ والسنَّةِ؛ كما قال تعالى:{وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء]، ويقولون: إنَّ كلامَ الله قائمٌ به، وليس بمخلوقٍ، وأنه يتكلَّمُ بصوتٍ، ولهذا جاءَ وصْفُ كلامِه بالنِّداء؛ كما قال تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} [مريم: 52]، وقال:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 22]، وقال:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص: 62].

فيقولُ المؤلف: (كلَّمَ موسى): أي: اللهُ كلَّمَ موسى يوم كلَّمَه، وهو سبحانه كلَّمَ موسى مرتين: عند إرسالِه، وعندما واعدَه، فالتكليمُ الأوَّلُ لم يكن عن ميعادٍ، والتكليمُ الثاني كان عن ميعادٍ؛ كما قال تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]، إلى قوله:{وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، فكلَّمَ موسى بكلامِه الذي هو صفةُ ذاته؛ أي: بكلام قائم بذاتِه كغيره من الصفات؛ فإنَّ

(1)

ينظر: شرح التدمرية (ص 146)، (ص 185).

ص: 94

الصفةَ لا بدَّ أن تقومَ بالموصوفِ، فهذا هو المعقولُ، لا بكلامٍ مخلوقٍ كما يقولُ المعتزلة والجهميةُ: إنَّ كلامَ اللهِ مخلوقٌ، ولا يقومُ به الكلامُ، ومعنى هذا أنَّ كلامَه تعالى الذي كلَّمَ به موسى مخلوقٌ، فقالوا: خلقَ الله كلامًا في الشجرة فسمعَه موسى

(1)

، وبناء على هذا قالوا: القرآنُ مخلوقٌ وهي القضيةُ التي وقعَت بسببها الفتنةُ والمحنةُ وثَبَّتَ اللهُ مَنْ ثبَّتَه من أهلِ السنَّةِ، وحفظَ اللهُ دينَه

(2)

.

فعبارةُ المؤلفِ جيدةٌ حيث قالَ: (كلَّمَ موسى بكلامه الذي هو صفةُ ذاته، لا خلقٌ من خلقه)، ففيه إثباتُ الكلامِ للهِ بكلام هو صفةُ ذاته ليس بمخلوق؛ يعني: كأنَّه يقول: خلافًا لمن زعمَ أنَّ كلامَ الله مخلوقٌ، والقرآنَ مخلوقٌ، وهناك مذاهبُ أُخرى لطوائف المتكلِّمين كالكُلَّابية؛ وهم أتباعُ أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كُلَّاب

(3)

، وهو أحدُ المتكلِّمين المنتسبين إلى السنَّة، وكان يردُّ على المعتزلة، وعلى منهجه دَرجَ أبو الحسن الأشعري، وهؤلاء يقولون: إنَّ كلامَ الله معنىً نفسيٌ قائم بذاته، ليس بحرفٍ ولا صوت، وإنه قديمٌ لا تتعلَّقُ به المشيئةُ.

لكن ابن كُلَّاب يقول: إنَّه أربعة معانٍ: أمرٌ، ونهيٌ، وخبرٌ، واستخبارٌ، وأمَّا الأشعري في المذهب المشهور الموروث عنه فيقول: إنَّه معنىً واحد لا تعدُّد فيه، وهو قديمٌ لا تتعلَّقُ به المشيئةُ، وهو معنىً نفسيٌّ

(1)

ينظر: التسعينية (1/ 275 - 276)، (2/ 440 - 441)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 325)، ومجموع الفتاوى (6/ 315 - 316)، (12/ 502 - 522).

(2)

ينظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص 416 - 464)، والبداية والنهاية (14/ 393 - 405).

(3)

تقدم التعريف به وبمذهبه في (ص 93).

ص: 95

ليس بصوتٍ ولا حرفٍ، وهذا هو مذهب الأشاعرةِ الذي يتكلَّمون به ويُقرِّرونه. ومذهب الكُلَّابيةِ والأشاعرةِ قريبان في المعنى

(1)

.

ويشهد لقول المؤلف أنَّ الله: (كلَّم موسى بكلامه الذي هو صفةُ ذاته، لا خلقٌ من خلقه) ما روي عن مالك من قوله: «كلَّم اللَّه موسى عليه السلام» . ويقول: «القرآن كلام اللَّه»

(2)

.

قوله: (وتجلَّى للجبل فصار دكًّا من جلاله):

أي: ظهرَ للجبلِ قدْرًا من التجلِّي بإشراقٍ ونورٍ

(3)

، فجعله دكًّا؛ أي: ساخَ ولم يستقر، وقد قالَ اللهُ لموسى:{لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، فلمَّا رأى موسى هذا المشهدَ العظيمَ؛ خرَّ موسى صَعِقًا، أي: صعقَ وغابَ عقلُه من هولِ المشهد، وهو معنى قوله تعالى:{وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين (143)} [الأعراف]، فهو تعالى مُحتجبٌ بالنور الذي هو حجابُه، ويتجلَّى إذا شاءَ لمن شاء ولِما شاءَ، وتجلِّيه بكشف حجابِه؛ كما في حديث أبي موسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«حِجَابُه النُّورُ لو كشفَه لأحرَقتْ سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصرُه من خلقه»

(4)

.

(1)

ينظر اختلاف الناس في مسألة كلام الله واضطرابهم فيها في: منهاج السنة (2/ 358 - 363)، (5/ 416 - 429)، ومجموع الفتاوى (12/ 162 - 173)، ومختصر الصواعق (4/ 1302 - 1316)، وتوضيح المقصود في نظم ابن أبي داود لشيخنا (ص 35 - 40).

(2)

أخرجه بهذا اللفظ: صالح بن الإمام أحمد في «سيرة الإمام أحمد» (ص 66). وينظر: الشريعة (1/ 501 رقم 165 - 166)، والإبانة الكبرى (6/ 38 رقم 230).

(3)

ينظر: لسان العرب (14/ 151).

(4)

أخرجه مسلم (179).

ص: 96

وقد دلَّت النصوصُ على أنَّه يتجلَّى يومَ القيامةِ، ويراه المؤمنون، والمنافقون

(1)

، وفي الجنةِ يتجلَّى لأهلِ الجنةِ ويَرَوْنه.

قال ابن عبد البر: «وفي قول الله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] دلالة واضحة أنه لم يكن قبل ذلك متجليًا للجبل

ومن أراد أن يقف على أقاويل العلماء في قوله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} فلينظر في تفسير بَقِيِّ بن مَخلد

(2)

ومحمد بن جرير

(3)

وليقف على ما ذَكَرَا من ذاك ففيما ذكرا منه كفاية وبالله العصمة والتوفيق»

(4)

.

فكأنَّ المؤلف بهذا يشيرُ إلى إثباتِ الرؤيةِ، وأنَّ الله يَظهرُ لمن شاءَ ويتجلَّى لمن شاء، ويراه مَنْ شاءَ إذا شاء، وقد أخبرَ الله في كتابه أنَّ الوجوهَ الناضرةَ تنظرُ إلى ربِّها، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا

(1)

ينظر الخلاف في رؤية المنافقين والكفار لربهم يوم القيامة في: مجموع الفتاوى (6/ 485 - 506)، وبيان تلبيس الجهمية (7/ 58)، وحادي الأرواح (1/ 609)، وتوضيح المقصود في نظم بن أبي داود (ص 52 - 55).

(2)

بقي بن مخلد: بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبد الرحمن الأندلسي القرطبي الحافظ أحد الأعلام، صاحب «المسند» و «التفسير» ، أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي، ورحل إلى المشرق، ولقي الكبار كالإمام أحمد وغيره توفي سنة (276 هـ).

و «التفسير» الذي ذكره ابن عبد البر مفقودٌ، قال الحميدي: قال لنا أبو محمد علي بن أحمد (ابن حزم): «فمِن مصنفات أبي عبد الرحمن كتابه في تفسير القرآن فهو الكتاب الذي أقطع قطعًا لا استثناء فيه أنه لم يُؤلَّف في الإسلام مثله ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره» . ينظر: جذوة المقتبس (ص 251 رقم 332)، وطبقات المفسرين للسيوطي (ص 40)، وتاريخ التراث لسزكين (1/ 296).

(3)

ينظر: تفسير الطبري (10/ 427).

(4)

التمهيد (7/ 153).

ص: 97

نَاظِرَة (23)} [القيامة]، فهذه الآيةُ هي‌

‌ أدلُّ دليلٍ من القرآن على إثبات رؤيةِ المؤمنين لله تعالى

؛ لأنها لا تحتمل إلَّا نظر العين، وأمَّا الكفارُ فإنهم يُحجبون عنه، قال تعالى:{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون (15)} [المطففين]. إذن: المؤمنون لا يُحجبون بل يرونه وينظرون إليه، قال تعالى:{عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُون (23)} [المطففين]، وفي الحديث الصحيح:«إنكم سترون ربَّكم كما ترون هذا القمرَ لا تُضامون في رؤيته»

(1)

، وقد تضمَّن الحديثُ: تشبيهَ رؤية المؤمنين لربهم برؤية الشمس والقمر، فالمشبَّه والمشبَّه به هو الرؤية، فشبَّهَ الرؤية بالرؤية، ولم يُشبِّه المرئي بالمرئي، فلا يُقال: إنَّ اللهَ تعالى كالشمس والقمر، فقوله صلى الله عليه وسلم:«إنكم سترون ربَّكم كما ترون» ، يعني: ترون ربَّكم رؤيةً؛ كرؤيتكم للشمس والقمر، ووجهُ الشَّبه بين الرؤيتين:

أوَّلًا: أنَّها رؤية بصرية لا عِلمية، ونفاةُ الرؤيةِ يُفسِّرون هذه الرؤيةَ بالرؤية العلمية؛ أي: يزداد علمهم بالله يوم القيامة، لا أنَّهم يرونه بأبصارهم.

ثانيًا: أنَّهم يرونه في العلو كما يُرى القمران في العلو.

ثالثًا: أنَّها رؤية من غير إحاطةٍ، فالمؤمنون يرون ربهم يومَ القيامة من غير إحاطةٍ، كما أنَّ الناسَ في الدنيا يرون الشمسَ والقمرَ من غير إحاطةٍ.

(1)

أخرجه البخاري (554)، ومسلم (633) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، وأحاديث الرؤية متواترة، رواها سبعةٌ وعشرون صحابيًا ساقها ابن القيم وغيره، ينظر: حادي الأرواح (2/ 625 - 685)، ونظم المتناثر (ص 238، رقم 307).

ص: 98

رابعًا: أنَّها رؤية واضحة لا تَكلُّف فيها، وهو معنى:«لا تضامون في رؤيته» أو «لا تُضارُّون»

(1)

،

(2)

.

وأمَّا مذاهبُ المتكلِّمين في الرؤية:

فالمعتزلةُ والجهميةُ أنكروا الرؤية مطلقًا، وكذَّبوا بها، وتأوَّلوا النصوصَ أو ردُّوها، فما قدروا على ردِّه ردُّوه، وما لم يقدروا على ردِّه - كالقرآن - أوَّلوه، بل حرَّفوه، فأمْرُهم دائرٌ بين التكذيب والتحريف، وبنوا هذا على أصولٍ فاسدةٍ، زعموا أنَّها عقليات؛ وهي في حقيقتها جهليات، فهم ينفون العلو، وينفون قيامَ الصفات به، وأنَّ الرؤيةَ تستلزم المقابلة، وأنَّ المرئي لا بدَّ أن يكون ذا لونٍ، ونحو ذلك من الخيالات التي يُعارضون بها النصوصَ الصريحةَ الصحيحةَ.

وأمَّا الأشاعرةُ: فإنَّ طريقتهم في الرؤية طريقةٌ فيها تذبذبٌ، فليسوا مع المعتزلة ولا مع أهل السنَّة، فهم يقولون: إنَّ اللهَ يُرى لا في جهةٍ؛ لا من فوقٍ، ولا عن يمينٍ، ولا عن شمالٍ، ولا من أمامٍ، ولا غير ذلك من الجهات، وبهذا أضحكوا عليهم العقلاء، وفتحوا الباب للمُعارضين؛ إذ أنَّهم يثبتون رؤيةً لا حقيقةَ لها ولا معنى، وإذا حُقق مذهبهم: تبيَّن أنَّهم لا يثبتون الرؤية؛ لأنَّ ما أثبتوه منها غير معقولٍ

(3)

.

(1)

أخرج هذا اللفظ: البخاري (7439) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومسلم (2968) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ينظر: شرح التدمرية (ص 275)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 116).

(3)

ينظر: بيان تلبيس الجهمية (2/ 432 - 435)، (4/ 420 - 480)، ومنهاج السنة (2/ 325) وما بعدها، ومجموع الفتاوى (16/ 84 - 89)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 117)، وشرح القصيدة الدالية لشيخنا (ص 74).

ص: 99

‌ما يجب اعتقاده في القرآن

(وأنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ، ليس بمخلوقٍ فيَبِيد، ولا صفة لمخلوقٍ فينفد):

هذا تخصيصٌ للقرآن ببيان ما يجب اعتقاده فيه؛ فقد بيَّن فيما سبق أنَّ كلامَ الله من صفات ذاته وليس بمخلوقٍ، كذلك بيَّن هنا أنَّ القرآن ليس بمخلوقٍ، فالقرآنُ كلامُه، تكلَّمَ به حقيقةً، وليس بمخلوقٍ كما يقول المُبطلُون من الجهميةِ والمُعتزلة.

وعلى قولِ هؤلاء الضالين يصيرُ القرآن مثلَ سائرِ الكلام، فكلامُ الناس مخلوقٌ، وكلامُ الملائكةِ مخلوقٌ، وكلامُ الجِنِّ مخلوقٌ، فكلامُ المخلوق مخلوقٌ، وكلامُ الخالقِ ليس بمخلوقٍ، كعلمِه وسمعه وبصره، والقرآنُ كلامه، بل هو صفةٌ له تعالى، تكلَّمَ به وسمعَه جبريلُ، والله يُكلِّم مَنْ شاءَ، ومَن كَلَّمَه سمعَ كلامه كما سمعَ موسى كلامَ الله من الله بلا واسطةٍ، لكن من وراءِ حجابٍ.

والقرآنُ ليس بمخلوقٍ فيَبِيدُ ويذهبُ، قالَ الله تعالى:{قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف]، فكلامُ الله لا نهايةَ له، لا أزلًا ولا أبدًا؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا

ص: 100

فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].

* * * * *

ص: 101

‌وجوب الإيمان بالقدر ومراتبه

(والإيمانُ بالقدر خيره وشرِّه، حُلوِه ومُرِّه، وكلُّ ذلك قد قدَّره اللهُ ربُّنا، ومقاديرُ الأمور بيده، ومصدرُها عن قضائه، عَلِمَ كلَّ شيءٍ قبل كَونه، فجرى على قَدَره، لا يكون مِنْ عباده قولٌ ولا عملٌ إلَّا وقد قضاه وسبق عِلمُه به: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير (14)} [الملك]، يُضلُّ مَنْ يشاء فيخذلُه بعدله، ويهدي مَنْ يشاء فيُوفِّقُه بفضله، فكلٌّ ميسَّرٌ بتيسيره إلى ما سَبَق من علمه وقَدَره من شقيٍّ أو سعيدٍ، تعالى اللهُ أن يكون في ملكه ما لا يريد، أو يكون لأحدٍ عنه غنى، أو يكون خالقٌ لشيءٍ، إلَّا هو، ربُّ العباد، وربُّ أعمالهم، والمقدرُ لحركاتهم وآجالهم).

في هذه الجملةِ انتقالٌ من ذكرِ أسماءِ الله وصفاتِه إلى الكلامِ في الأصل السادس من أصول الإيمان، وهو الإيمان بالقدر كما جاء في جواب النبيِّ عليه الصلاة والسلام في حديثِ جبريل؛ قال:«وتُؤمن بالقَدَرِ خيرِه وشرِّهِ»

(1)

، فالمؤلفُ في هذه العبارةِ يُقرِّرُ مذهبَ أهل السنَّةِ والجماعة، ومعنى الإيمانُ بالقَدَر؛ الإيمانُ بأنَّ كلَّ شيءٍ بقدَرٍ، وأنَّ اللهَ قد قدَّرَ

(1)

أخرجه مسلم (8)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 102

مقاديرَ كلِّ شيءٍ، فكلُّ ما في هذا الوجودِ فإنَّه بقدرِ الله، والخيرُ والشرُّ بقدرِ الله.

والقدَرُ يُطلَقُ على فعلِ الربِّ وهو تقديرُه لمقاديرِ الأشياء، ويُطلَقُ على الشيءِ المُقدَّرِ؛ فتقولُ للحادثِ المعيَّن:«هذا قدرٌ» ؛ يعني هذا مُقدَّرٌ؛ من إطلاق المصدرِ على اسم المفعول، وهذه لغةُ المسلمين إذا شهدوا أمرًا قالوا: هذا قدَرٌ، يعني هذا مقدَّرٌ، وله تعالى الحكمةُ في أقداره.

والإيمانُ بالقدرِ لا بدَّ فيه من أربعةِ أصولٍ، لا يكونُ الإنسان مؤمنًا بالقدر إلَّا بها:

الأصلُ الأول: الإيمانُ بعلمِ الله القديم السابقِ لكلِّ شيء، بما في ذلك أفعالُ العبادِ من طاعاتِهم ومعاصيهم، قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (75)} [الأنفال].

الأصلُ الثاني: الإيمانُ بكتابةِ المقادير؛ وذلك بأنَّ اللهَ قدَّر مقاديرَ الأشياءِ، وكتبَ ذلك في أمِّ الكتابِ، اللوحِ المحفوظِ، وقد جمعَ الله بين هذين الأصلين في غير آيةٍ: العلمَ والكتابَ، فقال تعالى:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (70)} [الحج]، وقال تعالى:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين (59)} [الأنعام]، وقال تعالى:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (11)} [فاطر]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي

ص: 103

الأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير (22)} [الحديد].

الأصلُ الثالث: الإيمانُ بعمومِ مشيئةِ الله، وأنَّه لا خروجَ لشيءٍ عن مشيئته، فما شاءَ كان، وما لم يشأ لم يكن.

فهذا الوجودُ كلُّه حاصلٌ وموجودٌ بمشيئته سبحانه وتعالى وقدرته، فقال تعالى:{وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاء اللَّهُ} [الإنسان: 30]، بما في ذلك أفعالُ العباد؛ فهي واقعةٌ بمشيئته؛ كما قال تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد (16)} [البروج]، وقال تعالى:{يَهْدِي مَنْ يُرِيد (16)} [الحج]، وقال تعالى:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء} [فاطر: 8]، وقال تعالى:{يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاء الذُّكُور (49)} [الشورى]، وقال تعالى:{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِرُ} [الشورى: 12].

الأصلُ الرابع: الإيمانُ بعمومِ خَلْقِه؛ يعني أنَّه خالقُ كلِّ شيءٍ، قال تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل (62)} [الزمر]، وقال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر (49)} [القمر].

فهذه أربعةُ أصول، لا يتحقَّقُ الإيمانُ بالقدرِ إلَّا بالإيمان بها

(1)

.

وضلَّ في القدرِ طائفتان: الجبريةُ الذين أثبتُوا القدر، ولكنهم غلوا فيه؛ فنفوا أفعالَ العباد، وقالوا: العبادُ لا فِعلَ لهم، ولا مشيئةَ ولا قدرةَ، فالعبادُ يتحركون ويتصرَّفُون كالحركات اللاإرادية؛ كحركةِ المُرتعشِ

(1)

ينظر: الواسطية بشرح شيخنا (ص 192 - 201)، وشفاء العليل (1/ 100) وما بعدها، وجامع العلوم والحكم (1/ 103).

ص: 104

والنائمِ، وكالريشة في مَهبِّ الريح. فهؤلاء اسمُهم جبريةٌ، وهو مذهبٌ باطلٌ شرعًا وعقلًا وحسًّا، ولا يستقيمُ معه أمرُ دينٍ ولا دنيا، وجاءت الأشاعرةُ فلفَّقوا كعادتهم وقالوا: أفعالُ العباد خلْقٌ لله، وكسبٌ من العباد، لكن مفهوم الكسب عندهم هو: الفعلُ المقارنُ للقدرة المحدثة التي لا أثر لها في الفعل، وهذا مبنيٌّ على نفي الأسباب عندهم.

فيرون أنَّ العلاقةَ بين الأسبابِ والمسبَّبَاتِ، وبين قدرةِ العبد وأفعاله مجرَّد الاقتران، فيقولون: إنَّ اللهَ يفعل عند الأسباب لا بها، فليس عندهم باء سببية؛ بل يرونها للمصاحبة.

فهم يَقْرُبون في هذا من قول الجبرية، بل هم جبرية؛ لأنَّ قولَهم يتضمَّنُ: أنه لا أثر لقدرتهم في وجود أفعالهم

(1)

.

ويُقابلُ أولئك: القدريةُ النُّفاةُ الذين ينفون القدرَ، وهم طائفتان: غلاةٌ ينفون المراتبَ الأربع؛ العلم والكتابة وعموم المشيئة وعموم الخلق، والطائفةُ الثانيةُ ينفون عمومَ المشيئة وعمومَ الخلق ويُثبتون

(1)

ولهذا قال بعض الناس: عجائب الكلام التي لا حقيقة لها ثلاثة: طفرة النظَّام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري.

ممَّا يُقال ولا حقيقة تحته

معقولة تدنو إلى الأفهامِ

الكسب عند الأشعري والحال عِنـ

ـد البهشمي وطفرة النظَّامِ

ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 128)، وشرح الأصبهانية (ص 171 - 172)، والصفدية (ص 171 - 173)، ومنهاج السنة (1/ 458 - 461)، (2/ 297)، وشفاء العليل (1/ 171 - 172)، (1/ 399 - 401).

ص: 105

العلمَ والكتابَ، فكلُّ القدرية النُّفاة يُخرجون أفعالَ العبادِ عن مشيئةِ الله وقدرتِه وخلقه

(1)

.

فعندهم: أنَّ العبادَ هم الخالقون لأفعالِهم، وأنَّ اللهَ لا يَقْدر على أن يجعلَ المؤمنَ كافرًا أو الكافرَ مؤمنًا، والعاصي مُطيعًا والمُطيع عاصيًا، بل ولا يجعلُ القاعدَ قائمًا أو القائمَ قاعدًا، وهكذا سائرُ الأفعالِ؛ لأنَّ أفعالَ العبادِ هم مُستقلون بها.

وأهلُ السنَّةِ والجماعةِ آمنوا بالقدرِ بكلِّ مراتبه، وبأنَّ العبادَ فاعلون حقيقةً، وأنَّ اللهَ خالقُهم وخالقُ أفعالِهم، طاعاتِهم ومعاصيهم.

فهذا خلاصةُ القول في هذا الأصل، وأدلةُ الحقِّ في هذا ظاهرةٌ في كتاب الله، وفيها إثباتُ شمول علمِه وكتابه للمقاديرِ، وعمومِ مشيئته وخلقه.

قوله: (والإيمانُ بالقدر خيره وشرِّه، حُلوِه ومُرِّه، وكلُّ ذلك قد قدَّره اللهُ ربُّنا):

كأنَّه يريدُ الإيمانَ بتقدير الله الخيرَ والشرَّ، فالخيرُ والشرُّ الواقعُ في الوجودِ هو بتقديرٍ من الله، فمِن الإيمان: الإيمانُ بتقديره تعالى لكلِّ شيء خيرًا كان أو شرًّا، حلوًا كان أو مرًّا، والقدرُ الذي هو فعلُ الربِّ وهو تقديرُه وقضاؤُه وحُكمه لا شرَّ فيه، بل هو عدلٌ وحكمةٌ، وهو تعالى محمودٌ على كلِّ أفعالِه سبحانه وتعالى.

(1)

ينظر: درء التعارض (8/ 421)، ومجموع الفتاوى (8/ 450 - 451)، والإيمان لابن تيمية (ص 301 - 302)، وشفاء العليل (2/ 426)، وتوضيح مقاصد الواسطية (ص 198).

ص: 106

لكنَّ الشرَّ إنما يكون في المخلوقاتِ المفعولات، فإبليسُ وجنودُه شرٌّ، وهكذا الأشياءُ الضارَّةُ؛ كالحيَّاتِ والعقارب فيها شرٌّ، لكنْ خَلْقُ الله لهذه المخلوقاتِ الضارةِ والشريرةِ لحكمةٍ، إذن: فخلقُه تعالى ومشيئتُه لها عدلٌ وحكمةٌ، وهو تعالى محمودٌ على ذلك، فله الحكمةُ البالغة، علِمنا ذلك أو لم نعلمه، لكنَّنا نعلمُ علمًا إجماليًّا ونُؤمن إيمانًا مُجملًا بأنَّه تعالى حكيمٌ، لا يخلقُ شيئًا عبثًا، ولا يخلقُ شيئًا إلا لحكمةٍ هو أعلمُ بها.

وقوله: (حُلوِه ومُرِّه): كأنَّ هذا التعبيرَ من تنويع الكلام؛ لأنَّ الأمورَ المقدَّرةَ منها ما هو حلوٌ في حسِّ وذوقِ الناس؛ كالنِّعم والأشياء المستطابة. والمرُّ: الأشياءُ الكريهةُ؛ كالمصائب؛ لأنَّ لها مرارة في النفوس.

ويُفسَّرُ الخيرُ باللذات وأسبابها، والشرُّ بالآلام وأسبابها، لكن هناك لذَّاتٌ في نفسها لكنها أسباب لآلامٍ طويلةٍ، فتكون في ذاتها خيرًا، لكنها شرٌّ باعتبار ما تُفضي إليه، فالمعاصي شرٌّ وإن استلذَّتها النفوسُ؛ لأنها تفضي إلى أعظم الآلام. والطاعاتُ خيرٌ في ذاتها ومآلها، وإن اشتملت على بعض المشاقِّ والكُلَف، لكنها خير؛ لأنَّها نفسها مصالحُ ومنافعُ عظيمة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:«حُفَّت الجنةُ بالمكاره، وحُفَّت النارُ بالشهوات»

(1)

، واللهُ تعالى اقتضت حكمته تنويعَ الخلْقِ، وخلْقَ الأضداد في هذا الوجود، فخلَقَ الخيرَ والشرَّ، والنافعَ والضارَّ، والحسنَ والقبيحَ في الذوات والصفات والأفعال، فخلقَ النورَ والظلمات، وخلقَ

(1)

أخرجه مسلم (2822) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 107

الملائكة والشياطين، وخلقَ الصحةَ والمرضَ والحياةَ والموتَ:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2].

إذن؛ الأشياءُ المخلوقةُ فيها خيرٌ وشرٌّ، واللهُ خالقُ الخير والشر، أمَّا فعلُ الربِّ سبحانه: حُكمه وقضاؤه وتقديره؛ فكلُّه خيرٌ، ليس فيه شرٌّ، والشرُّ لا يُضاف إلى الله اسمًا، ولا صفةً ولا فعلًا، فلا يكون في أسمائه، فكلُّها حُسنى، ولا في صفاته فكلُّها صفاتُ كمالٍ وحمدٍ، ولا في أفعاله فكلُّها أفعالُ عدلٍ وحكمةٍ، وإنَّما يكون في مفعولاته؛ أي: مخلوقاته.

وهذا ما فُسِّر به قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «والشرُّ ليس إليك»

(1)

؛ أنه تعالى لا يخلق شرًّا محضًا؛ بل كلُّ الشرِّ الذي في المخلوقات شرٌّ نسبيٌّ ليس شرًا محضًا، وهذا يرجع إلى الإيمان بحكمته سبحانه وتعالى، وأنه حكيمٌ، ما خَلَق شيئًا عبثًا، فلم يخلق شيئًا إلا لمصالحَ وحِكمٍ يعلمُها سبحانه، وليس من شرط ذلك أن تكون عائدةً للعبد، بل قد يكون فيها شرٌّ لبعض الناس، وهو شرٌّ جزئي إضافي، فأمَّا شرٌّ كليٌّ، أو شرٌّ مطلقٌ؛ فاللهُ تعالى منزَّهٌ عنه.

وكلُّ ما خلقه اللهُ إمَّا أن يكون خيرًا محضًا، أو أنَّ وجودَه خيرٌ من عدمه باعتبار الحكمةِ العامة، فاللهُ خلقَ هذه الأضداد لحِكمٍ بالغةٍ، ومن حِكمه تعالى في خلقه: الابتلاء، قال تعالى:{خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ} [الملك: 2]، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ

(1)

أخرجه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وينظر تفسيره في: الكلم الطيب (ص 43 - 44)، وشفاء العليل (2/ 52)، وبدائع الفوائد (2/ 724)، وحادي الأرواح (2/ 770 - 771).

ص: 108

أَحْسَنُ عَمَلاً (7)} [الكهف]، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7].

والشرُّ الذي في المخلوقات لا يُضاف إلى الله مفردًا أبدًا؛ بل إمَّا يدخل في عموم المخلوقات؛ كقوله تعالى: {قُلْ كُلًّ مِّنْ عِنْدِ اللّهِ} [النساء: 78]، وكقوله:{اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، يعني: الخيرَ والشرَّ.

وإمَّا بصيغة البناء للمفعول؛ كقوله تعالى عن الجنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن: 10]، وإما أن يُضاف إلى خلقه سبحانه، كقوله تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَق (2)} .

هذه هي الوجوهُ التي يُعبَّرُ بها في إضافة الشرِّ المخلوق

(1)

.

وعلى هذا فلا ينبغي أن تقول: اللهُ خالقُ الشرَّ، لكن قل: اللهُ خالقُ كلِّ شيء، وهذا معنى التعبير بالعموم، وقل: فلانٌ أُريدَ به السوءُ، ولا تقل: أَرادَ اللهُ به.

وكذلك إذا أردت أن تُخبر عن خلق اللهِ للمخلوقات، قل: اللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ، واللهُ خالقُ السماواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ، ولا تقل: اللهُ خالقُ الحشراتِ وخالقُ الكلابِ، أو: اللهُ ربُّ الكلابِ، هذا منكرٌ؛ بل قل: ربُّ السماواتِ والأرضِ، وربُّ كلِّ شيءٍ، هذا الذي فيه التعظيم، كما تَمَدَّح

(1)

ينظر: منهاج السنة (3/ 142 - 143)، (5/ 410)، وجامع المسائل (8/ 54 - 56)، (9/ 113)، ومجموع الفتاوى (8/ 94 - 96)، (8/ 401)، (8/ 447)، (8/ 511)، (14/ 21)، (14/ 266)، وشفاء العليل (2/ 346 - 347)، وبدائع الفوائد (2/ 724 - 725).

ص: 109

سبحانه وتعالى بذلك في قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم (86)} [المؤمنون]، وهكذا في النفع والضر فلا تقل: الله هو الضار؛ بل قل: اللهُ هو النافعُ الضارُّ، وهذا من جنس الأوَّل في التعبير بالعموم.

ومن هذا ما ذَكر اللهُ من قول إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِين (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين (80)} [الشعراء]، ولم يقل: وإذا أمرضني شفاني، وهذا من الأدب في الإخبار عن الله سبحانه وتعالى.

قوله: (ومصدرُها عن قضائه): أي: مصدرُ الأمورِ كلِّها، هو مالكُها بيده؛ قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، ومصدرُها عن حُكمِه وقضائِه ومشيئته.

قوله: (عَلِمَ كلَّ شيءٍ قبل كونه): هذه المرتبةُ الأولى، وهي الإيمانُ بعلمِ الله السابق بكلِّ شيءٍ.

قوله: (فجرى على قدره): أي: كل شيء قدَّره الله وخَلَقه جرى على وِفق ما قدَّره، وعلى وفق ما علِمه لأنَّه لا يكون شيءٌ إلا بمشيئته مطابقًا لعلمه وكتابه.

قوله: (لا يكون من عباده قولٌ ولا عملٌ إلَّا وقد قضاه وسبق عِلمُه به: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير (14)} [الملك]، يُضلُّ مَنْ يشاء فيخذلُه بعدله، ويهدي مَنْ يشاء فيُوفِّقُه بفضله):

في هذا إثباتُ المشيئةِ لله وإثبات القدر، والإيمان بالمشيئة العامة هي المرتبة الثالثة، قال تعالى:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء} [النحل:

ص: 110

93]، والآياتُ الدالَّةُ على تعلُّقِ المشيئةِ بالموجودات كثيرةٌ كما أُشيرَ إلى بعضِها، وقد تضمن كلام المؤلف: إثبات علم الله القديم بكل شيء، والإيمان بذلك هو المرتبة الأولى من الإيمان بالقدر، وقد روي عن الإمام مالك ما يُشبِه قول المؤلف في إثبات المشيئة، وهو قوله لرجلٍ:«سألتني أمس عن القدر؟ قال: نعم، قال: إن الله تعالى يقول: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين (13)} [السجدة]. فلا بد أن يكون ما قال الله تعالى» . روى ذلك أبو نعيم في الحلية عن ابن وهب

(1)

؛ قال سمعت مالك يقول:

إلى آخره

(2)

.

قوله: (فكلٌّ ميسَّرٌ بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقَدَره من شقيٍّ أو سعيدٍ):

يعني: المُكلَّفُون قد علمَ الله ما هم عاملون من طاعاتٍ ومعاصٍ، قد سبقَ علمه وكتابه بذلك، وقد سُئِلَ النبي عليه الصلاة والسلام: هل ما يعملُه الناس قد جفَّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال:«لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قيل: ففيم العمل؟ فقال: «اعملوا فكل ميَّسَر لما خُلق له، أمَّا من كان من أهل السعادة

(1)

ابن وهب: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي الفقيه المحدث، تفقه بمالك، والليث، وابن دينار، وغيرهم وصحب مالكًا عشرين سنة، له مؤلفات منها:«الجامع في الحديث» ، و «أهوال القيامة» وغيرها، توفي سنة (197 هـ): ينظر: ترتيب المدارك (3/ 228)، والسير (9/ 223).

(2)

حلية الأولياء (6/ 326).

ص: 111

فيُيَّسَر لعمل أهل السعادة، وأمَّا من كان من أهل الشقاء فيُيَّسَر لعمل أهل الشقاوة»، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} [الليل] الآية

(1)

، فكلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له من شقاوةٍ وسعادة، فمَن كان من أهلِ السعادة؛ فيُيسَّرُ لعملِ أهل السعادةِ فيصيرُ من السعداء، ومَن كان من أهلِ الشقاوة؛ يُيسَّرُ لعملِ أهلِ الشقاوةِ فيكون شقيًّا.

قوله: (تعالى اللهُ أن يكون في ملكه ما لا يريد):

هذا تنزيهٌ لله عن العجز، وفيه الردُّ على القدرية النفاةِ القائلين بأنَّ أفعالَ العباد ليست بمشيئةِ الله، وأنها خارجةٌ عن قدرته سبحانه وتعالى عن ذلك، فلازم كلامِهم: أنَّ الله يكونُ في ملكِه ما لا يريد؛ كالكفر والمعاصي، بل كل ذلك يكون قهرًا على الله.

ولهذا قالَ أهلُ السنَّةِ: إنَّ قولَ القدريةِ يتضمنُ تعجيزَ الرب؛ أي أنَّه عاجز، فلا يقدرُ أن يهدي ضالًّا ولا أن يُضِلَّ مُهتديًا، ولا يتصرَّفُ في أفعال العباد، لأنَّها لا تدخل تحت قدرته

(2)

، وهذا مذهبٌ باطلٌ شرعًا وعقلًا؛ واللهُ عز وجل قد أكذبهم في غير ما آيةٍ من كتابِه الكريم، من ذلك قوله تعالى:{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون (112)} [الأنعام]، وقوله تعالى:{وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107]، وقد رُوي أنَّ القاضي عبد

(1)

أخرجه مسلم (2648 - 8) عن سراقة بن مالك رضي الله عنه إلى قوله: «فكل ميَّسر» ، وأخرج الجزء الآخر البخاري (4949) عن علي رضي الله عنه.

(2)

تنظر قصة إلزام مجوسيٍّ لرجلٍ ينفي القدر، وكذا قصة الأعرابي مع عمرو بن عبيد المعتزلي في: كتاب القدر للفريابي (359)، والإبانة الكبرى (4/ 279، رقم 1913)، (4/ 280، رقم 1914)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (4/ 816 - 817، رقم 1376).

ص: 112

الجبار الهمذاني المعتزلي

(1)

دخل على أبي إسحاق الإسفرائيني

(2)

فقال: «سبحان مَنْ تَنَزَّه عن الفحشاء» ، وهذا كلامٌ طَيِّبٌ في ظاهره، لكنَّه يرمز به إلى شيءٍ من مذهبه، فهو يريد أن يعترضَ به على من يُثبِتُ القدرَ، فيقول:«سبحان مَنْ تَنزَّهَ عن الفحشاء» ؛ يعني: سبحان مَنْ تَنزَّه عن أن يريد الكفر والمعاصي، ففَهِم أبو إسحاق الإسفرائيني مغزاه، فأجابه على الفور قائلًا:«سبحان مَنْ لا يكون في مُلكه إلا ما يشاء»

(3)

.

والإرادةُ نوعان: إرادةٌ كونية، وهي بمعنى المشيئةِ، وإرادةٌ شرعيةٌ وتتضمنُ المحبةَ، وفرَّق العلماءُ بينهما، فمن شواهدِ الإرادةِ الكونية؛

(1)

القاضي عبد الجبار الهمذاني: عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار، شيخ المعتزلة، ولي قضاء القضاة بالريِّ، وله تصانيفه كثيرة منها:«دلائل النبوة» ، و «طبقات المعتزلة» ، و «شرح الأصول الخمسة» ، تخرج به خَلق في الرأي الممقوت، مات سنة (415 هـ). ينظر: طبقات المعتزلة (ص 112)، وسير أعلام النبلاء (17/ 244 رقم 150)، وطبقات الشافعية الكبرى (5/ 97 رقم 443).

(2)

أبو إسحاق الإسفرائيني: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الأصولي، الشافعي، الملقب ركن الدين، أحد المجتهدين في عصره ومن أئمة الأشاعرة، ارتحل في الحديث وسمع من: دعلج السجزي، وأبي بكر الإسماعيلي وحدث عنه: أبو بكر البيهقي، وأبو القاسم القشيري، ومن تصانيفه:«الجامع في أصول الدين والرد على الملحدين» ، و «مسائل الدور» وغير ذلك، توفي بنيسابور يوم عاشوراء سنة (418 هـ). والإسفرائيني تضبط أيضًا:(الإسفراييني) أو بياء واحدة (الإسفرايني) نسبة إلى (إسفرايين) بلدة بخراسان بنواحي نيسابور. ينظر: الأنساب (1/ 235)، وطبقات الفقهاء الشافعية لابن الصلاح (1/ 312 رقم 87)، وطبقات الشافعية الكبرى (4/ 256 رقم 358)، والسير (17/ 353 رقم 220).

(3)

أورد هذه المناظرة: الرازي في «تفسيره» (21/ 73)، والسبكي في «طبقات الشافعية» (4/ 261 - 262)، وابن حجر - دون أن يُسمي المتناظرَيْن - في «الفتح» (13/ 451).

ص: 113

قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد (16)} [البروج]، وقوله:{وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيد (16)} [الحج]، ومن شواهدِ الإرادة الشرعية؛ قوله تعالى:{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى:{يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26].

والفرقُ بين الإرادتين: أنَّ الإرادةَ الكونية عامَّةٌ لجميع الموجوداتِ، المحبوبُ منها والمبغوضُ، وأنَّ مُتعلَّقَها لا بدَّ أن يكون، فما شاءَ اللهُ كان ولا بدَّ.

وأمَّا الإرادةُ الشرعيةُ؛ فهي مُختصَّةٌ بِمَحَابِّه سبحانه وتعالى، ثم مُتعلّقها قد يكونُ وقد لا يكون.

وتجتمعُ الإرادَتان: الكونيةُ والشرعية في إيمانِ المؤمن، فإيمانُ أبي بكرٍ واقعٌ بالإرادتين، وتنفردُ الإرادة الكونيةُ بكفرِ الكافر، فهو واقع بمشيئتِه وتقديره سبحانه وتعالى، وليس مرادًا شرعًا، وتنفردُ الإرادةُ الشرعية بإيمان الكافرِ الذي لم يحصُلْ، فهو مطلوبٌ شرعًا ولكنه لم تتعلَّقْ به المشيئةُ، فلذلك لم يحصل

(1)

.

وتقسيمُ الإرادةِ إلى كونيةٍ وشرعيةٍ يجري مثلُه في معانٍ متعددةٍ مضافةٍ إلى الله في القرآن؛ كالإذنِ والبعث والإرسال والقضاء والتحريم والحكم والأمر، فكلٌّ من هذه المذكورات وغيرها تنقسم إلى كونيةٍ

(1)

ينظر: منهاج السنة (3/ 16 - 18)، (3/ 156 - 158)، (7/ 72 - 73)، ومجموع الفتاوى (8/ 187 - 190)(18/ 132)، والفرقان (ص 276 - 278)، وشفاء العليل (2/ 378 - 379).

ص: 114

وشرعيةٍ، فالإذن - مثلًا - كونيٌّ؛ كقوله تعالى في السحر:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} [البقرة: 102]، وشرعيٌّ؛ كقوله تعالى:{مَا قَطَعْتُم مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5]، والبعثُ الكونيُّ؛ كقوله تعالى:{فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء: 5]، والبعثُ الشرعيُّ؛ كقوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} [النحل: 36]، والتحريمُ الكوني؛ كقوله تعالى:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12]، والشرعيُّ؛ كقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وهكذا بقيَّةُ المعاني، وشواهدُها في القرآن معروفةٌ

(1)

.

وينبغي أن يُعلَمَ أنَّ المشيئةَ لا تنقسم؛ فلا يقال: إنَّ المشيئةَ نوعان: شرعيةٌ وكونيةٌ.

بل المشيئةُ كونيةٌ فقط، وليس لمن قال:«إنَّ المشيئةَ نوعان» ما يَشهدُ لقوله، وهي عامةٌ لجميع الموجودات، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

قوله: (أو يكون لأحدٍ عنه غنى):

أي: أن يستغني عنه أحدٌ، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15]، فلا غنًى لأحدٍ عنه سبحانه، فالعبادُ فقراءُ إليه في وجودهم، وفي بقائِهم، وفي جميع أمورهم، فالعبدُ لا يقدرُ إلَّا على ما أقدرَه اللهُ عليه، ولا يفعلُ إلا ما أعانه اللهُ عليه.

(1)

ينظر: الجواب الصحيح (1/ 149 - 155)، وبيان تلبيس الجهمية (8/ 426 - 429)، والتحفة العراقية (ص 325 - 330)، والفرقان (ص 276 - 286)، وشفاء العليل (2/ 377 - 386).

ص: 115

قوله: (أو يكون خالقٌ لشيءٍ):

أي: تعالى أن يكون أحدٌ خالقًا لأيِّ شيءٍ، وهذا كلُّه ردٌّ على القدريَّةِ؛ لأنَّ القدريَّةَ النفاة يقولون: إنَّ العبادَ خالقون لأفعالهم.

قوله: (إلَّا هو ربُّ العباد، وربُّ أعمالهم):

إلا هو سبحانه وتعالى ربُّ العبادِ وخالقُهم ومالكُهم والمنعِمُ عليهم، وهو ربُّ أفعالهم؛ أي: أنه خالقُ أفعالهم بمشيئتِه وقدرته، وفي بعض النسخِ بدل:«إلَّا» «ألَا» ، وهو خطأ.

قوله: (والمقدرُ لحركاتهم وآجالهم):

أي: هو سبحانه وتعالى المقدِّرُ الذي سبق علمُه وقدره، (لحركاتهم) أي: حركات العباد؛ وهي أفعالهم: طاعاتهم ومعاصيهم.

(وآجالهم): أي: هو المُقدِّرُ لآجالهم، فاللهُ قَدَّرَ الأقدارَ وضربَ الآجالَ، والآياتُ الدالَّة على تقديرِ الآجالِ كثيرةٌ؛ قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145]، وقال تعالى:{{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون (34)} [الأعراف]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُون (2)} [الأنعام]، وقال تعالى:{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب (38)} [الرعد]. فلهذه الدنيا أجلٌ محتومٌ معلوم، وإذا انتهى عمرُ الدنيا؛ قامت القيامةُ، ولكلٍّ نفسٍ أجلٌ، ولكلِّ أمَّةٍ أجلٌ.

ص: 116

ومن فروعِ هذه المسألة: قولُ أهل السنَّة: إنَّ‌

‌ المقتولَ ميتٌ بأجلِه

؛ خلافًا للمُعتزلةِ في قولهم: إنَّ المقتولَ مقطوع عليه أجله، ومعناه عندهم: أنَّ المقتولَ قد يكون عمره مئة سنةٍ - مثلًا - فاعتدى عليه القاتلُ فقطع عليه أجلَه، وهذا مناسبٌ لقولهم: إنَّ أفعالَ العباد لا تدخل تحت قدرة الله، وأهلُ السنَّة يقولون: بل هو ميتٌ بأجله، فاللهُ قد سبقَ عِلمُه وكتابُه بأنَّ عُمرَه كذا وأنَّه يموت بالقتل

(1)

.

* * * * *

(1)

ينظر جواب شيخ الإسلام لأهل الرحبة ضمن: المسائل والأجوبة (ص 115 - 117)، ومجموع الفتاوى (8/ 516 - 518)، وجامع المسائل (7/ 37 - 40)، وينظر: جامع الرسائل والمسائل (1/ 94).

ص: 117

‌بعث الرسل نعمة من الله على العباد، وقطعٌ لحجتهم على الله

(الباعثُ الرُّسُل إليهم؛ لإقامة الحجَّةِ عليهم، ثم ختم الرسالةَ والنَّذارةَ والنبوَّةَ بمحمَّدٍ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فجعله آخرَ المرسلين بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وأنزل عليه كتابَه الحكيم، وشرح به دينَه القويم، وهدى به الصراطَ المستقيمَ):

بعدما ذكرَ المؤلفُ وجوبَ الإيمانِ بالقدَرِ وفصَّلَ في ذلك، وهو من تمام الكلامِ في التوحيد؛ أتبعَ ذلك بذِكرِ بعثِ اللهِ الرُّسل، وأنَّ الله تعالى بعثَ الرُّسلَ مُبشِّرين ومُنذِرين؛ لإقامةِ الحُجَّةِ على العبادِ؛ قال تعالى:{رُّسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وختمَهم بمحمدٍ عبده ورسوله سيّدِ المرسلين صلواتُ الله عليه وعليهم أجمعين؛ قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

وأخبر تعالى أنه بعثَ الرسلَ يدعون إلى عبادة اللهِ وتركِ عبادةِ ما سواه؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وبيَّنوا للناس شرائعَ الدِّينِ، والحلالَ والحرامَ، وأوجب على العباد طاعتَهم واتِّباعَهم.

ص: 118

وذِكْرُ بَعثِ الرُّسلِ بعد ذِكرِ القدَرِ يتضمَّنُ تقريرَ أصلٍ؛ وهو: وجوبُ الإيمانِ بالشرعِ والقدر، فلا بدَّ من الإيمان بالأمرَين جميعًا

(1)

.

وقد أحسنَ المؤلف بذِكرِ بعثِ الرُّسلِ بعد تقرير إثبات القدر، فلا بدَّ من الإيمانِ بهذا وهذا لأنَّه لا يستقيم دين العبد حتى يؤمن بالشرع والقدر جميعًا.

قوله: (الباعثُ الرُّسُلَ إليهم؛ لإقامة الحجَّةِ عليهم): الغايةُ من إرسالِ الرسلِ هو دعوةُ الخلقِ، والإعذارُ إليهم -كما تقدَّمَ

(2)

- بشارة للمستجيبين، وإنذارًا للمُعرضين والمُكذِّبين، بل النّذارةُ عامَّةٌ، وأوَّل المُنتفعين بها هم الذين استجابوا لدعوةِ الرسلِ، قالَ الله في الكفار:{وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيم (11)} [يس].

قوله: (ثم ختم الرسالةَ): أوَّلُ الرسلِ: نوحٌ عليه السلام

(3)

، فلَمَّا حدثَ الشِّركُ في العالمِ في قومه، أرسلَ اللهُ نوحًا فلبثَ في قومه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وما آمنَ معه إلا قليلٌ، وختمَ النبوةَ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ كما قالَ تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ

(1)

تنظر أقسام الناس في الشرع والقدر في: مجموع الفتاوى (8/ 256 - 261)، (22/ 131 - 132)، والاستقامة (1/ 433 - 434)، وشرح التدمرية (ص 557) وما بعدها، وتوضيح مقاصد العقيدة الواسطية لشيخنا (ص 199).

(2)

تنظر: (ص 21).

(3)

أخرجه البخاري (3340)، (4712)، ومسلم (194 - 322) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري (4476) ومسلم (193) عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل.

ص: 119

النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وقالَ عليه الصلاة والسلام:«فُضِّلُت على الأنبياء بستٍّ» ، وذكرَ منها:«وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ»

(1)

، فمن خصائصِه: عمومُ الرسالةِ، وختمُ النبوةِ به.

ولهذا لا يُحقِّقُ المكلَّفُ شهادةَ أنَّ محمدًا رسولُ الله إلَّا بأنْ يؤمنَ بأنَّه رسولُ الله إلى الناسِ كافةً، ويؤمنَ بأنَّه خاتمُ النبيِّين؛ فلا نبيَّ بعده.

فمَن أنكرَ واحدةً من هاتَين الخصيصتَين للرسولِ؛ فإنَّه لم يُحقِّق شهادةَ أنَّ محمدًا رسولُ الله، فمن قالَ: رسالةُ محمَّدٍ خاصَّةٌ بالعربِ وليست عامةً للناس كلُّهم؛ فهو كافرٌ لأنَّه لم يشهد أنَّ محمدًا رسول الله على الحقيقة، ومَن قال: إنَّه ليس خاتم النبيِّين، بل يجوز أن يُبعَث نبي بعده؛ فهو كافرٌ. فلا بدَّ لصِّحةِ إسلامِ المُكلَّفِ أنْ يشهدَ أنَّ محمدًا رسولُ الله إلى الناسِ كافةً، وأنَّه لا نبيَّ بعده.

والرسولُ صلى الله عليه وسلم له فضائلُ، وخصائصُ، وقد أثنى اللهُ عليه في كتابِه ثناءً مُجملًا ومُفصَّلًا؛ فقال:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)} [الأحزاب]، فهذه الصفاتُ الخمس هي الغايةُ من إرساله.

وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (128)} [التوبة]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ

(1)

أخرجه مسلم (523 - 5)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 120

وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (157) قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون (158)} [الأعراف].

وهاتان القضيتان من ضرورياتِ الدِّينِ، ومعناه أنَّهما ممَّا عُلِمَا من دينِ الإسلام بالضرورة، وهما: عمومُ الرسالةِ وخَتمُ النبوةِ، فمَن جحدَهما أو واحدةً منهما فهو كافرٌ، وإن كان مسلمًا فإنَّه يرتدُّ بذلك.

وبهذه المناسبة نذكرُ التعريفَ المشهورَ للنبيِّ والرَّسولِ، وهو: أنَّ النبيَّ مَنْ أُوحيَ إليه بشرعٍ ولم يُؤمرْ بتبليغه، والرسولَ مَنْ أُوحيَ إليه بشرعٍ وأُمرَ بتبليغه

(1)

، وهذا التعريفُ غيرُ مُستقيمٍ في الحقيقة وإن كان هو المشهورُ؛ لأنَّ معنى هذا أنَّ النبيَّ عمله قاصرٌ على نفسه، فمعناه أنَّه لا يُعلِّم، فهو أُوحيَ إليه بشرعٍ ولم يُؤمرْ بالتبليغِ، فلا دعوةَ ولا أمرَ ولا حُكمَ، وهذا غيرُ صحيحٍ، بل الأنبياءُ يدعونَ إلى الله ويحكمونَ بين الناسِ، قال تعالى:{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، وكما في قصةِ داودَ عليه السلام وغيرها؛ {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ

(1)

ينظر: أعلام الحديث للخطابي (1/ 298)، والمنهاج في شعب الإيمان (1/ 239)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (1/ 155)، وفتح الباري (11/ 112)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 49).

ص: 121

يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين (78)} [الأنبياء]

(1)

.

ولكنَّ التعريفَ الذي ذكرَه شيخُ الإسلام مُنضبطٌ وجيدٌ؛ وهو: أنَّ الرسولَ هو مَنْ أُرسلَ إلى قومٍ كفَّارٍ مُكذِّبين؛ مثل: نوحٍ، وهود، وصالح، وموسى، وهارون، عليهم السلام وغيرهم، أمَّا النبيُّ فهو من أُرسلَ إلى قومٍ مؤمنين

(2)

، ويَستشهِدُ شيخُ الإسلامِ على هذا بقولِه سبحانه وتعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52]، فأضافَ الإرسالَ إليهما، فدلَّت الآيةُ على أنَّ النبيَّ مُرسلٌ، وأنَّ المرسلين منهم النبيُّ ومنهم الرسولُ.

فالإرسالُ الشرعيُّ عامٌّ يشملُ الأنبياءَ والرُّسل، وخاصٌّ بالرُّسل؛ فالرسولُ هو المُرسَلُ إلى قومٍ كفَّارٍ، والنبيُّ مَنْ أُرسلَ إلى قومٍ مؤمنين يعلِّمُهم ويحكمُ بينَهم، ويأمرُ بالمعروفِ وينهى عن المُنكرِ؛ كما تقدَّم.

وهذا التقريرُ لشيخِ الإسلام يُؤيده آياتٌ؛ فإنَّ الله سمَّى أنبياءَ بني إسرائيل من بعدِ موسى رُسلًا؛ فقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 87]، فليس بعد موسى رسولٌ بالمعنى الخاصِّ إلَّا المسيحُ ثم محمَّدٌ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ.

(1)

تنظر أوجه أخرى لرد هذا التفريق في: روح المعاني للألوسي (9/ 165)، والرسل والرسالات للأشقر (ص 13 - 14)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 86 - 87).

(2)

ينظر: النبوات (2/ 714 - 718).

ص: 122

وقول المؤلف: (ثم ختم الرسالةَ والنَّذارةَ والنبوَّةَ بمحمَّدٍ نبيِّه صلى الله عليه وسلم: تقريرٌ لختمِ الأنبياءِ بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وختمُ النبوةِ يستلزم ختمَ الرسالةِ، والبشارةُ والنَّذارةُ من مرسَلٍ، وأمَّا البشارةُ والنذارةُ من تابعٍ فهي باقيةٌ؛ لأنَّ كلَّ مَنْ يدعو إلى الله يُبشِّرُ المؤمنين، ويُنذرُ المكذِّبين، وبهذا يتبيَّنُ أنَّ‌

‌ عبارةَ المؤلفِ في ختم البشارةِ والنذارةِ ليست على إطلاقها،

وذِكرُ المؤلِّفِ لهذه المعاني تأكيدٌ لختم النبوة.

قوله: (وأنزلَ عليه كتابَه الحكيم):

أي: أنزلَ عليه القرآنَ، والقرآنُ له أسماءٌ منها: الكتابُ، والفرقانُ، والذِّكرُ، وأَحسنُ الحديثِ. وله صفاتٌ كثيرةٌ: كالحكيمِ، والعزيزِ، والمجيدِ، والعظيمِ، والكريمِ، والمباركِ، وكلُّ اسمٍ له دلالةٌ

(1)

.

ويُمثِّلُ شيخُ الإسلام بأسماءِ القرآنِ للأسماءِ المُتكافئةِ، التي تتَّحدُ من وجهٍ وتختلفُ من وجه

(2)

، فالقرآنُ له أسماء، كلُّها تدلُّ على المُسمَّى، فهو القرآنُ والكتابُ المُنزَّلُ على محمَّدٍ، ولكن كلُّ اسمٍ له دلالةٌ، فأسماءُ القرآن تدلُّ على معانٍ وصفاتٍ من صفاتِ القرآن.

(1)

ينظر: جمال القراء وكمال الإقراء (1/ 161 - 181)، والبرهان في علوم القرآن (1/ 273 - 282)، والإتقان في علوم القرآن (2/ 336 - 345).

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى (20/ 424)، (20/ 494)، والرد على الشاذلي (ص 172)، وجامع الرسائل (2/ 203)، والتدمرية بشرح شيخنا (ص 338) وما بعدها.

ص: 123

ووصفُ القرآنِ بأنَّه حكيمٌ يتضمن معنى الحُكمِ بين المختلفين، فهو حكيمٌ بمعنى حاكمٌ، والإحكامُ كما قال تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، ويتضمَّن معنى الحكمة التي هي كلُّ قولٍ صائبٍ وعملٍ صالحٍ.

قوله: (وشرحَ به دينَه القويمَ): يحتمل أنه يريد به القرآن أو الرَّسول، وكلٌّ من المعنيين حقٌّ،

والدّينُ القويمُ المُستقيمُ هو دينُ الإسلامِ.

قوله: (وهدى به الصراطَ المستقيمَ): كما قالَ سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (52)} [الشورى] فالرَّسولُ يهدي بالدعوةِ والبيانِ.

والهدايةُ هدايتان: هدايةُ التوفيقِ، وتلك مُختصَّةٌ بالربِّ تعالى، وهي: مختصةٌ بالمؤمنين الذين وفَّقهم اللهُ، قال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} [القصص: 56] وهدايةُ الدلالةِ والإرشاد، وهذه تكونُ من الرسلِ وأتباعِهم قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (52)} [الشورى]، وهي عامةٌ لجميع المكلَّفين: المؤمن والكافر؛ قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17]، وقال تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان].

* * * * *

ص: 124

‌ذكر البعث والجزاء

وأنَّ الساعةَ آتيةٌ لا ريب فيها، وأنَّ اللهَ يبعثُ مَنْ يموت، كما بدأهم يعودون.

وأنَّ اللهَ سبحانه ضاعفَ لعباده المؤمنين الحسنات، وصفحَ لهم بالتوبة عن كبائر السيِّئاتِ، وغفرَ لهم الصغائرَ باجتناب الكبائرِ، وجعل مَنْ لم يتبْ من الكبائر صائرًا إلى مشيئته {إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48]، ومَن عاقبه بناره أخرجه منها بإيمانه، فأدخله به جنَّته {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7)} [الزلزلة]، ويخرج منها بشفاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ شفع له من أهل الكبائر من أُمَّته.

هذا شروعٌ من المؤلف في تقرير ما يجب اعتقادُه في اليوم الآخر، وهو الأصلُ الخامسُ من أصول الإيمان، ولو قَدَّمَ الكلامَ فيه على الكلام في القدَر لكان أولى؛ لأنَّ الإيمانَ بالقدر هو الأصلُ السادسُ.

والساعةُ: اسمٌ من أسماءِ القيامة.

وقوله: (آتيةٌ)؛ أي: واقعةٌ في وقتها الذي قدَّره اللهُ. ولها أسماء كثيرةٌ؛ كالقيامةِ، والساعةِ، ويومِ البعثِ، ويومِ النُّشورِ، ويومِ الجزاءِ، ويومِ

ص: 125

الحسابِ، إلى غير ذلك، وقد جمعها بعضُ العلماءِ في مؤلَّفٍ

(1)

، قال تعالى:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)} [القيامة]، وقال تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [الروم: 12]: أي: تقومُ القيامةُ.

وساعةُ القيامةِ هذه إحدى الخمسِ التي استأثرَ اللهُ بعلمها المذكورةِ في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير (34)} [لقمان]، وقالَ جبريلُ للنبيِّ عليه الصلاة والسلام: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»

(2)

، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف: 187].

قوله: (لا ريبَ فيها): أي: لا شكَّ فيها، فيجب الإيقانُ بها؛ لأنَّ قيامَ الساعةِ داخلٌ في الإيمان باليوم الآخرِ الذي هو من أصولِ الإيمانِ.

قوله: (وأنَّ الله يبعثُ مَنْ يموتُ):

لو قالَ: وأنَّ اللهَ يبعثُ مَنْ في القبورِ؛ لكان أحسن؛ لأنه الموافق للفظ القرآنِ في قوله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور (7)} [الحج].

(1)

جمعها الغزالي ثم القرطبي فبلغت نحو الثمانين اسمًا. ينظر: العاقبة في ذكر الموت للإشبيلي (ص 250 - 251)، وإحياء علوم الدين (9/ 544 - 545)، والتذكرة للقرطبي (2/ 543 - 544)، وفتح الباري (11/ 396).

(2)

أخرجه بهذا اللفظ: البخاري (50)، ومسلم (9) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولمسلم (8) نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 126

وقد ردَّ اللهُ على الكفار في جحدِهم للبعثِ بذكر الأدلة على قدرتِه التامَّة، فلا يُعجزُه شيءٌ، وهي‌

‌ طُرق القرآنِ في إثبات إمكان البعث:

أحدها: الاستدلال بالنشأة الأولى، قال تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُون (62)} [الواقعة]، وقال تعالى:{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيد (15)} [ق].

الثاني: الاستدلال بخلق السماوات والأرض؛ قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81]، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير (33)} [الأحقاف]، وقد ذكر شيخُ الإسلام الطُرقَ الأربعةَ بشواهدها من القرآن في «الردِّ على المنطقيين»

(1)

.

قوله: (كما بدأهم يعودون):

أي: كما بدأَ خلقهم من ترابٍ ومن نطفةٍ يُعيدُهم سبحانه وتعالى ويُنشئُهم نشأةً أخرى تُناسبُ حياةَ البقاء، وفي هذا إشارةٌ من المؤلف إلى الدليل الأوَّل، وهو الاستدلالُ بالمبدأ على المعاد.

ص: 127

قوله: (وأنَّ اللهَ سبحانه ضاعفَ لعباده المؤمنين الحسنات، وصفحَ لهم بالتوبة عن كبائر السيِّئاتِ

) إلى آخره:

في هذه الجملةِ يذكرُ المؤلفُ فضلَه سبحانه وتعالى على عبادِه المؤمنين، وأنَّه يُضاعفُ لهم الحسنات، قال تعالى:{مَنْ جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]، فأقلُّ تضعيفِ الحسنةِ بعشرِ أمثالها، إلى سبع مئةِ ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرة

(1)

.

وجاء في الحديث: «مَنْ تصدَّقَ بعدل تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ، ولا يقبل اللهُ إلَّا الطيَّبَ، وإنَّ اللهَ يتقبَّلها بيمينه، ثم يُربيها لصاحبه، كما يُربِّي أحدُكم فلوَّه، حتى تكون مثلَ الجبل»

(2)

. هذا التضعيفُ فوقَ الخيالِ، عدْل تمرةٍ ثم تكون كالجبلِ.

فمِنْ فضلِه تعالى أنَّه يُضاعفُ لعباده المؤمنين الحسنات، يعني: يقبلُها ويُضاعفُ أجرَها، أمَّا السيئاتُ فإنها بمثلها؛ قال تعالى:{مَنْ جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُون (160)} [الأنعام].

ثم من فضلِه تعالى أنَّه يغفرُ لكلِّ من تابَ إليه، فيغفرُ للمؤمنين كبائرَ الذنوبِ بالتوبةِ، ولكنْ مغفرةُ الذنوب لها مُكفِّراتٌ عِدَّةٌ، بلغت أحدَ عشر سببًا

(3)

أعظمُها وأعمُّها وأكملُها التوبةُ، فإنها لا تضيقُ بأيِّ ذنبٍ،، فاللهُ

(1)

أخرجه البخاري (6491)، ومسلم (131) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري (1410) - واللفظ له -، ومسلم (1014) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

ينظر: منهاج السنة (4/ 325 - 326)، (6/ 205 - 238)، والإيمان الأوسط (ص 336 - 359)، ومدارج السالكين (1/ 217 - 219)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (2/ 451 - 456).

ص: 128

يتوب على الكفارِ والمشركين، فالنصارى المُثلِّثةُ يقولُ الله فيهم:{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة: 74]، وقال في أصحاب الأُخدود:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: 10].

فمغفرةُ الذنوب بالتوبةِ ليست من خصائصِ المؤمنين، بل التوبةُ سببٌ لمغفرة جميعِ الذنوب، فكلُّ مَنْ تابَ تابَ اللهُ عليه، حتى الكافرُ كما تقدَّم، ولكنْ عبارةُ المؤلف تقتضي أنَّ الكبائرَ لا تُغفر إلَّا بالتوبةِ، وفي هذا نظرٌ؛ فقد تُغفَرُ الكبائرُ برجحان الحسناتِ العظيمةِ، وقد تُغفَرُ بالمصائب، أو بالاستغفار والإلحاحِ على الله بطلبِ المغفرة، وغير ذلك من أسباب المغفرة، وذلك راجعٌ إلى مشيئة الله وحكمته

(1)

.

أمَّا الصغائرُ؛ فيقولُ المؤلِّفُ: إنَّها تُغفرُ باجتنابِ الكبائرِ. ودليل هذا قولُه تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا (31)} [النساء]، وتُغفرُ أيضًا بالأعمالِ الصالحةِ كما في الحديثِ الصحيح:«الصَّلواتُ الخمسُ والجمعةُ إِلى الجمعةِ، ورمضانُ إِلى رمضانَ مُكفِّراتٌ ما بَينهُنَّ، إذا اجتُنبتِ الكبائرُ»

(2)

، فتُكفَّرُ الصغائرُ بالأعمالِ الصالحةِ وباجتناب الكبائر، ثم مَنْ ماتَ من أهل التوحيد على بعض الكبائر من غير توبةٍ؛ فهو في مشيئةِ الله، إنْ شاء اللهُ غفرَ له ولم يُعذِّبْه، وهو الحكيمُ العليمُ الغفورُ الرحيمُ، وإنْ شاءَ عذَّبَه بذنبه، ثم يخرجه من النارِ؛ خلافًا للخوارجِ والمُعتزلةِ القائلين بتخليد

(1)

ينظر: منهاج السنة (6/ 218 - 219)، والإيمان الأوسط (ص 339 - 356)، والجواب الكافي (ص 289 - 290).

(2)

أخرجه مسلم (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «اجتنب» .

ص: 129

أهلِ الكبائرِ في النار إذا ماتوا من غير توبة، فخالفوا نصوصَ الكتابِ والسنَّةِ؛ كقوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48]، وهذه الآيةُ في حقِّ غيرِ التائبِ، أمَّا مَنْ تابَ فإنَّ اللهَ يتوب عليه حتى الشرك والكفر، لقوله تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (53)} [الزمر]، وهذه الآية في التائبين، وبهذا يحصلُ‌

‌ الجمعُ بين آية النساء وآية الزمر

(1)

.

وإخراجُه تعالى لمن يُخرجه من النار من أهلِ التوحيدِ يكون بشفاعةِ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه يشفعُ لأمَّته كما جاءَ في الحديثِ أنه يشفعُ لأمته أربعَ مرات، وفي كلِّ مرةٍ يقول:«فَيَحُدُّ لي حَدًّا فأُخرِجُهم مِنْ النَّارِ»

(2)

، ويشفعُ الملائكةُ، والأنبياءُ والمؤمنون، لكنَّ نبيَّنا عليه الصلاة والسلام له النصيبُ الأوفرُ في الشفاعةِ لأهل التوحيدِ.

* * * * *

(1)

ينظر: تفسير آيات أشكلت لابن تيمية (1/ 293) وما بعدها، ومجموع الفتاوى (2/ 358)، (4/ 475)، (16/ 18)، (18/ 191)، ومدارج السالكين (1/ 502 - 503)، والجواب الكافي (ص 40 - 41)، وتفسير ابن كثير (7/ 106).

(2)

أخرجه البخاري (4476)، ومسلم (193) - واللفظ له -، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 130

‌الجنة والنار موجودتان الآن، وهما دارا الجزاء

(وأنَّ اللهَ سبحانه قد خلق الجنَّةَ فأعدَها دارَ خلودٍ لأوليائه، وأكرمَهم فيها بالنَّظر إلى وجهه الكريمِ، وهي التي أهبطَ منها آدمَ - نبيَّه وخليفتَه - إلى أرضه بما سبق في سابق علمه.

وخلقَ النارَ فأعدَّها دارَ خلودٍ لمن كفر به، وألحدَ في آياته وكتبِه ورسلِه، وجعلهم محجوبين عن رؤيته).

في هذه الجملةِ مسائل:

المسألةُ الأولى: يقولُ: (وأنَّ اللهَ سبحانه قد خلقَ الجنَّةَ): يعني ومن الإيمانِ باليوم الآخر: الإيمانُ بالجنة والنار، وأنَّ اللهَ خلقَ الجنة، وأعدَّها للمتقين، وجعلَها دارَ خلودٍ وبقاءٍ لأوليائه. والأدلةُ على وجودِ الجنَّة كثيرةٌ منها قولُه تعالى:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران]، وقوله تعالى:{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء} [الحديد: 21]، ومعنى: أُعدّت؛ هُيِّئت، ومنها قولُه تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)} [النجم]، وكذا قوله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (32)} [النحل].

ص: 131

وكذلك القولُ في النارِ إنَّها موجودةٌ، وأن الله خلقها وجعلها دار خلود لمن كفر به، والأدلةُ على وجودِ النار كثيرةٌ؛ منها قوله تعالى في قومِ نوح:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا (25)} [نوح]، وقال في فرعونَ وقومِه:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]، وقال تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93]. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين (131)} [آل عمران].

ومن السُّنةِ أدلةٌ كثيرة، منها ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عُرِضَت عليَّ الجنةُ والنارُ»

(1)

، ومنها: ما ورد في أحاديث عذابِ القبر ونعيمه، وأنَّ الكافر بعد الفتنةِ يُفتَحُ له بابٌ إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسَمومها

(2)

، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها

(1)

أخرجه البخاري (540)، ومسلم (2359) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

يشير شيخنا لما أخرجه أحمد (18534)، والطيالسي (789)، وابن أبي شيبة (12059)، وأبو داود (4753)، والحاكم (107)(111)، والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» (20)(44)، وابن منده في «الإيمان» (1064) من طرق، عن الأعمش، عن منهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب، به. وله طرق أخرى.

قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعًا بالمنهال بن عمرو وزاذان أبي عمر الكندي، وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة وقمع للمبتدعة ولم يخرجاه بطوله، وله شواهد على شرطهما يستدل بها على صحته» . وقال البيهقي: «هذا حديث كبير صحيح الإسناد، رواه جماعة من الأئمة الثقات عن الأعمش» .

وقال ابن منده: «هذا إسناد متصل مشهور. رواه جماعة، عن البراء، وكذلك رواه عدَّة، عن الأعمش، وعن المنهال بن عمرو، والمنهال أخرج عنه البخاري ما =

ص: 132

وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم»

(1)

، فما ذكره المؤلفُ في الجنة والنار من وجودهما ودوامهما هو معتقدُ أهلِ السنَّةِ والجماعة

(2)

.

وخالفَ في ذلك المعتزلةُ، وقالوا: إنَّهما لم يُخلقا، وإنَّ اللهَ يخلقهما يومَ القيامة، وقالوا بعقولِهم الفاسدة: إنَّ خَلْقَهما الآن عبثٌ، ومذهبُهم باطلٌ مناقضٌ لنصوص الكتابِ والسنَّةِ وإجماعِ سلفِ الأمة من الصحابة والتابعين

(3)

.

المسألةُ الثانيةُ: مسألةُ النظرِ إلى وجهِ الله، فأعلى نعيمِ أهلِ الجنةِ نظرُهم إلى وجهه الكريمِ. وهذه مسألةُ الرؤية التي وقعَ فيها الافتراقُ بين فِرقِ الأمةِ، فأهلُ السُّنةِ والجماعة يُؤمنون بما دلَّ عليه كتابُ الله

=تفرد به، وزاذان أخرج عنه مسلم، وهو ثابت على رسم الجماعة. وروي هذا الحديث عن جابر، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأنس بن مالك، وعائشة رضي الله عنهم».

وقال ابن القيم في «الروح» (ص 136): «هذا حديث ثابت مشهور مستفيض صحَّحه جماعة من الحفاظ ولا نعلم أحدًا من أئمة الحديث طعن فيه» ، وصحَّحه في «تهذيب السنن» (3/ 319 - 325)، ونقل فيه: تصحيح أبي نعيم وأبي موسى الأصبهانيين، وأجاب عن حجج من ضعفه، وصحَّحه الألباني وجمع ألفاظه في «أحكام الجنائز» (ص 198).

(1)

أخرجه مسلم (2662 - 31) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

ينظر: التوحيد لابن خزيمة (2/ 881)، والشريعة (3/ 1343)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (6/ 1256)، وحادي الأرواح (1/ 24)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 313 - 315).

(3)

حكى هذا القول عن المعتزلة: البغدادي في «أصول الدين» (ص 262)، وابن حزم في «الفصل» (4/ 68)، ويحيى بن أبي الخير العمراني في «الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار» (3/ 659)، وابن القيم في «حادي الأرواح» (1/ 24).

ص: 133

وسُنةُ رسوله، وقد أجمعَ أهلُ السُّنةِ على أنَّ المؤمنين يرون ربَّهم يومَ القيامة عيانًا بأبصارهم: في عرصَات القيامةِ، وبعد دخولِهم الجنةَ كما يشاءُ الله

(1)

.

ومن الأدلةُ على رؤية المؤمنين:

قولُه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة (23)} [القيامة]، وقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وفسَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الزيادةَ بالنظر إلى وجه اللهِ

(2)

، وهذا هو معنى الزيادةِ عند السَّلفِ من الصحابة والتابعين

(3)

، وقولُه في الكفَّار:{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُون (15)} [المطففين]، فدلَّ على أنَّ المؤمنين بخلافِ ذلك؛ أي: لا يحجبون.

ومن السُّنةِ: الأحاديثُ الصحيحةُ المُتواترةُ

(4)

، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إنكم سترونَ ربَّكم عيانًا»

(5)

، «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمرَ لا

(1)

ينظر: التوحيد لابن خزيمة (2/ 443 - 476)، والشريعة (2/ 976 - 1035)، والإبانة (7/ 1 - 77)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 503 - 565)، وحادي الأرواح (1/ 605 - 714).

(2)

أخرجه مسلم (181) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.

(3)

ينظر: تفسير الطبري (12/ 155 - 162)، وزاد المسير (2/ 326 - 327)، وتفسير ابن كثير (4/ 262)، وحادي الأرواح (2/ 612 - 615).

(4)

رواها سبعة وعشرون صحابيًا، ونصَّ على تواترها غير واحد من أهل العلم، منهم: الأشعري في «الإبانة» (2/ 14)، وابن حزم في «الفصل» (3/ 3)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» (2/ 392)، و «منهاج السنة» (2/ 316)، وابن القيم وساقها في «حادي الأرواح» (2/ 625 - 685)، وابن حجر في «الفتح» (8/ 302)، والكتاني في «نظم المتناثر» (ص 238، رقم 307).

(5)

أخرجه البخاري (7435) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

ص: 134

تُضامون في رؤيته»

(1)

؛ المعنى: أنَّ المؤمنين يرون ربَّهم كما يرَون القمرَ وكما يرون الشمسَ، فشبَّه الرؤيةَ بالرؤية، ولم يُشبِّه المرئيَّ بالمرئيِّ، ووجهُ الشَّبهِ بين الرؤيةِ والرؤيةِ من وجوه

(2)

:

أحدها: أنَّها رؤيةٌ بصريةٌ.

الثاني: أنَّها رؤيةٌ من غير إحاطةٍ، كما يدلُّ له قوله تعالى:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَار} [الأنعام: 103]؛ أي: لا تحيط به.

الثالث: أنَّهم يرونَه من فوقهم؛ كما هو الشأنُ في رؤية الشمسِ والقمرِ، والعلوُّ من لوازم ذاتِه.

الرابع: أنَّهم يرونه ظاهرًا لا يلحقهم في النظر إليه ضَيْمٌ ولا ضررٌ.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة: «وما بين القومِ وبين أن ينظروا إلى ربهم إلَّا رداءُ الكبرياءِ على وجهه في جنة عدن»

(3)

، ومنها حديث التجلي الطويل، وفيه أنَّ الناسَ إذا انصرفوا من الموقف تبقى هذه الأمة، وفيها منافقوها فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفونها، ثم يأتيهم في الصورة التي يعرفونها، فيكشف عن ساقه فإذا رأوه سجد له المؤمنون ممَّن كان يسجد في الدنيا إيمانًا، وأمَّا مَنْ كان يسجد رياءً في الدنيا، وهم المنافقون؛ فإنَّ ظهورَهم تكون طباقًا، كلما أراد أحدٌ أن يسجد خرَّ على قفاه

الحديث

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (554)، (7434)، ومسلم (633) من حديث جرير رضي الله عنه.

(2)

تقدم في (ص 99).

(3)

أخرجه البخاري (4878)، ومسلم (180) - واللفظ له - من حديث أبي موسى - عبد الله بن قيس - الأشعري رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأخرجه البخاري (6573) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 135

ومنها: حديثُ صهيبٍ رضي الله عنه، وفيه تفسير النبيِّ للزيادة في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقد تقدَّمت الإشارةُ إليه، ولفظه كما في صحيح مسلم؛ عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ قال يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون ألم تُبيِّض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة وتُنجنا من النار. قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل، ثم تلا رسول الله هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]»

(1)

، إلى غير ذلك من الآثار، وقد أجمع الصحابةُ فمَن بعدهم من أهل السنَّة على إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة.

وكلام المؤلف صريح في إثبات الرؤية التي دلَّت عليها الأدلة من الكتاب والسنة، وهو بهذا يوافق قول إمامه مالك بن أنس رحمه الله؛ فقد روي عنه أنه قال:«لمَّا حجب أعداءه فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه»

(2)

.

وقد أنكرَت المُعطلةُ من الجهميةُ والمعتزلةُ الرؤيةَ بل أنكروا إمكان الرؤية، وتعلَّقُوا بقوله تعالى:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، وقالوا؛ أي: لا تراه الأبصار، والآية حجَّةٌ عليهم، فإنَّ الإدراك هو الإحاطة؛ فالمنفيُّ هو الرؤية مع الإحاطة، ونفيُ الإحاطة يستلزمُ إثبات الرؤية من غير إحاطةٍ؛ لأن نفي الأخص يستلزم إثبات الأعم

(3)

، واستدلوا أيضًا؛

(1)

أخرجه مسلم (181).

(2)

ينظر: الكشف والبيان للثعلبي (29/ 65)، والتفسير البسيط للواحدي (23/ 327).

(3)

ينظر: منهاج السنة (2/ 317 - 321)، وبيان تلبيس الجهمية (4/ 420 - 428)، وحادي الأرواح (2/ 618 - 622)، وشرح التدمرية لشيخنا (ص 224 - 225)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 115 - 116).

ص: 136

بقوله تعالى لموسى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وزعموا أن «لن» للتأبيد يعني: لن تراني أبدًا.

وقد ردَّ المحقِّقُون من أهل اللُّغَة القول بأنَّ «لن» تفيد التأبيد، كما قال ابن مالك في «الكافية الشافية»:

وَمَنْ رَأَى النَّفْيَ بِ «لَنْ» مُؤبَّدَا

فَقَولَهُ ارْدُدْ وَخِلَافَهُ اعْضُدَا

(1)

فالصحيح أنَّ «لن» تكون للتأبيد ولغير التأبيد، ومما يدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى في اليهود:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} - يعني الموت - {أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95]، فاجتمع في هذه الآية «لن» مع ذكر التأبيد، وقد أخبر سبحانه وتعالى أن أهل النار يتمنون الموت كما قال سبحانه:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُون (77)} [الزخرف]، فعُلم أن النفي في آية البقرة - وهو نفي تمنيهم الموت - إنما هو في الدنيا، وأيضًا فإنه تعالى لو كان لا يُرى أبدًا لم يقل لموسى عليه السلام:{لَنْ تَرَانِي} ، ولقال له: إني لا أُرى، وفرقٌ بين اللَّفظين، فإنَّ قولَه:{لَنْ تَرَانِي} يُفهم منه أنه تعالى يُرى ولكنَّ موسى لن يراه في ذلك الوقت الذي طلب فيه الرؤية.

وقد أطال الإمام ابنُ القيِّم رحمه الله في ردِّ الاستدلال بهذه الآية على نفي الرؤية من سبعة أوجهٍ في كتابه «حادي الأرواح»

(2)

.

وها هنا نكتةٌ لطيفةٌ، وهي: أن نفي المعطلةِ للرؤية مناسبٌ لنفي الصفات؛ لأنَّ ما لا صفة له لا وجود له فهو معدومٌ، والمعدومُ لا يُرى،

(1)

الكافية الشافية بشرح الناظم (3/ 1515).

(2)

حادي الأرواح (2/ 605 - 608).

ص: 137

وعليه فنفيهم للرؤية فرعٌ عن نفيهم للصفات، ولهذا قال عبد العزيز الماجشون

(1)

: «وإنما جحدَ رؤية الله يوم القيامة؛ إقامة للحجة الضالة المضلة؛ لأنَّه قد عرف أنه إذا تجلَّى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين، وكان له جاحدًا»

(2)

.

ومن أقوال أهل البدع المنحرفة في مسألة الرؤية: قول الأشاعرة، فإنَّهم يقولون: إنَّه تعالى يُرى لكن لا في جهة، يعني: لا يُرى من فوق، ولا عن يمين، ولا عن شمال، ولا من أسفل، وهذا جارٍ على طريقتهم في التلفيق في باب الصفات، كما صنعوا في إثبات الصفات فأثبتوا بعضها ونفوا أكثرها، ومثل ذلك قولهم في صفة الكلام؛ فإنهم أثبتوا الكلامَ النفسيَّ، ونفوا الكلامَ المسموع، وهكذا قولهم في الرؤية ملفَّقٌ من مذهب أهل السنَّة، ومن مذهب المعتزلة، بل حقيقةُ قولهم في الرؤية يؤول إلى نفي الرؤية، فإنَّ الرؤيةَ في غير جهةٍ غيرُ معقولة؛ لأنَّه لا بدَّ أن يكون المرئيُّ في جهةٍ من الرائي، ولذا أهلُ السنَّةِ والجماعةِ يقولون: إنَّ اللهَ تعالى يُرى في العلو.

ومنشأُ قولِ الأشاعرةِ من أنَّه تعالى يُرى لا في جهة؛ هو أنَّهم ينفون صفةَ العلو لله عز وجل، فهم ينفون علوَّ اللهِ عز وجل على خلقه، فاللهُ عندهم

(1)

عبد العزيز الماجشون: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، أبو عبد الله التيمي، قيل له ولأهل بيته:«الماجشون» ؛ لحمرة خدودهم، وقيل غير ذلك، وكان من الأئمة الكبار، وأحد فقهاء أهل المدينة، ثم رحل إلى بغداد، فسكنها وحدث بها إلى حين وفاته سنة (164 هـ)، وصلى عليه الخليفة المهدي. ينظر: تاريخ بغداد (12/ 194 رقم 5554)، والسير (7/ 309).

(2)

ينظر: الإبانة الكبرى لابن بطة (7/ 66).

ص: 138

في كلِّ مكان، ولا يُوصف بأنَّه فوق المخلوقات بمعنى: أنَّه فوقهم بذاته، لكن إذا قالوا: بأنَّ اللهَ فوق المخلوقات فيعنون بذلك الفوقية المعنوية، وهي فوقيةُ القَدْرِ.

فمذهبُ أهلِ السنَّةِ والجماعة حقٌّ خالصٌ، ومذهبُ الجهميَّةِ والمعتزلةِ مذهبٌ باطلٌ ليس فيه من الحقِّ شيءٌ، ومذهبُ الأشاعرةِ فيه حقٌّ وباطلٌ، فقولهم:«إنه يُرى بالأبصار» حقٌّ، وقولهم:«لا في جهة» باطلٌ

(1)

.

المسألةُ الثالثةُ: مسألةُ الجنةِ التي أُهبطَ منها آدم، فالذي عليه الجمهورُ أنَّها هي جنةُ الخلد التي خلقَها الله وأعدَّها لأوليائِه، قال الله تعالى:{نَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه]، وقالَ:{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِين (35)} [البقرة].

وقالَ آخرون: إنَّها ليست جنةُ الخلدِ التي أُعدَّت للمتقين، بل جنةٌ في مكانٍ عال في ربوةٍ من الأرضِ اللهُ أعلمُ حيث كانت.

(1)

قول الأشاعرة بالرؤية مع نفي العلو في غاية التناقض، وجميع محاولاتهم لإزالة هذا التناقض لم تفلح إلا بأن تُفسَّر الرؤية بما يقربها إلى مذهب المعتزلة؛ وهو أن الرؤية أمر يخلقه اللّه في الحي! وهذا ما استقر عليه مذهبهم كما في «شرح المواقف» للجرجاني (8/ 115 - 116). قال شيخ الإسلام:«فلهذا صار الحذَّاق من متأخري الأشعرية على نفي الرؤية وموافقة المعتزلة، فإذا أطلقوها موافقة لأهل السنة فسَّروها بما تفسِّرها به المعتزلة، وقالوا: النزاع بيننا وبين المعتزلة لفظي» . درء التعارض (1/ 250). وينظر: بيان تلبيس الجهمية (2/ 432 - 435)، (4/ 420 - 480)، ومنهاج السنة (2/ 325) وما بعدها، ومجموع الفتاوى (16/ 84 - 89)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 117)، وشرح القصيدة الدالية (ص 74).

ص: 139

وقد احتجَّ كلٌّ من الفريقَين بحُججٍ، وقد استوفاها ابنُ القيمِ في كتابَيْه:«حادي الأرواح إلى بلادِ الأفراح»

(1)

، الذي خصَّه في شأن الجنةِ، وكذا في كتابِه:«مفتاحُ دارِ السعادة» عرضَ لهذه المسألةِ

(2)

، والراجَّحُ عنده أنها جنةُ الخلد، وهو واضحٌ من كلامه في الكتابين، وهذا - والله أعلمُ - يمكنُ أن نقولَ: إنَّه ظاهرُ القرآنِ؛ فموسى يقولُ لآدم: «أخرجتك خطيئتك من الجنة»

(3)

، وهو الصواب.

قال شيخُ الإسلام رحمه الله: «والجنةُ التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة وأهل السنَّةِ والجماعة: هي جنةُ الخلدِ، ومَن قال: إنَّها جنةٌ في الأرض بأرضِ الهندِ أو بأرضِ جدةِ أو غير ذلك؛ فهو من المتفلسفة والملحدين، أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين، فإنَّ هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة، والكتابُ والسنَّةُ يردَّان هذا القولَ، وسلفُ الأمةِ وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول»

(4)

.

(1)

ينظر: حادي الأرواح (1/ 47 - 90).

(2)

مفتاح دار السعادة (1/ 27 - 87)«هذا ظاهر كلامه من طريقة عرضه للمسألة» قاله شيخنا. وكذا في قصيدته «الميمية» ما يدلُّ على ترجيحه القولَ الأول، حيث قال:

فَحَيَّ عَلىَ جَنَاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا

مَنَازِلُكَ الأولىَ وَفِيهَا المُخَيَّمُ

وَلكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تُرَى

نَعُودُ إلىَ أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ؟

ينظر: مفتاح دار السعادة (1/ 425)، وحادي الأرواح (1/ 14)، وطريق الهجرتين (1/ 108)، وإغاثة اللهفان (1/ 117)، ومدارج السالكين (1/ 188).

(3)

أخرجه البخاري (3409) مسلم (2652 - 15) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

مجموع الفتاوى (4/ 347) وقارن بما في النبوات (2/ 705 - 707).

ص: 140

والظاهرُ أنَّ سجودَ الملائكةِ لآدمَ، وما كان من إبليسَ؛ أنَّ ذلك كلَّه كان في السماءِ، والجنةُ في السماءِ، وأيضًا قولُه تعالى:{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36] يدلُّ على أنهم ما كانوا في الأرضِ، بل أُهبِطُوا إلى الأرض، ومن يقول: إنها جنةٌ غير جنةِ الخلدِ يقول: إنها جنةٌ في الأرضِ، واللهُ أعلم.

قوله: (وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه):

المناسب أن يقال خليفة الله في أرضه، وكأنه رحمه الله أخذه من قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، وفي الآية أقوالٌ للمفسرين

(1)

هذا أحدُها، وقيل: سُمِّي آدمُ خليفةً؛ لأنه صار خليفةً لخلقٍ قبله كانوا على الأرض، وقيل: سُمِّي خليفةً؛ لأنَّ اللهَ جعله وذريته خلائف؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأَرْضِ} [الأنعام: 165]، والقول الذي مشى عليه المؤلف، وهو أنَّ آدمَ خليفةُ اللهِ؛ ضعيفٌ، إلَّا أن تكون الإضافةُ للتشريف، فإنَّ الخليفةَ مَنْ يخلف غيره إذا غاب أو مات، واللهُ تعالى حيٌّ لا يموتُ وشاهدٌ لا يغيبُ، فلا يكون أحدٌ خليفةً عنه، بل هو تعالى الذي يخلف عبدَه في مغيبه أو موته؛ كما في دعاء السفر:«اللهمَّ أنت الصاحبُ في السَّفر، والخليفةُ في الأهل»

(2)

، وكما

(1)

ينظر: تفسير الطبري (1/ 476 - 481)، وزاد المسير (1/ 50)، وتفسير ابن كثير (1/ 216 - 220).

(2)

أخرجه مسلم (1342) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 141

قال صلى الله عليه وسلم في حديث الدَّجَّال: «وإن يخرج، ولست فيكم فامرؤ حجيجُ نفسه، واللهُ خليفتي على كلِّ مسلمٍ»

(1)

.

وبعد ف‌

‌هل يقال آدمُ خليفةُ الله؟

(2)

نقول: لا يجوزُ ذلك؛ لأنه لم يرد في القرآن ولا في السنَّة وَصْفُ آدمَ بأنه خليفة الله؛ يعني خليفة عنه، أو خليفة الله من باب التشريف؛ لأنَّها إضافةُ مخلوقٍ إلى خالقه، ومن باب أولى أنَّه لا يجوز أن يُقال للإنسان خليفة الله كما يجري على أَلسن كثيرٍ من الناس في هذا العصر.

وحقَّقَ هذا المعنى شيخُ الإسلام رحمه الله

(3)

، وابنُ القيم في «مفتاحِ دارِ السعادة»

(4)

حين شرحَ وصايا عليٍّ رضي الله عنه لصاحبِه كُمَيْلِ بن زياد

(5)

.

والتعبيرُ عن الملوكِ بأنهم خلفاءٌ؛ راجعٌ إلى أنَّ بعضهم يخلفُ بعضًا، فهذا يموتُ أو يُعزلُ، ثم يأتي مَنْ بعده، فالذي جاءَ خليفةٌ عمَّن قبله، فهم خلفاءُ بهذا الاعتبار، وليس في ذلك فضيلةٌ، أو خصوصية

(1)

أخرجه مسلم (2937) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.

(2)

ينظر: فتاوى النووي (ص 225)، والفتوحات الربَّانية على الأذكار النواوية لابن علَّان (7/ 82 - 83)، والسلسلة الضعيفة (1/ 197 - 198 رقم 85)، ومعجم المناهي اللفظية (ص 252).

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى (35/ 43 - 44)، ومنهاج السنة (1/ 508 - 510)، (7/ 352 - 353)، وبيان تلبيس الجهمية (6/ 589 - 599).

(4)

مفتاح دار السعادة (1/ 427 - 432). وينظر: زاد المعاد (2/ 474 - 475).

(5)

كميل بن زياد بن نهيك بن الهيثم النخعي الكوفي، حدَّث عن: عمر وعثمان وعليٍّ وغيرهم، وروى عنه: أبو إسحاق السبيعي والأعمش وغيرهم، كان شريفًا مطاعًا في قومه، قتله الحجاج بن يوسف بالكوفة سنة (82 هـ). ينظر: الطبقات لابن سعد (8/ 299)، وتاريخ دمشق (50/ 247).

ص: 142

بتسميته خليفةً أو ملكًا فهما سيَّان، وتفاضل هؤلاء الملوك أو الخلفاء بحسب ما يقيمونه من الدين والعدل فأفضلهم أقومهم بأمر الله؛ فالخلافةُ ذات الفضيلةِ هي خلافةُ النبوة، وهي مُختصَّةٌ بخلافةِ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ليس إلَّا، بدليل ما جاء في الحديث الصحيح:«خلافةُ النبوةِ ثلاثون سنةً ثم يؤتي اللهُ الملكَ مَنْ يشاء»

(1)

، ولهذا يُعرَف هؤلاء بالخلفاء الراشدين، ويقال: زمنُ الخلافةِ الراشدة، وسماهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخلفاء الراشدين المهديين؛ في قوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين من بعدي

» الحديث

(2)

، أمَّا مَنْ بعد

(1)

أخرجه أحمد (21919)، وأبو داود (4646 - 4647)، والترمذي (2226)، والنسائي في «الكبرى» (8155)، وابن أبي عاصم في «السنة» (1185)، وابن حبان (6657)، والحاكم (4438)، من طرق، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعًا.

قال الترمذي: «هذا حديث حسن، قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان، ولا نعرفه إلا من حديثه» .

وقال ابن أبي عاصم: «حديث ثابت من جهة النقل، سعيد بن جمهان روى عنه حماد بن سلمة والعوَّام بن حوشب وحشرج» .

وسعيد بن جمهان؛ وثقه أحمد وابن معين، وأبو داود. ينظر: تهذيب التهذيب (4/ 14، رقم 15)، وقال ابن حجر في التقريب (2279):«صدوق له أفراد» ، واحتج بحديثه هذا الإمام أحمد كما في السنة للخلَّال (2/ 421، رقم 630)، وصححه ابن حبان، والحاكم، والألباني في «الصحيحة» (459).

(2)

أخرجه أحمد (17144)، والدارمي (96)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، والطبراني في «الكبير» (617)، والحاكم (333) وغيرهم، من طريق أبي عاصم الضحَّاك، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن العرباض بن سارية، به. لذلك قال ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (4/ 88 - 89):«عبد الرحمن بن عمرو السلمي مجهول الحال، والحديث من أجله لا يصح» . =

ص: 143

الخلفاءِ الراشدين؛ فهي خلافةٌ عاديةٌ ليس لها فضيلةٌ، إلَّا بحسب ما تتميزُ به من القيامِ بأمرِ الله، ولهذا تَمَيَّزَ عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله بِمَا وفَّقَه اللهُ له من العدلِ والقيامِ بدين الله، فكان معدودًا عند بعضِ أهل العلم من الخلفاءِ الراشدين

(1)

، ولا ريب أنه خليفةٌ راشدٌ ومَلِكٌ عادلٌ، لكنه لا يبلغ درجةَ الخلفاء الأربعة الراشدين، بل ولا معاوية رضي الله عنه؛ لِمَا له من فضيلة الصُحبةِ التي لم يُدركها عمرُ رضي الله عنهما، وأمَّا مَنْ سِواه؛ فهم خلفاءُ وملوك؛ لأنَّهم كما تقدَّمَ يخلفُ بعضُهم بعضًا، فاللاحقُ خليفةٌ عن السابقِ، وتقدم ذكر ما يتفاضلون به، واللهُ أعلم.

قوله: (وخلقَ النارَ فأعدَّها دارَ خلودٍ لمن كفرَ به وأَلحدَ في آياته وكتبه ورسله، وجعلهم محجوبين عن رؤيته):

هذه الجملةُ مُتَّصلةٌ بالتي قبلها، والكلامُ فيها مُرتبطٌ بما قبله في مسألةِ وجود الجنة والنار، ودوامهما، فالجنةُ والنارُ موجودتان، وقد خُلقتا للبقاء، فاللهُ خلقَ الجنة وجعلها دارَ خلودٍ لأوليائه، وخلقَ النارَ

=لكن جاء هذا الحديث من طريق أخرى عن عبد الرحمن بن عمرو مقرونًا بحجر بن حجر الكلاعي عن العرباض به، كما عند أحمد (17145)، وأبي داود (4607)، والحاكم (332)، وابن حبان (5)؛ وحجر بن حجر «مقبول» كما في «التقريب» (1143).

وله طرق وشواهد تنظر في: الإرواء (2455).

وقد صحَّح الحديث: الترمذي، والحاكم، والبزار، وابن عبد البر -كما في «جامع بيان العلم» (2/ 924 رقم 1758)، (2/ 1164 - 1165 رقم 2306) -، والألباني في «الإرواء» (2455)، و «الصحيحة» (937)، (2735).

(1)

ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (8/ 1473 - 1475)، والثقات لابن حبان (5/ 151)، وجامع المسائل (5/ 146)، وسير أعلام النبلاء (5/ 120).

ص: 144

وجعلها دارَ خلودٍ لأعدائِه الكافرين، وقد تقدم ذِكر الأدلة على ذلك قريبًا؛ كقوله تعالى في الجنة:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران]، وقوله في النار:{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين (24)} [البقرة]، ومن الأدلة على دوامهما قوله تعالى في أهل الجنة:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57] في عدد من الآيات، وقوله في أهل النار في عدد من الآيات:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 169].

وقد اتفقَ أهلُ السُّنةِ على أنَّ الجنةَ والنار موجودَتان مخلوقتان، لا تفنَيان أبدًا ولا تبيدان، وذهب الجهمُ بن صفوان ومَن تبعه إلى القول بفناء الجنةِ والنارِ؛ لأنَّ من الممتنع عنده دوامُ المخلوقات في الماضي، والمستقبل

(1)

. أمَّا الجنةُ فقد أجمعَ أهلُ السنَّةِ على دوامِها وبقائها، وأمَّا النارُ فمنهم مَنْ يَحكي الإجماعَ

(2)

، ومنهم مَنْ يحكي بعضَ الخلافِ في دوامِ النار، وجمهورُ أهلِ العلمِ والسَّلفِ على أنَّ النارَ دائمةٌ لا تفنى

(1)

ينظر: منهاج السنة (1/ 146 - 147)، (1/ 432 - 446)، وشرح الأصبهانية (ص 311 - 312)، ودرء التعارض (1/ 305 - 306)، (3/ 157 - 158)، (8/ 345 - 347)، ومجموع الفتاوى (8/ 153 - 154)، وحادي الأرواح (2/ 723 - 729).

(2)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة: على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية، كالجنة والنار والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع سلف الأمة وأئمتها» . مجموع الفتاوى (18/ 307).

وينظر: عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص 264)، والفصل (4/ 69 - 70)، ومراتب الإجماع لابن حزم (ص 267 - 268)، والتذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (2/ 926).

ص: 145

- نعوذ بالله من النار -، ويشهد لما قال المؤلف قولُ ابن أبي زَمَنين

(1)

في كتابه «أصول السنة» ؛ قال: «باب في الإيمان بأنَّ الجنة والنار لا يفنيان

قال محمد

(2)

: وأهل السنة يؤمنون بأنَّ الجنة والنار لا يفنيان ولا يموت أهلُوها»

(3)

.

وقد عرضَ ابنُ القيم في كتابَيْه «حادي الأرواح» ، و «شفاء العليل» لمسألةِ دوامِ الجنةِ والنار

(4)

، وقال في «شفاء العليل»

(5)

: وسألت عنها شيخَ الإسلام، فقال: هذه مسألةٌ عظيمةٌ كبيرةٌ، ولم يُجب ثم إنَّه ألَّف فيها المؤلَّف المعروف

(6)

، وحكى في «حادي الأرواح» أنَّ شيخَ الإسلام قال:«فيها قولان معروفان عن السَّلف والخلف، والنزاع في ذلك معروف عن التابعين»

(7)

.

(1)

ابن أبي زَمَنين: محمد بن عبد الله بن عيسى بن محمد المريِّ، الأندلسي، أبو عبد الله، شيخ قرطبة، اشتُهر بابن أبي زمنين، كان من أجلِّ أهل زمانه قدرًا في العلم والرواية والحفظ، له مصنفات منها:«مختصر المدونة» ، و «منتخب الأحكام» وغيرها، توفي سنة (399 هـ). ينظر: ترتيب المدارك (7/ 183)، والسير (17/ 188).

(2)

هو ابن أبي زمنين.

(3)

أصول السنة لابن أبي زمنين (ص 83).

(4)

ينظر: شفاء العليل (2/ 289 - 329)، وحادي الأرواح (2/ 730 - 792).

وعرضها أيضًا في مختصر الصواعق (2/ 637 - 685).

(5)

بمعناه في شفاء العليل (2/ 327).

(6)

وهو المعروف بعنوان «الرد على من قال بفناء الجنة والنار وبيان الأقوال في ذلك» طُبع بدار بلنسية في الرياض عام (1415 هـ) بتحقيق: محمد بن عبد الله السمهري.

(7)

حادي الأرواح (2/ 730)، وينظر: الرد على من قال بفناء الجنة والنار (ص 52).

ص: 146

ولا يجوزُ أن يُنسبَ إلى شيخِ الإسلام ولا لابنِ القيمِ القولُ بفناءِ النارِ؛ لأنَّه لم يُصرِّحْ واحد منهما بفناءِ النارِ، وإنَّما يذكران الخلافَ، ووجوهَ الاستدلالِ

(1)

.

فمِن شُبَه القائلين بفناءِ النار: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيق (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [هود]، وأجيب بأن المُرادُ مدَّةُ مُكثِهم في الدنيا، أو مُكثُهم في البرزخِ، أو في مواقفِ القيامة

(2)

.

(1)

اختلف العلماء في بيان موقف شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم من هذه المسألة إلى أقوال:

الأوَّل: القائلون بأنَّهما يقولان بفناء النار، نسبه إليهما أعداؤهما من المتجهمة كالحصني في «دفع شُبه من شبَّه وتمرد!» (ص 58) والسبكي فقد أشار إليه في رسالة «الاعتبار ببقاء الجنة والنار» (ص 67)، ونسبه إليهما بعض الموافقين لهما؛ كالصنعاني في رسالته «رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار» (ص 63) وما بعدها.

الثاني: القائلون بأنَّهما لا يقولان بفناء النار؛ لأن هذا قول السلف، وهما يقولان به؛ إذ هما يُعدان من أكبر شُرَّاح عقيدة السلف، ففي بيان تلبيس الجهمية (1/ 469)، ومجموع الفتاوى (18/ 307) لشيخ الإسلام، والوابل الصيب (ص 42 - 43)، وزاد المعاد (1/ 68) لابن القيم، ما يُفهم أنَّهما يقولان ببقاء النار ودوامها.

الثالث: القائلون بأنَّهما يميلان إلى القول بفناء النار؛ لعدم التصريح بإبطال القول بفناء النار، فمجمل الكلام يُشعِر بأنَّهما يرتضيان هذا القول، وإن لم يصرحا به. ينظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 235).

الرابع: التوقف وأنَّ الله فعَّال لما يريد. قاله ابن القيم في شفاء العليل (2/ 327 - 328)، ومختصر الصواعق (2/ 663)، وحادي الأرواح (2/ 791)، ونقل عن شيخ الإسلام أنَّه قال: هذه المسألة عظيمة كبيرة ولم يجب فيها بشيء قبل أن يصنف كتابًا في هذه المسألة.

(2)

ينظر: تفسير الطبري (12/ 587 - 588)، وزاد المسير (2/ 401 - 402)، وتفسير ابن كثير (4/ 351 - 352)، ودفع إيهام الاضطراب (ص 133) وما بعدها.

ص: 147

وأحسنُ ما قِيلَ في هذا - واللهُ أعلم - أنَّ قوله: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} ؛ المرادَ به بيانُ أنَّ خلودَ أهلِ النار فيها بمشيئتِه سبحانه، وهكذا أهلُ الجنة، فدوامُ الجنةِ والنار وبقاؤهما وبقاءُ أهلهما إنما هو بمشيئتِه وبإبقائه تعالى، فليس بقاءُ الجنةِ والنار أو أهلِ الجنةِ والنار كبقاءِ الله، فبقاءُ اللهِ ذاتيٌّ له، وحياتُه ذاتيةٌ له، أمَّا بقاءُ الجنةِ والنار؛ فبإبقائِه تعالى وبمشيئتِه

(1)

.

ومع ذِكرِ شيخِ الإسلام وابنِ القيم للقولين؛ لا أذكرُ أنَّهما أضافا - يعني القولَ بفناءِ النار - إلى مُعَيَّنٍ من أهلِ العلم؛ سوى ما رُوي عن بعض الصحابةِ، وإنما يذكران القولَين إجمالًا.

وبعضُ الناس يقول: ما ثمرةُ الكلامِ في فناء النار ودوامها؟ وهذا جاهلٌ يظنُّ أنَّه لابدَّ في كلِّ مسألةٍ خلافيةٍ ثمرةٌ عَمَليةٌ، وهذا يُقال في مسائل أحكام الأفعال، وأمَّا مسائلُ الاعتقادِ؛ فالأصلُ أنَّ المطلوبَ فيها الإيمانُ، والخلافُ فيها يكون بالنفي والإثبات، وثمرةُ الكلامِ فيها، وذِكر الخلافِ: معرفةُ الحقِّ من الباطل من أقوال الناس.

* * * * *

(1)

ينظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز (2/ 629)، ومعارج القبول (3/ 1040)، وشرح الطحاوية لشيخنا (ص 318).

ص: 148

‌ذكر أشياء من أحوال الناس يوم القيامة قبل أن ينتهوا إلى الجنة أو النار

(وأنَّ اللهَ تبارك وتعالى يجيءُ يومَ القيامة: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر]؛ لعرض الأمم وحسابِها وعقوبتِها وثوابِها، وتوضَعُ الموازينُ لوزنِ أعمالِ العبادِ:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (8)} [الأعراف]، ويؤتَون صحائفهم بأعمالهم: فمَن أُوتي كتابَه بيمينه فسوف يحاسَبُ حسابًا يسيرًا، ومَن أُوتي كتابَه وراءَ ظهرِه فأولئك يَصلون سعيرًا.

وأنَّ الصراطَ حقٌّ، يَجُوزُه العبادُ بِقدْر أعمالِهم، فناجون مُتفاوتون في سرعة النجاةِ

(1)

من نار جهنم، وقومٌ أَوْبَقتهم فيها أعمالُهم.

والإيمانُ بحوض رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، تَرِدُه أُمَّتُه لا يظمأُ مَنْ شربَ منه، ويُذادُ عنه مَنْ بدَّلَ وغيَّرَ).

في هذه الجملة مسائلُ ممَّا يجب الإيمانُ به، ويدخل في الإيمان باليوم الآخر، وكان الأَوْلى من المؤلف أن يذكرَها قبل الكلامِ في الجنة والنار في وجودهما ودوامهما؛ لأنَّ كلَّ هذه المسائل متقدِّمةٌ على الجنة والنار في وقتها وترتيبها، فالجنةُ والنارُ منتهى العبادِ بعد الحساب:

(1)

في النسخ المطبوعة زيادة (عليه) ورجَّح شيخنا حذفها؛ لأنَّها لا تناسب السياق.

ص: 149

‌المسألة الأولى: قوله: (وأن الله تبارك وتعالى يجيء يوم القيامة

) إلى آخره:

أي: يجيءُ للفصلِ بين عباده، وجزائِهم على أعمالهم، وذلك بثوابِ المؤمنين المتقين، وبعقابِ الكافرين، ومن شاءَ الله من المُوحِّدين، والمراد من هذا تقريرُ إثباتِ مجيء الرب تعالى يوم القيامة كيف شاء، وقد جاءَ هذا المعنى في ثلاثِ آياتٍ؛ قال تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: 210]، وقال تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، وقال تعالى:{وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر].

فأهلُ السُّنةِ والجماعة يُؤمنون بظاهرِ هذه الآيات، ويقولون: إنَّ الله يجيءُ يوم القيامة كيف شاءَ، كما يقولون: إنه ينزلُ إلى السماءِ الدنيا كيف شاءَ، وأنه استوى على العرشِ كيف شاء لأنه تعالى فعَّال لما يريد.

فالمجيءُ من أفعاله التي يفعلُها بمشيئته، فيُثبتون المجيءَ حقيقةً، أي: يأتي هو نفسه تعالى لكن لا نعلم كُنْهَ مجيئِه، كما لا نعلمُ كيفيةَ نزولِه، أو كيفيةَ استوائه كما لا نعلم كيفية ذاته. فالمجيءُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عن الكيفيةِ بدعةٌ.

أمَّا نفاةُ الصفاتِ من الجهميةِ والمُعتزلة، ونفاةُ الأفعالِ كالأشاعرة ونحوهم؛ فينفون حقيقةَ المجيء كما ينفُون حقيقةَ النزولِ والاستواء على العرش، وأكثرُهم يتأوَّلون قولَه تعالى:{وَجَاء رَبُّكَ} [الفجر: 22]؛ أي: جاء أمرُه

(1)

، وقد روي عن مالك رحمه الله ما يصلح أن يكون شبهة لأهل

(1)

وقد أبطل وردَّ ابن القيم على من حرَّف صفة المجيء وفسَّرها بمجيء أمره؛ بعشرة أوجه. ينظر: مختصر الصواعق المرسلة (3/ 856 - 860). وينظر أيضًا: شرح حديث النزول (ص 139 - 149)، و (ص 233 - 236).

ص: 150

هذا التأويل من المالكية، وهو أنه سئل عن الحديث:«إن الله ينزل في الليل إلى سماء الدنيا»

(1)

فقال: «يتنزل أمره» . ولا يصح عنه

(2)

.

ومن الحساب: حسابٌ يسير، وفسَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالعَرْضِ؛ أي: عرض الأعمال كما في الحديث: «يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول أعملت كذا وكذا؟ فيقول نعم ويقول أعملت كذا وكذا؟ فيقول نعم فيقرره ثم يقول إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم»

(3)

.

‌المسألة الثانية: قوله: (وتوضَعُ الموازينُ لوزنِ أعمالِ العبادِ:

{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (8)} [الأعراف]): من عقيدةِ أهلِ السنَّةِ: الإيمانُ بالميزان الذي تُوزن به أعمال العباد، وقد دلَّ على ذلك الكتابُ والسنَّةُ؛ من ذلك قوله تعالى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُون (103)} [المؤمنون].

وقوله صلى الله عليه وسلم: «الطُّهورُ شطرُ الإيمان، والحمدُ لله تملأ الميزان»

(4)

، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان

(1)

أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث متواتر. ينظر: نظم المتناثر (ص 178 رقم 206).

(2)

رويت من طريق كاتبه حبيب بن أبي حبيب وهو كذَّاب باتفاق أهل العلم، ورويت من طريق أخرى ذكرها ابن عبد البر وفي إسنادها محمد بن علي الجبلي وهو مجهول. ينظر: التمهيد (7/ 143 - 144)، وشرح حديث النزول (ص 210)، ومجموع الفتاوى (16/ 405)، ومختصر الصواعق (3/ 1237 - 1338).

(3)

أخرجه البخاري (2441)، ومسلم (2768) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

ص: 151

إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»

(1)

، ومن السنَّة أيضًا: حديث صاحب البطاقة

(2)

.

ومن المبتدعة مَنْ أنكرَ حقيقةَ الميزان ووزْنَ الأعمالِ، وقالَ: إنَّ المُرادَ بالميزان: العدلُ

(3)

، وهذا يقتضي نفي حقيقة الميزان، فعندهم ليس هناك ميزانٌ له كفَّتان تُوضعُ فيهما الحسناتُ والسيئات.

(1)

أخرجه البخاري (2682)، ومسلم (2694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أحمد (6994)، والترمذي (2639)، وابن ماجه (4300) من طريق الليث بن سعد عن عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله سيخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًا كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم. فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء» وهذا لفظ الترمذي، ولفظ أحمد وابن ماجه قريب منه.

وقال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب» .

وقال الحاكم في «المستدرك» رقم (9): «صحيح الإسناد على شرط مسلم» .

وأبو عبد الرحمن الحُبُلي هو عبد الله بن يزيد المعافري، وهو ثقة. كما في «التقريب» (3712).

وأخرجه أحمد (7066) من طريق ابن لهيعة، عن عمرو ابن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، به.

وصحَّحه ابن حبان (225)، وأحمد شاكر في تخريج «المسند» (6/ 436)، والألباني في «الصحيحة» (135).

(3)

كالإباضية، ونُسِب لبعض المعتزلة البغدادين دون البصريين. ينظر: مقالات الإسلاميين (2/ 353)، ودرء التعارض (5/ 348)، والتذكرة للقرطبي (2/ 722)، وفتح الباري (13/ 538)، وشرح غاية المراد للخليلي الإباضي (ص 96 - 97).

ص: 152

وهذا خلافُ ظاهرِ القرآن والسنَّة؛ قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِين (47)} [الأنبياء]

(1)

.

‌المسألة الثالثة: قوله: (ويؤتون صحائفَهم بأعمالهم:

فمَن أُوتي كتابَه بيمينه فسوف يُحاسَبُ حسابًا يسيرًا، ومَن أُوتي كتابَه وراء ظهره فأولئك يصلون سعيرًا).

ومن عقيدة أهلِ السنَّةِ والجماعةِ: الإيمانُ بإيتاء الكتابِ، وهو كتابُ الأعمال باليمين وبالشمال، وقد دلَّ على ذلك آياتٌ من سورة الانشقاق؛ قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق]، وقال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِه (10)} [الانشقاق] أي: بشماله من وراء ظهره، ومن سورة الحاقة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه (19)

} [الحاقة] الآيات، وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه (25)

} [الحاقة] الآيات، وكتابُ الأعمالِ هو الصُّحُفُ في قوله تعالى:{وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَت (10)} [التكوير]، ومن الأدلة على ذلك من السنَّة حديثُ صاحب البطاقة، وفيه أنه يُنشَر عليه تسعة وتسعين سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مدَّ البصر، ثم تُخرَجُ له بطاقةٌ فيها الشهادتان

(2)

.

(1)

ينظر: الشريعة للآجري (3/ 1328)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (6/ 1242)، ومجموع الفتاوى (4/ 302)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (2/ 608)، وفتح الباري (13/ 538).

(2)

تقدم تخريجه قريبًا.

ص: 153

‌المسألة الرابعة: قوله: (وأنَّ الصراطَ حقٌّ،

يجوزه العبادُ بِقدر أعمالِهم، فناجون مُتفاوتون في سرعة النجاةِ من نار جهنم، وقومٌ أوبقتهم فيها أعمالُهم):

وكذلك ممَّا يجب الإيمانُ به - وهو داخلٌ في الإيمانِ باليوم الآخر -: الصراطُ، وهو جسرٌ منصوبٌ على متنِ جهنم يمرُّ عليه الناس، وظاهرُ الأدلةِ أنَّ الذين يمرُّون عليه هم المُنتسبون للإيمان، أمَّا الكفارُ وعُبَّادُ الأصنامِ والأوثانِ والصُلبان؛ فهؤلاء يُساقون إلى النارِ ابتداءً، فيُحشر الناسُ فيقال لهم:«لِيَتَّبعْ كلُّ أُمَّةٍ ما كانت تعبدُ» ، فَمَنْ يَعْبُدُ الشَّمْسَ يَتْبَعُ الشَّمْسَ، وَمَنْ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ يَتْبَعُ الطَّوَاغِيتَ وهكذا، كما جاء في حديثِ أبي سعيد الخدري في الصحيحين وغيرهما

(1)

.

فالذين يعبرون الصِّراطَ هم مُتفاوتون في العبورِ سرعةً وبطءًا؛ منهم من يمرُّ سريعًا كالبرقِ، ومنهم من يمرُّ كالريحِ، وكَأَجَاوِدِ الخيل، والرِّكَاب، ومنهم مَنْ يسعى سعيًا؛ أي: يركضُ، ومنهم مَنْ يمشي مشيًا، ومنهم مَنْ يزحفُ، وفي الحديثِ:«فناجٍ مُسلَّمٍ، وناجٍ مخدوشٍ، ومكدوسٍ في نار جهنم»

(2)

.

فهذا الصِّراطُ يعبرُ عليه الناسُ بحسبِ أعمالِهم، فتجري بهم أعمالهم، كما كانوا في الدنيا: منهم المُسارعُ في الخيراتِ ومنهم مَنْ دون ذلك، ومنهم البطيءُ في فعلِ الخير، فكأنَّ هذا واللهُ أعلم {جَزَاء وِفَاقًا (26)} [النبأ]، فمَن كان مُسارعًا في الخيراتِ في الدنيا؛ أسرعَ هناك

(1)

أخرجه البخاري (4581)، ومسلم (183).

(2)

أخرجه البخاري (7439) - واللفظ له -، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 154

يومَ القيامة وتجاوزَ الخطر، وعَبَر الصِّراطَ وزُحزحَ عن النار، ومن كان في هذه الدنيا بطيئًا في طاعةٍ كان سَيره هناك كذلك جزاء وفاقًا، وعلى كل حال مَنْ نجَاه الله من النارِ فهو الفائز؛ كما قال تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]

(1)

.

‌المسألة الخامسة: قوله: (والإيمانُ بحوض رسولِ الله

صلى الله عليه وسلم، تَرِدُه أُمَّتُه لا يظمأُ مَنْ شربَ منه، ويُذادُ عنه مَنْ بدَّلَ وغيَّرَ):

من عقيدة أهلِ السنَّةِ والجماعةِ: الإيمانُ بحوضِ النبي صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله غياثًا لأمته في موقف القيامةِ تَرِدُ عليه أُمَّتُه، وهو حوضٌ عظيم وَصَفَه الرسولُ صلى الله عليه وسلم، فوصفَ ماءَه وآنيتَه ومساحته، برواياتٍ مختلفة

(2)

؛ منها أنَّ طولَه شهرٌ، وعرضَه شهر، وماءه أشدُّ بياضًا من اللبنِ، وأحلى من العسل، وأطيب من المسك، وأبرد من الثلج، وآنيته عددَ نجومِ السماء، ترِدُ عليه أمته، فمَن كان مُستقيمًا على دينِ الله وسُنةِ رسولِ الله؛ وردَ وشربَ.

وأمَّا مَنْ غيَّر وبدَّل فإنَّه يطمعُ في الورودِ، ولكنه يُذاد

(3)

، ويُحال بينه وبين الورودِ، وقد صحَّت بذلك الأحاديثُ، وأنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام

(1)

ينظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز (2/ 605)، ولوامع الأنوار (2/ 189)، ومعارج القبول (3/ 1026)، وتوضيح مقاصد الواسطية (ص 181).

(2)

والأحاديث التي جاء ذكر الحوض فيها كثيرة جدًا بلغت مبلغ التواتر كما صرح بذلك جمع من الأئمة. ينظر: السنة لابن أبي عاصم (2/ 321)، والشريعة للآجري (3/ 1252)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (6/ 1188)، والبداية والنهاية (19/ 423)، ونظم المتناثر (ص 236، رقم 305).

(3)

يذاد: يطرد. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (2/ 172).

ص: 155

عندما يُشاهِدُ بعضَ الأمةِ ممَّن يُذادُ؛ يقولُ: «فأقول أصحابي أصحابي» ، فيُقالُ له:«إِنَّك لا تدري ما أَحدثوا بعدكَ؛ إِنَّهم ما زالوا مرتدِّينَ على أَعقابِهم منذ فارقتَهم» ، فيقول عليه الصلاة والسلام:«سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي»

(1)

.

وهؤلاء الذين يُذادون عن الورودِ قد يكونون مُرتدِّين الرِّدةَ الكبرى التي يستوجبون بها دخولَ النار والخلودَ فيها، وقد يكونون مُرتدِّين عن الاستقامةِ بتركِ السُّنةِ واعتناقِ البدعة وبالمعاصي والمُخالفات

(2)

؛ فإنَّ هذه تمنعُ من الورودِ؛ لأنَّ من وردَ وشرب من حوضه صلى الله عليه وسلم نجى، لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَمن شرب منه لم يظمأ بعده أبدًا»

(3)

.

ثم إنَّ أهلَ العلمِ تكلَّموا عن الحوضِ: هل هو قبل الصِّراطِ؟ أم بعدَه؟

على قولين:

قيل: إنَّه قبل الصِّراط، وقيل: إنَّه بعده

(4)

، ولكن ليس هناك أدلةٌ ظاهرةٌ تُوجبُ الجزمَ بواحدٍ من القولَين، وذهب ابنُ القيم إلى أنَّه يمكن

(1)

أخرجه بنحوه البخاري (6584)، (7051)، ومسلم (2291) من حديث أبي سعيد الخدري، وسهل بن سعد رضي الله عنهما.

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم (3/ 136)، (15/ 64)، وفتح الباري (11/ 385 - 386).

(3)

أخرجه البخاري (7050) عن سهل بن سعد رضي الله عنه، ومسلم بنحوه (2292) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(4)

ينظر: الدرة الفاخرة للغزالي (ص 117 - 118)، والتذكرة للقرطبي (2/ 702)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (2/ 279)، وفتح الباري (11/ 466)، ولوامع الأنوار (2/ 195).

ص: 156

أن يكون قبل الصَّراطِ وبعده

(1)

، وترتيب شيخِ الإسلامِ لأحوال القيامةِ في «العقيدة الواسطيةِ» يُشعِرُ بأنَّ الحوضَ عنده قبل الصِّراط

(2)

.

فالمقصودُ أنَّه ممَّا يجبُ الإيمانُ به من أمورِ الآخرةِ الحوضُ لنبيِّنا عليه الصلاة والسلام، وهو ممَّا تواترت به السنَّةُ عن الرسولِ عليه الصلاة والسلام.

ومما ورد في إثبات الحوض قولُه عليه الصلاة والسلام للأنصارِ: «إِنَّكم ستلقونَ بعدي أَثَرَةً؛ فاصبروا حتَّى تلقوني على الحوضِ»

(3)

؛ فيه بشارة لهم بأنهم سيردُون عليه ويشربون - رضوانُ الله عليهم -.

وقد أَنكر الحوضَ بعضُ طوائفِ المبتدعة من الخوارج والمعتزلة

(4)

، ولا حجَّةَ لهم في هذا الإنكار إلَّا الاستبعادُ الذي لا سند له إلَّا قولهم:

كيف يكون الحوضُ بهذه المساحة؟ وكيف يكون في عَرَصات القيامة؟

فنقول: اللهُ تعالى على كلِّ شيءٍ قدير.

* * * * *

(1)

ينظر: زاد المعاد (3/ 682 - 683).

(2)

الواسطية بشرح شيخنا (ص 179) وما بعدها.

(3)

أخرجه البخاري (4330)، ومسلم (1061) عن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه. وأخرجه مسلم (1845) عن أسيد بن حضير رضي الله عنه.

(4)

إنكار الحوض هو قول المعتزلة، ذكره عنهم سفيان الثوري ويونس بن عبيد، ونسبهم إليهم الأشعري والسِّجزي، ونسبه للمعتزلة والخوارج: ابن بطَّال وابن عبد البر وغيرهم. ينظر: الشريعة للآجري (رقم 2062)، وحلية الأولياء (3/ 21)، والإبانة (2/ 245 - 246)، ورسالة السِّجزي إلى أهل زبيد (ص 270 - 271) شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 466)، والتمهيد (2/ 291).

ص: 157

‌مُسمَّى الإيمان وحقيقتُه

(وأنَّ الإيمانَ قولٌ باللسان، وإخلاصٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح، يزيد بزيادة الأعمالِ، وينقُصُ بنَقْصِها، فيكون فيها النقصُ وبها الزيادةُ، ولا يكملُ قولُ الإيمانِ إلَّا بالعمل، ولا قولَ وعملَ إلَّا بنيَّةٍ، ولا قولَ ولا عملَ ونيَّةَ إلَّا بموافقة السنَّةِ.

وأنَّه لا يكفرُ أحدٌ بذنبٍ من أهل القبلة):

في هذه الجملةِ يُقرِّرُ المؤلفُ رحمه الله عقيدةَ أهلِ السُّنةِ والجماعة في مُسمَّى الإيمان، وهي قضيةٌ افترقَت فيها الأمَّةُ على مذاهب متعدِّدةٍ

(1)

.

فالجهميَّةُ يقولون: الإيمانُ هو المعرفةُ.

والأشاعرةُ يقولون: هو التصديقُ.

والمرجئةُ يقولون: هو التصديقُ بالقلب والإقرارُ باللسان.

(1)

ينظر: مقالات الإسلاميين (1/ 114) وما بعدها، والايمان لابن تيمية (ص 155 - 156)، والفرقان بين الحق والباطل (ص 51)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (2/ 459).

ص: 158

والكرَّامِيَّة

(1)

يقولون: هو الإقرارُ باللِّسان فحسب، من غير اعتبارٍ لتصديقِ القلب، يقولُ شيخُ الإسلام رحمه الله عن الكرَّامية:«فيجعلون المنافق مؤمنًا، لكنه يخلد في النار فخالفُوا الجماعةَ» ؛ يعني جماعةَ المسلمين في المُنافقِ، «في الاسمِ دون الحُكمِ»

(2)

. أي: خالفوا الجماعةَ في قولهم: إنَّ المُنافقَ مؤمنٌ، ووافقوا الجماعةَ في الحكمِ؛ وهو تخليده في النار، وهذا الذي قرَّرَه المؤلفُ هو الحقُّ، وهو أنَّ الإيمانَ اسمٌ يشمل:

1 -

اعتقادَ القلبِ؛ وهو تصديقُه، وإقرارُه.

2 -

عملَ القلبِ؛ وهو انقيادُه، وإرادتُه، وما يتبعُ ذلك مِنْ أعمالِ القلوبِ؛ كالتوكلِ، والرجاءِ، والخوفِ، والمحبةِ.

3 -

إقرارَ اللسانِ.

4 -

عملَ الجوارحِ - واللسانُ مِنها - والعملُ يشمل: الأفعالَ والتروكَ؛ قوليةً أو فعليةً

(3)

.

(1)

أتباع أبي عبد الله محمد بن كرَّام السجستاني، المشهور بابن كرَّام، شيخ الكرَّامية ومؤسسها، تكلَّم في جملة مسائل كبار بما أُنكر عليه، منها: مسألة الإيمان، ومسألة الصفات وقوله بأنَّ الله جسم لا كالأجسام، مع ضلالات أخرى، وقد عدَّه شيخ الإسلام ابن تيمية من أئمة النُّظَّار المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، مع بيان مخالفته للجماعة في جملة من مسائل الاعتقاد، سُجن ابن كرام ثم نفي، ومات بأرض بيت المقدس سنة (255 هـ). ينظر: الفَرْق بين الفِرِق (ص 189 - 197)، والملل والنحل (1/ 108 - 113)، وشرح الأصبهانية (ص 378)، والسير (11/ 523 رقم 146).

(2)

التدمرية (ص 109)، وبشرح شيخنا (ص 530).

(3)

ينظر: الشريعة للآجري (2/ 611)، والإبانة لابن بطة (2/ 760)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 911) ما بعدها، والإيمان لابن تيمية (ص 137 - 138)، وجواب في الإيمان ونواقضه لشيخنا (ص 7 - 13).

ص: 159

ومن الدليلِ على هذا حديثُ: «الإِيمانُ بِضْعٌ وسبعون - أَوْ: بضعٌ وستُّون - شُعبةً، فأفضلها قولُ: لا إِلهَ إلَّا اللهُ، وأَدناها إِماطةُ الأَذى عن الطَّريقِ، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان»

(1)

فدلَّ الحديث على أن جميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة من الإيمان، ومعنى هذا: أنَّ الصلاةَ من الإيمان، والزكاةَ من الإيمان، والصيامَ من الإيمان، والحجَّ من الإيمانِ، والجهادَ من الإيمان، والأمرَ بالمعروف والنهيَّ عن المنكر من الإيمان، والحياء من الإيمان؛ فالإيمانُ قولٌ وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح.

ولا يستقيمُ الإيمانُ إلا بالإخلاصِ كما قالَ المؤلف: (وأن الإيمان قول باللسان، وإخلاص بالقلب) ولهذا كان من شرط صلاحِ العملِ الإخلاص، وكذلك موافقة السنة شرط لصلاح العمل، ولا بد من ذلك في جميع مسائل الدين العلمية والعملية، ولا يجوز أن يُدخَل في الدِّين ما ليس منه: عبادة أو عقيدة على حدِّ قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحدثَ في أَمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رَدٌّ»

(2)

، وفي رواية:«مَنْ عملَ عملًا ليس عليه أَمرُنا؛ فهو رَدٌّ»

(3)

.

وقول المؤلف إنَّ الإيمانَ: (يزيد بزيادة الأعمال)

(4)

؛ لأنَّ الأعمالَ عنده من الإيمانِ على مذهب أهل السنَّة، فما يفعله العبدُ من الطاعاتِ

(1)

أخرجه البخاري (9)، ومسلم (35 - 58) - واللفظ له - من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718 - 17) - واللفظ له -، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه مسلم (1718 - 18) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

ينظر: الشريعة للآجري (2/ 580)، والإبانة لابن بطة (2/ 828)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (5/ 960) ما بعدها.

ص: 160

- فرضها ونفلها - هي من الإيمانِ، فيزدادُ الإيمانُ بزيادتها وينقصُ بنقصها، ولعملِ الجوارحِ أثرٌ في إيمان القلبِ فيقوى تصديقُه، ولقوَّةِ التصديقِ أثرٌ في صلاح العملِ وزيادته

(1)

؛ فعُلِم بذلك أنَّ المؤلف على مذهب أهل السنة في الإيمان، فالأعمال عنده من الإيمان، وهو يزيد وينقص، وهو أيضًا مالكيٌّ في هذه المسألة فإنَّ الصحيح عن الإمام مالك أنَّ الإيمان يزيد وينقص؛ قال شيخ الإسلام أنَّ إحدى الروايتين عن مالك أنَّ الإيمان يزيد ولا ينقص، والرواية الأخرى، وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم أنَّه يزيد وينقص

(2)

.

و‌

‌أجمعُ تعريفٍ للإيمان

ما قاله شيخُ الإسلام ابنُ تيمية في «العقيدة الواسطية» : «ومن أصول الفرقة الناجية: أنَّ الدين والإيمانَ قولٌ وعملٌ؛ قولُ القلبِ واللسانِ، وعملُ القلبِ واللسانِ والجوارح»

(3)

.

قوله: (وإخلاصٌ بالقلب):

الإخلاصُ من عملِ القلب، وهو أن يكون الغايةُ من العملِ هو ابتغاءُ وجهِ الله.

قوله: (يزيد بزيادة الأعمالِ، وينقُصُ بنقصِها):

أي: يزيدُ بزيادةِ الأعمالِ الصالحة، وينقصُ بنقصها، فينقصُ كمالُ الإيمان الواجب بنقص الفرائض والواجبات، وكمال الإيمان المُستحبّ

(1)

أوصلها شيخ الإسلام إلى ثمانية أوجه. ينظر: الإيمان لابن تيمية (ص 183 - 187).

(2)

ينظر: الإيمان الأوسط (ص 371).

(3)

العقيدة الواسطية (ص 113)، وبشرح شيخنا (ص 202).

ص: 161

بنقص المستحبات؛ هذا مذهب أهل السنة والجماعة كما دلَّ عليه الكتاب والسنة؛ من ذلك قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون (124)} [التوبة]؛ أي: السورة المنزلة، ومن السنَّة حديثُ الشفاعةِ الطويل، وفيه:«يخرجُ من النار مَنْ قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقالُ برَّةٍ أو خردلةٍ أو شعيرةٍ من الإيمان»

(1)

، وخالف في ذلك المبتدعةُ من المرجئة والخوارج والمعتزلة، وقالوا: إنَّ الإيمانَ شيءٌ واحدٌ لا يزيد ولا ينقص، بل إذا ذهب بعضُه ذهبَ كلُّه، وأجودُ من عبارة المؤلف أن يُقال: يزيدُ بالطاعة وينقصُ بالمعصية.

قوله: (ولا يكملُ قولُ الإيمانِ إلَّا بالعمل):

هذا تأكيدٌ لِمَا سبق، وأنَّه لابدَّ من العمل، فلا يكفي إقرارُ اللسانِ ولا اعتقادُ القلبِ؛ بل الأعمالُ الصالحةُ دليلٌ على صلاح القلب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في القلب:«إذا صَلَحَت صَلَحَ الجسدُ كلُّه»

(2)

.

قوله: (ولا قولَ وعملَ إلَّا بنيَّةٍ، ولا قولَ ولا عملَ ونيَّةَ إلَّا بموافقة السنَّةِ).

معناه: أنَّ إقرارَ اللسانِ وعملَ الجوارحِ وعملَ القلب، وهو النية، وبها الإخلاص، هذه الثلاثةُ لا بدَّ منها، وهي: متلازمةٌ، وأمرٌ رابعٌ، وهو اتباعُ السنَّةِ.

(1)

أخرجه البخاري (44)، (7410)، (7510)، ومسلم (325 - 193)، (326) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

ص: 162

قوله: (وأنه لا يكفرُ أحدٌ بذنبٍ من أهل القبلة):

هذه المسألةُ من فروع مسألةِ الإيمان، وهذا مذهبُ أهلِ السنَّة، يقولون: لا يكفرُ أحدٌ من أهل القبلة بكلِّ ذنبٍ ما لم يستحله، وإن كانت من الكبائر؛ كالزنا والقتلِ والشربِ، وهذا هو الأصحُّ في التعبير تقول: بكلِّ ذنب، فيكون من قَبيل سلبِ العموم

(1)

، وعبارةُ المؤلف من قَبيل عمومِ السَّلبِ، خلافًا للخوارج الذين يُكفِّرون بكبائر الذنوب، ومنهم مَنْ يُكفِّرُ بالصغائر، وقد يعدُّون ما ليس بذنبٍ ذنبًا؛ فيُكفِّرون به كما فعلوا مع عليٍّ وعثمان رضي الله عنهما، ويُخلِّدون مرتكبَ الكبيرةِ في النار إذا مات من غير توبةٍ. وخلافًا للمعتزلة الذين يقولون: إنَّ مرتكبَ الكبيرةِ في الدنيا في منزلةٍ بين المنزلتين، وجعلوا ذلك أحد أصولهم الخمسة وفي الآخرة مخلدٌ في النار

(2)

. وأهلُ القبلة: كلُّ مَنْ يشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، ولم يأتِ بناقضٍ من نواقض الإسلامِ، فمَن أتى بناقضٍ عالمًا عامدًا مختارًا جادًّا أو هازلًا صار مرتدًا، ولم يكن من أهل القبلةِ.

ومن دليل أهلِ السنَّةِ على عدم التكفيرِ بالذنوبِ، وإن كانت من الكبائر؛ قولُه تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} إلى قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10]، فسمَّاهم مؤمنين وإخوةً مع اقتتالِهم.

* * * * *

(1)

ينظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز (2/ 433 - 434).

(2)

ينظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ص 697) وما بعدها.

ص: 163

‌وجوب الإيمان بأحوال البرزخ

(وأنَّ الشهداءَ أحياءٌ عند ربهم يُرزقون، وأرواحُ أهلِ السعادة باقيةٌ ناعمةٌ إلى يوم يُبعثون، وأرواحُ أهلِ الشقاوةِ مُعذَّبةٌ إلى يوم الدِّين، وأنَّ المؤمنين يُفتنون في قبورهم ويُسألون، {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]):

في هذه الجملة مسائل:

أحدها: قول المؤلف: (وأنَّ الشهداءَ أحياءٌ عند ربهم يُرزقون): الشهداء: هم الذين قُتلوا في سبيل الله، أخبر اللهُ عنهم أنَّهم أحياءٌ عند ربهم يُرزقون؛ قال تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون (169)} [آل عمران]، وقال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُون (154)} [البقرة]، وهذه حياةٌ خاصَّةٌ يُعبِّرُ عنها العلماءُ «بالحياة البرزخية» نسبةً إلى البرزخ؛ وهو مُدَّةُ ما بين الموت إلى البعث، فالشهداءُ في هذه المدة أحياءٌ ليست كحياتهم في الدنيا، ولذا فليسوا كسائر الأمواتِ، فإنَّ أرواحهم يجعلها اللهُ في حواصل طيرٍ خُضرٍ تأكل من ثمار الجنةِ، وتَرِدُ أنهارها، وتأوي إلى قناديلَ مُعلَّقةٍ

ص: 164

تحت العرش كما صحَّ به الحديثُ

(1)

، وهذه الآيةُ والحديثُ وردا في شأن الذين قُتلوا في وقعةِ أُحدٍ، ومنهم: حمزةُ عمُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(2)

، ومن أجل هذه الحياة نهى اللهُ عن أن نُسمَّيهم أمواتًا، ولكن باعتبار فراقهم الحياةَ الدنيا يُقال أنَّهم ماتوا، وتجري عليهم أحكامُ الأموات: من إرثِ أموالهم، ونكاحِ نسائِهم، ويُكفَّنون ويُدفنون، ومن آثار الحياةِ البرزخية؛ أنَّ أبدانَهم تبقى في القبور طريةً؛ أي: لا تأكلهم الأرضُ، كما شُوهد من حال بعضِهم، فتُشبِه حالُهم حالَ الأنبياء.

‌المسألة الثانية: قوله: (وأرواحُ أهلِ السعادة باقيةٌ

ناعمةٌ إلى يوم يُبعثون، وأرواحُ أهلِ الشقاوةِ مُعذَّبةٌ إلى يوم الدِّين): الروحُ: ما به حياةُ الأبدان، تتَّصلُ بالبدن فيكون حيًّا، وتُفارقُه فيكون ميتًا، وهي مخلوقةٌ من جملة المخلوقات، قائمةٌ بنفسها؛ أي: ليست عرضًا كما يقول المتكلِّمون. وهي موصوفةٌ بصفاتٍ ثبوتيةٍ وسلبيةٍ، تذهبُ وتجيءُ، وتصعدُ وتهبطُ، وهي: موجودةٌ بعد مُفارقتها للبدن، تُنعم أو تُعذَّب.

وقد اضطرب الناسُ في حقيقتها؛ فالفلاسفةُ لا يصفونها إلَّا بالسُّلُوب، والمتكلمون يجعلونها من جنس الأجسامِ المشهودةِ، ويُعبِّرون عنها بعباراتٍ مختلفةٍ، وكِلا القولين باطلٌ، والحقُّ ما دلَّ عليه الكتابُ والسنَّةُ، وهو أنَّها مخلوقةٌ موصوفةٌ مخالفةٌ للأجسام المشهودة.

(1)

أخرجه مسلم (1887) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

ينظر: أسباب النزول للواحدي (ص 128 - 129)، والعُجاب في بيان الأسباب (2/ 783 - 788).

ص: 165

وقد ذكر المؤلفُ حالَ الأرواحِ في دار البرزخِ: أرواح السعداءِ، وأرواح الأشقياءِ، فأرواحُ أهلِ السعادة مُنعَّمةٌ إلى يوم القيامة، ومنها أرواحُ الشهداءِ كما تقَّدم، وأرواحُ أهلِ الشقاءِ مُعذَّبةٌ إلى يوم القيامة كما دلَّت على ذلك نصوصُ الكتاب والسنَّةِ.

والروحُ لها شأنٌ عظيمٌ؛ قال ابنُ القيِّم في النونية:

فالشأنُ للأرواحِ بَعْدَ فِراقِها

أبدانَنا واللهِ أعظمُ شَانِ

إِمَّا عذابٌ أو نعيمٌ دائمٌ

قد نُعِّمَتْ بالرَّوْحِ والريحانِ

إلى أن قال:

وعذابُ أَشقاها أشدُّ من الذي

قد عاينت أبصارُنا بعِيانِ

والقائلون بأنَّها عَرَضٌ أَبَوْا

ذا كلَّه تبًّا لذي نكرانِ

(1)

وبعد فلمزيد معرفةٍ في شأن الروحِ؛ يُراجَع كتابُ «الروح» لابن القيم، وما قاله شيخُ الإسلام في «التدمرية»

(2)

.

(1)

ينظر: الكافية الشافية (1/ 81 - 83، رقم 127 - 128 و 136 - 137).

(2)

التدمرية (ص 50)، وشرحها لشيخنا (ص 203) وما بعدها.

ص: 166

‌المسألة الثالثة: قوله: (وأنَّ المؤمنين يُفتنون في قبورهم

ويُسألون، {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة} [إبراهيم: 27]):

يُقرِّرُ المؤلِّفُ‌

‌ عقيدةَ أهلِ السنَّة في فتنة القبر

؛ وهي: امتحانُ الميتِ بسؤاله عن ربِّه ودينِه ونبيِّه. وقوله: (وأنَّ المؤمنين يُفتنون): يدلُّ على أنَّ فتنةَ القبرِ عنده مختصَّةٌ بالمنتسبين للإيمان دون الكفار، ويدخل في المؤمنين المنافقُ، ويدلُّ لِمَا قال: قولُه صلى الله عليه وسلم: «أُوحيَ إليَّ أنَّكم تُفتنون في قبوركم مثلَ أو قريبَ من فتنة المسيحِ الدَّجالِ، يقال: ما عِلمك بهذا الرجل؟ فأمَّا المؤمنُ أو الموقنُ فيقول: هو محمَّدٌ رسولُ الله، جاءنا بالبيِّناتِ والهدى فأجبنا واتَّبعنا؛ فيقال: نمْ صالحًا قد علمنا إن كنت لموقنًا به، وأمَّا المنافقُ أو المرتاب؛ فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلتُه»

(1)

، وقد ذهب ابنُ عبدِ البرِّ

(2)

إلى أنَّها خاصَّةٌ بالمؤمنين، كما ذهب إليه ابن أبي زيد، واختار ابنُ القيمِ

(3)

والقرطبيُّ

(4)

أنَّ فتنةَ القبرِ عامَّةٌ للمؤمنين والكفار، ولكلٍّ من القولين أدلةٌ من السنَّة، والمسألةُ محتملةٌ، واللهُ أعلمُ بالصواب، وأمَّا عذابُ القبر ونعيمه؛ فقد تقدَّم في المسألة الثانية.

(1)

أخرجه البخاري (86)، ومسلم (905) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

التمهيد (22/ 252).

(3)

الروح (1/ 252 - 260).

(4)

ينظر: التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 413 - 415).

ص: 167

‌مسألتان من الإيمان بالملائكة

(وأنَّ على العباد حَفظةٌ يكتبون أعمالَهم، ولا يسقطُ شيءٌ من ذلك عن عِلم ربِّهم، وأنَّ مَلَكَ الموتِ يقبضُ الأرواحَ بإذن ربِّه):

من أصول الإيمان: الإيمانُ بالملائكة، دلَّ على ذلك الكتابُ والسنَّةُ في آيات وأحاديث، وهم: أصنافٌ بحسب ما وُكِّلُوا به؛ فمنهم الموكَلُ بالوحي؛ قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2]، وقال تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102] وهو جبريل، ومنهم الموكَلُ بحفظ عملِ العبدِ وكتابته، ودليلُ ذلك قولُه تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)} [الانفطار]، وقال تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون (80)} [الزخرف]، ومنهم الموكَّل بقبض أرواح الآدميين، وهم ملَك الموت وأعوانه؛ قال تعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وقال تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32]، وقال تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النحل: 28]، وكلُّ هذا ممَّا يجبُ الإيمانُ به، وهو من الإيمان بالملائكة، وفي هذه الآيات أُضيفَ التوفِّي إلى مَلَكِ الموتِ في الآية الأولى؛ لأنَّه الموكلُ بذلك، وأُضيفَ إلى الملائكة في الآية الثانية

ص: 168

والثالثة؛ لأنَّ مَلَكَ الموتِ معه أعوانٌ من الملائكة: ملائكةُ الرحمةِ أو ملائكةُ العذابِ، وقد جاء في بعض الآيات إضافةُ التوفِّي إلى الله {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]؛ لأنَّ ما تفعله الملائكةُ بأمره ومشيئتِه، وبهذا يزول ما يُتوهَّم من التعارض

(1)

، وقد تضمَّن كلامُ المؤلفِ ذِكرَ الحفظةِ الكاتبين، ومَلَكَ الموتِ، وبهذا ينتهي كلامُه في الغيبيات التي طريقُ العلمِ بها هو النقلُ المستندُ للوحي.

قوله: (يكتبون أعمالَهم): أي: جميعَ أعمالِهم الصالحةِ وغيرِها، الظاهرةِ والباطنةِ؛ لعموم الأدلةِ في ذلك؛ كقوله:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد (18)} [ق]

(2)

.

قوله: (ولا يسقطُ شيءٌ من ذلك عن عِلم ربِّهم): أي: لا يغيب شيءٌ من أعمالِ العبادِ وأقوالهم عن علمِه سبحانه وتعالى، وخَلْقِه تعالى ملائكةً وَكَلَهم بحفظ أعمالِ العبادِ؛ ليس لحاجتِه إلى أنْ يعلمَ أعمالَ العبادِ لِئلَّا ينساها، بل قدَّرَ ذلك لحِكَمٍ بالغةٍ؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يَضِلُّ ولا يَنسى.

* * * * *

(1)

ينظر: تفسير القرطبي (7/ 7)، (14/ 94)، والبحر المحيط في التفسير (4/ 539 - 540)، ودفع إيهام الاضطراب (ص 254).

(2)

ينظر: المحرر الوجيز (5/ 160)، وزاد المسير (4/ 160)، وتفسير ابن كثير (7/ 398)، والإيمان لابن تيمية (ص 44)، والجواب الكافي (ص 374).

ص: 169

‌الواجب للصحابة على الأمة

(وأنَّ خيرَ القرونِ القرنُ الذين رأوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

وأفضلُ الصحابةِ: الخلفاءُ الراشدون المهديون؛ أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عنهم أجمعين.

وأن لا يُذكَر أحدٌ من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلَّا بأحسن ذِكرٍ، والإمساك عمَّا شجر بينهم، وأنَّهم أحقّ الناس، أن يُلتمَسَ لهم أحسنُ المخارج، ويظنَّ بهم أحسنُ المذاهب).

قوله: (وأنَّ خيرَ القرونِ): معطوفٌ على ما تقدَّم؛ فالمعنى: ويجب الإيمانُ أنَّ خيرَ القرون القرنُ الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، والقرنُ: هو الجيلُ من الناس.

وقوله: (الذين رأوا رسولَ الله): هذا يدلُّ على أنَّ الصحابيَّ عنده: كلُّ مَنْ رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولا بدَّ من قيد «وهو مؤمنٌ به» ، وأصح من هذا ما قال الحافظُ ابنُ حجر في‌

‌ تعريف الصحابي:

هو مَنْ لَقِيَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به؛ ليدخل الأعمى في التعريف، فإنَّ التقييدَ بالرؤية يُخرِجُ الأعمى؛ كابن أمِّ مكتوم، فقد لقي النبيَّ، ولم يره

(1)

.

(1)

ينظر: نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر (ص 136).

ص: 170

وقوله: (ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم): يريد: أنَّ القرنَ الثاني بعد القرن الأول في الخيرية، والقرنُ الثالثُ بعد الثاني في الفضل والخيرية، ودليلُ هذا التفضيل والترتيب حديثان متفقٌ عليهما عن ابن مسعود، وعِمران بن حُصين، وفيهما قوله صلى الله عليه وسلم:«خيرُكم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»

(1)

، وقال عمران في حديثه:«فلا أدري أذَكرَ بعد قَرنِه قَرنينِ أو ثلاثةً» ، فالقرونُ المفضَّلةُ قطعًا ثلاثة، وتُعرَفُ هذه القرونُ عند أهل العلم بالقرون المفضَّلة، وهم ثلاثةُ أجيالٍ من الناس، والقرنُ في اصطلاح المؤرخين: مقدارٌ من الزمن، وهو مئةُ سنةٍ، وهذا هو الذي اشتهر في عُرف الناس، فالقرونُ المفضلة عندهم هي المئةُ الأولى والثانية والثالثة، وفي تاريخ الأمة؛ يقولون: المئة الرابعة والخامسة أو القرن الرابع والخامس، وفي وقتنا هذا؛ يقولون: القرن الخامس عشر ابتداءً من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولا يخفى أنَّ القرن في اصطلاح المؤرخين أطولُ من عمر الجيلِ الواحد

(2)

، ولهذا انقرضَ معظمُ الصحابةِ في حدود الثمانين من الهجرة.

وقوله: (وأفضلُ الصحابةِ

) إلى آخره: ودليلُ هذا التفضيل؛ ما ورد من الأحاديث في فضل الخلفاء الراشدين الأربعة إجمالًا؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:

(1)

أخرجه البخاري (2651)، ومسلم (2535 - 214) عن عمران، وعن ابن مسعود رضي الله عنهما بلفظ:«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» عند البخاري (2652)، ومسلم (2535 - 212).

(2)

ينظر الخلاف في تحديد مدة القرن في: مشارق الأنوار (2/ 179)، ولسان العرب (13/ 333 - 334)، وفتح الباري (7/ 5).

ص: 171

«عليكم بسنَّتي وسنَّةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين من بعدي»

(1)

، وما ورد في فضل كلِّ واحدٍ منهم تفصيلًا، وترتيبهم في الفضل على ترتيبهم في الخلافة، فأفضلُهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي؛ كما ذكر المؤلف، وقد اقتصر رحمه الله في المفاضلة بين الصحابة على ذكر الخلفاء الراشدين، وهذا هو ما استقرَّ عليه أمرُ أهلِ السنَّةِ، فعُلم بذلك أنَّ الصحابةَ وإن اشتركوا في فضل الصُحبةِ؛ فهم متفاضلون بحسب ما ورد من الفضائل والتفضيل لفردٍ أو جماعةٍ منهم، ولهذا قال أهلُ السنَّة: أفضلُ الصحابةِ الخلفاءُ الراشدون - كما تقدَّم - ثم بقيَّةُ العشرة المبشَّرين بالجنة، ثم أهلُ بدرٍ، ثم أهلُ بيعةِ الرِّضوان، ومن ذلك تفضيلُ المهاجرين على الأنصار، والمعوَّلُ في ذلك كلِّه على الأدلة من الكتاب والسنَّة.

وقضيةُ الصحابة هي من القضايا العقديةِ التي افترقَت فيها الأمَّةُ، فقوم غلَوا وقومٌ جفَوا، وتوسَّطَ أهلُ السنَّة، ولهذا يقولُ شيخُ الإسلام في «العقيدة الواسطية»: وهم وسطٌ - أي أهلُ السنَّة - في أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، بين الرافضةِ والخوارج

(2)

.

وقوله: (وأن لا يُذكَر أحدٌ من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم

) إلى آخره: معناه: أنَّ هذا كلَّه واجبٌ على الأمَّة لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فحقٌّ على جميع الأمة أن لا يذكروا أحدًا من الصحابة إلا بأحسن الذِّكرِ، ويُمسكوا عمَّا جرى بينهم من الاختلاف والقتال فلا يخوضوا فيه إلا مع التماس العذرِ، فهم أحقُّ الناس بحُسن الظنِّ، ومن أحسن الكلامِ المناسبِ

(1)

تقدم تخريجه في (ص 143).

(2)

بمعناه في العقيدة الواسطية (ص 82).

ص: 172

لهذا المقام قولُ شيخِ الإسلام في «العقيدة الواسطية» عن أهل السنَّةِ: «ويُمسكون عمَّا شجر بين الصحابة، ويقولون: إنَّ هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذبٌ، ومنها ما قد زِيدَ فيه ونقصَ وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيحُ منه هم فيه معذورون إمَّا مجتهدون مُصيبون، وإمَّا مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أنَّ كلَّ واحدٍ من الصحابة معصومٌ عن كبائر الإثم وصغائره؛ بل تجوز عليهم الذنوبُ في الجملة، ولهم من السوابق والفضائلِ ما يُوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنَّه يُغفَرُ لهم من السيئات ما لا يُغفر لمن بعدهم؛ لأنَّ لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم»

(1)

.

وقول المؤلف: (ويُظَنُّ بهم أحسن المذاهب): أي: أحسن الآراء، فإنَّ مَنْ رأى رأيًا فهو مذهبه، ولهذا يقال: يرى في هذه المسألة كذا، ويذهب إلى كذا؛ فمعنى الجملة: ويُظَنُّ بهم أحسن الظنون، ومن حقِّ الصحابة على الأمة محبَّتُهم لفضلهم عند الله، والحذر من بُغض أحدٍ منهم، ولهذا قال الطحاوي في عقيدته:«ونحبُّ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا نُفْرِطُ في حبِّ أحدٍ منهم، ولا نتبرأُ من أحدٍ منهم، ونبغِضُ مَنْ يُبغِضُهم، وبغيرِ الخيرِ يذكرُهم، ولا نذكرهم إلا بخيرٍ، وحبُهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضُهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ»

(2)

، ومِن أحسن ما يُذكَر في هذا المقام عبارةٌ لشيخ الإسلام ابن تيمية في بيان منزلة الصحابة؛ قال رحمه الله في «العقيدة الواسطية»: «ومَن نظر في سيرة القومِ بعلمٍ

(1)

العقيدة الواسطية (ص 120).

(2)

الطحاوية وشرحها لابن أبي العز (2/ 689).

ص: 173

وبصيرةٍ، وما مَنَّ اللهُ به عليهم من الفضائل؛ عَلِم يقينًا أنَّهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان، ولا يكون مثلهم»

(1)

، وأمَّا ما ورد في صفة وأجر الغرباء، وأنَّ للعامل في أيام الصبر أجر خمسين من الصحابة

(2)

؛ فهو محمولٌ عند أهل العلم على الفضل المقيَّدِ: فلهم أجرُ خمسين في صبرهم على البلاء، وتسلُّطِ الأعداءِ، مع قلَّةِ المعين، لا أنَّ لهم أجر خمسين من الصحابة في كلِّ عملٍ؛ بل هم أفضلُ من الصحابة في خصلةٍ من خصال الدِّين، وفضيلةٍ من الفضائل، فالتفضيلُ المقيَّدُ لا يُوجبُ الفضلَ المطلقَ

(3)

.

وهذا التفضيلُ الذي ذكره المؤلف ظاهرُه الإجمالُ، أي تفضيلُ أهلِ القرن الأوَّل على القرن الثاني إجمالًا، ثم يقال:

‌ هل كلُّ صحابيٍّ أفضلُ من كل مَنْ جاء بعد الصحابة؟

هذا محلُّ خلافٍ ونظر، ويمكن

(1)

العقيدة الواسطية (ص 122).

(2)

أخرجه أبو داود (4341) والترمذي (3058)، وابن ماجه (4014) من طرق عن عتبة بن أبي حكيم قال: حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال: حدثني أبو أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني

وفيه سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا، يعملون بمثل عمله» .

وعمرو بن جارية وأبو أمية فيهما جهالة. قال ابن حجر في كل واحد منهما: «مقبول» يعني عند المتابعة، وإلا فليِّن الحديث. ينظر: التقريب (4997)، (7947). وعتبة بن أبي حكيم فيه خلاف من قبل حفظه، وقال ابن حجر فيه:«صدوق يخطئ كثيرًا» التقريب (4427).

وللحديث شواهد من حديث ابن مسعود وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما. ينظر: الصحيحة (494).

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى (11/ 371)، (13/ 65 - 66).

ص: 174

أن يَصدُقَ هذا على بعض الصحابة؛ كالخلفاء الراشدين وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، فمن الصحابةِ مَنْ نعلمُ أنَّه خيرٌ من كلِّ مَنْ جاء بعد الصحابةِ، وفي بعضهم يمكن أن يكونَ محلَّ نظرٍ وتأمُّلٍ، واللهُ أعلم

(1)

.

* * * * *

(1)

ينظر: التمهيد (20/ 250 - 255)، والكافية الشافية (3/ 911 - 914)، وفتح الباري (7/ 6 - 7).

ص: 175

‌من أصول أهل السنة العملية

(والطاعةُ لأئمة المسلمين من ولاة أمورِهم وعلمائهم، واتباعُ السَّلفِ الصالحِ واقتفاءُ آثارهم، والاستغفارُ لهم.

وتركُ المراءِ والجدالِ في الدِّين، وتركُ كلِّ ما أحدثه المحدِثون.

وصلَّى اللهُ على سيدنا محمد وعلى آله وأزواجه وذريته، وسلَّم تسليمًا كثيرًا).

في هذه الجملةِ ذكرَ المؤلفُ أربعةً من أصول أهلِ السنَّةِ العملية، وختم بذلك مقدمة الرسالة:

الأوَّل: السمعُ والطاعةُ لأولي الأمر من الأمراء والعلماء؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، وقال صلى الله عليه وسلم:«على المرء المسلمِ السمعُ والطاعةُ فيما أَحبَّ وكرهَ، إلَّا أن يُؤمَرَ بمعصيةٍ، فإن أُمِرَ بمعصيةٍ، فلا سمع ولا طاعة»

(1)

، وقالَ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّما الطَّاعةُ في المعروفِ»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (7144)، ومسلم (1839) - واللفظ له - من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري (7145)، ومسلم (1840) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 176

والأحاديثُ المُتضمِّنةُ لوجوبِ السمعِ والطاعة لولاةِ الأمرِ، والنهيِ عن الخروجِ عليهم مُستفيضةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، فلهذا كان ممَّا خالفَ فيه أهلُ السنَّةِ أهلَ البدعِ: هو ما يعتقدُونه ويعملون به مع ولاةِ الأمرِ.

فإنَّ أهلَ البدعِ - كالخوارجِ والمُعتزلة - من أصولِهم: الخروجُ على الأئمة، بل أحدُ أصولِ دينِ المعتزلة الخمسة: الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المُنكرِ، ويُدخلون في ذلك الخروجَ على الولاةِ الظَّلمةِ باسمِ إنكارِ المُنكرِ

(2)

، وإنما وجبَ السمعُ والطاعةُ وحرُمَ الخروجُ على ولاةِ الأمور وإن جارُوا وإن ظلموا؛ لأنَّ الخروجَ عليهم ينشأُ ويحصلُ بسببه من الفسادِ أعظمُ ممَّا أُرِيدَ تغييرُه.

ومن قواعدِ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المُنكرِ: احتمالُ أدنى المفسدَتَين لدفعِ أعلاهما، وتفويتُ أدنى المصلحتين لتحصيلِ أعلاهما، فإذا كان إنكارُ المُنكرِ يترتب عليه مُنكرٌ أعظمَ؛ أصبح الإنكارُ مُنكَرًا، ولهذا قال ابن القيم في «إعلام الموقعين»: «إنكارُ المنكرِ أربعُ درجات:

الأولى: أن يزولَ ويخلفه ضدُّه.

الثانية: أن يقلَّ وإن لم يُزَل بجملته.

الثالثة: أن يخلفَه ما هو مثلُه.

الرابعة: أن يخلفَه ما هو شرٌّ منه.

(1)

ينظر: السنة لابن أبي عاصم (2/ 492 - 516)، والشريعة للآجري (1/ 373 - 384)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (7/ 1296 - 1302).

(2)

ينظر: شرح الأصول الخمسة (ص 144)، (ص 741) وما بعدها، ومقالات الإسلاميين (2/ 348).

ص: 177

فالدرجتان الأولَتَانِ مشروعتان، والثالثةُ موضعُ اجتهادٍ، والرابعةُ محرمةٌ»

(1)

.

وقول المؤلف: (وعلمائهم): يُشيرُ إلى ما قيل في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]؛ أنَّ المرادَ بهم العلماء، والصوابُ أنَّ الآيةَ تعمُّ الصنفين؛ الأمراءَ ذوي السلطان، والعلماءَ بالكتاب والسنَّة

(2)

، فالعلماءُ يُطاعون فيما يُبلغونه عن اللهِ ورسوله، ويجبُ الرجوع إليهم؛ كما قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُون (43)} [النحل].

ولا يجبُ على أحدٍ طاعتُهم في المسائل الاجتهادية إلَّا على المُقلِّد؛ فإنَّ الواجب عليه أن يستفتي مَنْ يثقُ بعلمه ودينِه ويعملَ بفتواه، أمَّا مَنْ يقدر على معرفةِ الحقِّ بدليله؛ فعليه أن يقبلَ ويرجعَ إلى أهلِ العلمِ في معرفة الأدلة من الكتاب والسنَّة.

أمَّا ولاةُ الأمرِ ذوي السلطان فتجبُ طاعتُهم في غيرِ معصيةِ الله، وما يقعُ منهم من معصيةٍ أو ظلمٍ وجورٍ وأثَرةٍ، كلُّ ذلك لا يمنعُ من أداءِ الواجب لهم، وفي الحديثِ؛ عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ستكون أثرة وأمور تنكرونها» قالوا يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «تؤدُّون الحقَّ الذي عليكم وتسألون اللهَ الذي لكم»

(3)

؛ أي: أدُّوا الحقَّ الذي لهم من السمعِ والطاعة، وسلُوا اللهَ الذي لكم إذا قصَّرُوا وفَرَّطُوا في شيءٍ من حقوقِ الأمَّة، فالمظلومُ ينصره الله تعالى عاجلًا أو آجلًا، في الدنيا أو في الآخرة.

(1)

إعلام الموقعين (4/ 339).

(2)

ينظر: تفسير الطبري (7/ 172 - 183)، وتفسير ابن كثير (2/ 345).

(3)

أخرجه البخاري (3603) - واللفظ له -، ومسلم (1843).

ص: 178

الثاني: قوله: (واتباعُ السَّلفِ الصالحِ واقتفاءُ آثارهم، والاستغفارُ لهم): السلفُ الصالحُ: هم الصحابةُ ومَن تبعَهم بإحسان، ثم التابعون، ثم الأئمة المقتدون بهم، قال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وقوله:{بِإِحْسَانٍ} ، أي: من غير غلوٍّ ولا تقصيرٍ، بل على المنهج القويمِ والصراطِ المستقيمِ.

وهذا هو الواجبُ على المسلمِ لتحقيق اتِّباع الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ السلفَ الصالحَ أعلمُ الناس بما جاء به الرسولُ، وأتبعُهم له، فمَن سار على طريقهم كان من المهتدين، فهذا هو الصِّراطُ المستقيمُ، قال تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون (158)} [الأعراف]، فيجبُ على المسلم أن يتخذَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم إمامًا وقدوةً، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} [الأحزاب]، ويتَّبعَ السلفَ الصالح؛ لأنَّهم الذين عرفُوا الحقَّ وتلقَّوه عن نبيِّهم وقاموا به علمًا وعملًا وجهادًا وبلَّغُوه لمن بعدهم، وهم خيرُ هذه الأمةِ كما هو معلومٌ.

وسيرتُهم وهديُهم هو المعيارُ لمعرفة الحقِّ من الباطل، والمحقِّ من المُبطل، ولهذا قالَ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ في ذِكرِ الفرقةِ الناجية:«هم مَنْ كان على مِثلِ ما أَنا عليه اليومَ وأَصحابي»

(1)

، ومن حقهم على مَنْ جاء

(1)

أخرجه الترمذي (2641)، والطبراني في «الكبير» (14646) من طريق عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، عن عبد الله بن يزيد المغفري، عن عبد الله بن عمرو، به.=

ص: 179

بعدهم الاستغفارُ لهم، والترضي عنهم؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم (10)} [الحشر].

الثالث: قوله: (وتركُ المراءِ والجدالِ في الدِّين): أي: تركُ الجدالِ في الدِّين على طريقةِ المُبتدعين والكافرين الذين يُجادلون في آياتِ الله تكذيبًا لها، وطعنًا فيها وتحريفًا لها، وممَّا يدخل في هذا: اتباعُ المُتشابه من القرآنِ، فكلُّ ذلك داخلٌ في الجدالِ المذموم، أمَّا الجدالُ بالحُججِ الصحيحةِ وبآيات اللهِ؛ لإظهار الحق وإبطال الباطل؛ فهو مشروعٌ قد أمَرَ اللهُ به؛ فقال تعالى:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، ففرقٌ بين الجدالِ في آياتِ الله تكذيبًا لها وتحريفًا، والجدالِ بآيات الله انتصارًا للحقِّ، وردًّا على الباطل وأهله، وهو

=قال الترمذي: «هذا حديث مفسر غريب، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه» .

والأفريقي ضعيف. ينظر: التهذيب (6/ 173، ترجمة رقم 358).

وحديث الفرقة الناجية له شواهد عديدة، وطرق كثيرة بألفاظ متقاربة: عن أنس بن مالك، وعمرو بن عوف بن زيد المزني، ومعاوية بن أبي سفيان، وعوف بن مالك بن أبي عوف، وأبي أُمامة الباهلي، وسعد بن أبي وقاص، ويزيد بن أبان الرقاشي، وقتادة بن دعامة، وواثلة بن الأسقع الليثي، وأبي الدرداء رضي الله عنهم.

ينظر: تخريج أحاديث الإحياء (رقم 2982)، ونظم المتناثر (رقم 18)، والمقاصد الحسنة (رقم 340)، وكشف الخفاء (رقم 446)، والصحيحة (رقم 203)، (204)، (1492).

والحديث احتج به أئمة السنة سلفًا وخلفًا. قال الحاكم: «هذا حديثٌ كثُر في الأصول» .

وقال شيخ الإسلام: «الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانِد» . مجموع الفتاوى (3/ 345).

ص: 180

من الجهاد بالحجة والبيان؛ قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان]، فهذا هو الواجبُ، أن نجادلَ الكافرين والمُخالفين بالحُججِ الصحيحة، بما في كتابِ الله، وبما صحَّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

(1)

. ومما يُستشهَد به لقول المؤلف ابن أبي زيد في ذم الجدال في الدين؛ ما جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: «أوَ كُلَّما جاءنا رجلٌ أجدلَ من رجلٍ تركنا ما جاء به جبريل إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم لجَدل هؤلاء؟»

(2)

.

الرابع: قوله: (وتركُ كلِّ ما أحدثه المحدثون): هذه جملةٌ عامةٌ في التحذير من جميع البدع؛ فالبدع هي المُحدثاتُ في الدين؛ كما قالَ صلى الله عليه وسلم: «وشرَّ الأُمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ»

(3)

، وفي رواية:«وكلَّ ضلالةٍ في النَّار»

(4)

.

(1)

ينظر: درء التعارض (7/ 156)، ومجموع الفتاوى (26/ 107)، وزاد المعاد (3/ 639 - 642)، وإرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد لشيخنا (ص 131).

(2)

أخرجه المروزي في «تعظيم قدر الصلاة» (2/ 670)، وابن بطة في «الإبانة» (2/ 507، رقم 582)، واللالكائي في «السنة» (1/ 163، رقم 293).

(3)

أخرجه مسلم (867) عن جابر رضي الله عنه.

(4)

أخرجها النسائي (1799)، (5861)، وابن خزيمة (1785)، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 189) من طريق عتبة بن عبد الله اليحمدي، والفريابي في «كتاب القدر» (448)، وعنه الآجري في «الشريعة» (84)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (رقم 137) من طريق حبان بن موسى، كلاهما عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن جعفر - وهو ابن محمد الصادق -، عن محمد بن علي الباقر، عن جابر. وعتبة بن عبد الله وثقه النسائي ومسلمة المروزي. كما في «التهذيب» (7/ 97 رقم 208)، وقال ابن حجر في «التقريب» (4433):«صدوق» . وحبان بن موسى «ثقة» روى عنه البخاري ومسلم. ينظر: التقريب (1077).

ص: 181

و‌

‌تحقيقُ الاتِّباعِ يكون بلزومِ السُّنةِ،

والعملِ بها وتركِ المُحدثاتِ؛ قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحدثَ في أَمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ»

(1)

؛ أي: مردودٌ؛ غير مقبول.

وقد أُحدِثَ في الدين بدعٌ كبيرةٌ وصغيرةٌ، فالواجبُ اجتنابُ البدعِ صغيرِها وكبيرِها، ظاهرِها وباطنِها، فإنَّ صغائرَ البدعِ والذنوبِ تصيرُ كبائرَ بالإصرار عليها، وإذا مُرِّنت النفوسُ عليها صارت لها عادة، وصعب التخلص منها، وما هذه البدعُ في الأمَّة إلَّا بسبب اتِّباع الهوى، وتقديم الرأي على الوحي، وممَّا يؤثَر عن الإمام مالك في تقبيح البدع، والتحذير منها؛ قوله:«من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذٍ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا»

(2)

.

والبدعُ أنواعٌ:

اعتقاديةٌ؛ كبدع المتكلِّمينَ من الجهمية والجبرية والقدرية.

وعمليةٌ؛ كبدع الصوفية؛ كالشاذلية والعدويَّة والنقشبندية والتيجانية، فإنَّ بدعَ هذه الطوائف تتعلَّقُ بالعبادات والأذكار.

ومن الطوائف مَنْ جمع بين البدعِ الاعتقاديةِ والعمليةِ؛ وهم الرافضة فهم شر طوائف الأمَّة، وبدعهم المختصة بهم شر البدع، وأعظمها عبادة

(1)

أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه بسنده ابن حزم في «الإحكام في أصول الأحكام» (6/ 58)، وأورده الشاطبي في «الاعتصام» (1/ 65 - 66).

ص: 182

الأضرحة، وتكفير الصحابة، وهما من البدع المكفِّرة، وهم الذين أدخلوا القبورية في الأمة الإسلامية.

وقوله: (على سيدنا): لا ريبَ أنَّه صلى الله عليه وسلم سيدُ ولدِ آدم، لكن لو قال المؤلفُ: على نبينا محمدٍ؛ كان أولى؛ فإنَّ الصحابةَ والتابعينَ لم يكونوا يذكرونه صلى الله عليه وسلم إلَّا بصفة النبوةِ والرسالةِ دون السيادةِ، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه.

* * * * *

ص: 183

‌خاتمة

بعد التعليقِ على مقدمة الرسالةِ لابن أبي زيد رحمه الله تبيَّنَ أنَّه سلفيُّ المعتقدِ في الصفات والإيمان والقدر، وقد وصفه مَنْ ترجمَ له بذلك كالذهبي فإنه قال:«وكان رحمه الله على طريقة السَّلف في الأصول، لا يدري الكلام، ولا يتأوَّلُ»

(1)

، ومما يؤكد ما قال الذهبي؛ ما نقله ابن عساكر عن ابن أبي زيد من قوله:«وأبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل به يُقتدى، وقد أنكر هذا، وما أنكرَ أبو عبد الله أنكرناه»

(2)

، والمُعوَّلُ في ذلك على هذه المقدمةِ، ومقدمة كتابه «الجامع»

(3)

، وهي أوسع، فإنه نصَّ على إثبات عُلوِّه تعالى واستوائه على عرشه بذاته، وأنَّه كلَّم موسى بكلامٍ سمعه موسى، وهو كلامُه تعالى القائم به، وأنه تعالى يجيءُ يومَ القيامة، وصرَّح بأنَّ الإيمانَ اعتقادٌ بالقلب وإقرارٌ باللسان وعملٌ بالجوارح، وهو في كلِّ هذه المسائل مخالفٌ لمذهب الأشاعرة، وجارٍ على مذهب أهل السنَّةِ، وهذه أبرزُ المسائلِ التي يتميزُ فيها مذهبُه، وتتضحُ فيها سلفيتُه في الاعتقاد؛ هذا ولم ينفرد ابن أبي زيد في منهجه في صفات الله بل من علماء المالكية جماعة نهجوا منهج

(1)

سير أعلام النبلاء (17/ 12).

(2)

تبيين كذب المفتري (ص 408).

(3)

تقدم التعريف به في (ص 52).

ص: 184

السلف، وحقَّقوا انتماءَهم للإمام مالك فإنَّه أحد أئمة السُّنة الماضين على مذهب السلف في جميع أبواب الدين.

ثم أقول: أوصي بنشر هذه المقدمة، وإدخالها في المقررات الدراسية إسهامًا في نشر مذهب السلف في الاعتقاد، وتعريفًا بهذا الإمام رحمه الله، وبارك في علمه، ورفع ذكره، وأعلى درجته في الجنة-، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه؛ آخر ما تيسَّر من التعريف بابن أبي زيد، والتعليق على مقدمة «الرسالة» له، وتم ذلك تحريرًا في يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر شوال من عام ألفٍ وأربع مئة واثنين وأربعين، والحمد لله رب العالمين.

* * * * *

ص: 185

‌قائمة المراجع

(أ)

1.

الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري، د. فوقية حسين محمود، دار الأنصار، القاهرة، الطبعة الأولى، 1397 هـ.

2.

الإبانة الكبرى، ابن بطة، جماعة من المحققين، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض.

3.

أبكار الأفكار في أصول الدين، أبو الحسن الآمدي، تحقيق أحمد محمد المهدي، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1424 هـ.

4.

الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، طبعة مجمع الملك فهد.

5.

إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين، أبو بكر البيهقي، د. شرف محمود القضاة، دار الفرقان، الأردن، الطبعة الثانية، 1405 هـ.

6.

اجتماع الجيوش الإسلامية، ابن قيم الجوزية، تحقيق عواد عبد الله المعتق، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

7.

أحكام الجنائز وبدعها، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ.

8.

الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، تحقيق أحمد شاكر، دار الآفاق الجديدة، بيروت.

ص: 187

9.

الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، تحقيق عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1402 هـ.

10.

إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار المنهاج للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الأولى، 1432 هـ.

11.

آداب البحث والمناظرة، محمد الأمين الشنقيطي، تحقيق سعود العريفي، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة.

12.

الإرشاد إلى سبيل الرشاد، محمد بن أحمد الهاشمي، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1419 هـ.

13.

إرشاد العباد إلى معاني لمعة الاعتقاد، عبد الرحمن البراك، إعداد عبد الله السحيم، دار التدمرية، الطبعة الأولى، 1433 هـ.

14.

إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ.

15.

أسباب نزول القرآن، علي بن أحمد الواحدي، تحقيق عصام بن عبد المحسن الحميدان، دار الإصلاح، الدمام، الطبعة الثانية، 1412 هـ.

16.

الاستغاثة في الرد على البكري، ابن تيمية، تحقيق د. عبد الله بن دجين السهلي، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1426 هـ.

17.

الاستقامة، ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، الطبعة الأولى، 1404 هـ.

18.

الأسماء والصفات، أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق عبد الله الحاشدي، مكتبة السوادي، جدة، السعودية، الطبعة الأولى، 1413 هـ.

19.

الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، محمد بن أحمد القرطبي، دار الصحابة للتراث بطنطا، الطبعة الأولى، 1416 هـ.

ص: 188

20.

الأشربة، أحمد بن حنبل، تحقيق صبحي السامرائي، عالم الكتب، الطبعة الثانية، 1405 هـ.

21.

أصول الدين، عبد القاهر البغدادي، تحقيق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1423 هـ.

22.

أصول السنة، ابن أبي زَمَنِين، تحقيق أحمد بن علي الرياشي، دار الفرقان، مصر، الطبعة الأولى، 1428 هـ.

23.

الاعتبار ببقاء الجنة والنار، علي بن عبد الكافي السبكي، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مطبعة الترقي، طبعة 1347 هـ.

24.

الاعتصام، الشاطبي، تحقيق الشقير والحميد والصيني، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1429 هـ.

25.

أعلام الحديث، أبو سليمان الخطابي، تحقيق د. محمد بن سعد آل سعود، جامعة أم القرى، الطبعة الأولى، 1409 هـ.

26.

إعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1423 هـ.

27.

إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1432 هـ.

28.

اقتضاء الصراط المستقيم، ابن تيمية، تحقيق د. ناصر العقل، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة السابعة، 1419 هـ.

29.

الإكمال في ذكر من له رواية في مسند الإمام أحمد من الرجال سوى من ذكر في تهذيب الكمال، محمد بن علي الحسيني،

ص: 189

تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، منشورات جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي، باكستان.

30.

الألفاظ المستعملة في المنطق، أبو نصر الفارابي، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، الطبعة الثانية.

31.

الانتصار لأهل الأثر، ابن تيمية، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثالثة، 1440 هـ.

32.

الأنساب، عبد الكريم بن محمد السمعاني، تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، مكتبة ابن تيمية، الطبعة الثانية، 1400 هـ.

33.

الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، أبو بكر الباقلاني، مكتبة الأزهرية للتراث، الطبعة الثانية، 1421 هـ.

34.

الإيمان، ابن تيمية، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، عمان، الأردن، الطبعة الخامسة، 1416 هـ.

35.

الإيمان، ابن منده، تحقيق علي بن محمد الفقيهي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1406 هـ.

36.

الإيمان الأوسط = شرح حديث جبريل، ابن تيمية، تحقيق علي بن بخيت الزهراني، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، طبعة 1423 هـ.

(ب)

37.

البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي، تحقيق صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، طبعة 1431 هـ.

38.

البداية والنهاية، ابن كثير، تحقيق عبد الله عبد المحسن التركي، دار هجر، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

ص: 190

39.

بدائع الفوائد، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية.

40.

البدر المنير في تخريج الشرح الكبير، ابن الملقن، دار الهجرة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ.

41.

البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة دار التراث، القاهرة.

42.

بيان تلبيس الجهمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة الأولى، 1426 هـ.

43.

بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام، أبو الحسن ابن القطان، تحقيق د. الحسين آيت سعيد، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

(ت)

44.

تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، تحقيق د. بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1422 هـ.

45.

تاريخ التراث العربي - العلوم الشرعية -، فؤاد سزكين، ترجمة د محمود فهمي حجازي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، طبعة 1411 هـ.

46.

تاريخ دمشق، ابن عساكر، تحقيق عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر، طبعة 1415 هـ.

47.

التاريخ الكبير، محمد بن إسماعيل البخاري، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الدكن.

48.

تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، ابن عساكر، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1399 هـ.

ص: 191

49.

التحفة العراقية في الأعمال القلبية، ابن تيمية، تحقيق يحيى الهنيدي، مكتبة الرشد ناشرون، الرياض، الطبعة الخامسة، 1439 هـ.

50.

تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، العِراقي، ابن السبكي، الزبيدي، استخراج محمود الحَدّاد، دار العاصمة للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

51.

التدمرية، ابن تيمية، تحقيق د. محمد بن عودة السعوي، مكتبة العبيكان، الرياض، الطبعة السادسة، 1421 هـ.

52.

التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق الصادق بن محمد بن إبراهيم، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1425 هـ.

53.

ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب، الطبعة الأولى.

54.

الترغيب والترهيب، إسماعيل بن محمد الأصبهاني، تحقيق أيمن بن صالح بن شعبان، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1414 هـ.

55.

التسعينية، ابن تيمية، تحقيق د. محمد بن إبراهيم العجلان، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1420 هـ.

56.

التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي الكلبي، تحقيق علي بن حمد الصالحي، دار طيبة الخضراء، الطبعة الأولى، 1439 هـ.

57.

تعظيم قدر الصلاة، محمد بن نصر المَرْوَزِي، تحقيق د. عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي، مكتبة الدار، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1406 هـ.

58.

التعليق على القواعد المثلى، عبد الرحمن البراك، إعداد عبد الله المزروع، دار التدمرية، الرياض، الطبعة الثانية، 1432 هـ.

ص: 192

59.

التعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري، عبد الرحمن البراك، دار التوحيد للنشر، الطبعة الأولى، 1433 هـ.

60.

التعليق والإيضاح على تفسير الجلالين، عبد الرحمن البراك، اعتناء مؤسسة وقف الشيخ عبد الرحمن البراك، الطبعة الأولى، 1442 هـ.

61.

تغليق التعليق على صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق سعيد عبد الرحمن موسى القزقي، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1405 هـ.

62.

تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء، ابن تيمية، تحقيق عبد العزيز بن محمد الخليفة، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1417 هـ.

63.

التفسير البسيط، علي بن أحمد الواحدي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى، 1430 هـ.

64.

تفسير الرازي= مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1401 هـ.

65.

تفسير الفاتحة والبقرة، محمد بن صالح العثيمين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1423 هـ.

66.

تفسير القرآن العظيم، عبد الرحمن ابن أبي حاتم، تحقيق أسعد محمد الطيب، مكتبة نزار مصطفى الباز، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثالثة، 1419 هـ.

67.

تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة الثانية 1420 هـ.

68.

تفسير القرطبي= الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض، طبعة 1423 هـ.

ص: 193

69.

تقريب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد عوامة، دار الرشيد، سوريا، الطبعة الأولى، 1406 هـ.

70.

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي، ومحمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387 هـ.

71.

تلخيص تاريخ نيسابور لابن البيع، تلخيص الخليفة النيسابوري، تعريب د. بهمن كريمي، كتابخانة ابن سينا، طهران.

72.

التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد الثاني عمر بن موسى، دار أضواء السلف، الطبعة الأولى، 1428 هـ.

73.

تهذيب التهذيب، ابن حجر، مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، 1326 هـ.

74.

تهذيب سنن أبي داود، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية.

75.

تهذيب الكمال في أسماء الرجال، أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي، تحقيق د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1400 هـ.

76.

تهذيب اللغة، محمد بن أحمد الأزهري، تحقيق محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001 م.

77.

التوحيد وإثبات صفات الرب، ابن خزيمة، تحقيق عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان، مكتبة الرشد، السعودية، الرياض، الطبعة الخامسة، 1414 هـ.

78.

توضيح مقاصد العقيدة الواسطية، عبد الرحمن البراك، إعداد عبد الرحمن بن صالح السديس، دار التدمرية، الطبعة الثالثة، 1432 هـ.

ص: 194

79.

توضيح المقصود في نظم ابن أبي داود، عبد الرحمن البراك، إعداد شبكة نور الإسلام، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1430 هـ.

80.

تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، تحقيق أسامة بن عطايا، دار الصميعي، الطبعة الأولى، 1428 هـ.

81.

تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تحقيق سعد بن فواز الصميل، دار ابن الجوزي.

(ث)

82.

الثقات، ابن حبان، دائرة المعارف العثمانية، بحيدر آباد، الدكن، الهند، الطبعة الأولى، 1393 هـ.

83.

الثقات= تاريخ الثقات، أبو الحسن أحمد بن عبد الله العجلي الكوفي، دار الباز، الطبعة الأولى، 1405 هـ.

(ج)

84.

جامع البيان في تفسير القرآن، محمد بن جرير الطبري، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة، الطبعة الأولى، 1422 هـ.

85.

جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1414 هـ.

86.

جامع الرسائل والمسائل، ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، دار المدني للنشر والتوزيع، جدة.

ص: 195

87.

جامع العلوم والحكم، ابن رجب، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة السابعة، 1422 هـ.

88.

الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ، ابن أبي زيد القيرواني، تحقيق محمد أبو الأجفان وعثمان بطيخ، مؤسسة الرسالة والمكتبة العتيقة بتونس، الطبعة الثانية، 1403 هـ.

89.

جامع المسائل، ابن تيمية، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية.

90.

الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون وتكملة الجامع، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية.

91.

جذوة المقتبس في تاريخ علماء الأندلس، محمد بن فتوح الحَمِيدي، تحقيق د. بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1429 هـ.

92.

الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1271 هـ.

93.

جمال القراء وكمال الإقراء، علم الدين السخاوي، تحقيق عبد الحق سيف القاضي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ.

94.

جمهرة الأمثال، أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408 هـ.

95.

الجنى الداني في حروف المعاني، حسن بن قاسم المرادي، تحقيق فخر الدين قباوة ومحمد نديم فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1413 هـ.

ص: 196

96.

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ابن تيمية، تحقيق علي بن حسن وعبد العزيز بن إبراهيم وحمدان بن محمد، دار العاصمة، السعودية، الطبعة الثانية، 1419 هـ.

97.

جواب في الإيمان ونواقضه، عبد الرحمن البراك، اعتناء عبد الرحمن بن صالح السديس، دار التدمرية، الطبعة الأولى، 1473 هـ.

98.

الجواب الكافي= الداء والدواء، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية.

(ح)

99.

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية.

100.

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتب العلمية، بيروت.

(خ)

101.

الخطب المنبرية على المناسبات العصرية، عبد الرحمن السعدي، تحقيق إبراهيم بن عبد الله الحازمي، دار الشريف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، 1414 هـ.

102.

خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد أمين بن فضل الله المحبي، المطبعة الوهيبة، طبعة 1284 هـ.

103.

الخلافيات بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، أبو بكر البيهقي، دار الروضة للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1436 هـ.

ص: 197

(د)

104.

درء تعارض العقل والنقل، ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1411 هـ.

105.

الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة، أبو حامد الغزالي، المكتبة الثقافية بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ.

106.

الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمعه عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الطبعة السادسة، 1417 هـ.

107.

الدعاء، سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق محمد بن سعيد البخاري، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى، 1407 هـ.

108.

دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب، محمد الأمين الشنقيطي، دار عالم الفوائد، مكة، الطبعة الأولى، 1426 هـ.

109.

دفع شُبه من شبَّه وتَمرَّد، أبو بكر بن محمد الحصني، تحقيق محمد زاهد بن الحسن الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة.

110.

الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، إبراهيم بن علي ابن فرحون، تحقيق د. محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث للطبع والنشر، القاهرة.

(ر)

111.

الرد على الجهمية، عثمان بن سعيد الدارمي، تحقيق بدر بن عبد الله البدر، دار ابن الأثير، الكويت، الطبعة الثانية، 1416 هـ.

112.

الرد على الجهمية، محمد بن إسحاق بن مَنْدَه، تحقيق علي محمد ناصر الفقيهي، مكتبة الغرباء، الطبعة الثالثة، 1414 هـ.

ص: 198

113.

الرد على الجهمية والزنادقة، أحمد بن حنبل، تحقيق دغش العجمي، دار غراس، الكويت، الطبعة الأولى، 1426 هـ.

114.

الرد علي الشاذلي في حزبيه، ابن تيمية، تحقيق علي العمران، دار ابن حزم، طبعة 1440 هـ.

115.

الرد على من قال بفناء الجنة والنار، ابن تيمية، تحقيق محمد بن عبد الله السمهري، دار بلنسية، الرياض، الطبعة الأولى، 1415 هـ.

116.

الرد على المنطقيين، ابن تيمية، تحقيق عبد الصمد الكتبي، مؤسسة الريان، الطبعة الأولى، 1426 هـ.

117.

رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت، عبيد الله بن سعيد السجزيّ، تحقيق محمد با كريم با عبد الله، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1423 هـ.

118.

الرسل والرسالات، عمر سليمان الأشقر، دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن، الطبعة الرابعة عشرة، 1417 هـ.

119.

رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار، محمد بن إسماعيل الصنعاني، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ.

120.

الروح، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد أجمل الإصلاحي، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية.

121.

روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، محمود بن عبد الله الألوسي، تحقيق علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.

ص: 199

(ز)

122.

زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1422 هـ.

123.

زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة السابعة والعشرون، 1415 هـ.

(س)

124.

السبعة في القراءات، أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1400 هـ.

125.

سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض.

126.

سلسلة الأحاديث الضعيفة، الألباني، مكتبة المعارف، المملكة العربية السعودية، الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ.

127.

السنة، أبو بكر بن أبي عاصم، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1400 هـ.

128.

السنة، أبو بكر أحمد بن محمد الخَلَّال، تحقيق د. عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، الطبعة الأولى، 1410 هـ.

129.

سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الرسالة العالمية، الطبعة الأولى، 1430 هـ.

130.

سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، دار الرسالة العالمية، الطبعة الأولى، 1430 هـ.

131.

سنن الترمذي، أبو عيسى الترمذي، تحقيق د. بشار عواد، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998 م.

ص: 200

132.

سنن الدارقطني، علي بن عمر الدارقطني، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ.

133.

سنن الدارمي، أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن، تحقيق حسين سليم أسد الداراني، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1412 هـ.

134.

السنن الكبرى، البيهقي، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، مركز هجر للبحوث والدراسات، الطبعة الأولى، 1432 هـ.

135.

السنن الكبرى، النسائي، تحقيق حسن عبد المنعم شلبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

136.

سنن النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة الثانية، 1406 هـ.

137.

السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ابن تيمية، تحقيق علي العمران، دار ابن حزم، طبعة 1440 هـ.

138.

سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1405 هـ.

139.

سيرة الإمام أحمد بن حنبل، صالح بن الإمام أحمد، تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد، دار السلف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثالثة، 1415 هـ.

140.

السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل، علي بن عبد الكافي السبكي، تعليق محمد زاهد الكوثري، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى، 1356 هـ، وطبعة المكتبة الأزهرية للتراث.

ص: 201

(ش)

141.

الشامل في أصول الدين، أبو المعالي الجويني، دار منشأة المعارف، الإسكندرية، طبعة 1969 م.

142.

شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، محمد بن مخلوف، تحقيق عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، 1424 هـ.

143.

شرح الأصبهانية، ابن تيمية، تحقيق د. محمد السعوي، مكتبة دار المنهاج، الرياض، الطبعة الأولى، 1430 هـ.

144.

شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار، تحقيق عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، الطبعة الثالثة، 1415 هـ.

145.

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة = السنة، هبة الله بن الحسن اللالكائي، تحقيق أحمد بن سعد الغامدي، دار طيبة، السعودية، الطبعة الثامنة، 1423 هـ.

146.

شرح حديث النزول، ابن تيمية، تحقيق محمد بن عبد الرحمن الخميس، دار العاصمة، الطبعة الثانية، 1418 هـ.

147.

شرح ابن عقيل على الألفية، عبد الله بن عبد الرحمن بن عقيل، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار التراث - القاهرة، الطبعة العشرون، 1400 هـ.

148.

شرح ابن ناجي التنوخي على متن الرسالة، قاسم بن عيسى بن ناجي التنوخي، تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1428 هـ.

149.

شرح زروق على متن الرسالة، أحمد بن أحمد زروق، تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1427 هـ.

ص: 202

150.

شرح صحيح البخاري، ابن بطال، تحقيق ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1423 هـ.

151.

شرح صحيح مسلم، يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392 هـ.

152.

شرح عقيدة الإمام مالك الصغير، القاضي عبد الوهاب، تحقيق محمد بوخبزة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1423 هـ.

153.

شرح العقيدة التدمرية، عبد الرحمن البراك، إعداد عبد الرحمن السديس، دار التدمرية، الرياض، الطبعة السادسة، 1441 هـ.

154.

شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي العز الحنفي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وعبد الله بن المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة العاشرة، 1417 هـ.

155.

شرح العقيدة الطحاوية، عبد الرحمن البراك، إعداد عبد الرحمن السديس، دار التدمرية، الطبعة الثالثة، 1434 هـ.

156.

شرح غاية المراد في نظم الاعتقاد، أحمد الخليلي، دار الكلمة الطيبة، سلطنة عُمان، الطبعة الأولى، 1438 هـ.

157.

شرح القصيدة الدالية للكلوذاني، عبد الرحمن بن ناصر البراك، إعداد ياسر العسكر، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 1430 هـ.

158.

شرح القصيدة النونية، محمد خليل هرَّاس، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1424 هـ.

159.

شرح الكافية الشافية، جمال الدين ابن مالك، تحقيق عبد المنعم أحمد هريدي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1402 هـ.

160.

شرح كشف الشبهات، عبد الرحمن البراك، إعداد شبكة نور الإسلام، دار التدمرية، الطبعة السادسة، 1436 هـ.

ص: 203

161.

شرح كلمة الإخلاص، عبد الرحمن بن ناصر البراك، إعداد ياسر العسكر، دار التدمرية، الطبعة الأولى، 1435 هـ.

162.

شرح مشكل الآثار، الطحاوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1415 هـ.

163.

شرح المواقف، علي بن محمد الجرجاني، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى.

164.

الشريعة، محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّي، تحقيق عبد الله بن عمر الدميجي، دار الوطن، الرياض، الطبعة الثانية، 1420 هـ.

165.

شعب الايمان، البيهقي، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، الطبعة الأولى، 1423 هـ.

166.

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن قيم الجوزية، دار ابن حزم، طبعة 1441 هـ.

167.

شواذ القراءات، محمد بن أبي نصر الكرماني، تحقيق شمران العجلي، مؤسسة البلاغ، بيروت.

(ص)

168.

الصحاح، الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1407 هـ.

169.

صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422 هـ.

170.

صحيح ابن حبان، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

171.

صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

ص: 204

172.

الصفدية، ابن تيمية، تحقيق، سيد بن عباس الجليمي وأيمن بن عارف الدمشقي، مكتبة أضواء السلف، الطبعة الأولى، 1423 هـ.

173.

الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، خلف بن عبد الملك بن بشكوال، تحقيق د. بشار عواد، طبعة الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2010 م.

174.

الصواعق المرسلة، ابن قيم الجوزية، تحقيق د. علي بن محمد الدخيل الله، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

(ط)

175.

طرق حديث إن لله تسعة وتسعين اسمًا، أبو نعيم الأصبهاني، تحقيق مشهور بن حسن بن سلمان، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1413 هـ.

176.

طريق الهجرتين وباب السعادتين، ابن قيم الجوزية، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية.

177.

طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين السبكي، تحقيق د. محمود محمد الطناحي، و د. عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1413 هـ.

178.

طبقات الصوفية، أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ.

179.

طبقات الفقهاء الشافعية، ابن الصلاح، تحقيق محيي الدين علي نجيب، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى، 1992 م.

180.

طبقات المفسرين، جلال الدين السيوطي، تحقيق علي محمد عمر، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، السعودية، طبعة 1431 هـ.

ص: 205

181.

الطبقات الكبير، ابن سعد، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

182.

طبقات المعتزلة، أحمد بن يحيى بن المرتضى، دار مكتبة الحياة، بيروت، طبعة 1380 هـ.

(ع)

183.

العاقبة في ذكر الموت، عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي، تحقيق خضر محمد خضر، مكتبة دار الأقصى - الكويت، الطبعة الأولى، 1406 هـ.

184.

العجاب في بيان الأسباب، ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الحكيم محمد الأنيس، دار بن الجوزي، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

185.

العرش، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق محمد بن خليفة التميمي، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1424 هـ.

186.

العرش وما رُوِي فيه، محمد بن عثمان بن أبي شيبة، تحقيق محمد بن خليفة التميمي، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

187.

العظمة، أبو الشيخ الأصبهاني، تحقيق رضاء الله بن محمد إدريس المباركفوري، دار العاصمة، الرياض، الطبعة الأولى، 1408 هـ.

188.

العقود الدرية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، ابن عبد الهادي، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية.

189.

العقيدة الواسطية، ابن تيمية، أشرف بن عبد المقصود، أضواء السلف، الرياض، الطبعة الثانية، 1420 هـ.

ص: 206

190.

العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، ابن الجوزي، تحقيق إرشاد الحق الأثري، إدارة العلوم الأثرية، فيصل آباد، باكستان، الطبعة الثانية، 1401 هـ.

191.

العلل الواردة في الأحاديث النبوية، الدارقطني، تحقيق محفوظ الرحمن زين الله السلفي، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1405 هـ.

192.

العلو للعلي الغفار في إيضاح صحيح الأخبار وسقيمها، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق أشرف بن عبد المقصود، مكتبة أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى، 1416 هـ.

193.

عمل اليوم والليلة، ابن السُّنّي، تحقيق كوثر البرني، دار القبلة للثقافة الإسلامية ومؤسسة علوم القرآن، جدة.

194.

العواصم من القواصم، أبو بكر بن العربي، تحقيق د. عمار طالبي، مكتبة دار التراث، مصر.

(غ)

195.

غرر المقالة في شرح غريب الرسالة، محمَّد بن منصور بن حمامة المغراوي، تحقيق الهادي حمو ومحمد أبو الأجفان، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1997 م.

196.

غريب القرآن، ابن قتيبة الدينوري، تحقيق أحمد صقر، دار الكتب العلمية، 1398 هـ.

197.

غريب القرآن = نزهة القلوب، محمد بن عُزير السجستاني، تحقيق محمد أديب عبد الواحد جمران، دار قتيبة، سوريا، الطبعة الأولى، 1416 هـ.

ص: 207

198.

الغنية لطالبي طريق الحق عز وجل، عبد القادر الجيلاني، تحقيق صلاح بن محمد عويضة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ.

(ف)

199.

فتاوى البرزلي= جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام، أبو القاسم بن أحمد البرزلي، تحقيق محمد الحبيب الهيلة، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 2002 م.

200.

فتاوى الإمام النووي، تحقيق محمد الحجار، دار البشائر الإسلامية، الطبعة السادسة، 1417 هـ.

201.

فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار المعرفة، بيروت، 1379 هـ.

202.

الفتوى الحموية الكبرى، تحقيق د. حمد بن عبد المحسن التويجري، دار المنهاج، الرياض، الطبعة الرابعة، 1440 هـ.

203.

الفتوحات الربَّانية على الأذكار النواوية، محمد بن علَّان الصديقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

204.

الفَرق بين الفِرق، عبد القاهر بن طاهر البغدادي، تحقيق محمد عثمان الخشت، مكتبة ابن سينا.

205.

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ابن تيمية، تحقيق د. عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى، دار الفضيلة، الرياض.

206.

الفرقان بين الحق والباطل، ابن تيمية، تحقق خليل الميس، دار القلم، بيروت.

207.

الفروق، أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق خليل المنصور، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

ص: 208

208.

الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، مكتبة الخانجي، القاهرة.

209.

الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، أحمد بن غانم النفراوي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

(ق)

210.

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ابن تيمية، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ.

(ك)

211.

الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية =نونية ابن القيم، دار عالم الفوائد، مكة، المملكة العربية السعودية.

212.

الكامل في ضعفاء الرجال، ابن عدي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

213.

الكامل في القراءات والأربعين الزائدة عليها، أبو القاسم الهُذَلي اليشكري، تحقيق جمال بن السيد بن رفاعي الشايب، مؤسسة سما للتوزيع والنشر، الطبعة الأولى، 1428 هـ.

214.

الكتاب، سيبويه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة.

215.

كتاب القدر، أبو بكر جعفر بن محمد الفِريابي، تحقيق عبد الله بن حمد المنصور، أضواء السلف، السعودية، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

ص: 209

216.

كشف الأستار عن زوائد البزار، علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ.

217.

كشف الخفاء ومزيل الإلباس، إسماعيل بن محمد العجلوني، تحقيق يوسف بن محمود الحاج أحمد، مكتبة العلم الحديث.

218.

الكشف والبيان عن تفسير القرآن= تفسير الثعلبي، أحمد بن إبراهيم الثعلبي، دار التفسير، جدة، الطبعة الأولى، 1436 هـ.

219.

كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، علي بن خلف المنوفي، تحقيق أحمد حمدي إمام، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1407 هـ.

220.

الكلم الطيب، ابن تيمية، تحقيق السيد الجميلي، دار الفكر اللبناني للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ.

(ل)

221.

لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1414 هـ.

222.

لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الأولى، 1423 هـ.

223.

لوامع الأنوار البهية، محمد بن أحمد السفاريني، مؤسسة الخافقين، دمشق، الطبعة الثانية، 1402 هـ.

(م)

224.

مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، طبعة 1396 هـ.

ص: 210

225.

المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين، سيف الدين الآمدي، تحقيق حسن محمود الشافعي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1413 هـ.

226.

المحرر الوجيز، ابن عطية الأندلسي، تحقيق الرحالي الفاروق وغيره، مطبوعات وزارة الشؤون الإسلامية في قطر، الطبعة الثانية، 1428 هـ.

227.

محك النظر في المنطق، أبو حامد الغزالي، تحقيق أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، بيروت.

228.

مدارج السالكين، ابن القيم، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1440 هـ.

229.

المداوي لعلل الجامع الصغير وشرحي المناوي، أحمد بن محمد الغُمَارِي، دار الكتبي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996 م.

230.

مراتب الإجماع، ابن حزم، تحقيق حسن أحمد إسبر، دار ابن حزم للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1419 هـ.

231.

المرشد المعين على الضروري من الدين= متن ابن عاشر، عبد الواحد بن أحمد بن عاشر، مكتبة القاهرة.

232.

المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، ابن حبان، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة، بيروت، طبعة 1412 هـ.

233.

مجمع الزوائد، الهيثمي، تحقيق حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 هـ.

234.

مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب ابن قاسم، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.

235.

مختصر العلو للعلي العظيم، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1412 هـ.

ص: 211

236.

مختصر الصواعق المرسلة، ابن قيم الجوزية، تحقيق د. الحسن بن عبد الرحمن العلوي، أضواء السلف، الرياض.

237.

مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني، تحقيق طارق بن عوض الله، مكتبة ابن تيمية، مصر، الطبعة الأولى، 1420 هـ.

238.

المسائل والأجوبة، ابن تيمية، تحقيق حسين بن عكاشة، الفاروق الحديثة للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1425 هـ.

239.

المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ.

240.

مسند أبي داود الطيالسي، سليمان بن داود الطيالسي، تحقيق محمد بن عبد المحسن التركي، دار هجر، مصر، الطبعة الأولى، 1419 هـ.

241.

مسند أبي يعلى، أحمد بن علي الموصلي، تحقيق حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى، 1404 هـ.

242.

مسند أحمد بن حنبل، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421 هـ.

243.

مسند أحمد بن حنبل، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1416 هـ.

244.

مسند إسحاق بن راهويه، إسحاق بن إبراهيم المروزي، تحقيق د. عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان، المدينة النبوية، الطبعة الأولى، 1412 هـ.

245.

مسند البزار، أبو بكر أحمد بن عمرو البزار، مكتبة العلوم والحكم، المدينة النبوية.

246.

مسند الربيع بن حبيب، مكتبة الاستقامة، بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.

ص: 212

247.

مشارق الأنوار على صحاح الآثار، القاضي عياض، المكتبة العتيقة ودار التراث.

248.

المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ.

249.

المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر بن أبي شيبة، تحقيق كمال يوسف الحوت، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1409 هـ.

250.

معجم ابن الأعرابي، أبو سعيد بن الأعرابي، تحقيق عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

251.

المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الثانية.

252.

معجم المناهي اللفظية، بكر بن عبد الله أبو زيد، دار العاصمة للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الثالثة، 1417 هـ.

253.

معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، حافظ بن أحمد الحكمي، تحقيق محمد صبحي حلّاق، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 1420 هـ.

254.

معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، عبد الرحمن بن محمد الدبَّاغ، أكمله وعلَّق عليه ابن ناجي التنوخي، مكتبة الخانجي، مصر، الطبعة الثانية، 1388 هـ.

255.

المفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان عدنان الداودي، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1412 هـ.

256.

المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي، تحقيق محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ.

ص: 213

257.

مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، أبو الحسن الأشعري، تحقيق زرزور، المكتبة العصرية، الطبعة الأولى، 1426 هـ.

258.

مقاييس اللغة، ابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، طبعة 1399 هـ.

259.

الملل والنحل، الشهرستاني، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، مؤسسة الحلبي.

260.

المنار المنيف، ابن القيم، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية.

261.

مناقب الإمام أحمد، ابن الجوزي، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، الطبعة الثانية، 1409 هـ.

262.

منهاج السنة، ابن تيمية، تحقيق محمد رشاد سالم، طبعة جامعة الإمام، الطبعة الأولى، 1406 هـ.

263.

المنهاج في شعب الإيمان، الحسين بن الحسن الحَلِيمي، تحقيق حلمي محمد فودة، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1399 هـ.

264.

الموضوعات، أبو الفرج ابن الجوزي، تحقيق نور الدين شكري بوياجيلار، أضواء السلف، الطبعة الأولى، 1997 م.

265.

ميزان الاعتدال، الذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1382 هـ.

(ن)

266.

النبوات، ابن تيمية، تحقيق عبد العزيز بن صالح الطويان، أضواء السلف، الرياض، الطبعة الأولى، 1420 هـ.

267.

نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، ابن حجر، تحقيق عبد الله الرحيلي، الطبعة الثانية، 1429 هـ.

ص: 214

268.

النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، تحقيق علي محمد الضباع، المطبعة التجارية الكبرى.

269.

نصب الراية لأحاديث الهداية، الزيلعي، تحقيق محمد عوامة، مؤسسة الريان للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

270.

نظم المتناثر من الحديث المتواتر، محمد بن أبي الفيض الكتاني، تحقيق شرف حجازي، دار الكتب السلفية، مصر، الطبعة الثانية.

271.

نقض الدارمي على المريسي، عثمان بن سعيد الدارمي، تحقيق رشيد بن حسن الألمعي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى، 1418 هـ.

272.

نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول، الحكيم الترمذي، تحقيق توفيق محمد تكلة، دار النوادر، الطبعة الأولى 1431 هـ.

273.

النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، تحقيق محمود الطناحي وطاهر أحمد الزاوي، المكتبة الإسلامية، الطبعة الأولى، 1383 هـ.

(هـ)

274.

الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي بن أبي طالب، طبعة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، الشارقة، الطبعة الأولى، 1429 هـ.

(ي)

275.

اليواقيت والجواهر في بيان عقيدة الأكابر، الشعراني، دار إحياء التراث العربي، لبنان.

* * * * *

ص: 215