المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تقديم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فهذا كتاب جامع - الجامع العام في فقه الصيام

[محمد بن علي حلاوة]

فهرس الكتاب

‌تقديم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فهذا كتاب جامع في الصيام وأحكامه، وكذا قيام الليل والاعتكاف والعيدين وزكاة الفطر وما يتعلق بذلك من فقه وأحكام، أعدَّه أخي في الله الشيخ/ محمد حلاوة - حفظه الله وبارك فيه، وقد أتقن عمله وفَّقه الله، فقد جمع ما يتعلق بكل باب من مادة علمية، فجمع الأحاديث والآثار، وخرجها فأحسن تخريجها، ثم حكم عليها بما تستحقه صحة أو ضعفًا، مع عدم إهماله لأقوال علماء العلل، ثم إنه أورد أقوال أهل العلم والفقه، ابتداءً من الصحابة رضوان الله عليهم، ثم أقوال التابعين وأتباعهم، وكذا أقوال أصحاب المذاهب الأربعة، وأيضًا أقوال أئمة آخرين وعلماء كالظاهرية وابن تيمية ومتأخري الفقهاء، ورجح القول الذي تقتضي الأدلة رجحانه، وكذا؛ فإنه وفقه الله لكل خير، لم يغفل الآيات التي لها اتصال بالموضوعات، فأوردها وأورد أقوال العلماء فيها، فأفاد وأحسن، جزاه الله خيرًا.

هذا، وقد راجعت مع أخي الشيخ محمد عمله؛ فألفيته من فضل الله نافعًا موفقًا، فأسأل الله له مزيدًا من السداد والتوفيق والسير قُدمًا في الدعوة إلى الله وطلب العلم الشرعي.

وصلِّ اللهم على نبينا محمدٍ وسلم والحمد لله رب العالمين

كتبه

أبو عبد الله

مصطفى بن العدوي

ص: 7

‌المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.

ثم أما بعد: فمِن أحبِّ الأعمال إلى الله تعالى وأبلغِها إلى مرضاته، وأحضِّها للظفر بجناته، إقامةُ أركان الشريعة، وفرائضِ الملة الرفيعة، ولا صحة لذلك ولا قَبول إلا على الوجه الذى دعا إليه الباري وبه أمر.

روى البخاري

(1)

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: وَمَا تَقَرَّبَ إلى عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلى مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» .

ومن هذه الفرائض العظام شعيرة الصيام.

(1)

أخرجه البخاري (6502).

ص: 8

وهذا الصوم قد فضَّله الباري جل اسمه على سائر الطاعات، وذلك بإضافته إلى نفسه العلية؛ تعظيمًا لقدره وشانه، وتنويهًا بسامق مكانه، فقد ثبت فى «الصحيحين»

(1)

من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» .

كيف لا! وصيام رمضان أحد أركان الإسلام الركين، ومن أعظم معالمه وأثبت دعائمه، ففى «الصحيحين»

(2)

، عن ابن عمر {قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ

». فذكر منها: «

وَصَوْمُ رَمَضَان».

أيامه بالرحمات والسكينة مُجَلَّلة، وبالمنافع والبركات الغزار مُعجَّلة، فى لياليه الطُّهر ليلةٌ خيرٌ من ألف شهرٍ، فيها تنزل الملائكة الكرام، حافِّين بالعباد وهم فى تبتلٍ وابتهالٍ، ودموعهم فى انهمالٍ، راجين من الكبير المتعال أن يغفر لهم زلاتِهم، ويمحو حوباتِهم، ويُقِيل عثراتِهم، ويَكشف كرباتِهم، ويفرِّجُ مُلماتِهم، كلُّ ذلك وأشدُّه أيام الاعتكاف حين يكونون عن الدنيا فى انصراف، بقلوبٍ من ربها وجلة، فلله ما أبهاه من شهر عظيم.

فانظروا إلى ما خصكم الله به من الإنعام والإكرام وحباكم به من العطايا الجسام، وشَرَّفكم بنبي الرحمة ورسول الهدى وأنقذكم ببركته من الردى، فاستدرِكوا رحمكم الله مواسم العمر فحادي الموت بالرحيل قد حدا، واغتنموا ليلة القدر فلعل أن تُكتبوا في ديوان السعداء فإنها ليلة تفوق ليالي الدهر، وهي خير من ألف شهر، فيا فوز من أحياها ويا سعادة من رآها لقد نال فخرًا وسؤددًا.

فليلة القدر يُفتح فيها الباب، وتُقرب الأحباب، ويُسمع الخطاب، ويُرد الجواب، ويُكتب للعاملين فيها جزيل الأجر والثواب.

اعلم أن ليلة القدر ليلة شريفة فيها يتجلى رب الأرباب، ويجزل للعاملين بطاعته الثواب، ويسمع فيها الدعاء ويستجاب فيها، تنزل الملائكة بأمر رب العالمين.

(1)

أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151).

(2)

أخرجه البخاري (1/ 8)، ومسلم (16).

ص: 9

هي ليلة القدر التي شرفت على

كل الشهور وسائر الأعوام

من قامها يمحو الإله بفضله

عنه الذنوب وسائر الآثام

فيها تجلى الحق جل جلاله

وقضى القضاء وسائر الأحكام

فادعوه واطلبه لكي تعطى المنى

وتجاب بالإنعام والإكرام

فالله يرزقنا القبول بفضله

ويجود بالغفران للصوام

ويذيقنا فيها حلاوة عفوه

ويميتنا حقًّا على الإسلام

فالصيام: وقايةٌ وترسٌ للمسلم من الخطايا والأوزار، وجُنهٌ تحميه من التلطِّخ - عياذًا بالله - بالأدران والأكدار؛ فقد ثبت فى «الصحيحين»

(1)

من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» . أي: وقاية يقي صاحبه من الشهوات، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:«يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»

(2)

.

وقيل: إن الصيام جُنةٌ، أي: وقايةٌ من النار.

فالصوم فيه مضاعفةُ الحسنات، وإقالةُ العثرات، ومغفرةُ الذنوب والسيئات، ورفعةُ الدرجات، فيه تُفتح الجنات، وتُنزل الرحمات وتُغفر الزَّلات.

فطوبى لمن جَوَّع نفسه ليوم الشبع الأكبر، طوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الري الأكبر، طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره، طوبى لمن ترك طعامًا في دار تنفد لدار أكلها دائم وظلها.

وصم ما تستطيع تجده ريا

إذا ما قمت ظمآنًا سغيبا

الصوم من أعظم العبادات التى بها رفع الدرجات، وتكفير الخطايا والسيئات، وكَسر الشهوات، والانزجار عن خواطر المعاصي والمخالفات، فالصيام هو الطريق

(1)

أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151).

(2)

أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400).

ص: 10

الأعظم للوصول إلى تقوى الله عز وجل؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . [البقرة: 183].

والتقوى تكفلُ للعبد السعادة فى الدنيا والآخرة؛ فهى وصية الله للأولين والآخرين، كما قال رب العالمين:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].

فالمقصود من الصيام هو تحصيل تقوى الله عز وجل، وهل يتم ذلك بالصوم عن الطعام والجماع؟ كلا، إنما يكون بصوم الجوارح عن الآثام، وصمتِ اللسان عن فضول الكلام، وغضِّ البصر عن النظر إلى الحرام، وكفِّ الكف عن أخذ الحُطام، ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام، وبذل ندى الكف، والتورع عن الأذى والكف. قال عليه الصلاة والسلام:«مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» .

فرمضان شهر التوبة، فيا من عصى وأسرف ارجع إلى ربك وأقبل عليه، فإنه غافر الذنب وقابل التوب، ففي الصحيحين عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .

فيا من فرط في رمضان ومضى رمضان وهو على الذنوب والعصيان، غافل عن الصيام والقيام، يا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من بضاعته التسويف والتفريط وبئست البضاعة، إلى متى الغفلة والتسويف وطولُ الأمل واتباعُ الشيطان والهوى؟!!

فما أجملَ رمضان عندما يكون بدايةَ التوبة والإنابة.

رمضان أقبل قم بنا يا صاح

هذا أوان تبتل وصلاح

واغنم ثواب صيامه وقيامه

تسعد بخير دائم وفلاح

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلم يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ» .

متى يُغفر لمن لم يُغفر له في رمضان؟ متى يُقبل من رُد في ليلة القدر وما فيها من الغفران؟ متى يزلف من رمي فيه بالإبعاد والهجران؟ متى يشفى قلب لم تشفه آيات

ص: 11

القرآن؟ يا لها من خسارة لا تشبه الخسران أن ترى المحسنين قد حظوا بالقرب والزلفى والرضوان، وأُزلفت لهم الجنات، وأُلبسوا التيجان، وأُعطوا الملك والخلد، وأُدخلوا على الرحمن، وقد رُميت بالطرد والإبعاد والحرمان، تُغل وتُجر إلى النيران، أترى قلبك هذا نائمًا أم يقظان؟

• يا من صام رمضان: لقد عظمت مصيبتك بعدم توبتك فأين مقلتك الباكية؟ وأين دمعتك الجارية؟ وأين زفرتك الرائحة الغادية؟ لأي يوم أخرت توبتك؟ ولأي عام ادخرت أوبتك؟ إلى عام قابل وحول حائل؟ كلا فما إليك مدة الأعمار؟ ولا معرفة المقدار؟ فكم من مؤمل أمّل بلوغه فلم يبلغه؟ وكم من مدرك لم يختمه؟ وكم من أعد طيبًا لعيده جُعل في تلحيده؟ وثيابًا لتزيينه صارت لتكفينه؟ ومتأهبَا لفطره صار مرتهنًا في قبره؟ وكم من لا يصوم بعده سواه وهو يطمع في غيره أنه يراه؟

فأين الصوام القوام المرافقون لنا في سالف الأعوام؟ وأين من كانوا معنا ليالي شهر رمضان شاهدين وفي كل حق لله معاملين؟ أتاهم والله هادم اللذات وقاطع الشهوات ومفرق الجماعات، فأخلي منهم المشاهد؟ وعطل منهم المساجد، تراهم في بطون الألحاد صرعى، لا يجدون لهم فيه دفعًا ولا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا، ينتظرون يومًا الأمم فيه إلى ربها تُدعى والخلائق تحشر إلى الموقف وتسعى والفرائص ترعد من هول ذلك اليوم والعيون تذرف دمعًا، والقلوب تتصدع من الحساب صدعًا (ونفخ في الصور فجمعناهم جمعًا)

(1)

.

فعلى المسلم أن يغتنم مواسم الطاعة ولا يفرط فيها، بل يشتغل بما يدوم نفعه، ويبقى أثره وما هي إلا أيامًا معدودات تصام تباعًا، وتنقضي سراعًا.

أرى الأيام تسرع بارتحال

وبدر الشهر صار إلى هلال

فبادر باغتنام الأجر فيما

سيأتي من عشر فضال

ولا تترك محبك من دعاء

فإن ذنوبه مثل الجبال

(1)

أخطاء شائعة ص 185، للشيخ: أحمد بن عبد الله السبكي.

ص: 12

فإن ملائكة الرحمن تثني

عليك بمثله من ذي الجلال

والصوم شهر الجود والإحسان، والمودة والإخاء والرأفة والرحمة والصفاء، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس {قال:«كان رسول الله أجود الناس فكان أجود ما يكون في رمضان»

فكن متصدقًا سرًّا وجهرًا

ولا تبخل وكن سمحًا وهوبا

تجد ما قدَّمَتْه يداك ظلًّا

إذا ما اشتد بالناس الكروبا

فشعور الصائم بالجوع يذكره بإخوانه الذين ذاقوا من البؤس ألوانًا بعد رغد العيش، وتجرعوا من العلقم غصصا بعد وفرة النعيم، فشردتهم وقتلتهم ودمرتهم وطحنتهم الحروب، وبعضهم يعيش بين أنات وأصوات الصواريخ والدبابات والقذائف والنيران، فاعتاضوا عن الفرحة بالبكاء وحل محل البهجة الأنين والعناء، كم من يتيم ينشد عطف الأبوة الحانية، ويلتمس حنان الأم الرؤوم ويدنوا إلى من يخفف بؤسه، وكم من أرملة توالت عليها المحن بفقد عشيرها تذكرت برمضان عزَّا قد مضى تحت كنف زوج عطوف كل اولئك وأمثالهم قد استبدلوا بعد العز ذلًّا، بعد الرخاء والهناء فاقة وفقرًا.

إن المسلم إذا تذكر هذا أو سمعه ذاب قلبه كمدًا وحزنًا وحرقة على ديار المسلمين، وأنه ليجد الكلمات عاجزة والبيان شحيحًا، أف لقلب لا يعتصر لذلك ألما، وعميت عين لا تسح لذلك دمعًا، أين شعور الجسد الواحد في حياة المسلمين؟ إننا نحكي هذه الفجائع ونحن نرى ما لا ينقضي منه العجب، ألسنا كلنا مسلمين؟ إنما المؤمنون إخوة فأين أخوتنا في الدين؟، تلكم الرابطة العظيمة فهلا تحركنا، هلا أنفقنا وجدنا.

من هنا كان واجبًا على كل مسلم أن يعايش هذا الواقع بقلبه وقالبه، ولسانه ويده، ونفسه وماله، وقلمه ودعائه، حتى يكون الجميع على علم وبصيرة بما يراد بالإسلام والمسلمين وليكون الجميع صفا واحدًا في مواجهة قوى الشر وجحافل الباطل على اختلاف مللها ومذاهبها {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] فيا من تصومون في وقت واحد وتفطرون في وقت واحد وتتجهون إلى قبلة واحدة

ص: 13

وتجمعكم مشاعر واحدة أليس في ذلك كله ما يشعركم بضرورة الوحدة الإسلامية؟ أليس في ذلك كله ما يدعوكم إلى التعاون والإخاء؟ الاجتماع على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.

فحق على كل ذي نعمة ممن صام وقام أن يتذكر هؤلاء، فيرعى اليتامى ويواسي الأيامى، ويرحم أعزاء قوم قد ذلوا، ولا ينسى أراضي للمسلمين منكوبة بمجاهديها وشهدائها ويتاماها وأراملها وأسراها، يستجدون أمم الأرض لقمة أو كساء أو خيمة أو غطاء، وكم هو جميل كذلك الاستعداد لهذا الشهر بتفريج كربة وملاطفة يتيم ومواساة ثكلى وتفتيش عن أصحاب الحوائج فإن لم تستطع خيلا ولا مالا فأسعفهم بكلمة طيبة وابتسامة حانية ولفتة طاهرة من قلب مؤمن ودعاء لهم بتفريج كربهم وإصلاح حالهم ونصرهم على عدوهم، إن إخوتكم قد أملوا فيكم خيرًا فليجدوا عندكم ما يؤملون

(1)

أحسن إذا كان إمكان ومقدرة

فلا يدوم على الإنسان إمكان

لقد حرص السلف الصالح على اغتنام هذا الشهر بفعل الخيرات وترك المنكرات، فجعلوا من لياليه قيامًا وركوعًا ودموعًا وخشوعًا، وجعلوا من نهاره ذكرا وتلاوة وصدقات وبرًا وتقوى وإحسانًا وصلات.

أرأيت كيف يقضون ليلهم وكيف يحافظون على أوقاتهم؟ ونحن نهدر أيامنا ونضيع أعمارنا.

فقد صار هذا الشهر عند الكثير شهر النوم والكسل والسهرات والمسلسلات والمباريات وفي النهار نائم، وفي الليل هائم، فالله يرحمنا وإياهم فما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل:

نزلوا بمكة في قبائل هاشم

ونزلت بالبيداء أبعد منزل

أيها النائم والركب سرى

الحق القوم ولا تقعد ورى

واحسرتاه قد تقضى العمر وانصرمت

ساعاته بين العجز والكسل

(1)

«أخطاء شائعة» ص 170، 171.

ص: 14

والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد

ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل

أيا صاح هذا الركب قد سار مسرعًا

ونحن قعود ما الذي أنت صانع

على نفسه فليبك من كان باكيًا

أيذهب وقت وهو باللهو ضائع

فأوصي نفسي وإخواني بالإكثار من فعل الخيرات، واغتنام هذا الشهر الكريم بالاكثار من قراءة القرآن وذكر الواحد الديان والتذلل بين يدي الملك العلام والتوبة والاستغفار والرجوع إلى الرحيم الرحمن.

جاء الصيام فجاء الخير أجمعه

ترتيل ذكر وتحميد وتسبيح

فالنفس تدأب في قول وفي عمل

صوم النهار وبالليل التراويح

وقال آخر:

دواء قلبك خمس عند قسوته

أفدم عليها تفز بالخير والظفر

خلاء بطن وقرآن تدبره

كذا تضرع باك ساعة السحر

وفي قيامك جنح الليل أوسطه

وأن تجالس أهل الخير والخبر

وقال الشاعر:

دع التكاسل في الخيرات تطلبها

فليس يسعد بالخيرات كسلان

ولما تقدَّم من عظمة الفريضة المفعمة بالخيرات، ولتعلُّق أحكامها: بالصحة والسقم، والحل والسفر، والشروق والغروب، والليل والنهار ولمدة زمانها، وما يعتري الصائم فيها من عوارضَ تحتاج إلى أحكام وأجوبة، ولتفريط كثير من المسلمين - من أسف - فى تحصيل فقه الصيام، وقصورِهم عن معرفة أحكامه وسننة وآدابه، رَغِبتُ فى إعداد هذا الكتاب وتأليفِه، وتعنَّيت لتحبيره جُهدى، مستلهمًا من المولى عزَّ شأنه التسديد والتوفيق، سائلًا إياه أن يكون للصائمين والصائمات دليلًا ونبراسًا، ولطالب العلم أصلًا وأساسًا.

على كف الندى أُهدي كتابي

وأُرخي في محبتكم ركابي

فإن كان الذي أهدي يسيرًا

ففيض الوُد أكمل في النِّصاب

ص: 15

وسميته «الجامع العام في فقه الصيام» جمعت فيه ما يتعلق بصيام الفريضة، وصيام التطوع، من فضائل وأحكام ثم لما كان هناك مباحث تتعلق بصيام رمضان، كالاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان وضعت فقه الاعتكاف، ولما كان رمضان شهر القيام وضعت قيام رمضان، ولما كانت زكاة الفطر تتعلق بالفطر من رمضان أدرجت في الكتاب زكاة الفطر، وإذا كان هذا شهر الصيام والقيام والصدقة والإحسان فليختم بالفرح والسرور والغبطة والحبرور ذيلت بفقه العيدين.

وقد التزمت فيه ما صحَّ عن النبي العدنان عليه الصلاة والسلام، مع ذكر بعض الأحاديث الضعيفة لبيان ضعفها أو للردِّ على من استدلَّ بها، وكذلك ذكرت الآثار عن الصحابة الأبرار والتابعين الأخيار، ثم ذكرت أقوال الأئمة المجتهدين، ورجَّحت ما يقتضي الدليل رُجحانَه

(1)

.

وبعد أن أضنيتُ نفسى فى جمع هذا الكتاب، وتبويبه وترتيبه، وتخريجِ أحاديثِه وآثارِه والحكمِ عليها في ضوء قواعدِ الجرح والتعديل، قمت بعرض ما جمعته على شيخنا المفضال -مصطفى بن العدوي - حفظه الله من كل سوءٍ وبارك فيه -، فراجعه على دَيدنِه فى سماحة خلقه، وبرِّه بطلاب العلم، فقدَّم له، فأفدتُ من تسديد ألحاظه، وتصويب ألفاظه؛ فجزاه الله خير الجزاء وأوفاه، وجعل ما قدَمه فى ميزان حسناته يوم يلقى مولاه، وأسألُه سبحانه أن يُسعدَه بجنته، ويشملَه برحمته، وأن يكرمَه بمغفرته، وأن يرزقه مزيدَ العلم النافعِ، ومزيد العمل الصالح وأن ينفع بعلمه وسعيه المبذولَ

(1)

قال الإمام الشافعي رحمه الله: «أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد» ، وما يفعله بعض الناس من التعصب لجماعة أو لشيخ فهذا مخالف لهدي السلف ومخالف لما عليه أئمة المذاهب، فإنهم متفقون على ذم التقليد وذم التعصب، فالوالجب على المسلم أن ينصر الدليل.

ص: 16

الإسلامَ والمسلمين، وأن يرزقَه الإخلاصَ فى جميع ذلك، وأن يتقبَّل منه جميعَ أعمالِه، وأن يجعلَه من أهل جنة الفردوس، وأن يجزيَه عنى وعن المسلمين خير الجزاء.

وإني لأعلم أن هناك من هو أكثر أهلية مني لهذا العمل الجلل ولكني أذكر قول القائل:

وما كنت أهلًا للذي قد كتبته

وإني لفي خوف من الله نادم

ولكنني أرجو من الله عفوه

وإني لأهل العلم لا شك خادم

ولما آمل من ثواب ونجاة في اليوم المشهود لمن خدم هذا الدين، تجرأت على الشأن الكئود، فأسأل الله أن يتقبله مني في اليوم الموعود.

رب تقبل عملي

ولا تخيب أملي

أصلح أموري كلها

قبل حلول أجلي

ولم أدخر جهدًا في هذا البحث إلا بذلته في تحريره وتنقيحه وتقريره، ولا أدعي الكمال والتمام والعصمةَ من الزلل والخطأ والنسيان، فقد قيل: أبى الله أن يصح إلا كتابه.

وقال الشافعي: «لقد ألفت هذه الكتب ولم آل جهدًا فيها، ولابد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} فما وجدتم في كتبي هذه ما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه، ولله در من قال:

كم من كتاب قد تصفحته

وقلت في نفس أصلحته

حتى إذا طالعته ثانيًا

وجدت تصحيفًا فصححته

وما أحسن ما قاله العماد الأصفهاني: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبَر، وهذا دليل استيلاء النقص على جملة البشر، فسبحان مَنْ تنزَّه عن النقص» .

فمن وقف فيه على تقصير أو خلل، أو عثر فيه على تغيير أو زلل، فليعذر أخاه في ذلك متطولًا، أو ليصلح منه ما يحتاج إلى إصلاح متفضلًا، فالتقصير من الأوصاف البشرية، فليست الإحاطة بالعلم إلا لبارئ البرية، فهو الذي وسع كل شيء علما، وأحصى مخلوقاته عينًا واسمًا.

ص: 17

سطره لنفسه

قائله وجامعه

فليعف عن زلاته

ناقله وسامعه

فألتمس من النبلاء الأماجد تقويم ما اعوجَّ وندَّ، والتنبيه إلى ما ندَّ عنه القلم.

وإن تَجِدْ عيبًا فَسُدَّ الخَلَلَا

فَجَلَّ مَنْ لَا عَيْبَ فيه وعلا

وأسأل الله عز وجل أن يجعل عملى هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعنى به والمسلمين، وأن يجعلَه فى ميزان حسناتى يوم الدين، وأسأله أن يجزىَ عنى والديَّ أعمَّ الجزاءِ والمثوبةِ، وأن يمتَّعهما بالصحة والعافية، وأن ينوِّرَ أوقاتهما بالهدى والتُّقى، وأن يرزقَهما جنةَ الفردوس.

هذا وما كان من توفيقٍ فمن الواحد المنان، وما كان من خطأٍ أو نسيانٍ فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه براءٌ، والله المستعان.

إذا لم يكن عون من الله للفتى

فأكثر ما يجني عليه اجتهاده

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أبو عبد الله

محمد بن علي بن حلاوة

مصر - كفر الشيخ - البرلس

هاتف: 01010637466

ص: 18

‌الباب الأول

وفيه فصول

الفصل الأول: في تعريف وفضل الصوم

الفصل الثاني: على من يجب الصيام؟

الفصل الثالث: النية

الفصل الرابع: أحكام دخول الشهر ورؤية الهلال

الفصل الخامس: من يباح له الفطر

الفصل السادس: مفسدات الصوم

الفصل السابع: المفطرات المستجدة

الفصل الثامن: الكفارة وما يتعلق بها من أحكام

الفصل التاسع: القضاء وما يتعلق به من أحكام

الفصل العاشر: مباحات الصيام

الفصل الحادي عشر: الإفطار والسحور

ص: 19

‌الفصل الأول: في تعريف وفضل الصوم

وفيه مباحث

المبحث الأول: تعريف الصيام

المبحث الثاني: فضل الصوم

المبحث الثالث: فضائل شهر رمضان

المبحث الرابع: ما يجب على الصائم تركه

المبحث الخامس: الحكمة من مشروعية الصيام

المبحث السادس: أقسام الصيام

المبحث السابع: حكم صيام رمضان

المبحث الثامن: ترك الصيام بغير عذر

ص: 20

‌المبحث الأول: تعريف الصيام

•‌

‌ الصَّوْمُ لغة:

الإمساكُ عن الشيء والتَّرْكُ له.

وقيل للصائم صائمٌ لإمْساكِه عن المطْعَم والمشْرَبِ والمنْكَح.

وقيل للصامت صائمٌ لإمساكه عن الكلام، قالت مريم عليها السلام:{إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلم الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26].

وقيل للفرس صائمٌ لإمساكه عن العَلَفِ مع قيامِه.

قال أَبو عبيدة: كلُّ مُمْسكٍ عن طعامٍ أَوْ كلامٍ أَوْ سيرٍ فهو صائمٌ

(1)

.

•‌

‌ الصوم شرعًا:

الإمساك عن المفطرات من شخص مخصوص مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتمامُه وكمالُه باجتناب المحظورات وعدم الوقوع فى المحرمات؛ لقوله عليه السلام:«مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»

(2)

.

فقولنا: «الإمساك عن المفطرات» كالأكل والشرب والجماع.

وقولنا: «من شخص مخصوص» أي المسلم العاقل

وقولنا: «من طلوع الفجر إلى غروب الشمس» هذا بالإجماع

(3)

.

(1)

«لسان العرب» (2530)، و «الصحاح» للجوهري (5/ 1970).

(2)

«تفسير القرطبى» (1/ 273)، و «حاشية ابن عابدين» (3/ 330)، و «كنز الدقائق» (2/ 145)، و «حاشية العدوي» (1/ 552)، و «المجموع» (4/ 323)، و «المغني» (4/ 323). قال الحافظ ابن عبد البر:«أما الصيام في الشريعة فمعناه الإمساك عن الأكل والشرب ووطء النساء نهارًا إذا كان تارك ذلك يريد به وجه الله وينويه، هذا معنى الصيام في الشريعة عند جميع علماء الأمة» ، انظر «الترتيب الفقهي للتمهيد» (7/ 300).

(3)

ونقل الحافظ ابن عبد البر الإجماع على ذلك فقال: «والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، على هذا إجماع المسلمين، فلا وجه للكلام فيه» . «التمهيد» (3/ 69).

ص: 21

الخلاصة: الصيام لغةً: الإمساك.

وشرعًا: الإمساك بنية من شخص مخصوص عن المفطرات، كالطعام والشراب والجماع، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

‌المبحث الثاني: فَضْلُ الصوم

‌1 - الصوم من أسباب المغفرة ورفعة الدرجات فى الآخرة:

قال تعالى: {إِنَّ المسْلمينَ وَالمسْلماتِ وَالمؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالمتَصَدِّقِينَ وَالمتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

‌2 - الصائمون هم السائحون

(1)

: قال تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالمعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ المؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]

(2)

.

(1)

تفسير: «السائحون» بالصائمين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السائحون هم الصائمون» ، أخرجه الطبري (14/ 503) قلت: وفى إسناده حكيم بن حزام. قال البخاري: منكر الحديث.

ورد أثر عن أبي هريرة رضي الله عنه بأنه قال: «السائحون هم الصائمون» ، أخرجه الطبري (14/ 503) وإسناده صحيح. وصح ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الطبري (14/ 503).

(2)

هذه الآية جاءت بعد قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله، وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها، جنات النعيم، وإلى الثمن المبذول فيها، وهو النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان. وكأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونيل الكرامات؟ فقال: هم {التَّائِبُونَ} أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات. {الْعَابِدُونَ} أي: المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت، فبذلك يكون العبد من العابدين. {الْحَامِدُونَ} لله في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على الله بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار. {السَّائِحُونَ} فسرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم

انظر تفسير السعدي.

ص: 22

‌3 - إضافته إلى الله تعالى تشريفًا لقدره وشانه وتنويهًا بسامق مكانه:

ففي الصحيحين

(1)

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قال اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151).

(2)

قال الحافظ «فتح الباري» (4/ 129): وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلماء فِي المرَاد بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " الصِّيَام لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ " مَعَ أَنَّ الْأَعْمَال كُلّهَا لَهُ وَهُوَ الَّذِي يَجْزِي بِهَا - عَلَى أَقْوَال:

أَحَدهَا: أَنَّ الصَّوْم لَا يَقَع فِيهِ الرِّيَاء كَمَا يَقَع فِي غَيْره. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لما كَانَتْ الْأَعْمَال يَدْخُلهَا الرِّيَاء وَالصَّوْم لَا يَطَّلِع عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ فِعْله إِلَّا اللَّه، فَأَضَافَهُ اللَّه إِلَى نَفْسه، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيث:" يَدَع شَهْوَته مِنْ أَجْلِي ".

ثَانِيهَا: أَنَّ المرَاد بِقَوْلِهِ " وَأَنَا أَجْزِي بِهِ " أَنِّي أَنْفَرِد بِعِلم مِقْدَار ثَوَابه وَتَضْعِيف حَسَنَاته. وَأَمَّا غَيْره مِنْ الْعِبَادَات فَقَدْ اِطَّلَعَ عَلَيْهَا بَعْض النَّاس. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْمَال قَدْ كَشَفْت مَقَادِير ثَوَابهَا لِلنَّاسِ وَأَنَّهَا تُضَاعَف مِنْ عَشْرَة إِلَى سَبْعمِائَةِ إِلَى مَا شَاءَ اللَّه، إِلَّا الصِّيَام فَإِنَّ اللَّه يُثِيب عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِير؛ لِأَنَّ الْكَرِيم إِذَا قَالَ:(أَنَا أَتَوَلَّى الْإِعْطَاء بِنَفْسِي) كَانَ فِي ذَلِكَ إِشَارَة إِلَى تَعْظِيم ذَلِكَ الْعَطَاء وَتَفْخِيمه.

ثَالِثهَا: مَعْنَى قَوْله " الصَّوْم لِي " أَيْ أَنَّهُ أَحَبّ الْعِبَادَات إِلَيَّ وَالمقَدَّم عِنْدِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْل اِبْنِ عَبْد الْبَرّ: كَفَى بِقَوْلِهِ " الصَّوْم لِي " فَضْلًا لِلصِّيَامِ عَلَى سَائِر الْعِبَادَات.

رَابِعِهَا: الْإِضَافَة إِضَافَة تَشْرِيف وَتَعْظِيم، كَمَا يُقَال:(بَيْت اللَّه) وَإِنْ كَانَتْ الْبُيُوت كُلّهَا لِلَّهِ. قَالَ الزَّيْن بْن المنِير: التَّخْصِيص فِي مَوْضِع التَّعْمِيم فِي مِثْل هَذَا السِّيَاق لَا يُفْهَم مِنْهُ إِلَّا التَّعْظِيم وَالتَّشْرِيف.

خَامِسهَا: أَنَّ الِاسْتِغْنَاء عَنْ الطَّعَام وَغَيْره مِنْ الشَّهَوَات مِنْ صِفَات الرَّبّ جل جلاله، فَلما تَقَرَّبَ الصَّائِم إِلَيْهِ بِمَا يُوَافِق صِفَاته أَضَافَهُ إِلَيْهِ.

ص: 23

‌4 - الصوم فى سبيل الله يباعد عن النيران:

ففي «الصحيحين»

(1)

عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا في سَبِيلِ اللَّهِ

(2)

إِلَّا بَاعَدَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»

(3)

.

‌5 - الصوم وقاية وجُنة من النار:

ففي الصحيحين

(4)

من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» .

وعن عثمان بن أبى العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنْ النَّارِ، كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْقِتَالِ»

(5)

، وفى لفظٍ:«الصِّيَامُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ» .

وقال ابن العربي

(6)

: إنما كان الصوم جُنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات، فالحاصل أنه إذا كف نفسه عن الشهوات في الدنيا، كان ذلك ساترًا

(1)

أخرجه البخاري (2840)، ومسلم (1153).

(2)

في سبيل الله: أي صام وهو مجاهد، ما لم يضعفه الصوم عن الجهاد، أما إذا أضعفه فالفطر في =

الجهاد في حقه أَوْلى.

(3)

الْخَرِيف زَمَان مَعْلُوم مِنْ السَّنَةِ، وَالمرَاد بِهِ هُنَا اَلْعَام، وَتَخْصِيص اَلْخَرِيفِ بِالذِّكْرِ دُونَ بَقِيَّةِ اَلْفُصُولِ - اَلصَّيْف وَالشِّتَاء وَالرَّبِيع - لِأَنَّ اَلْخَرِيفَ أَزْكَى اَلْفُصُول لِكَوْنِهِ يُجْنَى فِيهِ اَلثِّمَارُ، انظر «فتح الباري» (6/ 57).

(4)

أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151).

(5)

صحيح: أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 22، 217)، والنسائي (4/ 167)، وابن ماجه «السنن» (1639)، من طرق: عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعيد بن أبي هند، أن مطرفًا من بنى عامر بن صعصعة، عن عثمان بن أبي العاص به، وأخرجه النسائي «الصغرى» (4/ 167)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 4)، وغيرهما من طرق: عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي هند به. وأخرجه أحمد (4/ 217)، والطبرانى «الكبير» (8364)، من طريق حماد بن سلمة، عن سعيد الجريرى، عن يزيد بن عبد الله، عن مطرف، عن عثمان به.

(6)

«فتح الباري» (4/ 125): قال صاحب «النهاية» : مَعْنَى كَوْنه جُنَّة أَيْ يَقِي صَاحِبه مَا يُؤْذِيه مِنْ الشَّهَوَات.

ص: 24

له من النار في الآخرة.

وفي «الصحيحين»

(1)

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»

(2)

.

أي أن الصوم قامع لشهوة النكاح وعدم الوقوع في الزنا. وهذا يدل على أن الصوم يُضعف شهوات النفس التي تدخل النار.

‌6 - باب الريان للصائمين يوم القيامة:

ففي «الصحيحين»

(3)

عن سهل بن سعد الساعدى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الْجَنَّةِ بَابًا يُقال لَهُ: الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلم يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ» .

قال ابن حجر

(4)

: الرَّيَّان بَاب مِنْ أَبْوَاب الْجَنَّة يَخْتَصّ بِدُخُولِ الصَّائِمِينَ مِنْهُ، وَهُوَ مِمَّا وَقَعَت المنَاسَبَة فِيهِ بَيْن لَفْظه وَمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَقّ مِنْ الرِّيّ وَهُوَ مُنَاسِب لِحَالِ

(1)

أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400).

(2)

قال ابن حجر «فتح الباري» (4/ 142): قَوْلُهُ (فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ): بِكَسْرِ الْوَاوِ وَبِجِيمٍ وَمَدٍّ، وَهُوَ رَضّ الْخُصْيَتَيْنِ، وَقِيلَ: رَضّ عُرُوقِهِمَا، وَمَنْ يُفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ تَنْقَطِعُ شَهْوَته، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الصَّوْمَ قَامِع لِشَهْوَة النِّكَاح. وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَزِيدُ فِي تَهْيِيجِ الْحَرَارَةِ وَذَلِكَ مِمَّا يُثِيرُ الشَّهْوَةَ، لَكِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ فَإِذَا تَمَادَى عَلَيْهِ وَاعْتَادَهُ سَكَن ذَلِكَ، وَاللَّه أَعْلم.

(3)

أخرجه البخاري (1896)، ومسلم (1152). وفي «الصحيحين» عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ؛ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ» . فَقال أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ دُعِيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» .

والمراد بالزوجين: إنفاق شيئين من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد.

(4)

«فتح الباري» (4/ 134).

ص: 25

الصَّائِمِينَ، وَسَيَأْتِي أَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لم يَظْمَأ. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: اُكْتُفِيَ بِذِكْرِ الرِّيِّ عَنْ الشِّبَع لِأَنَّهُ يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَسْتَلْزِمهُ، قُلْت: أَوْ لِكَوْنِهِ أَشَقّ عَلَى الصَّائِم مِنْ الْجُوع.

‌7 - فرح الصائم بصومه يوم القيامة:

«ففي الصحيحين»

(1)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ حِينَ يُفْطِرُ وَفَرْحَةٌ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ المسْكِ» .

‌8 - الصوم كفارة للخطيئات:

ففي «الصحيحين»

(2)

عن حذيفة قال: قال: عمر رضي الله عنه: «من يحفظ حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فى الفتنة؟ قال: حذيفة: أنا سمعته يقول: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ، تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ» .

‌9 - الصوم لا مثل له:

عن أبي أُمامة الباهلى رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: مُرني بأمر آخذه عنك. قال: «عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ»

(3)

.

‌10 - وهناك حديثٌ يدلُّ على أن الصيام يشفع لصاحبه يوم القيامة،

ولكن فى إسناده حُيّىُّ بن عبد الله، وفيه مقال.

(1)

أخرجه البخاري (7492)، ومسلم (1151).

(2)

أخرجه البخاري (1895)، ومسلم (144).

(3)

صحيح: أخرجه أحمد في «المسند» (5/ 249)، والنسائي (2221، 2222)، وغيرهما، من طرق عن شعبة، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن أبي نصر الهلالى، عن رجاء بن حيوة عن أبي أمامة .. الحديث. (وهناك اختلاف فى أبي نصر الهلالى): قال ابن حبان بعد ذكر الحديث: أبو نصر هذا هو حميد بن هلال. وقال البخاري في «التاريخ الكبير» (1/ 2/ 346): حميد بن هلال أبو نصر. وقال الحاكم فى «المستدرك» : واضطرب فيه قول أبي نعيم فقال مرة: حميد بن هلال. وقال مرة: أبو نصر يشبه أن يكون يحيى بن أبي كثير؛ لأنه قد روى عن رجاء بن حيوة، ويحتمل أن يكون على بن أبي حملة فإنه يكنى أبا نصر.

قلت: ولكن هذا الخلاف فى اسم أبي نصر الهلالى لا يضر فإن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب قد صرح بالسماع من رجاء بن حيوة دون أبي نصر الهلالى، وذلك فى بعض الطرق.

أخرجه النسائي (2219، 2220)، وأحمد في «المسند» (5/ 248، 249، 255، 258)، وغيرهما.

ص: 26

عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ»

(1)

.

‌المبحث الثالث: فضائل شهر رمضان

‌1 - شهر القرآن:

قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].

‌2 - تصفيدُ الشياطين وفتحُ أبواب الجنان وغلق أبواب النيران:

ففي «الصحيحين»

(2)

، عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ

(3)

، ...............

(1)

أخرجه أحمد «المسند» (2/ 174)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 554) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة، وأبو نعيم «الحلية» (8/ 161)، من طريق عبد الله بن وهب، وابن لهيعة، ورشدين بن سعد، كلهم، عن حيى بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلى، عن عبد الله بن عمرو به. وفى إسناده حيى بن عبد الله، قال البخاري:«فيه نظر» ، قال أحمد:«أحاديثه مناكير» ، وقال النسائي:«ليس بالقوى» ، وقال ابن معين:«ليس به بأس» ، وقال ابن عدي:«أرجو أنه لا بأس به إذا روى عنه ثقة» . وشفاعة القرآن لها شواهد تشهد له، منها فى الصحيح:«اقرءوا القرآن فإنه يأتى شفيعًا لأصحابه يوم القيامة» ، ولكنى لم أقف على أحاديث أُخر تشهد بأن الصيام يشفع للعبد يوم القيامة، والله أعلم.

(2)

أخرجه البخاري (1899)، ومسلم (1079) واللفظ له.

(3)

تُفتح أبواب الجنة في رمضان حقيقة لكثرة الطاعات. قال الحافظ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَتْح أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عِبَارَة عَمَّا يَفْتَحُهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ وَذَلِكَ أَسْبَاب لِدُخُولِ الْجَنَّةِ.

وفي رواية للبخاري: «فَتْح أَبْوَابِ السَّمَاءِ» . وَقَالَ الطِّيبِيّ: فَائِدَة فَتْح أَبْوَابِ السَّمَاءِ تَوْقِيف الملَائِكَة عَلَى اِسْتِحْمَاد فِعْل الصَّائِمِينَ وَأَنَّهُ مِنْ اللَّهِ بِمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفِيهِ إِذَا عَلم المكَلَّف ذَلِكَ بِإِخْبَارِ

الصَّادِقِ مَا يَزِيدُ فِي نَشَاطِهِ وَيَتَلَقَّاهُ بِأَرْيَحِيَّة.

وقال الحافظ: «فَتْحُ أَبْوَاب السَّمَاءِ» كِنَايَة عَنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَة وَإِزَالَة الْغَلْق عَنْ مَصَاعِدَ أَعْمَال الْعِبَادِ، تَارَةً بِبَذْل التَّوْفِيق وَأُخْرَى بِحُسْنِ الْقَبُولِ. والصحيح: أن أبواب الجنة تفتح حقيقة وقد يكون ذلك لتنزل الملائكة وتنزل الرحمات لكثرة الطاعات في رمضان والله أعلم.

ص: 27

وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ

(1)

، وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ»، وفى البخاري:«وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ»

(2)

.

‌3 - كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة:

روى البخاري

(3)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

(1)

قال الحافظ: و «غَلْق أَبْوَاب النَّار» عِبَارَة عَنْ صَرْفِ الْهِمَمِ عَنْ المعَاصِي الْآيِلَةِ بِأَصْحَابِهَا إِلَى النَّارِ. وقال في موضع آخر: و «غَلْقُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ» كِنَايَة عَنْ تَنَزُّه أَنْفُسِ الصُّوَّام عَنْ رِجْس الْفَوَاحِش وَالتَّخَلُّص مِنْ الْبَوَاعِثِ عَنْ المعَاصِي بِقَمْع الشَّهَوَات.

(2)

قوله: «وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» . قَالَ الْحَلِيمِيُّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يكون المرَاد من الشَّيَاطِين مسترقوا السَّمْعِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ تَسَلْسُلَهُمْ يَقَعُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ دُونَ أَيَّامِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُنِعُوا فِي زَمَنِ نُزُولِ الْقُرْآنِ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، فَزِيدُوا التَّسَلْسُلَ مُبَالَغَةً فِي الْحِفْظِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ المرَادُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَا يَخْلُصُونَ مِنَ افْتِتَانِ المسْلمينَ إِلَى مَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ؛ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالصِّيَامِ الَّذِي فِيهِ قَمْعُ الشَّهَوَاتِ، وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالذِّكْرِ.

وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم، وهم المردة منهم. قال عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته، ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ رَجَّحَ حَمْلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ نَرَى الشُّرُورَ وَالمعَاصِيَ وَاقِعَةً فِي رَمَضَانَ كَثِيرًا، فَلَوْ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ لم يَقَعْ ذَلِكَ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا إِنَّمَا تَقِلُّ عَنِ الصَّائِمِينَ الصَّوْمَ الَّذِي حُوفِظَ عَلَى شُرُوطِهِ وَرُوعِيَتْ آدَابُهُ أَوِ المصَفَّدُ بَعْضُ الشَّيَاطِين وهم المردة لاكلهم كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَوِ المقْصُودُ تَقْلِيلُ الشُّرُورِ فِيهِ وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ، فَإِنَّ وُقُوع ذَلِك فِيهِ أقل من غَيره إذ لا يَلْزَمُ مِنْ تَصْفِيدِ جَمِيعِهِمْ أَنْ لَا يَقَعَ شَرٌّ وَلَا مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ لِذَلِكَ أَسْبَابًا غَيْرَ الشَّيَاطِينِ كَالنُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ وَالشَّيَاطِينِ الْإِنْسِيَّةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ فِي تَصْفِيدِ الشَّيَاطِينِ فِي رَمَضَانَ إِشَارَة إِلَى رَفْعِ عُذْرِ المكَلَّفِ كَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ قَدْ كُفَّتِ الشَّيَاطِينُ عَنْكَ فَلَا تَعْتَلَّ بِهِمْ فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ وَلَا فِعْلِ المعْصِيَةِ. انظر:«فتح الباري» (4/ 136، 137). والراجح أن الألفاظ تُحمل على حقيقتها ولا تؤول.

(3)

البخاري (7423، 2790).

ص: 28

«مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» .

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ المكْتُوبَةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ المفْرُوضَةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ» قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلما وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا»

(1)

.

عن أَبي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اعْبَدُوا رَبَّكُمْ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ»

(2)

.

‌4 - شهر الغفران:

صوم رمضان إيمانًا واحتسابًا سببٌ لمغفرة ما تقدَّم من الذنوب، ففي «الصحيحين»

(3)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا

(4)

، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ المنْبَرَ فَقَالَ:«آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ» فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ المنْبَرَ قُلْتَ:«آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ؟» قَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ:

(1)

البخاري (1397).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه أحمد (5/ 262، 251)، والترمذي (616) وغيرهما عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ الْكَلَاعِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ به. وروى ابن أبي عاصم في «السنة» (1061)، والطبراني (7535)، وفي «مسند الشاميين» (834) وغيرهم من طرق عن عَمْرو بن عُثْمَانَ الْحِمْصِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بن عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا شُرَحْبِيلُ بن مُسْلم، ومُحَمَّدُ بن زِيَادٍ، أنهما سمعا أبا أمامة الباهلي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلا أُمَّةَ بَعْدَكُمْ، أَلا فَاعْبُدوا رَبُّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالَكُمْ طَيْبَةً بِهَا أَنْفُسَكُمْ، وَأَطِيعُوا وُلاةَ أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ".

(3)

أخرجه البخاري (1901)، ومسلم (709).

(4)

قال ابن حجر: وَالمرَاد بِالْإِيمَانِ الِاعْتِقَاد بِحَقِّ فَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ، وَبِالِاحْتِسَابِ طَلَب الثَّوَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الْخَطَّابِيّ: اِحْتِسَابًا أَيْ عَزِيمَة، وَهُوَ أَنْ يَصُومَهُ عَلَى مَعْنَى الرَّغْبَة فِي ثَوَابِهِ طَيِّبَةً نَفْسُهُ بِذَلِكَ غَيْرَ مُسْتَثْقِل لِصِيَامِهِ وَلَا مُسْتَطِيل لِأَيَّامِهِ.

ص: 29

مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلم يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، فَلم يَبَرَّهُمَا، فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ ذُكِرْتَ عَنْدَهُ فَلم يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ»

(1)

.

وروى مسلم

(2)

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصَّلَوَاتِ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لما بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» .

‌5 - رمضان شهر الجود:

ففي الصحيحين

(3)

عن ابن عباس {قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَد مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ، حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ المرْسَلَةِ»

(4)

.

(1)

أخرجه أبو يعلى (5922)، وابن حبان (907)، والطبراني في «الأوسط» (8131) عن حَفْص بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلمةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ به.

قلت: وهذا إسناد حسن، وروراه أحمد في «المسند» (2/ 254)، والترمذي في «السنن» (3545) وغيرهما عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلم يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَانْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلم يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ» . وفي إسناده: عبد الرحمن بن إسحاق: قال الحافظ: صدوق.

وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (646)، وابن خزيمة (1888)، وغيرهما عن كثير بن زيد الأسلمى عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ارتقى المنبر

فذكر بمعناه. وفى إسناده كثير بن زيد الأسلمى: صدوق يخطئ، والوليد بن رباح صدوق.

(2)

أخرجه مسلم (233).

(3)

أخرجه البخاري (3554، 1902)، ومسلم (2308).

(4)

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (4/ 139): قَالَ الزَّيْن بْن المنَيِّرِ: وَجْه التَّشْبِيه بَيْن أَجُودِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْرِ وَبَيْن أَجُودِيَّة الرِّيح المرْسَلَة أَنَّ المرَادَ بِالرِّيحِ رِيحُ الرَّحْمَة الَّتِي يُرسُلِهَا اللهُ تَعَالَى لِإِنْزَالِ الْغَيْثِ الْعَامِّ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِإِصَابَةِ الْأَرْضِ الميْتَةِ وَغَيْرِ الميْتَةِ، أَيْ فَيَعُمُّ خَيْرُهُ وَبِرُّهُ مَنْ هُوَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ وَمَنْ هُوَ بِصِفَةِ الْغِنَى وَالْكِفَايَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَعُمُّ الْغَيْث النَّاشِئَة عَنْ الرِّيحِ المرْسَلَةِ صلى الله عليه وسلم.

ص: 30

‌6 - الصيام سببٌ لجعلك من الصدِّيقين والشُّهداء:

عن عمرو بن مُرة الجُهنى رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ الزَّكَاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَقُمْتُهُ، فَمِمَّنْ أَنَا؟ قَالَ:«مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ»

(1)

.

في كل يوم عتقاء ولكل منهم دعوة مستجابة: عن الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - هُوَ شَكَّ، يَعْنِي الْأَعْمَشَ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ عُتَقَاءَ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْهُمْ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ»

(2)

.

‌8 - فيه ليلة القدر:

من فضائل هذا الشهر العظيم أن فيه ليلةً هي خير من ألف شهرٍ أى: للعبادة فيها، قال الله عز وجل:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الملَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5].

قال القرطبي: معنى قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أى: العمل فيها خيرٌ من العمل فى ألف شهر.

وروى البخاري

(3)

، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .

فينبغى للمؤمن أن يقوم فى هذه الليلة للواحد القهار بِذُلٍّ وانكسارٍ، يدعوه ويرجوه أن يغفرَ له زلاتِه، ويتجاوزَ عن سيئاتِه؛ فإن هذه الليلة تُحْسَب بالعمر.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه يعقوب بن سفيان «المعرفة» (1/ 333)، وابن خزيمة (2212)، وابن حبان (3438).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2/ 254) وغيره من طريق أَبي مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ. وإسناده صحيح، والشك في صحابي الحديث لا يضر.

(3)

أخرجه البخاري (2014).

ص: 31

قال ابن رجب

(1)

: فالمبادرة المبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقى من الشهر، فعسى أن يستدرك ما فات من ضياع العمر.

تَوَلَّى العُمُر في سهو

وفي لَهْوٍ وفي خُسْر

فيا ضيعةَ ما أَنْفَقْ

تُ في الأيام من عُمْري

وما لِي في الَّذِي ضيَّعْ

تُ من عمريَ من عُذْرِ

فما أغْفَلَنَا عن وا

جبات الحمد والشكر

أمَا قد خَصَّنا الل

هُ بشهرٍ أيِّما شهرِ

بشهرٍ أنْزَلَ الرحم

نُ فيهِ أشرفَ الذِّكْرِ

وهل يُشبِهُه شهرٌ

وفيه ليلةُ القدرِ

فكمْ مِنْ خَبرٍ صَحَّ

بما فِيها من الخير

رَوَيْنَا عن ثقاتٍ أنَّ

ها تُطْلَبُ في الوِتر

فطُوبى لأمْرئ يطلُ

بُهَا في هِذِه العَشرِ

فَفِيْهَا تنزلُ الأملا

كُ بالأنوار والبرِ

وقد قال: «سلامٌ هـ

يَ حتى مَطْلعِ الفجرِ

ألَا فادَّخِروها إنْ

نَها من أنْفَسِ الذُّخر

فكمْ مِنْ مُعْتَقٍ فيها

من النارِ ولا يَدْرِي

يا ليلة القدر للعابدين اشهدي، يا أقدام القانتين اركعى لربك واسجدى، يا ألسنة السائلين جِدِّي فى المسألة واجتهدي.

يا رجال الليل جدوا

رب داعٍ لا يُرد

ما يقوم الليل إلا

من له عزم وجد

(1)

«لطائف المعارف» (204).

ص: 32

ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة، بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرون من ليالى البعد والهجر، يا من ضاع عمره فى لا شيء، استدرك ما فاتك فى ليلة القدر، فإنها تحسب بالعمر. يا يعقوب الهجر، قد هبت ريح يوسف الوصل، فلو استنشقت لعدت بعد العمى بصيرًا، ولوجدت ما كان لفقده فقيرًا.

كان لى قلب أعيش به

ضاع منى فى تقلبه

رب فاردده على فقد

عيل صبرى فى تطلبه

وأغثنى ما دام بى رمق

يا غياث المستغيث به

لو قام المذنبون فى هذه الأسحار على أقدام الانكسار، ورفعوا قصص الاعتذار مضمونها:{يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] لبزر لهم التوقيع عليها: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].

أشكو إلى الله كما قد شكى

أولاد يعقوب إلى يوسف

قد مسنى الضر وأنت الذى

تعلم حالى وترى موقفى

بضاعتى المزجاة محتاجة

إلى سماح من كريم وفى

فقد أتى المسكين مستعطرا

جودك فارحم ذله واعطف

فأوف كيلى وتصدق على

هذا المقل البائس الأضعف

لليلة القدر عند الرب تفضيل

وفي فضائلها قد جاء تنزيل

فجد فيها على خير تنال به

أجرًا فللخير عند الرب تفضيل

واحرص على فعل أعمال تُسر بها

يوم المعاد ولا يغررك تأميل

فكم رأينا صحيح الجسم ذا أمل

في ليلة القدر لم يبله تنويل

فتب إلى الله واحذر من عقوبته

عن كل ما فيه توبيخ وتنكيل

ص: 33

ولا تغرنك الدنيا وزخرفها

فكل شيء سوى التقوى أباطيل

هي ليلة تُتلقى فيها الوفود، ويحصل لهم المقصود من القبول والفوز والسعود، أترى يؤلمك أيها المطرود؟

هذه أوقات يربح فيها من فهم ودرى، ويصل إلى مراده كل من جد وسرى، ويفك فيها العاني وتطلق الأسرى، تقدم القوم وأنت راجع إلى ورا أو ليس كل هذا قد جرى وكأنه لم يجر، قال الله تعالى:{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5].

وقد جاء في صحيح الإسناد: أنها تُلتمس في الأفراد فاطلبوها في هذه الأعداد تظفروا بحسن القبول ونيل المراد {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .

هي ليلة يجود فها الرب على العباد، ويقضي فيها القضاء بما شاء وأراد، تُكتب فيها الآجال والأرزاق، وهي أفضل الليالي في حقنا على الإطلاق، فاغتنموها فإنها عظيمة القدر {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .

فليلة القدر خير قال خالقنا

من ألف شهر هنيئًا من لها شهدا

فيها القرآن بأمر الله أنزله

بعلمه وبهذا النص قد وردا

فيها تُفتح أبواب السماء لمن

مد الأكف وبالأعمال مجتهدا

وينزل الروح فيها والملائك من

عند المهيمن لن تحصي لهم عددا

يا فوز عبد رآها إنه رجل

قد عاش في الدهر عيشًا دائمًا رغدًا

وفاز بالأمن والغفران مغتبطًا

ونال ما يرتجى من ربه أبدا

فاطلب من الله إن وافيتها سحرا

جنات عدن تكن من جملة السُّعدا

وابك ونُحْ وتضرع في الدجى أسفا

وقل إلهي تفضل بالجميل غدا

شهر يفوق على الشهور بليلة

من ألف شهر فُضلت تفضيلا

فاجهد عساك تنالها فيما بقي

بالجد واحذر أن تكون غَفولا

ص: 34

أيها المسلمون اجتهدوا في هذا الليالي المباركات فإنها فرصة العمر، والفرص لا تدوم، والله أخبر أن ليلة القدر خير من ألف شهر، يعني تزيد على ثمانين عامًا، وهي عمر طويل لو قضاه الإنسان كله في طاعة الله فليلة واحدة، وهي ليلة القدر، خير منه وأفضل، وهذا فضل عظيم وثواب جزيل وخير عميم، من وُفق لها يُغفر له ما تقدم من ذنبه فيكون من الذنوب التي فَعلها كيوم ولدته أمه.

عبدَ الله جِد واجتهد وشمِّر ونافس في الأعمال الصالحة، لعلك تدرك ليلة القدر وتفوز بالعتق والأجر وجائزة الرب، لعلك تكون من المقبولين، لعل الرحيم الرحمن ينظر إليك فيرحمك رحمة لا تشقى بعدها أبدًا، فما هي إلا أيام وساعات فنافس وسارع وسابق أيامًا معدودات، جد فيما بقي منها.

‌9 - يختص بمزيد من الطاعات:

من فضائل شهر رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فى العشر الأواخر من رمضان، وكان يخصُّ هذا الشهر بمزيدٍ من العبادة. ففي «الصحيحين»

(1)

عن عائشة رضي الله عنها: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» . وفي «الصحيحين»

(2)

عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ في الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ، فَاعْتَكَفَ عَامًا، حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ - وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ - قَالَ:«مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِف الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ» .

قال ابن رجب

(3)

: فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به، أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية، على كل حال كان بعضهم لا يزال منفردًا فى بيته خاليًا بربه، فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: «أنا جليس من

(1)

أخرجه البخاري (2024)، ومسلم (1174).

(2)

أخرجه البخاري (2027)، ومسلم (1167).

(3)

«لطائف المعارف» (203).

ص: 35

ذكرنى».

أوحشتنى خلواتى

بك من كل أنيسي

وتفردت فعاينتك

بالغيب جليسي

وقال فى موضع آخر: كانت امرأة حبيب بن أبي محمد تقول له بالليل: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا.

يا نائمًا بالليل كم ترقد

قم يا حبيبى قد دنا الموعد

وخذ من الليل وأوقاته

وردًا إذا ما هجع الرُّقَّد

ما نام حتى يتقفى ليله

لم يبلغ المنزل أو يجهد

قل لذوى الألباب أهل التقى

قنطرة العرض لكم موعد

وقال الشاعر:

أدم الصيام مع القيام تعبدًا

فكلاهما عملان مقبولا

قم في الدجى واتل الكتاب ولا تنم

إلا كنومة حائر ولهان

فلربما تأتي المنية بغتة

فتساق من فرش إلى أكفان

يا حبذا عينان في غسق الدجى

من خشية الرحمن باكيتان

فالله ينزل كل آخر ليلة

لسمائه الدنيا بلا كتمان

فيقول: هل من سائل فأجيبه

فأنا القريب أجيب من ناداني

وقال آخر:

قم الليل يا هذا لعلك ترشد

إلى كم تنام الليل والعمر ينفد

أراك بطول الليل ويحك نائما

وغيرك في محرابه يتهجد

ولو علم البطال ما نال زاهد

من الأجر والإحسان ما كان يرقد

ص: 36

فصام وقام الليل والناس نوم

ويخلو برب واحد متفرد

بحزم وعزم واجتهاد ورغبة

ويعلم أن الله ذا العرش يعبد

ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها

لكان رسول الله حيا يخلد

أترقد يا مغرور والنار توقد

فلا حرها يطفى ولا الجمر يخمد

فيا راكب العصيان ويحك خلها

فتحشر عطشانا ووجهك أسود

فكم بين مشغول بطاعة ربه

وآخر بالذنب الثقيل مقيد

فهذا سعيد في الجنان منعم

وهذا شقي في الجحيم مخلد

كأني بنفسي في القيامة واقف

وقد فاض دمعي والمفاصل ترعد

وقد نصب الميزان

للفصل والقضا

وقال آخر:

امنع جفونك أن تذوقا مناما

وذر الدموع على الخدود سجاما

واعلم بأنك ميت ومحاسب

يا من على سخط الجليل أقاما

لله قوم أخلصوا في حبه

فرضى بهم واختصهم خداما

قوم إذا جن الظلام عليهم

باتوا هنالك سجدا وقياما

خمص البطون من التعفف ضمرا

لا يعرفون سوى الحلال طعاما

وقال آخر:

لله ساهر ليله ما يهجع

وَجِلُ الفؤاد من الذنوب مُصَدَّع

يبكي بدمع ساكب هفوَاتِهِ

والليل في جلبابه متبرقع

نَدِمٌ على ما كان من عصيانه

ملكا تذل له الملوك وتخضع

يا رب ما للذنب غيرك غافر

وإليك منه يا إلهي المفزع

يا رب عبدك ضارع فاغفر له

ما لم يزل يدعوك فيه ويضرع

ص: 37

وعن القاسم بن راشد الشيباني قال: كان رفاعة بن صالح نازلا عندنا وكان له أهل وبنات وكان يقوم فصلي ليلا طويلا فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته:

يا أيها الركب المعرّسونا

أكُلَّ هذا الليل ترقدونا

ألا تقومون فتصلونا

قال: فيتواثبون من هنا باك ومن ها هنا داع، ومن ها هنا قارئ ومن ها هنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السرى.

أرأيت يا أخي كيف يقضون ليلهم وكيف يحافظون على أوقاتهم؟ ونحن نهدر أيامنا ونضيع أعمارنا لا نبالي ولا نحرص على ذلك! وأرخص شيء عندنا الوقت، الدقائق تمر، والأنفاس لا تعود، وعمرك محاسب عليه فأعد حساباتك، واغتنم ساعاتك، لذا فاعلم حفظك الله أن قيام الليل هو طريق الصالحين. وسبيل العاملين، وتكفير لذنوب المذنبين، وهداية للفجرة والعاصين

(1)

.

ألا يا عين ويحك أسعديني

بطول الدمع في ظلم الليالي

لعلك في القيامة أن تفوزي

بخير الدهر في تلك العلالي

‌10 - عمرة في رمضان تعدل حجة:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فَعُمْرَةٌ فِى رَمَضَانَ تَقْضِى حَجَّةً»

(2)

. وفي رواية: «حَجَّةً مَعِي» .

فالعمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم في الثواب لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض؛ للإجماع على أن الاعتمار لا يجزئ عن حج الفرض. فهنيئًا لمن يوفق لعمرة في رمضان، هنيئًا له بحجة مع النبي العدنان.

‌11 - شهرا عيد لا ينقصان:

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «شَهْرَا عِيدٍ لَا يَنْقُصَانِ رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ»

(3)

.

(1)

أخطاء شائعة (ص 141 - 142)

(2)

البخاري (1782)، ومسلم (122 - 1256).

(3)

البخاري (1912)، ومسلم (1089).

ص: 38

معنى لا ينقصان في ثواب العمل فيهما: قال إسحاق: لا ينقصان في الفضيلة إن كانا تسعة وعشرين أو ثلاثين

(1)

.

‌12 - شهر رمضان شهر الصبر:

عن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَصَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ - صَوْمُ الدَّهْرِ»

(2)

.

‌المبحث الرابع: ما يجب على الصائم تركه

1 -

‌ قول الزور:

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»

(3)

.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» .

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، فَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ أَوْ جَهِلَ عَلَيْكَ فَلْتَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ»

(4)

.

(1)

قال الحافظ ابن حجر «فتح الباري» (4/ 149): وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلماء فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ: لَا يَكُونُ رَمَضَان وَلَا ذُو الْحِجَّةِ أَبَدًا إِلَّا ثَلَاثِينَ. وَهَذَا قَوْل مَرْدُود مُعَانِد لِلموْجُودِ المشَاهَدِ، وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ قَوْله صلى الله عليه وسلم:«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ» فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ رَمَضَان أَبَدًا ثَلَاثِينَ لم يَحْتَجْ إِلَى هَذَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ لَهُ مَعْنًى لَائِقًا. وَقَالَ أَبُو الْحَسَن كَانَ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ يَقُولُ: لَا يَنْقُصَانِ فِي الْفَضِيلَةِ إِنْ كَانَا تِسْعَة وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ. اِنْتَهَى. وَقِيلَ: لَا يَنْقُصَانِ مَعًا، إِنَّ جَاءَ أَحَدهمَا تِسْعًا وَعِشْرِينَ جَاءَ الْآخَر ثَلَاثِينَ وَلَا بُدَّ. وَقِيلَ: لَا يَنْقُصَانِ فِي ثَوَابِ الْعَمَلِ فِيهِمَا.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2/ 263).

(3)

أخرجه البخاري (1903).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه ابن خزيمة (1996)، والحاكم (1/ 430، 431).

ص: 39

قال: ابن خزيمة: بَابُ نَفْيِ ثَوَابِ الصَّوْمِ عَنِ الممْسِكِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَعَ ارْتِكَابِهِ مَا زُجِرَ عَنْهُ غَيْرَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ»

(1)

.

قال: ابن قدامة

(2)

: وَيَجِبُ عَلَى الصَّائِم أَنْ يُنَزِّهَ صَوْمَهُ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ. قال أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَعَاهَدَ صَوْمَهُ مِنْ لِسَانِهِ، وَلَا يُمَارِي، وَيَصُونَ صَوْمَهُ، كَانُوا إذَا صَامُوا قَعَدُوا في المسَاجِدِ، وَقَالُوا: نَحْفَظُ صَوْمَنَا. ولا يغتاب أحدًا ولا يعمل عملا يجرح به صومه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» .

وقال أبو هريرة: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ

» الحديث.

(1)

إسناده حسن: أخرجه ابن المبارك في «مسنده» (75)، وأحمد (2/ 441، والنسائي في «الكبرى» (3250)، وابن ماجه (1690)، وغيرهم من طريقى «أبي خالد الأحمر وعبد الله بن المبارك» عن أسامة بن زيد، عن سعيد المقبرى، عن أبي هريرة به.

وأخرجه النسائي في «الكبرى» (3249)، من طريق ابن المبارك، عن أسامة، عن سعيد المقبرى عن أبيه عن أبي هريرة به، وأخرجه النسائي (3251)، من طريق سويد، عن ابن المبارك، عن أسامة ابن زيد، عن سعيد المقبرى، عن أبي هريرة موقوفا، وفى إسناده أسامة بن زيد الليثى - صدوق.

ولكن تابع أسامة بن زيد، عمرو بن أبي عمرو، أخرجه أحمد (2/ 373)، وابن خزيمة (1997) وأبو يعلى (6551)، والحاكم (1/ 431)، من طرق عن إسماعيل بن جعفر، عن عمرو عن سعيد المقبرى، عن أبي هريرة به، وفى إسناده عمرو بن أبي عمرو وهو ثقة ربما وهم. قال الحافظ العراقى فى «فيض القدير»: إسناده حسن.

(2)

«المغني» (4/ 446).

ص: 40

• وهذه‌

‌ بعض المخالفات التي تقع في رمضان

في هذا الباب:

1 -

ارتكاب بعض الصوام المعاصي والسيئات ووقوعهم في المحرمات وبذاءة اللسان والظلم والعدوان والحقد والحسد والبغضاء وهم صيام، فتراه يصوم ولا يبالي على ماذا أفطر ولا يتحاشى في صومه عن غيبة ولا عن نظرة ولا عن فضول كلمة والفري في أعراض الناس يقطعون بذلك ساعات صومهم كما زعموا، وفي الحديث:«من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» ، ولله در القائل: أتزعم أنك صائم، وأنت في لحم أخيك سائم.

2 -

سماع الأغاني والموسيقى والألحان وهذا وإن كان محرما في غير رمضان، فتحريمه في رمضان أشد لشرف الزمان، فرمضان هو شهر القرآن لا شهر الألحان.

حب الكتاب وحب ألحان الغناء

في قلب عبد مؤمن لا يجتمعان

3 -

تضييع ليالي رمضان بالتلفاز وما فيه من أغان محرمة، وكلام مبتذل رخيص ورقص وميوعة وأفلام غرام هدامة خليعة وممارسة للعري والاختلاط والدعوة لمحاربة الفضيلة والحياء، فيقضي رمضان في سهرات ومسلسلات ومباريات ولهو، ففي الليل هائم وفي النهار نائم، ولله در القائل:

إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا

وتستحي مخلوقا فما شئت فاصنع

إذا قل ماء الوجه قل حياؤه

ولا خير في وجه إذا قل ماؤه

ورب قبيحة ما حال بيني

وبين ركوبها إلا الحياء

فكان هو الدواء لها ولكن

إذا ذهب الحياء فلا دواء

واذكر مناقشة الحساب فإنه

لابد يحصي ما جنيت ويكتب

لم ينسه الملكان حين نسيته

بل أثبتاه وأنت لاه تلعب

4 -

يقع البعض في رمضان في الكسل الشديد وكثرة النوم ولا سيما في نهار رمضان ومنهم من لا يستيقظ من نومه إلا قبيل المغرب لتناول الإفطار، أين الصيام إذن؟ وأين الصلوات المكتوبات؟ وأين ذكر الله وتلاوة القرآن؟ وترى السهر وتعظم البلية

ص: 41

لسهر هؤلاء على ما يغضب الله من متابعة للقنوات الفضائية وغير الفضائية والتي تبث العري والخلاعة والمجون ويزداد سعارها وخلاعتها في هذا الشهر الفضيل فأي صوم لهؤلاء الذين قضوا نهارهم في النوم وأفطروا على مشاهدة الأجساد العارية؟

والواجب اغتنام أيام رمضان بالتقرب إلى الله والاجتهاد والمنافسة فيها بالإقبال على مختلف الطاعات من صلاة فرائض ونوافل، وصيام وقيام وتبكير للمساجد وكثرة ذكر ولزوم استغفار ودعاء وأمر بمعروف ونهي عن منكر ودراسة وحفظ وقراءة للقرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار بتدبير وتعقل له واعتكاف وعمرة وصدقة وجود وتوبة وقراءة كتب العلم وحضور مجالس الذكر والوعظ واستماع أشرطة مفيدة وبذل للعمل ودعوة وسخاء وكفالة يتيم وتفطير صائم واجتهاد في بر الوالدين وصلة رحم وإكرام جار وتفقد أحوال المسلمين وقضاء حاجات الناس وعيادة مرضى وزيارة مقابر ومواساة للفقراء وللمساكين وإدخال سرور وغير ذلك من أنواع الطاعات.

5 -

الإفطار بعد غروب الشمس على الدخان قبل أكل أي شيء ولربما دخل المسجد وألقى السيجارة عند الباب وريحه الخبيثة تعصف وتفوح، ويا ويل من يصلي بجانبه أعانه الله على تحمل هذه الرائحة. استعن بالله تعالى وكن صاحب عزيمة وهمة عالية فلا تغلبك تلك الشهوة إني والله لأربأ بمثلك أن يدنس هاتين الشفتين الرطبتين بلا إله إلا الله بهذا الدخان الخبيث أيجوز أن تكون مسلما موحدا وتغلبك سيجارة، والله إن هذه هي الدناءة نسأل الله العافية، سائل نفسك أخي هل التدخين خبيث أم طيب؟ وأين أنت من كلام المولى:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .

هل تطيب نفسك بالتدخين في المسجد؟ ولم؟ هل هو نافع أم ضار؟ هل هو طعام أم شراب؟ أم هو دخان كاسمه؟ هل هو لذيذ أم كريه؟ هل فيه إيذاء برائحته الخبيثة؟ وهل هو إلا تبذير وإسراف وإضاعة للمال والمبذرون إخوان الشياطين، والله لا يحب المسرفين، (ادفع دينارًا واشرب نارًا).

يا من يريد دمار صحته ويه

وى الموت منتحرا بلا سكين

لا تيأسن فإن مثلك واجد

كل الذي ترجوه في التدخين

ص: 42

أقول: من ابتلي بالتدخين أو غيره من العادات الضارة فعليه أن يستغل شهر الصوم فيصوم عنه في ليله كما صام عنه في نهاره ليهجره إلى غير رجعة وأن يواصل عزيمته وقوة إرادته بالليل كما كانت بالنهار.

والنفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

وأن يقطع مجالسه السابقة ويعتاض عنها بمجالس أهل الخير والصلاح فهي خير عون له على ذلك بعد إعانة الله وتوفيقه.

صحبة الصالحين بلسم قلبي

إنها للنفوس أعظم راقي

6 -

المبالغة في الإنفاق وتناول الأطعمة وتضييع غالب الوقت في المطبخ والنهم والشبع المفرط بمشويات ومقليات ومشهيات ومقبلات ومشروبات ومطعومات وغيرها من المسميات، حتى أصبح رمضان عند كثير من الناس شهر الطعام والشراب والموائد لا شهر الصيام والقيام والفوائد.

فشهر رمضان عندهم مناسبة لملء البطون وجلب التخمة واستدعاء لأمراض البطنة وتخبط الجسم وعجزه عن القيام بالعبادات، وصار نشيده - ويا للأسف -:

إنما الدنيا طعام

وشراب ومنام

فإذا فاتك هذا

فعلى الدنيا السلام

قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} .

قال الشاعر:

فإن الداء أكثر ما تراه

يكون من الطعام أو الشراب

لقد جاع فيها الأنبياء كرامة

وقد شبعت فيها بطون البهائم

ولذلك سئل أحد الحكماء عن الطعام فقال: (ينبغي أن نأكل لنعيش لا أن نعيش لنأكل).

7 -

إذا تأملنا واقع كثير من النساء في رمضان وكيف تقضي وقتها رثَينا لحالها وعزيناها، فالنوم في نهار رمضان يأخذ نصيب الأسد من وقت المرأة المسلمة.

ثم يأتي في الدرجة الثانية المطبخ، فنجدها تنام إلى الظهر ثم تبدأ بترتيب المنزل ثم الدخول إلى المطبخ لإعداد وجبة الإفطار إلى حوالي العصر، وبعد العصر إعداد

ص: 43

المشروبات ومائدة الإفطار، وبعد الإفطار الاستعداد لمأدبة العشاء، وبعد العشاء العودة إلى المطبخ لغسل الأواني ثم الاشتغال بالمسلسلات أو المكالمات الهاتفية الفضولية، أو التجول في الأسواق بلا ضرورة ولا حاجة ملحة، وهكذا!! إلى وقت السحور، ثم إعداد وجبة السحور، ثم النوم

فبالله عليك هل استفدت من شهر الرحمات؟! هل تعرضت إلى نفحات الرحمن؟!

قال الشاعر:

فبادر إلى الخيرات قبل فواتها

وخالف مراد النفس قبل مماتها

ستبكي نفوس في القيامة حسرة

على فوت أوقات زمان حياتها

فلا تغتر بالعز والمال والمنى

فكم قد بلينا بانقلاب صفاتها

8 -

الجهل بأحكام الصيام من شروط ومفسدات، وعدم السؤال عنها قبل مباشرتها، قال الله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، وفي الحديث:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ولله در القائل:

ومن غدا بغير علم بعمل

أعماله مردودة لا تقبل

(1)

* * *

ص: 44

‌المبحث الخامس: الحكمة من مشروعية الصيام

قال ابن القيم: المقْصُودُ مِنْ الصّيَامِ: حَبْسَ النّفْسِ عَنْ الشّهَوَاتِ، وَفِطَامَهَا عَنْ المأْلُوفَاتِ، وَتَعْدِيلَ قُوّتِهَا الشّهْوَانِيّةِ؛ لِتَسْتَعِدّ لِطَلَبِ مَا فِيهِ غَايَةُ سَعَادَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمّا فِيهِ حَيَاتُهَا الْأَبَدِيّةُ، وَيَكْسِرُ الْجُوعُ وَالظّمَأُ مِنْ حِدّتِهَا وَسَوْرَتِهَا، وَيُذَكّرُهَا بِحَالِ الْأَكْبَادِ الْجَائِعَةِ مِنْ المسَاكِينِ، وَتُضَيّقُ مَجَارِي الشّيْطَانِ مِنْ الْعَبْدِ بِتَضْيِيقِ مَجَارِي الطّعَامِ وَالشّرَابِ، وَتَحْبِسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنْ اسْتِرْسَالِهَا لِحُكْمِ الطّبِيعَةِ فِيمَا يَضُرّهَا في مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا، وَيُسَكّنُ كُلّ عُضْوٍ مِنْهَا وَكُلّ قُوّةٍ عَنْ جِمَاحِهِ وَتُلْجَمُ بِلِجَامِهِ فَهُوَ لِجَامُ المتّقِينَ، وَجُنّةُ المحَارِبِينَ، وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ وَالمقَرّبِينَ، وَهُوَ لِرَبّ الْعَالمينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ؛ فَإِنّ الصّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَإِنّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ؛ فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النّفْسِ وَتَلَذّذَاتِهَا إيثَارًا لمحَبّةِ اللّهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَهُوَ سِرّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبّهِ لَا يَطّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ المفْطِرَاتِ الظّاهِرَةِ، وَأَمّا كَوْنُهُ تَرْكَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَشَهْوَتِهِ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَطّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصّوْمِ.

وللصوم تأثيرٌ عجيبٌ فى حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة، وحِميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التى إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغِ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصومُ يحفظ على القلب والجوارح صحَّتها، ويُعيد إليها ما استلبته منها أَيْدِي الشّهَوَاتِ؛ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التّقْوَى، كَمَا قال تعالى:{يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ} . وَقال: النبِي صلى الله عليه وسلم: «الصّوْمُ جُنّةٌ» . وَأَمَرَ مَنْ اشْتَدّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النّكَاحِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِالصّيَامِ، وَجَعَلَهُ وِجَاءَ هَذِهِ الشّهْوَةِ.

ص: 45

وَالمقْصُودُ أَنّ مَصَالِحَ الصّوْمِ لما كَانَتْ مَشْهُودَةً بِالْعُقُولِ السّلِيمَةِ وَالْفِطَرِ المسْتَقِيمَةِ شَرَعَهُ اللّهُ لِعِبَادِهِ رَحْمَةً بِهِمْ وَإِحْسَانًا إلَيْهِمْ وَحِمْيَةً لَهُمْ وَجُنّةً، وَكَانَ هَدْيُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ أَكْمَلَ الْهَدْيِ، وَأَعْظَمَ تَحْصِيلٍ لِلمقْصُودِ وَأَسْهَلَهُ عَلَى النّفُوسِ.

وَلما كَانَ فَطْمُ النّفُوسِ عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا مِنْ أَشَقّ الْأُمُورِ وَأَصْعَبِهَا تَأَخّرَ فَرْضُهُ إلَى وَسَطِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، لما تَوَطّنَتْ النّفُوسُ عَلَى التّوْحِيدِ وَالصّلَاةِ، وَأَلِفَتْ أَوَامِرَ الْقُرْآنِ فَنُقِلَتْ إلَيْهِ بِالتّدْرِيجِ

(1)

.

‌المبحث السادس: أقسام الصيام

• ينقسم الصوم إلى قسمين: واجب، وتطوع.

• والواجب ثلاثة أقسام:

الأول: ما يجب للزمان نفسه، وهو صوم شهر رمضان بعينه.

الثاني: ما يجب لعلة، وهو صيام الكفارات.

الثالث: ما يجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صيام النذر.

وصوم التطوع سيأتي إن شاء الله تعالى.

* * *

(1)

«زاد المعاد» (2/ 28 - 30).

ص: 46

‌المبحث السابع: حكم صيام رمضان

صوم رمضان ركن من أركان الإسلام الخمسة، وهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع:

فمن الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}

فقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أي فُرض.

ومن السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» .

وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على فرضية شهر رمضان لا يجحدها إلا كافر

(2)

.

‌المبحث الثامن: ترك الصيام بغير عذر

من ترك صيام رمضان مع القدرة، فقد ترك ركنا من أركان الإسلام وارتكب كبيرة من الكبائر.

قال الإمام الذهبي: (وعند المؤمنين مقرر أن ترك صوم رمضان بلا عذر أنه شر من الزاني ومدمن الخمر بل يشكون في إسلامه ويظنون به الزندقة والانحلال)

(3)

.

وقال شيخ الإسلام

(4)

: إذَا أَفْطَرَ في رَمَضَانَ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ وَهُوَ عَالم بِتَحْرِيمِهِ اسْتِحْلَالًا لَهُ وَجَبَ قَتْلُهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا عُوقِبَ عَنْ فِطْرِهِ في رَمَضَانَ.

(1)

أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).

(2)

قال ابن عبد البر «التمهيد» (2/ 148): وأجمع العلماء على أن لا فرض فى الصوم غير شهر رمضان.

وانظر «المجموع» (6/ 249)، و «بدائع الصنائع» (2/ 121)، و «بداية المجتهد» (2/ 141).

(3)

«الكبائر» للذهبي (64).

(4)

«مجموع الفتاوى» (25/ 265).

ص: 47

وروى ابن خزيمة

(1)

عن أبي أمامة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ

ثُمَّ انْطُلِقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ».

قال الشيخ الألباني: هذه عقوبة من صام ثم أفطر عمدا قبل حلول وقت الإفطار، فكيف يكون حال من لا يصوم أصلا؟!

(2)

.

(1)

رواه ابن خزيمة (1986)، وابن حبان (7491).

(2)

«صحيح الترغيب والترهيب» (1005). وقال الشيخ أحمد بن عبد الله السلمي «أخطاء شائعة» (ص 52): فليحذر الذين يغلقون عليهم بيوتهم وأبواب مكاتبهم ويختارون الخلوات لاقتحام المعاصي والإفطار في رمضان، عليهم أن يعلموا أن الله تعالى يراهم ويعلم سرعم ونجواهم وأنه لا تخفى عليه خافية ولا شيء من أمورهم، قال تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] فعلى من اقترف هذه المعصية أن يتوب إلى الله ويصوم ويخشى عقاب الله، فإن الإفطار في رمضان دليل على فساد القلب وقبح السريرة والاستهانة بالشرع، وهو على شفا هلكة إن لم يتدارك نفسه ويتوب ويقلع، والله يقول:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لمنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها

من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء في مغبتها

لا خير في لذة من بعدها النار

وإذا خلوت بريبة في ظلمة

والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها

إن الذي خلق الظلام يراني

فترك الصيام مع القدرة حرب ظاهر وعداوة سافرة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم واعتداء على مشاعر المؤمنين، واعلم أن من لا صوم له لا عيد له، فالعيد فرحة كبرى بإتمام الصوم وقبول العبادة.

ص: 48

‌الفصل الثاني على من يجب الصيام

يجب على كل مسلم بالغ عاقل قادر مقيم خال من الموانع

الشرط الأول: الإسلام

الشرط الثاني: البلوغ

الشرط الثالث: أن يكون عاقلًا

الشرط الرابع: أن يكون قادرًا على الصوم

الشرط الخامس: أن يكون مقيمًا

الشرط السادس: أن يكون خاليًا من الموانع وهذا يختص بالمرأة

ص: 49

‌الشرط الأول: الإسلام

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: لا يجب الصوم علي الكافر حال كفره:

لأنه لا يصح منه ولا يُقبل؛ لعموم قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} .

فإذا أسلم الكافر لم يجب عليه القضاء على قول جميع الفقهاء

(1)

؛ لعموم قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]؛ ولعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم «الإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ»

(2)

؛ ولأن في إيجاب قضاء ما فات في حال الكفر تنفيرًا عن الإسلام؛ بسبب المشقة اللاحقة، هذا إذا كان كافرا أصليًّا، وأما إذا كان مرتدًّا عن الإسلام، لا يجب عليه الصوم في حال الردة؛ لكونه لا يُقْبَلُ منه، فإن أسلم وجب عليه قضاءُ ما تركه حال كفره؛ لأنه التزم ذلك بالإسلام؛ فلم يسقط عنه بالردة كحقوق الآدميين

(3)

.

•‌

‌ المطلب الثاني: إذا كان الكافر لا يجب عليه الصوم حال كفره فهل يعاقب على تركه الصيام في الآخرة؟

نعم يعاقب إذا مات على ذلك وعلى تركه سائر العبادات؛ لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ 42 قَالُوا لم نَكُ مِنَ المصَلِّينَ 43 وَلم نَكُ نُطْعِمُ المسْكِينَ 44 وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ 45 وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ 46} [المدثر: 42 - 46]. فدلت الآيات على أن الكافر

(1)

الحاوي (3/ 327).

(2)

أخرجه مسلم (121)، وأحمد (4/ 205).

(3)

«المجموع» (6/ 252)، و «بدائع الصنائع» (2/ 87).

ص: 50

يُعذَّبُ في الآخرة بتكذيبه ليوم الدين، وكذا بتركه الصلاة وعدم إطعام المسكين، فيعاقب على تركه الأصول والفروعِ.

•‌

‌ المطلب الثالث: إِذَا أَسْلم الْكَافِرُ فِيشيء شَهْرِ رَمَضَان، صَامَ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ بَقِيَّةِ شَهْرِهِ، بلا خلاف فيه

(1)

.

‌الشرط الثانى: البلوغ

وهو وصول صغير وجارية وقت التكليف بعلامة من علامات البلوغ. اه.

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: ويحصل البلوغ بعلامات:

• العلامة الأولى: الاحتلام: وهو خروج المني من الرجل أو المرأة بلا علة، يقظة أو منامًا

(2)

.

وقال ابن حجر

(3)

: أَجْمَعَ الْعُلماءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ في الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَلْزَمُ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ وَهُوَ إِنْزَالُ الماءِ الدَّافِقِ، سَوَاءٌ كَانَ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ في الْيَقَظَةِ أَوِ المنَامِ.

ودل الكتاب والسنة على أن الاحتلام من علامات البلوغ، قال تعالى:{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلم فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] أي إذا احتلم الأطفال فقد بلغوا ووجب عليهم الاستئذان.

وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].

فاليتيم إذا احتلم مع الرشد فيدفع إليه ماله لأنه بلغ.

(1)

«المغني» (4/ 414).

(2)

«موسوعة الطهارة» (6/ 51).

(3)

«فتح الباري» (5/ 327).

ص: 51

وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «غُسْلُ يَوْمِ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلم» .

فبالاحتلام يكلف بغسل الجمعة وكذا سائر الواجبات.

وعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم «رُفِعَ الْقَلم عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنِ المجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ»

(1)

.

قال الكاساني

(2)

: وَمِنْهَا الْبُلُوغُ: فَلَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ الْقَلم عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلم، وَعَنْ المجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» ؛ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ وَقُصُورِ عَقْلِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ يَشُقُّ عَلَيْهِ تَفَهُّمُ الْخِطَابِ وَأَدَاءُ الصَّوْمِ فَأَسْقَطَ الشَّرْعُ عَنْهُ الْعِبَادَاتِ.

• العلامة الثانية: إنبات شعر العانة: ذهب أبو يوسف من الحنفية

(3)

ورواية عن المالكية

(4)

ورواية عن الشافعية

(5)

والحنابلة

(6)

إلى أن إنبات شعر العانة علامة من علامات البلوغ.

(1)

أولًا: حديث عائشة: أخرجه أحمد (6/ 101، 144)، والنسائي في «السنن» (6/ 156)، وأبو داود في (4398)، وابن ماجه (2041)، وغيرهم من طرق عن حماد بن سلمة، عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة به قال أحمد: حماد بن سلمة عنده عن حماد بن أبي سليمان تخليط.

قال الترمذي في «العلل الكبير» (404)(ص 225): سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: «أرجو أن يكون محفوظًا، قلت له: روى الحديث غير حماد؟ قال: لا أعلمه. قال ابن رجب في «شرح البخاري» (5/ 294): وقال النسائي: ليس في الباب حديث صحيح إلا حديث عائشة فإنه حسن. قلت: وفي الباب أحاديث أخرى لا تخلو من مقال.

(2)

«بدائع الصنائع» (2/ 87).

(3)

«رد المحتار» (5/ 97).

(4)

«الشرح الكبير بحاشية الدسوقي» (3/ 293).

(5)

«مغني المحتاج» (2/ 167)، و «روضة الطالبين» (4/ 162).

(6)

«الإنصاف» (5/ 32)، و «المبدع» (4/ 332).

ص: 52

واستدلوا لذلك بأن سعد بن معاذ

(1)

حَكَم على بني قريظة أن تُقتل مقاتلتهم، فكان ينظر إلى من لم ينبتْ فيُتركُ، وإلى من أنبت فيُقْتَلُ».

واستدلوا بما ورد عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ أَنْ لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَأَنْ تَقْتُلُوا ألا مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ المواسَى

(2)

.

• العلامة الثالثة: البلوغ بالسن فقيل خمس عشرة سنة وهو مذهب الشافعية والحنابلة وهو رواية عن أبي حنيفة وقول أبي يوسف ومحمد من أصحابه وابن وهب من المالكية

(3)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في الصحيحين

(4)

واللفظ لمسلم عن ابن عمر: «عَرَضَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ في الْقِتَالِ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلم يُجِزْنِي، وَعَرَضَنِي يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي.

(1)

روى أحمد (4/ 310)، وأبو داود (4404)، والترمذي (1584)، والنسائي في «الكبرى» (8621)، وابن ماجه (2541) وغيرهم من طرق: عن سُفْيَان عَنْ عَبْدِ الملِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ: عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ قُرَيْظَةَ فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ وَلم يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ فَكُنْتُ فِيمَنْ لم يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيلِي».

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، أنهم يرون الإنبات بلوغًا، وإن لم يُعرف احتلامه ولا سنه، وهو قول أحمد وإسحاق، وفي إسناده عبد الملك بن عمير ضَعَّفه أحمد وابن معين وأبو حاتم وقال النسائي: ليس به بأس. ووثقه ابن نمير والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات، ولكن أخرجه البخاري (5122)، ومسلم (1769) بلفظ: فردَّ رسول الله الحكم إلى سعد، وقال: فإنى أحكم فيهم أن تُقتل المقاتلة، وأن تُسبى الذرية والأموال، وتُقسم الغنائم. بدون ذكر الإنبات.

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» (6/ 487).

(3)

«مغني المحتاج» (2/ 165)، و «المحرر» (1/ 347)، و «البحر الرائق» (3/ 96)، و «مواهب الجليل» (5/ 59).

(4)

البخاري (2664)، ومسلم (1868).

ص: 53

قَالَ نَافِعٌ: فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لمنْ كَانَ ابْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَاجْعَلُوهُ في الْعِيَالِ». وليس في البخاري «فَاجْعَلُوهُ في الْعِيَالِ» .

قال ابن حجر

(1)

: «وَاسْتدلَّ بِقصَّة ابن عُمَرَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْبَالِغِينَ وَإِنْ لم يَحْتَلم فَيُكَلَّفُ بِالْعِبَادَاتِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ» .

اعترض ابن حزم

(2)

على الاستدلال بهذا الحديث، بأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لم يَقُلْ إنِّي أَجَزْتهمَا من أَجْلِ أَنَّهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فإن كان ذلك كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لأحد أَنْ يُضِيفَ إلَيْهِ عليه السلام ما لم يُخْبِرْ بِهِ عن نَفْسِهِ وقد يُمْكِنُ أَنْ يُجِيزَهُمَا يوم الْخَنْدَقِ لأنه كان يوم حِصَارٍ في المدِينَةِ نَفْسِهَا يَنْتَفِعُ فيه بِالصِّبْيَانِ في رَمْيِ الْحِجَارَةِ وَغَيْرِ ذلك ولم يُجِزْهُ يوم أُحُدٍ لأنه كان يوم قِتَالٍ بَعُدُوا فيه عن المدِينَةِ فَلَا يَحْضُرُهُ إلاَّ أَهْلُ الْقُوَّةِ وَالْجَلَدِ.

وأجيب بأن هذا فهم نافع وعمر خامس الخلفاء الراشدين وأمام التابعين

• العلامة الرابعة: نزول الحيض عند النساء:

قال ابن حجر

(3)

: وقد أجمع العلماء على أن الحيض بلوغ في حق النساء.

•‌

‌ المطلب الثاني: استحباب صوم الصبيان:

دل على ذلك ما ورد في «الصحيحين» عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: «أَرْسَلَ

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: «مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِه، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُم» ، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ»

(4)

.

(1)

«فتح الباري» (5/ 329).

(2)

«المحلى» المسألة (119).

(3)

«فتح الباري» (5/ 277).

(4)

أخرجه البخاري (1960)، ومسلم (1136).

ص: 54

قال النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَمْرِينُ الصِّبْيَان عَلَى الطَّاعَات، وَتَعْوِيدُهُمْ الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ.

•‌

‌ المطلب الثالث: حد السن الذى يؤمر فيه الصبي بالصيام؟

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: أن الصبي يُؤْمَرُ بالصيام إذا أطاقه للتمرين عليه. وهو قول عطاء والحسن وابن سيرين والزهري وقتادة والشافعي.

القول الثانى: أنه إذا كان للغلام عشر سنين وأطاق الصيام فإنه يُؤْمَرُ ويُضرَبُ على تركه؛ ليتمرن عليه ويتعوده، كما يُلزَمُ بالصلاة ويُؤْمَرُ بها. وهو قول أحمد.

واعْتُرِضَ عَليه بأن الصوم أشقُّ من الصلاة، فاعتُبِرَت له الطاقة؛؛ لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيقه.

القول الثالث: قال الأوزاعي: إذا أطاق صومَ ثلاثة أيام تباعًا لا يضعُفُ فيهن، حُمِلَ على صوم شهر رمضان.

القول الرابع: قال إسحاق: إذا بلغ اثنتي عشرة سنةً أَحَبُّ إلى أن يُكَلَّفَ الصوم للعادة.

القول الخامس: قول المالكية أنه لا يُشرع في حق الصبيان.

ويجاب على هذا القول بما رواه البخاري عن الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ في صيام يوم عاشوراء قَالَتْ: «فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ» .

القول السادس: قول ابْن الماجِشُونِ من المالكية: إذا أطاق الصوم ألزموه، فإن أفطر لغير عذر فعليه القضاء.

قال الْقَاضِي: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَة أَنَّهُمْ مَتَى أَطَاقُوا الصَّوْم وَجَبَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا غَلَطٌ مَرْدُودٌ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح:«رُفِعَ الْقَلم عَنْ ثَلَاثَة: عَنْ الصَّبِيّ حَتَّى يَحْتَلم» ، وَفِي رِوَايَة:«يَبْلُغَ» .

ص: 55

والراجح أن الصبي يؤمر بالصيام إذا أطاقه للتمرين عليه، ويُلزم به إذا بلغ كالصلاة، والله أعلم

(1)

.

•‌

‌ الشرط الثالث: العاقل وخرج به المجنون،

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: المجنون إذا أفاق بعد مُضي الشهر ماذا يفعل في الأيام الماضية؟

قال الماوردي

(2)

: (فَأَمَّا المجْنُونُ إِذَا أَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَانِ رَمَضَانَ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ: لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ).

•‌

‌ المطلب الثاني: وإذا أفاق أثناء الشهر ماذا يفعل في الأيام الآتية؟

قال ابن قدامة

(3)

: «فَأَمَّا المجْنُونُ إذَا أَفَاقَ في أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، فَعَلَيْهِ صَوْمُ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَيَّامِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ» .

•‌

‌ المطلب الثالث: إذا أفاق المجنون أثناء الشهر هل يلزمه قضاء ما مضى؟

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

القول الأول: إن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لا يلْزَمُه قضاء ما مضى، وبهذا قال: أبو ثور، والشافعي في الجديد، قالوا:؛ لأنه معنىً يزيل التكليف، فلم يجب القضاء في زمانه كالصغر والكفر.

القول الثانى: وَقال مَالِكٌ: يَقْضِي، وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِ سِنُونَ. وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ؛ لأنه مَعْنًى يُزِيلُ الْعَقْلَ، فَلم يَمْنَعْ وُجُوبَ الصَّوْمِ، كَالْإِغْمَاءِ

(4)

.

(1)

انظر: «المغني» (4/ 214)، و «فتح الباري» (4/ 236).

(2)

«الحاوي» (3/ 329).

(3)

«المغني» (4/ 415).

(4)

«المغني» (4/ 415).

ص: 56

القول الثالث: وَقال أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ جُنَّ جَمِيعَ الشَّهْرِ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفَاقَ في أَثْنَائِهِ قَضَى مَا مَضَى؛ لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ جُنَّ في أَثْنَاءِ الصَّوْمِ لم يَفْسُدْ، فَإِذَا وُجِدَ في بَعْضِ الشَّهْرِ، وَجَبَ الْقَضَاءُ كَالْإِغْمَاءِ.

والراجح أن المجنون إذا أفاق أثناء الشهر لا يلزم بقضاء ما مضى ويصوم الأيام الآتية، والله أعلم.

•‌

‌ المطلب الرابع: إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أثناء النهار، هل يلزمهم إمساكُ بقية اليوم؟

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ:

القول الأول: أنه يجب عليه أن يُمسِكَ بقية يومه ويقضيه، وهو قول أحمد في رواية، وبه قال إسحاق

(1)

. واستدلوا بالسنة والقياس:

أما دليلهم من السنة: فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْلمةَ عَنْ عَمِّهِ أَنَّ أَسْلم أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «صُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا؟» . قَالُوا: لَا. قَالَ: «فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَاقْضُوهُ»

(2)

. ولكن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما دليلهم من القياس: فقاسوا الصيام على الصلاة: قالوا: لأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَلَزِمَتْهُ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ. وقالوا بأنه عليه قضاء يوم مكانه؛ لأن إسلامَه في بعض النهار يُوجِبُ عليه صيام ما بقي.

واعْتُرِضَ عليه بحديث عاشوراء بأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَر مَنْ أكل أن يتم بقية يومه، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بالقضاء.

القول الثانى: قال مالك والشافعي وابن المنذر وأبو ثور: لا قضاء عليه ولا إمساك.

(1)

«المغني» (4/ 415)، وكتاب الصيام لشيخ الإسلام ص (52).

(2)

ضعيف: مدار الحديث على شعبة عن قتادة عن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه به، واختلف على شعبة، فرواه عنه: يزيد بن زريع بزيادة: (واقضوه): أخرجه أبو داود (2447)، وخالف يزيد بن زريع (محمد بن جعفر، ومعاذ بن معاذ، وروح بن عبادة، وغيرهم، بدون زيادة (واقضوه). وأخرجه النسائي «الكبرى» (2/ 160)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (6/ 44)، وغيرهما، وصحح أبو حاتم الرواية التي بدون ذكر (واقضوه) كما في «العلل» (1/ 361). وعلى كلٍّ فمدار الحديث على عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه، ولا يُعرف هو ولا عمه، وقد ضعف الحديث شيخ الإسلام وابن الجوزي وعبد الحق وغيرهم.

ص: 57

قالوا: لأنه لم يدرك في زمن العبادة ما يمكنه التلبس بها فيه

(1)

، ولعدم أهليَّة الوجوب في أول اليوم.

وقالوا أيضًا: إن إيجاب بعض اليوم لا يصح؛ لأن أقلَّ الصوم الصحيح يومٌ؛ ولأنه من جاز له الأكل أول النهار ظاهرًا وباطنًا، جاز له الأكل في آخره، كما لو دام به المانع، والصوم لا يتجزَّأُ لا وجوبًا ولا جوازًا

(2)

.

قال الماوردي

(3)

: وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ؛؛ لأنه لَا يَقْدِرُ عَلَى صِيَامِ هَذَا الْيَوْمِ مَعَ إِسْلَامِهِ في بَعْضِهِ فَصَارَ كَمَنْ أَسْلم لَيْلًا.

واعْتُرِضَ على ذلك بأنه ورد في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى قرى الأنصار: «مَنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» ، فأمَر من كان مفطرًا أن يصوم بعض اليوم؛ ولذلك من أفطر يظن أنه آخر يوم من شعبان، ثم تبيَّن له أن هذا اليوم من رمضان، فيُمْسِك باقي اليوم، وهذا صيام بعض اليوم.

وأجيب عنه بأنه هناك فرق بين الحالتين؛ فالكافر إذا أسلم، والصبي الذى احتلم، والمجنون الذى أفاق في النهار - لم يكونوا من أهل الوجوب في أول اليوم؛ فلذلك يجب عليهم الصيام عند الإسلام والبلوغ، ولا قضاء عليهم، وأما الذى أفطر يظن أنه آخر شعبان، ثم تبيَّن له أنه من رمضان، كان من أهل الوجوب في أول اليوم.

القول الثالث: يصوم ما بقى من اليوم وليس عليه قضاء ذلك اليوم، وإنما وجبت الأحكام بعد التكليف، الإسلام أو البلوغ ولأن الإسلام يَجبُّ ما قبله، وهو اختيار شيخ الإسلام.

واستدلوا لذلك بما في «الصحيحين»

(4)

عن الرُبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في قُرَى الْأَنْصَارِ قَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يومه» .

(1)

انظر: «المغني» (4/ 415).

(2)

انظر: كتاب «الصيام» لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 52).

(3)

«الحاوي» (3/ 328).

(4)

سبق تخريجه.

ص: 58

قال شيخ الإسلام: والأَوجَه أنه يجب عليه الإمساك دون القضاء لحديث عاشوراء.

فالكافر إذا أسلم أثناء النهار أو بلغ فإنه لا يجب عليه الصيام قبل ذلك الوقت لعموم قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» ويصوم من الظهر إلى المغرب {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وكذا الصبي إذا بلغ أثناء النهار أو أفاق المجنون، والله أعلم.

•‌

‌ المطلب الخامس: إذا طهرت الحائض وقَدِم المسافر وصح المريض أثناء النهار في رمضان، هل يمسك بقية يومه؟

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوالٍ:

القول الأول: قال مالك، والشافعي، وابن عُلية، وداود، في المرأة تطهر، والمسافر يقدم - وقد أفطروا في السفر: إنهما يأكلًان ولا يمسكان، ولو قدم مسافر في هذه الحال، فوجد امرأته قد طهرت جاز له وطؤها، قال الشافعي: أُحب لهما أن يستترا بالأكل والجماع؛ خوف التهمة

(1)

.

واستدلوا لذلك بالمأثور والمعقول:

أما دليلهم من المأثور: فما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَليَأْكُل آَخِرَهُ»

(2)

.

وروى الثوري عن أبي عبيد عن جابر بن زيد أنه قدم من سفر في شهر رمضان، فوجد المرأة قد اغتسلت من حيضها فجامعها

(3)

.

(1)

انظر: «التمهيد» (22/ 53، 54).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (9343)، حدثنا وكيع، عن ابن عون، عن ابن محيريز قال: قال عبد الله

به.

(3)

ذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (22/ 53، 54) فقال: روى الثوري، عن أبي عبيد، عن جابر به. قلت: وهذا إسناد صحيح.

ص: 59

أما دليلهم من المعقول: فقالوا: إن المسافر والمريض والحائض لم يكونوا من أهل الوجوب في أول اليوم وإن أقل الصوم يومٌ، فإذا جاز لهم الأكل أول اليوم، جاز لهم آخره.

القول الثانى: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ في المرْأَةِ تَطْهُرُ في بَعْضِ النَّهَارِ وَالمسَافِرُ يَقْدَمُ وَقَدْ أَفْطَرَ في سَفَرِهِ: إنَّهُمَا يُمْسِكَانِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ

(1)

.

واحتج لهم الطحاوي بأن قال: لم يختلفوا أن من غُمَّ عليه هلال رمضانَ فأكل، ثم علم أنه يُمْسِك عما يُمْسِك عنه الصائم، قال: فكذلك الحائض والمسافر.

وأُجِيبَ عن هذا: بأنَّه قياسٌ مع الفارقِ؛ لأن الذى غُمَّ عليه هلال رمضان فأكل، ثم علم أنه يُمْسِك عما يُمْسِك عنه الصائم؛؛ لأنه كان من أهل الوجوب في أول اليوم، أما المسافر والحائض والمريض فلم يكونوا من أهل الوجوب فلا يجب عليهم الإمساك.

والراجح ما ذهب إليه مالك والشافعي أنه إذا طهرت الحائض أو صح المريض أو قدم المسافر أثناء النهار وقد أفطر أول يومه أن يفطره آخره لأن أقل الصوم يوم فإن جاز لهم الأكل أول اليوم جاز لهم آخره.

•‌

‌ الشرط الرابع: أن يكون قادرًا على الصوم:

فإن كان الإنسان غير قادر على الصوم بسبب مرض أو غيره، فلا يجب عليه الصوم؛ لقوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].

قال شيخ الإسلام: إنه لا يجب الصوم إلا على القادر؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

(1)

«التمهيد» (22/ 53، 54).

ص: 60

•‌

‌ الشرط الخامس: أن يكون مقيمًا.

فإن كان مسافرًا فلا يجب عليه الصوم؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

•‌

‌ الشرط السادس: أن يكون خَالِيًا من الموانع.

وهذا يختص بالمرأة، فيشترط في وجوب الصوم عليها ألا تكون حائضًا ولا نُفَساء. ففي «الصحيحين»

(1)

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لم تُصَلِّ وَلم تَصُمْ» .

قال النووي: وأما الحائض والنفساء فلا يجب عليهما الصوم؛ لأنه لا يصح منهما، فإذا طهرتا وجب عليهما القضاء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت في الحيض:«كنا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ»

(2)

. فوجب القضاء على الحائض بالخبر، وقِيس عليها النفساء؛ لأنها في معناها.

• الخلاصة: على من يجب الصيام؟

يجب على كل مسلم، بالغٍ، عاقلٍ، قادرٍ، مقيمٍ، خالٍ من الموانع.

قال النووي: ويتحتَّمُ وجوب ذلك «الصوم» على كل مسلم، بالغٍ، عاقلٍ، طاهرٍ، قادرٍ، مقيمٍ.

أولًا: يجب الصوم على المسلم، فأما الكافر فلا يجب عليه الصوم بالنص والإجماع، وإذا أسلم الكافر في أثناء الشهر لا يقضي ما مضى، ويصوم ما يستقبل من شهر رمضان.

ثانيًا: يجب الصوم على العاقل، فأما المجنون فلا يجب عليه الصوم.

(1)

أخرجه البخاري (1950) ومسلم (1146).

(2)

أخرجه البخاري (321) ومسلم (335).

ص: 61

ثالثًا: يجب الصوم على البالغ، فلا يجب الصوم على الصبي، بل يستحب، ويحصل البلوغ بأمور منها: إنزالُ المنى باحتلامٍ وغيره، وإنباتُ شعر العانة، وإتمامُ خمس عشرة سنة، ويزيدُ في حقِّ المرأة الحيضُ.

رابعًا: أن يكون الإنسان قادرًا على الصوم، فأما إن كان الإنسان غير قادر على الصوم بسبب مرض أو غيره فلا يجب عليه.

خامسًا: أن يكون الإنسان مقيمًا، فإن كان مسافرًا فلا يجب عليه الصوم.

سادسًا: أن يكون خَالِيًا من الموانع: وهذا يختص بالمرأة؛ فيشترط في وجوب الصوم عليها ألا تكون حائضًا ولا نفساء.

* * *

ص: 62

الفصل الثالث: النية

وفيه مباحث

المبحث الأول: معنى النية

المبحث الثاني: هل يصح الصوم بدون نية؟

المبحث الثالث: وقت النية

المبحث الرابع: النية لكل يوم

المبحث الخامس: ما هي كيفية النية؟

المبحث الساد: هل يجوز إنشاء صوم التطوع بنية من النهار؟

ص: 63

‌الفصل الثالث: النية

وفيها مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: معنى النية:

مَعْنَى النِّيَّةِ الْقَصْدُ، وَهُوَ: اعْتِقَادُ الْقَلْبِ فِعْلَ شَيْءٍ، وَعَزْمُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ، فَمَتَى خَطَرَ بِقَلْبِهِ في اللَّيْلِ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ صَائِمٌ فِيهِ، فَقَدْ نَوَى

(1)

.

•‌

‌ المبحث الثانى: هل يصح الصوم بدون نية؟

جماهير العلماء على اشتراط النية في صحة الصوم، فلا يصح الصوم إلا بنيةٍ كسائر العبادات؛ لقوله سبحانه:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«قال الله تعالى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعامهٌ وَشهوتهٌ مِنَّ أجلىِ» من لم يذر طعامه وشهوته لله فليس بصائم

(2)

.

•‌

‌ المبحث الثالث: وقت النية:

هل لابد من تبييت النية للصيام قبل الفجر، أم يجوز أن ينشئ النية من النهار لصيام رمضان؟

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه لا يجزئ صوم رمضان ولا غيره من الصوم الواجب بنية من النهار، وأنه لا يجزئه صيام فرض حنى ينويه أي وقت كان من

(1)

«المغني» (4/ 333).

(2)

«الصيام» لشيخ الإسلام (ص 176).

ص: 64

الليل

(1)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة:

الدليل الأول: عن حفصة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا صِيَامَ لمنْ لم يُبَيِّت النيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ»

(2)

.

(1)

«المجموع» (6/ 288)، و «المغني» (4/ 333).

(2)

ضعيف معل بالوقف: وهذا الحديث اختلف في رفعه ووقفه، وهو من رواية الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن حفصة مرفوعًا. واختلف على الزهري. فرواه عبد الله بن أبي بكر بن حزم، فرواه عنه ابن لهيعة، واختلف عليه: فرواه حسن بن موسى، عن ابن لهيعة به، أخرجه أحمد (6/ 287). وخالفه عبد الله بن وهب فأدخل بين سالم بن عبد الله وحفصة ابن عمر، أخرجه أبو داود (2454)، وغيره. وتابع ابنَ لهيعة، يحيى بن أيوب، واختلف عليه: فرواه عبد الله بن وهب، وسعيد بن أبي مريم، وأشهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة مرفوعًا. أخرجه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (4/ 196)، وغيرهم. وتابع هؤلاء الثلاثة الليث بن سعد واختلف عليه: فرواه أصحاب الليث «عبد الله بن صالح وشعيب، وعبد الله بن الحكم، وابن بكير» عن الليث عن يحيى بنفس الطريق السابق، أخرجه النسائي (4/ 196)، خالفهم سعيد بن شرحبيل (فرواه بإسقاط الزهري)، أخرجه النسائي (4/ 196)، والدارمي (2/ 6). وأخرجه ابن ماجه (1700)، وابن أبي شيبة (3/ 31، 32)، عن خالد القطواني، عن عبد الله بن أبي بكر، عن سالم، عن ابن عمر، عن حفصة، مرفوعًا ولم يذكر الزهري كذلك، وهى من طريق خالد القطواني وفيه كلام. وتابع عبد الله بن أبي بكر بن حزم: ابن جريج، أخرجه النسائي (4/ 197)، من طريق ابن جريج، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة، مرفوعًا، قال النسائي: حديث ابن جريج عن الزهري غير محفوظ. عقيل وقرة عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة به، أخرجه ابن عدي «الكامل» (3/ 150) قلت: وفى إسناده رشدين بن سعد، ضعيف. أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 171)، من طريق عبد الله بن عباد، عن المفضل بن فضالة، عن يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة مرفوعًا، قلت: وفى إسناده عبد الله بن عباد، ضعيف. ورواه «ابن عيينة، ومعمر، ويونس» فرووه كلهم عن الزهري عن حمزة بن عبد الله، عن ابن عمر، عن حفصة من قولها. وأخرجه النسائي (4/ 197)، وابن أبي شيبة (3/ 32)، وغيرهما، من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري، عن حمزة، عن حفصة بإسقاط ابن عمر.

وأخرجه النسائي (4/ 197)، وعبد الرزاق (7786)، والبخاري في «التاريخ الصغير» (1/ 160)، عن عبيد الله بن عمر العمري ومعمر بن راشد فروياه عن الزهري، عن سالم، عن عبد الله، عن حفصة من قولها. وأخرجه النسائي (4/ 198)، ومالك في «الموطأ» (776)، عن الزهري، عن عائشة وحفصة موقوفًا، والزهري لم يدرك عائشة. وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7787) من طريق عبيد الله بن عمر، وابن جريج، عن نافع عن ابن عمر وحفصة موقوفًا. وأخرجه مالك في «الموطأ» (775)، والنسائي (4/ 198) من طرق عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا. وقد قال الدارقطني والبخاري وأبو حاتم والنسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم: لا يصح رفعه والموقوف أصح. انظر «علل الدارقطني» (ج 5/ ق 53 أ) مخطوطة، و «علل الترمذي» (ص 118) و «العلل لأبي حاتم» (1/ 225)، و «التلخيص الحبير» (2/ 188).

ص: 65

واعترض عليه: بأن هذا الحديث لا يصح.

وأُجِيبَ عليه: بأن النية لابد أن تسبق العمل، ولذلك شواهد من الشريعة؛ ففي «الصحيحين» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» .

القول الآخر: ذهب أبو حنيفة إلى أنه يُجْزِئُ صِيَامُ رَمَضَانَ وَكُلُّ صَوْمٍ مُتَعَيِّنٍ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ

(1)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة والمعقول:

أما دليلهم من السنة: فالدليل الأول ما روي في «الصحيحين»

(2)

عن سلمة بن الأكوع أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي في النَّاسِ يوم عَاشُورَاءَ: «أَنْ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لم يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ» .

(1)

«شرح معانى الآثار» (2/ 57)، و «المغني» (4/ 337).

(2)

أخرجه البخاري (1924)، ومسلم (1135).

ص: 66

وجه الدلالة منه: أن النبي أمَر مَنْ أكل في نهار عاشوراء بإمساك بقية يومه، فدل ذلك على أن صيام عاشوراء كان فرضًا قبل نسخه برمضان؛ إذ لا يُؤْمَرُ من أكل بإمساك بقية يومه إلا في صيام فرضٍ، ولو كان مستحبًّا لم يُؤْمَرْ بالإمساك، وإذا كانوا قد أنشأوا النية في النهار لصوم عاشوراء فدلَّ على جوازه في رمضان.

قال الطحاوي

(1)

: وَكَانَ مَا رُوِيَ في عَاشُورَاءَ في الصَّوْمِ المفْرُوضِ في اليوم الَّذِي بِعَيْنِهِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الصَّوْمِ المفْرُوضِ في ذَلِكَ اليوم جَائِزُ أَنْ يُعْقَدَ لَهُ النِّيَّةُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمِنْ ذَلِكَ شَهْرُ رَمَضَانَ؛ فَهُوَ فَرْضٌ في أَيَّامٍ بِعَيْنِهَا كَيوم عَاشُورَاءَ إِذَا كَانَ فَرْضًا في يوم بِعَيْنِهِ، فَكَمَا كَانَ يوم عَاشُورَاءَ يُجْزِئُ مَنْ نَوَى صَوْمَهُ بَعْدَمَا أَصْبَحَ، فَكَذَلِكَ شَهْرُ رَمَضَانَ.

• واعْتُرِضَ على هذا القول بأمرين:

الأول: أنه اختُلف في أن صوم عاشوراء هل كان فرضًا أو مستحبا؟

الثاني: أنه لو كان فرضًا لم يصح الاستدلال؛ لأنهم لم يعلموا من الليل أن هذا اليوم لابد أن يُصام؛ فكيف يُلزَمون بتبييت النية من الليل وهم لا يعلمون؟ إذ هذا تكليف بما لا يُطاق، إذ النية تتبع العلم!

قال شيخ الإسلام

(2)

: وَتَحْقِيقُ هَذِهِ المسْأَلَةِ: أَنَّ النِّيَّةَ تَتْبَعُ الْعِلم؛ فَإِنْ عَلم أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ في هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ صَوْمًا مُطْلَقًا لم يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَدَاء الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي عَلم وُجُوبَهُ، فَإِذَا لم يَفْعَلِ الْوَاجِبَ لم تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلم أَنَّ غَدًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَهُنَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ، وَمَنْ أَوْجَبَ التَّعْيِينَ مَعَ عَدَمِ الْعِلم فَقَدْ أَوْجَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.

الدليل الثانى: روى مسلم

(3)

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومًا فَقَالَ: «هَلْ عِنْدكُمْ شَيْءٌ؟» . فَقُلْت: لَا. قَالَ: «فإنى إِذَنْ صَائِمٌ» .

(1)

«شرح معانى الآثار» (2/ 57).

(2)

«الفتاوى» (25/ 101).

(3)

أخرجه مسلم (1154).

ص: 67

وجه الدلالة: «فإنى إِذَنْ صَائِمٌ» . أى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنشأ نيته أثناء النهار، ولم يبيتها من الليل، ويُقَاس صوم التطوع على صيام الفرض، فلماكان يجوز أن ينشئ النية من النهار في صوم التطوع، فكذلك صوم الفرض.

واعترض عليه: بأن قياس صوم التطوع على صيام الفرض - قياسٌ مع الفارق ولا يصح؛ لأنه يخفف صيام التطوع عن صيام الفريضة، كما أن الصلاة يُخَفَّفُ نفلُها عن فرضها، بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها، ويجوز صلاة النافلة في السفر على الراحلة إلى غير القبلة، ولا يجوز ذلك في الفريضة، فكذا يجوز إنشاء النية من النهار في صوم التطوع دون الفريضة.

والراجح في المسألة والله أعلم: هو ما ذهب إليه جمهور العلماء، من أنه لا يجزئه صيام رمضان ولا صيام الفريضة حتى ينويه من الليل لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .

•‌

‌ المبحث الرابع: النية لكل يوم:

هل لابد من نية لكل يوم أم تجزئه نية واحدة لجميع الشهر؟

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب أبو حنيفة، والشافعي، ورواية لأحمد، إلى أنه لابد من نية لكل يوم؛ لأن صوم كل يوم عبادة منفردة، يدخل وقتها بطلوع الفجر، ويخرج وقتها بغروب الشمس.

واستدلوا لذلك بالقياس على الصلاة، فكما أنه لا بد لكل صلاة من نية، فكذا صيام كل يوم يحتاج إلى نية.

• القول الآخر: أَنَّهُ تُجْزِئُهُ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إذَا نَوَى صَوْمَ جَمِيعِهِ؛ لأنه نَوَى في زَمَنٍ يَصْلُحُ جِنْسُهُ لِنِيَّةِ الصَّوْمِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ نَوَى كُلَّ يوم في لَيْلَتِهِ. وَهو مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَإِسْحَاقَ، وَرواية عَنْ أَحْمَدَ

(1)

.

(1)

«المجموع» (6/ 288)، و «المغني» (4/ 337).

ص: 68

واستدلوا لذلك بالقياس على الحج، فكما أن الحج أعماله متعددة، كالوقوف بعرفة والطواف والسعي، ويحتاج إلى نية واحدة (لبيك حج)، فكذا تجزئ نية واحدة لجميع الشهر.

واعترض عليه: بأن هذا القياس لا يصح؛ لأن الحج يتكون من أركان متعددة، لو ترك رُكنًا منها؛ لانهدم الحج كله، فإذا لم يقف بعرفة فسد عليه الحج.

أما صيام رمضان فكل يوم عبادة مستقلة، يدخل وقتها بطلوع الفجر ويخرج بغروب الشمس، ويتخللها ما ينافيها وهو جواز الأكل من المغرب إلى الفجر وهو كالصلوات، فإذا كان لا بد لكل صلاة من نية فكذا لا بد لكل يوم من نية.

•‌

‌ المبحث الخامس: ما هى كيفية النية؟

قال شيخ الإسلام: كُلُّ مَنْ عَلم أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ يُرِيدُ صَوْمَهُ، فَقَدْ نَوَى صَوْمَهُ، سَوَاءٌ تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ، أَوْ لم يَتَلَفَّظْ. وَهَذَا فِعْلُ عَامَّةِ المسْلمينَ، كُلُّهُمْ يَنْوِي الصِّيَامَ

(1)

.

قال ابن قدامة: وَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ في كُلِّ صَوْمٍ وَاجِبٍ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَصُومُ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ مِنْ قَضَائِهِ، أَوْ مِنْ كَفَّارَتِهِ، أَوْ نَذْرِهِ

(2)

.

•‌

‌ المبحث السادس: هل يجوز إنشاء صوم التطوع بنية من النهار أو لابد من تبييت النية قبل الفجر؟

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى جواز أن ينشيء النية لصوم التطوع من النهار، وصح ذلك عن أبي طلحة، ومعاذ بن جبل

(3)

، وأبي الدرداء، وأبي أيوب

(4)

،

(1)

«الفتاوى» (25/ 215).

(2)

«المغني» (4/ 338).

(3)

روى عبد الرزاق (7777)، وابن أبي شيبة (3/ 31) بإسناد صحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَأْتِي أَهْلَهُ مِنْ الضُّحَى فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ غَدَاءٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا. صَامَ ذَلِكَ اليوم. قال قتادة: فكان معاذ بن جبل يفعل ذلك.

(4)

روى الطحاوي «شرح معاني الآثار» (2/ 57) وغيره بإسناد صحيح عن أُمِّ الدَّرْدَاءِ أَنَّ أَبَا= =الدَّرْدَاءِ كَانَ يَجِيءُ فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا. قَالَ: إنِّي إذا صَائِمٌ.

عن عبد الله بن عتبة أن أبا أيوب كان يفعل ذلك أيضًا كفعل أبي الدرداء.

ص: 69

وحذيفة

(1)

، وغيرهم، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد

(2)

.

• استدلوا لذلك بالسنة والمعقول:

أما دليلهم من السنة: فبما روى مسلم

(3)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقُلْنَا: لَا. قَالَ: «فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ» .

وجه الدلالة: ما قاله النووي: في هذا الحديث دليل لمذهب الجمهور، على أن صوم النفل يجوز بنية من النهار.

واعْتُرِضَ عليه بما قاله ابن حزم

(4)

: وَهَذَا الْخَبَرُ صَحِيحٌ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام لم يَكُنْ نَوَى الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ، وَلَا أَنَّهُ عليه السلام أَصْبَحَ مُفْطِرًا ثُمَّ نَوَى الصَّوْمَ بَعْدَ ذَلِكَ.

وأُجِيبَ عنه بما قاله النووي: وتأوله الآخرون على أن سؤاله «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ» لكونه كان نوى الصوم من الليل، ثم ضعف عنه، وأراد الفطر لذلك. قال: وهو تأويل فاسد وتكلف بعيد.

(1)

روى عبد الرزاق (7780) وغيره بإسناد صحيح عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلمى أَنَّ حُذَيْفَةَ بَدَا لَهُ الصَّوْمُ بَعْدَ مَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَامَ.

(2)

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 340): وَمَنْ نَوَى صِيَامَ التَّطَوُّعِ مِنْ النَّهَارِ، وَلم يَكُنْ طَعِمَ، أَجْزَأَهُ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ، عِنْدَ إمَامِنَا، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وانظر المجموع (5/ 292).

(3)

أخرجه مسلم (1154).

(4)

«المحلى» (6/ 173).

ص: 70

قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ» فيه دلالة على أنه نوى الصيام من النهار، والآثار الواردة عن الصحابة} تبيِّن أنه يجوز أن ينشيء في صوم التطوع النية من النهار، فهم أعلم الناس بمراد النبي صلى الله عليه وسلم، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ حَتَّى يُظْهِرَ، ثُمَّ يَقُولُ:«وَاللَّهِ لَقَدْ أَصْبَحْتُ وَمَا أُرِيدُ الصَّوْمَ، وَمَا أَكَلْت مِنْ طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ مُنْذُ اليوم، وَلأَصُومَنَّ يومي هَذَا»

(1)

.

وورد هذا المعنى عن عدد كبير من الصحابة، وهم أعلم بمراد النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما دليلهم من المعقول: فقد قاسوا الصيام على الصلاة، فكما أن الصلاة يخفف نفلها عن فرضها، بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها، ويجوز صلاة النافلة في السفر على الراحلة إلى غير القبلة، فكذا الصيام.

• القول الآخر: ذهب مالك والظاهرية إلى أنه لا يجوز صيام التطوع إلا بنية من الليل؛ لعموم قوله عليه السلام: «لَا صِيَامَ لمنْ لم يُبَيِّتْ النِّيةَ مِنَ اللَّيْلِ»

(2)

.

واعْتُرِضَ على هذا القول من وجهين:

الأول: أن هذا الحديث معل: أى ضعيف ولا يصح.

الثاني: لو صح حديث «لَا صِيَامَ لمنْ لم يُبَيِّتْ النِّيةَ مِنَ اللَّيْلِ» فهو حديث عام، وحديث عائشة قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقُلْنَا: لَا. قَالَ: «فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ» خاص بصوم التطوع، وإذا تعارض الخاص والعام قُدم الخاص.

قال ابن قدامة: وَحَدِيثُهُمْ نَخُصُّهُ بِحَدِيثِنَا، عَلَى أَنَّ حَدِيثَنَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ

(3)

.

(1)

صحيح: أخرجه الطحاوي في «شرح معانى الآثار» (2/ 56).

(2)

«المغني» (4/ 340)، وفتح الباري (4/ 141).

(3)

«المغني» (4/ 340).

ص: 71

والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء، أي أنه يجوز إنشاء النية في صوم التطوع من النهار، ولا يُشتَرط تبييت النية من الليل.

واستدلوا لذلك بحديث عائشة قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» فَقُلْت: لَا. قَالَ: «فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ» . فأنشأ النية من النهار.

وقال مالك والظاهرية: لا يجوز صيام التطوع إلا بنية من الليل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا صِيَامَ لمنْ لم يُبَيِّتْ النِّيِيَّةَ مِنْ اللَّيْلِ» ، والحديث ضعيف.

* * *

ص: 72

الفصل الرابع أحكام دخول الشهر ورؤية الهلال

وفيه مباحث:

المبحث الأول: بم يثبت شهر رمضان؟

المبحث الثاني: هل هناك أذكار لمن رأى هلال رمضان؟

المبحث الثالث: بكم رجل يثبت هلال رمضان؟

المبحث الرابع: بكم رجل يثبت هلال شوال؟

المبحث الخامس: ما هو حكم صيام يوم الغيم؟

المبحث السادس: من رأى الهلال وحده ولم يعمل الناس برؤيته هل يصوم؟

المبحث السابع: مسألة اختلاف ا لمطالع

المبحث الثامن: هل يجوز الاعتماد على الحساب في رؤية هلال رمضان؟

المبحث التاسع: إذا رؤي القمر نهارًا

ص: 73

‌الفصل الرابع أحكام دخول الشهر ورؤية الهلال

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: بما يثبت شهر رمضان؟

يثبت دخول شهر رمضان إما برؤية هلاله، أو بإكمال شعبان ثلاثين يومًا

(1)

.

دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» .

•‌

‌ المبحث الثاني: هل هناك أذكارٌ لمن رأى هلال رمضان؟

عن طلحة بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال: «اللَّهُمَّ أَهْلِلْهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ»

(2)

.

(1)

قال شيخ الإسلام «كتاب الصيام» (ص 76): وجملة ذلك أن الموجب لصوم رمضان أشياء:

أحدها: إكمال عدة شعبان، فمتى أكملوا عدة شعبان لزمهم الصوم، سواء رأوا الهلال أو لم يروه، وسواء حالَ دون منظره سحاب أو قتر أو لم يَحُل؛ ولتواتر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ ولأن الشهر لا يكون أكثر من ثلاثين يومًا، فمتى كمل شعبان فقد تيقنا دخول شهر رمضان، ثم إكمال شعبان مبني على ابتدائه، فإن كان أوله قد رئي بالرؤية العامة، فآخره قد تُيقن انصرامه بكمال العدة، وإن كان بشهادة عدلين. الثانى: رؤية الهلال، فإن رئي رؤية عامة فقد وجب الصوم، سواء رأوه بعد إكمال عدة شعبان أو لتسع وعشرين خلت منه أيضًا من العلم العام. وقد قال الله سبحانه وتعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . وتواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الصوم لرؤيته.

(2)

أسانيده ضعيفة: أخرجه أحمد (1/ 162)، والترمذي (3451) وقال: هذا حديث حسن غريب. والدارمي (2/ 4)، وغيرهم. قلت: وفي إسناده سليمان بن سفيان المدني وهو منكر الحديث. ولهذا الحديث شواهد: 1 - منها حديث ابن عمر: أخرجه الطبراني في «الدعاء» (904). قلت: وفى إسناده هشام بن زياد، وهو متروك. وأخرجه ابن حبان (888)، والدارمي (2/ 3)، وغيرهما. قال: وفيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي، وفيه ضعف. قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (6/ 144)، في ترجمة عثمان: روى عنه ابنه عبد الرحمن أحاديث منكرة، قلت: فما حاله؟ قال: يكتب حديثه وهو شيخ. 2 - شاهد أبي سعيد الخدري: أخرجه الطبراني في «الدعاء» (905)، قلت: وفى إسناده عبيد الله بن تمام، ضعيف. 3 - شاهد أنس بن مالك: أخرجه الطبراني في «الدعاء» (905). وفى إسناده محمد بن عبيد الله العزرمي متروك. 4 - حديث رافع بن خديج: أخرجه الطبراني في «الدعاء» (908). قلت: وفى إسناده محمد بن موسى الخرشي، لين، وميمون بن زيد، مقبول، وليث بن أبي سليم فيه مقال، فهذا إسناد ضعيف جدًّا. 5 - حديث على بن أبي طالب: أخرجه الطبراني في «الدعاء» (909)، (910)، هذا إسناد ضعيف جدا، في إسناده شريك سيء الحفظ والحارث كذاب. 6 - حديث عبادة بن الصامت: أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 398)، عن عبد العزيز بن محمد قال: حدثنى من لا أتهم من أهل الشام. فهذه جهالة. 7 - ورد مراسيل عن قتادة: أولها: ما أخرجه أبو داود في «السنن» (5092)، من طريق موسى بن إسماعيل، عن أبان، عن قتادة، أنه بلغه عن رسول الله:«هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ آمَنْتُ بِالَّذِى خَلَقَكَ» . وثانيها: ما أخرجه البغوي في «شرح السنة» (1336)، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة أنه بلغه، وكان يحيى بن سعيد القطان، لا يرى إرسال قتادة والزهري شيئًا. ويقول: هى بمنزلة الريح في «الجرح والتعديل» (1/ 246).

ص: 74

قال أبو داود: ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث مسند صحيح.

وقال العقيلي: وفي الدعاء لرؤية الهلال أحاديث كلها لينة الأسانيد.

•‌

‌ المبحث الثالث: بكم رجلٍ يثبت هلال رمضان؟

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوالٍ:

• القول الأول: ذهب أحمد بن حنبل والشافعي في الصَّحِيحِ عَنْهُ إلى أَنَّهُ إذا رأى هِلَالَ رَمَضَانَ وَاحِدٌ عَدْلٌ، فإنه يُقْبَلُ قَوْلَه، ويُلْزَمُ النَّاسَ الصِّيَامُ

(1)

.

واستدلوا لهذا القول بما روى أبو داود عن ابن عمر {قال: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْته، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ

(2)

.

(1)

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 416): وَإِنْ كَانَ عَدْلًا، صَوَّمَ النَّاسَ بِقَوْلِهِ، المشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ

أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَان قَوْلُ وَاحِدٍ عَدْلٍ، وَيَلْزَمُ النَّاسَ الصِّيَامُ بِقَوْلِهِ. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ المبَارَكِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ. وانظر:«المجموع» (6/ 282).

(2)

إسناده حسن: أخرجه أبو داود (2342)، والدارمي (2/ 4)، وابن حبان (3447)، وغيرهم

من طرق، عن مروان بن محمد، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن أبي بكر بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر به قال: تراءى

الحديث. قال الدارقطني: تفرد به مروان بن محمد عن عبد الله بن وهب وهو ثقة. قلت: وفى إسناده يحيى بن عبد الله بن سالم، قال النسائي: مستقيم الحديث، وقال الدارقطني: ثقة، وذكره ابن حبان في «الثقات» ، وقال ابن معين:«صدوق ضعيف الحديث» ، وقال الحافظ:«صدوق» ، وفى إسناده أبو بكر بن نافع. قال الحافظ:«صدوق» . وقال: «تابع مروان بن محمد، وهارون بن سعيد الأيلي، كما أخرجه الحاكم «المستدرك» (1/ 423). وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قلت: وقد أخرج مسلم (259) حديثًا من طريق أبي بكر بن نافع، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِإِحْفَاءِ الشَّوَارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ. قال النووي «المجموع» (6/ 276): وحديث ابن عمر صحيح، رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح على شرط مسلم.

ص: 75

وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَر الناس بالصيام بشهادة ابن عمر، ولم يطلب شاهدًا آخر.

وعن ابن عباس {قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: رَأَيْت الْهِلَالَ. قال الحسن: - أى ابن على- يعنى رمضان. قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «يَا بِلَالُ أَذِّنْ في النَّاسِ، فَلْيَصُومُوا غَدًا»

(1)

.

(1)

ضعيف: هذا الحديث من رواية سماك، عن عكرمة، واختلف على سماك في الاتصال والإرسال:

1 -

فرواه زائدة بن قدامة موصولًا. أخرجه أبو داود (2340)، والنسائي في «السنن» (4/ 132)، وابن ماجه (1/ 529)، وغيرهم. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (11/ 295)، والدارقطني في

«السنن» (2/ 157)، من رواية حازم بن إبراهيم

موصولًا وفيه جهالة.

2 -

سفيان الثوري واختلف عليه، فرواه «شعبة، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن المبارك، وأبو نعيم، ووكيع، وعبد الرزاق، وأبو داود» عنه مرسلًا لم يذكروا ابن عباس. أخرجه النسائي في «السنن» (4/ 132)، وفي «الكبرى» (2/ 68)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (1/ 425)، وعبد الرزاق في «المصنف» (4/ 166). وخالف هؤلاء «الفضل بن موسى، وأبو عاصم» فروياه عنه موصولًا. أخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 68)، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (973). 3 - إسرائيل بن يونس: رواه مرسلًا لم يذكر ابن عباس، أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 67). 4 - حماد بن سلمة واختلف عليه: فرواه موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن سماك، عن عكرمة مرسلًا «لم يذكر ابن عباس» ، أخرجه أبو داود (2341). تنبيه: في رواية حماد زيادة في المتن «فَأَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى في النَّاسِ أَنْ يَقُومُوا وَأَنْ يَصُومُوا» فهنا زيادة «أَنْ يَقُومُوا» .

قال أبو داود: رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ مرسلًا، وَلم يَذْكُرِ الْقِيَامَ أَحَدٌ إِلاَّ حَمَّادُ بْنُ سَلمةَ، وكذا رجح النسائي الإرسال كما في «تحفة الأشراف» (5/ 731)، وهذا الحديث من رواية سماك عن عكرمة. قال يعقوب بن شيبة: حكيت لابن المديني رواية سماك عن عكرمة قال: مضطربة. فرواية سماك عن عكرمة ضعيفة. أنظر: «نصب الراية» (2/ 433).

ص: 76

• القول الثاني: ذهب مالك وداود إلى أنه لا تجوز شهادة رجلٍ واحدٍ لرؤية هلال رمضان وإن كان عدلًا، ولابد من شهادة رجلين

(1)

.

واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مُسْلمانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا»

(2)

.

هذا منطوق الحديث ومفهوم المخالفة إن شهد شاهد فلا تصوموا ولا تفطروا، فمفهوم هذا الحديث يدل على أنه لا تجزئ شهادة عدل، بل لابد من شاهدين.

واعْتُرِضَ على هذا الاستدلال من وجهين:

الأول: أن هذا الحديث لا يصح.

الثانى: ما قاله ابن حزم

(3)

: وتعقب «إِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا» ليس فيه إلا قَبول اثنين، ونحن لا ننكر هذا، وليس فيه أن لا يُقْبَلَ خبر الواحد.

وأما دليلهم من المأثور: فعن ابن جريج قال: سمعت عمرو بن دينار يحدِّث أن عثمان أَبَى أن يجيزَ هاشم بن عتبة الأعور وحده على رؤية هلال رمضان

(4)

.

(1)

«المدونة» (1/ 174)، «المجموع» (282).

(2)

ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 321)، والدارقطني في «السنن» (2/ 167). قلت: وفى إسناده حجاج بن أرطأة ضعيف، وحسين بن الحارث صدوق. ورواه ابن أبي زائدة بإسقاط الحجاج بن عن حسين به، أخرجه النسائي «السنن» (4/ 132، 133). قال المزى: والصواب ذكره.

(3)

«المحلى» (6/ 235).

(4)

ضعيف أعل بالانقطاع: أخرجه عبد الرزاق (4/ 167)، وعمرو بن دينار لم يدرك عثمان.

ص: 77

وعن ابن جريج عن عطاء قال: لا يجوز على رؤية الهلال إلا رجلان

(1)

.

• القول الثالث: قال أبو حنيفة: إن كانت السماء مغيمة، ثبت بشهادة واحد، ولا يثبت غير رمضان إلا باثنين، وقال:(إن كانت السماء مصحية، لم يثبت رمضان بواحد ولا باثنين، ولا يثبت إلا بعدد الاستفاضة).

واحتج لأبي حنيفة بأنه يبعد أن تنظر الجماعة الكبيرة إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة، ولا مانع من الرؤية، ويراه واحد أو اثنان دونهم

(2)

.

والجواب عما احتج به أبو حنيفة من وجهين

(3)

:

أحدهما: أنه مخالف للأحاديث الصحيحة فلا يعرج عليه.

الثانى: أنه يجوز أن يراه بعضهم دون جمهورهم؛ لحسن نظره أو لغير ذلك، وليس هذا ممتنعًا؛ ولهذا لو شَهِدَ برؤيته اثنان أو واحد، وحكم به حاكمٌ لم يُنقض بالإجماع، ووجب الصوم بالإجماع، ولو كان مستحيلًا لم ينفذ حكمه ووجب رده.

والراجح: أنه إذا رأى هلال رمضان واحد عدل صام الناس بقوله لحديث ابن عمر {قال: «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْته، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ» وهذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَر الناس بالصيام بشهادة ابن عمر ولم يطلب شاهدًا آخر.

وذهب مالك إلى أنه لابد من شاهديْ عدل، واستدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم «وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ مُسْلمانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا» .

وأُجِيبَ بأن هذا الحديث لا يصح، ثم لو صح فليس فيه دلالة،؛ لأنه ليس فيه عدم قبول خبر الواحد، وإنما غاية ما فيه أن التصريح بالإثنين، فيه دلالة على عدم قبول خبر الواحد بالمفهوم، وحديث ابن عمر منطوقٌ فيُقَدَّم المنطوق على المفهوم عند جماهير الأصوليين، ثم إن مفهوم المخالفة ضعيف في الاستدلال.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7346، 7348).

(2)

«المجموع» للنووي (6/ 282).

(3)

«المجموع» للنووي (6/ 283).

ص: 78

وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كانت السماء مغيمةٌ ثبت بشهادة الواحد، وإن كانت مصحية لم يثبت بواحد ولا اثنين، ولا يثبت إلا بعدد الاستفاضة. وهذا القول لا يعرج عليه؛ لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة، ولجواز أن يراه البعض لحسن نظره، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الرابع: بكم رجل يثبت هلال شوال؟

قال ابن عبد البر

(1)

: أَجْمَعَ الْعُلماءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ في شَهَادَةِ شَوَّالٍ في الْفِطْرِ إِلَّا رَجُلَانِ عَدْلَانِ.

فعن ربعى بن خِرَاش عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَصْبَحَ النَّاسُ لِتَمَامِ ثلاثين يومًا فَجَاءَ أَعْرَابِيَّانِ فَشَهِدَا أَنَّهُمَا أَهَلَّاهُ بِالْأَمْسِ عَشِيَّةً، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفْطِرُوا»

(2)

.

وذهب أبو ثور وابن حزم والشوكاني: إلى أنه يُقبل في شهادة هلال شوال رجل عدل

(3)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة والمأثور والمعقول:

أما دليلهم من السنة: فعن ابن عمر {قال: تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْته، فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ.

واعترض عليه: بأن هذا في هلال رمضان، ولا يقاس هلال رمضان على هلال شوال؛ لأنه ثبت بالإجماع أنه لا يُقبل في شهادة هلال شوال في الفطر إلا رجلان عدلان، كما حكاه ابن عبد البر وغيره.

(1)

«التمهيد» (14/ 356)، وقال الترمذي «السنن» (3/ 66): وَلم يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلم فِي الْإِفْطَارِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ. وقال ابن قدامة «المغني» (4/ 419): إنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ إلَّا شَهَادَةُ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعِهِمْ إلَّا أَبَا ثَوْرٍ.

(2)

صحيح: أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 413)، وأبو داود «السنن» (2339) وغيرهما من طرق عن سفيان وأبي عوانة عن منصور عن ربعي به، وأخرجه الطبراني «الكبير» (17/ 663)، والبيهقي «الكبرى» (4/ 248)، وغيرهما من طرق عن إسحاق بن إسماعيل عن ابن عيينة عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود

وذكر الحديث، وإسحاق الطالقاني ثقة والخلاف في الصحابي لا يضر.

(3)

«المحلى» (6/ 235)، و «نيل الأوطار» (4/ 266).

ص: 79

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فعن عبد الرحمن بن أبى ليلى، قال: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلالَ هِلالَ شَوَّالٍ. فَقال عُمَرُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْطِرُوا. ثُمَّ قَامَ إِلَى عُسٍّ فِيهِ مَاءٌ فَتَوَضَّأَ»

(1)

، واعترض عليه بأنه لا يصح.

2 -

وعن عبد الملك بن ميسرة قال: «شَهِدْتُ المدِينَةَ في هِلَالِ صَوْمٍ أَوْ إفْطَارٍ، فَلم يَشْهَدْ عَلَى الْهِلَالِ إِلاَّ رَجُلٌ، فَأَمَرَهُمَ ابْنُ عُمَرَ فَقَبِلُوا شَهَادَتَهُ»

(2)

.

وأُجِيبَ بأنه ليس بصريح في المسألة لشك الراوي أكان ذلك في هلال صوم، أو إفطار.

وأما دليلهم من المعقول: فقاسوا على رؤية هلال شوال برؤية هلال رمضان، فإذا كان يثبت هلال رمضان برؤية عدلٍ فكذا هلال شوال.

واعترض عليه: بما قاله ابن رشد

(3)

: وإنما فَرَّقَ من فَرَّقَ بين هلال الصوم والفطر لمكان سد الذريعة، ألا يدَّعي الفساق أنهم رأوا الهلال فيفطرون وهم بعد لم يروه.

قلت (محمد): وقد نقل الإجماع ابن عبد البر والترمذي على أنه لا تُقبل في هلال شوال في الفطر إلا شهادة رجلين عدلين.

(1)

ضعيف: أخرجه أحمد (1/ 28)، وعبد الرزاق (7343)، وغيرهما، من طرق عن عبد الأعلى الثعلبي، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن عمر به. قلت: وفيه علتان:

العلة الأولى: عبد الأعلى الثعلبي ضعيف، ضعفه أحمد وأبو حاتم وأبو زرعة والنسائي وابن معين.

العلة الثانية: الخلاف في سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عمر. قال ابن عدي: يحدث بأشياء لا يتابع عليها. قال محمد بن علي: قلت لأبي نعيم: سمع ابن أبي ليلى من عمر؟ قال: لا أدري. قال محمد بن علي: قلت ليحيى بن معين: سمع ابن أبي ليلى من عمر؟ فلم يثبت ذلك، ولكن قال مسلم في «المقدمة»: وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد حفظ من عمر بن الخطاب، قلت: ومما يعل هذا الأثر أنه ورد ما يخالف ذلك عن عمر.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (9466).

(3)

«بداية المجتهد» (1/ 285).

ص: 80

•‌

‌ المبحث الخامس: ما هو حكم صيام يوم الغيم؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوالٍ

(1)

:

• القول الأول: ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد إلى أنه لا يصام يوم الغيم

(2)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة ففي «الصحيحين»

(3)

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال أبو القاسم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ» وفى رواية لمسلم: «فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ ثَلَاثِينَ» .

وروى البخاري

(4)

عن ابن عمر {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ ليلة، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكَمِلُوا العِدةَ ثلاثين» .

عن صلة قال: كنا عند عمار في اليوم الذى يُشَكُّ فيه من رمضان، فأُتِىَ بشاةٍ فتنحَّى بعض القوم، فقال عمار بن ياسر:«مَنْ صَامَ يوم الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم»

(5)

.

(1)

السبب في الخلاف: هو ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر {قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ» أخرجه البخاري (1900)، ومسلم (1080). قال النووي في «شرح مسلم»: وَاخْتَلَفَ الْعُلماء فِي مَعْنَى (فَاقْدُرُوا لَهُ) فَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلماء: مَعْنَاهُ ضَيِّقُوا لَهُ وَقَدِّرُوهُ تَحْت السَّحَاب. وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَحْمَد بْن حَنْبَل وَغَيْره مِمَّنْ يُجَوِّز صَوْم يَوْمِ لَيْلَةِ الْغَيْمِ عَنْ رَمَضَان، وَقَالَ اِبْن سُرَيْج وَجَمَاعَة، مِنْهُمْ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه وَابْن قُتَيْبَة وَآخَرُونَ: مَعْنَاهُ قَدِّرُوهُ بِحِسَابِ المنَازِل. وَذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَة وَجُمْهُور السَّلَف وَالْخَلَف إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: قَدِّرُوا لَهُ تَمَام الْعَدَد ثَلَاثِينَ يَوْمًا. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُور بِالرِّوَايَاتِ المذْكُورَة، فَأَكْمِلُوا الْعِدَّة ثَلَاثِينَ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ فاقْدُرُوا لَهُ.

(2)

«المدونة» (1/ 182). قال ابن قدامة: في «المغني» (4/ 330): يوم الغيم لا يجب صومه، وهو قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي.

(3)

أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1081)(20).

(4)

أخرجه البخاري (1907) والأحاديث التى تدل على هذا المعنى كثيرة.

(5)

صحيح: أخرجه البخاري معلقًا باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ فَصُومُوا» ، وأخرجه النسائي (4/ 153)، وأبو داود (2334)، والترمذي (686)، وغيرهم، من طرق عن عمرو بن قيس الملائى، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن عمار

فذكره». وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 72)، من طريق عبد العزيز بن عبد الصمد، عن منصور عن ربعي عن خراش عن عمار بن ياسر وذكر القصة ولم يذكر الحديث. وخالفه الثوري كما في «مصنف عبد الرزاق» (4/ 159)، أخرجه من طريق الثوري عن منصور عن ربعى عن رجل عن عمار موقوفًا، وصحح الحديث: الدارقطني والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم.

ص: 81

قال ابن عبد البر

(1)

: وفى هذا الحديث مِنَ الْفِقْهِ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَ عِبَادَهُ في الصَّوْمِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ لِرَمَضَانَ، أَوْ بِاسْتِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَفِيهِ تَأْوِيلٌ لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أَنَّ شُهُودَهُ رُؤْيَتُهُ، أَوِ الْعِلم بِرُؤْيَتِهِ، وَفِيهِ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزِيلُهُ الشَّكُّ، وَلَا يُزِيلُهُ إِلَّا يَقِينٌ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَمَرَ النَّاسَ أَلَّا يَدعُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ يَقِينِ شَعْبَانَ، إِلَّا بِيَقِينِ رُؤْيَةِ وَاسْتِكْمَالِ الْعِدَّةِ، وَأَنَّ الشَّكَّ لَا يَعْمَلُ في ذَلِكَ شَيْئًا، وَلِهَذَا نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ اطِّرَاحًا لِأَعْمَالِ الشَّكِّ وَإِعْلَامًا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَجِبُ، إِلَّا بِيَقِينٍ، لَا شَكَّ فِيهِ، وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنَ الْفِقْهِ أَنْ لَا يَدَعَ الْإِنْسَانُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَالِ المتَيَقَّنَةِ، إِلَّا بِيَقِينٍ مِنِ انْتِقَالِهَا، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَإِنَّ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعَدَدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» يَقْتَضِي اسْتِكْمَالَ شَعْبَانَ قَبْلَ الصِّيَامِ وَاسْتِكْمَالَ رَمَضَانَ أَيْضًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صِيَامُ يَوْمِ الشَّكِّ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ.

• القول الثانى: ذهب الإمام أحمد في روايةٍ إلى جواز صوم الغيم

(2)

.

وبه قال عمر

(3)

وابن عمر

(4)

..................................................

(1)

«التمهيد» (2/ 39).

(2)

قال ابن القيم في «زاد المعاد» (2/ 45): وَقال فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: إذَا كَانَ فِي السّمَاءِ سَحَابَةٌ أَوْ عِلّةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا، وَإِنْ لم يَكُنْ فِي السّمَاءِ عِلّةٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا. وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنَاهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللّهِ وَالمرْوَزِيّ وَالْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ وَغَيْرُهُمْ.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 73).

(4)

روى أبو داود (2320) وغيره بسند صحيح عَنْ نَافِعٍ قال: «كَانَ عَبْدُ اللّهِ إذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يومًا يَبْعَثُ مَنْ يَنْظُرُ، فَإِنْ رَأَى فَذَاكَ، وَإِنْ لم يَرَ وَلم يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتْرٌ، أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتْرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا. وقد ورد خلاف عنه، فقد روى ابن أبي شيبة (3/ 71) بسند حسن عن ابن عمر أنه قال: لَوْ صُمْت السَّنَةَ كُلَّهَا لأَفْطَرْتُ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ.

ص: 82

وغيرهما

(1)

.

واستدلوا لذلك بأن اليوم الذي يُشَكّ فيه إما أن يكون من رمضان أو من شعبان، وصوم يوم من شعبان - وإن كان منهيًّا عنه لكونه يوم شكٍّ - فهو أهون وأخفُّ من فطر يوم من رمضان؛ ولذا قالت عائشة لما سئلت عن اليوم الذي يختلف فيه:«لأَنْ أَصُومَ يومًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلى مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يومًا مِنْ رَمَضَانَ»

(2)

.

وقال أبو هريرة: «لأن أَصُومَ اليوم الذى يُشَكُّ فيه مِنْ شعبانَ أحبُّ إلىَّ من أن أُفْطِرَ يومًا مِنْ رمضان»

(3)

.

• القول الثالث: قال الْإِمَامُ أَحْمَدُ في رِوَايَةٍ: النّاسُ تَبَعٌ لِلْإِمَامِ في صَوْمِهِ وَإِفْطَارِهِ

(4)

، وهذا قول الحسن وابن سيرين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الصوم يومَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يومَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يومَ تُضَحُّونَ»

(5)

قيل: معناه: إن الصوم والفطر مع الجماعة وعِظَمِ الناس.

والراجح: أنه لا يصام يوم الغيم، وقد صح عن عمار رضي الله عنه قال:«من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم» وأما حديث ابن عمر {قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ» فهذا مجملٌ، وهو مفسَّرٌ بما ورد في «الصحيحين»:«فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكَمِلُوا العِدةَ ثلاثين» .

(1)

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 330): وَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ غَيْمٌ، أَوْ قَتَرٌ وَجَبَ صِيَامُهُ، وَقَدْ أَجْزَأَ إذَا كَانَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله فِي هَذِهِ المسْأَلَةِ، فَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ مَا نَقَلَ الْخِرَقِيُّ، اخْتَارَهَا أَكْثَرُ شُيُوخِ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ، وَابْنِهِ، وَعَمْرِو ابْن الْعَاصِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَمُعَاوِيَةَ، وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَبِهِ قال بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، وَابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، وَمُطَرِّفٌ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه أحمد (6/ 84، 88).

(3)

أخرجه البيهقي «السنن الكبرى» (4/ 211).

(4)

«زاد المعاد» (2/ 47).

(5)

هذا الحديث أسانيده ضعيفة وسيأتى تخريجه.

ص: 83

فوجب أن يُحمل المجمل على المفسر، وهى طريقة لا خلاف فيها بين الأصوليين، فإنهم ليس عندهم بين المجمل والمفسر تعارضٌ أصلًا

(1)

، أما فعل الصحابة من صوم يوم الثلاثين من شعبان فلأنهم رَأَوْا جواز صوم هذا اليوم احتياطًا.

•‌

‌ المبحث السادس: من رأى الهلال وحده ولم يعمل الناس برؤيته، هل يصوم أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة علي ثَلَاثَة أقوالٍ:

• القول الأول: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ، وَأَنْ يُفْطِرَ سِرًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، ورواية عن أَحْمَدَ

(2)

.

واستدلوا لذلك بعموم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، فمن رآه فقد شهده فوجب عليه الصوم بنص الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» .

وجه الدلالة: إن من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم، ودخل شهر رمضان في حقِّه، وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان، وإن لم يعلم غيره

(3)

.

• القول الثانى: ذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية، إلى أنه إذا رأى هلال رمضان بمفرده يصوم، ولكن إذا رأى هلال شوال بمفرده لا يفطر

(4)

.

واستدلوا لهذا القول بالقياس على يوم النحر:

قال شيخ الإسلام

(5)

: وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا في الْفِطْرِ؛ فَالْأَكْثَرُونَ أَلْحَقُوهُ بِالنَّحْرِ، وَقَالُوا: لَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ المسْلمينَ. وقال: لَكِنَّ شَهْرَ النَّحْرِ مَا عَلمتُ أَنَّ أَحَدًا قال: مَنْ رَآهُ يَقِفُ

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 284).

(2)

«الحاوي» (3/ 274)، و «الفتاوى» (25/ 114).

(3)

قال ابن حزم «المحلى» (6/ 235): يَصُومُ إنْ رَآهُ وَحْدَهُ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لَا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ} ، وَقال تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَمَنْ رَآهُ فَقَدْ شَهِدَهُ. وَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» .

(4)

قال شيخ الإسلام «الفتاوى» (25/ 114): يصُومُ (وحده) وَلَا يُفْطِرُ إلَّا مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ المشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ.

(5)

«الفتاوى» (25/ 116).

ص: 84

وَحْدَهُ دُونَ سَائِرِ الْحَاجِّ.

• القول الثالث: يَصُومُ مَعَ النَّاسِ، وَيُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ، وهى رواية للإمام أحمد وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَهَذَا أَظْهَرُ الْأقوالٍ.

واستدلوا لذلك بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم يومَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يومَ تُفْطِرُونَ، وَالْأَضْحَى يومَ تُضَحُّونَ»

(1)

.

(1)

أسانيده ضعيفة: مدار الحديث على محمد بن المنكدر، عن أبي هريرة. واختلف على محمد:

فرواه حماد بن زيد، عن أيوب، وتابع أيوبَ معمرٌ وروح بن عبادة وعبد الصمد عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة مرفوعًا، أخرجه أبو داود في «السنن» (2324)، وعبد الرزاق (7304)، والدارقطني في «السنن» (2/ 163). ورواه إسماعيل بن علية وعبد الوهاب فجعلاه موقوفًا، أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 163)، والبيهقي في «الكبرى» (4/ 251).

وذكره الدارقطني في «العلل» (10/ 63) من طريق ابن عيينة، عن محمد بن المنكدر مرسلًا.

ومدار هذه الروايات على ابن المنكدر عن أبي هريرة، قال ابن معين وأبو زرعة: لم يسمع ابن المنكدر من أبي هريرة ولم يلقه، كما في «جامع التحصيل» (270). وأخرجه ابن ماجه في «السنن» (1660) فأبدل محمد بن المنكدر ب (محمد بن سيرين) وهذه الرواية منكرة؛ لمخالفة الثقات، وفي السند إليه (محمد بن عمر المقرئ) لا يُعرف. وأخرجه الترمذي في «العلل الكبير» (219)، عن ابن المنكدر عن عائشة. وفي السند يحيى بن اليمان ضعيف، وكان يخطئ في الأحاديث ويقلبها

وأخرجه البيهقي في «الكبرى» (5/ 175)، عن ابن المنكدر، عن عائشة مرفوعًا، قال البيهقي: تفرد به محمد بن إسماعيل، عن سفيان. وأخرجه الترمذي في «السنن» (697)، وقال: هذا حديث حسن غريب، من طريق إسحاق بن جعفر بن محمد، عن عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبرى، عن أبي هريرة مرفوعًا. وفيه عثمان بن محمد الأخنسي.

قال الحافظ في «التقريب» : «صدوق له أوهام» ، وثقه ابن معين والبخاري وذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن المديني: روى عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أحاديث مناكير، وقال النسائي في السنن: عثمان ليس بذاك القوى. قال الذهبى في «الميزان» : وله ما ينكر. قال ابن حبان: عثمان بن محمد يعتبر بحديثه من غير رواية المخرمى عنه لأن المخرمى ليس بشاء في الحديث. وإسحاق بن جعفر أيضًا صدوق ولكن قد تابعه أبو سعيد مولى بنى هاشم وهو ثقة كما عند البيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 252). ولكن قد تكلم الإمام أحمد على هذا الإسناد كما في رواية أبي داود (ص: 404)، قال:«سمعت أحمد بن حنبل يقول: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» ، وليس له إسناد، يعني، حديث عبد الله بن جعفر المخرمى من ولد مسور بن مخرمة، عن عثمان الأخنسي، عن المقبرى، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم يريد بقوله «ليس له إسناد» لحال عثمان الأخنسي؛ لأن في حديثه نكارة. اه.

قال ابن رجب في «فتح الباري» (2/ 289) قول أحمد: ليس له إسناد. يعني: أن في أسانيده ضعفًا. وأخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 164)، من طرق فيها الواقدي، والواقدي متروك.

وللحديث شواهد:

1 -

حديث عائشة: أخرجه الشافعي في «المسند» (438). وفى إسناده إبراهيم بن محمد، متروك.

2 -

حديث ابن عمر: أخرجه البيهقي في «الكبرى» (5/ 176)، وفى إسناده مسلم بن خالد وهو ضعيف، وأخرجه ابن حبان في «المجروحين» (2/ 236). وموسى بن عبيدة، ضعيف.

ص: 85

قالوا: وجه الدلالة من الحديث: أن الإنسان لا يعمل برؤية نفسه، بل يصوم ويفطر مع الناس.

والراجح في المسألة والله أعلم: هو ما ذهب إليه الشافعي وأهل الظاهر: أنه يصوم لرؤية نفسه وأن يفطر لرؤية نفسه سرًّا، ولا يفعل ذلك جهرًا لكي لا يُحدث فتنًا.

قال ابن حزم

(1)

: يَصُومُ إنْ رَآهُ وَحْدَهُ؛ لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لَا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ} ، وَقال تعالى:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} ، وَقال تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَمَنْ رَآهُ فَقَدْ شَهِدَهُ. وَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» .

•‌

‌ المبحث السابع: مسألة اختلاف المطالع:

إذا رؤي الهلال في بلد من بلاد المسلمين وثبتت رؤيته شرعًا، فهل يلزم بقية المسلمين أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية أو أن لكل بلدٍ رؤية؟

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ:

(1)

«المحلى» (6/ 239).

ص: 86

• القول الأول: أنه يلزمهم أن يعملوا بمقتضى هذه الرؤية، وأن عليهم أن يصوموا، وعدم اعتبار اختلاف المطالع.

وهو قول الجمهور

(1)

، وإليه ذهب أبو حنيفة

(2)

، ومالك

(3)

، والشافعي

(4)

، وأحمد

(5)

، في الصحيح عنهم.

واستدلوا لهذا القول بالكتاب والسنة:

وأما دليلهم من الكتاب: فقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

وأما دليلهم من السنة: فهو ما رواه البخاري ومسلم

(6)

عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم قال: قال

(1)

انظر: «المجموع» (6/ 273) قال ابن المنذر: قال أكثر الفقهاء إذا ثبت بخبر الناس أن أهل بلد من البلدان قد رأوه قبلهم فعليهم قضاء ما أفطروه. وهو قول أصحاب الرأي، ومالك، وإليه ذهب الشافعي وأحمد.

(2)

انظر: «الدر المختار» (3/ 364) قال العلاء الحصكفي: واختلاف المطالع غير معتبر على ظاهر المذهب، وعليه أكثر المشايخ وعليه الفتوى، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب.

(3)

انظر: «بداية المجتهد» (1/ 287)، و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبى (2/ 296). قال ابن رشد: فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ وَالمصْرِيِّينَ رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَ أَهْلِ بَلَدٍ أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ آخَرَ رَأَوُا الْهِلَالَ أَنَّ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرُوهُ وَصَامَهُ غَيْرُهُمْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.

(4)

انظر: «الحاوي الكبير» (3/ 256). قال الماوردي: فَلَوْ رَآهُ أَهْلُ الْبَلَدِ وَلم يَرَهُ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ هلال رمضان، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ لم يَرَوْهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَلَيْهِمْ يَصُومُوا إِذْ لَيْسَ رُؤْيَةُ الْجَمِيعِ شَرْطًا فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ، وَفَرْضُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِهِمْ وَاحِدًا.

(5)

انظر: «مسائل الإمام أحمد» (ص 128، 616)، و «المغني» (4/ 328).

قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث كريب تذهب إليه؟ يعنى حديث محمد بن أبي حرملة، عن كريب، قدمت - يعنى: من الشام، فسألنى ابن عباس؟ قال: لا. يعنى لا أذهب إليه. قال أحمد: إذا استبان لهم أنهم رأوه في بلدة. يعنى: قبل اليوم الذى صاموا، قضى، يعنى ذلك اليوم. قال ابن قدامة: وَإِذَا رَأَى الْهِلَالَ أَهْلُ بَلَدٍ، لَزِمَ جَمِيعَ الْبِلَادِ الصَّوْمُ.

(6)

أخرجه البخاري (1909)، ومسلم (1081).

ص: 87

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» ، والأحاديث على هذا المعنى متوافرة ومتضافرة.

ووجه دلالة من الآية والحديث: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» ، وأن الخطاب عام لجميع الأمة فمن رآه منهم في أى مكان كان ذلك رؤية لجميعهم.

• القول الثانى: لا يلزمهم صيامه حتى يروه، وأن لكل بلد رؤية؛ لأن الطوالع والغوارب تختلف لاختلاف البلدان، وكل قومٍ إنما خوطبوا بمطلعِهم ومغربِهم، ألا ترى أن الفجر قد يتقدم في مكانٍ على آخر، فكذلك الهلال، وهى رواية عن مالك

(1)

، ووجه عند الشافعية

(2)

، وحكاه ابن المنذر عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وابن عمر وعكرمة وهو مذهب إسحاق

(3)

.

واستدلوا لهذا القول بما روى مسلم

(4)

عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ قال: فَقَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتُهِلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ المدِينَةَ في آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

(1)

انظر: «بداية المجتهد» (1/ 287). قال ابن رشد: وَرَوَى المدَنِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَلْزَمُ بِالْخَبَرِ عِنْدَ غير أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الرُّؤْيَةُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ.

(2)

انظر: «الحاوي الكبير» (3/ 206) قال الماوردي: فَلَوْ رَآهُ أَهْلُ الْبَلَدِ وَلم يَرَهُ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ هلال رمضان، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِينَ لم يَرَوْهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُمْ صِيَامُهُ حَتَّى يَرَوْهُ؛ لِأَنَّ الطَّوَالِعَ وَالْغَوَارِبَ قَدْ تَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، وَكُلُّ قَوْمٍ فَإِنَّمَا خُوطِبُوا بِمَطْلَعِهِمْ وَمُغْرِبِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ يَتَقَدَّمَ طُلُوعُهُ فِي بَلَدٍ، وَيَتَأَخَّرُ فِي آخَرَ؛ فَكَذَلِكَ الْهِلَالُ.

(3)

انظر: «معالم السنن» (2/ 748). قال الخطابي: واختلف الناس في الهلال يستهله أهل البلد في ليلة، ثم يستهله أهل بلد آخر في ليلة قبلها أو بعدها: فذهب إلى ظاهر حديث ابن عباس القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعكرمة، وهو مذهب إسحاق وقالوا: لكل قوم رؤيتهم.

(4)

أخرجه مسلم (28، 1087).

ص: 88

عَبَّاسٍ {، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقال: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ. فَقال: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ.

فَقال: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ: أَوَلَا تَكْتَفِى بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقال: لَا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وجه الدلالة منه: أن ابن عباس لم يعمل برؤية معاوية في الشام، وفى هذا دليلٌ على أن لكل بلدٍ رؤية.

واعْتُرِضَ عليه بما قاله الشوكاني

(1)

: واعلم أن الحجة إنما هى في المرفوع من رواية ابن عباس، لا من اجتهاده الذى فهم عنه الناس والمشار إليه بقوله:«هكذا أمرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم» هى قوله: «فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين» ، والأمر الكائن من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما بلفظ:«لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأكَمِلُوا الَعِدةُ ثَلَاثيِن» .

وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطابٌ لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم، لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون، فيلزم غيرهم ما لزمهم.

قال صديق حسن خان: وأما استدلال من استدل بحديث كريب عند مسلم وغيره «أنه استهل عليه رمضان، وهو بالشام فرأى الهلال ليلة الجمعة، فقدم المدينة فأخبر بذلك ابن عباس، فقال: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ أَوْ نَرَاهُ، ثم قال: «هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، وله ألفاظ - فغير صحيح؛ لأنه لم يصرح ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أرى ابن عباس أنه أمرهم بإكمال الثلاثين، أو يروه ظنًّا منه أن المراد بالرؤية رؤية أهل المحل، وهذا خطأ في الاستدلال أوقع الناس في الخبط والخلط حتى تفَرَّقوا في ذلك

(1)

«نيل الأوطار» (4/ 230).

ص: 89

على ثمانية مذاهب

(1)

.

قال شيخ الإسلام

(2)

: فَالضَّابِطُ أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» فَمَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ رُئِيَ ثَبَتَ في حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمَسَافَةٍ أَصْلًا، وَهَذَا يُطَابِقُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، في أَنَّ طَرَفَيْ المعْمُورَةِ لَا يَبْلُغُ الْخَبَرُ فِيهِمَا إلَّا بَعْدَ شَهْرٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ الْأَمَاكِنِ الَّذِي يَصِلُ الْخَبَرُ فِيهَا قَبْلَ انْسِلَاخِ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ.

• القول الثالث: فَرَّقُوا بين البلدان إذا تقاربت وتباعدت فقالوا: إذا كانت قريبة فالرؤية ملزمة

(3)

، وإذا كانت بعيدةً فلا تكون مُلزمة.

والراجح هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، أنه إذا رآه أهل بلدٍ فيَلزمُ باقي بلاد المسلمين العمل بمقتضى هذه الرؤية، وأنه لا عبرة باختلاف المطالع؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» والخطاب عامٌّ لجميع الأمة؛ فمن رآه منهم في أى مكانٍ كان ذلك رؤيةً لجميعهم. وأما حديث كُرَيبٍ أن الهلال رُؤي في الشام ليلة الجمعة، ورُؤي في المدينة ليلة السبت، فسأل ابن عباس عن العمل بمقتضى رؤية أهل الشام فقال ابن عباس: لا، هكذا أمَرنا رسول الله.

فقد اعْتُرِضَ عليه: بأن هذا قول ابن عباس ورأيه، ثم إنه لم يعلم برؤية معاوية لهلال رمضان في الحال، ولو علمها لتغيرت فتواه، والحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يختص بأهل ناحيةٍ على جهةٍ الانفراد، بل هو خطابٌ لكل ما يصلُح من المسلمين؛ فالاستدلال به على لزوم أهل بلدٍ لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم؛ لأنه إذا رآه أهل بلد فقد رآه المسلمون فيلزم غيرهم ما لزمهم.

وقد أفتى المجمع الفقهي بجدة بأنه إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين

(1)

«الروضة الندية» (1/ 224).

(2)

«مجموع الفتاوى» (25/ 107).

(3)

قال النووي في «المجموع» (6/ 273): إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه غيره، فإنْ تقارَبَ البلدان، فحكمهما حكم بلد، ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا خلاف.

ص: 90

الالتزام بها، ولا عبرة باختلاف المطالع؛ لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار

(1)

.

•‌

‌ المبحث الثامن: هل يجوز الاعتماد على الحساب في رؤية هلال رمضان؟

قال شيخ الإسلام

(2)

: العمل بالحساب في رؤية الهلال وغيره من الأحكام - لا يجوز بالنصوص والإجماع.

أولًا: الأدلة من الكتاب العزيز: قال تعالى: {يسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} . وقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

ثانيًا: من السنة النبوية: روى البخاري

(3)

من حديث ابن عمر {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيلَةً، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأكملوا العِدةَ ثلاثين» .

فعلق الحكم بأحد أمرين: إما الرؤية، وإما استكمال عدة شعبان.

وفي «الصحيحين»

(4)

من حديث ابن عمر {عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا، يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ» .

قال ابن حجر

(5)

: «لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ» : المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير، فعلَّق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير. ويوضحه الحديث:«فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأكملوا العِدةَ ثَلاثيِن» ، ولم يقل: فسلوا أهل الحساب.

نقل شيخ الإسلام الإجماع على عدم جواز العمل بالحساب الفلكي فقال

(6)

: فَإِنَّا نَعْلم بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَنَّ الْعَمَلَ في رُؤْيَةِ هِلَالِ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الْعِدَّةِ أَوْ

(1)

«فقه النوازل» (2/ 283).

(2)

انظر: «الفتاوى» (25/ 132).

(3)

أخرجه البخاري (1907).

(4)

أخرجه البخاري (1913)، ومسلم (1080).

(5)

«فتح الباري» (4/ 151).

(6)

«الفتاوى» (25/ 132).

ص: 91

الْإِيلَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ المعَلَّقَةِ بِالْهِلَالِ بِخَبَرِ الْحَاسِبِ، أَنَّهُ يُرَى أَوْ لَا يُرَى - لَا يَجُوزُ، وَالنُّصُوصُ المسْتَفِيضَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَقَدّ أَجْمَعَ المسْلمونَ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ قَدِيمٌ أَصْلًا وَلَا خِلَافٌ حَدِيثٌ، إلَّا أَنَّ بَعْضَ المتَأَخِّرِينَ مِنَ المتَفَقِّهَةِ الحادثين بَعْدَ المائَةِ الثَّالِثَةِ - زَعَمَ أَنَّهُ إذَا غُمَّ الْهِلَالُ جَازَ لِلْحَاسِبِ أَنْ يَعْمَلَ في حَقِّ نَفْسِهِ بِالْحِسَابِ، فَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ دَلَّ عَلَى الرُّؤْيَةِ صَامَ وَإِلَّا فَلَا. وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالْإِغْمَامِ وَمُخْتَصًّا بِالْحَاسِبِ فَهُوَ شَاذٌّ مَسْبُوقٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ ذَلِكَ في الصَّحْوِ أَوْ تَعْلِيقُ عُمُومِ الْحُكْمِ الْعَامِّ بِهِ فَمَا قَالَهُ مُسْلم.

• القائلون بالأخذ بالحساب الفلكي:

قال ابن عبد البر

(1)

: وَلم يَتَعَلَّقْ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ المسْلمينَ فِيمَا عَلمتُ بِاعْتِبَارِ المنَازِلِ في ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلم، وَلَوْ صح مَا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ عَلَيْهِ لِشُذُوذِهِ.

وقال النووي: وَقَالَ اِبْن سُرَيْج وَجَمَاعَة، مِنْهُمْ مُطَرِّف بْن عَبْد اللَّه وَابْن قُتَيْبَة وَآخَرُونَ: مَعْنَاهُ قَدِّرُوهُ بِحِسَابِ المنَازِل.

قال الماوردي

(2)

: عَنْ آخَرِينَ مِنْهُمْ، أَنَّهُمْ عَمِلُوا في صَوْمِهِمْ عَلَى النُّجُومِ وَمَا تُوجِبُهُ أَحْكَامُ الْحِسَابِ تَعَلُّقًا بُقُولِهِ:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} .

والدلالة على هذا الفريق: رواية عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ ثَلَاثِينَ» . فعلَّق حكمه بأحد شرطين لا ثالث لهما.

قال النووي

(3)

: ومن قال بحساب المنازل فقوله مردودٌ بقوله صلى الله عليه وسلم في «الصحيحين» : «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا

» الحديث. قالوا: لِأَنَّ النَّاس لَوْ كُلِّفُوا بِهِ ضَاقَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا أَفْرَادٌ من الناس في البلدان الكبار،

(1)

«التمهيد» (14/ 352).

(2)

«الحاوي الكبير» (3/ 254).

(3)

«المجموع» (6/ 270).

ص: 92

فالصواب قول الجمهور، وما سواه فاسد مردود بصرائح الأحاديث السابقة.

سئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله: هل يجوز للمسلم أن يستعمل ما يسمى «بالدربيل» في رؤية الهلال؟

فأجاب: وأما استعمال ما يسمى «بالدربيل» وهو المنظار المقرب في رؤية الهلال فلا بأس به، ولكن ليس بواجب؛ لأن الظاهر من السنة أن الاعتماد على الرؤية المعتادة لا على غيرها، لكن لو استعمل، فرآه من يوثق به، فإنه يعمل بهذه الرؤية. وقد كان الناس قديمًا يستعملون ذلك لما كانوا يصعدون المنائر في ليلة الثلاثين من شعبان، أو ليلة الثلاثين من رمضان، فيتراءونه بواسطة هذا المنظار.

• على كل حال متى ثبتت رؤيته بأى وسيلة فإنه يجب العمل بمقتضى هذه الرؤية لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا»

(1)

.

•‌

‌ المبحث التاسع: إذا رؤي القمر نهارًا:

قال ابن رشد

(2)

: أَمَّا اخْتِلَافُهُمْ في اعْتِبَارِ وَقْتِ الرُّؤْيَةِ لهلال رمضان: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا رُؤِيَ مِنَ الْعَشِيِّ أَنَّ الشَّهْرَ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي.

واختلفوا إذا رؤي في سائر أوقات النهار: أعني أول ما رؤي، فمذهب الجمهور أن القمر في أول وقت رؤي من النهار أنه لليوم المستقبل لحكم رؤية العشي، وبهذا القول قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور أصحابهم.

وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة والثوري وابن حبيب من أصحاب مالك: إذا رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية، وإذا رؤي بعد الزوال فهو للآتية.

• بعض الآثار التى استدل بها الجمهور:

عن أبي وائل قال: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ بِخَانقِينَ، أَنَّ الأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمَ

(1)

«فتاوى الصيام» (1/ 62).

(2)

«بداية المجتهد» (1/ 284).

ص: 93

الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلَانِ مُسْلمانِ أَنَّهُمَا أَهَلاَّهُ بِالأَمْسِ

(1)

.

عن ابن عمر في الْهِلَالِ يُرَى بِالنَّهَارِ: لَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ مِنْ حَيْثُ يُرَى، وفى رواية:«حيث يُرَى بالليل»

(2)

.

عن يحيى بن أبي إسحاق قال: رَأَيْتُ الْهِلَالَ - هِلَالَ الْفِطْرِ - قَرِيبًا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَأَفْطَرَ نَاسٌ، فَأَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَذَكَرْنَا لَهُ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ وَإِفْطَارَ مَنْ أَفْطَرَ فقَالَ: وَأَمَّا أَنَا فَمُتِمّ يومِي هَذَا إلَى اللَّيْلِ

(3)

.

عن الزبرقان قال: أَفْطَرَ النَّاسُ، فَأَتَيْت أَبَا وَائِلٍ فَقُلْتُ: إنِّي رَأَيْتُ الْهِلَالَ نِصْفَ النَّهَارِ، فَقَالَ:{أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ}

(4)

.

الأثر الذى استدل به القول الآخر: عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب كتب إلى الناس: «إذَا رَأَيْتُمُوهُ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَأَفْطِرُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ زَوَالِهَا فَلَا تُفْطِرُوا»

(5)

.

قال ابن حجر

(6)

: قَوْلُهُ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ» ظَاهِره إِيجَاب الصَّوْمِ حِينَ الرُّؤْيَةِ مَتَى وُجِدَتْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى صَوْمِ الْيَوْمِ المسْتَقْبَل.

والراجح: قول الجمهور: أي أنه إذا رؤي القمر نهارًا فإنه لليوم المستقبل.

* * *

(1)

رجاله ثقات: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 320)، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل به.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة «المصنف» (2/ 319)، وعبد الله بن أحمد في «مسائله» (663)، و «المدونة» (1/ 174)، من طرق عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 319)(9449). وفي إسناده يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي، قال الحافظ: صدوق ربما أخطأ.

(4)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 319).

(5)

ضعيف: أخرجه ابن حزم في «المحلى» (6/ 239).

(6)

«فتح الباري» (4/ 145).

ص: 94

الفصل الخامس من يباح له الفطر ومن يجب

وفيه مباحث

• المبحث الأول: المريض

• المبحث الثاني: المسافر

• المبحث الثالث: الحامل والمرضع

• المبحث الرابع: الشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه

• المبحث الخامس: هل يباح الفطر لأصحاب الأعمال الشاقة؟

• المبحث السادس: من يجب عليه الفطر ويحرم عليه الصوم؟

ص: 95

‌الفصل الخامس من يباح له الفطر ومن يجب

‌تمهيد:

المريض والمسافر يباح لهما الفطر؛ لعموم قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].

وقد استفاضت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإباحة الفطر للمسافر والمريض أَوْلى، وهذا مما أجمع عليه المسلمون في الجملة

(1)

.

قال ابن قدامة

(2)

: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلم عَلَى إبَاحَةِ الْفِطْرِ لِلمرِيضِ في الْجُمْلَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

•‌

‌ المبحث الأول: حد المرض المبيح للفطر:

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوالٍ:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أنه للمريض أن يفطر إذا كان الصوم يزيد في مرضه، أو يُخْشَى تباطؤ برئه.

قال القرطبي: قال جمهور العلماء: إذا كان به مرضٌ يؤلمه ويؤذيه أو يخافُ تماديه أو يخافُ تزايده، صح له الفطر.

وقال ابن قدامة

(3)

: وَالمرَضُ المبِيحُ لِلْفِطْرِ هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَزِيدُ بِالصَّوْمِ أَوْ يُخْشَى تَبَاطُؤُ بُرْئِهِ.

(1)

«كتاب الصيام» (208).

(2)

«المغني» (4/ 403).

(3)

«المغني» (4/ 403)، و «بدائع الصنائع» (2/ 94).

ص: 96

• القول الثانى: أن المرض المبيح للفطر هو كل ما يسمى مرضًا، روِى الطبري

(1)

بإسناد ضعيف عن طَرِيفِ بْنِ شهاب الْعُطَارِدِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ في رَمَضَانَ وَهُوَ يَأْكُلُ فَلم يَسْأَلْهُ، فَلما فَرَغَ قَالَ: إِنَّهُ وَجِعَتْ إِصْبَعِي هَذِهِ.

وورد أيضًا عن عطاء والبخاري، كما نقله ابن العربي

(2)

.

• القول الثالث: أن المرض المبيح للفطر هو الذى لا يطيق صاحبه معه القيام لصلاته. وهو قول الحسن وإبراهيم

(3)

، وروي عن أبي حنيفة

(4)

.

• للمريض ثلاث حالات:

أَحَدُهَا: أَلَّا يُطِيقَ الصَّوْمَ بِحَالٍ، فَعَلَيْهِ الْفِطْرُ وَاجِبًا.

الثَّانِي: أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ بِضَرَرٍ وَمَشَقَّةٍ، فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْفِطْرُ

(5)

.

(1)

أخرجه الطبرى (2856).

(2)

قال ابن العربي: وقد أنبأنا أبو الحسن الأزدي، بإسناده عن صهيب بن سليم، قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: اعتللت بنيسابور علة خفيفة، وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه، فقال لى: أفطرت يا أبا عبد الله! فقلت: نعم، فقلت: خشيت أن أضعف عن قبول الرخصة. قلت: أنبأنا عبدان، عن ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: من أي المرض أُفطر؟ قال: من أي مرض كان، كما قال الله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} . وإسناده صحيح.

قال البخاري: ولم يكن هكذا الحديث عند إسحاق.

(3)

وأخرج الطبري في «تفسيره» (2855) عن الحسن: مَتَى يُفْطِرُ الصَّائِمُ؟ قَالَ إِذَا جَهَدَهُ الصَّوْمُ. قَالَ: إِذَا لم يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرَائِضَ كَمَا أُمِرَ. إسناده صحيح. وأخرج الطبرى (2854) عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي المرِيضِ إِذَا لم يَسْتَطِعِ الصَّلَاةَ قَائِمًا فَلْيُفْطِرْ يَعْنِي فِي رَمَضَانَ. فيه هشيم، وهو كثير التدليس، وقد عنعن، ومغيرة هو ابن مقسم ثقة، إلا أنه كان يدلس، ولاسيما عن إبراهيم.

(4)

قال الكاساني في «بدائع الصنائع» (2/ 94): وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَالٍ يُبَاحُ لَهُ أَدَاءُ صَلَاةِ الْفَرْضِ قَاعِدًا، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْطِرَ، وَالمبِيحُ المطْلَقُ بَلْ الموجِبُ هُوَ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكُ لِأَنَّ فِيهِ إلْقَاءَ النَّفْسِ إلَى التَّهْلُكَةِ لَا لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ وهو الوجوب.

(5)

«أحكام القرآن» (1/ 77).

ص: 97

الثالث: أن يقدر على الصوم بحيث لا يظهر تأثير المرض، فلا يجوز له الإفطار إلا أن يخشى استمرار هذا المرض أو اشتداده، بل إنه قد قيل: إن بعض الأمراض يكون علاجها الصوم.

قال الكاساني: وَمِنَ الْأَمْرَاضِ مَا يَنْفَعُهُ الصَّوْمُ وَيُخِفُّهُ، وَيَكُونُ الصَّوْمُ عَلَى المرِيضِ أَسْهَلَ مِنْ الْأَكْلِ، بَلْ الْأَكْلُ يَضُرُّهُ وَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ

(1)

.

الخلاصة: أن المرض المبيح للفطر هو الشديد الذى يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه، فإذا كان الطبيب ذا أمانةٍ وثقةٍ وخبرةٍ في فنِّه، فإنَّ أمره بترك الصوم معتبرٌ؛ لما يعرفه من حال المرض ومدى تحمُّلِ المريض الصومَ من عدمه.

وسئلت اللجنة الدائمة: أنا مريض بالسكر والصيام يؤثر عليَّ؟

فأجابت: إن كنتَ عرفت بالتجربة أن الصيام يزيد مرضك، أو يؤخر بُرءك منه، أو أخبرك طبيب مسلم مأمونٌ حاذقٌ بأن الصيام يضرك، فأفطِر، وعليك القضاء بعد الشفاء.

•‌

‌ المبحث الثاني: صيام المسافر:

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: هل يجزئ الصوم في السفر؟

قال النووي

(2)

: قَالَ جَمَاهِير الْعُلماء وَجَمِيع أَهْل الْفَتْوَى: يَجُوزُ صَوْمُهُ في السَّفَر، وَيَنْعَقِد وَيُجْزِيهِ.

واستدلوا لذلك بالأحاديث المتوافرة والمتضافرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تدل على جواز الصوم في السفر.

ففي «الصحيحين»

(3)

عن أنس بن مالك قال: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلم يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى المفْطِرِ وَلَا المفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» .

(1)

«بدائع الصنائع» (2/ 94).

(2)

«شرح مسلم» (7/ 186).

(3)

أخرجه البخاري (1947)، ومسلم (1118).

ص: 98

وفي «الصحيحين» أيضًا

(1)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلميَّ قال لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَأَصُومُ في السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَقَالَ:«إِنْ شئت فَصُمْ، وَإِنْ شئت فَأَفْطِرْ» .

وفي «الصحيحين»

(2)

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أَسْفَارِه، في يوم حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَابْنِ رَوَاحَةَ» .

وروى مسلم

(3)

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:«كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا المفْطِرُ، فَلَا يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى المفْطِرِ وَلَا المفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (1941)، ومسلم (1121).

(2)

أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122).

(3)

أخرجه مسلم (1116).

(4)

وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يصح صوم رمضان في السفر، فإن صامه لم ينعقد ويجب قضاؤه لعموم قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قال ابن حزم في «المحلى» (6/ 253): وَلَا فَرْضَ على المرِيضِ وَالمسَافِرِ إلاَّ أَيَّامًا أُخَرَ غير رَمَضَانَ.

واعترض على هذا الاستدلال من وجوه:

الأول: ما قاله الجصاص «أحكام القرآن» (1/ 265): فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِفْطَارَ فِي السَّفَرِ رُخْصَةٌ يَسَّرَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْنَا، وَلَوْ كَانَ الْإِفْطَارُ فَرْضًا لَازِمًا لَزَالَتْ فَائِدَةُ قَوْلِهِ:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} فَدَلَّ عَلَى أَنَّ المسَافِرَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِفْطَارِ وَبَيْنَ الصَّوْمِ.

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صاموا في السفر وهو المبيِّن لما نُزِّل إليه فدل ذلك على معنى الآية أن المريض والمسافر مخيران بين الصوم والإفطار.

وأما دليلهم من السنة فهو ما روى البخاري (2890)، ومسلم (1114) عن جابر بن عبد الله {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ. فَقَالَ: «أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» .=

ص: 99

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفطر، ومن صام فقد عصى الرسول؛ لقوله:«أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» فدل ذلك على أن هذه معصية وأنه لا يجوز الصوم في السفر.

واعترض عليه: بأنه قد يحرم الصوم في السفر لمن شق عليه مشقة شديدة لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، أو أعرض عن قبول الرخصة، أما مَنْ سَلم من ذلك جاز له الصوم.

واستدلوا بما ورى البخاري (1946)، ومسلم (1114) عن جابر بن عبد الله {قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» . فَقَالُوا: صَائِمٌ. فَقَالَ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَر» . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

واعترض عليه بأن هذا الرجل شق عليه الصيام حتى أغمي عليه والتف حوله الناس، فهذا الحديث لمثل هذا الرجل وأمثاله، وعند الأصوليين أن بعض أفراد العام لا يخصصه.

وقال ابن المنير: هذه القصة تُشعر بأن من اتفق له مثل ما اتفق لذلك الرجل أنه يساويه في الحكم، وأما من سلم من ذلك ونحوه فهو في جواز الصوم على أصله، والله أعلم.

واستدلوا بما روى البخاري (2890)، ومسلم (1119) عن أنس قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُنَا ظِلًّا الَّذِي يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلم يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«ذَهَبَ المفْطِرُونَ اليوم بِالْأَجْرِ» . فمفهوم المخالفة من هذا الحديث أن الصائمين لم يذهبوا بالأجر، فاستدلَّ الظاهرية بهذا الحديث على إبطال صيام المسافر.

واعترض عليه: بأن هذا الحديث حجة عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكرْ على من صام، ولكن ربما يكون هناك صائمٌ ومفطرٌ، والصائم نائمٌ، والمفطر يسارع في الخيرات، فيضاعف له الأجر لأجل ذلك.

واستدلوا بما روى البخاري (1944)، ومسلم (1113) عن ابن عباس {: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ أَفْطَرَ فَأَفْطَرَ النَّاسُ، قال أبو عبد الله البخاري: وَالْكَدِيدُ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ. وفى رواية مسلم: وَكَانَ صَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّبِعُونَ الْأَحْدَثَ فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ.

وقد احتج أهل الظاهر بهذه الزيادة، بأن هذا آخر الأمرين عن رسول الله وأن صومه صلى الله عليه وسلم منسوخٌ في السفر، وأن هذا الحديث ناسخٌ لأحاديث الصوم في السفر.

واعترض عليه: بأن هذه الزيادة مدرجةٌ من قول الزهري وليس من قول الرسول، قال الزُّهْريُّ: وَكَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْآخِرِ فَالْآخِرِ. رواه مسلم، ثم إنه ورد عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يصومون في السفر ولو نُسخ هذا لما اجتمعت الأمة على ضلالة، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ. قال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ» فَكَانَتْ رُخْصَةً فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا =

ص: 100

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= مَنْزِلًا آخَرَ فَقَالَ: «إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا» وَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ. وقد استدل ابن حزم على مذهبه الباطل بآثار منكرة وضعيفة، فقد روى الطحاوي «شرح معاني الآثار» (2/ 63)، وغيره عن عبد الله بن عامر: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَمَرَ رَجُلًا صَامَ فِي السَّفَرِ أَنْ يُعِيدَ. وفي إسناده عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف وأخرجه ابن أبي شيبة «المصنف» (3/ 18)، وفي إسناده مجهولان.

2 -

عن أبي سلمة قال: «نهتني عائشة أن أصوم في السفر» . منكر: أخرجه ابن حزم في «المحلى» (6/ 256)، وفى إسناده عمر بن أبي سلمة، وفيه مقال. وهو معارض بما صح عن عائشة خلافه وهو ما وراه الثقات فقد روى عروة ابن الزبير، والقاسم بن محمد، وعبد الرحمن بن القاسم، وابن أبي مليكة «أن عائشة كانت تصوم في السفر» كما عند عبد الرزاق (4496) والبيهقي «الكبرى» (4/ 301)، والطحاوي «شرح معاني الآثار» (2/ 70)، وغيرهم.

3 -

عن ابن عباس: «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ صَامَ رَمَضَانَ فِي سَفَرٍ؟ فَقَالَ: لَا يُجْزِيِهِ» منكر: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 18)، وفى إسناده عمران القطان، وإن كان متكلما فيه إلا أنه قد يحسَّن حديثه، ولكنه معارض بما صح عن ابن عباس. أولًا: قد روى البخاري (1948) وغيره عن ابن عباس {قال: «قَدْ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَفْطَرَ، فَمَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ» .

ثانيا: أخرج ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 14) بإسناد صحيح، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ:«عُسْرٌ وَيُسْرٌ، خُذْ بِيُسْرِ اللهِ عَلَيْك» ، وصح عنه «الإفطار في السفر عزيمة» فالثابث عن ابن عباس جواز الصيام في السفر.

4 -

عَنِ المحْرَّر بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: صُمْت رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ، فَأَمَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ أُعِيدَ الصِّيَامَ فِي أَهْلِي. أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 18)، وفي إسناده المحرر: مجهول.

5 -

عن عبد الرحمن بن عوف قال: «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالمفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» ، أخرجه النسائي (4/ 183) بإسناد صحيح. الحاصل أن معنى قوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لا يفيد وجوب الفطر في السفر بل هي رخصة. قال ابن المنذر: وفيه دليل أن أمره تعالى للمسافر بعدة من أيام أخر إنما هي لمن أفطر. اه، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في السفر.

قال ابن عبد البر: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّخْيِيرُ لِلصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ، إِنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَ فِي سَفَرِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُفْطِرَ. وَهُوَ أَمْرٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ مِنْ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي هَذَا الْبَابِ. اه

قلت: وأما الأحاديث التي تفيد النهي عن الصوم في السفر، فمحمولة على أمرين:

الأول: من شق عليه الصيام في السفر. والثاني: على من أعرض عن قبول الرخصة، والله أعلم.

ص: 101

•‌

‌ المطلب الثاني: ما حد السفر الذى يباح للصائم الفطر به؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ

(1)

:

• القول الأول: قال أبو حنيفة: لا يجوز للمسافر أن يفطر إلا في سفر يبلُغُ ثلاثة أيامٍ

(2)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في «الصحيحين»

(3)

: عن ابن عمر {قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُسَافِرِ المرْأَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» .

وجه الدلالة منه: أن منطوقه أن المرأة لا تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذى محرم، والمفهوم المخالف أنه يجوز لها أن تسير وحدها يومين بدون محرم، وإذا كان يجوز ذلك، فهذا معناه أن هذا ليس بسفر، وأن أقل السفر ثلاثة أيام.

وروى مسلم

(4)

عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ المسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَسَلْهُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلْنَاهُ فَقال: «جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلمسَافِرِ وَيوما وَلَيْلَةً لِلمقِيمِ» .

وجه الدلالة: ما قاله الكاساني

(5)

بعد ذكر هذا الحديث: ولن يُتصوَّرَ أن يمسحَ المسافر ثلاثة أيامٍ ولياليها، ومدة السفر أقل من هذه المدة.

واعْتُرِضَ على هذين الدليلين بما قاله شيخ الإسلام

(6)

: فالذين قالوا: (ثلاثة أيام) احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «يَمْسَحُ المسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ» ، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا

(1)

قال ابن رشد «بداية المجتهد» (6/ 263): والسبب في اختلافهم معارضة ظاهر اللفظ للمعنى، وذلك أن ظاهر اللفظ أن كل ما ينطلق عليه اسم مسافر فله أن يفطر؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وأما المعنى المعقول من إجازة الفطر في السفر فهو المشقة، ولما كان الصحابة كأنهم مجمعون على الحد في ذلك، وجب أن يقاس ذلك على الحد في تقصير الصلاة.

(2)

«بدائع الصنائع» (1/ 93)، «المبسوط» (1/ 235).

(3)

أخرجه البخاري (1088)، ومسلم (1338).

(4)

أخرجه مسلم (276).

(5)

«بدائع الصنائع» (1/ 93).

(6)

«مجموع الفتاوى» (24/ 38).

ص: 102

تُسَافِرِ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إِلَّا ومَعها ذو مَحرم».

وقد ثبت في «الصحيحين» أنه قال: «مَسِّيرة يومين» ، وثبت في الصحيح:«مَسّيرِةَ يوم» ، وفى «السنن»:«بريدًا» فدل على أن ذلك كله سفر، وإذنه له في المسح ثلاثة أيام هو تجويز لمن سافر ذلك، وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذِنَ للمقيم أن يمسح يومًا وليلة، وهو لا يقتضى أن ذلك أقل الإقامة.

قال ابن قدامة

(1)

: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَمْسَحُ المسَافِرُ عَلَى ثَلَاثَة أَياَمٍ» جَاءَ لِبَيَانِ أَكْثَرِ مُدَّةِ المسْحِ؛ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ هَاهُنَا، وَعَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ قَطْعُ المسَافَةِ الْقَصِيرَةِ في ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَفَرًا، فَقَالَ:«لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليوم الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يوم إِلَا مَعَ ذِيِ مِحرِم» .

• القول الثانى: قال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز للمسافر أن يفطر إلا في سفر يبلغ مسيرة يومين وهو أربعة أبرد، كل بريد أربعة فراسخ، فذلك ستة عشر فرسخًا، والفرسخ ثلاثة أميالٍ فيكون ثمانية وأربعين ميلًا

(2)

.

استدلوا لهذا القول بالسنة والمأثور:

أما دليلهم من السنة: فعن ابن عباس {قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ في أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ»

(3)

.

(1)

«المغني» (3/ 108) قال ابن حزم «المحلى» (5/ 16): أَخْبِرُونَا عَنْ قَوْلِكُمْ: إنْ سَافَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَصَرَ وَأَفْطَرَ، وَإِنْ سَافَرَ أَقَلَّ لم يَقْصُرْ وَلم يُفْطِرْ: مَا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الأَيَّامُ؟ أَمْ أسَيْرُ الرَّاكِبِ المجِدِّ؟ أَمْ سَيْرُ الْبَرِيدِ؟ أَمْ مَشْيُ الرَّجَّالَةِ؟ وَقَدْ عَلمنَا يَقِينًا أَنَّ مَشْيَ الرَّاجِلِ الشَّيْخِ الضَّعِيفِ فِي وَحْلٍ وَوَعِرٍ، أَوْ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ - خِلَافُ مَشْيِ الرَّاكِبِ عَلَى الْبَغْلِ المطِيقِ فِي الرَّبِيعِ فِي السَّهْلِ، وَأَنَّ هَذَا يَمْشِي فِي يوم مَا لَا يَمْشِيهِ الآخَرُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ. وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى تَحْدِيدِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا دُونَ سَائِرِهِ إلاَّ بِرَأْيٍ فَاسِدٍ.

(2)

«الموطأ» (379)، و «المجموع» (4/ 322)، و «المغني» (3/ 105)، (4 برد، والبريد أربعة فراسخ 4 برد = 16 فرسخًا، والفرسخ = 3 أميال. 16 فرسخًا = 48 ميلًا، والميل يقدر الآن بما يساوى 1609 من الأمتار، انظر: «المعجم الوجيز» (ص 597). 48 ميلًا = 48 × 1609 كيلو متر = 77. 232 كيلو مترًا.

(3)

ضعيف: أخرجه الدارقطني في «السنن» (1/ 387)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 137)، وضعفه، والطبراني في «الكبير» (11 ص 96)، من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه وعطاء بن أبي رباح به. قال الحافظ في التلخيص: عبد الوهاب متروك، ورواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين ضعيفة.

ص: 103

واعْتُرِضَ عليهم: بأن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله.

وأما دليلهم من المأثور: فعن عطاء بن أبي رباح أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ كَانَا يُصَلِّيَانِ رَكْعَتَيْنِ وَيُفْطِرَانِ في أَرْبَعِ بُرُدٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ

(1)

.

واعْتُرِضَ عَليه: بأنه اختلف عليهما أشد الاختلاف

(2)

.

قال ابن حزم: أَمَّا مَنْ قال: بِتَحْدِيدِ مَا يُقْصَرُ فِيهِ بِالسَّفَرِ، مِنْ أُفُقٍ إلَى أُفُقٍ، وَحَيْثُ يُحْمَلُ الزَّادُ وَالمزَادُ وَفِي سِتَّةٍ وَتِسْعِينَ مِيلًا، وَفِي اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ مِيلًا

فَمَا لَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلًا وَلَا مُتَعَلِّقَ، لَا مِنْ قُرْآنٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ وَلَا سَقِيمَةٍ، وَلَا مِنْ إجْمَاعٍ، وَلَا مِنْ قِيَاسٍ، وَلَا رَأْيٍ سَدِيدٍ، وَلَا مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ لَا مُخَالِفٍ لَهُ مِنْهُمْ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلَا وَجْهَ لِلاِشْتِغَالِ بِهِ

(3)

.

• القول الثالث: قال ابن حزم وابن تيمية وابن قدامة: إنه يباح للصائم الفطر في كل

(1)

رجاله ثقات: أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 347)، وإسناده صحيح عن ابن عباس وفي سماع عطاء عن ابن عمر خلاف، فقد روى مالك «الموطأ» (379)، وغيره عن الزهري عن سالم قال: إن ابن عمر رَكِبَ إِلَى رِيمٍ، فَقَصَرَ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ. قال مالك: وذلك نحو أربعة برد. وإسناده صحيح.

(2)

الآثار الواردة في الاختلاف عن ابن عمر رضي الله عنه: روى مالك في «الموطأ» (382) عن الزهري، عن سالم «أن ابن عمر كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرِهِ الْيَوْمَ التَّامَّ» . إسناده صحيح، وأخرج ابن أبي شيبة (2/ 445)، وعن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول: «إنِّي لأُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنَ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ» وإسناده صحيح، وعن جبلة قال: سمعت ابن عمر يقول: «لو خرجت ميلًا قصرت الصلاة» ، إسناده صحيح، وعن مجاهد عن ابن عباس {قال:«إذَا كَانَ سَفَرُكَ يَوْمًا إلَى الْعَتَمَةِ فَلَا تَقْصُرَ الصَّلَاة، فَإِنْ جَاوَزْت ذَلِكَ فَاقصر» إسناده صحيح.

أخرجه عبد الرزاق (4299) وابن أبي شيبة (2/ 444)، والبيهقي (3/ 137) عن عكرمة عن ابن عباس قال:«تُقْصَرُ الصَّلَاة فِي مَسِيرَةِ يوم وَلَيْلَةٍ» . أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 442) وإسناده صحيح.

(3)

«المحلى» (5/ 10).

ص: 104

ما يطلق عليه سفر.

واستدلوا لذلك بما روى مسلم

(1)

عن أنس بن مالك قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» .

واعترض على هذا الاستدلال من وجوه:

الأول: في إسناده يحيى بن يزيد، قال فيه الحافظ: مجهول.

الثاني: ما قاله ابن الجوزي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بنية السفر الطويل، فلما سار ثلاثة أميال قصر ثم عاد من سفره، فحكى أنس ما رأى.

الثالث: أن الحديث مشكوك فيه هل هو ثلاثة فراسخ أم ثلاثة أميال (شك شعبة).

قال القرطبي: وهذا لا حجة فيه لأنه مشكوك فيه، وعلى تقدير أحدهما فلعله حد المسافة التي بدأ منها القصر، وكان سفرًا طويلًا زائدًا على ذلك.

الراجح في المسألة والله أعلم: أنه يباح للصائم الفطر في كل ما يطلق عليه سفرٍ.

قال ابن قدامة

(2)

: وَلَا أَرَى لما صَارَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ أقوالٍ الصَّحَابَةِ مُتَعَارِضَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ خِلَافُ مَا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُنَا، ثُمَّ لَوْ لم يُوجَدْ ذَلِكَ لم يَكُنْ في قَوْلِهِمْ حُجَّةٌ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِهِ، وَإِذَا لم تَثْبُتْ أقوالُهُمْ امْتَنَعَ المصِيرُ إلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرُوهُ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي رَوَيْنَاهَا وَلِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ إبَاحَةُ الْقَصْرِ لمنْ ضَرَبَ في الْأَرْضِ؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ} .

وَالثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ بَابُهُ التَّوْقِيفُ، فَلَا يَجُوزُ المصِيرُ إلَيْهِ بِرَأْيٍ مُجَرَّدٍ، سِيَّمَا وَلَيْسَ لَهُ

(1)

أخرجه مسلم (691)، وغيره، وفي إسناده يحيى بن يزيد الهنائي، قال أبو حاتم: شيخ. وقال ابن عبد البر «الاستذكار» (2/ 420): يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ الْهُنَائِيُّ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، لَيْسَ مِثْلُهُ مِمَّنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا المعْنَى الَّذِي خَالَفَ فِيهِ جُمْهُورَ الصَّحَابَةِ التَّابِعِينَ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ فِي ضَبْطِ مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ.

(2)

«المغني» (3/ 108).

ص: 105

أَصْلٌ يُرَدُّ إلَيْهِ، وَلَا نَظِيرٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَالْحُجَّةُ مَعَ مَنْ أَبَاحَ الْقَصْرَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ.

قال شيخ الإسلام

(1)

: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَّقَ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ بِمُسَمَّى السَّفَرِ، وَلم يَحُدَّهُ بِمَسَافَةِ.

قال ابن القيم

(2)

: وَلم يَحُدّ صلى الله عليه وسلم لِأُمّتِهِ مَسَافَةً مَحْدُودَةً لِلْقَصْرِ وَالْفِطْرِ بَلْ أَطْلَقَ لَهُمْ ذَلِكَ في مُطْلَقِ السّفَرِ وَالضّرْبِ في الْأَرْضِ كَمَا أَطْلَقَ لَهُمْ التّيَمّمَ في كُلّ سَفَرٍ.

• الزمان الذي يجوز للمسافر إذا مر ببلد فمكث فيها أيامًا أن يفطر؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام، صام وأتم الصلاة. وهو مذهب مالك والشافعي، ورواية عن أحمد

(3)

.

قال النووي

(4)

: إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، صار مقيمًا وانقطعت رخص السفر.

واستدلوا لذلك بما ورد في الصحيحين

(5)

من حديث العلاء بن الحضرمي: «نَهَى النَّبي أَنْ يُقِيمُ المهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا» .

قال الماوردي

(6)

: فَاسْتَثْنَى الثَّلَاثَ، وَجَعَلَهَا مُدَّةَ السَّفَرِ، فَعُلم أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ.

واعترض عليه من وجهين:

(1)

«الفتاوى» (24/ 135).

(2)

«زاد المعاد» (1/ 481).

(3)

«المدونة» (1/ 119، 120)، و «الأم» (1/ 186)، و «المغني» (2/ 108).

(4)

«المجموع» (4/ 359).

(5)

البخاري (3718)، ومسلم (1352).

(6)

«الحاوي الكبير» (2/ 327).

ص: 106

الأول: أن الذي في الحديث أن المهاجر ممنوع أن يقيم بمكة أكثر من ثلاث بعد قضاء الحج، وليس في هذا الحديث ما يدل على أن هذه المدة فَرْق بين المسافر والمقيم.

قال ابن حزم

(1)

: ليس في هذا الْخَبَرِ نَصٌّ وَلَا إشَارَةٌ إلَى المدَّةِ التي إذَا أَقَامَهَا المسَافِرُ أَتَمَّ وَإِنَّمَا هو في حُكْمِ المهَاجِرِ فما الذي أَوْجَبَ أَنْ يُقَاسَ المسَافِرُ يُقِيمُ، على المهَاجِرِ يُقِيمُ؟!

الثاني: ما رواه البخاري عن ابن عباس: «أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةَ عَشَرَ يَقْصُرُ» . فعُلم أن هذا التحديد لا يتعلق بالقصر ولا بتحديد مدة السفر.

• القول الثاني: ذهب أبو حنيفة إلى أن المسافر إذا نوى إقامة خمسة عشر يومًا في مكان يصلح للإقامة، فإنه يصير مقيمًا

(2)

.

واستدلوا لذلك بحديث ابن عباس «أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ خَمْسَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ

(3)

».

واعترض عليه بأنه حديث ضعيف.

• القول الثالث: أن من أقام تسعة عشر يقصر، ومن زاد عن هذا الحد أتم.

ودليل ذلك ما رواه البخاري

(4)

من حديث ابن عباس «أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةَ

عَشَرَ يَقْصُرُ، فَنَحْنُ إِذَا سَافَرْنَا تِسْعَةَ عَشَرَ قَصَرْنَا، وَإِنْ زِدْنَا أَتْمَمْنَا».

(1)

«المحلى» (3/ 219).

(2)

«الحجة على أهل المدينة» (1/ 172)، «تحفة الفقهاء» (1/ 150).

(3)

شاذ: ومدار هذا الحديث على الزهري، أخرجه أبو داود (1231)، وابن ماجه (1076)، وغيرهما عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عباس به، وأخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 151) من طريق عبد الله بن إدريس عن الزهري مرسلًا، وقال: هذا هو الصحيح مرسل، قال: ورواه أيضًا عبدة بن سليمان و أحمد بن خالد وسلمة بن الفضل، لم يذكروا فيه ابن عباس إلا محمد بن سلمة.

وأخرجه النسائي «الكبرى» (1/ 587)، وغيره عن عراك بن مالك عن عبيد الله عن ابن عباس به، وقال البيهقي: رواه عراك بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، قلت: ورجح هذه الرواية المرسلة، وقد حكم الحافظ ابن حجر على هذه الرواية بالشذوذ، كما في «التلخيص» (2/ 46).

(4)

البخاري (1080).

ص: 107

• القول الرابع: أن المسافر له أن يفطر ما دام مسافرًا ولم ينو إقامة مطلقة. وهذا قول شيخ الإسلام وابن القيم.

واستدلوا بعموم قوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، وعموم قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

ولم يأت دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم يحدد لنا المدة التي يصبح بها المسافر مقيمًا، بل الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقيم في سفره أيامًا يصلي فيها ركعتين للحج أو فتح مكة، وقد تختلف هذه الأيام على حسب الحاجة.

وليس في هذا ما يدل على أن هذه المدة فرق بين المسافر والمقيم.

والراجح ما قاله شيخ الإسلام: وَإِذَا كَانَ التَّحْدِيدُ لَا أَصْلَ لَهُ فَمَا دَامَ المسَافِرُ مُسَافِرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. وقال: كُلُّ اسْمٍ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ في اللُّغَةِ وَلَا في الشَّرْعِ فَالمرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ فَمَا كَانَ سَفَرًا في عُرْفِ النَّاسِ فَهُوَ السَّفَرُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الشَّارِعُ الْحُكْمَ

(1)

.

•‌

‌ المطلب الثالث: هل الصوم أفضل في السفر أم الفطر؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن الصوم أفضل في السفر من الفطر لمن قَوِيَ عليه، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي

(2)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في «الصحيحين»

(3)

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أَسْفَارِه، في يوم حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَابْنِ رَوَاحَةَ» .

وجه الدلالة: صوم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر، فهذا دليل على فضل الصوم، ولو كان

(1)

«الفتاوي» (24/ 18، 40، 138).

(2)

انظر: «فتح الباري» (4/ 216)، «المبسوط» (3/ 92)، «المدونة» (1/ 201)، و «الحاوي الكبير» (2/ 368).

(3)

أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122).

ص: 108

الفطر أفضل ما صام النبي صلى الله عليه وسلم.

واعْتُرِضَ عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في بعض أسفاره.

وأُجِيبَ عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لرفع الحرج عن أمته، ولبيان الجواز والرخصة، وموضع ذلك لمن شقَّ عليه، أما من قوي فالصوم أفضل في السفر.

أما دليلهم من المأثور: فعَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ عَنِ الصَّوْمِ في السَّفَرِ؟ فَقَالَ: «مَنْ أَفْطَرَ فَرُخْصَةٌ، وَمَنْ صَامَ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ»

(1)

.

أما دليلهم من المعقول: فما قاله الرافعي

(2)

إن الصوم في السفر أفضل من الفطر على المذهب المشهور؛ لما فيه من تبرئة الذمة والمحافظة على فضيلة الوقت.

• القول الثانى: قال أحمد، وإسحاق: إن الفطر أفضل من الصوم في السفر عملًا بالرخصة

(3)

.

دليل هذا القول ما رواه مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمى رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ في السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ»

(4)

.

(1)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 280) وذكره الطحاوي في «مختصر اختلاف الفقهاء» (2/ 20).

(2)

«الشرح الكبير» (4/ 474).

(3)

«فتح الباري» (4/ 216).

(4)

أخرجه مسلم (1121)(107)، من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير، عن أبي المرَاوِحٍ، عن حمزة بهذا اللفظ المذكور. وأخرجه النسائي في «السنن» (4/ 186) بلفظ:«إِنْ شئت فَصُمْ وَإِنْ شئت فَأَفْطِرْ» من طريق عبيد الله بن سعيد، قال: حدثنا عمى، حدثنا أبي، عن أبي المرَاوِحٍ، عن حمزة به. قال ابن حجر في «تهذيب التهذيب» في ترجمة أبي المرواح: روى عن حمزة بن عمرو الأسلمى وزيد بن أسلم وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير وعمران بن أبي أنس. والصحيح عمران بن أبي أنس عن سليمان بن يسار عنه أى «عن أبي المرواح» .

وأخرجه أحمد (3/ 494)، والطيالسى (1217)، وغيرهما عن قتادة، عن سليمان، عن حمزة، بلفظ:«إِنْ شئت فَصُمْ وَإِنْ شئت فَأَفْطِرْ» .

وأخرجه النسائي في «السنن» (4/ 185، 186)، وغيره من طريق الليث، عن بكير، وعمران بن أبي أنس، عن سليمان بن يسار، عن حمزة بن عمرو قال:«يا رسول الله» .

قال النسائي: مرسل، قلت: أى أن سليمان بن يسار حكى واقعة لم يدركها، وأخرجه أبو داود (2403)، وغيره من طريق حمزة بن محمد بن حمزة الأسلمى، عن أبيه، عن جده به.

قلت: وفى إسناده حمزة بن محمد: مجهول الحال. وأخرجه النسائي (4/ 186) من طريق عمران بن أبي أنس، عن سليمان بن يسار وحنظلة بن عليّ، عن حمزة بن عمرو.

وأخرجه النسائي في «السنن» (4/ 187) من طريق عروة بن الزبير، عن حمزة بن عمرو الأسلمى به. وأخرجه النسائي (4/ 185، 186) من طريق عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن حمزة به. قلت: كل هذه الطرق بلفظ: «إِنْ شئت فَصُمْ وَإِنْ شئت فَأَفْطِرْ» سوى طريق عمرو ابن الحارث، عن أبي الأسود، عن عروة، عن أبي مرواح، عن حمزة -باللفظ المذكور.

ص: 109

وجه الدلالة ما قاله شيخ الإسلام: إن حمزة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه به قوة على الصوم، وأنه أيسر عليه من الفطر، وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ» . والحسن هو المستحب، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه، ورَفْع الجناح إنما يقتضي الإباحة فقط، وهذا بيِّن لمن تأمله

(1)

.

واعْتُرِض عَليه من وجهين:

الأول: أن الروايات الواردة عن حمزة بن عمرو الأسلمي كلها بلفظ: «إِنْ شئت فَصُمْ، وَإِنْ شئت فَأَفْطِرْ» . سوى هذه الرواية بلفظ: «رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ» . وهذه الرواية من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير عن أبي المرواح عن حمزة بهذا اللفظ ورواية الأثبات الثقات بلفظ: «إِنْ شئت فَصُمْ، وَإِنْ شئت فَأَفْطِرْ» ، والظاهر أن هذه الواقعة حدثت لحمزة مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، فلا بد من الترجيح، ورواية الجماعة أرجح.

الثاني: ما قاله النووي: وظاهره ترجيح الفطر، وأجاب الأكثرون بأن هذا كله فيمن

(1)

كتاب «الصيام» (ص 216).

ص: 110

يخاف ضررًا أو يجد مشقة، واعتمدوا في ذلك حديث أبي سعيد:«كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ فِي رَمَضَانَ، فَمِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا المفْطِرُ، فَلَا يَجِدُ الصَّائِمُ عَلَى المفْطِرِ، وَلَا المفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ، يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ، فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ ضَعْفًا، فَأَفْطَرَ فَإِنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ» ، وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة.

قال ابن العربي: والصحيح أن الصوم أفضل لعموم قوله تبارك وتعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . وأما فطر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه روي في الصحيح، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ الصِّيَامُ وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فطرك. فأفطَرَ، ولا خلاف في أن من شقَّ عليه الصوم فله الفطر.

قال ابن حجر

(1)

: قال آخَرُونَ: هُوَ مُخَيَّرٌ مُطْلَقًا. وَقال آخَرُونَ: أَفْضَلُهُمَا أَيْسَرُهُمَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} ، فَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الصِّيَامُ أَيْسَرَ - كَمَنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ بَعْدَ ذَلِكَ - فَالصَّوْمُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَاخْتَارَهُ اِبْنُ المنْذِرِ، وَاَلَّذِي يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.

قلت: فالحاصل أن الصوم لمن قَوِي عليه أفضل من الفطر.

•‌

‌ المطلب الرابع: متى يفطر المسافر ومتى يُمْسِك؟

وفيه مسائل: المسألة الأولى: لا يجوز للمسافر أن يُبيِّت النية بالإفطار ويصبح مفطرًا قبل أن يشرع في السفر باتفاق العلماء.

قال القرطبى

(2)

: المسافر في رمضان لا يجوز له أن يُبيّت الفطر؛ لأن المسافر لا يكون مسافرًا بالنية، بخلاف المقيم، وإنما يكون مسافرًا بالعمل والنهوض، والمقيم لا يفتقر إلى عمل؛ لأنه إذا نوى الإقامة كان مقيمًا في الحين؛ ولأن الإقامة لا تفتقر إلى عمل فافترقا؛ ولا خلاف بينهم في الذي يؤمل السفر لا يجوز له أن يُفطرَ قبل أن يخرج.

(1)

«فتح الباري» (4/ 216).

(2)

«الجامع لأحكام القرآن» (2/ 278)، وانظر:«الاستذكار» (10/ 89).

ص: 111

المسألة الثانية: أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر، فلا نعلم بين أهل العلم خلافًا في إباحة الفطر له.

المسألة الثالثة: أن يسافر في أثناء الشهر ليلاً، فله الفطر في صبيحة الليلة التى يخرج فيها وما بعدها، في قول عامة أهل العلم.

المسألة الرابعة: الذى يصبح في الحضر صائمًا في رمضان، ثم يسافر في صبيحة يومه وينهض في سفره، هل له أن يفطر ذلك اليوم أم لا؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

• القول الأول: ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أنه لا يفطر ذلك اليوم بحالٍ.

استدلوا لذلك بعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].

وجه الدلالة: أن الذى يصبح في الحضر صائمًا في رمضان، ثم يسافر في صبيحة يومه، فليس له الفطر؛ لأنه في صبيحة اليوم كان مقيمًا؛ فوجب عليه الصوم؛ لقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، ثم إذا أراد أن يسافر في نفس هذا اليوم، وأراد أن يفطر، فإنه بذلك يكون قد أبطل عمله، وقد نهى الله عن ذلك بقوله:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} .

قال ابن قدامة

(1)

: لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فِيهَا غَلَبَ حُكْمُ الْحَضَرِ، كَالصَّلَاةِ والمسح على الخفين؛ ولأنه قد خلط إباحة بحظر، ولا بد من تغليب أحدهما في الحكم؛ فكان تغليب الحظر أَوْلى.

• القول الثانى: يباح للمسافر فطر اليوم الذى يسافر فيه نهارًا من رمضان، إذا برز عن البيوت

(2)

، وهو قول أحمد.

واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

وجه الدلالة: أن الرجل إذا خرج من بلده مسافرًا، فله حكم المسافر، له أن يقصر الصلاة ويفطر وهو في طريقه في السفر.

(1)

«المغني» (4/ 346).

(2)

«المغني» (4/ 346).

ص: 112

وفي «الصحيحين»

(1)

عن جابر بن عبد الله أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ، حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: «أُولَئِكَ العُصاةُ، أُولَئِكَ العُصاةُ» .

وجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ مِنَ المدِينَةِ صَائِمًا، فَلما بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ أَفْطَرَ، فَحَصَلَ صَائِمًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مُفْطِرًا فِي آخِرِهِ.

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فعن اللجلاج قال: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَيَسِيرُ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ، فَيَتَجَوَّزُ فِي الصَّلَاة وَيَفْطُرُ»

(2)

.

2 -

عن ابن عمر: «أَنَّهُ خَرَجَ فِي رَمَضَانَ فَأَفْطَرَ»

(3)

.

3 -

عن مغيرة قال: «خَرَجَ أَبُو مَيْسَرَةَ فِي رَمَضَانَ مُسَافِرًا، فَمَرَّ بِالْفُرَاتِ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَخَذَ مِنْهُ حَسْوَةً، فَشَرِبَهُ وَأَفْطَرَ»

(4)

.

4 -

عن ابن جريج قال: قال عطاء: الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، تَقْصُرُ إذَا أَفْطَرْت، وَتَصُومُ إذَا وَفَّيْتَ الصَّلَاةَ

(5)

.

5 -

عن عبد الرحمن بن حرملة قال: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ المسَيَّبِ: أُقْصِرُ الصَّلَاةَ وَأُفْطِرُ إلَى رِيمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَهُوَ بَرِيدان مِنَ المدِينَةِ

(6)

.

أما دليلهم من المعقول: فهو قياس الصوم على الصلاة، فكما أنه يجوز للمسافر أن

(1)

أخرجه البخاري (2890)، ومسلم (1114).

(2)

إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 20)، قلت: وفى إسناده أبو الورد بن ثمامة - مقبول.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 19).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه بن أبي شيبة (3/ 20).

(5)

إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 20).

(6)

إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 20)، وفي إسناده حاتم بن إسماعيل صدوق يهم. قال النسائي: ليس به بأس. وقال العجلي: ثقة. وعبد الرحمن بن حرملة: صدوق ربما أخطأ.

ص: 113

يقصر الصلاة في اليوم الذي سافر فيه نهارًا، فكذلك يجوز الإفطار؛ وَلِأَنَّ الْفِطْرَ إِنَّمَا أُبِيحَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: المرَضُ وَالسَّفَرُ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ لِلمرِيضِ أَنْ يُفْطِرَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، وَإِنْ صَامَ فِي أَوَّلِهِ فَكَذَلِكَ المسَافِرُ

(1)

.

• القول الثالث: للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج، وليس له أن يقصر الصلاة حتى يخرجَ عن جدار المدينة أو القرية، وهو قول إسحاق بن إبراهيم الحنظلي

(2)

.

استدلوا لهذا القول بالسنة والمأثور:

أما دليلهم من السنة: فروى البخاري

(3)

عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ إِلَى حُنَيْنٍ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فَصَائِمٌ وَمُفْطِرٌ» .

قال الشوكاني: وهذا الحديث تقوم به الحجة علي جواز إفطار من أصبح في حضر مسافرًا.

الدليل الثاني: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قال: أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ في رَمَضَانَ وَهُوَ يُرِيدُ سَفَرًا، وَقَدْ رُحِلَتْ لَهُ رَاحِلَتُهُ، وَلَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأَكَلَ فَقُلْتُ لَهُ: سُنَّةٌ؟ قال: سُنَّةٌ، ثُمَّ رَكِبَ

(4)

.

(1)

انظر: «الحاوي» (3/ 308).

(2)

انظر: «سنن الترمذي» (3/ 164).

(3)

أخرجه البخاري (4277).

(4)

أخرجه الترمذي «السنن» (799) قال: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلم، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المنْكَدِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: «أَتَيْتُ أَنَسَ بن مالك

به، وفي إسناده عبد الله بن جعفر وهو ضعيف. ولكن تابعه محمد بن جعفر. أخرجه الترمذي قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلم قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ المنْكَدِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: أَتَيْتُ أَنَسَ بْنُ مَالِكٍ

فذكر نحوه.

قلت: هذا إسناد صحيح ولكن قال فيه: «أتيت أنس بن مالك» فذكر نحوه ليست صريحة في أنه بنفس اللفظ المذكور في حديث عبد الله بن جعفر. وتابع محمدَ بن إسماعيل البخاري إسماعيلُ بن إسحاق، أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 187). قال: حدثنا أبوبكر النيسابوري ثنا إسماعيل بن إسحاق به. وأبو بكر النيسابوري قال الذهبي: حافظ ثبت مجود، وإسماعيل بن إسحاق صدوق. وتابعهما عثمان بن سعيد الدارمي.

أخرجه البيهقي «السنن الكبري» (4/ 247) من طريق الدارمي عن ابن أبي مريم به.

وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (9039). وفي إسناده مقدام بن داود بن عيسى، ضعيف «لسان الميزان» (7/ 144)، وأبدل في الرواية محمد بن جعفر ب (جعفر بن محمد) وفيه نكارة في المتن وهي:«دخلت على أنس عند العصر يوم يشكون رمضان» ، مع أن الطرق الأخرى: أتيت أنس بن مالك في رمضان. وخالف محمد بن جعفر وعبد الله بن جعفر - عبد العزيز الدراوردي.

قال ابن أبي حاتم «العلل» رقم: (699)(ص 240) سألت أبي عن حديث رواه عبد العزيز الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن محمد بن المنكدر، عن محمد بن كعب، أنه أتي أنس ابن مالك في رمضان وهو يريد سفرًا، فوجده وقد رُحلت راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل. فقلنا: أسنة؟ قال: ليس بسنة. قلت: إن الدراوردي خالف محمد بن جعفر وعبد الله بن جعفر قالا: «سنة» ، والدراوردي قال: ليس بسنة. وتابع زيد بن أسلم محمد بن عبد الرحمن بن مجبر. قال ابن أبي حاتم في «العلل» (699): ورواه محمد بن عبد الرحمن بن مجبر عن ابن عبد الرحمن بن مجبر عن ابن المنكدر عن محمد بن كعب

فذكر الحديث قال: فقلت: سُنَّةٌ؟ فقال: نعم سُنَّةٌ. قلت: وفى إسناده محمد بن عبد الرحمن بن مجبر: متروك، وقال ابن أبي حاتم في «العلل» رقم:(699): سألت أبي عن حديث رواه عبد العزيز الدراوردي

قال أبي: حديث الدراوردي أصح.

ص: 114

وجه الدلالة منه:

قال ابن العربي: وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَصَحِيحٌ، يَقْتَضِي جَوَازَ الْفِطْرِ مَعَ أُهْبَةِ السَّفَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ (مِنَ السُّنَّةِ) لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى التَّوْقِيفِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ. وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ:(مِنَ السُّنَّةِ) يَنْصَرِفُ إِلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ صَرَّحَ هَذَانِ الصَّحَابِيَّانِ بِأَنَّ الْإِفْطَارَ لِلمسَافِرِ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ الْبُيُوتِ مِنَ السُّنَّةِ.

الدليل الثالث: عن مَنْصُورٍ الْكَلْبِيِّ عَنْ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ قَرْيَتِهِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ قَرْيَةِ عُقْبَةَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ إنَّهُ أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ مَعَهُ نَاسٌ، وَكَرِهَ آخَرُونَ أَنْ يُفْطِرُوا. قَالَ: فَلما رَجَعَ إِلَى قَرْيَتِهِ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ اليوم أَمْرًا مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَرَاهُ! إِنَّ قَوْمًا رَغِبُوا عَنْ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ!! يَقُولُ ذَلِكَ لِلَّذِينَ صَامُوا، ثُمَّ قال عِنْدَ ذَلِكَ: اللَّهُمَّ

ص: 115

اقْبِضْنِي إِلَيْكَ

(1)

.

الدليل الرابع: عَنْ عُبَيْدٍ بْنَ جَبْرٍ قَالَ: رَكِبْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ فِي سَفِينَةٍ مِنَ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ. فَقُلْتُ: أَلَسْتَ بَيْنَ الْبُيُوتِ؟ فَقال أَبُو بَصْرَةَ: أَرَغِبْتَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟!

(2)

.

قال الشوكاني

(3)

بعد ذكر فعل أنس وأبي بصرة الغفاري: والحديثان يدلان على أنه يجوز للمسافر أن يفطر قبل خروجه من الموضع الذي أراد السفر منه.

أما دليلهم من المأثور: فاستدلوا بما ورد عن أنس بن مالك قال: قال لي أبو موسى: «أَلم أُنَبَّأْ أَنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ خَرَجْتَ صَائِمًا، وَإِذَا دَخَلْتَ دَخَلْتَ صَائِمَا، فَإِذَا خَرَجْتَ فَاخْرُجْ مُفْطِرًا، وَإِذَا دَخَلْتَ فَادْخُلْ مُفْطِرًا»

(4)

.

واعْتُرِضَ على هذا القول بما قاله ابن قدامة

(5)

: وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وَهَذَا شَاهِدٌ، وَلَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُسَافِرًا حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْبَلَدِ، وَمَهْمَا كَانَ فِي الْبَلَدِ فَلَهُ أَحْكَامُ الْحَاضِرِينَ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، فَأَمَّا أَنَسٌ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بَرَزَ مِنَ الْبَلَدِ خَارِجًا مِنْهُ، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ فِي مَنْزِلِهِ ذَلِكَ.

قلت: والأحاديث التى ذكروها لا تخلو من مقال؛ فالراجح أن المسافر لا يفطر حتى يبرز عن البيوت، وهو أعدل الأقوالٍ، والله أعلم.

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 398)، وأبو داود (2413) وغيرهما، قلت: وفي إسناده منصور الكلبي، قال الذهبي: لا يُعرف وقال الحافظ في «التقريب» : مستور. وقال ابن المديني: مجهول لا أعرفه.

(2)

إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 398)، وأبو داود (2412)، والدارمي (1713) وغيرهم، وفى إسناده كليب بن ذهل وعبيد بن جبير وكلاهما مجهول. قال ابن خزيمة بعد ذكر الحديث: لَسْتُ أَعْرِفُ كُلَيْبَ بْنَ ذُهْلٍ، وَلَا عُبَيْدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَلَا أَقْبَلُ دِينَ مَنْ لَا أَعْرِفُهُ بِعَدَالَةٍ.

(3)

«نيل الأوطار» (4/ 271).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 188).

(5)

«المغني» (4/ 347).

ص: 116

•‌

‌ المبحث الثالث: صيام الحامل والمرضع:

وفيه ثلاثة مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: يجوز للحُبْلَى أن تفطر إذا خافت على جنينها، والمرضع إذا خافت على رضيعها - بالإجماع

(1)

.

قال ابن حزم

(2)

: وَأَمَّا وُجُوبُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا فِي الْخَوْفِ عَلَى الْجَنِينِ وَالرَّضِيعِ؛ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلم} : وَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» فَإِذْ رَحْمَةُ الْجَنِينِ وَالرَّضِيعِ فَرْضٌ، وَلَا وُصُولَ إلَيْهَا إلاَّ بِالْفِطْرِ فَالْفِطْرُ فَرْضٌ.

قال شيخ الإسلام: إن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها، إما لأن الجوع يضربه، أو لاحتياجه إلى دواء تشربه؛ فإنه يجوز لها أن تفطر؛ لأنها أحوج إلى الفطر من المسافر وبعض المرضى، فإنه يُخاف هلاك الولد بصومها. وعليهما مع الفطر القضاء،؛ لأنها ترجو القدرة عليه، فإذا قدرت صامت كالمريض والمسافر.

•‌

‌ المطلب الثانى: إذا خافت الحامل والمرضع على أنفسهما، فعليهما القضاء دون الكفارة بالإجماع.

قال النووي

(3)

: فإن خافت الحامل والمرضع على أنفسهما أفطرتا وعليهما القضاء دون الكفارة؛ لأنهما أفطرتا للخوف على أنفسهما، فوجب عليهما القضاء دون كفارة كالمريض، وهذه كله لا خلاف عليه.

قال ابن قدامة

(4)

: الَحاملُ وَالمرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَلَهُمَا الْفِطْرُ، وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ فَحَسْبُ، لَا نَعْلم فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلم اخْتِلَافًا؛ لأنهمَا بِمَنْزِلَةِ المرِيضِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ.

•‌

‌ المطلب الثالث: إذا أفطرت الحامل والمرضع خوفًا على الجنين والرضيع، ماذا عليهما؟

(1)

«نيل الأوطار» (4/ 273).

(2)

«المحلى» (6/ 262).

(3)

«المجموع» (6/ 267).

(4)

«المغني» (4/ 394).

ص: 117

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال

(1)

:

• القول الأول: ذهب أبو حنيفة إلى أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا فليس عليهما إلا القضاء

(2)

.

واستدل لذلك بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَضَعَ عَنِ المسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ المسَافِرِ وَالْحَامِلِ وَالمرْضِعِ الصَّوْمَ أَوْ الصِّيَامَ»

(3)

.

(1)

سبب الاختلاف ما قاله ابن رشد في «بداية المجتهد» : تَرَدُّدُ شَبَهِهِمَا بَيْنَ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَبَيْنَ المرِيضِ: فَمَنْ شَبَّهَهُمَا بِالمرِيضِ قَالَ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ فَقَطْ. وَمَنْ شَبَّهَهُمَا بِالَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ قَالَ عَلَيْهِمَا الْإِطْعَامُ فَقَطْ، وَأَمَّا مَنْ جَمَعَ عَلَيْهِمَا الْأَمْرَيْنِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَبَهًا فَقَالَ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ شَبَهِ المرِيضِ، وَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ شَبَهِ الَّذِينَ يُجْهِدُهُمُ الصِّيَامُ، مَنْ أَفْرَدَهُمَا بِالْقَضَاءِ أَوْلَى مِمَّنْ أَفْرَدَهُمَا بِالْإِطْعَامِ فَقَطْ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ غَيْرَ مُتَوَاتِرَةٍ. فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ.

(2)

«المغني» (4/ 394)، قال الخطابي في «معالم السنن» (2/ 107): وقال الحسن وعطاء: تقضيان ولا تطعمان كالمريض. وهو قول الأوزاعي والثوري، وإليه ذهب أصحاب الرأي.

(3)

وهذا الحديث اختلف في سنده ومتنه ألوانًا: فرواه أبو هلال، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس ابن مالك الكعبي، عن رجل من بني عبد الله بن كعب، أخرجه أحمد (4/ 347)(5/ 29)، وأبو داود (2407)، والترمذي (715)، وابن ماجه (1667)، وغيرهم، وخالف أبا هلال وهيب ابن خالد فجعل بين عبد الله بن سوادة وأنس، سوادة كما عند النسائي في «الكبرى» (2624)، وغيره. ولكن الخلاف لا يضر لأن عبد الله بن سوادة صرح بسماعه من أنس كما في الطبقات لابن سعد (7/ 32). وأخرجه النسائي في «السنن» (4/ 180)، وغيره من طريق الثوري، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس

فذكره.

وروى أحمد في «المسند» (5/ 29)، والنسائي (4/ 180، 181)، وابن خزيمة في «الصحيح» (2042) من طريق إسماعيل بْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: كَانَ أَبُو قِلَابَةَ حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ لِي: هَلْ لَكَ فِي الَّذِي حَدَّثَنِيهِ؟ فَدَلَّنِي عَلَيْهِ، فَلَقِيتُهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي قَرِيبٌ لِي يُقَالُ لَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وهذه الرواية تُثبت أن أبا قلابة لم يسمع هذا الحديث من أنس. وأخرجه يعقوب بن سفيان «المعرفة والتاريخ» (2/ 468، 469) حدثنا شعبة حدثنا أيوب السختياني، عن رجل من بنى عامر، عن رجل من قومه، وأخرجه الطحاوي في «شرح معانى الآثار» (1/ 423)، وفى «شرح المشكل» (4268) من طريق ابن عيينة عن أيوب حدثنى أبو قلابة عن شيخ من بنى قشير. وأخرجه الطحاوي في «شرح المشكل» (4265)، =

ص: 118

=ويعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/ 469)، وعبد الرزاق (7560)، وغيرهم من طرق عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر، وأخرجه النسائي (4/ 180) من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي أمية، وأخرجه البخاري «التاريخ الكبير» (2/ 29) عن أبي قلابة أن رجلًا أخبره أن أبا أمية أخبره، وأخرجه النسائي (4/ 181) عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن رجل قال: أتيت النبي. وأخرجه النسائي (4/ 181) عن خالد عن أبي العلاء بن الشخير عن رجل، وأخرجه يعقوب في «المعرفة» (1/ 470) عن هشيم عن خالد عن أبي قلابة ويزيد بن الشخير عن رجل من بني عامر، وأخرجه يعقوب أيضًا من طريق الأوزاعى قال: حدثنى يحيى بن أبي كثير قال حدثنى أبو قلابة الجرمى قال: حدثنى أبو أمية أو أبو المهاجر عن أبي أمية قال: «قدمت على رسول الله

» وقد اضطرب الرواة في تسمية صحابي هذا الحديث، وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 266): سمِعتُ أبِي يقُولُ

وذكر حدِيث الأوزاعِيِّ عن يحيى بنِ أبِي كثِيرٍ، عن أبِي قِلابة الجرمِيِّ، قال: حدّثنِي أبُو أُميّة، أو قال: أبُو المهاجرِ، عن أبِي أُميّةِ

الحديث، فسمِعتُ أبِي يقُولُ: النّاسُ يختلِفُون فِي هذا الحدِيثِ فمِنهُم من يقُولُ: يحيى بنُ أبِي كثِيرٍ، عن أبِي قِلابة، عن أنسِ بنِ مالِكٍ الكعبِيِّ. ومِنهُم من يقُولُ: عن أبِي أُميّة، والصّحِيحُ ما يقُولُهُ أيُّوبُ السِّختِيانِيُّ: عن أبِي قِلابة، عن أنسِ بنِ مالِكٍ القُشيرِيِّ.

قال ابن عبد البر في «الاستيعاب» (4/ 11) في ترجمة أبي أمية الجشمى: ذكره بعض مَنْ أَلَّف في الصحابة، وذكر له حديثًا في الصيام من حديث الليث بن سعد عن معاوية بن صالح عن عصام ابن يحيى مرفوعًا مثل حديث القشيرى: أن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة.

وهذا حديث مضطرب الإسناد، ولا يُعرف أبو أميمة هذا، ومنهم من يقول فيه أبو تميمة ولا يصح أيضًا، ومنهم من يقول فيه: أبو أمية. ولا يصح شيء من ذلك من جهة الإسناد، وهذا الحديث اضطرب سندًا ومتنًا، أخرجه الترمذي وحسنه من حديث ابن سوادة عن أنس ولفظه:«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنِ المسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَعَنِ الحَامِلِ أَوِ المرْضِعِ الصَّوْمَ أَوِ الصِّيَامَ» .

ثم إن لفظ الحديث كما أورده البيهقي ظاهره وضع شطر الصلاة عن الحامل والمرضع، وليس الأمر كذلك بخلاف اللفظ الذى أورده الترمذي وأخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث قبيصة ثنا سفيان عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك وفى آخره: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ المسَافِرِ

»، وإنما رواه الناس عن الثوري عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بنى عقيل عن رجل يقال له:«أنس بن مالك» انتهى كلامه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلم في هذا الخبر أن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة، والشطر في هذا الموضع النصف لا القليل، ولم يضع «نصف» فريضة الصلاة على الكمال والتمام، لأنه لم يضع من صلاة الفجر، ولا من صلاة المغرب عن المسافر شيئًا.

ص: 119

وجه الدلالة ما قاله الطبري: وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صحيحًا، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَضَعَ عَنِ الْحَامِلِ وَالمرْضِعِ الصَّوْمَ مَا دَامَتَا عَاجِزَتَيْنِ عَنْهُ حَتَّى تُطِيقَا فَتَقْضِيَا، كَمَا وَضَعَ عَنِ المسَافِرِ فِي سَفَرِهِ حَتَّى يُقِيمَ فَيَقْضِيَهُ

لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَمَعَ بَيْنَ حُكْمِهِ وَبَيْنَ حُكْمِ الْحَامِلِ وَالمرْضِعِ.

• القول الثاني: ذهب ابن عباس

(1)

، وابن عمر

(2)

، وسعيد بن جبير

(3)

، وإبراهيم

(4)

إلى أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا فإنهما يطعمان ولا يقضيان.

واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} .

وجه الدلالة: أن الآية نُسخت بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} على المطيق وثبت على الذى لا يطيق، والحبلى والمرضع داخلتان في عموم الآية، ويفسر ذلك ما ورد عن ابن عباس {قال: رُخِّصَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ الْكَبِيرَةِ في ذَلِكَ، وَهُمَا يُطِيقَانِ الصَّوْمَ أَنْ يُفْطِرَا إِنْ شَاآ وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يوم مِسْكِينًا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ في هَذِهِ الآيَةِ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وَثَبَتَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ الْكَبِيرَةِ إِذَا كَانَا لَا يُطِيقَانِ الصَّوْمَ، وَالْحَامِلُ وَالمرْضِعُ إِذَا خَافَتَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا مَكَانَ كُلِّ يوم مِسْكِينًا

(5)

.

(1)

إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق «المصنف» (7567).

(2)

صحيح: أخرجه الشافعي (المسند) ومن طريقه البيهقي «الكبرى» (4/ 230)، وعبد الرزاق (7560)، من طرق أيوب ومالك، عن نافع، عن ابن عمر.

(3)

أخرجه عبد الرزاق (7555)، من طريق معمر عن أيوب عن سعيد، وفي رواية معمر عن أيوب مقال.

(4)

أخرجه عبد الرزاق (7562)، عن الثوري عن حماد عن إبراهيم.

(5)

أخرجه الطبرى في «تفسيره» (2752)، وابن الجارود في «المنتقى» (381)، وغيرهما، من طرق عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد. أخرج الطبرى حدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن علي بن ثابت عن نافع عن ابن عمر، مثل قول ابن عباس في الحامل والمرضع، إسناده صحيح.

ص: 120

واعْتُرِضَ على هذا الاستدلال: بأن الآية منسوخة عند الجمهور بلا استثناء ولا تفصيل، فعن سلمة بن الأكوع أنه قال: لما نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا

(1)

.

• القول الثالث: ذهب جمهور العلماء إلى أن الحامل والمرضع تفطران وتقضيان وتطعمان، وبه قال مالك والشافعي وأحمد

(2)

.

قال ابن قدامة: الحامل والمرضع وَإِنْ خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا، وَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ وَإِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يوم، وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي عُمُومِ الْآيَةِ.

قال ابْنُ عَبَّاسٍ: «كَانَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالمرْأَةِ الْكَبِيرَةِ، وَهُمَا يُطِيقَانِ الصِّيَامَ أَنْ يُفْطِرَا، وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يوم مِسْكِينًا، وَالْحُبْلَى وَالمرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا» .

واعْتُرِضَ على هذا بأن الآية منسوخة عند الجمهور بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

وأما دليلهم على وجوب القضاء فهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَضَعَ عن الْحَامِلِ وَالمرْضِعِ والمسّافر الصَّوْمَ» . أي وضع عنهما القضاء ما دامتا عاجزتين، حتى تستطيعا فتقضيا؛ ولأنه ذكر في الحديث المسافر، وإنما وضع عنه الأداء فقط.

• القول الرابع: الحبلى تقضي ولا تكفِّر، والمرضع تقضي وتكفِّر:

قال الليث: الْكَفَّارَةُ عَلَى المرْضِعِ دُونَ الْحَامِلِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ المرْضِعَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَسْتَرْضِعَ لِوَلَدِهَا، بِخِلَافِ الْحَامِلِ؛ وَلِأَنَّ الْحَمْلَ مُتَّصِلٌ بِالْحَامِلِ، فَالْخَوْفُ عَلَيْهِ كَالْخَوْفِ عَلَى بَعْضِ أَعْضَائِهَا

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (4507).

(2)

«الأم» (2/ 155)، «المغني» (4/ 393)، «الفتاوى» «25/ 218).

(3)

«المغني» (4/ 394).

ص: 121

قال الخطابي

(1)

: وقال مالك: الحبلى تقضي ولا تكفِّر؛ لأنها بمنزلة المريض، والمرضع تقضي وتكفِّر.

واعْتُرِضَ على هذا القول بأن التفريق بين الحامل والمرضع ليس عليه دليل، لا من كتابٍ ولا من سنة.

• القول الخامس: ما قاله ابن حزم

(2)

: فَإِنْ خَافَتِ المرْضِعُ عَلَى المرْضَعِ قِلَّةَ اللَّبَنِ وَضَيْعَتَهُ لِذَلِكَ وَلم يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا، أَوْ لم يَقْبَلْ ثَدْيَ غَيْرِهَا، أَوْ خَافَتِ الْحَامِلُ عَلَى الْجَنِينِ، أَوْ عَجَزَ الشَّيْخُ عَنِ الصَّوْمِ لِكِبَرِهِ - أَفْطَرُوا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ وَلَا إطْعَامَ.

واستدل لذلك بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْحَامِلِ وَالمرْضِعِ الصَّوْمَ» قالوا: وضع أي: سقط الصوم فلا قضاء عليهما ولا إطعام.

واعترض عليه بأن هذا الحديث حجةٌ عليهم، وذلك بأنه صلى الله عليه وسلم جمع بين حكم المسافر والحامل والمرضع، وإذا كان وضع عن المسافر الصوم حتى يقيم فيقضيه، فكذا وضع عن الحامل والمرضع الصوم حتى تطيقا فتقضيا.

قال شيخ الإسلام: وأشبه القولين وجوب القضاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ المسَافِرِ والحَامِل والمرِضَع» ولم يردْ إلا وضعُ الأداء دون القضاء؛ لأنه ذَكَرَ المسافر وإنما وضع عنه الأداء فقط، ولأنها ترجو القدرة على القضاء، فهى كالمريض.

قال الطبري: إنه وضع عن الحامل والمرضع الصوم ما دامتا عاجزتين عنه حتى تطيقا فتقضيا، كما وضع عن المسافر حتى يقيم فيقضيه.

والراجح: أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا فحكمهما حكم المريض؛ لأنها ترجو القدرة عليه، وحديث أنس بن مالك وإن كان له إسناد حسن إلا أن بعض أهل العلم أعله بالاضطراب، وإن صح فمعناه: أن الله وضع عن الحامل والمرضع الصوم ما دامتا عاجزتين عنه حتى تطيقا فتقضيا؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ

(1)

«معالم السنن» (2/ 107).

(2)

«المحلى» (6/ 262).

ص: 122

المسَافِرِ والحَامِل والمرضَع الصَّوْمَ» ولم يَرد إلا وضع الأداء؛ ولأنهما ترجوان القدرة على القضاء، كما وضع الصوم عن المسافر حتى يقيم فيقضيه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جَمَع بين حكمه وبين حكم الحامل والمرضع، ولا تجتمع عليهما كفارتان.

وسئلت اللجنة الدائمة: الحامل أو المرضع إذا خافت على نفسها أو على الولد في شهر رمضان وأفطرت فماذا عليها؟

ج: إن خافت الحامل على نفسها أو جنينها من صوم أفطرت وعليها القضاء فقط، شأنها شأن الذي لا يَقوَى على الصوم أو يخشى منه على نفسه مضرةً، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

وكذا المرضع إذا خافت على نفسها إن أرضعت ولدها في رمضان، أو خافت على ولدها إن صامت ولم ترضعه، أفطرت وعليها القضاء فقط، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

•‌

‌ المبحث الرابع: صيام الشيخ الكبير الذى يجهده الصوم، والمريض الذى لا يرجى برؤه،

وفيه مطلبان:

•‌

‌ المطلب الأول: الإفطار جائز لهما بالنص والإجماع؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وللإجماع المنعقد على ذلك.

قال ابن رشد

(1)

: وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ اللَّذَانِ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الصِّيَامِ فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا.

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن للشيخ والعجوز العاجزين الفطر

(2)

.

قال الشافعي: الشيخ الكبير الذى يجهده الصوم، أى يلحقه به مشقة شديدة، والمريض الذى لا يُرْجَى برؤه - لا صوم عليهما بلا خلاف

(3)

.

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 300).

(2)

انظر: «المجموع» (6/ 259).

(3)

انظر: «المجموع» (6/ 258).

ص: 123

•‌

‌ المطلب الثاني: إذا أفطر الشيخ الكبير الذى يجهده الصوم، والمريض الذى لا يرجى برؤه، ماذا عليهما؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم والمريض الذي لا يرجى برؤه - عليهما الكفارة

(1)

.

استدلوا بالنص والمأثور:

روى البخاري

(2)

عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالمرْأَةُ الْكَبِيرَةُ، لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا، فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يوم مِسْكِينًا» .

وجه الدلالة ما قاله الكاساني

(3)

: وَعَلَى الَّذِينَ كَانُوا يُطِيقُونَهُ -أَيْ: الصَّوْمَ- ثُمَّ عَجَزُوا عَنْهُ - فِدْيَةٌ طعَامُ مِسْكِينٍ وَاللَّهُ أَعْلم؛ وَلِأَنَّ الصَّوْمَ لما فَاتَهُ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إلَى الْجَابِرِ وَتَعَذَّرَ جَبْرُهُ بِالصَّوْمِ فَيُجْبَرُ بِالْفِدْيَةِ، وَتُجْعَلُ الْفِدْيَةُ مِثْلًا لِلصَّوْمِ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ، كَالْقِيمَةِ فِي ضَمَانِ المتْلَفَاتِ.

واعْتُرِضَ عليه من وجهين:

الأول: أن لفظ الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} والشيخ الكبير والمريض الذي لا يُرْجَى برؤه لا يطيقان الصيام؛ فلا يُستدل لهما بالآية، قال مالك: لا فدية عليه. ووجه قوله أن الله تعالى أوجب الفدية على المطيق للصوم، بقوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وهو لا يطيق الصوم؛ فلا تلزمه فدية

(4)

.

(1)

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 395): الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَالْعَجُوزَ، إذَا كَانَ يُجْهِدُهُمَا الصَّوْمُ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا مَشَقَّةً شَدِيدَةً، فَلَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا لِكُلِّ يوم مِسْكِينًا. وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ.

(2)

أخرجه البخاري (4505).

(3)

«بدائع الصنائع» (2/ 97).

(4)

أخرجه البخاري (4505).

ص: 124

الثاني: أن هذه الآية منسوخةٌ عند جمهور العلماء بلا استثناء ولا تفصيل بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . فلا يجوز الاستدلال بالمنسوخ.

أما دليلهم من الماثور: فعن ثابت قال: «كبِر أنس بن مالك حتى كان لا يطيق الصيام، فكان يفطر ويطعم»

(1)

.

وعن سعيد بن جبير كان يقرأ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال: هي في الشيخ الكبير والعجوز، إذا لم يستطيعا الصيام، فعليهما أن يطعما كل يوم مسكينًا، كل واحد منهما، فإن لم يجدا فلا شيء عليهما»

(2)

.

وعن عكرمة بن عمار قال: سألت طاوسًا عن أمي وكان بها عُطاش، فلم تستطع أن تصوم رمضان، قال: تطعم كل يوم مسكينًا مُدَّ بُرٍّ. قال: بأي مُد؟ قال: مُد أرضك

(3)

.

• القول الآخر: ذهب مالك إلى أن الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم والمريض الذي لا يُرْجَى برؤه إذا كانا لا يستطيعان الصوم - فلا يجب عليهما فدية

(4)

.

قلت: الأحوط في هذه المسألة والله أعلم أن الشيخ الكبير الذى يجهده الصوم، والمريض الذى لا يُرْجَى برؤه، إذا كان يجهده الصوم، ويشق عليهما مشقة شديدة،

(1)

صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7570)، عن معمر، عن ثابت به. وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/ 18)، وأخرجه الطبراني في «الكبير» (1/ 242)، وأخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 207)، من طرق عن أنس.

وروى الطبراني في «الكبير» (2784) بإسناده عن الحارث عن علي في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} قال: «الشيخ الكبير الذى لا يستطيع الصوم، يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينًا» ، وفي إسناده الحارث الأعور: كذاب. وروى الدارقطني في «السنن» (2/ 208) عن أبي هريرة قال: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْكِبَرُ فَلم يَسْتَطِعْ أَنْ يَصُومَ رَمَضَانَ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يوم مُدٌّ مِنْ قَمْحٍ» ، وإسناده ضعيف.

(2)

إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (4/ 223).

(3)

إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق (4/ 223).

(4)

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 396): وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ; لِأَنَّهُ تَرَكَ الصَّوْمَ لِعَجْزِهِ، فَلم تَجِبْ فِدْيَةٌ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ لمرَضٍ اتَّصَلَ بِهِ الموْتُ. وانظر:«بداية المجتهد» (1/ 301).

ص: 125

فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكينًا، فإن كانا عاجزين عن الإطعام، فلا شيء عليهما؛ لقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .

وأما قول مالك: (لا فدية عليهما)؛ فلأن الله أوجب الفدية على المطيق للصوم بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وهو لا يطيق فلا تلزمه فديةٌ، وأيضًا: فإن هذه الآية منسوخة عند جمهور العلماء. وما ورد عن أنس بن مالك وغيره فعلى وجه الاستحباب، فهذا القول له وجهته، والله أعلم بالصواب.

•‌

‌ المبحث الخامس: هل يباح الفطر لأصحاب الأعمال الشاقة؟

هل يجوز لأصحاب الأعمال الشقة أن يفطروا في رمضان كالذين يعملون في مصانع الحديد والصلب ونحو ذلك من الأعمال الشاقة؟

الجواب: أفتى الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، وعبد العزيز بن باز

(1)

فقالا:

الأصل وجوب صوم رمضان، وتبييت النية له من جميع المكلفين من المسلمين، وأن يصبحوا صائمين إلا من رخص لهم الشارع بأن يصبحوا مفطرين، وهم المرضى والمسافرون ومن في معناهم، وأصحاب الأعمال الشاقة داخلون في عموم المكلفين وليسوا في معنى المرضى والمسافرين، فيجب عليهم تبييت نية صوم رمضان وأن يصبحوا صائمين، ومن اضطر منهم للفطر أثناء النهار فيجوز له أن يفطر بما يدفع اضطراره ثم يمسك بقية يومه ويقضيه في الوقت المناسب، ومن لم تحصل لهم ضرورة وجب عليه الاستمرار في الصوم، هذا ما تقتضيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وما دل عليه كلام المحققين من أهل العلم من جميع المذاهب.

وعلى ولاة أمور المسلمين الذين يوجد عندهم أصحاب الأعمال الشاقة أن ينظروا في أمرهم إذا جاء رمضان فلا يكلفوهم من العمل إن أمكن ما يضطرهم إلى الفطر في نهار رمضان، بأن يجعل العمل ليلًا أو توزيع ساعات العمل في النهار بين العمال توزيعًا عادلًا يوفقون به بين العمل والصيام.

(1)

فتاوى الصيام (ص 185، 186).

ص: 126

•‌

‌ المبحث السادس: من يجب عليه الفطر ويحرم عليه الصوم؟

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: يحرم الصوم على الحائض والنفساء، ويجب عليهما الفطر، وذلك لما ثبت في «الصحيحين»

(1)

من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لم تُصَلِّ وَلم تَصُمْ؟» .

ولما ثبت في «الصحيحين»

(2)

عَنْ مُعَاذَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: أَتَقْضِي إِحْدَانَا الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِهَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قَدْ كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ لَا تُؤْمَرُ بِقَضَاءٍ.

قال النووي: أما الحائض والنفساء فلا يجب عليهما الصوم؛ لأنه لا يصح منهما.

•‌

‌ المطلب الثاني: يجب الفطر على من غلبه الجوع والعطش فخاف الهلاك.

قال النووي

(3)

: قال أصحابنا وغيرهم: من غلبه الجوع والعطش فخاف الهلاك، لزمه الفطر وإن كان صحيحًا مقيمًا؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} : ولقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} : ويلْزَمُه القضاء كالمريض، والله أعلم.

•‌

‌ المطلب الثالث: لو رأى الصائم في رمضان مشرفًا على الهلاك ولا يمكنه تخليصه إلا بالفطر، وجب عليه الإفطار:

قال النووي

(4)

: قالوا: لو رأى الصائم في رمضان مشرفًا على الغرق ونحوه، ولم يمكنه تخليصه إلا بالفطر ليتقوى، فأفطر لذلك، جاز، بل هو واجب عليه، ويلْزَمُه القضاء.

(1)

أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146).

(2)

أخرجه البخاري (321)، ومسلم (335).

(3)

«المجموع» (6/ 258).

(4)

«المجموع» (6/ 329).

ص: 127

‌الفصل السادس مفسدات الصوم

تنقسم المفطرات إلى ثلاثة أقسام:

• القسم الأول: المفطرات بالداخل إلى الجسم، وفيه مباحث.

• المبحث الأول: الداخل إلى الجسم عن طريق الفم، وفيه مطالب:

• المطلب الأول: الأكل والشرب عامدًا.

• المطلب الثاني: من أكل أو شرب ناسيًا.

• المطلب الثالث: الطعام الذي يُخرجه الإنسان من بين أسنانه إن تعمد ابتلاعه.

• المطلب الرابع: بَلْع الريق هل يفطر الصائم؟

• المبحث الثاني: الداخل إلى الجسم عن طريق الأنف، وفيه:

• المضمضة والاستنشاق إذا وصل الماء إلى حلقه من غير قصد، وما يتعلق بهما من أحكام

• المبحث الثالث: الداخل إلى الجسم عن طريق العين:

• أي هل الكحل يفطر الصائم؟

• المبحث الرابع: الداخل إلى الجسم عن طريق الحقن.

• القسم الثاني: المفطرات بالخارج من الجسم، وفيه مباحث:

• المبحث الأول: الجماع وإنزال المني وما يتعلق بهما من أحكام.

• المبحث الثاني: الحيض والنفاس.

• المبحث الثالث: القيء.

• المبحث الرابع: الحجامة.

• القسم الثالث: مفطرات أخرى، وفيه مبحثان:

• المبحث الأول: من ارتد فقد أفطر.

• المبحث الثاني: من نوى الإفطار فقد أفطر.

ص: 128

‌القسم الأول المفطرات بالداخل إلى الجسم

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: الداخل إلى الجسم عن طريق الفم، وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: الأكل والشرب عامدًا.

قال ابن عبد البر: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلماءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَيْقَنَ الصَّبَاحَ، لم يَجُزْ لَهُ الْأَكْلُ وَلَا الشُّرْبُ بَعْدَ ذَلِكَ

(1)

.

قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]. فدلت هذه الآية على أنه لا يجوز الأكل ولا الشرب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

وفي الحديث «يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي» ، فمن لم يذر الطعام والشراب والشهوة لله فليس بصائم.

•‌

‌ المطلب الثاني: من أكل أوشرب ناسيًا، فهل عليه القضاء.

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن من أكل أو شرب ناسيًا فلا قضاء عليه، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد

(2)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في «الصحيحين»

(3)

، عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:

(1)

«التمهيد» (10/ 63).

(2)

«بدائع الصنائع» (2/ 90)، «المجموع» (6/ 324).

(3)

أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (1155)، وروى أحمد في «المسند» (6/ 367) وعبد بن

حميد (1588) وغيرهما، عن أُمِّ إِسْحَاقَ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُتِىَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ فَأَكَلَتْ مَعَهُ وَمَعَهُ ذُو الْيَدَيْنِ، فَنَاوَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرْقاً فَقَالَ:«يَا أُمَّ إِسْحَاقَ أَصِيبِى مِنْ هَذَا» . فَذَكَرْتُ أَنِّى كُنْتُ صَائِمَةً فَبَرَّدْتُ يَدِى لَا أُقَدِّمُهَا وَلَا أُؤَخِّرُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا لَكِ؟» . قَالَتْ كُنْتُ صَائِمَةً فَنَسِيتُ. فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ: الآنَ بَعْدَ مَا شَبِعْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتِمِّي صَوْمَكِ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكِ» قلت: وفي إسناده (بشار بن عبد الملك) ضعيف، و (أم حكيم بنت دينار) مجهولة.

ص: 129

«مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» .

وجه الدلالة: «فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» ، وإذا كان أطعمه الله وسقاه فلا قضاء عليه.

وروى ابن خزيمة

(1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَفْطَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِيًا، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ» .

أما دليلهم من المأثور: فعن سَعِيد المقبري أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أبا هريرة رضي الله عنه فَقال: أَكَلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قال: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ. قال: شَرِبْتُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قال: لَا شَيْءَ عَلَيْكَ. قال: فَأَكَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَأَنَا صَائِمٌ؟ قال: يَا بُنَيَّ أَنْتَ لم تَعْتَدِ الصِّيَامَ

(2)

.

• القول الآخر: ذهب مالك إلى أن من أكل أو شرب ناسيًا في صيام واجب؛ فعليه القضاء.

واستدل لذلك بالقياس على الصلاة، فكما أن من نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها، فكذلك من نسِى فأكل أو شرِب فيرفع عنه الإثم وعليه القضاء.

واعْتُرِضَ عَليه بأن هذا القياس لا يُقبل مع وجود النص.

(1)

إسناده حسن: أخرجه ابن خزيمة (1990)، وابن حبان (3521)، والدارقطني في «السنن» (2/ 178) وقال: تفرد به الأنصارى، عن محمد بن عمرو، وكلهم ثقات، والحاكم في «المستدرك» (1/ 430)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة، ووافقه الذهبى. والبيهقي في «الكبرى» (4/ 226). كلهم من طريق محمد بن عبد الله الأنصارى، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 57، 58): رواه الطبراني في «الأوسط» . وفيه محمد بن عمرو وهو حسن الحديث.

(2)

«المطالب العالية» (1123). قال مسدد: حدثني يحيي، عن ابن عجلان، حدثني سعيد المقبري أن رجلاً سأل أبا هريرة

به. وابن عجلان في روايته عن سعيد المقبري مقال.

ص: 130

واستدلوا أيضًا: بأنه على أصل الإمام مالك، بأن خبر الواحد إذا خالف القاعدة لم يُعمَل به، والقاعدة عندهم بأنه يسقط الإثم عن الناسي ولا يسقط القضاء، وخبر أبي هريرة رضي الله عنه خبر واحد، فإذا كان يسقط القضاء ويخالف القاعدة فلا يُعمل به.

واعْتُرِضَ عَليه بما قاله الحافظ ابن حجر: وَأَمَّا الْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ اِبْنُ الْعَرَبِيِّ فَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَلَا يُقْبَلُ، وَرَدُّهُ لِلْحَدِيثِ مَعَ صحتِهِ بِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ خَالَفَ الْقَاعِدَةَ لَيْسَ بِمُسَلم؛ لِأَنَّهُ قَاعِدَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِالصِّيَامِ، فَمَنْ عَارَضَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ أَدْخَلَ قَاعِدَةً فِي قَاعِدَةٍ، وَلَوْ فُتِحَ بَابُ رَدِّ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَة بِمِثْلِ هَذَا لما بَقِيَ مِنَ الْحَدِيثِ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَفِي الْحَدِيثِ لُطْفُ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَالتَّيْسِير عَلَيْهِمْ وَرَفْعُ المشَقَّةِ وَالْحَرَجِ.

الراجح في المسألة: أن من أكل أو شرب ناسيًا لا يفسد صومه وليس عليه القضاء؛ لما في «الصحيحين» من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» .

•‌

‌ المطلب الثالث: الطعام الذي يُخرجه الإنسان من بين أسنانه، إن تعمد ابتلاعه، هل يفسد صومه؟

قال ابن قدامة

(1)

: وَمَنْ أَصْبَحَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ طَعَامٌ لم يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لَا يُمْكِنْهُ لَفْظُهُ فَازْدَرَدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِهِ؛ لأنه لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ الرِّيقَ. قال ابْنُ المنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلم.

الحالة الثانية: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا يُمْكِنُ لَفْظُهُ، فَإِنْ لَفَظَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ ازْدَرَدَهُ عَامِدًا، فَسَدَ صَوْمُهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلم.

قال الشافعي

(2)

: نُفَطِّرُهُ بِمَا بين أَسْنَانِهِ إذَا كان يَقْدِرُ على طَرْحِهِ.

قال ابن حزم: وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالمالِكِيُّونَ: مَنْ خَرَجَ - وَهُوَ صَائِمٌ - مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ بَقِيَّةِ سَحُورِهِ كَالْجَذِيذَةِ وَشَيْءٌ مِنَ اللَّحْمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَبَلَعَهُ، عَامِدًا لِبَلْعِهِ ذَاكِرًا

(1)

«المغني» (4/ 360).

(2)

«الأم» (2/ 143، 144).

ص: 131

لِصَوْمِهِ، فَصَوْمُهُ تَامٌّ، وَمَا نَعْلم هَذَا الْقَوْلَ لِأَحَدٍ قَبْلَهُمَا! وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ أُكِلَ بَعْدُ، وَإِنَّمَا حَرُمَ مَا لم يُؤْكَلْ! فَكَانَ الِاحْتِجَاجُ أَسْقَطَ وَأَوْحَشَ مِنَ الْقَوْلِ المحْتَجِّ لَهُ وَمَا عَلمنَا شَيْئًا أُكِلَ فَيُمْكِنُ وُجُودُهُ بَعْدَ الْأَكْلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَيْئًا أَوْ عَذِرَةً وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْبَلَاءِ.

وقال: وَإِنَّمَا الْحَقُّ الْوَاضِحُ فَإِنَّ كُلَّ مَا سُمِّيَ أكلًا - أَيُّ شَيْءٍ كَانَ - فَتَعَمُّدُهُ يُبْطِلُ الصَّوْمَ

(1)

.

•‌

‌ المطلب الرابع: بَلْع الريق لا يُفطر بالإجماع:

قال ابن حزم رحمه الله: وَأَمَّا الرِّيقُ - فَقَلَّ أَوْ كَثُرَ - فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَعَمُّدَ ابْتِلَاعَهُ لَايَنْقُضُ الصَّوْمَ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ

(2)

.

•‌

‌ المبحث الثاني: الداخل إلى الجسم من طريق الأنف:

وفيه: (المضمضة والاستنشاق للصائم، وما يتعلق بهما من أحكام).

•‌

‌ المطلب الأول: المضمضة والاستنشاق لا تفطر بالنص والإجماع.

عن لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا»

(3)

.

قال ابن قدامة رحمه الله: وَلَا يُفْطِرُ بِالمضْمَضَةِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الطَّهَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا

(4)

.

•‌

‌ المطلب الثاني: من تمضمض أو استنشق في الطهارة ولم يبالغ فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف، ماذا عليه؟

• القول الأول: قال ابن قدامة: وَإِنْ تَمَضْمَضَ، أَوْ اسْتَنْشَقَ فِي الطَّهَارَةِ، فَسَبَقَ الماءُ إلَى

(1)

«المحلى» (6/ 176).

(2)

«المحلى» (6/ 176).

(3)

أخرجه أحمد (4/ 32، 33)، وأبو داود (2366)، والترمذي (788)، والنسائي (1/ 66)، وابن ماجه (407)، وغيرهم عن إسماعيل بن كثير المكى، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه مرفوعًا.

قلت: وفى إسناده عاصم بن لقيط بن صبرة، روى عن أبيه لقيط بن صبرة، وعنه أبو هشام إسماعيل بن كثير المكى، قال النسائي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، له عندهم حديث واحد، في المبالغة في الاستنشاق. فالراجح أن عاصم بن لقيط مجهول، والنسائي يوثق بعض المجاهيل.

(4)

«المغني» (4/ 356).

ص: 132

حَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلَا إسْرَافٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَبِهِ قال الْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَنَا أَنَّهُ وَصَلَ إلَى حَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا قَصْدٍ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ طَارَتْ ذُبَابَةٌ إلَى حَلْقِهِ، وَبِهَذَا فَارَقَ المتَعَمِّدَ.

قال النووي

(1)

: قال الحسن البصرى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا يبطل مطلقًا.

• القول الآخر: قال مالك، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يُفْطِرُ؛ لأنه أَوْصَلَ الماءَ إلَى جَوْفِهِ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، فَأَفْطَرَ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ شُرْبَهُ

(2)

.

قال النووي: قال ببطلان الصوم مطلقًا مالك وأبو حنيفة والمزنى، قال الماوردي: هو قول أكثر الفقهاء

(3)

.

والراجح والله أعلم: أن من تمضمض أو استنشق وهو صائم، فسبق الماء إلى حلقه، من غير قصد، فأنه لا شيء عليه؛ لأنه غير عامد.

•‌

‌ المطلب الثالث: إذا بالغ في المضمضة والاستنشاق فوصل شيء من الماء إلى حلقه ماذا عليه؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

ذهب جمهور العلماء إلى أنه يفطر بذلك، وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عن الحنابلة

(4)

. وذهب الحنابلة في رواية إلى أنه لا يفطر بذلك

(5)

.

قال ابن قدامة رحمه الله: فَأَمَّا إنَّ أَسْرَفَ فَزَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، أَوْ بَالَغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ، فَقَدْ فَعَلَ مَكْرُوهًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ:«وَبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» ،

(1)

«المجموع» (6/ 327).

(2)

«المغني» (4/ 356).

(3)

«المجموع» (6/ 327).

(4)

«بدائع الصنائع» (2/ 145)، «مواهب الجليل» (3/ 350)، «تحفة المحتاج» (1/ 512)، «الإنصاف» (7/ 434)، والمالكية عندهم إذا تمضمض فوصل الماء إلى حلقه يفطر، سواء بالغ أم لا.

(5)

«كشاف القناع» (3/ 981)، «شرح المنتهى» (2/ 365).

ص: 133

وَلِأَنَّهُ يَتَعَرَّضُ بِذَلِكَ لِإِيصَالِ الماءِ إلَى حَلْقِهِ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى حَلْقِهِ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يُعِيدَ الصَّوْمَ. وَهَلْ يُفْطِرُ بِذَلِكَ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: يُفْطِرُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ المبَالَغَةِ حِفْظًا لِلصَّوْمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُفْطِرُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ وَصَلَ بِفِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ التَّعَمُّدَ.

والثانى: لَا يُفْطِرُ بِهِ; لِأَنَّهُ وَصَلَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.

• الحاصل في المسألة:

أولاً: لا تفطر المضمضة والاستنشاق بالنص والإجماع.

ثانيًا: من تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف، فلا شيء عليه.

ثالثًا: إذا تمضمض أو استنشق فبالغ في ذلك فوصل الماء إلى حلقه من غير قصد، فقد فعل مكروهًا، وخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:«وَبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» ولا يفطر بذلك؛ لأنه غير عامد.

•‌

‌ المبحث الثالث: الداخل إلى الجسم عن طريق العين، وفيه: هل يباح الكحل للصائم؟

للعلماء في ذلك قولان:

• القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية وابن حزم إلى أنه لا بأس بالكحل للصائم، حتى وإن وجد طعمه في حلقه، لأنه ليس للعين منفذ إلى الجوف

(1)

.

واستدلوا لذلك بالسنة والمأثور والمعقول:

أما دليلهم من السنة: فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: اشْتَكَتْ عَيْنِي أَفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ»

(2)

.

(1)

قال الكاساني «بدائع الصنائع» (2/ 106): وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكْتَحِلَ الصَّائِمُ بِالْإِثْمِدِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ فَعَلَ لَا يُفْطِرُهُ، وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلماءِ. انظر:«المبسوط» (3/ 67)، و «روضة الطالبين» (2/ 221)، و «تحفة المحتاج» (1/ 513)، و «المحلى» (6/ 203).

(2)

ضعيف: أخرجه الترمذي (726) وغيره، وفي إسناده: أبو عاتكة ضعيف، قال أبو عيسى: حديث أنس حديث ليس إسناده بالقوى، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث.

ص: 134

وعن عائشة قالت: «اكْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ»

(1)

.

وأما دليلهم من المأثور: فإن أنسًا كان يكتحل وهو صائم

(2)

.

وقال عطاء: «لَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ لِلصَّائِمِ»

(3)

.

• القول الثاني: ذهب المالكية والحنابلة إلى أنه لا بأس بالكحل ما لم يدخل إلى حلقه، فإن وجد طعمه في حلقه أفطر

(4)

، لأن الداخل من العين يفطر إذا تحقق وصوله إلى الحلق.

واستدلوا لذلك بالسنة والمأثور:

أما من السنة: فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَوْذَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ المرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ وَقَالَ: «لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ»

(5)

.

وأما من المأثور: فقال عبد الرزاق: عن ابن التيمي أن أباه، ومنصور بن المعتمر، وابن أبى ليلى، وابن شبرمة - قالوا: إن اكتحل الصائم فعليه أن يقضي يومًا مكانه. قال:

وكان أبوه يكره الكحل للصائم

(6)

.

(1)

ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1678) قلت: وفى إسناده الزبيدى وهو ضعيف، وبقية مدلس.

(2)

إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (9272).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 46، 47)، و «المصنف» لعبد الرزاق (7514)، وروى أبو داود (2379) بسند حسن عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ:«مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أصحابنا يَكْرَهُ الْكُحْلَ لِلصَّائِمِ» . في إسناده: يحيى بن عيسى، صدوق.

(4)

«المدونة» (1/ 177)، «شرح الخرشي» (3/ 33). قال ابن قدامة: فَأَمَّا الْكُحْلُ، فَمَا وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، أَوْ عَلم وُصُولَهُ إلَيْهِ، فَطَّرَهُ، وَإِلَّا لم يُفَطِّرْهُ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. «المغني» (4/ 353). انظر:«مسائل عبد الله» (2/ 644).

(5)

ضعيف: أخرجه أبو داود (2377)، وأخرجه أحمد (3/ 476، 499)، وليس فيه ذكر «وليتقه الصائم» ، والطبراني في «الكبير» (20/ 802). قلت: وفى إسناده النعمان بن معبد، وهو مجهول.

قال أبو داود: قال لى يحيى بن معين: هو حديث منكر.

(6)

صحيح: عبد الرزاق «المصنف» (7517).

ص: 135

قال عبد الرزاق، عن الثوري:«إنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الكُحْلَ لِلْصاَئِمْ»

(1)

.

والراجح: أن ما يدخل في العين لا يؤثر في الصوم ولو وجد طعمه في حلقه؛ لأن العين ليست منفذًا ظاهرًا من منافذ الجوف، مثلها مثل الأذن

(2)

.

قال شيخ الإسلام

(3)

: وَإِذَا كَانَتْ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَ الْأُمَّةُ ذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُحْلَ وَنَحْوَهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى كَمَا تَعُمُّ بِالدُّهْنِ وَالِاغْتِسَالِ وَالْبَخُورِ وَالطِّيبِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُفْطِرُ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا بَيَّنَ الْإِفْطَارَ بِغَيْرِهِ فَلما لم يُبَيِّنْ ذَلِكَ عُلم أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الطِّيبِ وَالْبَخُورِ وَالدُّهْنِ، وَالْبَخُورُ قَدْ يَتَصَاعَدُ إلَى الْأَنْفِ وَيَدْخُلُ فِي الدِّمَاغِ وَيَنْعَقِدُ أَجْسَامًا، وَالدُّهْنُ يَشْرَبُهُ الْبَدَنُ وَيَدْخُلُ إلَى دَاخِلِهِ وَيَتَقَوَّى بِهِ الْإِنْسَانُ، وَكَذَلِكَ يَتَقَوَّى بِالطِّيبِ قُوَّةً جَيِّدَةً، فَلما لم يَنْهَ الصَّائِمَ عَنْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى جَوَازِ تَطْيِيبِهِ وَتَبْخِيرِهِ وَادِّهَانِهِ وَكَذَلِكَ اكْتِحَالُهُ.

وإلى ذلك ذهب المجمع الفقهي في دورته العاشرة

(4)

.

وعلى ذلك فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية

(5)

.

•‌

‌ المبحث الرابع: الداخل إلى الجسم عن طريق الحقن:

• وفيه: هل الحقنة

(6)

تفطر الصائم؟

• ذهب جمهور العلماء إلى أن الحقنة تفطر الصائم

(7)

.

(1)

عبد الرزاق «المصنف» (7518).

(2)

«الفتاوى» (25/ 233).

(3)

«مجموع الفتاوى» (25/ 242).

(4)

«قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي» (ص 213).

(5)

«فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء» (10/ 250) رقم (7351).

(6)

قال ابن منظور: والحُقْنةُ هي: أَنْ يُعطَى المريضُ الدواءَ من أَسفلِه وهي معروفة عند الأَطِبّاء. «لسان العرب» (2/ 946).

(7)

«بدائع الصنائع» (2/ 149)، «المدونة» (1/ 387)، «الحاوي» (3/ 319)، «الإنصاف» (4/ 353)، «المغني» (4/ 353).

ص: 136

قال النووي: الْحُقْنَةُ مُفْطِرَةٌ عِنْدَنَا وَنَقَلَهُ ابْنُ المنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ والثَّوْرِيِّ وأبي حَنيِفَةَ وأحمد وإسحاق وَحَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ، وَنَقَلَهُ المتَوَلِّي عَنْ عَامَّةِ الْعُلماءِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَدَاوُد: لَا يُفْطِرُ

(1)

.

قال شيخ الإسلام

(2)

: وَأَمَّا الْكُحْلُ وَالْحُقْنَةُ وَمَا يُقْطَرُ فِي إحْلِيلِهِ وَمُدَاوَاةُ المأْمُومَةِ

(1)

«المجموع» (6/ 324). قال الشافعي: إن احتقن أو داوى جرحه حتى يصلَ إلى جوفه، أو استعطى حتى يصلَ إلى جوف رأسه، فقد أفطر وإن كان ذاكرًا، ولاشيء عليه إذا كان ناسيًا.

قال في «الإنصاف» (3/ 199): أو احتقن أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه فسد صومه، وهو المذهب وعليه الأصحاب.

(2)

«الفتاوى» (25/ 233). وتتمة ما قاله شيخ الإسلام: وَاَلَّذِينَ قَالُوا: إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تُفْطِرُ، كَالْحُقْنَةِ وَمُدَاوَاةِ المأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ، لم يَكُنْ مَعَهُمْ حُجَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ بِمَا رَأَوْهُ مِنَ الْقِيَاسِ، وَأَقْوَى مَا احْتَجُّوا بِهِ قَوْلُهُ:«وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» قَالُوا: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا وَصَلَ إلَى الدِّمَاغِ يُفْطِرُ الصَّائِمَ إذَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَعَلَى الْقِيَاسِ كُلُّ مَا وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ بِفِعْلِهِ مِنْ حُقْنَةٍ وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الطَّعَامِ وَالْغِذَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ حَشْوِ جَوْفِهِ. وَإِذَا كَانَ عُمْدَتُهُمْ هَذِهِ الْأَقْيِسَةَ وَنَحْوَهَا لم يَجُزْ إفْسَادُ الصَّوْمِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ لِوُجُوهِ:

أَحَدُهَا: أَنَّ الْقِيَاسَ وَإِنْ كَانَ حُجَّةً - إذَا اُعْتُبِرَتْ شُرُوطُ صحتِهِ - فَقَدْ قُلْنَا فِي الْأُصُولِ: إنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ كُلَّهَا بَيَّنَتْهَا النُّصُوصُ أَيْضًا، وَإِنْ دَلَّ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ دِلَالَةً خَفِيَّةً، فَإِذَا عَلمنَا بِأنَّ الرَّسُولَ لم يُحَرِّمْ الشَّيْءَ وَلم يُوجِبْهُ، عَلمنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا وَاجِب، وَأَنَّ الْقِيَاسَ المثْبِتَ لِوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ فَاسِدٌ، وَنَحْنُ نَعْلم أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِفْطَارِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ، فَعَلمنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مُفْطِرَةً.

الثَّانِي: أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَحْتَاجُ الْأُمَّةُ إلَى مَعْرِفَتِهَا لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا عَامًّا، وَلَا بُدَّ أَنْ تَنْقُلَهَا الْأُمَّةُ، فَإِذَا انْتَفَى هَذَا عُلم أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ دِينِهِ، وَهَذَا كَمَا يُعْلم أَنَّهُ لم يَفْرِضْ صِيَامَ شَهْرٍ غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلَا حَجَّ بَيْتٍ غَيْرِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَلَا صَلَاةً مَكْتُوبَةً غَيْرَ الْخَمْسِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إثْبَاتُ التَّفْطِيرِ بِالْقِيَاسِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ صحيحًا، وَذَلِكَ إمَّا قِيَاسُ عِلَّةٍ بِإِثْبَاتِ الْجَامِعِ، وَإِمَّا بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ، فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ فَيُعَدَّى بِهَا إلَى الْفَرْعِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْلم أَنْ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْأَوْصَافِ المعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ، وَهَذَا الْقِيَاسُ هُنَا مُنْتَفٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ المفَطِّرَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مُفَطِّرًا هُوَ مَا كَانَ وَاصِلًا إلَى دِمَاغٍ أَوْ بَدَنٍ أَوْ مَا كَانَ داخلًا مِنْ مَنْفَذٍ أَوْ وَاصِلًا إلَى الْجَوْفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ المعَانِي الَّتِي يَجْعَلُهَا أصحاب هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ هِيَ مَنَاطَ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

ص: 137

وَالْجَائِفَةِ، فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلم؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لم يُفَطِّرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَطَّرَ بِالْجَمِيعِ لَا بِالْكُحْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَطَّرَ بِالْجَمِيعِ لَا بِالتَّقْطِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لم يُفَطِّرْ بِالْكُحْلِ وَلَا بِالتَّقْطِيرِ وَيُفَطِّرُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الصِّيَامَ مِنْ دِينِ المسْلمينَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ مِمَّا حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي الصِّيَامِ وَيَفْسُدُ الصَّوْمُ بِهَا، لَكَانَ هَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ بَيَانُهُ، وَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ لَعَلمهُ الصَّحَابَةُ وَبَلَّغُوهُ الْأُمَّةَ كَمَا بَلَّغُوا سَائِرَ شَرْعِهِ، فَلما لم يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ لَا حَدِيثًا صَحِيحًا وَلَا ضَعِيفًا وَلَا مُسْنَدًا وَلَا مُرْسَلًا - عُلم أَنَّهُ لم يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.

* * *

ص: 138

‌القسم الثاني المفطرات بما يخرج من الجسم

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: الجماع،

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: حكم الجماع عامدًا في نهار رمضان:

اتفق العلماء على تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، إذا كان متعمدًا، ذاكرًا لصومه، وأنه ناقض للصوم، موجب للكفارة

(1)

، وقد حكى ابن المنذر

(2)

وغيره

(3)

الإجماع على ذلك.

ودلَّ على ذلك الكتاب والسنة:

أما الكتاب: فقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187].

(1)

انظر: «المغني» (4/ 372).

(2)

«الإقناع» لابن المنذر (1/ 193).

(3)

كالماوردي والبغوي والنووي وابن قدامة وغيرهم. انظر: «الحاوي» (3/ 424)، قال الرافعي: الجماع مبطل للصوم بالإجماع. وانظر: «المغني» (4/ 372)، و «المجموع» (6/ 321).

قال النووي: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْجِمَاعِ فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ عَلَى الصَّائِمِ، وَعَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ يُبْطِلُ صَوْمَهُ لِلْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَلِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ فَأَبْطَلَهُ كَالْأَكْلِ، وَسَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا، فَيَبْطُلُ صَوْمُهُ فِي الْحَالَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ وَلِحُصُولِ المنَافِي وَلَوْ لَاطَ بِرَجُلٍ أَوْ صبي أو أولج في قُبُل بهمية أَوْ دُبُرِهَا بَطَلَ صَوْمُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، سواء أنزل أم لا.

ص: 139

دلت الآية على إباحة الجماع للصائم في ليالى الصوم حتى يتبيَّن الفجر، وأنه محرم عليه في النهار.

وأما الأدلة من السنة فكثيرة، منها: ما رواه البخاري ومسلم

(1)

عن أبى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه هَلَكْتُ!! قَالَ: «مَا لَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ!! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قال: لَا. فَقال: «فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قال: لَا. قال: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ: الْمِكْتَلُ - قال: «أَيْنَ السَّائِلُ؟» فَقال: أَنَا. قَالَ: «خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ» . فَقال الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ الله؟ فَوَالله مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي!! فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» .

قال البغوى

(2)

: ذهب عامة أهل العلم إلى أن عليه الكفارة إذا أفسد صومه بالجماع، على ما ورد في الحديث.

•‌

‌ المطلب الثاني: إنزال المنى بغير الجماع: وفيه مسائل:

• المسألة الأولى: حكم من قَبل امرأته في نهار رمضان فأنزل أو استمنى بيده.

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوالٍ:

الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن من قبَّل امرأته في نهار رمضان أو استمنى بيده فأنزل، أنه عليه القضاء، وبه قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة

(3)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في «الصحيحين»

(4)

عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

أخرجه البخاري (1936) ومسلم (1111).

(2)

«شرح السنة» (6/ 284).

(3)

«فتح القدير» (4/ 361)، «المدونة» (1/ 175)، «الحاوي» (3/ 297)، و «المغني» (4/ 361) ولكن قال مالك: عليك مع القضاء والكفارة.

(4)

«) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (1151)، (164).

ص: 140

«يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي» .

دل ذلك: على أن الصائم مأمورٌ بترك الأكل، والشرب، والشهوة، ومن قبَّل أو استمنى، فأنزل؛ فإنه لم يَدَع الشهوة

(1)

.

• القول الآخر: ذهب ابن حزم إلى أن من قَبَّل امرأته أو استمنى بيده، فأنزل، أنه لا قضاء عليه ولا كفارة

(2)

.

واستدل لذلك ببراءة الذمة، أو استصحاب العدم الأصلي، وهو أنه لم يَرد دليل يوجب على من قبَّل أو استمنى فأنزل - قضاءً ولا كفارةً، إذ أن أصول المفطرات ثلاثة: الأكل والشرب والجماع، وهذا ليس منها.

قال ابن حزم: وَأَمَّا الِاسْتِمْنَاءُ: فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنَّهُ يَنْقُضُ الصَّوْمَ وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ لَا يَنْقُضُ الصَّوْمَ بِفِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ

ثُمَّ يَنْقُضُهُ بِمَسِّ الذَّكَرِ إذَا كَانَ مَعَهُ إمْنَاءٌ.

واعترض عليه: بأن الدليل ورد بقوله «يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي» والذى يستمني لم يدع الشهوة؛ لأن معنى شهوته في الحديث تعمُّ الجماع ونزول المني بقبلة أو استمناء.

واستدلوا بما ورد عن جابر بن زيد أنه قال: «إِنْ نَظَرَ فَأَمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ»

(3)

.

وهذا الأثر أورده البخاري ليستدل به على أن الاستمناء بسبب الشهوة لا ينقض الصوم، ولا فَرْقَ في الحكم بين النظر والمباشرة في كونها سببًا في الإنزال.

وأُجِيبَ عن هذا: بأن هناك فَرقًا بين النظر وبين الاستمناء وبين الفكر، ولذلك قد

(1)

والدليل على أن إخراج المنى شهوة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِى أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِى حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِى الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» . والذى يُوضع هو المنى. انظر «الشرح الممتع» (6/ 387).

(2)

قال ابن حزم في «المحلى» (6/ 203): وَلَا يَنْقُضُ الصَّوْمَ حِجَامَةٌ، وَلَا احْتِلَامٌ، وَلَا اسْتِمْنَاءٌ، وَلَا مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ الْمُبَاحَةَ لَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، تَعَمَّدَ الإِمْنَاءَ أَمْ لَمْ يُمْنِ.

(3)

أخرجه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم (1/ 33) باب القبلة للصائم ووصله ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 70).

ص: 141

حكى الماوردي الإجماع على أنه من فكر بقلبه فأنزل فلا شاء عليه، ثم لو صح هذا الأثر فإنه لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة.

الراجح في المسألة: أن إنزال المني بشهوة، سواء كان باستمناء، أو بقبلةٍ، يُفْطِرُ الصائم، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي» .

والذى يستمني لم يدع الشهوة.

وقد نُقل الإجماع على أن إنزال المنى بشهوة سواء كان بقبلةٍ أو باليد يفطر الصائم.

قال ابن قدامة: إذَا قَبَّلَ فَأَمْنَى، فَيُفْطِرَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ.

وقال النووي: إذا استمنى بيده - وهو استخراج المني - أفطر بلا خلاف.

قال الماوردي

(1)

: أَمَّا إِنْ وَطِئَ دُونَ الْفَرْجِ أَوْ قَبَّلَ أَوْ بَاشَرَ فَلَمْ يُنْزِلْ، فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ. وَإِنْ أَنْزَلَ فَقَدْ أَفْطَرَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ إِجْمَاعًا.

• فتاوى معاصرة:

المسألة الأولى: حكم ما يسمى بالعادة السرية في نهار رمضان؟

سئل فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين: في رمضان السابق وأنا صائم وقعت في العادة السرية، فماذا يجب عليَّ؟

فأجاب: عليك أن تتوب إلى الله من هذه العادة؛ لأنها محرمة على أصح القولين لأهل العلم؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ 5 إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ 6 فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ 7} [المؤمنون: 5 - 7]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» .

فأرشد الشباب الذين لا يستطيعون الباءة إلى الصوم، والصوم فيه نوع من المشقة بلا شكٍّ، ولو كانت العادة السرية جائزة لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليها؛ لأنها أهون على الشباب؛ ولأن فيها شيئًا من المتعة، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعدِل عن الأسهل إلى الأشق لو كان

(1)

«الحاوي» (3/ 290).

ص: 142

الأسهل جائزًا؛ لأنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. وعدول النبي صلى الله عليه وسلم عن الأيسر في هذه المسألة يدلُّ على أنه ليس بجائز، أما بالنسبة لعمله وهو صائم في رمضان فإنه يزداد إثمًا؛ لأنه بذلك أفسد صومه؛ فعليه أن يتوبَ إلى الله توبتين: توبة من عمل العادة السرية، وتوبة لإفساد صومه، وعليه أن يقضِىَ هذا اليوم الذي أفسده.

• أثر إخراج المني في الصوم:

قال أسامة الخلاوي

(1)

: أما فيما يتعلق بالطريقة الأولى: وهي إخراج الحيوانات المنوية من العضو الذكري جراحيًّا أو سطحيًّا؛ فالظاهر أن هذه الطريقة بحد ذاتها لا تؤثر؛ لأنه ليس فيها إنزال للمني الذي نص الفقهاء على الإفطار بإنزاله، ولا تؤدي إلى لذة، وإنما هي عملية جراحية عادية، تستهدف إخراج الحيوانات المنوية، و قد تخرج دون الحاجة إلى المني ذاته.

أما ما كان باستعمال الجهاز الهزاز، فهذا يفسد الصوم؛ لأنه يسبب الإنزال عن طريق استثارة الحشفة، ومن ثَم الإنزال، وبما أن هذه العملية لا تحتاج إلى مخدر، فإن المريض سيشعر باللذة، فتكون بمثابة الاستمناء، والاستمناء مفسد للصوم، وفارَقَ الاحتلام في أن الاستمناء مصاحب للذة وهو بإرادته، أما الاحتلام فمغلوب عليه.

ما كان عن طريق جهاز القذف الآلي، والذي يظهر لي أنها تفطر مع أن المريض الذي لا يزال محتفظًا بالإحساس أسفل منطقة البطن يُعطى مخدرًا عامًّا لئلا يشعر بالألم إلا أن خروج المني عندئذٍ وإن لم يكن بتلذذ وشهوة، إلا أنه خرج باختياره دفقًا، وليس هو عن مرض عارض، وإنما قَصَده المريض قصدًا، وكان بإمكانه تأخيره لليل أو لما بعد انقضاء أيام الصيام، فلم يشبه الاحتلام، وإنما هو كالطريقة السابقة في إفساد الصوم بسبب استدعاء خروج المني وقصده.

ص: 143

المسألة الثانية: من نظر إلى امرأة فأنزل في نهار رمضان ماذا عليه؟

أولاً: النظر إذا لم يقترن به إنزال، فلا يفسد الصوم بغير خلافٍ

(1)

.

أما إذا نظر فأمنى، فاختلفوا في فساد الصوم على أقوالٍ:

• القول الأول: قال جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَفْسُدُ صَوْمُ مَنْ نَظَرَ فَأَمْنَى؛ لأنه إنْزَالٌ عَنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، أَشْبَهَ الْإِنْزَالَ بِالْفِكْرِ

(2)

.

واستدلوا بما ورد عن جابر بن زيد أنه قال: «إِنْ نَظَرَ فَأَمْنَى يُتِمُّ صَوْمَهُ» .

أورده البخاري للدلالة على الإمناء بسبب النظر لا ينقض الصوم.

وبالقياس على الاحتلام بجامع انتفاء المباشرة

(3)

.

• القول الثانى: قال مالك: إن نظر فأنزل بأول نظرة، فعليه القضاء دون الكفارة، وإن كرَّرَ النظر فعليه القضاء والكفارة

(4)

.

واستدلوا لذلك بما رواه مسلم

(5)

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، ويُصَدِّقُ ذَلِكَ ويكذبهُ الفَرجُ» .

وجه الدلالة منه: المساواة بين النظر واللمس في حصول الزنا بهما، وإذا كانت العين تزني بالنظر، فكذا إذا نظر فأنزل فعليه القضاء والكفارة.

واعْتُرِضَ عليه بما قاله الماوردي

(6)

: هَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ اللَّمْسَ إِذَا صَدَّقَهُ الْفَرْجُ صَارَ زِنًا يُسْتَوْجَبُ بِهِ الْحَدُّ وَالْكَفَّارَةُ، فَأَمَّا بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ فَلَا حَدَّ وَلَا كَفَّارَةَ.

واستدلوا أيضًا بأنه إنزال يتلذذ به، كاللمس، وفيه نوع من الاستمتاع، كالمباشرة.

واعْتُرِضَ عليه بأن قياس النظر على المباشرة فيه نظر؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن النظر

(1)

«المغني» (4/ 363).

(2)

«المغني» (4/ 363).

(3)

انظر: «الحاوي» (3/ 441)، و «المغني» (4/ 363).

(4)

«المدونة» (1/ 199)، و «المغني» (4/ 363).

(5)

أخرجه مسلم (4/ 2047).

(6)

«الحاوي» (3/ 441).

ص: 144

مقصور على الناظر، لا علاقة له بغيره.

• القول الثالث: إنه إذا نظر فأنزل، إن كان ذلك بأول نظرة لم يأثم، ولا يجب عليه القضاء، وإن كرر النظر وتلذذ فأنزل فعليه القضاء، وهو قول الحنابلة

(1)

.

وقالوا: لأن النظرة: الأولى لا يمكن التحرز منها، ولأنه لا يأثم صاحبه فليس عليه القضاء. وأما النظرة الثانية فإنه إنزال بفعل يتلذذ به، ويمكن التحرز منه فأفسد الصوم كالإنزال باللمس.

واعترض عليه بأنه ليس هناك دليل يمنع من نظر الرجل إلى امرأته.

والراجح الله أعلم: هو القول الأول، أي أن من نظر إلى امرأته فأنزل، فليس عليه قضاء ولا كفارة، وإن نظر إلى أجنبية أثم، وليس عليه شيء.

المسألة الثالثة: حكم نزولِ المنى بغير شهوة، كالمنى الذى يخرج لمرض وغيره؟

قال ابن قدامة

(2)

: فَأَمَّا إنَّ أَنْزَلَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَنِيُّ أَوِ الْمَذْيُ لِمَرَضٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، أَشْبَهَ الْبَوْلَ؛ وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَلَا تَسَبُّبٍ إلَيْهِ؛ فَأَشْبَهَ الِاحْتِلَامَ.

المسألة الرابعة: حكم من فكَّر بقلبه فأنزل، هل يفطر؟

قال الماوردي

(3)

: أَمَّا إِنْ فَكَّرَ بِقَلْبِهِ فَأَنْزَلَ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْفِكْرَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«إِنَّ الله تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أَمَّتِي الْخَطَأَ وَالنَسْيَانَ، وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ»

(4)

.

ولكن ورد عن المالكية والحنابلة في رواية

(5)

أن الفكر مع الاستدامة إذا حصل منه معه إنزال - يفسد الصوم؛ لأنه داخل تحت الاختيار، والصحيح أن صومه صحيح؛ لقول

(1)

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 263): إذَا كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ فَيَفْسُدُ الصَّوْمُ فِي قَوْلِ إمَامِنَا.

(2)

«المغني» (4/ 363).

(3)

«الحاوي» (3/ 297).

(4)

البخاري (569) ومسلم (127).

(5)

انظر «المجموع» (6/ 323)، و «المغني» (4/ 361).

ص: 145

الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أَمَّتِي الْخَطَأَ وَالنَسْيَانَ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ» . ولأنه لا نص في الفطر به ولا إجماع، فيبقى على الأصل وهو أشبه ما يكون بالاحتلام، والله أعلم.

المسألة الخامسة: الاحتلام لا يفطر بالإجماع:

قال النووي: أما إذا احتلم فلا يفطر بالإجماع؛ لأنه مغلوب، كمن طارت ذبابة فوقعت في جوفه بغير اختياره، فهذا هو المعتَمد في دليل المسألة.

•‌

‌ المطلب الثالث: إذا قبَّل أو باشر فأمذى ماذا عليه؟

اتفق الفقهاء على عدم وجوب الكفارة فيمن قبَّل أو باشر فأمذى، واختلفوا في وجوب القضاء على قولين:

• القول الأول: أن مَنْ قبَّل أو باشر فأمذى ليس عليه قضاء، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، والحنابلة في روايةٍ اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

.

قال ابن قدامة

(2)

: إذا قبَّل فأمذى، قال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطر. وروي ذلك عن الحسن والشعبي والأوزاعي، واستدلوا لذلك بأنه خارج لا يوجب الغسل، فأشبه البول. والأصل عدم وجوب القضاء بالمذي إلا بدليل ولا يوجد.

• القول الثانى: أن من قبَّل أو باشر فأمذى أنه يجب عليه القضاء، وهو قول المالكية، والحنابلة في الصحيح

(3)

، قال ابن قدامة: أَنْ يُمْذِيَ فَيُفْطِرَ عِنْدَ إمَامِنَا وَمَالِكٍ.

واستدلوا لهذا القول بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ» .

قال الزركشى

(4)

: فيه إشارةٌ إلى أن من لم يملك إربه يضره ذلك، سواء أمنى أو أمذى.

استدلوا بالقياس: فقاسوا المني على المذي، وذلك أن المذي خارج تخلَّله شهوة، خرج

(1)

انظر «فتح القدير» (2/ 331)، و «الأم» (2/ 98)، و «المجموع» (6/ 323)، و «اختيارات ابن تيمية» (ص 108).

(2)

«المغني» (4/ 361).

(3)

انظر: «المدونة» (1/ 197)، و «التمهيد» (5/ 115)، و «الإنصاف» (3/ 301).

(4)

«شرح الزركشي» (2/ 581).

ص: 146

بالمباشرة فأفسد الصوم كالمني

(1)

.

واعْتُرِضَ على هذا القياس: بأنه لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق والمني يوجب الغسل، بينما المذي لا يوجب ذلك.

قال ابن مفلح

(2)

: وقياسه على المني لا يصح لظهور الفرق.

الراجح: أن من قبَّل أو باشر فأمذى فإنه صيامه صحيح ولا شيء عليه؛ لأن الأصل عدم فساد الصوم بالمذي فيبقى عليه، وأن الصوم عبادةٌ فلا يمكن أن نُفسد الصوم بنزول المذى إلا بدليل، وأنه خارج لا يوجب الغسل، فأشبه البول.

•‌

‌ المبحث الثاني: الحيض والنفاس:

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: الحيض والنفاس من المفطرات:

الحيض النفاس من المفطرات بالنص والإجماع. ففي «الصحيحين»

(3)

: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟» .

ففي «الصحيحين»

(4)

: عَنْ مُعَاذَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: أَتَقْضِى إِحْدَانَا الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِهَا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟! قَدْ كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لَا تُؤْمَرُ بِقَضَاءٍ.

قال النووي: وأما الحائض والنفساء فلا يجب عليهما الصوم؛ لأنه لا يصح منهما، فإذا طهرتا وجب عليهما القضاء؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت في الحيض:«كنا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ» فوجب القضاء على الحائض بالخبر، وقيس عليها النفساء لأنها في معناها.

(1)

انظر: «المغني» (4/ 361).

(2)

«الفروع» (3/ 50).

(3)

أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (1146).

(4)

أخرجه البخاري (321)، ومسلم (335) وهذا لفظ مسلم.

ص: 147

وقال الماوردي

(1)

: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحَائِضَ لَا صَوْمَ عَلَيْهَا فِي زَمَانِ حَيْضِهَا، بَلْ لَا يَجُوزُ لَهَا، وَمَتَى طَرَأَ الْحَيْضُ عَلَى الصَّوْمِ أَبْطَلَهُ.

•‌

‌ المطلب الثاني: لماذا تقضي الحائض الصوم دون الصلاة؟

لأمرين:

• أحدهما: ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ» .

• الثانى: أن المشقة لاحقة في إعادة الصلوات لترادفها مع الأوقات، والصوم لقلَّته لا تلحق المشقة في إعادته؛ فلهذا لزمها قضاء الصيام دون الصلاة.

•‌

‌ المطلب الثالث: فتاوى معاصرة خاصة بالحيض للصائمة:

سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: هل يجوز للمرأة استعمال دواء لمنع الحيض في رمضان أو لا؟

فأجابت: يجوز أن تستعمل المرأة أدوية في رمضان لمنع الحيض، إذا قرر أهل الخبرة الأمناء من الدكاترة ومن في حكمهم أن ذلك لا يضرُّها، ولا يؤثِّر على جهاز حملها، وخيرٌ لها أن تكُفَّ عن ذلك، وقد جعل الله لها رخصة في الفطر إذا جاءها الحيض في رمضان، وشرَع لها قضاء الأيام التى أفطرتها ورضي لها بذلك دينًا

(2)

.

•‌

‌ المبحث الثالث: القيء للصائم، وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: من ذرعة القيء، أي خرج من غير اختيار منه:

قال ابن المنذر

(3)

: وأجمعوا على أنه لا شيء على الصائم إذا ذرعه القيء، وانفرد الحسن البصري فقال: عليه. ووافق في أخرى.

(1)

«الحاوي» (3/ 300).

(2)

«فقه النوازل» (ص 308).

(3)

«الإجماع» (ص 15).

ص: 148

قال ابن عبد البر

(1)

: واختلف العلماء فيمن استقاء، بعد إجماعهم على أن من ذرعه القيء، فلا شاء عليه.

قال ابن قدامة

(2)

: وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قال: الْخَطَّابِيُّ: لَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ اخْتِلَافًا.

•‌

‌ المطلب الثاني: من استقاء عامدًا:

قد نقل غير واحد الإجماع على أن من استقاء عامدًا فعليه القضاء.

قال الخطابي

(3)

: ولا أعلم بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه، ولا في أن من استقاء عامدًا أن عليه القضاء.

وقال ابن المنذر

(4)

: وأجمعوا على إبطال صوم من استقاء عامدًا.

وقال ابن الهمام

(5)

: وَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا وَخَرَجَ، إنْ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ، فَسَدَ صَوْمُهُ بِالْإِجْمَاعِ.

وقال الصنعاني

(6)

: ونقل ابن المنذر الإجماع على أن من تعمد القيء يفطر. قلت (أي الصنعاني): لكن روي عن ابن عباس ومالك وربيعة والهادي أن القيء لا يفطر مطلقًا، إلا إذا رجع منه شيء.

• واستدلوا لذلك بالسنة والمأثور والمعقول:

أما أدلتهم من السنة:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ذَرَعَهُ قَيْءٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَإِنْ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ»

(7)

.

(1)

«الاستذكار» (184).

(2)

«المغني» (4/ 368).

(3)

«معالم السنن» (2/ 112).

(4)

«الإجماع» (ص 15).

(5)

«فتح القدير» (3/ 340)

(6)

«سبل السلام» (2/ 661).

(7)

ضعيف معل: أخرجه أحمد (2/ 498)، وأبو داود (2380)، والترمذي (720)، والنسائي في «الكبرى» (2/ 215)، وابن ماجه (6676)، وغيرهم. كلهم من طرق عن عيسى بن يونس، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا. وهذا السند وإن كان ظاهره الصحة، ولكنه معلول عند النقاد من أهل الحديث.

ص: 149

واعْتُرِضَ على هذا الحديث بأنه وإن كان ظاهره الصحة إلا أنه أعله النقاد من أهل العلم، فقد قال البخاري: ولا يصح إسناده

(1)

وأعله الإمام أحمد

(2)

، وقال الترمذي: حديث حسن غريب

(3)

.

الدليل الثاني: عن مَعْدَان بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفْطَرَ

(4)

.

(1)

قال البخاري: لا أراه محفوظًا - وقال: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح إسناده. وقال في «التاريخ الكبير» بعد ذكر هذا الحديث: ولم يصح وإنما يروى هذا عَنْ عَبْد الله بْن سَعِيد عَنْ أَبِيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رفعه وخالفه يحيى بْن صالح قَالَ: ثنا مُعَاوية قَالَ: ثنا يحيى عَنْ عُمَر بْن حكم بْن ثوبان سَمِعَ أبا هُرَيْرَةَ قَالَ: «إذا قاء أحدكم فلا يفطر، فإنما يُخرج ولا يولج» .

(2)

قال أبو داود: سمعت أحمد سئل: ما أصح ما فيه - يعني في «من ذرعه القيء وهو صائم» - قال: نافع عن ابن عمر. قلت له: حديث هشام، عن محمد، عن أبي هريرة. قال: ليس من هذا شيء، إنما هو حديث:«من أكل ناسيًا - يعني: وهو صائم - فالله أطعمه وسقاه» في «سؤالات أبي داود لأحمد» (ص 387).

(3)

قال الترمذي: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ. قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (3/ 347): وعيسى ثقة فاضل، إلا أنه عند أهل الحديث قد وهم فيه وأنكروه عليه.

(4)

إسناده صحيح: هذا الحديث اختلف فيه على يحيى بن أبي كثير، فرواه عنه حسين المعلم، أخرجه

=أبو داود (2381)، والترمذي في «السنن» (1/ 87)، والنسائي في «الكبرى» (2/ 213، 214)، وأحمد (6/ 443) كلهم من طرق، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعى، عن يعيش بن الوليد بن هشام، عن أبيه، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء، عن رسول الله مرفوعًا. وأخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 214) وقع خطأ في النسائي قال عبد الله بن عمرو الأوزاعي. بينما هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، كما أشار المزي في «تحفة الأشراف» انظر:(8/ 234) من طريق عبد الوارث بن سعيد، عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن الأوزاعي حدثه أن يعيش بن الوليد حدثه أن معدان بن أبي طلحة حدثه، أن أبا الدرداء حدثه =

ص: 150

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=أن رسول الله

وهذا السند بإسقاط الوليد بن هشام، وفيه تصريح بالسماع من يعيش بن الوليد حدثه أن معدان بن أبي طلحة حدثه.

2 -

معمر بن راشد. أخرجه أحمد (6/ 449)، والنسائي في «الكبرى» (2/ 215)، وعبد الرزاق في «المصنف» (4/ 215) بلفظ:«استقاء فأفطر» من طرق عن معمر، عن يحيى، عن يعيش، عن خالد بن معدان، عن أبي الدرداء، فأسقط الأوزاعي وأسقط الوليد بن هشام وقال: خالد بن معدان، بينما قال الجماعة: معدان بن أبي طلحة.

قال الترمذي (1/ 87): وَرَوَى مَعْمَرٌ هَذَا الحَدِيثَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فَأَخْطَأَ فِيهِ، فَقَالَ: عَنْ يَعِيشَ بْنِ الوَلِيدِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الأَوْزَاعِيَّ، وَقَالَ: عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ.

قال المزي «تحفة الأشراف» (8/ 234): روى معمر هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير فأخطأ فيه فقال: عن يعيش بن الوليد، عن خالد بن معدان، عن أبي الدرداء، ولم يذكر الأوزاعي.

3 -

حرب بن شداد. أخرجه البغوي في «شرح السنة» (660)، من طريق حرب بن شداد، عن يحيى، عن الأوزاعي، عن يعيش، عن أبيه، عن معدان، عن أبي الدرداء يذكر أبيه، قال البغوي: الصحيح عن يعيش بن الوليد، عن أبيه، عن معدان، وخالفه هشام.

4 -

هشام الدستوائى. أخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 214)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 39)، وابن خزيمة في «الصحيح» (1959)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 426)، من طرق عن هشام، عن يحيى، عن الأوزاعي، عن يعيش بن الوليد، عن معدان، عن أبي الدرداء، وأسقط الوليد بن هشام (أبيه).

قال في بعض طرق الحديث: قالوا عن رجل (بدلًا من) الأوزاعي، وقال الحاكم: عن رجل من إخواننا، قال أبو بكر محمد بن إسحاق يريد به الأوزاعي، فحملوه على الأوزاعي.

الخلاف على يحيى بن أبي كثير، بين هشام الدستوائي، وحسين المعلم، ومعمر بن راشد. قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (3/ 52): سألت علي بن المديني: من أثبت أصحاب يحيى بن أبي كثير؟ قال: هشام الدستوائي. قلت ثم من؟ قال: ثم الأوزاعي وحسين المعلم. قال الترمذي في «العلل» (269): ونقل الأثرم عن أحمد قال: هشام الدستوائي أثبت في حديث يحيى من معمر. وقال إسحاق عن هانئ - قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد -: أيما أحب إليك في حديث يحيى بن أبي كثير؟ قال: هشام أحب إليَّ ممن روى عن يحيى بن أبي كثير. قلت: فهشام أثبت الناس في

ص: 151

وجه الدلالة من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم «قَاءَ فَأَفْطَرَ» أي بمعنى: استقاء عامدًا فأفطر.

قال ابن المنير: إنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُقِّبَ بِالْفَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْعِلَّةُ، كَقَوْلِهِمْ: سَهَا فَسَجَدَ

(1)

.

• واعْتُرِضَ على هذا الحديث من وجهين:

الأول: أن هذا الحديث اختلف في إسناده اختلافًا كبيرًا.

الثاني: إن صح هذا الحديث فليس فيه دليل على أن القيء كان مفطرًا له، إنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك.

قال الطحاوي

(2)

: لَيْسَ فِي الحديث أَنَّ الْقَيْءَ كَانَ مُفْطِرًا لَهُ، إِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ قَاءَ فَأَفْطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ.

الدليل الثالث: عَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ عَنْ حَنَشٍ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَصْبَحَ صَائِمًا، فَدَعَا بِشَرَابٍ، فَقال لَهُ بَعْضُ أَصحابِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَمْ تُصْبِحْ صَائِمًا؟ قَالَ:

يحيى. قال ابن خزيمة: الصَّوَاب مَا رَوَاهُ أَبُو مُوسَى وَأَنَّ يَعِيشَ بْنَ الْوَلِيدِ سَمِعَ مِنْ مَعْدَانَ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا أَبُوهُ. وعلى كلٍّ فيعيش بن الوليد قد صرح بالتحديث عن معدان في النسائي «الكبرى» وابن خزيمة كما ذكرنا آنفًا فزيادة أبيه من المزيد في متصل الأسانيد.

كلام أهل العلم عن هذا الحديث:

قال الحافظ ابن حجر في «تلخيص الحبير» (2/ 190): قال ابن منده: إسناده صحيح متصل وتَرَكه الشيخان لاختلاف في إسناده.

قال الترمذي: جوده حسين المعلم وهو أصح شيء في الباب، وكذا قال أحمد. قال البيهقي: هذا الحديث مختلف في إسناده فإن صح فهو محمول على القيء عامدًا.

أقوال أهل العلم في هذا الحديث من الناحية الفقهية:

قال البيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 220): هَذَا حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ في إِسْنَادِهِ، فَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَوْ تَقَيَّأَ عَامِدًا، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَطَوِّعًا بِصَوْمِهِ.

قال الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 97) بعد ذكر هذا الحديث وذكر حديث فضالة بن عبيد، قال: وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَيْءَ كَانَ مُفْطِرًا لَهُ إِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ قَاءَ فَأَفْطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ.

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (4/ 207): «قَاءَ فَأَفْطَرَ» أَيْ اِسْتَقَاءَ عَمْدًا، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيل مَنْ أَوَّله بِأَنَّ الْمَعْنَى قَاءَ فَضَعُفَ فَأَفْطَرَ، وَاَلله أَعْلَمُ.

(1)

انظر: «فتح الباري» (4/ 207).

(2)

انظر: «شرح معانى الآثار» (2/ 97).

ص: 152

«بَلَى، وَلَكِنْ قِئْتُ»

(1)

.

الدليل الرابع: عن ثوبان قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَاءَ فَأَفْطَرَ

(2)

.

أما دليلهم من المأثور: فاستدلوا بأثر ابن عمر {، قال:«مَنِ اسْتَقَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاء، وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ»

(3)

.

• القول الآخر: القائلون بأن القيء لا يفطر.

قال ابن قدامة

(4)

: وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْقَيْءَ لَا يُفْطِرُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ» .

واعترض عليه: بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واستدلوا لذلك بأن الفطر بما يدخل كالأكل والشرب، لا بما يخرج كالقيء.

(1)

أخرجه أحمد (6/ 18، 20، 21، 22)، وابن ماجه في «السنن» (1675) وغيرهما، من طرق عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق، واختلف على أبي مرزوق: فرُوي عنه عن حنش، عن فضالة بن عبيد، ورُوي عنه عن فضالة، بعدم إثبات حنش. وقد رجح أبو حاتم ذكر حنش كما في «العلل» (1/ 238). وهذا الخلاف لا يضر فقد صرح بالتحديث أبو مرزوق من فضالة بن عبيد كما عند أحمد في «المسند» (6/ 18)، والطبراني في «الكبير» (18/ 818)، وقلت: وفى إسناده أبو مرزوق وثقه العجلي، وابن حبان، كذا في الميزان، وذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً. قال الذهبي: ثقة. والحافظ كذلك.

(2)

ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 276)، والطيالسي في «المسند» (993)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 39) وغيرهم، من طرق عن أَبِي الْجُودِيِّ، عَنْ بَلْجٍ، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ الْمَهْرِيِّ، عن ثوبان به. وقد ذكر البخاري هذا الحديث، وقال: إسناده ليس بذاك، كما في «التاريخ الصغير» (2/ 148)، سئل أبو زرعة، عن أبي شيبة المهري فقال: هو من التابعين، ولا يُعرف اسمه. كما في «الجرح والتعديل» (9/ 390). قال الذهبي في «الميزان» (1/ 352): بلج عن أبي شيبة عن ثوبان أن النبي قاء فأفطر، لا يدرى من ذا، ولا من شيخه. قال البخاري: إسناده ليس بمعروف.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (304)، وغيره، عن نافع، عن ابن عمر به.

(4)

«المغني» (4/ 368).

ص: 153

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إِذَا قَاءَ فَلَا يُفْطِرُ، إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلَا يُولِجُ

(1)

.

وعن ابن عباس {أنه قال: «الْإِفْطَارُ مِمَّا دَخَلَ وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ، وَالْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ وَلَيْسَ مِمَّا دَخَلَ»

(2)

.

وعن عكرمة قال: «الإِفْطَارُ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ»

(3)

.

واعترض عليه بما قاله ابن المنير: يؤخذ من هذا الحديث أن الصحابة كانوا يؤولون الظاهر بالأقيسة من حيث الجملة، ونقض غيره هذا الحصر بالمني، فإنه إنما يخرج وهو موجب للقضاء والكفارة.

قال ابن تيمية: وَأَمَّا مَنْ تَدَبَّرَ أُصُولَ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدَهُ، فَإِنَّهُ رَأَى الشَّارِعَ لَمَّا أَمَرَ بِالصَّوْمِ أَمَرَ فِيهِ بِالِاعْتِدَالِ، حَتَّى كَرِهَ الْوِصَالَ، وَأَمَرَ بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ، وَجَعَلَ أَعْدَلَ الصِّيَامِ وَأَفْضَلَهُ صِيَامَ دَاوُد، وَكَانَ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ لَا يُخْرِجَ مِنَ الْإِنْسَانِ مَا هُوَ قِيَامُ قُوَّتِهِ، فَالْقَيْءُ يُخْرِجُ الْغِذَاءَ، وَالِاسْتِمْنَاءُ يُخْرِجُ الْمَنِيَّ، وَالْحَيْضُ يُخْرِجُ الدَّمَ، وَبِهَذِهِ الْأُمُورِ قِوَامُ الْبَدَنِ، لَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَمَا لَا يُمْكِنُ، فَالِاحْتِلَامُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ، وَكَذَا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ بِخِلَافِ دَمِ الْحَيْضِ فَإِنَّ لَهُ وَقْتًا مُعَيَّنًا، فَالْمُحْتَجِمُ أَخْرَجَ دَمَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتَصِدُ، بِخِلَافِ مَنْ خَرَجَ دَمُهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، كَالْمَجْرُوحِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ؛ فَكَانَتِ الْحِجَامَةُ

(1)

انظر: «البخاري مع الفتح» (4/ 175). قال البخاري: وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ. وَالأَوَّلُ أَصحُّ. قول البخاري: (ويذكر عن أبي هريرة): أخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 215)، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حِبَّانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: مَنْ قَاءَ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُفْطِرْ.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (1/ 185) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِه. وأخرج ابن شيبة في «المصنف» (3/ 39). قال: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرِ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إذَا تَقَيَّأَ الصَّائِمُ فَقَدْ أَفْطَرَ. وإسناده ضعيف. الضحاك لم يسمع من ابن عباس. قال أبو زرعة: وكان شعبه ينكر أنه لقي ابن عباس، انظر:«جامع التحصيل» (ص 200).

(3)

إسناده صحيح: أخرج ابن أبي شيبة (3/ 39)، قال: هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بِه.

ص: 154

مِنْ جِنْسِ الْقَيْءِ وَالِاسْتِمْنَاءِ وَالْحَيْضِ، وَكَانَ خُرُوجُ دَمِ الْجُرْحِ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِحَاضَةِ وَالِاحْتِلَامِ وَذَرْعِ الْقَيْءِ، فَقَدْ تَنَاسَبَتِ الشَّرِيعَةُ وَتَشَابَهَتْ وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ الْقِيَاسِ

(1)

.

الحاصل في مسألة من استقاء عامدًا:

ذهب جمهور العلماء إلى إبطال صوم من استقاء عامدًا، واستدلوا بالآتي ذكره:

أولًا الإجماع: فقد قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدًا.

قال الصنعاني: ونقل ابن المنذر الإجماع على أن من تعمد القيء يفطر، قلت (أي الصنعاني): لكن روي عن ابن عباس، ومالك، وربيعة، والهادي أن القيء لا يفطر مطلقًا إلا إذا رجع منه شيء.

ثانيًا: استدلوا من السنة على إبطال صوم من استقاء عامدًا بالآتي ذكره:

الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ ذَرَعَهُ قَيْءٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَإِنْ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ» .

ولكن هذا الحديث ضعيفٌ معلّ، أعله البخاري حيث قال: ولا يصح إسناده. وأعله أحمد بن حنبل لما سئل عن هذا الحديث: ليس من هذا شيء، إنما هو حديث «مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» .

الدليل الثاني: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم «قَاءَ فَأَفْطَرَ» وهذا الحديث اختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا.

قال ابن منده: إسناده صحيح متصل، تَرَكه الشيخان لاختلاف في إسناده، وإن صح

(1)

«الفتاوى» (20/ 527). قال ابن قدامة رحمه الله: وَقَلِيلُ الْقَيْءِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يُفْطِرُ إلَّا بِمِلْءِ الْفَمِ. لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «وَلَكِنْ دَسْعَةٌ تَمْلَأُ الْفَمَ» . وَلِأَنَّ الْيَسِيرَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَلَا يُفْطِرُ كَالْبَلْغَمِ. وَالثَّالِثَةُ: نِصْفُ الْفَمِ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَأَفْطَرَ بِهِ كَالْكَثِيرِ. وَالْأُولَى أَوْلَى لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْمُفْطِرَاتِ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. وَحَدِيثُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ لَا نَعْرِفُ لَهُ أَصْلًا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقَيْءِ طَعَامًا، أَوْ مُرَارًا، أَوْ بَلْغَمًا، أَوْ دَمًا، أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ دَاخِلٌ تَحْتَ عُمُومِ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى، وَاَلله تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. «المغني» (4/ 368).

ص: 155

هذا الحديث، فليس بصريح في المسألة.

قال الطحاوي: ليس في هذا الحديث دليل على أن القيء كان مفطرًا له، إنما فيه أنه قاء فأفطر بعد ذلك.

الدليل الثالث: حديث فضالة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي يوم كَانَ يَصُومُهُ، فَدَعَا بِإِنَاءٍ، فَشَرِبَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله إِنَّ هَذَا يَوْمٌ كُنْتَ تَصُومُهُ، قَالَ:«أَجَلْ، وَلَكِنِّي قِئْتُ» .

ولكن هذا الحديث في إسناده أبو مرزوق وثقه العجلي وابن حبان، وذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً، وابن حبان والعجلي متساهلان في توثيق المجاهيل، وإن كان وثقه الذهبي وابن حجر، وإن صح فلفظة «قِئْتُ» ليست بصريحة هل هو ذرعه القيء، أم استقاء عامدًا؟

أما دليلهم من المعقول: فاستدل شيخ الإسلام ابن تيمية بأن القيء يُخرج الغذاء، والاستمناء يُخرج المني، والحيض يُخرج دم الحيض، وبهذه الأمور قوام البدن، فكما أن الحيض والاستمناء يفطران، فكذلك القيء، وفَرَّقَ بين ما يمكن الاحتزار منه وما لم يمكن، فكما أن الاحتلام والاستحاضة لا تفطران فكذلك من ذرعه القيء.

• القول الأخر: قالوا: بأن القيء لا يفطر مطلقًا.

واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ: الصَّائِمَ الْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ» ولكنه حديث ضعيف، ولا يصح عن رسول الله.

واستدلوا أيضًا بالقياس فقالوا: الفطر مما دخل لا مما خرج.

قلت: وهذه القاعدة ليست مطردة؛ فإن المني إنما يخرج وهو موجب للقضاء والكفارة، وكذلك الحيض والنفاس يخرج وهو موجب للقضاء، ولكن مع وجود الخلاف ومع عدم الترجيح، فنُفتِي بقول الجمهور، أي من استقاء عامدًا فعليه القضاء، ومن أخذ بقول من قال:(إن القيء لا يفطر مطلقًا) فله وجهة والله أعلم، وهو الموفق إلى سواء السبيل.

ص: 156

•‌

‌ المبحث الرابع: هل الحجامة تفطر الصائم؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن الحجامة لا تفطر الصائم، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي

(1)

.

• استدلوا لذلك بالسنة والمأثور والمعقول:

أما دليلهم من السنة: الدليل الأول: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: «اِحْتَجَمَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِم»

(2)

.

(1)

«فتح القدير» (2/ 476)، «المدونة» (1/ 387)، «المجموع» (6/ 389).

(2)

هذا الحديث رواه عدد من التابعين عن ابن عباس:

عكرمة: واختلف عليه، فرواه عن عكرمة خالد الحذاء، وهشام بن حسان، وهلال، وأيوب.

أيوب واختلف عليه: فرواه سعيد بن أبي عروبة، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس بلفظ:«احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ» أخرجه البخاري (1939)(2372)، وأبو داود (2372) وغيرهما. ورواه وهيب، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس بلفظ:«احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» ، أخرجه البخاري (1938)، والترمذي (775) وغيرهما. ورواه معمر عن أيوب عن عكرمة مرسلًا، أخرجه عبد الرزاق (7536)، وابن أبي شيبة (3/ 51)، ومعمر في روايته عن أيوب مقال.

وخالف أيوب جماعة، فرووه بلفظ:«احْتَجَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ» . وحديث خالد *الحذاء: أخرجه أحمد (1/ 351) من طريق عبد الأعلى، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس بلفظ:«احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم» .

هشام بن حسان: أخرجه أحمد (1/ 236، 249، 259)، وأبو داود (1836) وغيرهما. من طرق «يحيى بن سعيد، ومحمد بن جعفر، ويزيد بن هارون، ومحمد بن عبد الله الأنصاري» عن هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس بلفظ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ» .

هلال: وأخرجه أحمد (1/ 305) من طريق عباد، عن هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس بلفظ:«احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ» .=

ص: 157

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 2، 3 - عطاء وطاوس: أخرجه البخاري (1835)، ومسلم (1202)(87)، وأبو داود (1835)، والترمذي (839)، والنسائي (5/ 193) وغيرهم. من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء وطاوس، عن ابن عباس رضي الله عنه قال:«احْتَجَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ» .

4 -

سعيد بن جبير: رواه أحمد (1/ 283)، وأبو يعلى (2727)، من طريق عبد الرزاق، عن عبد الله بن عثمان عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:«احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ» .

وروي مرسلًا كما في النسائي في «الكبرى» (32230) من رواية قبيصة، عن الثوري، مرسلًا، قال النسائي: هذا خطأ لا نعلم أحدًا رواه عن سفيان غير قبيصة، وقبيصة كثير الخطأ.

مقسم: أخرجه أحمد (1/ 215)(222)(286)، وعبد الرزاق (7541)، وابن أبي شيبة (3/ 51) وغيرهم. من طريق يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس به. قال النسائي: يزيد بن أبي زياد لا يُحتج بحديثه. وأخرجه أحمد (1/ 244)، وابن الجارود في «المنتقى» (388) وغيرهما من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس، قال الزيلعى في «نصب الراية» (2/ 478): قال شعبة: لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة للصائم، وقال النسائي: والحكم لم يسمع من مقسم.

ميمون بن مهران: أخرجه الترمذي (776) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه، «احتجم وهو صائم» ، والنسائي (3227)، والطحاوي (2/ 101)، وأعله أحمد، وعلي بن المديني. انظر:«التلخيص الحبير» (2/ 192). وطريق الشعبي: أخرجه ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 230) من طريق شريك عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عبد الله بن عباس.

قال أبو حاتم: هذا خطأ، أخطأ فِيهِ شرِيكٌ، وروى جماعة هذا الحدِيث، ولم يذكُروا «صائِمًا مُحرِمًا» إِنّما قالوا:«احتجم، وأعطى الحجّام أجره» . وشريك ساء حفظه بآخره.

أقوال أهل العلم في هذا الحديث:

قال النسائي بعد ذكر طريق ميمون: هذا حديث منكر.

قال الزيلعي في «نصب الراية» (2/ 478): فَصححَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُمَا، وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَغَيْرُهُمَا، قَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ» ، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِ: (صَائِمٌ)، إنَّمَا هُوَ مُحْرِمٌ. قُلْت: مَنْ ذَكَرَهُ؟ قَالَ: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ عليه السلام احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ رَوْحٌ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إسْحَاقَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ خُثَيْمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ، قَالَ أَحْمَدُ: فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَذْكُرُونَ صِيَامًا.

قال ابن حبان (3535): وَلَمْ يَرد عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ دُونَ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يَكُنْ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمًا قَطُّ إِلاَّ وَهُوَ مُسَافِرٌ، وَالْمُسَافِرُ قَدْ أُبِيحَ لَهُ.

قال ابن القيم في «زاد المعاد» (2/ 60): ولا يصح عنه أنه احتجم وهو صائم، قاله أحمد. ثم أورد طرق الحديث، ثم قال: والمقصود أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم.

قال الشافعي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . وروي عنه أنه احتجم صائمًا. قال الشافعي: وَلَا أَعْلَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا ثَابِتًا، وَلَوْ ثَبَتَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عن النبي صلى الله عليه وسلم قُلْت بِهِ، فَكَانَتْ الْحُجَّةُ في قَوْلِهِ وَلَوْ تَرَكَ رَجُلٌ الْحِجَامَةَ صَائِمًا لِلتَّوَقِّي كان أَحَبَّ إليَّ، وَلَوْ احْتَجَمَ لم أَرَهُ يُفْطِرُهُ، «الأم» (2/ 144).

ص: 158

واعترض عليه بأنه ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد القطان وغيرهما.

الدليل الثاني: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْحِجَامَةِ، وَالْمُوَاصَلَةِ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا إِبْقَاءً عَلَى أَصحابِهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُوَاصِلُ إِلَى السَّحَرِ، فَقَالَ:«إِنْ أُوَاصِلُ إِلَى السَّحَرِ، فَرَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي»

(1)

.

وجه الدلالة منه: ما قاله الحافظ: وقوله: «إبقاء على أصحابه» يتعلق بقوله: (نهى). اه

وقوله: «ولم يحرمهما» صريح في عدم التحريم. أي: أن الحجامة لا تفطر الصائم

(2)

.

واعترض عليه بأن هذا الحديث ليس صريحًا في المسألة؛ لأنه قرن مع الحجامة المواصلة التي فيها تفصيل؛ فهي مكروهة إلى السحر، محرمة إلى اليوم التالي.

الدليل الثالث: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ

(1)

أخرجه أحمد (4/ 314، 315)، وأبو داود (2374)، وعبد الرزاق (7535)، وابن أبي شيبة (3/ 52)، (3/ 83). من طرق عن سفيان عن عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن بن أبي =

=ليلى قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

إسناده صحيح: «الفتح الرباني» (10/ 36، 37).

ص: 159

الصَّائِمَ: الْحِجَامَةُ وَالْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ»

(1)

.

وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «رَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ»

(2)

.

(1)

ضعيف: ومدار هذا الحديث على زيد بن أسلم، فأخرجه الترمذي (719)، وابن خزيمة (1972) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد به.

ولهذا الحديث علتان ذكرهما ابن خزيمة فقال: حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذا إسناده غلط، ليس فيه عطاء بن يسار ولا أبو سعيد، وعبد الرحمن بن زيد ليس هو ممن يحتج أهل التثبت بحديثهم لسوء حفظه للأسانيد، وهو رجل صناعته العبادة والتقشف والموعظة والزهد، ليس من أحلاس الحديث الذي يحفظ الأسانيد. وقال الترمذي: حديث غير محفوظ.

وتابع عبد الرحمن بن زيد أسامة بن زيد بن أسلم ولكنه ضعيف، أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 240).

وروى عبد الرزاق (7539) عن أبي بكر بن عبد الله عن أبيه عن عطاء بن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم به، وخالفهم سفيان الثوري فرواه عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو داود (2376)، وابن خزيمة (1973) وغيرهما.

وتابع سفيان معمر كما أخرجه عبد الرزاق (7538). قال: الدارقطني في «العلل» (11/ 269): والصحيح ما قاله الثوري. وصحح أبو حاتم وأبو زرعة رواية سفيان كما في «العلل» (1/ 239). قال البيهقي: والصحيح رواية سفيان الثوري، وإذا كان الصحيح رواية الثوري عن زيد عن رجل من أصحابه؛ فهذا الرجل مجهول، والحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

(2)

ضعيف والصحيح فيه الوقف على أبي سعيد: ومدار هذا الحديث على أبي المتوكل عن أبي سعيد. أخرجه الترمذي في «العلل الكبير» (215)، والطبراني في «الأوسط» (7793) وغيرهما، عن إسحاق الأزرق عن سفيان عن خالد الحذاء عن أبي المتوكل عن أبي سعيد مرفوعًا، وهذا الحديث معل بالوقف. خالف إسحاق الأزرق الأشجعي فرواه موقوفًا، أخرجه ابن خزيمة (1969) وغيره.

قال الترمذي في «العلل الكبير» (126): وسألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: حديث إسحاق الأزرق عن سفيان هو خطأ، وحديث أبي المتوكل عن أبي سعيد موقوفًا أصح، هكذا روى قتادة وغير واحد عن أبي المتوكل عن أبي سعيد موقوفًا.

قال ابن أبي حاتم في «العلل» (ص 232): قُلتُ: إن إِسحاق الأزرق رواه عن الثّورِي، عن حُميد، عن أبِي المُتوكِّلِ، عن أبِي سعِيدٍ، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قالا): - أي أبو زرعة وأبو حاتم - وهِم إِسحاقُ في الحدِيثِ. قلت: وقد تابع الأشجعي على الرفع معتمر بن سليمان، قال: سمعت حميدًا عن أبي المتوكل عن أبي سعيد مرفوعًا. أخرجه ابن خزيمة (1968) وخالف معتمرًا حماد بن سلمة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد أنه كان لا يرى بالحجامة للصائم بأسًا. أخرجه البزار في «كشف الأستار» (1013)، وتابع حماد بن سلمة على الوقف: إسماعيل بن علية، كما عند الترمذي في «العلل الكبير» (126)، أخرجه ابن خزيمة (1970) من طريق حميد والضحاك بن عثمان عن أبي المتوكل عن أبي سعيد من قوله.

وأخرجه ابن خزيمة (1917) من طريق شعبة عن قتادة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد، قال: إنما كرهت الحجامة للصائم مخافة الضعف. قال ابن خزيمة: إنما هو من قول أبي سعيد لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما أدرج في الخبر. قلت: والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على أبي سعيد.

ص: 160

وجه الدلالة «رخص» تدل على جواز الحجامة للصائم، وأنها لا تفطره.

واعترض عليه: بأن الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فعن ثَابِت الْبُنَانِي يَسْأَلُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، رضي الله عنه: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لا، إِلاَّ مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ»

(1)

.

2 -

عن أبي ظبيان عن ابن عباس في الحجامة للصائم قال: «الفطرُ مِمَّا دَخَلَ، وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ»

(2)

.

3 -

عن هشام بن عروة عن أبيه «أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ لَا يُفْطِرُ»

(3)

.

4 -

عن الشعبي قال: «احتجم حسين بن علي بن أبي طالب وهو صائم»

(4)

.

5 -

عن إبراهيم قال: «ما كانوا يكرهون الحجامة للصائم إلا من أجل الضعف»

(5)

.

• القول الآخر: ذهب أحمد إلى أن من احتجم وهو صائم فقد أفطر.

قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الحجامة للصائم، قال: إذا احتجم في رمضان فقد

(1)

أخرجه البخاري (1940).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 51).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 53)، وعبد الرزاق (4/ 214) وغيرهما.

(4)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 52).

(5)

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4/ 211).

ص: 161

أفطر، يقضي يوما مكانه ولا كفارة عليه

(1)

.

• استدلوا بالسنة والمأثور والمعقول:

أما دليلهم من السنة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ»

(2)

.

(1)

«مسائل الإمام أحمد برواية عبد الله» (2/ 624).

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ مَذْهَبُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَابْنِ خُزَيْمَة وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ، وهو قول الحنابلة، وذهب إليه علي وأبو هريرة وعائشة والحسن وعطاء والأوزاعي. وانظر:«المغني» (4/ 350) قال: وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلًا في الصوم، منهم: ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وأنس بن مالك.

(2)

صحيح: ورد عن عدد كبير من الصحابة: حديث ثوبان: أخرجه أحمد في «المسند» (5/ 283)، وأبو داود في «السنن» (2367)، والنسائي في «الكبرى» (3137)، وابن ماجه في «السنن» (1680). وأخرجه أبو داود (2371)، والنسائي في «الكبرى» (3135، 3136) وغيرهما من طريق العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان به. وأخرجه الطبراني في «مسند الشاميين» (208)، من طريق عبد الرحمن بن ثابت، عن أبيه، عن مكحول، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان به. وأخرجه أبو داود (2370)، والنسائي (3134)، وأحمد (5/ 282) وغيرهم من طريق ابن جريج، عن مكحول، أن شيخًا من الحي أخبره عن ثوبان به. وأخرجه أحمد (5/ 276، 282)، وابن خزيمة (1962)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 98)، كلهم من طرق عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن ثوبان به.

وأخرجه أحمد (5/ 282)، وابن أبي شيبة (3/ 50)، عن طريق أيوب بن العلاء، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن بلال به. وصحح هذا الحديث: البخاري، وعلى بن المديني، وأحمد.

قال الترمذي في «العلل الكبير» (ص 122، 123): سألت محمدًا عن هذا الحديث - أى حديث رافع بن خديج في الباب - فقال: ليس في الباب شيء أصح من حديث شداد بن أوس، وثوبان. فقلت له: كيف بما فيه من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن أبي كثير روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان وعن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس، روى الحديثين جميعًا. قال الترمذي: وهكذا ذكروا عن علي بن المديني أنه قال: حديث شداد بن أوس وثوبان صحيحان. اه. صححه أحمد وابن المديني وغيرهما. قال أحمد: هو أصح ما روي في الباب.

2 -

حديث شداد بن أوس: وقد اختلف في الحديث على أبي قلابة اختلافًا كثيرًا: =

ص: 162

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فعن أبى هريرة قال: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ»

(1)

.

2 -

وعن ابن عمر {: «أنه كان يَحْتَجِمُ وَهُو صائمٌ، ثم تَرك ذلك»

(2)

. وبلفظ: «لَمْ

=

أولاً: عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد: أخرجه أبو داود في «السنن» (2369)، والنسائي في «الكبرى» (3138، 3149، 3151)، وأحمد في «المسند» (4/ 122، 124) عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد.

ثانيًا: عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن أبي أسماء عن شداد: أخرجه النسائي في «الكبرى» (3145، 3146، 3147، 3148)، وأحمد (4/ 123، 124).

ثالثًا: عن أبي قلابة عن شداد: أخرجه النسائي في «الكبرى» (3143)(3144).

وأخرجه النسائي في «الكبرى» (3142)، من طريق وهب بن جرير عن أيوب عن أبي قلابة، عن شداد بن أوس وثوبان.

رابعًا: عن أبي قلابة، عن أبي أسماء عن شداد: أخرجه النسائي في «الكبرى» (3139)(3154)(3155). صحح هذا الحديث: أحمد وابن المديني وإسحاق بن راهويه، وقد روى مسلم في صحيحه بهذا الإسناد:«إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» .

قال إسحاق بن راهويه: وقد ثبت هذا من خمسة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ونقل الحاكم في «المستدرك» عن ابن راهويه أنه قال: إسناده صحيح تقوم به الحجة. ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في «المستدرك» وقال: وهو ظاهر الصحة.

وقال ابن خزيمة: ثبت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» .

قال ابن عبد الهادي: قال بعض الحفاظ: الحديث في هذا متواتر. وله شواهد متعددة رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعة عشر نفسًا، وإن كان فيها مقال: رافع بن خديج وأبو هريرة، وعائشة، وبلال، وأسامة بن زيد، ومعقل بن سنان، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأبو زيد الأنصارى، وأبو موسى الأشعرى، وابن عباس، وابن عمر.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4/ 210).

(2)

أخرجه الشافعي (687)، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر به. وأخرجه عبد الرزاق (4/ 211) من طريق معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر «كَانَ يَحْتَجِمُ، وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ بَعْدُ، فَكَانَ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ احْتَجَمَ» .

ص: 163

يَكُنْ يَسْتَحْجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ»

(1)

.

3 -

وعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ مُمْسِيًا، فَوَجَدْتُهُ يَأْكُلُ تَمْرًا وَكَامَخًا، وَقَدِ احْتَجَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَحْتَجِمُ بِنَهَارٍ؟ فَقَالَ: أَتَأْمُرُنِي أَنْ أُهْرِيقَ دَمِي وَأَنَا صَائِمٌ؟!»

(2)

.

4 -

ورد هذا المعنى عن طلق بن حبيب

(3)

، ومسروق

(4)

، وعائشة

(5)

، ولكن فيه ضعف عن عائشة.

• الحاصل في المسألة: ذهب جمهور العلماء إلى أن الحجامة لا تفطر الصائم.

واستدلوا لذلك: بحديث ابن عباس قال: احْتَجَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ.

واعترض عليه: بأن الحديث ضَعَّفه أحمد ويحيى القطان وغيرهما.

وذلك لأن أصحاب ابن عباس الثقات الأثبات (عطاء وطاوس وسعيد بن جبير) رووه بلفظ: احْتَجَمَ رسول الله وَهُوَ مُحْرِمٌ، وإن كان ورد من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فقد رواه خالد الحذاء، وهشام بن حسان، وهلال عن عكرمة بلفظ: احْتَجَمَ رسول الله وَهُوَ مُحْرِمٌ.

وقد وردت طرق أُخر لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال مهنا: سألت أحمد بن حنبل عن حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم. فقال: ليس فيه صائم إنما هو محرم، قلت: فمن ذكره؟ قال: سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء وطاوس عن ابن عباس أنه عليه السلام احتجم وهو محرم.

وكذلك طاوس عن ابن عباس مثله، وكذلك سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4/ 211) وابن أبي شيبة في «المصنف» (9336) من طرق عن نافع عن ابن عمر.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (9307).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 50).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: «لَا يَحْتَجِمُ الصَّائِمُ» .

(5)

وورد أثر عن عائشة: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» وفى إسناده ليث، وهو ضعيف.

ص: 164

قال أحمد: فهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صيامًا.

قال ابن القيم: المقصود أنه لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه احتجم وهو صائم.

الدليل الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحجامة والمواصلة، ولم يحرمها إبقاء على أصحابه، قوله:(لم يحرمها). صريح في عدم التحريم، أي: أن الحجامة لا تفطر الصائم.

واعترض عليه بأن المواصلة من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحرمة على أمته إلى اليوم التالي بالإجماع، وليس في الحديث أن الحجامة تفطر الصائم أم لا، فليس صريحًا في المسألة.

واستدلوا بحديث: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الحِجَامَةُ، وَالقَيْءُ، وَالِاحْتِلَامُ» وهذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واستدلوا بحديث أبي سعيد: «رَخَّصَ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ» .

واعترض عليه بأن الحديث لا يصح مرفوعًا.

وأما استدلالهم بأثر أنس لما سئل: أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لَاَ، إِلاَّ مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ.

فقال شيخ الإسلام رحمه الله: وأما اعتقاد من اعتقد أن كراهة الحجامة إنما هي لأجل الضعف، فهذا لا يمنع كونها مفطرة، فإن هذا تعليل كونها مفطرة

(1)

.

• القول الآخر: ذهب أحمد وغيره إلى أن من احتجم وهو صائم فقد أفطر.

واستدلوا لهذا القول بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» .

واعترض على هذا الحديث من وجوه:

الأول: أن هذا الحديث ضعيف، ضعَّفه ابن معين والشافعي.

وأجيب عنه بأن الحديث صححه البخاري وأحمد وإسحاق وابن المديني وعثمان الدارمي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، وقال المروزي: قلت لأحمد: إن يحيى بن معين قال: ليس فيه شيء يثبت! فقال: هذا مجازفة

(2)

.

(1)

شرح كتاب الصيام من «العمدة» (1/ 438).

(2)

قال ابن القيم: أما جواب المعللين فباطل، وإن الأئمة العارفين بهذا الشأن قد تظاهرت أقوالهم بتصحيح بعض الأحاديث المانعة، والباقي إما حسن صالح للاحتجاج به وحده، وإما ضعيف، فهو يصلح للشواهد والمتابعات، وليس العمدة عليه، وممن صحح ذلك: أحمد وإسحاق وعلي بن المديني، وإبراهيم الحربي، وعثمان بن سعيد الدارمي، والبخاري وابن المنذر، وكل من له علم بالحديث يشهد بأن هذا الأصل محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم لتعدد طرقه وثقة رواته واشتهارهم بالعدالة

وأما قول بعض أهل الحديث: (لا يصح في الفطر بالحجامة حديث) فمجازفة باطلة أنكرها أئمة الحديث كالإمام أحمد لما حكي له قول ابن معين، أنكره عليه.

ص: 165

الوجه الثاني: أن حديث «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» منسوخ بحديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ.

ودليل النسخ أن الشافعي والبيهقي روياه بإسنادهما الصحيح، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم زَمَانَ الْفَتْحِ، فَرَأَى رَجُلًا يَحْتَجِمُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي:«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» .

وقد ثبت في «صحيح البخاري» من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.

قال الشافعي: وابن عباس إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم محرمًا في حجة الوداع سنة عشرة من الهجرة ولم يصحبه محرمًا قبل ذلك وكان الفتح سنة ثمان بلا شك، فحديث ابن عباس السابق في قصة جعفر «ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة» ، ولفظ الترخيص غالب ما يستعمل للترخيص بعد النهي

(1)

.

واعترض على هذا الاستدلال من وجهين:

أما قصة جعفر وفيه: «ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة» فهو لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وأما حديث ابن عباس: اِحْتَجَمَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِم. فيرد عليه من وجهين:

الأول: قد ضعفه غير واحد من أهل العلم.

(1)

«المجموع» (6/ 351).

(2)

أخرجه الدارقطني في «السنن» (2229)، والبيهقي في «الكبرى» (8385) وفي إسناده عبد الله بن المثنى، وخالد بن مخلد، تكلم فيهما غير واحد من الحفاظ. انظر:«تنقيح التعليق» (3/ 276) قال ابن حجر في «الفتح» (4/ 210): ورواته كلهم من رجال البخاري، إلا أن في المتن ما ينكر؛ لأن فيه: أن ذلك كان في الفتح، قال ابن عبد الهادي: هذا حديث منكر لا يصلح للاحتجاج به؛ لأنه شاذ الإسناد والمتن.

ص: 166

الثاني: لو صح فهو مما لم يعلم تاريخه؛ لأن ابن عباس لم يقل: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رأيته فعل ذلك، وإنما روى رواية مطلقة، ومن المعلوم أن أكثر روايات ابن عباس إنما أخذها من الصحابة، والذي فيه سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عشرين قصة كما قاله غير واحد من الحفاظ، فمن أين لكم أن ابن عباس لم يرو هذا عن صحابي آخر كأكثر رواياته؟ وقد روى ابن عباس أحاديث كثيرة مقطوعًا بأنه لم يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شهدها ونحن نقول: إنها حجة، لكن لا نُثبت بذلك تأخرها ونسخها لغيرها ما لم يُعلم التاريخ.

الوجه الثالث: معنى «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» : أنهما أفطرا بغير الحجامة، فإنهما كان يغتابان.

واعترض عليه: بما قاله الحافظ

(1)

: جَاءَ بَعْضُهُمْ بِأُعْجُوبَةٍ فَزَعَمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا قَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم» لِأَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ، قَالَ: فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَالْغِيبَة تُفْطِرُ الصَّائِمَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَعَلَى هَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَدِيث بِلَا شُبْهَة.

وقال ابن خزيمة

(2)

: فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَالْغِيبَةُ تُفْطِرُ الصَّائِمَ زَعَمَ أَنَّهَا لَا تُفْطِرُ الصَّائِمَ. فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَكَ إِنَّمَا قَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِم وَالْمَحْجُوم» لأَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَابَانِ وَالْغِيبَةُ عِنْدَكَ لَا تُفَطِّرُ الصَّائِمَ، فَهَلْ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالله، يَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَ أُمَّتَهُ أَنَّ الْمُغْتَابَيْنِ مُفْطِرَانِ، وَيَقُولُ هُوَ: بَلْ هُمَا صَائِمَانِ غَيْرُ مُفْطِرَيْنِ، فَخَالَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِلَا شُبْهَةٍ وَلَا تَأْوِيلٍ.

الوجه الرابع: ما قاله الشافعي: القياس مع حديث ابن عباس.

أي: أن الفطر مما دخل كالطعام والشراب أو التلذذ بالجماع أو التفيؤ.

واعترض عليه بما قاله ابن القيم

(3)

: ثم نقول: بل القياس من جانبنا؛ لأن الشارع علق الفطر بإدخال ما فيه قوام البدن من الطعام والشراب، وبإخراجه من القيء، واستفراغ المني، وجعل الحيض مانعًا من الصوم؛ لما فيه من خروج الدم المضعف للبدن.

(1)

«فتح الباري» (4/ 210).

(2)

«صحيح ابن خزيمة» (1966).

(3)

«تهذيب السنن» في شرح حديث (2268). انظر: «إعلام الموقعين» (3/ 189). ومن أراد المزيد فقد أورد ابن القيم في هذا الصدد بحثًا ماتعًا في تهذيب السنن في شرح حديث (2268).

ص: 167

قالوا: فالشارع قد نهى الصائم عن أخذ ما يعينه، وعن إخراج ما يضعفه، وكلاهما مقصود له؛ لأن الشارع أمَر بالاقتصاد في العبادات، ولا سيما في الصوم؛ ولهذا أمَر بتعجيل الفطور وتأخير السحور، فله قَصْد في حفظ قوة الصائم عليه، كما له قصد في منعه من إدخال المفطرات، وشاهده الفطر بالقيء والحيض والاستمناء، فالحجامة كذلك أَوْلى، وليس معنا في القيء ما يماثل أحاديث الحجامة، فكيف يفطر به دون الحجامة؟

فالراجح أن من احتجم في نهار رمضان أن يقضي يوما مكانه. والله أعلم.

وهنا مسألة على قول من قال «بأن الحجامة تفطر الصائم هل يفطر الحاجم والمحجوم؟

قال ابن القيم: القائلون بأن الحجامة تفطر لهم فيها أقوالٍ:

أحدها: أن المحتجم يفطر وحده دون الحاجم.

الثاني: وهو منصوص الإمام أحمد - أنه يفطر كل منهما، وهذا قول جمهور أصحابه المتقدمين والمتأخرين.

فإن قيل: فهب أن هذا يتأتى لكم في المحجوم، فما الموجب لفطر الحاجم؟

قلنا: لما كان الحاجم يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم، ودخل في حلقه وهو لا يشعر، والحكمة إذا كانت خفية علق الحكم بمظنتها، كما أن النائم لما كان قد يخرج منه الريح ولا يشعر بها، علق الحكم بالمظنة، وهو النوم، وإن لم يخرج منه ريح.

فإن قيل: فطَرْد هذا أن لا يفطر الشارط.

قلنا: نعم، ولا الحاجم الذي يشرط ولا يمص، أو يمصه مفطر غيره، وليس في هذا مخالفة للنص، فإن كلام النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الحاجم المعتاد، وهو الذي يمص الدم، وكلامه إنما يعم المعتاد، فاستعمال اللفظ بقصره على الحاجم المعتاد لا يكون تعطيلًا للنص

(1)

، والله أعلم.

ص: 168

• هل التشريط والفصاد يفطر الصائم؟

• اختلف أهل العلم القائلون بأن الحجامة تفطر في التشريط والفصاد على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه لا يفطر بهما.

الثاني: يفطر بهما.

الثالث: يفطر بالتشريط دون الفصاد؛ لأن التشريط عندهم كالحجامة.

• واختلفوا في التشريط والفصاد، أيهما أولى بالفطر؟

والصواب الفطر بالحجامة والفصاد والتشريط، وهو اختيار شيخنا أبي العباس بن تيمية، واختيار صاحب الإفصاح؛ لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في الفصاد طبعًا وشرعًا، وكذلك في التشريط، وقد بينا أن الفطر بالحجامة هو مقتضى القياس، ولا فَرْق في ذلك بين الفصاد والتشريط، فبأي وجه أخرج الدم أفطر به، كما يُفطر بالاستقاء بأي وجه استقاء، إما بإدخال يده في فيه، أو بشمِّه ما يقيئه، أو بوضع يده على بطنه وتطامنه، وغير ذلك، فالعبرة بخروج الدم عمدًا لا بكيفية الإخراج، كما استوى خروج الدم بذلك في إفساد الصلاة ونقض الطهارة عند القائلين به، وبهذا يتبيَّن توافق النصوص والقياس، وشهادة أصول الشرع وقواعده، وتصديق بعضها بعضًا

(1)

.

وَسُئِلَ شيخ الإسلام عَنْ رَجُلٍ افْتَصَدَ بِسَبَبِ وَجَعِ رَأْسِهِ وَهُوَ صَائِمٌ، هَلْ يُفْطِرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ إذَا أُعْلِمَ أَنَّهُ يُفْطِرُ إذَا افْتَصَدَ يَأْثَمُ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِله. هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَالله أَعْلَمُ.

وَسُئِلَ عَنْ الْفِصَادِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ هَلْ يُفْسِدُ الصَّوْمَ أَمْ لَا؟

فَأَجَابَ: إنْ أَمْكَنَهُ تَأْخِيرُ الْفِصَادِ أَخَّرَهُ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ لِمَرَضٍ افْتَصَدَ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، وَالله أَعْلَمُ

(2)

.

(1)

المصدر السابق.

(2)

«الفتاوى» (25/ 268).

ص: 169

• التبرع بالدم في نهار رمضان، هل يفطر الصائم؟

سئلت اللجنة الدائمة: رجل اضطر إلى مراجعة المستشفى في رمضان وهو صائم، ولما حضر إلى المستشفى أُخِذ منه دم، فهل يُخِل بصومه؟

الجواب: إذا كان الدم الذي أُخِذ منه يسيرًا عُرفًا فلا يجب عليه قضاء ذلك اليوم، وإن كان ما أُخِذ منه كثيرًا عرفًا فإنه يقضي ذلك اليوم خروجًا من الخلاف، وأخذًا بالاحتياط براءةً للذمة، وبالله التوفيق

(1)

.

* * *

(1)

انظر: «فتاوى الصيام» (466، 467).

ص: 170

‌القسم الثالث مفطرات أخرى

وفيه مبحثان:

•‌

‌ المبحث الأول: الردة:

قال ابن قدامة

(1)

: وَمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ أَفْطَرَ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خلافًا فِي أَنَّ مِنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ، أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ ذَلِكَ اليَوْمِ إذَا عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ اليَوْمِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ رِدَّتُهُ بِاعْتِقَادِهِ مَا يَكْفُرُ بِهِ، أَوْ شَكِّهِ فِيمَا يَكْفُرُ بِالشَّكِّ فِيهِ، أَوْ بِالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، مُسْتَهْزِئًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَهْزِئٍ، قال الله تَعَالَى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ} .

وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، فَأَبْطَلَتْهَا الرِّدَّةُ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، فَنَافَاهَا الْكُفْرُ، كَالصَّلَاةِ.

•‌

‌ المبحث الثاني: من نوى الفطر فقد أفطر:

قال ابن قدامة

(2)

: وَمَنْ نَوَى الْإِفْطَارَ فَقَدْ أَفْطَرَ، هَذَا الظَّاهِرُ مِنَ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأصْحَابِ الرَّأْيِ، إلَّا أَنَّ أصْحَابَ الرَّأْيِ قَالُوا: إنْ عَادَ فَنَوَى قَبْلَ

(1)

«المغني» (4/ 396).

(2)

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 371): فَصْلٌ: وَإِنْ نَوَى أَنَّهُ سَيُفْطِرُ سَاعَةً أُخْرَى، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: هُوَ كَنِيَّةِ الْفِطْرِ فِي وَقْتِهِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فِي الْفِطْرِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ نَوَى أَنَّنِي إنْ وَجَدْتُ طَعَامًا أَفْطَرْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ أَتْمَمْت صَوْمِي. خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: يُفْطِرُ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ جَازِمًا بِنِيَّةِ الصَّوْمِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ النِّيَّةِ بِمِثْلِ هَذَا.

وَالثَّانِي: لَا يُفْطِرُ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْفِطْرَ بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّ النِّيَّةَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ الصَّوْمُ بِمِثْلِ هَذِهِ النِّيَّةِ.

ص: 171

أَنْ يَنْتَصِفَ النَّهَارُ أَجْزَأَهُ. بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ الصَّوْمَ يُجْزِئُ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَفْسُدُ بِذَلِكَ؛ لأنها عِبَادَةٌ يَلْزَمُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا، فَلَمْ تَفْسُدْ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهَا، كَالْحَجِّ. وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، فَفَسَدَتْ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهَا، كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا شَقَّ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهَا اُعْتُبِرَ بَقَاءُ حُكْمِهَا، وَهُوَ أَنْ لَا يَنْوِيَ قَطْعَهَا، فَإِذَا نَوَاهُ زَالَتْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَفَسَدَ الصَّوْمُ لِزَوَالِ شَرْطِهِ.

وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ لَا يَطَّرِدُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلَا يَصحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْحَجَّ، فَإِنَّهُ يَصحُّ بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُبْهَمَةِ، وَبِالنِّيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، فَافْتَرَقَا.

• الخلاصة: مفسدات الصوم:

1 -

الأكل والشرب عامدًا في نهار رمضان من المفسدات، بالنص والإجماع.

2 -

ما كان بمعنى الأكل والشرب: كالإبر المغذية التي يستغني بها عن الطعام والشرب أيضًا من المفطرات. أما الإبر التي لا تُغذِّي ولا تقوم مقام الطعام والشرب، فلا تفطر سواء تناولها الإنسان في العضل أو في الوريد.

3 -

الجماع: وهو من المفطرات بالكتاب والسنة والإجماع.

4 -

ما كان بمعنى الجماع: كالاستمناء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي» ، والذي يستمني لم يدع الشهوة فكان الاستمناء من المفطرات.

5 -

خروج دم الحيض والنفاس: وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟» . وقد أجمع أهل العلم على أن الصوم لا يصح من الحائض ولا النفساء، ومتى طرأ الحيض على الصوم أبطله.

6 -

ذهب جمهور العلماء إلى أن من استقاء عامدًا، فعليه قضاء يوم مكانه.

7 -

الحجامة: هل تفطر الصائم؟ اختلف أهل العلم في ذلك: والأحوط أن الصائم لا يحتجم نهارًا، ولو احتجم يقضي يومًا مكانه.

ص: 172

8 -

الردة: فمن ارتد عن الإسلام فقد أفطر.

9 -

من نوى الإفطار فقد أفطر.

• وهذه المفطرات لا يفسد بها الصوم إلا بشروط:

1 -

العلم: فإن كان جاهلاً فصيامه صحيح: لقول الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} «قال الله: قد فعلت» . رواه مسلم.

وروى البخاري

(1)

عَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قال: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {حَتَّى يَتبيَّن لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}. قَالَ: أَخَذْتُ عِقَالاً أَبْيَضَ وَعِقَالاً أَسْوَدَ فَوَضَعْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِى، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَتبيَّن، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ، وَقَالَ: «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ طَوِيلٌ، إِنَّمَا هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» . قال عُثْمَانُ: «إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ» .

وروى البخاري

(2)

عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ {قَالَتْ: «أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ

» ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء.

2 -

أن يكون ذاكرًا: فلو أكل أو شرب ناسيًا فإنَّ صومه صحيح ولا قضاء عليه؛ لعموم قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} «قال الله: قد فعلت» . ولحديث أبي هريرة أن رسول الله قال: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ الله وَسَقَاهُ» .

3 -

أن يكون قاصدًا: وهو أن يكون الإنسان مختارًا لفعل هذا المفطر، فإن كان مُكْرَهًا فلا شيء عليه للآية:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].

(1)

أخرجه البخاري (1916).

(2)

أخرجه البخاري (1959).

ص: 173

‌الفصل السابع المفطرات المستجدة

(النوازل الفقهية المعاصرة في التداوي بالداخل إلى الجسم)

• وفيه مباحث:

• المبحث الأول: الداخل عن طريق الفم، وفيه مطالب:

• المطلب الأول: الغرغرة.

• المطلب الثاني: علاج الأسنان.

• المطلب الثالث: أدوية ما تحت اللسان.

• المبحث الثاني: الداخل عن طريق الأنف، وفيه مطالب:

• المطلب الأول: بخاخ الربو

• المطلب الثاني: الأكسجين.

• المطلب الثالث: التخدير عن طريق الجهاز التنفسي.

• المطلب الرابع: قطرة الأنف.

• المطلب الخامس: استعمال الروائح العطرية في نهار رمضان.

• المبحث الثالث: الداخل عن طريق الفرجين، وفيه مطالب:

• المطلب الأول: ما كان منفذه الدبر.

• المطلب الثاني: ما كان منفذه ذكر الرجل

• المطلب الثالث: ما كان منفذه فرج المرأة

• المبحث الرابع: الداخل إلى الجسم عن طريق العين والأذن

• المبحث الخامس: ما يدخل الجسم عن طريق الحقن

• المبحث السادس: ما يدخل الجسم عن طريق المنظار والقسطرة

• المبحث السابع: ما يدخل الجسم عن طريق الدهون

• المبحث الثامن: قرارات المجامع الفقهية بشأن المفطرات المستجدة

وأخيرا- خلاصة ما سبق من المفطرات المستجدة.

ص: 175

‌المبحث الأول: الداخل من طريق الفم

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: أثر الغرغرة في الصوم:

والغرغرة: أن يجعل المشروب في الفم ويردد إلى أصل الحلق ولا يبلع.

والغرض منها: تطهير الحلق خاصة لو كان ملتهبًا

(1)

.

وقد أفتى المجمع الفقهي بأنه لا يفطر الصائم المضمضة والغرغرة وبخاخ الربو الموضعي للفم على أن يتجنب الابتلاع

(2)

.

•‌

‌ المطلب الثاني: علاج الأسنان، وفيه مسألتان:

• المسألة الأولى: الدواء المخدر إذا حقنت به لثة المريض هل يفطر؟

هذا الدواء المخدر إذا حُقنت به لثة المريض لا يفطر؛ لأنه ليس مما يغذي ولا يصل إلى الحلق عن طريق الفم أو الأنف.

وسئلت اللجنة عن طبيب الأسنان يحتاج إلى إعطاء المريض إبرة في الفم للتخدير الموضعي من أجل العلاج، فهل يؤثر ذلك على الصيام؟ علمًا بأن المريض قد يستطيع تأجيل العلاج إلى الليل أو حتى بعد رمضان.

الجواب: لا بأس بإعطاء الصائم إبرة للتخدير الموضعي في الفم وغيره من أجل العلاج؛ لأنها ليست مغذية

(3)

.

(1)

«لسان العرب» مادة غرغر، و «النوازل الفقهية المعاصرة المتعلقة بالتداوي في الصيام» (ص 167) وهو بحث جيد ونافع، وقد استفدت منه كثيرًا، فأسأل الله أن يبارك في صاحبه وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.

(2)

«فقه النوازل» (2/ 300) والأفضل ألا يفعله إلا إذا دعت الحاجة إليه. وسئل الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله: هل الغبار يفطر أيضًا؟ فأجاب: الغبار لا يفطر، وإن كان الصائم مأمورًا بالتحرز منه.

(3)

«النوازل الفقهية المعاصرة» (ص 174)، وكذا أفتى بذلك الشيخ ابن باز في «فتاواه» (15/ 259).

ص: 176

• المسألة الثانية: استخدام الماء لتبريد آلة حفر الأسنان وحشو السن بالأدوية المناسبة:

أفتى المجمع الفقهي بأن حفر السن أو قلع الضرس أو تنظيف الأسنان أو السواك وفرشاة الأسنان لا يفطر بها الصائم على أن يتجنب الابتلاع

(1)

.

وسئلت اللجنة الدائمة عن طبيب الأسنان يستخدم الماء لتبريد آلة حك الأسنان، فهل ابتلاع المريض الصائم لهذا الماء بدون قصد يؤثر على الصيام؟ علمًا بأن المريض قد يستطيع تأجيل العلاج إلى الليل أو حتى بعد رمضان.

الجواب: لا بأس بوضع الماء في فم الصائم من أجل العلاج وغيره، بشرط ألا يتعمد ابتلاعه، وإن ذهب منه شيء إلى حلقه بغير اختياره فلا حرج عليه، وتأجيل العلاج إلى الليل أو إلى ما بعد رمضان أحوط

(2)

.

•‌

‌ المطلب الثالث: أدوية ما تحت اللسان:

هل تفطر الصائم الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية؟

أفتى المجمع الفقهي الإسلامي بجدة

(3)

أن الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان

(4)

لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق - لا تفطر الصائم.

•‌

‌ المطلب الرابع: ما حكم ابتلاع النخامة والبلغم للصائم؟

سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله: ما حكم ابتلاع النخامة والبلغم

(1)

«فقه النوازل» (2/ 300).

(2)

«النوازل الفقهية المعاصرة» (ص 175).

(3)

«فقه النوازل» (2/ 279).

(4)

قال أسامة الخلاوي (ص 180): ولما كانت حبوب النترات وما شابهها من الأدوية تحت اللسان لا تصل إلى الحلق وإنما غاية ما هنالك أن تقوم الأوعية الدموية الموجودة تحت اللسان بامتصاص المادة الدوائية، ومن ثم يقوم الدواء بأداء مهمته بفاعلية دون أن يدخل الدواء إلى الحلق، فإن تناولها فلا أثر له في الصيام ولا تفطر، إلا أنه ينبغي مراعاة أن يمج المريض ما يتبقى من أثر الدواء ولا يبتلعه مع ريقه وإلا فإنه سيدخل حلقه ذلك المتبقي من الدواء ويتعرض للإفطار به.

ص: 177

للصائم؟

فأجاب: أما النخامة والبلغم فيجب لفظهما إذا وصلتا إلى الفم، ولا يجوز للصائم بلعهما لإمكان التحرز منهما، وليسا مثل الريق.

•‌

‌ المبحث الثاني: الداخل عن طريق الأنف، وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: حكم استنشاق بخاخ الربو أثناء الصوم:

ذهب أكثر المجتمعين في الندوة الطبية الفقهية التاسعة التابعة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت والمنعقدة في الرباط عام (1997) إلى أن بخاخ الربو لا يفطر الصائم

(1)

.

وأفتت اللجنة الدائمة بأن استعمال بخاخ الربو استنشاقًا لا يفطر؛ لأنه ليس في حكم الأكل والشرب بوجه من الوجوه

(2)

.

(1)

«فقه النوازل» (2/ 300).

(2)

نص فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:

السؤال: يوجد دواء مع المرضى بمرض الربو يأخذونه بطريق الاستنشاق، هل يفطر أم لا؟

الجواب: دواء الربو الذي يستعمله المريض استنشاقًا يصل إلى الرئتين عن طريق القصبة الهوائية لا إلى المعدة، فليس أكلًا ولا شربًا ولا شبيهًا بهما، وإنما هو شبيه بما يقطر في الإحليل وما تُداوى به المأمومة والجائفة وبالكحل والحقنة الشرجية ونحوها من كل ما يصل إلى الدماغ أو البدن من غير الفم أو الأنف.

وهذه الأمور اختلف العلماء في تفطير الصائم باستعمالها: فمنهم من لم يفطر الصائم باستعمال شيء منها، ومنهم من فطره باستعمال بعض دون بعض. مع اتفاقهم جميعًا على أنه لا يسمى استعمال شيء منها أكلًا ولا شربًا. لكن من فطر باستعمالها أو بشيء منها جعله في حكمها بجامع أن كلًّا من ذلك يصل إلى الجوف باختيار، ولِما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«وَبَالِغْ في الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» فاستثنى الصائم من ذلك مخافة أن يصل الماء إلى حلقه أو معدته بالمبالغة في الاستنشاق فيفسد الصوم، دل على أن كل ما وصل إلى الجوف اختيارًا يفطر الصائم.

ومن لم يحكم بفساد الصوم بذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ومن وافقه - لم ير قياس هذه الأمور على الأكل والشرب صحيحًا، فإنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر هو كل ما كان واصلًا إلى الدماغ أو البدن، أو ما كان داخلًا من منفذ أو واصلًا إلى الجوف. وحيث لم يقم دليل شرعي على جعل وصف من هذه الأوصاف مناطًا للحكم بفطر الصائم يصح تعليق الحكم به شرعًا، وجَعْل ذلك في معنى ما يصل إلى الحلق أو المعدة من الماء بسبب المبالغة في استنشاقه - غير صحيح أيضا لوجود الفارق؛ فإن الماء يغذي فإذا وصل إلى الحلق أو المعدة أفسد الصوم، سواء كان دخوله من الفم أو الأنف؛ إذ كل منهما طريق فقط؛ ولذا لم يفسد الصوم بمجرد المضمضة أو الاستنشاق دون مبالغة ولم ينه عن ذلك. فكون الفم طريقًا وَصْف طردي لا تأثير له فإذا وصل الماء ونحوه من الأنف كان له حكم وصوله من الفم، ثم هو والفم سواء. والذي يظهر عدم الفطر باستعمال هذا الدواء استنشاقًا؛ لما تقدم من أنه ليس في حكم الأكل والشرب بوجه من الوجوه. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. «النوازل الفقهية المعاصرة» (ص 198، 199).

ص: 178

•‌

‌ المطلب الثاني: أثر استعمال الأكسجين في الصيام:

استخدام الأكسجين المضغوط والمكثف لا يفطر الصائم؛ لأنه عبارة عن هواء وليس بطعام ولا شراب.

وإلى ذلك ذهب مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته العاشرة - إلى أن غاز الأكسجين لا يفطر الصائم

(1)

.

•‌

‌ المطلب الثالث: التخدير عن طريق الجهاز التنفسي، أو أثر التخدير في الصيام

(2)

.

أفتى المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد في دورته العاشرة بجدة بالسعودية

(3)

بأن غازات التخدير (البنج) لا تفطر الصائم ما لم يُعطَ المريض سوائل (محاليل) مغذية.

من نوى الصيام من الليل وتناول مخدرًا أفقده وعيه، فما حكم صيامه؟

ذهب أكثر المجتمعين في الندوة الطبية الفقهية التاسعة التابعة للمنظمة الإسلامية

(1)

«فقه النوازل» (2/ 297) قال أسامة الخلاوي (ص 202): قد يشكل عند البعض حكم استخدام الأكسجين السائل من حيث كونه صار سائلًا. فنقول: بما أن الأكسجين السائل إذا أطلق من وعائه رجع إلى طبيعته الغازية، فإن استعماله لا يفطر لأنه مجرد غاز يدخل إلى الجهاز التنفسي ولا ينال المعدة من سيولته شيء، ولا يقول أحد: إنَّ تنفس الهواء أو استنشاقه يُفسد الصوم.

(2)

وأما في الاصطلاح الطبي الحديث: فهو عملية تتم تحت إشراف طبيب يتم خلالها إفقاد المريض الإحساس بالألم؛ ليتمكن من خوض عملية جراحية أو غيرها من العمليات بدون الشعور بالضيق أو الألم.

(3)

«فقه النوازل» (2/ 297).

ص: 179

للعلوم الطبية بالكويت والمنعقدة في الرباط عام (1997) أن العمليات الجراحية بالتخدير العام لا تفطر إذا كان المريض قد بَيَّت الصيام من الليل

(1)

.

•‌

‌ المطلب الرابع: قطرة الأنف:

سئل الشيخ ابن باز عن حكم قطرة الأنف.

فأجاب: أما القطرة في الأنف فلا تجوز؛ لأن الأنف منفذ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَبَالِغْ في الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» .

وعلى من فعل ذلك القضاء لهذا الحديث وما جاء في معناه إن وجد طعمهما في حلقه، والله ولي التوفيق.

•‌

‌ المطلب الخامس: استعمال الروائح العطرية في رمضان.

سئل الشيخ العثيمين: ما حكم استعمال الصائم للروائح العطرية في نهار رمضان؟

فأجاب: لا بأس أن يستعملها في نهار رمضان، وأن يستنشقها إلا البخور لا يستنشقه؛ لأن له جرمًا يصل إلى المعدة وهو الدخان.

(1)

«فقه النوازل» (2/ 300). وقال أسامة الخلاوي (ص 205): إلا أنه يجب التنبه إلى مسألة أن التخدير العام يصاحبه غالبًا إعطاء المريض المحاليل المغذية تجنبًا للجفاف، ولإعطائه ما يلزم من العقاقير أثناء الجراحة لو احتيج إليها، فإذا كان كذلك فصيامه عندئذٍ يفسد لتناول المغذي لا للعقاقير ولا لفقدان الوعي.

والتخدير العام يشابه الإغماء في زوال العقل، فالحنفية على أنه لو نوى من الليل وأغمي عليه ولو مستغرقًا كل اليوم فإن صيامه صحيح كما في «رد المحتار» (3/ 418).

وقال مالك في «المدونة» (1/ 398): وسئل لَوْ أَنَّهُ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ وَنِيَّتُهُ الصِّيَامُ إلَى انْتِصَافِ النَّهَارِ ثُمَّ أَفَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ أَيُجْزِئُهُ صِيَامُهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ قَالَ: نَعَمْ يُجْزِئُهُ.

وقال الشافعي: إِذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ نَهَارِهِ صح صَوْمُهُ، كما في «الحاوي» (3/ 441).

وقال في «المقنع» 7/ 386 ومن نوى قبل الفجر ثم .. أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه وإن أفاق جزءًا منه صح صومه. والراجح: أن من نوى الصيام من الليل وتناول مخدرًا أفقده وعيه أو أغمي عليه ثم أفاق في جزء من النهار، فصيامه صحيح.

ص: 180

•‌

‌ المبحث الثالث: الداخل من طريق الفرجين، وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: ما كان منفذه الدبر:

• أثر استعمال المناظير الشرجية والتحاميل والحقن الشرجية في الصيام:

ذهب أكثر المجتمعين في الندوة الفقهية الطبية التاسعة التابعة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت والمنعقدة في الرباط عام (1997) إلى عدم فساد الصوم بما يدخل الشرج من حقنة شرجية أو تحاميل (لبوس) أو منظار أو إصبع طبيب فاحص

(1)

.

وقد سئل الشيخ محمد بن عثيمين عن التحاميل الشرجية فأجاب: لا بأس أن يستعمل الصائم التحاميل التي تجعل في الدبر إذا كان مريضًا؛ لأن هذا ليس أكلًا ولا شربًا ولا بمعنى الأكل والشرب، والشارع إنما حرم علينا الأكل والشرب، فما كان قائما مقام الأكل والشرب أُعطي حكم الأكل والشرب، وما ليس كذلك فإنه لا يدخل في الأكل والشرب لفظًا ولا معنى، فلا يثبت له حكم الأكل والشرب

(2)

.

•‌

‌ المطلب الثاني: ما كان منفذه ذكَر الرجل:

• أثر استعمال منظار المثانة في الصوم:

أفتى المجمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته العاشرة بعدم فساد الصوم بما يدخل إحليل الذكر والأنثى - أي مجرى البول من الظاهر - من قسطرة، أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة

(3)

.

•‌

‌ المطلب الثالث: ما كان منفذه فرج المرأة، وفيه مسائل:

• المسألة الأولى: أثر التداوي المهبلي في الصوم:

اتفق علماء المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته العاشرة على عدم

(1)

«فقه النوازل» (2/ 300).

(2)

«مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين» (19/ 205).

(3)

«فقه النوازل» (2/ 299 - 300).

ص: 181

فساد الصوم بما يدخل المهبل من هلام أو بيوض دوائية مهبلية أو غسول أو منظار مهبلي أو إصبع طبيب أو قابلة فاحصة

(1)

.

• المسألة الثانية: أثر اللولب في الصوم:

ذهب المجمع الفقهي في دورته العاشرة إلى أن إدخال المنظار أو اللولب إلى الرحم لا يفطر الصائم

(2)

.

•‌

‌ المبحث الرابع: الداخل إلى الجسم عن طريق العين والأذن:

قد أفتى المجمع الفقهي بالدار البيضاء أن المفطرات في كتاب الله وفي السنة الصحيحة ثلاثة:

هي الأكل والشرب والجماع، فكل ما جاوز الحلق وكان ينطبق عليه اسم الأكل أو الشرب كمًّا وكيفًا يعد مفطرًا، وبناء على ذلك اتفق المجتمعون على أن الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات: قطرة العين أو الأذن أو غسول الأذن

(3)

.

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حكم القطرة والمرهم في العين؟

فأجاب: لا بأس للصائم أن يكتحل وأن يقطر في عينه .. حتى وإن وجد طعمه في حلقه، فإنه لا يفطر بهذا؛ لأنه ليس بأكل ولا شرب ولا بمعنى الأكل والشرب،

(1)

«فقه النوازل» (2/ 298). قال أسامة الخلاوي (ص 300): فعلى هذا فإن الداخل إلى المبال له حكم الداخل إلى ذكر الرجل الموصل للمثانة. وأما الداخل إلى المهبل فإنا نقول: إن التجويف المهبلي والرحم ليسا طريقًا للإفطار؛ لأن الداخل ليس الغرض منه التغذية، كما أنه لا يصل إلى المعدة بأي حال من الأحوال؛ لذا فإن دخول المنظار - ولو بمادة دهنية - وضخ صبغة الأشعة في تجويف الرحم لا يؤثران في الصوم، ومثله التحاميل المهبلية، لأن المهبل ليس جوفًا، والتحاميل المهبلية أو صبغة الأشعة ليست غذاء. وقد ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن الإقطار في أقبال النساء مفطر، واستدلوا لذلك أن المثانة منفذ إلى الجوف. انظر «تبيين الحقائق» (2/ 184)، و «شرح الخرشي» (3/ 51)، و «تحفة المحتاج» (1/ 512).

وذهب الحنابلة إلى أن الإقطار في قبل المرأة لا يفطر، كما في «شرح المنتهى» (2/ 364).

(2)

«فقه النوازل» (2/ 300).

(3)

«فقه النوازل» (2/ 299)، وكذا أفتى المجمع الفقهي بجدة، الدورة العاشرة.

ص: 182

والدليل إنما جاء في منع الأكل والشرب فلا يلحق بهما ما ليس في معناهما

(1)

، وهذا الذي ذكرناه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الصواب.

وسئلت اللجنة الدائمة: هل يجوز استعمال قطرة العين في نهار رمضان؟

فأجابت: نعم تجوز ولا تفسد الصوم على الصحيح من قول العلماء

(2)

.

وسئلت: هل يفطر الكحل ودهان المرأة في نهار رمضان أم لا؟

فأجابت: من اكتحل في نهار رمضان وهو صائم لا يفسد صومه، وكذا من دهن رأسه .. لا يفسد صومه.

•‌

‌ المبحث الخامس: ما يدخل الجسم عن طريق الحقن.

أفتى المجمع الفقهي بجدة بأن الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية لا تفطر الصائم باستثناء السوائل والحقن المغذية

(3)

.

سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ما حكم التداوي بالحقن في نهار رمضان، سواء كانت للتغذية أم التداوي؟

فأجابت: يجوز التداوي بالحقن في العضل والوريد للصائم في نهار رمضان، ولايجوز للصائم تعاطي حقن التغذية في نهار رمضان؛ لأنه في حكم تناول الطعام والشراب فتعاطي تلك الحقن يعتبر حيلة على الإفطار في رمضان وإن تيسر تعاطي الحقن في العضل والوريد ليلا فهو أولى

(4)

.

(1)

«مجموع فتاوى ابن عثيمين» (19/ 209)، ورجح هذا القول الشيخ ابن باز في «فتاواه» (15/ 263).

(2)

«فتاوى اللجنة الدائمة» (10/ 250) برقم (7351). قلت: وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن الإقطار في الأذن إذا وصل إلى الباطن مفسد للصوم، وبه قال المالكية والحنابلة والصحيح عند الشافعية كما في «شرح الخرشي» (3/ 33) و «المبدع» (3/ 22)، وعند الشافعية قول آخر هو أن الإقطار لا يفسد الصوم.

قال أسامة الخلاوي: إن استعمال قطرات الأذن بشكل عام لا يؤثر في الصوم وإن وجد الصائم طعم القطرة في حلقه، وذلك لأن الأذن لا تكون منفذًا للحلق إلا في حالة خرق الطبلة فقط.

(3)

«فقه النوازل» (2/ 297).

(4)

«فتاوى الصيام» (2/ 485). وقال أسامة الخلاوي: أولًا ما يدخل إلى الجسم، ولابد أن ينطبق عليه أحد الضابطين التاليين: =

ص: 183

•‌

‌ المبحث السادس: ما يدخل الجسم عن طريق المنظار والقسطرة.

• دخول المنظار من خلال جدار البطن هل يفسد الصوم؟

ذهب المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته العاشرة إلى عدم التفطير بإدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها

(1)

.

= الضابط الأول: المنفذ الأصلي: أن يكون دخوله الجسم، عن طريق الحلق سواء كان عن طريق الفم أو الأنف، وسواء كان يتغذى به أو لا، وأما ما لا يتغذى به فإنه يشترط استقراره في المعدة.

الضابط الثاني: الداخل من غير المنفذ الأصلى: أن يكون دخوله إلى الجسم من أي طريق كان، لكنه يسبب تغذية الجسم ويقوم مقام الطعام والشراب. ودليل ذلك حديث عَائِشَةَ قَالَتْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ. قَالَ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . فإنه لم يكن قصد النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يطعمه ويسقيه طعامًا وشرابًا حسيًّا وإلا لم يكن للوصال في الصوم خصوصية له. ففي ذلك إشارة إلى أن الشيء إذا كان يقوم مقام الطعام والشراب فإنه لا يُشعر المرء بالجوع والعطش، وهذا يدل على أنه يفسد الصوم.

وعلى هذا فكل ما دخل إلى الجسم من غير مدخل الحلق وكان مغذيًا يقوم مقام الطعام والشراب في حال الاستمرار عليه، ويمكن للمرء أن يعيش به محافظًا على حياته، ومستغنيًا عن الأكل والشرب، فإنه يفطر، سواء كان عن طريق الدبر حيث تقوم الأمعاء الغليظة بالامتصاص، أو عن طريق فتحة ما، في أي جزء من الجسم أوصلت ما يمكن أن يتغذى به على وجه الاستمرار، فأما الحقن المغذية فإنها تفطر لأنها وإن كانت لا تدخل إلى الحلق إلا أنها تقوم مقام الأكل والشرب، وهذا واضح بين، إذ إن الحقن المغذية تعطى للمريض غير القادر على تناول المواد الغذائية، أو غير المسموح له بها لمرضه أو لخطرها عليه، وبإمكانه أن يعيش على الحقن المغذية لفترة طويلة لو اقتصر على تناولهما.

وبمراجعة مكونات المحاليل المغذية فإننا نجد أن من مكوناتها السكر، ويوجد في كل لتر من السوائل (50 جم) من السكر وهو ما يعادل 200 سعرًا حراري، تعطى للمريض في فترة زمنية وجيزة.

(1)

«فقه النوازل» (2/ 300).

ص: 184

• منظار المعدة:

• دخول المنظار إلى الحلق ومنه إلى المعدة:

دخول المنظار إلى المعدة إذا صاحَبه إدخال سوائل أو مواد أخرى فإنه يفطر، وأما إذا لم يصاحبه إدخال سوائل أو أي مواد أخرى فإنه لا يفطر.

وإلى ذلك ذهب المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته العاشرة: أن منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى فإنه لا يفطر

(1)

.

قال أسامة الخلاوي

(2)

: والذي يترجح أن عملية التنظير لا تفطر الصائم؛ لأنها تدفع بالمنظار عبر الفم إلى الحلق إلا أنه لا يستقر فيه، وإنما يقوم بمهمة التنظير ثم يخرج.

لكن لو رُش المخدر في حنجرة المريض، أو جُعل على رأس الأنبوب مادة لزجة لتسهيل توجيه المنظار، أو قام الطبيب ببث الصبغة الخاصة بالأشعة، فإن هذا مما يفطر لدخول مواد تستقر في الجوف ولا تخرج بخروج الأنبوب

(3)

.

• حكم إدخال قسطرة في الجسم:

أفتى المجمع الفقهي بجدة بأن إدخال قسطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو

(1)

«فقه النوازل» (2/ 298).

(2)

«النوازل الفقهية المعاصرة المتعلقة بالتداوي بالصيام» (ص 188).

(3)

هذه المسألة تشبه عند الفقهاء من ابتلع خيطًا له طرفان ثم انتزعه، وقد اختلفوا في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن من ابتلع خيطًا ثم انتزعه لا يفطر، وهو قول الحنفية وقول عند المالكية. قال الكاساني «بدائع الصنائع» (2/ 149): مَنْ ابْتَلَعَ لَحْمًا مَرْبُوطًا عَلَى خَيْطٍ ثُمَّ انْتَزَعَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، إنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَإِنْ تَرَكَهُ فَسَدَ .. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّاخِلِ فِي الْجَوْفِ شَرْطُ فَسَادِ الصَّوْمِ. القول الآخر: يفطر، وهو قول الشافعية والحنابلة والمختار عند المالكية.

فالشافعية والحنابلة نصوا على أن من ابتلع طرف خيط وطرفه الآخر بارز أفطر، انظر «المجموع» (6/ 336)، و «المبدع» (3/ 22). قلت: ولا شك أن المنظار بمنزلة الخيط، والراجح ما ذهب إليه الحنفية فيمن ابتلع خيطًا ثم انتزعه أنه لا يفطر؛ لأن الخيط ليس بمغذٍّ، ولا يستقر، وكذا منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل، والله أعلم.

ص: 185

علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء - لا يفطر الصائم

(1)

.

• المسألة الثانية: وصول الدواء إلى جوف الصائم لو كان به جائفة:

أي لو طُعن شخص بسكين فوصلت الطعنة إلى جوفه فداوى جرحه، فوصل الدواء إلى جوفه أو دماغه، أفطر عند جمهور العلماء، وبه قال الشافعية والحنابلة

(2)

.

وذهب المالكية إلى أنه لو داوى جرحه فإنه لا يفسد صومه ولا يفطر لأن الدواء لم يدخل من مدخل الطعام والشراب:

سئل ابن القاسم في «المدونة الكبرى»

(3)

عمَنْ كَانَتْ بِهِ جَائِفَةٌ فَدَاوَاهَا بِدَوَاءٍ مَائِعٍ أَوْ غَيْرِ مَائِعٍ. قَالَ: لَا أَرَى عَلَيْهِ قَضَاءً وَلَا كَفَّارَةً، قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِلُ إلَى مَدْخَلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَوْ وَصَلَ ذَلِكَ إلَى مَدْخَلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ.

ولما كان سائل التنقية البريتونية فيه مواد سكرية، ولكنها لا تصل إلى الجوف، وإنما تنتقل إلى الدم عن طريق الشعيرات الدموية، ويكتسب المريض بهذه المواد السكرية ما بين (700 - 800) سعر حراري يوميًّا، حتى إن مريض التنقية البريتونية قد يعاني من السمنة لأجل ذلك، فإن هذا يعني أن هذه المواد مغذية، وبالتالي فالتنقية البريتونية تفطر الصائم بلا شك، خاصة وأن المريض يقوم بإدخال سائل التنقية مرة كل (6) ساعات (أي مرتين في نهار الصوم)، ولما كان من المرضى الذين لا يرجى برؤهم فإن هذا المريض لا يتمكن من القضاء، وبذلك فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا

(4)

.

(1)

«فقه النوازل» (2/ 298). وتشبه هذه المسألة إذا طُعن شخص بسكين فوصلت إلى جوفه فهذه تسمى جائفة، فهل تؤثر الجائفة في الصوم؟ اختلف الفقهاء في ذلك: فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لو طعن بسكين فوصل إلى جوفه بطل صومه، انظر «مغني المحتاج» (2/ 167)، و «المغني» (4/ 353). واختلف الحنفية فمنهم من قال بأنه يفطر، ومنهم من قال لا يفطر لفقدان الصورة وهي الابتلاع؛ «فتح القدير» (2/ 346).

والراجح عدم التفطير لأن هذه الطعنة لا تسبب تغذية.

(2)

«المجموع» (6/ 346)، و «المغني» (4/ 353).

(3)

«المدونة الكبرى» (1/ 387).

(4)

«الشرح الممتع» (6/ 347).

ص: 186

أما مرضى التنقية البريتونية المتقطعة فإنه لما كان يتداوى بتناول المحلول ليلًا فقط، فإنه لو حدد وقت التنقية في ساعات الإفطار على أن يتوقف عمل الجهاز قبل الفجر، فإن هذا الشخص بإمكانه أن يصوم إلا أن ينصحه الطبيب بغير ذلك

(1)

.

•‌

‌ المبحث السابع: ما يدخل الجسم عن طريق الدهون:

• أثر استعمال اللصقات والدهونات في الصيام:

ذهب جمهور العلماء إلى أن ما يدخل عبر مسام الجلد لا يؤثر في الصيام وإن وجد طعم الداخل في حلقه

(2)

. وذلك لأن ما يدخل الجسم من غير طريق الحلق فإنه يشترط فيه ليكون مفطرًا أن يكون مغذيًا، وعلى هذا فاللصقات الجلدية والدهونات لا تفطر لأنها غير مغذية.

وعلى هذا اتفق المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته العاشرة أنه لا يفطر ما يدخل الجسم امتصاصا من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية

(3)

.

•‌

‌ من قرارات المجامع الفقهية، وما يتعلق بالمفطرات المستجدة:

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشرة بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 - 28 صفر 1418 هـ الموافق 28 حزيران (يونيو) - 3 تموز (يوليو) 1997 م

• قرر ما يلي: أولًا: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:

(1)

«النوازل الفقهية المعاصرة» (ص 255).

(2)

قال في «الدر المختار» (3/ 366): أو ادهن .. وإن وجد طعمه في حلقه .. لم يفطر.

وقال في «بلغة السالك» (1/ 451): من حك رجله بحنظل فوجد طعمه في حلقه .. فلا شيء عليه.

وانظر «العزيز شرح الوجيز» (1/ 512)، و «شرح المنتهى» (3/ 365).

(3)

«النوازل الفقهية المعاصرة» (ص 296).

ص: 187

1 -

قطرة العين، أو قطرة الأذن، أو غسول الأذن، أو قطرة الأنف، أو بخاخ الأنف، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.

2 -

الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.

3 -

ما يدخل المهبل من تحاميل (لبوس)، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي.

4 -

إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.

5 -

ما يدخل الإحليل، أي مجرى البول الظاهر للذكر والأنثى، من قسطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.

6 -

حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.

7 -

المضمضة، والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.

8 -

الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية.

9 -

غاز الأكسجين.

10 -

غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية.

11 -

ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد، كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.

12 -

إدخال قسطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء.

13 -

إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها.

14 -

أخذ عينات (جرعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.

ص: 188

15 -

منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى.

16 -

دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي.

17 -

القيء غير المتعمد بخلاف المتعمد (الاستقاءة).

ثانيًا: ينبغي على الطبيب المسلم نصح المريض بتأجيل ما لا يضر تأجيله إلى ما بعد الإفطار من صور المعالجات المذكورة فيما سبق.

ثالثًا: تأجيل إصدار قرار في الصور التالية، للحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة في أثرها على الصوم، مع التركيز على ما ورد في حكمها من أحاديث نبوية وآثار عن الصحابة:

أ- بخاخ الربو.

ب- الفصد، والحجامة.

ج- أخذ عينة من الدم المخبري للفحص، أو نقل دم من المتبرع به، أو تلقي الدم المنقول.

د- الحقن المستعملة في علاج الفشل الكلوي حقنًا في الصفاق (الباريتون) أو في الكلية الاصطناعية.

هـ- ما يدخل الشرج من حقنة شرجية أو تحاميل (لبوس) أو منظار أو إصبع للفحص الطبي.

و- العمليات الجراحية بالتخدير العام إذا كان المريض قد بيَّت الصيام من الليل.

وقد قرر المجمع الفقهي بالدار البيضاء عام 1418 هـ: أن المفطرات في كتاب الله عز وجل وفي السنة الصحيحة ثلاثة: هي الأكل والشرب، والجماع، فكل ما جاوز الحلق وكان ينطبق عليه اسم الأكل أو الشرب كمًّا وكيفًا، يعد مفطرًا.

وبناء على ذلك اتفق المجتمعون على أن الأمور الآتية لا تعتبر من المفطرات:

1 -

قطرة العين أو الأذن أو غسول الأذن.

2 -

قرص النيتروغلسيرين ونحوه الذي يوضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية.

3 -

ما يدخل المهبل من فراز، أو بيوض دوائية مهبلية، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع طبيب أو قابلة فاحصة.

ص: 189

4 -

ما يدخل الإحليل - إحليل الذكر والأنثى - أي مجرى البول الظاهر؛ من قسطرة، أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء أو محلول لغسل المثانة.

5 -

حفر السن أو قلع الضرس أو تنظيف الأسنان أو السواك وفرشاة الأسنان، على أن يتجنب الابتلاع.

6 -

الحقن الجلدية أو العضلية أو الوريدية باستثناء السوائل الوريدية المغذية.

7 -

التبرع بالدم وتلقي الدم المنقول.

8 -

غاز الأكسجين وغازات التخدير.

9 -

ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد، كالدهونات واللصقات الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.

10 -

أخذ عينة من الدم للفحص المختبري.

11 -

إدخال قسطرة في الشرايين لتصوير أوعية القلب، أو غيره من الأعضاء

12 -

إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء، أو إجراء عملية جراحية عليها.

13 -

المضمضة والغرغرة وبخاخ العلاج الموضعي للفم على أن يتجنب الابتلاع.

14 -

إدخال المنظار أو اللولب إلى الرحم.

15 -

أخذ عينات (جرعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء.

ورأى أكثر المجتمعين أن الأمور الآتية لا تعتبر مفطرة:

1 -

قطرة الأنف وبخاخ الأنف وبخاخ الربو.

2 -

ما يدخل الشرج من حقنة شرجية، أو تحاميل (لبوس)، أو منظار، أو إصبع طبيب فاحص.

3 -

العمليات الجراحية بالتخدير العام، إذا كان المريض قد بيّت الصيام من الليل.

4 -

الحقن المستعملة في علاج الفشل الكلوي حقنًا في الصفاق (الباريتون) أو بالكلية الاصطناعية.

ص: 190

5 -

منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل أو مواد أخرى.

• خلاصة النوازل الفقهية المعاصرة المتعلقة بالتداوي أثناء الصوم

(1)

.

1 -

الراجح في مناط التفطير بما يدخل الجسم أن يكون دخول الشيء الجسم عن طريق الحلق سواء كان من الأنف أو الفم، وسواء كان يتغذى به أو لا مع اشتراط استقرار ما لا يتغذى به في المعدة وعدم خروجه منها.

2 -

أن يتأكد دخول الشيء للحلق، وعلى هذا ينبني القول بأن المنفذين الوحيدين للحلق اللذين يفطر الدخول عبرهما هما الحلق والأنف دون سائر المنافذ ولو وجد طعم الشيء في الحلق.

3 -

إذا كان دخول الشيء إلى الجسم من أي طريق كان غير منفذ الحلق، لكنه يسبب تغذية الجسم ويقوم مقام الطعام والشراب في حال الاستمرار عليه، فإنه يفطر.

4 -

لا يفطر التداوي بالغرغرة لأن الماء لم يصل الحلق، حتى لو سبق الماء إلى جوفه لأنه غير قاصد له إلا أنه لا ينبغي له فعله بدون حاجة له لأنه يقرب أن يفطر به.

5 -

لا يفطر الدواء المخدر إذا حقنت به لثة المريض؛ لأنه ليس مما يغذي، ولا يصل إلى الحلق. ولا يؤثر استخدام الدواء الذي يضعه الطبيب في المريض ولو وجد طعمه في حلقه لأنه لا يبتلعه وإنما يضعه الطبيب في سنه، إلا أنه ينبغي أن يتحرز المريض من ابتلاع الدواء أو ابتلاع ريقه إذا تسرب إليه شيء من هذه الأدوية، وكذا لا تأثير لخلع السن أو الضرس إذا روعي ما سبق ذكره.

6 -

لا أثر لأدوية ما تحت اللسان في الصوم لأنها لا تصل إلى الحلق وإنما تمتصها الأوعية الدموية المنتشرة بكثرة تحت اللسان دون المرور بالحلق، إلا أنه ينبغي مج ما يجده الصائم في ريقه من أثر الدواء وإلا فإنه يتعرض إلى الفطر بذلك.

7 -

لا تفطر عملية التنظير للصائم إن كان دخول المنظار من الحلق لأنه لا يستقر فيه وإنما يخرج منه بعد أداء مهمته، إلا أن المخدر الموضعي إذا رُشت به حنجرة المريض فإنه

ص: 191

يفطر به لوصوله إلى الحلق.

8 -

لا يفطر بخاخ الربو ونحوه مما يدخل مباشرة إلى الرئتين دون المرور بالحنجرة والحلق، ولا يقال: إنه قد تدخل كمية قليلة من الدواء إلى المريء فيسبب الفطر، وذلك لأن دخول الدواء إلى الحلق غير متيقن فلا يؤخذ بالظن هنا.

9 -

لا يفطر استعمال الأكسجين المضغوط والمكثف والسائل؛ لأن ذلك مجرد هواء يُستنشق وإن اختلفت صوره.

10 -

لا يفطر دخول المخدر العام إلى الجهاز التنفسي؛ لأن الدواء المخدر لا يمر بالحلق وإنما يدخل الرئتين مباشرة، وأما فقدان المريض المخدَّر الوعي فالراجح أنه إذا نوى الصيام من الليل ثم تعرض للتخدير وأفاق في أي جزء من النهار، فصيامه صحيح.

إلا أنه ينبغي ملاحظة أن المريض المخدر غالبًا ما يُعطى محاليل مغذية عن طريق الوريد تجنبًا للجفاف، وتحسبًا لما لو اضطر الطبيب إلى إعطائه عقاقير ما عن طريق الوريد، فعندئذٍ يكون ذلك مفطرًا لأجل المحاليل المغذية لا لأجل التخدير أو فقدان الوعي.

11 -

لا يفطر دخول الشيء من الدبر، جامدًا كان أو مائعًا كالمناظير والحقن الشرجية واللبوسات لأِنها لا تدخل الجسم عن طريق الجوف ولا تسبب التغذية.

12 -

لا يفطر منظار المثانة ولا ما يدخل عن طريق إحليل الرجل لأنه لا يسبب التغذية.

13 -

لا يفطر ما يدخل الجسم عن طريق فرج المرأة، سواء ما كان منه يؤدي إلى المثانة، أو إلى المهبل لأن الداخل لا يسبب التغذية.

14 -

لا يؤثر استعمال مراهم وقطرات الأذن في الصوم وإن وجد طعمها في حلقه؛ لأن الأذن لا تكون منفذًا للحلق إلا في حالة خرق الطبلة فقط، ولا يقال بالتفطير عندئذٍ لعدم التيقن بوصوله إلى الحلق، وأما الطعم القوي الذي يشعر به المريض في حلقه فهو بسبب وجود براعم التذوق في لسان المزمار، وقطرة واحدة من الدواء مر الطعم كفيلة بأن تجعل المريض يشعر بالطعم اللاذع له ..

ص: 192

15 -

لا يؤثر في الصوم ما يدخل من العين ولو وجد طعمه في حلقه؛ لأن العين ليست منفذًا ظاهرًا، ومن يضع الدواء في عينه فقد يجد أثره وقد لا يجده، وما دام لم يتيقن فلا يقال بالفساد.

16 -

سائل تنقية الكلى البريتونية فيه مواد سكرية تنتقل إلى الدم عن طريق الشعيرات الدموية وتكسب المريض (700 - 800) سعر حراري يوميًّا لذا فإن هذا النوع من التنقية يفطر الصائم، فإن كانت التنقية من النوع الجوال أو النهاري فإن المريض يكون عندئذٍ ممن لا يرجى برؤه فيطعم عن كل يوم مسكينًا، وإن كانت التنقية من النوع الآلي أو الليلي فهذا مع التنظيم لوقت التنقية يكون بإمكانه الصوم.

17 -

تبلغ نسبة السكر في سائل التنقية الكلوية الدموية (1 - 2%) لكل لتر، وهذه المواد ستنتقل إلى الدم بعد تنقيته، ولما كانت هذه النسبة تعتبر مغذية فإنها تكون في حكم الطعام والشراب، وعندها تفسد الصوم، إلا أن المريض يستطيع الصوم في الأيام الأخرى ويقضي الأيام التي أفطرها بسبب الغسيل.

18 -

لا تؤثر الحقن في الصوم إذا لم تكن للتغذية كإبر الإنسولين والتطعيمات والأدوية المختلفة وحقن الدم، أما الحقن المغذية فإنها تفطر لأنها وإن كانت من غير منافذ الجوف إلا أنها تقوم مقام الأكل والشرب، والشارع حكيم لا يفرق بين شيئين متماثلين بالمعنى، وعلى هذا إذا أعطيت للمريض حقن مغذية فإنه يكون بذلك كالأكل والشرب، ولا يصح له الصوم.

19 -

لا تفطر اللصقات الجلدية التي تبث الأدوية للجسم عن طريق الجلد ولا الأدهان المختلفة، لأنها لا تسبب التغذية وليست مما يدخل عن طريق الحلق.

20 -

لا تؤثر عملية التنظير في جوف البطن على الصوم، لأن المنظار لا يدخل الجسم عن طريق الحلق، ولا يقصد بالصبغات المبثوثة في جوفه التغذية.

21 -

الحجامة مفطرة على القول الراجح، وكذا الفصد لأنه كالحجامة في استخراج الدم الغزير، ومثلها التبرع بالدم لما فيه من الإرهاق الواضح على المتبرع بسبب سحب

ص: 193

كمية كبيرة من الدم، فأشبهت الحجامة.

أما سحب الدم لتحليله فالظاهر أنه لا يفسد الصوم لقلة ما يُسحب من الدم فأشبه الرعاف والجروح الصغيرة، وكذا الحال في التداوي بالعلقات الدموية.

22 -

لا يفطر أخذ الخزعات (العينات) من جسم المريض الصائم بجميع أنواعها إلا ما كان من الخزعة التي تتم عن طريق الأنف، فإنها تفطر لا لأجل العملية بذاتها، ولكن لاستعمال المخدر الموضعي الذي يُرش في حلق المريض، ولأجل المادة المزلقة إن وُجدت.

23 -

تُفسد الاستقاءة الصوم، أما تناول الأدوية - غير الفمية - والتي قد تسبب القيء كأدوية السرطان فإنها لا تفطر وذلك لأنها لا تسبب القيء بالتأكيد، وإنما ذلك أمر ظني قد يحدث وقد لا يحدث، ثم إن المتناول لأدوية السرطان المسببة للقيء لم يتعمد تناولها لأجل الاستقاءة، وإنما القيء هو من آثار الدواء الجانبية.

24 -

إخراج المني إن كان عن طريق الجراحة لا يفسد الصوم؛ لأنه لا يعد إنزالًا، إلا أنه يجب مراعاة جانب تبييت نية الصوم من الليل.

وأما إن كان إخراج المني عن طريق القذف، فإن كان باستعمال الجهاز الهزاز فإنه يفسد الصوم لأنه يسبب الإنزال عن طريق استثارة الحشفة، وبما أن هذه العملية لا تحتاج إلى مخدر، فإن المريض سيشعر باللذة ولابد، فتكون بمثابة الاستمناء، وإن كانت عن طريق جهاز القذف الآلي فيفطر كذلك لأن المريض يقصده قصدًا فلم يشبه الاحتلام.

25 -

لا تؤثر عملية شفط الدهون على الصوم إلا ما كان من أمر المحاليل المغذية التي تُعطى أثناء التخدير.

26 -

يُعد الدم الذي تراه الآيسة بعد تناولها للعلاج الهرموني البديل حيضًا إن توافرت فيه صفات دم الحيض من حيث اللون والرائحة والقوام، وذلك لأنه يشبه دم الحيض الطبيعي، بل إن الآيسة التي تتناول هذا الدواء ويأتيها مثل هذا الدم يمكنها الحمل باستخدام بويضة

ص: 194

لها كانت قد خزنتها قديمًا في ثلاجات المستشفى أو باستخدام بويضة متبرع بها من امرأة أخرى. المقصود بيان تشابه الدمين من حيث الخصائص، فوجب إثبات نفس الحكم.

27 -

لا يفطر وضع اللولب أثناء الصوم، وأما التبقعات الدموية التي تراها الصائمة الواضعة للولب، فإن كانت أثناء الشهر فلا تعد حيضًا ولا تفسد الصوم، وإن كانت أثناء الدورة بحيث تؤدي إلى إطالة مدة الدورة، سواء من أولها أو آخرها، فإنها حيض ما لم تر الطهر.

* * *

ص: 195

الفصل الثامن الكفارة وما يتعلق بها من أحكام

وفيه مباحث:

المبحث الأول: حكم الصائم المجامع في نهار رمضان عامدًا.

المبحث الثاني: هل تجب الكفارة على المرأة إذا طاوعت الرجل على الجماع في

نهار رمضان؟

المبحث الثالث: جماع الناسي والجاهل والمكره.

المبحث الرابع: ماذا عليه إن جامع في يوم واحد مرتين؟

المبحث الخامس: من جامع ثم كفر ثم جامع ماذا عليه؟

المبحث السادس: إذا جامع في أيام، هل يجب لكل يوم كفارة؟

المبحث السابع: إن عجز عن العتق والصيام والإطعام، هل تسقط الكفارة؟

المبحث الثامن: هل الكفارة مرتبة ككفارة الظهار أم على التخيير؟

المبحث التاسع: فيمن طلع عليه الفجر وهو مجامع.

المبحث العاشر: هل يشترط أن تكون رقبة مؤمنة؟

المبحث الحادي عشر: مقدار الإطعام.

المبحث الثاني عشر: هل تجب الكفارة بالإفطار بالأكل والشرب متعمدًا؟

المبحث الثالث عشر: من جامع ظانًّا عدم طلوع الفجر فبان خلافه.

المبحث الرابع عشر: رجل أراد أن يجامع فأكل قبل الجماع، فهل عليه كفارة.

المبحث الخامس عشر: إذا جامع في أول النهار ثم مرض أو جن، ماذا عليه؟

المبحث السادس عشر: إذا جامع في قضاء رمضان، هل عليه كفارة؟

ص: 197

‌الفصل الثامن الكفارة وما يتعلق بها من أحكام

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: حكم الصائم المجامع في نهار رمضان عامدًا:

اتفق الفقهاء على أن الصائم إذا جامع امرأته عامدًا في نهار رمضان - فسد صومه ووجبت عليه الكفارة بالنص والإجماع.

ففي الصحيحين من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ الله!! قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟» . قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِى في رَمَضَانَ. قَالَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِىَ النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهَذَا» . قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا. فَضَحِكَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» .

فمن جامع امرأته فعليه عتق رقبة، فإن عجز عنها فصيام شهرين متتابعين، فإن عجز فإطعام ستين مسكينًا.

قال النووي: فِي الْبَاب حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي الْمُجَامِع اِمْرَأَته فِي نَهَار رَمَضَان، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة وُجُوب الْكَفَّارَة عَلَيْهِ إِذَا جَامَعَ عَامِدًا جِمَاعًا أَفْسَدَ بِهِ صَوْم يَوْم مِنْ رَمَضَان.

قال الكاساني

(1)

: وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُلِ بِالْجِمَاعِ.

قلت: والجماع هو تغييب الحشفة أو الإيلاج.

(1)

«بدائع الصنائع» (2/ 98).

ص: 198

•‌

‌ المبحث الثاني: هل تجب الكفارة على المرأة إذا طاوعت الرجل على الجماع في نهار رمضان؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين

(1)

:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن المرأة إذا طاوعت الرجل على الجماع في نهار رمضان تجب عليها الكفارة كالرجل، وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية في وجه والحنابلة في رواية

(2)

.

واستدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي وقع على امرأته في نهار رمضان.

وجه الدلالة منه: أن إيجاب الكفارة على الرجل المجامع دليل على وجوبها على المرأة؛ لأن الأصل تَسَاوِي الرجال والنساء في الأحكام إلا ما خصَّه الدليل

(3)

.

قال الكاساني

(4)

: النَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي الرَّجُلِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَعْنًى يُوجَدُ فِيهِمَا، وَهُوَ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ بِإِفْطَارٍ كَامِلٍ حَرَامٍ مَحْضٍ مُتَعَمِّدًا؛ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى التَّحَمُّلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِفِعْلِهَا، وَهُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ، وَيَجِبُ مَعَ الْكَفَّارَةِ الْقَضَاءُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

قال الخطابي: قلت: وفى أمره الرجلَ بالكفارة لما كان منه من الجناية دليل على أن للمرأة كفارة مثلها؛ لأن الشريعة قد سوَّت بين الناس في الأحكام إلا في مواضع قام عليها دليلُ التخصيص، وإذًا لزمها القضاء؛ لأنها أفطرت بجماع متعمَّد، كما وجب على الرجل وجبت عليها الكفارة، لهذه العلة كالرجل سواء، وهذا مذهب أكثر العلماء.

(1)

قال ابن رشد «بداية المجتهد» (1/ 304): وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الأثر للقياس، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر المرأة في الحديث بكفارة، والقياس أنها مثل الرجل؛ إذ كان كلاهما مكلفًا.

(2)

«الهداية» (1/ 214)، و «المبسوط» (3/ 72)، و «المدونة» (1/ 191)، و «المجموع» (6/ 331)، و «الإنصاف» (3/ 314)، و «المغني» (4/ 375).

(3)

انظر: «الشرح الممتع» (6/ 415).

(4)

«بدائع الصنائع» (2/ 98).

ص: 199

أما أدلتهم من المعقول: فإنه يفسد صوم المرأة بالجماع؛ لأنه نوع من المفطرات فاستوى فيه الرجل والمرأة كالأكل، فوجبت عليها الكفارة كما وجبت على الرجل

(1)

. وإن المرأة هتكت صوم رمضان بالجماع؛ فوجبت عليها الكفارة كالرجل

(2)

. وإن الجماع موجب للكفارة، فوجب أن تُلْزَم المرأة كما يُلْزَم الرجل، وأن جميع الأحكام المتعلقة بالوطء في حق الواطئ من وجوب الغُسل، والفطر، والحد، والإحصان، والقضاء - محكوم بها في حق الموطوءة، فكذلك وجوب الكفارة.

• القول الآخر: ذهب الشافعي وأحمد في رواية

(3)

إلى أن المرأة إذا طاوعت الرجل - ليس عليها كفارة، وإنما هي كفارة واحدة على الزوج دونها.

واستدلوا لذلك: بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في الرجل الذي وقع على امرأته، وفيه:«أَصَبْتُ أَهْلِي في رَمَضَانَ وَأَنَا صَائِمٌ» .

قال الخطابي: واحتجوا لهذا القول بأن قول الرجل: «أَصَبْتُ أَهْلِي» سؤال عن حكمه وحكمها؛ لأن الإصابة معناها أنه واقعها وجامعها، وإذا كان هذا الفعل قد حصل منه ومنها معًا، ثم أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن المسألة فأوجب فيها كفارة واحدة على الرجل، ولم يعرض لها بذكر، دلَّ على أنه لا شيء عليها، وأنها مجزئة في الأمرين معًا، ألا ترى أنه بعث أُنيسًا إلى المرأة التى رُمِيَت بالزنا، وقال:«فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فلم يُهمِلْ حكمها لغيبتها عن حضرتِه، فدلَّ هذا على أنه لو رأى عليها كفارة لألزمها ذلك ولم يسكت عنها.

قلت: واستدلوا أيضًا بأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولو كانت تجب على

(1)

انظر: «المغني» (4/ 375).

(2)

«شرح فتح القدير» (2/ 338).

(3)

انظر: «المجموع» (6/ 331)؛ قال الماوردي في «الحاوي» (3/ 424): مذهب الشافعي وما نص عليه في كتبه القديمة والجديدة أن الواجب كفارة واحدة على الزوج دونها.

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 379): سُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ أَتَى أَهْلَهُ فِي رَمَضَانَ، أَعْلَيْهَا كَفَّارَةٌ؟ قَالَ: مَا سَمِعْنَا أَنَّ عَلَى امْرَأَةٍ كَفَّارَةً!!

ص: 200

المرأة كفارة لبيَّنها صلى الله عليه وسلم.

وأُجِيبَ عن هذه الاستدلال بما قاله الحافظ ابن حجر

(1)

: وَأُجِيبَ بِمَنْعِ وُجُودِ الْحَاجَة إِذْ ذَاكَ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْتَرِف وَلَمْ تَسْأَلْ، وَاعْتِرَاف الزَّوْج عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ عَلَيْهَا حُكْمًا مَا لَمْ تَعْتَرِفْ، وَبِأَنَّهَا قَضِيَّةُ حَالٍ، فَالسُّكُوت عَنْهَا لَا يَدُلّ عَلَى الْحُكْم لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُون الْمَرْأَة لَمْ تَكُنْ صَائِمَة لِعُذْرٍ مِنَ الْأَعْذَار. ثُمَّ إِنَّ بَيَانَ الْحُكْم لِلرَّجُلِ بَيَان فِي حَقّهَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تَحْرِيم الْفِطْر وَانْتَهَاك حُرْمَة الصَّوْم، كَمَا لَمْ يَأْمُرهُ بِالْغُسْلِ. وَالتَّنْصِيص عَلَى الْحُكْم فِي حَقّ بَعْض الْمُكَلَّفِينَ كَافٍ عَنْ ذِكْرِهِ فِي حَقّ الْبَاقِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَبَب السُّكُوت عَنْ حُكْم الْمَرْأَة مَا عَرَفَهُ مِنْ كَلَام زَوْجِهَا بِأَنَّهَا لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى شَيْء.

قلت (محمد): أما الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: «فإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فهي قضية حال عُرِضت على النبي صلى الله عليه وسلم فحَكَم فيها؛ ولذا فقد ورد في الصحيح أن ماعزًا قال: (زنيتُ)، وأقيم عليه الحد، ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم بمن زنَيْت؟ وكذا الغامدية لم يسألها، وليس هذا يُسْقِط الحد عمن زنى بها بالإجماع؛ فكذا عدم سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة لا يُسْقِط الكفارة عنها، والله أعلم.

قال الخطابي: وهذا غير لازم؛ وذلك أن هذا حكاية حال لا عموم لها، وقد يمكن أن تكون المرأة مفطرة بعذر من مرض، أو سفر، أو تكون مكرهة، أو ناسية لصومها أو نحو ذلك من الأمور، وإذا كان كذلك لم يكن ما ذكروه حجة يلزم الحكمُ بها.

واحتجوا أيضًا في هذا بحرف لا أزال أسمعهم يروونه في هذا الحديث وهو قوله: «هَلَكْتُ، وَأَهَلَكْتُ» . قالوا: فدل قوله: «وَأَهَلَكْتُ» ، على مشاركة المرأة إياه في الجناية؛ لأن الإهلاك يقتضي الهلاك ضرورة، كما أن القطع يقتضي الانقطاع. قلت: وهذه اللفظة غير موجودة في شيءٍ من رواية هذا الحديث، وأصحاب سفيان لم يرووها عنه، وإنما ذكروا قوله:«هَلَكْتُ» حسب، غير أن بعض أصحابنا حدثني أن المعلى بن منصور روى هذا الحديث عن سفيان، فذكر هذا الحرف فيه، وهو غير محفوظ، والْمُعَلَّى ليس

(1)

«فتح الباري» (4/ 170).

ص: 201

بذاك في الحفظ والإتقان

(1)

.

والراجح والله أعلم: أن المرأة إذا كانت مطاوعة، فحكمها حكم الرجل، وأحيانًا تكون المرأة سببًا في ذلك، والأصل أن حكم المرأة كحكم الرجل؛ لأن النساء شقائق الرجال

إلا في مواضع قام عليها دليل التخصيص، ولم يرد في المسألة أن الكفارة على الرجل دون المرأة، وإذا لزمها القضاء لأنها أفطرت بجماع متعمَد كما وجب على الرجل، وجبت عليها الكفارة لهذه العلة كالرجل سواء؛ لأن الرجل والمرأة قد اشتركا في إفساد الصوم وانتهاك حرمة رمضان، وأما حديث «أَصَبْتُ أَهْلِي» فهي حكايةُ حال لا عموم فيها، أما من استدلّ بلفظة «هَلَكْتُ، وَأَهَلَكْتُ» فلفظة (أَهَلَكْتُ) لا تصح في الحديث.

وأما سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة، فلا يدل على سقوطها عنها؛ لأنه سكت عن الغسل مع وجوبه عليهما؛ ولأن التنصيص على حكم في حق بعض المكلفين كافٍ في ذكره عن الآخرين.

•‌

‌ المبحث الثالث: جماع الناسي والجاهل والمكره:

اختلف أهل العلم في جماع الناسي والجاهل على ثلاثة أقوال

(2)

:

• القول الأول: أن الصائم إذا جامع جاهلاً أو ناسيًا، لم يفسد صومه، ولا يجب عليه القضاء ولا الكفارة.

وهو قول الحنفية، والشافعية في الصحيح، والحنابلة في رواية اختارها ابن تيمية.

واستدلوا لذلك بما ورد في «الصحيحين» من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ الله وَسَقَاهُ» .

دل الحديث على أن من أكل أو شرب ناسيًا، صح صومه، ولا قضاء ولا كفارة، وكذلك من جامع ناسيًا؛ لأنه في معناه.

قال الشيرازي: نُصَّ على الأكل والشرب، وقسنا عليهما كل ما يُبطل الصوم من الجماع

(1)

«معالم السنن» (2/ 784).

(2)

«المبسوط» (3/ 65)، «الأم» (2/ 106)، «الفتاوى» (25/ 226).

ص: 202

وغيره

(1)

.

واعْتُرِضَ على هذا الاستدلال بأنه نَصَّ على الأكل والشرب ولم يذكر نسيان الجماع؛ فلا يصح قياسه عليهما؛ لأن حكمه أغلظ ويمكن التحرز منه.

وأُجِيبَ بأن الجماع في معنى الأكل والشرب، وحُرمة الجماع عامدًا ليست أغلظ من الأكل والشرب، والنسيان ولو حدث فالقياس صحيح.

الدليل الثاني: حديث أبى هريرة في قصة الرجل الذى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يَا رَسُولَ الله هَلَكْتُ؛ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ.

لفظة (هَلَكْتُ) تدل على العمد.

قال ابن قدامة

(2)

: الأحاديث الواردة في الكفارة في الجماع، فإنما هى في جماع العمد؛ ولهذا قال في بعضها:(هلكت)، وفى بعضها (احترقت)، وهذا لا يكون إلا في عامد، فإن الناسي لا إثم عليه بالإجماع.

قال ابن حجر

(3)

: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَامِدًا؛ لِأَنَّ الْهَلَاك وَالِاحْتِرَاقَ مَجَازٌ عَنْ الْعِصْيَانِ الْمُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ.

أما دليلهم من المأثور: فعن مجاهد قال: «لو وطئ رجل امرأته وهو صائمٌ ناسيًا في رمضان، لم يكن عليه فيه شيء

(4)

.

وعن الحسن فيمن وطئ امرأته ناسيًا: قال: هو بمنزلة الأكل والشرب»

(5)

.

القول الثاني: أن من جامع جاهلاً أو ناسيًا، فسد صومه ووجب عليه القضاء دون الكفارة، وهو قول المالكية في الصحيح من المذهب، والحنابلة في رواية

(6)

.

(1)

«المهذب» (2/ 608).

(2)

«المغني» (4/ 377).

(3)

«فتح الباري» (4/ 164).

(4)

أخرجه عبد الرزاق (7375).

(5)

إسناده ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (7377).

(6)

انظر: «المدونة» (1/ 209)، و «بداية المجتهد» (1/ 303)، و «الإنصاف» (3/ 311).

ص: 203

واستدلوا لذلك بالكتاب والسنة والقياس:

أما دليلهم من القرآن فعموم قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وقد دلت هذه الآية على أن الصيام المأمور بإتمامه ترك الوطء والأكل، فإن وُجِد فيه الجماع لم يتم صومه.

واعترض عليه: بأن هذه الآية عامة، وقد خرج الناسي من عمومها بدليلٍ خاصٍّ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ الله وَسَقَاهُ» .

أما دليلهم من السنة: فاستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمَر المجامِع بالقضاء بقوله «وَصُمْ يومًا مَكَانَهُ» ولم يسأل عن حاله، هل كان عامدًا أو ناسيًا؟

واعْتُرِضَ عليه من وجهين:

الأول: أن هذه اللفظة لا تصح.

الثاني: لو صحت فليس فيها دليل لهم، بل فيه دليل عليهم، وهي قول الرجل (هلكت)، وهذه تدل على العمد.

وأما دليلهم من القياس: فقاسوا ناسي الصوم على ناسي الصلاة، فكما أن ناسي الصلاة يجب عليه قضاؤها بالنصِّ إذا ذكرها، فكذلك ناسي الصوم.

واعْتُرِض عليه: بأن العبادات لا تقاس على بعضها.

قال ابن رشد: إيجاب القضاء بالقياس فيه ضعف

(1)

.

وأما دليلهم على سقوط الكفارة: فقالوا: لأن الكفارة وجبت لرفع الإثم، والناسي مرفوع عنه الإثم؛ لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله: قد فعلت.

القول الثالث: أن من جامع ناسيًا أو جاهلاً - كمن جامع عامدًا يفسد صومه ويجب عليه القضاء والكفارة. وهو قول الحنابلة في الصحيح من المذهب، وقول للمالكية

(1)

«المغني» (4/ 374)، و «الإنصاف» (3/ 311)، و «المجموع» (6/ 324).

ص: 204

وقول الشافعية بحديث المجامع أهله في نهار رمضان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب عليه القضاء والكفارة، ولم يستفصل، ولو افترق الحال لسأل واستفصل، والقاعدة الأصولية تؤيده وهي:«تَرْكُ الاسْتِفْصَال فِي حِكَايَةِ الْحَالِ مَعَ قِيَامِ الاحْتِمَالِ، يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ»

(1)

وأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

قال ابن قدامة

(2)

: أَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم الرجلَ الذي وقع على امرأته بالكفارة، ولم يسأْله العمد، ولو افترق الحالُ لسأل واستفصل.

قال الزركشي

(3)

: يجب القضاء والكفارة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصله بين أن يكون ناسيًا أو عامدًا، ولو اختلف الحكم لاستفصله وبَيَّن له.

واعْتُرِضَ على هذا الاستدلال من أوجه:

1 -

أنه قد تبيَّن حال الرجل أنه كان عامدًا لقوله: «هلكت» لأن النسيان لا يوجب هلاك العبد؛ لأنه لا قدرة له على دفعه.

2 -

دخول النسيان في الجماع في نهار رمضان احتمال بعيد، ولأنه بين الرجل والمرأة، وأنه لو نَسِي أحدهما قد يتذكر الآخر.

3 -

أن الحديث حكاية حال، فليس له عموم.

وأما دليلهم من القياس: فقاسوا الجماع في الصوم على الجماع في الحج، فكما أن من جامع

ناسيًا في الحج، تجب عليه الكفارة، فكذلك في الصوم

(4)

.

وأُجِيبَ بأن العبادات لا تقَاس على بعضها.

والراجح والله أعلم: أن من جامع امرأته ناسيًا في نهار رمضان - فلا قضاء عليه ولا كفارة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ الله وَسَقَاهُ» . والحديث صح أن أكل الناسي لا يفطر، والجماع في معناه؛ ولأن النسيان

(1)

انظر: «المبدع» (3/ 81)، و «كشاف القناع» (2/ 361)، و «تحفة الأحوذي» (3/ 342).

(2)

«المغني» (4/ 374).

(3)

«شرح الزركشي» (2/ 592).

(4)

انظر: «الحاوي» (3/ 430)، و «المغني» (4/ 375).

ص: 205

والإكراه والجهل معفو عنهم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

: قَدْ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مَحْظُورًا مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا - لَمْ يُؤَاخِذْهُ الله بِذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ إثْمٌ، وَمَنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا وَلَا مُرْتَكِبًا لِمَا نُهِيَ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُبْطِلُ عِبَادَتَهُ إنَّمَا يُبْطِلُ الْعِبَادَاتِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ فَعَلَ مَا حُظِرَ عَلَيْهِ.

وأما الأحاديث الواردة في الكفارة في الجماع، فإنما هي في جماع العمد؛ ولهذا قال في بعضها:«هلكت» ، وفي بعضها:«احترقت» وهذا لا يكون إلا في عامد، فإن الناسي لا إثم عليه بالإجماع

(2)

.

•‌

‌ المبحث الرابع: ماذا عليه إن جامع في يوم واحد مرتين؟

أجمعوا على أن من وطئ مرارًا في يوم واحد، أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة

(3)

.

•‌

‌ المبحث الخامس: من جامع ثم كَفَّر ثم جامع ماذا عليه؟

أجمعوا على أن من وطئ في يوم رمضان، ثم كَفَّر، ثم وطئ في يوم آخر أن عليه كفارة أخرى

(4)

.

•‌

‌ المبحث السادس: إذا جامع في يومين، أو في أيام، هل يجب لكل يوم كفارة، أو يجب عليه كفارة واحدة؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين

(5)

:

(1)

«مجموع الفتاوى» (25/ 226).

(2)

انظر: «المغني» (4/ 377).

(3)

«بداية المجتهد» (1/ 306)، وقد نقل الإجماع ابن قدامة «المغني» (6/ 385).

(4)

«بداية المجتهد» (1/ 306)، وقد نقل الإجماع ابن قدامة «المغني» (6/ 386).

(5)

قال ابن رشد: وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُ الْكَفَّارَاتِ بِالْحُدُودِ: فَمَنْ شَبَّهَهَا بِالْحُدُودِ قَالَ: كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا يَلْزَمُ الزَّانِيَ جَلْدٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ زَنَى أَلْفَ مَرَّةٍ إِذَا لَمْ يُحَدَّ لِوَاحِدَةٍ مِنْهَا. وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهَا بِالْحُدُودِ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَيَّامِ حُكْمًا مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ فِي هَتْكِ الصَّوْمِ فِيهِ أَوْجَبَ فِي كُلِّ يوم كَفَّارَةً، قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا نَوْعٌ مِنَ الْقُرْبَةِ، وَالْحُدُودُ زَجْرٌ مَحْضٌ.

ص: 206

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن من جامع في يومين، أن لكل يوم كفارة، وهو قول مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، والليث، وابن المنذر، وروي ذلك عن عطاء ومكحول

(1)

.

قالوا: لأن كل يوم له حرمة، فمن هتك الصوم فيه، وجب عليه لكل يوم كفارة.

قال النووي

(2)

: وإن جامع في يومين، أو في أيام، وجب لكل يوم كفارة؛ لأن صوم كل يوم عبادة منفردة، فلم تتداخل كفارتها كالعمرتين، وإن جامع في يوم مرتين لم يلزمه للثاني كفارة؛ لأن الجماع الثاني لم يصادف صومًا.

• القول الثاني: أن من جامع في يوم من رمضان، ولم يكفر حتى وطئ في يوم ثانٍ، قال أبو حنيفة وأصحابه: عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الجماع الأول. وهو قول الزهري، والأوزاعي، وهو رواية عند أحمد

(3)

.

واستدلوا: بقياس الكفارات على الحدود، فكما لو زنى ألف مرة فليس عليه إلا حد واحد، فكذا لو جامع في أيام رمضان لا يجب عليه إلا كفارة واحدة.

واعْتُرِض عليه: بأنه قياس مع الفارق؛ لأن كل يوم عبادة منفردة، فمن هتك الصوم فيه، وجب عليه لكل يوم كفارة.

الراجح والله أعلم: أنه إذا جامع في يومين من رمضان فعليه لكل يوم كفارة؛ لأن كل يوم عبادة منفردة لا تتداخل كفارتها بخلاف الحدود.

•‌

‌ المبحث السابع: إن عجز عن العتق والصيام والإطعام، هل تسقط عنه الكفارة، أم تستقر في ذمته كالديون؟

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 306)، و «المجموع» (6/ 336)، و «المغني» (4/ 385 - 386).

(2)

«المجموع» (6/ 336).

(3)

«بداية المجتهد» (1/ 306)، و «المغني» (4/ 385، 386).

ص: 207

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين

(1)

:

• القول الأول: أن المجامع في نهار رمضان إذا عجز عن العتق والصيام والإطعام - سقطت الكفارة. وهو قول الشافعي في رواية، وأحمد في رواية

(2)

.

قال النووي

(3)

: احْتَجَّ لِهَذَا الْقَوْل بِأَنَّ حَدِيث هَذَا الْمُجَامِع ظَاهِر بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرّ فِي ذِمَّته شَيْء؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِعَجْزِهِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْكَفَّارَة ثَابِتَةٌ فِي ذِمَّته، بَلْ أَذِنَ لَهُ فِي إِطْعَام عِيَاله.

• القول الثاني: أن المجامع في نهار رمضان إن عجز عن العتق والصيام والإطعام، فالكفارة تستقر في ذمته، ومتي أيسر فإنها تجب عليه. وهو قول الزهري، ورواية ثانية عن أحمد، وهو قياس قول أبي حنيفة، والثوري، وأبي ثور، وعن الشافعي كالمذهبين

(4)

.

استدلوا بأن المجامع أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عاجز عن الخصال الثلاث، ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة، ولوكانت تسقط لم يكن عليه شيء.

واعترض عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في إطعام عياله، ولو كانت واجبة عليه الكفارة لبينه له عليه السلام أنه متى أيسر أخرجها، فلما لم يَرد عُلم أن اعتبار الوجوب في حالة الوطء.

استدلوا بالقياس على الديون، كما أنه يجب على المعسر أداء الديون إذا أيسر، فكذلك إذا عجز المجامع عن العتق والكفارة والإطعام وقت الوجوب، فإنها تجب عليه إذا أيسر.

واعترض عليه بأنه لا يصح القياس على الديون؛ لأنه اطراح للنص بالقياس، والنص أَوْلى، والاعتبار بالعجز في حالة الوجوب وهي حالة الوطء.

(1)

قال ابن رشد «بداية المجتهد» (1/ 306): وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ حُكْمٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشَبَّهَ بِالدُّيُونِ، فَيَعُودُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْإِثْرَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَبَيَّنَهُ لَهُ عليه الصلاة والسلام.

(2)

«شرح مسلم» (4/ 234)، و «المغني» (4/ 385).

(3)

«شرح مسلم» (4/ 334).

(4)

«شرح مسلم» (4/ 234)، و «المغني» (4/ 385).

ص: 208

قال ابن قدامة

(1)

: وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، سَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا دَفَعَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم التَّمْرَ، وَأَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ إلَيْهِ، قَالَ:«أَطْعِمْهُ أَهْلَك» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى.

•‌

‌ المبحث الثامن: هل الكفارة مرتبة ككفارة الظهار أم على التخيير؟

وأعني بالترتيب أن لا ينتقل المكلف إلى واحد من الواجبات المخيرة إلا بعد العجز عن الذي قبله، وأعني بالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداء من غير عجز عن الآخر.

• اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: قول جمهور العلماء: أن كفارة الوطء في رمضان ككفارة الظهار في الترتيب، يلزمه العتق إن أمكنه، فإن عجز عنه انتقل إلى الصيام، فإن عجز انتقل إلى الإطعام، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ورواية عن أحمد

(2)

.

واستدلوا لذلك بما روى مسلم

(3)

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ في رَمَضَانَ فَاسْتَفْتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «وَهَلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» . ظاهر الحديث أنها على الترتيب، أي: عتق رقبة، فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، إذ سأله النبي صلى الله عليه وسلم على الاستطاعة مرتبًا.

• القول الآخر: ذهب مالك، وأحمد في رواية إلى أن الكفارة على التخيير بين العتق والصيام والإطعام، وبأيهما كفَّر أجزأه أن يفعل ما يشاء ابتداءً من غير عجز عن الآخر

(4)

.

(1)

«المغني» (4/ 385).

(2)

«المغني» (4/ 380)، و «بداية المجتهد» (1/ 304).

(3)

هذا اللفظ لمسلم (82)(1111).

(4)

«بداية المجتهد» (1/ 304)، و «المغني» (4/ 380).

ص: 209

واستدلوا لذلك بما روى مسلم

(1)

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» .

وجه الدلالة: «أو» حرف تخيير بين العتق والصيام والإطعام، وبأيهما كفر أجزأه، والمراد بالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداءً من غير عجز عن الآخر.

واعْتُرِضَ على هذا الاستدلال بأن «أو» للتقسيم هنا، تقديره يعتق أو يصوم إن عجز عن العتق، أو يطعم إن عجز عن الصيام.

قال النووي «شرح مسلم» : لَفْظَة «أَوْ» هُنَا لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، تَقْدِيره: يُعْتِق أَوْ يَصُوم إِنْ عَجَزَ عَنْ الْعِتْق، أَوْ يُطْعِم إِنْ عَجَزَ عَنْهُمَا. وَتُبَيِّنُهُ الرِّوَايَاتُ الْبَاقِيَةُ.

الراجح: أن الكفارة مرتبة ككفارة الظهار، والكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا؛ لحديث أبي هريرة، أَنَّ رَجُلاً وَقَعَ بِامْرَأَتِهِ فَاسْتَفْتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:«هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» .

وأما حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» .

فهذا الحديث مجمل. والآخر مفصل، فيُحمل المجمل على المفصل.

ولفظة «أو» هنا للتقسيم لا للتخيير، تقديره: يعتق أو يصوم إن عجز عن العتق، أو

(1)

أخرجه مسلم (84)(1111). قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الرجل يجامع أهله في شهر رمضان؟ قال: اختلفوا في حديث الزهري: فقال مالك، وابن جريج، عن الزهري في الحديث: عليه عتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينًا، على التخيير. قال أبي: وخالفهما ابن عيينة، وإبراهيم بن سعد، وغيرهما، فقالوا عن الزهري في الحديث: عليه عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يقدر على الصيام، فإطعام ستين مسكينًا - خالفوهما - ولم يقل: يقولان على التخيير، والحيطة عندي فيما قال هؤلاء.

وأما مالك، وابن جريج، فحافظان، ابن جريج سمعه من الزهري، يقول: حدثنا ابن شهاب، مالك وابن جريج مستثنيان. في «مسائل عبد الله بن أحمد ص 189» .

ص: 210

بطعم إن عجز عنهما وتبينه الروايات الباقية.

وخاصة أن مخرج الحديث متحد مع الحديث الآخر، والآخر مفصل، فيحمل المجمل على المفصل، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث التاسع: فيمن طلع عليه الفجر وهو مجامع،

وفيه مطلبان:

•‌

‌ المطلب الأول: فيمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع في الحال، هل ينتقض صومه؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن صومه صحيح ولا قضاء ولا كفارة؛ لأنه ترك الجماع في الحال. وبه قال أبو حنيفة والشافعي ورواية عن الحنابلة

(1)

.

واستدلوا لذلك بما صح عن ابن عمر أنه كان يقول: «لو نودي بالصلاة والرجل على امرأته لم يمنعه ذلك أن يصوم، إذا أراد الصيام، قام واغتسل ثم أتم صيامه»

(2)

.

وذهب مالك والمزني من الشافعية والحنابلة في رواية إلى أنه يجب عليه القضاء

(3)

.

واستدلوا لذلك بأنه قد حصل جماع في أول جزء من اليوم أُمر بالكف عنه بسبب سابق من الليل، ولأن الجماع إيلاج وإخراج، فإذا بطل الصوم بالإيلاج بطل بالإخراج

(4)

.

وذهب الحنابلة في رواية إلى أنه يجب عليه القضاء والكفارة

(5)

.

والراجح في المسألة والله أعلم: أنه إذا نزع في الحال مع أول طلوع الفجر، فإنه لا قضاء عليه ولا كفارة، ولأنه لا يقدر على أكثر مما فعله في ترك الجماع، ويُستأنس لذلك بأثر ابن عمر أنه كان يقول: لو نودي بالصلاة والرجل على امرأته، لم يمنعه ذلك أن يصوم إذا أراد الصيام، واغتسل ثم أتم صيامه.

(1)

«المبسوط» (3/ 140)، و «المهذب» (2/ 604)، و «الفروع» (3/ 79).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (4/ 219).

(3)

«حاشية الدسوقي» (1/ 533)، و «المهذب» (2/ 604)، و «الفروع» (3/ 79).

(4)

«الإنصاف» (3/ 322)، و «المهذب» (2/ 604).

(5)

«المغني» (4/ 379).

ص: 211

•‌

‌ المطلب الثاني: من طلع عليه الفجر وهو مجامع فاستدام الجماع.

ذهب جمهور العلماء إلى أنه من طلع عليه الفجر وهو مجامع فاستدام الجماع، أن عليه القضاء والكفارة، وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة

(1)

.

واستدلوا لذلك بأنه ترك صوم رمضان بجماع أثم به لحرمة الصوم، فوجبت به الكفارة كما لو وطئ بعد طلوع الفجر.

وقال أبو حنيفة: يَجِبُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ; لِأَنَّ وَطْأَهُ لَمْ يُصَادِفْ صَوْمًا صَحِيحًا، فَلَمْ يُوجِب الْكَفَّارَةَ، كَمَا لَوْ تَرَكَ النِّيَّةَ وَجَامَعَ، كَمَا أَنَّ شُرُوعَهُ في الصِّيام غير صحيح مع وجود المجامعة

(2)

.

والراجح والله أعلم: أنه إذا طلع الفجر وهو مجامع فاستدام الجماع، فعليه القضاء والكفارة؛ لأنه مجامع نهارًا كما لو ابتدأ به بعد الفجر، ولأن المداومة على الجماع بعد طلوع الفجر دليل على تعمده إفساد الصيام، وانتهاك حرمة الشهر الموجبين للكفارة.

•‌

‌ المبحث العاشر: هل يُشترط أن تكون رقبة مؤمنة؟

ذهب جمهور العلماء إلى أنه يُشترط في كفارة المجامع أن تكون الرقبة مؤمنة لحمل المطلق على المقيد.

ولهذا شواهد في القرآن {{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فالشهادة هنا مقيدة بالعدالة، وقال تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فالشهادة مطلقة فلا بد أن تقيد هذه الشهادة بالعدالة، من باب حمل المطلق على المقيد.

قال المارودي

(3)

: وَدَلِيلُنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ فِيهَا بِأَنَّ لِسَانَ الْعَرَبِ وَعُرْفَ خِطَابِهِمْ يَقْتَضِي حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، فَحُمِلَ عُرْفُ الشَّرْعِ عَلَى مُقْتَضَى لِسَانِهِمْ.

وقد قَيَّد الله تعالى كفارة القتل، كما قيد الشهادة بالعدالة كقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ

(1)

«المجموع» (6/ 338)، و «الإنصاف» (3/ 321).

(2)

» «المغني» (4/ 379).

(3)

» «الحاوي» (13/ 376).

ص: 212

مِنْكُمْ}، وأطلقها في قوله:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فحمل منه المطلق على المقيد في اشتراط العدالة، كذلك الكفارة.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجزئ عتق كافر من كفارة الجماع، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟» .

والراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء، أي أنه لا يجزئ إلا عتق رقبة مؤمنة؛ لأن الرقبة أُطلقت في الكتاب والسنة وقُيدت بالإيمان كما في كفارة القتل، فيُحمل المطلق على المقيد كما في الشهادة

(1)

، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الحادي عشر: ما مقدار الإطعام؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن كفارة المجامع الذي لا يستطيع عتق رقبة ولا صيام شهرين متتابعين - إطعام ستين مسكينًا، لكل مسكين مد، أي ستون مدًّا لستين مسكينًا

(2)

. واستدلوا لذلك بحديث المجامع

فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ. فَقَالَ: «تَصَدَّقْ بِهَذَا» .

قال النووي: قوله: «فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ» ، والعرق عند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعًا، وهو ستون مُدًّا لستين مسكينًا لكل مسكين مُد.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجزئ أقل من مدين لكل مسكين.

واستدلوا لذلك بما رواه مسلم

(3)

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (احْتَرَقْتُ). فقال رَسُولُ الله: «لم؟» قال: وَطِئْتُ امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ نَهَارًا. قَالَ: «تَصَدَّقْ» ، قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِسَ، فَجَاءَهُ عَرَقَانِ فِيهِمَا طَعَامٌ فَأَمَرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ.

والعبرة أنه يطعم ستين مسكينًا كما جاء في الحديث الصحيح، والله أعلم.

(1)

«الحاوي» (3/ 376).

(2)

«بداية المجتهد» (1/ 305)، و «النووي شرح مسلم» شرح حديث (1112).

(3)

» أخرجه مسلم (85)(1112).

ص: 213

•‌

‌ المبحث الثاني عشر: هل تجب الكفارة بالإفطار بالأكل والشرب متعمدًا؟ أو يجب عليه القضاء فقط؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين

(1)

:

• القول الأول: ذهب الشافعي وأحمد وأهل الظاهر إلى أن الكفارة إنما تلزم في الإفطار من الجماع فقط، أما الإفطار بالأكل والشرب فإن عليه الإثم مع القضاء.

• القول الآخر: ذهب أبو حنيفة ومالك وجماعة إلى أن من أفطر في نهار رمضان متعمدًا بأكل أو شرب - أن عليه القضاء والكفارة

(2)

.

استدلوا لذلك بما رواه مسلم

(3)

عن أبى هريرة رضي الله عنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ، أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا.

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَر رجلاً أفطر في رمضان بكفارة المجامع، وهذا عام في كل من أفطر بجماع أو أكل أو شرب أو غيره.

واعترض عليه بما قاله ابن رشد: وأما ما روى مالك أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة المذكورة فليس بحجة؛ لأن قول الراوي «فأفطر» هو مجمل، والمجمل ليس له عموم فيؤخذ به.

قلت: ومخرجه متحد مع مخرج حديث المجامع، أى حديث أبى هريرة، بينما نحن جلوس عند النبي إذ جاءه رجل فقال:(هلكت)، وإذا كان مخرج الحديث متحدًا، يكون تأويله:«أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً «أفطر» ب «أى بجامع» . والحديث الأول مجمل

(1)

قال ابن رشد في «بداية المجتهد» (1/ 402): وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ قِيَاسِ الْمُفْطِرِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْجِمَاعِ:

فَمَنْ رَأَى أَنَّ شَبَهَهُمَا فِيهِ وَاحِدٌ وَهُوَ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، جَعَلَ حُكْمَهُمَا وَاحِدًا.

ومن رأى أنه وإن كانت الكفارة عقابًا لانتهاك الحرمة، فإنها أشد مناسبة للجماع منها لغيره، وذلك أن العقاب المقصود به الردع والعقاب الأكبر قد يوضع لما إليه النفس.

(2)

«بداية المجتهد» (1/ 302)، و «الحاوي» (3/ 289).

(3)

أخرجه مسلم (84)(1111).

ص: 214

والآخر مفصل، فيحمل المجمل على المفصل.

والراجح والله أعلم: أن من أفطر بالأكل والشرب متعمدًا أنه ليس عليه كفارة. وأن الكفارة إنما تلزم في الإفطار من الجماع فقط، وإنما عليه القضاء فقط.

•‌

‌ المبحث الثالث عشر: من جامع ظانًّا عدم طلوع الفجر أو غروب الشمس فبان خلافه:

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن من جامع امرأته معتقدًا بَقاء الليل، ثم تبين أن الفجر قد طلع - أنه عليه القضاء، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية.

واستدلوا بمعنى قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} .

أما دليلهم من المأثور: فعن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال:«أفطر الناس في شهر رمضان في يوم مغيم، ثم نظر ناظر فإذا الشمس. فقال عمر بن الخطاب: الخطب يسير وقد اجتهدنا، تقضي يومًا»

(1)

.

أما دليلهم من المعقول: فلأنه مفرط؛ لأنه كان يمكنه أن يُمْسِك إلى أن يعلم، فلا يُعذر بالقضاء.

• القول الثانى: أن عليه القضاء والكفارة، وهو المشهور من مذهب أحمد.

واستدلوا لذلك بحديث أبى هريرة رضي الله عنه في الرجل الذى وقع على امرأته في نهار رمضان.

وجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع بالتكفير من غير تفريق ولا تفصيل، ولأنه

(1)

هذا الأثر فيه خلاف في سنده ومتنه، أخرجه عبد الرزاق (7393)، عن الثوري، عن جبلة بن سحيم، عن علي بن حنظلة، بلفظ قريب من هذا، وأخرجه عبد الرزاق (7394)، عن الثوري قال: حدثنى زياد بن علاقة، عن بشر بن قيس به.

وأخرجه عبد الرزاق (7395) قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن زيد بن وهب قال: «أفطر الناس في زمان عمر. قال: فرأيت عساسًا خرجت من بيت حفصة فشربوا في رمضان، ثم طلعت الشمس من سحاب، فكان ذلك شق على الناس، وقالوا: نقضي هذا اليوم، فقال عمر: ولمَ؟ فوالله ما تجنفنا لإثم. ورجح البيهقي الرواية التي فيها القضاء، واستنكر رواية ابن أسلم.

ص: 215

أفسد صوم رمضان بجماع تام، فوجبت عليه الكفارة

(1)

.

• القول الثالث: لا قضاء ولا كفارة، وهو قول أحمد في رواية، اختارها شيخ الإسلام، وقال: وهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنَ السَّلَفِ: كَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَإِسْحَاقَ، وَدَاوُدَ، وَأَصحابِهِ وَالْخَلَفِ. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: مَنْ أَكَلَ مُعْتَقِدًا طُلُوعَ الْفَجْرِ، ثُمَّ تبيَّن لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْه.

واستدلوا لذلك بعموم قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].

وجه الدلالة من الآية: أن الله قد أباح الأكل والشرب والجماع حتى يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وهذا المجامع قد شك في طلوع الفجر وغروب الشمس، فلم يتبيَّن له شيء، فيصح صومه، ولا قضاء ولا كفارة

(2)

.

واستدلوا بما ورد في «مسلم» : {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله: قَدْ فَعَلْتُ.

روى البخاري

(3)

عن أسماء قالت: «أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي يوم، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ» .

وجه الدلالة: أنهم أفطروا في النهار بناءً على أن الشمس قد غربت ثم طلعت الشمس، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرهم بالقضاء، ولو كان القضاء واجبًا، لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فلما لم يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُنقل إلينا، فالأصل براءة الذمة وعدم القضاء.

أما دليلهم من المأثور: فعَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَتَى أَدَعُ السُّحُورَ؟ فَقال رَجُلٌ جَالِسٌ عِنْدَهُ: «كُلْ حَتَّى إذَا شَكَكْت فَدَعْهُ، فَقَالَ: كُلْ مَا

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (25/ 264)، و «الشرح الممتع» (6/ 408).

(2)

انظر: «المغني» (4/ 379).

(3)

أخرجه البخاري (1959)، وفيه: قِيلَ لِهِشَامٍ: فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: لا بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ. وَقَالَ مَعْمَرٌ سَمِعْتُ هِشَامًا: لَا أَدْرِي أَقَضَوْا أَمْ لَا.

ص: 216

شَكَكْت حَتَّى لَا تَشُكَّ»

(1)

.

وَهَذَا الْقَوْلُ أَصح الْأقوال، وَأَشْبَهُهَا بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ قِيَاسُ أُصُولِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ الله رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَنِ النَّاسِي وَالْمُخْطِئِ، وَهَذَا مُخْطِئٌ، وَقَدْ أَبَاحَ الله الْأَكْلَ وَالْوَطْءَ حَتَّى يَتبيَّن الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، وَاسْتُحِبَّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَمَنْ فَعَلَ مَا نُدِبَ إلَيْهِ وَأُبِيحَ لَهُ، لَمْ يُفَرِّطْ، فَهَذَا أَوْلَى بِالْعُذْرِ مِنَ النَّاسِي، وَالله أَعْلَمُ.

•‌

‌ المبحث الرابع عشر: رجل أراد أن يجامع، فأكل قبل الجماع، فهل عليه كفارة؟

سُئِلَ شيخُ الإسلامِ عَنْ رَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوَاقِعَ زَوْجَتَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالنَّهَارِ، فَأَفْطَرَ بِالْأَكْلِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ، ثُمَّ جَامَعَ، فَهَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَمْ لَا؟ وَمَا عَلَى الَّذِي يُفْطِرُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ؟

فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِله، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَانِ:

أَحَدُهُمَا: تَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِهِمْ: كَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.

وَالثَّانِي: لَا تَجِبُ، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِيِّ.

قلت: «ورجح شيخ الإسلام القضاء والكفارة» .

قال: وَذَلِكَ لِأَنَّ هَتْكَ حُرْمَةِ الشَّهْرِ حَاصِلَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ بَلْ هِيَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَشَدُّ؛ لأنه عَاصٍ بِفِطْرِهِ أَوَّلًا، فَصَارَ عَاصِيًا مَرَّتَيْنِ، فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ أَوْكَدَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَجِبِ الْكَفَّارَةُ عَلَى مِثْلِ هَذَا لَصَارَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ لَا يُكَفِّرَ أَحَدٌ، فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ أَنْ يُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ إلَّا أَمْكَنَهُ أَنْ يَأْكُلَ ثُمَّ يُجَامِعُ، بَلْ ذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ، فَيَكُونُ قَبْلَ الْغَدَاءِ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ، وَإِذَا تَغَدَّى هُوَ وَامْرَأَتُهُ ثُمَّ جَامَعَهَا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهَذَا شَنِيعٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَرِدُ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ أَنَّهُ كُلَّمَا عَظُمَ الذَّنْبُ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ أَبْلَغَ، وَكُلَّمَا قَوِيَ الشَّبَهُ قَوِيَتْ، وَالْكَفَّارَةُ فِيهَا شَوْبُ الْعِبَادَةِ وَشَوْبُ الْعُقُوبَةِ،

(1)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (9067). وأخرجه عبد الرزاق (7368) عن ابن عيينة، عن الحسن بن عبيد الله، عن مسلم بن صبيح قال: قال رجل لابن عباس: أرأيت إذا شككت في الفجر، وأنا أريد الصيام؟ فقال: كل ما شككت حتى لا تشك.

ص: 217

وَشُرِعَتْ زَاجِرَةً وَمَاحِيَةً، فَبِكُلِّ حَالٍ قُوَّةُ السَّبَبِ يَقْتَضِي قُوَّةَ الْمُسَبَّبِ، ثُمَّ الْفِطْرُ بِالْأَكْلِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، فَلَا أَقَلَّ أَنْ يَكُونَ مُعِينًا لِلسَّبَبِ الْمُسْتَقِلِّ، بَلْ يَكُونُ مَانِعًا مِنْ حُكْمِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ.

ثُمَّ الْمُجَامِعُ كَثِيرًا مَا يُفْطِرُ قَبْلَ الْإِيلَاجِ، فَتَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ، وَالله أَعْلَمُ

(1)

.

•‌

‌ المبحث الخامس عشر: وإذا جامع في أول النهار ثم مرض أو جُن ماذا عليه؟

قال ابن قدامة: وَإِذَا جَامَعَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، ثُمَّ مَرِضَ أَوْ جُنَّ، أَوْ كَانَتِ امْرَأَةً فَحَاضَتْ أَوْ نُفِسَتْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، لَمْ تَسْقُطِ الْكَفَّارَةُ. وَبِهِ قال مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَابْنُ الْمَاجِشُونٍ، وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمْ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ.

والراجح: أنه عليه الكفارة، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث السادس عشر: إذا جامع في قضاء رمضان هل عليه الكفارة؟

ذهب جمهور أهل العلم إلى أن من جامع امرأته في صيام غير رمضان، كصيام النذر، أو التطوع، أو القضاء، أو الكفارة، أنه لا تجب عليه الكفارة.

قال ابن قدامة

(2)

: وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْفِطْرِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقال قَتَادَةُ: تَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ؛ لأنه عِبَادَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي أَدَائِهَا، فَوَجَبَتْ فِي قَضَائِهَا، كَالْحَجِّ، وَلَنَا أَنَّهُ جَامَعَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ كَفَّارَةٌ، كَمَا لَوْ جَامَعَ فِي صِيَامِ الْكَفَّارَةِ، وَيُفَارِقُ الْقَضَاءُ الْأَدَاءَ؛ لأنه مُتَعَيِّنٌ بِزَمَانٍ مُحْتَرَمٍ، فَالْجِمَاعُ فِيهِ هَتْكٌ لَهُ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ.

والراجح: أنه ليس عليه كفارة؛ لأن النص الوارد في وجوب الكفارة جاء بالوطء في نهار رمضان، والله أعلم.

* * *

(1)

«الفتاوى» (25/ 262).

(2)

«المغني» (4/ 378).

ص: 218

الفصل التاسع القضاء وما يتعلق به من أحكام

وفيه مباحث:

المبحث الأول: من عليه أيام من رمضان فلم يقضها حتى أدركه رمضان آخر،

فماذا عليه؟

المبحث الثاني: هل القضاء على الفور أمعلى التراخي؟

المبحث الثالث: حكم صيام التطوع لمن عليه قضاء.

المبحث الرابع: من مات وعليه صيام.

المبحث الخامس: هل يجب التتابع في قضاء رمضان؟

المبحث السادس: من أفسد صومه بالجماع متعمدًا في نهار رمضان، هل يجب

عليه القضاء؟

المبحث السابع: إذا تساحقت امرأتان ماذا عليهما؟

المبحث الثامن: إذا أصبح مفطرا يعتقد أنه من شعبان فقامت النية بأنه يوم

من رمضان ماذا عليه؟

ص: 219

‌الفصل التاسع القضاء وما يتعلق به من أحكام

•‌

‌ المبحث الأول: من عليه أيام من رمضان فلم يقضها حتى أدركه شهر رمضان آخر، فماذا عليه؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن من عليه أيام من رمضان فلم يقضها حتى أدركه رمضان آخر، أنه يصوم الذي أدركه، ويقضي ما فاته، ويطعم عن كل يوم مسكينًا.

وهو قول ابن عباس

(1)

وأبي هريرة

(2)

، وبه قال مالك والشافعي وأحمد

(3)

واستدلوا لذلك بما ورد في الصحيحين

(4)

من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها تَقُولُ: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ» .

قال الحافظ في شرح حديث عائشة: يؤخذ من حرصها على ذلك في شعبان أنه لا يجوز تأخير القضاء حتى يدخل رمضان آخر.

واعتُرِض عليه بما قاله ابن التركماني: فعموم قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} يقتضي

(1)

روى البيهقي في «الكبرى» (4/ 253) بإسناد صحيح عن ابن عباس {فِي رَجُلٍ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ. قَالَ: يَصُومُ هَذَا وَيُطْعِمُ عَنْ ذَاكَ كُلَّ يوم مِسْكِينًا وَيَقْضِيهِ.

(2)

روى البيهقي (4/ 253) بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «يَصُومُ الَّذِى حَضَرَ، وَيَقْضِى الآخَرَ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يوم مِسْكِينًا» .

(3)

«المجموع» (6/ 366).

(4)

أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (151 - 1146)، ووردت زيادة: (الشُّغْلُ برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (4/ 225): (وفي الحديث دلالة على جواز تأخير رمضان مطلقًا، كان لعذر أو لغير عذر؛ لأن الزيادة لما بينّاه مدرجة.

ص: 220

أن تأخير القضاء ليس بمقيد إلى مجيء رمضان آخر، وتأخير عائشة رضي الله عنها إنما كان لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستمتع بها، وكان في شعبان يشتغل بالصوم فتشغل هي بالقضاء، وفي غير رمضان تتفرغ لخدمته.

وأُجيبَ عنه بما روى أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَيْءٌ لَمْ يَقْضِهِ، لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ»

(1)

.

واعترض عليه بأن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

• القول الآخر: أن من عليه أيام من رمضان فلم يقضها حتى أدركه شهر رمضان آخر - يقضي الذي فاته ولا شيء عليه (أي: لا إطعام عليه)، وهو مذهب أبي حنيفة

(2)

، والبخاري في صحيحه

(3)

، وابن حزم، وهو قول إبراهيم النخعي والحسن وطاوس وحماد بن أبي سليمان

(4)

.

واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].

وجه الدلالة ما قاله القرطبي: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض.

الراجح في المسألة والله أعلم: أنه من كان عليه أيام من رمضان فلم يقضها حتى أدركه رمضان آخر، فليس عليه إلا القضاء فقط، ولا كفارة عليه لقوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

ولم يَحُدَّ الله تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم في ذلك وَقْتًا بِعَيْنِهِ، فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عليهم أَبَدًا حتى يُؤَدَّي أَبَدًا ولم يَأْتِ نَصُّ قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ بِإِيجَابِ إطْعَامٍ في ذلك، فَلَا يَجُوزُ إلْزَامُ ذلك

(1)

أخرجه أحمد (2/ 352)، وفي إسناده ابن لهيعة سيئ الحفظ.

(2)

«بدائع الصنائع» (2/ 104).

(3)

قال البخاري في «الصحيح» (1949): وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرسلًا وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُطْعِمُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الله الْإِطْعَامَ إِنَّمَا قَالَ:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

(4)

«المحلى» (6/ 260).

ص: 221

أَحَدًا؛ لأنه شَرْعٌ وَالشَّرْعُ لَا يُوجِبُهُ في الدِّينِ إلاَّ الله تَعَالَى على لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ.

•‌

‌ المبحث الثاني: هل القضاء على الفور أم على التراخي؟

قال النووي في «شرح مسلم» : وَمَذْهَب مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَجَمَاهِير السَّلَف وَالْخَلَف: أَنَّ قَضَاء رَمَضَان فِي حَقّ مَنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ كَحَيْضٍ وَسَفَرٍ - يَجِب عَلَى التَّرَاخِي، وَلَا يُشْتَرَط الْمُبَادَرَةُ بِهِ فِي أَوَّل الْإِمْكَان، لَكِنْ قَالُوا: لَا يَجُوز تَأْخِيره عَنْ شَعْبَان الْآتِي؛ لِأَنَّهُ يُؤَخِّرُهُ حِينَئِذٍ إِلَى زَمَانٍ لَا يَقْبَلُهُ وَهُوَ رَمَضَانُ الْآتِي، فَصَارَ كَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْمَوْت.

قال القرطبي

(1)

: قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، دل ذلك على وجوب القضاء من غير تعيين لزمان؛ لأن اللفظ مسترسل على الأزمان لا يختص ببعضها دون بعض.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَه إِلَّا فِي شَعْبَانَ. قال: ولنا أن الله تعالى أمر بالقضاء مطلقًا، والأمر المطلق لا يوجب على الفور بل على التراخي، ولهذا لو تطوع جاز بالاتفاق

(2)

.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّطَوُّعُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِوَقْتِ مُوَسَّعٍ، فَجَازَ التَّطَوُّعُ فِي وَقْتِهَا قَبْلَ فِعْلِهَا، كَالصَّلَاةِ يَتَطَوَّعُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا

(3)

.

قال الكاساني

(4)

: قال أَصْحَابُنَا: إنه لَا يُكْرَهُ لِمَنْ عليه قَضَاءُ رَمَضَانَ أَنْ يَتَطَوَّعَ، وَلَوْ كَانَ الوُجُوبُ على الْفَوْرِ لَكُرِهَ له التَّطَوُّعُ قبل الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِلْوَاجِبِ عَنْ وَقْتِهِ الْمَضِيقِ وأَنَّهُ مَكْرُوهٌ.

الخلاصة: على المسلم أن يبادر بقضاء الواجب عليه لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]. ولقول الله في الحديث القدسي: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»

(5)

.

(1)

(الجامع لأحكام القرآن» (2/ 282).

(2)

«العناية على الهداية» (2/ 355).

(3)

«المغني» (4/ 401).

(4)

«بدائع الصنائع» (2/ 104).

(5)

أخرجه البخاري (6502).

ص: 222

•‌

‌ المبحث الثالث: جواز التطوع لمن عليه قضاء:

أولًا: إن قضاء رمضان على التراخي؛ لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع، فجاز التطوع في وقتها، كما في السنن الرواتب، كراتبة الفجر والظهر القَبْلية.

ثانيًا: لم يأت نص من الكتاب أو السنة يمنع من الاشتغال بالتطوع لمن عليه قضاء.

•‌

‌ المبحث الرابع: من مات وعليه صيام لم يَخْلُ من حالين:

• الحال الأولى: أن يموت قبل إمكان القضاء.

قال ابن قدامة

(1)

: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ إمْكَانِ الصِّيَامِ، إمَّا لِضِيقِ الْوَقْتِ، أَوْ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، أَوْ عَجْزٍ عَنِ الصَّوْمِ، فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَقَتَادَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَجِبُ الْإِطْعَامُ عَنْهُ; لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ سَقَطَ بِالْعَجْزِ عَنْهُ، فَوَجَبَ الْإِطْعَامُ عَنْه، كَالشَّيْخِ الْهَرِمِ إذَا تَرَكَ الصِّيَامَ لِعَجْزِهِ عَنْهُ. وَلَنَا أَنَّهُ حَقٌّ لِله تَعَالَى وَجَبَ بِالشَّرْعِ، مَاتَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ إمْكَانِ فِعْلِهِ، فَسَقَطَ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَالْحَجِّ.

قال النووي

(2)

: لو كان عليه قضاء شيء من رمضان، فلم يصم حتى مات، نظرت: فإن أخره لعذر اتصل به الموت، لم يجب عليه شيء؛ لأنه فَرْض لم يتمكن من فعله إلى الموت فسقط حكمه كالحج.

• الحال الثاني: من مات وعليه صيام بعد إمكان القضاء، هل يصوم عنه وليُّه؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يصام عن الميت، بل يطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في الجديد

(3)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة والمأثور:

أما دليلهم من السنة: فعن عبادة بن نسي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من مرض فلم يزل

(1)

«المغني» (4/ 398).

(2)

«المجموع» (6/ 367).

(3)

«فتح الباري» (4/ 228)، و «المغني» (4/ 398)، و «المجموع» (6/ 367).

ص: 223

مريضًا حتى مات، لم يطعم عنه، وإن صح فلم يقضه حتى مات، أطعم عنه»

(1)

.

واعترض عليه بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن عبد الله بن عمر {عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ، فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يوم مِسْكِينًا»

(2)

.

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فأثر عبد الله بن عباس {قال: «لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَكِنْ يُطْعِمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يوم مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ»

(3)

.

وقد صح من حديث ابن عباس قضاء الصيام عن الميت.

فلما أفتى ابن عباس بخلاف ما رواه، دل ذلك على أن العمل بقوله لا بما رواه، وأجيب عنه بأن العبرة بما روى لا بما رأى

(4)

.

• القول الثاني: أن من مات وعليه صيام صام عنه وليه، وبه قال أصحاب الحديث والشافعي في القديم وأبو ثور وطاوس

(5)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في «الصحيحين»

(6)

عن عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» .

(1)

ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (4/ 237) عن الأسلمي عن حجاج بن أرطأة عن عبادة به.

(2)

أخرجه الترمذي (718) وغيره، وفي إسناده أشعث بن سوار: ضعيف. وأخرجه ابن خزيمة (2056، 2057) وغيره، وفي إسناده شريك، ضعيف. وأخرجه البيهقي (4/ 254) من طريق عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية بن أسماء عن ابن عمر موقوف. وصحح الوقف الدارقطني والترمذي والبيهقي.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 175).

(4)

انظر «فتح الباري» (4/ 228)، و «نيل الأوطار» (4/ 280).

(5)

«فتح الباري» (4/ 228)، فقد روى عبد الرزاق (4/ 239) بسنده عن طاوس قال: إذا مات الرجل وعليه صيام رمضان قضى عنه بعض أوليائه قال معمر: وقاله حماد. إسناده صحيح.

(6)

أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147).

ص: 224

وفي «الصحيحين»

(1)

عن ابن عباس {قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: «فَدَيْنُ الله أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» .

• القول الثالث: ذهب أحمد

(2)

والليث وإسحاق وأبو عبيد إلى أنه لا يصام عن الميت إلا في النذر

(3)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة والمأثور والمعقول:

أولًا دليلهم من السنة: فعَنِ ابن عباس {قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ أُمِّى مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ، أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ:«أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّى ذَلِكِ عَنْهَا؟» . قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «فَصُومِى عَنْ أُمِّكِ»

(4)

.

الدليل الثاني: عموم ما في «الصحيحين»

(5)

عن عبد الله بن عباس {أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ. فَقَالَ: «اقْضِهِ عَنْهَا» .

قال الحافظ

(6)

: وَقَالَ اللَّيْث وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَأَبُو عُبَيْد: لَا يُصَام عَنْهُ إِلَّا النَّذْرُ، حَمْلًا لِلْعُمُومِ الَّذِي فِي حَدِيث عَائِشَة - أي قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» - عَلَى الْمُقَيَّد فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس.

اعترض عليه بما قاله الحافظ: وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ حَتَّى يُجْمَعَ بَيْنهمَا، فَحَدِيث اِبْن عَبَّاس صُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ سَأَلَ عَنْهَا مَنْ وَقَعَتْ لَهُ، وَأَمَّا حَدِيث عَائِشَة فَهُوَ تَقْرِيرُ قَاعِدَةٍ

(1)

أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (1148).

(2)

قال أبو داود: سمعت أحمد قال: لا يصام عن الميت إلا في النذر. قلت لأحمد: فشهر رمضان؟ قال: يطعم عنه. (من مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود: رقم 661).

(3)

قال ابن قدامة: (فَأَمَّا صَوْمُ النَّذْرِ فَيَفْعَلُهُ الْوَلِيُّ عَنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَأَبِي ثَوْرٍ)«المغني» (4/ 399).

(4)

أخرجه مسلم (156 - 1148)، ورواه البخاري معلقًا (1953).

(5)

أخرجه البخاري (2761)، ومسلم (1638).

(6)

«فتح الباري» (4/ 228).

ص: 225

عَامَّةٍ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَة فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس إِلَى نَحْو هَذَا الْعُمُوم حَيْثُ قِيلَ فِي آخِرِهِ:«فَدَيْنُ الله أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» .

قال الشوكاني: إنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ صُورَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، يَعْنِي أَنَّهُ مِنَ التَّنْصِيصِ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ، فَلَا يَصْلُحُ لِتَخْصِيصِهِ وَلَا لِتَقْيِيدِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ

(1)

.

والراجح أن قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» ليس هذا الأمر للوجوب عند الجمهور.

وبالغ إمام الحرمين ومن تبعه، فادعوا الإجماع على ذلك، وفيه نظر؛ لأن بعض أهل الظاهر أوجبه

(2)

، فلعله لم يعتد بخلافهم على قاعدته، قلت: والصارف عن الوجوب قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، وعموم قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} .

الْمُرَاد بِقَوْلِهِ: (وَلِيُّهُ) قِيلَ: كُلّ قَرِيب، وَقِيلَ: الْوَارِث خَاصَّة، وَقِيلَ: عَصَبَتُهُ.

وَالْأَوَّل أَرْجَح وَالثَّانِي قَرِيب

(3)

.

•‌

‌ المبحث الخامس: هل يجب التتابع في قضاء رمضان؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن من أفطر أيامًا أنه يستحب أن يقضيها متتابعة، ويجوز تفريقها.

وهو قول ابن عباس وأبي هريرة

(4)

وأنس

(5)

وعروة بن الزبير

(6)

وأبي حنيفة ومالك

(1)

«نيل الأوطار» (4/ 280)، وانظر «فتح الباري» (4/ 228).

(2)

قال ابن حزم في «المحلى» (7/ 2): (وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ فَرْضٍ من قَضَاءِ رَمَضَانَ أو نَذْرٍ أو كفارة وَاجِبَةٍ، فَفَرْضٌ على أَوْلِيَائِهِ أَنْ يَصُومُوهُ عَنْهُ هُمْ أو بَعْضُهُمْ، وَلَا إطْعَامَ في ذلك أَصْلاً، أَوْصَى بِهِ أو لم يُوصِ بِهِ).

(3)

«فتح الباري» (4/ 228).

(4)

روى ابن أبي شيبة (3/ 32) بسند صحيح عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: (لَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ مُتَفَرِّقًا).

(5)

روى ابن أبي شيبة (3/ 32) بسند صحيح عن أنس قال: (إِنْ شئت فَاقْضِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا، وَإِنْ شئت مُتَفَرِّقًا).

(6)

روى ابن أبي شيبة (3/ 34) بسند صحيح عن عروة بن الزبير قال: (يُواتِر قَضَاء رَمَضَانَ).

ص: 226

والشافعي وأحمد

(1)

.

واستدلوا لذلك بعموم قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ولا يشترط أن تكون متتابعة.

وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، فَقَالَ:«ذَاكَ إلَيْك» ، فَقَالَ:«أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ، فَقَضَى الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ، أَلَمْ يَكُ قَضَى؟ وَالله أَحَقّ أَنْ يَعْفُوَ وَيَغْفِرَ»

(2)

.

• القول الثاني: قال ابن عمر وعائشة والحسن البصري وداود الظاهري: إنه يجب التتابع في قضاء رمضان

(3)

.

عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نَزَلَتْ (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ) فَسَقَطَتْ (مُتَتَابِعَاتٍ)

(4)

.

الراجح: مذهب الجمهور أنه يستحب تتابعه، ويجوز تفريقه لعموم قوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .

•‌

‌ المبحث السادس: من أفسد صومه بالجماع متعمدًا في نهار رمضان، هل يجب عليه القضاء؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

• القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في الصحيح والحنابلة إلى أن من أفسد صومه بالجماع في نهار رمضان متعمدًا، وجب عليه القضاء

(5)

.

• واستدلوا بالسنة والمعقول:

(1)

قال النووي في «المجموع» (6/ 376): مذهبنا أنه يستحب تتابعه، ويجوز تفريقه، وبه قال علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن عباس وأنس وأبو هريرة والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وأحمد.

(2)

إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 32) عن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم به.

(3)

«المجموع» (6/ 367) عن ابن عمر قال في قضاء رمضان: (يتابع بينه)، رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح، وأخرجه عبد الرزاق (4/ 141) عن ابن جريج قال: حدثني ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال: (صمه كما أفطرته).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه الدارقطني (2/ 192).

(5)

«بدائع الصنائع» (2/ 100)، و «التمهيد» (7/ 162)، و «الحاوي» (3/ 423)، و (المغني» (4/ 372).

ص: 227

دليلهم من السنة: الزيادة الواردة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الرجل الذي وقع على أهله في نهار رمضان وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «صُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ»

(1)

.

أما دليلهم من المعقول: فهو أنه أفسد يومًا من رمضان فلزمه قضاؤه، كما لو أفسده بالأكل؛ لأنه إذا وجب القضاء على المريض والمسافر وهما معذوران، فعلى المجامع أَوْلى، ولأن القضاء بدل اليوم الذي أفسده، والكفارة عقوبة الذنب الذي ارتكبه

(2)

.

• القول الثاني: وهو قول بعض الشافعية واختيار ابن تيمية أن من أفسد صومه بالجماع لا يجب عليه القضاء

(3)

.

استدلوا بما ورد في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة وعائشة في الرجل الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، ولم يذكر أحد أمره بالقضاء، ولو كان أمَره بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم، وهو حكم شرعي.

وأما دليلهم من المعقول: فهو أن المُجامع ارتكب إثمًا عظيمًا وذنبًا كبيرًا، ولا ينفعه الندم.

وأُجيب عن استدلالهم بالحديث: بأن عدم أمره بالقضاء لا يدل على سقوط القضاء، بل هو آكد من الكفارة، ووجوب الكفارة دليل على وجوب القضاء، وأما قولهم بأن القضاء لا ينفعه، فهذا غير مسلَّم؛ لأنه بالقضاء تبرأ ذمته من اليوم الذي أفسده، إلى جانب الندم والاستغفار.

• أما القول الثالث: فهو قول بعض الشافعية، وحكي عن الأوزاعي أنه قال: من كَفَّر بالصيام فلا قضاء عليه؛ لأنه صام شهرين متتابعين

(4)

.

قال ابن العربي

(5)

: كلام الأوزاعي ليس بشيء.

الراجح في المسألة: هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من وجوب القضاء على المجامع

(1)

أخرجه ابن ماجه (1671) وغيره، وفي إسناده عبد الجبار بن عمر: ضعيف.

(2)

«المغني» (4/ 372)، و «المهذب» (2/ 610).

(3)

«المجموع» (6/ 331)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 226).

(4)

ا «المجموع» (6/ 331)، و «المغني» (4/ 372)، و «فتح الباري» (4/ 172).

(5)

«عارضة الأحوذي» (3/ 253).

ص: 228

في نهار رمضان؛ لأن من أفسد يومًا من رمضان لزمه قضاؤه، ولأن في القضاء براءة الذمة، ولأن إباحة الجماع للصائم بالليل دليل على تحريمه بالنهار، ومَن فَعَله بطل صومه وعليه قضاء ذلك اليوم.

أما من استدل بحديث «الصحيحين» فلا يلزم من عدم ذكر القضاء أنه لا قضاء؛ لأن الحديث حكاية حال لا عموم فيها، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث السابع: إذا تساحقت امرأتان ماذا عليهما؟

قال ابن قدامة

(1)

: فَإِنْ تَسَاحَقَتِ امْرَأَتَانِ، فَلَمْ يُنْزِلَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ أَنْزَلَتَا فَسَدَ صَوْمُهُمَا.

•‌

‌ المبحث الثامن: إذا أصبح مفطرًا يعتقد أنه من شعبان، فقامت البينة بأنه يوم من رمضان ماذا عليه؟

قال ابن قدامة

(2)

: إذَا أَصْبَحَ مُفْطِرًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ، فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ، لَزِمَهُ الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.

* * *

(1)

«المغني» (4/ 376).

(2)

«المغني» (4/ 387).

ص: 229

‌الفصل العاشر مباحات الصيام

وفيه مباحث

• المبحث الأول: الاغتسال.

• المبحث الثاني: صب الماء البارد على الرأس.

• المبحث الثالث: القبلة للصائم.

• المبحث الرابع: هل يباح السواك للصائم؟

• المبحث الخامس: ذوق الطعام للصائم.

• المبحث السادس: العلك.

ص: 230

‌المبحث الأول: الاغتسال

يباح للصائم إذا جامع امرأته ليلًا أن يغتسل نهارًا، وصومه صحيح.

قال الخطابي

(1)

: أجمع عامة العلماء على أنه إذا أصبح جنبًا في رمضان، فإنه يُتم صومه ويجزئه.

وقال النووي

(2)

: أَجْمَعَ أَهْل هَذِهِ الْأَمْصَار عَلَى صحة صَوْم الْجُنُب، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ اِحْتِلَام أَوْ جِمَاعٍ، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِير الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، ودليل ذلك من الكتاب والسنة: قال تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].

وجه الدلالة من الآية: ما قاله النووي: فَإِنَّ الله تَعَالَى أَبَاحَ الْأَكْل وَالْمُبَاشَرَة إِلَى طُلُوع الْفَجْر. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إِذَا جَازَ الْجِمَاع إِلَى طُلُوع الْفَجْر لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يُصْبِح جُنُبًا، وَيَصِحّ صَوْمُه، وإذا كان الاحتلام بالنهار لا يفسد الصيام بالإجماع، فتَرْك الاغتسال من جنابة تكون ليلًا أَوْلى أن لا يفسد بها الصوم.

وفي «الصحيحين»

(3)

عن عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ {أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ

(1)

«معالم السنن» (2/ 781).

(2)

«شرح صحيح مسلم» (7/ 222).

(3)

أخرجه البخاري (1926، 1925)، ومسلم (1109).

قلت: الأدلة على ذلك كثيرة، ولكن ورد عن أبي هريرة أنه «مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا، فَلَا يَصُمْ» .

وقد حُكي عن بعض التابعين ذلك، قال ابن المنذر: وقال سالم بن عبد الله: لا يصح صومه. وهو الأشهر عن أبي هريرة والحسن البصري وطاوس وعروة، وإن علم بجنابته لم يصح. وقال النخعي: يصح النفل دون الفرض. انظر «شرح السنة» (6/ 280)، و «شرح صحيح مسلم» (7/ 222)، و «فتح الباري» (4/ 147). =

=روى مسلم (1109) عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُصُّ يَقُولُ في قَصَصِهِ: مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ لأَبِيهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ {فَسَأَلَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: فَكِلْتَاهُمَا قَالَتْ: كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى مَرْوَانَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلاَّ مَا ذَهَبْتَ إِلَى أَبِى هُرَيْرَةَ فَرَدَدْتَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ. قَالَ: فَجِئْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبُو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلِكَ كُلِّهِ. قَالَ: فَذَكَرَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ. ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ في ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النبي صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ في ذَلِكَ. قُلْتُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَقَالَتَا في رَمَضَانَ؟ قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ ثُمَّ يَصُومُ.

قال النووي «شرح مسلم» (7/ 222): الْجَوَاب عَنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنِ الْفَضْل عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إِرْشَاد إِلَى الْأَفْضَل، فَالْأَفْضَل أَنْ يَغْتَسِل قَبْل الْفَجْر، فَلَوْ خَالَفَ جَازَ، وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَجَوَابهمْ عَنِ الْحَدِيث: فَإِنْ قِيلَ: كَيْف يَكُون الِاغْتِسَال قَبْل الْفَجْر أَفْضَل، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خِلَافه؟ فَالْجَوَاب: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَيَكُون فِي حَقّه حِينَئِذٍ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّن الْبَيَان لِلنَّاسِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ، وَهَذَا كَمَا تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً فِي بَعْض الْأَوْقَات بَيَانًا لِلْجَوَازِ، وَمَعْلُوم أَنَّ الثَّلَاث أَفْضَل، وَهُوَ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيث. وَطَافَ عَلَى الْبَعِير لِبَيَانِ الْجَوَاز، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّوَاف سَاعِيًا أَفْضَل، وَهُوَ الَّذِي تَكَرَّرَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَنَظَائِره كَثِيرَة.

ص: 231

وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ.

‌المبحث الثاني: صب الماء البارد على الرأس

عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْكُبُ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ بِالسُّقْيَا، إِمَّا مِنَ الْحَرِّ وَإِمَّا مِنَ الْعَطَشِ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ صَائِمًا حَتَّى أَتَى كَدِيدًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ، وَهُوَ عَامُ الْفَتْحِ

(1)

.

(1)

أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 294)، ومن طريقه الشافعي في «المسند» (716)، وأحمد في «المسند» =

(5/ 376)، وأبو داود في «السنن» (2365) من طرق عن مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن عبد البر في «التمهيد» (22/ 47): هَذَا حَدِيثٌ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُسَمِّيَ التَّابِعُ الصَّاحِبَ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ لَا يُسَمِّيَهُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِحَدِيثِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كُلَّهُمْ عُدُولٌ مَرْضِيُّونَ ثِقَاتٌ أَثْبَاتٌ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ.

ص: 232

‌المبحث الثالث: القُبلة للصائم

اختلف أهل العلم في حكم القبلة للصائم على أقوال:

• القول الأول: أن القبلة تباح للصائم: وهذا قول عائشة

(1)

وابن مسعود

(2)

وأبي هريرة

(3)

وسعد بن مالك

(4)

وأبي سعيد

(5)

وابن عباس

(6)

.

وفي «الصحيحين»

(7)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «إِنْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ. ثُمَّ ضَحِكَتْ» .

(1)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7439، 7411).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7422) عن ابن مسعود (كان يباشر امرأته بنصف النهار وهو صائم). وروى عبد الرزاق (7426) عن ابن مسعود في الرجل يُقبل وهو صائم قال: (يقضي يومًا مكانه)، قال سفيان الثوري:(لا يؤخذ بهذا).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (8939) عن أبي هريرة سُئِلَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَقَالَ:(إنِّي أُحِبّ أَنْ أَرفَّ شفَتَيْهَا وَأَنَا صَائِمٌ).

(4)

أخرجه عبد الرزاق (1247) عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم: قيل لسعد بن مالك: تُقَبِّل وأنت صائم؟! قال: (نعم، وآخُذ بمتاعها).

(5)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 59) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَقَالَ:(لَا بَأْسَ بِهَا، مَا لَمْ يَعْدُ ذَلِكَ).

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 60) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَقَالَ:(لَا بَأْسَ بِهَا).

(7)

أخرجه البخاري (1928)، ومسلم (26 - 1106).

ص: 233

روى مسلم

(1)

عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ» .

وروى البخاري

(2)

عن أم سلمة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ.

• القول الثاني: أن القُبلة تحرم للصائم:

واستدلوا بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} ، فإنه منع المباشرة في النهار.

وأجيب بأن المراد في الآية الجماع، وقد بَيَّن ذلك فعله صلى الله عليه وسلم، كما في أحاديث الباب

(3)

.

قال ابن حزم

(4)

: وأما من أبطل الصوم بالقُبلة فاحتجوا بقوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} قلنا: قد صح عن رسول الله إباحة المباشرة، وهو المبين عن الله تعالى مراده منا، فصَحَّ أن المباشرة المحرمة في الصوم إنما هي الجماع فقط.

أما دليلهم من السنة فاستدلوا بحديث مَيْمُونَةَ مَوْلَاةِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا صَائِمَانِ قَالَ: «قَدْ أَفْطَرَا»

(5)

.

واعترض عليه بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فأثر عمر بن الخطاب: كان ينهى عن قبلة الصائم، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم! فقال: ومَن ذا له من الحفظ والعصمة ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

(6)

.

2 -

وعنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَنْهَوْنَ

(1)

أخرجه مسلم (73 - 1106).

(2)

أخرجه البخاري (1929).

(3)

«سبل السلام» (2/ 655).

(4)

«المحلى» (6/ 28).

(5)

ضعيف جدًّا: أخرجه ابن ماجه (1686) وغيره، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِى يَزِيدَ الضِّنِّىِّ عَنْ مَيْمُونَةَ به. قال في «الزوائد»:(إسناده ضعيف لاتفاقهم على ضعف زيد بن جبير وضعف شيخه).

(6)

أخرجه عبد الرزاق «المصنف» (7406) عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب. وفي رواية معمر عن الزهري مقال. وهناك خلاف في سماع سعيد من عمر.

ص: 234

عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ

(1)

.

3 -

أثر عبد الله بن عمر: أنه كان ينهى عن القُبلة للصائم

(2)

.

4 -

أثر عروة بن الزبير: قال: لم أر القُبلة تدعو إلى خير

(3)

.

قلت: وأما الآثار التي وردت عن الصحابة تنهى عن القبلة فلأنها ربما تدعو إلى الجماع، ولذلك لما قيل لعمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، قال: من له من الحفظ والعصمة ما لرسول الله؟!

وقال عروة بن الزبير: لم أر القبلة تدعو إلى خير، وقد صح عن عدد كبير من الصحابة إباحة القبلة

(4)

.

قال الشافعي: وهذا عندي ليس اختلافًا والله أعلم، على ما وصفت ليس اختلافًا منهم، ولكن على الاحتياط؛ لئلا يشتهي فيجامع، وبقدر ما يرى من السائل أو يظن به.

• القول الثالث: أن القبلة مباحة للشيخ محرمة على الشاب.

واستدلوا بالسنة والمأثور.

أما دليلهم من السنة: فعنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ فَرَخَّصَ لَهُ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَسَأَلَهُ فَنَهَاهُ. فَإِذَا الَّذِى رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ وَالَّذِى نَهَاهُ شَابٌّ

(5)

.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة «المصنف» (9425).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق «المصنف» (7425).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه الشافعي: أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه به.

(4)

وعن زيد بن أسلم قال: قيل لأبي هريرة: تُقبل وأنت صائم؟! قال: نعم وأكفحها. يعني يفتح فاه إلى فيها. وعن زيد قال: قيل لسعد بن مالك: تُقبل وأنت صائم؟! قال: نعم، وآخذ بمتاعها.

وعن ابن عباس أنه سئل عن القبلة للصائم فقال: (لا بأس بها).

وعن مسروق قال: سألت عائشة ما يحل للرجل من امرأته صائمًا؟ قالت: (كل شيء إلا الجماع).

(5)

ضعيف: أخرجه أبو داود (2387)، وفي إسناده أبو العنبس: لين الحديث، وأخرجه في «مجمع البحرين» (1541) وفي إسناده عباد بن صهيب: أحد المتروكين.

ص: 235

واعترض عليه بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أثر عبد الله بن عباس: عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، فَأَرْخَصَ فِيهَا لِلشَّيْخِ، وَكَرِهَهَا لِلشَّابِّ

(1)

.

واعترض عليه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل عائشة، وكانت عائشة إذ مات عليه الصلاة والسلام بنت ثمان عشرة سنة، فظهر بطلان من فرَّق بين الشيخ والشاب.

قلت: وورد بسند صحيح أن عائشة بنت طلحة كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وهو صائم في رمضان، فقالت له عائشة: من يمنعك من أن تدنو من أهلك تلاعبها وتُقبلها؟ قال: أُقبلها وأنا صائم؟! قالت: نعم. وعائشة بنت طلحة وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر كانا في الشباب

(2)

.

• القول الرابع: أن القبلة والمباشرة للصائم خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا تجوز لأحد غيره.

واستدلوا بما ورد في «الصحيحين»

(3)

من حديث عائشة قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ، وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ).

واعترض عليه بأن هذا الحديث لا يُثبت الخصوصية.

ودل على ذلك ما رواه مسلم

(4)

عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِى سَلَمَةَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «سَلْ هَذِهِ» - لأُمِّ سَلَمَةَ - فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله قَدْ غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم «أَمَا وَالله إِنِّى لأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» .

(1)

إسناده صحيح: أخرجه مالك «الموطأ» عن زيد بن أسلم عن عطاء به.

(2)

أخرجه عبد الرزاق (7411).

(3)

البخاري (1927)، ومسلم (1106).

(4)

مسلم (1108).

ص: 236

• القول الخامس: لا يجوز تقبيل المرأة وهي صائمة.

واستدلوا لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمس من وجهي شيئًا وأنا صائمة»

(1)

.

واعترض عليه بأن هذا الحديث منكر، وقد صح عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُنِى وَهُوَ صَائِمٌ وَأَنَا صَائِمَةٌ

(2)

.

• القول السادس: أن القُبلة مكروهة.

قال مالك: لَا أُحِبُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يُقَبِّلَ أَوْ يُبَاشِرَ

(3)

.

• القول السابع: أن القُبلة مستحبة.

قال ابن حزم

(4)

: وأما الْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ لِلرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ الْمُبَاحَةِ له، فَهُمَا سُنَّةٌ حَسَنَةٌ نَسْتَحِبُّهَا لِلصَّائِمِ شَابًّا كانَ أو كَهْلاً أو شَيْخًا، وَلَا نبالي أَكَانَ مَعَهَا إنْزَالٌ مَقْصُودٌ إلَيْهِ أو لم يَكُنْ.

(1)

منكر: أخرجه ابن حبان في «موارد الظمآن» (904) قال: أخبرنا عمران بن موسى بن مجاشع، حدثنا عثمان بن أبي زكريا عن العباس بن ذُريح عن الشعبي عن محمد بن الأشعث عن عائشة به، وأخرجه ابن أبي شيبة «المصنف» (3/ 60) قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ ذُرَيْحٍ، عَنْ عَامِرِ، عَنْ مُحَمَّد بْنِ الأَشْعَثِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْتَنِعُ مِنْ وَجْهِي وَأَنَا صَائِمَةٌ. وأخرجه أحمد في «المسند» (6/ 162): حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ الْأَسَدِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَائِشَةَ، بنفس لفظ ابن أبي شيبة، ولقد ورد في «الصحيحين» عن عائشة أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ. انظر «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» (958).

(2)

صحيح: أخرجه أبو داود (2384)، أحمد (6/ 179) من طريق سُفْيَانَ عَنْ سَعْد بْن إِبْرَاهِيمَ عَنْ طَلْحَةَ بن عبد الله بن عثمان عَنْ عَائِشَةَ به. وأخرجه أحمد (6/ 134) بلفظ:(أَهْوَى إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُقَبِّلَنِي فَقُلْتُ: إِنِّي صَائِمَةٌ. قَالَ: «وَأَنَا صَائِمٌ» قَالَتْ: فَأَهْوَى إِلَيَّ فَقَبَّلَنِي)، وأخرجه النسائي في «الكبرى» (9131، 3050)، وابن خزيمة (2004).

(3)

«المدونة» (1/ 175).

(4)

«الممحلى» (6/ 205).

ص: 237

• القول الثامن: أن من مَلَك نفسه جازت له القُبلة، وإلا فلا.

قال الشافعي

(1)

: وَمَنْ حَرَّكَتِ الْقُبْلَةُ شَهْوَتَهُ كَرِهْتُهَا له، وَإِنْ فَعَلَهَا لم يُنْقَضْ صَوْمُهُ، وَمَنْ لم تُحَرِّكْ شَهْوَتَهُ فَلَا بَأْسَ له بِالْقُبْلَةِ، وَمِلْكُ النَّفْسِ في الْحَالَيْنِ عنها أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ مَنْعُ شَهْوَةٍ يُرْجَى من الله تَعَالَى ثَوَابُهَا .... وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا يُنْقَضُ صَوْمُهُ لِأَنَّ الْقُبْلَةَ لو كانت تَنْقُضُ صَوْمَهُ لم يُقَبِّلْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

وقال أيضًا: أخبرنا مَالِكٌ أَنَّ عَائِشَةَ كانت إذَا ذَكَرَتْ ذلك قالت: وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لأربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وَهَذَا عِنْدِي وَالله أَعْلَمُ على ما وَصَفْتُ - ليس اخْتِلَافًا منهم وَلَكِنْ على الِاحْتِيَاطِ لِئَلَّا يَشْتَهِيَ فَيُجَامِعَ وَبِقَدْرِ ما يَرَى من السَّائِلِ أو يَظُنُّ بِهِ

(2)

.

الراجح في المسألة: أن حال المقبل والمباشر لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن تكون القُبلة والمباشرة بدون شهوة، كأن يمس امرأته أو جسمها ليعرف مرضها أو يقبلها، فهذا جائز لأن الأصل فيه الحل

(3)

.

الأمر الثاني: أن تكون القبلة والمباشرة بشهوة، وهذه لها صورتان:

• الصورة الأولى: أن يغلب على ظنه الإنزال، كالشاب قوي الشهوة، أو حديث عهد بزواج.

(1)

«الأم» (2/ 146).

(2)

قال ابن حجر «فتح الباري» (4/ 180): وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ حَالُ الْمُقَبِّلِ، فَإِنْ أَثَارَتْ مِنْهُ الْقُبْلَةُ الْإِنْزَالَ حَرُمَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ يُمْنَعُ مِنْهُ الصَّائِم، فَكَذَلِكَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْهَا الْمَذْي فَمَنْ رَأَى الْقَضَاء مِنْهُ قَالَ: يَحْرُمُ فِي حَقِّهِ. وَمَنْ رَأَى أَنْ لَا قَضَاءَ قَالَ: يُكْرَه. وَإِنْ لَمْ تُؤَدِّ الْقُبْلَةُ إِلَى شَيْء فَلَا مَعْنَى لِلْمَنْعِ مِنْهَا إِلَّا عَلَى الْقَوْل بِسَدِّ الذَّرِيعَة.

قَالَ: وَمِنْ بَدِيع مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلسَّائِلِ عَنْهَا: «أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت؟» فَأَشَارَ إِلَى فِقْهٍ بَدِيع، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ لَا تَنْقُضُ الصَّوْمَ وَهِيَ أَوَّل الشُّرْبِ وَمِفْتَاحُهُ، كَمَا أَنَّ الْقُبْلَةَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاع وَمِفْتَاحُهُ، وَالشُّرْب يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَمَا يُفْسِدهُ الْجِمَاع.

(3)

انظر «المبسوط» (3/ 85)، و «التمهيد» (5/ 114)، و «المجموع» (6/ 323).

ص: 238

قال ابن قدامة

(1)

: إذَا كَانَ ذَا شَهْوَةٍ مُفْرِطَةٍ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إذَا قَبَّلَ أَنْزَلَ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْقُبْلَةُ; لِأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِصَوْمِهِ، فَحَرُمَتْ.

وقال ابن عبد البر

(2)

: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِيهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَلَيْهِ مِنْهَا مَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ.

• الصورة الثانية: أن يُقبل ويباشر بشهوة، ولكنه يأمن على نفسه عدم نزول المني، فهذه الصورة جائزة، والله أعلم.

‌المبحث الرابع: هل يباح السواك للصائم؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: إباحة السواك للصائم في أول النهار وآخره.

وهو قول عمر

(3)

وابن عمر

(4)

وابن الزبير

(5)

وبه قال أبو حنيفة ومالك

(6)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في «الصحيحين»

(7)

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» .

(1)

«المغني» (4/ 361).

(2)

«التمهيد» (5/ 114).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4/ 201) عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، قال: مَا رَأَيْت أَحَدًا أَدْوَمَ سِوَاكًا وَهُوَ صَائِمٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ!!

(4)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 53) عن ابن عمر: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى بَأْسًا بِالسِّوَاكِ لِلصَّائِمِ.

(5)

أثر عن ابن الزبير أنَّهُ كَانَ يَسْتَاكُ مَرَّتَيْنِ، غَدْوَةً وَعَشِيَّةً وَهُوَ صَائِمٌ. ووردت آثار عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس، ولكنها لا تخلو من مقال.

(6)

الاستذكار (253 - 254).

(7)

أخرجه البخاري (887)، ومسلم (252).

ص: 239

وَلَمْ يَسْتَثْنِ مُفْطِرًا دُونَ صَائِمٍ، فَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ لِلصَّائِمِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فَضِيلَةٌ فَهُوَ كالمُفْطِرِ

(1)

.

وعَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:«رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا لَا أُحْصِي يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ»

(2)

.

وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ خَيْرِ خِصَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ»

(3)

.

وعن أَبي إِسْحَاقَ الْخَوَارِزْمِيِّ قال: سَأَلْتُ عَاصِمًا الأَحْوَلَ: أَيَسْتَاكُ الصَّائِمُ؟ قال: نَعَمْ. قُلْتُ: بِرَطْبِ السِّوَاكِ وَيَابِسِهِ؟ قال: نَعَمْ. قُلْتُ: أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ؟ قال: نَعَمْ. قُلْتُ: عَمَّنْ؟ قال: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(4)

.

• القول الثاني: ذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى القول بكراهة السواك بالعشي للصائم

(5)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في «الصحيحين»

(6)

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» .

وجه الدلالة: ما قَالَه الإمام أَحْمَدُ: لِتِلْكَ الرَّائِحَةِ لَا يُعْجِبُنِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَسْتَاكَ بِالْعَشِيِّ.

الدليل الثانى: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ، وَلَا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيٍّ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ صَائِمٍ تَيْبَسُ شَفَتَاهُ بِالْعَشِيِّ إِلاَّ كَانَتَا نُورًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ يوم الْقِيَامَةِ»

(7)

.

(1)

«صحيح ابن خزيمة» (3/ 247).

(2)

ضعيف: أخرجه أبو داود (2364)، والترمذي (725) وغيرهما، وفي إسناده عاصم بن عبيد الله: منكر الحديث.

(3)

ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1677) وغيره، وفى إسناده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف.

(4)

ضعيف: أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 202)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 272). قال الدارقطني: أبو إسحاق الخوارزمي ضعيف. وقال البيهقي: أبو إسحاق يروي عن عاصم مناكير ولا يحتج به.

(5)

«الحاوي» (3/ 334)، و «المغني» (4/ 359).

(6)

أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151).

(7)

ضعيف: قال الدارقطني في «السنن» (2/ 204): وكيسان أبو عمر ليس بالقوي، ومَن بينه وبين علي غير معروف.

ص: 240

والراجح أنه يرخص للصائم استعمال السواك بالغداة والعشي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» .

وأما حديث «لخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» فليس فيه نهى عن السواك.

وأما حديث: «إِذَا صُمْتُمْ فَاسْتَاكُوا بِالْغَدَاةِ، وَلَا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيٍّ» ، فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

كل هذا في السواك اليابس، وهل يجوز للصائم استعمال السواك بالعود الرطب في نهار رمضان؟

ذهب جمهور العلماء إلى جواز استعمال السواك بالعود الرطب في نهار رمضان، وهو قول ابن عمر

(1)

وابن الزبير

(2)

وعطاء

(3)

وبه قال أبو حنيفة والشافعي.

قال الماوردي

(4)

: فلِأَنَّ كُلَّ مَنِ اسْتُحِبَّ لَهُ السِّوَاكُ بِالْعُودِ الْيَابِسِ اسْتُحِبَّ لَهُ السِّوَاكُ بِالْعُودِ الرَّطْبِ، كَغَيْرِ الصَّائِمِ، وَلِأَنَّ رُطُوبَةَ الْعُودِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ مِنْ رُطُوبَةِ الْمَاءِ فِي الْمَضْمَضَةِ، ثُمَّ لَمْ يُمْنَعِ الصَّائِمُ مِنْهَا، كَذَلِكَ مِنْ رُطُوبَةِ الْعُودِ.

وذهب مالك وأحمد إلى كراهية استعمال السواك بالعود الرطب للصائم؛ لأنه يحلب الفم ويجلب العطش.

والراجح جواز استعمال السواك الرطب من غير كراهة في أول النهار وآخره.

(1)

إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 37)، وعن ابن عمر قال:(لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَاكَ الصَّائِمُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ). وعن عروة: (أنَّهُ كَانَ يَسْتَاكُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ وَهُوَ صَائِمٌ).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 36)، عن عروة:(أنَّهُ كَانَ يَسْتَاكُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ وَهُوَ صَائِمٌ).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 36)، عن عطاء قال:«لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ لِلصَّائِمِ» .

(4)

«الحاوي» (3/ 335).

ص: 241

‌المبحث الخامس: ذوق الطعام

أولاً: لم يَرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر في هذا الباب.

ثانيًا: وردت بعض الآثار في الباب:

1 -

عن ابن عباس {قال: «لَا بَأْسَ أَنْ يَذُوقَ الْخَلَّ أَوِ الشَّيْءَ مَا لَمْ يَدْخُلْ حَلْقَهُ وَهُوَ صَائِمٌ»

(1)

.

2 -

عن مسروق قال: أتيت عائشة أنا ورجل معى، وذلك يوم عرفة، فدعت لنا بشراب، ثم قالت:«لَوْلَا أَنِّي صَائِمَةٌ لَذُقْتُهُ»

(2)

.

3 -

عن الضحاك بن عثمان قال: رَأَيْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ صَائِمًا أَيَّامَ مِنًى، وَهُوَ يَذُوقُ عَسَلاً»

(3)

.

4 -

عن الحسن البصرى أنه «كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَطَاعَمَ الصَّائِمُ الْعَسَلَ وَالسَّمْنَ وَنَحْوَهُ، ثُمَّ يَمُجَّهُ»

(4)

.

5 -

عن شعبة قال: سَأَلْتُ الْحَكَمَ عَنِ الصَّائِمِ يَلْحَسُ الأَنْقَاسَ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ

(5)

.

6 -

عن معمر قال: سألت حمادًا عن المرأة الصائمة تذوق المرقة؟ فلم ير عليها في ذلك

(1)

ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 47)، وجابر هو الجعفي، ضعيف. وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 47)، والبيهقي (4/ 261)، عن ابن عباس قال لا بأس أن يتطاعم الصائم من القِدر. وشريك بن عبد الله النخعي صدوق يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء.

وفيه سليمان، أي سليمان بن طرخان أو سليمان الأعمش، وكلاهما لم يسمع من عكرمة.

(2)

قال ابن أبي شيبة (3/ 47)، وفى إسناده أبو إسحاق وهو مدلس، وقد عنعن.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 47).

(4)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 47)، وإن كان في رواية هشام بن حسان عن الحسن مقال، فقد تابعه يونس.

وأخرجه عبد الرزاق «المصنف» (7512).

(5)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 47).

ص: 242

بأسًا، قال: وإنهم ليقولون: «ما شيء أبلغ في ذلك من الماء يمضمض به الصائم؟»

(1)

.

7 -

عن إبراهيم: «كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ تَمْضُغَ الْمَرْأَةُ الصَّائِمَةُ لِصَبِيِّهَا»

(2)

.

• وهذه طائفة من أقوالٍ أهل العلم:

قال السرَخسي

(3)

: وَإِذَا ذَاقَ الصَّائِمُ بِلِسَانِهِ شَيْئًا وَلَمْ يَدْخُلْ حَلْقَهُ، لَمْ يُفْطِرْ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ بِوُصُولِ شَيْءٍ إلَى جَوْفِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَالْفَمُ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّائِمَ يَتَمَضْمَضُ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ؟ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا؛ لأنه لَا يَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ حَلْقَهُ بَعْدَ مَا أَدْخَلَهُ فَمَه، فَيَحُومَ حَوْلَ الْحِمَى، قال صلى الله عليه وسلم:«فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ» .

فى المدونة: أَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ أَنْ يَذُوقَ الصَّائِمُ الشَّيْءَ مِثْلَ الْعَسَلِ وَالْمِلْحِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَهُوَ صَائِمٌ وَلَا يُدْخِلُهُ جَوْفَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، لَا يَذُوقُ شَيْئًا

(4)

.

قال ابن قدامة: قال أَحْمَدُ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَجْتَنِبَ ذَوْقَ الطَّعَامِ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَضُرَّهُ، وَلَا بَأْسَ بِهِ. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَذُوقَ الطَّعَامَ وَالْخَلَّ وَالشَّيْءَ يُرِيدُ شِرَاءَهُ. وَالْحَسَنُ كَانَ يَمْضُغُ الْجَوْزَ لِابْنِ ابْنِهِ وَهُوَ صَائِمٌ. وَرَخَّصَ فِيهِ إبْرَاهِيمُ. قال ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلَا بَأْسَ بِهِ مَعَ الْحَاجَةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَوَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ أَفْطَرَ، وَإِلَّا لَمْ يُفْطِرْ

(5)

.

وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حفظه الله

(6)

:

هل يجوز لطاهى الطعام أن يتذوق طعامه ليتأكد من صلاحيته وهو صائم؟

(1)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4510).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق «المصنف» (7511).

(3)

«المبسوط» (3/ 93).

(4)

«المدونة» (1/ 178).

(5)

«المغني» (4/ 359).

(6)

«فتاوى الصيام» (543، 544).

ص: 243

فأجاب: لا بأس بتذوق الطعام للحاجة، بأن يجعله على طرف لسانه ليعرف حلاوته، وملوحته وضدها، لكن لا يبتلع منه شيئًا بل يمجه أو يُخرجه من فيه، ولا يفسد بذلك صومه على المختار، والله أعلم.

‌المبحث السادس: العِلْك

(1)

قال ابن قدامة

(2)

: الْعِلْكُ ضَرْبَانِ

أَحَدُهُمَا: مَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ أَجْزَاءٌ، وَهُوَ الرَّدِيءُ الَّذِي إذَا مَضَغَهُ يَتَحَلَّلُ، فَلَا يَجُوزُ مَضْغُهُ، إلَّا أَنْ لَا يَبْلَعَ رِيقَهُ، فَإِنْ فَعَلَ فَنَزَلَ إلَى حَلْقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، أَفْطَرَ بِهِ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ أَكْلَهُ.

وَالثَّانِي: الْعِلْكُ الْقَوِيُّ الَّذِي كُلَّمَا مَضَغَهُ صَلُبَ وَقَوِيَ، فَهَذَا يُكْرَهُ مَضْغُهُ وَلَا يَحْرُمُ، وَمِمَّنْ كَرِهَهُ الشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَتَادَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأصحاب الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ؛ لأنه يَحْلُبُ الْفَمَ، وَيَجْمَعُ الرِّيقَ، وَيُورِثُ الْعَطَشَ. وَرَخَّصَتْ عَائِشَةُ فِي مَضْغِهِ

(3)

. وَبِهِ قال عَطَاءٌ

(4)

؛ لأنه لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ، فَهُوَ كَالْحَصَاةِ يَضَعُهَا فِي فِيهِ، وَمَتَى مَضَغَهُ وَلَمْ يَجِدْ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ، لَمْ يُفْطِرْ.

قال السرخسي

(5)

: «وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ مَضْغُ الْعِلْكِ وَلَا يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّ مَضْغَ الْعِلْكِ يَدْبُغُ

(1)

(العِلْك): ضرب من صمغ الشجر كاللبان يُمضغ فلا يذوب. (ج) علوك وأعلاك، واحدته علكة. المعجم الوسيط.

(2)

«المغني» (4/ 358).

(3)

عن مجاهد قال: كانت عائشة لا ترى بأسًا في مضغ العلك للصائم. ولكن في إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 37). وورد أثر عن أم حبيبة «أنها كرهت مضغ العلك للصائم» ، أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 38)، ولكن في سنده رجل مجهول.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 38) بإسناد صحيح عن عطاء أَنَّهُ كَرِهَهُ، وَقَالَ:«هُوَ مَرْوَاةٌ» .

(5)

«المبسوط» (3/ 100).

ص: 244

الْمَعِدَةَ وَيُشَهِّي الطَّعَامَ وَلَمْ يَأْنِ لَهُ فَهُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَالنَّاظِرُ إلَيْهِ مِنْ بُعْدٍ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَيَتَّهِمُهُ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ شَيْئًا مِنْهُ حَلْقَهُ فَيَكُونُ مُعَرِّضًا صَوْمَهُ لِلْفَسَادِ، وَلَكِنْ لَا يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْعِلْكِ لَا تَصِلُ إلَى حَلْقِهِ، إنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ طَعْمُهُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْعِلْكُ مُصْلَحًا مُلْتَئِمًا، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا فَمَضَغَهُ حَتَّى صَارَ مُلْتَئِمًا يَفْسُدُ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ تَتَفَتَّتْ أَجْزَاؤُهُ فَيُدْخِلُ حَلْقَهُ مَعَ رِيقِهِ».

•‌

‌ مسألة: ما حكم اللبان؟

اللبان يفطر، ولا يقاس على العلك، لأن العلك إذا مُضغ لا ينقص وزنه، وليس له طعم يدخل إلى الجوف.

قال الحافظ ابن حجر

(1)

: وَالْعِلْك بِكَسْرِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون اللَّام بَعْدهَا كَافٌ: كُلُّ مَا يُمْضَغُ وَيَبْقَى فِي الْفَمِ كَالْمُصْطَكَّى وَاللُّبَانِ، فَإِنْ كَانَ يَتَحَلَّبُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْفَم فَيَدْخُلُ الْجَوْفَ فَهُوَ مُفْطِرٌ.

* * *

(1)

«فتح الباري» (4/ 160).

ص: 245

الفصل الحادى عشر الإفطار والسحور

وفيه مباحث:

• المبحث الأول: وقت الصوم

• المبحث الثاني: في الإفطار وفيه مطالب:

المطلب الأول: في فضائل تعجيل الفطر.

المطلب الثاني: في دعاء الصائم عند فطره.

المطلب الثالث: في القول عند الإفطار.

المطلب الرابع: في إطعام الصائم.

المطلب الخامس: على ماذا يفطر.

المطلب السادس: الدعاء بعد الفراغ من الطعام.

• المبحث الثالث: في السحور، وفيه مطالب:

المطلب الأول: في فضائل السحور.

المطلب الثاني: في حكم السحور.

المطلب الثالث: في وقت السحور.

المطلب الرابع: نداء ارفع الماء ما حكمه؟

المطلب الخامس: من سمع نداء الفجر والإناء في يده ماذا يفعل؟

• المبحث الرابع: الوصال.

• المبحث الخامس: بعض الأحاديث الضعيفة التي تنتشر في الصيام.

ص: 247

‌الفصل الحادى عشر الإفطار والسحور

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: وقت الصوم:

يجب الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

دل على ذلك القرآن والسنة: قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}

(1)

، فدلت الآية على أنه يجب الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

وروى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ

(1)

ورد سبب نزول لهذه الآية، روي في صحيح البخاري: عَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ. وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ!! فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} . وروى البخاري (1916)، ومسلم (1090) عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} عَمَدْتُ إِلَى عِقَالٍ أَسْوَدَ وَإِلَى عِقَالٍ أَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ فَلَا يَسْتَبِينُ لِي، فَغَدَوْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ:«إِنَّمَا ذَلِكَ سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ» . وروى البخاري (1917)، ومسلم (1091) عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} وَلَمْ يَنْزِلْ {مِنَ الْفَجْرِ} فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَسْوَدَ وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ {مِنَ الْفَجْرِ} فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.

ص: 248

هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»

(1)

.

دل هذا الحديث على أنه إذا تحقق غروب الشمس فإنه يجب على الصائم الفطر.

أما عن كيفية ضبط أوقات الصيام في البلدان التي يستمر فيها النهار أو يطول، فقد أفتى المجمع الفقهي بأنه إذا كانت البلاد يتمايز فيها الليل والنهار وجب الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وإن طال النهار، أما إذا كان النهار يستمر فالواجب الاعتماد في ضبط مواقيت الصيام على أقرب بلاد إليهم يتمايز فيها الليل والنهار

(2)

.

•‌

‌ المبحث الثانى: في الإفطار، وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: في فضائل تعجيل الفطر:

1 -

تعجيل الفطر يجلب الخير: ففي «الصحيحين»

(3)

عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ»

(4)

.

قَالَ الْمُهَلَّبُ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُزَادَ فِي النَّهَار مِنَ اللَّيْل، وَلِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالصَّائِمِ وَأَقْوَى لَهُ عَلَى الْعِبَادَة، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِذَا تَحَقَّقَ غُرُوبُ الشَّمْس بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِإِخْبَارِ عَدْلَيْنِ، وَكَذَا عَدْلُ وَاحِدٍ فِي الْأَرْجَح، قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد: فِي هَذَا الْحَدِيث رَدٌّ عَلَى الشِّيعَةِ فِي تَأْخِيرهمْ الْفِطْر إِلَى ظُهُور النُّجُوم، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي وُجُودِ الْخَيْر بِتَعْجِيلِ الْفِطْر؛ لِأَنَّ الَّذِي يُؤَخِّرُهُ يَدْخُل فِي فِعْلِ خِلَاف السُّنَّةِ

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (1954).

(2)

«فقه النوازل» (2/ 306)، وكذا قررت هيئة كبار العلماء (2/ 307).

(3)

أخرجه البخاري (1957)، ومسلم (1095).

(4)

قال ابن حجر «فتح الباري» (4/ 234): قوله: «عَجَّلُوا الإِفْطَارَ» زاد أبو ذر في حديثه «وَأَخَّرُوا السُّحُورَ» أخرجه أحمد، و «ما» ظرفية، أى مدة فعلهم ذلك امتثالاً للسنة واقفين عند حدها، غير متنطعين بعقولهم ما يغير قواعدها.

(5)

«فتح الباري» (4/ 234).

ص: 249

2 -

تعجيل الإفطار من سنة خير المرسلين

(1)

: روى مسلم عن أبي عَطِيَّةَ قال: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلَانِ مِنْ أصحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ، وَالآخَرُ يُؤَخِّرُ الإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ. قَالَتْ: أَيُّهُمَا الَّذِى يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلَاةَ؟ قال: قُلْنَا: عَبْدُ الله يَعْنِى ابْنَ مَسْعُودٍ. قَالَتْ: كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم.

3 -

تعجيل الفطر مخالفة للمغضوب عليهم والضالين: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ، إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ»

(2)

.

4 -

عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَ النَّاسِ إِفْطَارًا، وَأَبْطَأَهُ سُحُورًا

(3)

.

•‌

‌ المطلب الثاني: في دعاء الصائم عند فطره:

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ»

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم (1099).

(2)

إسناده حسن: أخرجه أحمد (2/ 450)، وأبو داود (2353)، والنسائي في «الكبرى» (3313)، وابن ماجه (1698)، من طرق عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4/ 226)، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، صححه ابن حجر في «الفتح» (4/ 199).

(4)

أخرجه أحمد (2/ 305)، والترمذي (3598)، وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه (1752)، عن سعد الطائى، عن أبي مُدِلَّةَ، عن أبي هريرة، وفى إسناده أبو مُدِلَّةَ. قال الحافظ في «التقريب»: مقبول. قال الذهبي في «الميزان» : لا يكاد يُعرف.

وأخرجه الترمذي في «السنن» (2526) عن مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، عَنْ زِيَادٍ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا. وقال الترمذي عقب ذكر الحديث: هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِذَاكَ القَوِيِّ، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي بِمُتَّصِلٍ. وفي إسناده زياد الطائي مجهول، أرسل عن أبي هريرة، وأخرجه البزار (3140)، وقال: لَا نعلمُهُ يُرْوَى بهذا اللفظ إلاَّ عَنْ أبي هُرَيرة من هذا الوجه، ولا نعلم رواه عن شريك بن أبي نمر إلاَّ عَبد الله بن سَعِيد. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 151): وإسحاق بن زكريا الآملي شيخ البزار لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأخرجه العقيلي في «الضعفاء» (1/ 72)، وأخرجه البيهقي في «الشعب» (7462، 7463، 7489)، من طريق الحجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن أبي هريرة مرفوعًا.

ص: 250

وورد بلفظ: «إن للصائم عند فطره دعوة لا تُرد» ولكنه لا يخلو من مقال، ولكن عمومات الشريعة تؤيده، خاصة وأن الله تعالى ذكر في وسط آيات الصيام قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} . وهذا من أسرار القرآن العظيم أن ذكر آيات الدعاء بعد إكمال الصيام إلى الليل، وهذا والله أعلم، إيماء وإشعار للصائم بالاجتهاد في الدعاء في هذا الشهر المبارك، وبخاصة عند إكمال العدة، وعند كل فطر

(1)

.

وكذلك فإنه من أعظم أوقات إجابة الدعوات عند ختام الطاعات، كما صح عن النبي العدنان عليه الصلاة والسلام أنه كان يدعو في دبر الصلوات، وتحرى الدعاء في ليالى العشر الأواخر رجاء ليلة القدر.

•‌

‌ المطلب الثالث: في القول عند الإفطار:

عن مَرْوَان بْنَ سَالِمٍ الْمُقَفَّع قال: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَيَقْطَعُ مَا زَادَ عَلَى الْكَفِّ وَقال: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَفْطَرَ قال: «ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ الله»

(2)

.

واعترض عليه بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفي قول باسم الله.

•‌

‌ المطلب الرابع: في إطعام الصائم:

عن زيد بن خالد الجُهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، وَلَا

(1)

انظر: «تصحيح الدعاء» (ص 505) تأليف العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد.

(2)

ضعيف: أخرجه أبو داود في «السنن» (2357)، والنسائي في «الكبرى» (10131)، من طرق، عن الحسين بن واقد، عن مروان بن سالم المقفع، عن ابن عمر.

قلت: فى إسناده مروان بن سالم المقفع، قال الحافظ ابن حجر: مقبول.

ص: 251

يُنْتَقَصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْء»

(1)

.

وإن كان هذا الحديث فيه مقال لكن ليس معنى هذا أن إطعام الطعام لا يثاب المؤمن عليه، بل إطعام الطعام له ثواب عظيم وأجر جزيل. قال تعالى وهو يصف الأبرار المتقين:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} .

وفي «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو: أن رجلاً سأل النبي أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قال: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» .

فإطعام الصائم فضله عظيم وأجره جزيل لا يعلم مقداره إلا العليم الخبير، وقد يصل الأجر مع إخلاص النية وحسن الطوية لرب البرية- إلى أضعاف الأجر المذكور في الحديث أما تحديد الأجر بأنه مثل أجر الصائم، فالحديث فيه مقال، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان في رمضان أجود من الريح المرسلة، ولعل الله عز وجل يثيب مَنْ فطَّر صائمًا ثوابًا عظيمًا، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم.

•‌

‌ المطلب الخامس: على ماذا يفطر الصائم؟

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ

(1)

ضعيف: أخرجه أحمد في «المسند» (4/ 114، 115)(5/ 192)، والنسائي في «الكبرى» =

(3331)

، والترمذي في «السنن» (807)، وابن أبي شيبة (5/ 351) وغيرهم من طرق (عبد الملك، وابن أبي ليلى، وعمرو بن قيس، وحجاج بن أرطأة عن عطاء بن أبي رباح عن زيد بن خالد الجهني).

وخالف كل هؤلاء: حسين المعلم، فرواه عن عطاء عن عائشة موقوفًا: أخرجه النسائي في «الكبرى» (3332). وحسين المعلم ثقة ربما وهم في هذا الإسناد، فأبدل زيد بن خالد الجهني بعائشة ورواه موقوفًا. ومدار هذا الحديث على عطاء بن أبي رباح عن زيد بن خالد الجهني، وقد نفى علي بن المديني السماع، كما في «جامع التحصيل» (237). وأخرجه عبد الرزاق (7906)، من طريق ابن جريج، عن صالح مولى التوأمة، سمعت أبا هريرة

موقوفًا، وأخرجه ابن خزيمة (1887). قلت: وفى إسناده علي بن جدعان وهو ضعيف.

ص: 252

يَكُنْ رُطَبَاتٌ، فَتَمَرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمَرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ»

(1)

.

(1)

ضعيف: أخرجه أحمد (3/ 164)، وأبو داود (2356)، والترمذي (696) وغيرهم من طريق عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس به. وفى رواية جعفر بن سليمان، عن ثابت- مقال، انظر:«تهذيب التهذيب» .

وأخرجه أبو يعلى في «المسند» (3305)، وهذا السند ضعيف جدًّا، وفيه عبد الواحد بن ثابت: قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال الهيثمى في «مجمع الزوائد» (3/ 155): هذا الحديث رواه أبو يعلى، وفيه عبد الواحد بن ثابت وهو ضعيف. وذكر العقيلى في ترجمة عبد الواحد بن ثابت هذا الحديث، وقال: لا يتابع على حديثه.

وأخرجه الترمذي (694)، والنسائي في «الكبرى» (3317) من طرق عن سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس مرفوعًا. قال النسائي: حَدِيثُ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ الَّذِي قَبْلَهُ. وقال الترمذي: وَهُوَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ أَصْلاً مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ، وَقَدْ رَوَى أَصْحَابُ شُعْبَةَ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنِ الرَّبَابِ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ.

وأخرجه ابن خزيمة (2065)، والطبراني في «الأوسط» (3873)، ومسكين بن عبد الرحمن لم أجد له ترجمة. قال الهيثمى في «مجمع الزوائد» (2/ 156): قد رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه من لا أعرفه، وأخرجه أبو يعلى في «المسند» (3792)، وابن حبان (3504، 3505)، من طريق أبي بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، عن حُسَيْن بْن عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بلفظ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ صَلَّى صَلَاةَ الْمَغْرِب حَتَّى يُفْطِرَ، وَلَوْ كان عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ»، وهذا المتن لا يشهد للحديث.

وأخرجه البيهقي في «الكبرى» (4/ 239)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 432)، من طريق شُعَيْب بْن إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ مرفوعًا. وشعيب بن إسحاق وإن كان ثقة إلا أنه سمع من سعيد بن أبي عروبة بآخره. قال أحمد: سمع من سعيد بن أبي عروبة، بآخر رمق. ولكن تابعه القاسم بن غصن كما في ابن خزيمة (2063)، ولكن القاسم بن غصن ضعيف. وورد من رواية يزيد بن أبي مريم، فقد أخرجه النسائي في «الكبرى» (3318)، من طريق رقبة، عن يزيد بن أبي مريم، عن أنس مرفوعًا. وقد خالف رقبة شعبة كما في النسائي (3318)، فرواه شعبة، عن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وقال النسائي: هذا الحديث رواه شعبة، عن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وشعبة أحفظ مَنْ روى هذا الحديث.

ص: 253

عن سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى الْمَاءِ؛ فَإِنَّهُ طَهُورٌ»

(1)

.

•‌

‌ المطلب السادس: الدعاء بعد الفراغ من الطعام:

عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند أهل بيت قال: «أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ»

(2)

.

(1)

ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 17، 18)، وأبو داود (2355)، والترمذي (658)، والنسائي

في «الكبرى» (3319)، وابن ماجه (1699)، والطيالسي (1278) وغيرهم من طرق عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر مرفوعًا. وأخرجه النسائي في «الكبرى» (3314، 3315، 3316) وغيره من طريق شعبة، عن هشام عن حفصة، عن سلمان بن عامر، بدون ذكر الرباب. فشعبة قد خالف الثقات مثل «سفيان بن عيينة، وحماد، وأبي معاوية، ومحمد بن فضيل، ومحمد بن جعفر، وعبد الواحد بن زياد، وعبد الرزاق وغيرهم» .

قال الترمذي: حَدِيثُ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالرَّبَابُ هِيَ أُمُّ الرَّائِحِ بِنْتُ صُلَيْعٍ، وَهَكَذَا رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنِ الرَّبَابِ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا الحَدِيثِ، وَرَوَى شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنِ الرَّبَابِ، وَحَدِيثُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ أَصَحُّ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ عَوْنٍ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنِ الرَّبَابِ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ.

ومدار هذا الحديث على الرباب وهى مجهولة، روت عن عمها سلمان بن عامر في العقيقة، والفطر على التمر، وعنها حفصة بنت سيرين، وذكرها ابن حبان في الثقات. قال الحافظ: مقبولة.

(2)

ضعيف: أخرجه أحمد في «المسند» (3/ 118، 201)، والنسائي في «الكبرى» (6/ 81، 82)، وغيرهما من طرق عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس به. وفي رواية النسائي من رواية ابن المبارك عن يحيى قال: حُدثت عن أنس. قال أبو حاتم والبخاري: لم يسمعه يحيى من أنس، وقد نص أبو زرعة على أن يحيى لم يسمع حديث «أفطر عندكم الصائمون» من أنس، إنما بلغه عنه، وحديثه عنه مرسل، كما في «المراسيل» (ص 243).

وأخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2007)، والبيهقي في «الكبرى» (7/ 287)، وغيرهما من طرق، عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، عن جعفر بن سليمان الضبي، عن ثابت، عن أنس به. وفى رواية جعفر بن سليمان عن ثابت مقال.

وأخرجه أحمد (3/ 138)، وأبو داود (3854)، والنسائي في «الكبرى» (7999) من طريق معمر عن ثابت عن أنس وغيره، أي تردد فيه. قلت: ومعمر ضعيف في ثابت؛ راجع «شرح علل الترمذي» ، وأخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (482)، وغيره، وفي إسناده شعيب بن بيان وهو ضعيف. وأخرجه الطبراني في «الدعاء» (923)، وفي إسناده مهران بن إسحاق: لا أعرفه. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (6162)، وفي إسناده محمد بن حنيفة الواسطي: ليس بالقوي.

ص: 254

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة بعد الفراغ من الطعام، ولكنها غير مقيدة بالصيام وهي عامة. فروى مسلم عن عَبْد الله بْنِ بُسْرٍ قال: نَزَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِى. قَالَ: فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا وَرَطْبَةً فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ أُتِىَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِى النَّوَى بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ، وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى. قال شُعْبَةُ: هُوَ ظَنِّي وَهُوَ فِيهِ إِنْ شَاءَ الله إِلْقَاءُ النَّوَى بَيْنَ الإِصْبَعَيْنِ. ثُمَّ أُتِىَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ قال: فَقال أَبِي وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ: ادْعُ الله لَنَا. فَقال: «اللهمَّ بَارِكْ لَهُمْ في مَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ، وَارْحَمْهُمْ»

(1)

.

وروى مسلم من حديث المقداد رضي الله عنه وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِى، وَأَسْقِ مَنْ أَسْقَانِى»

(2)

.

فأرى أن يحافظ المسلم على الأذكار الصحيحة، وفيه غنية عن الضعيفة، ثم إن الدعاء لصاحب الطعام جائز بما تشاء، ولكن أسانيد حديث «أفطر عندكم الصائمون» فيها مقال.

فما الدافع إلى ذلك، مع وجود الأحاديث الصحيحة، ولذلك ترى الأكثر يحافظ على هذا الذكر، ويترك الأذكار التى وردت في الصحيح، ولا يحافظ عليها إلا النادر القليل من الناس، وإن كان بعض أهل العلم يعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال بالشروط المذكورة في كتب المصطلح، ولكن إذا ورد في الباب أحاديث صحيحة فينبغي

(1)

أخرجه مسلم (2042).

(2)

أخرجه مسلم (2055).

ص: 255

المحافظة عليها أولاً، ولا ينبغى أبدًا أن يحافظ على الحديث الضعيف مع وجود الصحيح الوارد في نفس هذا الباب.

فعلى سبيل المثال: أذكار الصباح والمساء، فيها الصحيح والسقيم، فينبغى للمسلم أن يحافظ على الأذكار الصحيحة أولاً، خاصة أن بعض الناس قد لا يستطيع أن يكمل الأذكار، وقد يتأتى بجزء من الصحيح مع جزء من السقيم.

•‌

‌ المبحث الثالث: في السحور وما يتعلق به من أحكام، وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: في فضائل السحور:

1 -

السحور بركة: ففي «الصحيحين»

(1)

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» .

قال ابن حجر

(2)

: وَالْأَوْلَى أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي السُّحُورِ تَحْصُلُ بِجِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهِيَ اِتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَمُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الْعِبَادَة، وَالزِّيَادَةُ فِي النَّشَاطِ، وَمُدَافَعَةُ سُوءِ الْخُلُقِ الَّذِي يُثِيرُهُ الْجُوعُ، وَالتَّسَبُّبُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ إِذْ ذَاكَ أَوْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَلَى الْأَكْلِ، وَالتَّسَبُّبُ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَقْتَ مَظِنَّةِ الْإِجَابَةِ، وَتَدَارُكُ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَغْفَلَهَا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ.

قَالَ اِبْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هَذِهِ الْبَرَكَةُ يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَإِنَّ إِقَامَةَ السُّنَّةِ يُوجِبُ الْأَجْرَ وَزِيَادَتَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَقُوَّةِ الْبَدَنِ عَلَى الصَّوْمِ وَتَيْسِيرِهِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِالصَّائِمِ.

قَالَ: وَمِمَّا يُعَلَّلُ بِهِ اِسْتِحْبَابُ السُّحُورِ الْمُخَالَفَةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا أَحَدُ الْوُجُوهِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلزِّيَادَةِ فِي الْأُجُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ.

وَقَالَ أَيْضًا: وَقَعَ لِلْمُتَصَوِّفَةِ فِي مَسْأَلَةِ السُّحُورِ كَلَامٌ مِنْ جِهَةِ اِعْتِبَارِ حُكْمِ الصَّوْمِ وَهِيَ

(1)

أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (45)(1095).

(2)

«فتح الباري» (4/ 166).

ص: 256

كَسْرُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَالسُّحُورُ قَدْ يُبَايِنُ ذَلِكَ.

قَالَ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَا زَادَ فِي الْمِقْدَارِ حَتَّى تَنْعَدِمَ هَذِهِ الْحِكْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ، كَاَلَّذِي صَنَعَهُ الْمُتْرَفُونَ مِنَ التَّأَنُّقِ فِي الْمَآكِلِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهُ.

«تكميل» : يحصل السحور بأقل ما يتناوله المرء من مأكول ومشروب.

•‌

‌ المطلب الثاني: في حكم السحور:

قال ابن المنذر: وأجمعت الأمة على أن السحور مندوب إليه مستحب، لا إثم على من تركه

(1)

.

قال النووي

(2)

: ويستحب أن يتسحر للصوم؛ لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» ، ولأنه فيه معونة على الصوم.

•‌

‌ المطلب الثالث: في وقت السحور:

قال النووي

(3)

: وقت السحور بين نصف الليل، وطلوع الفجر.

وقال أيضا

(4)

: ويستحب تأخير السحور؛ لما روي أنه قيل لعائشة: إن عبد الله يعجل الفطر، ويؤخر السحور. فقالت:«هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل» ، ولأن السحور يراد للتقوِّي على الصوم والتأخير أبلغ في ذلك، فكان أَوْلى.

• كم بين السحور وصلاة الفجر؟

روى البخاري

(5)

عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً.

(1)

«المغني» (4/ 432).

(2)

«المجموع» (6/ 359).

(3)

«المجموع» (6/ 360).

(4)

«المجموع» (6/ 359).

(5)

البخاري قال باب «كم بين السحور وصلاة الفجر؟» .

ص: 257

•‌

‌ المطلب الرابع: نداء «ارفع الماء» ما حكمه؟

قال ابن حجر: مِنَ الْبِدَع الْمُنْكَرَة مَا أُحْدِثَ فِي هَذَا الزَّمَان مِنْ إِيقَاع الْأَذَان الثَّانِي قَبْل الْفَجْر بِنَحْوِ ثُلُثِ سَاعَةٍ فِي رَمَضَان، وَإِطْفَاء الْمَصَابِيح الَّتِي جُعِلَتْ عَلَامَةً لِتَحْرِيمِ الْأَكْل وَالشُّرْب عَلَى مَنْ يُرِيد الصِّيَام، زَعْمًا مِمَّنْ أَحْدَثَهُ أَنَّهُ لِلِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَة، وَلَا يَعْلَم بِذَلِكَ إِلَّا آحَاد النَّاس، وَقَدْ جَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ صَارُوا لَا يُؤَذِّنُونَ إِلَّا بَعْد الْغُرُوب بِدَرَجَةٍ لِتَمْكِينِ الْوَقْت زَعَمُو، ا فَأَخَّرُوا الْفِطْر وَعَجَّلُوا السُّحُور وَخَالَفُوا السُّنَّةَ، فَلِذَلِكَ قَلَّ عَنْهُمْ الْخَيْر كَثِيرٌ فِيهِمْ الشَّرُّ، وَالله الْمُسْتَعَانُ

(1)

.

•‌

‌ المطلب الخامس: من سمع نداء الفجر والإناء في يده ماذا يفعل؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب الجمهور إلى امتناع السحور بطلوع الفجر، وهو قول الأئمة الأربعة، وعامة فقهاء الأمصار

(2)

.

واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . والمعنى إذا طلع الفجر فلا تأكلوا ولا تشربوا، سواء كان الإناء على فِيه أم لا.

واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤَذِّنُ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ»

(3)

. أي إذا أذن ابن أم مكتوم فلا تأكلوا ولا تشربوا.

قال النووي

(4)

: قال أصحابنا: الفجر فجران: أحدهما يسمى الفجر الأول. والفجر الكاذب، والآخر يسمى الفجر الثاني والفجر الصادق، فالفجر الأول يطلع مستطيلاً نحو السماء كذَنَب السِّرحان وهو الذئب، ثم يغيب ذلك ساعة ثم يطلع الفجر الثاني

(1)

«فتح الباري» (4/ 199).

(2)

«عون المعبود» (6/ 476) في شرح حديث (2350).

(3)

أخرجه البخاري (1918، 1919).

(4)

«المجموع» (3/ 44).

ص: 258

الصادق مستطيرًا (بالراء) أى منتشرًا عَرَضًا في الأفق. قال أصحابنا: والأحكام كلها متعلقة بالفجر الثانى، فبه يدخل وقت صلاة الصبح، ويخرج وقت العشاء، ويدخل في الصوم، ويحرم به الطعام والشراب على الصائم، وبه ينقضي الليل ويدخل النهار، ولا يتعلق بالفجر الأول شيء من الأحكام بإجماع المسلمين.

قال صاحب الشامل: «سُمي الفجر الأول كاذبًا؛ لأنه يضيء ثم يسْوَد ويذهب، وسُمي الثانى صادقًا؛ لأنه صدق عن الصبح وبَيَّنه» .

• القول الثاني: قال ابن القيم

(1)

: فروى إسحاق بن راهويه، عن وكيع أنه سمع الأعمش يقول:«لَوْلَا الشُّهْرَةُ لَصَلَّيْت الْغَدَاةَ ثُمَّ تَسَحَّرْت» . ثم ذكر إسحاق، عن أبي بكر الصديق، وعلي، وحذيفة

(2)

. أي أن من سمع نداء الفجر والإناء في يده في رمضان فليشرب.

واستدلوا لهذا القول بالسنة والمأثور.

أما دليلهم من السنة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ

(1)

«عون المعبود» (6/ 476).

(2)

روى ابن أبي شيبة في «المصنف» (8929): حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن سالم بن عيد الله الأشجعى، قال: كنت مع أبي بكر فقال: قُمْ فَاسْتُرْنِي مِنَ الْفَجْرِ. ثُمَّ أَكَلَ. وإسناده صحيح. وهذه الرواية ليست صريحة، وقد يكون معناه أنه يريد أن يتسحر قبيل الفجر.

وقد روى الدارقطني في «السنن» (2/ 166) عن سالم بن عبيد قال: كُنْتُ فِي حِجْرِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَصَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قال: اخْرُجْ فَانْظُرْ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ. قال: فَخَرَجْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَقُلْتُ لَهُ: قَدِ ارْتَفَعَ فِي السَّمَاءِ أَبْيَضَ. فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قال: اخْرُجْ فَانْظُرْ هَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ. فَخَرَجْتُ، ثُمَّ رَجَعَتُ فَقُلْتُ لَهُ: قَدِ اعْتَرَضَ فِي السَّمَاءِ أَحْمَرَ. فَقال: هِيتَ الآنَ فَأَبْلغْنِي سَحُورِي.

وروى ابن أبي شيبة في «المصنف» (8931) بإسناد صحيح عن عامر بن مطر قال: أَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ فِي دَارِهِ فَأَخْرَجَ لَنَا فَضْلَ سَحُورِهِ فَتَسَحَّرْنَا مَعَهُ، فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَخَرَجْنَا فَصَلَّيْنَا مَعَهُ.

وورد أثر عن أبي عقيل قال: تسحرنا مع علي ثم أمر المؤذن أن يقيم. أخرجه ابن أبي شيبة (8930) وإسناده ضعيف.

ص: 259

النِّدَاءَ وَالإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ، فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ»

(1)

.

1 -

شاهد جابر: عن أبي الزبير قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنِ الرَّجُلِ يُرِيدُ الصِّيَامَ وَالْإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ لِيَشْرَبَ مِنْهُ فَيَسْمَعُ النِّدَاءَ. قَالَ جَابِرٌ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِيَشْرَبْ»

(2)

.

2 -

شاهد أبي أمامة: قال: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَالإِنَاءُ فِي يَدِ عُمَرَ، قَالَ: أَشْرَبُهَا يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، فَشَرِبَهَا

(3)

.

3 -

شاهد بلال: قال: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُوذِنُهُ بِالصَّلَاةِ - قال أَبُو أَحْمَدَ: وَهُوَ يُرِيدُ الصِّيَامَ - فَدَعَا بِقَدَحٍ فَشَرِبَ وَسَقَانِي، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ، فَقَامَ يُصَلِّي بِغَيْرِ وُضُوءٍ يُرِيدُ الصَّوْمَ

(4)

.

(1)

مُعلّ: أخرجه أحمد (2/ 423)، وأبو داود (2350)، وغيرهما عن حماد عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به. قال ابن القيم في «شرح سنن أبي داود»: وهذا الحديث أعله ابن القطان لأنه مشكوك في اتصاله، وأخرجه أحمد (2/ 510)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 203)، والبيهقي في «الكبرى» (4/ 218)، من طريق حَمَّاد عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ موقوفًا، وزاد فيه:«وَكَانَ الْمُؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ إِذَا بَزَغَ الْفَجْرُ» . قال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 123): سألتُ أبِي عَنْ حدِيثٍ رواهُ رَوْحُ بنُ عُبادة، عن حمّادٍ، عن مُحمّدِ بنِ عَمرٍو، عن أبِي سلمة، عن أبِي هُريرة به. قُلت لأبِي: وروى روحٌ أيضًا عن حمّادٍ، عن عمّارِ بنِ أبِي عمّارٍ، عن أبِي هُريرة، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثلهُ، وزاد فِيهِ: وكان المُؤذِّنُ يُؤذِّنُ إِذا بزغ الفجرُ. قال أبِي: هذانِ الحدِيثانِ ليسا بِصحِيحينِ، أمّا حدِيثُ عمّارٍ فعن أبِي هُريرة موقُوفٌ، وعمّارٌ ثِقةٌ، والحدِيثُ الآخرُ ليس بِصحِيحٍ.

(2)

أخرجه أحمد «المسند» (3/ 348)، وفى إسناده ابن لهيعة وفيه مقال.

(3)

إسناده ضعيف: أخرجه الطبرى في «تفسيره» (3017)، وفى إسناده أبو غالب، قال ابن معين: صالح الحديث. والدارقطني قال مرة: ثقة، وقال مرة: يعتبر حديثه. وقال النسائي: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالقوى. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، وفى إسناده أيضًا محمد بن حميد. وفيه مقال.

(4)

ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 12)، والطبري في «تفسيره» (3018، 3019)، والشاشي (972، 973، 974)، والطبراني في «الكبير» (1082)(1083). من طريقي إسرائيل، ويونس عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن معقل، عن بلال به. وأخرجه الشاشى (175)، من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن معاوية بن قرة، أن بالًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: ومعاوية بن قرة لم يدرك هذه القصة. وعبد الله بن معقل لا يُظن أنه أدرك بلًالًا فإن بلًالًا مات سنة سبع عشرة هجرية. أخرجه أحمد (6/ 13)، عن طريق شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال. قال الهيثمى في «مجمع الزوائد» (3/ 152): وشداد مولى عياض لم يدرك بلالًا.

ص: 260

4 -

وعن زر بن حبيش قال: قلت لحذيفة: «أَيُّ سَاعَةٍ تَسَحَّرْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: هُوَ النَّهَارُ إِلاَّ أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ»

(1)

.

وجه الدلالة منه ما قاله أبو جعفر: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ

(1)

ضعيف مرفوعًا معل بالوقف: هذا الحديث اختلف في رفعه ووقفه:

فرفعه عاصم بن أبي النجود، عن زر، أخرجه أحمد في «المسند» (5/ 400) بهذا اللفظ، والنسائي (4/ 142)، وابن ماجه (1695)، وغيرهم، من طرق عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش به. قال المزي في «تحفة الأشراف» (3/ 32): لا نعلم أحدًا رفعه غير عاصم، فإن كان رفعُه صحيحًا فمعناه أنه قرب النهار، كقول الله عز وجل:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، معناه: إذا قاربن البلوغ؛ وكقول القائل: (بلغنا المنزل) إذا قاربه. قال ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (340): عاصم بن أبي النجود كان حفظه سيئًا، وحديثه خاصة عن زر وأبي وائل مضطرب، كان يحدث بالحديث تارة عن زر وتارة عن أبي وائل. وقد خولف عاصم بن بهدلة في رفعه: فرواه عدي بن ثابت على الوقف. أخرجه النسائي في «الصغرى» (4/ 142)، قال: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ (يعني ابن جعفر) قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِىٍّ قَالَ: سَمِعْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ قَالَ: تَسَحَّرْتُ مَعَ حُذَيْفَةَ

موقوفًا، وإسناده صحيح.

وتابع زر بن حبيش على الوقف صلة بن زفر، أخرجه النسائي (4/ 142، 143)، قال: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِىٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْفُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ قَالَ: تَسَحَّرْتُ مَعَ حُذَيْفَةَ

على الوقف، إسناده صحيح.

وتابعهما على الوقف أبو الطفيل، أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 10) قال: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، قَالَ: حدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيع، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطُّفَيْلِ أَنَّهُ تَسَحَّرَ فِي أَهْلِهِ فِي الْجَبَّانَةِ، ثُمَّ جَاءَ إلَى حُذَيْفَةَ وَهُوَ فِي دَارِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، فَوَجَدَهُ، فَحَلَبَ لَهُ نَاقَةً فَنَاوَلَهُ، فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ الصَّوْمَ، فَقَالَ: وَأَنَا أُرِيدُ الصَّوْمَ. فَشَرِبَ حُذَيْفَةُ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَدَفَعَ إلَى الْمَسْجِدِ حِينَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ.

وأخرجه عبد الرزاق «المصنف» (7606)، عن إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة قال: انطلقت أنا وزر بن حبيش إلى حذيفة

موقوفًا.

ص: 261

الْفَجْرِ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّوْمَ، وَيَحْكِي مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

واعترض عليه بأنه هذه الأحاديث لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

• الحاصل في مسألة من سمع النداء والإناء على يده:

ذهب جمهور العلماء إلى امتناع الأكل والشرب بطلوع الفجر، واستدلوا بعموم قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} .

يُفهم من الآية أنه إذا تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، فلا يجوز الأكل ولا الشرب لمن أراد الصوم.

واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» .

أي إذا أذن ابن أم مكتوم فلا تأكلوا ولا تشربوا.

وذهب بعض العلماء إلى العمل بحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمُ النِّدَاءَ وَالإِنَاءُ عَلَى يَدِهِ، فَلَا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ» .

واعترض عليه من وجهين:

الأول: أن الحديث أعله ابن القطان لأنه مشكوك في اتصاله، وقال أبو حاتم: الحديث ليس بصحيح.

الآخر: ما قاله البيهقي في حديث إذا سمع أحدكم النداء؛ قال: وَهَذَا إِنْ صح فَهُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّ الْمُنَادِيَ كَانَ يُنَادِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِحَيْثُ يَقَعُ شُرْبُهُ قُبَيْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.

واستدلوا بما روى أحمد عن زر قال: قلت لحذيفة: أي ساعة تسحرتم مع رسول الله؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع.

واعترض عليه بما قاله الطحاوي: وأما حديث حذيفة فمعلول، وعلته الوقف، وأن زرًّا هو الذي تسحر مع حذيفة، والصحيح ما ذهب إليه جماهير أهل العلم من امتناع الأكل والشرب بطلوع الفجر.

قال الطحاوي: فَلَا يَجِبُ تَرْكُ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى نَصًّا، وَأَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

«شرح معانى الآثار» للطحاوي (2/ 52).

ص: 262

مُتَوَاتِرَةً قَدْ قَبِلَتْهَا الْأُمَّةُ، وَعَمِلَتْ بِهَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَوْمِ - إِلَى حَدِيثٍ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا.

•‌

‌ المبحث الرابع: الوصال، وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: تعريف الوصال:

قال النووي

(1)

: حقيقة الوصال المنهى عنه أن يصوم يومين فصاعدًا، ولا يتناول في الليل شيئًا لا ماء ولا مأكولاً، فإن أكل شيئًا يسيرًا أو شرب فليس وصالاً، وكذا إن أخر الأكل إلى السحر لمقصود صحيح فليس بوصال.

وقال الماوردي: أَمَّا الْوِصَالُ فِي الصِّيَامِ فَهُوَ أَنْ يَصُومَ الرَّجُلُ يومه، فَإِذَا دَخَلَ اللَّيْلُ امْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ صَائِمًا، فَيَصِيرُ وَاصِلًا بَيْنَ اليوميْنِ بِالْإِمْسَاكِ لَا بِالصَّوْمِ؛ لأنه قَدْ أَفْطَرَ بِدُخُولِ اللَّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَهَارُ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»

(2)

.

• الوصال منهي عنه بالنص والإجماع:

ففي «الصحيحين»

(3)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ. فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ. قال: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» .

قال أبو عبد الله: لم يذكر عثمان «رَحْمَةً لَهُمْ» .

والأحاديث متوافرة وكثيرة في هذا الباب.

وقد أجمع العلماء على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال

(4)

.

•‌

‌ المطلب الثاني: هل يجوز الوصال إلى السحر؟

ذهب أحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وابن خزيمة، وجماعة من المالكية - إلى جواز

(1)

«المجموع» للنووي (6/ 357).

(2)

«الحاوي الكبير» (3/ 340).

(3)

أخرجه البخاري (1964)، ومسلم (1105).

(4)

«التمهيد» (14/ 361).

ص: 263

الوصال إلى السحر

(1)

.

واستدلوا لذلك بما روى البخاري

(2)

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا تُوَاصِلُوا، فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ» قَالُوا: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ لِي مُطْعِمٌ يُطْعِمُنِي وَسَاقٍ يَسْقِينِي» .

قال ابن حجر

(3)

: وَاسْتُدِلَّ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَحَادِيث عَلَى أَنَّ الْوِصَال مِنْ خَصَائِصه صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى أَنَّ غَيْره مَمْنُوع مِنْهُ إِلَّا مَا وَقَعَ فِيهِ التَّرْخِيص مِنَ الْإِذْن فِيهِ إِلَى السَّحَر.

• القول الآخر: القائلون بتحريم الوصال مطلقًا:

قال ابن عبد البر

(4)

: وكره مالك والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وجماعة من أهل الفقه، والآثار - الوصال على كل حال لمن قوي عليه ولغيره، ولم يجيزوا الوصال لأحد.

في «الصحيحين»

(5)

عن ابن عمر {عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال «لا تُوَاصِلُوا» قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ؟ قَالَ: «لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى. أَوْ إِنِّي أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى» .

وجه الدلالة: ما قاله ابن عبد البر: وقَدْ نَهَاهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ وَثَبَتَ عَنْهُ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ» . وَحَقِيقَةُ النَّهْيِ الزَّجْرُ وَالْمَنْعُ.

وفي «الصحيحين»

(6)

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» .

وجه الدلالة ما قاله ابن حجر

(7)

: إِذْ لَمْ يَجْعَل اللَّيْل مَحَلًّا لِسِوَى الْفِطْر، فَالصَّوْم فِيهِ

(1)

«فتح الباري» (4/ 241)، و «التمهيد» (14/ 362).

(2)

أخرجه البخاري (1967).

(3)

«فتح الباري» (4/ 240).

(4)

«التمهيد» (14/ 363).

(5)

أخرجه البخاري (1992)، ومسلم (1102).

(6)

أخرجه البخاري (1954)، ومسلم (1100).

(7)

«فتح الباري» (4/ 241).

ص: 264

مُخَالَفَةٌ لِوَضْعِهِ كَيَوْمِ الْفِطْر.

قال ابن عبد البر: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوِصَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُصُوصٌ، وَأَنَّ الْوَاصِلَ لَا يَنْتَفِعُ بِوِصَالِهِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلصِّيَامِ.

وأجاب الجمهور عن ذلك بأن مواصلته صلى الله عليه وسلم بعد نهيه لهم، فلم يكن تقريرًا بل تقريعًا وتنكيلًا. واحتمل ذلك منهم لأجل مصلحة النهي في تأكيد زجرهم؛ لأنهم إذا باشروا ظهرت لهم حكمة النهي، وكان ذلك أدعى إلى قبولهم لما يترتب عليه من الملل في العبادة، والتقصير فيما هو أهم منه وأرجح من وظائف الصلاة والقراءة وغير ذلك.

«رحمة لهم» استدل به من قال: إن الوصال مكروه غير محرم.

أجابوا بأن قوله: «رحمة لهم» لا يمنع التحريم، فإنه من رحمته لهم أن حرمه عليهم

(1)

.

•‌

‌ المطلب الرابع: معنى «إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» :

قال الماوردي

(2)

: «إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» وَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ حَقِيقَةً.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَمُدُّهُ مِنَ الْقُوَّةِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْوِصَالُ مَكْرُوهٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّ الْوِصَالَ يُورِثُ ضَعْفًا، وَيُقَاسِي فِيهِ مَشَقَّةً وَجُهْدًا، فَرُبَّمَا أَعْجَزَهُ عَنْ أَدَاءِ مُفْتَرَضَاتِهِ، فَإِنْ وَاصَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَصَوْمُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ تَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِ زَمَانِ الصَّوْمِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَادِحًا فِي صِيَامِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْرِ وَاصَلَ الصِّيَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ يومًا، ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَى سَمْنٍ وَلَبَنٍ وَصَبِرٍ، وَتَأَوَّلَ فِي السَّمْنِ أَنَّهُ يُلَيِّنُ الْأَمْعَاءَ، وَفِي اللَّبَنِ أَنَّهُ أَلْطَفُ غِذَاءٍ، وَفِي الصَّبِرِ أَنَّهُ يُقَوِّي الْأَعْضَاءَ.

(1)

«نيل الأوطار» (4/ 258).

(2)

الحاوي «الكبير» (3/ 340).

ص: 265

قال ابن حجر

(1)

: وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْله: «يُطْعِمنِي وَيَسْقِينِي» : فَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَقِيقَته وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِطَعَامِ وَشَرَاب مِنْ عِنْد الله كَرَامَةً لَهُ فِي لَيَالِي صِيَامه.

وَتَعَقَّبَهُ اِبْن بَطَّال وَمَنْ تَبِعَهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوَاصِلًا، وَبِأَنَّ قَوْله «يَظَلُّ» يَدُلُّ عَلَى وُقُوع ذَلِكَ بِالنَّهَارِ فَلَوْ كَانَ الْأَكْل وَالشُّرْب حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ صَائِمًا.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّاجِح مِنْ الرِّوَايَات لَفْظ «أَبِيت» دُون «أَظَلُّ» ، وَعَلَى تَقْدِير الثُّبُوت فَلَيْسَ حَمْلُ الطَّعَام وَالشَّرَابِ عَلَى الْمَجَاز بِأَوْلَى لَهُ مِنْ حَمْلِ لَفْظ أَظَلُّ عَلَى الْمَجَازِ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَلَا يَضُرُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يُؤْتَى بِهِ الرَّسُولُ عَلَى سَبِيل الْكَرَامَة مِنْ طَعَام الْجَنَّة وَشَرَابِهَا لَا تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَام الْمُكَلَّفِينَ فِيهِ، كَمَا غُسِلَ صَدْرُهُ صلى الله عليه وسلم فِي طَسْت الذَّهَب، مَعَ أَنَّ اِسْتِعْمَال أَوَانِي الذَّهَب الدُّنْيَوِيَّة حَرَامٌ.

وَقَالَ اِبْن الْمُنَيِّر فِي الْحَاشِيَة: الَّذِي يُفْطِرُ شَرْعًا إِنَّمَا هُوَ الطَّعَام الْمُعْتَادُ، وَأَمَّا الْخَارِق لِلْعَادَةِ كَالْمُحْضَرِ مِنَ الْجَنَّة فَعَلَى غَيْر هَذَا الْمَعْنَى.

قَالَ الْجُمْهُور: قَوْله: «يُطْعِمنِي وَيَسْقِينِي» مَجَاز عَنْ لَازِم الطَّعَام وَالشَّرَاب وَهُوَ الْقُوَّة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يُعْطِينِي قُوَّة الْآكِل وَالشَّارِب، وَيُفِيض عَلِيّ مَا يَسُدّ مَسَد الطَّعَام وَالشَّرَاب وَيَقْوَى عَلَى أَنْوَاع الطَّاعَة مِنْ غَيْر ضَعْف فِي الْقُوَّة وَلَا كَلَالٍ فِي الْإِحْسَاس، أَوْ الْمَعْنَى إِنَّ الله يَخْلُقُ فِيهِ مِنَ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ مَا يُغْنِيهِ عَنْ الطَّعَام وَالشَّرَاب، فَلَا يُحِسُّ بِجُوعٍ وَلَا عَطَشٍ، وَالْفَرْق بَيْنه وَبَيْن الْأَوَّل أَنَّهُ عَلَى الْأَوَّل يُعْطَى الْقُوَّةَ مِنْ غَيْر شِبَعٍ وَلَا رِيٍّ مَعَ الْجُوع وَالظَّمَأ، وَعَلَى الثَّانِي يُعْطَى الْقُوَّة مَعَ الشِّبْع وَالرِّيّ، وَرَجَّحَ الْأَوَّل بِأَنَّ الثَّانِي يُنَافِي حَال الصَّائِم وَيُفَوِّت الْمَقْصُود مِنْ الصِّيَام وَالْوِصَال؛ لِأَنَّ الْجُوع هُوَ رُوح هَذِهِ الْعِبَادَة بِخُصُوصِهَا

(2)

.

(1)

«فتح الباري» (4/ 244).

(2)

«فتح الباري» (4/ 244، 245).

ص: 266

قال ابن القيم

(1)

: وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي هَذَا الطّعَامِ وَالشّرَابِ الْمَذْكُورَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنّهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ حِسّيّ لِلْفَمِ. قَالُوا: وَهَذِهِ حَقِيقَةُ اللّفْظِ، وَلَا مُوجِبَ لِلْعُدُولِ عَنْهَا.

الثّانِي: أَنّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يُغَذّيهِ الله بِهِ مِنْ مَعَارِفِهِ وَمَا يَفِيضُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ لَذّةِ مُنَاجَاتِهِ وَقُرّةِ عَيْنِهِ بِقُرْبِهِ وَتَنَعّمِهِ بِحُبّهِ وَالشّوْقِ إلَيْهِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ الّتِي هِيَ غِذَاءُ الْقُلُوبِ وَنَعِيمُ الْأَرْوَاحِ وَقُرّةُ الْعَيْنِ وَبَهْجَةُ النّفُوسِ وَالرّوحِ وَالْقَلْبِ - بِمَا هُوَ أَعْظَمُ غِذَاءً وَأَجْوَدُهُ وَأَنْفَعُهُ، وَقَدْ يَقْوَى هَذَا الْغِذَاءُ حَتّى يُغْنِيَ عَنْ غِذَاءِ الْأَجْسَامِ مُدّةً مِنَ الزّمَانِ، كَمَا قِيلَ:

لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا

عَنِ الشّرابِ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزّادِ

لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِيءُ بِهِ

وَمِنْ حَدِيثِك فِي أَعْقَابِهَا حَادِي

إذَا شَكَتْ مِنْ كَلالِ السّيْرِ أَوْعَدَهَا

رَوْحَ الْقُدُومِ فَتَحْيَا عِنْدَ مِيعَادِ

وَمَنْ لَهُ أَدْنَى تَجْرِبَةٍ وَشَوْقٍ يَعْلَمُ اسْتِغْنَاءَ الْجِسْمِ بِغِذَاءِ الْقَلْبِ وَالرّوحِ - عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْغِذَاءِ الْحَيَوَانِيّ، وَلَا سِيّمَا الْمَسْرُورُ الْفَرْحَانُ الظّافِرُ بِمَطْلُوبِهِ، الّذِي قَدْ قَرّتْ عَيْنُهُ بِمَحْبُوبِهِ وَتَنَعّمَ بِقُرْبِهِ وَالرّضَى عَنْهُ وَأَلْطَافِ مَحْبُوبِهِ وَهَدَايَاهُ وَتُحَفِهِ - تَصِلُ إلَيْهِ كُلّ وَقْتٍ وَمَحْبُوبُهُ حَفِيّ بِهِ مُعْتَنٍ بِأَمْرِهِ مُكْرِمٌ لَهُ غَايَةَ الْإِكْرَامِ مَعَ الْمَحَبّةِ التّامّةِ لَهُ، أَفَلَيْسَ فِي هَذَا أَعْظَمُ غِذَاءً لِهَذَا الْمُحِبّ؟

فَكَيْفَ بِالْحَبِيبِ الّذِي لَا شَيْءَ أَجَلّ مِنْهُ وَلَا أَعْظَمُ وَلَا أَجْمَلُ وَلَا أَكْمَلُ وَلَا أَعْظَمُ إحْسَانًا، إذَا امْتَلَأَ قَلْبُ الْمُحِبّ بِحُبّهِ، وَمَلَكَ حُبّهُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ؟!

•‌

‌ المبحث الخامس: بعض الأحاديث الضعيفة المشهورة في الصيام:

1 -

عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمُ الْعِبَادُ مَا رَمَضَانُ لَتَمَنَّتْ أُمَّتِي أَنْ يَكُونَ السَّنَةَ كُلَّهَا

إِنَّ الْجَنَّةَ لَتَزَيَّنُ لِرَمَضَانَ مِنْ رَأْسِ الْحَوْلِ إِلَى الْحَوْلِ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ يوم مِنْ رَمَضَانَ هَبَّتْ رِيحٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ

فَتَنْظُرُ الْحُورُ الْعِينُ إِلَى ذَلِكَ، فَيَقُلْنَ: يَا رَبِّ

(1)

«زاد المعاد» (2/ 32).

ص: 267

اجْعَلْ لَنَا مِنْ عِبَادِكَ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَزْوَاجًا تُقِرُّ أَعْيُنَنَا بِهِمْ، وَتُقِرُّ أَعْيُنَهُمْ بِنَا

» إلخ حديث طويل

(1)

.

2 -

عن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ الله صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ

» إلخ الحديث

(2)

.

3 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوَّلُ شَهْرِ رَمَضانَ رَحمَةٌ، وأوْسَطهُ مَغْفِرَةٌ، وآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ»

(3)

.

4 -

عن ابن عباس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَافِرُوا تَصحوا، وَصُومُوا تَصحوا،

(1)

موضوع: أخرجه ابن خزيمة (1886)، وابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 189)، من طريق جرير بن أيوب البجلي، عن الشعبي، عن نافع بن بردة، عن أبي مسعود. قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتهم به جرير بن أيوب. قال يحيى: ليس شيء. وقال الفضل بن دُكين: كان يضع الحديث. وقال النسائي والدارقطنى: متروك. تنبيه: في الموضوعات أبدل أبا مسعود، بعبد الله بن مسعود.

(2)

قال أبو حاتم: هذا حديث منكر «العلل» (1/ 149). أخرجه ابن خزيمة (1887)، من طريق علي بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان، وفى إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.

(3)

منكر: أخرجه العقيلى في «الضعفاء» (2/ 162)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 311)، من طريق سلام بن سوار، عن مسلمة بن الصلت، عنِ الزهري، عَنْ أبي سلمة، عن أبي هريرة. قال العقيلى: عن مسلمة بن الصلت، عن الزهري، ولا أصل له من حديث الزهري. قال ابن عدي: ومسلمة ليس بالمعروف.

ص: 268

وَاغْزُوا تَغْنَمُوا»

(1)

.

5 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ، لَمْ تُعْطَهَا أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ الله عز وجل كُلَّ يوم جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ الْمَئُونَةَ وَالأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ، وَيُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، فَلَا يَخْلُصُوا فِيهِ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، وَيُغْفَرُ لَهُمْ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ:«لَا، وَلَكِنَّ الْعَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ»

(2)

.

6 -

وعنه أيضًا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَفْطَرَ يومًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ رَخَّصَهَا الله لَهُ، لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ»

(3)

.

(1)

ضعيف جدًّا: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (7/ 57)، من طريق نهشل بن سعيد، عن الضحاك، عن ابن عباس، وهذا الحديث فيه علتان: الأولى: نهشل بن سعيد، متروك.

الثانية: الضحاك لم يسمع من ابن عباس، انظر:«جامع التحصيل» (ص 199، 200).

(2)

إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (2/ 292)، والبزار (9639)، والبيهقي في «الشعب» (3602)، من طرق عن هشام بن أبي هشام، عن محمد بن محمد بن الأسود، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. وفيه هشام بن أبي هشام متروك. ومحمد بن محمد بن الأسود مجهول الحال، وله شاهد في البيهقي «الشعب» (2603) وإسناده ضعيف. ولفظة:«خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» في «الصحيحين» .

(3)

ضعيف: رواه أحمد في «المسند» (2/ 386، 442)، وأبو داود في «السنن» (23969، والترمذي في «السنن» (7239، والنسائي في «الكبرى» (3278، 3283)، وابن ماجه في «السنن» (1672)، وغيرهم. أكثرهم من طرق عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي المطوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، وبعضهم قال: عن حبيب بن أبي ثابت، عن عمارة بن عمير، عن أبي المطوس. قال الترمذي في «السنن»: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَسَمِعْتُ مُحَمَّدًا يَقُولُ: أَبُو الْمُطَوِّسِ: اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُطَوِّسِ وَلَا أَعْرِفُ لَهُ غَيْرَ هَذَا الحَدِيثِ. وزاد في «العلل الكبير» للترمذي (199)، قال: ولا أدرى أسمع أبوه من أبي هريرة، أم لا. قال ابن حجر في «فتح الباري» (4/ 191): قَالَ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ: تَفَرَّدَ أَبُو الْمُطَوَّس بِهَذَا الْحَدِيث وَلَا أَدْرِي سَمِعَ أَبُوهُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَة أَمْ لَا. قلت: واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافًا كثيرًا حصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب. والجهل بحال أبي المطوس. والشك في سماع أبيه من أبي هريرة. وللمزيد انظر: «العلل» للدارقطنى (8/ 266 - 274). وأخرجه النسائي (3284) موقوفًا عن أبي هريرة. وأخرجه الدارقطنى في «السنن» (2/ 212) من طريق فيه عمار بن مطر. قال الذهبي عنه في «الميزان» : هالك. فالحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.

ص: 269

7 -

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال صيام العبد معلقًا بين السماء والأرض، حتى يؤدى زكاة فطره»

(1)

.

8 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى رَمَضَانَ»

(2)

.

9 -

عن على رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تَسَحَّرُوا وَلَوْ عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ، وَأَفْطِرُوا وَلَوْ عَلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ»

(3)

.

10 -

عن عبيد الله مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّ امْرَأَتَيْنِ صَامَتَا وَأَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَاهُنَا امْرَأَتَيْنِ قَدْ صَامَتَا، وَإِنَّهُمَا قَدْ كَادَتَا أَنْ تَمُوتَا مِنَ الْعَطَشِ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَوْ

(1)

ضعيف: رواه ابن الجوزى في «العلل المتناهية» (823)، وفيه عبد الرحمن بن عثمان، مجهول، وله شاهد من حديث جرير بن عبد الله، رواه ابن الجوزى في «العلل المتناهية» (824) من طريق محمد بن عبيد، عن معتمر، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله، وفى إسناده محمد بن عبيد، مجهول.

(2)

منكر: أخرجه أحمد (2/ 442)، وأبو داود (2337)، والترمذي (738)، والنسائي «الكبرى» (2911)، وابن ماجه (1651) وغيرهم، من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه عن أبي هريرة قلت: وقد استنكره أحمد وابن مهدى. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا يُحَدِّثُ بِهِ. قُلْتُ لأَحْمَدَ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصِلُ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ وَقَالَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافَهُ. اه. ذكره أبو داود في «السنن» . وأخرجه البخاري (1970) ومسلم (782) عن عائشة ل قالت: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان، وكان يصوم شعبان كله» .

(3)

الفقرة الثانية ضعيفة جدًّا: أخرجه ابن عدي (2/ 357) من طريق حسين بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، عن على، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عدي: والحسين ضعيف منكر الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال مالك وأبو حاتم: كذاب. ولكن للفقرة الأولى من الحديث شواهد.

ص: 270

سَكَتَ، ثُمَّ عَادَ، وَأُرَاهُ قَالَ: بِالْهَاجِرَةِ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّهُمَا وَالله قَدْ مَاتَتَا أَوْ كَادَتَا أَنْ تَمُوتَا. قَالَ:«ادْعُهُمَا» قَالَ: فَجَاءَتَا، قَالَ: فَجِيءَ بِقَدَحٍ أَوْ عُسٍّ فَقال لِإِحْدَاهُمَا: «قِيئِي» فَقَاءَتْ قَيْحًا أَوْ دَمًا وَصَدِيدًا وَلَحْمًا حَتَّى قَاءَتْ نِصْفَ الْقَدَحِ، ثُمَّ قال لِلأُخْرَى:«قِيئِي» فَقَاءَتْ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ وَصَدِيدٍ وَلَحْمٍ عَبِيطٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى مَلأَتِ الْقَدَحَ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ الله لَهُمَا، وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ الله عَلَيْهِمَا، جَلَسَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخْرَى، فَجَعَلَتَا يَأكلًانِ لُحُومَ النَّاسِ»

(1)

.

11 -

عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمسٌ يُفطِرن الصّائِم، وتنقُض الوُضُوء: الغِيبةُ، والنّمِيمةُ، والكذِبُ، والنّظرُ بِالشّهوةِ، واليمِينُ الكاذِبةُ»

(2)

.

(1)

ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 431)، من طريق يزيد بن هارون، عن سليمان التيمي، قال: سمعت رجلًا يحدث في مجلس أبي عثمان النهدي، عن عبيد الله مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: وفيه رجل، وهو مجهول.

(2)

موضوع: أخرجه ابن الجوز في «الموضوعات» (195) من طريق بقية قال: حدثنا محمد بن الحجاج، عن جابان، عن أنس. قال: وهذا موضوع، ومن سعيد إلى أنس كلهم مطعون فيهم. قال يحيى بن معين: وسعيد كذاب. وأخرجه ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 258) من طريق محمد بن الحجاج، عن ميسرة بن عبد الله، عن رجاء، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو حاتم: هذا حديث كذب، وميسرة بن عبد ربه كان يفتعل الحديث.

ص: 271

‌الباب الثاني صيام التطوع

(1)

وفيه فصلان

• الفصل الأول: الصوم المستحب.

• الفصل الثاني: الصوم المحرم والمكروه.

(1)

التطوع: أي النافلة، انظر «لسان العرب» (4/ 272). وقال النووي:«المجموع» (4/ 2) التطوع: في الأصل فعل الطاعة، وصار في الشرع مخصوصًا بطاعة غير واجبة. وهناك بحث قيم ونافع لأخي الحبيب: أسامة بن عبد العزيز في «صيام التطوع» وقد استفدت منه كثيرًا، وأسأل الله أن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يجمعني وإياه مع سيد الأنبياء والمرسلين.

ص: 272

الفصل الأول: الصوم المستحب

وفيه مباحث

• المبحث الأول: صوم يوم وإفطار يوم.

• المبحث الثاني: صوم الإثنين والخميس.

• المبحث الثالث: صوم ثلاثة أيام من كل شهر.

• المبحث الرابع: صوم ستة من شوال.

• المبحث الخامس: صوم عشر ذي الحجة.

• المبحث السادس: صوم يوم عرفة.

• المبحث السابع: صوم المحرم وتأكيد صوم عاشوراء.

• المبحث الثامن: صوم شعبان.

• المبحث التاسع: صوم الأشهر الحرم.

ص: 273

‌الفصل الأول: الصوم المستحب

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: صوم يوم وإفطار يوم:

صوم يوم وإفطار يوم هو أفضل الصوم، وأحبه إلى الله تعالى.

ففى «الصحيحين»

(1)

من حديث عبد الله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال «أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عليه السلام، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يومًا وَيُفْطِرُ يومًا» .

وفى رواية الصحيحين

(2)

: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو: «صُمْ يومًا وَأَفْطِرْ يومًا، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ عليه السلام وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ» . قال: قُلْتُ: فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» .

قال الشيخ ابن عثيمين

(3)

: ولكن هذا مشروط - أى: صوم يوم، وفطر يوم - بما إذا لم يضيع ما أوجب الله عليه، فإن ضيع ما أوجب الله عليه، كان هذا منهيًّا عنه؛ لأنه لا يمكن أن تضاع فريضة من أجل نافلة، فلو فُرض أن هذا الرجل إذا صام يومًا وأفطر يومًا، تخلَّف عن الجماعة في المسجد؛ لأنه يتعب في آخر النهار، ولا يستطيع أن يصل إلى المسجد، فنقول له: لا تفعل؛ لأن إضاعة الواجب أعظم من إضاعة المستحب، فهذا لا

(1)

أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159).

(2)

أخرجه البخاري (1976)، ومسلم (1159).

(3)

«الشرح الممتع» (6/ 474).

ص: 274

تأثم بتركه فاتركه.

كذلك لو انشغل بذلك عن مؤونة أهله، أى: انقطع عن البيع والشراء والعمل، فإننا نقول له: لا تفعل؛ لأن القيام بالواجب أهم من القيام بالتطوع.

•‌

‌ المبحث الثاني: صوم الإثنين والخميس:

يستحب صوم الإثنين والخميس، دلت على ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها:

الدليل الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صَوْمَ الإثنين وَالْخَمِيسِ»

(1)

.

الدليل الثانى: عن أبي قتادة الأنصارى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يوم الإثنين

(1)

صحيح: أخرجه النسائي (2186، 2360)، والترمذي (745)، وابن ماجه (1739)، وغيرهم من طريقي (عبد الله بن داود، ويحيى بن حمزة) عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن ربيعة الجرشي، عن عائشة به، وهذا إسناد صحيح. وأخرجه أحمد (6/ 80، 106) والنسائي (2361) وغيرهما عن الثوري، عن ثور، عن خالد بن معدان عن عائشة بإسقاط ربيعة الجرشي. وخالد بن معدان لم يلق عائشة، قاله أبو زرعة.

قال الدارقطني في العلل (ج 5/ 2 ف 22 أ): يرويه ثور بن يزيد، واختلف عنه: فرواه يحيى بن حمزة، وعبد الله بن داود الخريبي، عن ثور، عن خالد بن معدان، عن ربيعة، عن عائشة، وخالفهما الثوري: فرواه عن ثور، عن خالد بن معدان، عن عائشة: أسقط منه ربيعة، والقول قول من أثبته فيه.

قلت: والثوري عليه خلاف، فروى عنه الجماعة منهم:(مؤمل بن إسماعيل، والفريابي، واالأشجعى، ومحمد بن حميد وغيرهم) الرواية التى ذكرت. وخالفهم أبو داود الحفرى، فرواه عن سفيان، عن منصور، عن خالد بن سعد، عن عائشة به. أخرجه النسائي (2362). وقال: هذا خطأ، ليس هذا من حديث منصور. كذا قال أبو حاتم «علل الحديث» (1/ 424). وأخرجه أحمد (6/ 89)، والنسائي (2185، 2359)، وغيرهما من طريق بقية بن الوليد، قال: حدثنا بحير، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن عائشة به. وفى إسناده بقية بن الوليد وهو مدلس تدليس التسوية، ولم يصرح بالسماع إلى نهاية السند بل صرح بالسماع عن شيخه فقط.

ص: 275

قال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيه»

(1)

.

الدليل الثالث: عن أسامة بن زيد {قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تَصُومُ لَا تَكَادُ أَنْ تُفْطِرَ، وَتُفْطِرَ حَتَّى لَا تَكَادَ أَنْ تَصُومَ إِلاَّ يومين إِنْ دَخَلَا فِي صِيَامِكَ وَإِلاَّ صُمْتَهُمَا. قَالَ:«أَيُّ يومين؟» قَالَ: قُلْتُ: يوم الإثنين، وَيوم الْخَمِيسِ. قَالَ:«ذَانِكَ يومًانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الأَعْمَالُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»

(2)

.

•‌

‌ المبحث الثالث: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وفيه مسائل:

• الأولى: يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر:

وذلك كصيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وقد دل على ذلك السنة والإجماع.

ففي الصحيحين

(3)

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ.

وفي «الصحيحين»

(4)

عن عبد الله بن عمرو قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ» .

روى مسلم عن أبى قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ» .

(1)

أخرجه مسلم (1162).

(2)

حسن: أخرجه أحمد (5/ 201، 206)، والنسائي (2357) وغيرهما من طرق عن عبد الرحمن بن مهدى، وإسماعيل بن أبي أويس، عن ثابت بن قيس أبي الغصن، قال: حدثنى أبو سعيد المقبري، قال: حدثني أسامة بن زيد به.

قلت: هذا إسناد حسن. ورواه زيد بن الحباب واختلف عليه، فرواه هكذا ورواه مرة عن ثابت بن قيس، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن أسامة بن زيد به. أخرجه النسائي (2358)، وغيره، والرواية الأولى أصح لموافقتها لرواية الجماعة.

(3)

أخرجه البخاري (1981)، ومسلم (721).

(4)

أخرجه مسلم (722).

ص: 276

أما الإجماع: فقد نقل ابن قدامة

(1)

الإجماع على استحباب صوم ثلاثة أيام من كل شهر، فقال: لا نعلم فيه خلافًا.

• الثانية: كيفية صوم النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأيام الثلاثة:

الأول: يستحب أن يجعل صيام هذه الأيام الثلاثة صيام الأيام البيض: وهى (الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر) دل على ذلك أدلة منها:

1 -

عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه: «صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صِيَامُ الدَّهْرِ، وَأَيَّامُ الْبِيضِ صَبِيحَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ»

(2)

.

2 -

عن قتادة بن ملحان رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنا بِصِيَامِ الْبِيضِ، ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ، وَيَقُولُ:«هُوَ كَصَوْمِ الدَّهْرِ، أَوْ كَهَيْئَةِ صَوْمِ الدَّهْرِ»

(3)

.

(1)

انظر: «المغني» (4/ 445).

(2)

صحيح لشواهده: مدار هذا الحديث على أبي إسحاق، عن جرير بن عبد الله، واختلف عليه في الرفع والوقف. فرواه زيد بن أبي أنيسة، وغيلان بن جامع، عن أبي إسحاق، عن جرير عن

النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه النسائي (2419) والطبرى في «تهذيب الآثار» (1 رقم 539).

ورواه المغيرة بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن جرير موقوفًا. وذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 267). ورواية الرفع أصح لأن زيد بن أبي أنيسة أوثق من المغيرة بن مسلم، وزيد بن أبي أنيسة متابع من غيلان، وصحح أبو زرعة الرفع، فقال: حديث أبي إسحاق، عن جرير المرفوع أصح من الموقوف؛ ولأن زيد بن أبي أنيسة أحفظ من مغيرة بن مسلم.

قلت: وهذا إسناد صحيح، لولا عنعنة أبي إسحاق فإنه يدلس.

(3)

حسن لشواهده: أخرجه أحمد (4/ 165)، (5/ 27، 28)، وأبو داود (2449)، والنسائي (2429، 2430، 2431)، وابن ماجه (1707) وغيرهم. من طريق: أنس بن سيرين، عن عبد الملك، عن أبيه مرفوعًا. ورواه عن أنس شعبة، وهمام، واختلف في اسم عبد الملك، فقال شعبة: عبد الملك بن المنهال. وقال همام: عبد الملك بن قتادة بن ملحان. والصواب ما قاله همام وأخطأ شعبة. وقال ابن ماجه عقبه: أخطأ شعبة، وأصاب همام. قال البيهقي عقب إخراجه لحديث شعبة: وروينا عن يحيى بن معين أنه قال: هذا خطأ، إنما هو عبد الملك بن قتادة بن ملحان القيسى، وقال الطبراني عقب حديث شعبة: هكذا رواه شعبة، عن أنس، عن =

ص: 277

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=عبد الملك بن المنهال، عن أبيه، ووهم فيه، والصواب حديث همام. قلت: وفى إسناده عبد الملك بن قتادة قال الحافظ: مقبول ولم يوثقه إلا ابن حبان، فحديثه يصلح في الشواهد والمتابعات. وله شاهد: فعن ابْنِ الْحَوْتَكِيَّةِ قَالَ: قال عُمَرُ: مَنْ حَاضِرُنَا يوم الْقَاحَةِ؟ قال أَبُو ذَرٍّ: أَنَا شَهِدْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِأَرْنَبٍ وَقال مَرَّةً: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ بِأَرْنَبٍ، فَقال الَّذِي جَاءَ بِهَا: إِنِّي رَأَيْتُهَا كَأَنَّهَا تَدْمَى، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ مِنْهَا، فَقال لَهُمْ:«كُلُوا» ، فَقال رَجُلٌ: إِنِّي صَائِمٌ. قَالَ: «وَمَا صَوْمُكَ؟» فَأَخْبَرَهُ قَالَ: «فَأَيْنَ أَنْتَ عَنِ الْبِيضِ الْغُرِّ؟» قَالَ: وَمَا هُنَّ؟ قال «صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» . مدار هذا الحديث على موسى بن طلحة واختلف عليه ألوانًا:

1 -

فرواه محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، وحكيم بن جبير، وعمرو بن عثمان بن موهب (ثلاثتهم) عن موسى بن طلحة، عن ابن الْحَوْتَكِيَّةِ، عن أبي ذر به. أخرجه أحمد (5/ 150)، والنسائي (2424، 4322، 2425) وغيرهما. ورواه محمد بن عبد الرحمن، عن الحكم بن عتيبة، عن ابن الحوتكية، عن أبي به. أخرجه النسائي (2426) وعقب بقوله: الصواب عن أبي ذر، ويشبه أن يكون وقع من الكتاب ذر، فقيل: أبي. قلت: وفى إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو سيئ الحفظ. ووقع اختلاف على حكيم بن جبير فرواه الجماعة كما ذكرنا، وخالفهم المسعودى فرواه عن موسى، عن ابن الحوتكية، عن عمار به. أخرجه أحمد (1/ 31)، وغيره. ورواية الجماعة أصح، والمسعودى قد أختلط. ورواه يحيى بن سام، عن موسى، عن أبي ذر. (بإسقاط ابن الحوتكية). أخرجه أحمد (5/ 152) والنسائي (2421)، والترمذي (761) وغيرهم. وفى إسناده يحيى بن سام مقبول الحديث، وإن كان تابعه عمرو بن عثمان بن موهب، أخرجه الحميدى (137). قلت: ولكن عمرو بن عثمان له رواية ثانية موافقة لرواية الجماعة. ورواه طلحة بن يحيى، عن موسى بن طلحة مرسلًا. أخرجه النسائي (2427، 2428). قلت: وفى إسناده طلحة بن يحيى متكلم فيه، ورواه عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة به. وأخرجه أحمد (2/ 336، 346)، والنسائي (4321) وابن حبان (3650) قال ابن حبان عقب إخراجه: سمع هذا الخبر موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، وسمعه عن ابن الحوتكية، عن أبي ذر، والطريقان جميعًا محفوظان. قلت: وفى إسناده عبد الملك قد تكلم فيه غير واحد من أهل العلم قال ابن معين: مخلط وقال أحمد: مضطرب الحديث جدًّا. ومما سبق يظهر رجحان رواية الجماعة، وهى من طريق موسى، عن ابن الحوتكية، =

ص: 278

الثاني: صوم غرة الشهر: أي صوم الثلاثة أيام الأول من كل شهر.

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ

(1)

، وَقَلما يُفْطِرُ يوم الْجُمُعَةِ

(2)

.

الثالث: صوم الإثنين والخميس من هذه الجمعة والإثنين من المقبلة:

عن أم سلمة رضي الله عنها قالت «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: الإثنين وَالْخَمِيسَ مِنْ هَذِهِ الْجُمُعَةِ، وَالإثنين مِنَ المقْبِلَةِ»

(3)

.

=عن أبي ذر. وابن حوتكية: مقبول، لم يوثقه معتبر، وذكره ابن حبان في الثقات. فيصلح هذا الحديث بشواهده. فبمجموع شواهد هذا الحديث يكون حسنًا لشواهده والله أعلم.

(1)

غُرَّة كل شيء: أولُه وأكرمه «مختار الصحاح» (ص 471).

(2)

مدار هذا الحديث على عاصم بن أبي النجود، عن زر، عن ابن مسعود، واختلف عليه: فرواه جماعة منهم (سفيان، شيبان بن عبد الرحمن، أبو حمزة السكرى). عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود مرفوعًا. أخرجه أحمد (1/ 406) وأبو داود (2450) والنسائي (2367)، والترمذي (742)، وابن ماجه (1725) وغيرهم. وخالفهم شعبة، فرواه عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود من قوله. ذكره الترمذي في «السنن» (3/ 110). والدارقطني في «العلل» (5/ 60). وقال: وقفه شعبة عن عاصم، ورفعه صحيح. قلت: وفى إسناده عاصم بن أبي النجود وروايته عن ذر فيها مقال، قال ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (340): عاصم بن أبي النجود كان حفظه سيئًا، وحديثه خاصة عن ذر وأبي وائل مضطرب، كان يحدث بالحديث تارة عن ذر وتارة عن أبي وائل، وكذلك وجود الخلاف على عاصم في الرفع والوقف، وعاصم لا يتحمل مثل هذا الخلاف. وكذلك متن هذا الحديث «وَقَلما يُفْطِرُ يوم الْجُمُعَةِ» يخالف الثابت الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصيام، والله أعلم.

(3)

ضعيف: مدار هذا الحديث على عاصم بن أبي النجود، عن سواء الخزاعى، فرواه عن عاصم:

1 -

حماد بن سلمة واختلف عليه. فرواه (عفان بن مسلم، وأبو نصر التمار، وعبد الواحد بن غياث). عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النجود، عن سواء الخزاعى، عن أم سلمة به. أخرجه النسائي (2364)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 294 - 295). وخالفهم:(روح بن عبادة، وموسى بن إسماعيل، والنضر، وعبد الأعلى، وعبد الواحد بن غياث)، فرووه عن: حماد بن سلمة، عن عاصم، عن سواء، عن حفصة به (فجعلوه من مسند حفصة). أخرجه أبو داود (2451)، والنسائي (2365) وغيرهما. قلت: وهذا الخلاف في الصحابي لا يضر. ولكن في إسناده سواء وهو مجهول، حيث ذكره ابن حبان في الثقات، ولم يوثقه معتبر. وخالف حماد بن سلمة.

2 -

زائدة بن قدامة. فرواه عن عاصم، عن المسيب بن رافع، عن حفصة، قالت:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ الإثنين وَالْخَمِيسَ» أخرجه النسائي في «الكبرى» (2787). قلت: والمسيب بن رافع لم يسمع من حفصة.

قال ابن معين: لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من البراء، وأبي إياس عامر بن عبدة. وقال المزى في «تهذيب الكمال»: روى عن حفصة وأم حبيبة، والصحيح أن بينه وبينهما رجلًا.

3 -

سفيان الثوري، فرواه عن عاصم، عن المسيب، عن سواء، عن عائشة (كرواية زائدة). أخرجه النسائي (2363)، وابن خزيمة (2116). وهذا إسناد ضعيف؛ لأن الراوى عن سفيان هو يحيى بن يمان، وهو يخطئ في حديث الثوري.

ص: 279

الثالثة: استحباب ألا يخلو شهر من صيام:

إذا كان العبد لا يستطيع أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، فعليه أن يصوم الإثنين والخميس، فإن عجز عن ذلك، فعليه أن يصوم الأيام البيض، فإن عجز فعليه أن يصوم ما استطاع، وألا يخلى شهرًا من صيام.

روى مسلم

(1)

عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قال: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: هَلْ كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا مَعْلُومًا سِوَى رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: «وَاللَّهِ إِنْ صَامَ شَهْرًا مَعْلُومًا سِوَى رَمَضَانَ حَتَّى مَضَى لِوَجْهِهِ، وَلَا أَفْطَرَهُ حَتَّى يُصِيبَ مِنْهُ» .

وجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم شهرًا كاملًا سوى رمضان، ولم يُخل شهرًا إلا وله حظ ونصيب من الصوم صلوات الله وسلامه عليه.

قال النووي

(2)

: في هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَلَّا يُخْلِيَ شَهْرًا مِنْ صِيَام، وَفِيهَا: أَنَّ صَوْم النَّفْل غَيْر مُخْتَصٍّ بِزَمَانٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ كُلّ السَّنَة صَالِحَة لَهُ إِلَّا رَمَضَانَ وَالْعِيدَ وَالتَّشْرِيقَ.

والحاصل في هذه المسألة: أن في هذا الحديث من الفقه أن الصوم مستحب في كل

(1)

أخرجه مسلم (1156).

(2)

النووي «شرح مسلم» (3/ 223).

ص: 280

وقت إلا الأوقات المنهى عنها، كإفراد يوم الجمعة بالصوم، ويومى العيد، وأيام التشريق؛ ولذلك ورد في الصحيح:«أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ» .

• يُقسم صيام التطوع على مراتب:

• المرتبة الأولى: هى التى حث فيها النبي صلى الله عليه وسلم على الصوم، كصوم يوم وإفطار يوم، وصوم الإثنين والخميس، وصوم يوم عرفة، وعاشوراء، وست أيام من شوال، والأيام البيض، فهذه أفضل المراتب.

• المرتبة الثانية: هى الأيام التى نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم فيها، كيومى العيد، وأيام التشريق، فهذه يحرم صومها.

• المرتبة الثالثة: هى الأيام التى لم يرد فيها استحباب خاص ولا نهى خاص، فهذه صومها مستحب لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفطر شهرًا حتى يصيب منه «أى يصوم منه» وورد عنه أيضًا أنه كان يصوم حتى يقال: إنه لا يفطر، ويفطر حتى يقال: إنه لا يصوم، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الرابع: صوم ست من شوال، وفيه مسائل:

• الأولى: هل يستحب صوم ست من شوال؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم إلى استحباب صوم ستة أيام من شوال، وهو قول الشافعي

(1)

، وأحمد

(2)

.

قال النووي: قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها،

(1)

النووي «شرح مسلم» (3/ 238).

(2)

«المغني» (4/ 438)، وعبد الله بن أحمد في «مسائله» (ص 1930)، وشيخ الإسلام في «شرح العمدة» (2/ 556).

ص: 281

فرمضان بعشرة أشهر، والستة بشهرين

(1)

.

واستدلوا لذلك بحديث أبى أيوب الأنصارى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»

(2)

.

(1)

«شرح مسلم» (3/ 238).

(2)

صحيح لشواهده: أخرجه مسلم (1164)، وأبو داود (2433)، والترمذي (759)، والنسائي في «الكبرى» (2862)، وابن ماجه (1716)، وأحمد (5/ 417، 419). من طرق: (عبد الله بن المبارك، وروح بن القاسم، وأبي معاوية، وابن جريج، وابن نمير، وغيرهم)، كلهم من طريق: سعد بن سعيد بن قيس الأنصارى، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب الأنصارى، عن النبي صلى الله عليه وسلم به. وخالف هذا الجمع سفيان بن عيينة، فرواه عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب الأنصارى، من قوله. أخرجه الحميدى في «المسند» (380)، والطحاوي في «المشكل» (2342). قلت: ورواية الجماعة أثبت، قال الحميدى: قلت لسفيان، إنهم يرفعونه. قال: اسكت عنه، قد عرفت ذلك.

قلت: وعلى كلٍّ فسعد بن سعيد قد تكلم فيه غير واحد من أهل العلم، منهم أحمد، وابن حبان.

قلت: تابع سعدًا على رفعه جماعة وهم: يحيى بن سعيد الأنصارى. أخرجه النسائي في «الكبرى» (2866)، وغيره، من طريق عتبة بن أبي حكيم، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب به. قلت: وفى إسناده عتبة بن أبي حكيم: ضعيف.

وتابع عبد الملك بن أبي بكر عليه إسماعيل بن إبراهيم الصائغ، أخرجه الحميدى في «المسند» (382). قلت: وفى إسناده إسماعيل بن إبراهيم: ضعيف، قال البخاري: سكتوا عنه.

وخالفهما حفص بن غياث، فرواه عن يحيى بن سعيد، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب به. أخرجه الطبراني في «الكبير» (4/ رقم 3912)، وفى «الأوسط» (4976)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 352) من طريق: إبراهيم بن يوسف الصيرفى، عن حفص به. وخالف إبراهيم حبان بن هلال، فرواه عن حفص، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت به. (كذا دون ذكر يحيى بن سعيد). أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2345). قال الطبراني عقب إخراجه: قال حفص: ثم لقيت سعدًا فحدثنى به. وعلى ذلك فرواية يحيى بن سعيد، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب، هذا هو الصحيح من رواية يحيى بن سعيد فبذلك رجع الحديث إلى الطريق الأول وهو طريق سعد بن سعيد.=

ص: 282

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=

2، 3 - صفوان بن سليم، وزيد بن أسلم. أخرجه أبو داود (2433)، والنسائي في «الكبرى» (2863) وغيرهما، من طرق «الحميدى، ونعيم بن حماد، وخلاد بن أسلم، وغيرهم). كلهم عن الدراوردى، عن صفوان بن سليم، وسعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب به. وأخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (2343)، من طريق: سعيد بن منصور، عن الداروردى، عن صفوان بن سليم، وزيد بن أسلم، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب به. وعلى كل حال فالداروردي سيء الحفظ.

4 -

عبد ربه بن سعيد. رواه عنه ابن لهيعة، واختلف عليه، فرواه عبد الله بن يوسف، عن ابن لهيعة، عن عبد ربه بن سعيد، عن سعد بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب به.

أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار» (2337). وخالف عبد الله بن يوسف: كامل بن طلحة الجحدرى، فرواه عن ابن لهيعة، عن عبد ربه بن سعيد، عن يحيى بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب به. قلت: وابن لهيعة متكلم فيه.

وخالف ابن لهيعة شعبة، فرواه عن عبد ربه بن سعيد، عن عمر بن ثابت، عن أبي أيوب الأنصارى موقوفًا. فمدار الحديث على سعد بن سعيد، وهو متكلم فيه كما ذكرنا، وكل المتابعات التى جاءت لرواية الرفع فيها مقال.

قال الطحاوي في «مشكل الآثار» (6/ 121): فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا لم يَكُنْ بِالْقَوِيِّ فِي قُلُوبِنَا لما سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ عَلَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمِنْ رَغْبَتِهِمْ عَنْهُ، حَتَّى وَجَدْنَاهُ قَدْ أَخَذَهُ عَنْهُ مَنْ قَدْ ذَكَرْنَا أَخْذَهُ إِيَّاهُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْجَلَالَةِ فِي الرِّوَايَةِ وَالثَّبَتِ فِيهَا؛ فَذَكَرْنَا حَدِيثَهُ لِذَلِكَ. قال ابن رجب في «الطائف المعارف» (ص 389): وقد اختلف في هذا الحديث، ثم في العمل به، فمنهم من صححه، ومنهم من قال: هو موقوف، قاله ابن عيينة وغيره، وإليه يميل الإمام أحمد، ومنهم من تكلم في إسناده. قلت: وللحديث شاهد صحيح من حديث ثوبان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ فَشَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ فَذَلِكَ تَمَامُ صِيَامِ السَّنَةِ» . أخرجه أحمد (5/ 280)، والنسائي في «الكبرى» (2860، 2861)، وابن ماجه (1715)، من طرق (صدقة بن خالد، وإسماعيل بن عياش، ومحمد بن شعيب وغيرهم)، كلهم من طرق: عن يحيى بن الحارث، عن أبي أسماء الرحبى، عن ثوبان به.

وخالف الجماعة: مروان الطاطرى. فرواه عن يحيى بن الحارث، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم به. أخرجه ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (1/ 252) قال: وحديث

ص: 283

القول الثانى: ذهب الحسن البصرى،

(1)

وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومالك، إلى كراهة صيامها.

واستدلوا لذلك أنه يلحق بالفريضة، ما ليس منها فيظن الناس وجوبها

(2)

.

قال أبو يوسف: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُتْبِعُوا رَمَضَانَ صَوْمًا؛ خَوْفًا أَنْ يَلْحَقَ ذَلِكَ بِالْفَريضَةِ

(3)

.

واعْتُرِض عليه بأن صيام ستة أيام من شوال ليس فيها إلحاق النافلة بالفريضة، ولكن بينهما فاصل، وهو يوم العيد.

قال شيخ الإسلام

(4)

: وكان أحمد ينكر على من يكرهها؛ كراهة أن يلحق برمضان ما ليس منه، لأن السنة وردت بفضلها، والحض عليها، ولأن الإلحاق إنما خيف في أول الشهر؛ لأنه ليس بين رمضان وغيره فصل، أما في آخره، فقد فصل بينه وبين غيره بيوم العيد، وكان نهيه عن صوم يوم العيد وحده ليلًا، على أن النهى مختص به، وأن ما بعده وقت إذن وجواز، ولو شاء لنهى عن أكثر من يوم، كما قال في أول الشهر:«لا تقدموا رمضان بصوم يوم، ولا يومين»

(5)

.

واستدل الإمام مالك على الكراهة بما قاله في «الموطأ»

(6)

قال يَحْيَى: وسَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ في صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ: إِنَّهُ لم يَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلم وَالْفِقْهِ

= ثوبان الصحيح: يحيى بن الحارث، سمع أبا أسماء، عن ثوبان به عن النبي صلى الله عليه وسلم. وللحديث شواهد أخر لا تخلو من مقال منها: حديث جابر، وابن عباس وأبي هريرة.

(1)

أخرجه الترمذي (3/ 124)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 97) بإسناد صحيح، عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ قَالَ: كَانَ إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ صِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ بِصِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ عَنِ السَّنَةِ كُلِّهَا.

(2)

انظر: «نيل الأوطار» (4/ 282).

(3)

«بدائع الصنائع» (2/ 78).

(4)

«شرح العمدة» (2/ 559).

(5)

صحيح: سيأتى تخريجه.

(6)

انظر: «الموطأ» (1/ 330).

ص: 284

يَصُومُهَا، وَلم يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلم يَكْرَهُونَ ذَلِكَ، وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وَأَنْ يُلْحِقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ.

قال الشوكانى

(1)

: قال أبو حنيفة ومالك: يكره صومها. واستدلا على ذلك بأنه ربما ظُن وجوبها، وهو وباطل، لا يليق بعاقل، فضلًا عن عالم نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة، وأيضًا يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها، ولا قائل به.

قلت: وقد اعتذر ابن عبد البر

(2)

عن مالك في قوله فقال لم يَبْلُغْ مَالِكًا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ مَدَنِيٌّ، وَالْإِحَاطَةُ بِعِلم الْخَاصَّةِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَالَّذِي كَرِهَهُ لَهُ مَالِكٌ أَمْرٌ قَدْ بَيَّنَهُ وَأَوْضَحَهُ، وَذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يُضَافَ إِلَى فَرْضِ رَمَضَانَ وَأَنْ يَسْتَبِينَ ذَلِكَ إِلَى الْعَامَّةِ، وَكَانَ رحمه الله مُتَحَفِّظًا كَثِيرَ الِاحْتِيَاطِ لِلدِّينِ.

• الثانية: هل يشترط التتابع في هذه الأيام؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: يستحب التتابع، وهوقول الشافعية:

واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» الحديث.

قال النووي

(3)

: قال أصحابنا: يستحب صوم ستة أيام من شوال، لهذا الحديث، قالوا: يستحب أن يصومها متتابعة في أول شوال، فإن فَرَّقَها أو أخرها عن أول شوال جاز، وكان فاعلًا لأصل هذه السنة؛ لعموم الحديث وإطلاقه، وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال أحمد، وداود.

(1)

«نيل الأوطار» (4/ 282).

(2)

«الاستذكار» (10/ 259).

(3)

«المجموع» (6/ 379).

ص: 285

القول الثانى: لا يشترط التتابع، وهو قول الحنابلة.

قال شيخ الإسلام

(1)

، «ولا يشترط تتابعها، فسواء صامها عقيب الفطر أو فصل بينهما، وسواء تابعها أو فَرَّقَها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأتبعه بست من شوال» ، وفى رواية:«ستًّا من شوال» ، فجعل شوالًا كله محلًا لصومها، ولم يخصص بعضه من بعض، ولو اختص ذلك ببعضه لقال: ستًّا من أول شوال، أو من آخر شوال، وإتباعه بست من شوال يحصل بفعلها من أوله، أو آخره؛ لأنه لابد من الفصل بينها وبين رمضان بيوم الفطر، وهو من شوال.

• الثالثة: هل يجوز تقديم الست من شوال على قضاء رمضان؟

يجوز صوم الست من شوال قبل قضاء ما عليه، من رمضان، والأصل في ذلك أن قضاء رمضان وقته موسع كما قال تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].

وفى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ يَكُونُ عَلَىَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ في شَعْبَانَ» .

أما صيام الست من شوال، فالوقت فيها خاص بشوال، ولكن لم يحز الفضل الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، شهرًا بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام من شوال، ذلك تمام السنة إلا بعد قضاء ما عليه من رمضان.

أما من استدل بحديث «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ» والذى عليه من أيام من رمضان ما يكون صام رمضان، فتقول: أحيانًا تطلق هذه الألفاظ على التغليب. «وكان الرسول يصوم شعبان كله» أي إلا قليلًا.

قال الترمذي

(2)

: جَائِزٌ في كَلَامِ العَرَبِ، إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يُقَالَ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَيُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ لَيْلَهُ أَجْمَعَ، وَلَعَلَّهُ تَعَشَّى وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ، اه. وقضاء رمضان موسع كما ذكرنا، فمتى قضى الذي عليه من رمضان، مع صيام ست أيام من شوال، حصل له الأجر إن شاء الله. مع أن الأصل أن المسلم يبادر بقضاء ما عليه أولًا، ثم

(1)

«شرح العمدة» (2/ 559).

(2)

«السنن» (3/ 105).

ص: 286

يصوم الست من شوال؛ لقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. وقال الله عز وجل في الحديث القدسى: «وَمَا تَقَرَّبَ إلى عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلى مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» .

ولكن إذا كان يشق عليه القضاء، مع صوم ستة أيام من شوال، وأراد أن لا يفوته الأجر والمثوبة، فله أن يصوم الستة أيام من شوال، ثم يقضى ما عليه بعد ذلك فله ذلك والله أعلم، لأن قضاء رمضان وقته موسع وصيام الستة الوقت فيها محدود، وهذا كثيرًا ما يحدث للنساء فيكون عليهن قضاء سبعة أيام أو ثمانية من رمضان، وتريد ألا تُحرم الأجر، وترى المشقة في القضاء مع التطوع، فنقول: صومى التطوع، ثم عجِّلى بصيام القضاء، أما إذا لم يكن هناك مشقة، فيبدأ بالقضاء، ثم التطوع، والله أعلم بالصواب.

•‌

‌ المبحث الخامس: صوم عشر ذى الحجة

(1)

: وفيه مسائل:

• الأولى: أفضلية العمل الصالح في العشر الأُول:

وردت بعض العمومات التى تدل على أفضلية العمل الصالح في العشر الأُول من ذى الحجة، ويدخل فيها الصيام، قال تعالى:{وَالْفَجْرِ 1 وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2].

قال النووي: المراد بالعشر: الأيام التسعة من أول ذي الحجة

(2)

وأقسم الله بها لعظمها.

روى البخاري

(3)

عن ابن عباس {قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا الْعَمَلُ في أَيَّامٍ

(1)

المراد بالعشر هنا: الأيام التسعة من أول ذى الحجة.

(2)

«شرح مسلم» (3/ 251).

(3)

رواه البخاري، ووقع في بعض نسخ البخاري بلفظ (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنْ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ ..... ) الحديث، ومعنى الحديث، كما فسره بعض شراح البخاري، كأنه يشير إلى فضل أيام التشريق، وأن العمل في العشر الأول من ذي الحجة ليس أفضل من العمل في أيام التشريق ولذلك بوب البخاري: باب: فضل العمل في أيام التشريق.

قلت: وهذه الرواية مخالفة لجميع روايات الحديث فهى شاذة. روى أحمد (1/ 224)، وابن أبي شيبة (5/ 348)، وابن ماجه (1727) وغيرهم من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عز وجل مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا =

ص: 287

أَفْضَلَ مِنْهَا في هَذِهِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ. إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ» .

وجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب في الأعمال الصالحة في العشر الأُول من ذى الحجة، والصيام من جملة الأعمال الصالحة، بل من أفضلها.

قال ابن حزم: ويستحب صيام العشر من ذي الحجة - قبل يوم النحر - ثم ساق حديث ابن عباس وهى عشر ذى الحجة، والصوم عمل بر، وصوم عرفة يدخل فيها أيضًا.

=الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلًا خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ ثُمَّ لم يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْء» ، وروى الترمذي (757) وغيره من طريق:(هناد بن السرى، وأحمد بن سنان)، عن أبي معاوية، عن الأعمش به، بلفظ:«مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ العَشْرِ» . قلت: وتابع أبا معاوية:

1 -

الأعمش، واختلف عليه: فرواه سفيان الثوري، عن الأعمش كرواية أبي معاوية. أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (8121)، وغيره. ورواه وكيع، عن الأعمش، عن «أبي صالح، ومجاهد، ومسلم البطين» ، عن سعيد، عن ابن عباس باللفظ الأول، أخرجه أبو داود (2438).

2 -

شعبة، واختلف عليه: فرواه «سعيد بن الربيع، وأبو داود الطيالسى، وعمر بن مرزوق» ، عن شعبة به. بلفظ:«مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ» . أخرجه الدارمي (2/ 25)، والطيالسى (ص 342، 343)، والطبراني (12/ رقم 12327) وغيرهم. ورواه محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بلفظ:«يعنى أيام العشر» . ورواه يحيى بن سعيد، عن شعبة بلفظ:«ما من أيام العمل فيها أفضل من هذه الأيام» .

قال الحافظ في «الفتح» : وَالسِّيَاقُ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لما رَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ مِنْ الْحُفَّاظِ عَنْ الْكُشْمِيهَنِيِّ شَيْخِ كَرِيمَةَ بِلَفْظِ «مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذَه الْعَشْرِ» .

ومما يدل على شذوذ هذه الرواية: ما أخرجه الدارمي (2/ 25 - 26)، وغيره، من طريق: يَزِيد بْنِ هَارُونَ عن أَصْبَغَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِى أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عز وجل وَلَا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ في عَشْرِ الأَضْحَى» الحديث.

وله شواهد لا تخلو من مقال منها كحديث جابر وابن عمر وأبي هريرة وابن عمرو.

ص: 288

• الثانية: الأدلة الخاصة في المسألة:

ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديثان:

الأول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا في الْعَشْرِ قَطُّ»

(1)

.

الثانى: عن حفصة رضي الله عنها قالت: «أَرْبَعٌ لم يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُنَّ: صِيَامَ الْعَشْرِ،

(1)

أخرجه مسلم (1176)، وقال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ وَإِسْحَاقُ قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ به. وَحَدَّثَنِى أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِىُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يَصُمِ الْعَشْرَ، قلت: وهذا الحديث قد انتقده الدارقطني على مسلم، وقد سئل عن هذا الحديث في العلل (ج 5/ 2/ ق 19 أ) فَقال: يَروِيهِ إِبراهِيمُ النَّخَعِيُّ، واختُلِف عَنهُ؛ فَرَواهُ الأَعمَشُ، عَنْ إِبراهِيم، عَنِ الأَسوَدِ، عَنْ عائِشَة، ولم يُختَلَف عَنِ الأَعمَشِ فِيه. حَدَّث بِهِ عَنهُ أَبُو مُعاوِيَة، وحَفصُ بن غِياثٍ، ويَعلَى بن عُبَيدٍ، وزائِدَةُ بن قُدامَة، وعبدة بن سُلَيمان، والقاسِمُ بن مَعنٍ، وأَبُو عَوانَة، واختُلِف عَنِ الثَّورِيِّ؛ فَرَواهُ ابن مَهدِيٍّ، عَنِ الثَّورِيِّ، عَنِ الأَعمَشِ، كَذَلِك. وتابعه يَزِيد بن زُرَيعٍ، واختُلِف عَنهُ؛ فَرَواهُ حُمَيدٌ المروَزِيُّ، عَنْ يَزِيد بنِ زُرَيعٍ، عَنِ الثَّورِيِّ، عَنِ الأَعمَشِ، مِثل قَولِ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ مَهدِيٍّ، وحَدَّث بِهِ شَيخٌ مِنْ أَهلِ أَصبَهان، يُعرَفُ بِعَبدِ الله ابنِ مُحَمدِ بنِ النُّعمانِ، عَنْ مُحَمدِ بنِ مِنهالٍ الضَّرِيرِ، عَنْ يَزِيد بنِ زُرَيعٍ، عَنِ الثَّورِيِّ، عَنْ مَنصُورٍ، عَنْ إِبراهِيم، عَنِ الأَسوَدِ، عَنْ عائِشَة. وَتابَعَهُ مَعمَرُ بن سَهلٍ الأَهوازِيُّ، عَنْ أَبِي أَحمد الزُّبَيرِيِّ، عَنِ الثَّورِيِّ. والصَّحِيحُ: عَنِ الثَّورِيِّ، عَنْ مَنصُورٍ، عَنْ إِبراهِيم، قال: حُدِّثت أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وكَذَلِك رَواهُ أَصحابُ مَنصُورٍ، عَنْ مَنصُورٍ مرسلًا مِنهُم فُضيلُ بن عياض، وجَرِيرٌ. قلت: وقد رجح الترمذي رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة متصلًا؛ لأن الأعمش أحفظ لحديث إبراهيم من منصور، قال الترمذي في «السنن» (3/ 120): «هَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الحَدِيثَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُرَ صَائِمًا فِي العَشْرِ.

وَرَوَى أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَائِشَةَ، وَلم يَذْكُرْ فِيهِ: عَنِ الأَسْوَدِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا عَلَى مَنْصُورٍ فِي هَذَا الحَدِيثِ، وَرِوَايَةُ الأَعْمَشِ أَصَحُّ وَأَوْصَلُ إِسْنَادًا. وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ: الأَعْمَشُ أَحْفَظُ لِإِسْنَادِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ مَنْصُورٍ.

ص: 289

وَعَاشُورَاءَ، وَصَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ»

(1)

.

(1)

مضطرب: مدار هذا الحديث على الحر بن الصياح واختلف عليه: فرواه أبو عوانة، عن الحر بن الصياح، عن هنيدة بن خالد الخزاعى، عن امرأته، عن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد (5/ 271)، (6/ 288، 423)، وأبو داود (2437) والنسائي (2371، 2416، 2417).

ورواه عمرو بن قيس الملائى: عن الحر بن الصياح، عن هنيدة، عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم به. أخرجه أحمد (6/ 287) والنسائي (2415) وغيرهما. وفى إسناده: عمرو بن قيس الملائى فيه جهالة، قال الذهبى:«ما علمت روى عنه غير أبي النضر هاشم» . قال الحافظ في «التقريب» : مقبول.

3 -

شريك: فرواه عن الحر بن الصياح عن ابن عمر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. وشريك بن عبد الله قال الحافظ: يخطئ كثيرًا. قال ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (1/ 231): سألتُ أبِي وأبا زُرعة عَنْ حدِيثٍ رواهُ شرِيكٌ، عنِ الحُرِّ بنِ الصياحِ، عنِ ابنِ عُمر: أنَّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كان يصُومُ مِنْ الشّهرِ الإثنين والخمِيس الّذِي يلِيهِ، ثُمّ الإثنين الّذِي يلِيهِ. فقالا: هذا خطأٌ، إِنّما هُو الحُرُّ بنُ الصياحٍ، عن هُنيدة بنِ خالِدٍ، عنِ امرأتِهِ، عن أُمِّ سلمة، عنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

4 -

زهير بن معاوية: عَنِ الْحُرِّ بْنِ صَيَّاحٍ عن هُنَيْدَةَ، قال: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ المؤْمِنِينَ سَمِعْتُهَا تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ الْخَمِيسَ، ثُمَّ الْخَمِيسَ الَّذِي يَلِيهِ. (كذا بدون ذكر العشر) أخرجه النسائي (2414).

قلت: قد تابع الحر بن الصياح الحسنُ بن عبيد الله النخعي، ولكن بلفظ مختلف لم يذكر فيه «صيام العشر» فلو صح لم يشهد لمتن هذا الحديث، فرواه الحسن، عن هنيدة، عن أمه، عن أم سلمة، قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام ثلاثة أيام: أول خميس، والإثنين والإثنين» . واختلف في متنه اختلافًا كبيرًا، فقيل ما ذكر، وقيل:«أولها الإثنين، والجمعة، والخميس» ، وقيل:«أولها الإثنين والخميس» ، وقيل:«الإثنين والخميس والخميس» وقيل غير ذلك، أخرجه أحمد (6/ 289، 320)، وأبو داود (2452)، والنسائي (2418) وغيرهم. قال البخاري: لم أخرج حديث الحسن بن عبيد الله؛ لأن عامة حديثه مضطرب. قلت: فمتن هذا الحديث لا يشهد للحديث السابق. فمداره على هنيدة بن خالد وقد اختلف عليه ألوانًا في سنده ومتنه: قال أبو نعيم: هنيدة مختلف في صحبته. ذكره ابن عبد البر، وابن منده في «الصحابة» ، واضطرب فيه قول ابن حبان، فذكره مرة في «الصحابة» ، ومرة في «ثقات التابعين» قال الحافظ: أخرج أبو نعيم حديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليس فيهما تصريح. وقد ضعفه الزيلعى في «نصب الراية» (2/ 157).

ص: 290

• الثالثة: إذا كان صيام العشر من ذى الحجة مستحبًّا، فلماذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟

ذكر العلماء لذلك سببين:

الأول: أنه ربما إذا صام ضعف أن يعمل ما هو أعظم منزلة من الصوم، كالصلاة، والذكر، وقراءة القرآن

(1)

.

الثانى: أن النبي صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحبه؛ خشية أن يفرض على أمته

(2)

.

•‌

‌ المبحث السادس: صوم يوم عرفة، وفيه مسائل:

• الأولى: صوم يوم عرفة لغير الحاج:

يستحب صوم يوم عرفة لغير الحاج، دل على ذلك السنة والمأثور:

أما الدليل من السنة: فهو ما رواه مسلم

(3)

عن أبى قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

قال الطحاوي «شرح مشكل الآثار» (7/ 418): إنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ يَصُومُ فِيهَا عَلَى مَا قَالَتْ عَائِشَةُ؛ لأنه كَانَ إِذَا صَامَ ضَعُفَ عَنْ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا مَا هُوَ أَعْظَمُ مَنْزِلَةً مِنَ الصَّوْمِ وَأَفْضَلُ مِنْهُ، مِنَ الصَّلَاةِ، وَمِنْ ذِكْرِ اللهِ عز وجل، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كَمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ كَانَ لَا يَكَادُ يَصُومُ، فَإِذَا صَامَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَيَقُولُ:«إِنِّي إِذَا صُمْتُ ضَعُفْتُ عَنِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصَّوْمِ» فَيَكُونُ مَا قَدْ ذَكَرَتْهُ عَائِشَةُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَرْكِهِ الصَّوْمَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ لِيَتَشَاغَلَ فِيهَا بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ فِيهَا لَهُ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَهُ مِمَّا قَدْ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ أَحَدًا مِنَ الميْلِ إِلَى الصَّوْمِ فِيهَا لَا سِيَّمَا مَنْ قَدَرَ عَلَى جَمْعِ الصَّوْمِ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ عز وجل سِوَاهُ.

(2)

قال الحافظ ابن حجر «فتح الباري» (2/ 534): وَاسْتُدِلَّ بحديث ابن عباس عَلَى فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِانْدِرَاجِ الصَّوْمِ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتَشْكَلَ بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا الْعَشْرَ قَطُّ» لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ.

(3)

أخرجه مسلم (1162).

ص: 291

«صِيَامُ يوم عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ» .

أما الدليل من المأثور: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا مِنَ السَّنَةِ يَوْمٌ أَحَبُّ إلى أَنْ أَصُومَهُ مِنْ يوم عَرَفَةَ»

(1)

.

معنى أن صيام يوم عرفة يكفر السنة التى قبله، والسنة التى بعده:

قال الماوردي في «الحاوى» : فِيهِ تَأْوِيلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَ سَنَتَيْنِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْصِمُهُ في هَاتَيْنِ السَّنَتَيْنِ فَلَا يَعْصِي فِيهِمَا

(2)

.

(1)

إسناده حسن: أخرجه الطبري في «تهذيب الآثار» (1/ رقم 600، 601) وفى إسناده عبد الرحمن بن ثروان، وهو صدوق.

(2)

قال السرخسى: أما السنة الأولى فتكفر ما جرى فيها، قال: واختلف العلماء في معنى تكفير السنة الباقية المستقبلية. وقال بعضهم: معناه إذا ارتكب فيها معصية، جعل الله تعالى صوم يوم عرفة الماضى كفارة، كما جعله مكفرًا لما في السنة الماضية.

وقال بعضهم: معناه أن الله تعالى يعصمه في السنة المستقبلية عن ارتكاب ما يحتاج فيه إلى كفارة.

وقال صاحب العدة في تكفير السنة الأخرى: يحتمل معنيين:

أحدهما: المراد: السنة التى قبل هذه، فيكون معناه أنه يكفر سنتين ماضيتين.

والثانى: أنه أراد سنة ماضية، وسنة مستقبلية. قال: وهذا لا يوجد مثله في شاء من العبادات، أنه يكفر الزمان المستقبل، وإنما ذلك خاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، بنص القرآن العزيز.

معنى يكفر السنة الماضية والباقية، هل يكفر الصغائر، أم يكفر الصغائر والكبائر؟ في معنى هذا الحديث: تأويلان: الأول: أنه يكفر كل الذنوب الصغائر والكبائر. الثانى: يكفر الصغائر فقط.

قال القاضى عياض: هذا المذكور في الأحاديث من غفران الصغائر دون الكبائر، وهو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة، أو رحمة الله تعالى. فإن قيل: قد وقع في هذا الحديث هذه الألفاظ، ووقع في الصحيح غيرها، مما في معناها، فإذا كفر الوضوء، فماذا تكفره الصلاة، وإذا كفرت الصلوات، فماذا تكفره الجماعات، ورمضان، وكذا صوم يوم عرفة كفارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه؟

فالجواب: ما أجاب به العلماء، أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة، كتبت به حسنات، ورفعت له به درجات، وذلك كصلوات الأنبياء، والصالحين، والصبيان، وصيامهم، ووضوئهم، وغير ذلك من عباداتهم، وإن صادف كبيرة أو كبائر، ولم يصادف صغائر رجونا أن تخفف من الكبائر.

ص: 292

الثانية: هل يستحب صوم يوم عرفة للحاج؟

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يصام يوم عرفة بعرفات وبه قال الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة

(1)

.

واستدلوا لذلك بالسنة:

فعن عكرمة قال: دخلت على أبى هريرة في بيته، فسألته عن صوم يوم عرفة بعرفات، فقال أبو هريرة:«نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ»

(2)

.

وفي «الصحيحين»

(3)

. عن أم الفصل بنت الحارث {: «أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يوم عَرَفَةَ في صَوْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقال بَعْضُهُمْ هُوَ صَائِمٌ وَقال بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ» .

(1)

«شرح معانى الآثار» (2/ 73)، و «التمهيد» (21/ 158)، و «المجموع» (6/ 180)، و «شرح العمدة» (2/ 762).

(2)

ضعيف: أخرجه أبو داود (2440)، والنسائي في «الكبرى» (2830، 2831)، وابن ماجه (1732) وغيرهم. كلهم من طريق: حوشب بن عقيل: عن مهدى الهجرى، عن عكرمة، عن أبي هريرة به. قلت: ورواه عن حوشب جماعة منهم: (وكيع، عبد الرحمن بن مهدى، الطيالسى، سليمان بن حرب). قلت: وفى إسناده مهدى الهجرى وهو مجهول، قال ابن معين: لا أعرفه. خالف الجماعة الحارث بن عبيد، فرواه عن حوشب، عن عكرمة، عن ابن عباس. فجعله من مسند ابن عباس، بدل من أبي هريرة. أخرجه البيهقي في «الكبرى» (5/ 117).

قلت: وفى إسناده الحارث وهو ضعيف الحديث، وقد أعله البيهقي فقال: ولا يصح، والمحفوظ عن عكرمة عن ابن عباس.

(3)

أخرجه البخاري (1988)، ومسلم (1123).

ص: 293

وفي «الصحيحين»

(1)

. عن ميمونة رضي الله عنها: «أَنَّ النَّاسَ شَكُّوا في صِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يوم عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِحِلَابٍ وَهْوَ وَاقِفٌ في الموْقِفِ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ» .

وسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ صَوْمِ يوم عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ فَقال: حَجَجْتُ مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم فَلم يَصُمْهُ، وَمَعَ أَبِى بَكْرٍ فَلم يَصُمْهُ، وَمَعَ عُمَرَ فَلم يَصُمْهُ، وَمَعَ عُثْمَانَ فَلم يَصُمْهُ. وَأَنَا لَا أَصُومُهُ وَلَا آمُرُ بِهِ وَلَا أَنْهَى عَنْهُ

(2)

.

وجه الدلالة من هذه الأحاديث: أن الفطر أفضل لأهل عرفة لاختياره صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأصحابه، واختيار خلفائه بعده، وفى الفطر قوة على الدعاء، وفيه أن يوم عرفة عيد لأهل عرفة

(3)

، روي عن مالك أنه كان يأمر بالفطر يوم عرفة في الحج، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفطرًا

(4)

.

قال أحمد: يستحب صيام عرفة هنا، وأما بعرفة فلا، يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفطر

(5)

.

قال الشافعي: أحب صيام يوم عرفة لغير الحاج، فأما من حج، فأَحَب إلى أن يفطر؛ ليقويه الفطر على الدعاء.

وقد ورد عن بعض السلف كعائشة، والزبير بن العوام، والحسن البصرى - أنهم يستحبون صيام يوم عرفة بعرفات.

1 -

عن القاسم بن محمد، قال: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ عَشِيّةَ عَرَفَةَ، يَدْفَعُ الإمَامُ وَتَقِفُ حَتّى يَبْيَضّ مَا بَيْنَها وَبيْنَ النّاسِ مِنَ الأَرْضِ، ثُمّ تَدْعُو بالشَّرَابِ فَتُفْطِرُ»

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (1989)، ومسلم (1124).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2/ 47، 50)، والنسائي في «الكبرى» (2826)، والترمذي (751) وغيرهم. من طريق عبد الله بن أبي نجيح، عن أبيه، عن ابن عمر به.

(3)

انظر: «تهذيب السنن» (3/ 332).

(4)

انظر: «التمهيد» (21/ 158).

(5)

«شرح العمدة» (2/ 762).

(6)

صحيح: أخرجه الطبرى في «تهذيب الآثار» (1/ 606 - مسند عمر).

ص: 294

2 -

عن عروة بن الزبير، قال: مَا شَهِدَ أَبِي عَرَفَةَ قَطُّ إِلاّ وَهُوَ صَائِمٌ

(1)

.

3 -

عن الحسن البصرى أَنّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ صَوْمُ يوم عَرَفَةَ وَيَأْمُر بِهِ حَتّىَ الحَجّاجَ يَأْمُرُهم بِهِ، وَقَالَ: رَأَيْتَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي العَاصِ بِعَرَفَاتٍ في يوم شَدِيدِ الحَرِّ صَائِمًا، وَهُمْ يُرَوِّحُونَ عَنْهُ»

(2)

.

والراجح: ما قاله ابن القيم

(3)

: فالصواب أن الأفضل لأهل الآفاق صومه، ولأهل عرفة فطره لاختياره صلى الله عليه وسلم ذلك لنفسه، وعمل خلفائه بعده بالفطر، وفيه قوة على الدعاء الذى هو أفضل دعاء العبد، وفيه أن يوم عرفة عيد لأهل عرفة، فلا يستحب لهم صيامه.

•‌

‌ المبحث السابع: صوم محرم وتأكيد صوم عاشوراء، وفيه مسائل:

• الأولى: يستحب أن يكثر العبد من الصيام في المحرم، وهو أفضل الصيام بعد رمضان:

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ المحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ»

(4)

.

وهنا أمرٌ يجب التنبه عليه وهو إذا كان أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم،

(1)

صحيح: أخرجه الطبرى في «تهذيب الآثار» (1/ 604 - مسند عمر)، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه به.

(2)

صحيح: أخرجه الطبرى في «تهذيب الآثار» (1/ 602، 603 مسند عمر).

(3)

«تهذيب السنن» (3/ 322).

(4)

مدار هذا الحديث على حميد بن عبد الرحمن الحميرى، واختلف عليه: فرواه عنه أبو بشر، واختلف عنه، فرواه أبو عوانة، عن أبي بشر، عن حميد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

به. أخرجه مسلم (1163). ورواه شعبة، عن أبي بشر، عن حميد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسلًا.

أخرجه النسائي (1613)، وابن المبارك في «الزهد» (1214). وهذا الحديث مما انتقده الدارقطني على مسلم، وكأنه يشير إلى أن الصحيح في هذه الرواية الإرسال؛ ذلك لأن شعبة أحفظ من أبي عوانة. قلت: ولكن هناك قرائن ترجح الرواية المتصلة، وهى متابعة محمد بن المنتشر لأبي بشر على الوصل، أخرجه مسلم (1163)، والنسائي (2/ 2905، 2906)، وابن ماجه (1742)، وأحمد (2/ 303، 329، 342، 535).

ص: 295

فلماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في شعبان أكثر من المحرم؟

بمعنى آخر: كيف يجمع بين هذين الحديثين:

الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ المحَرَّمُ» .

الثانى: حديث عائشة: «لم يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» .

ذكر العلماء للجمع بين هذين الحديثين وجهين:

الأول: أن شهر شعبان تُرفع فيه الأعمال، وأنه شهر يغفل عنه الناس، كما ورد من حديث أسامة بن زيد، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لم أَرَكَ تَصُومُ مِنَ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ:«ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالمينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ.»

(1)

.

الثانى: ما قاله النووي

(2)

: لَعَلَّهُ لم يَعْلم فَضْلَ المحَرَّم إِلَّا في آخِر الْحَيَاة قَبْل التَّمَكُّن مِنْ صَوْمه، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِض فِيهِ أَعْذَارٌ تَمْنَع مِنْ إِكْثَار الصَّوْم فِيهِ كَسَفَرٍ وَمَرَضٍ وَغَيْرِهِمَا.

• الثانية: يستحب صوم عاشوراء:

وهو اليوم العاشر من محرم، وهذا قول جماهير العلماء من السلف والخلف

(3)

.

(1)

حسن: وقد سبق تخريجه.

(2)

«شرح مسلم» (3/ 224).

(3)

انظر: «شرح مسلم» للنووى (3/ 205) وقد ورد عن ابن عباس ما يفهم منه أن المقصود

بيوم عاشوراء: هو اليوم التاسع من المحرم، وهذا هو قول ابن حزم، والضحاك بن مزاحم.

روى مسلم (1133) من طريق الْحَكَمِ بْنِ الأَعْرَجِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى ابن عباس {وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رِدَاءَهُ في زَمْزَمَ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِى عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ. فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ المحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا. قُلْتُ: هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قال القرطبى في «الجامع لأحكام القرآن» (1/ 391): قول ابن عباس للسائل: (فاعدد وأصبح يوم التاسع صائمًا)، ليس فيه دليل على ترك صوم العاشر، بل وعد أن يصوم التاسع مضافًا إلى العاشر. قالوا: فصيام اليومين جمع بين الأحاديث، وقول ابن عباس للحكم لما قال له: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم. معناه أن لو عاش؛ وإلا فما كان النبي صلى الله عليه وسلم صام التاسع قط، يبينه ما خرجه ابن ماجه في سننه، ومسلم في «صحيحه» عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» . قال الطحاوي في «شرح معانى الآثار» (2/ 78): قوله: «لأصومن يوم التاسع» يحتمل: لأصومن يوم التاسع مع العاشر، أى: لئلا أقصد بصومى إلى يوم عاشوراء بعينه، كما يفعل اليهود، ولكن أخلطه بغيره، فأكون قد صمته، بخلاف ما تصومه يهود، وقد روي عن ابن عباس ما يدل على هذا المعنى، وانظر السنن «الكبرى» للبيهقى (4/ 87)، «وتهذيب السنن» (3/ 323).

ص: 296

واستدلوا لذلك بالسنة والإجماع.

أما دليلهم من السنة: فعن أبى قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صِيَامُ يوم عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»

(1)

.

والأحاديث كثيرة ومتوافرة على فضل صوم يوم عاشوراء.

وقد نقل غير واحد من أهل العلم أنه يستحب صيام يوم عاشوراء، منهم ابن عبد البر

(2)

والنووي

(3)

.

• الثالثة: استحباب صوم التاسع مع العاشر:

ويستحب صوم التاسع من المحرم مع العاشر؛ لما روى مسلم

(4)

، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوم عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يوم تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ المقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا اليوم التَّاسِعَ» . قال: فَلم يَأْتِ الْعَامُ المقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج، قال: أخبرنى عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: «خالِفوا اليهود، وصوموا التاسع والعاشر»

(5)

.

• الرابعة: هل يصام الحادى عشر مع التاسع والعاشر؟

عن ابن عباس {قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا يوم عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا الْيَهُودَ،

(1)

أخرجه مسلم (1162).

(2)

انظر: «التمهيد» (22/ 148).

(3)

انظر: «شرح مسلم» (3/ 205).

(4)

أخرجه مسلم (1134).

(5)

صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7839).

ص: 297

صُومُوا قَبْلَهُ يومًا أَوْ بَعْدَهُ يومًا»

(1)

.

الحاصل في المسألة: أن الفضل الوارد في الحديث هو صيام يوم التاسع والعاشر.

أما صوم الحادي عشر فهو كأي يوم من المحرم، وفيه الدليل العام (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم) أما المؤكد بالصيام فهو التاسع والعاشر.

•‌

‌ المبحث الثامن: صوم شعبان: وفيه مسائل:

• الأولى: يستحب الإكثار من الصيام في شعبان:

وذلك لما في «الصحيحين»

(2)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لم يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» .

فائدة: كيف يجمع بين هذين الحديثين:

الحديث الأول: حديث عائشة قالت: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ في شَعْبَانَ»

(3)

.

الحديث الثانى: ما ورد عنها أيضًا أنها قالت: «كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ» .

قلت: يجمع بين هذه الأحاديث بما رواه مسلم

(4)

عن عائشة قالت: «وَلم أَرَهُ صَائِمًا مِنْ شَهْرٍ قَطُّ أَكْثَرَ مِنْ صِيَامِهِ مِنْ شَعْبَانَ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلًا» .

والفقرة الثانية من الحديث وهى: كان يصوم شعبان إلا قليلا مفسرة للفظة الأولى وهى:

(1)

ضعيف جدًّا: أخرجه أحمد (1/ 241)، والحميدى في «مسنده» (485)، والبزار (1052) وغيرهم. من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن داود بن على، عن أبيه، عن جده به.

قلت: وفى إسناده داود بن على ضعيف جدًّا، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، ووقع في متنه اضطراب، فروي هكذا، وروي على التخيير:«صوموا قبله يومًا أو بعده يومًا» . قال البزار عقب إخراجه: «قد روي عن ابن عباس من غير وجه، ولا نعلم روى «صوموا قبله يومًا أوبعده يومًا» إلا داود بن على عن أبيه، عن ابن عباس، تفرد بها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

أخرجه البخاري (1970)، ومسلم (782).

(3)

أخرجه البخاري (1969)، ومسلم (1156).

(4)

أخرجه مسلم (1156).

ص: 298

وكان يصوم شعبان كله، مخصصة لها. والمراد بالكل هو الأكثر وهذا للجمع بين الروايات.

قال الترمذي

(1)

: جَائِزٌ في كَلَامِ العَرَبِ، إِذَا صَامَ أَكْثَرَ الشَّهْرِ أَنْ يُقَالَ: صَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَيُقَالُ: قَامَ فُلَانٌ لَيْلَهُ أَجْمَعَ، وَلَعَلَّهُ تَعَشَّى وَاشْتَغَلَ بِبَعْضِ أَمْرِهِ.

• الثانية: ما حكم تخصيص يوم النصف من شعبان بصيام؟

ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث، ولكنه ضعيف جدًّا.

عن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ أَلَا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ؟ أَلَا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ؟ أَلَا كَذَا أَلَا كَذَا، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ»

(2)

ضعيف جدًّا.

قال المباركفورى

(3)

: لم أَجِدْ في صَوْمِ يوم لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا صحيحًا، وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه الَّذِي رَوَاهُ اِبْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا

إِلَخْ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ ضَعِيفٌ جَدًّا، وَلِعَلِيٍّ رضي الله عنه فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ، وَفِيهِ: فَإِنْ أَصْبَحَ في ذَلِكَ اليوم صَائِمًا كَانَ صِيَامُ سِتِّينَ سَنَةٍ مَاضِيَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، رَوَاهُ اِبْنُ الْجَوْزِيِّ في الموْضُوعَاتِ وَقَالَ: مَوْضُوعٌ وَإِسْنَادُهُ مُظْلم

(4)

.

(1)

«السنن» (3/ 105).

(2)

أخرجه ابن ماجه (1388)، قلت: وفى إسناده أبو بكر بن أبي سبرة وهو وضاع.

(3)

«تحفة الأحوذى» (3/ 444).

(4)

«فتاوى رمضان» (2/ 729). وسئل الشيخ صالح بن فوزان حفظه الله:

هل يشرع قيام النصف من شعبان وصيام الخامس عشر منه؟

فأجاب: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قيام ليلة النصف من شعبان بخصوصها، ولا بصيام اليوم الخامس عشر من شعبان بخصوصه، لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شاء يُعتمد عليه، فليلة النصف من شعبان كغيرها من الليالى، إن كان له عادة القيام في الليل، فإنه يقوم فيها كما يقوم في غيرها، دون أن يكون لها ميزة؛ لأن تخصيص وقت لعبادة من العبادات لابد له من دليل صحيح، فإذا لم يكن هناك دليل صحيح، فإن ذلك يكون بدعة، وكل بدعة ضلالة. وكذلك، لم يرد في صيام يوم الخامس عشر من شعبان، أو النصف من شعبان، بخصوصه دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضى مشروعية صيام ذلك اليوم. أما ما ورد من الأحاديث في هذا الموضوع، فكلها ضعيفة، كما نص على ذلك أهل العلم. ولكن من كان من عادته أن يصوم الأيام البيض، فإنه يصومها في شعبان، كما يصومها في غيره، لا على أنه خاص بهذا اليوم، كما كان صلى الله عليه وسلم يصوم ويُكثر الصيام في هذا الشهر، لكنه لم يخص هذا اليوم، وإنما يدخل تبعًا.

ص: 299

•‌

‌ المبحث التاسع: صوم الأشهر الحرم: وفيه مسائل:

• الأولى: هل يستحب الإكثار من الصوم في الأشهر الحرم؟

والأشهر الحرم هى: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب

(1)

.

ذهب جمهور العلماء إلى أنه يستحب الإكثار من الصيام في الأشهر الحرم.

واستدلوا لذلك بالقرآن والسنة والمأثور:

دليلهم من القرآن: قد دل القرآن على تعظيم الأشهر الحرم، والإكثار فيها من الطاعات، والبعد عن المحرمات، والصيام من جملة الأعمال الصالحة بل من أفضلها.

قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا في كِتَابِ اللَّهِ يوم خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلموا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].

وجه الدلالة من الآية: قوله: {فَلَا تَظْلموا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]

أى: بارتكاب الذنوب، وترك الطاعات.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فى قوله تعالى: {فَلَا تَظْلموا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} الظلم: العمل بمعاصي الله، والترك لطاعته

(2)

.

أما دليلهم من السنة: فعَنْ مُجِيبَةَ الْبَاهِلِيَّةِ عَنْ أَبِيهَا أَوْ عَمِّهَا أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ انْطَلَقَ فَأَتَاهُ بَعْدَ سَنَةٍ وَقَدْ تَغَيَّرَتْ حَالَتُهُ وَهَيْئَتُهُ فَقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا تَعْرِفُنِى؟! قال:

ص: 300

«وَمَنْ أَنْتَ؟» . قال: أَنَا الْبَاهِلِىُّ الَّذِى جِئْتُكَ عَامَ الأَوَّلِ. قال: «فَمَا غَيَّرَكَ وَقَدْ كُنْتَ حَسَنَ الْهَيْئَةِ؟» قال: مَا أَكَلْتُ طَعَامًا إِلاَّ بِلَيْلٍ مُنْذُ فَارَقْتُكَ. فَقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لم عَذَّبْتَ نَفْسَكَ؟!» . ثُمَّ قال: «صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ، وَيومًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ» . قال: زِدْنِى فَإِنَّ بِى قُوَّةً. قال: «صُمْ يومين» . قال: زِدْنِى. قال: «صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . قال: زِدْنِى. قال: «صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ، صُمْ مِنَ الْحُرُمِ وَاتْرُكْ» . وَقال بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثَةِ فَضَمَّهَا ثُمَّ أَرْسَلَهَا

(1)

.

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فعن سالم: «أن ابن عمر كَانَ يَصُومُ أَشْهُرَ الْحُرُمِ»

(2)

.

2 -

وعن يونس بن عبيد: «أن الحسن كَانَ يَصُومُ أَشْهُرَ الْحُرُمِ»

(3)

.

وهنا مسألة هامة: وهى إذا كان يستحب الصوم في الأشهر الحرم، فهل هى كلها بمنزلة واحدة، أو أنها تتفاضل؟

نقول إنها تتفاضل، فقد ثبت في فضل المحرم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ المحَرَّمُ» .

وثبت في فضل العشر الأول من ذى الحجة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا الْعَمَلُ في أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا في هَذِهِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ. إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ»

(4)

.

(1)

ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 28)، وأبو داود (2428)، والنسائي في «الكبرى» (2743) وغيرهم. من طريق سعيد الجريرى، عن أبي السَّليل، عن مُجِيبَةَ الباهلية، عن أبيها، أو عمها به.

قلت: وفى هذا السند علتان: الأولى: جهالة مجيبة. الثانية: اختلف عليه اختلافًا كبيرًا، قال الحافظ في «التهذيب»: واختلف عليه فيه: فقيل: هكذا - أى: مجيبة الباهلية - وقيل: عن أبي مجيبة، عن أبيه، عن عمه، وقيل: عن مجيبة الباهلية، عن أبيها، عن عمها.

(2)

رجاله ثقات: أخرجه عبد الرزاق (7856)، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، به.

(3)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 42)، عن ابن علية، عن يونس، عن الحسن به.

(4)

صحيح: سبق تخريجه.

ص: 301

• الثانية: صوم رجب:

أولًا: لم يرد في تخصيص رجب بالصيام فضل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحاديث واهية.

وهذه بعض الأحاديث الواردة:

الحديث الأول: عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صَوْمُ أَوَّلِ يوم مِنْ رَجَبٍ كَفَّارَةُ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَالثَّانِي كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ، وَالثَّالِثِ كَفَّارَةُ سَنَةٍ ثُمَّ كُلِّ يوم شَهْرًا»

(1)

.

الحديث الثانى: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رَجَبَ شَهْرُ اللهِ، وَيُدْعَى الْأَصَمَّ

(2)

، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ يُعَطِّلُونَ أَسْلِحَتَهُمْ وَيَضَعُونَهَا، وَكَانَ النَّاسُ يَنَامُونَ، وَتُأْمَنُ السُّبُلُ، وَلَا يَخَافُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَنْقَضِيَ»

(3)

.

الحديث الثالث: عن أبى سعيد الخدري، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«رَجَبَ شَهْرُ اللهِ الْأَصَمَّ، من صام من رجب يومًا إيمانًا واحتسابًا استوجب رضوان الله الأكبر»

(4)

.

وقد تضافرت أقوالٍ أهل العلم على أن الأحاديث الواردة في فضل رجب موضوعة وواهية.

قال شيخ الإسلام

(5)

: وَأَمَّا صَوْمُ رَجَبٍ بِخُصُوصِهِ فَأَحَادِيثُهُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ، لَا يَعْتَمِدُ أَهْلُ الْعِلم عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ مِنَ الضَّعِيفِ الَّذِي يُرْوَى في الْفَضَائِلِ بَلْ عَامَّتُهَا مِنَ الموْضُوعَاتِ المكْذُوبَاتِ.

قال ابن القيم

(6)

: وكل حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض الليالى فيه، فهو كذب

(1)

ضعيف جدًّا: أخرجه الخلال في «فضائل شهر رجب» (ص 67).

(2)

قال أبو عبيد: وسمي رجب أصم، لأن الله تعالى حرم فيه القتال، فلا يسمع فيه سفك دم ولا حركة سلاح، انظر الحاوي (3/ 344).

(3)

موضوع: أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2804)، قال ابن حجر: وفى إسناده أبان بن سفيان وغالب بن عبيد الله، معروفان بوضع الحديث.

(4)

لا أصل له: قد ذكره الحافظ في «تبيين العجب» (ص 46) وقال: وهو متن لا أصل له، اختلقه=

أبو البركات السقطى، وركَّب له إسنادًا.

(5)

«مجموع الفتاوى» (25/ 290).

(6)

«المنار المنيف» (ص 64).

ص: 302

مفترى.

قال ابن رجب

(1)

: لم يصح في فضائل صوم رجب بخصوصه شاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه.

وكذلك ذكر ذلك ابن السمعانى والعراقى والشوكانى

(2)

وغيرهم كثير.

• الثالثة: ذكر ما ورد في النهى عن صيام رجب:

عن ابن عباس {: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ»

(3)

ذكر بعض الآثار التى تنهى عن تخصيص رجب بالصيام:

1 -

عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ قال: رَأَيْتُ عُمَرَ يَضْرِبُ أَكُفَّ النَّاسِ في رَجَبٍ، حَتَّى يَضَعُوهَا في الْجِفَانِ وَيَقُولُ: كُلُوا فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ»

(4)

.

2 -

عن محمد بن زيد قال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا رَأَى النَّاسَ وَمَا يُعِدّونَ لِرَجَبٍ، كَرِهَ ذَلِكَ»

(5)

.

3 -

وعن عطاء بن أبى رباح قال: كان ابن عباس ينهى عن صيام رجب كله؛ لئلا يُتخذ عيدًا»

(6)

.

• الرابعة: ما حكم تخصيص بعض الأيام من رجب بالصيام أو بعض الليالى بالقيام؟

قال شيخ الإسلام: مثل أول خميس من رجب وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب، فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة، وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء، مضمونه فضيلة صيام ذلك اليوم وفعل هذه الصلاة المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب، وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين من العلماء

(1)

«لطائف المعارف» (ص 228).

(2)

«هامش طبقات الشافعية الكبرى» (7/ 11)، و «فيض القدير» (4/ 18)، و «السيل الجرار» (2/ 143).

(3)

واهٍ: أخرجه ابن ماجه (1743)، والطبراني في «الكبير» (10681)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3814). قلت: وفى إسناده: داود بن على متفق على ضعفه.

(4)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 102).

(5)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 102).

(6)

صحيح: أخرجه عبد الرازق (7854).

ص: 303

من الأصحاب وغيرهم.

والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم وعن هذه الصلاة المحدثة وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك، حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام، وحتى لا يكون له مزية أصلًا. وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود، فإن تعظيم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلًا

(1)

.

قال ابن جبرين: تخصيص رجب بالصوم، أو تخصيصه بالاعتمار فيه، ويسمونها عمرة رجبية، أو تخصيصه بليلة تحيا فيه تسمى ليلة الرغائب، وهى أول ليلة جمعة في رجب، أو تخصيصه بذبيحة تُذبح فيه، وتسمى العتيرة، كل هذا من البدع، وليس لها أصل في دين الله

(2)

.

الحاصل في صوم رجب: توجد بعض العمومات التى تدل على جواز الإكثار من الصيام في شهر رجب، وهى أنه من الأشهر الحرم، والإكثار من الطاعات فيها، ومِن أجلِّها الصيام، فهو مستحب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة لم أرك تصوم في شهر من الشهور ما تصوم في شعبان، قال:«شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ» .

وجه الدلالة منه: أن شهر رجب يُكثر فيه الناس من الطاعات.

قال الشوكانى

(3)

: ولا يخفاك أن الخصوصات إذا لم تنتهض للدلالة على استحباب صومه انتهضت العمومات، ولم يرد ما يدل على الكراهة حتى يكون مخصصًا لها.

* * *

(1)

«اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 617).

(2)

«فتاوى رمضان» (2/ 734).

(3)

«نيل الأوطار» (4/ 293).

ص: 304

‌الفصل الثاني الصوم المحرم والمكروه

وفيه مباحث:

• المبحث الأول: صوم يومي العيد

• المبحث الثاني: صوم أيام التشريق

• المبحث الثالث: استقبال صوم رمضان بيوم أو يومين

• المبحث الرابع: هل يجوز إفراد يوم الجمعة بالصوم؟

• المبحث الخامس: هل يجوز للمرأة أن تصوم صوم التطوع وزوجها حاضر بغير إذنه؟

• المبحث السادس: صوم الدهر

• المبحث السابع: تخصيص أعياد المشركين بالصوم

• المبحث الثامن: صوم يوم السبت

ص: 305

‌المبحث الأول: صوم يومي العيد

يحرم صوم يومى العيد بالنص والإجماع: ففي الصحيحين

(1)

عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يومين يوم الْفِطْرِ وَيوم النَّحْرِ.

وفي «الصحيحين»

(2)

: عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قال: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه فَقال: هَذَانِ يومًانِ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا: يوم فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَاليوم الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ».

قال النووي

(3)

: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلماء عَلَى تَحْرِيم صَوْم هَذَيْنِ اليوميْنِ بِكُلِّ حَال، سَوَاء صَامَهُمَا عَنْ نَذْرٍ أَوْ تَطَوُّعٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

‌المبحث الثاني: صوم أيام التشريق

أيام التشريق هى: الحادي عشر، والثانى عشر، والثالث عشر، من ذى الحجة. وتسمى أيام منى، كما ورد في الحديث:«أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» وسميت بذلك لأن الحُجاج يقيمون فيها هذه الأيام.

روى مسلم

(4)

عن نبيشة الهذلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» . وإذا كانت أيام التشريق أيام أكل وشرب فيحرم صومها.

روى البخاري

(5)

عن عائشة، وابن عمر {، قالا: «لم يُرَخَّصْ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ

(1)

أخرجه البخاري (1991)، ومسلم (1138).

(2)

أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159).

(3)

«شرح مسلم» (3/ 207)، وممن نقله ابن قدامة في «المغني» (4/ 424)، والحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (4/ 28)، وغيرهما.

(4)

أخرجه مسلم (1141).

(5)

أخرجه البخاري (1997، 1998).

ص: 306

يُصَمْنَ إِلاَّ لمنْ لم يَجِدِ الْهَدْي».

وإذا كان لم يرخص في صيام أيام التشريق فيحرم صومها.

عَنْ أَبِى مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى أَبِيهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَرَّبَ إِلَيْهِمَا طَعَامًا فَقال: كُلْ. فَقال: إِنِّى صَائِمٌ. فَقال عَمْرٌو: كُلْ فَهَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِإِفْطَارِهَا وَيَنْهَانَا عَنْ صِيَامِهَا. قال مالك: وَهِىَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ

(1)

.

وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك ولكنه منخرم.

قال ابن عبد البر

(2)

: أَمَّا صِيَامُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِيمَا عَلمتُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ صَوْمُهَا تَطَوُّعًا.

قلت: ومما يدل على أن هذا الإجماع منخرم، أن ابن قدامة ذكر خلافًا في المسألة فقال

(3)

: وَلَا يَحِلُّ صِيَامُهَا تَطَوُّعًا في قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلم، وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُهَا. وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ والْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُفْطِرُ إلَّا يومَي الْعِيدَيْنِ.

قلت محمد: وقد اعتذر ابن قدامة عمن صام هذه الأيام بقوله: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لم يَبْلُغْهُمْ نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهَا، وَلَوْ بَلَغَهُمْ لم يَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ.

ثم ذكر حديث أبي مُرة مولى أم هانئ وقال: وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَفْطَرَ لما بَلَغَهُ نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

•‌

‌ المبحث الثالث: استقبال صوم رمضان بيوم أو يومين:

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا إذا كان له عادة، فإذا كان يصوم الإثنين والخميس، وأتى أحدهما في يوم الثلاثين من شعبان، أو اليوم الذى قبله،

(1)

صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (1369)، وأحمد (4/ 197)، وأبو داود (2418) وغيرهم من طرق عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن أبي مُرة به.

(2)

«التمهيد» (12/ 127).

(3)

«المغني» (4/ 426).

ص: 307

فله أن يصومه، دلت على ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ففي «الصحيحين»

(1)

: عن أبى هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يوم أَوْ يومين إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ» .

وجه الدلالة منه: قال النووي

(2)

: فِيهِ التَّصْرِيح بِالنَّهْيِ عَنْ اِسْتِقْبَال رَمَضَان بِصَوْمِ يوم وَيومين لمنْ لم يُصَادِف عَادَة لَهُ أَوْ يَصِلهُ بِمَا قَبْله، فَإِنْ لم يَصِلهُ وَلَا صَادَفَ عَادَة فَهُوَ حَرَام، هَذَا هُوَ الصحيح في مَذْهَبنَا؛ لِهَذَا الْحَدِيث.

قال الحافظ ابن حجر

(3)

: قَالَ الْعُلماء: مَعْنَى الْحَدِيثِ لَا تَسْتَقْبِلُوا رَمَضَان بِصِيَامٍ عَلَى نِيَّةِ الِاحْتِيَاطِ لِرَمَضَان.

قال الترمذي

(4)

: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلم، كَرِهُوا أَنْ يَتَعَجَّلَ الرَّجُلُ قَبْلَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ لمعْنَى رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يَصُومُ صَوْمًا فَوَافَقَ صِيَامُهُ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَهُمْ.

•‌

‌ المبحث الرابع: هل يجوز إفراد يوم الجمعة بالصوم؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء، ومنهم الشافعي وأحمد، إلى كراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلا أن يوافق عادة له، كرجل يصوم يومًا ويفطر يومًا، فوافق صيامه يوم الجمعة، وإن صام يومًا قبله أو يومًا بعده، جاز له ذلك

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082).

(2)

«شرح مسلم» (3/ 158).

(3)

«فتح الباري» (4/ 153).

(4)

«السنن» (3/ 60).

(5)

«شرح مسلم» (3/ 210)، و «المغني» (4/ 427)، قال ابن قدامة: فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. قَالَ: قِيلَ

لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: صِيَامُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّهْيِ أَنْ يُفْرَدَ، ثُمَّ قَالَ: إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِيَامٍ كَانَ يَصُومُهُ، وَأَمَّا أَنْ يُفْرَدَ فَلَا.

ص: 308

واستدلوا لذلك بما ورد في «الصحيحين»

(1)

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يوم الْجُمُعَةِ إِلاَّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ» .

وروى البخاري

(2)

عن جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يوم الْجُمُعَةِ وَهْيَ صَائِمَةٌ فَقال «أَصُمْتِ أَمْسِ؟» قَالَتْ: لَا. قال: «تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟» قَالَتْ: لَا. قال: «فَأَفْطِرِي»

وفي «الصحيحين»

(3)

عن عبد الله بن عباد بن جعفر قال: سألت جابر بن عبد الله {وهو يطوف بالبيت: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ يوم الْجُمُعَةِ؟ فَقال: نَعَمْ وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ.

وجه الدلالة من هذه الأحاديث: قال النووي

(4)

: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث الدَّلَالَة الظَّاهِرَة لِقَوْلِ جُمْهُور أصحاب الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقِيهِمْ، وَأَنَّهُ يُكْرَه إِفْرَاد يوم الْجُمُعَة بِالصَّوْمِ إِلَّا أَنْ يُوَافِقَ عَادَةً لَهُ، فَإِنْ وَصَلَهُ بِيوم قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ وَافَقَ عَادَةً لَهُ بِأَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يوم شِفَاءِ مَرِيضِهِ أَبَدًا، فَوَافَقَ يوم الْجُمُعَة، لم يُكْرَهْ؛ لِهَذِهِ الْأَحَادِيث.

• القول الثانى: أن صيام يوم الجمعة جائز إفراده بالصيام ولا يكره، وهو قول أبى حنيفة ومالك

(5)

.

واستدلوا لذلك بالسنة والمأثور:

أما دليلهم من السنة: فعن عبد الله بن مسعود قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ، وَقَلما يُفْطِرُ يوم الْجُمُعَةِ.

وجه الدلالة منه: قوله: «وَقَلما يُفْطِرُ يوم الْجُمُعَةِ» . فدل ذلك على جواز إفراد يوم الجمعة بالصيام.

(1)

أخرجه البخاري (1985)، ومسلم (1144).

(2)

أخرجه البخاري (1986).

(3)

أخرجه البخاري (1984)، ومسلم (1143).

(4)

«شرح مسلم» (3/ 210).

(5)

«حاشية ابن عابدين» (3/ 336)، و «الموطأ» (1/ 330).

ص: 309

واعْتُرِضَ على هذا الاستدلال من وجهين:

الأول: أن هذا الحديث فيه مقال.

الثانى: أنه لو صح فيمكن أن يُجمع بينه وبين الأحاديث السابقة، بأنه كان يصوم يومًا قبله، وهو يوم الخميس.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ

(1)

: وَهُوَ صَحِيحٌ وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ على أنه يَصِلُهُ بِيَوْمِ الْخَمِيسِ وَاللَّهُ أَعْلم.

أما دليلهم من المأثور: فقال مالك

(2)

: لم أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْل الْعِلم وَالْفِقْه، وَمَنْ بِهِ يُقْتَدَى نَهَى عَنْ صِيَام يوم الْجُمُعَة، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْت بَعْض أَهْل الْعِلم يَصُومهُ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ.

وأُجِيبَ عما احتج به مالك بما قاله النووي

(3)

: قال: فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الَّذِي رَآهُ، وَقَدْ رَأَى غَيْره خِلَاف مَا رَأَى هُوَ، وَالسُّنَّة مُقَدَّمَة عَلَى مَا رَآهُ هُوَ وَغَيْره، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ صَوْم يوم الْجُمُعَة، فَيَتَعَيَّن الْقَوْل بِهِ. وَمَالِكٌ مَعْذُورٌ؛ فَإِنَّهُ لم يَبْلُغْهُ. قال الدَّاوُدِيّ مِنْ أصحاب مَالِك: لم يَبْلُغْ مَالِكًا هَذَا الْحَدِيثُ، وَلَوْ بَلَغَهُ لم يُخَالِفْهُ.

• القول الثالث: أن إفراد يوم الجمعة بالصوم محرم، وهو قول ابن حزم وابن المنذر والصنعانى

(4)

.

واستدلوا لذلك بالسنة والقياس:

أما دليلهم من السنة: فاستدلوا بعموم الأحاديث الواردة في النهى عن صوم يوم الجمعة منفردًا، والأصل في النهى التحريم إلا أن تأتى قرينة تصرفه إلى الكراهة.

واعْتُرِضَ على هذا الاستدلال بما قاله الصنعانى

(5)

: وذهب الجمهور إلى أن النهى عن

(1)

ذكره الحافظ في «التلخيص» (12/ 216).

(2)

«الموطأ» (1/ 330).

(3)

«شرح مسلم» (3/ 210).

(4)

«المحلى» (7/ 20)، و «فتح الباري» (4/ 276)، و «سبل السلام» (2/ 347).

(5)

«سبل السلام» (2/ 347).

ص: 310

إفراد الجمعة بالصوم للتنزيه، مستدلين بحديث ابن مسعود:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ، وَقَلما يُفْطِرُ يوم الْجُمُعَةِ» ، أخرجه الترمذي وحَسَّنه، فكان فعله قرينة على أن النهى ليس للتحريم.

أما دليلهم من القياس: فقاسوا يوم الجمعة على يوم العيد، وقالوا يوم الجمعة عيد، وإذا كان ذلك كذلك، فكما أنه يحرم صوم العيد، فكذلك يحرم صيام يوم الجمعة.

قال اِبْن المنْذِر

(1)

: ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ صَوْم يَوْم الْجُمُعَة كَمَا ثَبَتَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ.

واعْتُرِضَ عليه: بأن هذا القياس ليس صحيح، فهو قياس مع الفارق.

قال أبو جعفر الطبرى: يفرَّق بين العيد والجمعة بإن الإجماع منعقد على تحريم صوم يوم العيد، ولو صام قبله أو بعده

(2)

.

الحاصل في مسألة صيام يوم الجمعة: أنه لا يصام يوم الجمعة منفردًا لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، إلا أن يوافق عادة له كصيام يوم، وإفطار يوم، أو وافق يوم عرفة، أو يوم عاشوراء، فإنه لا يُكره إفراده بالصيام؛ لأنه لم يتعمد صومه خاصة، إنما قصد العادة التى له.

سئل الإمام أحمد عن صوم يوم الجمعة، وهو يوم عرفة، ولا يتقدمه بيوم، ولا يومين؟ فقال: لا يبالى، وإنما أراد يوم عرفة

(3)

.

قال شيخ الإسلام

(4)

: إذا أراد أن يصوم يوم عرفة، أو يوم عاشوراء، فكان يوم جمعة، ونحو ذلك، لم يُكره، فإن النهى إنما هو عن تعمده بعينه.

قال ابن القيم

(5)

: لما كَانَ يوم الْجُمُعَةِ مُشَبّهًا بِالْعِيدِ أَخَذَ مِنْ شَبَهِهِ النّهْيَ عَنْ تَحَرّي صِيَامِهِ، فَإِذَا صَامَ مَا قَبْلَهُ أَوْ تَحَرّاهُ وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ صَوْمِ الشّهْرِ أَوْ الْعُشْرِ مِنْهُ أَوْ صَوْمِ

(1)

«فتح الباري» (4/ 276).

(2)

انظر: «سبل السلام» (2/ 347)

(3)

انظر: «شرح العمدة» (2/ 652).

(4)

«شرح العمدة» (2/ 652).

(5)

«زاد المعاد» (2/ 86).

ص: 311

يوم وَفِطْرِ يوم أَوْ صَوْمِ يوم عَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ إذَا وَافَقَ يوم جُمُعَةٍ، فَإِنّهُ لَا يُكْرَهُ صَوْمُهُ في شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

•‌

‌ المبحث الخامس: هل يجوز للمرأة أن تصوم صوم التطوع وزوجها حاضر بغير إذنه؟

لا يجوز للمرأة أن تصوم صوم التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه.

ففي «الصحيحين»

(1)

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَصُومُ المرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ

(2)

إِلاَّ بِإِذْنِهِ».

ذهب جمهور العلماء إلى أن النهى للتحريم، وأن المراد هنا صوم التطوع، أما صوم الفرض كرمضان وغيره فلا تستأذن الزوج، بل لو أمرها بالفطر فلا يحل لها أن تطاوعه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ذِكْر الحكمة من نهى المرأة عن صوم التطوع وزوجها حاضر إلا بإذنه:

الحكمة أن الزوج قد يريد أن يستمتع بالزوجة، وحق الزوج في الاستمتاع واجب على المرأة أن تطيعه، وحق المرأة في التطوع مستحب، فيقدم الواجب على المستحب.

إذا كان الرجل صائمًا، أو كان مريضًا لا يستطيع الجماع، أو كان يخرج إلى عمله قبل الفجر، ولا يعود إلا بعد المغرب، أو غير ذلك من الأعذار التى تعلم المرأة أن الزوج ليس له حاجة فيها في يومها، فهل لها أن تصوم بغير إذنه؟

قال مالك في المرأة تصوم تطوعًا من غير أن تستأذن زوجها

(3)

: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى أَهْلِهِ، وَتَعْلم المرْأَةُ أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُ، فَلَا أُحِبُّ لَهَا أَنْ تَصُومَ إلَّا أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَعْلم أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ فِيهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَصُومَ.

(1)

أخرجه البخاري (5192)، ومسلم (1026).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: «وبعلها شاهد» أى وزوجها شاهد، وقد وردت رواية عند البخاري:«لَا يَحِلُّ لِلمرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ» ، ومعنى شاهد أى: مقيم معها في البلد، أما إذا كان مسافرًا فلها الصوم؛ لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه. انظر:«شرح مسلم» (3/ 95).

(3)

«المدونة» (1/ 186).

ص: 312

قلت: ولا يلزمها الاستئذان في صيام الفريضة كرمضان وغيره.

قال ابن حزم

(1)

: وَصِيَامُ قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَالْكَفَّارَاتُ، وَكُلُّ نَذْرٍ تَقَدَّمَ لَهَا قَبْلَ نِكَاحِهَا إيَّاهُ - مَضْمُومٌ إلَى رَمَضَانَ؛ لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى افْتَرَضَ كُلَّ ذَلِكَ كَمَا افْتَرَضَ رَمَضَانَ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فَأَسْقَطَ اللَّهَ عز وجل الاخْتِيَارَ فِيمَا قَضَى بِهِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الإِذْنَ وَالاسْتِئْذَانَ فِيمَا فِيهِ الْخِيَارُ، وَأَمَّا مَا لا خِيَارَ فِيهِ وَلا إذْنَ لأَحَدٍ فِيهِ وَلا في تَرْكِهِ وَلا في تَغْيِيرِهِ، فَلا مَدْخَلَ لِلاسْتِئْذَانِ فِيهِ، هَذَا مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِي تَخْصِيصُهُ عليه السلام إذْنَ الْبَعْلِ فِيهِ؛ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

•‌

‌ المبحث السادس: صوم الدهر:

اختلف أهل العلم في حكم صيام الدهر على قولين:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى جواز صيام الدهر، ما لم يصم أيام العيدين وأيام التشريق.

قال الإمام مالك

(2)

: إنَّهُ سَمِعَ أَهْلَ الْعِلم يَقُولُونَ: لَا بَأْسَ بِصِيَامِ الدَّهْرِ إِذَا أَفْطَرَ الأَيَّامَ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهَا، وَهِيَ أَيَّامُ مِنًى.

قال الإمام الشافعي

(3)

: فإن قوي على صوم الدهر كله إذا أفطر الأيام التى نُهى عنها، فحسن.

قال الإمام أحمد

(4)

: إذَا أَفْطَرَ يومي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ بِذَلِكَ بَأْسٌ واستدلوا بما ورد في الصحيحين

(5)

عن عائشة أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلمىَّ سَأَلَ

(1)

«المحلى» (7/ 30).

(2)

«الموطأ» (1/ 344).

(3)

«معرفة السنن والآثار» (3/ 444).

(4)

«المغني» (4/ 430).

(5)

صحيح: وقد سبق تخريجه.

ص: 313

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ، أَفَأَصُومُ في السَّفَرِ؟ قال «صُمْ إِنْ شئتَ، وَأَفْطِرْ إِنْ شئت» .

وجه الدلالة منه: أن حمزة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسرد الصوم، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فدل ذلك على الجواز.

واعْتُرِض عليه بما قاله الحافظ ابن حجر

(1)

: وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سُؤَال حَمْزَة إِنَّمَا كَانَ عَنْ الصَّوْم في السَّفَرِ لَا عَنْ صَوْم الدَّهْر، وَلَا يَلْزَم مِنْ سَرْدِ الصِّيَامِ صَوْمُ الدَّهْرِ فَقَدْ قَالَ أُسَامَة بْن زَيْد: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ فَيُقَالُ: لَا يُفْطِرُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَمِنْ المعْلُوم أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ يَصُومُ الدَّهْرَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ السَّرْدِ صِيَامُ الدَّهْرِ.

الدليل الثانى: عن أبى أيوب الأنصارى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»

(2)

.

وجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» ، فدل ذلك على أن صوم الدهر أفضل مما عُدل به، وأن صيام الدهر مطلوب، ويشبه هذا من سأل عن عمل يعدل الحج فقيل:(عمرة في رمضان)، فلا يُتصور أن العمرة في رمضان أفضل من الحج، فكذلك صوم الدهر مع ترك الأيام التى نهى عنه كيومى العيد وأيام التشريق أفضل من صيام رمضان مع إتباعه بصوم ستة أيام من شوال.

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فعن ابن عمر {: «أن عمر كان يسرد الصوم قبل موته»

(3)

.

2 -

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ صَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَا يُفْطِرُ إِلاَّ يوم فِطْرٍ أَوْ أَضْحى أَوْ في مَرَضٍ»

(4)

.

(1)

«فتح الباري» (4/ 262).

(2)

صحيح: وقد سبق تخريجه.

(3)

صحيح: أخرجه الطبرى في «تهذيب الآثار» (1/ 508 - مسند عمر).

(4)

صحيح: أخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 353).

ص: 314

3 -

عن القاسم بن محمد قال: «كانت عائشة تصوم الدهر»

(1)

.

4 -

عن هشام بن عروة قال: «صام أبى أربعين سنة أو ثلاثين سنة ما أفطر إلا يوم فطر، أو يوم نحر، ولقد قُبض وإنه لصائم

(2)

.

• القول الثانى: ذهب الحنفية، وابن العربى من المالكية، وابن قدامة وابن القيم من الحنابلة - إلى كراهة صوم الدهر مطلقًا

(3)

.

واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ»

(4)

.

الدليل الثانى: روى مسلم عن أبى قتادة رضي الله عنه قال: قال عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟ قال: «لَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ - أَوْ قال - لم يَصُمْ وَلم يُفْطِرْ» .

(5)

.

الدليل الثالث: عن أبى موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَامَ الدَّهْرَ ضُيِّقَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ هَكَذَا» وَعَقَدَ تِسْعِينَ

(6)

.

(1)

صحيح: أخرجه الطبرى في «تهذيب الآثار» (1/ 503، 504، 505، 506).

(2)

صحيح: أحرجه عبد الرزاق في «المصنف» (7869). عن معمر، عن هشام به.

(3)

انظر: «فتح الباري» (4/ 261)، و «المغني» (4/ 430)، و «زاد المعاد» (2/ 81).

(4)

أخرجه البخاري (1979)، ومسلم (1159).

(5)

أخرجه مسلم (1162).

(6)

ضعيف: مدار هذا الحديث على قتادة، عن أبي تميمة، عن أبي موسى، واختلف عليه، فرواه ابن

أبي عدي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي تميمة، عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

به، أخرجه ابن خزيمة (2154، 2155)، وغيره. قلت: وابن أبي عدي في روايته عن سعيد بن أبي عروبة مقال. قال أحمد، عن يحيى بن سعيد: جاء ابن أبي عدي إلى ابن أبي عروبة بأخرة، يعنى وهو مختلط. وخالف سعيدًا جماعة، فرووه على الوقف، وهم:

1 -

همام بن يحيى: أخرجه عبد بن حميد (562).

2 -

شعبة بن الحجاج: أخرجه أحمد (4/ 414)، وغيره.

3 -

هشام الدستوائى: أخرجه الطبرى في «تهذيب الآثار» (1/ 487، 489).

قلت: ورواية الوقف أصح. قال ابن خزيمة عقب إخراجه: لم يسند هذا الخبر عن قتادة غير ابن أبي عدي عن سعيد. فتابع قتادة على الوقف سفيان الثوري، أخرجه عبد الرزاق (7868). وخالفهما الضحاك بن يسار، فرواه على الرفع. أخرجه أحمد (4/ 414)، وغيره.

قلت: والضحاك بن يسار قد ضعفه غير واحد من أهل العلم، كابن معين، وقد خالفه قتادة والثوري، فروايتهما أصح. قال العقيلى في «الضعفاء الكبير» (2/ 219): وقد روي هذا عن أبي موسى موقوفًا، ولا يصح مرفوعًا.

ص: 315

الحاصل فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار في صيام الدهر:

1 -

حديث حمزة بن عمرو الأسلمى لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر، فقال: إنى أسرد الصوم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنْ شئت فَصُمْ، وَإِنْ شئت فَأَفْطِرْ» .

يحتمل أن حمزة كان يصوم الدهر، ويحتمل أيضًا أنه كان يسرد الصوم في بعض الأوقات، وأنه لم يصم الدهر، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسرد الصوم، حتى يقال: إنه لا يفطر.

وورد أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ صَامَ يومًا في سَبِيلِ اللهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ، عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» وهذا يدل على أنه كلما كثر الصيام قربه من الجنة، وبَعَّده عن النار. أما حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«لَا صَامَ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ» .

وحديث الثلاثة الذين قال أحدهم: أَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ، فَقال النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:«لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .

فهَدْى النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الهَدْى، حيث قال عليه الصلاة والسلام:«أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ» ، فالإنسان قد لا يتحمل صيام الدهر دائمًا ويضعف عنه، وقد لا يستطيع أن يقوم بباقى العبادات الأخرى.

• ولصائم الدهر حالات:

الحالة الأولى: أن يضعفه الصوم عن نافلة، أو عن أداء الفرائض، كالجهاد عند وجوبه عليه، أو الصلاة المكتوبة، أو غير ذلك من حقوق الله التى تلزمه، فلم يفطر وصام، وأثر صومه في تلك الفرائض التى لزمته حتى أعجزه ذلك عنها، كان محرمًا عليه هذا الصوم.

الحالة الثانية: إن كان صومه الدهر مع إفطاره الأيام المنهى عنها، كيوم العيدين، وأيام التشريق، لم يضعفه عن أداء شاء من فرائض الله، ولكن يورثه ضعفًا عما هو أفضل

ص: 316

منه، من نوافل العبادات، كُره له الصوم، واستحب له الإفطار، وإيثار الأفضل من نوافل العبادات على الصوم.

الحالة الثالثة: إن كان صومه الدهر لا يورثه ضعفًا عن أداء فرائض الله، وعما هو أفضل من صومه ذلك من نوافل الأعمال، في حال من أحوال عمره، فهذا جائز له الصوم، والله أعلم

(1)

.

•‌

‌ المبحث السابع: تخصيص أعياد المشركين بالصوم:

كصوم شم النسيم، وأعياد الميلاد، ويوم النيروز، وغيرها من الأعياد.

يُكره تخصيص أعياد المشركين بالصوم؛ لأنها أيام يعظمها الكفار، أما إن وافق صومًا كان يصومه فله الصوم، كعيد شم النسيم، يأتى يوم الإثنين، فإن كان معتادًا على صوم الإثنين والخميس فله صوم ذلك اليوم؛ لأنه لم يخصصه بالصوم.

قال ابن عابدين

(2)

: ويُكره صوم يوم النيروز والمهرجان إذا تعمده ولم يوافق يومًا كان يصومه قبل، كما لو كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، أو كان يصوم أول الشهر مثلًا

(1)

«تهذيب الآثار» (1/ 319 - مسند عمر بن الخطاب).

قال الطبرى: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن فضل صوم داود نبى الله عليه السلام على غيره - إنما كان من أجل أنه كان مع صومه ذلك لا يضعف عن القيام من الأعمال التى هى أفضل من الصوم، وذلك ثبوته لحرب أعداء الله عند التقاء الزحوف، وتَرْكه الفرار منهم هنالك والهرب.

فإذا كان صلى الله عليه وسلم إنما قضى لصوم داود بالفضل على غيره من معانى الصوم النفل لما ذكرنا من السبب، فكل من كان صومه لا يورثه ضعفًا عن أداء فرائض الله تعالى وعما هو أفضل من صومه ذلك، من نفل الأعمال في حال أحوال عمره، وهو صحيح، فغير مكروه له صومه ذلك، وكل من أضعفه صومه النفل عن أداء شاء من فرائض الله عز وجل، فغير جائز له أن يصوم صومه ذلك، بل هو محظور عليه، فإن لم يكن يضعفه صومه ذلك عن أداء شاء من فرائض الله، وكان يضعفه عما هو أفضل منه من نفل الأعمال، فإن صومه ذلك له مكروه، غير محبوب، وإن لم يؤثمه؛ للذى وصفنا من تركه ما اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته من ذلك على غيره.

(2)

«حاشية ابن عابدين» (3/ 337).

ص: 317

فوافق يومًا من هذه الأيام.

قال ابن قدامة

(1)

: وَقال أصحابنا: وَيُكْرَهُ إفْرَادُ يوم النَّيْرُوزِ وَيوم المهْرَجَانِ بِالصَّوْمِ؛ لأنهمَا يومًانِ يُعَظِّمُهُمَا الْكُفَّارُ، فَيَكُونُ تَخْصِيصُهُمَا بِالصِّيَامِ دُونَ غَيْرِهِمَا مُوَافَقَةً لَهُمْ في تَعْظِيمِهِمَا، فَكُرِهَ كَيوم السَّبْتِ. وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا كُلُّ عِيدٍ لِلْكُفَّارِ، أَوْ يوم يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ.

•‌

‌ المبحث الثامن: التطوع بعد النصف من شعبان:

ذهب جمهور العلماء إلى جواز التطوع بعد النصف من شعبان.

واستدلوا لذلك بأحاديث كثيرة، منها: عن أبى سلمة: سأل عائشة رضي الله عنها عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلًا»

(2)

.

وعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يوم أَوْ يومين، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمَهُ، فَلْيَصُمْ ذَلِكَ اليَوْمَ»

(3)

.

فدل ذلك على أن الصوم جائز بعد النصف من شعبان، أما المنهى عنه فهو تخصيص يوم الثلاثين من شعبان بالصوم أو الذى قبله.

قال شيخ الإسلام: أما حديث: «لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يوم أَوْ يومين» فإن مفهوم هذا الحديث يجوز التقدم بالثلاثة.

وذهب بعض الشافعية إلى أنه لا يجوز الصوم بعد النصف من شعبان.

واستدلوا لذلك بما رواه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا»

(4)

.

(1)

«المغني» (4/ 428).

(2)

صحيح: سبق تخريجه.

(3)

صحيح: سبق تخريجه.

(4)

منكر: أخرجه أحمد (2/ 442)، وأبو داود (2337)، والنسائي في «الكبرى» (2911)، =

والترمذي (738)، وابن ماجه (1651) وغيرهم. من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة به. قلت: وفى إسناده العلاء بن عبد الرحمن، وقد ضعفه غير واحد من أهل العلم، كابن معين، وأبي زرعة، وإن كان وثقه بعض أهل العلم، كالنسائي، وابن عدي، ووثقه أحمد، ولكن أنكر عليه هذا الحديث. قال أبو حاتم: صالح روى عنه الثقات، ولكنه أُنكر من حديثه أشياء. قال الخليلى: مدنى مختلف فيه؛ لأنه ينفرد بأحاديث لا يتابع عليها، كحديث:«إذا كان النصف من شعبان فلا تصوموا» .

وتابع العلاء بن عبد الرحمن محمد بن المنكدر، أخرجه ابن الأعرابي في معجمه (1198)، وابن عدي في «الكامل» (1/ 224)، وفى إسناده إبراهيم بن أبي يحيى، متروك الحديث. قلت: وقد تضافرت أقوال أهل العلم على إعلال هذا الحديث: قال أبو داود: وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر. انظر: البيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 209). وقال يحيى بن معين: إنه منكر. انظر «فتح الباري» (4/ 153). وقال البرذعى في سؤالاته (2/ 388): شهدت أبا زرعة ينكر حديث العلاء بن عبد الرحمن «إذا انتصف شعبان» وزعم أنه منكر. قال أبو داود عقب إخراجه: وكان عبد الرحمن لا يحدث به، قلت لأحمد: لم؟ قال: لأنه كان عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان، وقال عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه، وكذلك أعله أبو بكر الأثرم، والخليلى، وابن عدي، والبيهقي، وابن الجوزى، والذهبى، وغيرهم كثير. انظر:«السنن الكبرى» للبيهقى (4/ 209)، و «الموضوعات» لابن الجوزى (1/ 33)، و «سير أعلام النبلاء» (6/ 187)، و «الكامل» (2/ 44).

ص: 318

الحاصل في هذه المسألة:

أنه يجوز صوم التطوع بعد النصف من شعبان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله إلا قليلًا، أما حديث «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا» فحديث منكر، ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن رجب

(1)

: وقال الأثرم: الأحاديث كلها تخالفه. يشير إلى أحاديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله ووَصْله برمضان، ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين، فصار الحديث حينئذٍ شاذًّا مخالفًا للأحاديث الصحيحة.

•‌

‌ المبحث التاسع: صوم يوم السبت:

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ السُّلمىِّ عَنْ أُخْتِهِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَصُومُوا يوم السَّبْتِ إِلاَّ

(1)

«لطائف المعارف» (ص 260).

ص: 319

فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ لم يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ لِحَاءَ عِنَبَةٍ أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ»

(1)

.

(1)

معل: مدار هذا الحديث على عبد الله بن بسر، واختلف عليه، فرواه عنه خالد بن معدان، واختلف عليه، فرواه عنه ثور بن يزيد، واختلف عليه، فرواه جماعة منهم:(أبو عاصم النبيل، والأوزاعى، وقرة بن عبد الرحمن، والفضل بن موسى، وأصبغ بن زيد، والوليد بن مسلم وغيرهم)، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء به، أخرجه أحمد (6/ 368)، وأبو داود (2421)، والنسائي في «السنن الكبرى» (2/ 2762، 2763، 2764)، والترمذي (744)، وابن ماجه (1726) وغيرهم.

وخالف هؤلاء الجماعة:

1 -

بقية بن الوليد: فرواه عن ثور، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن عمته الصماء به. أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (2/ 2765).

2 -

عبد الله بن يزيد المقرى: فرواه عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أمه به. أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثانى» (3413)، وتمام في «الفوائد» (654).

3، 4 - عيسى بن يونس، وعتبة بن السكن: فروياه عن ثور، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم به. أخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 2761)، وابن ماجه (1726)، وعبد بن حميد في «المنتخب» (507)، وغيرهم. قلت: وخالف ثور بن يزيد جماعة:

1 -

الفضيل بن فضالة: فرواه محمد بن حرب، عن الزبيدى، عن الفضيل بن فضالة، عن عبد الله بن بسر، عن خالته الصماء. أخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 2767)، وغيره.

ورواه ابن سالم، عن الزبيدى، عن الفضيل، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أبيه به، أخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 2768)، وغيره. قلت: وعلى كلٍّ فالفضيل بن فضالة مجهول، لم يوثقه معتبر، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ: مقبول.

2 -

داود بن عبيد الله: وخالف خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، عن عائشة به، أخرجه النسائي، في «الكبرى» (2/ 2771).

3 -

لقمان بن عامر: واختلف عليه: فرواه سعيد بن عمرو، عن بقية، عن الزبيدى، عن لقمان بن عامر، إلا أنه قال خالته الصماء. أخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 2769). ورواه إسماعيل بن عياش، عن الزبيدى، عنه، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء به. أخرجه أحمد (6/ 386 - 369)، ورواه عمر بن عثمان، عن بقية، عن الزبيدى، عن لقمان بن =

ص: 320

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=عامر،، عن خالد، عن عبد الله بن بسر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه النسائي في «الكبرى» (2/ 2766)، قلت: وفى إسناده لقمان بن عامر قال أبو حاتم: يُكتب حديثه.

قلت: وخالف خالد بن معدان جماعة:

1 -

يحيى بن حسان: أخرجه أحمد (4/ 189) وغيره، من طريق إبراهيم بن إسحاق الطالقانى، عن الوليد بن مسلم، عن يحيى بن حسان، عن عبد الله بن بسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم به.

قلت: وفى إسناده الوليد بن مسلم يدلس تدليس تسوية، وقد عنعنه.

2 -

حسان بن نوح: واختلف عنه، فرواه على بن عياش، ومبشر بن إسماعيل، عنه، عن عبد الله بن بسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم به. أخرجه أحمد (4/ 189)، والنسائي في «الكبرى» (2759).

وخالفهما أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الخولانى، فرواه عن حسان بن نوح، عن أبي أمامة به. قلت: وعلى كلٍّ فحسان بن نوح مجهول لم يوثقه معتبر.

3 -

ابن عبد الله بن بسر: أخرجه النسائي في «الكبرى» (2760)، وابن خزيمة (2164)، وغيرهما من طريق معاوية بن صالح، عن ابن عبد الله بن بسر، عن أبيه، عن عمته الصماء.

قلت: وفى إسناده ابن عبد الله بن بسر، قال الحافظ في «التقريب»: لا يُعرف، ولم يسم. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 7722). من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن دينار، عن أبي أمامة به. قلت: وفى إسناده عبد الله بن دينار وهو ضعيف. وقد رجح الدارقطني رواية ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء، فقال في العلل (ج 5/ 2 ق 86 ب) بعد ذكر هذا الحديث:«والصحيح عن ابن بسر عن أخته» .

قلت: وهذا الإسناد وإن كان صحيحًا إلا أن أهل العلم النقاد أعلوه وإليك أقوالهم:

1 -

الإمام مالك: قال أبو داود في «السنن» (2/ 807): قال مالك: هذا كذب.

2 -

يحيى بن سعيد القطان: قال أبو عبد الله - أحمد بن حنبل -: كان يحيى بن سعيد يتقيه، أبى أن يحدثني به، وقد كان سمعه من ثور، قال: فسمعته من أبي عاصم. قال ابن القيم: فهذا تضعيف للحديث. انظر: مختصر السنن لابن القيم (3/ 298).

3 -

الإمام أحمد: قال شيخ الإسلام: وذكر أن الإمام في علل الحديث قال: يحيى بن سعيد كان يتقيه، وأبى أن يحدث به، فهذا تضعيف للحديث.

4 -

الإمام الزهري: قال بعد ذكر هذا الحديث: «هذا حديث حمصى» . قال الطحاوي: فلم يعده الزهري حديثًا يقال به، وضَعَّفه. انظر: سنن أبي داود بعد الحديث (2423).

ص: 321

• الأحاديث التى تدل على جواز صيام يوم السبت:

في «الصحيحين»

(1)

عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يوم الْجُمُعَةِ إِلاَّ أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ» .

وجه الدلالة منه: أن اليوم الذى بعده هو يوم السبت.

الدليل الثانى: روى البخاري عن جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يوم الْجُمُعَةِ وَهْيَ صَائِمَةٌ فَقال:«أَصُمْتِ أَمْسِ؟» قَالَتْ: لَا. قال: «تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟» قَالَتْ: لَا. قال: «فَأَفْطِرِي» .

وجه الدلالة منه: قوله صلى الله عليه وسلم: «تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا» قلت: والغد يكون يوم سبت.

الدليل الثالث: عن أبى أيوب الأنصارى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»

(2)

.

5 - الأوزاعى: قال بعد ذكر هذا الحديث: «ما زلت له قائمًا حتى رأيته انتشر، يعنى حديث عبد الله بن بسر في صوم يوم السبت» . انظر: سنن أبي داود بعد ذكر الحديث رقم (2424).

6 -

أبو داود: قال بعد ذكر هذا الحديث: هذا حديث منسوخ.

7 -

النسائي: قال بعد ذكر هذا الحديث: هذا حديث مضطرب.

8 -

الطحاوي: قال بعد ذكر الأحاديث التى تجوز صيام يوم السبت. إذا لم يكن منفردًا:

ففى هذا الآثار المروية في هذا إباحة صوم يوم السبت تطوعًا، وهى أشهر وأظهر في أيدى العلماء، من هذا الحديث الشاذ الذى قد خالفها، انظر «شرح معانى الآثار» (2/ 80).

9 -

شيخ الإسلام ابن تيمية: قال: هذا حديث شاذ غير محفوظ، أو منسوخ. انظر «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 575).

10 -

ابن القيم: قال: هذا حديث غير محفوظ أى أنه شاذ.

من صحح هذا الحديث: قد صححه الحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان، والنووي، وابن السكن.

قلت: هؤلاء الذين صححوه من المتأخرين، ولا شك أن كلام المتقدمين يقدم على غيرهم.

ثم إن هؤلاء الذين صححوه معروفون بالتساهل، والله أعلم.

(1)

أخرجه البخاري (1985)، ومسلم (1144).

(2)

صحيح لشواهده: وقد سبق تخريجه.

ص: 322

قلت: ولا شك أنه قد يأتى في هذه الأيام يوم سبت.

الدليل الرابع: في «الصحيحين»

(1)

عن عبد الله بن عمرو بن العاص {قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَصُومُ يومًا وَيُفْطِرُ يومًا» .

ولا شك أن من صام يومًا وأفطر يومًا - لابد أن يصوم من كل أسبوعين يوم سبت.

الدليل الخامس: روى مسلم

(2)

عن أبى قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صِيَامُ يوم عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ» . وأحيانًا قد يأتى يوم عرفة، في بعض السنوات يوم سبت.

الدليل السادس: عن قتادة بن ملحان رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ وَقال: «هُنَّ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ» .

(3)

. ومن يصوم الأيام البيض أحيانًا يأتى يوم السبت فيها.

• للعلماء طريقتان بين الأحاديث المتعارضة:

الطريقة الأولى: طريقة الجمع: فجَمَع العلماء بين الأحاديث التى تدل على جواز صوم يوم السبت التى ذكرناها، وحديث النهى عن صوم يوم السبت وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا تَصُومُوا يوم السَّبْتِ إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ .. » الحديث، بأن النهى للكراهة، هذا هو قول جمهور العلماء من الحنفية

(4)

والشافعية

(5)

والحنابلة

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159).

(2)

أخرجه مسلم (1162).

(3)

صحيح لشواهده: وقد سبق تخريجه.

(4)

انظر: «شرح معانى الآثار» (2/ 81)، و «بدائع الصنائع» (2/ 79)، قال الكاساني: يُكره إفراد يوم السبت لأنه تشبه باليهود.

(5)

انظر: «المجموع» (6/ 440) قال: والصواب على الجملة أنه يكره أفراد يوم السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له؛ لحديث الصماء.

(6)

انظر: «المغني» (4/ 428) قال ابن قدامة: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ إِفْرَادُ يَوْمِ السَّبْتِ بِالصَّوْمِ .. وذكر حديث الصَّمَّاءِ، ثم قال: قَالَ الْأَثْرَمُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَمَّا صِيَامُ يَوْمِ السَّبْتِ يُفْرَدُ بِهِ، فَقَدْ جَاءَ فِيهِ حَدِيثُ الصَّمَّاءِ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَتَّقِيه، أَيْ: أَنْ يُحَدِّثَنِي بِهِ، وَسَمِعْته مِنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَالمكْرُوهُ إفْرَادُهُ، فَإِنْ صَامَ مَعَهُ غَيْرَهُ لم يُكْرَهْ.

ص: 323

الطريقة الثانية: طريقة الترجيح: وهو أن حديث «لَا تَصُومُوا يوم السَّبْتِ إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ .. » الحديث ضعيف (معل)، وأنه يجوز إفراد يوم السبت للصيام، دل على ذلك النصوص المتواترة على جواز صوم يوم السبت وهذا هو قول مالك، وأحمد فيما فهمه عنه الأثرم، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.

قال الأثرم: دلت النصوص المتواترة على صوم يوم السبت، ولا يقال: يُحمل النهى على إفراده؛ لأن لفظه: «لَا تَصُومُوا يوم السَّبْتِ إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» ، والاستثناء دليل التناول، وهذا يقتضى أن الحديث عم صومه على كل وجه، وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى، فإنه إلا إفراد فيه، فاستثناؤه دليل على دخول غيره، بخلاف يوم الجمعة، فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده، وعلى هذا فيكون الحديث إما شاذًّا غير محفوظ، وإما منسوخًا، وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه، كالأثرم وأبي داود.

* * *

ص: 324

‌الباب الثالث قيام رمضان

وفيه تمهيد وفصول

التمهيد وفيه مبحثان:

المبحث الأول: فضل قيام الليل

المبحث الثاني: فضيل قيام رمضان

الفصل الأول: التراويح

الفصل الثاني: الوتر

الفصل الثالث: القنوت

ص: 325

الباب الثالث قيام رمضان

•‌

‌ التمهيد:

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: فضل قيام الليل:

قال تعالى: {إِنَّ المتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 15 آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ 16 كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ 17 وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15 - 18].

وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا 63 وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفَرَّقَ ان: 63، 64].

وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16].

قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلمونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلمونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

فضل قيام الليل في السنة:

قيام الليل أعظم صلاة بعد الفريضة: روى مسلم

(1)

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْل» .

ولعظم قيام الليل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه، ففي الصحيحين

(2)

من حديث عائشة: كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فقلت له: لم تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ

(1)

أخرجه مسلم (1163).

(2)

أخرجه البخاري (4737)، ومسلم (5044).

ص: 326

وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ: «أَفَلَا أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا؟» .

وفي الصحيحين

(1)

عن عائشة رضي الله عنها: «ما كان يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولا غَيْرِهِ على إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فلا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فلا تَسْأَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا» .

وروى البخاري

(2)

عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، كانت تِلْكَ صَلَاتَهُ، تَعْنِي بِاللَّيْلِ، فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ من ذلك قَدْرَ ما يَقْرَأُ أحدكم خَمْسِينَ آيَةً قبل أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَه من الركوع» .

وفي الصحيحين

(3)

عن ابن مسعود قال: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً، فَلم يَزَلْ قَائِمًا حَتَّى هَمَمْتُ بِأَمْرِ سَوْءٍ. قَالَ: قِيلَ: وَمَا هَمَمْتَ بِهِ؟ قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ أَجْلِسَ وَأَدَعَهُ.

روى مسلم

(4)

عن حذيفة قال: صَلَّيْتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فقلت: يَرْكَعُ عِنْدَ المائَةِ. ثُمَّ مَضَى فقلت: يُصَلِّي بها في رَكْعَةٍ. فَمَضَى فقلت: يَرْكَعُ بها. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا، إذا مَرَّ بِآيَةٍ فيها تَسْبِيحٌ سَبَّحَ.

• ولذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بقيام الليل:

ففي الصحيحين

(5)

من حديث عليّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلًا فقال: «ألا تُصْليانِ؟» .

في الصحيحين

(6)

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «نِعْمَ الرَّجُلُ عبدُ اللَّهِ لو كان يُصَلِّي من اللَّيْل» .

(1)

أخرجه البخاري (1079)، ومسلم (1219).

(2)

أخرجه البخاري (1055).

(3)

أخرجه البخاري (1135)، ومسلم (1292).

(4)

أخرجه مسلم (1291).

(5)

أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (4528).

(6)

أخرجه البخاري (1152).

ص: 327

وروى البخاري

(1)

من حديث ابن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» .

وفي الصحيحين

(2)

عن ابن مسعود رضي الله عنه: ذُكِرَ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ نَامَ ليلة حتى أَصْبَحَ، قال:«ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ في أُذُنَيْه» .

وأوصى صلى الله عليه وسلم عموم أصحابه في حديث عبد الله بن سلام فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ»

(3)

.

•‌

‌ المبحث الثاني: فضل قيام رمضان:

في الصحيحين

(4)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قام رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِه» .

وروى البخاري

(5)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَه ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِه»

* * *

(1)

أخرجه البخاري (3270)، ومسلم (1298).

(2)

أخرجه البخاري (1135)، ومسلم (1292، 1293).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه الترمذي (2485) وابن ماجه (1334) وغيرهما.

(4)

أخرجه البخاري (38)، ومسلم (173).

(5)

أخرجه البخاري (35).

ص: 328

الفصل الأول التراويح

وفيه مباحث

• المبحث الأول: تعريف التراويح.

• المبحث الثاني: مشروعية صلاة التراويح جماعة.

• المبحث الثالث: معنى قول عمر: (نعم البدعة هذه)

• المبحث الرابع: هل الأفضل صلاة التراويح بانفرادٍ في البيت

أم في جماعة في المسجد؟

• المبحث الخامس: ما حد عدد ركعات قيام الليل؟

• المبحث السادس: هل يجوز القراءة من المصحف في التراويح؟

• المبحث السابع: إمامة الغلام الذي لم يحتلم

• المبحث الثامن: القراءة في القيام.

• المبحث التاسع: حضور النساء للتراويح.

• المبحث العاشر: حكم دعاء الختم في التراويح.

ص: 329

‌الفصل الأول التراويح

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: تعريف التراويح:

التروايح: جمع ترويحة وهي المرة الواحدة من الراحة كتسليمة من السلام. وسميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التروايح؛ لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين

(1)

.

•‌

‌ المبحث الثاني: مشروعية صلاة التراويح جماعة:

روى البخاري

(2)

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ القَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مع عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَيْلَةً في رَمَضَانَ إلى المسْجِدِ، فإذا الناس أَوْزَاعٌ مُتَفَرّقونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فقال عُمَرُ: إني أَرَى لو جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ على قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ. ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ على أُبَيِّ بن كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ معه لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، قال عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هذه وَالَّتِي يَنَامُونَ عنها أَفْضَلُ من التي يَقُومُونَ. يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ وكان الناس يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.

•‌

‌ المبحث الثالث: معنى قول عمر (نعم البدعة هذه):

قول عمر: (نعم البدعة هذه)، هل يستدل بهذا القول على جواز الابتداع في الدين؟

لا يستدل بذلك لأن الفاروق عمر بفعله لم يكن ابتدع في الدين، بل إنه أحيا سُنة خير المرسلين لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالصحابة قيام رمضان جماعة، ولكن لم يداوم عليه خشية أن يُفترض عليهم، فلما استقرت الشريعة أحيا عمر هذه السنة.

(1)

«فتح الباري» (4/ 294).

(2)

أخرجه البخاري (2010).

ص: 330

دل على ذلك ما رواه البخاري

(1)

عن عائشة ل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الليل فصلى في المسجد وصَلَّى رِجَالٌ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا فَكَثُرَ أَهْلُ المسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ، فَلما كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ المسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلما قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ:«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لم يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ، لَكِنِّى خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا» فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك.

قال شيخ الإسلام

(2)

: وَلَا يَحْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِجَمْعِ التَّرَاوِيحِ وَيَقُولُ: «نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ» فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّة، لَكِنَّهُمْ فَعَلُوا مَا لم يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ في حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ هَذِهِ وَهِيَ سُنَّةٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ. وَهَكَذَا إخْرَاجُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمِصْرِ الْأَمْصَارِ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَجَمْعُ الْقُرْآنِ في مُصحفٍ وَاحِدٍ وَفَرْضُ الدِّيوَانِ، فَقِيَامُ رَمَضَانَ سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّتِهِ وَصَلَّى بِهِمْ جَمَاعَةً عِدَّةَ لَيَالٍ، وَكَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلُّونَ جَمَاعَةً وَفُرَادَى، لَكِنْ لم يُدَاوِمْ عَلَى جَمَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لِئَلَّا يَفْتَرِضَ عَلَيْهِمْ، فَلما مَاتَ صلى الله عليه وسلم اسْتَقَرَّتِ الشَّرِيعَةُ. فَلما كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه جَمَعَهُمْ عَلَى إمَامٍ وَاحِدٍ، وَاَلَّذِي جَمَعَهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا بِأَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَعُمَرُ هُوَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حَيْثُ يَقُولُ صلى الله عليه وسلم:«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» يَعْنِي الْأَضْرَاسَ؛ لأنها أَعْظَمُ في الْقُوَّةِ.

•‌

‌ المبحث الرابع: هل الأفضل صلاة الرجل التراويح منفردًا في بيته أم جماعة في المسجد؟

حكى النووي الخلاف في هذه المسألة فقال: المرَاد بِقِيَامِ رَمَضَان صَلَاة التَّرَاوِيح، وَاتَّفَقَ الْعُلماء عَلَى اِسْتِحْبَابهَا، وَاخْتَلَفُوا في أَنَّ الْأَفْضَل صَلَاتهَا مُنْفَرِدًا في بَيْته أَمْ في

(1)

«صحيح البخاري» (2012).

(2)

«مجموع الفتاوى» : (22/ 323).

ص: 331

جَمَاعَة في المسْجِد؟ فَقَالَ الشَّافِعِيّ وَجُمْهُور أَصْحَابه وَأَبُو حَنِيفَة وَأَحْمَد وَبَعْض المالِكِيَّة وَغَيْرهمْ: الْأَفْضَل صَلَاتهَا جَمَاعَة، كَمَا فَعَلَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَالصَّحَابَة}، وَاسْتَمَرَّ عَمَل المسْلمينَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ الشَّعَائِر الظَّاهِرَة

(1)

.

وفي «السنن»

(2)

بإسناد صحيح عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ مِنْ صَلَاتِهِ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» .

قال أبو داود: سَمِعْتُ أَحْمَدَ، وَقِيلَ لَهُ: أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَعَ النَّاسِ فِي رَمَضَانَ أَوْ وَحْدَهُ؟ قَالَ: يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ، وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا، يَقُولُ: يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْإِمَامِ وَيُوتِرَ مَعَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ بَقِيَّةُ لَيْلَتِهِ»

(3)

.

• القول الآخر: ما قاله الحافظ ابن حجر

(4)

: وَعَنْ مَالِك في إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَبِي يُوسُف وَبَعْض الشَّافِعِيَّة: الصَّلَاة في الْبُيُوت أَفْضَل.

واستدلوا لذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلَ صَّلَاةِ المرْءِ في بَيْتِهِ إلا المكْتُوبَةَ»

(5)

.

والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن الأفضل أن تصلي التراويح جماعة مع الإمام، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ مِنْ صَلَاتِهِ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» .

وهذا هو فعل عمر بن الخطاب، واستمر عليه عمل المسلمين، ولأنه من الشعائر

(1)

«شرح مسلم» (2/ 410).

(2)

أخرجه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (1604)(1363)، وابن ماجه (1327) وغيرهم.

(3)

«مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود» (ص 90).

(4)

«فتح الباري» (4/ 410).

(5)

أخرجه البخاري (731، 6113)، ومسلم (781)، من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة من المسجد من حصير، فصلى بها ليالي حتى اجتمع لها الناس ثم فقدوا صوته فظنوا أنه قد نام فجعل بعضهم يتنحنح بهم ليخرج فقال:«مَا زَالَ بِكُمْ الَّذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَلَوْ كَتَبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِه، فَصَلُّوا أَيْهَا النَّاسِ فِي بِيُوتِكِمْ فَإِنَّ أَفْضَلْ صَلَاةِ المرْء فِي بَيْتِهِ إِلَّا المكْتُوَبَةْ» .

ص: 332

الظاهرة، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الخامس: ما حد عدد ركعات قيام الليل؟

(1)

• لا حد لعدد ركعات الليل بالنص والإجماع

دل على ذلك ما ورد في الصحيحين

(2)

من حديث ابن عمر أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خَشِيَ أحدكم الصُّبْحَ، صلى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ له ما قد صلى» .

وجه الدلالة من هذا الحديث وجوه:

الأول ما قاله بدر الدين العيني

(3)

: قَوْله: (عَنْ صَلَاة اللَّيْل) أَي: عَنْ عَددها، لِأَن جَوَابه بقوله:(مثنى) يدل على ذَلِك، لِأَن من شَأْن الْجَواب أَنْ يكون مطابقًا للسؤال.

قال الحافظ ابن حجر

(4)

: وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ الْجَوَاب أَنَّ السُّؤَال وَقَعَ عَنْ عَدَدهَا أَوْ عَنْ الْفَصْل وَالْوَصْل

اه.

الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مثنى مثنى» يدل على الفصل بين كل ركعتين، ولا غاية لأكثره ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بحد، إنما ذلك على قدر استطاعة المصلي.

الثالث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة» فجعل النبي صلى الله عليه وسلم غاية ذلك أن يخشى الصبح ولم يجعل غايته عددًا.

قال أبو الوليد الباجي: قَوْلُهُ: «مَثْنَى مَثْنَى» يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ،

(1)

وأفضل ما قرأت في هذا الباب رسالة «إضاءة المصابيح على عدد ركعات التراويح» لأخي وحبيبي في الله الشيخ: محمود أبو شهاب الأسيوطي وقد أفاد فيها وأجاد وقد استفدت منه كثيرًا، فالله أسأل أن يرفع ذكره وأن يضع وزره وأن ينفع به وبرسالته الإسلام والمسلمين.

(2)

أخرجه البخاري (1137)، ومسلم (519). وروى مسلم (742) عن ابن عمر: أن رجلًا نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي المسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أُوتِرُ صَلَاةَ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ صَلَّى، فَلْيُصَلِّ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِنْ أَحَسَّ أَنْ يُصْبِحَ سَجَدَ سَجْدَةً، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى» .

(3)

«عمدة القاري» (7/ 2).

(4)

«فتح الباري» (2/ 478).

ص: 333

فَتَكُونُ صَلَاتُهُ تَامَّةً، وَلَا غَايَةَ لِأَكْثَرِهَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ المصَلِّي، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ:«مَثْنَى مَثْنَى» فَلم يَحُدَّ بِحَدٍّ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ: «فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً» فَجَعَلَ غَايَةَ ذَلِكَ أَنْ يَخْشَى الصُّبْحَ، وَلم يَجْعَلْ غَايَتَهُ عَدَدًا

(1)

.

وقال العراقي: وَإِنَّمَا المرَادُ أَنَّهُ يُسَلم مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ في هَذَا الْعَدَدِ وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ «فَإِذَا خَشِيت الصُّبْحَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُصَلِّي مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ بِحَسَبِ مَا يَتَيَسَّرُ لَهُ مِنْ الْعَدَدِ، إلَّا أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ السَّلَامُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ إلَّا أَنْ يَخْشَى الصُّبْحَ، فَيَضِيقَ حِينَئِذٍ وَقْتُ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَيَتَعَيَّنَ الْإِتْيَانُ بِآخِرِهَا وَخَاتِمَتِهَا وَهُوَ الْوِتْرُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ مِنْهُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلم

(2)

.

نقل الإجماع ابن عبد البر وغيره على أن صلاة الليل نافلة مطلقة وغير مقيدة بعدد.

قال ابن عبد البر

(3)

: فَلَا خِلَافَ بَيْنَ المسْلمينَ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَأَنَّهَا نَافِلَةٌ وَفِعْلُ خَيْرٍ وَعَمَلُ بِرٍّ، فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ.

وقال أيضًا

(4)

: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلماءُ عَلَى أَنْ لَا حَدَّ وَلَا شَيْءَ مُقَدَّرًا في صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَأَنَّهَا نَافِلَةٌ، فَمَنْ شَاءَ أَطَالَ فِيهَا الْقِيَامَ وَقَلَّتْ رَكَعَاتُهُ، وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.

قال النووي

(5)

: قَالَ الْقَاضِي: وَلَا خِلَاف أَنَّهُ لَيْسَ في ذَلِكَ حَدّ لَا يُزَاد عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُص مِنْهُ، وَأَنَّ صَلَاة اللَّيْل مِنَ الطَّاعَات الَّتِي كُلما زَادَ فِيهَا زَادَ الْأَجْر، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في فِعْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَا اِخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلم.

وقال ابن القطان الفاسي

(6)

: وجُل الآثار أن صلاته عليه السلام بالليل إحدى عشرة ركعة،

(1)

«المنتقى» (1/ 220).

(2)

«طرح التثريب» (3/ 81).

(3)

«التمهيد» (4/ 151).

(4)

«الاستذكار» (2/ 102).

(5)

«شرح النووي على مسلم» (5/ 25).

(6)

«الإقناع في مسائل الإجماع» (1/ 174).

ص: 334

وأجمعوا أنه لا حد في صلاة الليل، وأنها نافلة، فمن شاء صلى كيف شاء، استقل أو استكثر.

وقال العراقي

(1)

: وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلماءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَحْصُورٌ، وَلَكِن اخْتَلَفَت

(1)

«طرح التثريب» (3/ 311)، وهل يقال: إن هذا الإجماع منخرم لأن مالكًا وابن خزيمة وابن العربي والصنعاني قالوا بعدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة؟

وأجيب عنه: بأن الذي ورد عن مالك ما ذكره عبد الحق الإشبيلي، قال أشهب بن عبد العزيز: عن مالك: الذي آخذ به لنفسي في قيام رمضان هو الذي جمع به عمر بن الخطاب الناس إحدى عشرة ركعة، وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدري من أحدث هذا الركوع الكثير. ذكره ابن مغيث. «التهجد» لعبد الحق الإشبيلي (ص 176).

فهل يدل قول مالك: (ولا أدري من أحدث هذا الركوع الكثير) على أن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة عند مالك. لا يدل على ذلك لوجوه:

الأول: أن معنى (ولا أدري من أحدث هذا الركوع الكثير)، أي: كيف تدرج الأمر من إحدى عشرة ركعة إلى تسع وثلاثين، وليس المعنى أن الزيادة بدعة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأُبي بْنُ كَعْبٍ لما قَامَ بِهِمْ وَهُمْ جَمَاعَةٌ وَاحِدَةٌ - لم يُمْكِنْ أَنْ يُطِيلَ بِهِمْ الْقِيَامَ فَكَثَّرَ الرَّكَعَاتِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ ضِعْفَ عَدَدِ رَكَعَاتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُومُ بِاللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةً، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ النَّاسُ بِالمدِينَةِ ضَعُفُوا عَنْ طُولِ الْقِيَامِ، فَكَثَّرُوا الرَّكَعَاتِ حَتَّى بَلَغَتْ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ. «مجموع الفتاوى» (23/ 112 - 113).

الوجه الثاني: لو كان الإمام مالك أراد أن الزيادة على الإحدى عشرة بدعة؛ لما أجاب الأمير حيث بعث إليه أن ينقص في صلاة التراويح عن تسع وثلاثين ركعة فمنع من ذلك. قال ابن القاسم: قَالَ مَالِكٌ: بَعَثَ إلَيَّ الْأَمِيرُ وَأَرَادَ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ الَّذِي كَانَ يَقُومُهُ النَّاسُ بِالمدِينَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَهُوَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً وَالْوِتْرُ ثَلَاثٌ. قَالَ مَالِكٌ: فَنَهَيْته أَنْ يُنْقِصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَقُلْتُ لَهُ: هَذَا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ وَهَذَا الْأَمْرُ الْقَدِيمُ الَّذِي لم تَزَلِ النَّاسُ عَلَيْهِ. «المدونة الكبرى» (1/ 287).

الوجه الثالث: ومما يدل على أن مالكًا لم ينكر الزيادة على أنه يجوز التنفل بين الترويحتين:

قال ابن القاسم: وَسَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ التَّنَفُّلِ فِيمَا بَيْنَ التَّرْوِيحَتَيْنِ؟ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. اه.

فإذا كان الإمام ينكر الزيادة كيف يجيز الصلاة بين الترويحتين؟ =

ص: 335

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

=

فالحاصل: أن مالكًا يجيز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، وهذا جلي ولا خفاء فيه، وقد جمع بين الروايتين عن مالك ابن القاسم فقال: كره مالك أن ينقص الناس من عدد الركوع الذي جرى به العمل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تسع وثلاثون ركعة بالوتر، والوتر ثلاث، واختار هو لنفسه إحدى عشرة ركعة. اه. «المدونة الكبرى» (1/ 289). انظر «إضاءة المصابيح على عدد ركعات التراويح» لأبي شهاب الأسيوطي (ص 63). وأما ابن خزيمة فلم ينكر الزيادة، وإنما ذكر الأخبار التي وردت في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وجمَع بينها: فذكر حديث ابن عباس: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة» . وذكر حديث عائشة: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً» . فَجَائِزٌ لِلمرْءِ أَنْ يُصَلِّيَ أَيَّ عَدَدٍ أَحَبَّ مِنَ الصَّلَاةِ مِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلاَّهُنَّ، وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلاَّهَا، لَا حَظْرَ عَلَى أَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. اه. «صحيح ابن خزيمة» (1/ 575، 578).

فابن خزيمة جمع بين الأخبار التي وردت في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لليل، وذكر أن هذا من جنس الاختلاف المباح. ولم يقل إن الزيادة على الإحدى عشرة بدعة.

قال الإمام ابن العربي في «شرح الترمذي» بعد أن أشار إلى الروايات المتعارضة عن عمر وإلى القول أنه ليس في قدر ركعات التراويح حد محدود: والصحيح أن يصلي إحدى عشرة ركعة؛ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقيامه، فأما غير ذلك من الأعداد فلا أصل له ولا حد فيه.

فإذا لم يكن بد من الحد فما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، ما زاد النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وهذه الصلاة هي قيام الليل، فوجب أن يقتدى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم.

ومعنى كلام ابن العربي: أن الأفضل والسنة لمن أراد الصلاة بحد محدود أن يصلي بإحدى عشرة؛ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما غير ذلك من الأعداد فلا أ صل له، أي: فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعلها. ودل على ذلك أمور:

الأول: أنه استهل كلامه بقوله: وليس في قدر ركعاتها (أي صلاة التراويح) حد محدود.

وقال ابن العربي في «القبس في شرح موطأ مالك بن أنس» (1/ 284): ليس لصلاة رمضان ولا لغيرها تعديد، إنما التعديد والتقدير للفرائض، وإنما هو قيام كله إلى طلوع الفجر لمن استطاع على قدر ما تنتهي إليه قدرته.

فالحاصل: أن العربي لم ينكر الزيادة على إحدى عشرة ركعة بل صلاة الليل لا حد لها. «عارضة الأحوذي في شرح سنن الترمذي» (3/ 19).

ص: 336

الرِّوَايَاتُ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُهُ. اه.

الدليل الثاني: العبرة في صلاة الليل بزمن القيام:

فهذه عمومات من الكتاب والسنة تدل على أن التعويل في قيام الليل على زمن القيام لا على عدد الركعات.

أما الكتاب العزيز فالظاهر في قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17]، أن التعويل في قيام الليل على زمن القيام، وكذلك الناظر في قوله تعالى:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا 2 نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا 3 أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]، يرى التعويل على زمن القيام أيضًا، وكذلك المتأمل في قوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26] يرى أن التعويل أيضًا على زمن القيام، وكذلك، قوله تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] يرى أيضًا المعنى المشار إليه، وهو أن المراد زمن القيام والسجود، ونحوه قوله تعالى:{يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] وكذلك ممعن النظر في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] والآيات في هذه الباب كثيرة.

أما السنة: ففي «الصحيحين» من حديث ابن عمرو: «أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ

قال الصنعاني: وَاعْلم أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ قَوْلِهِ (بِدْعَةٌ) عَلَى جَمْعِهِ لَهُمْ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَإِلْزَامِهِمْ بِذَلِكَ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ بِدْعَةٌ فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَمَعَ بِهِمْ كَمَا عَرَفْت.

إذَا عَرَفْت هَذَا عَرَفْت أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهَا جَمَاعَةً عَلَى مُعَيَّنٍ وَسَمَّاهَا بِدْعَةً وَأَمَّا قَوْلُهُ: «نِعْمَ الْبِدْعَةُ» فَلَيْسَ فِي الْبِدْعَةِ مَا يُمْدَحُ بَلْ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. اه. «سبل السلام» (2/ 15 - 16).

قلت: فالحاصل من قوله أنه يبدع فعل عمر رضي الله عنه المتضمن (الكيف والكم).

فالكيف: هو جمعهم على إمام معين والاستمرار على ذلك. والكم: هو أن جعلها عشرين ركعة، وذلك كله لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك قال: جعل هذه الكيفية والكمية سنة، والمحافظة عليها هو الذي نقول: إنه بدعة. فيثبت أن عمر رضي الله عنه أول من جمعهم على معين وألزمهم بذلك (كما زعم) بعدد عشرين ركعة، وهذا الفعل كله عنده بدعة!! انظر:«إضاءة المصابيح على عدد ركعات التراويح» .

ص: 337

عليه السلام، كان يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ».

فالعبرة بزمن القيام وذلك في قوله: «ويقوم ثلثه»

(1)

.

ثالثًا: ذكر بعض الآثار التي تدل على أن صلاة الليل نفل مطلق ليست محدودة بحد:

1 -

عن أَسْلم: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ. حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ. يَقُولُ لَهُمُ: الصَّلَاةَ، الصَّلَاةَ. ثُمَّ يَتْلُو هذِهِ الآيَةَ:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاِصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسئَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}

(2)

.

قال أبو الوليد الباجي: قَوْلُهُ: (إنَّ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ) يَقْتَضِي أَنَّ التَّنَفُّلَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ كُلِّ إنْسَانٍ وَنَشَاطِهِ.

2 -

فعَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ: حَدِّثْنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّانِيَةَ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: إِنْ شئت حَدَّثْتُكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَمَّا أَنَا فَأُوتِرُهَا هُنَا بِخَمْسٍ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَرْقُدُ، فَإِنِ اسْتَيْقَظْتُ صَلَّيْتُ شَفْعًا حَتَّى أُصْبِحَ

(3)

.

3 -

عن خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، كَيْفُ تَقُولُ في الْوِتْرِ؟ فَقَالَ عَمَّارٌ:«أَمَّا أَنَا فَأُوتِرُ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ، فَإِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ شَيْئًا صَلَّيْتُ شَفْعًا شَفْعًا حَتَّى الصُّبْحِ»

(4)

.

4 -

عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُرَاقَةَ، أَنَّهُ رَأَى حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ يُسَبِّحُ في السَّفَرِ وَمَعَهُمْ في ذَلِكَ السَّفَرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقِيلَ: إِنَّ خَالَكَ يَنْهَى عَنْ هَذَا. فَسَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَصْنَعُ ذَلِكَ، لَا يُصَلِّي قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا بَعْدَهَا»

(1)

انظر: «بحث عدد ركعات قيام الليل» لفضيلة الشيخ مصطفى بن العدوي (ص 7 - 9). وهو بحث ماتع، أسأل الله أن يجعله من مفاتيح الخير وأن يرفع ذكره، وأن يضع وزره، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين وأن يجمعني وإياه مع سيد الأنبياء والمرسلين.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه مالك في «الموطأ» (5/ 96) عن زيد بن أسلم عن أبيه به.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4468).

(4)

إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4467).

ص: 338

قُلْتُ: أُصَلِّي بِاللَّيْلِ؟ فَقَالَ: «صَلِّ بِاللَّيْلِ مَا بَدَا لَكَ»

(1)

.

5 -

وعن عطاء قال: «أَدْرَكْت النَّاسَ وَهُمْ يُصَلُّونَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ»

(2)

.

6 -

وعن نافع عن ابن عمر قال: «كَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يُصَلِّي بِنَا في رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَيَقْرَأُ بِحَمْدِ الملَائِكَةِ في رَكْعَةٍ»

(3)

.

7 -

وعن سعيد بن عبيد: «أَنَّ عَلِيَّ بْنَ رَبِيعَةَ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ في رَمَضَانَ خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ، وَيُوتِرُ بِثَلَاثٍ»

(4)

.

8 -

وعن الحسن بن عبيد قال: «كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ يُصَلِّي بِنَا في رَمَضَانَ أَرْبَعِينَ رَكْعَةً، وَيُوتِرُ بِسَبْعٍ»

(5)

.

9 -

عن داود بن قيس: «أَدْرَكْتُ النَّاسَ بِالمدِينَةِ في زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ - يُصَلُّونَ سِتَّة وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ»

(6)

.

• دليل من قال بأنه لا يزاد في قيام الليل على إحدى عشرة ركعة:

استدلوا بالسنة والمأثور:

أما دليلهم من السنة:

ففي «الصحيحين»

(7)

: عَنْ أَبِى سَلمةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِنْ عَوْف أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في رَمَضَانَ؟ قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ في رَمَضَانَ وَلَا في غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً.

واعْتُرِضَ على هذا الاستدلال من وجوه:

(1)

إسناده صحيح: أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» (2/ 592).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 393).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 393).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 393).

(5)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 393).

(6)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 393).

(7)

أخرجه البخاري (2013)، ومسلم (738).

ص: 339

الوجه الأول: أن عائشة روت صفات أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم تفيد أنه زاد في صلاته بالليل على إحدى عشرة ركعة.

روى البخاري عن عائشة: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ

(1)

.

وروى مسلم عن عائشة: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ في شَيْءٍ إِلَّا في آخِرِهَا

(2)

.

وقد جمع العلماء بين روايات عائشة:

قال القرطبي: والصحيح أن كل ما ذكَرَتْه صحيح من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أوقات متعددة، وأحوال مختلفة، حَسَب النشاط واليُسْر، وليبين أن كل ذلك جائز

(3)

.

وقال الصنعاني: الرِّوَايَاتُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ النَّشَاطِ وَبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنَّ الْكُلَّ جَائِزٌ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا أَخْبَرَتْ عَنِ الْأَغْلَبِ مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا يُنَافِيهِ مَا خَالَفَهُ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ النَّادِرِ

(4)

.

الوجه الثاني: أنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قام الليل ثلاث عشرة ركعة من طريق غير واحد من الصحابة والمثبت مقدم على النافي.

ففي الصحيحين

(5)

من حديث ابن عباس {: أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَهِيَ خَالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ في عَرْضِ وِسَادَةٍ وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ في طُولِهَا، فَنَامَ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، فَاسْتَيْقَظَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَصَنَعْتُ مِثْلَهُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبهِ فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي يَفْتِلُهَا، ثُمَّ صَلَّى

(1)

البخاري (1124).

(2)

مسلم (737).

(3)

«المفهم» (322).

(4)

«سبل السلام» (2/ 19).

(5)

أخرجه البخاري (992)، ومسلم (763).

ص: 340

رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ المؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.

ففي هذا الحديث صلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة غير ركعتي الفجر.

روى مسلم

(1)

عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أنه قال: لأَرْمُقَنَّ اللَّيْلَةَ صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ أَوْ فُسْطَاطَهُ، فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُونَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ دَونَ الَّتِي قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُونَ الَّتِي قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُونَ الَّتِي قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ، فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.

الوجه الثالث: ما قاله ابن عبد البر: وَأَكْثَرُ الْآثَارِ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُ كَانَتْ بِالْوِتْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَقَدْ رُوِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِيهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا زِيَادَةٌ حَفِظَهَا مَنْ تُقْبَلُ زِيَادَتُهُ بِمَا نَقَلَ مِنْهَا، وَلَا يَضُرُّهَا تَقْصِيرُ مَنْ قَصَّرَ عَنْهَا، وَكَيْفَ كَانَ الْأَمْرُ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ المسْلمينَ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَأَنَّهَا نَافِلَةٌ، وَفِعْلُ خَيْرٍ، وَعَمَلُ بِرٍّ، فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ، وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ

(2)

.

وقَالَ الْقَاضِي: قَالَ الْعُلماء: في هَذِهِ الْأَحَادِيث إِخْبَار كُلّ وَاحِد مِنْ اِبْن عَبَّاس وَزَيْد وَعَائِشَة بِمَا شَاهَدَهُ.

قَالَ الْقَاضِي: وَلَا خِلَاف أَنَّهُ لَيْسَ في ذَلِكَ حَدّ لَا يُزَاد عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُص مِنْهُ، وَأَنَّ صَلَاة اللَّيْل مِنْ الطَّاعَات الَّتِي كُلما زَادَ فِيهَا زَادَ الْأَجْرُ، وَإِنَّمَا الْخِلَاف في فِعْل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَا اِخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلم

(3)

.

الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد الوتر، وهذا دليل على جواز الزيادة.

روى مسلم عَنْ أَبِي سَلمةَ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: «كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي ثَمَانَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ،

(1)

أخرجه مسلم (765).

(2)

«التمهيد» (4/ 151).

(3)

«شرح مسلم» (5/ 25).

ص: 341

فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَرَكَعَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ»

(1)

.

قال النووي رحمه الله: وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ؛ بَيَانًا لِجَوَازِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوِتْرِ

(2)

.

فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد انتهاء وتره من الليل، فهذا يدل على أن صلاة الليل نفل مطلق ولا حد لها.

قال شيخ الإسلام: وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ؛ فَقَدْ أَخْطَأَ

(3)

.

واستدلوا بعدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة بما رواه مالك عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالمئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلَّا في بُزُوغِ الْفَجْرِ

(4)

.

واعترض عليه من وجوه:

الأول: أن فعل عمر ليس فيه النهي عن الزيادة.

(1)

مسلم (1/ 509).

(2)

«المجموع» (4/ 16).

(3)

«مجموع الفتاوى» (22/ 272).

(4)

مدار هذا الحديث على السائب بن يزيد واختلف عليه:

فرواه محمد بن يوسف واختلف عليه، فرواه عنه مالك في «الموطأ» (1/ 115) ويحيى القطان في «المصنف» لابن أبي شيبة (2/ 391) وغيرهم باللفظ المذكور.

وأخرجه أبو بكر النيسابوري (عبد الله بن محمد بن زياد) في «فوائده» مخطوط (1/ 136) من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن يوسف عن السائب بلفظ: «كنا نصلي في زمان عمر في رمضان ثلاث عشرة ركعة، ولكن ما كنا نخرج إلا في وجاه الصبح، كان القارئ يقرأ في كل ركعة خمسين آية. وهذه الرواية مخالفة لرواية الثقات عن محمد بن يوسف.

وروى عبد الرزاق في «المصنف» (4/ 260) من طريق داود بن قيس عن محمد بن يوسف عن السائب بلفظ: «إحدى وعشرين» فهذه الرواية شاذة عن محمد بن يوسف، واللفظ الصحيح عنه: إحدى عشرة ركعة.

ص: 342

الوجه الآخر: أنه ورد خلاف هذا عن عمر:

فَعَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: «كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ في شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَإِنْ كَانُوا لَيَقْرَءُونَ بِالمئِينَ مِنَ الْقُرْآن

(1)

.

(1)

يزيد بن خصيفة رواه عنه ابن أبي ذئب، أخرجه الفريابي في «الصيام» (131)، وعلي بن الجعد في «مسنده» (413)، ومحمد بن جعفر، أخرجه البيهقي في «معرفة السنن والآثار» (4/ 42) بلفظ:«كُنَّا نَقُومُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً وَالْوِتْرِ» .

إسماعيل بن أمية، عن محمد بن يوسف، ويزيد بن خصيفة بلفظ:«فكنا نقوم بأحد عشر أو واحد وعشرين» . أخرجه أبو بكر النيسابوري في «فوائده» (2/ 135) ومدار هذا الحديث على يزيد بن خصيفة، وإن كان ورد عن أحمد أنه قال عنه:«منكر الحديث» ؛ فقد قال أبو بكر الآجري: سألت أحمد عن يزيد بن خصيفة فقال: ثقة ثقة. وفي رواية ابن عبد الله: ما أعلم إلا خيرًا. وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن قول أحمد: (منكر الحديث)، فقال: هذه اللفظة يطلقها أحمد على من يُغرب على أقرانه بالحديث، عُرف ذلك بالاستقراء من حاله، وقد احتج بابن خصيفة مالك والأئمة كلهم. كما في «هدي الساري مقدمة فتح الباري» (1/ 453). وقال الحافظ في «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (1/ 108): أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ المنكر على مجرد التفرد، ولكن حيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده.

وإن كان قال ابن حبان: (يزيد بن خصيفة من جلة أهل المدينة، وكان يهم كثيرًا إذا حدث من حفظه)، فقد قال ابن معين: ثقة حجة. وقال أبو حاتم الرازي: ثقة. وقال النسائي: ثقة. ووثقه ابن عبد البر وابن شاهين وابن سعد والذهبي وابن حجر وغيرهم. انظر: «إضاءة المصابيح» لأخي الشيخ/ أبو شهاب الأسيوطي.

فالحاصل في هذا الحديث: أن مداره على السائب بن يزيد، واختلف عليه، فرواه محمد بن يوسف بلفظ: إحدى عشرة ركعة. هذا صحيح. ورواه يزيد بن خصيفة بلفظ: إحدى وعشرين ركعة، أي بالوتر. وعشرين ركعة، أي: من غير الوتر. إسناده صحيح. والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال. ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها.

وإن قال قائل: لابد من الترجيح، فرواية إحدى عشرة أرجح، وهي الصحيحة؛ فعمر إن كان أمر بالصلاة بإحدى عشرة ركعة فهو لم ينه عن الزيادة عن إحدى عشرة، وقد روى مالك في «الموطأ» (5/ 96) بإسناد صحيح عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلم، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ.

قال أبو الوليد الباجي: قَوْلُهُ: (إَنَّ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ) يَقْتَضِي أَنَّ التَّنَفُّلَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ كُلِّ إنْسَانٍ وَنَشَاطِهِ.

ص: 343

واستدلوا أيضًا لهذا القول: بأن صلاة التراويح نافلة مقيدة كالسنن الرواتب وغيرها كصلاة الكسوف، فقد التزم النبي صلى الله عليه وسلم فيها عددًا معينًا من الركعات، لا يجوز الزيادة عليه، فكذا عدد ركعات قيام الليل إنما هو إحدى عشرة ركعة لا يجوز الزيادة.

واعترض على هذا الاستدلال: بأنه لو صح هذا القياس بأنه لا يجوز الزيادة على إحدى عشرة كما لا يجوز الزيادة في صلاة الظهر عن أربع ركعات - فإذا كان يجوز النقصان بالاجماع في صلاة الليل على إحدى عشرة ظهر بطلان هذا القياس.

وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن صلاة الليل نافلة مطلقة لا حد فيها.

وقال ابن العربي رحمه الله: ليس لصلاة رمضان ولا لغيرها تعديد، إنما التعديد والتقدير للفرائض، وإنما هو قيام كله إلى طلوع الفجر لمن استطاع على قدر ما تنتهي إليه قدرته.

وقال ابن المنذر رحمه الله: الصَّلَاةُ في كُلِّ وَقْتٍ جَائِزَةٌ إِلَّا وَقْتًا نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَالْأَوْقَاتُ الَّتِي نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا وَقْتُ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتُ الزَّوَالِ، وَوَقْتُ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالصَّلَاةُ في سَائِرِ الْأَوْقَاتِ طَلْقٌ مُبَاحٌ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ فِيهَا إِلَّا بِحُجَّةٍ، وَلَا حُجَّةَ مَعَ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْوِتْرِ

(1)

.

الحاصل: أن عدد ركعات الليل لا حد لها، وأنها من النوافل المطلقة بالإجماع.

نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم على أن صلاة الليل نافلة مطلقة وغير مقيدة بعدد.

قال أبو عمر ابن عبد البر: وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلماءُ عَلَى أَنْ لَا حَدَّ وَلَا شَيْءَ مُقَدَّرًا في صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَأَنَّهَا نَافِلَةٌ، فَمَنْ شَاءَ أَطَالَ فِيهَا الْقِيَامَ وَقَلَّتْ رَكَعَاتُهُ، وَمَنْ شَاءَ أَكْثَرَ الرُّكُوعَ

(1)

«الأوسط» (5/ 201).

ص: 344

وَالسُّجُودَ

(1)

.

(1)

وهل يقال: إن هذا الإجماع منخرم لأن مالكًا وابن خزيمة وابن العربي والصنعاني قالوا بعدم جواز الزيادة على إحدى عشرة ركعة؟ لا، وأجيب عنه بأن مالكًا ورد عنه أنه قال: والذي آخذ به لنفسي في قيام رمضان هو الذي جمع به عمر بن الخطاب الناس إحدى عشرة ركعة وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدري من أحدث هذا الركوع الكثير. ومعنى (لا أدري من أحدث هذا الركوع الكثير) أي: كيف تدرج الأمر من إحدى عشرة إلى تسع وثلاثين ركعة؟! وليس معناه أنه يقول: إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة أو إنها لا تجوز. دل على ذلك أمران:

الأول: قال ابن القاسم رحمه الله: قَالَ مَالِكٌ: بَعَثَ إلَيَّ الْأَمِيرُ وَأَرَادَ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ الَّذِي كَانَ يَقُومُهُ النَّاسُ بِالمدِينَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَهُوَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ. قَالَ مَالِكٌ: فَنَهَيْته أَنْ يُنْقِصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَقُلْتُ لَهُ: هَذَا مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْأَمْرُ الْقَدِيمُ الَّذِي لم تَزَلِ النَّاسُ عَلَيْهِ. اه. قلت: وقد جمع ابن القاسم بين الروايتين فقال: كره مالك أن ينقص الناس من عدد الركوع الذي جرى به العمل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تسع وثلاثون ركعة بالوتر، واختار هو لنفسه إحدى عشرة ركعة. أما ابن خزيمة فذكر الصفات التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل وقال: فَجَائِزٌ لِلمرْءِ أَنْ يُصَلِّيَ أَيَّ عَدَدٍ أَحَبَّ مِنَ الصَّلَاةِ مِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّاهُنَّ، وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّاهَا، لَا حَظْرَ عَلَى أَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. ولم يذكر أنه لا يجيز الزيادة. أما الصنعاني رحمه الله فقد علق على قول عمر:«نِعْمَ الْبِدْعَةُ» : فَلَيْسَ فِي الْبِدْعَةِ مَا يُمْدَحُ بَلْ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ. فهو يبدع فعل عمر في الكم والكيف، وهذا ظاهر البطلان ولا يحتاج ذلك إلى استدلال.

أما ابن العربي فمعنى كلامه: أن صلاة الليل لا حد لها، ولكن من أراد أن يجعل حدًّا محددًا يلتزم به الناس؛ فعليه أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: ليس لصلاة رمضان ولا لغيرها تعديد، إنما التعديد والتقدير للفرائض، وإنما هو قيام كله إلى طلوع الفجر لمن استطاع على قدر ما تنتهي إليه قدرته. فهل هذا لا يجيز الزيادة؟ من الأدلة أيضًا أن العبرة في صلاة الليل بزمن القيام وليس بعدد الركعات لعموم قوله تعالى {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} .

أما من استدل بعموم قول عائشة: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً.

فاعترض عليه من وجوه:

الأول: ما رواه البخاري عن عائشة: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. فدل حديث عائشة هذا على أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد =

ص: 345

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= على إحدى عشرة ركعة، وهذه الروايات محمولة على أوقات متعددة بحسَب النشاط وبيان الجواز. ولعلها حَدَّثت بما رأته أولًا «ما كان يزيد عن إحدى عشرة» ثم حدثت بالحديث الآخر بعد ذلك. الثاني: أنه ورد في «الصحيحين» من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وكذا ورد في حديث زيد بن خالد كما في مسلم، والمثبت مقدم على النافي.

الثالث: أن العلماء اختلفوا فيما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه من عدد الركعات، هل هو إحدى عشرة أو ثلاثة عشر، ولم يختلفوا في أن الصلاة لا حد لها، وأنها نافلة مطلقة، فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر. قال ابن القطان الفاسي: وجل الآثار أن صلاته عليه السلام بالليل إحدى عشرة ركعة، وأجمعوا أنه لا حد في صلاة الليل وأنها نافلة، فمن شاء صلى كيف شاء، استقل أو استكثر. الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه صلى بعد الوتر، وهذا دليل على أن صلاة الليل نفل مطلق، وعلى جواز الزيادة على إحدى عشرة. واستدلوا بأن صلاة التراويح نافلة مقيدة بإحدى عشرة ركعة كالفرائض.

واعترض عليه: بما قاله الإمام ابن العربي: ليس لصلاة رمضان ولا لغيرها تعديد، إنما التعديد والتقدير للفرائض، وإنما هو قيام كله إلى طلوع الفجر لمن استطاع على قدر ما تنتهي إليه قدرته.

واستدلوا أيضًا بما روى مالك عن محمد بن يوسف عن السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً.

واعترض عليه: بأنه ورد خلافه عن عمر، فَعَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:«كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً» . وإسناده صحيح.

والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها. إذا سَلمنا أن رواية محمد بن يوسف أصح وأن الصحيح: أمر عمر أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. فالجواب: أن عمر رضي الله عنه لم ينه عن الزيادة. بل صح عنه أنه كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله. قال أبو الوليد الباجي: قَوْلُهُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ. يَقْتَضِي أَنَّ التَّنَفُّلَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ كُلِّ إنْسَانٍ وَنَشَاطِهِ وَمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُدَاوِمَ عَلَيْهِ. اه.

قلت: وكذا صح هذا المعنى عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، ولا أعلم أحدًا خالف في ذلك. وقد صح عن ابن عمر قوله: أُصَلِّي كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يُصَلُّونَ، لَا أَنْهَى أَحَدًا يُصَلِّي بِلَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ مَا شَاءَ، غَيْرَ أَنْ لَا تَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا.

ص: 346

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أَمَّا أَنَا فَأُوتِرُهَا هُنَا بِخَمْسٍ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَرْقُدُ، فَإِنِ اسْتَيْقَظْتُ صَلَّيْتُ شَفْعًا حَتَّى أُصْبِحَ. وقد ورد هذا المعنى عن عمار بإسناد حسن.

وقد صح عن عطاء قال: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ يُصَلُّونَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ.

فهذا هو الذي فهمه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون في هذه المسألة.

استدلوا أيضًا بأن حديث: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» مطلق، ويقيد بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» وأن الحديث يدل على جواز الصلاة إلى عدد غير محدد؛ لأن هذا الحديث مطلق، وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام إحدى عشرة ركعة فهل يعد ذلك تقييدًا للحديث؟ فأجاب فضيلته بقوله: هذا حديث مطلق، وفِعل النبي صلى الله عليه وسلم داخل في هذا المطلق، وفِعل بعض الأفراد على وجه لا يخالف الإطلاق لا يعد تقييدًا كما هو معروف عند الأصوليين، فأنت لو قلت: أكرِم رجلًا. وقلت: أكرم محمدًا: فلا يعني ذلك أن الحكم يتقيد بمحمد؛ لأنه داخل في أفراد المطلق، ولكن يصدق عليه أنك التزمت الأمر، وكذلك لو قلت: أكرِم الرجال، فأكرمت واحدًا بعينه، فلا يعتبر ذلك تخصيصًا، بل نقول: إذا ذُكر بعض أفراد العام بحكم لا يتنافى مع حكم العام، فليس هذا من باب التخصيص، فكذلك في التقييد. وقال في موضع آخر تعليقًا على الحديث: ولم يحدد له النبي صلى الله عليه وسلم عددًا مع أن الحال تقتضي ذلك؛ لأن الرجل السائل لا يعلم عن صلاة الليل كمية ولا كيفية، فلما بَيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم الكيفية وسكت عن الكمية عُلم أن الأمر في العدد واسع، ولهذا اختلف عمل السلف الصالح في ذلك.

والقول بأنه لا تجوز الزيادة عن العدد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به، وأن الزيادة عليه داخلة في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» قول ضعيف لما علمت من حديث عبد الله بن عمر {وعمل السلف الصالح.

ولكن الأمر الذي ينبغي أن يُهتم به التأني في صلاة التراويح، وأن لا يُفعل ما يقوم به بعض الناس من الإسراع الذي قد يخل بواجب الطمأنينة، أو يمنع بعض المأمومين منها. فالذي ينظر في قول الأئمة يجد أن كلامهم يدور حول استحباب وأفضلية الإحدى عشرة ركعة أو الثلاث عشرة ركعة على غيرهما من الأعداد، ولم يفهموا من قول عائشة ل أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة عدم جواز الزيادة أو أنها بدعة؛ لأنهم جمعوا ووفقوا بين الأدلة في الباب مع اعتبارهم لعمل وفهم السلف الصالح للنصوص. انظر «إضاءة المصابيح على عدد ركعات التراويح» .

ص: 347

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (22/ 272 - 273): وَالْأَفْضَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ المصَلِّينَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ احْتِمَالٌ لِطُولِ الْقِيَامِ فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلَاثٍ بَعْدَهَا، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ، وَغَيْرِهِ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَحْتَمِلُونَهُ فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ أَكْثَرُ المسْلمينَ، فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعِينَ، وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ، وَلَا يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، فَقَدْ أَخْطَأَ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ السَّعَةُ فِي نَفْسِ عَدَدِ الْقِيَامِ فَكَيْفَ الظَّنُّ بِزِيَادَةِ الْقِيَامِ لِأَجْلِ دُعَاءِ الْقُنُوتِ أَوْ تَرْكِهِ؟! كُلُّ ذَلِكَ سَائِغٌ حَسَنٌ. وَقَدْ يَنْشَطُ الرَّجُلُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَطْوِيلَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ لَا يَنْشَطُ فَيَكُونُ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَخْفِيفَهَا.

قال فضيلة الشيخ مصطفى بن العدوي حفظه الله في نهاية بحث عدد ركعات قيام الليل: هؤلاء الإخوان الذين يفارقون الإمام ويتركون الجماعات من أجل أن الأئمة يصلون عشرين ركعة، ظانين عند فراقهم للأئمة أنهم بمفارقتهم متبعو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليت شعري هل أمعن إخواني النظر في عموم الآيات والأحاديث، أم أنهم سمعوا كلمة إحدى عشرة فعضوا عليها بنواجذهم وغضوا الطرف عما سواها؟

إنه يشق علينا رؤية إخواننا الذين يفارقون الحرم وينصرفون بعد صلاة عشر ركعات!!

فإلى هؤلاء الإخوة المجتهدين عفا الله عنهم أقول وأذكر:

هل حظيتم معشر الإخوة بارك الله فيكم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» ؟!! هل قمتم الليل إلا قليلًا؟

هل قمتم أحب القيام إلى الله الذي هو قيام داود عليه السلام (ثلث الليل)؟

هل امتثلتم نصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعنِّي على نفسك بكثرة السجود» ؟

هل أيقنتم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّكَ لَنْ تَسْجُدَ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْكَ خَطِيئَةً» ؟

هل فهمتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» ؟

هل قرأتم قوله صلى الله عليه وسلم: «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ» ؟

هل أنتم من الذين يبيتون لربهم سُجدًا وقيامًا؟

هل أنتم من القانتين آناء الليل ساجدين وقائمين؟

هل قرأتم أقوالٍ سلفكم الصالح رحمهم الله في هذه المسائل؟

هل نظرتم قول مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أهل العلم والفضل؟

وأخيرًا فهل من مدكر، هل من إعادة نظر؟!

وقال الشيخ ابن باز: ولكن الأفضل وهو الأكثر من عمله صلى الله عليه وسلم أن يسلم من كل اثنتين ثم يوتر بواحدة، كما تقدم ذلك من حديث ابن عمر {.

والأغلب من فعله صلى الله عليه وسلم أنه يوتر بإحدى عشرة ركعة، ويسلم من كل ثنتين وربما أوتر بثلاث عشرة كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث عائشة ل وثبت أيضًا أنه أوتر بثلاث عشرة من غير حديث عائشة

ومن صلى أكثر من ذلك فلا حرج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» ولم يحد حدًّا في عدد الركعات التي يأتي بها المصلي قبل الوتر. فدل ذلك على التوسعة، فمن صلى عشرين وأوتر في رمضان أو غيره أو صلى أكثر من ذلك، فلا حرج عليه. وقد تنوعت صلاة السلف الصالح في الليل، فمنهم من يكثر الركعات ويقصر القراءة، ومنهم من يقلل الركعات ويطيل القراءة، وكل ذلك واسع بحمد الله ولا حرج فيه مع مراعاة الخشوع والطمأنينة. انظر «مجموع فتاوى ابن باز» (11/ 299).

ص: 348

وفي «الصحيحين» من حديث ابن عمر {: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عليها السلام:«صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» .

وجه الدلالة: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثْنَى مَثْنَى» يدل على الفصل بين كل ركعتين، ولا غاية لأكثره، ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بحد، وإنما ذلك على قدر استطاعة المصلي.

قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً» .

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم غاية ذلك أن يخشى الصبح ولم يجعل لغايته عددًا.

•‌

‌ المبحث السادس: هل يجوز القراءة من المصحف في التراويح؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ:

• القول الأول: ذهب مالك

(1)

والشافعي

(2)

وأحمد

(3)

إلى جواز القراءة من المصحف.

واستدلوا لذلك بالسنة والمأثور:

(1)

قال الإمام مالك: (ولا بأس بقيام الإمام بالناس في رمضان في المصحف).

(2)

«المجموع» (4/ 95).

(3)

قال أبو داود في مسائله (ص 663) سمعت أحمد سئل عن الرجل يؤم في شهر رمضان بالمصحف؟ فرخص فيه، فقيل له: يؤم في الفريضة؟ قال: ويكون هذا!

ص: 349

أما دليلهم من السنة: فعن أبي قتادة قال: (خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَصَلَّى، فَإِذَا رَكَعَ وَضَعَهَا، وَإِذَا رَفَعَ رَفَعَهَا)

(1)

.

إذا كان يجوز حمل جارية في الصلاة، فكذا يجوز حمل المصحف من باب أَوْلى.

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَعْتَقَتْ غُلَامًا لَهَا عَنْ دُبُرٍ، فَكَانَ يَؤُمُّهَا في رَمَضَانَ في المصحفِ. قال: وكان «يؤم» من يدخل عليها إلا أن يدخل عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فيصلى بها

(2)

.

2 -

عن ثابت البناني قال: «كَانَ أَنَسٌ يُصَلِّي وَغُلَامُهُ يُمْسِك المصحفَ خَلْفَهُ، فَإِذَا تَعَايَا في آيَةٍ فَتَحَ عَلَيْهِ»

(3)

.

3 -

سئل ابن شهاب عن الرجل يؤم الناس في رمضان في المصحف قال: كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مُنْذُ كَانَ الإِسْلَامُ، كَانَ خِيَارُنَا يَقْرَءُونَ في المصَاحِفِ في رَمَضَانَ

(4)

.

4 -

عَنِ الْحَكَمِ «فِي الرَّجُلِ يَؤُمُّ في رَمَضَانَ يَقْرَأُ في المصحفِ، رَخَّصَ فِيهِ»

(5)

.

5 -

عن قتادة عن سعيد بن المسيب «فِي الَّذِي يَقُومُ في رَمَضَانَ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَا يَقْرَأْ بِهِ في لَيْلَةِ، وإِلَّا فَلْيَقْرَأْ مِنَ المصْحَفْ، فَقال الحَسَنْ: لِيَقْرَأْ بِما مَعَهُ وَلَا يُرَدِّدْ وَلَا يَقْرَأْ مِنَ المصْحَفْ كَمَا تَفْعَلْ اليَهُودْ. قال قَتَادَة: وَقَوْلُ سَعِيدُ: أَعْجَبُ إِلَيَّ

(6)

.

• القول الثاني: كراهة القراءة من المصحف:

(1)

أخرجه البخاري (5996)، ومسلم (543).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (234)، وعبد الرزاق (2/ 394).

(3)

إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 338).

(4)

ذكره ابن نصر المروزي (ص 36).

(5)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 238).

(6)

«مختصر قيام الليل» لابن نصر المروزي (ص 138). وقول الحسن فيه كراهة القراءة من المصحف.

ص: 350

عن ابن عباس {قال: نَهَانَا أَمِيرُ المؤْمِنِينَ عُمَرُ أَنْ نَؤُمَّ الناس في المصْحَفِ

(1)

.

عن الأعمش عن إبراهيم: أَنْهُ كَرِهَ أَنْ يُؤَمَّ في المصْحَفْ وَقَالَ: لَا نَتَشَبَّه بِأَهْلِ الكِتَاب

(2)

.

• القول الثالث: ذهب أبو حنيفة

(3)

وابن حزم

(4)

إلى أن المصلي لو قرأ من المصحف، فصلاته فاسدة.

واستدلوا لذلك بالسنة والمعقول:

أما دليلهم من السنة: ففي «الصحيحين»

(5)

من حديث عبد الله قال: كُنَّا نُسَلم عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ في الصَّلَاة قَبْلَ أَنْ نَخْرُجَ إلَى النَّجَاشِيِّ فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلما رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلمت عَلَيْهِ فَلم يَرُدَّ، وَقال:«إنَّ في الصَّلَاة شُغْلًا» .

وجه الدلالة: أن حمل المصحف وتقليب الأوراق والنظر فيه - يشغله عن الصلاة والنبي يقول: «إنَّ في الصَّلَاة شُغْلًا» .

أما دليلهم من المعقول: فما قاله الكاساني: إنَّ هذا يُلَقَّنُ من المصْحَفِ فَيَكُونُ تَعَلما منه، أَلَا تَرَى أَنَّ من يَأْخُذُ من المصْحَفِ يُسَمَّى مُتَعَلما، فَصَارَ كما لو تَعَلم من مُعَلم، وَذَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ كذا هذا وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ بين ما إذَا كان حَامِلًا لِلمصْحَفِ مُقَلِّبًا لِلْأَوْرَاقِ وَبَيْنَ ما إذَا كان مَوْضُوعًا بين يَدَيْهِ وَلَا يُقَلِّبُ الْأَوْرَاقَ.

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي داود في «المصاحف» (796)، وفي إسناده: نهشل بن سعيد كذبه إسحاق، وفي سماع الضحاك من ابن عباس خلاف.

(2)

إسناده حسن: رواه ابن أبي داود في «المصاحف» (779).

(3)

«بدائع الصنائع» (2/ 263).

(4)

قال ابن حزم في «المحلى» (4/ 223): ولا يحل لأحد أن يؤم وهو ينظر ما يقرأ به في الصلاة لا في الفريضة ولا النافلة، فإن فعل عالمًا بأن فِعل ذلك لا يجوز بطلت صلاته وصلاة من يأتم به عالمًا بأن هذا لا يجوز.

(5)

أخرجه البخاري (1199، 1216)، ومسلم (538).

ص: 351

واعْتُرِض عليه بما قاله محمد بن نصر المروزي

(1)

: ولا نعلم أحدًا قبل أبي حنيفة أفسد صلاته، إنما كره ذلك قوم؛ لأنه مِنْ فعل أهل الكتاب فكرهوا، لأهل الإسلام أن يتشبهوا بأهل الكتاب، فأما إفساد صلاته فليس لذلك دليل نعلمه؛ لأن قراءة القرآن من عمل الصلاة ونظره في المصحف كنظره إلى سائر الأشياء التي ينظر إليها في صلاته، وهذا لا يفسد صلاته بذلك.

والراجح في المسألة هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من جواز حمل المصحف في قيام الليل، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة وهو يصلي، فكذا يجوز حمل المصحف، ولأن ذكوان كان يؤم عائشة رضي الله عنها يقرأ من المصحف في رمضان، فإذا كان ثم حاجة كافتقاد إمام حافظ لكتاب الله فيجوز ذلك، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث السابع: إمامة غلام لم يحتلم بعد:

روى البخاري

(2)

عن عمرو بن سلمة قال: صَلُّوا صَلَاةَ كَذَا في حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلَاةَ كَذَا في حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا. فَنَظَرُوا فَلم يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي؛ لما كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي.

قال الشافعي

(3)

: (إذَا أَمَّ الْغُلَامُ الذي لم يَبْلُغْ الذي يَعْقِلُ الصَّلَاةَ وَيَقْرَأُ الرِّجَالَ الْبَالِغِينَ، فإذا أَقَامَ الصَّلَاةَ أَجْزَأَتْهُمْ إمَامَتُهُ، وَالاِخْتِيَارُ أَنْ لَا يَؤُمَّ إلاَّ بَالِغٌ، وَأَنْ يَكُونَ الإِمَامُ الْبَالِغُ عَالما بِمَا لَعَلَّهُ يَعْرِضُ له في الصَّلَاةِ).

والراجح: جواز إمامة الغلام إذا كان أقرأ القوم، وعالمًا بما يعرض له في الصلاة لحديث عمرو بن سلمة، والله أعلم.

(1)

«مختصر قيام رمضان» لابن نصر المروزي (ص 84).

(2)

أخرجه البخاري (4302).

(3)

«الأم» (1/ 257). قال الإمام مالك في «المدونة» (1/ 84): (لَا يَؤُمُّ الصَّبِيُّ فِي النَّافِلَةِ لَا الرِّجَالَ وَلَا النِّسَاءَ). قال أحمد في رواية أبي داود عنه (ص 26): لا يؤم الغلام حتى يحتلم، قلت: حديث عمرو بن سلمة؟ قال: لعله كان في بدء الإسلام.

ص: 352

•‌

‌ المبحث الثامن: القراءة في القيام، وفيه مطلبان:

•‌

‌ المطلب الأول: تحسين الصوت:

ينبغي للإمام أن يحسن صوته بتلاوة القرآن، ويعتني بإجادة القرآن على الوجه المطلوب محتسبًا الأجر عند الله لا من أجل الرياء والسمعة، وأن يتلو القرآن بخشوع وحضور قلب؛ لينتفع بقراءته وينتفع به من يسمعه.

وينبغي أن يُختار للإمامة من هو: أقرأ القوم وهو مع ذلك حسن الصوت، ولأن في ذلك تنشيطًا للمصلين خلفه وسببًا لحضور قلوبهم واستماعهم وإنصاتهم للقراءة، دل على ذلك عموم قوله تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} .

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أَذِنَ الله لِشَيْءٍ ما أَذِنَ لِنبِيِّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ»

(1)

.

عن أبي موسى رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«يَا أَبَا مُوسَى لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ»

(2)

.

•‌

‌ المطلب الثاني: هدي النبي صلى الله عليه وسلم أثناء القراءة في الصلاة:

‌1 - الاستعاذة:

ذهب جمهور العلماء إلى استحباب الاستعاذة قبل القراءة؛ لعموم قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

وهذا أمر، والأمر للوجوب وصرفه للاستحباب فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسلم

(3)

عن أنس قال: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ» فَقَرَأَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]. فلو كانت الاستعاذة واجبة لفعلها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.

‌2 - مد الآيات:

عن قتادة قال: سئل أنس: كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقال: كَانَتْ مَدًّا. ثُمَّ قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (5024).

(2)

أخرجه البخاري (5048).

(3)

أخرجه مسلم (400).

(4)

أخرجه البخاري (5048).

ص: 353

‌3 - تدبر القرآن:

قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} والآيات في ذلك كثيرة.

وروى مسلم

(1)

عن حذيفة بن اليمان قال: صَلَّيْتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فقلت: يَرْكَعُ عِنْدَ المائَةِ. ثُمَّ مَضَى فقلت: يُصَلِّي بها في رَكْعَةٍ. فَمَضَى فقلت: يَرْكَعُ بها ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا

(2)

إذا مَرَّ بِآيَةٍ فيها تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وإذا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وإذا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ فَجَعَلَ يقول:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا من قِيَامِهِ ثُمَّ قال: «سَمِع اللهُ لمنْ حَمِدَهُ» ثُمَّ قام طَوِيلًا قَرِيبًا مِمَّا رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ فقال: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعلى» فَكَانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا من قِيَامِهِ».

•‌

‌ المطلب الثالث: هل يطيل القراءة في التراويح؟

ورد بإسناد صحيح

(3)

عن السائب بن يزيد قال: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِىَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالمئِينَ، حَتَّى كَنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِىِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كَنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ في الْفَجْرِ.

لكن لا بد من مراعاة أحوال المأمومين في صلاة التراويح، وعدم الإفراط في التطويل وعدم التخفيف الزائد وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي لَأَدْخُلُ في الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ في صَلَاتِي؛ مِمَّا أَعْلم مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ»

(4)

.

•‌

‌ المطلب الرابع: هل يجوز القراءة من وسط السور أو آخرها؟

يجوز القراءة بأواخر السور وأوسطها لعموم قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]

قال شيخ الإسلام: وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِأَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا فَلم يَكُنْ غَالِبًا عَلَيْهِمْ؛ وَلِهَذَا يُتَوَرَّعُ في كَرَاهَةٍ ذَلِكَ، وَفِيهِ النِّزَاعُ المشْهُورُ في مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ، وَمِنْ أَعْدَلِ الْأقوالٍ

(1)

أخرجه مسلم (772).

(2)

إذ ليس المقصود الانتهاء من ورد معين بلا خشوع ولا خضوع.

(3)

أخرجه عبد الرزاق (7732)، وابن أبي شيبة (2/ 84)، والبيهقي (2/ 497).

(4)

أخرجه البخاري (708)، ومسلم (470).

ص: 354

قَوْلُ مَنْ قال: يُكْرَهُ اعْتِيَادُ ذَلِكَ دُونَ فِعْلِهِ أَحْيَانًا؛ لِئَلَّا يَخْرُجَ عَمَّا مَضَتْ بِهِ السُّنَّة، وَعَادَةُ السَّلَفِ مِنْ الصحابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

•‌

‌ المبحث التاسع: حضور النساء للتراويح:

يجوز حضور النساء إلى الصلاة في المسجد؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ الله مَسَاجِدَ الله» .

ولكن يجب على المرأة أن تلتزم بالحجاب الشرعي، ولا تتبرج إذا خرجت، فإذا أمنت الفتنة في خروجها، يستحب لأن في صلاة الجماعة والتراويح، تنشيطًا للمصلين، ويكتب لها قيام ليلة إذا انصرفت مع الإمام.

ويجوز للمرأة أن تؤم النساء ولكن تقوم في وسط الصف الأول.

•‌

‌ المبحث العاشر: حكم دعاء الختم في التراويح:

اختلف أهل العلم في حكم دعاء الختم في التروايح على قولين:

• القول الأول: ذهب الحنفية والمالكية إلى المنع من دعاء الختم في التراويح.

واستدلوا بأن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال في الفتاوى الهندية: يُكْرَهُ الدُّعَاءُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ بِجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ هذا لم يُنْقَلْ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم

(1)

.

وعن الإمام مالك أنه سُئل عن الذي يقرأ القرآن فيختمه ثم يدعو، فقال: ما سمعت أنه يدعو عند ختم القرآن، وما هو من عمل الناس

(2)

، (وما أرى أن يُفعل)

(3)

.

فالحاصل أن دليل هذا القول هو أن دعاء الختم في الصلاة عمل في عبادة (وهي

(1)

«الفتاوى الهندية» (5/ 318)، و «أسنى المطالب» (1/ 64)، و «تحفة المحتاج» (1/ 55).

(2)

«الحوادث والبدع» لأبي بكر الطرطُوشي (154 - 155).

(3)

«النوادر والزيادات» لابن أبي زيد (1/ 530)، و «المدونة» (1/ 287)، و «المدخل» (2/ 295).

ص: 355

الصلاة) لا تثبُت الأعمال فيها إلا بتوقيف

(1)

.

• القول الآخر: استحباب دعاء الختم في صلاة التراويح بعد ختم القرآن وقبل الركوع.

قال ابن قدامة

(2)

: قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت: أَخْتِمُ الْقُرْآنَ، أَجْعَلُهُ في الْوِتْرِ أَوْ في التَّرَاوِيحِ؟ قَالَ: اجْعَلْهُ في التَّرَاوِيحِ حَتَّى يَكُونَ لَنَا دُعَاءً بَيْنَ اثْنَيْنِ. قُلْت كَيْفَ أَصْنَعُ؟ قَالَ: إذَا فَرَغْتَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ فَارْفَعْ يَدَيْكَ قَبْلَ أَنْ تَرْكَعَ، وَادْعُ بِنَا وَنَحْنُ في الصَّلَاةِ، وَأَطِلْ الْقِيَامَ. قُلْت: بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: بِمَا شئت. قَالَ: فَفَعَلْت بِمَا أَمَرَنِي

وَهُوَ خَلْفِي يَدْعُو قَائِمًا، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ.

واستدلوا لهذا القول بعمومات السنة والمأثور وفعل أهل مكة.

أما دليلهم من السنة:

فعن أبي هريرة قال: «كان رسول الله إذا ختم القرآن دعا قائما»

(3)

.

(1)

دعاء الختم في التراويح للشيخ حاتم العوني (ص 15)، وقد استفدت من هذا البحث كثيرًا فأسأل الله أن يسعده بجنته، وأن يشمله برحمته وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.

(2)

«المغني» (2/ 608)، و «الإنصاف» (4/ 182). وليس هناك كلام صريح لأئمة الشافعية في دعاء الختم جماعة، إلا أن النووي استحب دعاء الختم في الصلاة للمنفرد؛ فقال في «المجموع» عن آداب ختم القرآن: يستحب كونه في أول الليل، أو أول النهار، وإن قرأ وحده فالختم في الصلاة أفضل. قلت: الأصل أن كل ما صح للمنفرد صح للجماعة إذ لا فرق إلا بدليل، والله أعلم.

(3)

أخرجه ابن الجوزي «الوفا» كما في «النشر» (2/ 464) وغيره، وفي إسناده الحارث بن سريح ضعيف جدًّا، وإبراهيم بن عبد الله بن أيوب، وإن كان قال فيه أبو علي الإسماعيلي: صدوق، فقد قال الدارقطني: ليس بثقة، حدث عن الثقات بأحاديث باطلة. وروى البيهقي «الشعب» (1917) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَمِدَ الرَّبَّ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَاَسْتَغْفَرَ رَبَّهُ فَقَدْ طَلَبَ الْخَيْرَ مَكَانَهُ» ، وفي إسناده أبان بن أبي عياش متروك، والحسن لم يسمع من أبي هريرة. وروى الدارمي «السنن» (3741) وغيره عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ الْقُرْآنَ حِينَ يُفْتَحُ، فَكَأَنَّمَا شَهِدَ فَتْحًا في سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ شَهِدَ خَتْمَهُ حِينَ يُخْتَمُ فَكَأَنَّمَا شَهِدَ الْغَنَائِمَ تُقْسَمُ» وفي إسناده صالح بن بشير، قال البخاري: منكر الحديث. ومن أراد التوسع والمزيد فلينظر «دعاء ختم القرآن عند السلف» لفضيلة الشيخ مشهور بن حسن أسأل الله أن يزيد في عمره وأن يبارك في عمله وأن يجعلنا وإياه من خدام سنة النبي العدنان، وأن يجمعنا وإياه في جنات النعيم مع النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.

ص: 356

وبعدة أحاديث، منها «عند كل ختمة دعوة مستحابة» وهي أحاديث واهية وتالفة لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

(1)

روى البيهقي «الشعب» (1920) وغيره، عن أنس قال رسول الله:«إن لصاحب القرآن عِنْدَ كُلِّ خَتْمَةٍ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ» وفي إسناده أبو عصمة، وهو نوح بن أبي مريم كذبه ابن عيينة، ويزيد الرقاشي، وهو ضعيف، وقد قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله. وروى أبو نعيم «الحلية» (7/ 260)، والبيهقي «الشعب» (1919)، عن أنس قال: قال رسول الله «عِنْدَ كُلِّ خَتْمَةٍ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ» وهو حديث موضوع، فيه يحيى بن هاشم وضَّاع. وانظر «الضعيفة» للشيخ الألباني (1224). وفي الباب حديث ابن عباس، وفيه:«من قرأ ختمة كُتب له عند الله دعوة مستجابة معجلة أو مؤخرة» أخرجه ابن عدي «الكامل» (2/ 287 - 288) وغيره. وفي إسناده حفص بن عمر بن حكيم، قال ابن عدي: مجهول، أحاديثه بواطل، وقال ابن معين: أحاديثه كذب. وفي الباب حديث العرباض بن سارية، وفيه «ومَنْ خَتَمَ الْقُرْآنَ فَلَهُ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ» أخرجه الطبراني «الكبير» (18/ 647) وفي إسناده عبد الحميد بن سليمان: ضعيف، قال ابن المديني: روى عن أبي حازم أحاديث منكرة، انظر «الضعيفة» للشيخ الألباني (3014). وحديث جابر قال رسول الله:«من قرأ أو جمع القرآن؛ كانت له عند الله دعوة مستجابة» أخرجه الطبراني «الأوسط» (6606) وغيره، وفي إسناده مقاتل وهو متروك.

وحديث أبي أمامة قال رسول الله: «إِنَّ لِحَامِلِ الْقُرْآنِ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً يَدْعُو بِهَا فَيُسْتَجَابُ لَهُ» : أخرجه البيهقي «الشعب» (2021) وفي إسناده موسى بن عمير: متروك الحديث، ومكحول لم يدرك أبا أمامة وعلي بن أبي طالب بن حماد، قال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن معين: ليس بشيء.

وحديث عائشة «وإِنَّ لِحَامِلِ الْقُرْآنِ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً» أخرجه العقيلي «الضعفاء» (2/ 351) وغيره، وقال: ليس له أصل، وفي إسناده عبد الرحمن بن يحيى، متروك. فكل الأحاديث واهية، ومن أراد المزيد فلينظر «دعاء ختم القرآن عند السلف» لفضيلة الشيخ مشهور بن حسن، وهو بحث جيد ونافع في هذا الباب، وأسأل الله أن يرفع ذكره ويضع وزره وينفع به الإسلام والمسلمين.

الأثار التي تدل على أن عند الختم دعوة مستجابة: روى ابن أبي شيبة «المصنف» (10/ 466) وغيره، عن معاذ بن جبل قال:«مَنِ اسْتَظْهَرَ الْقُرْآنَ كَانَتْ لَهُ دَعْوَةٌ إِنْ شَاءَ يُعَجِّلُهَا لِدُنْيَا، وَإِنْ شَاءَ لآخِرَة» . وفي إسناده إبراهيم الخوزي: متروك الحديث، والزهري لم يدرك معاذًا. وروى ابن زنجويه «فضائل الأعمال» كما في «لمحات الأنوار» (1/ 69 - 70)، و «كنز العمال» (4019) عن كنانة العدوي عن عمر، وفيه «اعلموا أن من تلاه وحفظه وعمل به واتبع ما فيه، كانت له عند الله يوم القيامة دعوة مستجابة، إن شاء عجّلها له في دنياه، وإلا كانت له ذخرًا في الآخرة» ، ولم أقف له على إسناد.

ص: 357

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فعن ثابت قال: كَانَ أَنَسٌ إِذَا خَتَمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ وَلَدَهُ وَأَهَلَ بَيْتِهِ فَدَعَا لَهُمْ

(1)

.

قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن الدعاء عند ختم القرآن قائمًا أو قاعدًا، فقال: يقال إن أنسًا كان يجمع عياله عند الختم، وكان المعتمر بن سليمان إذا أراد أن يختم اجتمع إليه جماعة (أراه قال) يدعو ويدعون (يعني إذا ختم)

(2)

.

واعترض عليه بأن هذا الأثر إنما هو دعاء خارج الصلاة لا في الصلاة.

وقال الحكم بن عتيبة: كَانَ مُجَاهِدٌ، وَعَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ وَنَاسٌ يَعْرِضُونَ المصَاحِفَ، فَلما كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يَخْتِمُوا أَرْسَلُوا إلى وَإِلَى سَلمةَ بْنِ كُهَيْلٍ فَقَالُوا: إنَّا كُنَّا نَعْرِضُ المصَاحِفَ فَأَرَدْنَا أَنْ نَخْتِمَ الْيَوْمَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ تَشْهَدُونَا، إِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: إذَا خُتِمَ الْقُرْآنُ نَزَلَتِ الرَّحْمَةُ عِنْدَ خَاتِمَتِهِ

(3)

. وفي رواية: إن الدعاء مستجاب عند ختم القرآن. وفي رواية: قال الحكم: أرسل مجاهد وعبدة قالا: إنا أرسلنا إليك نريد أن نختم القرآن، فلما فرغوا من ختم القرآن دعوا بدعوات

(4)

.

وعن عبد الرحمن بن الأسود «يذكر أنه إذا ختم القرآن يصلى عليه»

(5)

.

ومعنى «يصلى عليه» المراد بالصلاة هنا هو: دعاء الملائكة، ويترتب عليه حضور الرحمة، وهو مظنة استجابة الدعاء، ويلاحظ هنا قول التابعين: قيل: الرحمة ..

(1)

صحيح: أخرجه الدارمي (3474، 3473)، وسعيد بن منصور (27)، والفريابي (74، 75)، وأبو عبيد (88)، وابن الضريس (76)، من طرق عن ثابت به.

(2)

مسائل عبد الله ابن الإمام أحمد (321).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 491)، والفريابي «فضائل القرآن» (88، 89) وغيرهما، من طرق عن منصور عن الحكم به.

(4)

إسناده صحيح: أخرجه الدارمي (3482)، وابن أبي شيبة (10/ 491)، والفريابي (87 - 92) وغيرهم، من طرق عن شعبة عن الحكم به.

(5)

إسناده صحيح: أخرجه ابن المبارك «الزهد» (810) وغيره.

ص: 358

وكنا نذكر .. فيه إشارة إلى تلقيه عمن قبلهم من الصحابة.

ونزول الملائكة والرحمة عند مطلق القرآن ثابت في غير ما حديث، فكيف عند ختمه؟!

(1)

.

وقال مالك بن دينار: كان يقال: «اشهدوا ختم القرآن»

(2)

.

وقال محمد بن جُحادة: كانوا يستحبون إذا ختموا القرآن من الليل أن يختموه في الركعين اللتين بعد المغرب، وإذا ختموه من النهار أن يختموه في الركعتين اللتين قبل صلاة الفجر

(3)

.

وقد استدل الإمام أحمد على استحباب دعاء الختم في صلاة التراويح بفعل أهل مكة:

قال حنبل: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغت من قراءة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع. قلت: إلى أي شيء تذهب في هذا؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة. قال العباس بن عبد العظيم: وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة، ويروي أهل المدينة في هذا شيئًا وذكر عن عثمان بن عفان

(4)

.

والراجح: المنع من دعاء الختم في التراويح؛ لأن هذا لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن

(1)

«دعاء ختم القرآن عند السلف» (ص 36). قال: وأخرج عبد الملك بن حبيب السلمي في «رغائب القرآن» عن وهب بن عبد الله أنه كان يقول: لكل نبي مسألة يعطاها، وإن قارئ القرآن يعطى سؤله كلما ختمه. أفاده الغافقي في «لمحات الأنوار» (3/ 1179) ولم أقف على سنده.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن الضريس «فضائل القرآن» (رقم 35)، روى ابن سعد في الطبقات (8/ 47) قال: أخبرنا محمد بن يزيد بن خنيس قال: سمعت وهيب بن الورد قال: كان الأعرج يقرأ في المسجد ويجتمع الناس عليه حين يختم القرآن، وأتاه عطاء ليلة ختم القرآن. وهذا إسناد حسن.

وقال ابن أبي خيثمة في تاريخه (1/ 242 رقم 804): حَدَّثَنا عَبْد الرَّحْمَن بن يونس، قال: قال سفيان: رأيت حُمَيْد الأَعْرَج كان يعرض المصحف، إذا جاء ختم القرآن جمع الناس. وهذا إسناد صحيح؛ فإن عبد الرحمن بن يونس بن هاشم كان مستملي سفيان بن عيينة، وهو ثقة.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الله بن المبارك في «الزهد» (811).

(4)

«المغني» (2/ 608).

ص: 359

صحابته الكرام.

قال الشيخ ابن عثيمين: ليس هناك دليل على الدعاء الذي يكون عند انتهاء القرآن في صلاة التراويح، فإن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه - فيما أعلم -، وغاية ما ورد في ذلك: ما ذُكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه «كان إذا ختم القرآن؛ جمع أهله ودعا» أما أن يكون ذلك في قيام الليل في التراويح؛ فلا أعلم ذلك، ولكن جرت عادة الناس - اليوم - على أن يقرؤوا هذا الدعاء بعد انتهاء القرآن؛ فمن تابع إمامه في ذلك فلا حرج عليه، أما أن يفعله هو بنفسه؛ فإن الذي أرى أن لا يفعله، لأن شيئًا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه - لا ينبغي لنا أن نفعله، ولو أن الإمام جعل آخر القرآن في صلاة الوتر، وقنت فيه بعد انتهاء القرآن بنية أنه من القنوت، لكان ذلك طيبًا.

والمهم: أنه لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن أصحابه أنهم كانوا يختمون القرآن بهذا الدعاء في صلاة التراويح، وما لم يرد؛ فلا ريب أن الأفضل تركه، وعدم القيام به، لكن متابعة الإمام فيه أَوْلى من مخالفته والخروج من المسجد - بلا شك

(1)

.

قال الشيخ مشهور حسن: الدعاء الذي يدعو به من يختم القرآن عند ختمه؛ وإن كان أصله مما ورد بعينه أو بجنسه؛ فإنما ورد عامًّا غير مقيد بختم القرآن، فجعلُ ختم القرآن سببًا للدعاء به تقييد له بسبب لم يرد به الشرع، فإنه من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن ويختمه ولم ينقل عنه أنه كان يدعو عند ختمه، فعُلم أنه لم يفعله، ولما لم يفعله عُلم أنه ليس من سنته، إذ لو كان من سنته لفعله، أو أقر عليه، ثم نقل ذلك للأمة؛ لأن الله تعالى تكفل ببيان شريعته وحفظها، ولم يكن الله تعالى ليدع أمرًا محبوبًا إليه ثابتًا من دينه بدون بيان لعباده فلا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه في عهده فيقر عليه، أو يفعل ذلك ولا ينقل للأمة؛ فإن هذا خلاف قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وخلاف قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

(2)

.

* * *

ص: 360

‌الفصل الثاني الوتر

وفيه مباحث

• المبحث الأول: تعريف الوتر

• المبحث الثاني: فضل صلاة الوتر

• المبحث الثالث: حكم الوتر

• المبحث الرابع: وقت صلاة الوتر

• المبحث الخامس: صفة الوتر

• المبحث السادس: القراءة في الوتر

• المبحث السابع: مشروعية قضاء الوتر لمن نام عنه أو نسيه

• المبحث الثامن: مشروعية الصلاة بعد الوتر

• المبحث التاسع: صلاة الوتر في السفر

• المبحث العاشر: الوتر على الدابة

• المبحث الحادي عشر: الذكر بعد الفراغ من الوتر.

ص: 361

?

الوتر

وفيه مباحث

(1)

:

•‌

‌ المبحث الأول: تعريف الوتر:

تعريف الوتر لغة: الوِتْرُ والوَتْرُ: الفَرْدُ أَوْ ما لم يَتَشَفَّعْ من العَدَدِ، وأَوْتَرَهُ، أَي: أَفَذَّهُ

(2)

.

الوتر شرعًا: الوتر اسم للركعة المنفصلة عما قبلها، ولثلاث الركعات، وللخمس والسبع والتسع، إذا كانت هذه الركعة متصلة بسلام واحد، فإذا كانت هذه الركعات بسلامين فأكثر، فالوتر اسم للركعة المنفصلة وحدها

(3)

.

•‌

‌ المبحث الثاني: فضل صلاة الوتر:

إن صلاة الوتر أفضل الصلاة بعد الفريضة، روى مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» ، والوتر من أعظم صلاة الليل.

لعظم صلاة الوتر وصى النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه: روى البخاري

(4)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ: صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ من كل شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قبل أَنْ أَنَام» .

وروى مسلم

(5)

من حديث أبي الدرداء قال: أَوْصَانِى حبيبي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا

(1)

ثَمَّ بحث قيم ونافع وهام وفريد في بابه لأخي في الله الشيخ: فريد بن فويلة، وقد أورد ما يتعلق بالمسائل من كلام الواحد الديان، والنبي المختار، والصحابة الأبرار، ومن تبعهم بإحسان، وقد استفدت منه كثيرًا، فجزاه الله خير الجزاء وأوفاه، وجعل ما قدمه في ميزان حسناته يوم يلقى مولاه.

(2)

«لسان العرب» (15/ 146) ط/ صادر.

(3)

انظر: «عمدة القاري» (5/ 417)، و «المجموع» (4/ 18).

(4)

أخرجه البخاري (1981).

(5)

أخرجه مسلم (1/ 4991).

ص: 362

عِشْتُ: بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَبِأَنْ لَا أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ».

•‌

‌ المبحث الثالث: حكم الوتر:

ذهب جمهور العلماء إلى أن الوتر سنة، وإليه ذهب المالكية والشافعية والحنابلة، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية

(1)

.

قال ابن عبد البر

(2)

: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا؛ لِشُذُوذِ الْخِلَافِ فِيهِ. واستدلوا لذلك بأدلة كثيرة منها:

1 -

ما رواه البخاري

(3)

عن ابن عباس أن رسول الله بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلمهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يوم وَلَيْلَةٍ» .

وجه الدلالة: ما قاله ابن عبد البر

(4)

: فِيهِ أَنَّ الصَّلَوَات المكْتُوبَات المفْتَرَضَات خَمْسُ لَا غَيْر، وَهَذَا مَحْفُوظٌ في غَيْرِ مَا حَدِيث.

2 -

وفي الصحيحين

(5)

من حديث طلحة قال: جاء رجل يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله:«خَمسُ صَلْوات في اليوم والليلةِ» فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّع» قَالَ: فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» .

قال المارودي

(6)

: فكان في هذا الخبر ثلاثة أدلة:

أحدهما: أنه سأله عن الفرض الذي عليه فقال صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ» لم يقل: ست.

(1)

«الموطأ» لابن وهب (338)، و «المجموع» للنووي (4/ 12)، و «مسائل صالح» (1/ 266)، و «المغني» (2/ 255)، و «بدائع الصنائع» (1/ 270).

(2)

«الاستذكار» (5/ 267).

(3)

أخرجه البخاري (1395).

(4)

«التمهيد» (10/ 158).

(5)

أخرجه البخاري (46)، ومسلم (1/ 40).

(6)

«الحاوي» (2/ 357).

ص: 363

والثاني: قوله: هل عليَّ غيرها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لَا» فنفى عنه وجوب غيرها ثم أكد النفي بقوله صلى الله عليه وسلم: «إِلَّا أَنْ تَطَّوَّع» .

الثالث: قول الأعرابي: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» فلو كان الوتر واجبًا لم يكن بتركه مفلحًا. اه.

أخرج البخاري

(1)

من حديث مالك بن صعصعة في حديث الإسراء الطويل: «جَعَلَهَا خَمْسًا» أي الصلاة، قَالَ الله:«إِنِّي قَدْ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَلَى عِبَادِي، وَأَجْزِي الْحَسَنَةَ عَشْرًا» .

قال ابن حزم

(2)

: فَهَذَا خَبَرٌ مِنَ الله مَأْمُونٌ تَبَدُّلُه فَصَحَّ أَنَّ الصَّلَوَاتِ لَا تُبَدَّلُ أَبَدًا عَنْ خَمْس، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الوِتْرَ فَرْضٌ.

والأحاديث التي تدل على أن الصلوات المكتوبات المفترضات خمس لا غير - متوافرة.

وذهب أبو حنيفة

(3)

إلى أن الوتر واجب، وإليه ذهب طاوس ومجاهد

(4)

.

واستدلوا لذلك بأدلة، منها:

1 -

عن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوِتْرُ حَقٌّ، مَنْ لم يُوتِر فَلَيْسَ مِنَّا»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (3207).

(2)

«المحلى» (2/ 229).

(3)

«بدائع الصنائع» (1/ 270)، وذكر ثلاث روايات عند أبي حنيفة.

(4)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4583).

(5)

ضعيف: أخرجه أبو داود (1419)، وأحمد (5/ 357)، وابن أبي شيبة (2/ 197)، وغيرهم. وفي إسناده أبو المنيب، فيه ضعف. وله شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه أحمد (2/ 44)، وابن أبي شيبة (2/ 197)، وغيرهما، ولكن في إسناده خليل بن مُرة قال البخاري: منكر الحديث. وهذا الإسناد منقطع بين معاوية بن مرة وأبي هريرة، قاله أحمد. انظر:«نصب الراية» (2/ 113).

وله شاهد من حديث أبي أيوب «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيُوتِرْ بِخَمْسٍ»

ومدار الحديث على الزهري، واختلف عليه على أوجه:

الوجه الأول: الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي أيوب مرفوعًا.

ورواه جماعة عن الزهري:

1 -

سفيان بن حسين، وهو ضعيف في الزهري، أخرجه أحمد (5/ 418) وغيره.

2 -

محمد بن الوليد الزبيدي: أخرجه الحاكم (1/ 302)، محمد وإن كان ثقة إلا أن الراوي عنه يزيد بن يوسف، وهو ضعيف.

3 -

بكر بن وائل: أخرجه أبو داود (1422)، وبكر صدوق.

4 -

يونس بن يزيد: أخرجه ابن حبان (2403).

5 -

محمد بن أبي حفصة: أخرجه الطبراني في «الكبير» (3967).

6 -

داود بن نافع: أخرجه النسائي (1401)، وفي إسناده جبارة: مجهول.

7 -

الأوزاعي: أخرجه النسائي (1401)، وابن ماجه (1190)، والأوزاعي في الزهري لين.

الوجه الثاني: رواه ابن عيينة عن الزهري، واختلف على ابن عيينة، فرفعه محمد بن حسان، أخرجه الحاكم (1/ 303) وغيره ورفعه إبراهيم بن محمد عند الطبراني (3966). وخالفهما جماعة من الثقات عن ابن عيينة فوقفوه، منهم:

1 -

الحارث بن مسكين عند النسائي (1402)، وإسناده صحيح.

2 -

يونس بن يزيد عند ابن أبي شيبة (2/ 179). 3 - الحميدي. 4 - وقتيبة. 5 - وسعيد بن منصور: ذكرهم الدارقطني «العلل» (6/ 100).

الوجه الثالث: معمر عن الزهري، واختلف على معمر، فرفعه وهيب، أخرجه الطحاوي «شرح معاني الآثار» (1/ 291). وخالف وهيبًا جماعة من الثقات فوقفوه. عبد الرزاق «المصنف» (4633). وابن علية وعبد الأعلى وحماد بن زيد ذكرهم الدارقطني «العلل» (6/ 100). الذين وقفوه عن معمر أثبت ممن رفعه قاله الدارقطني. ورواه جماعة عن الزهري على الوقف: محمد بن إسحاق عند الحاكم (1/ 303). وحفص بن غيلان عند النسائي (243)(1302) وغيرهم.

ورجح العلماء الوقف: قال النسائي: الموقوف أولى بالصواب. وكذا أبو حاتم والدارقطني وابن عدي والذهلي وابن حجر وابن رجب.

ص: 364

وجه الدلالة ما قاله التهانوي

(1)

: والحديث فيه دلالة على وجوب الوتر لما فيه من الوعيد الشديد الذي يدل على تركه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا» . ومثل هذا لا يقال إلا في حق تارك فرض أو واجب.

واعْتُرِض عليه بما قاله الماوردي: إن هذا الحديث متروك الظاهر بإجماع لأن تارك الوتر

(1)

«إعلاء السنن» (5/ 4).

ص: 365

لا يكون كافرًا خارجًا عن الملة، وهذا اللفظ قد يستعمل في ترك المندوب:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ لم يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» .

واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْوِتْرُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلم»

(1)

.

واعْتُرِض عليه بأن في إسناده جابرًا الجعفي وهو ضعيف الحديث.

واستدلوا أيضًا بحديث أبي بصرة: «إِنَّ اللهَ زَادَكُمْ صَلَاةً فَصَلُّوهَا فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْر»

(2)

.

واعْتُرِضَ عليه بما قاله محمد بن نصر

(3)

: «إن الله زادكم أو أمدكم بصلاة هما سنة النبي صلى الله عليه وسلم غير مفروضة ولا مكتوبة.

•‌

‌ المبحث الرابع: وقت صلاة الوتر: وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: وقت جواز الوتر:

قال ابن المنذر

(4)

: أجمعوا على أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر.

وفي الصحيحين

(5)

من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كُلَّ اللَّيْلِ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ» .

•‌

‌ المطلب الثاني: آخر وقت صلاة الوتر:

اختلف أهل العلم في آخر وقت صلاة الوتر على قولين:

• القول الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن آخر وقت الوتر طلوع الفجر

(6)

.

(1)

ضعيف: أخرجه البزار (733).

(2)

صحيح: أخرجه أحمد (6/ 7).

(3)

كتاب «الوتر» (ص 107).

(4)

«الإجماع» لابن المنذر (ص 10)، و «بداية المجتهد» (1/ 281).

(5)

أخرجه البخاري (996)، ومسلم (1/ 512). وروى أحمد (6/ 204) بسند حسن مرفوعًا بلفظ «مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ» .

(6)

«المجموع» للنووي (4/ 14)، و «المغني» (2/ 227).

ص: 366

واستدلوا لذلك: بما روى مسلم عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» .

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: إن رجلًا قال: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ قال:«مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» .

• القول الآخر: ذهب مالك إلى أن آخر وقت الوتر طلوع الفجر ما لم يصل الصبح

(1)

.

واستدل لذلك بقول عائشة: «كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يُصْبِحُ فَيُوتِرُ»

(2)

.

واعْتُرِض عليه بأن هذا الحديث لا يصح.

عن أبي الدرداء «رُبَّمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ يُوتِرُ وَقَدْ قَامَ النَّاسُ لِصَلَاةِ الصُّبْحُ»

(3)

.

واعْتُرِض عليه: بأن هذا الحديث لا يصح.

واستدلوا بأدلة لا تصح عن رسول الله.

والراجح: أن آخر وقت الوتر يذهب بطلوع الفجر، فإذا طلع الفجر صار فعله قضاء، وما دام الليل باقيًا فإنه وقته باقٍ، وإلى هذا القول ذهب جمهور العلماء.

•‌

‌ المطلب الثالث: الوقت المستحب لصلاة الوتر:

ذهب أبو حنيفة

(4)

ومالك

(5)

وأحمد في رواية

(6)

إلى أن الوقت المستحب لصلاة الوتر قبل النوم لمن خاف ألا يقوم - آخر الليل، وتأخيره لمن قوي ووثق بنفسه القيام آخر الليل.

واستدلوا بما روى مسلم

(7)

من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خَافَ أَنْ لَا

(1)

«الموطأ» (1/ 127).

(2)

إسناده ضعيف: أخرجه أحمد «المسند» (6/ 242)، ولهذا الحديث علتان.

قال ابن الجوزي: أبو نهيك: ليس بالمشهور. ولا يدرى هل سمع من عائشة أم لا.

(3)

إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي «السنن الكبرى» (2/ 497)، وفي إسناده حاتم بن سالم: تَرَك أبو زرعة الرواية عنه، انظر:«الجرح والتعديل» (3/ 261).

(4)

«بدائع الصنائع» (1/ 72).

(5)

«المدونة» (1/ 374).

(6)

«مسائل عبد الله» (346)، و «الإنصاف» (2/ 167).

(7)

أخرجه مسلم (1/ 520).

ص: 367

يَقُومَ من آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ فإن صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ»

قال النووي

(1)

: فِيهِ دَلِيل على أن تَأْخِير الْوِتْر إِلَى آخِر اللَّيْل أَفْضَل لمنْ وَثِقَ بِالِاسْتِيقَاظِ آخِر اللَّيْل، وَأَنَّ مَنْ لَا يَثِق بِذَلِكَ فَالتَّقْدِيم لَهُ أَفْضَل، وَهَذَا هُوَ الصَّوَاب، وَيُحْمَل بَاقِي الْأَحَادِيث المطْلَقَة عَلَى هَذَا التَّفْصِيل الصَّحِيح الصَّرِيح.

• القول الآخر: هو استحباب الوتر قبل النوم. وبهذا قال أبو بكر الصديق

(2)

وسعيد بن المسيب

(3)

وغيرهم، دليل هذا القول ما رواه البخاري

(4)

من حديث أبي هريرة قال: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ: ومنها

وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ.

والراجح أن من خاف ألا يقوم من آخر الليل استحب له أن يوتر قبل أن ينام، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخره، فإن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل، ولعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ من آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فإن صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ»

* * *

(1)

«شرح صحيح مسلم» (6/ 35).

(2)

أخرجه أبو داود في «السنن» (1434)، وغيره.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 83).

(4)

أخرجه البخاري (1981).

ص: 368

‌المبحث الخامس صفة الوتر

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: الوتر بركعة:

• مشروعية الوتر بركعة واحدة:

يصح الوتر بركعة لما ورد في البخاري

(1)

من حديث ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فإذا أَرَدْتَ أَنْ تَنْصَرِفَ فَارْكَعْ رَكْعَةً تُوتِرُ لك ما صَلَّيْتَ»

وفي رواية عند البخاري

(2)

كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة.

• إذا أوتر بركعة، فهل يشترط أن يتقدم هذه الركعة شفع؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: جواز الوتر بركعة واحدة ليس قبلها شفع، وإليه ذهب الشافعي

(3)

وأحمد في رواية

(4)

.

واستدلوا لذلك بما روى البخاري

(5)

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ.

قال ابن رشد

(6)

: وظَاهِرُهُ أَنَّهَا كَانَتْ تُوتِرُ دُونَ أَنْ تُقَدِّمْ عَلَى وِتْرَهَا شَفْعًا، وقد صح

(1)

أخرجه البخاري (993).

(2)

أخرجه البخاري (995).

(3)

«الأم» (1/ 221) قال الربيع: سَأَلْت الشَّافِعِيَّ عن الْوِتْرِ أَيَجُوزُ أَنْ يُوتِرَ الرَّجُلُ بِوَاحِدَةٍ ليس قَبْلَهَا شَيْء؟ قال: نَعَمْ.

(4)

«فتح الباري» لابن رجب (5/ 200).

(5)

أخرجه البخاري (512).

(6)

«بداية المجتهد» (2/ 263).

ص: 369

الوتر بركعة واحدة عن عثمان بن عفان

(1)

، وسعد بن أبي وقاص

(2)

ومعاوية بن أبي سفيان

(3)

، وغيرهم.

• القول الثاني: يُكره الوتر بركعة واحدة ليس قبلها شفع:

وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك ورواية عن أحمد

(4)

. واستدلوا لذلك بأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البتيراء، أن يصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها

(5)

.

(1)

صحيح: أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1276)، وغيره، من طريق عبد الرحمن بن عثمان التيمي قال: قلت لأغلبن الليلة على المقام. فسبقت إليه، فبينا أنا قائم أصلي إذ وضع رجل يده على ظهري فنظرت فإذا هو عثمان وهو خليفة فتنحيت عنه، فقام فما برح قائمًا حتى فرغ من القرآن في ركعة لم يزد عليها، فلما انصرف قلت: يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة. قال: أجل، هي وتري. وفي إسناده: فليح بن سليمان قال الحافظ: صدوق يخطئ، وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 386)، وغيره، وإسناد حسن، وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4653)، وغيره، وإسناده صحيح.

(2)

روى البخاري (6456) عن عبد الله بن ثعلبة أنه رأى سعد بن أبي وقاص يوتر بركعة.

(3)

روى البخاري (3764) من طريق ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة.

وصح الوتر بركعة عن ابن مسعود وحذيفة، كما في «المصنف» لعبد الرزاق (3652). وتميم الداري كما في «فضائل القرآن» (ص 9) بسند رجاله ثقات عن ابن سيرين أن تميمًا الداري قرأ القرآن في ركعة. وروى الطحاوي «شرح مشكل الآثار» بسند حسن عن أبي عبيد الله قال: رأيت أبا الدرداء وفضالة ومعاذ بن جبل يدخلون المسجد والناس في صلاة الغداة فيتنحون إلى بعض السواري، فيوتر كل واحد منهم بركعة، ثم يدخلون مع الناس في الصلاة. أخرج عبد الرزاق (4658) بسند صحيح عن ابن سيرين قال: سَمَرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، ثُمَّ خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَامَا يَتَحَادَثَانِ حَتَّى رَأَيَا تَبَاشِيرَ الْفَجْرِ، فَأَوْتَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَكْعَةٍ.

(4)

«المدونة» (1/ 120)، و «الموطأ» (1/ 125)، و «التمهيد» (5/ 256)، و «فتح الباري» لابن رجب (5/ 199)، و «مسائل عبد الله» (328، 330).

(5)

حديث واهٍ: ضعفه ابن القطان، وقال ابن القيم «إعلام الموقعين» (2/ 315): هو حديث لا يُعرف له إسناد صحيح، ولا ضعيف ولا شيء من كتب الحديث المعتمدة، وضعفه ابن حزم في «المحلى» (3/ 48)، وكذا النووي في «المجموع» (4/ 31)، وغيرهم كثير: كالزيلعي، وابن الجوزي، والعجلوني، والشوكاني، والذهبي، والله أعلم.

ص: 370

واعْتُرِض عليه: بأنه ضَعَّفه ابن عبد البر وعبد الحق وابن القطان وابن حزم والنووي وغيرهم.

واستدلوا بما ورد في البخاري في حديث ابن عمر: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خَشِيَ أحدكم الصُّبْحَ صلى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ له» .

والراجح: جواز الوتر بركعة واحدة ليس قبلها شيء.

قال ابن المنذر

(1)

: وَالَّذِي نُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنَ اللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، وَإِنْ أَوْتَرَ بِوَاحِدَةٍ لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ جَازَ ذَلِكَ.

•‌

‌ المطلب الثاني: الوتر بثلاث ركعات:

•‌

‌ مشروعية الوتر بثلاث ركعات:

أخرج البخاري

(2)

من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ في رَمَضَانَ ولا في غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فلا تَسَلْ عن حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا ثُمَّ يُصَلِّي ثلاثًا» .

وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ في الْوِتْرِ بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فَإِذَا سَلم قال: «سُبْحَانَ الملِكِ الْقُدُّوسِ» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَرْفَعُ بِالثَّالِثَةِ صَوْتَهُ

(3)

.

•‌

‌ من أراد أن يوتر بثلاث ركعات فله صفتان:

الأولى: أن يسلم من ركعتين ثم يوتر بواحدة، وهو مذهب مالك

(4)

وأجاز أحمد الفصل وتركه، والفصل عنده أحسن، وقال: الأحاديث فيه أقوى وأكثر وأثبت

(5)

.

(1)

الأوسط (5/ 185).

(2)

أخرجه البخاري (1147).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه الطيالسي «مسنده» (548) ط/ هجر، وأحمد «المسند» (3/ 406) وغيرهما.

(4)

«فتح الباري» لابن حجر (5/ 204).

(5)

«الكافي» (1/ 151)، و «زاد المعاد» (1/ 330).

ص: 371

واستدلوا لذلك بما روى أحمد

(1)

بإسناد صحيح: من حديث ابن عمر قال: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ بَيْنَ الوِتْرِ والشَّفْعِ بِتَسْلِيمَة وَيسْمعناهَا.

وصح ذلك عن ابن عمر

(2)

ومعاذ القارئ

(3)

والحسن

(4)

.

الكيفية الثانية: أن يسرد الثلاث بتشهد واحد، وهو مذهب الحنفية

(5)

.

قال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا صحيحًا ثابتًا أنه أوتر بثلاث موصولة، نعم ثبت أنه أوتر بثلاث لكن لم يبين الراوي هل موصولة أو مفصولة. اه.

وقد صح الوتر بثلاث موصولة بتشهد واحد عن عمر بن الخطاب

(6)

وأنس

(7)

، وعطاء

(8)

ومكحول

(9)

وعمر بن عبد العزيز

(10)

وغيرهم.

•‌

‌ المطلب الثالث: الوتر بخمس ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الخامسة:

أخرج مسلم

(11)

من حديث عائشة قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لَا يَجْلِسُ في شَيْءٍ إِلَّا في آخِرِهَا» .

(1)

«المسند» (2/ 76).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه مالك (1/ 125) في «الموطأ» أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يُسَلم بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ فِي الْوِتْرِ حَتَّى يَأْمُرَ بِبَعْضِ حَاجَتِهِ.

(3)

إسناده صحيح: أخرج ابن أبي شيبة (2/ 193) عن نافع قال: رَأَيْنَا مُعَاذًا الْقَارِئَ يُسَلم فِي رَكْعَتَي الْوِتْرِ.

(4)

أخرج ابن أبي شيبة (2/ 193) بسند صحيح: كَانَ الْحَسَنُ يُسَلم فِي رَكْعَتَيَ الْوِتْرِ.

(5)

قال الكاساني في «بدائع الصنائع» (1/ 271): قال أصحابنا: الوِتْرُ ثَلَاثُ رَكْعَاتْ بِتَسْلِيمَة وَاحِدَة.

(6)

أخرج ابن أبي شيبة (2/ 194) وغيره عن عمر بن الخطاب أنه أوتر بثلاث ركعات، لم يفصل بينهن بسلام.

(7)

روى ابن أبي شيبة (6840) بسند صحيح عن أنس أنه أوتر بثلاث، لم يسلم إلا في آخرهن.

(8)

أخرج البيهقي (3/ 29) عن عطاء أَنَّهُ كَانَ يُوْتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَجْلِسُ فِيهِنَّ، وَلَا يَتَشَهَّدُ إِلاَّ في آخِرِهِنَّ. إسناده حسن.

(9)

أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 194) عن مكحول أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، لَا يُسَلم إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ. وإسناده صحيح.

(10)

أخرج الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 296) أَثْبَتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْوِتْرَ بِالمدِينَةِ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ ثَلَاثًا، لَا يُسَلم إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ، وإسناده حسن.

(11)

أخرجه مسلم (1/ 508).

ص: 372

•‌

‌ المطلب الرابع: الوتر بسبع ركعات:

روى مسلم

(1)

من حديث عائشة: فَلما سَنَّ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَهُ اللَّحْمُ، أَوْتَرَ بِسَبْعٍ.

وفي رواية النسائي

(2)

من حديث عائشة، قالت: لما أَسَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخَذَ اللَّحْمَ صَلَّى سَبْعَ رَكَعَاتٍ لَا يَقْعُدُ إِلاَّ في آخِرِهِنَّ.

•‌

‌ المطلب الخامس: الوتر بتسع ركعات:

أخرج مسلم

(3)

من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنا نُعِدُّ له سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ، فَيَبْعَثُهُ الله ما شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ من اللَّيْلِ، فَيَتَسَوَّكُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي تِسْعَ رَكَعَاتٍ، لَا يَجْلِسُ فيها إلا في الثَّامِنَةِ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ ولا يُسَلم، ثُمَّ يَقُومُ فيصلي التَّاسِعَةَ، ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ، ثُمَّ يُسَلم تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا» .

•‌

‌ المطلب السادس: أي صفات الوتر أفضل؟ الوتر بركعة أو ثلاث أو خمس؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

• القول الأول: جواز الوتر بأي صفة من الصفات، وإليه ذهب الشافعي

(4)

، وأحمد

(5)

.

قال شيخ الإسلام بن تيمية:

(6)

الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ العِلم أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِز، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ ظَاهِرَ الأَحَادِيثَ يقْتَضِي التَّخْيير في صِفَةِ الوِتْر مِنَ الوَاحِدَة إِلَى التِّسْع.

قال ابن رشد

(7)

: وَالْحَقُّ في هَذَا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ في صِفَةِ

(1)

أخرجه مسلم (1/ 541).

(2)

«السنن الكبرى» (1408).

(3)

أخرجه مسلم (1/ 512).

(4)

قال في «الأم» (7/ 291): هذه نافلة يسن أن يوتر بواحدة وأكثر، ونختار ما وصفت من غير أن نطيق غيره.

(5)

في مسائل عبد الله بن أحمد بن حنبل (ص 94): سألت أبي عن الوتر بركعة وثلاث وخمس وسبع وتسع؟ فقال: لا بأس بهذا كله، والذي نختاره يسلم في ثنتين ويوتر بواحدة.

(6)

«مجموع الفتاوى» (23/ 92).

(7)

«بداية المجتهد» (1/ 263).

ص: 373

الْوِتْرِ مِنَ الْوَاحِدَةِ إِلَى التِّسْعِ.

وقال محمد بن نصر: فالأمر عندنا أن الوتر بواحدة وبثلاث وخمس وسبع وتسع، كل ذلك جائز على ما روينا من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده.

• القول الثاني: أن الأفضل أن يصلي مثنى مثنى، ويوتر بواحدة.

قال ابن المنذر: (الأكثر من الأخبار والأعم منها أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صلاة الليل فقال: «مثنى مثنى، فإن خفت الصبح فأوتر بواحدة» .

• القول الثالث: أن الثلاث أفضل من الواحدة، والخمس أفضل من الثلاث، والسبع أفضل من الخمسة، وصح هذا القول عن علي بن أبي طالب

(1)

، وسعد بن أبي وقاص

(2)

.

قال النووي

(3)

: مذهبنا أن أقل الوتر ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة في وجه ثلاث عشرة، وما بين ذلك جائز، وكلما قرب من أكثره كان أفضل، بهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم.

والراجح: أن ظاهر الأحاديث يقتضي التخيير في صفة الوتر من الواحدة إلى التسع.

والأفضل أن يصلي مثنى ثم يوتر بواحدة لقوة الأحاديث.

•‌

‌ المبحث السادس: القراءة في الوتر:

يُستحب أن يقرأ بعد الفاتحة في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} . وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وإليه ذهب الجمهور

(4)

.

أخرج الطيالسي عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ في الْوِتْرِ بِ {سَبِّحِ اسْمَ

(1)

أخرجه ابن المنذر (5/ 183)، وإسناده حسن.

(2)

أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (5/ 183)، وإسناده صحيح.

(3)

«المجموع» (4/ 22).

(4)

«بدائع الصنائع» (2/ 273)، و «الأوسط» (5/ 204)، و «الحاوي» (2/ 376)، و «الكافي» (1/ 151)، و «الوتر» (ص 167) لابن نصر وغيرهم.

ص: 374

رَبِّكَ الأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَإِذَا سَلم قال: «سُبْحَانَ الملِكِ الْقُدُّوسِ» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَرْفَعُ بِالثَّالِثَةِ صَوْتَهُ.

واستحب المالكية

(1)

، والشافعية

(2)

أن يقرأ في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ويضيف إلى الثالثة سورة الفلق وسورة الناس.

واستدلوا لهذا القول بحديث عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الأولى ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين

(3)

.

واعْتُرِض عليه بأن هذا الحديث أنكره يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وقال يحيى بن سعيد: لا أعرفه. وقال العقيلي: لا يصح، وضَعَّفه ابن الجوزي

(4)

.

والراجح أنه يقرأ بعد الفاتحة في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقط، والحديث الذي فيه ذكر

(1)

«المدونة» (1/ 252).

(2)

«الأم» (7/ 239).

(3)

ضعيف: أخرجه الترمذي (463)، وأبو داود (1424)، وابن ماجه (1173)، وأحمد (6/ 227)، وغيرهم من طريق خصيف عن عبد العزيز بن جرير قال: سألت عائشة به، وعبد العزيز بن جرير مجهول. وقال العجلي: لم يسمع من عائشة، وأخطأ خصيف فصرح بسماعه، وقال ابن حبان: لم يسمع من عائشة، أخرجه عبد الرزاق (4698) من طريق عبد العزيز قال: أخبرت به عائشة. وأخرجه ابن حبان (2423)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 305) وغيرهما، وفي إسناده يحيى بن أيوب له مناكير، وقد أنكر عليه هذا الحديث أحمد وابن معين، وكذا أورده الذهبي في «الميزان» .

أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 2859)، وإسناده ضعيف، وله شواهد لا تخلو من مقال.

(4)

انظر: «الضعفاء» للعقيلي (4/ 392)، وابن عدي في «الكامل» (7/ 215)، و «التلخيص الكبير» (2/ 19).

ص: 375

المعوذتين بعد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا يصح

(1)

.

وصح عند النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ أية من سورة النساء في الوتر، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث السابع: مشروعة قضاء الوتر لمن نام عنه أو نسيه:

ذهب جمهور العلماء إلى مشروعية قضاء الوتر لمن نام عنه أو نسيه، وقد صح القول بذلك عن علي بن أبي طالب

(2)

، وابن مسعود

(3)

، وابن عمر

(4)

، وعبادة

(5)

، وابن عباس

(6)

.

وبه قال الحنيفة ومالك والشافعي في الصحيح عنه وأحمد

(7)

.

واستدلوا لذلك بما روى أبو داود

(8)

عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ

(1)

روى النسائي عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمدِينَةِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَةً أَوْتَرَ بِهَا، فَقَرَأَ فِيهَا مِائَةَ آيَةٍ مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَلَوْتُ أَنْ أَضَعَ قَدَمَيَّ حَيْثُ وَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدَمَيْهِ، وَأَنْ أَقْرَأُ بِمَا قَرَأَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وإسناده صحيح.

(2)

أخرج ابن أبي شيبة (1/ 192): جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: إِنِّي نِمْتُ وَنَسِيتُ الْوِتْرَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ؟ فَقَالَ: إِذَا اسْتَيْقَظْتَ وَذَكَرْتَ، فَصَلِّ.

(3)

أخرج ابن أبي شيبة (6764): عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللهِ عَنِ الْوِتْرِ بَعْدَ الأَذَانِ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَبَعْدَ الإِقَامَةِ. وإسناده صحيح.

(4)

روى ابن أبي شيبة (1/ 192) عَنْ وَبَرَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ أَصْبَحَ، وَلم يُوتِرْ، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ نِمْتَ عَنِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَلَيْسَ كُنْتَ تُصَلِّي؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ: يُوتِرُ. وإسناده صحيح.

(5)

أخرج ابن المنذر في «الأوسط» (أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ خَرَجَ إِلَى المسْجِدِ وَكَانَ إِمَامَ قَوْمِهِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ عَلَيْهِ لَيْلًا، فَلما رَآهُ المؤَذِّنُ ذَهَبَ يُقِيمُ، فَكَفَّهُ عُبَادَةُ ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَمَرَ فَأَقَامَ. (رجاله ثقات).

(6)

أخرج عبد الرزاق عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَوْتَرَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وإسناده صحيح.

(7)

«بدائع الصنائع» (1/ 274)، و «موطأ مالك» (1/ 127)، و «شرح مسلم» للنووي (5/ 181)، و «مسائل إسحاق» (1/ 99)، و «مسائل صالح» (1/ 387).

(8)

إسناده صحيح: أخرجه أبو داود في «السنن» (1431)، وغيره، من طريق أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مرفوعًا، قال العراقي: إسناده صحيح.

وأخرجه الترمذي (466) من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلًا، وعبد الله مختلف في توثيقه وتضعيفه والله أعلم.

ص: 376

عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ، فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ»

ويشهد له عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَسِىَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»

(1)

.

وفي لفظ: «مَنْ نَسِىَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا»

(2)

فيدخل في عمومه الوتر.

قال ابن حزم

(3)

: وأما من نَسِيَهُ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ عليه السلام: «من نَسِيَ صَلَاةً أو نَامَ عنها، فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» ، وَهَذَا عُمُومٌ يَدْخُلُ فيه كُلُّ صَلَاةِ فَرْضٍ وَنَافِلَةٍ فَهُوَ بِالْفَرْضِ أَمْرُ فَرْضٍ وهو بِالنَّافِلَةِ أَمْرُ نَدْبٍ وَحَضٍّ لأن النَّافِلَةَ لَا تَكُونُ فَرْضًا.

قال شيخ الإسلام: وَقَدْ صح عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» وَهَذَا يَعُمُّ الْفَرْضَ وَقِيَامَ اللَّيْلِ وَالْوِتْرَ وَالسُّنَنَ الرَّاتِبَةَ.

أما دليلهم من القياس: فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بعض النوافل كركعتي الفجر

(4)

، وقضاء ركعتي الظهر بعد العصر

(5)

وقضاء صلاة الليل

(6)

فكذا يجوز قضاء الوتر.

• القول الآخر: هو عدم مشروعية قضاء الوتر.

قال المزني: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ فَاتَهُ الْوِتْرُ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ لم يَقْضِ

(7)

.

واستدلوا بالسنة والمعقول:

أما دليلهم من السنة: فروى مسلم عن عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ من

(1)

أخرجه البخاري (597).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 4779).

(3)

«المحلى» (3/ 103).

(4)

صح ذلك كما في «المسند» للإمام أحمد (2/ 428)، ومسلم (1/ 471).

(5)

كما في «البخاري» (1233).

(6)

كما في «صحيح مسلم» (1/ 515).

(7)

«الحاوي» (2/ 365) مع أن المنقول عن الشافعي في أكثر مصادر الشافعية هو جواز قضاء الوتر.

ص: 377

اللَّيْلِ من وَجَعٍ أو غَيْرِهِ، صلى من النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَة). فدل ذلك على أنه كان يقضي التهجد دون الوتر.

واستدلوا بحديث أخرجه الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالْوِتْرُ، فَأَوْتِرُوا قَبْلَ طُلُوع الشمس» .

واعْتُرِضَ عليه بأن في إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف.

أما دليلهم من المعقول: فما قاله شيخ الإسلام: الوتر لا يُقضى لفوات محله، فهو كتحية المسجد.

والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء من استحباب قضاء الوتر إذا استيقظ أو ذكره، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ»

(1)

.

•‌

‌ المبحث الثامن: مشروعية الصلاة بعد الوتر: وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: هل تُشرع الصلاة بعد الوتر؟

ذهب جمهور العلماء إلى مشروعية الصلاة بعد الوتر، وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة

(2)

.

واستدلوا لذلك بما روى مسلم

(3)

عن أبي سلمة قال: سألت عائشة عن صلاة

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي ثَمَانَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ يُوتِرُ، ثُمَّ

(1)

مَنْ تعمد ترك الوتر حتى فات وقته لا يُشرع له قضاؤه؛ لأن الأمر بالقضاء في الحديث جاء مقيدًا بمن نام عنه أو نسيه. انظر: «فتح الباري» لابن رجب (9/ 160)، و «المحلى» (3/ 101) و «سنن الترمذي» (2/ 333). وأن وقت قضاء الوتر إذا استيقظ أو ذكر في أي وقت كان ليلًا أو نهارًا، وهذا ظاهر في حديث:«من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره» . انظر: «المحلى» (3/ 101) و «نيل الأوطار» (3/ 48). وفي «فتاوى» الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (2/ 249): قضاء الوتر على صفته. هذا قول، وقول أنه يضم إليه واحدة ويكون شفعًا، وشيخ الإسلام أطلق الظاهر أنه على صفته.

(2)

«شرح معاني الآثار» للطحاوي (1/ 341)، و «موطأ مالك» (1/ 125)، و «المجموع» (5/ 15، 16). و «مسائل أبي داود» (194)، و «الكافي» لابن قدامة (1/ 150).

(3)

أخرجه مسلم (1/ 509).

ص: 378

يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وهو جَالِسٌ، فإذا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قام فَرَكَعَ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بين النِّدَاءِ وَالْإِقَامَةِ من صَلَاةِ الصُّبْحِ».

قال النووي

(1)

: هذا الحديث محمول على أنه صلى الله عليه وسلم صلى الركعتين بعد الوتر بيانًا لجواز الصلاة بعد الوتر.

وممن قال بمشروعية الصلاة بعد الوتر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عثمان بن عفان

(2)

، وعلي بن أبي طالب

(3)

، وسعد بن أبي وقاص

(4)

وعمار بن ياسر

(5)

، وعبد الله بن عباس

(6)

وعبد الله بن عمر

(7)

وأبو هريرة

(8)

.

•‌

‌ المطلب الثاني: كيفية الصلاة بعد الوتر:

ذهب جمهور العلماء إلى أن المصلي إذا أوتر من أول الليل فقد قضى وتره، فإن بدا له

(1)

«المجموع» (4/ 16).

(2)

أخرج الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 340) عن عثمان بن عفان قال: إني أوتر أول الليل، فإذا قمت من آخر الليل صليت ركعة، فما شبهتها إلا بقلوص أضمها إلى الإبل. وإسناده صحيح.

(3)

أخرج الطحاوي (1/ 340) عن علي بن أبي طالب قال: الْوِتْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: رَجُلٌ أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَرَجُلٌ أَوْتَرَ أَوَّلَ اللَّيْلِ فَاسْتَيْقَظَ فَوَصَلَ إِلَى وِتْرِهِ رَكْعَةً فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ، وَرَجُلٌ أَخَّرَ وِتْرَهُ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ. وإسناده صحيح.

(4)

أخرج ابن أبي شيبة (2/ 185) عَنْ سَعْدٍ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَإِذَا أَوْتَرْتُ ثُمَّ قُمْتُ، صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ. وإسناده حسن.

(5)

أخرج ابن أبي شيبة (2/ 185) عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأُوتِرُ، فَإِذَا قُمْتُ صَلَّيْتُ مَثْنَى مَثْنَى، وَتَرَكْتُ وَتْرِي الأَوَّلَ كَمَا هُوَ. وإسناده صحيح.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 185) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا أَوْتَرَ الرَّجُلُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَامَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَلْيَشْفَعْ وَتْرَهُ بِرَكْعَةٍ، ثُمَّ لِيُصَلِّ، ثُمَّ لِيُوتِرْ آخِرَ صَلَاتِهِ. وإسناده صحيح.

(7)

أخرج عبد الرزاق (4682) عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا نَامَ عَلَى وِتْرٍ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، صَلَّى رَكْعَةً إِلَى وِتْرِهِ فَيَشْفَعُ لَهُ، ثُمَّ أَوْتَرَ بَعْدُ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ. وإسناده صحيح.

(8)

أخرج عبد الرزاق (4622) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَمَّا أَنَا فَأُوتِرُهَا هُنَا بِخَمْسٍ، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَرْقُدُ، فَإِنِ اسْتَيْقَظْتُ صَلَّيْتُ شَفْعًا حَتَّى أُصْبِحَ. وإسناده صحيح.

ص: 379

أن يصلي لا ينقض وتره ويصلي ما شاء شفعًا شفعًا من غير أن يوتر، أي: يصلي ما بدا له مثنى مثنى. وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد

(1)

.

قال ابن حجر

(2)

: فَذَهَبَ الْأَكْثَر إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي شَفْعًا مَا أَرَادَ، وَلَا يَنْقُض وِتْره عَمَلًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا وِتْرانِ في لَيْلةٍ»

(3)

.

وممن صح عنه هذه الكيفية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عمار بن ياسر

(4)

وسعد

(5)

وابن عباس

(6)

وعائذ بن عمرو

(7)

وعائشة

(8)

.

• القول الآخر: إذا أوتر قبل أن ينام، ثم أراد أن يصلي بعد ذلك، فله أن يصلي إلى الركعة التي أوتر بها أخرى مفردة، ثم يصلي ما بدا له ثم يوتر في آخر صلاته، وهذا يسمى عند أهل العلم نقض الوتر

(9)

.

صح هذا القول عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن عمر

(10)

وابن عباس وأسامة

(1)

«شرح معاني الآثار» للطحاوي (1/ 341)، و «الموطأ» (1/ 125)، و «المجموع» (4/ 15)«مسائل أبي داود» (ص 94)، و «المغني» لابن قدامة (2/ 228).

(2)

«فتح الباري» (2/ 558).

(3)

ضعيف: أخرجه الترمذي (470)، والنسائي في «الكبرى» (1388)، وابن خزيمة (1101) وفي إسناده قيس بن طلق، فيه مقال.

(4)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 185).

(5)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 185).

(6)

أخرج ابن عبد الرزاق (4685) عن ابن عباس قال: إذا أوتر أول الليل فلا يشفع بركعة، وصلى شفعًا حين يصبح.

(7)

أخرج البخاري (4176) عن أبي جمرة قال: سألت عائذ بن عمرو: هل ينقض الوتر؟ قال: إذا أوترت من أوله فلا توتر من آخره.

(8)

روى عبد الرزاق (4687) عَنْ عَائِشَةَ ذُكِرَ لَهَا الرَّجُلُ يُوتِرُ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ، فَيَشْفَعُ بِرَكْعَةٍ قَالَتْ: ذَلِكَ يَلْعَبُ بِوِتْرِهِ. وإسناده صحيح.

(9)

«مسائل عبد الله بن أحمد بن حنبل» (325).

(10)

آثار عثمان وعلي وابن عمر كلها صحيحة، وقد سبقت.

ص: 380

بن زيد

(1)

من الصحابة وصح عن عروة بن الزبير وعمرو بن ميمون من التابعين.

قال الترمذي

(2)

: فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ العِلم مِنْ أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُمْ - نَقْضَ الوِتْرِ، وَقَالُوا: يُضِيفُ إِلَيْهَا رَكْعَةً وَيُصَلِّي مَا بَدَا لَهُ، ثُمَّ يُوتِرُ في آخِرِ صَلَاتِهِ؛ لأنه لَا وِتْرَانِ في لَيْلَةٍ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ.

وقال ابن حزم

(3)

: وقد رُوِيَ عن عُثْمَانَ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ شَفْعُ الْوِتْرِ بِرَكْعَةٍ إذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بعد ما يُوتِرُ وَلَا حُجَّةَ إلاَّ في رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قلت: وقد ورد في «صحيح مسلم» من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أوتر ثم صلى ركعتين وهو جالس ولم ينقض الوتر.

وإذا كان ذلك كذلك، فالصحيح ما ذهب إليه جمهور العلماء أن من أوتر في أول الليل ثم بدا له أن يصلي، فيصلي ركعتين ركعتين حتى يصبح

(4)

.

•‌

‌ المبحث التاسع: صلاة الوتر في السفر:

أخرج البخاري

(5)

عن ابن عمر قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي في السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يومئُ إِيمَاءً صَلَاةَ اللَّيْلِ إِلَّا الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ.

قال شيخ الإسلام

(6)

: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ سَفَرًا وَحَضَرًا، وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا المكْتُوبَةَ.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 185) قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ؛ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَا: إِذَا أَوْتَرْتَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ قُمْتَ تُصَلِّي، فَصَلِّ مَا بَدَا لَكَ وَاشْفَعْ، ثُمَّ أَوْتِرْ بِرَكْعَةٍ.

(2)

«سنن الترمذي» (2/ 34).

(3)

«المحلى» (3/ 49).

(4)

قال عبد الله في «مسألة» (92): سئل الإمام أحمد عن نقض الوتر قال: لا يعجبني، قد كرهته عائشة وأنا أكرهه. اه.

(5)

أخرجه البخاري (1000).

(6)

«مجموع الفتاوى» (23/ 89).

ص: 381

وقال ابن رجب

(1)

: الوتر في السفر مستحب كالوتر في الحضر.

•‌

‌ المبحث العاشر: الوتر على الدابة:

ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز الوتر على الراحلة.

أخرج البخاري عن سعيد بن يسار أنه قال: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَقال سَعِيدٌ: فَلما خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ ثُمَّ لَحِقْتُهُ، فَقال عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: خَشِيتُ الصُّبْحَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ فَقال عَبْدُ اللهِ: أَلَيْسَ لَكَ في رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى وَاللهِ. قال: فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ.

•‌

‌ المبحث الحادي عشر: الذكر بعد الفراغ من الوتر:

أخرج الطيالسي بسند صحيح عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ في الْوِتْرِ بِ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فَإِذَا سَلم قال: «سُبْحَانَ الملِكِ الْقُدُّوسِ» . ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَرْفَعُ بِالثَّالِثَةِ صَوْتَهُ.

• ملخص ما سبق:

1 -

الوتر لغة: الفرد. وشرعًا: الوتر اسم للركعة المنفصلة عما قبلها، وللثلاث والخمس إذا كانت متصلة بتشهد واحد.

2 -

وفضل صلاة الوتر عظيم وأجرها جزيل؛ لذا أوصى بها النبي الأمين أصحابه الطيبين، قال أبو هريرة: أوصاني خليلي بثلاث ومنها: «وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ» ولفضلها حافظ عليها خير المرسلين حتى في السفر.

3 -

وأما حكم صلاة الوتر، فمستحبة عند جمهور العلماء؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«خَمْسُ صَلَوَاتٍ في اليوم وَاللَّيْلَةِ» فدل ذلك على أن المفترضات خمس لا غير، والوتر ليس منها، فدل على أن الوتر سنة مؤكدة.

4 -

أما وقت الوتر فما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت الوتر بالإجماع، وآخر

(1)

«فتح الباري) لابن رجب (9/ 185).

ص: 382

وقته طلوع الفجر، والوقت المستحب لصلاة الوتر قبل النوم لمن خاف ألا يقوم آخر الليل، وتأخيره لمن وثق بنفسه القيام آخر الليل، لأن في هذا الوقت تتنزل الرحمات بنزول رب البريات القائل: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟

5 -

أما صفة الوتر: فيشرع الوتر بركعة واحدة، ولا يشترط أن يسبقها شفع، والأفضل لمن أوتر بركعة أن يكون قبلها صلاة شفع.

6 -

من أراد الوتر بثلاث ركعات يشرع له صفتان:

الأولى: أن يسلم من ركعتين ثم يوتر بواحدة.

الثانية: أن يسرد الثلاث بتشهد واحد.

7 -

مشروعية الوتر بخمس سردًا متصلة، لا يجلس في شيء إلا في آخرهن.

8 -

من أوتر بسبع له أن يصلي سبع ركعات، يجلس في آخر السادسة يتشهد ثم يقوم دون أن يسلم، فيأتي بالسابعة ثم يجلس يتشهد ويسلم، وله أن يسرد السبع متصلة ولا يجلس إلا في السابعة، يتشهد ويسلم.

9 -

وإن أوتر بتسع سرد ثمانيًا يجلس يتشهد ولا يسلم، ثم ينهض ولا يسلم فيأتي بالركعة التاسعة ثم يقعد ويتشهد ويسلم.

10 -

الوتر بأي صفة من هذه الصفات السابقة جائز، فقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية أن ذلك عليه جماهير أهل العلم.

11 -

المستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

إن قرأ بما تيسر من القرآن مع الفاتحة جاز ذلك.

12 -

يستحب أن يقال بعد الوتر: سبحان الملك القدوس، ثلاث مرات يرفع بالثالثة صوته.

13 -

استحباب قضاء الوتر لمن نام عنه أو نسيه. ويقضي الوتر إذا استيقظ أو ذكره في

ص: 383

أي وقت.

14 -

إذا نسي الوتر وذكره في صلاة الصبح، فإنه لا يقطع ويتمادى في صلاة الصبح، ثم إن شاء صلى الوتر قضاء. وأن من تعمد ترك الوتر حتى فات وقته، لا يشرع له قضاؤه لأن الأمر بالقضاء في الحديث جاء مقيدًا بمن نام عنه أو نسيه.

15 -

الصلاة بعد الوتر جائزة: إذا أوتر من أول الليل أو في أي ساعة من الليل فقد قضى وتره، فإن بدا له أن يصلي لا ينقض وتره ويصلي ما شاء شفعًا من غير أن يوتر، أي يصلي ما بدا له مثنى مثنى.

16 -

الوتر في السفر مستحب كالوتر في الحضر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر سفرًا وحضرًا.

17 -

جواز الوتر على الدابة في السفر، وهو قول الجمهور، والله أعلم.

* * *

ص: 384

الفصل الثالث القنوت

وفيه مباحث

• المبحث الأول: تعريف القنوت

• المبحث الثاني: مشروعية القنوت في الوتر

• المبحث الثالث: هل للقنوت وقت معين؟

• المبحث الرابع: هل القنوت قبل الركوع أم بعده؟

• المبحث الخامس: صفة دعاء القنوت

• المبحث السادس: مستحبات القنوت

• المبحث السابع: هل يشرع مسح الوجه باليدين بعد دعاء القنوت؟

• المبحث الثامن: من نسي القنوت

ص: 385

‌الفصل الثالث القنوت

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: تعريف القنوت:

• القنوت في اللغة: يطلق على معانٍ، منها:

1 -

يطلق القنوت على الإمساك عن الكلام، ففي الصحيحين

(1)

، قال زيد بن أرقم: كُنَّا نَتَكَلم في الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ.

2 -

ويطلق القنوت على إطالة القيام في الصلاة، وفي التنزيل العزيز:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وروى مسلم

(2)

من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» .

3 -

قال ابن سِيده: القنوت: الطاعة، هذا هو الأصل، ومنه قوله تعالى:{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} ويطلق على معانٍ آخرى

(3)

.

• القنوت في الشرع: اسم للدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام.

•‌

‌ المبحث الثاني: مشروعية القنوت في الوتر:

ذهب جمهور العلماء إلى مشروعية القنوت في صلاة الوتر، وبه قال الحنفية ورواية عن المالكية والشافعية والحنابلة

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (4534)، ومسلم (1/ 383).

(2)

أخرجه مسلم (1/ 250).

(3)

«الفتوحات الربانية» (2/ 286).

(4)

«بدائع الصنائع» (1/ 273)، و «المعونة» (1/ 176)، و «الاستذكار» (2/ 73)، و «المجموع»

= (4/ 15)، و «الإنصاف» (2/ 170).

ص: 386

واستدلوا لذلك بما رواه الترمذي

(1)

عن الحسن بن علي رضي الله عنه: عَلمنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلماتٍ أَقُولُهُنَّ في الوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِى فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِى فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِى

(1)

صحيح: مدار هذا الحديث على بريد بن أبي مريم عن أبي الحوراء عن الحسن بن علي مرفوعًا واختلف عليه:

1 -

شعبة: فرواه الثقات الأثبات: (القطان، وغندر، ويزيد بن زريع وغيرهم) عن شعبة عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن مرفوعًا بلفظ: (كَانَ رسول الله يُعَلمنَا هَذَا الدُّعَاءَ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ ..... ) فذكر الدعاء مطلقًا، ولم يقيده بقنوت الوتر. وأخرجه أحمد (1/ 200)، والطيالسي (1275)، والدارمي (1591) وغيرهم وخالفهم عمرو بن مرزوق بلفظ: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول في الوتر

فذكر مقيدًا بالوتر. والمحفوظ عن شعبة رواية الثقات الأثبات. وخالف شعبة جماعة:

1 -

أبو إسحاق السبيعي: عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن: عَلمنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلماتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الوِتْرِ

فذكر مقيدًا بالوتر: أخرجه أبو داود (1425)(1426)، والترمذي (464) والنسائي (1422)، وأحمد (1/ 200). وغيرهم.

2 -

يونس بن إسحاق عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن مقيدًا بذكر الوتر.

أخرجه أحمد (1/ 199)، وابن الجارود (272)، وابن حزيمة (1095) وغيرهم.

3 -

العلاء بن صالح عن بريد عن أبي الحوراء عن الحسن مقيدًا بذكر الوتر.

أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 209)، وابن خزيمة (1095)، وغيرهما.

4 -

وتابعهم الحسن بن عمارة وهو متروك، أخرجه عبد الرزاق (4984)، وتابعهم الحسن بن عبيد الله، أخرجه الدارمي (135) وإسناده حسن. وتابعهم عبد الرحمن بن هرمز، انظر:«نتائج الأفكار» (2/ 144)، و «التلخيص الكبير» (2/ 248). ورجح ابن خزيمة (2/ 152) طريق شعبة، وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس. أما زيادة: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في «الوتر» فقد صححه عدد من أهل العلم:

1 -

قال الترمذي: «السنن» (2/ 328) هذا حديث حسن

ولا نعرف عن النبي في الوتر شيئًا أحسن من هذا.

2 -

قال الخطيب: هذا حديث محفوظ.

3 -

قال الحافظ زين الدين العراقي: «تخريج الإحياء» (1/ 154): أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي من حديث الحسن أن النبي كان يعلمه هؤلاء الكلمات يقولهن في الوتر. بإسناد صحيح.

4 -

قال النووي: «الأذكار» (ص 96) روينا في الحديث الصحيح

ذكره. وهناك بحث قيم ونافع في مرويات القنوت لأخي في الله الشيخ: طلال، اسمه «مرويات القنوت» ، أسأل الله أن يسعده بجنته وأن يشمله برحمته وأن يكرمه بمغفرته، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.

ص: 387

فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِى فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِى شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإِنَّكَ تَقْضِى وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ».

• القول الآخر: رُوي عن ابن عمر

(1)

وطاوس

(2)

ومالك

(3)

القول بعدم مشروعية القنوت في صلاة الوتر.

واستدلوا لذلك بأنه لم يصح في قنوت الوتر حديث

(4)

.

واعْتُرِضَ عليه بأن حديث الحسن بن علي إسناده صحيح.

والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء، أي: مشروعية القنوت في صلاة الوتر.

وممن قال بمشروعية القنوت في الوتر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ابن مسعود

(5)

، وأُبي بن كعب

(6)

وابن عباس

(7)

وابن عمر

(8)

، وغيرهم

(9)

.

(1)

روى ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 205): حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ وَلَا فِي الْوِتْرِ، وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْقُنُوتِ قَالَ: مَا نَعْلم الْقُنُوتَ إِلاَّ طُولَ الْقِيَامِ، وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ. وإسناده صحيح، ولكن يعكر عليه أنه ورد عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْنُتُ إِلاَّ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ. وإسناده صحيح.

(2)

قال ابن المنذر في «الأوسط» (5/ 207): وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: " الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ بِدْعَةٌ. ويرد هذا أنه ورد القول بمشروعية الوتر عن عدد كبير من الصحابة والتابعين.

(3)

قال مالك في «المدونة» (1/ 347): وَلَا يَقْنُتَ فِي رَمَضَانَ .. وَلَا فِي الْوِتْرِ أَصْلًا. ورد عن مالك أنه قال: «القنوت في النصف الثاني من شهر رمضان» كذا قاله ابن عبد البر؛ فلذا اختلفت الرواية عن مالك.

(4)

قال الإمام أحمد وابن خزيمة وابن عبد البر وابن القيم: لم يصح في قنوت الوتر حديث. انظر: «مسائل عبد الله» (ص 92)، و «صحيح ابن خزيمة» (2/ 152)، و «الاستذكار» (2/ 77)، و «زاد المعاد» (1/ 334).

(5)

أخرج الطحاوي في «المشكل» (11/ 366)، وغيره بسند صحيح

أن عبد الله كان لَا يَقْنُتُ فِي شَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ

(6)

أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» (1100).

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 202) بسند رجاله ثقات عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَمِلْءَ الأَرَضِينَ السَّبْعِ.

(8)

أخرج ابن أبي شيبة (2/ 201) بسند صحيح

أن ابن عمر قَنَتَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ.

(9)

أخرج ابن أبي شيبة (2/ 202) بسند حسن عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَقْنُتُونَ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ. وأخرج ابن نصر في «كتاب الوتر» عن عطاء وسئل عن القنوت في الوتر فقال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعلونه.

ص: 388

وهؤلاء هم أفهم الناس لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

•‌

‌ المبحث الثالث: هل للقنوت وقت معين؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوالٍ:

• القول الأول: أن القنوت في الوتر يكون في السَّنة كلها.

وروي هذا القول عن عمر

(1)

وعلي

(2)

وابن مسعود

(3)

ولكنه لا يصح عنهم.

وبه قال الحنفية ووجه عند الشافعية ورواية عن أحمد

(4)

.

• القول الثاني: ذهب المالكية والشافعية ورواية عن أحمد إلى أن القنوت في الوتر في النصف الثاني من رمضان

(5)

.

صح هذا عن أُبي بن كعب وعبد الله بن عمر

(6)

، وحكاه النووي عن ابن سيرين والزهري

(7)

.

• القول الثالث: أن القنوت في الوتر يكون في السنة كلها إلا في النصف الأول من رمضان. ورد ذلك عن الحسن وقتادة وصح عن معمر

• القول الرابع: أن القنوت في الوتر يكون في شهر رمضان كله، وبه قال الأوزاعي، وهو قول الشافعية.

(1)

أخرجه محمد بن نصر في كتاب «الوتر» (227).

(2)

أخرجه محمد بن نصر في كتاب «الوتر» (229).

(3)

إسناده ضعيف: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 205) وله علتان: ضعف أشعث، وإبراهيم كان يرسل عن ابن مسعود.

(4)

«بدائع الصنائع» (1/ 273)، «شرح الوجيز» (23/ 126)، و «المغني» (2/ 218).

(5)

«الاستذكار» (2/ 73)، و «الحاوي» (2/ 370)، و «مسائل أبي داود» (470).

(6)

أخرجه عبد الرزاق (4995).

(7)

«المجموع» (4/ 15).

ص: 389

قال الإمام أحمد:

(1)

لا بأس إن قنت كل ليلة، ولا بأس إن قنت السنة كلها. قال: وإن قنت في النصف من شهر رمضان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وَأَمَّا الْقُنُوتُ في الْوِتْرِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِلَازِمِ، فَمِنْ أَصحابِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لم يَقْنُتْ وَمِنْهُمْ مَنْ قَنَتَ في النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَنَتَ السَّنَةَ كُلَّهَا. وَالْعُلماءُ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْأَوَّلَ كَمَالِكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الثَّانِيَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد في رِوَايَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ الثَّالِثَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ أَحْمَد في رِوَايَةٍ، وَالْجَمِيعُ جَائِزٌ. فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلم.

•‌

‌ المبحث الرابع: محل القنوت:

أي: هل القنوت قبل الركوع أو بعده؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب الشافعي وأحمد إلى أن القنوت بعد الركوع في صلاة الوتر

(2)

.

واستدلوا لذلك بما رواه مسلم

(3)

عن أبي هريرة قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ: «سَمِعَ اللَّهُ لمنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» . ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: «اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلمةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالمسْتَضْعَفِينَ مِنَ المؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ، اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ» .

2 -

وروى البخاري

(4)

عن ابن عمر: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ في الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنَ الْفَجْرِ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لمنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ» .

(1)

«مسائل عبد الله» (320)، و «مسائل صالح» (348)(382).

(2)

«المجموع» (4/ 25)، و «مسائل عبد الله» (33).

(3)

أخرجه مسلم (675).

(4)

أخرجه البخاري (4559).

ص: 390

قال الإمام أحمد

(1)

: اختيار القنوت بعد الركعة لأن كل شيء يثبت عن رسول الله في القنوت إنما هو في الفجر لما رفع رأسه من الركعة. وقال ابن نصر: قال أحمد: القنوت بعد الركوع ويرفع يديه، وذلك على قياس فعل النبي في الغداة.

وقال البيهقي

(2)

: وَقَدْ رُوِّينَا في قُنُوتِ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ الرُّكُوعِ مَا يُوجِبُ الاِعْتِمَادَ عَلَيْهِ، وَقُنُوتُ الْوِتْرِ قياسٌ عَلَيْهِ.

• القول الآخر: ذهب الحنفية

(3)

إلى أن محل القنوت قبل الركوع بعد القراءة.

وبه قال الحسن وابن سيرين

(4)

، والأسود

(5)

، وسعيد بن جبير

(6)

.

ورد القنوت قبل الركوع في صلاة القنوت في أحاديث كثيرة، منها حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث ركعات ويجعل القنوت قبل الركوع. وكذا ابن عباس وابن مسعود وأُبي بن كعب، ولكن لا يصح منها حديث.

قال الإمام أحمد: ولم يصح عن النبي في قنوت الوتر قبل أو بعد شيء.

قلت: وصح هذا القول عن ابن مسعود، والحسن وابن سيرين والأسود وسعيد بن جبير.

والراجح: الرفع بعد الركوع بعد قول سمع الله لمن حمده، قياسًا على الفريضة فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت بعد الركوع في الفريضة، فكذا الوتر.

ومن قنت قبل الركوع فلا بأس

(7)

والله أعلم.

(1)

«مسائل عبد الله» (ص 91)، و «الوتر» (ص 364).

(2)

«سنن البيهقي» (3/ 39).

(3)

«شرح مشكل الآثار» (11/ 372).

(4)

أخرج عبد الرزاق (4996) بسند حسن لغيره أن الحسن وابن سيرين كانتا يقنتان في الوتر قبل الركعة.

(5)

أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح (2/ 202) عَنِ الأَسْوَدِ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرَّكْعَةِ.

(6)

أخرج ابن أبي شيبة بسنده (2/ 202) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ قَبْلَ الرُّكُوعِ.

(7)

وقد صح عن عدد من الصحابة والتابعين القنوت قبل الركوع في صلاة الفجر.

أخرج عبد الرزاق في «المصنف» (4959) عن طارق بن شهاب أنه صلى خلف عمر بن الخطاب الفجر، فلما فرغ من القراءة كبر ثم قنت ثم كبر ثم ركع. صحيح. وأخرج ابن المنذر (2327) بسند صحيح عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَرْأَتِهِ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ:(اللهُ أَكْبَرُ)، ثُمَّ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ كَبَّرَ، ثُمَّ رَكَعَ. وأخرج عبد الرزاق في «المصنف» (4961) عن البراء عن عازب أنه قنت في الفجر فكبر حين فرغ من القراءة ثم كبر حين فرغ من القنوت. إسناده صحيح. وصح ذلك عن التابعين كإبراهيم النخعي، والحكم وحماد وغيرهم. انظر «المصنف» لابن أبي شيبة (2/ 207). وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: إذا كان يقنت قبل الركوع افتتح القنوت بتكبيرة.

ص: 391

•‌

‌ المبحث الخامس: صفة دعاء القنوت:

اختلف أهل العلم في صفة دعاء القنوت على قولين:

• القول الأول: الالتزام بالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ ما قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي ولا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ من وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» .

قال النووي: الأفضل ما جاءت به السنة

(1)

.

• القول الثاني: أن القنوت ليس فيه شيء مؤقت، فأي دعاء دعا به حصل القنوت.

قال النخعي: لَيْسَ في قُنُوتِ الْوِتْرِ شَيْءٌ مُؤقَّتٌ، إِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ

(2)

.

وقد صح عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم القنوت بغير دعاء الحسن بن علي رضي الله عنه.

‌1 - قنوت عمر بن الخطاب رضي الله عنه

-:

كان يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِلمؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ وَالمسْلمينَ وَالمسْلماتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَانْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ الْعَنْ كَفَرَةَ

(1)

«الأذكار» (ص: 99).

(2)

صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 201). قال النووي «المجموع» (3/ 478): فقوله: «اللهم عذب كفرة أهل الكتاب» إنما اقتصر على أهل الكتاب لأنهم الذين كانوا يقاتلون المسلمين في ذلك العصر، وأما الآن فالمختار أن يقال: عذب الكفرة، ليعم أهل الكتاب وغيرهم من الكفار.

ص: 392

أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَيُكُذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاءَكَ، اللَّهُمَّ خَالِفْ بَيْنَ كَلمتِهِمَ، وَزَلْزِلْ أَقدامهمْ، وَأَنْزِلْ بِهِمْ بَأْسَكَ الَّذِى لَا تَرُدُّهُ عَنِ الْقَوْمِ المجْرِمِينَ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنُثْنِى عَلَيْكَ وَلَا نَكْفُرُكَ، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّى وَنَسْجُدُ، وَلَكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَخْشَى عَذَابَكَ الْجَدَّ، وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ»

(1)

.

‌2 - قنوت أبي بن كعب رضي الله عنه

-:

أخرج ابن خزيمة: ثُمَّ عَزَمَ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ أَنْ يَقُومَ لَهُمْ في رَمَضَانَ، فَخَرَجَ عُمَرُ عَلَيْهِمْ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، فَقال عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هِيَ، وَالَّتِي تَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي تَقُومُونَ - يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ - فَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ، وَكَانُوا يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ في النِّصْفِ: اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِوَعْدِكَ، وَخَالِفْ بَيْنَ كَلمتِهِمْ، وَأَلْقِ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَأَلْقِ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، إِلَهَ الْحَقِّ. ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَدْعُو لِلمسْلمينَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ لِلمؤْمِنِينَ.

قال: وَكَانَ يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ لَعْنَةِ الْكَفَرَةِ، وَصَلَاتِهِ عَلَى النَّبِيِّ، وَاسْتِغْفَارِهِ لِلمؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ، وَمَسْأَلَتِهِ: اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَنَرْجُو رَحْمَتَكَ رَبَّنَا، وَنَخَافُ عَذَابَكَ الْجِدَّ، إِنَّ عَذَابَكَ لمنْ عَادَيْتَ مُلْحِقٌ. ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَهْوِي سَاجِدًا

(2)

.

(1)

صحيح: أخرجه عبد الرزاق (4968)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 250)، وسنده ضعيف. وأخرجه أبو داود في «مسائل له» (48)، وابن أبي شيبة (2/ 213)، وغيرهما، وإسناده صحيح.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» (1100)، وهذه جملة من الآثار عن التابعين وغيرهم تؤيد ذلك: =

=أخرج عبد الرزاق (234) عن إبراهيم: كان يستحب أن يقول في قنوت الوتر بهاتين السورتين: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق. صحيح.

أخرج عبد الرزاق (235) عن همام بن نافع قال: رأيت وهب بن منبه إذا قام في الوتر قال: اللهم ربنا لك الحمد، الحمد الدائم السرمدي حمدًا لا يحصيه العدد ولا يقطعه الأبد، كما ينبغي لك أن تُحمد وكما أنت له أهل وكما هو لك علينا حقٌ ورَفَع يديه لم يجاوز بهما رأسه. صحيح.

أخرج ابن أبي شيبة (4997) أن يحيى بن وثاب كان يقول في قنوته: «اللَّهُمَّ عَذِّبْ كَفَرَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَهُمْ عَلَى قُلُوبِ نِسَاءٍ كَوَافِرَ» .

وأخرج ابن نصر (236)(309) عن سفيان: كانوا يستحبون أن يجعلوا في قنوت الوتر هاتين السورتين: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق. وهذه الكلمات: اللهم اهدني فيمن هديت وعافني

وبه قال الحنفية كما في «بدائع الصنائع» (1/ 273)، والشافعية كما في «المجموع» (3/ 477)، و «الأذكار» للنووي، وغيرهم.

ص: 393

• الحاصل في هذه المسألة:

أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت: «اللهم اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ

» الحديث.

ووردت زيادات في الأدعية في القنوت عن الصحابة والتابعين.

والراجح: جواز ذلك، والله أعلم.

قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله

(1)

: وإن زاد على الوارد المذكور فعليه خمسة أمور:

1 -

أن تكون الزيادة من جنس المدعو به في دعاء القنوت المذكور.

2 -

أن تكون الزيادة من الأدعية العامة من القرآن والسنة.

3 -

أن يكون محلها بعد القنوت الوارد في حديث الحسن.

4 -

أن لا يتخذ الزيادة فيه شعارًا يداوم عليه.

5 -

أن لا يطيل إطالة تشق على المأمومين.

(1)

«تصحيح الدعاء» (ص 462).

ص: 394

•‌

‌ المبحث السادس: مستحبات القنوت، وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: رفع الإمام صوته بالقنوت:

لما رواه البخاري

(1)

، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَدْعُوَ لِأَحَدٍ، قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَرُبَّمَا قَالَ إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لمنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ:«اللهم أَنْجِ الْوَلِيدَ بن الْوَلِيدِ وَسَلمةَ بن هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بن أبي رَبِيعَة اللهم اشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُف» يجهر بذلك

(2)

•‌

‌ المطلب الثاني: يستحب للإمام القانت أن يأتي بالدعاء بصيغة الجمع:

واستدل لذلك بعموم قوله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} . وكان أحدهما يدعو والآخر يؤمن

(3)

.

قال النووي: واعلم أنه يستحب إذا كان المصلي إمامًا أن يقول: «اللهم اهدنا» بلفظ الجمع.

•‌

‌ المطلب الثالث: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت:

روى النسائي عن الحسن بن علي، قال: عَلمنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَؤُلَاءِ الْكَلماتِ في الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ .. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ»

(4)

. ولا تصح هذه الزيادة.

أخرج إسماعيل القاضي

(5)

عن أبي حليمة معاذ بن الحارث الأنصاري أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت.

(1)

أخرجه البخاري (4560).

(2)

«الأذكار» للنووي (2/ 308). وروى ابن أبي شيبة (2/ 215): كَانَ عُمَرُ يَقْنُتُ بِنَا بَعْدَ الرُّكُوعِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ ضَبْعَاهُ، وَيُسْمَعَ صَوْتُهُ مِنْ وَرَاءِ المسْجِدِ. صحيح.

(3)

«مجموع الفتاوى» (23/ 116) قال: فَإِنَّ المأْمُومَ إذَا أَمَّنَ كَانَ دَاعِيًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لموسَى وَهَارُونَ:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَدْعُو وَالْآخَرُ يُؤَمِّنُ.

(4)

زيادة: «وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ» ضعيفة، فإسناده منقطع بين عبد الله بن علي بن الحسين لم يدرك على بن الحسن، أخرجه النسائي (1443).

(5)

إسناده حسن: أخرجه إسماعيل القاضي في «فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم» (107).

ص: 395

وأخرج ابن خزيمة

(1)

قنوت أُبي بن كعب وفيه: فَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ، وَكَانُوا يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ في النِّصْفِ: اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ

ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

عن الزهري قال: كَانُوا يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ في النِّصْفِ من رمضان يقولون: «اللهُمَّ قَاتِل الكَفَرَة» وذكر القنوت، قال: ثُمَّ يصلون عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

واستحب ذلك الشافعية، وهو مذهب الحنابلة

(3)

.

الراجح: استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت الوتر، والله أعلم.

•‌

‌ المطلب الرابع: رفع اليدين في دعاء القنوت:

ذهب جمهور العلماء إلى استحباب رفع اليدين في دعاء قنوت الوتر، وبه قال الحنفية والشافعية والحنابلة

(4)

.

واستدلوا بأنه قد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم معنويًا في وقائع متعددة، فيها رفع النبي يديه في الدعاء

(5)

.

والقنوت في الوتر من مواطن الدعاء: وورد عن ابن مسعود أنه كان يرفع يديه في الوتر ثم أرسلها بعد

(6)

.

(1)

صحيح. وقد سبق.

(2)

أخرجه ابن نصر، وصححه السخاوي.

(3)

«المجموع» للنووي (3/ 478)، و «جلاء الأفهام» لابن القيم (512) و «الإنصاف» للمارودي (2/ 171). وقال الشيخ الألباني في «الإرواء» (2/ 176): اطلعت على بعض الآثار الثابتة عن بعض الصحابة وفيها صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم آخر قنوت الوتر، فقلت بمشروعية ذلك. اه.

(4)

«فتح القدير» (1/ 430)، و «الأذكار» للنووي (2/ 310)، و «الإنصاف» (2/ 172)، و «المغني» (2/ 221).

(5)

«تصحيح الدعاء» (ص 115).

(6)

أخرجه عبد الرزاق (7592)، وإسناده منقطع، فإبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 215) عن ابن عباس أنه صلى فقنت بهم في الفجر، فرفع يده. وإسناده حسن.

ص: 396

وصح عن ابن عباس رفع اليدين في قنوت الفجر.

• القول الآخر: ذهب مالك

(1)

إلى عدم رفع اليدين في قنوت الوتر. وعن الزهري قال: لم تكن ترفع الأيدي في الوتر في رمضان

(2)

.

وعن الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي عن رفع اليدين في قنوت الوتر فقال: لا ترفع يديك.

والراجح: جواز رفع اليدين في قنوت الوتر لتواتر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين في الدعاء، والقنوت في الوتر من مواطن الدعاء، وكذا صح عن عمر وابن عباس رفع اليدين في قنوت الفجر، وإذا كان ذلك كذلك فيجوز رفع اليدين في قنوت الوتر، والله أعلم.

•‌

‌ المطلب الخامس: التأمين خلف الإمام عند دعاء القنوت:

ذهب مالك والشافعية وأحمد

(3)

إلى استحباب تأمين المأموم خلف الإمام في قنوت الوتر.

واستدلوا لذلك بما رواه أبو داود

(4)

عن ابن عباس قال: قَنَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا مُتَتَابِعًا في الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالمغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، إِذَا قال: سَمِعَ اللَّهُ لمنْ حَمِدَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ: عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ، وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ.

قال النووي

(5)

: واحتج المصنف والأصحاب في استجاب تأمين المأموم على قنوت

(1)

«الأوسط» (5/ 213).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (98/ 49). وإسناده صحيح.

(3)

«الاستذكار» (2/ 73)، و «المجموع» (3/ 482) و «الإنصاف» (2/ 172).

(4)

أخرجه أبو داود (1443)، وابن الجارود في «المنتقى» (198)، وابن خزيمة (618)، وغيرهم، وفي إسناده هلال بن خباب وهو صدوق تغير بآخره.

(5)

«المجموع» (3/ 482).

ص: 397

الإمام بحديث ابن عباس: (قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ

) رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح.

قال الإمام أحمد

(1)

: الذي يعجبنا أن يقنت الإمام، ويؤمن من خلفه.

وقال ابن قدامة

(2)

: إذَا أَخَذَ الْإِمَامُ في الْقُنُوتِ، أَمَّنَ مَنْ خَلْفَهُ، لَا نَعْلم فِيهِ خلافًا.

وقال النووي

(3)

: وأما الثناء وهو قوله: (فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ) فيشاركه في قوله أو يسكن، والمشاركة أَوْلى؛ لأنه ثناء وذكر لا يليق فيه التأمين.

وسئل الإمام أحمد

(4)

(اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ) ماذا يقول من خلفه؟ قال: يؤمن في موضع التأمين.

وقال ابن نصر: الذي اختاره أن يسكن حتى يفرغ، فإذا بلغ بعد ذلك موضع الدعاء أمَّنوا.

وقال محمد بن نجيب المطيعي

(5)

: من البدع التي لم نجد لها أصلًا: قول المأمومين وكأنهم في حلقات التواجد عن عبارات الثناء هذه: «حقًّا» وقولهم عند تباركت ربنا وتعاليت: «يا الله» ويجاريهم في ذلك بعض المتفقهين.

الحاصل: أنه لم يصح في هذا عن الرسول خبر ولا عن الصحابة، أما عند الدعاء فيؤمن المأموم، أما عند الثناء فالأظهر أنه يسكت، والله أعلم.

(1)

«مسائل أبي داود» (475)، و «مسائل عبد الله» (342).

(2)

«المغني» (2/ 220).

(3)

«المجموع» (3/ 481).

(4)

«مسائل أبي داود» (475).

(5)

في «حاشية المجموع» (3/ 481).

ص: 398

•‌

‌ المبحث السابع: هل يشرع مسح الوجه باليدين بعد دعاء القنوت؟

الأحاديث الواردة في الباب:

1 -

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ في الدُّعَاءِ لم يَحُطَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ

(1)

.

واعْتُرِضَ عليه بما قاله أبو زرعة الرازي: منكر، أخاف أن يكون لا أصل له

(2)

.

2 -

عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَعَوْتَ اللَّهَ فَادْعُ بِبَاطِنِ كَفَّيْكَ، وَلَا تَدْعُ بِظُهُورِهِمَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ»

(3)

.

واعْتُرِض عليه بأن في إسناده صالح بن حسان متروك، تابعه عيسى بن ميمون على ذلك.

3 -

عن السائب بن يزيد عن أبيه: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَعَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ مَسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ

(4)

.

واعْتُرِض عليه بأن في إسناده حفص بن هشام مجهول.

وفي الباب حديث ابن عمر

(5)

وفي إسناده الجارود بن يزيد متروك.

وحديث الوليد بن عبد الله

(6)

، ومراسيل الزهري من أوهى المراسيل

(7)

.

فالحاصل: أنه لم يصح في هذا الباب حديث ولا يُقوي بعضها بعضًا.

(1)

منكر: أخرجه الترمذي (3386) وغيره، وفي إسناده حماد بن عيسى، ضعيف جدًا.

(2)

«الجرح والتعديل» (2/ 205).

(3)

منكر: أخرجه ابن ماجه (1181)(3688) وعبد بن حميد «المنتخب» (875) وغيرهما.

وفي إسناده صالح بن حسان وهو منكر الحديث، وتابعه عيسى بن ميمون قال البخاري: منكر الحديث. أخرجه ابن نصر «الوتر» (322).

(4)

ضعيف: أخرجه أبو داود (1492)، وأحمد (4/ 221) وغيرهما، وفي إسناده حفص بن هاشم مجهول وابن لهيعة فيه ضعف.

(5)

أخرجه الطبراني «الكبير» (13557).

(6)

أخرجه الطبراني في «الدعاء» (214)، وفي إسناده إبراهيم بن يزيد، واه، ويزيد بن عبد الله لم يسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

(7)

أخرجه عبد الرزاق، قال ابن معين والشافعي: مراسيل الزهري ليس بشيء.

ص: 399

أما الآثار: فروى البخاري في «الأدب المفرد» بإسناده عن أبي نعيم قال: (رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ يَدْعُوَانِ، يُدِيرَانِ بِالرَّاحَتَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ)

(1)

.

واعْتُرِض عليه بأنه لا يصح.

وورد عن الحسن أنه إذا فرغ من دعائه يمسح بها وجهه

(2)

.

وفيه عنعنة ابن جريج، ولم يصرح بالتحديث.

وصح المسح عن معمر بن راشد

(3)

، وعبد الرزاق

(4)

وإسحاق بن راهويه

(5)

وفي رواية عن الإمام أحمد أنه قال: لا بأس ولم يفعله

(6)

.

وهذه الآثار قد أجاب عنها البيهقي بأنها خارج الصلاة وليست صريحة في قنوت الوتر.

وقد ذهب طائفة من أهل العلم إلى عدم مشروعية المسح على الوجه عند القنوت في الوتر.

1 -

سئل ابن المبارك عَنِ الَّذِى إِذَا دَعَا مَسَحَ وَجْهَهُ، قَالَ: لم أَجِدْ لَهُ ثَبَتًا

(7)

.

2 -

وسئل مالك عن الرجل يمسح بكفيه وجهه عند الدعاء، فأنكر ذلك وقال: ما علمت

(8)

.

3 -

قال ابن نصر: وكره ذلك سفيان

(9)

.

4 -

وقال البيهقي: لم يَثْبُتْ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ وَلَا أَثَرٍ ثَابِتٍ وَلَا قِيَاسٍ (أي المسح على

(1)

أخرجه البخاري «الأدب المفرد» (609)، وإسناده ضعيف.

(2)

«الوتر» لابن نصر (323).

(3)

عبد الرزاق (2/ 253).

(4)

عبد الرزاق (3235).

(5)

«الوتر» لابن نصر (170).

(6)

«مسائل عبد الله» (332)، و «المغني» (2/ 221).

(7)

«سنن البيهقي» (2/ 212).

(8)

«الوتر» لابن نصر (325).

(9)

«الوتر» لابن نصر (325).

ص: 400

الوجه عند الدعاء).

فَالأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَيَقْتَصِرَ عَلَى مَا فَعَلَهُ السَّلَفُ

(1)

.

5 -

قال النووي: ولا يمسح (أي على الوجه عند الدعاء) وهذا هو الصحيح

(2)

.

6 -

قال أبو داود: سمعت أحمد وسئل عن الرجل يمسح وجهه بيده إذا فرغ من الوتر: قال: لم أسمع فيه بشيء ورأيت أحمد لا يفعله

(3)

.

وذكره الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في «تصحيح الدعاء» عن العز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام وغيرهما، وهذا هو الراجح والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الثامن: من نسي القنوت:

عن الأوزاعي

(4)

فيمن ترك قنوت الوتر: إنما ترك سنة لا شيء عليه.

قال أبو داود

(5)

: سمعت أحمد قال: سألت ابن علية عن الرجل ينسى القنوت في الوتر، قال: لا شيء عليه.

وذهب أصحاب الرأي وإسحاق

(6)

وأحمد في رواية

(7)

إلى أن من نسي القنوت عليه سجدتا السهو.

وعن حماد قال: إذا سها قيل أن يقنت، فليسجد سجدتي السهو، يعني في الوتر

(8)

.

(1)

«سنن البيهقي» (2/ 212).

(2)

«المجموع» (3/ 480).

(3)

«مسائل أبي داود» (486).

(4)

«الوتر» لابن نصر (379).

(5)

«مسائل أبي داود» (477).

(6)

«الأوسط» لابن المنذر (5/ 218).

(7)

«مسائل أبي داود» (487).

(8)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 206).

ص: 401

قال ابن نصر عن حماد وسفيان

(1)

: إذا نسي القنوت في الوتر فعليه سجد السهو.

والراجح: أن من نسي القنوت فلا شيء عليه، والله أعلم.

• ملخص ما سبق:

1 -

القنوت في الشرع: اسم للدعاء في الصلاة في محل مخصوص من القيام.

2 -

القنوت مشروع في صلاة الوتر عند جماهير العلماء.

3 -

يستحب القنوت في الوتر في جميع السنة.

4 -

الأفضل في قنوت الوتر أن يكون بعد الركوع قياسًا على القنوت في الفريضة.

وإن قنت قبل الركوع كبعض الصحابة فلا بأس.

5 -

الأفضل في دعاء القنوت الالتزام بالوارد في حديث الحسن بن علي، ولو زاد في دعاء القنوت على ذلك جاز، لكن هذه الزيادة لها ضوابط سبق ذكرها، والله أعلم.

* * *

(1)

ابن نصر في كتاب «الوتر» (381).

ص: 402

الباب الرابع الاعتكاف

وفيه تمهيد وفصول

التمهيد وفيه مباحث:

• المبحث الأول: معنى الاعتكاف

• المبحث الثاني: حكمة الاعتكاف

• المبحث الثالث: حكم الاعتكاف

• المبحث الرابع: فضل الاعتكاف

• المبحث الخامس: استحباب الاجتهاد في العشر ا لأواخر من رمضان

• المبحث السادس: أقسام الاعتكاف

ص: 403

‌الباب الرابع الاعتكاف

‌التمهيد:

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: معنى الاعتكاف:

قال ابن قدامة: الِاعْتِكَافُ في اللُّغَةِ: لُزُومُ الشَّيْءِ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}

(1)

.

والاعتكاف في الشرعِ: لزوم المسجد بنية التقرب إلى الله، على صفة مخصوصة، من شخص مخصوص

(2)

.

•‌

‌ المبحث الثاني: حكمة الاعتكاف:

قال ابن القيم: لما كَانَ صَلَاحُ الْقَلْبِ وَاسْتِقَامَتُهُ عَلَى طَرِيقِ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى - مُتَوَقِّفًا عَلَى جَمْعِيِّتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَلم شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ شَعَثَ الْقَلْبِ لَا يَلمهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ فُضُولُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَفُضُولُ مُخَالَطَةِ الْأَنَامِ، وَفُضُولُ الْكَلَامِ، وَفُضُولُ المنَامِ، مِمَّا يَزِيدُهُ شَعَثًا، وَيُشَتِّتُهُ في كُلِّ وَادٍ، وَيَقْطَعُهُ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ يُضْعِفُهُ أَوْ يَعُوقُهُ وَيُوقِفُهُ، اقْتَضَتْ رَحْمَةُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ بِعِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنَ الصَّوْمِ مَا يُذْهِبُ فُضُولَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَيَسْتَفْرِغُ مِنَ الْقَلْبِ أَخْلَاطَ

(1)

«معجم مقاييس اللغة» (4/ 108)، و «لسان العرب» (9/ 255) مادة (عكف).

(2)

انظر: «الإقناع» (2/ 247)، و «المغني» (4/ 455)، «مغني المحتاج» (1/ 449)، «المحلى» (5/ 179)، «فتح القدير» (2/ 390)، «الشرح الكبير» للدسوقي (1/ 541)، وهذه التعريفات بينها بعض التفاوت كاشتراط الصوم وغيره من الشروط.

ص: 404

الشَّهَوَاتِ المعَوِّقَةِ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَشَرْعِهِ بِقَدْرِ المصْلَحَةِ، بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بَهِ الْعَبْدُ في دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَلَا يَضُرُّهُ وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ مَصَالِحِهِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ.

وَشَرَعَ لَهُمُ الِاعْتِكَافَ الَّذِي مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَجَمْعِيَّتُهُ عَلَيْهِ، وَالْخَلْوَةُ بِهِ، وَالِانْقِطَاعُ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ، بِحَيْثُ يَصِيرُ ذِكْرُهُ وَحُبُّهُ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ في مَحَلِّ هُمُومِ الْقَلْبِ وَخَطَرَاتِهِ، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ بَدَلَهَا، وَيَصِيرُ الْهَمُّ كُلُّهُ بِهِ، وَالْخَطَرَاتُ كُلُّهَا بِذِكْرِهِ، وَالتَّفَكُّرُ في تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ فَيَصِيرُ أُنْسُهُ بِاللَّهِ بَدَلًا عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ، فَيَعُدُّهُ بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يَوْمَ الْوَحْشَةِ في الْقُبُورِ حِينَ لَا أَنِيسَ لَهُ، وَلَا مَا يَفْرَحُ بِهِ سِوَاهُ، فَهَذَا مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ الْأَعْظَمُ

(1)

.

قال: ابن رجب

(2)

: فمعنى الاعتكاف وحقيقته قطع العلائق عن الخلائق، للاتصال بخدمة الخالق.

وفى موضع آخر: فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله، وذكره، وقَطَع عن نفسه عن كل شاغل يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه، وما يقربه منه، فما بقى له سوى الله، وما يرضيه عنه.

وقال شيخ الإسلام: لما كان المرء لا يلزم ويواظب إلا من يحبه ويعظمه كما كان المشركون يعكفون على أصنامهم وتماثيلهم، ويعكف أهل الشهوات على شهواتهم، شرع الله سبحانه وتعالى لأهل الإيمان أن يعكفوا على ربهم سبحانه وتعالى، وأخص البقاع بذكر اسمه سبحانه والعبادة له بيوته المبنية لذلك؛ فلذلك كان الاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله

(3)

.

(1)

«زاد المعاد» (2/ 86 - 87).

(2)

«لطائف المعارف» (4/ 455).

(3)

«شرح العمدة» (2/ 708).

ص: 405

•‌

‌ المبحث الثالث: حكم الاعتكاف:

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الاعتكاف سنة، لا يجب على الناس فرضًا، إلا أن يوجبه المرء على نفسه نذرًا فيجب عليه

(1)

.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ

(2)

.

وفي هذا الحديث دليل على سنية الاعتكاف للرجال والنساء.

•‌

‌ المبحث الرابع: فضل الاعتكاف:

مما لا شك فيه أن للاعتكاف أجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلًا، ولعظمه عهد الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهير المسجد الحرام للطائفين والعاكفين والركع السجود، فقال تبارك وتعالى:{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .

ولفضل الاعتكاف كانت مريم عليها السلام تعتكف في المسجد الأقصى، قال تعالى:{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا} وقال تعالى: {كُلما دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} .

قال شيخ الإسلام رحمه الله

(3)

: ولأن مريم عليها السلام قد أخبر الله سبحانه أنها جعلت محررة له، وكانت مقيمة في المسجد الأقصى في المحراب، وأنها انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا فاتخذت من دونهم حجابًا، وهذا اعتكاف في المسجد واحتجاب فيه، ا-هـ ولأن الاعتكاف معلوم في الشرائع القديمة، فقد كان أهل الجاهلية يعتكفون، وقد

(1)

«الإجماع» (ص 53) وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم كالنووي وابن قدامة وابن حزم انظر: «المجموع» (6/ 407)، و «المغني» (4/ 456)، «مراتب الإجماع» (41) وغيره كثير.

(2)

البخاري (2026)، ومسلم (1172).

(3)

شرح العمدة (2/ 748).

ص: 406

نذر عمر أن يعتكف ليلة في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أَوْفِ بِنَذْرِكَ» ولذا حرص عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفاه الله، ففي الصحيحين من حديث عائشة قالت:«كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف ويلتمس ليلة القدر وهي ليلة تحسب بالعمر، فمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم دليل على استحبابه وحرصه عليه و قضائه إياه، كل ذلك دليل على عظيم أجره وفضل ثوابه، والأدلة على فضل الاعتكاف متوافرة ومتضافرة.

ووردت في الباب أحاديث لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أردت التنبيه عليها، منها: ما روى أبو الدرداء مرفوعًا: «من اعتكف ليلة كان له كأجر عمرة، ومن اعتكف ليلتين كان له كأجر عمرتين

»

(1)

.

•‌

‌ المبحث الخامس: استحباب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان:

يستحب للمعتكف الإكثار من الطاعات، من تلاوة للقرآن، وذكر لله تعالى، والدعاء، والصدقات، وغيرها من النوافل والقربات.

روى مسلم

(2)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا

(1)

عزاه شيخ الإسلام إلى «مسند إسحاق بن راهويه» كما في «شرح العمدة» (2/ 712)، ورواه البيهقي في «الشعب» (3/ 425)، والطبراني في «الكبير» (3/ 128)، ولفظه عندهما:«مَنِ اعْتَكَفَ عَشْرًا فِي رَمَضَانَ كَانَ كَحَجَّتَيْنِ وَعُمْرَتَيْنِ» . وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 173): وفيه عنبسة بن عبد الرحمن القرشي، وهو متروك.

ورد عن ابن عباس {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المعتكف: «هُوَ يَعْكِفُ الذُّنُوبَ وَيُجْرَى لَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ كَعَامِلِ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه (1781)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 523) من طريق عبيدة العمي عن فرقد السبخي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. قال البخاري: فرقد أبو يعقوب السبخي عن سعيد بن جبير في حديثه مناكير. وعبيدة العمي، قال ابن حجر: مجهول الحال، وضعفه البوصيري في «الزوائد» والبيهقي كما في «الشعب» .

(2)

أخرجه مسلم (1175).

ص: 407

يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ».

وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ

(1)

وَأَحْيَا لَيْلَهُ

(2)

وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ

(3)

(4)

.

•‌

‌ المبحث السادس: أقسام الاعتكاف:

الاعتكاف ينقسم إلى مسنون وواجب:

• فالمسنون: ما تطوع به المسلم تقربًا إلى الله، وطلبًا لثوابه، واقتداء بالرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويتأكد ذلك في العشر الأواخر.

• والواجب: هو ما أوجبه المرء على نفسه، إما بالنذر المطلق، مثل أن يقول: لله عليَّ أن أعتكف كذا، أو بالنذر المعلق كقوله: إن شفا الله مريضى لأعتكفن كذا

(5)

.

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الاعتكاف سنة، لا يجب على الناس فرضًا، إلا أن يوجبه المرء على نفسه نذرًا فيجب عليه

(6)

.

* * *

(1)

شد مئزره: أي: اعتزل النساء، وقال الخطابي: يحتمل أن يريد به الجد في العبادة.

(2)

أحيا ليله: أي: سهر فأحياه بالطاعة.

(3)

وأيقظ اهله، أي: للصلاة.

(4)

أخرجه البخاري (2024)، ومسلم (1174).

(5)

انظر: «فقه السنة» (1/ 433).

(6)

«الإجماع» (ص 53).

ص: 408

‌الفصل الأول أقل زمن للاعتكاف

ووقت دخول المعتكف وخروجه

•‌

‌ المبحث الأول: أقل زمن الاعتكاف:

اختلف أهل العلم في أقل زمن الاعتكاف على أقوال:

• القول الأول: ذهب أبو حنيفة في رواية، وبعض المالكية، ووجه عند الشافعية، ورواية عن أحمد

(1)

: إلى أن أقل الاعتكاف يوم.

واستدلوا لذلك بأنه لا يصح الاعتكاف بدون صوم، وأن أقل الصوم يوم.

واعترض على هذا الاستدلال: بأن الاعتكاف يصح بدون صوم؛ لأن عمر بن الخطاب نذر أن يعتكف ليلة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» ، والليل لا صوم فيه.

• القول الثاني: أن أقل مدة للاعتكاف هو يوم وليلة، وهو المشهور من مذهب المالكية

(2)

.

واستدلوا بما ورد عن ابن عمر أنه قال: «لا اعتكاف أقل من يوم وليلة»

(3)

.

ولم أقف عليه في كتب الأثر.

واستدلوا بحديث عمر: «اعتكف ليلة» أي: يومًا وليلة

(4)

، وقالوا: إن هذا أقل

(1)

«فتح القدير» (2/ 110)، و «مواهب الجليل» (2/ 454)، و «روضة الطالبين» (2/ 391)، و «الإنصاف» (3/ 359).

(2)

«المدونة على المقدمات» (1/ 202)، و «أحكام القرآن» (1/ 95).

انظر: «الاستذكار» (10/ 313) قال: وذكر ابن حبيب أن أقله عند مالك يوم وليلة.

(3)

عزاه شيخ الإسلام لإسحاق بن راهويه، كما في «شرح العمدة» (2/ 760).

(4)

وروى أن عمر نَذَر أَنْ يَعتَكِف يَومًا بِلَيلَتِهِ. ولكن في إسناده عبد الله بن عمر العمري ضعيف. انظر: «العلل» للدارقطني (2/ 30).

ص: 409

الاعتكاف.

واعترض عليه من وجهين: الأول: أن هذا التأويل خلاف الظاهر.

الثاني: أن قوله: «اعتكفت ليلة» لا يدل على أنه لا يجوز الاعتكاف أقل من ليلة.

• القول الثالث: أن أقل مدة للاعتكاف عشرة أيام، وهو رواية عن الإمام مالك

(1)

، واستدلوا لهذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأواخر من رمضان.

واعترض عليه بأن عمر نذر أن يعتكف ليلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، فدل ذلك على جواز اعتكاف ليلة وهي أقل من عشرة.

الوجه الثاني: ما قاله ابن حزم رحمه الله: فَإِنْ قِيلَ: لم يَعْتَكِفْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَلَّ مِنْ عَشْرِ لَيَالٍ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَلم يَمْنَعْ مِنْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لم يَعْتَكِفْ قَطُّ في غَيْرِ مَسْجِدِ المدِينَةِ، فَلَا تُجِيزُوا الِاعْتِكَافَ في غَيْرِ مَسْجِدِهِ عليه السلام وَلَا اعْتَكَفَ قَطُّ إلَّا في رَمَضَانَ، وَشَوَّالٍ، فَلَا تُجِيزُوا الِاعْتِكَافَ في غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ وَالِاعْتِكَافُ فِعْلِ خَيْرٍ، فَلَا يَجُوزُ المنْعُ مِنْهُ إلَّا بِنَصٍّ وَارِدٍ

(2)

.

• القول الرابع: ذهب جمهور العلماء إلى أن أقل الاعتكاف ما يسمى به المرء معتكفًا ولو ساعة

(3)

.

واستدلوا بعموم القرآن والسنة والمأثور:

أما دليلهم من القرآن: فعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ} .

(1)

«المدونة مع المقدمات» (1/ 202)، و «الاستذكار» (10/ 313).

(2)

«المحلى» (5/ 180).

(3)

«الدر المختار» (1/ 445)، «الاستذكار» (10/ 313)، «المهذب» (1/ 190)، «مغني المحتاج» (1/ 445)، «الإنصاف» (7/ 566)،

ص: 410

قال ابن حزم

(1)

: فَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَبِالْعَرَبِيَّةِ خَاطَبَنَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

والاعتكاف في لغة العرب: الإقامة

فكل إقامة في مسجد لله تعالى بنية التقرب إليه اعتكاف

مما قل من الأزمان أو كثر؛ إذ لم يخص القرآن والسنة عددًا من عدد، ووقتًا من وقت.

أما دليلهم من السنة: فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اعتكف فواق ناقة فكأنما أعتق نسمة من ولد إسماعيل»

(2)

.

واعترض عليه: بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما دليلهم من المأثور: فعن يعلى بن أمية قال: إني لأمكث في المسجد الساعة، وما أمكث إلا لأعتكف

(3)

.

قلت: الراجح والله أعلم: أن أقل الاعتكاف هو ما يسمى به المرء معتكفًا ولو ساعة، قال النووي: ينبغي لكل جالس في المسجد لانتظار صلاة أو لشغل آخر من آخرة أو دنيا أن ينوي الاعتكاف، فيحسب له ويثاب عليه ما لم يخرج من المسجد، فإذا خرج ثم دخل جدد نية أخرى.

•‌

‌ المبحث الثاني: وقت دخول المعتكف المسجد:

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

ذهب الإمام أحمد في رواية عنه

(4)

، والأوزاعى، والثوري، والليث في أحد قوليه

(5)

، وجماعة إلى أن المعتكف يدخل المسجد بعد صلاة فجر يوم عشرين من رمضان.

(1)

«المحلى» (5/ 379).

(2)

أخرجه العقيلي في «الضعفاء الكبير» (1/ 22)، وقال الحافظ في «التلخيص الحبير»: وفي المتن نكارة شديدة.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4/ 346)، وابن أبي شيبة (3/ 89).

(4)

انظر: «المغني» (4/ 489 - 490)، «الفروع» (3/ 170)، «الإنصاف» (3/ 369).

(5)

انظر: «شرح مسلم» للنووي (8/ 240)، «فتح الباري» (4/ 277).

ص: 411

واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم

(1)

عن عائشة رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ.

وجه الدلالة: ما قاله الحافظ ابن حجر

(2)

: وفيه (أي: في حديث عائشة): أَنَّ أَوَّل الْوَقْت الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ المعْتَكِفُ، بَعْد صَلَاة الصُّبْح، وَهُوَ قَوْل الْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ، وَقَالَ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَطَائِفَةٌ: يَدْخُل قُبَيْل غُرُوب الشَّمْس. وَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ مِنْ أَوَّل اللَّيْل، وَلَكِنْ إِنَّمَا تَخَلَّى بِنَفْسِهِ في المكَان الَّذِي أَعَدَّهُ لِنَفْسِهِ بَعْد صَلَاة الصُّبْح.

• القول الثاني: ذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد في رواية، إلى أن وقت دخول المعتكف المسجد قبل غروب شمس يوم عشرين من رمضان.

قال النووي

(3)

: قال مالك وَأَبُو حَنِيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد: يَدْخُل فِيهِ قَبْل غُرُوب الشَّمْس إِذَا أَرَادَ اِعْتِكَاف شَهْر أَوْ اِعْتِكَاف عَشْر، وَأَوَّلُوا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ المعْتَكَف، وَانْقَطَعَ فِيهِ، وَتَخَلَّى بِنَفْسِهِ بَعْد صَلَاته الصُّبْح، لَا أَنَّ ذَلِكَ وَقْت اِبْتِدَاء الِاعْتِكَاف، بَلْ كَانَ مِنْ قَبْل المغْرِب مُعْتَكِفًا لَابِثًا في جُمْلَة المسْجِد، فَلما صَلَّى الصُّبْح اِنْفَرَدَ.

•‌

‌ المبحث الثالث: وقت خروج المعتكف من المسجد:

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب الإمام مالك

(4)

، والإمام أحمد

(5)

إلى أن المعتكف يبيت في

(1)

أخرجه البخاري (2033)، ومسلم (1173) واللفظ له.

(2)

«فتح الباري» (4/ 325).

(3)

«شرح مسلم» للنووي (8/ 240)، وانظر:«البحر الرائق» (2/ 503)، «المدونة» (2/ 238)، «الفروع» (3/ 170).

(4)

عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلم إِذَا اعْتَكَفُوا الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهَالِيهِمْ حَتَّى يَشْهَدُوا الْفِطْرَ مَعَ النَّاسِ. وقال مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْفَضْلِ الَّذِينَ مَضَوْا، وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ. «الموطأ» (1/ 336)

(5)

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 490): وَمَنْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، اُسْتُحِبَّ أَنْ

يَبِيتَ لَيْلَةَ الْعِيدِ فِي مُعْتَكَفِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. قلت: وقد ورد هذا الفعل عن ابن عمر وأبي قلابة وغيرهما، وروى ابن أبي شيبة (3/ 92) عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون للمعتكف أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يكون غدوة منه إلى العيد.

ص: 412

المسجد ليلة العيد.

استدلوا لذلك بما في «الصحيحين»

(1)

عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا.

وجه الدلالة منه: أنه صلى الله عليه وسلم حين اعتكف العشر الأوسط من رمضان، خرج من اعتكافه في صبيحة عشرين، وليس بعد غروب ليلة التاسع عشر. وقياسًا على ذلك فمن اعتكف العشر الأواخر، يخرج صبيحة يوم العيد.

واعْتُرِضَ عليه بما قاله ابن عبد البر

(2)

: قَدْ أَجْمَعُوا في المعْتَكِفِ في الْعَشْرِ الْأُوَلِ أَوِ الْوُسُطِ مِنْ رَمَضَانَ أَنَّهُ يَخْرُجُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ يوم مِنِ اعْتِكَافِهِ.

• القول الآخر: ذهب أبو حنيفة، والشافعي، والليث، والأوزاعى، وابن المنذر إلى أن المعتكف يخرج من المسجد إذا غربت شمس ليلة العيد. (آخر يوم من رمضان).

قال ابن عبد البر

(3)

: وَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ يَقُولَانِ: يَخْرُجُ مِنِ اعْتِكَافِهِ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ دَخَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَإِذَا أَهَلَّ هِلَالُ شَوَّالٍ فَقَدْ أَتَمَّ الْعَشْرَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ.

الراجح في المسألة والله أعلم: هو قول جمهور العلماء، أن المعتكف يخرج من اعتكافه إذا غربت الشمس من آخر أيامه، وأن هذه الليلة من شوال وليست من رمضان، وأنه بغروب شمس آخر يوم من رمضان قد اعتكف العشر.

وأما مالك وأحمد وغيرهما فكانوا يستحبون أن يبيت المعتكف في المسجد ليلة العيد،

(1)

أخرجه البخاري (2036)، ومسلم (1173).

(2)

«الاستذكار» (10/ 297، 298).

(3)

«الاستذكار» (10/ 297 - 298).

ص: 413

ولا يوجبونه.

قال ابن عبد البر

(1)

: وَالصَّحِيحُ في تَحْصِيلِ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يُقُومَ المعْتَكِفُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ في مُعْتَكَفِهِ، وَخُرُوجُهُ مِنْهُ إِلَى الْعِيدِ اسْتِحْبَابٌ وَفَضْلٌ لَا إِيجَابٌ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَهُ في مُوَطَّئِهِ، بَلْ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قال ابن قدامة

(2)

: مَنْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْعِيدِ في مُعْتَكَفِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.

ولم يذكر عن مالك وأحمد أنه من خرج من اعتكافه بعد غروب شمس آخر أيامه أنه انتقض اعتكافه، ولكنهم كانوا يستحبون ذلك، والله أعلم.

* * *

(1)

«الاستذكار» (10/ 297).

(2)

«المغني» (4/ 290).

ص: 414

الفصل الثاني شروط صحة الاعتكاف

• الشرط الأول: الإسلام: فلا يصح الاعتكاف من الكافر حتى يسلم.

• الشرط الثاني: العقل: فلا يصح الاعتكاف من مجنون حتى يفيق.

• الشرط الثالث: التمييز.

• الشرط الرابع: النية.

• الشرط الخامس: هل يشترط الطهارة من الحيض والنفاس والجنابة؟

• الشرط السادس: شرط الصوم.

• الشرط السابع: شرط إذن الزوج.

• الشرط الثامن: أن يكون الاعتكاف في المسجد.

ص: 415

‌الفصل الثاني شروط صحة الاعتكاف

•‌

‌ الشرط الأول: الإسلام:

فلا يصح الاعتكاف من الكافر حتى يسلم.

•‌

‌ الشرط الثاني: العقل:

فلا يصح الاعتكاف من مجنون حتى يفيق.

•‌

‌ الشرط الثالث: التمييز:

فلا يصح الاعتكاف من صبي غير مميز، فإنه لا قصد له، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .

•‌

‌ الشرط الرابع: النية:

فإن لبث المرء في المسجد بغير قصد الاعتكاف فإنه لا يكون معتكفًا.

قال ابن هبيرة

(1)

: واتفقوا على أنه لا يصح إلا بنية، وقال ابن رشد

(2)

: وأما النية فلا أعلم فيها اختلافًا.

•‌

‌ الشرط الخامس: هل يشترط الطهارة من الحيض والنفاس والجنابة؟

أعني هل يجوز للحائض المكث في المسجد للاعتكاف وغيره؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز للحائض المكث في المسجد، وبه قال الحنفية

(3)

، والمالكية

(4)

، ................................................

(1)

«الإفصاح» (1/ 255).

(2)

«بداية المجتهد» (1/ 315).

(3)

«البحر الرائق» (1/ 205)، «شرح فتح القدير» (1/ 165).

(4)

«المدونة» (1/ 186)، «منح الجليل» (1/ 174).

ص: 416

والشافعية

(1)

، والحنابلة

(2)

. واستدلوا لهذا القول بالقرآن والسنة:

أما دليلهم من القرآن: فعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلموا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} .

وجه الدلالة: أن الله نهى الجنب عن قربان الصلاة، أي: مواضع الصلاة، وهي المساجد إلا مجتازًا

(3)

.

وإذا نهى الجنب عن المكث في المسجد؛ فكذا الحائض والنفساء.

واعترض عليه: بأنه ذكر في أول الآية: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} أي: لا تصلي وأنت جنب، والضمير يعود إلى الصلاة، أي أن الجنب وهو مسافر لا يقرب الصلاة إلا إذا لم يجد الماء فيتيمم ويصلي.

وأجيب عنه بما قاله الشافعي

(4)

: قال بَعْضُ أَهْلِ الْعِلم بِالْقُرْآنِ: معناها: لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ. وما أَشْبَهَ ما قال بِمَا قال لِأَنَّهُ ليس في الصَّلَاةِ عُبُورُ سَبِيلٍ إنَّمَا عُبُورُ السَّبِيلِ في مَوْضِعِهَا وهو المسْجِدُ.

واعترض عليه: بأنه لا يقاس الحائض على الجنب؛ لأن الجنب له أن يسرع في التطهر، أما الحائض فليس لها ذلك، واستدلوا بما روى البخاري

(5)

من حديث أم عطية قالت:

(1)

«المهذب» (1/ 45)، «المجموع» (2/ 156)، «الحاوي» (1/ 384).

(2)

«المغني» (1/ 200)، «المبدع» (1/ 260)، «مجموع الفتاوى» (26/ 123 - 215).

(3)

«الأوسط» (2/ 109).

(4)

«الأم» (1/ 54)، قلت: وقد ورد هذا التفسير عن ابن عباس، أخرجه الدارمي (1174)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 106)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 443)، وفي إسناده عيسى بن ماهان، قال فيه الحافظ: صدوق. وورد عن أنس كما عند الدارمي (1175) والبيهقي في «الكبرى» (2/ 443) وفي إسناده الحسن بن أبي جعفر منكر الحديث.

وورد عن ابن مسعود كما عند عبد الرزاق (4121)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 106)، والبيهقي (2/ 443) وهو ضعيف، فإن أبا عبيدة لم يسمع من ابن مسعود.

وقد رواه الطبري في «تفسيره» (4/ 102) بإسناد فيه ضعف وهو مرسل.

(5)

البخاري (351)، ومسلم (890).

ص: 417

«أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الحُيَّضَ يَوْمَ العِيدَيْنِ، وَذَوَاتِ الخُدُورِ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ المسْلمينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ عَنْ مُصَلَّاهُنَّ» .

«وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ عَنْ مُصَلَّاهُنَّ» أي: مكان الصلاة، فدل ذلك على منع الحائض من دخول المسجد.

واعترض على هذا الاستدلال: بأن المراد «وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ عَنْ مُصَلَّاهُنَّ» أي: تعتزل الحائض الصلاة.

دل على ذلك ما رواه مسلم

(1)

عن أم عطية قالت: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُخْرِجَهُنَّ في الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى، الْعَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ، وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ» .

أي: أن المراد باعتزال الحيض المصلى هو حال الصلاة ليتسع المكان للنساء الطاهرات ثم يختلطن بهن بعد الصلاة

(2)

.

ثم إن الصلاة كانت في الفضاء وليست في المسجد.

حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جَاءَ وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ في المسْجِدِ، فَقَالَ:«وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ المسْجِدِ، فَإِنِّي لَا أُحِلُّ المسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ»

(3)

(1)

مسلم (12 - 890).

(2)

شرح البخاري لابن رجب (2/ 142).

(3)

ضعيف: أخرجه أبو داود (232)، وابن خزيمة (1327)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 67)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 442) من طريق عبد الواحد بن زياد عن أفلت بن خليفة قال: حدثتني جسرة بن دجاجة، قالت: سمعت عائشة

به.

ولهذا الحديث ثلاث علل:

الأولى: تفرُّد جسرة بهذا الحديث، وقد قال البخاري: عند جسرة عجائب.

الثانية: في إسناده أفلت بن خليفة وإن كان قال فيه أحمد: لا بأس به، فقد قال ابن المنذر: أفلت لا يجوز الاحتجاج بحديثه. كما في «الأوسط» (2/ 110)، وقال ابن حزم: أفلت غير مشهور ولا معروف. كما في «المحلى» (2/ 253)، وقال الخطابي في «معالم السنن» (1/ 158): وضعفوا هذا الحديث وقالوا: أفلت راوية مجهول لا يصح الاحتجاج بحديثه.

الثالثة: أنه اختلف على جسرة، فرواه الأفلت عنها عن عائشة، ورواه ابن غنية عن أبي الخطاب الهجري عن محدوج الذهلي عن جسرة قالت: أخبرتني أم سلمة .. الحديث. أخرجه ابن ماجه (645)، والطبراني في «الكبير» (23/ 373)(ح 883)، وابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 99) وقال: قال أبو زرعة: يقولون: عن جسرة عن أم سلمة، والصحيح عن عائشة.

وقال ابن حزم في «المحلى» (2/ 185): وأما مَحْدُوجٌ فَسَاقِطٌ يَرْوِي المعْضِلَاتِ عن جَسْرَةَ، وأبو الْخَطَّابِ الْهَجَرِيُّ مَجْهُولٌ. وسرد الطرق وقال: وهذا كُلُّهُ بَاطِلٌ.

ص: 418

وهذا أصرح ما ورد في الباب وليته صح.

عن عائشة قالت: كن المعتكفات إذا حِضن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهن من المسجد، وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن

(1)

.

وهذا الحديث لم أقف له على إسناد.

الدليل الثالث: في الصحيحين

(2)

قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، وفيه:«افْعَلِى مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِى» .

منع الطواف للحائض، وذلك لئلا تلوث المسجد.

واعترض على هذا الاستدلال بأن المنع من الطواف فقط ليس فيه المنع من دخول المسجد، بل الطواف أخص.

واستدلوا بما ورد في الصحيحين

(3)

من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ في المسْجِدِ وَهِيَ في حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ، ولو كان يجوز للحائض دخول المسجد لدخلت المسجد ورجلته فيه.

واعترض عليه: بأنه لا يلزم ذلك؛ لأنه قد يكون في المسجد رجال أجانب أو أن المسجد ليس محلًّا للترجل أو غير ذلك من الأسباب، فليس فيه دلالة على منع

(1)

عزاه ابن قدامة في «المغني» (4/ 487) لأبي حفص العكبري، وهو عند ابن مفلح في «الفروع» (3/ 176)، وقال: إسناده جيد.

(2)

البخاري (305)، ومسلم (120 - 1211).

(3)

البخاري (2031)، ومسلم (297).

ص: 419

الحائض من دخول المسجد.

• القول الآخر: يجوز للحائض المكث في المسجد. وهو قول المزني من الشافعية

(1)

وقول الظاهرية

(2)

.

واستدلوا بما ورد في الصحيحين

(3)

من حديث أبي هريرة قال: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جُنُبٌ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ فَانْسَلَلْتُ فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فقال:«أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هِرٍّ؟» فقال له، فقال:«سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أَبَا هِرٍّ إِنَّ المؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» .

فإذا كان المؤمن لا ينجس، فهو طاهر، فلا يُمنع من دخول المسجد.

وقد يقال: إن المؤمن لا ينجس، أي: طاهر بإيمانه طهارة معنوية، وإن المشرك نجس بالشرك.

واستدلوا بما روى سعيد بن منصور

(4)

عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضئوا وضوء الصلاة.

وجه الدلالة: أنه إذا كان الجنب يجلس ويمكث في المسجد إذا توضأ، فكذا الحائض.

واعترض عليه: بأن الحديث في إسناده هشام بن سعد، وقد ضعفه غير واحد من أهل العلم.

وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ

} الآية، أي: أن الجنب لا يمكث في المسجد إلا مارًّا به، وهذا أرجح الأقوال في تفسير الآية، والله أعلم.

واستدلوا بما روى مسلم

(5)

عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ المسْجِدِ» قَالَتْ: فَقُلْتُ: إِنِّي حَائِضٌ. فَقَالَ: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ في يَدِكِ» .

(1)

«المجموع» (2/ 160).

(2)

«المحلى» مسألة (262).

(3)

البخاري واللفظ له (285)، ومسلم (371).

(4)

أخرجه سعيد بن منصور (646)، وابن المنذر «الأوسط» (1/ 108) وفي إسناده هشام بن سعد، ضعيف الحديث.

(5)

مسلم (298).

ص: 420

وجه الدلالة من هذا الحديث من وجهين:

الأول: أن عائشة دخلت المسجد وهي حائض.

واعترض عليه: بأن إتيان عائشة بالخمرة من المسجد ليس بمكث، ولكنه مرور، والمرور للحائض في المسجد جائز.

وأجيب: بأن الحديث مطلق «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ من المسْجِدِ» فدخول عائشة المسجد يشمل المرور والمكث.

قوله صلى الله عليه وسلم: «إن حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ في يَدِكِ» أي أن يدك هي التي سوف تباشر الخمرة أو الثوب، ويدك طاهرة فليست الحيضة في اليد. وإن كان منع الحائض من المسجد هو تلويثه؛ فلتستثفر بثوب لتمنع.

واعترض عليه: بما نقل النووي عن عياض قال: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ذلك من المسجد، أي: وهو في المسجد؛ لتناوله إياها من خارج المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُخرجها له من المسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان في المسجد معتكفًا، وكانت عائشة في حجرتها وهي حائض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إن حيضتك ليست في يدك» فإنها خافت من إدخال يدها في المسجد، ولو كان أمرَها بدخول المسجد لم يكن لتخصيص اليد معنى.

واستدلوا بما راه البخاري

(1)

عن عائشة: أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ العَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، وفيه: .. فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلمتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ في المسْجِدِ - أَوْ حِفْشٌ

فهذه امرأة تنظف المسجد وتمكث فيه، والحيض كتبه الله على بنات آدم، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالخروج من المسجد وقت الحيض.

قال ابن رجب

(2)

: استدل بحديث عائشة طائفة من أهل الظاهر على جواز مكث الحائض في المسجد؛ لأن المرأة لا تخلو من الحيض كل شهر غالبًا. وفي ذلك نظر؛ لأنها قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزًا قد يئست من

(1)

البخاري (439).

(2)

شرح البخاري لابن رجب (3/ 254).

ص: 421

المحيض.

وأجيب عنه بما قاله ابن حزم

(1)

: فَهَذِهِ امْرَأَةٌ سَاكِنَةٌ في مَسْجِدِ النبي صلى الله عليه وسلم، وَالمعْهُودُ من النِّسَاءِ الْحَيْضُ، فما مَنَعَهَا عليه السلام من ذلك وَلَا نهى عنه وَكُلُّ ما لم يَنْهَ عليه السلام عنه فَمُبَاحٌ.

واستدلوا بما روى البخاري

(2)

عن أبي هريرة: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلًا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ» فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ المسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ دَخَلَ المسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

فإذا كان المشرك يمكث في المسجد يومًا واثنين وثلاثًا فمن باب أَوْلى جواز مكث الحائض في المسجد.

والأصل جواز مكث الحائض في المسجد، وليس هناك دليل صحيح صريح يمنع الحائض من دخول المسجد.

وقالوا: لأن الصوم شرط للاعتكاف، والحائض لا يحل لها الصوم، فليس لها أن تعتكف.

واعترض عليه بما ورد عن عمر أنه قال: كُنْتُ نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً في المسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ لي النبي صلى الله عليه وسلم:«فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» .

والليل ليس محلًّا للصيام، والله أعلم.

ويجوز للمستحاضة الاعتكاف؛ لما روت عائشة قالت: اعْتَكَفَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مُسْتَحَاضَةٌ، فَكَانَتْ تَرَى الحُمْرَةَ، وَالصُّفْرَةَ، فَرُبَّمَا وَضَعْنَا الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي

(3)

.

ويشترط عدم تلويث المسجد؛ ولذا وضعت الطست تحتها، والله أعلم.

(1)

«المحلى» (2/ 253).

(2)

البخاري (462).

(3)

البخاري (2037).

ص: 422

•‌

‌ الشرط السادس: الصوم:

هل يشترط الصوم لصحة الاعتكاف؟

اختلف أهل العلم في اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف على أقوال:

• القول الأول: عدم اشتراط الصوم لصحة الاعتكاف، وهو قول بعض المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية

(1)

.

واستدلوا بالكتاب والسنة والمأثور:

أما دليلهم من القرآن: فعموم قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ} .

والاعتكاف في الآية مطلق، فدل على عدم اشتراط الصوم للاعتكاف.

وأما دليلهم من السنة: ففي «الصحيحين»

(2)

عن ابن عمر {أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً في المسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ:«فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» .

وجه الدلالة منه: قال ابن عبد البر

(3)

: وَمِنْ حُجَّتِهِمْ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ ابْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه نَذَرَ في الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَعْتَكِفَ لَيْلَةً فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفِيَ بِنَذْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّيْلَ لَا صَوْمَ فِيهِ.

وعن ابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ عَلَى المعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ»

(4)

.

(1)

«أحكام القرآن» للقرطبي (2/ 234)، و «الأم» (2/ 107)، و «المستوعب» (3/ 478) و «المحلى» (5/ 268).

(2)

البخاري (2032)، ومسلم (1656).

(3)

«التمهيد» (11/ 200).

(4)

ضعيف: أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 199)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 319)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 439) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قلت: وفي إسناده عبد الله بن محمد بن نصر الرملي، فيه ضعف، قال البيهقي: تفرد به عبد الله بن محمد بن نصر الرملي، هذا وقد رواه الحميدي موقوفًا، قال: هذا هو الصحيح موقوف، ورَفْعه وهم، كذلك رواه عمر بن زرارة، عن عبد العزيز موقوفًا. انظر:«نصب الراية» (2/ 490)، وقال ابن عبد الهادي في «المحرر» (115): والصحيح أنه موقوف، ورَفْعه وهم.

ص: 423

واعترض عليه: بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحيح فيه الوقف على ابن عباس.

• القول الآخر: أنه لا اعتكاف إلا بصوم، وهو قول أبي حنيفة ومالك

(1)

، وبه قال بعض الشافعية

(2)

، ورواية عن أحمد

(3)

.

واستدلوا لهذا القول بأدلة، منها:

حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ»

(4)

.

واعترض عليه بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن ابن عمر {أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه، جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ في الْجَاهِلِيَّةِ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«اعْتَكِفْ وَصُمْ»

(5)

.

واعترض عليه بأن زيادة: «وصم» منكرة.

(1)

«الموطأ» (1/ 315)، «المدونة مع مقدمات ابن رشد» (1/ 195)، «التمهيد» لابن عبد البر (7/ 495)، «أحكام القرآن» للقرطبي (2/ 334). 0

(2)

«المجموع» (6/ 485).

(3)

«الإنصاف» (3/ 360) وهذه الرواية اختارها شيخ الإسلام، وابن القيم كما في «زاد المعاد» (2/ 88).

(4)

ضعيف: أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 199، 200)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 317) من طريق سويد بن عبد العزيز، ثنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، به. وقال تفرد به سويد بن سفيان بن حسين. قال البيهقي: وهذا وهم من سفيان بن حسين، أو من سويد بن عبد العزيز، وسويد بن عبد العزيز الدمشقى ضعيف بمرة، لا يقبل منه ما تفرد به.

(5)

منكر: أخرجه أبو داود في «السنن» (2474، 2475)، والدارقطني في «السنن» (2/ 200). من طرق عن عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن عمر به، قال الدارقطني: تفرد به ابن بديل، وهو ضعيف الحديث، وقال: سمعت أبا بكر النيسابورى يقول: هذا حديث منكر؛ لأن الثقات من أصحاب عمرو بن دينار لم يذكروه.

ص: 424

والراجح: أنه لا يشترط الصوم للاعتكاف؛ لما ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ في الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً في المسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ:«فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّيْلَ لَا صَوْمَ فِيهِ، وكذلك فإن العكوف في اللغة: الإقبال على الشيء على وجه المواظبة، وهذا يحصل من الصائم والمفطر. وكذا العاكفون على الأصنام ولهًا، سُموا بذلك بمجرد احتباسهم عليها، وإن لم يصوموا، فالمحتبس لله في بيته عاكف له وإن لم يصم

(1)

، والله أعلم.

•‌

‌ الشرط السابع: شرط إذن الزوج:

يجب على المرأة أن تستأذن من زوجها، دل على ذلك حديث عائشة، وفيه: فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ، فَأَذِنَ لَهَا.

وفي لفظ: أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه بالاعتكاف ثم منعهن بعد ذلك.

•‌

‌ الشرط الثامن: أن يكون الاعتكاف في المسجد:

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: شرط المسجد:

قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد

(2)

.

وقال ابن قدامة

(3)

: لا نعلم في ذلك خلافًا.

وقال ابن رشد

(4)

: وقد اتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة فأجازه في كل مكان.

(1)

«شرح العمدة» (2/ 755).

(2)

«أحكام القرآن» (2/ 333).

(3)

«المغني» (4/ 461).

(4)

«بداية المجتهد» (1/ 312)، و «شرح الزرقاني للموطأ» (2/ 206).

ص: 425

•‌

‌ المطلب الثاني: ضابط المسجد الذي يُشرع فيه الاعتكاف:

اتفق العلماء على اشتراط المسجد لصحة الاعتكاف، واختلفوا في ضابط المسجد الذي يشرع فيه الاعتكاف على أقوال:

القول الأول: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، وبه قال جمهور العلماء

(1)

.

قال شيخ الإسلام

(2)

: وهو قول عامة التابعين، ولم ينقل عن صحابي خلافه، إلا من قول من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة أو مسجد النبي

(3)

.

واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ} .

ولفظ «المسَاجِدِ» وإن كان في الآية عامًّا؛ لكنه خص بالمسجد الذي تقام فيه الجماعة، وذلك لوجوب صلاة الجماعة، ولأن اعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه

(1)

قال الكاساني في «بدائع الصنائع» (2/ 113): وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ تُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا. وانظر: «فتح القدير» (2/ 393)، و «البحر الرائق» (2/ 301)، و «حاشية ابن عابدين» (1/ 440).

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 461): فَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (يعنى الإمام أحمد) إلَى أَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ يَجُوزُ الِاعْتِكَافُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ. وانظر:«الإنصاف» (7/ 575).

(2)

«شرح العمدة» (2/ 734).

(3)

قال ابن عباس: لَا اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ تُجْمَعُ فِيهِ الصلوات. إسناده صحيح أخرجه عبد الله في «مسائله» (ص 196)، وورد أثر عن عليّ أنه قال: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ. أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 91) وعبد الرزاق (4/ 346) ولكنه لا يصح. وورد أثر عن شداد قال: اعْتَكَفَ رَجُلٌ فِي المسْجِدِ الْأَعْظَمِ، وَضَرَبَ خَيْمَةً فَحَصَبَهُ النَّاسُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ مَسْعُودٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَجُلًا، فَكَفَّ النَّاسَ عَنْهُ وَحَسَّنَ ذَلِكَ. قلت: ولكن إسناده ضعيف.

وعن عروة بن الزبير قال: لَا اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ. إسناده صحيح.

وعن الزهري قال: لَا اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ يُجْمَعُ فِيهِ. إسناده صحيح، أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 91). وعن الحكم وحماد قال: لَا اعْتِكَافَ إِلاَّ فِي مَسْجِدٍ تُجْمَعُ فِيه. صحيح، أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 92).

ص: 426

الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيرًا مع إمكان التحرز منه، وذلك مُنافٍ للاعتكاف؛ إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه.

حتى لو قيل بعدم وجوب الجماعة، فإن الجماعة من أعظم العبادات، وهي أوكد من مجرد الاعتكاف الخالي عنها بلا ريب، والمداومة على تركها مكروه كراهة شديدة

(1)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «السُّنَّةُ عَلَى المعْتَكِفِ: أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلَّا لما لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا في مَسْجِدٍ جَامِعٍ» وفي لفظ: «إِلَّا في مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ»

(2)

.

واعترض عليه بأنه ضعيف.

وروى الدارقطني بسنده عن حذيفة مرفوعًا: «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ مُؤَذِّنٌ وَإِمَامٌ، فَالِاعْتِكَافُ

(1)

انظر: «المغني» (4/ 461)، و «شرح العمدة» (2/ 735)، و «أحكام الاعتكاف» (ص 119) للشيخ خالد المشيقح.

(2)

أصل حديث عائشة أخرجه البخاري (2026) من طريق عبد الله بن يوسف، ومسلم (1172) من طريق قتيبة بن سعيد، كلاهما عن الليث عن عقيل عن الزهري عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ

الحديث. وروى البيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 315)(320) الحديث، وزاد قوله:«وَالسُّنَّةُ عَلَى المعْتَكِفِ: أَنْ لَا يَخْرُجَ إلا لِلْحَاجَةِ الَّتِي لَابُدَّ مِنْهَا، وَلَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَة، وَالسُّنَّةُ فِيمَنِ اعْتَكَفَ أَنْ يَصُومَ» من طريق يحيى بن بكير ونافع بن يزيد عن الليث به. أخرجه أبو داود (2473) بلفظ: «السُّنَّةُ عَلَى المعْتَكِفِ

» من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وقال أبو داود: غَيْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ لَا يَقُولُ فِيهِ «قَالَتِ السُّنَّةُ» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ جَعَلَهُ قَوْلَ عَائِشَةَ. اه.

قلت: أي جعل أبو داود هذا من قول عائشة وليست كلمة «السنة» التي تجعل هذا الكلام

لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأورد الدارقطني في «علله» (2/ 201) من طرق واهية، وقال: يقال: إن قوله: «من السنة للمعتكف

» إلخ. ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أي: ليس من قول عائشة، وإنه من كلام الزهري، ومن أدرجه فقد وهم، والله أعلم.

ص: 427

فِيهِ يَصْلُحُ»

(1)

.

واعترض عليه بأن في إسناده جويبرًا وهو هالك، والضحاك لم يدرك حذيفة

(2)

.

القول الثاني: أن الاعتكاف يصح في كل ما يطلق عليه مسجد، سواء أقيمت فيه الجماعة أم لا.

واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ}

(3)

.

وجه الدلالة: أن لفظ: {المسَاجِدِ} في الآية عام يشمل كل مسجد، ولم يخص الله مسجدًا دون آخر.

واعترض عليه بأن المسجد إذا كانت لا تقام فيه الجماعة فالمعتكف بين أمرين: إما ترك الجماعة، وإما كثرة الخروج من المسجد لأداء صلاة الجماعة، وهو مُناف لركن الاعتكاف

(4)

.

القول الثالث: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد جامع تصلى فيه الجماعة والجمعة:

ودليل هذا القول: قول عائشة: «السُّنَّةُ عَلَى المعْتَكِفِ: أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا

» وفيه: «وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا في مَسْجِدٍ جَامِعٍ»

(5)

.

واعترض عليه بأنه ضعيف.

(1)

أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 200).

(2)

«المحلى» (5/ 196).

(3)

قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (10/ 274): قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ؛ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ يُجَمَّعُ فِيهِ، وَلَا أَرَاهُ كَرِهَ الِاعْتِكَافَ في المساجد التي لا يجمع فيها، إلَّا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَخْرُجَ المعْتَكِفُ مِنْ مَسْجِدِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ إِلَى الْجُمُعَةِ. انظر:«التمهيد» (فتح البر)(7/ 482) و «شرح منح الجليل» (1/ 419).

وقال الشافعي في «الأم» (2/ 157): وَالِاعْتِكَافُ فِي المسْجِدِ الْجَامِعِ أَحَبُّ إلَيْنَا، وَإِنْ اعْتَكَفَ فِي غَيْرِهِ فَمِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ. انظر:«روضة الطالبين» (2/ 395).

(4)

«المغني» (4/ 461).

(5)

سبق تخريجه.

ص: 428

القول الرابع: أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة (المسجد الحرام، والمسجد النبوى، ومسجد بيت المقدس) وهذا قول حذيفة بن اليمان، وبه قال سعيد بن المسيب

(1)

.

وعن عطاء: لا اعتكاف إلا في مسجد مكة والمدينة

(2)

.

عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قال حُذَيْفَةُ لِعَبْدِ اللهِ: عُكُوفٌ بَيْنَ دَارِكَ وَدَارِ أَبِي مُوسَى لَا تُغَيِّرُ، وَقَدْ عَلمتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:«لَا اعْتِكَافَ إِلَّا في المسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: المسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَسْجِدِ بَيْتِ المقْدِسِ»

(3)

.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 91).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (4/ 349).

(3)

ضعيف معل بالوقف: وهذا الحديث اختلف فيه على الوقف والرفع.

رواه سفيان بن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، عن أبي وائل، عن حذيفة، واختلف على سفيان على الوقف والرفع فرواه جماعة على الرفع منهم: هشام بن عمار: أخرجه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (2771). ومنهم: محمد بن الفرج بن عبد الوارث، أخرجه الإسماعيلى «معجمه» (336)، قال: حدثنا أبو الفضل العباس بن أحمد الوشاء، حدثنا محمد بن الفرج، حدثنا سفيان به. ومحمد بن الفرج بن عبد الوارث صدوق. وأبو الفضل العباس بن أحمد الوشاء، قال الخطيب في «تاريخ بغداد» (12/ 151) وكان أحد الشيوخ الصالحين. قلت: وهذا لا يُعد توثيقًا له، بل هو ثناء على عدالته. ومنهم: محمود بن آدم المروزى: أخرجه البيهقي في «السنن» (4/ 316) قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين أنبأ أبو نصر محمد بن عبدويه، ثنا محمود بن آدم المروزى، عن سفيان به. وفى إسناده محمود بن آدم المروزى صدوق. وأبو نصر محمد بن عبدويه، قال الخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 232): حدثنا أبو نصر محمد بن عبدويه المروزى، وعلى بن الفضل بن طاهر: ثقتان نبيلان حافظان. وأبو الحسن محمد بن الحسين، قال الذهبى في «السير»: المحدث الصدوق. وروى الذهبى في «السير» (15/ 81) من طريق البيهقي، وقال: صحيح غريب عالٍ. قلت: ولكن إن كان هذا الإسناد قد يحسن. ولكن رواه على الشك بلفظ: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي المسْجِدِ الْحَرَامِ - أو قال: إلا فِي المسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ» . وهذا الشك مما يوهن هذه الرواية. ومنهم: سعيد بن منصور: أورده ابن حزم في «المحلى» =

ص: 429

قال عَبْدُ اللهِ: لَعَلَّكَ نَسِيتَ وَحَفِظُوا، وَأَخْطَأْتَ وَأَصَابُوا.

= (5/ 195)، من طريق سعيد بن منصور عن سفيان به، بلفظ:«لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي المسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ» أو قال: «مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ» وقال: هذا شك من حذيفة، أو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قال:«لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي المسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ» لحفظه الله تعالى علينا، ولم يدخل فيه شكًّا، فصح يقينًا أنه عليه السلام لم يقله قط.

قال يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (2/ 178): ذكرت لأحمد بن حنبل سعيد بن منصور فأحسن الثناء عليه، وفَخَّم أمره وقد كنت أسمع سليمان بن حرب وهو بمكة - ينكر عليه الشيء بعد الشيء، وكذلك كان الحميدى لم يكن الذى بينه وبين الحميدى حسنًا، فكان الحميدى يخطئه في الشيء بعد الشيء من رواية ما يروى عن سفيان.

قال الطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (7/ 201): فَتَأَمَّلْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فَوَجَدْنَا فِيهِ إِخْبَارَ حُذَيْفَةَ ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَدْ عَلم مَا ذَكَرَهُ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَرْكَ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنْكَارَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَجَوَابَهُ إِيَّاهُ بِمَا أَجَابَهُ بِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ:" لَعَلَّهُمْ حَفِظُوا " نَسَخَ مَا قَدْ ذَكَرْتُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَصَابُوا فِيمَا قَدْ فَعَلُوا، وَكَانَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المسَاجِدِ} [البقرة: 187]، فَعَمَّ المسَاجِدَ كُلَّهَا بِذَلِكَ، وَكَانَ المسْلمونَ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِكَافِ فِي مَسَاجِدِ بُلْدَانِهِمْ، إِمَّا مَسَاجِدُ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَاتُ، وَإِمَّا هِيَ وَمَا سِوَاهَا مِنَ المسَاجِدِ الَّتِي لَهَا الْأَئِمَّةُ وَالمؤَذِّنُونَ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ الْعِلم فِي ذَلِكَ.

قلت: وكذلك أنكر ابن مسعود وهو من كبار الصحابة على حذيفة - رفعه هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لعلك نسيت وحفظوا، وأخطأت وأصابوا). وخالفهم جماعة: فرووا الحديث موقوفًا وهم (عبد الرزاق، وسعيد بن عبد الرحمن المخزومى، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر).

أخرجه عبد الرزاق «المصنف» (8016)، عن ابن عيينة، عن جامع بن أبي رشد، قال: سمعت أبا وائل يقول: (قال حذيفة لعبد الله) أى موقوفًا. وتابعه محمد بن يحيى بن أبي عمر، وسعيد بن عبد الرحمن المخزومى، كما عند الفاكهى في «أخبار مكة» (1334) ومحمد بن يحيى بن أبي عمر قال الحافظ: صدوق، صَنَّف المسند، وكان لازم ابن عيينة. لكن قال أبو حاتم. كانت فيه غفلة. وسعيد بن عبد الرحمن المخزومى ثقة. وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (8014)، وابن أبي شيبة (3/ 91) عن وكيع، والطبراني في «الكبير» (9510) عن علي بن عبد العزيز، عن أبي نعيم، عن الثوري، عن واصل الأحدب، عن إبراهيم، قال: جاء حذيفة لعبد الله. أى موقوفًا.

ص: 430

والراجح في المسألة: أنه يجوز الاعتكاف في كل مسجد تصلي فيه الصلوات الخمس؛ لقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ} [البقرة: 187].

ويستحب أن يكون مسجدًا جامعًا حتى لا يخرج منه لصلاة الجمعة ولا غيرها، والله أعلم.

•‌

‌ المطلب الثالث: أفضل المساجد للاعتكاف:

أفضل المساجد للاعتكاف: المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى

(1)

.

لكونها أفضل المساجد؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالمسْجِدِ الْأَقْصَى»

(2)

.

وأفضلها: المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المسْجِدَ الْحَرَامَ»

(3)

.

ما يدخل في مسمى المسجد الذي يصح الاعتكاف فيه:

الأمر الأول: اتفق العلماء أن ما كان معدًّا للصلاة من البناء أنه يصح الاعتكاف فيه؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ} وهذا داخل في المسجد قطعًا.

الأمر الثاني: سطح المسجد: فجمهور العلماء على صحة الاعتكاف فيه، وصعود المعتكف إليه وسطح المسجد منه

(4)

.

(1)

انظر: «المبسوط» (3/ 115)، و «حاشية العدوي» (1/ 410)، و «الأم» (1/ 107)، و «مطالب أولي النهى» (2/ 236).

(2)

أخرجه البخاري في باب (فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة).

(3)

أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394).

(4)

انظر: «أحكام الاعتكاف» (ص 131، 132) لفضيلة الشيخ/ خالد المشيقح.

ص: 431

أما رحبة المسجد: أي ساحته، فهل تدخل في مسمى المسجد؟

اختلف أهل العلم في دخول ساحة المسجد في مسمى المسجد وخروج المعتكف إليها على ثلاثة أقوال:

القول الأول: إن كانت الرحبة محوطة متصلة بالمسجد فهي منه، وإن كانت غير متصلة به ولا محوطة بسياجه، فليست منه.

قال النووي

(1)

: المرَادُ بِالرَّحْبَةِ مَا كَانَ مُضَافًا إلَى المسْجِدِ مُحَجَّرًا عَلَيْهِ وهو مِنَ المسْجِدِ، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى صحةِ الِاعْتِكَافِ في الرَّحْبَةِ.

القول الثاني: أن الرحبة ليست من المسجد، فلا يصح الاعتكاف فيها.

واستدلوا بما روت عائشة قالت: كُنَّ المعْتَكِفَاتُ إذَا حِضْنَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ المسْجِدِ، وَأَنْ يَضْرِبْنَ الْأَخْبِيَةَ في رَحْبَةِ المسْجِدِ، حَتَّى يَطْهُرْنَ

(2)

.

وجه الدلالة: أن الحائض إذا كان لا يجوز لها الاعتكاف في المسجد، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهن من المسجد وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن، فعُلم أن الرحبة ليست من المسجد.

قلت: هذا الحديث لم أقف عليه في كتب السنن المسندة، وإنما ذُكر في كتب الفقه ثم إن رحبة المسجد ليست محوطة.

القول الثالث: وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَبِيتُ المعْتَكِفُ إلَّا في المسْجِدِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ خِبَاؤُهُ في رَحَبَةٍ مِنْ رِحَابِ المسْجِدِ

(3)

.

والراجح: إن كانت الرحبة محوطة متصلة بالمسجد؛ فهي منه، وإن كانت غير متصلة

(1)

«المجموع» (6/ 507).

(2)

ذكره ابن قدامة في «المغني» (4/ 487)، وعزاه لأبي حفص العكبري، وابن مفلح في «الفروع» (3/ 176) ولابن بطة وقال: إسناده جيد.

(3)

«المدونة مع المقدمات» (2/ 203)، و «الموطأ مع المنتقى» (2/ 79).

ص: 432

ولا محوطة بسياجه فليست منه، والله أعلم

(1)

.

•‌

‌ المطلب الرابع: هل تعتكف المرأة في مسجد بيتها؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وأن الاعتكاف للرجال والنساء لابد أن يكون في المسجد، وبه قال مالك

(2)

، وأحمد

(3)

؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ} والمراد بالمساجد: المواضع التي بنيت للصلاة فيها، ويجتمع إليها الناس.

وفي «الصحيحين» من حديث عائشة: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ في كُلِّ رَمَضَانٍ، وَإِذَا صَلَّى الغَدَاةَ دَخَلَ مَكَانَهُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَعْتَكِفَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ، فَضَرَبَتْ قُبَّةً، وَسَمِعَتْ زَيْنَبُ بِهَا، فَضَرَبَتْ قُبَّةً أُخْرَى، فَلما انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» ، فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ، فَقَالَ:«مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا؟ آلْبِرُّ؟ انْزِعُوهَا فَلَا أَرَاهَا» ، فَنُزِعَتْ، فَلم يَعْتَكِفْ في رمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ في آخِرِ العَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ»

(4)

.

فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه بالاعتكاف في المسجد، ولو كان الاعتكاف في البيت جائزًا لنبههن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

انظر: «أحكام الاعتكاف» (ص 134) للشيخ خالد المشيقح.

(2)

قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (10/ 275): وَقَالَ مَالِكٌ: تَعْتَكِفُ المرْأَةُ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ.

وَلَا يُعْجِبُهُ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا.

(3)

قال النووي في «شرح مسلم» (7/ 248): قال الإمام أحمد: لا يصح اعتكاف المرأة إلا في المسجد. «المجموع» (6/ 484)، و «مغني المحتاج» (1/ 451).

(4)

البخاري (2041)، ومسلم (1173).

ص: 433

القول الآخر: ذهب أبو حنيفة

(1)

، والشافعي إلى أن المرأة تعتكف في مسجد بيتها:

واستدلوا لذلك بما رواه مسلم

(2)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ، وَإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ، أَرَادَ الاِعْتِكَافَ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبَائِهَا فَضُرِبَ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ، فَلما صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ، نَظَرَ، فَإِذَا الأَخْبِيَةُ فَقَالَ: «آلْبِرَّ تُرِدْنَ؟» فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ، وَتَرَكَ الاِعْتِكَافَ في شَهْرِ رَمَضَانَ، حَتَّى اعْتَكَفَ في الْعَشْرِ الأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ».

قال الشافعي: فبهذا كرهت اعتكاف المرأة إلا في مسجد بيتها، وذلك أنها إذا صارت إلى ملازمة المسجد المأهول ليلًا ونهارًا، وأكثر من يراها ومن تراه

(3)

.

الدليل الثانى: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ المرْأَةِ في بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا في حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا في مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا في بَيْتِهَا»

(4)

.

(1)

انظر: «بدائع الصنائع» (2/ 113)، و «المبسوط» (3/ 129).

(2)

أخرجه مسلم (1173).

(3)

انظر: «معرفة السنن والآثار» (3/ 464).

(4)

أخرجه أبو داود (570)، وابن خزيمة (1688 - 1690)، وغيرهما، من طريق عمرو بن عاصم، عن همام، عن قتادة، عن مورق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود مرفوعًا، وأخرجه الترمذي (1173)، وغيره بلفظ «المرْأَةُ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ، وأقرب ما تكون من ربها وهى في قعر بيتها» ، وأخرجه ابن خزيمة (1686)، من طريق سليمان التيمى، عن قتادة، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود، به، قال ابن أبي حاتم في «المراسيل»: سمعت أبي يقول: قتادة عن أبي الأحوص مرسل، بينهما مورق، قال الأثرم: حديث سليمان التيمى عن قتادة مضطرب. انظر: «شرح علل الترمذي» (ص 284)، وأخرجه الطبراني (10/ 132)، وابن عدي (3/ 423)، وابن خزيمة من طريقى سويد بن إبراهيم، وسعيد بن بشير، وهما متابعان لسليمان التيمى، ولكنهما ضعيفان. وللحديث المرفوع شواهد أولها: عند أبي داود (567) وشاهد آخر: عند ابن خزيمة (1689)، وابن حبان (2217)، ولكن هذه الشواهد لا تخلو من مقال.

ص: 434

وجه الدلالة منه: أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، كان اعتكافها في بيتها أفضل.

واعترض عليه: بأن الاعتكاف عبادة خاصة بالمسجد، كما أن الطواف لا يجوز إلا بالكعبة.

واستدلوا أيضًا بحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ»

(1)

.

فإن كان بيوتهن خيرًا لصلاتهن من المسجد؛ فكذا الاعتكاف في البيت أفضل.

واعترض عليه: بأن لفظة: «وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن اعتكاف النساء لا يصح إلا في المسجد؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ} ، ولحديث عائشة: استأذن أزواجه صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف في المسجد فأذن لهن».

قال النووي

(2)

: وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث أَنَّ الِاعْتِكَاف لَا يَصح إِلَّا في المسْجِد؛ لِأَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَزْوَاجه وَأَصحابه إِنَّمَا اِعْتَكَفُوا في المسْجِد مَعَ المشَقَّة في مُلَازَمَته، فَلَوْ جَازَ في الْبَيْت لَفَعَلُوهُ وَلَوْ مَرَّة لَا سِيَّمَا النِّسَاء؛ لِأَنَّ حَاجَتهنَّ إِلَيْهِ في الْبُيُوت أَكْثَر.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اِخْتِصَاصه بِالمسْجِدِ، وَأَنَّهُ لَا يَصح في غَيْره - هُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد وَالْجُمْهُور، سَوَاء الرَّجُل وَالمرْأَة.

* * *

(1)

أصل حديث ابن عمر: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» في البخاري (900)، ومسلم (442) أما زيادة «وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» فأخرجها أحمد (2/ 76)، وأبو داود (565)، وغيرهما من طريق حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر، وحبيب لم يسمع من ابن عمر، فهذه الزيادة لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

«شرح مسلم» (7/ 248).

ص: 435

الفصل الثالث مبطلات الاعتكاف

• المبطل الأول: خروج المعتكف بجميع البدن بغير عذر

• المبطل الثاني: الجماع

• المبطل الثالث: إنزال المني

• المبطل الرابع: الردة

• المبطل الخامس: قطع نية الاعتكاف

ص: 437

‌الفصل الثالث مبطلات الاعتكاف

•‌

‌ المبطل الأول: خروج المعتكف بجميع البدن بغير عذر من المسجد:

دل على ذلك حديث عائشة: «وكان لا يخرج إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفًا» .

ويستثنى من ذلك: الخروج ببعض البدن: يجوز للمعتكف أن يخرج ببعض بدنه كيديه ورأسه، دل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها:«أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ حَائِضٌ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ في المسْجِدِ وَهِيَ في حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ»

(1)

.

• الخروج لأمر لابد منه، وفيه مسائل:

•‌

‌ المسألة الأولى: الخروج لقضاء الحاجة كالبول والغائط والقيء وغيرها.

قال ابن المنذر

(2)

: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلم عَلَى أَنَّ لِلمعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ.

وفي «الصحيحين»

(3)

عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «إن كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ وَهْوَ في المسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا» . وزاد في رواية لمسلم

(4)

: «إِلاَّ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ» والمراد بحاجة الإنسان: البول والغائط.

•‌

‌ المسألة الثانية: الخروج للغسل من الجنابة، والإتيان بالطعام والشراب وغيرهما ممن لابد منه:

قال ابن هبيرة: وأجمعوا على أنه يجوز للإنسان الخروج إلى ما لابد منه كحاجة الإنسان

(1)

البخاري (2029)، ومسلم (297).

(2)

«الإجماع» (ص 16).

(3)

أخرجه البخاري (2029)، ومسلم [7 - (297)].

(4)

أخرجه مسلم (6)(297).

ص: 438

والغسل من الجنابة

(1)

.

ودليل ذلك ما ورد في «الصحيحين»

(2)

: عن علي بن الحسين: أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ في اعْتِكَافِهِ في المسْجِدِ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا يَقْلِبُهَا .... الحديث.

ووجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد وهو معتكف ليقلب زوجته لما خاف عليها أن تسير وحدها ليلًا.

قال ابن قدامة

(3)

: ويخرج المعتكف من معتكفه للْبَوْل وَالْغَائِط، وَفِي مَعْنَاهُ الْحَاجَةُ إلَى المأْكُولِ وَالمشْرُوبِ، إذَا لم يَكُنْ لَهُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ بَغَتْهُ الْقَيْء، فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ لِيَتَقَيَّأ خَارِجَ المسْجِدِ، وَكُلُّ مَا لَابُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ في المسْجِدِ، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ، وَلَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ مَا لم يُطِلْ. وَكَذَلِكَ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، مِثْلُ مَنْ يَعْتَكِفُ في مَسْجِدِ لَا جُمُعَةَ فِيهِ، فَيَحْتَاجُ إلَى خُرُوجِهِ لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ، ويُلْزَمُهُ السَّعْيُ إلَيْهَا، فَلَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهَا، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ. وَبِهَذَا قال أبو حنيفة.

وقال بعض أهل العلم: إن الحاجة ليست مقتصرة على الخروج للبول والغائط، بل يدخل فيها كل ما يحتاج الخروج له، وهو ما يخاف من تركه ضررًا في دينه أو دنياه، فيدخل في ذلك الخروج لفعل واجب، وأداء شهادة تعينت عليه، وإطفاء حريق، ومرض شديد، وخوف على نفسه فتنة وقعت، وجهاد تعين، وشهود صلاة الجمعة، إذا كان المسجد الذى اعتكف فيه لا تقام فيه صلاة الجمعة.

(1)

«الإفصاح» (1/ 159).

(2)

أخرجه البخاري (2035)، ومسلم (2175).

(3)

«المغني» (4/ 466).

ص: 439

•‌

‌ المسألة الثالثة: هل يجوز خروج المعتكف لقربة من القرب لعيادة المريض واتباع الجنائز؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ذهب أبو حنيفة

(1)

ومالك

(2)

والشافعي

(3)

ورواية عن أحمد

(4)

إلى أنه لا يخرج المعتكف من المسجد، كعيادة مريض، واتباع جنازة.

واستدلوا لذلك بالمأثور: عن عمرة قالت: «كَانَتْ عَائِشَةُ في اعْتِكَافِهَا إِذَا خَرَجَتْ إِلَى بَيْتِهَا لِحَاجَتِهَا - تَمُرُّ بِالمرِيضِ، فَتَسْأَلُ عَنْهَ، وَهِيَ مُجْتَازَةٌ لَا تَقِفُ عَلَيْهِ»

(5)

.

وعن عروة بن الزبير قال: «المعتكف لا يجيب دعوة، ولا يعود مريضًا، ولا يتبع جنازة، ولا اعتكاف إلا بصيام، ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة»

(6)

.

وعن الزهري قال: «لا يخرج المعتكف إلا إلى ما لابد له منه، من غائط أو بول، ولا يتبع جنازة، ولا يعود مريضًا، ولا يجيب دعوة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها»

(7)

.

وعن عطاء قال: «المعتكف لا يتبع جنازة، ولا يعود مريضًا»

(8)

.

(1)

قال أبو حنيفة «المبسوط» (12): لا يخرج المعتكف لعيادة المريض واتباع الجنازة.

(2)

قال مالك «الموطأ» (1/ 332): لا يشهد الجنازة ولا يعود المريض.

(3)

وقال الشافعي «الأم» (2/ 157): لَا يَعُودُ المرِيضَ وَلَا يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ إذَا كان اعْتِكَافًا وَاجِبًا.

(4)

وقال أحمد كما في «المغني» (4/ 469، 470): لا يعود المريض، ولا يشهد الجنازة، إذا لم يشترط ذلك قبل دخوله المعتكف.

(5)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8055) عن معمر، عن الزهري، عن عمرة به، وأخرجه (8056) عن الثوري، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة. عن عائشة:(كانت تمر بالمريض من أهلها وهى مجتازة فلا تعرض له).

(6)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (7054) عن الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه به.

(7)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8051) عن معمر عن الزهري به.

(8)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (8053) عن ابن جريج، عن عطاء به.

ص: 440

القول الثانى: وهو قول على بن أبى طالب

(1)

، والحسن البصرى، وسعيد بن جبير

(2)

، وأبي سلمة بن عبد الرحمن

(3)

، والشعبى

(4)

ورواية عن أحمد

(5)

قالوا: إنه يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لعيادة المريض، واتباع الجنائز.

والراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء أنه لا يخرج المعتكف من المسجد، لعيادة مريض، ولا لاتباع جنازة.

•‌

‌ المسألة الرابعة: يجوز للمعتكف قبل دخوله أن يشترط أن يخرج من المسجد لفعل شيء مباح:

ودليل ذلك ما رواه البخاري ومسلم

(6)

من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ فَقال لَهَا: «لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ» قَالَتْ: وَاللَّهِ

لَا أَجِدُنِي إِلاَّ وَجِعَةً! فَقال لَهَا: «حُجِّي وَاشْتَرِطِي، قُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» .

وجه الدلالة منه: أنه يجوز الاشتراط في الحج إذا حدث له عذر، أن يخرج وليس عليه شيء، ويقاس عليه الاعتكاف.

(1)

أخرج ابن أبي شيبة (3/ 78) عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة عن عليّ قال: إِذَا اعْتَكَفَ الرَّجُلُ فَلْيَشْهَد الْجُمُعَةَ، وَلْيَعُد المرِيضَ، وَلْيَحْضَر الْجِنَازَةَ، وَلْيَأْتِ أَهْلَهُ، وَلْيَأْمُرْهُمْ بِالْحَاجَةِ وَهُوَ قَائِمٌ. قلت: وإسناده حسن.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 78) عن على بن مسهر عن الشيبانى عن سعيد بن جبير قال: ليشهد (المعتكف) الجمعة، ويعود المريض، ويجيب الإمام.

(3)

أخرج عبد الرزاق (8057) عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن «أن المعتكف يعود المريض» .

(4)

أخرج ابن أبي شيبة (3/ 88) عن ابْن فُضَيْلٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: يَخْرُجُ إلَى الْغَائِطِ، وَيَعُودُ المرِيضَ، وَيَأْتِي الْجُمُعَةَ، وَيَقُومُ عَلَى الْبَابِ.

(5)

قال ابن قدامة في «المغني» (4/ 469، 470): وفى رواية - قلت (محمد): أى عن الإمام أحمد - أنه يجوز للمعتكف أن يَشْهَدُ الْجِنَازَةَ، وَيَعُودُ المرِيضَ.

(6)

أخرجه البخاري (5089)، ومسلم (1207).

ص: 441

قال شيخ الإسلام

(1)

: فإذا كان الإحرام الذي هو ألزم العبادات بالشروع يجوز فيه المخالفة بالشرط، فالاعتكاف أَوْلي.

وممن قال بجواز الاشتراط للمعتكف: عطاء بن أبي رباح، وإبراهيم النخعي، وقتادة

(2)

.

قال الشافعي

(3)

: وَلَا بَأْسَ بِالاِشْتِرَاطِ في الاِعْتِكَافِ الْوَاجِبِ، وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ:«إنْ عَرَضَ لي عَارِضٌ كان لي الْخُرُوجُ»

وقيل لأحمد: تُجِيزُ الشَّرْطَ في الِاعْتِكَافِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت لَهُ: فَيَبِيتُ في أَهْلِهِ؟ فَقَالَ: إذَا كَانَ تَطَوُّعًا، جَازَ

(4)

.

قال ابن حزم: وَجَائِزٌ لِلمعْتَكِفِ أَنْ يَشْتَرِطَ مَا شَاءَ مِنْ المبَاحِ وَالْخُرُوجِ لَهُ،؛ لأنه بِذَلِكَ إنَّمَا الْتَزَمَ الاِعْتِكَافَ في خِلَالِ مَا اسْتَثْنَاهُ، وَهَذَا مُبَاحٌ لَهُ، أَنْ يَعْتَكِفَ إذَا شَاءَ، وَيَتْرُكَ إذَا شَاءَ؛ لأنَّ الاِعْتِكَافَ طَاعَةٌ، وَتَرْكَهُ مُبَاحٌ، فَإِنْ أَطَاعَ أُجِرَ، وَإِنْ تَرَكَ لم يَقْضِ.

قلت: كره الاشتراط في الاعتكاف مالك. قال: ولم أسمع أحدًا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطًا.

الراجح: جواز الاشتراط في الاعتكاف؛ لأنه إذا كان يجوز الاشتراط في الحج، فالاشتراط في الاعتكاف أَوْلى بالجواز، والله أعلم.

•‌

‌ المبطل الثاني: الجماع:

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: إذا جامع المعتكف زوجته بطل اعتكافه.

قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ} .

قال قتادة في تأويل هذه الآية: كَانَ النَّاسُ إِذَا اعْتَكَفُوا يَخْرُجُ الرَّجُلُ فَيُبَاشِرُ أَهْلَهُ ثُمَّ

(1)

كتاب «الصيام شرح العمدة» (2/ 809).

(2)

انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (3/ 89)، وعبد الرزاق (8042، 8043، 8045، 8046، 8047) بأسانيد بعضها حسنة وبعضها صحيحة.

(3)

انظر: «الأم» (/ 157).

(4)

انظر: «المغني» (4/ 471).

ص: 442

يَرْجِعُ إِلَى المسْجِدِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ

(1)

.

قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدًا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه

(2)

.

•‌

‌ المبحث الثاني: مباشرة الزوجة:

وفيه مطلبان:

•‌

‌ المطلب الأول: إذا باشر المعتكف زوجته فإن كان لغير شهوة كاللمس باليد وغيره:

فهذا جائز؛ لما في «الصحيحين» ، عن عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ وَهْوَ مُعْتَكِفٌ في المسْجِدِ وَهْيَ في حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ

(3)

.

•‌

‌ المطلب الثاني: إذا باشر المعتكف زوجته بشهوة حرم عليه ذلك؛ لمنافاة ذلك للاعتكاف

؛ لعموم قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ} ، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ.

و‌

‌هل يبطل مباشرة المعتكف زوجته بشهوة؟

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يبطل اعتكافه إلا بالإنزال

(4)

.

وذهب المالكية إلى أنه يبطل اعتكافه مطلقًا

(5)

.

والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء أي أنه لا يبطل اعتكاف من باشر بشهوة إلا بالإنزال كالصوم

(6)

.

(1)

أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 541). وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (1/ 88) عن معمر عن قتادة.

(2)

«الإجماع» (ص 54)، وقد نقل الإجماع على ذلك ابن حزم «مراتب الإجماع» (ص 47)، وابن هبيرة كما في «الإفصاح» (1/ 258).

(3)

أخرجه البخاري (2046)، ومسلم (6/ 297).

(4)

«أحكام القرآن» للجصاص (1/ 246)، و «الأم» (2/ 106)، و «المدونة مع المقدمات» (2/ 197)، و «الكافي» لابن قدامة (1/ 373)، و «المجموع» (6/ 527) قال أبو حنيفة: إذا باشر المعتكف زوجته في غير الفرج فأنزل المني؛ فقد فسد اعتكافه، وهذا قول الإمام أحمد أيضًا.

(5)

قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ، أَنْ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، وَلَا يَتَلَذَّذَ مِنْهَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا «الموطأ» (338)

(6)

قال الطبري (تفسيره)(2/ 187): وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ

الْجِمَاعُ أَوْ مَا قَامَ مَقَامَ الْجِمَاعِ مِمَّا أَوْجَبَ غُسْلًا إِيجَابَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا قَوْلَ فِي ذَلِكَ إِلَّا أَحَدُ قَوْلَيْنِ: أَمَّا مَنْ جَعَلَ حُكْمَ الْآيَةِ عَامًّا، أَوْ جَعَلَ حُكْمَهَا فِي خَاصٍّ مِنْ مَعَانِي المبَاشَرَةِ. وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ نِسَاءَهُ كُنَّ يُرَجِّلْنَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَلما صح ذَلِكَ عَنْهُ، عُلم أَنَّ الَّذِي عُنِيَ بِهِ مِنْ مَعَانِي المبَاشَرَةِ الْبَعْضُ دُونَ الْجَمِيعِ

فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا ذَكَرْنَا مِنْ غَسْلِ عَائِشَةَ رَأْسَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ المرَادَ بِقَوْلِهِ:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المسَاجِدِ} [البقرة: 187] غَيْرُ جَمِيعِ مَا لَزِمَهُ اسْمُ المبَاشَرَةِ، وَأَنَّهُ مَعْنِيُّ بِهِ الْبَعْضُ مِنْ مَعَانِي المبَاشَرَةِ دُونَ الْجَمِيعِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ مُجْمَعًا عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ مِمَّا عُنِيَ بِهِ، كَانَ وَاجِبًا تَحْرِيمُ الْجِمَاعِ عَلَى المعْتَكِفِ وَمَا أَشْبَهَهُ.

ص: 443

•‌

‌ المبطل الثالث: إنزال المني:

وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: إنزاله باحتلام:

إذا احتلم المعتكف في منامه لم يفسد اعتكافه

(1)

.

•‌

‌ المطلب الثاني: إنزال المني بالفكر:

إذا فكر المعتكف في الجماع فأنزل، لم يفسد اعتكافه في قول جمهور العلماء

(2)

.

لما ورد في «الصحيحين»

(3)

من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ عز وجل تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لم تَعْمَلْ، أَوْ تَكَلم بِهِ» .

•‌

‌ المطلب الثالث: إذا استمنى المعتكف فأمنى، بطل اعتكافه.

•‌

‌ المبطل الرابع: الردة:

إذا ارتد المعتكف بطل اعتكافه

(4)

لعموم قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}

[الزمر: 65].

(1)

«بدائع الصنائع» (2/ 116)، و «جواهر الإكليل» (2/ 456)، و «روضة الطالبين» (2/ 392).

(2)

«تبيين الحقائق» (1/ 352)، و «روضة الطالبين» (2/ 392).

(3)

أخرجه البخاري (2528)، ومسلم (127).

(4)

«بدائع الصنائع» (2/ 116)، و «القوانين الفقهية» (ص 185)، و «الأم» (2/ 106)، و «الشرح الكبير» (3/ 145)، و «المبدع» (3/ 76)، و «الإنصاف» (3/ 383).

ص: 444

•‌

‌ المبطل الخامس: قطع نية الاعتكاف:

من نوى قطع الاعتكاف انقطع اعتكافه:

لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .

الحاصل في مبطلات الاعتكاف:

المبطل الأول: خروج المعتكف من المسجد بغير عذر.

ويستثنى من ذلك: الخروج للبول والغائط، والخروج للإتيان بالطعام والشراب إذا لم يكن له من يأتيه به، وكذا إن بغته القيء فله أن يخرج ليتقيأ خارج المسجد، وكل ما لابد منه ولم يكن له فعله في المسجد.

المبطل الثاني: إذا جامع المعتكف زوجته بطل اعتكافه بالإجماع:

المبطل الثالث: إذا باشر المعتكف زوجته فأنزل، أو استمنى بيده فأمنى بطل اعتكافه؛ لعموم قوله تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في المسَاجِدِ} .

المبطل الرابع: إذا ارتد المعتكف بطل اعتكافه؛ لأن الكافر لا تُقبل منه صلاة ولا اعتكاف ولا غيره؛ لعموم قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .

المبطل الخامس: من نوى قطع الاعتكاف انقطع اعتكافه؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .

* * *

ص: 445

‌الفصل الرابع ما يباح للمعتكف

1 -

يباح للمعتكف الأكل والشرب في المسجد بالإجماع.

2 -

يباح للمعتكف النوم في المسجد بالاتفاق.

3 -

يباح للمعتكف لبس الثياب الحسنة؛ لعموم قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .

4 -

يباح للمعتكف أن يلزم مكانًا في المسجد، دل على ذلك حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر دخل معتكفه.

5 -

يباح للمعتكف أخذ سنن الفطرة في المسجد مع المحافظة عليه وعدم تلويثه.

6 -

يباح للمعتكف الصلاة على الجنازة وعيادة المريض إذا كان ذلك في المسجد ولا يخرج منه.

7 -

يباح للمعتكف غسل رأسه وتسريحه؛ فعن عائشة: أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد.

8 -

يباح للمرأة زيارة زوجها المعتكف؛ ففي «الصحيحين»

(1)

عن عَلِيّ بْن الحُسَيْنِ: أَنَّ صَفِيَّةَ - زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ في اعْتِكَافِهِ في المسْجِدِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا يَقْلِبُهَا.

9 -

يباح للمعتكف أن يشحن هاتفه النقال من كهرباء المسجد؛ لأن هذا استخدام للوقف فيما وُضع له، ولحاجة المعتكف إلى ذلك، إذ هو ممنوع من الخروج، وحديثه في الهاتف النقال بقدر الحاجة يغنيه عن ذلك، وقياسًا على الإفادة من آلات التبريد والإنارة في المسجد

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (2035)، ومسلم (2175).

(2)

انظر: «أحكام الاعتكاف» (ص 264).

ص: 446

‌الفصل الخامس ما ينهى عنه المعتكف وقضاء الاعتكاف عنه

ينهى المعتكف عن البيع والشراء في المسجد:

لا يجوز للمعتكف البيع والشراء في المسجد؛ لما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ في المسْجِدِ

(1)

.

قال مالك: يشترى ويبيع إذا كان خفيفًا

(2)

.

قال الشافعي: لَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ، وَيَخِيطَ، وَيَتَحَدَّثَ، مَا لم يَكُنْ مَأْثَمًا

(3)

.

قال أحمد: المعْتَكِفُ لَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي إلَّا مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، طَعَامٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَأَمَّا التِّجَارَةُ وَالْأَخْذُ وَالْعَطَاءُ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

قال ابن المنذر: عندي لا يبيع ولا يشترى إلا ما لابد منه، إذا ما لم يكن له من يكفيه ذلك، فأما سائر التجارات، فإن فعلها في المسجد كُره، وإن خرج لها بطل اعتكافه، وإن خرج لقضاء حاجة الإنسان، فباع واشترى في مروره لم يُكره.

والراجح أن المعتكف لا يتشاغل بالبيع والشراء؛ لأن الاعتكاف قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، ولكن يشترى ما لابد منه، كشراء الأكل والشرب من

(1)

إسناده حسن: أخرجه أحمد (2/ 179)، وغيره، وقد توسعت في تخريجه في كتاب صور من البيوع المحرمة والمختلف فيها (ص 199).

(2)

انظر: «المدونة» (ص 199).

(3)

«المغني» (4/ 479).

ص: 447

خارج المسجد إذا لم يكن له من يأتي به.

دل على ذلك قوله تعالى: {في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} .

وعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذِهِ المسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عز وجل، وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ»

(1)

.

ولحديث عبد الله بن عمرو قال: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ في المسْجِدِ.

قضاء الاعتكاف الواجب على الميت من نذر وغيره

يستحب للولي أن يقضي عن الميت الاعتكاف الواجب، قياسًا على الصيام، دل على ذلك ما في «الصحيحين» من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»

(2)

.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (285).

(2)

أخرجه البخاري (1952)، ومسلم (1147).

ص: 448

‌الفصل السادس ليلة القدر

•‌

‌ فضل ليلة القدر:

قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} .

قال القرطبى: أي: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.

وفي «الصحيحين»

(1)

: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .

•‌

‌ الأحاديث الواردة في تعيين ليلة القدر:

1 -

ورد أنها في العشر الأواخر من رمضان:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَقُولُ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»

(2)

.

2 -

ورد أنها في الوتر من العشر الأواخر: عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»

(3)

.

3 -

ورد أنها في السبع الأواخر من رمضان: عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ»

(4)

.

4 -

ورد أنها في ليلة سبع وعشرين: عن أبى ذر رضي الله عنه قال: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَمَضَانَ، فَلم يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنْهُ، حَتَّى بَقِيَ سَبْعُ لَيَالٍ، فَقَامَ بِنَا لَيْلَةَ السَّابِعَةِ، حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ كَانَتِ اللَّيْلَةُ السَّادِسَةُ الَّتِي تَلِيهَا، فَلم يَقُمْهَا، حَتَّى كَانَتِ

(1)

أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (1167).

(2)

أخرجه البخاري (2020)، ومسلم (219)، (1169).

(3)

أخرجه البخاري (2027)، ومسلم (1167).

(4)

أخرجه مسلم (2206)، (1165).

ص: 449

الْخَامِسَةُ الَّتِي تَلِيهَا، ثُمَّ قَامَ بِنَا، حَتَّى مَضَى نَحْوٌ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ، فَقَالَ:«إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَإِنَّهُ يَعْدِلُ قِيَامَ لَيْلَةٍ» ، ثُمَّ كَانَتِ الرَّابِعَةُ الَّتِي تَلِيهَا، فَلم يَقُمْهَا، حَتَّى كَانَتِ الثَّالِثَةُ الَّتِي تَلِيهَا.

قَالَ: فَجَمَعَ نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ. قَالَ: فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، قِيلَ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السُّحُورُ

(1)

.

عَنْ عَبْدَةَ وَعَاصِمِ بْنِ أَبِى النَّجُودِ سَمِعَا زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ يَقُولُ: سَأَلْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ.

فَقال رحمه الله: أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلم أَنَّهَا في رَمَضَانَ وَأَنَّهَا في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. ثُمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِى أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَقُلْتُ: بِأَىِّ شَىْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا المنْذِرِ؟ قال: بِالْعَلَامَةِ أَوْ بِالآيَةِ الَّتِى أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا تَطْلُعُ يومئِذٍ لَا شُعَاعَ لَهَا

(2)

.

5 -

ورد أنها ليلة إحدى وعشرين: عن عبادة بن الصامت قال: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المسْلمينَ فَقال: «خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ، فَالْتَمِسُوهَا في التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ»

(3)

.

6 -

ورد أنها ليلة ثلاث وعشرين: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال «أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وَأَرَانِى صُبْحَهَا أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ» . قال: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الماءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ.

(1)

صحيح: أخرجه أحمد (5/ 163)، وأبو داود (1375)، والنسائي (3/ 83)، والترمذي (806)، وابن ماجه (1327)، وعبد الرزاق (7706)، وغيرهم من طرق: عن داود بن أبي هند، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن جبير بن نفير، عن أبي ذر به.

(2)

أخرجه مسلم (220)(762) كتاب الصيام.

(3)

أخرجه البخاري (2023).

ص: 450

قال: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.

(1)

.

7 -

ورد أنها في ليلة أربع وعشرين:

عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الْتَمِسُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ أربع وَعِشْرِينَ»

(2)

.

قال ابن المنذر: يتحراها مع ذلك في الوتر من ليالى العشر، وفى ليلة سبع وعشرين خاصة، وأحوط الأمر أن لا يغفل عن إحياء الليالى العشر، رجاءً أن لا تفوته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عَظَّم من أمرها فقال «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» قولًا عامًّا، يُرْجَى دخول جميع الذنوب كبيرها وصغيرها في ذلك.

قال المباركفورى

(3)

: وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال «اِلْتَمِسُوهَا في الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ في كُلِّ وِتْرٍ» ؛ فَالْأَرْجَحُ وَالْأَقْوَى أَنَّ كَوْنَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مُنْحَصِرَة في رَمَضَان في الْعَشْرِ الْأَخِيرِة مِنْهُ ثُمَّ في أَوْتَارِهِ لَا في لَيْلَةٍ مِنْهُ بِعَيْنِهَا.

قال الحافظ ابن حجر: وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهَا. وَقَالَ: قَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلماءُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَتَحَصَّلَ لَنَا مِنْ مَذَاهِبِهِمْ في ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ قَوْلًا، ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْأقوالٍ ثُمَّ قَالَ: وَأَرْجَحُهَا كُلِّهَا أَنَّهَا في وِتْرٍ مِنْ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَأَرْجَاهَا أَوْتَارُ الْعَشْرِ، وَأَرْجَى أَوْتَارِ الْعَشْرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٌ وَعِشْرِينَ، وَأَرْجَاهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ لَيْلَةُ سَبْع وَعِشْرِينَ.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (218)، (1168).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن نصر في «قيام رمضان» (262)، عن إسحاق، عن عبد الوهاب الثقفى، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا. وقال البخاري في «صحيحه» (2022): وعن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس:«الْتَمِسُوا فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ» يعنى ليلة القدر.

(3)

«تحفة الأحوذي» (3/ 505).

ص: 451

الباب الخامس زكاة الفطر

وفيه تمهيد وفصول

• التمهيد: وفيه مباحث:

• المبحث الأول: لماذا سميت بصدقة الفطر

• المبحث الثاني: ما الحكمة من مشروعية صدقة الفطر؟

• المبحث الثالث: حكم زكاة الفطر

ص: 452

‌الباب الخامس زكاة الفطر

زكاة الفطر

‌التمهيد:

وفيه مباحث:

‌المبحث الأول: لماذا سُميت بصدقة الفطر؟

سميت بصدقة الفطر لأنها تجب بالفطر من رمضان.

قال ابن حجر

(1)

: وَأُضِيفَتْ الصَّدَقَةُ لِلْفِطْرِ لِكَوْنِهَا تَجِبُ بِالْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَالَ اِبْنُ قُتَيْبَةَ: المرَادُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ صَدَقَةُ النُّفُوسِ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْخِلْقَةِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

•‌

‌ المبحث الثاني: ما الحكمة من مشروعية صدقة الفطر؟

• الحكمة من صدقة الفطر: طهرة للصائم من اللغو والرفث

(2)

، وطعمة للمساكين

(3)

.

عن ابن عباس {قال: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلمسَاكِينِ» .

(1)

«فتح الباري» (3/ 430).

(2)

فإن الصائم قد يعتريه في صيامه شيء من الخلل، وارتكاب بعض المكروهات ونحوها، فيحتاج إلى ما يطهر صيامه، فجُعلت هذه الصدقة طهرة للصائم من اللغو والرفث ونحوهما.

(3)

ذلك أن يوم العيد يوم يفرح به الناس؛ لإتمام صيامهم، فيظهرون فيه السرور والشكر والاعتراف للرب بالامتنان. ولما كان في الأمة فقراء وذوو حاجة شرع الله جل وعلا زكاة الفطر، حتى لا يُعرَّضون في مثل هذا اليوم للذل والإهانة.

ص: 453

•‌

‌ المبحث الثالث: حكم زكاة الفطر:

ذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أن زكاة الفطر فرض؛ لقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} ولقول ابن عمر {: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ

»

(1)

.

ومعنى فرض: ألزم وأوجب: فزكاة الفطر فرض واجب

(2)

.

* * *

(1)

البخاري (1503)، ومسلم (984).

(2)

«شرح مسلم» (7/ 49)، و «بداية المجتهد» (1/ 178). قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن صدقة الفطر فرض. قال ابن حجر «فتح الباري» (4/ 430): فَقَدْ نَقَلَ اِبْنُ المنْذِرِ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ بِالْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي التَّفْرِقَةِ. وَفِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ مَعَ ذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عُلَيَّةَ وَأَبَا بَكْرِ بْنَ كَيْسَانَ الْأَصَمَّ قَالَا: إِنَّ وُجُوبَهَا نُسِخَ.

وَاسْتُدِلَّ لَهُمَا بِمَا رَوَى النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلما نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لم يَأْمُرْنَا وَلم يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُهُ»

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيًا مَجْهُولًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى النَّسْخِ لِاحْتِمَالِ الِاكْتِفَاءِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ نُزُولَ فَرْضٍ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ فَرْضٍ آخَرَ.

قال ابن حزم «المحلى» (6/ 137): وَذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ

» الحديث.

وَهَذَا الْخَبَرُ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ لأَنَّ فِيهِ أَمْرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، فَصَارَ أَمْرًا مُفْتَرَضًا ثُمَّ لم يَنْهَ عَنْهُ، فَبَقِيَ فَرْضًا كَمَا كَانَ.

قلت: وقد توسعت في هذا البحث في كتابي «الجامع لأحكام الزكاة (ص 564 - 566).

ص: 454

‌الفصل الأول

• وفيه مباحث:

• المبحث الأول: على من تجب زكاة الفطر؟

• المبحث الثاني: زكاة فطر المرأة

• المبحث الثالث: زكاة فطر الصغير

• المبحث الرابع: هل على الجنين زكاة فطر؟

• المبحث الخامس: هل الدين يمنع الزكاة؟

• المبحث السادس: المقدار الواجب في صدقة الفطر

• المبحث السابع: هل يشترط النصاب لوجوب زكاة الفطر؟

• المبحث الثامن: ما مقدار الصاع؟

• المبحث التاسع: من أي الأصناف تخرج زكاة الفطر؟

• المبحث العاشر: هل يجوز أن يخرج بدلًا من البر والشعير دقيقًا أو سويقًا؟

• المبحث الحادي عشر: هل يعتبر غالب قوت بلده أو غالب قوته في نفسه؟

• المبحث الثاني عشر: هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقودًا؟

• المبحث الثالث عشر: متى تجب زكاة الفطر؟

• المبحث الرابع عشر: هل يجوز تقديم زكاة الفطر؟

• المبحث الخامس عشر: هل يجوز تأخير صدقة الفطر بعد صلاة العيد؟

• المبحث السادس عشر: هل يجوز تأخير زكاة الفطر بعد يوم العيد؟

• المبحث السابع عشر: مصارف صدقة الفطر

ص: 455

‌المبحث الأول: على من تجب زكاة الفطر؟

تجب زكاة الفطر على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين.

روى البخاري ومسلم

(1)

، عن ابن عمر {قال:«فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ المسْلمينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ» .

‌المبحث الثاني: زكاة فطر المرأة

لابد أن نفرق بين حالتين:

• الحالة الأولى: على من تجب زكاة فطر المرأة قبل الزواج؟

قال ابن المنذر

(2)

: وأجمعوا على أن المرأة قبل أن تُنكح تُخرج زكاة الفطر عن نفسها.

قلت: وذلك إذا كان عندها مال خاص بها، وإلا فيخرجها الأب، والله أعلم.

• الحالة الثانية: هل تجب على الزوجة زكاة الفطر عن نفسها، أم تجب على زوجها تبعًا للنفقة؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: قال أبو حنيفة والثوري وابن المنذر: يجب على الزوجة إخراج زكاة الفطر عن نفسها، ولا يجب على الرجل إخراج زكاة الفطر عن امرأته

(3)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في الصحيحين

(4)

، عن ابن عمر {: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

البخاري (1503)، ومسلم (984).

(2)

«الإجماع» (110).

(3)

انظر «نيل الأوطار» (4/ 214).

(4)

البخاري (1503)، ومسلم (984).

ص: 456

زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ المسْلمينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ.

وجه الدلالة منه ما قاله الشوكاني: قَوْلُهُ: (الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى) ظَاهِرُهُ وُجُوبُهَا عَلَى المرْأَةِ، سَوَاءً كَانَ زَوْجٌ أَوْ لَا

(1)

.

• القول الثاني: قال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق: تجب زكاة فطر المرأة على زوجها تبعًا للنفقة.

واستدلوا بحديث ابن عمر {أن النبي صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى عمَّنْ تَمُونُونَ

(2)

.

واعترض عليه بما قاله ابن التركماني

(3)

: الحديث الذي فيه (ممَّن تمونون) لا يخلو من ضعف كما بينه البيهقي.

وقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: «على الذكر والأنثى» . من حديث ابن عمر - دليل على سقوط صدقة الزوجة عن الزوج ووجوبها عليها، فلا تسقط عنها إلا بدليل، ولأنه يلزمها الإخراج عن عبيدها، فلأن يلزمها عن نفسها أَوْلى، ويلزم الشافعي الإخراج عن أجيره ورقيقه الكافر لأنه يمونهما.

قال ابن حزم

(4)

: وَلَيْسَ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْ أَبِيهِ، وَلا عَنْ أُمِّهِ، وَلا عَنْ زَوْجَتِهِ، وَلا عَنْ وَلَدِهِ، وَلا أَحَدٍ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ. وذكر قولَه تعالى:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]

واستدل بحديث البخاري (الذكر والأنثى).

(1)

«نيل الأوطار» (4/ 214).

(2)

الشطر الأول من الحديث أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر، والشطر الثاني «ممَّن تمونون» ضعيف. أخرجه الدارقطني «السنن» (2/ 140)، وقد توسعت في تخريجه في «الجامع لأحكام الزكاة» (ص 568 - 569).

(3)

«الجوهر النقي» (4/ 160).

(4)

«المحلى» (6/ 137).

ص: 457

•‌

‌ المبحث الثالث: زكاة فطر الصغير:

لابد أن نفرق بين حالتين:

• الحالة الأولى: الأطفال الذين لا أموال لهم لا تجب عليهم زكاة الفطر بالإجماع، إنما تجب على الأب.

قال ابن المنذر

(1)

: وأجمعوا على أن صدقة الفطر تجب على المرء إذا أمكنه أداؤها عن نفسه وأولاده الأطفال الذين لا أموال لهم.

• الحالة الثانية: هل تجب زكاة الفطر على الأطفال الذين لهم أموال؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

• القول الأول: قال ابن رشد

(2)

: «وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَى المرْءِ في أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ إِذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ زَكَاةُ فِطْرٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ» .

حجة الجمهور: روى البخاري ومسلم عن ابن عمر {: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.

وجه الدلالة منه: ما قاله الشوكاني

(3)

: قَوْلُهُ: (الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ) وُجُوبُ فِطْرَةِ الصَّغِيرِ في مَالِهِ، وَالمخَاطَبُ بِإِخْرَاجِهَا وَلِيُّهُ إنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ، وَإِلَّا وَجَبَتْ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.

• القول الثاني: قال ابن رشد: قال الحسن: هي على الأب، وإن أعطاها من مال الابن فهو ضامن

(4)

.

قال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقًا، فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه

(5)

.

(1)

«الإجماع» (107).

(2)

«بداية المجتهد» (1/ 279).

(3)

«نيل الأوطار» (4/ 214).

(4)

«بداية المجتهد» (1/ 279).

(5)

«فتح الباري» (3/ 432).

ص: 458

• القول الثالث: لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ صَامَ، قاله سَعِيد بْن المسَيِّبِ وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ.

واستدل لهذا القول بحديث ابن عباس {: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلمسَاكِينِ.

وجه الدلالة منه: (طهرة للصائم) والصغير لا يجب عليه صيام فلا تجب عليه زكاة فطر.

واعترض عليه بما قاله ابن حجر

(1)

: وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَ التَّطْهِيرِ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ، كَمَا أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لم يُذْنِبْ كَمُتَحَقِّقِ الصَّلَاحِ، أَوْ مَنْ أَسْلم قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِلَحْظَةٍ.

والراجح: أنه لا يجب على المرء في أولاده الصغار زكاة الفطر إذا كان لهم مال، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الرابع: هل على الجنين زكاة فطر؟

قال ابن المنذر

(2)

: وأجمعوا على أن لا زكاة على الجنين في بطن أمه، وانفرد ابن حنبل فكان يحبه ولا يوجبه.

قلت: وهذا الإجماع منخرم؛ فقد ورد عن الإمام أحمد في رواية أن زكاة الفطر تجب على الجنين

(3)

.

قلت: وكذا ذهب ابن حزم إلى الوجوب

(4)

.

واستدلوا لذلك بالسنة والمأثور والمعقول:

أما دليلهم من السنة: فعن ابن عمر {قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الصغير والكبير

».

(1)

«فتح الباري» (3/ 432).

(2)

«الإجماع» (111).

(3)

«المغني» (4/ 316) قال ابن قدامة: وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، تَصِحُّ

الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَبِهِ وَيَرِثُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ، وَيُقَاسُ عَلَى الموْلُودِ.

(4)

«المحلى» (6/ 132) قال ابن حزم: وَأَمَّا الْحَمْلُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَهَا عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وَالْجَنِينُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ صَغِيرٍ، فَإِذَا أَكْمَلَ مِائَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ قَبْلَ انْصِدَاعِ الْفَجْرِ مِنْ لَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَجَبَ أَنْ تُؤَدَّى عَنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ.

ص: 459

وجه الدلالة منه: أن الجنين يقع عليه اسم صغير.

واعترض عليه بأن الجنين غير الصغير، وإذا أُطلق الصغير فإنما يطلق على المولود.

أمادليلهم من المأثور: فعن بكر بن عبد الله المزني وقتادة: أن عثمان كان يعطي زكاة الفطر عن الصغير والكبير والحمل

(1)

.

والراجح والله أعلم: هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم أنه لا تجب الزكاة على الجنين في بطن أمه، وإن أخرجها على وجه الاستحباب فَحَسَن.

قال ابن قدامة

(2)

: وَمَنْ أَخْرَجَ عَنِ الْجَنِينِ فَحَسَنٌ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ عَمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، فَكَانَتْ مُسْتَحَبَّةً كَسَائِرِ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ.

•‌

‌ المبحث الخامس: هل الدَّين يمنع الزكاة؟

إذا كان دينًا مؤجلًا لم يمنع الزكاة وإذا كان دينًا حالًّا يمنع الزكاة.

قال ابن قدامة: وَمَنْ كَانَ في يَدِهِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ، لَزِمَهُ أَنْ يُخْرِجَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِالدَّيْنِ، فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، إنَّمَا لم يَمْنَعِ الدَّيْنُ الْفِطْرَةَ؛ لِأَنَّهَا آكَدُ وُجُوبًا بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ، وَشُمُولِهَا لِكُلِّ مُسْلم قَدَرَ عَلَى إخْرَاجِهَا، وَوُجُوبِ تَحَمُّلِهَا عَمَّنْ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِقَدْرٍ مِنْ المالِ فَجَرَتْ مَجْرَى النَّفَقَةِ، وَلِأَنَّ زَكَاةَ المالِ تَجِبُ بِالملْكِ، وَالدَّيْنُ يُؤَثِّرُ في الملْكِ، فَأَثَّرَ فِيهَا، وَهَذِهِ تَجِبُ عَلَى الْبَدَنِ، وَالدَّيْنُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، وَتَسْقُطُ الْفِطْرَةُ عِنْدَ المطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ

(1)

ضعيف: أخرجه ابن حزم «المحلى» (6/ 132) قال: روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا المعتمر بن سليمان التيمي عن حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني وقتادة.

وبكر بن عبد الله المزني، قال أبو حاتم: روايته عن أبي ذر مرسلة. قال ابن معين: لم يسمع بكر من المغيرة. وبكر بن عبد الله المزني مات سنة (106 هـ)، ومات عثمان سنة (35 هـ) فلا يظن أنه أدركه، والله أعلم.

ومن طريق عبد الرزاق عن مالك عن رجل عن سليمان بن يسار أنه سئل عن الحمل: أيزكى عنه؟ قال: نعم.

(2)

«المغني» (4/ 316).

ص: 460

لِوُجُوبِ أَدَائِهِ عِنْدَ المطَالَبَةِ، وَتَأَكُّدِهِ بِكَوْنِهِ حَقَّ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ، وَكَوْنُهُ أَسْبَقَ سَبَبًا وَأَقْدَمَ وُجُوبًا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِهِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ غَيْرَ الْفِطْرَةِ، وَإِنْ لم يُطَالَبْ بِهِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ المطَالَبَةِ إنَّمَا هُوَ في إلْزَامِ الْأَدَاءِ وَتَحْرِيمِ التَّأْخِيرِ

(1)

.

•‌

‌ المبحث السادس: المقدار الواجب في صدقة الفطر:

• إخراج صاع من كل الأصناف بالإجماع عدا الحنطة والزبيب، فمختلف فيهما:

قال النووي

(2)

: فأما إن كان غير حنطة وزبيب، وجب صاع بالإجماع.

قال ابن رشد

(3)

: فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يؤدي في زكاة الفطر من التمر والشعير أقل من صاع؛ لثبوت ذلك في حديث ابن عمر.

المقدار الواجب في الحنطة والزبيب:

اختلف أهل العلم في المقدار الواجب في الحنطة والزبيب على قولين:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجزئ من الحنطة والزبيب أقل من صاع، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد

(4)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر {أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنَ المسْلمينَ.

وجه الدلالة منه: ما قاله الحافظ ابن حجر

(5)

: وَكَأَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ثَبَتَ ذِكْرُهَا في حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ لما كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً في مِقْدَارِ مَا يُخْرَجُ مِنْهَا مَعَ مَا يُخَالِفُهَا في الْقِيمَةِ - دَلَّ عَلَى أَنَّ المرَادَ إِخْرَاجُ هَذَا المقْدَارِ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا. هَذِهِ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ.

(1)

«المغني» (4/ 316).

(2)

«شرح صحيح مسلم» (3/ 417).

(3)

«بداية المجتهد» (1/ 281).

(4)

«المغني» (4/ 285).

(5)

«فتح الباري» (4/ 437).

ص: 461

وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْهَا بَدَلَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّ قِيَمَ مَا عَدَا الْحِنْطَةَ مُتَسَاوِيَةٌ، وَكَانَتْ الْحِنْطَةُ إِذْ ذَاكَ غَالِيَةَ الثَّمَنِ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ تُعْتَبَرَ الْقِيمَةُ في كُلِّ زَمَانٍ فَيَخْتَلِفُ الْحَالُ وَلَا يَنْضَبِطُ.

• القول الآخر: ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجزئ من البُر نصف صاع

(1)

.

واستدلوا لذلك بأدلة، منها:

الدليل الأول: عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعير العُذْري: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ فَقَالَ: «أَدُّوا صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ»

(2)

.

واعترض عليه: بأن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الدليل الثاني: روى مسلم

(3)

: عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، فَلم نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، فَكَلم النَّاسَ عَلَى المنْبَرِ، فَكَانَ فِيمَا كَلم بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ: إِنِّى أُرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ. فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ.

وجه الدلالة: فعل معاوية رضي الله عنه يدل على أنه يجزئ نصف صاع من البُر.

واعترض عليه من أوجه:

الأول: قَالَ النَّوَوِيُّ: تَمَسَّكَ بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ مَنْ قَالَ بِالمدَّيْنِ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ أَبُو سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ هُوَ أَطْوَلُ صُحْبَةً مِنْهُ

(1)

«المغني» (4/ 285).

(2)

ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 432)، وأبو داود (1621) وغيرهما، وقد توسعت في تخريجه في كتابي «الجامع لأحكام الزكاة» (ص 576 - 577)، وقد قال البيهقي في «الكبرى» (4/ 170): وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم فِى صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَوَرَدَتْ أَخْبَارٌ فِى نِصْفِ صَاعٍ، وَلَا يَصِحُّ شَىْءٌ مِنْ ذَلِكَ.

(3)

مسلم (985).

ص: 462

وَأَعْلم بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ صَرَّحَ مُعَاوِيَةُ بِأَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ لَا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الِاتِّبَاعِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْآثَارِ وَتَرْكٍ لِلْعُدُولِ إِلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَفِي صَنِيعِ مُعَاوِيَةَ وَمُوَافَقَةُ النَّاسِ لَهُ - دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَحْمُودٌ، لَكِنَّهُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ

(1)

.

والثاني: حُجَّة الْجُمْهُور حَدِيث أَبِي سَعِيد بَعْد هَذَا في قَوْله: (صَاعًا مِنْ طَعَام أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِير أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْر أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِط أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيب).

وَالدَّلَالَة فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّ الطَّعَام في عُرْف أَهْل الْحِجَاز اِسْم لِلْحِنْطَةِ خَاصَّة، لَاسِيَّمَا وَقَدْ قَرَنَهُ بِبَاقِي المذْكُورَات.

وَالثَّاني: أَنَّهُ ذَكَرَ أَشْيَاء قِيَمُهَا مُخْتَلِفَةٌ، وَأَوْجَبَ في كُلّ نَوْع مِنْهَا صَاعًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ المعْتَبَر صَاع وَلَا نَظَرَ إِلَى قِيمَتِهِ، وَوَقَعَ في رِوَايَة لِأَبِي دَاوُدَ:«أَوْ صَاعًا مِنْ حِنْطَة» قَالَ: وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ.

قلت: هذا هو الراجح، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث السابع: هل يُشترط النصاب لوجوب زكاة الفطر؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: قال مالك والشافعي وعطاء وأحمد بن حنبل وإسحاق: إنه يعتبر أن يكون مُخرج الفطرة مالكًا لقوت يوم وليلة

(2)

.

واستدلوا لهذا القول بما ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر {قال: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ - عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى» .

وجه الدلالة: «على العبد والحر» ، ويشمل الغني والفقير الذي لا يملك نصابًا، وخاصة

ص: 463

أن العبد لا يملك نصابًا.

• القول الثاني: ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن زكاة الفطر لا تجب إلا على الغني

(1)

.

واستدلوا لذلك بما يلي:

روى البخاري ومسلم واللفظ له

(2)

: عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ - أَوْ خَيْرُ الصَّدَقَةِ - عَنْ ظَهْرِ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» .

قال ابن قدامة

(3)

: استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَالْفَقِيرُ لَا غِنَى لَهُ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا.

واعترض عليه بأن هذا الحديث عام، وقد ورد في زكاة الفطر أنها تجب على العبد والحر، والعبد لا يملك نصابًا؛ لأنه هو وماله لسيده، فدل ذلك على أن صدقة الفطر تجب على مَنْ مَلَك قوت يوم وليلة ولو كان فقيرًا، ولأن الحديث الذي ذكرناه خاص بزكاة الفطر، وإذا تعارض الخاص والعام، قُدِّم الخاص على العام، والله أعلم.

واستدلوا أيضًا بالقياس على زكاة المال، فقالوا: كما أن زكاة الأموال لا تجب إلا على الغني، فكذا زكاة الفطر.

واعترض عليه بأنه قياس مع الفارق؛ لأن الزكاة متعلقة بالأموال بينما زكاة الفطر متعلقة بالأبدان ولأنها تجب بالفطر من رمضان.

قال الشوكاني: وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ؛ إذْ وُجُوبُ الْفِطْرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَبْدَانِ، وَالزَّكَاةِ بِالْأَمْوَالِ.

والراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء من أنه لا يشترط النصاب لوجوب زكاة الفطر، بل يعتبر أن يكون مُخرج زكاة الفطر مالكًا لقوت يوم وليلة؛ لقول ابن عمر: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ.

(1)

«المغني» (4/ 307).

(2)

البخاري (1427)، ومسلم (1034).

(3)

«المغني» (4/ 307).

ص: 464

والعبد لا يملك نصابًا؛ لأنه هو وماله لسيده، فدل ذلك على أن صدقة الفطر تجب على مَنْ مَلَك قوت يوم وليلة ولو كان فقيرًا.

قال الشوكاني: الحق أن الزكاة تجب على مَنْ مَلَك قوت يوم وليلة؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ أُطْلِقَتْ وَلم تَخُصَّ غَنِيًّا وَلَا فَقِيرًا، وَلَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ في تَعْيِينِ المقْدَارِ الَّذِي يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مُخْرِجُ الْفِطْرَةِ مَالِكًا لَهُ، لَا سِيَّمَا الْعِلَّةُ الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا الْفِطْرَةُ مَوْجُودَةٌ في الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَهِيَ التَّطْهِرَةُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَاعْتِبَارُ كَوْنِهِ وَاجِدًا لِقُوتِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ المقْصُودُ مِنْ شَرَعِ الْفِطْرَةِ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ في ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ وَقَالَ: «أَغْنُوهُمْ في هَذَا الْيَوْمِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ: «أَغْنُوهُمْ عَنْ طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ» .

وقد أفتى المجمع الفقهي بأن زكاة الفطر واجبة على كل مسلم يملك قوت نفسه ومن تلزمه نفقته يوم العيد وليلته فاضلًا عن حوائجه الأصلية

(1)

.

•‌

‌ المبحث الثامن: ما مقدار الصاع؟

قال الشوكاني

(2)

: قال في البحر: الصاع: أربعة أمداد إجماعًا.

قال النووي

(3)

: قال جماعة من العلماء: الصاع أربع حفنات بكَفَّيْ رجل معتدل الكفين.

قال الماوردي

(4)

: فأما مقدار الصاع المؤدى فهو أربعة أمداد بمُد النبي صلى الله عليه وسلم.

•‌

‌ المبحث التاسع: من أي الأصناف تُخرج زكاة الفطر؟

اختلف أهل العلم في الأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر على أقوال

(5)

:

(1)

انظر «فتاوى وتوصيات الندوة السادسة لقضايا الزكاة المنعقدة بالإمارات» (ص 899، 900).

(2)

«نيل الأوطار» (4/ 219).

(3)

«روضة الطالبين» (2/ 162).

(4)

«الحاوي» (3/ 456).

(5)

قال ابن رشد «بداية المجتهد» (1/ 281): وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مَنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ» . فَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ التَّخْيِيرَ، قَالَ: أَيًّا أَخْرَجَ مِنْ هَذَا أَجْزَأَ عَنْهُ. وَمَنْ فَهِمَ مِنْهُ أَنَّ اخْتِلَافَ المخْرَجِ لَيْسَ سَبَبُهُ الْإِبَاحَةَ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ اعْتِبَارُ قُوتِ المخْرِجِ أَوْ قُوتُ غَالِبِ الْبَلَدِ قَالَ بِالْقَوْلِ الثَّانِي.

ص: 465

• القول الأول: ذهب مالك

(1)

والشافعي

(2)

: أنها تخرج من غالب قوت البلد.

قالوا: إن هذه الأصناف المذكورة في الحديث ليست تعبدية وخُصت بالذكر لأنها غالب قوت أهل المدينة.

ومما يستدل به لهذا القول: ما رواه البخاري ومسلم

(3)

عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ - صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ.

وجه الدلالة منه: «صَاعًا مِنْ طَعَامٍ» ، تدل على عموم الطعام، وغالب قوت أهل البلد.

ونوقش هذا الاستدلال بأن المراد بالطعام الحنطة، قال الحافظ ابن حجر: وَقَدْ حَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ المرَادَ بِالطَّعَامِ هُنَا الْحِنْطَةُ، وأجيب عنه بما رواه البخاري

(4)

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ وَالتَّمْرُ.

(1)

قال ابن قدامة «المغني» (4/ 295): قَالَ مَالِكٌ: يُخْرِجُ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ.

(2)

قال الماوردي «الحاوي» (4/ 417): قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَيُّ قُوتٍ كَانَ الْأَغْلَبَ عَلَى الرَّجُلِ أَدَى مِنْهُ زَكَاةَ الْفِطْرِ كَانَ حِنْطَةً أَوْ ذُرَةً أَوْ عَلَسًا أَوْ شَعِيرًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا.

(3)

البخاري (1506)، ومسلم (985).

(4)

البخاري (1510).

ص: 466

قال ابن حجر

(1)

: «وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ اِبْنُ المنْذِرِ وَقَالَ: ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ قَوْلَهُ في حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ: «صَاعًا مِنْ طَعَامٍ» حُجَّةٌ لمنْ قَالَ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ أَجْمَلَ الطَّعَامَ ثُمَّ فَسَّرَهُ، ثُمَّ أَوْرَدَ طَرِيقَ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ المذْكُورَةَ في الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِيمَا قَالَ، وَلَفْظُهُ:«كُنَّا نُخْرِجُ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَكَانَ طَعَامُنَا الشَّعِيرَ وَالزَّبِيبَ وَالْأَقِطَ وَالتَّمْرَ» .

فدل قوله: «وَكَانَ طَعَامَنَا» أن الزكاة تخرج من غالب قوت أهل البلد.

• القول الثاني: قال ابن قدامة

(2)

: «وَمَنْ قَدَرَ عَلَى التَّمْرِ، أَوْ الزَّبِيبِ، أَوْ الْبُرِّ، أَوْ الشَّعِيرِ، أَوْ الْأَقِطِ فَأَخْرَجَ غَيْرَهُ لم يُجْزِهِ» .

واستدلوا لهذا القول: بما ورد في الصحيح عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه يَقُولُ: كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ.

وجه الدلالة منه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ أَجْنَاسًا مَعْدُودَةً، فَلم يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهَا.

• القول الثالث: ذهب ابن حزم إلى أنه لا يجوز إخراج زكاة الفطر من غير التمر والشعير

(3)

.

واستدل لذلك بأثر ابن عمر: فعن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبُرُّ أفضل من التمر؟ يعني في صدقة الفطر، فقال له ابن عمر: إن أصحابي سلكوا

(1)

«فتح الباري» (3/ 436).

(2)

«المغني» (4/ 292). قال ابن قدامة: ظَاهِرُ المذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ المعْدُولُ إلَيْهِ قُوتَ بَلَدِهِ أَوْ لم يَكُنْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَتَوَجَّهُ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُعْطِي مَا قَامَ مَقَامَ الْخَمْسَةِ، عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، وَالطَّعَامُ قَدْ يَكُونُ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ وَمَا دَخَلَ فِي الْكَيْلِ. قَالَ: وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مُحْتَمَلٌ، وَأَقْيَسُهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُ الْخَمْسَةِ.

(3)

قال ابن حزم في «المحلى» (6/ 119): وَأَجَازَ قَوْمٌ أَشْيَاءَ غَيْرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ قَوْمٌ: يُجْزِئُ فِيهَا الْقَمْحُ. وَقَالَ آخَرُونَ: وَالزَّبِيبُ، وَالأَقِطُ. وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ مِنْهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا يُخْرِجُ كُلُّ أَحَدٍ مِمَّا يَأْكُلُ وَمِنْ قُوتِ أَهْلِ بَلَدِهِ، فَقُلْنَا: هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلة بِلا بُرْهَانٍ، ثُمَّ قَدْ نَقَضْتُمُوهَا لأَنَّهُ إنَّمَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ لا الْحَبَّ، فَأَوْجَبُوا أَنْ يُعْطِيَ خُبْزًا لأَنَّهُ هُوَ أَكَلَهُ، وَهُوَ قُوتُ أَهْلِ بَلَدِهِ، فَإِنْ قَالُوا: هُوَ غَيْرُ مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ. قُلْنَا: صَدَقْتُمْ، وَكَذَلِكَ مَا عَدَا التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ. وَقَالُوا: إنَّمَا خَصَّ عليه السلام بِالذَّكَرِ - التَّمْرَ، وَالشَّعِيرَ؛ لأَنَّهُمَا كَانَا قُوتَ أَهْلِ المدِينَةِ. وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ جِدًّا؛ أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكْشُوفٌ؛ لأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ قَوَّلَهُ عليه السلام مَا لم يَقُلْ؛ وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا.

ص: 467

طريقًا فأنا أحب أن أسلكه

(1)

.

واعترض بما قاله العلامة أحمد شاكر

(2)

: «من تأمل طريق الأحاديث الواردة في زكاة الفطر وفقه معناها، مع اختلاف في ألفاظها عن الصحابة}، عَلم أن ابن حزم لا حجة له في الاقتصار على إخراج التمر والشعير، وهذا معاوية بحضرة الصحابة} رأى مُدَّين من سمراء الشام، بدل صاع من شعير أو غيره، ولم ينكر عليه ذلك أحد، أي إخراج القمح موضع الشعير، وإنما أنكر أبو سعيد المقدار، فرأى إخراج صاع من قمح.

وابن عمر إنما كان يُخرج من خاصة نفسه ما كان يُخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر على من أخرج غير ذلك، ولو رأى عمل الناس باطلًا وهم الصحابة والتابعون لأنكره أشد إنكار، وقد كان رضي الله عنه يتشدد في أشياء، لا على سبيل التشريع، بل على سبيل الحرص على الاتباع فقط، كما كان ينزل في مواضع نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ير أحد من المسلمين ذلك واجبًا.

والراجح: أن زكاة الفطر تخرج من غالب قوت البلد، وأما الأصناف المذكورة في الحديث فإنها ليست تعبدية، وخُصت بالذكر لأنها غالب قوت أهل المدينة، والله أعلم.

سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله:

هل الأنواع التي تخرج في صدقة الفطر محددة؟ وإن كانت كذلك فما هي؟

فأجاب: الواجب إخراجها من قوت البلد، سواء كانت: تمرًا، أو شعيرًا أو بُرًّا، أو ذرة، أو غير ذلك، نوعًا معينًا، ولأنها مواساة، وليس على المسلم أن يواسي من غير قوته

(3)

.

وسئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حفظه الله:

(1)

أخرجه ابن زنجويه (3/ 1249): أنا النضر بن شميل، أخبرنا عمران بن حدير، عن أبي مجلز به. وأخرجه ابن حزم «المحلى» (6/ 119) من طريق وكيع عن عمران بن حدير عن أبي مجلز به.

(2)

«المحلى» (132، 131).

(3)

«فتاوى الصيام» (ص 913، 912).

ص: 468

ما الأطعمة التي يجوز إخراج زكاة الفطر منها؟

فأجاب: ورد في الحديث أنها تخرج من خمسة أشياء وهي:

1 -

البُر 2 - والشعير 3 - والتمر 4 - والزبيب 5 - والأقط.

لكن ذكر بعض العلماء المحققين أن تخصيص هذه الخمسة، حيث إنها المستعملة في ذلك الوقت، وأجاز إخراجها من غالب قوت البلد كالأرز مثلًا والذرة في البلاد التي تقتاتها ونحو ذلك، والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم

(1)

.

•‌

‌ المبحث العاشر: هل يجوز أن يخرج بدلًا من البر والشعير دقيقًا أو سويقًا،

أو بدلًا من التمر دبسًا وغيره من الأشياء؟

• أقوال أهل العلم:

أجاز أبو حنيفة ذلك، على أصله؛ جواز القيم في الزكوات.

وأجاز مالك الدقيق بدلًا من الحب، مع وفاقه أن القيم في الزكوات لا تجوز.

وقال الشافعي: ولا يؤدي إلا الحب نفسه.

وجه الشافعية ما قاله الماوردي: «الْحَبّ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَامِلُ المنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلْبَذْرِ وَالطَّحْنِ وَالْهَرْسِ وَالِادِّخَارِ، وَالدَّقِيقُ مَسْلُوبُ المنَافِعِ إِلَّا الِاقْتِيَاتَ، فَلم يَجُزْ إِخْرَاجُهُ لِنَقْصِ مَنَافِعِهِ» .

والراجح، والله أعلم: أن الدقيق يجوز إخراجه بدلًا من الحب؛ لأن الفقير غالبًا ما يستعمله في الأكل، والدقيق أسهل، ولأن الفقير ربما يحتاج إلى طحن الغلال، فيكون الدقيق أسهل وأيسر.

•‌

‌ المبحث الحادي عشر: هل يعتبر غالب قوت بلده، أو غالب قوته في نفسه؟

على وجهين - ذكرهما النووي -:

• أحدهما: وهو ظاهر نص الشافعي ها هنا وفي «الأم» ، وبه قال أبو سعيد

(1)

انظر «فتاوى الصيام» (ص 913).

ص: 469

الإصطخري، وأبو عبيد بن حربويه من أصحابنا: إن الاعتبار بغالب قوته في نفسه؛ لقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89].

ولأنه مخاطب بفرض نفسه، فوجب أن يكون اعتباره بقوت نفسه.

• القول الثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج، وأبي إسحاق المروزي: إن الاعتبار بغالب قوت بلده؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب أهل المدينة جميعًا بغالب أقواتهم. ولأن في اعتبار غالب قوت البلد توسعة ورفقًا، وفي اعتبار كل واحد مشقة وضيق، وما أدى إلى التوسعة والرفق في المواساة أَوْلى.

قلت (محمد): وهذا هو الراجح، وأما من استدل بالآية فالآية في كفارة اليمين، وأما الحديث الوارد في زكاة الفطر فهو خاص، والرسول صلى الله عليه وسلم حدد فيه أصنافًا على الغني والفقير والصغير والكبير، وهي من غالب قوت أهل البلد، ولكن ينبغي للغني أن يكثر من الصدقات مع زكاة الفطر، ولا يكتفي بها وحدها، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الثاني عشر: وهل يجوز إخراج زكاة الفطر نقودًا؟

(1)

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنه لا يجوز إخراج زكاة الفطر من النقود

(2)

.

واستدلوا لذلك بالقرآن والسنة والمعقول:

أما دليلهم من القرآن: فعموم قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} فهذا أمر، والأمر يقتضي

(1)

هناك رسالة بعنوان: «هل تجزئ القيمة في الزكاة؟» لفضيلة الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم، وهي نافعة ومفيدة في هذا الباب وقد أفدت منها كثيرًا. فاللهَ أسأل أن يسعده بجنته، وأن يشمله برحمته، وأن يكرمه بمغفرته، وأن ينفع به وبعلمه الإسلام والمسلمين وأن يبارك له في أهله وذريته أجمعين، وأن يجمعني وإياه مع سيد الأنبياء والمرسلين في جنات النعيم.

(2)

قال النووي «المجموع» (5/ 428): مذهبنا أنه لا يجوز إخراج القيمة في شيء من الزكوات، وبه قال مالك وأحمد وداود.

ص: 470

الوجوب، وهذه الزكاة تؤدى كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤديها، والزكاة عبادة كالصلاة، قال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وقال صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فكذا فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعًا من تمر وصاعًا من شعير، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَكَ المفْرُوضَ.

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ، وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» . وَهُوَ وَارِدٌ بَيَانًا لمجْمَلِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} فَتَكُونُ الشَّاةُ المذْكُورَةُ هِيَ الزَّكَاةُ المأْمُورُ بِهَا، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ الصَّدَقَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى، فَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي كَتَبَهُ في الصَّدَقَاتِ أَنَّهُ قَالَ:«هَذِهِ الصَّدَقَةُ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى. وَكَانَ فِيهِ: في خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَإِنْ لم تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ عَيْنَهَا لِتَسْمِيَتِهِ إيَّاهَا. وَقَوْلُهُ: «فَإِنْ لم تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ» وَلَو أَرَادَ المالِيَّةَ أَوْ الْقِيمَةَ لم يَجُزْ; لِأَنَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَا تَخْلُو عَنْ مَالِيَّةِ بِنْتِ مَخَاضٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:«فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ» فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ المالِيَّةَ لَلَزِمَهُ مَالِيَّةُ بِنْتِ مَخَاضٍ

(1)

.

أما دليلهم من السنة: ففي الصحيحين

(2)

من حديث ابن عمر {قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ.

والدليل الثاني: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «خُذِ الْحَبَّ مِنَ الْحَبِّ، وَالشَّاةَ مِنَ الْغَنَمِ، وَالْبَعِيرَ مِنَ الإِبِلِ، وَالْبَقَرَةَ مِنَ الْبَقَرِ»

(3)

.

وجه الدلالة منه: أنه تجب الزكاة من العين، ولا يعدل عنها إلى القيمة إلا عند عدمها.

قال ابن قدامة: وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَشُكْرًا لِنِعْمَةِ المالِ،

(1)

«المغني» (4/ 296).

(2)

البخاري (1503)، ومسلم (984).

(3)

ضعيف أُعل بالانقطاع: أخرجه أبو داود «السنن» (1599)، وابن ماجه «السنن» (1814)، والحاكم «المستدرك» (1/ 388) وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، إن صح سماع عطاء بن يسار من معاذ بن جبل، فإني لا أثبته. قال الذهبي: قلت: لم يلقه.

ص: 471

وَالْحَاجَاتُ مُتَنَوِّعَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَنَوَّعَ الْوَاجِبُ لِيَصِلَ إلَى الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ، وَيَحْصُلُ شُكْرُ النِّعْمَةِ بِالموَاسَاةِ مِنْ جِنْسِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ، وَلِأَنَّ مُخْرِجَ الْقِيمَةِ قَدْ عَدَلَ عَنْ المنْصُوصِ، فَلم يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَ الرَّدِيءَ مَكَانَ الْجَيِّدِ

(1)

.

أما دليلهم من القياس: فكما أن الأضحية عبادة في وقت محدد، ولا تجزئ من غير الأنعام الثمانية، ولا يجزئ دفع قيمة الأضحية للفقراء عن الأضحية، وإن كانت حاجات الفقراء تتنوع مع أنه يوم عيد يحتاج الفقير أن يتزين فيه، وغير ذلك من الضروريات، فإذا كان ذلك لا يجزئه عن الأضحية، فكذا صدقة الفطر فَرَضها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام وهي عبادة، فتقاس على الأضحية.

قال النووي

(2)

: ولا يجوز أخذ القيمة في شيء من الزكاة؛ لأن الحق لله تعالى، وقد علقه على ما نص عليه، فلا يجوز ذلك إلى غيره كالأضحية.

• القول الآخر: القائلون بجواز دفع القيمة (المال) في زكاة الفطر:

قال الثوري وأبو حنيفة: يجوز.

وقد رُوى عن عمر بن عبد العزيز، والحسن، وقد رُوي عن أحمد مثل قولهم فيما عدا الفطرة

(3)

.

بعض الآثار التي تؤيد هذا القول:

عَنْ قُرَّةَ قَالَ: جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ في صَدَقَةِ الْفِطْرِ: نِصْفُ صَاعٍ عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ، أَوْ قِيمَتُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ

(4)

.

(1)

«المغني» (4/ 297).

(2)

«المجموع» (5/ 428).

(3)

«المغني» (4/ 295).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 174) قال: حدثنا وكيع عن قرة به، وقرة بن خالد السدوسي ثقة ثبت. قال ابن أبي شيبة «المصنف» (3/ 174): حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ عَوْفٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يُقْرَأُ على عَدِيٍّ بِالْبَصْرَةِ: يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ مِنْ أَعْطِيَّاتِهِمْ، عَنْ كُلِّ إنْسَانٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ.

ورد أثر عن عمر بن الخطاب أنه كان يأخذ العروض في الصدقة، ولكن فيه مقال، قال ابن أبي شيبة (3/ 181): حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ؛ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَأْخُذُ الْعُرُوضَ فِي الصَّدَقَةِ مِنَ الْوَرِقِ وَغَيْرِهَا. وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.

ص: 472

عَنْ زُهَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ: أَدْرَكْتُهُمْ وَهُمْ يُعْطُونَ، في صَدَقَةِ رَمَضَانَ - الدَّرَاهِمَ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ

(1)

.

أثر الحسن البصري: قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تُعْطَى الدَّرَاهِمُ في صَدَقَةِ الْفِطْرِ

(2)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة:

الدليل الأول: عن ابن عمر {قال: فَرَض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وقال: «أَغْنُوهُمْ في هَذَا الْيَوْمِ»

(3)

.

وجه الدلالة منه: (أَغْنُوهُمْ) والغنى يحصل بالمال كما يحصل بالأعيان.

قال السرخسي

(4)

: «فَإِنْ أَعْطَى قِيمَةَ الْحِنْطَةِ جَازَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ المعْتَبَرَ حُصُولُ الْغِنَى وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحِنْطَةِ، وَكَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ رحمه الله تَعَالَى يَقُولُ:

(1)

إسناده ضعيف: أخرج ابن أبي شيبة «المصنف» (3/ 174) حدثنا أبو أسامة عن زهير به، ولكن في رواية زهير عن أبي إسحاق مقال، وزهير بن معاوية سمع عن أبي إسحاق بآخره.

قال أحمد بن حنبل: في حديثه عن أبي إسحاق لين، سمع منه بآخره. وقال أبو زرعة: ثقة إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط. وقال أبو حاتم: زهير ثقة متقن، تأخر سماعه من أبي إسحاق. قال ابن معين: وزكريا وزهير وإسرائيل حديثهم عن أبي إسحاق قريب من السوء. وقال الترمذي: زهير في أبي إسحاق ليس بذاك؛ لأن سماعه منه بآخره. وروايته عنه في الصحيحين. «نهاية الاغتباط» (278).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 174) حدثنا وكيع عن سفيان عن هشام عن الحسن به.

وهشام بن حسان في روايته عن الحسن مقال.

(3)

ضعيف: أخرجه الدارقطني «السنن» (2/ 153)، والبيهقي «الكبرى» (4/ 175) من طريق أبي معشر عن نافع عن ابن عمر، وفي إسناده أبو معشر، ضعيف، قال البخاري: منكر الحديث، قال الزيلعي «نصب الراية» (2/ 432): غريب بهذا اللفظ.

(4)

«المبسوط» (3/ 107).

ص: 473

أَدَاءُ الْقِيمَةِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مَنْفَعَةِ الْفَقِيرِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي بِهِ لِلْحَالِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ كَانَ لِأَنَّ الْبِيَاعَاتِ في ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالمدِينَةِ يَكُونُ بِهَا فَأَمَّا في دِيَارِنَا الْبِيَاعَاتُ تُجْرَى بِالنُّقُودِ، وَهِيَ أَعَزُّ الْأَمْوَالِ، فَالْأَدَاءُ مِنْهَا أَفْضَلُ».

قال ابن الهمام

(1)

: لِلْإِنْسَانِ حَاجَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَنْوَاعِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ إبْطَالَ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ إبْطَالَ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الشَّاةِ يَنْفِي غَيْرَهَا مِمَّا هُوَ قَدْرُهَا في المالِيَّةِ.

واعترض على هذا الاستدلال من وجهين:

الأول: أن الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد أصنافًا معينة ولو كانت تجزئ القيمة لقال: أو قيمته. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] فدل ذلك على أن المراد الطعام وليس المال.

الدليل الثاني: عن الصُّنَابِحِيِّ الأحمسي قال: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في إِبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً مُسِنَّةً فَغَضِبَ وَقَالَ: «مَا هَذِهِ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ارْتَجَعْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ مِنْ حَاشِيَةِ الصَّدَقَةِ - فَسَكَتَ -.

(2)

.

وفي هذا الحديث دلالة على جواز أخذ القيمة، فإن استبدال الناقة بالبعيرين هذا إنما يكون باعتبار القيمة.

واعترض عليه بأن الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم لو صح الحديث فليس فيه دلالة لهم.

(1)

«فتح القدير» (2/ 192).

(2)

هذا الحديث اختلف فيه على قيس بن أبي حازم: فرواه مجالد بن سعيد عنه.

أخرجه أحمد «المسند» (4/ 349)، وابن أبي شيبة (3/ 125، 126) ووقع تصحيف، فذكر بعد الصنابحي الأعمش، وابن أبي عاصم «الآحاد والمثاني» (2539) وقال: هذا حديث غريب، وأبو يعلى «المسند» (1453)، والطبراني «الكبير» (7417) من طريق عبد الله بن المبارك وعبد الرحيم بن سليمان عن مجالد بن سعيد عن أبي عبد الله الصنابحي مرفوعًا. وفيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف. قال الحافظ: ليس بالقوي. ورواه إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم مرسلًا أخرجه البيهقي «الكبرى» (4/ 114) من طريق هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم مرسلًا.

ص: 474

قال الشنقيطي

(1)

: «أما الناقة الحسنة التي رآها صلى الله عليه وسلم، وأنها بدل من بعيرين، فهو من جنس الاستبدال بالجنس عملًا للمصلحة وهي لم تخرج عن جنس الواجب» .

الدليل الثالث: روى البخاري

(2)

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ الْإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنْ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ وَيُعْطِيهِ المصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ إِلَّا بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ لَبُونٍ وَيُعْطِي شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ وَيُعْطِيهِ المصَدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ لَبُونٍ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ بِنْتُ مَخَاضٍ وَيُعْطِي مَعَهَا عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ».

قال ابن حجر

(3)

: «وَمَوْضِع الدَّلَالَة مِنْهُ قَبُول مَا هُوَ أَنْفَسُ مِمَّا يَجِبُ عَلَى المتَصَدِّقِ وَإِعْطَاؤُهُ التَّفَاوُتَ مِنْ جِنْسٍ غَيْر الْجِنْسِ الْوَاجِبِ، وَكَذَا الْعَكْس.

لَكِنْ أَجَابَ الْجُمْهُور عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ في الْقِيمَةِ، فَكَانَ الْعَرْضُ يَزِيدُ تَارَةً وَيَنْقُصُ أُخْرَى لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ في الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، فَلما قَدَّرَ الشَّارِعُ التَّفَاوُت بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبَ في الْأَصْلِ في مِثْلِ ذَلِكَ، وَلَوْلَا تَقْدِيرُ الشَّارِعِ بِذَلِكَ لَتَعَيَّنَتْ بِنْت المخَاض مَثَلًا، وَلم يَجُزْ أَنْ تُبَدَّلَ بِنْتُ لَبُون مَعَ التَّفَاوُتِ. وَاللَّهُ أَعْلم».

قال الشنقيطي: أما التعويض بين الجذعة والمسنة بشاتين أو عشرين درهمًا، فليس في هذا دليل على قبول القيمة في زكاة الفطر؛ لأن نص الحديث فيمن وجبت عليه سن معينة وليست عنده، أو عنده أعلى أو أنزل منها، فللعدالة بين المالك والمسكين جعل

(1)

«أضواء البيان» (8/ 492).

(2)

البخاري (1453).

(3)

«فتح الباري» (3/ 313).

ص: 475

الفرق لعدم الحيف، ولم يخرج عن الأصل، وليس فيه أخذ القيمة مستقلة. بل فيه أخذ الموجود ثم جبر الناقص، فلو كانت القيمة بذاتها وحدها تجزئ لصرح بها صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز هذا العمل إلا عند افتقاد المطلوب، والأصناف المطلوبة في زكاة الفطر إذا عُدمت أمكن الانتقال إلى الموجود مما هو من جنسه لا إلى القيمة، وهذا واضح

(1)

.

وقال ابن حجر رحمه الله في «الفتح» : لو كانت القيمة مقصودة لاختلفت حسب الزمان والمكان، ولكنه تقدير شرعي.

الدليل الرابع: عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ مُعَاذٌ - يَعْنِى ابْنَ جَبَلٍ - بِالْيَمَنِ: ائْتُونِى بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ

(2)

آخُذْهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِلمهَاجِرِينَ بِالمدِينَةِ

(3)

.

الدليل الخامس: قال الإمام البخاري

(4)

: وَقَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» . فَلم يَسْتَثْنِ صَدَقَة الْفَرْض مِنْ غَيْرِهَا، فَجَعَلَتِ المرْأَة تُلْقِي خُرْصَهَا

(5)

وَسِخَابَهَا

(6)

وَلم يَخُصَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنْ الْعُرُوضِ.

وجه الدلالة منه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» فنص على الحُلي، فجعلت المرأة تلقي خرصها هذا من الحلي «وسخابها» هذه قلادة ليست من الحلي، وبالرغم من ذلك أجزأت.

وكأنه يشير إلى جواز القيمة، وهذا مُصَيَّرٌ من البخاري على قول النبي صلى الله عليه وسلم:«تصدقن»

(1)

انظر «أضواء البيان» (8/ 490).

(2)

لبيس: أي ملبوس.

(3)

ضعيف معل بالانقطاع: رواه البخاري معلقًا (4/ 113)، أخرجه البيهقي «الكبرى» (4/ 113) من طريق سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن طاووس قال معاذ. قال البيهقي: كذا قال إبراهيم بن ميسرة. وَخَالَفَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ فَقَالَ: قَالَ مُعَاذٌ بِالْيَمَنِ: ائْتُونِى بِعَرَضِ ثِيَابٍ آخُذْهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، قال علي بن المديني: طاوس بن كيسان لم يسمع من معاذ بن جبل شيئًا. كما في «جامع التحصيل» .

(4)

انظر «فتح الباري» (3/ 312).

(5)

الخرص: الحلقة التي تجعل في الآذان.

(6)

السخاب: القلادة تتخذ من مسك وقرنفل ونحوهما، تجعل في العنق.

ص: 476

على الوجوب.

قال ابن حجر

(1)

ردًّا على هذا الكلام: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْإِيجَابِ هُنَا لَكَانَ مُقَدَّرًا، وَكَانَتْ المجَازَفَة فِيهِ وَقَبُول مَا تَيَسَّرَ غَيْر جَائِز.

الدليل السادس: روى مسلم

(2)

: عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، - فَلم نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، فَكَلم النَّاسَ عَلَى المنْبَرِ فَكَانَ فِيمَا كَلم بِهِ النَّاسَ أَنْ قَالَ: إِنِّى أُرَى أَنَّ مُدَّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشَّامِ تَعْدِلُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَمَّا أَنَا فَلَا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ أَبَدًا مَا عِشْتُ.

وجه الدلالة: أن معاوية عَدَل بمُدين من الحنظة بصاع من التمر.

واعترض عليه بما قاله النووي: تَمَسَّكَ بِقَوْلِ مُعَاوِيَةَ مَنْ قَالَ بِالمدَّيْنِ مِنْ الْحِنْطَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ صَحَابِيٍّ قَدْ خَالَفَهُ فِيهِ أَبُو سَعِيدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الصحَابَةِ مِمَّنْ هُوَ أَطْوَلُ صُحْبَةً مِنْهُ وَأَعْلم بِحَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ صَرَّحَ مُعَاوِيَةُ بِأَنَّهُ رَأْيٌ رَآهُ لَا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الِاتِّبَاعِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْآثَارِ وَتَرْكٍ لِلْعُدُولِ إِلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَفِي صَنِيعِ مُعَاوِيَةَ وَمُوَافَقَةُ النَّاسِ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَحْمُودٌ، لَكِنَّهُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ

(3)

.

الراجح في المسألة - والله أعلم - قول الجمهور:

قال ابن قدامة

(4)

: وَمَنْ أَعْطَى الْقِيمَةَ لم تُجْزِئْهُ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قِيلَ لِأَحْمَدَ وَأَنَا أَسْمَعُ:

(1)

«فتح الباري» (3/ 313).

(2)

مسلم (985).

(3)

«فتح الباري» (3/ 438).

(4)

«المغني» (4/ 295).

ص: 477

أُعْطِي دَرَاهِمَ - يَعْنِي في صَدَقَةِ الْفِطْرِ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ خِلَافُ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ، قَالَ لِي أَحْمَدُ: لَا يُعْطِي قِيمَتَهُ، قِيلَ لَهُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَأْخُذُ بِالْقِيمَةِ. قَالَ: يَدَعُونَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ قَالَ فُلَانٌ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . وَقَالَ قَوْمٌ يَرُدُّونَ السُّنَنَ: قَالَ فُلَانٌ، قَالَ فُلَانٌ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ في شَيْءٍ مِنْ الزَّكَوَاتِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيّ.

قال ابن حزم

(1)

: مَسْأَلَةٌ: وَلا يُجْزِئُ إخْرَاجُ بَعْضِ الصَّاعِ شَعِيرًا وَبَعْضِهِ تَمْرًا، وَلا تُجْزِئُ قِيمَةٌ أَصْلًا؛ لأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَا فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقِيمَةُ في حُقُوقِ النَّاسِ لا تَجُوزُ إلا بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ لِلزَّكَاةِ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ فَيَجُوزُ رِضَاهُ، أَوْ إبْرَاؤُهُ.

قال الشنقيطي

(2)

: القول بالقيمة فيه مخالفة للأصول من جهتين:

الجهة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر تلك الأصناف لم يذكر معها القيمة، ولو كانت جائزة لذكرها مع ما ذكر، كما ذكر العوض في زكاة الإبل، وهو صلى الله عليه وسلم أشفق وأرحم بالمسكين من كل إنسان.

الجهة الثانية: وهي القاعدة العامة، أنه لا ينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان فهو باطل.

وكذلك لو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة، فكان الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام بالإبطال، فيبطل.

ومثل ما يقوله بعض الناس اليوم في الهدي بمنى، مثلًا بمثل، عملًا بأن الأحناف لا يجيزون القيمة في الهدي؛ لأن الهدي فيه جانب تعبد، وهو النسك.

ويمكن أن يقال لهم أيضًا: إن زكاة الفطر فيها جانب تعبد، طهرة للصائم، وطعمة للمساكين، كما أن عملية شرائها ومكيلتها وتقديمها فيه إشعار بهذه العبادة.

أما تقديمها نقدًا فلا يكون فيها فرق عن أي صدقة من الصدقات من حيث الإحساس

(1)

«المحلى» (6/ 137).

(2)

«أضواء البيان» (8/ 493).

ص: 478

بالواجب والشعور بالإطعام.

سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: هل يجوز إخراج زكاة الفطر ريالات؟

فأجاب: لا يجوز إخراجها نقودًا عند جمهور أهل العلم، وإنما الواجب إخراجها من الطعام كما أخرجها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه}.

وَالْأَظْهَرُ في هَذَا أَنَّ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ مَمْنُوعٌ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا قَدَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجُبْرَانَ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا وَلم يَعْدِلْ إلَى الْقِيمَةِ، وَلِأَنَّهُ مَتَى جَوَّزَ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا فَقَدْ يَعْدِلُ المالِكُ إلَى أَنْوَاعٍ رَدِيئَةٍ وَقَدْ يَقَعُ في التَّقْوِيمِ ضَرَرٌ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ مَبْنَاهَا عَلَى الموَاسَاةِ وَهَذَا مُعْتَبَرٌ في قَدْرِ المالِ وَجِنْسِهِ.

وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله:

هل يجوز إخراج زكاة الفطر نقدًا؟ مع تفصيل الأدلة.

فأجاب: زكاة الفطر لا تجوز إلا من الطعام، ولا يجوز إخراجها من القيمة؛ لأن

النبي صلى الله عليه وسلم فرضها صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير. وقال أبو سعيد: كنا نخرجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام. فلا يحل لأحد أن يُخرج زكاة الفطر من الدراهم أو الملابس أو الفرش، بل الواجب إخراجها بما فرض الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.

ولا عبرة باستحسان من استحسن ذلك من الناس؛ لأن الشرع ليس تابعًا للآراء، بل هو من لدن حكيم خبير، الله عز وجل أعلم وأحكم. وإذا كانت مفروضة بلسان محمد صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، فلا يجوز أن تتعدى ذلك، مهما استحسناه بعقولنا، بل الواجب على الإنسان إذا استحسن شيئًا مخالفًا للشرع أن يتهم عقله ورأيه

(1)

.

•‌

‌ المبحث الثالث عشر: متى تجب زكاة الفطر؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين

(2)

:

• القول الأول: وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد:

وبه قال أبو حنيفة ورواية عن مالك والليث والشافعي في القديم وابن حزم.

(1)

«فتاوى الصيام» (902).

(2)

«نيل الأوطار» (4/ 216).

ص: 479

• القول الآخر: وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر؛ لأنه وقت الفطر من رمضان. وبه قال أحمد والثوري وإسحاق والشافعي في الجديد وإحدى الروايتين عن مالك.

فائدة هذا الاختلاف:

قال ابن رشد: وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ في الموْلُودِ يُولَدُ قَبْلَ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ وَبَعْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ أَمْ لَا تَجِبُ؟

(1)

قلت: وإذا مات رجل قبل فجر يوم العيد وبعد مغيب الشمس هل تجب أم لا تجب؟

الاختلاف في هذه المسألة مبني على المسألة التي سبقتها.

السبب في الاختلاف:

قال ابن رشد: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ هِيَ عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِيَوْمِ الْعِيدِ، أَوْ بِخُرُوجِ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْعِيدِ لَيْسَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَان.

القول الأول: قال أبو حنيفة: وَقْتُهَا انْشِقَاقُ الْفَجْرِ من يَوْمِ الْفِطْرِ فَمَنْ مَاتَ قبل ذلك أو وُلِدَ بَعْدَ ذلك أو أَسْلم بَعْدَ ذلك، فَلَا زَكَاةَ فِطْرٍ عليه

(2)

.

قال ابن رشد: قال مالك في رواية ابن القاسم عنه: تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهَا تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمِ رَمَضَانَ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ

(3)

.

قال الشوكاني: قيل: وقت وجوبها طلوع الفجر من يوم العيد. وبه قال أبو حنيفة والليث والشافعي في القديم

(4)

.

قال ابن حزم: وَوَقْتُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إثْرَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي من يَوْمِ الْفِطْرِ.

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 282).

(2)

«المحلى» (6/ 142).

(3)

«بداية المجتهد» (1/ 282).

(4)

«نيل الأوطار» (4/ 216).

ص: 480

دليل هذا القول: روى البخاري ومسلم

(1)

: عن ابن عمر {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بزكاة الفطر أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ.

وجه الدلالة: قال ابن حزم

(2)

: فَهَذَا وَقْتُ أَدَائِهَا بِالنَّصِّ وَخُرُوجُهُمْ إلَيْهَا إنَّمَا هو لإدراكها.

القول الثاني: قال الشوكاني

(3)

: وقت وجوبها غروب الشمس ليلة الفطر، وهو قول الثوري وإسحاق وأحمد والشافعي في القديم والرواية الثانية عن مالك.

قال ابن حزم: أَمَّا مَنْ رَأَى وَقْتَهَا غُرُوبَ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ قَالَ: هِيَ زَكَاةُ الْفِطْرِ، وَذَلِكَ هُوَ الْفِطْرُ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالْخُرُوجُ عَنْهُ جُمْلَةً.

والأحوط والله أعلم: أنه لو وُلد مولود في أول ليلة من شوال وقبل الفجر، أو مات رجل قبل يوم العيد وبعد مغيب الشمس، فإنه يخرج عنه زكاة.

•‌

‌ المبحث الرابع عشر: هل يجوز تقديم زكاة الفطر؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

• القول الأول: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ; لِأَنَّهَا زَكَاةٌ فَأَشْبَهَتْ زَكَاةَ المالِ

(4)

.

• القول الثاني: قال مالك والناصر والحسن بن زياد: لا يجوز مطلقًا، كالصلاة قبل الوقت.

وبه قال ابن حزم: لا يجوز تقديمها قبل فجر يوم العيد

(5)

.

واعترض عليه بأنه ورد عن ابن عمر أنه كَانَ يَبْعَثُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي تُجْمَعُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ

(6)

.

(1)

البخاري (1503)، ومسلم (986).

(2)

«المحلى» (6/ 143).

(3)

«نيل الأوطار» (4/ 216)، وانظر «المحلى» (6/ 142)، «وبداية المجتهد» (1/ 282).

(4)

«المغني» (4/ 300).

(5)

«المحلى» (6/ 143).

(6)

إسناده صحيح: أخرجه مالك «الموطأ» (1/ 285)، عن نافع عن ابن عمر به.

ص: 481

قال الشافعي: يجوز من أول شهر رمضان؛ لأن سبب الصدقة الصوم والفطر فيه.

فإن وُجد أحد السببين جاز تعجيلها.

واعترض عليه بأن صدقة الفطر من رمضان، وليس بدخول رمضان.

قال الشوكاني: قال أحمد بن حنبل: لا تُقدم على وجوبها إلا ما يغتفر كيوم أو يومين.

قال ابن قدامة: عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِهِ، فَيُقْسَمُ - قَالَ يَزِيدُ: أَظُنُّ هَذَا يَوْمَ الْفِطْرِ - وَيَقُولُ: «أَغْنَوْهُمْ عَنْ الطَّوَافِ في هَذَا الْيَوْمِ»

(1)

.

وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَمَتَى قَدَّمَهَا بِالزَّمَانِ الْكَثِيرِ لم يَحْصُلْ إغْنَاؤُهُمْ بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْفِطْرُ؛ بِدَلِيلِ إضَافَتِهَا إلَيْهِ، وَزَكَاةُ المالِ سَبَبُهَا مِلْكُ النِّصَابِ، وَالمقْصُودُ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ بِهَا في الْحَوْلِ كُلِّهِ، فَجَازَ إخْرَاجُهَا في جَمِيعِهِ، وَهَذِهِ المقْصُودُ مِنْهَا الْإِغْنَاءُ في وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، فَلم يَجُزْ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ.

فَأَمَّا تَقْدِيمُهَا بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَجَائِزٌ؛ لما رَوَى الْبُخَارِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ:«فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ» . وَقَالَ في آخِرِهِ: «وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ» وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِهِمْ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّ تَعْجِيلَهَا بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يُخِلُّ بِالمقْصُودِ مِنْهَا، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تَبْقَى أَوْ بَعْضَهَا إلَى يَوْمِ الْعِيدِ، فَيُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ الطَّوَافِ وَالطَّلَبِ فِيهِ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ، فَجَازَ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ وُجُوبِهَا، كَزَكَاةِ المالِ، وَاللَّهُ أَعْلم.

سئل فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حفظه الله: متى تخرج زكاة الفطر؟

فأجاب: الأفضل أن تخرج قبل الخروج لصلاة العيد، ويجوز تقديمها قبل ذلك بيوم أو يومين، ولا يجوز بأكثر من ذلك.

وذلك لأنه لو أعطاها الفقير قبل العيد بأيام، لأمكن أن ينفقها، فيأتيه العيد وليس عنده شيء، فيحتاج إلى التسول وإلى الاستجداء، فأُمر المسلم أن يخرجها قبل الخروج لصلاة العيد أو قبل العيد بيوم أو يومين.

(1)

ضعيف: في إسناده أبو معشر، وهو ضعيف.

ص: 482

•‌

‌ المبحث الخامس عشر: وهل يجوز تأخير صدقة الفطر بعد صلاة العيد؟

ذهب الجمهور إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مستحب فقط، وجزموا بأنها تجزئ إلى آخر يوم الفطر

(1)

.

وقال ابن حزم: وَوَقْتُ زَكَاةِ الْفِطْرِ إثْرَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي من يَوْمِ الْفِطْرِ مُمْتَد إلَى أَنْ تَبْيَضَّ الشَّمْسُ وَتَحِلَّ الصَّلَاةُ من ذلك الْيَوْمِ.

• القول الأول: قال ابن قدامة

(2)

: المسْتَحَبُّ إخْرَاجُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ. في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ:«مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» . فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ الصَّلَاةِ تَرَكَ الْأَفْضَلَ؛ لما ذَكَرْنَا مِنْ السُّنَّةِ، وَلِأَنَّ المقْصُودَ مِنْهَا الْإِغْنَاءُ عَنْ الطَّوَافِ وَالطَّلَبِ في هَذَا الْيَوْمِ، فَمَتَى أَخَّرَهَا لم يَحْصُلْ إغْنَاؤُهُمْ في جَمِيعِهِ، لَا سِيَّمَا في وَقْتِ الصَّلَاةِ. وَمَالَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَمُوسَى بْنُ وَرْدَانَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.

وَقَالَ الْقَاضِي: إذَا أَخْرَجَهَا في بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لم يَكُنْ فَعَلَ مَكْرُوهًا؛ لِحُصُولِ الْغَنَاء بِهَا في الْيَوْمِ.

قَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ نُخْرِجَ

وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ: فَكَانَ يُؤْمَرُ أَنْ يُخْرِجَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِذَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ: أَغْنَوْهُمْ عَنْ الطَّلَبِ في هَذَا الْيَوْمِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ وَالمعْنَى مَا يَقْتَضِي الْكَرَاهَة.

حجة الجمهور: روى البخاري ومسلم

(3)

: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ في عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَكَانَ طَعَامَنَا الشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ وَالتَّمْرُ.

(1)

«نيل الأوطار» (4/ 218).

(2)

«المغني» (4/ 297، 298).

(3)

البخاري (1510)، ومسلم (985).

ص: 483

وجه الدلالة منه: كنا نخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفطر.

واليوم يطلق على جميع اليوم.

• القول الآخر: إن وقتها طلوع الفجر من يوم العيد إلى الصلاة.

قَالَ ابن حزم: فَهَذَا وَقْتُ أَدَائِهَا بِالنَّصِّ، وَخُرُوجُهُمْ إلَيْهَا إنَّمَا هُوَ لإِدْرَاكِهَا، وَوَقْتُ صَلاةِ الْفِطْرِ هُوَ جَوَازُ الصَّلاةِ بِابْيِضَاضِ الشَّمْسِ، يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَمَّ الْخُرُوجُ إلَى صَلاةِ الْفِطْرِ بِدُخُولِهِمْ في الصَّلاةِ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا. فَمَنْ لم يُؤَدِّهَا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهَا فَقَدْ وَجَبَتْ في ذِمَّتِهِ وَمَالِهِ لمنْ هِيَ لَهُ، فَهِيَ دَيْنٌ لَهُمْ، وَحَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَقَدْ وَجَبَ إخْرَاجُهَا مِنْ مَالٍ وَحَرُمَ عَلَيْهِ إمْسَاكُهَا في مَالِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا أَبَدًا، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، وَيَسْقُطُ بِذَلِكَ حَقُّهُمْ، وَيَبْقَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى في تَضْيِيعِهِ الْوَقْتَ، لا يَقْدِرُ عَلَى جَبْرِهِ إلا بِالاسْتِغْفَارِ وَالنَّدَامَةِ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ

(1)

.

أدلة الظاهرية: الدليل الأول: ففي الصحيحين

(2)

عن ابن عمر {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ.

الدليل الثاني: عن ابن عباس {قال: فَرَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الْفِطْرِ طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلمسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ

(3)

.

(1)

«المحلى» (6/ 143).

(2)

البخاري (1503)، ومسلم (986).

(3)

أخرجه أبو داود «السنن» (1609)، وابن ماجه «السنن» (1847)، والدارقطني «السنن» (2/ 138) وقال: وليس فيه مجروح، والحاكم «المستدرك» (1/ 409) قال: هذا حديث على شرط البخاري ولم يخرجاه، والبيهقي «الكبرى» (4/ 162، 163) كلهم من طرق عن مروان بن محمد قال: حدثنا أبو يزيد الخولاني ثنا سيار بن عبد الرحمن الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس. وفي رواية أبي داود: عن مروان بن محمد حدثنا أبو يزيد الخولاني، وكان شيخ صدق.

قلت (محمد): وهذا الحديث الفقرة الأولى منه: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم وطعمة للمساكين) مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والفقرة الثانية:(من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) الظاهر أنها موقوفة على ابن عباس.

قال ابن عبد البر «التمهيد» (14/ 325): أما قول ابن عباس في هذا الحديث: (فمن أداها قبل الصلاة .. ). وقال ابن قدامة في «المغني» (4/ 284): وهذا قول ابن عباس يخالفه. يقصد الحديث. وقد ورد عن ابن عباس ما يؤيد قول الجمهور كما عند ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 169) قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس قال: من السنة أن تخرج صدقة الفطر قبل الصلاة. ولكن في إسناده ضعف.

ص: 484

قال زين الدين أبو الفضل

(1)

في قوله: «وأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ» : إن الأفضل إخراجها قبل الخروج إلى الصلاة، وقد صرح بذلك الفقهاء من المذاهب الأربعة، وزاد الحنابلة على ذلك فجعلوا تأخيرها عن الصلاة مكروهًا، وذلك أعلى درجات الاستحباب، هذا هو المشهور عندهم، وقال القاضي منهم: ليس ذلك بمكروه.

وزاد ابن حزم الظاهرى على ذلك فقال بالوجوب، وأنه لا يجوز تأخيرها عن الصلاة، وعبارته: ووقت زكاة الفطر أثر طلوع الفجر الثاني ممتد إلى أن تبيض الشمس وتحل الصلاة من ذلك اليوم.

ثم استدل بهذا الحديث. ولا حجة له فيه؛ لأنه صيغة أمر محتملة للاستحباب، كاحتمالها للإيجاب، وليست ظاهرة في إحداهما للإيجاب، بخلاف صيغة فإنها ظاهرة في الوجوب، فلما ورد هذا الحديث بصيغة الأمر اقتصرنا على الاستحباب؛ لأنه الأمر المتيقن، والزيادة على ذلك مشكوك فيها.

•‌

‌ المبحث السادس عشر: هل يجوز تأخير زكاة الفطر بعد يوم العيد؟

لا يجوز ذلك.

قال الشوكاني: وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ فَقَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: إنَّهُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ وَاجِبَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ في تَأْخِيرِهَا إثْمٌ، كَمَا في إخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا.

قال ابن قدامة: إِنْ أَخَّرَهَا عَنْ يَوْمِ الْعِيدِ أَثِمَ وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ.

ص: 485

•‌

‌ المبحث السابع عشر: مصارف صدقة الفطر، وفيه مسائل:

•‌

‌ المسألة الأولى: هل تُصرف صدقة الفطر على الفقراء فقط؟

• أولًا: تُصرف صدقة الفطر لفقراء المسلمين بالإجماع.

قال ابن رشد

(1)

: وَأَمَّا لمنْ تُصْرَفُ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ تُصْرَفُ لِفُقَرَاءِ المسْلمينَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«أَغْنَوْهُمْ عَنِ السُّؤَالِ في هَذَا الْيَوْمِ» .

• ثانيًا: هل تجوز زكاة الفطر لفقراء أهل الذمة؟

قال ابن رشد: وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَجُوزُ لِفُقَرَاءِ الذِّمَّةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ لَهُمْ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجُوزُ لَهُمْ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ سَبَبُ جَوَازِهَا هُوَ الْفَقْرُ فَقَطْ، أَوِ الْفَقْرُ وَالْإِسْلَامُ مَعًا؟ فَمَنْ قَالَ الْفَقْرُ وَالْإِسْلَامُ لم يُجِزْهَا لِلذِّمِّيِّينَ، وَمَنْ قَالَ الْفَقْرُ فَقَطْ أَجَازَهَا لَهُمْ، وَاشْتَرَطَ قَوْمٌ في أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ تَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا رُهْبَانًا.

وَأَجْمَعَ المسْلمونَ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ تَجُوزُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتَرُدُّ إِلَى فُقَرَائِهِمْ» .

قال ابن قدامة

(2)

: وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى ذِمِّيٍّ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلِ، وَمُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْطُونَ مِنْهَا الرُّهْبَانَ.

وَلَنَا أَنَّهَا زَكَاةٌ، فَلم يَجُزْ دَفْعُهَا إلَى غَيْرِ المسْلمينَ، كَزَكَاةِ المالِ، وَلَا خِلَافَ في أَنَّ زَكَاةَ المالِ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى غَيْرِ المسْلمينَ. قَالَ ابْنُ المنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلم عَلَى أَنْ لَا يُجْزِئَ أَنْ يُعْطَى مِنْ زَكَاةِ المالِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّة.

•‌

‌ المسألة الثانية: هل تفرق صدقة الفطر على الأصناف الثمانية أم على الفقراء فقط؟

اختلف أهل العلم في الأصناف الذين تُفرق عليهم زكاة الفطر على قولين:

•القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن زكاة الفطر تُقسم على الأصناف الثمانية

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 282).

(2)

«المغني» (4/ 314).

ص: 486

كزكاة المال، وإليه ذهب الحنفية

(1)

والشافعية

(2)

والحنابلة

(3)

.

واستدلوا بعموم قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 60} [التوبة: 60] ولأن صدقة الفطر زكاة فتدخل في عموم الآية، فكان مصرفها مصرف سائر الزكوات

(4)

.

قال الماوردي: وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمسَاكِينِ} الْآيَةَ فَجَعَلَ مَا انْطَلَقَ اسْمُ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ مُسْتَحِقًّا لمنِ اشْتَمَلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاجِبَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِهَا صِنْفٌ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ كَزَكَوَاتِ الْأَمْوَالِ.

•القول الثاني: ذهب مالك

(5)

وابن تيمية

(6)

وابن القيم

(7)

إلى أن صدقة الفطر تُصرف للمساكين فقط، ولا تقسم على الأصناف الثمانية.

واستدلوا لذلك بالسنة والقياس:

أما دليلهم من السنة: فعن ابن عباس {قال: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلمسَاكِينِ» .

فدل هذا الحديث على أن زكاة الفطر طعمة للمساكين، فيقتصر على ما ورد في الحديث ولا يتعدى ذلك للأصناف الثمانية.

واعترض عليه بأن هذا الحديث ليس لبيان مصرف الزكاة، ولكنه إشارة إلى الحكمة من مشروعية الزكاة كما ورد في الصحيحين من حديث ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ:

(1)

«رد المحتار» (3/ 325).

(2)

«الأم» (2/ 91).

(3)

«المغني» (4/ 325).

(4)

«المغني» (4/ 325).

(5)

«الذخيرة» (3/ 170).

(6)

«مجموع الفتاوى» (25/ 73، 72).

(7)

«زاد المعاد» (2/ 22).

ص: 487

«صدقة تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» مع أن هذه الصدقات تُصرف للأصناف الثمانية.

أما دليلهم من القياس: فقاسوا زكاة الفطر على كفارة اليمين وغيرها من الكفارات، فكما أن كفارة اليمين لا تصرف إلا للمساكين ولا يطعم منها غيرهم، فكذا زكاة الفطر، ولأنها زكاة على الأبدان.

قال ابن تيمية

(1)

: فَإِنَّ المقْصُودَ هُوَ الْأَصْلُ الثَّانِي، وَهُوَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فَإِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ أَوْ صَدَقَةِ الْأَبْدَانِ كَالْكَفَّارَاتِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ، أَوْجَبَ الِاسْتِيعَابَ فِيهَا، وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَنْبَنِي مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَمَنْ كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ كَقَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلماءِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ دَفْعَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ إلَى وَاحِدٍ، كَمَا عَلَيْهِ المسْلمونَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ تَجْرِي مَجْرَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْجِمَاعِ في رَمَضَانَ وَمَجْرَى كَفَّارَةِ الْحَجِّ، فَإِنَّ سَبَبَهَا هُوَ الْبَدَنُ لَيْسَ هُوَ المالَ كَمَا في السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ فَرَضَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلمسَاكِينِ. مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» .

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ: «أَغْنُوهُمْ في هَذَا الْيَوْمِ عَنْ المسْأَلَةِ» . وَلِهَذَا أَوْجَبَهَا اللَّهُ طَعَامًا كَمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ طَعَامًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يُجْزِئُ إطْعَامُهَا إلَّا لمنْ يَسْتَحِقُّ الْكَفَّارَةَ وَهُمْ الْآخِذُونَ لِحَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا يُعْطِي مِنْهَا في المؤَلَّفَةِ وَلَا الرِّقَابِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْوَى في الدَّلِيلِ.

قال ابن القيم

(2)

: وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم تَخْصِيصُ المسَاكِينِ بِهَذِهِ الصّدَقَةِ، وَلم يَكُنْ يَقْسِمُهَا عَلَى الْأَصْنَافِ الثّمَانِيَةِ قَبْضَةً قَبْضَةً، وَلَا أَمَرَ بِذَلِكَ، وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ بَلْ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَنَا: إنّهُ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا إلّا عَلَى المسَاكِينِ خاصة،

(1)

«مجموع الفتاوى» (25/ 73، 72).

(2)

«زاد المعاد» (2/ 22).

ص: 488

وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية.

•‌

‌ المسألة الثالثة: هل يجوز إعطاء الأقارب من صدقة الفطر؟

قال المزني: قال الشافعي: وأَحب إلى ذوي رحمه الأقارب إذا كان لا تلزمه نفقتهم.

قَالَ الماوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَقَارِبُ وَذُوُوا الْأَرْحَامِ هل تدفع إليهم زكاة الفطر؟ على وجهين:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ نَفَقَاتُهُمْ وَاجِبَةً كَالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ إِذَا كَانُوا فَقُرَاءَ زَمْنَى، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ عَنْهُمْ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ نَفَقَاتُهُمْ وَاجِبَةً، كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، فَالْأَوْلَى إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَخُصَّهُمْ بِهَا، صِلَةً لِرَحِمِهِ وَبِرًّا لِأَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا في الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ 22 أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: 22] فَجَمَعَ بَيْنَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْإِفْسَادِ في الْأَرْضِ ثُمَّ عَقَّبَهَا بِاللَّعْنَةِ إِبَانَةً لِعِظَمِ الْإِثْمِ

(1)

.

•‌

‌ فتاوى وتوصيات المجمع الفقهي بشأن زكاة الفطر:

1 -

زكاة الفطر واجبة على كل مسلم يملك قوت نفسه ومن تلزمه نفقته يوم العيد وليلته فاضلًا عن حوائجه الأصلية، ويلزمه إخراج صدقة زوجته وأولاده الصغار الذين لا مال لهم، ولا يلزمه صدقة الفطر عن أولاده الذين لا تجب نفقتهم عليه أو خدمه أو من تبرع بمؤنته أو كفله يتيمًا أو فقيرًا أو غير ذلك.

2 -

الواجب في صدقة الفطر صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو صاع من بُر القمح.

3 -

الأصل إخراج زكاة الفطر من الأجناس المنصوص عليها في الحديث، كما يجوز إخراجها من غالب قوت أهل البلد مثل الأرز واللحم والحليب.

4 -

الأصل إخراج زكاة الفطر قبل صلاة العيد، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد، ويجب قضاؤها، كما يجوز عند الحاجة إخراجها من أول شهر رمضان.

5 -

يجوز التوكيل في إخراج صدقة الفطر.

(1)

«الحاوي» (4/ 431).

ص: 489

6 -

يجوز للمؤسسات الزكوية تحويل زكاة الفطر من عين إلى نقد وعكسه بما تقتضيه الحاجة أو المصلحة.

7 -

يجوز نقل زكاة الفطر إلى خارج البلد الذي وجبت فيه على المزكي إلى من هو أقرب أو أحوج.

كما يجوز نقل زكاة الفطر عند عدم وجود محتاجين في البلد الذي وجبت فيه الزكاة.

8 -

لابد من النية لإخراج صدقة الفطر، ويقوم مقام النية الإذن الثابت ولو عادة.

9 -

إذا اقتضت المصلحة أو الحاجة يجوز للمؤسسات الزكوية تأخير صرف ما اجتمع لديها من زكاة الفطر إلى ما بعد يوم العيد.

10 -

الأَوْلى صرف زكاة الفطر للفقراء والمساكين، ويجوز صرفها في مصارف الزكاة العامة

(1)

.

* * *

ص: 490

‌الباب السادس فقه العيدين

وقد قسمت هذا الباب إلى تمهيد و فصول

التمهيد: وفيه: تعريف، ومشروعية، وحكم صلاة العيدين

• الفصل الأول: شروط صلاة العيدين

• الفصل الثاني: بين يدي صلاة العيد

• الفصل الثالث: صفة صلاة العيدين

• الفصل الرابع: أحكام مهمة تتعلق بصلاة العيدين

• الفصل الخامس: مستحبات العيدين

• الفصل السادس: خطبة العيدين وما يتعلق بها من أحكام

• الفصل السابع: التكبير وما يتعلق به من أحكام

• الفصل الثامن: ما يباح في العيدين

• الفصل التاسع: ما يُكره ويحرم في العيدين

ص: 491

‌التمهيد

وفيه مباحث

• المبحث الأول: تعريف العيدين

• المبحث الثاني: مشروعية صلاة العيدين

• المبحث الثالث: حكم صلاة العيدين

• المبحث الرابع: هل يجب قتال بلد تركت صلاة العيدين؟

ص: 492

?

فقه العيدين

(1)

•‌

‌ المبحث الأول: تعريف العيدين:

سمي العيد عيدًا لأنه يعود كل سنة بفرح جديد

(2)

. وقيل: سمي العيد عيدًا لأنه يعود كل عام

(3)

.

قال النووي رحمه الله: وَسُمِّيَ عِيدًا لِعَوْدِهِ وَتَكَرُّره، وَقِيلَ: لِعَوْدِ السُّرُور فِيهِ، وَقِيلَ: تَفَاؤُلًا بِعَوْدِهِ عَلَى مَنْ أَدْرَكَهُ

(4)

.

والمراد بالعيدين: عِيدُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ أَوَّلُ يوم مِنْ شَوَّالٍ، وَيوم الأَضْحَى وَهُوَ اليوم الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، لَيْسَ لِلمسْلمينَ عِيدٌ غَيْرُهُمَا إلاَّ يوم الْجُمُعَةِ. وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ يوم الأَضْحَى; لأنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يَجْعَلْ لَهُمْ عِيدًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَلَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلَامِ في ذَلِكَ

(5)

.

(1)

وفِي هذا الباب بحث جيد ونافع وماتع، فريد فِي بابه، ومرجع للباحثين والدارسين، جمَع فيه مصنفه بين الفقه والحديث، بتحرير وإتقان، ألا وهو «جامع أحكام العيدين» لأخينا وحبيبنا الشيخ رمزي بن صادق - حفظه الله - نسأل أن يجازيه خير الجزاء وأوفاه، وأن يجعل جنة الفردوس مأواه، وأن ييسر له أمر دينه ودنياه، وأن يرفع ذكره، وأن يضع وزره، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.

(2)

«لسان العرب» مادة (ع و د)(9/ 461) هذا تعريف ابن الأعرابي، وانظر:«تاج العروس» (8/ 439).

(3)

«مقاييس اللغة» مادة (ع و د)(4/ 183)، وهذا تعريف ابن فارس.

(4)

«شرح مسلم» (2/ 479).

(5)

«المحلى» (5/ 81)، و «المبسوط» (2/ 47).

ص: 493

•‌

‌ المبحث الثاني: مشروعية صلاة العيدين:

قال ابن قدامة

(1)

: الْأَصْلُ في صَلَاةِ الْعِيدِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، المشْهُورُ في التَّفْسِيرِ أَنَّ المرَادَ بِذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ

وَأَجْمَعَ المسْلمونَ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ

(2)

.

•‌

‌ المبحث الثالث: حكم صلاة العيدين:

قال النووي

(3)

: وأجمع المسلمون على أن صلاة العيدين مشروعة، وعلى أنها ليست فرض عين.

وقال ابن حزم

(4)

: واتفقوا على أن صلاة العيدين وكسوف الشمس وقيام ليالي رمضان ليست فرضًا.

وهذا الإجماع منخرم؛ فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء

(5)

إلى أن صلاة العيدين سنة مؤكدة، وبه قال مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد

(6)

.

(1)

«المغني» (3/ 253).

(2)

ونقل الإجماع أيضًا البهوتي فِي «كشاف القناع» (2/ 50)، والصنعاني فِي «سبل السلام» (2/ 495)، والنووي فِي «المجموع» (5/ 19)، وغيرهم.

(3)

«المجموع» (5/ 3).

(4)

«مراتب الاجماع» (ص 32).

(5)

قال النووي فِي «المجموع» (5/ 3): وجماهير العلماء من السلف والخلف أن صلاة العيد سنة. انظر: «المجموع» (2/ 5)، و «روضة الطالبين» (1/ 577)، و «الإقناع» (1/ 109)، و «الفروع» (2/ 137).

(6)

وإن كان بعض ألفاظ الشافعي تدل على الوجوب إلا أن النووي نفى ذلك، قال: وأما قول الشافعي فِي «المختصر» : من وَجَبَ عليه حُضُورُ الْجُمُعَةِ وَجَبَ عليه حُضُورُ الْعِيدَيْنِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: هذا لَيْسَ عَلَى ظَاهِرَه، فإنَّ ظاهرَه أَنَّ الْعِيدَ فرضُ عَيْن عَلَى كُلَّ ممَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، وَهَذَا خِلَافَ إجْمَاعَ المسْلميْنَ

قَالَ أَصْحَابُنَا: ومرادُ الشافعي أَنَّ الْعِيدَ فِي حَقَّ من تلزمه الجمعة.

ص: 494

واستدلوا لذلك بالسنة: ففِي «الصحيحين»

(1)

من حديث طلحة يقول: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ، حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ، فَقال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ في اليوم وَاللَّيْلَةِ» ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطوَّعَ» .

قال ابن المنذر: دل خبر طلحة

على أن صلاة العيد تطوع غير مفروض

(2)

.

قال الشوكاني

(3)

: واستدل القائلون بأنها سُنة بحديث «هل علي غيرها؟» قال: «لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» قلت: وحديث الأعرابي هو الصارف عند الجمهور من الوجوب إلى السنية.

قال ابن قدامة

(4)

: وَلِأَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقْتَضِي نَفِي وُجُوبِ صَلَاةٍ سِوَى الْخَمْسِ.

والأدلة على ذلك كثيرة ومتوافرة تدل على أن الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس لا غير.

• القول الثاني: أن صلاة العيد فرض عين، وهذا قول أحمد في رواية

(5)

وابن حبيب المالكي

(6)

.

واستدلوا لهذا القول بعموم القرآن والسنة.

أما دليلهم من القرآن: فعموم قول الله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . قالوا: فصلِّ لربك: أي: صلاة العيد، وانحر: أي: اذبح، فصلِّ لربك، هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب

(7)

.

قال الكاساني

(8)

: قيل في التفسير: صَلِّ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَانْحَر الْجَزُورَ، وَمُطْلَق الْأَمْر لِلْوُجُوبِ.

(1)

أخرجه البخاري (46، 1891)، ومسلم (11).

(2)

«الأوسط» (4/ 252).

(3)

«نيل الأوطار» (3/ 368).

(4)

«المغني» (4/ 368).

(5)

«الإنصاف» (2/ 420)، و «الفتاوى» (24/ 183).

(6)

«الشرح الكبير» للدسوقي (1/ 628).

(7)

«نيل الأوطار» (3/ 361)، و «سبل السلام» (2/ 495).

(8)

«بدائع الصنائع» (1/ 274).

ص: 495

واعْتُرِض عليه: بأنه قد اختلف أهل التفسير في ذلك: فمنهم من قال: {فصل لربك} أي: صلاة الصبح، ومنهم من قال:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ} اجعل الصلاة لله، والنحر لله، ولا تشرك به أحدًا، ومنهم من قال: المراد {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} الصلاة هنا بمعنى الدعاء، وليس تأويل هذه الآية بأحد التأويلات أَوْلى من غيره.

ثم لو سلمنا أن المراد بقوله تعالى: {فَصَلِّ} أي: صلاة العيد، والأمر للوجوب، لكان له صارف، وهو قول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ» . فدل ذلك على أن صلاة العيد تطوع وليست فريضة.

قال الباجي

(1)

: وَهَذَا نَصٌّ في أَنَّهُ لَا يَجِبُ مِنَ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا وَتْرٌ وَلَا غَيْرُهُ.

واستدلوا أيضًا بعموم قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وهذا أمر بالتكبير في العيدين، أمر بالصلاة المشتملة على التكبير الراتب، وهي صلاة العيدين

(2)

.

واعْتُرِض عليه: بأن هذا التأويل على خلاف ما عليه جمهور المفسرين.

قال القرطبي

(3)

: ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان في قول جمهور أهل التأويل.

قال ابن الهمام

(4)

: الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لأنه ظَاهِرٌ في التَّكْبِيرِ لَا صَلَاةِ الْعِيدِ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى التَّعْظِيمِ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى خُصُوصِ لَفْظِهِ كَانَ التَّكْبِيرُ الْكَائِنُ في صَلَاةِ الْعِيدِ مُخْرِجًا لَهُ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ لِجَوَازِ إيجَابِ شَيْءٍ في مَسْنُونٍ، بِمَعْنَى مَنْ فَعَلَ سُنَّةَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْبِيرُ.

واستدلوا أيضًا بعموم قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي: صلاة العيد.

(1)

«المنتقى شرح الموطأ» (1/ 373).

(2)

«الجامع لأحكام القرآن» (2/ 205).

(3)

«فتح القدير» (2/ 71).

(4)

«تفسيره» (12/ 548).

ص: 496

واعْتُرِض عليه بأن أهل التفسير اختلفوا في تأويل هذه الآية:

قال الطبري: قوله: {فَصَلَّى} قَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِى بِهِ: فَصَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخُمْسَ. وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِي بِهِ: صَلَاةُ الْعِيدِ يَوْمَ الْفِطْرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عُنِيَ بِهِ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَدَعَا؛ وَقَالُوا: الصَّلَاةُ هَاهُنَا الدُّعَاءُ.

ثم قال: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ أَنْ يُقَالَ: عُنِيَ بِقَوْلِهِ: {فَصَلَّى} : الصَّلَوَاتِ، وَذَكَرَ اللَّهَ فِيهَا بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ وَالدُّعَاءِ.

وليس تأويل هذه الآية بأحد التأويلات أَوْلى من غيره، فسقط الاستدلال بها.

أما دليلهم من السنة: فقد روى البخاري

(1)

عن أُمِّ عَطِيَّةَ قالت: أُمِرْنَا أَنْ نَخْرُجَ فَنُخْرِجَ الْحُيَّضَ وَالْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، قال ابْنُ عَوْنٍ: أَوْ الْعَوَاتِقَ ذَوَاتِ الْخُدُورِ فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ المسْلمينَ وَدَعْوَتَهُمْ وَيَعْتَزِلْنَ مُصَلَّاهُمْ،

وجه الدلالة: «أُمِرْنَا أَنْ نَخْرُجَ» والأمر يقتضي الوجوب.

قال الحافظ

(2)

: وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ من جُمْلَة من أَمْرِ بِذَلِكَ من ليس بِمُكَلَّف فَظَهَرَ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إظْهَارَ شِعَارِ الإِسْلَامْ بِالمبَالغَة في الِاجْتِمَاعِ ولِتَعُمَّ الجَمِيعَ البَرَكَةُ والله أَعَلم.

الدليل الثاني: عَنْ أَبِى عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَكْبًا جَاءُوا إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلَالَ بِالأَمْسِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا، وَإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلاَّهُمْ

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (516).

(2)

«فتح الباري» (2/ 545).

(3)

إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (1157)، والنسائي (1556)، وابن ماجه (1653)، وأحمد (5/ 57، 58)، وغيرهم، وفِي إسناده: أبو عمير بن أنس: مجهول. قال ابن القطان: لم تثبت عدالته. وقال ابن عبد البر فِي «التمهيد» (14/ 360): وأما أبو عمير بن أنس فلم يرو عنه غير أبي بشر، ومن كان هكذا فهو مجهول. وأخرجه أحمد (13974)، وابن حبان (3456) وغيرهما من طريق سعيد بن عامر، عن شعبة عن قتادة عن أنس به. وهذه الرواية شاذة؛ لأن الثقات رووه عن شعبة على الوجه الأول. قال أبو حاتم فِي «العلل» (1/ 235): أَخْطَأَ فِيهِ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، إِنَّمَا هُوَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَتِهِ. وكذا أعله البزار والبيهقي.

ص: 497

فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغدوا لمصلاهم لصلاة العيد في اليوم الثاني للعيد، فدل ذلك أن صلاة العيد فرض.

ولكن اعترض عليه بأن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على صلاة العيدين حتى مات، وهذا يدل على وجوبها.

واعْتُرِض عليه: بأن المواظبة على الشيء لا تدل على وجوبه، ولذا فالمواظبة على صلاة الوتر لا توجبه، وكذا حديث الأعرابي «هل عليَّ غيرها؟» دل على الاستحباب.

واستدلوا بأن العيد إذا جاء يوم الجمعة، تسقط الجمعة، وإذا كانت الجمعة واجبة ولا يسقط الواجب إلا الواجب.

واعْتُرِض عليه: بأن هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ فإن أبا حنيفة لا يسقط الجمعة إذا جاء العيد في يومها، ثم لو صح ذلك؛ فإن العيد لا يُسقط الجمعة ولكنه ينقلها إلى بدل وهو الظهر.

• القول الثالث: أن صلاة العيدين واجبة عند الحنفية

(1)

على التفريق الذي عندهم بين الفرض والواجب

(2)

.

• القول الرابع: أن صلاة العيدين فرض كفاية: أي إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وهو قول أحمد في ظاهر المذهب.

قال ابن قدامة

(3)

: وَصَلَاةُ الْعِيدِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، في ظَاهِرِ المذْهَبِ، إذَا قَامَ بِهَا مَنْ يَكْفِي سَقَطَتْ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ ....

واستدلوا بالقياس، أي قياس صلاة العيدين على صلاة الجنازة، والجهاد.

قال ابن قدامة

(4)

: فَلم تَجِبْ عَلَى الْأَعْيَانِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ.

(1)

«بدائع الصنائع» (1/ 274).

(2)

الحنفية يفرقون بين الفرض والواجب، فيقولون: إن الفرض آكد من الواجب، والفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني، فعندهم العمرة واجبة والحج فرض. انظر:«مذكرة في أصول الفقه» للشنقيطي.

(3)

«المغني» (3/ 253)، وانظر:«الإنصاف» (2/ 42).

(4)

«المغني» (3/ 254).

ص: 498

قال الشوكاني

(1)

: استدل القائلون بأنه فرض كفاية بالقياس على صلاة الجنازة بجامع التكبير.

قال الماوردي

(2)

: فَذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّهُمَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ؛ لأنها مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْجِهَادِ، فَعَلَى هَذَا لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهَا قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ حَتَّى يُقِيمَهَا مَنْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِإِقَامَتِهِ.

والراجح، والله أعلم: ما ذهب إليه جمهور العلماء، أي أن صلاة العيدين سنة مؤكدة.

قال ابن المنذر: في خَبَر طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الْإِسْلَامِ فَقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم:«خَمْسُ صَلَوَاتٍ في اليوم وَاللَّيْلَةِ» قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ» عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ غَيْرُ مَفْرُوضٍ، وَأَنَّ مَنْ تَرَكَهُ غَيْرُ آثَمٍ.

•‌

‌ المبحث الرابع: هل يجب قتال بلد تركت صلاة العيدين؟

أولًا: من قالوا بأن صلاة العيدين فرض، قالوا: يقاتَلون.

ثانيًا: قال العظيم آبادي

(3)

: فَإِنْ قُلْنَا: فَرْضُ كِفَايَة، فَامْتَنَعَ أَهْلُ مَوْضِعِ مِنْ إقَامَتُهَا قُوتِلُوا عليها كَسَائِرِ فُرُوض الْكِفَايَةِ.

ثالثًا: من قال: إنَّ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ سُنَّة مُؤَكَّدَة، هل يُقَاتِلَ أَهْلُ بَلَد عَلَى تَرَكَهَا؟ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ:

القول الأول: لا يقاتلون؛ لأنه تطوع، فلا يقاتلون على تركها كسائر التطوع، ولأن القتل عقوبة لا تتوجه إلى تارك مندوب فلا إثم ولا قتال على تركها.

القول الآخر: يقاتلون؛ لأنها من شعائر الإسلام، وفِي تركها تهاون بالشرع، بخلاف سائر التطوع؛ لأنها تُفعل فرادى فلا يظهر تركها كما يظهر في صلاة العيد

(4)

، وهذا هو الراجح، والله أعلم.

(1)

«نيل الأوطار» (3/ 368).

(2)

«الحاوي» (3/ 104).

(3)

«عون المعبود» (3/ 484).

(4)

انظر: «المهذب» (5/ 2) و «المغني» (3/ 254) و «الحاوي» (3/ 104).

ص: 499

الفصل الأول شروط صلاة العيدين

وفيه مباحث

• المبحث الأول: هل إذن السلطان شرط في صحة صلاة العيدين؟

• المبحث الثاني: هل يُشترط المصر الجامع في صلاة العيدين؟

• المبحث الثالث: هل يُشترط الاستيطان لصلاة العيدين أم تُفعل في

السفر؟

• المبحث الرابع: هل يُشترط لصلاة العيدين أن تكون جماعة

أم تصح من المنفرد؟

• المبحث الخامس: هل يُشترط لصلاة العيدين الحرية والذكورة والبلوغ؟

ص: 500

‌الفصل الأول شروط صلاة العيدين

•‌

‌ المبحث الأول: هل إذن السلطان شرط في صحة صلاة العيدين؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، ورواية عن الحنابلة

(1)

إلى أن إذن الإمام ليس شرطًا في صحة صلاة العيدين.

واستدلوا لذلك بالمأثور والقياس:

أما دليلهم من المأثور: فعن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: «صَلَّيْتُ الْعِيدَ مَعَ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَعُثْمَانُ رضي الله عنه مَحْصُورٌ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ بَعْدَ الصَّلَاةِ»

(2)

.

وجه الدلالة: ما قاله الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ؛ لما رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه حِينَ كَانَ مَحْصُورًا بِالمدِينَةِ وصَلَّى عَلِيٌّ رضي الله عنه بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، وَلم يُرْوَ أَنَّهُ صَلَّى بِأَمْرِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَانَ الْأَمَرُ بِيَدِهِ.

2 -

عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ جَدِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:«أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ في مَنْزِلِهِ بِالزَّاوِيَةِ، فَإِذَا لم يَشْهَدِ الْعِيدَ بِالْبَصْرَةِ جَمَعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَوَالِيَهُ، ثُمَّ يَأْمُرُ مَوْلَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عُتْبَةَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ»

(3)

.

أما دليلهم من المعقول: فكما أنه يجوز صلاة الجمعة وسائر الصلوات بغير إذن الإمام، فكذا صلاة العيدين؛ لأنها عبادة لا تختص بفعل الإمام، وإذا كانت تصح من

(1)

«التمهيد» (10/ 285)، و «معالم السنن» (1/ 211)، و «الإنصاف» (2/ 425).

(2)

صحيح: أخرجه ابن شبة (4/ 1215) فِي «تاريخ المدينة» .

(3)

إسناده صحيح: وسيأتي تخريجه إن شاء الله.

ص: 501

الواحد فلا يلزم إذن الإمام

(1)

.

• القول الآخر: ذهب أبو حنيفة

(2)

، وأحمد في رواية

(3)

إلى أن إذن السلطان شرط في صحة صلاة العيدين.

واستدلوا لذلك بالسنة، والمأثور:

أما دليلهم من السنة: فروى ابن ماجه

(4)

من حديث جابر الطويل وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَاعْلموا أَنَّ اللَّهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ في مَقَامِي هَذَا، في يومي هَذَا، في شَهْرِي هَذَا، مِنْ عَامِي هَذَا، إِلَى يوم الْقِيَامَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا في حَيَاتِي أَوْ بَعْدِي، وَلَهُ إِمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ، اسْتِخْفَافًا بِهَا، أَوْ جُحُودًا لَهَا، فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَلَا بَارَكَ لَهُ في أَمْرِهِ» .

وجه الدلالة: أن الجمعة لا تكون إلا بإذن الإمام، والعيد كالجمعة.

واعْتُرِضَ عليه: بأن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما دليلهم من المأثور:

فقال الحسن: «أَرْبَعٌ إلَى السُّلْطَانِ

»، وَذَكَرَ مِنْهَا الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ

(5)

.

واعْتُرِضَ عليه: بأنه لا يصح.

واستدلوا بأدلة أخرى نظرية، منها: أنه لو لم يشترط السلطان لأدى ذلك إلى الفتنة؛ لأنها تقام بجمع عظيم، فَإِنَّ التَّقَدُّمَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ المصْرِ يُعَدُّ شَرَفًا وَرِفْعَةً، فَيَتَسَارَعُ

(1)

«المغني» (2/ 245)، و «التمهيد» (10/ 285).

(2)

«بدائع الصنائع» (1/ 275)، و «فتح القدير» (2/ 70).

(3)

«الإنصاف» (2/ 425)، و «المغني» (2/ 174).

(4)

ضعيف جدًّا: أخرجه ابن ماجه (1081)، قلت: وفِي إسناده عبد الله بن محمد العدوي، وعلي بن زيد، وهما ضعيفان.

(5)

ذكره صاحب «فتح القدير» (2/ 59) والزيلعي فِي «تبيين الحقائق» وفِي حاشية «مراقي الفلاح» (328)، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» (3/ 157) عَنِ الْحَسَنِ قال:«أَرْبَعٌ إلَى السُّلْطَانِ: الصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالْحُدُودُ، وَالْقَضَاءُ» . وفي إسناده (عائشة بنت سعد البصرية) لا يُعرف حالها.

ص: 502

إلَيْهِ، كُلُّ مَنْ مَالَتْ هِمَّتُهُ إلَى الرِّيَاسَةِ فَيَقَعُ التَّجَاذُبُ وَالتَّنَازُعُ وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى التَّقَاتُلِ

(1)

.

واعْتُرِضَ عليه: بأن صلاة الجمع والجماعات تقام بغير إمام، وهي آكد من صلاة العيد، ولا يحدث هذا التنازع، وإنما يكفِي الإمام الراتب الذي يصلي به الجمع.

والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء أي أن إذن الإمام ليس شرطًا في صحة صلاة العيدين.

•‌

‌ المبحث الثاني: هل يُشترط المصر الجامع

(2)

في صلاة العيدين؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: عدم اشتراط المصر الجامع في صلاة العيدين، وهو قول مالك والشافعي ورواية عن أحمد

(3)

.

واستدلوا بالسنة والمأثور والمعقول:

أما دليلهم من السنة: فعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى قُرَى عُرَيْنَةَ، وَفَدَكَ، وَيَنْبُعَ وَنَحْوِهَا مِنَ الْقُرَى مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ المدِينَةِ أَنْ يُجَمِّعُوا وَيَشْهَدُوا الْعِيدَيْنِ»

(4)

.

أما دليلهم من المأثور:

1 -

فعَنْ يُونُسَ، قَالَ: حدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَنَسٍ أَنَّ أَنَسًا كَانَ رُبَّمَا جَمَعَ أَهْلَهُ وَحَشَمَهُ يوم الْعِيدِ، فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ رَكْعَتَيْنِ

(5)

.

(1)

«فتح القدير» (2/ 55).

(2)

وفي تعريف المصر الجامع قال الكاساني فِي «بدائع الصنائع» (1/ 259): وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سِكَكٌ وَأَسْوَاقٌ وَلَهَا رَسَاتِيقُ وَفِيهَا وَالٍ يَقْدِرُ عَلَى إنْصَافِ المظْلُومِ.

(3)

«المدونة» (1/ 156)، وقال الشافعي فِي «الأم» (1/ 367): وَلَا أُرَخِّصُ لِأَحَدٍ فِي تَرْكِ حُضُورِ الْعِيدَيْنِ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، وَأَحَبُّ إليَّ أَنْ يصلى الْعِيدَانِ وَالْكُسُوفُ بِالْبَادِيَةِ التي لَا جُمُعَةَ فيها وَتُصَلِّيهَا المرْأَةُ فِي بَيْتِهَا، وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ تَرْكَهَا.

(4)

ضعيف: أخرجه عبد الرزاق (1/ 332/ 584) عن رجل من أسلم، عن الحجاج بن أرطاة، عن الزهري. ولهذا الأثر ثلاث علل: الأولى: الإرسال، الثانية: الإبهام، الثالثة: ضعف الحجاج.

(5)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 183)

ص: 503

2 -

عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلَهُ عَنِ الْقَوْمِ يَكُونُونَ في الرُسْتَاقِ وَيَحْضُرُهُمَ الْعِيدُ، هَلْ يَجْتَمِعُونَ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَجُلٌ؟ وَعَنِ الْجُمُعَةِ؟ فَكَتَبَ إِلَيَّ: أَمَّا الْعِيدُ فَإِنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَجُلٌ، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلَا عِلم لِي بِهَا

(1)

.

3 -

أثر عكرمة: قال في القوم يكونون في السواد في السفر يوم عيد الفطر أو أضحى: يجتمعون فيصلون ويؤمهم أحدهم

(2)

.

4 -

أثر الزهري: قال: كان يستحب لأهل البادية أن يخرجوا يوم العيد فيؤمهم أحدهم

(3)

.

أما دليلهم من المعقول: فهو إذا كانت الجمعة تقام في القرى فالعيد أَوْلى.

قال ابن رجب: جمهور العلماء على أن الجمعة تقام في القرى، فالعيد أَوْلى. قال: ولا خلاف أنه لا يجب على أهل القرى والمسافرين، وإنما الخلاف في صحة فعلها منهم، والأكثرون على صحته وجوازه، ويستدل لذلك بفعل أنس بن مالك، فإنه كان يسكن خارجًا من البصرة على أميال منها

(4)

.

وكذلك من الأدلة: أن الدين يسر، واشتراط المصر فيه مشقة، والصلاة عمل خير، والله يقول:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ولو كان اشتراط المصر واجبًا لبينه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .

• القول الآخر: ذهب أبو حنيفة إلى اشتراط المصر الجامع في صلاة العيدين

(5)

.

واستدل لذلك بما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قال عَلِيٌّ: «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ إِلاَّ في مِصْرٍ جَامِعٍ»

(6)

.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 10)

(2)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 10)

(3)

رجاله ثقات: أخرجه عبد الرزاق (3/ 331/ 5852) عن معمر عن الزهري.

(4)

«فتح الباري» (6/ 175).

(5)

«بدائع الصنائع» (1/ 260، 261)، «فتح القدير» (2/ 51).

(6)

إسناده صحيح: رواه ابن أبي شيبة (1/ 439/ 5059) وقد روي مرفوعًا ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: «السلسلة الضعيفة» رقم (917)، وانظر:«أحكام العيدين وبدعها» (ص 57).

ص: 504

قال ابن الهمام

(1)

: لم يُنْقَلْ عَنِ الصحابَةِ أَنَّهُمْ حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ اشْتَغَلُوا بِنَصْبِ المنَابِرِ وَالْجُمَعِ إلَّا في الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى، وَلَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَلَوْ آحَادًا، وَلَوْ مَصَّرَ الْإِمَامُ مَوْضِعًا وَأَمَرَهُمْ بِالْإِقَامَةِ فِيهِ جَازَ، وَلَوْ مَنَعَ أَهْلَ مِصْرٍ أَنْ يُجْمِعُوا لم يُجْمِعُوا ..

واعترض عليه بأنه ورد عن أنس وغيره.

فالراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء من عدم اشتراط المصر لما صح عن أنس أنه كان يكون في منزله بالزاوية، فإن لم يشهد العيد بالبصرة جَمَع أهله وحشمه، يوم العيد، فصلى بهم عبد الله بن أبي عتبة ركعتين

الأثر، ولو كان لابد من اشتراط المصر لما فعل أنس ذلك وهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إذا كانت الجمعة تقام في القرى وهي آكد فالعيد أَوْلى لأنه يوم فرح وسرور، واجتماع الناس في القرى الصغيرة إظهار شعيرة من شعائر الإسلام، وشهود الخير ودعوة المسلمين، واشتراط المصر الجامع يكون فيه مشقة لبعض الناس، وربما آل ذلك إلى عدم شهود كثير من المسلمين لصلاة العيد، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمَر الناس بالخروج حتى الحُيض لشهود بركة هذا اليوم، ولو كان المصر شرط لبينه صلى الله عليه وسلم، وصلاة العيد فعل خير فتقام في القرى، والله أعلم.

تنبيه: إذا كان لا يشترط المصر الجامع، فإنه لا ينبغي أن يكون في القرية الواحدة أكثر من مصلى؛ لأنه كلما كثر العدد كان أظهر لتلك الشعيرة، وينعقد العيد بما تنعقد به الجماعة، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الثالث: هل يُشترط الاستيطان لصلاة العيدين أم تُفعل في السفر؟

أجمع العلماء على أن المسافرين لا تجب عليهم صلاة العيدين

(2)

.

واختلفوا في جوازها، أو هل تشرع للمسافرين على قولين:

(1)

«فتح القدير» (2/ 51)

(2)

قال ابن رجب فِي «فتح الباري» (6/ 176): ولا خلاف أنه لا يجب على أهل القرى والمسافرين، وإنما الخلاف فِي صحة فعلها منهم والأكثرون على صحته وجوازه.

ص: 505

• القول الأول: ذهب الشافعي وأحمد في رواية: إلى أنه لَا بَأْسَ إنْ صلى قَوْمٌ مُسَافِرُونَ صَلَاةَ الْعِيدٍ

(1)

.

واستدلوا لهذا القول بالمأثور:

1 -

أثر الحسن البصري: قال في المسَافِرِ يَأْتِي عَلَيْهِ يوم عِيدٍ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الْأَضْحَى ذَبَحَ

(2)

.

2 -

كَانَ أَبو عِيَاضٍ، وَمُجَاهِد في يوم فِطْرٍ مُتَوَارِيَيْنِ زَمَانَ الْحَجَّاجِ، فَتَكَلم أَبُو عِيَاضٍ وَدَعَا لَهُمْ، وَأَمَّهُمْ بِرَكْعَتَيْنِ

(3)

.

• القول الثاني: ذهب أبو حنيفة، ومالك، وأظهر الروايتين عند أحمد إلى أن الإقامة شرط في صلاة العيدين

(4)

.

واستدلوا لذلك ببراءة الذمة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية

(5)

: وَالصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لِلمسَافِرِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُسَافِرُ أَسْفَارًا كَثِيرَةً، وَلم يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ قَطُّ أَنَّهُ صَلَّى في السَّفَرِ لَا جُمُعَةً وَلَا عِيدًا.

واعْتُرِضَ عليه بما قاله النووي: وأجابوا عن ترك النبي صلى الله عليه وسلم العيد بمنى بأنه كان تركها

(1)

«الأم» (1/ 368)، و «المغني» (3/ 287).

(2)

ذكره ابن المنذر فِي «الأوسط» (4/ 293) بدون إسناد قال: روينا عن الحسن.

(3)

صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5718) وابن أبي شيبة (2/ 183).

(4)

«بدائع الصنائع» (1/ 275)، و «الأوسط» (4/ 294)، و «المغني» (3/ 287).

(5)

«الفتاوى» (24/ 178). وروى عبد الرزاق (3/ 302) بسند صحيح عن الزهري قال: ليس على المسافر صلاة الأضحى، ولا صلاة الفطر إلا أن يكون فِي مصر أو قرية، فيشهد معهم الصلاة.

وقال الكاساني «بدائع الصنائع» (1/ 275): وَالْإِقَامَةُ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا كَمَا هِيَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالمجَانِينِ وَالْعَبِيدِ بِدُونِ إذْنِ مَوَالِيهِمْ وَالزَّمْنَى وَالمرْضَى وَالمسَافِرِينَ، كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ لما ذَكَرْنَا فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْذَارَ لما أَثَّرَتْ فِي إسْقَاطِ الْفَرْضِ فَلَأَنْ تُؤَثِّرَ فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ أَوْلَى.

ص: 506

لاشتغاله بالمناسك وتعليم الناس أحكامها، وكان ذلك أهم من العيد.

-والراجح أن صلاة العيد تُشرع للمسافرين، ويُشرع أن يصلوا العيد في السفر كالحضر، من الخطبة والتكبيرات وغيرها مما يُفعل في الحضر.

•‌

‌ المبحث الرابع: هل يشترط لصلاة العيدين أن تكون جماعة أم تصح من المنفرد؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: إن الجماعة ليست شرطًا في صلاة العيدين، وإنما تصح من المنفرد.

وهو قول المالكية ومذهب الشافعية في الجديد، والحنابلة في رواية، والظاهرية

(1)

.

ودليلهم في ذلك ما قاله الشوكاني

(2)

: أَصْل كُل صَلاةٍ تَصِحُّ فُرَادَى كما تَصِحُّ جَمَاعَة، وَصَلَاة الْعِيدِ صَلَاة من الصَّلَوَاتِ فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ فُرَادَى كان عليه الدَّلِيلُ، وَلَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ما صَلَّاهَا إلَّا جَمَاعَة، فَإِنَّ غَايَةَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذلك أَنْ التَّجْمِيعُ في الْعِيدِ أَوْلَى وَلَا شَكَّ في ذلك، وَمَحَلُّ النِّزَاعِ الصحة فَمنْ نَفَاهَا فَهُوَ المحْتَاج إِلَى الدَّلِيلِ.

• القول الآخر: إن الجماعة شرط في صلاة العيد، ولا تصح من المنفرد.

وإليه ذهب الحنفية، والشافعية في القديم، ورواية عن أحمد

(3)

.

والراجح أن الجماعة ليست شرطًا في صحة صلاة العيد، وأنه يصح للمسافر إذا كان وحده أن يصليها أو تأخر عنها أن يصليها منفردًا، وإن كانت الجماعة أفضل لما فيها من إظهار هذه الشعيرة وشهود بركة هذا اليوم، ويصلي المنفرد كما يصلي الإمام بالتكبيرات ولا يخطب، والله أعلم.

(1)

«الحاوي» (3/ 120) قال الشافعي: يصلي العيد المنفرد وفِي بيته، «رد المحتار» (3/ 46)، «المجموع» (5/ 26)، «المغني» (3/ 287)، و «المحلى» (4/ 86).

(2)

«السيل الجرار» (1/ 316).

(3)

«رد المحتار» (3/ 46)، «المجموع» (5/ 26)، «المغني» (3/ 287).

ص: 507

•‌

‌ المبحث الخامس: هل يشترط لصلاة العيدين الحرية والذكورة والبلوع أم أنها تصح من العبد والمرأة والصبي؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أنه تصح صلاة العيدين للعبد والمرأة والصبي، وبه قال مالك، والشافعي

(1)

.

واستدلوا بحديث أُمّ عَطِيَّةَ قالت: «أُمِرْنَا أَنْ نَخْرُجَ فَنُخْرِجَ الْحُيَّضَ وَالْعَوَاتِقَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ» .

وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بخروج النساء دليل علي صحة صلاة العيدين للنساء.

وروى البخاري عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَوْلَا مَكَانِي مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ.

وفي حديث ابن عباس أنه لم يشهد صلاة العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو صبي صغير لم يحتلم، وفيه دليل علي صحة صلاة الصبي للعيدين.

• القول الآخر: ذهب الحنفية إلى أنه يشترط لصلاة العيدين الذكورة والعقل والبلوغ.

قال الكاساني

(2)

: وَكَذَا الذُّكُورَةُ، وَالْعَقْلُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَصحةُ الْبَدَنِ، وَالْإِقَامَةُ - مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِهَا كَمَا هِيَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ وَالمجَانِينِ وَالْعَبِيدِ بِدُونِ إذْنِ مَوَالِيهِمْ.

والراجح: أنه لا يشترط الذكورة والبلوغ، فحديث أم عطية يدل على استحباب صلاة العيدين للنساء، وأنه لا يشترط الذكورة، وحديث ابن عباس يدل على أن صلاة العيدين مشروعة للصبيان، والعبد إذا أذِن له سيده، فتشرع له صلاة العيد.

* * *

(1)

«المدونة» (1/ 155)، «الأم» (1/ 368).

(2)

«بدائع الصنائع» (1/ 275).

ص: 508

الفصل الثاني بين يدي صلاة العيد

وفيه مباحث

• المبحث الأول: ليس للعيدين أذان ولا إقامة

• المبحث الثاني: هل ينادى لصلاة العيد بقول: «الصلاة جامعة؟»

• المبحث الثالث: صلاة العيد ركعتان.

• المبحث الرابع: وقت صلاة العيدين.

• المبحث الخامس: صلاة النافلة قبل صلاة العيد وبعدها.

• المبحث السادس: اتخاذ الإمام سترة لصلاة العيد.

ص: 509

‌الفصل الثاني بين يدي صلاة العيد

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: ليس للعيدين أذان ولا إقامة:

أجمع العلماء على أنه لا أذان ولا إقامة للعيدين.

قال ابن رجب

(1)

: ولا خلاف بين أهل العلم في هذا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيد بغير أذان ولا إقامة.

قال مالك: تلك السُّنة التي لا اختلاف فيها، واتفق العلماء على أن الأذان والإقامة للعيدين بدعة ومحدث.

قال البغوي

(2)

: وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلم، مِنْ أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ لا أَذَانَ وَلا إِقَامَةَ لِصَلاةِ الْعِيدِ، وَلا لِشَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ.

•‌

‌ المبحث الثاني: هل ينادي لصلاة العيد بقوله: «الصلاة جامعة» ؟

ذهب جمهور العلماء إلى عدم استحباب ذلك؛ لعدم وروده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام.

وذهب الشافعي إلى استحباب أن ينادي في العيدين بقوله (الصلاة جامعة)

(1)

«فتح الباري» (6/ 95).

(2)

«شرح السنة» (4/ 297)، قال ابن قدامة: وَلَا نَعْلم فِي هَذَا خلافًا مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَذَّنَ وَأَقَامَ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ فِي الْعِيدِ ابْنُ زِيَادٍ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ. وانظر «المغني» (3/ 267).

ص: 510

واستدل لذلك بما ورد عن الزهري: كان النبي صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ في الْعِيدَيْنِ المؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ.

واعْتُرِض عليه بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واستدلوا بالقياس على صلاة الكسوف، فكما ينادي إلى صلاة الكسوف «الصلاة جامعة» فكذا صلاة العيد.

واعترض عليه بأن هذا قياس مع الفارق، فإن الناس يعلمون وقت صلاة العيد، ولذا لا يحتاجون إلى هذا، بخلاف صلاة الكسوف.

قال ابن رجب

(1)

: واستحب ذلك الشافعي وأصحابنا، واستدلوا بمرسل الزهري وهو ضعيف، وبالقياس على صلاة الكسوف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه أرسل مناديًا ينادي: الصلاة جامعة. وقد يفَرَّقَ بين الكسوف والعيد بأن الكسوف لم يكن الناس مجتمعين له، بل كانوا متفرقَين في بيوتهم وأسواقهم. فنودوا لذلك، وأما العيد فالناس كلهم مجتمعون له قبل خروج الإمام.

•‌

‌ المبحث الثالث: صلاة العيد ركعتان:

اتفق العلماء على أن صلاة العيد مع الإمام ركعتان.

قال ابن قدامة

(2)

: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلم في أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَتَانِ، وَفِيمَا تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى الْعِيدَ رَكْعَتَيْنِ، وَفَعَلَهُ الْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إلَى عَصْرِنَا، لم نَعْلم أَحَدًا فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَا خَالَفَ فِيهِ.

(1)

«فتح الباري» (6/ 95).

(2)

«المغني» (3/ 265). وقد نقل الإجماع النووي «المجموع» (5/ 16)، وابن حزم في «مراتب الإجماع» (ص 32) وغيرهم.

ص: 511

وفي «الصحيحين»

(1)

من حديث ابن عباس {: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يوم الْفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لم يُصَلِّ قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا» .

•‌

‌ المبحث الرابع: وقت صلاة العيدين:

أجمعوا على أن العيد لا يصلى قبل طلوع الشمس

(2)

.

واتفقوا على أن قدر ما بين ارتفاع الشمس قدر رمح إلى زوالها وقت صلاة العيدين على أهل الأمصار

(3)

.

وقال الشيخ ابن عثيمين: صلاة العيد وقتها كصلاة الضحى، ومعلوم أن صلاة الضحى تكون من ارتفاع الشمس قدر رمح

(4)

، والدليل الأول: أن النبي وخلفاءه الراشدين لم يصلوها إلا بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، والثاني أن ما قبل ذلك وقت نهي، ولا يمكن أن يكون وقت النهي للصلاة

(5)

.

•‌

‌ المبحث الخامس: صلاة النافلة قبل صلاة العيد وبعدها:

أجمع العلماء على أنه ليس لصلاة العيد سنة قبلها ولا بعدها

(6)

.

واختلفوا في جواز مطلق التنفل في المصلى قبل صلاة العيد وبعدها على أقوال:

(1)

أخرجه البخاري (964)، ومسلم (884).

(2)

«شرح ابن بطال» (2/ 560)

(3)

مراتب الإجماع (ص 32).

(4)

قال ابن رجب (فتح البارى)(6/ 104): وقد اختلف في أول وقت صلاة العيد.

فقال أبو حنيفة وأحمد: أول وقتها إذا ارتفعت الشمس، وزوال وقت النهي وهو أحد الوجهين للشافعية، والثاني: أول وقتها إذا طلعت الشمس وإن لم يزل وقت النهى. وهو قول مالك.

(5)

«الشرح الممتع» (5/ 154).

(6)

«المجموع» (5/ 13).

ص: 512

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها

(1)

وممن ذهبوا إلى هذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر

(2)

وسلمة بن الأكوع

(3)

ومن التابعين: ابن سيرين

(4)

والشعبي ومسروق وشريح

(5)

والزهري والضحاك وعمر بن عبد العزيز

(6)

.

واستدلوا لذلك بما ورد في الصحيحين

(7)

من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ الفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ، لم يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا» .

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 220)، «المغني» (3/ 280).

(2)

روى مالك (الموطأ)(593) وغيره بسند صحيح عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ لم يَكُنْ يُصَلِّي يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَا بَعْدَهَا. وإسناده صحيح.

(3)

روي الفريابي (أحكام العيدين)(173) بسند صحيح عن يَزِيد بْن أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ =

= سَلمةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ خَرَجَ فَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا المصَلَّى، فَجَلَسَ وَجَلَسْتُ حَتَّى جَاءَ الْإِمَامُ، فَصَلَّى وَلم يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، ثُمَّ رَجَعَ. وروى هذا المعنى عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمرو وكعب بن عجرة وابن عباس، ولكن هذه الآثار لا تخلو من مقال. وانظر:«أحكام العيدين وبدعها» لأخي في الله/ رمزي صادق (ص 266 - 269).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 498).

(5)

إسناده صحيح: أخرجه الفريابي في «أحكام العيدين» .

(6)

روى عبد الرزاق (3/ 275) عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:«مَا عَلمنَا أَحَدًا كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَا بَعْدَهُ» . وتابع معمرًا يونس عند الفريابي «أحكام العيدين» (163) وسنده صحيح. وروى ابن أبي شيبة (1/ 498) بسند صحيح عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: «لَا صَلَاةَ قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا» . وروى الفريابي «أحكام العيدين» (166) بسند صحيح عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يُسَبِّحُ قَبْلَ الْعِيدَيْنِ وَلَا بَعْدَهُمَا.

(7)

البخاري (964) ومسلم (884).

ص: 513

• القول الثاني: ذهب الحنفية إلى جواز صلاة التطوع بعد الخطبة في المصلى دون ما قبلها

(1)

.

واستدلوا لذلك بالمأثور: «كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُصَلِّي بَعْدَ الْعِيدَيْنِ أَرْبَعًا»

(2)

.

وعَنْ عَاصِمٍ قَالَ: «رَأَيْتُ الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ يُصَلِّيَانِ بَعْدَ الْعِيدِ وَيُطِيلَانِ الْقِيَامَ»

(3)

.

وعن أبي إسحاق قال: «كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَلْقَمَةُ يُصَلُّونَ بَعْدَ الْعِيدِ أَرْبَعًا»

(4)

.

• القول الثالث: جواز النافلة قبل صلاة العيد لا بعدها

(5)

واستدلوا لهذا القول بالمأثور: عَنِ سليمان التَّيْمِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ أَنَسًا، وَالْحَسَنَ، وَسَعِيدَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ يُصَلُّونَ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ

(6)

.

أثر عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْقَاسِمِ: «أَنَّ أَبَاهُ الْقَاسِمَ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ أَنَّ يَغْدُوَ إِلَى المصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ»

(7)

.

وصح عن أبي بَرْزَةَ: أنه كَانَ يُصَلِّي في الْعِيدِ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ.

وكذا صح عن الأسود ومكحول

(8)

.

(1)

«بدائع الصنائع» (1/ 280)، و «المبسوط» (2/ 40).

(2)

إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 499).

(3)

رجاله ثقات: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 499).

(4)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 498).

(5)

«فتح الباري» (2/ 552).

(6)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (3/ 271) وابن أبي شيبة (1/ 499).

(7)

إسناده صحيح: رواه مالك (الموطأ)(1/ 231)

(8)

كما عند ابن أبي شيبة (المصنف)(1/ 499)

ص: 514

• القول الرابع: ذهب الشافعي إلى جواز التنفل قبل صلاة العيد وبعدها

(1)

.

واستدلوا لذلك بالمأثور:

أثر صفوان بن محرز: كَانَتْ صَلَاةُ صَفْوَانَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ خُرُوجِ الإِمَام، وَرَكْعَتَيْنِ مَعَ الإِمَامِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الإِمَامِ

(2)

.

مما سبق يتبين الآتي:

أجمع العلماء على أنه ليس لصلاة العيد سنة قبلية ولا بعدية، أما التنفل المطلق فذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يصلي في المصلى قبل صلاة العيد ولا بعدها لصحة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أما الشافعي فقال: وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَنَفَّلَ المأْمُومُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا في بَيْتِهِ وَفِي المسْجِدِ وَطَرِيقِهِ وَالمصَلَّى وَحَيْثُ أَمْكَنَهُ التَّنَفُّلُ إذَا حَلَّتْ صَلَاةُ النَّافِلَةِ بِأَنْ تَبْرُزَ الشَّمْسُ.

قال ابن عبد البر

(3)

: الصَّلَاةُ فِعْلُ خَيْرٍ، فَلَا يَجِبُ المنْعُ مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ كَغَيْرِهِ في الْأَوْقَاتِ المنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ كَغَيْرِهِ في الْإِبَاحَةِ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ في المسْجِدِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَكَيْفَ في المصَلَّى؟ وَمَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَحْسَنَ.

فأما ترك النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فقد قال ابن رجب

(4)

: وقد اختلف الناس في معنى ترك النبي (الصلاة يوم العيد قبلها وبعدها): فمنهم من قال: لأنه كان إمامًا، والإمام لا يتطوع في موضع صلاة العيد قبلها ولا بعدها؛ لأن حضوره كإقامة الصلاة، فلا يتطوع بعده، وإذا خطب انصرف وانصرف الناس معه، فلو صلى فلربما احتبس الناس له،

(1)

الأم (1/ 358)

(2)

إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 500)

(3)

«الاستذكار» (7/ 58).

(4)

«فتح الباري» (6/ 186).

ص: 515

وفيه مشقة.

قال ابن حزم

(1)

: وَالتَّنَفُّلُ قَبْلَهُمَا في المصَلَّى حَسَنٌ، فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَلَا حَرَجَ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ فِعْلُ خَيْرٍ.

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ صح أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ قَبْلَهُمَا، وَلَا بَعْدَهُمَا؟

قُلْنَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ الْإِمَامَ، وَكَانَ مَجِيئُهُ إلَى التَّكْبِيرِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ بِلَا فَصْلٍ، وَلم يَنْهَ -عليه لسلام- قَطُّ - لَا بِإِيجَابٍ وَلَا بِكَرَاهَةٍ - عَنْ التَّنَفُّلِ في المصَلَّى قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا، وَلَوْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً لِبَيْنِهَا عليه السلام.

•‌

‌ المبحث السادس: اتخاذ الإمام سترة لصلاة العيد:

روى البخاري من حديث ابن عمر: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ تُرْكَزُ الْحَرْبَةُ قدامه يوم الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ ثمَّ يُصَلِّي»

(2)

.

قال ابن بطال: حمل العنزة والحربة بين يديه لتكون له سترة في صلاته إذا كانت المصلى في الصحراء، ولم يكن فيها من البنيان ما يستتر به، ومن سنته عليه السلام أن لا يصلي المصلي إلا إلى سترة إمامًا كان أو منفردًا.

فإن قيل: فقد صلى عليه السلام بمنى إلى غير جدار في حديث ابن عباس حين نزل عن الأتان ومر بين يدي بعض الصف.

قيل له: هذا يدل من فعله عليه السلام أن السترة للمصلي ليست بفريضة، وأنها سنة مستحبة؛ لأن صلاته بمنى إلى غير السترة نادرًا من فعله عليه السلام، والذي واظب عليه طول دهره الصلاة إلى سترة

(3)

.

(1)

«المحلى» (5/ 90).

(2)

أخرجه البخاري (494، 972).

(3)

«شرح البخاري» لابن بطال (2/ 567).

ص: 516

الفصل الثالث صفة صلاة العيدين

صفة صلاة العيدين المجزئة كصفة سائر الصلوات.

وسوف نفصل ما تختص به صلاة العيدين من أحكام.

وفيه مباحث:

• المبحث الأول: موضع دعاء الاستفتاح

• المبحث الثاني: رفع الأيدي في تكبيرات صلاة العيد

• المبحث ا لثالث: عدد التكبيرات الزوائد في ركعتي العيد

• المبحث الرابع: هل يشرع الذكر بين كل تكبيرتين؟

• المبحث الخامس: التعوذ قبل الفاتحة

• المبحث السادس: الجهر بالقراءة في صلاة العيد

• المبحث السابع: ما يقرأ في صلاة العيدين

• المبحث الثامن: الحكمة في القراءة في العيدين بالسور المذكورة

ص: 517

‌الفصل الثالث صفة صلاة العيدين

قال النووي رحمه الله

(1)

: وَصِفَتُهَا المجزئة كصفة سائر الصلوات وسننها وهيئاتها كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَيَنْوِي بِهَا صَلَاةَ الْعِيدِ.

وسوف نفصل ما تختص به صلاة العيدين من أحكام:

•‌

‌ المبحث الأول: موضع دعاء الاستفتاح:

هل بعد تكبيرة الإحرام قبل التكبيرات الزوائد أو بعدها؟

ذهب جمهور العلماء إلى استحباب دعاء الاستفتاح عقب تكبيرة الإحرام قبل التكبيرات الزوائد

(2)

.

واستدلوا بأن الاستفتاح شُرع ليستفتح به الصلاة، فكان في أولها بعد تكبيرة الإحرام كسائر الصلوات.

وذهب ابن أبي ليلى، والأوزاعي، وقول عند الشافعية، ورواية عن أحمد إلى أن دعاء الاستفتاح يكون عقب التكبيرات الزوائد.

وذهب أحمد في رواية إلى أن المصلى مخير بين أن يستفتح بعد تكبيرة الإحرام أو التكبيرات الزوائد.

والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء من استحباب دعاء الاستفتاح عقب تكبيرة الإحرام؛ لأنه يستفتح به الصلاة

(3)

، والله أعلم.

(1)

«المجموع» (5/ 16).

(2)

انظر: «بدائع الصنائع» (1/ 277)، و «المجموع» (5/ 17)، و «الإنصاف» (2/ 427)، و «مسائل عبد الله لأبيه» رقم (487)، و «المغني» (3/ 273).

(3)

ومن أشهر صيغ دعاء الاستفتاح: ما رواه البخاري (744) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:

كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً. قال: أَحْسِبُهُ قَالَ: هُنَيَّةً فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ:«أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المشْرِقِ وَالمغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالماءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» .

وروى مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: «وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المسْلمينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الملِكُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلمتُ نَفْسِى وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى ذُنُوبِى جَمِيعًا إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، وَاهْدِنِى لأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» .

ص: 518

•‌

‌ المبحث الثاني: رفع الأيدى في تكبيرات صلاة العيد:

اختلف أهل العلم في رفع الأيدي في تكبيرات العيد على أقوال:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى استحباب رفع الأيدي في كل تكبيرة من التكبيرات الزائدة، وإليه ذهب الحنفية، وقول لمالك، والشافعية، والحنابلة

(1)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة والمأثور:

أما دليلهم من السنة: فعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا في سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: في افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَقُنُوتِ الْوِتْرِ وَفِي الْعِيدَيْنِ

»

(2)

.

وأما دليلهم من المأثور:

(1)

«المبسوط» (2/ 39)، وأخرج الفريابي (136) بإسناد صحيح قال: ثنا صفوان ثنا الوليد قال: سألت مالك بن أنس عن ذلك فقال: نعم، ارفع يديك مع كل تكبيرة ولم أسمع فيه شيئًا. مع أن المشهور عند مالك خلاف ذلك. وقال الشافعي فِي «الأم» (1/ 363): وَيَرْفَعُ المكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ يَدَيْهِ عِنْدَ كل تَكْبِيرَة. وعبد الله فِي «مسائله» رقم (478)

(2)

لا أصل له: ولم أقف عليه، وذكره الزيلعي فِي «نصب الراية» (1/ 389)، وقال: غريب بهذا اللفظ، وذكر طرقه وللمزيد انظر:«السلسلة الضعيفة» (1053، 1054).

ص: 519

1 -

فكَانَ عمر بن الخطاب يَرْفَعُ يَدَيْهِ في كُلِّ تَكْبِيرَةٍ عَلَى الْجَنَازَةِ وفِي الفطر والأضحى

(1)

.

2 -

وعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: يَرْفَعَ الْإِمَامُ يَدَيْهِ كُلما كَبَّرَ هَذِهِ التَّكْبِيرَة الزِّيَادَةِ في صَلَاةِ الْفِطْرِ؟ قال: نعم، وَيَرْفَعَ النَّاسِ أَيْضًا

(2)

.

3 -

وعن الوليد قال: قلت للأوزاعي: فأرفع يدي كرفعي في تكبيرة الصلاة؟ قال: نعم، ارفع يديك مع كلهن

(3)

.

• القول الثاني: ذهب أبو يوسف من الحنفية

(4)

، ومالك في المشهور عنه: إلى أن المكبر لا يرفع يديه في تكبيرات العيد الزوائد.

واستدلوا بحديث عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ: «أَلَا أُصَلِّى بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَصَلَّى فَلم يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلاَّ في أَوَّلِ مَرَّةٍ»

(5)

.

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه ابن المنذر فِي «الأوسط» (4/ 282)، وفِي إسناده ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ، وأخرجه البيهقي فِي «السنن الكبرى» (3/ 283) من طريق ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن عمر، وبكر لم يدرك عمر.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 293).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه الفريابي (136).

(4)

ذكره برهان الدين المرغيناني (2/ 77): وعن أبي يوسف، وفِي «المدونة» (1/ 155) قال مالك: وَلَا يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ من تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ إِلَا فِي الْأُولَى.

(5)

ضعيف (معل): وله طرق عن ابن مسعود بألفاظ مختلفة.

فرواه وكيع عن سفيان عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود به. أخرجه أبو داود (748)، والترمذي (257)، وأحمد (1/ 388، 442) وغيرهم.

ورواه النسائي (1025) وفِي «الكبرى» (645) من طريق ابن المبارك عن سفيان عن عاصم عن عبد الرحمن عن علقمة، عن عبد الله، وزاد:«ثم لم يعد» .

وقال ابن أبي حاتم فِي «العلل» (1/ 96): سَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَكَبَّرَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ لم يَعُدْ. قَالَ أَبِي: هَذَا خَطَأٌ، يُقَالُ وَهِمَ فِيهِ الثَّوْرِيُّ وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَاصِمٍ جَمَاعَةٌ، فَقَالُوا كُلُّهُمْ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَكَعَ فَطَبَّقَ وَجَعَلَهُمَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَلم يَقُلْ أَحَدٌ مَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ. وقد ضعف أحمد زيادة:«ثم لا يعود» كما في مسائل عبد الله (70 - 71)، وانظر «علل الدارقطني» (5/ 172، 173)، و «نصب الراية» (1/ 396).

ورواه ابن إدريس عن عاصم عن عبد الرحمن عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «عَلمنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ فَقَامَ فَكَبَّرَ، فَلما أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ، طَبَّقَ يَدَيْهِ بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَرَكَعَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعْدًا، فَقَالَ: صَدَقَ أَخِي، قَدْ كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا، ثُمَّ أُمِرْنَا بِهَذَا» أخرجه أبو داود (747)، والبخاري فِي رفع اليدين رقم (33)، وقال: هذا المحفوظ عن أهل النظر من حديث عبد الله بن مسعود.

وأخرجه الدارقطني (1/ 195)، وأبو يعلى (5039)، وغيرهما بلفظ:«صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلم يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ إِلَّا عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ» ، قال الدارقطني: تفرد به محمد ابن جابر وكان ضعيفًا عن حماد عن إبراهيم. وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلًا عن عبد الله من فعله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب.

ورواه حصين عن إبراهيم عن ابن مسعود موقوفًا: كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ شَيْءٍ ثُمَّ لَا يَرْفَعُ بَعْدُ. عند عبد الرزاق (2533، 2534)، وتابع حصينًا أبو معشر كما عند ابن أبي شيبة (2443) فرواه عن إبراهيم عن عبد الله: أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أَوَّلِ مَا يَسْتَفْتِحُ، ثُمَّ لَا يَرْفَعُهُمَا.

ص: 520

وفِي رواية: «ثم لم يعد» . عَنِ الْبَرَاءِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ

(1)

.

(1)

ضعيف: مدار هذا الحديث على يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء به.

واختلف على يزيد، فرواه جماعة الثقات الأثبات بدون لفظة «ثم لا يعود» . ومنهم سفيان كما عند أبي داود (780)، والحميدي (724)، وعبد الرازق (2530)، وأحمد (4/ 301، 303)، وغيرهم. وأخرجه أبو داود (749)، من طريق شريك، وعبد الرزاق (531) من طريق ابن عيينة، والدارقطني (1/ 293) من طريق إسماعيل بن زكريا، والطحاوي «شرح معاني الآثار» (1/ 24) من طريق مؤمل بن إسماعيل بزيادة «ثم لا يعود» وهذه اللفظة مدرجة، قال الحافظ في «التلخيص الحبير» (1/ 221): اتفق الحفاظ على قوله «ثم لا يعود» مدرج فِي الخبر من قول يزيد بن أبي زياد. ومدار هذا الحديث علي يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، وقال أحمد بن حنبل: لا يصح هذا الحديث كما في البيهقي «السنن» (2/ 76). وروى أبو داود (752)، وابن أبي شيبة (2440)، والطحاوي «شرح معاني الآثار» (1/ 224)، من طريق الحكم وعيسى عن عبد الرحمن ابن أبي ليلي عن البراء به، وابن أبي ليلي سيئ الحفظ.

ص: 521

• القول الثالث: أنه مخير في رفع الأيدي، وهو رواية عن أحمد، ونقله ابن المنذر عن مالك

(1)

.

قال ابن رشد: وَمِنْهُمْ مَنْ خَيَّرَ.

قال ابن المنذر: وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ في ذَلِكَ سُنَّةٌ لَازِمَةٌ فَمَنْ شَاءَ رَفَعَ يَدَيْهِ فِيهَا كُلِّهَا، وَفِي الْأُولَى أَحَبُّ إِلَيَّ.

والراجح: ما ذهب إليه جمهور العلماء، أي رفع الأيدي في تكبيرات العيد الزوائد، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الثالث: عدد التكبيرات الزوائد في ركعتي العيد:

اختلف أهل العلم في عدد التكبيرات الزوائد في ركعتي العيد على أقوال من أهمها:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة

(2)

إلى أن التكبير في الركعة الأولى سبع وفِي الثانية خمس

(3)

وصح ذلك عن أبي هريرة

(4)

وابن عباس

(5)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة والمأثور:

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُ في الْفِطْرِ وَالأَضْحَى، في الأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا

(6)

.

(1)

«الأوسط» (4/ 283).

(2)

«المدونة» (1/ 155)، «المجموع» (5/ 15)، «المغني» (3/ 271). قال أبو داود «سؤالاته» (421): قلت: لأحمد بن حنبل: تكبير العيدين. قال: يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا، يُكَبِّرُ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ إذَا افْتَتَحَ مع تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، يَرْفَعَ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ، وَهِيَ ثَامِنَةٌ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُكَبِّرُ خَمْسُ تَكْبِيرَاتٍ يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ ثُمَّ يَقْرَأَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَرْكَعَ.

(3)

هل هذه التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام؟ قال ابن عبد البر «الاستذكار» (7/ 50): واتفق - أي الأئمة الثلاثة-عَلَى أَنَّ الْخَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ تَكْبِيرَةِ الْقِيَامِ (أ-هـ)، واختلفوا فِي الركعة الأولى فقَالَ الشَّافِعِيّ هُوَ سَبْع فِي الْأُولَى غَيْر تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، وَقَالَ مَالِك وَأَحْمَد وَأَبُو ثَوْر كَذَلِكَ، لَكِنْ سَبْع فِي الْأُولَى إِحْدَاهُنَّ تَكْبِيرَة الْإِحْرَام. انظر «شرح مسلم» (2/ 485).

(4)

أخرجه مالك «الموطأ» (1/ 230)، و غيره عن نافع. وإسناده صحيح.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (5710) بإسناد صحيح.

(6)

أخرجه أبو داود (1149) وغيره، عن ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة به. =

ص: 522

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأخرجه أحمد في «المسند» (6/ 70). عن ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، وزاد فيه:«سِوَى تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ» . وهذا الحديث اختلف فيه على ابن لهيعة ألوانًا، وعلى كلٍّ فمداره على ابن لهيعة وفيه ضعف. ولهذا الحديث شواهد:

1 -

حديث ابْن عُمَرَ {عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي تَكْبِيرِ الْعِيدَيْنِ: فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى سَبْعًا، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار) (4/ 344)، والدارقطني (2/ 48)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 76)، وقد اختلف فِي هذا ألوانًا، مما يدل على أنه اضطرب فيه. والفرج بن فضالة ضعيف، وقد أخرجه الخطيب «تاريخ بغداد» (10/ 364)، من طريق عبد الله بن عبد الحكم المصري عن مالك عن نافع عن ابن عمر موقوفًا، وعبد الله بن عبد الحكم خالف الثقات الذين روه عن مالك عن نافع عن أبي هريرة، وقد أعله البخاري وابن أبي حاتم، وقد قال البخاري في «العلل الكبير» للترمذي (ص 94) حديث (156): وحديث الفرج بن فضالة عن عبد الله عن نافع بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا خطأ، الفرج بن فضالة ذاهب الحديث. والصحيح ما روى مالك، وعبد الله، والليث، وغير واحد من الحفاظ عن نافع عن أبي هريرة فعله. وقال ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 207/ 597): سألتُ أبي عن حديثٍ رواه نافع بن أبي نعيم عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر أَنه كان يكبر في العيدين سبعا

قال أبي هذا خطأ روى هذا الحديث، عن أبي هُرَيرة أَنه كان يكبر. وله 2 - وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 356)، وفي إسناده: ابن لهيعة وهو ضعيف. وأخرجه ابن عدي (2/ 48) وفِي إسناده بركة بن محمد، قال الدارقطني: يضع الأحاديث. والصحيح فِي هذا الحديث الوقف على أبي هريرة. وبذلك قال البخاري كما فِي «علل الترمذي» (ص 94) والدارقطني (1632) قال: والصحيح عن مالك وعبيد الله وشعيب بن أبي حمزة عن نافع أنه صلى خلف أبي هريرة

موقوفًا.

3 -

وعَنْ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ في الْعِيدَيْنِ في الأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِى الآخِرَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. أخرجه الترمذي (536)، وابن ماجه (1279)، وغيرهما، وفِي إسناده: كثير بن عبد الله بن عمرو: متروك.

4 -

وحديث سعد: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ، فِي الأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، وَفِي الآخِرَةِ خَمْسًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. أخرجه ابن ماجه (1277)، وفِي إسناده: عبد الرحمن بن سعد، وأبوه وكلاهما ضعيف.

5 -

وحديث جابر: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ يُكَبَّرَ لِلصَّلَاةِ في الْعِيدَيْنِ سَبْعًا وَخَمْسًا، يُذْكَرُ اللَّهُ مَا بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ. أخرجه البيهقي (3/ 292)، وفِي إسناده علي بن عاصم فيه ضعف.

ص: 523

• القول الثاني: ذهب الحنفية إلى أنَّ التَّكْبِيرَ في صَلَاةِ الْعِيدِ تِسْعٌ: خَمْسٌ في الرَّكْعَةِ الْأُولَى فِيهَا تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ وَالرُّكُوعِ، وَأَرْبَعٌ في الثَّانِيَةِ فِيهَا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ

(1)

.

الحاصل: ذهب جمهور العلماء إلى أن التكبير في صلاة العيدين في الركعة الأولى سبع، وفي الركعة الثانية خمس، واستدلوا بأحاديث ولكنها لا تصح.

قال الإمام أحمد رحمه الله: وليس يروى في العيدين حديث صحيح.

قلت: ولكن صح ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة، وهذا هو الراجح، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الرابع: هل يُشرع الذكر بين كل تكبيرتين؟

اختلف أهل العلم في الذكر بين التكبيرتين على قولين.

• القول الأول: ذهب أبو حنيفة ومالك إلى الموالاة بين التكبيرات بدون ذكر

(2)

.

قال النووي

(3)

: وجُمْهُور الْعُلماء يَرَى هَذِهِ التَّكْبِيرَات مُتَوَالِيَة مُتَّصِلَة.

• القول الآخر: ذهب الشافعي

(4)

وأحمد

(5)

إلى أنه يستحب بين كل تكبيرتين ذكر الله

= وحديث عبد الرحمن بن عوف: عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَخْرُجُ لَهُ الْعَنَزَةُ فِي الْعِيدَيْنِ حَتَّى يُصَلِّيَ إِلَيْهَا وَكَانَ يُكَبِّرُ ثَلاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمَا وَرِضْوَانُهُ يَفْعَلانِ ذَلِكَ. أخرجه البزار «البحر الزخار» (1023)(3/ 234)، وفِي إسناده الحسن بن عبادة متروك.

وعن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ فِي عِيدٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الْآخِرَةِ، وَلم يُصَلِّ قَبْلَهَا، وَلَا بَعْدَهَا» . أخرجه أحمد (2/ 180)، واختلف عليه ألوانًا، وفِي إسناده عبد الله الطائفِي فيه ضعف. وله شواهد أخر لا تخلو من مقال.

(1)

«المبسوط» (2/ 38).

(2)

«المبسوط» (2/ 39)، و «الحاوي» (3/ 116).

(3)

«شرح مسلم» (2/ 485).

(4)

قال الشافعي في «الأم» (1/ 362): وإذا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ ثُمَّ بَدَأَ بِالتَّكْبِيرَةِ الأولى من السَّبْعَةِ بَعْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَكَبَّرَهَا، ثُمَّ وَقَفَ بين الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ قَدْرَ قِرَاءَةِ آيَةٍ لَا طَوِيلَةٍ وَلَا قَصِيرَةٍ، فَيُهَلِّلُ اللَّهَ عز وجل وَيُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ، ثُمَّ صَنَعَ هذا بين كل تَكْبِيرَتَيْنِ.

(5)

قال شيخ الإسلام في «الفتاوى» (24/ 219): وَأَمَّا بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ فَإِنَّهُ يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ. هَكَذَا رَوَى نَحْوَ هَذَا الْعُلماءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.

وَإِنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي. كَانَ حَسَنًا. وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصحابَةِ.

ص: 524

تعالى، وبه قال عطاء

(1)

ومكحول

(2)

.

واستدلوا لذلك بالسنة والمأثور:

أما من السنة: فحديث جابر قال: «مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ يُكَبِّرَ لِلصَّلَاةِ في الْعِيْدَيْنِ سَبْعًا وَخَمْسًا، يَذْكُرُ اللَّهَ بين كل تَكْبِيرَتَيْنِ»

(3)

.

واعترض عليه: بأنه لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما دليلهم من المأثور:

فعَنْ إِبْرَاهِيمَ، أَنَّ الْوَلِيدَ بن عُقْبَةَ دَخَلَ المسْجِدَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو مُوسَى في عَرْصَةِ المسْجِدِ، فَقال الْوَلِيدُ: إِنَّ الْعِيدَ قَدْ حَضَرَ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقال ابْنُ مَسْعُودٍ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَتَحْمَدُ اللَّهَ، وَتُثْنِي عَلَيْهِ، وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَدْعُو اللَّهَ

(4)

.

والراجح والله أعلم: ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك من الموالاة بين التكبيرات بدون ذكر؛ لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب خبر ولا عن أحد من أصحابه، والعبادة

(1)

روى البيهقي في «الكبرى» (3/ 293) بسند صحيح عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: يَرْفَعُ يَدَيْهِ في كُلِّ تَكْبِيرَةٍ، ثُمَّ يَمْكُثُ هُنَيْهَةً، ثُمَّ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُصَلَّى عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يُكَبِّرُ.

(2)

روى عبد الرزاق بسند حسن عن مكحول قال: بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ صَلَاةٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

(3)

ضعيف: أخرجه البيهقي (3/ 292)، وفِي إسناده علي بن عاصم فيه ضعف.

(4)

إسناده ضعيف: أخرجه الطبراني (9/ 351) وفي إسناده حماد بن أبي سليمان ضعيف. وإبراهيم، قال الهيثمي: لم يدرك واحدًا من الصحابة.

وأخرجه عبد الرزاق (5697)، والطبراني في «الكبير» (9/ 353) وفي إسناده عبد الكريم بن أبي المخارق، قال الهيثمي (2/ 205): ضعيف.

وأخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 280) عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود به.

ص: 525

توقيفية. والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الخامس: التعوذ قبل الفاتحة:

يستحب التعوذ بعد التكبيرات الزوائد في العيدين وقبل قراءة الفاتحة عند الجمهور.

قال عبد الله بن أحمد

(1)

: سمعت أبي يقول: إذا قرأ استعاذ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، يقول: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

قال النووي

(2)

: وأما التعوذ فمذهبنا أنه يقوله بعد التكبيرات الزوائد وقبل الفاتحة.

قال السرخسي

(3)

: فَأَمَّا التَّعَوُّذُ فَيَأْتِي بِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَقِيبَ ثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ قَبْلَ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله بَعْدَ الزَّوَائِدِ حِينَ يُرِيدُ الْقِرَاءَةَ؛ لأنها لِلْقِرَاءَةِ عِنْدَهُ.

•‌

‌ المبحث السادس: الجهر بالقراءة في صلاة العيد:

قال النووي

(4)

: وأجمعت الأمة على أنه يجهر بالقراءة.

وقال الزركشي

(5)

: ويجهر بالقراءة، وهذا إجماع توارثه الخلف عن السلف، وفي قولهم: إنه كان يقرأ في الأولى بكذا وفي الثانية بكذا - دليل على ذلك.

•‌

‌ المبحث السابع: ما يقرأ في صلاة العيدين:

قال ابن قدامة

(6)

: لَا نَعْلم خلافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلم في أَنَّهُ يُشْرَعُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ في كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ.

(1)

«مسائل عبد الله» (486).

(2)

«المجموع» (5/ 21).

(3)

«المبسوط» (2/ 40).

(4)

«المجموع» (5/ 18).

(5)

«شرح الزركشي» (4/ 221).

(6)

«المغني» (3/ 268).

ص: 526

قال ابن رشد

(1)

: وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا تَوْقِيتَ في الْقِرَاءَةِ في الْعِيدَيْنِ، وَأَكْثَرُهُمُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ في الْأَوْلَى بِسَبِّحِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْغَاشِيَةِ، لِتَوَاتُرِ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

روى مسلم

(2)

من حديث النعمان بن بشير قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ في الْعِيدَيْنِ وَفِى الْجُمُعَةِ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ في يوم وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أيضًا في الصَّلَاتَيْنِ.

وروى مسلم

(3)

أيضًا من حديث أبي واقد قال: سَأَلَنِى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَمَّا قَرَأَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في يوم الْعِيدِ فَقُلْتُ بِ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} وَ {ق وَالْقُرْآنِ المجِيدِ} .

الحاصل: أنه يشرع في صلاة العيد قراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن في كل ركعة بالإجماع، ويستحب أن يقرأ بعد الفاتحة في العيدين في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الركعة الثانية بالغاشية لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ أحيانًا ب {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} و {ق وَالْقُرْآنِ المجِيدِ} ؛ لثبوت ذلك أيضًا

(4)

.

•‌

‌ المبحث الثامن: الحكمة في القراءة في العيدين بالسور المذكورة:

قال الشوكاني

(5)

: ووجه الحكمة في القراءة في العيدين بالسور المذكورة أن في سورة سبح الحث على الصلاة وزكاة الفطر، على ما قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في تفسير قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى 14 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15]

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 27).

(2)

أخرجه مسلم (878).

(3)

أخرجه مسلم (891).

(4)

قال السرخسي في «المبسوط» : وَأَيُّ سُورَةٍ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ جَازَ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى} وَ {هَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فَإِنْ تَبَرَّكَ بِالِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قِرَاءَةِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فَحَسَنٌ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ حَتْمًا فِي صَلَاةٍ لَا يَقْرَأُ فِيهَا غَيْرَهُ، فَرُبَّمَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ تِلْكَ الصَّلَاةُ إلَّا بِقِرَاءَةِ تِلْكَ السُّورَةِ، فَكَانَ هُوَ مُدْخِلًا فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» .

(5)

«شرح مسلم» للنووي.

ص: 527

فاختصت الفضيلة بها كاختصاص الجُمعة بسورتها، وأما الغاشية فللموالاة بين سبح وبينها كما بين الجمعة والمنافقين. وأما سورتا ق واقتربت، فنقل النووي في «شرح مسلم» عن العلماء أن ذلك لما اشتملتا عليه من الإخبار بالبعث والإخبار عن القرون الماضية وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس في العيد ببروزهم في البعث وخروجهم من الأجداث كأنهم جرادٌ منتشر.

• ملخص ما سبق في صلاة العيدين:

يتقدم الإمام ويكون بين يديه سترة، ويصلي ركعتين ينوي بهما صلاة العيد، والنية محلها القلب، ثم يرفع يديه حذو منكبيه أو أذنيه فيكبر تكبيرة الإحرام، ثم يأتي بدعاء الاستفتاح، ثم يكبر التكبيرات الزوائد يرفع يديه مع كل تكبيرة، ويكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات، ويوالي التكبيرات، ثم بعد الانتهاء من التكبيرات الزوائد يتعوذ ويقرأ الفاتحة ثم يقرأ سورة (الْأَعْلَى) في الركعة الأولى أو (ق)، وفي الركعة الثانية (الْغَاشِيَةِ) أو (الْقَمَر)، ثم يركع ويسجد، ثم يأتي بالركعة الثانية ثم يتشهد ويسلم.

* * *

ص: 528

أحكام مهمة تتعلق بصلاة العيدين

وفيه مباحث:

• المبحث الأول: من فاته العيد كم يصلي؟

• المبحث الثاني: إذا ا تفق العيد مع جمعة، هل يجزئ أحدهما

عن الآخر؟

• المبحث الثالث: المسبوق ببعض صلاة العيد

• المبحث الرابع: صلاة العيد من الغد

ص: 529

‌الفصل الرابع أحكام مهمة تتعلق بصلاة العيدين

•‌

‌ المبحث الأول: من فاته العيد كم يصلي؟

اختلف أهل العلم فيمن فاته العيد كم يصلي على قولين:

• القول الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن من فاتته صلاة العيد فعليه أن يصلي كصلاة الإمام.

وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد

(1)

.

واستدلوا لهذا بالمأثور:

1 -

عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكُونُ في مَنْزِلِهِ بِالزَّاوِيَةِ، فَإِذَا لم يَشْهَدِ الْعِيدَ بِالْبَصْرَةِ، جَمَعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ وَمَوَالِيَهُ، ثُمَّ يَأْمُرُ مَوْلَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عُتْبَةَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ

(2)

.

2 -

وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَنْ فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ يَوْمَ الْفِطْرِ صَلَّى كَمَا يُصَلِّي الْإِمَامُ. قَالَ مَعْمَرٌ: إِنْ فَاتَتْ إِنْسَانًا الْخُطْبَةُ أَوِ الصَّلَاةُ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى ثُمَّ حَضَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ

(3)

.

3 -

عن عطاء قال: «يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُكَبِّرُ»

(4)

.

(1)

«فتح الباري» لابن رجب (6/ 171)، و «بداية المجتهد» (1/ 219)، و «الأوسط» (4/ 291).

(2)

إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5855) عن هشيم عن عبيد الله عن جده أنس به. وأخرجه ابن أبي شيبة (5802)، وغيره عن ابن علية عن يونس به.

(3)

أخرجه عبد الرزاق (5716) عن معمر عن قتادة به.

(4)

رجاله ثقات: أخرجه ابن أبي شيبة (5801).

ص: 530

• القول الثاني: ذهب أحمد في رواية له إلى أنه يصلي أربعًا.

واستدل لذلك بما روي عن ابن مسعود قال: مَنْ فَاتَهُ الْعِيدُ مَعَ الإِمَام فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا

(1)

.

وعَن الهزيل قَالَ: قيل لعَلي: لَو أمرت من يُصَلِّي بضعفاء النَّاس في المسْجِد يَوْم الْعِيد! قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُ لَأَمَرْتُهُ أَنْ يُصَلِّي أَرْبعا

(2)

.

أما استدلاله من القياس: فقاس العيد على الجمعة، فمن فاتته صلاة الجمعة صلاها أربعًا فكذا العيد.

واعْتُرِضَ عليهم بما قاله الزين بن المنير: كأنهم قاسوها على الجمعة، لكن الفرق ظاهر؛ لأن من فاتته الجمعة يعود لفرضه من الظهر، بخلاف العيد.

قال ابن رشد

(3)

: فَمَنْ قَالَ أَرْبَعًا شَبَّهَهَا بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ ضَعِيفٌ.

• القول الثالث: قال أبو حنيفة: يتخير بين الثنتين والأربع

(4)

.

والراجح ما ذهب إليه جمهور العلماء؛ لفعل أنس، والأصل أن تقضى الصلاة كما يصليها الإمام إلا أن يأتي نص ينقل هذا الأصل.

قال ابن المنذر: سَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ، فَكُلُّ مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ

(1)

قال الحافظ في «الفتح» (2/ 55): أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح.

(2)

مخرج في مجلسين من إملاء النسائي ص (60) رقم (33) تحقيق الشيخ أبي إسحاق الحويني، وفي إسناده عبد الرحمن بن ثروان، وهو مختلف فيه، وقال الحافظ: صدوق ربما خالف. وأخرجه البيهقي «السنن الكبرى» (3/ 310) وابن المنذر في «الأوسط» (4/ 257) من طريق شعبة عن محمد بن النعمان عن أبي قيس عن الهزيل أن عليًا

به. وعند ابن المنذر عن أبي الهزيل، ورواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (23/ 5/ 1815) عن وكيع عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ، قَالَ: أَظُنُّهُ عَنْ هُذَيْلٍ، «أَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ أَرْبَعًا كَصَلَاةِ الْهَجِيرِ. ورواه البيهقي في «المعرفة» (3/ 58/ 1942) فيما بلغ الشافعي عن أبي أحمد الكوفي عن سفيان عن أبي قيس عن هزيل عن علي مثله، وفي بعض الروايات:«ركعتين» ولكن إسنادها فيه ضعف، والله أعلم.

(3)

«بداية المجتهد» (1/ 219).

(4)

«فتح الباري» (2/ 550).

ص: 531

صَلَّاهَا كَمَا سَنَّهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ في عَدَدِ الصَّلَاةِ لمنْ فَاتَهُ الْعِيدُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، وَلَا أَحْسَبُ خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ يَثْبُتُ

(1)

.

قال ابن بطال: وأَوْلى الأقوال بالصواب أن يصليها كما سنها رسول الله وهو الذي أشار إليه البخاري

(2)

.

ومن كان مريضًا أو عاجزًا فله أن يصلي في بيته ركعتين، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الثاني: اجتماع العيد والجمعة:

إذا اتفق العيد مع جمعة هل يجزئ أحدهما عن الآخر؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

• القول الأول: ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن صلاة العيد لا تجزئ عن صلاة الجمعة.

واستدلوا لذلك بعموم قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يوم الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَلم يَخُصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَوْمَ عِيدٍ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ تَجِبُ حُجَّتُهُ

(3)

.

واستدلوا أيضًا بأن التطوع لا يُسقط فريضة.

قال ابن رشد

(4)

: وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ وَجُمُعَةٌ فَالمكَلَّفُ مُخَاطِبٌ بِهِمَا جَمِيعًا: الْعِيدُ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَالْجُمُعَةُ عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ، وَلَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ في ذَلِكَ شَرْعٌ يَجِبُ المصِيرُ إِلَيْهِ.

قال ابن حزم

(5)

: وَإِذَا اجْتَمَعَ عِيدٌ في يَوْمِ جُمُعَةٍ: صُلِّيَ لِلْعِيدِ، ثُمَّ لِلْجُمُعَةِ وَلَا بُدَّ .. والْجُمُعَةُ فَرْضٌ وَالْعِيدُ تَطَوُّعٌ، وَالتَّطَوُّعُ لَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ.

• القول الثاني: أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْعِيدَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ، لَكِنْ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْجُمُعَةَ

(1)

«الأوسط» (4/ 292).

(2)

«شرح ابن بطال» (2/ 572).

(3)

«التمهيد» (10/ 277).

(4)

«بداية المجتهد» (1/ 219).

(5)

«المحلى» (5/ 89).

ص: 532

لِيَشْهَدَهَا مَنْ شَاءَ شُهُودَهَا وَمَنْ لم يَشْهَدْ الْعِيدَ، وهذا قول أحمد

(1)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قال: «قَدِ اجْتَمَعَ في يومِكُمْ هَذَا عِيدَانِ، فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنَ الْجُمُعَةِ وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ»

(2)

.

وعن زيد بن أرقم: عَنْ إِيَاسِ بْنِ أَبِي رَمْلَةَ قال: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ: أَشَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِيدَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ صَلَّى الْعِيدَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، ثُمَّ رَخَّصَ في الْجُمُعَةِ

(3)

.

وعن ابن عمر: قال: اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ قال:

(1)

«الفتاوى» (24/ 210)، و «المستوعب» (3/ 69). قال عبد الله في مسائله لأبيه: سألت أبي عن عيدين اجتمعا في يوم يترك أحدهما؟ قال: لا بأس به، أرجو أن يجزئه.

(2)

إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود (1073)، واللفظ له، وابن ماجه (1311) وغيرهما، من طريق بقية بن الوليد قال: حدثنا شعبة عن المغيرة الضبي عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله متصلًا. قلت: وبقية يدلس تدليس التسوية ولم يصرح بالتحديث في طول السند، قال ابن عبد البر رحمه الله في «التمهيد» (10/ 272): وَهَذَا الْحَدِيثُ لم يَرْوِهِ فِيمَا عَلمتُ عَنْ شُعْبَةَ أَحَدٌ مِنْ ثِقَاتِ أَصْحَابِهِ الْحُفَّاظِ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ عَنْهُ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فِي شُعْبَةَ أَصْلًا. اه. وفي إسناده المغيرة مدلس وقد عنعن، وتابع مغيرة بن زياد البكائي، كما عند البيهقي (3/ 318)، وأخرجه الدارقطني في «العلل» (10/ 215) عن وهب بن حفص عن شعبة عن عبد العزيز بن رفيع، ووهيب بن حفص كان يضع الحديث، ورواه عبد الرزاق (5728) وغيره عن سفيان الثوري عن عبد العزيز عن أبي صالح مرسلًا بدون ذكر أبي هريرة، وقد أعل هذا الحديث الإمام أحمد والدارقطني وأبو حاتم بالإرسال. انظر:«تاريخ بغداد» (3/ 129)، و «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 208) ومن أراد المزيد فلينظر كتاب «أحكام العيدين وبدعها» (ص 395).

(3)

إسناده ضعيف: أخرجه النسائي (1590)، وفي «الكبرى» (1/ 552) حديث رقم (1793)، واللفظ له، وأخرجه أبو داود (1070)، وابن ماجه (1310) وغيرهم، وفي إسناده إياس بن أبي رملة، مجهول.

ص: 533

«مَنْ شَاءَ أَنْ يَأْتِيَ الْجُمُعَةَ فَلْيَأْتِهَا، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَخَلَّفَ فَلْيَتَخَلَّفْ»

(1)

.

• القول الثالث: إذا اجتمع العيد والجمعة فيرخص لأهل العوالي والبوادي الذين يردون الأمصار للعيد ترك الجمعة لفعل عثمان. وهذا قول الشافعي

(2)

وقول لبعض المالكية

(3)

.

واستدلوا لذلك بما روى البخاري عن أبي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قال: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَكَانَ ذَلِكَ يوم الْجُمُعَةِ فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ ثُمَّ خَطَبَ فَقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا يوم قَدِ اجْتَمَعَ لَكُمْ فِيهِ عِيدَانِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْتَظِرَ الْجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي فَلْيَنْتَظِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ

(4)

.

• القول الرابع: إذا اجتمع العيد والجمعة، فمن شهد العيد فليس عليه جمعة ولا ظهر في هذا اليوم، وهذا روي عن علي

(5)

وابن الزبير. وهذا قول ضعيف.

واستدلوا لذلك بما ورد: عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قال: اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ

(1)

إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه ابن ماجه (1312) وغيره، وفي إسناده مندل وجبارة وكلاهما ضعيف. وأخرجه الطبراني في «الكبير» (12/ 435)، وفي إسناده: سعيد بن راشد السماك متروك. وروى عبد الرزاق (5729) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ المدِينَةِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اجْتَمَعَ فِي زَمَانِهِ يَوْمُ جُمُعَةٍ وَيَوْمُ فِطْرٍ

الحديث، وهذا إسناده ضعيف جدًّا، وروى عن ابن جُرَيْجٍ قال: حُدِّثْتُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وأخرجه الشافعي (1/ 224)، وفي إسناده إبراهيم بن محمد بن يحيى وهو متروك.

(2)

«الأم» (1/ 366).

(3)

«المنتقى» (1/ 317).

(4)

أخرجه البخاري (5572).

(5)

عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلميِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: اجْتَمَعَ عِيدَانِ فِي يوم، فَقَالَ:«مَنْ أَرَادَ أَنْ يُجَمِّعَ فَلْيُجَمِّعْ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ» . قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ. إسناده صحيح: أخرجه عبد الرزاق (5731) عن الثوري عن عبد الله عن أبي عبد الرحمن السلمي، وعبد الله بن شبرمة ثقة.

ص: 534

فَأَخَّرَ الْخُرُوجَ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ، ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ فَأَطَالَ الْخُطْبَةَ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، وَلم يُصَلِّ لِلنَّاسِ يومئِذٍ الْجُمُعَةَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقال: أَصَابَ السُّنَّةَ

(1)

.

(1)

روي من طريقين عن ابن الزبير:

الأول: وهب بن كيسان واختلف عليه، فرواه عنه عبد الحميد بن جعفر واختلف عليه: فرواه «يحيى القطان وأبو خالد الأحمر وسليم بن أخضر» ، ثلاثتهم عن عبد الحميد بن جعفر، عن وهب بن كيسان به. أخرجه النسائي (1591)، وفي «الكبرى» (1/ 552/ 1794)، والحاكم (1/ 296)، وابن خزيمة (1465) وغيرهم.

وخالفهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمْرَانَ فرواه عن عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيه عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: اجْتَمَعَ عِيدَانِ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَصَلَّى الْعِيدَ وَلم يَخْرُجْ إِلَى الْجُمُعَةِ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَا أَمَاطَ عَنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: هَكَذَا صَنَعَ بِنَا عُمَرُ.

أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 274)، وقد حكم عليه ابن عبد البر بالاضطراب، وعبد الحميد بن جعفر لا يتحمل مثل هذا الخلاف، فقد قال الحافظ: صدوق ربما أخطأ.

ورواه هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، قَالَ: اجْتَمَعَ عِيدَانِ فِي يوم، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَصَلَّى الْعِيدَ بَعْدَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ، ثُمَّ دَخَلَ فَلم يَخْرُجْ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ. قَالَ هِشَامٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِنَافِعٍ، أَوْ ذُكِرَ لَهُ فَقَالَ: ذُكِرَ ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ، فَلم يُنْكِرْهُ. أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 7) عن أبي أسامة، قلت: وهشام بن عروة أوثق من عبد الحميد بن جعفر.

الثاني: عطاء واختلف عليه: فرواه الأعمش عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْجُمُعَةِ، فَلم يَخْرُجْ إِلَيْنَا فَصَلَّيْنَا وُحْدَانًا، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، فَلما قَدِمَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَصَابَ السُّنَّةَ. ورواه أبو داود (1071) عن محمد بن طريف عن أسباط. وقد خالف الأعمش ابن جريج، قال: قَالَ عَطَاءٌ: اجْتَمَعَ يَوْمُ جُمُعَةٍ، وَيَوْمُ فِطْرٍ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يوم وَاحِدٍ. فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا حَتَّى الْعَصْرَ فصلاهما ركعتين، ولم يزد عليهما ولم يذكر: أصاب السنة. رواه أبو داود (1572) من طريق يحيى بن خلف عن أبي عاصم عن ابن جريج. ورواه عمرو بن علي عند الفريابي (153) عن أبي عاصم عن ابن جريج عن عطاء، قال: اجتمع يوم فطر، ويوم جمعة زمن ابن الزبير، فصلى ركعتين، فذُكر ذلك لابن عباس، فقال:(أصاب) ولم يذكر (السنة)، وفي رواية أبي عاصم عن ابن جريج ضعف. ورواه عبد الرزاق (5725) عن ابن جريج، قال: قال عطاء: إن اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر في يوم واحد فليجمعهما، فليصل ركعتين قط، حيث يصلي صلاة الفطر ثم هي حتى العصر، قلت: ثم ذكر ذلك عن ابن الزبير، ورواه عبد الرزاق (5726) عن ابن جريج عن أبي الزبير وفيه: أن ابن عباس قال: أصاب عيدان اجتمعا في يوم واحد، ورواه ابن أبي شيبة (5841) عن هشيم عن منصور عن عطاء بن أبي رباح، قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فصلى بهم العيد ثم صلى بهم الجمعة صلاة الظهر أربعًا.

وهذا الأثر قد اختلف في سنده ومتنه، وقد حكم عليه ابن عبد البر بالاضطراب.

ص: 535

واعترض على هذا القول بما قاله ابن عبد البر رحمه الله: وَأَمَّا الْقَوْلُ: إِنَّ الْجُمُعَةَ تَسْقُطُ بِالْعِيدِ وَلَا تُصَلَّى ظُهْرًا وَلَا جُمُعَةً، فَقَوْلٌ بَيِّنُ الْفَسَادِ وَظَاهِرُ الْخَطَأِ مَتْرُوكٌ مَهْجُورٌ، لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وَلم يَخُصَّ يَوْمَ عِيدٍ مِنْ غَيْرِهِ

(1)

.

قال ابن رشد: وَأَمَّا إِسْقَاطُ فَرْضِ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ الَّتِي هِيَ بَدَلَهُ لمكَانِ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَخَارِجٌ عَنِ الْأُصُولِ جِدًّا، إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ في ذَلِكَ شَرْعٌ يَجِبُ المصِيرُ إِلَيْهِ

(2)

.

والراجح: ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك: أنه إذا اجتمع عيد وجمعة، فالمكلف مخاطب بهما جميعًا؛ لأن العيد سُنة والجمعة فرض ولا ينوب أحدهما عن الآخر.

ودل على ذلك: عموم قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ولم يخص الله ورسوله من ذلك يوم عيد من غيره.

قال ابن عبد البر

(3)

: وَإِذَا احْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآثَارُ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا ذَكَرْنَا، لم يَجُزْ لمسْلم أَنْ يَذْهَبَ إِلَى سُقُوطِ فَرْضِ الْجُمُعَةِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل يَقُولُ:{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَلم يَخُصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَوْمَ عِيدٍ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ تَجِبُ حُجَّتُهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ ذَهَبَ إِلَى سُقُوطِ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ المجْتَمَعِ عَلَيْهِمَا في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ بِأَحَادِيثَ لَيْسَ مِنْهَا حَدِيثٌ إِلَّا وَفِيهِ

(1)

«التمهيد» (10/ 270 - 271).

(2)

«بداية المجتهد» (1/ 219).

(3)

«التمهيد» (10/ 277).

ص: 536

مَطْعَنٌ لِأَهْلِ الْعِلم بِالْحَدِيثِ؟!

وقال ابن المنذر

(1)

: دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَدَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ فَرَائِضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَلَاةَ الْعِيدَيْنِ لَيْسَ مِنَ الْخَمْسِ، وَإِذَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَدَلَّتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ، لم يَجُزْ تَرْكُ فَرْضٍ بِتَطَوُّعٍ.

وأما من قالوا بأن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة فيصلي الظهر.

فاستدلوا بأحاديث لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما القول بأنه يرخص لأهل البوادي في ترك الجمعة إذا شهدوا العيد؛ فقد قال ابن عبد البر

(2)

: وَأَنَّ الرُّخْصَةُ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا مَنْ لم تَجِبْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ مِمَّنْ شَهِدَ الْعِيدَ مَنْ أَهْلَ الْبَوَادِي.

وأما القول بأنه إذا اجتمع العيد والجمعة فليس عليه جمعة ولا ظهر:

فاستدلوا بأثر ابن الزبير قال: عِيدَانِ اجْتَمَعَا في يوم وَاحِدٍ. فَجَمَعَهُمَا جَمِيعًا حَتَّى الْعَصْرَ فصلاهما ركعتين.

فهذا الأثر اختلف في سنده ومتنه ألوانًا، وقد حكم عليه ابن عبد البر بالاضطراب.

قال ابن عبد البر

(3)

: لَيْسَ في حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بَيَانٌ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ صَلَاةِ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ لِلْجُمُعَةِ، وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَتْرُوكٌ مَهْجُورٌ، وَإِنْ كَانَ لم يُصَلِّ مَعَ صَلَاةِ الْعِيدِ غَيْرَهَا حَتَّى الْعَصْرِ، فَإِنَّ الْأُصُولَ كُلَّهَا تَشْهَدُ بِفَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَيْنِ إِذَا اجْتَمَعَا في فَرْضٍ وَاحِدٍ لم يَسْقُطْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَكَيْفَ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضٌ لِسُنَّةٍ حَضَرَتْ في يَوْمِهِ؟ هَذَا مَا لَا يَشُكُّ في فَسَادِهِ ذُو فَهْمٍ، وَإِنْ كَانَ صَلَّى مَعَ صَلَاةِ الْفِطْرِ

(1)

«الأوسط» (4/ 291).

(2)

«التمهيد» (10/ 274).

(3)

«التمهيد» (10/ 274).

ص: 537

رَكْعَتَيْنِ لِلْجُمُعَةِ فَقَدْ صَلَّى الْجُمُعَةَ في غير وَقْتَهَا عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ.

•‌

‌ المبحث الثالث: المسبوق ببعض صلاة العيد.

قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عمن أدرك ركعة من صلاة العيد، قال: يكبر في التي يقضي. قيل لأحمد: فأدرك، وقد كبر بعض التكبير؟ قال: يكبر ما أدرك؛ لأنه أدرك الركوع، ولا يكبر ما فاته

(1)

.

قال ابن قدامة

(2)

: وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ في التَّشَهُّدِ جَلَسَ مَعَهُ، فَإِذَا سَلم الْإِمَامُ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، يَأْتِي فِيهِمَا بِالتَّكْبِيرِ؛ لأنه أَدْرَكَ بَعْضَ الصَّلَاةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُبْدَلَةً مِنْ أَرْبَعٍ، فَقَضَاهَا عَلَى صِفَتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.

•‌

‌ المبحث الرابع: صلاة العيد من الغد:

إذا علم الناس برؤية الهلال من اليوم التالى، فإن كان قبل الزوال جَمَع الإمام الناس وصلى بهم، وإذا كان بعد الزوال، صلى بهم الإمام من صباح الغد، وهذا قول الشافعية وأحمد والجمهور.

واستدلوا بحديث الركب عن جعفر بن أبي وحشية، عَنْ أَبِى عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنْ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَكْبًا جَاءُوا إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلَالَ بِالأَمْسِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْطِرُوا، وَإِذَا أَصْبَحُوا أَنْ يَغْدُوا إِلَى مُصَلاَّهُمْ

(3)

وذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أنها لا تقضى من الغد.

واستدلوا لذلك بأن وقت العيد أول نهار من شوال. فإذا انقضى هذا الوقت فلا يصلى للعيد.

والراجح إذا لم يعلم بدخول العيد إلا بعد الزوال فيخرج الناس للصلاة من الغد، والله أعلم.

(1)

«سؤالات أبي داود» رقم (422).

(2)

«المغني» (3/ 285).

(3)

«الأوسط» (4/ 295)، والمغني (3/ 286).

ص: 538

• مسألة: إذا لم يعلم المنفرد العيد إلا بعد الزوال:

قال ابن قدامة

(1)

: فَأَمَّا الْوَاحِد إذَا فَاتَتْهُ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَأَحَبَّ قَضَاءَهَا، قَضَاهَا مَتَى أَحَبَّ.

وقال ابن عقيل: لا يقضيها إلا من الغد، قياسًا على المسألة التي قبلها، وهذا لا يصح لأن ما يفعله تطوع، فمتى أحبَّ أتى به، وفارق ما إذا لم يعلم الإمام والناس؛ لأن الناس تفَرَّقَوا يومئذٍ على أن العيد في الغد، فلا يجتمعون إلا من الغد، ولا كذلك ها هنا، فإنه لا يحتاج إلى اجتماع الجماعة، ولأنها صلاة فاعتبر لها الوقت. وهذا بخلافه.

والراجح: أن المنفرد يقضيها متى علم بذلك، والله أعلم.

* * *

(1)

«المغني» (3/ 286).

ص: 539

‌الفصل الخامس مستحبات العيدين

• المبحث الأول: استحباب الغسل للعيدين

• المبحث الثاني: استحباب الزينة والتطيب للعيدين

• المبحث الثالث: استحباب الأكل يوم الفطر قبل الخروج

• المبحث الرابع: استحباب التبكير إلى العيدين

• المبحث الخامس: استحباب مخالفة الطريق في الذهاب والرجوع.

• المبحث السادس: هل المشي إلى العيدين أفضل من الركوب؟

• المبحث السابع: من السنة صلاة العيدين في المصلى.

• المبحث الثامن: استحباب خروج النساء إلى المصلى بالضوابط الشرعية.

• المبحث التاسع: خروج الصبيان إلى المصلى.

• المبحث العاشر: التهنئة بالعيد.

ص: 541

‌المبحث الأول استحباب الغسل للعيدين

وفيه مطلبان:

•‌

‌ المطلب الأول: استحباب الغسل للعيدين:

قال ابن رشد

(1)

: أَجْمَعَ الْعُلماءُ عَلَى اسْتِحْسَانِ الْغُسْلِ لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ.

قال ابن عبد البر

(2)

: «وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ حَسَنٌ لمنْ فَعَلَهُ، وَالطِّيبُ يَجْرِي عِنْدَهُمْ مِنْهُ، وَمَنْ جَمَعَهُمَا فَهُوَ أَفْضَلُ. وَلَيْسَ غُسْلُ الْعِيدَيْنِ كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ، آكَدُ في سَبِيلِ السُّنَّةِ» .

ووردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تدل على استحباب الغسل للعيدين، ولا يصح منها حديث

(3)

.

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 216).

(2)

«الاستذكار» (7/ 11).

(3)

الحديث الأول: حديث أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْغُسْلُ وَاجِبٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ: يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ» . أخرجه الدولابي في «الكنى» (2/ 147)، والبخاري «التاريخ الصغير» (4/ 326). وفي إسناده أبو المغيرة، عمير بن عبد المجيد، فيه ضعف، وأيضًا في إسناده أبو الوسيم، قال البخاري لا يتابع على حديثه. وروى الطبراني في «الأوسط» (5780)، بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَغَدَا بِغُسْلٍ إِلَى المصَلَّى، وَخَتَمَهُ بِصَدَقَةٍ رَجَعَ مَغْفُورًا لَهُ» ، وفي إسناده أيوب بن خوطب: متروك.

الحديث الثاني: روى ابن ماجه (1315)، وغيره بإسناده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الأَضْحَى، وفي إسناده جبارة بن المغلس، وحجاج بن تميم الجزري، وكلاهما ضعيف.

الحديث الثالث: روى ابن ماجه (1316) وغيره بإسناده عن الْفَاكِهِ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ. وَكَانَ الْفَاكِهُ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالْغُسْلِ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ، وهذا إسناد تالف من أجل يوسف بن خالد: متروك، وعبد الرحمن بن عقبة مجهول.

وقال البزار: لا أحفظ في الاغتسال للعيدين حديثًا صحيحًا. كما في «التلخيص» (2/ 81).

ص: 542

•‌

‌ المطلب الثاني: وقت الغسل للعيدين:

اتفق العلماء على أن غسل العيدين يجزئ بعد الفجر، واختلفوا هل يجزئ قبل الفجر؟

(1)

والذين قالوا: (لا يجزئ قبل الفجر) قاسوه على صلاة الجمعة.

واعْتُرِضَ عليه: بأن هذا قياسٌ مع الفارق لأن وقت العيد أضيق من وقت الجمعة، ولأنه مأمور بالبكور بعد الغسل، وَلَا يُمْكِنُ الْبُكُورُ غَالِبًا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَّا بِتَقَدُّمِ الْغُسْلِ قَبْلَ الْفَجْرِ

(2)

، وإذا كان المقصود من الغسل هو التنظيف فقد حصل قبل الفجر فجاز الغسل من الليل.

قال الزركشي

(3)

: أن وقت الغسل بعد الفجر، وهو قول القاضي وغيره وظاهر الحديث، إذ اليوم إنما يدخل بذلك، وجوزه ابن عقيل بعد نصف ليلته، نظرًا إلى أن المقصود التنظيف وهو حاصل بذلك، ولأنه وقت ضيق، فلو تقيد الاغتسال بالفجر لفات غالبًا، بخلاف الجمعة فإن وقتها متسع.

قال ابْنُ عَقِيلٍ: المنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ زَمَنَ الْعِيدِ أَضْيَقُ مِنْ وَقْتِ الْجُمُعَةِ، فَلَوْ وُقِفَ عَلَى الْفَجْرِ رُبَّمَا فَاتَ، وَلِأَنَّ المقْصُودَ مِنْهُ التَّنْظِيفُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْغُسْلِ في اللَّيْلِ لِقُرْبِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْفَجْرِ؛ لِيَخْرُجَ مِنَ الْخِلَافِ، وَيَكُونَ أَبْلَغَ في النَّظَافَةِ؛ لِقُرْبِهِ مِنَ الصَّلَاةِ

(4)

.

•‌

‌ المبحث الثاني: استحباب الزينة والتطيب للعيدين:

في «الصحيحين» من حديث ابْنِ عُمَرَ

(5)

قَالَ: أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ في السُّوقِ

(1)

«روضة الطالبين» (1/ 583).

(2)

«الحاوي» (3/ 106).

(3)

«شرح الزركشي علي الخرقي» (2/ 215).

(4)

«المغني» (3/ 258).

(5)

أخرجه البخاري (948)، ومسلم (2068)، وقد ورد في الباب أحاديث أخر، ولكنها لا تخلو

من مقال: الأول: حديث جابر: كان رسول الله يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة، والثاني: حديث ابن عباس: «أن النبي كان يلبس بردة حبرة في كل عيد» . والثالث: حديث الحسن بن علي: قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد، وأن نضحي بأسمن ما نجد البقرة عن السبعة، والجزور عن عشر، وأن نظهر التكبير، وعلينا السكينة والوقار». وكل هذه الأحاديث ضعيفة ولا تخلو من مقال. انظر «جامع أحكام العيدين» .

ص: 543

فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ. فَقال لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ» .

قال ابن رجب الحنبلي

(1)

: وقد دل هذا الحديث على التجمل للعيد، وأنه كان معتادًا بينهم ..

روى البيهقي بإسناد صحيح عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَلْبَسُ في الْعِيدَيْنِ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ

(2)

.

قال الإمام الشافعي

(3)

: وَأُحِبُّ أَنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ أَحْسَنَ ما يَجِدُ في الْأَعْيَادِ: الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَمَحَافِلِ الناس وَيَتَنَظَّفَ وَيَتَطَيَّبَ.

وقد ذهب مالك وأحمد في رواية

(4)

إلى أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه ليبقى عليه أثر العبادة والنسك.

قال الشيخ ابن عثيمين

(5)

: ولكن هذا القول ضعيف أثرًا ونظرًا أي خروج المعتكف

(1)

«فتح الباري» (6/ 67).

(2)

أخرجه البيهقي «السنن الكبرى» (3/ 281).

(3)

«الأم» (1/ 56)، «الحاوي» (3/ 110)، «روضة الطالبين» (1/ 583).

(4)

«المغني» (3/ 258)، وانظر:«الإنصاف» (2/ 422)، و «كشاف القناع» (2/ 51، 52). قال ابن قدامة: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَظَّفَ، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ، وَيَتَطَيَّبَ، وَيَتَسَوَّكَ، وَقال مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعِلم يَسْتَحِبُّونَ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ فِي كُلِّ عِيدٍ، وَالْإِمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ؛ لِأَنَّهُ المنْظُورُ إلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ إلَّا أَنَّ المعْتَكِفَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْخُرُوجُ فِي ثِيَابِ اعْتِكَافِهِ لِيَبْقَى عَلَيْهِ أَثَرُ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ. وَقال أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ المرُّوذِيِّ: طَاوُسٌ كَانَ يَأْمُرُ بِزِينَةِ الثِّيَابِ وَعَطَاءٌ قال: هُوَ يَوْمُ التَّخَشُّعِ وَأَسْتَحْسِنُهُمَا جَمِيعًا.

(5)

«الشرح الممتع» (5/ 167).

ص: 544

في ثيابه.

أما بالأثر: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، ومع ذلك يلبس أحسن الثياب.

وأما بالنظر: فإن توسخ ثياب المعتكف ليس من أثر اعتكافه، ولكن من طول بقائها عليه، ولهذا لو لبس ثوبًا نظيفًا ليلة العيد أو في آخر يوم من رمضان ما أثر، ولا يصح قياسه على دم الشهيد؛ لأن الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا.

والراجح: أنه يستحب الزينة والطيب، وتنظيف الجسد بالاغتسال وحلق العانة ونتف الإبط، وقلم الأظافر وقطع الرائحة الكريهة، والسواك، ويلبس أحسن ما يجد من الثياب، والإمام أحق بذلك لأنه المنظور إليه من بينهم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، وكان يلبس أجمل الثياب للعيدين، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقول عمر (تجمل بها للعيد) يدل على ذلك.

•‌

‌ المبحث الثالث: الأكل قبل وبعد الخروج للعيدين:

وفيه مطلبان:

•‌

‌ المطلب الأول: استحباب الأكل يوم الفطر قبل الخروج إلى المصلى.

قال ابن رشد

(1)

: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْطِرَ في عِيدِ الْفِطْرِ قَبْلَ الْغُدُوِّ إِلَى المصَلَّى.

قلت: والأفضل أن يكون من تمر.

ودلت على ذلك السنة: روى البخاري

(2)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَغْدُو يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ» .

ووردت زيادة من طريق أنس: وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا

(3)

. وهذه الزيادة لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 221). قَالَ اِبْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلم فِي اِسْتِحْبَابِ تَعْجِيلِ الْأَكْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ اِخْتِلَافًا. كما في «الفتح» (2/ 518).

(2)

أخرجه البخاري (953).

(3)

أخرجها ابن خزيمة (1429)، والدارقطني (2/ 45)، والبيهقي (3/ 282) وفي إسناده مرجي، وفيه ضعف، وقد خالف الثقات، وتابعه عتبة بن حميد، وأخرجه الحاكم (1/ 294)، وابن حبان (4/ 28) وغيرهما. وعتبة بن حميد فيه ضعف. وروى أحمد (3/ 232) بعد ذكر الحديث: وَكَانَ أَنَسٌ يَأْكُلُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ ثَلَاثًا. وهذا له علتان: الأولى: أنه موقوف. والثانية: في إسناده علي بن عاصم وهو ضعيف. وفي الباب أحاديث أعرضت عنها لأن في أسانيدها مقالًا، والله أعلم.

ص: 545

الحاصل: أنه يستحب أن يفطر على تمر يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى، فإن لم يجد تمرًا أكل ما تيسر.

•‌

‌ المطلب الثاني: هل يستحب الأكل بعد الأضحى؟

قد نقل ابن رشد الإجماع على استحباب الإفطار يوم الأضحى بعد الانصراف من الصلاة فقال

(1)

: وأجمعوا أَنْ لَا يُفْطِرَ يَوْمَ الْأَضْحَى إِلَّا بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الصَّلَاةِ. ولكن هذا الإجماع منخرم فقد خالف مالك وغيره بأنه ليس من السنة الأكل بعد الأضحى ولا بدعة، وإنما الأمر على الإباحة

(2)

ولا يصح حديث في أن الأكل بعد الأضحى من السنة

(3)

قال ابن قدامة: قَالَ أَحْمَدُ: وَالْأَضْحَى لَا يَأْكُلُ فِيهِ حَتَّى يَرْجِعَ إذَا كَانَ لَهُ ذِبْحٌ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنْ ذَبِيحَتِهِ، وَإِذَا لم يَكُنْ لَهُ ذِبْحٌ لم يُبَالِ أَنْ يَأْكُلَ.

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 221)

(2)

«الاستذكار» (7/ 37)

(3)

وفي الباب حديث بريدة (كان النبي لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) أخرجه أحمد (5/ 352)، والترمذي (543)، وابن ماجه (1756) وغيرهم، وفي إسناده ثواب بن عتبة: لين الحديث، وقد تابعه عقبة بن عبد الله الأصم عند أحمد (5/ 353) وهو ضعيف، وفي الباب حديث ابن عباس قال:(إن من السنة أن لا تخرج يوم الفطر حتى تطعم، ولا يوم النحر حتى ترجع، أخرجه الطبراني (الأوسط) وفي إسناده إسحاق التميمي لم أقف له على ترجمة، وأخرجه ابن أبي شيبة (1/ 484) وفي إسناده حجاج بن أرطأة ضعيف، وأخرجه البزار (651) وقال الهيثمي (مجمع الزوائد) (2/ 199): وفي إسناد البزار من لم أعرفه. وفي الباب حديث جابر بن سمرة، أخرجه البزار (كشف الأستار) (1/ 311) وفي إسناده ناصح بن عبد الله: متروك وفي الباب حديث أنس، أخرجه الأصبهاني (الترغيب والترهيب)(1/ 258) وفي إسناد مرجى ضعيف.

ص: 546

قال ابن حزم: وَإِنْ أَكَلَ يوم الأَضْحَى قبل غُدُوِّهِ إلَى المصَلَّى فَلَا بَأْسَ وَإِنْ لم يَأْكُلْ حتى يَأْكُلَ من أُضْحِيَّتِهِ فَحَسَنٌ.

•‌

‌ المبحث الرابع: استحباب التبكير إلى العيدين:

يستحب للمأموم أن يبكر لصلاة العيد، ويكون التبكير بعد صلاة الفجر.

قال الشافعي

(1)

: أَمَّا الناس فَأُحِبُّ أَنْ يَتَقَدَّمُوا، حين يَنْصَرِفُونَ من الصُّبْحِ لِيَأْخُذُوا مَجَالِسَهُمْ وَلِيَنْتَظِرُوا الصَّلَاةَ؛ فَيَكُونُوا في أَجْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ما دَامُوا يَنْتَظِرُونَهَا وَأَمَّا الْإِمَامُ فإنه إذَا غَدَا لم يَجْعَلْ وَجْهَهُ إلَّا إلَى المصَلَّى فيصلي.

قال ابن قدامة

(2)

: يُسْتَحَبُّ التَّبْكِيرُ إلَى الْعِيدِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، إلَّا الْإِمَامَ فَإِنَّهُ يَتَأَخَّرُ إلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ.

روى البخاري

(3)

: حديثًا عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يوم النَّحْرِ قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ في يومنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا» .

وجه الدلالة: ما قاله ابن بطال

(4)

. وقيل قوله: (أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلى) يدل أنه لا يجب أن يشتغل بشاء غير التأهب للعيد والخروج إليه، وأن لا يفعل قبل صلاة العيد شيئًا غيرها.

وَعَنْ نَافِعٍ قال: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي الصُّبْحَ في مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَغْدُو كَمَا هُوَ إِلَى المصَلَّى

(5)

.

عن يزيد بن أبي عبيد الله قال: صليت مع سلمة بن الأكوع في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة

(1)

«الأم» (1/ 355).

(2)

«المغني» (3/ 261)، و «الإنصاف» (2/ 241).

(3)

أخرجه البخاري (968).

(4)

«شرح ابن بطال» (2/ 560).

(5)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 486).

ص: 547

الصبح، ثم خرجت معه حتى أتينا المصلى فجلس، وجلست حتى جاء الإمام

(1)

.

الحاصل في المسألة: أنه يستحب للمأموم التبكير إلى صلاة العيد بعد الفجر، ويستحب للإمام أن يخرج بقدر ما إذا بلغ المصلى حلت الصلاة، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء

(2)

.

•‌

‌ المبحث الخامس: استحباب مخالفة الطريق في الذهاب والرجوع:

قال ابن رشد

(3)

: وأجمعوا على أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي مَشَى عَلَيْهَا لِثُبُوتِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام.

روى البخاري

(4)

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ {قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يوم عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ.

•‌

‌ المبحث السادس: هل المشي إلى العيدين أفضل من الركوب؟

ذهب جمهور أهل العلم إلى استحباب المشي إلى العيدين

(5)

ولا بأس بالركوب في الرجوع

(6)

.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه الفريابي (29).

(2)

«المدونة» (1/ 154)، قال النووي في «روضة الطالبين» (1/ 583): والسنة أن لا يخرج المأموم إلا في الوقت الذي يصلي فيه، فإذا وصل إلى المصلى شرع في صلاة العيد، ويستحب للإمام أن يؤخر الخروج في عيد الفطر قليلًا، ويعجل في الأضحى.

(3)

«بداية المجتهد» (1/ 221، 222).

(4)

أخرجه البخاري (986)، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الحَارِثِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ {، قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ» . قال البخاري: تَابَعَهُ يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ فُلَيْحٍ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَصَحُّ.

وهذا حديث اختلف فيه على فليح بن سليمان، فمرة جعله من مسند أبي هريرة، ومرة من مسند جابر، والخلاف في الصحابي لا يضر إذا كان التابعي سمع منهما، والله أعلم.

(5)

«الأم» (1/ 357)، «مسائل عبد الله» رقم (472)، «الأوسط» (4/ 263).

(6)

«الحاوي» (3/ 110)، «الإنصاف» (2/ 422).

ص: 548

واستدلوا لذلك بالسنة:

عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ قال: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا وَأَنْ تَأْكُلَ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ

(1)

.

عن سَعْدٍ الْقَرَظِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا، وَيَرْجِعُ مَاشِيًا

(2)

.

عن ابن عمر: «كَانَ رسول صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا، وَيَرْجِعُ مَاشِيًا»

(3)

.

عن أَبِي رَافِعٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِي الْعِيدَ مَاشِيًا»

(4)

.

قال الزهري: «ما رَكِبَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ»

(5)

.

الحاصل: ذهب أكثر أهل العلم إلى استحباب المشي إلى صلاة العيدين، واستدلوا بأحاديث، ولكن لا يصح منها حديث، ولكن يشهد لها عموم، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ، فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى» فهذا عام في كل صلاة تشرع فيها الجماعة، كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء

(6)

.

ولا بأس بالركوب في الرجوع.

(1)

ضعيف: أخرجه الترمذي (530)، وابن ماجه (1296)، وغيرهما، وفي إسناده الحارث الأعور كذبه الشعبي. وله شواهد.

(2)

أخرجه ابن ماجه (1294)، وفي إسناده عبد الرحمن بن سعد ضعيف، وأبوه سعد بن عمار مجهول، وهشام بن عمار فيه ضعف، وأخرجه الحاكم (3/ 607)، وغيره من طريق آخر فيه خالد بن إلياس متروك، وله أسانيد أخر فيها مقال.

(3)

أخرجه ابن ماجه (1295)، وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله العمري متروك وأبوه ضعيف.

(4)

أخرجه ابن ماجه (1297)، وفي إسناده مندل، ضعيف، ومحمد بن عبيد الله بن رافع ضعيف.

(5)

ضعيف للإرسال: أخرجه الشافعي في «الأم» (1/ 357).

(6)

«نيل الأوطار» (3/ 341).

ص: 549

•‌

‌ المبحث السابع: من السنة صلاة العيدين في المصلى، وفيه مطالب:

•‌

‌ المطلب الأول: من السنة صلاة العيدين في المصلى:

ففي الصحيحين

(1)

من حديث أبي سعيد: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى المصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ» .

قال ابن المنذر

(2)

: «وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْرُجَ النَّاسُ إِلَى المصَلَّى في الْعِيدِ» .

قال ابن قدامة

(3)

: السُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِيدَ في المصَلَّى، أَمَرَ بِذَلِكَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَاسْتَحْسَنَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ المنْذِرِ.

وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ: إنْ كَانَ مَسْجِدُ الْبَلَدِ وَاسِعًا، فَالصَّلَاةُ فِيهِ أَوْلَى.

وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ إلَى المصَلَّى وَيَدَعُ مَسْجِدَهُ»، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَلَا يَتْرُكُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَفْضَلَ مَعَ قُرْبِهِ، وَيَتَكَلَّفُ فِعْلَ النَّاقِصِ مَعَ بُعْدِهِ، وَلَا يَشْرَعُ لِأُمَّتِهِ تَرْكَ الْفَضَائِلِ، وَلِأَنَّنَا قَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المأْمُورُ بِهِ هُوَ النَّاقِصَ، وَالمنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْكَامِلَ. وَلِأَنَّ هَذَا إجْمَاعُ المسْلمينَ.

•‌

‌ المطلب الثاني: صلاة العيد في المسجد لعذر:

ذهب جمهور العلماء إلى أن من السنة الصلاة في المصلى، إلا إذا كان عليه مشقة في البروز إلى المصلى صلوا في المسجد.

وروى أبو داود وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ في يوم عِيدٍ، فَصَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعِيدِ في المسْجِدِ»

(4)

.

(1)

البخاري (956) ومسلم (889).

(2)

«الأوسط» (4/ 257).

(3)

«المغني» (3/ 260).

(4)

ضعيف: أخرجه أبو داود (1160)، وابن ماجه (1313) وغيرهما. قال الذهبي: هذا حديث فرد منكر. وفي إسناده عيسى بن عبد الأعلى، وشيخه عبيد الله بن موهب، وكلاهما مجهول.

ص: 550

قال ابن حزم

(1)

: وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةٌ في الْبُرُوزِ إلَى المصَلَّى صَلوا جَمَاعَةً في الْجَامِعِ.

قال ابن قدامة

(2)

: وَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْخُرُوجَ، مِنْ مَطَرٍ، أَوْ خَوْفٍ، أَوْ غَيْرِهِ، صَلَّوْا في الْجَامِعِ.

قال الماوردي

(3)

: فَإِنْ لم يَقْدِرِ الْإِمَامُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى المصَلَّى لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ أَوْ ريحٍ، صَلَّى بِالنَّاسِ في المسْجِدِ.

الحاصل: أن السنة أن يصلى العيد في المصلى أو الفضاء، إلا إذا كان هناك عذر من مطر أو خوف أو غيره، صلوا في المسجد.

•‌

‌ المطلب الثالث: استخلاف من يصلي بضعفة الناس إذا أصبح الإمام في مكان بعيد عن البلدة.

قال الكاساني

(4)

: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا خَرَجَ إلَى الْجَبَّانَةِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ أَنْ يَخْلُفَ رَجُلًا يُصَلِّي بِأصحاب الْعِلَلِ في المصْرِ صَلَاةَ الْعِيدِ.

قال النووي

(5)

: قال الشافعي والأصحاب: إذا خرج الإمام إلى الصحراء استخلف من يصلي في المسجد بالضعفة.

•‌

‌ المبحث الثامن: استحباب خروج النساء إلى المصلى بالضوابط الشرعية:

اختلف أهلُ العلم في خروج النساء لمصلى العيدين على أقوال، أهمها:

• القول الأول: أن خروج النساء لصلاة العيدين مستحب لا فرق بين الشابة والعجوز وذات الهيئة، أي الجميلة، وغيرها

(1)

«المحلى» (5/ 89).

(2)

«المغني» (3/ 216).

(3)

«الحاوي» (3/ 110).

(4)

«بدائع الصنائع» (1/ 280)، «بداية المجتهد» (1/ 219).

(5)

«الأوسط» (4/ 291)، «المجموع» (5/ 5)، «فتح الباري» لابن رجب (6/ 171).

ص: 551

واستدلوا لذلك بما ورد في «الصحيحين»

(1)

عن أُمُّ عَطِيَّةَ: أُمِرْنَا أَنْ نَخْرُجَ فَنُخْرِجَ الْحُيَّضَ وَالْعَوَاتِقَ

(2)

وَذَوَاتِ الْخُدُورِ

(3)

. قال ابْنُ عَوْنٍ: (أَوِ الْعَوَاتِقَ ذَوَاتِ الْخُدُورِ) فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ المسْلمينَ وَدَعْوَتَهُمْ وَيَعْتَزِلْنَ مُصَلَّاهُمْ.

وفي هذا الحديث استحباب خروج جميع النساء إلى شهود العيدين، والعواتق وذوات الخدور؛ ليشهدن الدعاء والخير، وللإمام أن يخصهن بموعظة.

قال الشوكاني

(4)

: إن خروج النساء إلى المصلى مستحب، وحملوا الأمر فيه على الندب، ولم يفَرِّقُوا بين الشابة والعجوز.

• القول الثاني: الذين منعوا من خروج النساء إلى العيدين:

استدلوا بعموم القرآن والسنة:

أما دليلهم من القرآن: فعموم قوله تعالى: {وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ} .

والأمر بالقرار نهي عن الانتقال ولأن خروجهن سبب الفتنة والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام.

واعْتُرِضَ عليه: بأن هذا دليل عام، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالخروج إلى مصلى العيدين وهذا خاص وإذا تعارض العام والخاص، يُقدم الخاص.

أما دليلهم من السنة: فما ثبت في «الصحيحين» عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لمنَعَهُنَّ، كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قُلْتُ لِعَمْرَةَ: أَوَمُنِعْنَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ.

واعْتُرِضَ عليه: بأن المرأة إذا خرجت من بيتها إلى صلاة العيدين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم مع التزامها بالحجاب الشرعي وعدم مخالطة الرجال، وكذا التزامها بالضوابط الشرعية، فإن هذا لا يتعارض مع قول عائشة.

(1)

أخرجه البخاري (981).

(2)

العواتق: جمع عاتق، وهى المرأة الشابة التي استحقت التزويج.

(3)

الخدور: جمع خدر، والخدر ناحية في البيت.

(4)

«نيل الأوطار» (3/ 342).

ص: 552

والراجح والله أعلم: استحباب خروج جميع النساء إلى صلاة العيدين لحديث أم عطية: (أمَرنا - أي النبي - أن نخرج فنُخرج الحيض والعواتق وذوات الخدور). فدل هذا على استحباب خروج جميع النساء.

وعلى المرأة أن تلتزم بالحجاب الشرعي من ستر جميع البدن، وأن تجتنب الطيب، ولا تختلط بالرجال، كذا يستحب للإمام أن يعظهن في خطبته، وأن يُذكرهن بالله عز وجل؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

قال الشوكاني

(1)

والحديث وما في معناه من الأحاديث قاضية بمشروعية خروج النساء في العيدين إلى المصلى من غير فرق بين البكر والثيب، والشابة والعجوز، والحائض وغيرها، ما لم تكن معتدة أو كان خروجها فتنة أو كان لها عذر .. وحملوا الأمر فيه على الندب.

قال الحافظ

(2)

: وَفِيهِ اِسْتِحْبَابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى شُهُودِ الْعِيدَيْنِ، سَوَاءٌ كُنَّ شَوَابَّ أَمْ لَا، وَذَوَاتِ هَيْئَاتٍ أَمْ لَا.

قال ابن قدامة

(3)

: وظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير مستحب .. وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ

(1)

«نيل الأوطار» (3/ 342).

(2)

«فتح الباري» (2/ 545).

(3)

«المغني» (2/ 332، 333)، من السنة اعتزال الحُيض المصلى لما ورد في «الصحيحين» من حديث أم عطية: وَيَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المصَلَّى. واعتزال المصلى أي الصلاة.

قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: والأظهر أن أمر الحُيض باعتزال المصلى إنما هو حال الصلاة؛ ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن، ثم يختلطن بهن في سماع الخطبة.

ومن السنة للمرأة التي لم يكن لها جلباب تخرج به للعيد أن تستعير جلبابًا من صاحبتها، دل على ذلك ما ورد في الصحيح لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالخروج للعيدين قالت امرأة: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لم يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لَا تَخْرُجَ؟ فَقَالَ: «لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا» .

قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: «لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا» الصحيح أن معناه لتلبسها جلبابًا لا تحتاج إليه عارية، وفيه الحث على حضور العيد لكل أحد، وعلى المواساة والتعاون على البر والتقوى. «شرح مسلم» (6/ 19).

ص: 553

الْخُرُوجُ غَيْرَ مُتَطَيِّبَاتٍ وَلَا يَلْبَسْنَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ وَلَا زِينَةٍ، وَلَا يَخْرُجْنَ في ثِيَابِ الْبِذْلَةِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ» . وَلَا يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ، بَلْ يَكُنَّ نَاحِيَةً مِنْهُمْ.

•‌

‌ المبحث التاسع: خروج الصبيان إلى المصلى:

وفيه مطلبان:

•‌

‌ المطلب الأول: استحباب خروج الصبيان إلى المصلي:

روى البخاري

(1)

عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَابِسٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ: أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نَعَمْ. وَلَوْلَا مَكَانِي مِنَ الصِّغَرِ مَا شَهِدْتُهُ

(2)

.

قال ابن بطال

(3)

: خروج الصبيان للمصلى إنما هو إذا كان الصبي ممن يضبط نفسه عن اللعب، ويعقل صلاته، ويتحفظ مما يفسدها، ألا ترى إلى ضبط ابن عباس القصة؟

وفيه نظر؛ لأن مشروعية إخراج الصبيان إلى المصلى إنما هو للتبرك وإظهار شعار الإسلام بكثرة من يحضر منهم، ولذلك شُرع للحُيض كما سيأتي، فهو شامل لمن تقع منهم الصلاة أو لا. وعلى هذا إنما يحتاج أن يكون مع الصبيان من يضبطهم عما ذكر من اللعب ونحوه، سواء صلوا أم لا. وأما ضبط ابن عباس القصة فلعله كان لفرط ذكائه.

•‌

‌ المطلب الثاني: يستحب التزين للصبيان ذكورًا وإناثًا يوم العيد بأحسن الثياب

وهل يحرم على الصبيان الذكور لبس الحرير والذهب في يوم العيد وغيره؟

قال الماوردي

(4)

وَأَمَّا الصِّبْيَانُ وإخراجهم لصلاة العيد فَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، وَيُخْتَارُ زِينَتُهُمْ بِالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى ذُكُورِهِمْ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ مِنَ الذَّهَبِ؟ الصِّبْيَانُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ لِإِطْلَاقِ النَّهْيِ بِتَحْرِيمِهَا عَلَى ذُكُورِ الْأُمَّةِ

(1)

أخرجه البخاري (977).

(2)

المعنى: لولا منزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم ما حضرت لأجل صغري كما في «الفتح» (2/ 538).

(3)

«شرح ابن بطال» (2/ 568).

(4)

«الحاوي» (3/ 121).

ص: 554

مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ صَغِيرٍ مِنْ كَبِيرٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِيمَنْ يَصح تَكْلِيفُهُ وَتَتَوَجَّهُ الْعِبَادَةُ نَحْوَهُ.

والراجح: أنه يستحب التزين للصبيان الذكور والإناث ويحرم على ذكور الأمة صغارًا أو كبارًا لبس الحرير والذهب لعموم الأدلة الناهية، ولعدم وجود مخصص بين الصغير والكبير، وأما قولهم:(إن النهي فيمن يصح تكليفه وتتوجه العبارة نحوه). فاعترض عليه: بأن الصغير يُؤْمَرُ بالصلاة والصيام ويبتعد عن المحرمات، ففي «الصحيحين» من حديث أبى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا في فِيهِ فَقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كِخْ كِخْ» لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قال: «أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» ؟!.

•‌

‌ المبحث العاشر: التهنئة بالعيد:

عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: لَقِيتُ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ في يوم عِيدٍ فَقُلْتُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ. فَقَالَ: نَعَمْ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ. قال وَاثِلَةُ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يوم عِيدٍ فَقُلْتُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ. فَقَالَ: «نَعَمْ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ»

(1)

.

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِ النَّاسِ في الْعِيدَيْنِ: «تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ» قَالَ: «ذَاكَ فِعْلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ»

(2)

وَكَرِهَهُ.

(1)

منكر: رواه البيهقي (3/ 319)، وابن عدي في «الكامل» (6/ 271)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 472) معلقًا، وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي منكر الحديث.

قال البيهقي: قد رأيته بإسناد آخر عن بقية موقوفًا ولا أراه محفوظًا. قلت: وقد خالفه أبو همام الوليد بن شجاع فرواه عن بقية عن حبيب بن عمر الأنصاري عن أبيه قال: لقيت واثلة يوم عيد فقلت: «تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ. فَقَالَ: نَعَمْ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ» موقوفًا على واثلة، وأخرجه الطبراني في «الكبير» (22/ 53/ 123)، وفي إسناده حبيب بن عمر الأنصاري مجهول، وأخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (12/ 42، 43)، ولا يصح.

(2)

منكر: أخرجه البيهقي (3/ 319، 320) وغيره، وفي إسناده عبد الخالق بن زيد، منكر الحديث. قاله البخاري.

ص: 555

واعترض بأن هذه الأحاديث لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الباجي

(1)

: وَسُئِلَ مَالِكٌ أَيُكْرَهُ، لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ لِأَخِيهِ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك، وَغَفَرَ لَنَا وَلَك، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَخُوهُ مِثْلُ ذَلِكَ؟ قَالَ: لَا يُكْرَهُ.

قال أبو داود

(2)

: سمعت أحمد سئل عن قولهم يوم العيد: تقبل الله منا ومنك؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس.

وسئل شيخ الإسلام

(3)

: هَلْ التَّهْنِئَةُ في الْعِيدِ وَمَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: «عِيدُك مُبَارَكٌ» وَمَا أَشْبَهَهُ هَلْ لَهُ أَصْلٌ في الشَّرِيعَةِ؟ أَمْ لَا؟ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ في الشَّرِيعَةِ فَمَا الَّذِي يُقال؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ.

فَأَجَابَ: أَمَّا التَّهْنِئَةُ يوم الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إذَا لَقِيَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ: (تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَأَحَالَهُ اللَّهُ عَلَيْك) وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا قَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الصحابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَرَخَّصَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. لَكِنْ قال أَحْمَد: أَنَا لَا أَبْتَدِئُ أَحَدًا فَإِنْ ابْتَدَأَنِي أَحَدٌ أَجَبْته، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَابَ التَّحِيَّةِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ فَلَيْسَ سُنَّةً مَأْمُورًا بِهَا وَلَا هُوَ أيضًا مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ، فَمَنْ فَعَلَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ وَمَنْ تَرَكَهُ فَلَهُ قُدْوَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلم.

الحاصل: أنه لا بأس أن يقول الرجل لأخيه «تقبل الله منا ومنك» أو «عيد مبارك» أو ما أشبه بذلك. ولكن لا يسن ذلك؛ لأنه لم يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء والله أعلم.

* * *

(1)

«المنتقي» (1/ 322).

(2)

«سؤالات للإمام أحمد» رقم (436).

(3)

«الفتاوى» (24/ 253).

ص: 556

‌الفصل السادس خطبة العيد وما يتعلق بها من أحكام

جعلت الخطبة فصلًا مع أنها من مستحبات العيدين

لكثرة ما يتعلق بها من أحكام

• المبحث لأول: من السنة صلاة العيد قبل الخطبة

• المبحث الثاني: هل يخطب للعيد على المنبر؟

• المبحث الثالث: من السنة حضور خطبة العيد والاستماع لها

• المبحث الرابع: هل خطبة العيد واحدة أم خطبتان يجلس بينهما؟

• المبحث الخامس: هل تفتتح خطبة العيد بالتكبير أو بالحمد؟

• المبحث السادس: موضوع خطبة العيد

ص: 557

‌المبحث الأول: من السنة صلاة العيد قبل الخطبة

أجمع العلماء على أن السنة في صلاة العيد تقديم الصلاة على الخطبة

(1)

.

روى البخاري من حديث ابن عباس {قال: شَهِدْتُ الْفِطْرَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ يُصَلُّونَهَا قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ يُخْطَبُ بَعْدُ

(2)

.

‌المبحث الثاني: هل يخطب للعيد على المنبر؟

ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يخطب على المنبر في العيدين، وبه قال الحنفية والمالكية، والحنابلة

(3)

.

قال السرخسي

(4)

: وَلَا يُخْرِجُ المنْبَرَ في الْعِيدَيْنِ

وَالنَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ إخْرَاجِ المنْبَرِ.

قال ابن القيم

(5)

: وَلم يَكُنْ هُنَالِكَ مِنْبَرٌ يَرْقَى عَلَيْهِ، وَلم يَكُنْ يُخْرِجُ مِنْبَرَ المدِينَةِ، وَإِنّمَا كَانَ يَخْطُبُهُمْ قَائِمًا عَلَى الْأَرْضِ.

وفي «الصحيحين» من حديث أبي سعيد: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يوم الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى المصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ

(1)

«بداية المجتهد» (1/ 217)، وقد نقل الإجماع غير واحد كابن قدامة في «المغني» (3/ 346)، وابن بطال في «شرح البخاري» (2/ 556)، والزركشي في «شرحه» (2/ 226)، وابن رشد «بداية المجتهد» (1/ 217)، وغيرهم كثير.

(2)

أخرجه البخاري (979).

(3)

«بدائع الصنائع» (1/ 280)، «شرح ابن بطال» (2/ 554)، قال مالك: لا يخرج المنبر في العيدين، و «فتح الباري» لابن رجب (6/ 144).

(4)

«المبسوط» (2/ 42).

(5)

«زاد المعاد» (1/ 445).

ص: 558

وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ».

قال أَبُو سَعِيدٍ: فَلم يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ وَهُوَ أَمِيرُ المدِينَةِ في أَضْحًى أَوْ فِطْرٍ، فَلما أَتَيْنَا المصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ فَجَبَذَنِي، فَارْتَفَعَ فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ. فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللَّهِ. فَقال: أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلم. فَقُلْتُ: مَا أَعْلم وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا لَا أَعْلم. فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لم يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ.

قال الشافعي

(1)

: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَخْطُبَ على مِنْبَرٍ، فَمَعْلُومٌ عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ على المنْبَرِ يوم الْجُمُعَةِ وَقَبْلَ ذلك كان يَخْطُبُ على رِجْلَيْهِ قَائِمًا إلَى جِذْعٍ.

• الحاصل: أنه لم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب للعيد على منبر، وهذا هو السنة، ولكن إذا كثر الناس، ودعت الحاجة إلى المنبر لبروز الإمام للناس، فقد قال الشافعي رحمه الله: لا بأس بذلك، والله أعلم.

‌المبحث الثالث: من السنة حضور خطبة العيد والاستماع لها

قال الشوكاني

(2)

: وقد اتفق الموجبون لصلاة العيد وغيرهم على عدم وجوب خطبته، ولا أعرف قائلًا بوجوبها.

وورد في الباب حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قال: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ الله الْعِيدَ، فَلما قَضَى الصَّلَاةَ قال:«إِنَّا نَخْطُبُ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ»

(3)

.

(1)

«الأم» (1/ 36).

(2)

«نيل الأوطار» (3/ 363)، وانظر:«بدائع الصنائع» (1/ 275)، و «المغني» (3/ 279).

(3)

ضعيف: أخرجه أبو داود (1155)، والنسائي (1570)، وفي «الكبرى» (1/ 548/ 1779)، وابن ماجه (1290) وغيرهم من طريق الفضل بن موسى عن ابن جريج عن عطاء عن عبد الله ابن السائب به، وابن جريج لم يصرح بالتحديث، قال الحافظ: والفضل بن موسى ثقة ثبت، ربما أغرب. وقد خالف الفضل بن موسى عبد الرزاق وسفيان وهشام، فرووه عن ابن جريج مرسلًا كما في «المصنف» لعبد الرزاق (3/ 290)، و «السنن الكبرى» للبيهقي (3/ 103) وغيرهما. وصحح الإرسال النسائي وأبو داود وأبو زرعة وابن معين. انظر:«علل ابن أبي حاتم» (1/ 180)، و «تاريخ ابن معين» (3/ 15)، و «نصب الراية» (2/ 221).

ص: 559

• ويستحب سماع الخطبة:

قال الشافعي

(1)

: وَأُحِبُّ لمنْ حَضَرَ خُطْبَةَ عِيدٍ أو اسْتِسْقَاءٍ أو حَجٍّ أو كُسُوفٍ أَنْ يُنْصِتَ وَيَسْتَمِعَ، وَأُحِبُّ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ أَحَدٌ حتى يَسْتَمِعَ الْخُطْبَةَ، فَإِنْ تَكَلم أو تَرَكَ الِاسْتِمَاعَ أو انْصَرَفَ كَرِهْتُ ذلك له، وَلَا إعَادَةَ عليه وَلَا كَفَّارَةَ.

‌المبحث الرابع: هل خطبة العيد واحدة أم خطبتان يجلس بينهما؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن للعيد خطبتين يجلس بينهما

(2)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة والقياس:

أما دليلهم من السنة: فعَنْ جَابِرٍ قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ يوم فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى فَخَطَبَ قَائِمًا، ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً ثُمَّ قَامَ

(3)

.

وعن سعد بن أبي وقاص: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعِيدَ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، وَكَانَ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ»

(4)

.

(1)

«الأم» (1/ 366).

(2)

«بدائع الصنائع» (1/ 276)، «الأم» (1/ 361)، «المغني» (3/ 277).

(3)

ضعيف: أخرجه ابن ماجه (1289) وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وأبو بحر، وكلاهما ضعيف.

(4)

إسناده ضعيف جدًا: أخرجه البزار في «البحر الزخار» (3/ 231/ 1116)، وفي إسناده: عبد الله بن شبيب واهٍ، ومحمد بن عبد العزيز ضعيف، ومهاجر: لين الحديث.

قلت: وفي الباب حديث عبيد الله بن عتبة: «السُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ في الْعِيدَيْنِ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ» ، أخرجه الشافعي في «مسنده» (1/ 324، 463)، والبيهقي (3/ 299). وهذا إسناد ضعيف جدًا؛ إبراهيم الأسلمي متروك وأرسله عبيد الله. ورواه عبد الرزاق (5674، 5692)، وابن أبي شيبة (2/ 9) وغيرهما من طرق عن عبيد الله، وهذه الطرق لا تخلو من مقال، وفي ألفاظها بعض الاختلاف، وعلى كل فالحديث مرسل، والله أعلم.

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْعُدُ يوم الْجُمُعَةِ وَالْفِطْرِ وَالأَضْحَى عَلَى المنْبَرِ، فَإِذَا سَكَتَ المؤَذِّنُ يوم الْجُمُعَةِ قَامَ فَخَطَبَ، ثُمَّ جَلَسَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّى. إسناده ضعيف: أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 299). وفي إسناده: حسين ضعيف. وأخرجه الشجري في «الأمالي» (2/ 69) بإسقاط حسين بن عبد الله، ومحمد بن غيلان، والصحيح: محمد بن عجلان.

ص: 560

الحاصل: ذهب جمهور العلماء إلى أن خطبة العيد خطبتان.

واستدلوا: بأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب للعيد خطبتين يفصل بينهما بجلسة، ولكنها لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر من الأحاديث الصحيحة أن خطبة العيد واحدة، كما في حديث أبي سعيد أنَّ النَّبِيَّ قَامَ فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، ثُمَّ نَزَلَ فَأَتَى النِّسَاءَ فَذَكَّرَهُنَّ. وَكذا حديث جابر وابن عباس وكلها في «الصحيحين» .

قال الشيخ ابن عثيمين

(1)

: إن النبي لم يخطب إلا خطبة واحدة، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهن، فإن جعلنا هذا أصلًا في مشروعية الخطبتين فمحتمل، مع أنه لا يصح؛ لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهن؛ لعدم وصول الخطبة إليهن، وهذا احتمال. ويحتمل أن يكون الكلام وصلهن، ولكن أراد أن يخصهن بخصيصة، ولهذا ذكرهن ووعظهن بأشياء خاصة بهن.

‌المبحث الخامس: هل تفتتح خطبة العيد بالتكبير أو بالحمد؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن التكبير في ابتداء الخطبة الأولى والثانية مستحب، واختلفوا في عدد التكبيرات، فأكثرهم يرى افتتاح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات. والثانية بسبع

(1)

«الشرح الممتع» (5/ 191).

ص: 561

تكبيرات، وهو قول الأئمة الأربعة

(1)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة:

عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: السُّنَّةُ في تَكْبِيرِ يوم الأَضْحَى وَالْفِطْرِ عَلَى المنْبَرِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ أَنْ يَبْتَدِئَ الإِمَامُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى المنْبَرِ بِتِسْعِ تَكْبِيرَاتٍ تَتْرَى لَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا بِكَلَامٍ، ثُمَّ يَخْطُبُ، ثُمَّ يَجْلِسُ جَلْسَةً ثُمَّ يَقُومُ في الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ فَيَفْتَتِحُهَا بِسَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ تَتْرَى لَا يَفْصِلُ بَيْنَهَا بِكَلَامٍ ثُمَّ يَخْطُبُ

(2)

.

واعترض عليه: بأنه لم يصح في الباب حديث.

قال الشوكاني رحمه الله: لم يرد في ذلك دليل صحيح للمستمسك به.

واختار ابن تيمية: افتتاح خطبة العيد بالحمد؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبة بغيره.

وقال ابن القيم

(3)

: وَكَانَ يَفْتَتِحُ خُطَبَهُ كُلّهَا بِالْحَمْدِ لِلّهِ وَلم يصح عَنْهُ في حَدِيثٍ وَاحِدٍ أَنّهُ كَانَ يَفْتَتِحُ خُطْبَتَيْ الْعِيدَيْنِ بِالتّكْبِيرِ، والله أعلم.

الحاصل في هذه المسألة: ذهب حمهور العلماء إلى استحباب التكبير في ابتداء الخطبة الأولى والثانية، واستدلوا بأحاديث لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله، ولم يُحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير. والله أعلم.

(1)

«الدر المختار» (3/ 58)، «الأوسط» (4/ 286)، «الأم» (1/ 365)، «الإنصاف» (1/ 430).

(2)

ضعيف جدًا: أخرجه البيهقي في «المعرفة» (3/ 49)، وفي إسناده إبراهيم بن محمد وهو متروك. وله شواهد: فعن سعد بن عائذ القرظ قال: «كَانَ النَّبِيُّ يُكَبِّرُ بَيْنَ أَضْعَافِ الْخُطْبَةِ يُكْثِرُ التَّكْبِيرَ فِي خُطْبَةِ الْعِيد» ، أخرجه ابن ماجه (1287) وغيره، وفي إسناده عبد الرحمن بن سعد، وأبوه ضعيف، وعمار بن سعد المؤذن ضعيف. وعن أبي هُرَيْرَةَ فيه تَكْبِيرُ الْإِمَامِ في الْخُطْبَةِ الْأُولَى يوم الْفِطْرِ وَيوم الْأَضْحَى إحْدَى أو ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ تَكْبِيرَةً في فُصُولِ الْخُطْبَةِ بين ظَهْرَانَي الْكَلَامِ. أخرجه الإمام الشافعي في «الأم» (1/ 365) وفي إسناده:(إبراهيم بن محمد الأسلمي) متروك.

(3)

«زاد المعاد» (1/ 447).

ص: 562

‌المبحث السادس: موضوع خطبة العيد

ينبغى للإمام في خطبة العيد أن يعظ الناس ويذكرهم بتقوى الله، واذا كان عيد فطر أن يعلم الناس أحكام صدقة الفطر وصلة الأرحام، وإذا كان عيد أضحى أن يبين لهم فقه الأضاحي

(1)

.

ويستحب وعظ النساء وتذكيرهن الآخرة، وأحكام الإسلام وحثهن على الصدقة، ولهذا إذا لم يترتب على ذلك مفسدة، وخوف على الواعظ أو الموعوظ أو غيرهما، وفيه أن النساء إذا حضرت صلاة الرجال ومجامعهم يكن بمعزل عنهم خوفًا من فتنة أو نظرة أو فكر ونحوه.

* * *

(1)

قال في «الدر المختار» (3/ 58): وأن يُعلم الناس فيها أحكام صدقة الفطر ليؤديها من لم يؤدها، وينبغي تعليمهم في الجمعة التي قبلها ليخرجوها في محلها ولم أره، وهكذا كل حكم احتيج إليه؛ لأن الخطبة شُرعت للتعليم. قال الماوردي في «الحاوي» (3/ 119): فَإِنْ كَانَ الْعِيدُ فِطْرًا بَيَّنَ حُكْمَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَإِنْ كَانَ الْعِيدُ أَضْحَى بَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ الضَّحَايَا، وَأَنَّهَا سُنَّةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَوَّلَ زَمَانِ النَّحْرِ وَآخِرَهُ، وَالْعُيُوبَ المانِعَةَ وَالْأَسْنَانَ المعْتَبَرَةَ.

ص: 563

‌الفصل السابع التكبير وما يتعلق به من أحكام

من سنن أيام العيدين التكبير

وفيه مباحث:

• المبحث الأول: قسما التكبير

• المبحث الثاني: حكم التكبير المطلق في ليلة عيد الفطر ويومه حتى صلاة العيد

• المبحث الثالث: الجهر بالتكبير

• المبحث الرابع: هل يشرع التكبير الجماعي؟

• المبحث الخامس: التكبير المقيد بأدبار الصلوات في عيد الأضحى دون الفطر

• المبحث السادس: ابتداء التكبير وانتهاؤه للحاج

• المبحث السابع: هل التكبير المقيد خلف الفرائض يختص بالجماعة؟

• المبحث الثامن: محل التكبير المقيد

• المبحث التاسع: صيغ التكبير في العيد

ص: 565

‌المبحث الأول: قسما التكبير

ينقسم التكبير إلى قسمين:

القسم الأول: تكبير مقيد، وهو ما كان مقيدًا بأدبار الصلوات الخمس، وهو مختص بعيد الأضحى على قول جمهور العلماء، وليس في عيد الفطر تكبير مقيد.

القسم الآخر: تكبير مطلق، وهو ما كان غير مقيد بأدبار الصلوات

(1)

.

•‌

‌ المبحث الثاني: حكم التكبير المطلق في ليلة عيد الفطر ويومه حتى صلاة العيد:

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

• القول الأول: ذهب الشافعية والحنابلة إلى استحباب التكبير ليلة عيد الفطر، ويكبر الناس في خروجهم من منازلهم في الطرقات وفي المصلى حتى صلاة العيد.

واستدلوا لذلك بعموم قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}

وجه الدلالة: ما قاله الشافعي: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} عِدَّةَ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَتُكَبِّرُوا اللَّهُ عِنْدَ إكْمَالِهِ على ما هَدَاكُمْ وَإِكْمَالُهُ مَغِيبُ الشَّمْسِ من آخِرِ يوم من أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ

(2)

.

• القول الثاني: وقال مالك: يكبر في المصلى إلى أن يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام قطع التكبير

(3)

.

واستدلوا لذلك بالسنة والمأثور:

أما دليلهم من السنة: فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ في الْعِيدَيْنِ

رَافِعًا صَوْتَهُ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ

(4)

.

(1)

ذهب جمهور العلماء إلى أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق. انظر: «فتح الباري» لابن رجب (6/ 111)، و «الأوسط» (4/ 297)، والقرطبي «جامع أحكام القرآن» (3/ 3).

(2)

«الأم» (1/ 353)، و «الحاوي» (3/ 106)، و «المغني» (3/ 255).

(3)

«مختصر اختلاف الفقهاء» (1/ 377، 378).

(4)

إسناده ضعيف: أخرجه ابن خزيمة (1431) وغيره. وفي إسناده عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف.

ص: 566

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ يوم الْفِطْرِ فَيُكَبِّرُ حَتَّى يَأْتِيَ المصَلَّى، وَحَتَّى يَقْضِيَ الصَّلَاةَ، فَإِذَا قَضَى الصَّلَاةَ قَطَعَ التَّكْبِيرَ»

(1)

.

واعترض عليه: بأن هذه الأحاديث لا تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما دليلهم من المأثور: فعن ابن عمر «أنه كَانَ يُكَبِّرُ إذا غدا إلى المصلى يوم الْعِيدِ»

(2)

.

وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُكَبِّرُ يوم الْعِيدِ

(3)

.

• القول الثالث: أنه لا يكبر في يوم الفطر وليلته، ويكبر في يوم الأضحى، وهو قول الحنفية.

قال الطحاوي: قال أصحابنا: إنه يكبر في طريق الأضحى ويجهر في ذهابه إلى المصلى، ولا يكبر يوم الفطر، ويحتمل قوله:{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} تعظيم الله تعالى بالأفعال والأقوال، كقوله تعالى:{وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء: 111]، وقد روى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس قال: كنت أقود ابن عباس إلى المصلى فيسمع الناس يكبرون فيقول: ما شأن الناس أكبر الإمام؟ فأقول: لا فيقول أمجانين الناس؟

قال أبو جعفر: القياس أن يكبر في العيدين جميعًا؛ لأن صلاة العيدين لا يختلفان في التكبير والخطبة بعدهما وسائر سننها كذلك في سنة التكبير في الخروج إليهما، قال: وكان أبو عمران يحكي عن أصحابنا جميعًا أن السنة عندهم في يوم الفطر أن يكبروا في الطريق إلى المصلى حتى يأتوه، ولم يكن يعرف عندهم ما حكاه المعلى

(4)

.

(1)

مرسل: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 487)، وفي الباب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «زَيِّنُوا أَعْيَادَكُمْ بِالتَّكْبِيرِ» . أخرجه الطبراني في «الأوسط» (4370) وفي إسناده عمرو بن راشد، ضعيف. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «زَيِّنُوا الْعِيدَيْنِ بِالتَّهْلِيلِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّكْبِير» . باطل: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 288)، وفي إسناده (علي بن الحسن الشامي) كذاب، يروي عن الثقات أباطيل.

(2)

إسناده صحيح: أخرجه الفريابي (39).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (5627).

(4)

«مختصر اختلاف العلماء» (1/ 377، 378).

ص: 567

الحاصل: اتفقت المذاهب الأربعة على استحباب التكبير في الطريق، وفي المصلى يوم الأضحى.

وذهب جمهور العلماء إلى استحباب التكبير المطلق ليلة الفطر ويومه؛ لعموم قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي لتكملوا عدة رمضان، وتكبروا الله يوم العيد وليلته.

وإليه ذهب ابن عمر وعروة بن الزبير وغيرهما. وينتهي التكبير يوم الفطر إذا خرج الإمام إلى صلاة العيد.

قال الشافعي

(1)

: يُكَبِّرُ الناس في الْفِطْرِ حين تَغِيبُ الشَّمْسُ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فُرَادَى وَجَمَاعَةً في كل حَالٍ حتى يَخْرُجَ الْإِمَامُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ ثُمَّ يَقْطَعُونَ التَّكْبِيرَ.

•‌

‌ المبحث الثالث: الجهر بالتكبير:

قال النووي: يستحب رفع الصوت بالتكبير بلا خلاف

(2)

.

وقال في شرح مسلم: وقولها «يُكِبِّرنَ مَعَ النَّاس» دليل على استحباب التكبير لكل أحد في العيدين وهو مجمع عليه

(3)

.

قال ابن تيمية: وَيَشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ. وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ

(4)

.

•‌

‌ المبحث الرابع: هل يشرع التكبير الجماعي؟

لم تُطرق مسألة التكبير الجماعي بشيء من التوسع في كتب الفقه، ويُشعر قول الشافعي بجواز ذلك، قال

(5)

: فإذا رَأَوْا هِلَالَ شَوَّالٍ أَحْبَبْتُ أَنْ يُكَبِّرَ الناسُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى في

(1)

«الأم» (1/ 368).

(2)

«المجموع» (5/ 31).

(3)

«شرح صحيح مسلم» للنووي حديث (890).

(4)

«الفتاوى» (24/ 220).

(5)

«الأم» (1/ 353).

ص: 568

المسْجِدِ وَالْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ وَالمنَازِلِ وَمُسَافِرِينَ وَمُقِيمِينَ، في كل حَالٍ وَأَيْنَ كَانُوا وَأَنْ يُظْهِرُوا التَّكْبِيرَ.

قال في بلغة السالك

(1)

: ويستحب الانفراد في التكبير حالة المشي للمصلى، وأما التكبير جماعة وهم جالسون في المصلى فهذا هو الذي أستحسن.

واستدل لهذا القول بعمومات، منها: ما أخرجه البخاري

(2)

عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا نُؤْمَرُ أَنْ نَخْرُجَ يوم الْعِيدِ حَتَّى نُخْرِجَ الْبِكْرَ مِنْ خِدْرِهَا حَتَّى نُخْرِجَ الْحُيَّضَ فَيَكُنَّ خَلْفَ النَّاسِ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ بِدُعَائِهِمْ، يَرْجُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ اليوم وَطُهْرَتَهُ». وفي رواية مسلم «يُكَبِّرُونَ مَعَ النَّاس»

أثر عمر رضي الله عنه: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يُكَبِّرُ في قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ المسْجِدِ فَيُكَبِّرُونَ، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ السُّوقِ فَيُكَبِّرُونَ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا

(3)

.

كان أبو هريرة وابن عمر يأتيان السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك

(4)

.

(1)

«بلغة السالك» (1/ 340).

(2)

أخرجه البخاري (971)، ومسلم (890).

(3)

أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 312)، وسقط من نسخة البيهقي، (علي بن عبد العزيز) وأثبته الحافظ في تغليق التعليق وإسناده حسن.

وقال الحافظ في «تغليق التعليق» (2/ 379): ورواه سعيد بن منصور في «السنن» عن سفيان عن عمرو عن عبيد بن عمير به. قلت: وهذا إسناد صحيح. وله أسانيد أخر لا تخلو من مقال، انظر:«الأوسط» لابن المنذر (4/ 299)، والبيهقي (3/ 312) وغيرهما.

(4)

علقه البخاري (2/ 457) قال ابن رجب في «فتح الباري» (6/ 112): هو من رواية سلام بن أبي المنذر عن حميد الأعرج عن مجاهد، أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان في العشر إلى السوق يكبران، لا يخرجان إلا لذلك، خرجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في كتاب «الشافي» ، وأبو بكر المروزي في كتاب العيدين، ورواه عفان: نا سلام أبو المنذر .. فذكره، وسلام أبو المنذر صدوق يهم وحميد بن قيس الأعرج ليس به بأس، ومجاهد هو ابن جبر سمع من ابن عمر ومن أبي هريرة، فهذا الإسناد حسن، والله أعلم.

ص: 569

عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلمةَ قال: خَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يوم النَّحْرِ فَلم يَرَهُمْ يُكَبِّرُونَ فَقال: مَا لَهُمْ لَا يُكَبِّرُونَ؟! أَمَا وَاللَّهِ فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ رَأَيْتُنَا في الْعَسْكَرِ مَا يُرَى طَرَفَاهُ، فَيُكَبِّرُ الرَّجُلُ فَيُكَبِّرُ الَّذِى يَلِيهِ، حَتَّى يَرْتَجَّ الْعَسْكَرُ تَكْبِيرًا، وَإِنَّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ كَمَا بَيْنَ الأَرْضِ السُّفْلَى إِلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا

(1)

.

الحاصل: أنه يستحب رفع الصوت بالتكبير، أما عن مشروعية التكبير الجماعي، فقول الشافعي يُشعر بجواز ذلك قال: فإذا رأوا هلال شوال أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى. وأيضًا نُقل ذلك عن بعض المالكية، ويمكن أن يستدل لهذا بما ورد في «الصحيحين» من حديث أم عطية وفي رواية مسلم:«ويكبرون مع الناس» .

فأثر عمر رضي الله عنه يدل على ذلك فكان يكبر فيسمعه أهل السوق فيكبرون حتى ترتج منى تكبيرًا، وكذا ورد عن ابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير، وينبغي أن لا يصحب ذلك تلحين أو تطريب، وهذه الأدلة التي أوردناها وإن كانت ليست صريحة ولكن فهم لبعض علمائنا كالإمام الشافعي.

وفي هذا المقام ننصح إخواننا النبلاء الأماجد الذين يحرصون على السنة وجزاهم الله خيرًا على ذلك بألا يتسرعوا في التبديع، إلا إذا جمعوا الأدلة وسبقهم إلى ذلك الأئمة والعلماء، ولقد حذرَنا ربنا فقال:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلمونَ} وإن كان من قال بعدم مشروعية التكبير الجماعي له وجهة قوية؛ لأن الأدلة غير صريحة، ولكن المسألة لا تصل إلى التبديع، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الخامس: التكبير المقيد بأدبار الصلوات في عيد الأضحى دون الفطر.

قال النووي

(2)

: وَأَمَّا التَّكْبِيرُ المقَيَّدُ فَيُشْرَعُ في عِيدِ الْأَضْحَى بِلَا خِلَافٍ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.

قال ابن رشد

(3)

: وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى التَّكْبِيرِ في أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ أَيَّامَ الْحَجِّ.

(1)

إسناده حسن: أخرجه البيهقي (3/ 279) وفي إسناده جعفر بن عوف، صدوق.

(2)

«المجموع» (5/ 32).

(3)

«بداية المجتهد» (1/ 221).

ص: 570

واختلف العلماء في ابتداء وانتهاء التكبير المقيد بأدبار الصلوات على أقوال:

• القول الأول: أن ابتداء وقت التكبير المقيد بأداء الصلوات من صبح يوم عرفة وينتهي بعد عصر آخر التشريق.

وهو قول عند الشافعية

(1)

وأحمد

(2)

.

واستدلوا لهذا القول بالسنة والمأثور:

أما دليلهم من السنة: فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قال كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ يوم عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ حِينَ يُسَلم مِنَ المكْتُوبَاتِ»

(3)

.

عَنْ أَبِي الطُّفَيْلٍ، عَنْ عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْهَرُ في المكْتُوبَاتِ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَانَ يَقْنُتُ في صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَكَانَ يُكَبِّرُ مِنْ يوم عَرَفَةَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، وَيَقْطَعُهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ آخِرَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ»

(4)

.

أما دليلهم من المأثور: فَعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ «أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ يوم عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَيُكَبِّرُ بَعْدَ الْعَصْرِ»

(5)

(1)

قال النووي في «المجموع» (5/ 36): وَحَكَى ابْنُ المنْذِرِ التَّكْبِيرَ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ التَّشْرِيقِ - عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وعلي بن أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ.

(2)

قال عبد الله في «مسائله» رقم (476): سَأَلت أَبِي - الإمام أحمد -عَنْ تَكْبِير أَيْامِ التَّشْرِيق، فَقَالَ: من غَدَاة عَرَفَة إلى آخر أيام التَّشْرِيق، وأيام التَّشْرِيق ثَلَاثَة أيام بعد يَوْم النَّحْر يكبر إلى الْعَصْر ثمَّ يقطع وَهَذَا تَكْبِير عَليّ بن أبي طَالبٍ. قَالَ أبي: وَنحن نَأْخُذ بِهَذَا.

(3)

ضعيف جدًا: أخرجه الدارقطني (2/ 49)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 315). وفي إسناده عمرو بن شمر وجابر الجعفي، كلاهما متروك.

(4)

موضوع: أخرجه الحاكم (1/ 299) قال الذهبي: خبر واهٍ كأنه موضوع؛ لأن عبد الرحمن صاحب مناكير.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (5630). قلت: كل رجاله ثقات إلا عاصما - وهو ابن بهدلة - ابن أبي النجود فيه ضعف، وبعض العلماء يحسن حديثه، وقد تابعه أبو جناب عن ابن أبي شيبة (5631)، وأبو جناب فيه ضعف.

ص: 571

• القول الثاني: أن ابتداء التكبير المقيد بأدبار الصلوات من ظهر يوم النحر، وانتهاؤه صبح آخر أيام التشريق، وهو قول مالك

(1)

، والمشهور عند الشافعية

(2)

.

واستدلوا لذلك بما روى الطبراني عَنْ شُرَيْحِ بْنِ أَبْرَهَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ مِنًى، يُكَبِّرُ في دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ

(3)

.

• القول الثالث: ذهب أبو حنيفة إلى أن التكبير المقيد بأدبار الصلوات من فجر يوم عرفة إلى عصر يوم النحر

(4)

.

• القول الرابع: عن الزهري: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يوم عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ»

(5)

.

قال شيخ الإسلام

(6)

: أصح الْأقوالٍ في التَّكْبِيرِ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ

(1)

قال سحنون في «المدونة» : أَوَّلُ التَّكْبِيرِ دُبُرَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَآخِرُ التَّكْبِيرِ فِي الصُّبْحِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يُكَبِّرُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَيَقْطَعُ فِي الظُّهْرِ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.

قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟ فَقَالَ: يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ دُبُرَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى دُبُرِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. قَالَ بُكَيْر وَسَأَلْتُ غَيْرَهُ فَكُلُّهُمْ يَقُولُ ذَلِكَ.

(2)

قال النووي في «المجموع» (5/ 36): المشْهُورَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّهُ مِنْ ظُهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى الصُّبْحِ مِنْ آخِرِ التَّشْرِيقِ.

(3)

منكر: أخرجه الطبراني في «الأوسط» (7276). وفي إسناده سليمان بن داود متروك.

(4)

قال السرخسي في «المبسوط» (2/ 42): اتَّفَقَ المشَايِخُ مِنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ {أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَبِهِ أَخَذَ عُلماؤُنَا {فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، يُكَبِّرُ فِي الْعَصْرِ ثُمَّ يَقْطَعُ. وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ.

(5)

مرسل: أخرجه ابن أبي شيبة (5646).

(6)

«الفتاوى» (24/ 220).

ص: 572

الصحابَةِ وَالْأَئِمَّةِ: أَنْ يُكَبِّرَ مِنْ فَجْرِ يوم عَرَفَةَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، عَقِبَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُشْرَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْعِيدِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

•‌

‌ المبحث السادس: ابتداء التكبير وانتهاؤه للحاج:

قال الشافعي

(1)

: «وَيُكَبِّرُ الْحَاجُّ خَلْفَ صَلَاةِ الظُّهْرِ من يوم النَّحْرِ إلَى أَنْ يُصَلُّوا الصُّبْحَ من آخَرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ» .

قال ابن قدامة

(2)

: وَأَمَّا المحْرِمُونَ فَإِنَّهُمْ يُكَبِّرُونَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ يوم النَّحْرِ؛ لما ذَكَرُوهُ؛ لأنهمْ كَانُوا مَشْغُولِينَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَغَيْرُهُمْ يَبْتَدِئُ مِنْ يوم عَرَفَةَ؛ لِعَدَمِ المانِعِ في حَقِّهِمْ مَعَ وُجُودِ المقْتَضِي. وَقَوْلُهُمْ:(إنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لَهُمْ في هَذَا)، دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، فَلَا تُسْمَعُ.

الحاصل: ذهب الشافعي وأحمد إلى أن التكبير للحاج يبدأ بعد ظهر يوم النحر؛ وذلك لأن الحاج مشغول بالتلبية. واختلفوا في انتهائه: فذهب الشافعي إلى أن التكبير ينتهي بعد صبح آخر أيام التشريق، وذهب أحمد إلى انتهائه بعد عصر آخر أيام التشريق، وهو الراجح، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث السابع: هل التكبير المقيد خلف الفرائض يختص بالجماعة، أم يكبر خلف الفرائض من صلى وحده؟ وهل التكبير في الفريضة فقط أو النافلة؟

اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:

• القول الأول: ذهب أبو حنيفة وأحمد

(3)

في المشهور عنه إلى أن التكبير المقيد مختص بالصلوات المكتوبات في جماعة، ولا يكبر من صلى الفريضة وحده.

واستدلوا لهذا القول بأثر ابن مسعود: «لَيْسَ عَلَى الْوَاحِدِ وَالاثنين تَكْبِيرٌ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ،

(1)

«الأم» (1/ 399).

(2)

«المغني» (3/ 289).

(3)

«سؤالات عبد الله» (474).

ص: 573

إِنَّمَا التَّكْبِيرُ عَلَى مَنْ صَلَّى في جَمَاعَةٍ»

(1)

.

أثر ابن عمر: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى وَحْدَهُ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لم يُكَبِّرْ»

(2)

.

قال ابن قدامة

(3)

: المشْرُوعُ عِنْدَ إمَامِنَا التَّكْبِيرُ عَقِيبَ الْفَرَائِضِ في الْجَمَاعَاتِ، في المشْهُورِ عَنْهُ. قال الْأَثْرَمُ: قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَذْهَبُ إلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُكَبِّرُ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ؟ قال أَحْمَدُ: نَعَمْ. وَقال ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّمَا التَّكْبِيرُ عَلَى مَنْ صَلَّى في جَمَاعَةٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ».

وَلَنَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِعْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَلم يُعْرَفْ لَهُمَا مُخَالِفٌ في الصحابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا؛ وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مُخْتَصٌّ بِوَقْتِ الْعِيدِ؛ فَاخْتُصَّ بِالْجَمَاعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهِ لِلْفَرَائِضِ مَشْرُوعِيَّتُهُ لِلنَّوَافِلِ، كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.

• القول الثاني: قال مالك

(4)

: لا يكبر إلا في دبر الفرائض، سواء كان منفردًا أو جماعة.

وهذا قول محمد بن الحسن وأبي يوسف من الحنفية

(5)

، ورواية عن أحمد

(6)

.

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 305/ 2213).

قلت: وإسناده ضعيف؛ لإبهام من حدثوا ابن المنذر، وحماد هو ابن سليمان فيه لين.

(2)

أخرجه ابن المنذر في «الأوسط» (4/ 305)، وهذا الإسناد وإن كان ظاهره الصحة؛ إلا أن الحافظ ابن حجر أعلَّ هذا الإسناد برواية ابن جريج عن نافع عن ابن عمر:«أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الأَيَّامَ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ، وَفِى فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الأَيَّامِ جَمِيعًا» كما في «تغليق التعليق» .

(3)

«المغني» (3/ 291).

(4)

قال سحنون في «المدونة» (1/ 157): وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ التَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي غَيْرِ دُبُرِ الصَّلَوَاتِ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِينَ أَدْرَكْتَهُمْ وَأَقْتَدِي بِهِمْ فَلم يَكُونُوا يُكَبِّرُونَ إلَّا فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ.

(5)

«المبسوط» (2/ 44).

(6)

«المغني» (3/ 291).

ص: 574

• القول الثالث: قال الشافعي: يكبر عقيب كل صلاة فريضة كانت أو نافلة، منفردًا صلاها أو في جماعة

(1)

.

الحاصل: اتفق الأئمة الأربعة على استحباب التكبير خلف الفريضة المؤداة في جماعة، واختلفوا في غير ذلك، والراجح هو قول الشافعي أن التكبير يكون خلف الفرائض والنوافل، سواء كان منفردًا أو جماعة، رجلًا كان أو امرأة؛ لعموم الأدلة، ومَن اقتصر على التكبير المقيد خلف الصلاة المكتوبة في جماعة فله وجه، والله أعلم.

•‌

‌ المبحث الثامن: محل التكبير المقيد:

قال الشيخ ابن عثيمين

(2)

: واختلف في محل هذا التكبير المقيد، هل هو قبل الاستغفار وقبل اللهم أنت السلام ومنك السلام، أو بعدهما؟

قال بعض العلماء: يكون قبل الاستغفار وقبل اللهم أنت السلام ومنك السلام، فإذا سَلم الإمام وانصرف، كبّر رافعًا صوته حسب ما سيذكر المؤلف، ثم يستغفر ويقول:«اللهم أنت السلام ومنك السلام» .

والصحيح أن الاستغفار وقول: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ» مقدم؛ لأن الاستغفار وقول: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ» ألصق بالصلاة من التكبير، فإنَّ الاستغفار يسنّ عقيب الصلاة مباشرة؛ لأن المصلي لا يتحقق أنه أتقن الصلاة، بل لا بد من خلل، ولا سيما في عصرنا هذا، فالإنسان لا يأتيه الشيطان إلا إذا كبّر للصلاة.

(1)

«الأم» (5/ 369). قال النووي رحمه الله في «المجموع» (5/ 39): مذهبنا أنه يستوى في التكبير المطلق والمقيد المنفرد والمصلي جماعة والرجل والمرأة والصبى المميز والحاضر والمسافر، وروى ابن أبي شيبة (5831) عن ابن مَهْدِيٍّ، عَنْ هَمَّامٍ، قَالَ: رَأَيْتُ قَتَادَةَ صَلَّى وَحْدَهُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَكَبَّرَ. وإسناده صحيح.

(2)

«الشرح الممتع» (5/ 216).

ص: 575

•‌

‌ المبحث التاسع: صيغ التكبير في العيد:

اختلف أهل العلم في صيغ التكبير في العيد على قولين:

• القول الأول: ذهب الحنفية والحنابلة

(1)

إلى أن صيغة التكبير في العيد: «الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد» .

واستدلوا لذلك بالسنة والمأثور:

أما دليلهم من السنة: فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ غَدَاةَ عَرَفَةَ قال لِأَصحابِهِ: «عَلَى مَكَانِكُمْ» ، ثُمَّ يَقُولُ:«اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» فَيُكَبِّرُ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أيام التَّشْرِيقِ»

(2)

.

واعترض عليه بأنه حديث واهٍ.

وعَنِ الأَسْوَدِ قال: كَانَ عَبْدُ اللهِ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يوم عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنَ يوم النَّحْرِ، يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ

(3)

.

قال ابن قدامة: وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَبِهِ قال الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ المبَارَكِ.

(1)

«المبسوط» (2/ 43)، و «مسائل عبد الله» رقم (470).

(2)

ضعيف جدًا: أخرجه الدارقطني (2/ 50). وفي إسناده: عمرو بن شمر متروك. وجابر الجعفي: ضعيف الحديث. وعبد الرحمن بن سابط لا يُحتج به.

(3)

رجاله ثقات: أخرجه ابن أبي شيبة (5651). ووردت رواية بتثليث التكبير، أخرجها ابن أبي شيبة (5632). وهذه الرواية إن كان كل رواتها ثقات إلا أنها تخالف كل الروايات الأخرى بتثنية التكبير، انظر ابن أبي شيبة (5650)(5651) وابن المنذر في «الأوسط» (4/ 304) والطبراني في «الكبير» (9/ 355، 356)، فالراجح هو تثنية التكبير.

ص: 576

• القول الثاني: ذهب مالك والشافعي إلى استحباب التكبير ثلاثًا (أي: الله أكبر الله أكبر الله أكبر)

(1)

.

عَنْ أَبِى عُثْمَانَ النَّهْدِىِّ قال: كَانَ سَلمانُ رضي الله عنه يُعَلمنَا التَّكْبِيرَ يَقُولُ: كَبِّرُوا اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا. أَوْ قال تَكْبِيرًا اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَى وَأَجَلُّ

(2)

.

عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يوم عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، لَا يُكَبِّرُ في المغْرِبِ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ

(3)

.

الحاصل:

ورد في هذا الباب حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ غَدَاةَ عَرَفَةَ قال لِأَصحابِهِ:«عَلَى مَكَانِكُمْ» ، ثُمَّ يَقُولُ:«اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» فَيُكَبِّرُ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أيام التَّشْرِيقِ.

ولكن إسناده ضعيف جدًا، فعمرو بن شمر متروك، وجابر الجعفي ضعيف.

وصح عن ابن مسعود أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، يقول: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، ولله الحمد. ورجاله ثقات.

(1)

«المدونة» (1/ 156) وقال الشافعي في «الأم» (1/ 269): وَالتَّكْبِيرُ كَمَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ " اللَّهُ أَكْبَرُ " فَيَبْدَأُ الْإِمَامُ فَيَقُولُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ " حَتَّى يَقُولَهَا ثَلَاثًا، وَإِنْ زَادَ تَكْبِيرًا فَحَسَنٌ، وَإِنْ زَادَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا نَعْبُدُ إلَّا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدَّيْنَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ " فَحَسَنٌ.

(2)

صحيح: أخرجه البيهقي (3/ 316).

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (5645)، (5654) حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن أبي بكار عن عكرمة عن ابن عباس.

ص: 577

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ: اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وإسناده صحيح.

وعن أبي عثمان النهدي قال: كَانَ سَلمانُ رضي الله عنه يُعَلمنَا التَّكْبِيرَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَى وَأَجَلُّ. وإسناده صحيح.

والأَوْلى الاقتصار على هذه الصيغ التي وردت عن الصحابة، وأشهرها صيغة ابن مسعود. وينبغي ألا يزاد صيغ لم تصح عن الصحابة.

قال الحافظ في «الفتح» : وَقَدْ أُحْدِثَ في هَذَا الزَّمَانِ زِيَادَةٌ في ذَلِكَ لَا أَصْلَ لَهَا.

وقال الشوكاني في «نيل الأوطار» : وقد استحسن البعض زيادات في تكبير التشريق لم ترد عن السلف. والله أعلم.

* * *

ص: 578

الفصل الثامن ما يباح في العيدين

• المبحث الأول: مشروعية الترفيه واللعب في العيد

• المبحث الثاني: الرخصة للجواري يوم العيد في اللعب والغناء

• المبحث الثالث: يباح الاجتماع على الطعام في العيد

• المبحث الرابع: يباح العمل والبيع والشراء في العيد

ص: 579

‌الفصل الثامن ما يباح في العيدين

وفيه مباحث:

•‌

‌ المبحث الأول: مشروعية الترفيه واللعب في العيد:

في «الصحيحين»

(1)

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ في أَيَّامِ مِنًى تُغَنِّيَانِ وَتَضْرِبَانِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ وَقال «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ». وَقَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِى بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَأَنَا جَارِيَةٌ، فَاقْدِرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْعَرِبَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ.

وفي رواية: «وَكَانَ يوم عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا قال «تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟» . فَقُلْتُ: نَعَمْ فَأَقَامَنِى وَرَاءَهُ، خَدِّى عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ «دُونَكُمْ يَا بَنِى أَرْفَدَةَ» . حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قال «حَسْبُكِ» . قُلْتُ نَعَمْ. قال «فَاذْهَبِى» .

قال ابن رجب

(2)

: واللعب بالحراب والدرق في الأعياد مما لا شُبه في جوازه، بل واستحبابه؛ لأنه مما يُتعلم به الفروسية، ويُتمرن به علي الجهاد.

وقد رّخص إسحاق وغيره من الأئمة في اللعب بالصولجان والكرة، للتمرن على الجهاد.

وقال النووي

(3)

: قَوْلُهَا: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ وَأَنَا جَارِيَةٌ. وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ في مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه البخاري (950)، ومسلم - وللفظ له- (892).

(2)

«فتح الباري» لابن رجب (6/ 74).

(3)

«شرح مسلم» (2/ 489).

ص: 580

فِيهِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِالسِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ في المسْجِدِ، ويلتحق به ما في مَعْنَاهُ مِنَ الْأَسْبَابِ المعِينَةِ عَلَى الْجِهَادِ وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ، وَفِيهِ جَوَازُ نَظَرِ النِّسَاءِ إِلَى لَعِبِ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى نَفْسِ الْبَدَنِ، وَأَمَّا نَظَرُ المرْأَةِ إِلَى وَجْهِ الرَّجُلِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَا مَخَافَةَ فِتْنَةٍ فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا، أَصَحُّهُمَا تَحْرِيمُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31].

•‌

‌ المبحث الثاني: الرخصة للجواري يوم العيد في اللعب والغناء:

في «الصحيحين» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَىَّ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِى الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الأَنْصَارُ يوم بُعَاثٍ. قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ. فَقال أَبُو بَكْرٍ: أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ في بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟! وَذَلِكَ في يوم عِيدٍ. فَقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا» .

قال ابن رجب

(1)

: في هذا الحديث الرخصة للجواري في يوم العيد في اللعب والغناء بغناء الأعراب. وإن سمع ذلك النساء والرجال، وإن كان معه دف مثل دف العرب وهو يشبه الغربال، وليس الغناء والدف المرخص فيهما في معنى غناء الأعاجم ودفوفهما المصلصلة؛ لأن غناءهم ودفوفهم تحرك الطباع وتهيجها إلى المحرمات، بخلاف غناء الأعراب، فمن قاس أحدهما على الآخر فقد أخطأ أقبح الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل، فقياسه من أفسد القياس وأبعده عن الصواب.

قال ابن بطال

(2)

: قال المهلب: وفيه دليل أن العيد موضوع حديث للراحات وبسط النفوس إلى ما يحل من الدنيا والأخذ بطيبات الرزق وما أحل الله من اللعب والأكل والشرب والجماع، ألا ترى أنه أباح الغناء من أجل عذر العيد. قال: «دعهما يا أبا بكر

(1)

«فتح الباري» (6/ 77).

(2)

«شرح صحيح البخاري» (2/ 549).

ص: 581

(فإنها) أيام عيد» وكان أهل المدينة على سيرة من أمر الغناء واللهو، وكان

النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر على خلاف ذلك، ولذلك أنكر أبو بكر المغنيتين في بيت عائشة؛ لأنه لم يرهما قبل ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فرخص في ذلك للعيد وفي ولائم إعلان.

•‌

‌ المبحث الثالث: يباح الاجتماع على الطعام في العيد:

قال شيخ الإسلام: جمع الناس للطعام في العيدين وأيام التشريق سُنة، وهو من شعائر الإسلام التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين

•‌

‌ المبحث الرابع: يباح العمل والبيع والشراء في العيد:

قال ابن حزم

(1)

: وَلَا يَحْرُمُ الْعَمَلُ، وَلَا الْبَيْعُ في شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ؛ لأِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَا خِلَافَ أيضًا بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلَامِ في هَذَا.

* * *

(1)

«المحلي» (5/ 81).

ص: 582

‌الفصل التاسع ما يُكره ويَحرم في العيدين

• المبحث الأول: كراهية حمل السلاح يوم العيد

• المبحث الثاني: يحرم تخصيص ليلة العيد بقيام

• المبحث الثالث: يحرم صوم يومي العيدين

• المبحث الرابع: يحرم الاحتفال بأي عيد سوى العيدين والجمعة

• المبحث الخامس: منكرات العيدين (المحرمات التي تقع في أيام العيدين)

ص: 583

‌المبحث الأول: كراهية حمل السلاح يوم العيد

روى البخاري

(1)

: عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ في أَخْمَصِ قَدَمِهِ، فَلَزِقَتْ قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ، فَنَزَلْتُ فَنَزَعْتُهَا وَذَلِكَ بِمِنًى، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ فَجَعَلَ يَعُودُهُ فَقال الْحَجَّاجُ: لَوْ نَعْلم مَنْ أَصَابَكَ. فَقال ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ أَصَبْتَنِي. قال: وَكَيْفَ؟! قال: حَمَلْتَ السِّلَاحَ في يوم لم يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ وَأَدْخَلْتَ السِّلَاحَ الْحَرَمَ، وَلم يَكُنْ السِّلَاحُ يُدْخَلُ الْحَرَمَ.

قال ابن بطال

(2)

: قول ابن عمر: (حَمَلْتَ السِّلَاحَ في يوم لم يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ) يدل أن حملها ليس من شأن العيد، وحملها في المشاهد التي يحتاج إلى الحمل فيها مكروه؛ لما يخشى فيه من الأذى والعقر عند تزاحم الناس، فإن خافوا عدوًّا فمباح حملها كما قال الحسن.

قال المهلب: وقد أباح الله حمل السلاح في الصلاة عند الخوف فقال تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وقوله: (أُمرت بحمل السلاح في الحرم ولم يكن يدخل فيه) إنما ذلك للأمن الذي جعله الله لجماعة المسلمين فيه لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} ، وقوله للحجاج:(أنت أصبتني) دليل على قطع الذرائع؛ لأنه لامه على ما أدّاه إلى أذاه، وإن كان لم يقصد الحجاج ذلك.

قال الحافظ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ تُخَالِفُ في الظَّاهِرِ التَّرْجَمَةَ المتَقَدِّمَةَ وَهِيَ بَابُ الْحِرَابِ وَالدَّرَقِ يَوْمَ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُهَا، وَهَذِهِ دَائِرَة بَين الْكَرَاهَة وَالتَّحْرِيم لقَوْل ابن عُمَرَ في يوم لَا يَحِلُّ فِيهِ حَمْلُ السِّلَاحِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الْحَالَةِ الْأُولَى عَلَى وُقُوعِهَا مِمَّنْ حَمَلَهَا بِالدُّرْبَةِ وَعُهِدَتْ مِنْهُ السَّلَامَةُ مِنْ إِيذَاءِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِهَا وَحَمْلِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى وُقُوعِهَا مِمَّنْ حَمَلَهَا بَطَرًا وَأَشَرًا، أَوْ لم يَتَحَفَّظْ حَالَ حَمْلِهَا وَتَجْرِيدِهَا مِنْ إِصَابَتِهَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ.

(1)

أخرجه البخاري (966، 967).

(2)

«شرح صحيح البخاري» (2/ 559).

ص: 584

‌المبحث الثاني: يحرم تخصيص ليلة العيد بقيام أو إحياء ليلتي العيد

• الأحاديث الواردة في الباب:

حديث أبي أمامة وعبادة أبن الصامت: مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مُحْتَسِبًا لِلَّهِ، لم يَمُتْ قَلْبُهُ يوم تَمُوتُ الْقُلُوبُ

(1)

.

حديث كردوس: مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْعِيدِ، وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لم يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ

(2)

.

حديث معاذ: «من أحيا الليالي الخمس وجبت له الجنة ليلة التروية وليلة عرفة، وليلة النحر وليلة النصف من شعبان»

(3)

.

‌المبحث الثالث: يحرم صوم يومي العيدين

في «الصحيحين»

(4)

من حديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قال: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يوم الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ.

وروى مسلم

(5)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمَيْنِ: يوم الْفِطْرِ وَيوم الأَضْحَى.

(1)

موضوع: أخرجه ابن ماجه (1782). انظر: «جامع أحكام العيدين» (ص 471).

(2)

موضوع: أخرجه ابن الأعرابي في «المعجم» (2252)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (924) وفي إسناده مروان متروك.

(3)

موضوع: أخرجه الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (374)، وفي إسناده عبد الرحيم بن زيد متروك.

(4)

أخرجه البخاري (1991)، ومسلم (1138).

(5)

أخرجه مسلم (1140).

ص: 585

‌المبحث الرابع: يحرم الاحتفال بأي عيد سوى الفطر والأضحى والجمعة

قال ابن عثيمين

(1)

: والعيدان تثنية عيد، وهما عيد الأضحى وعيد الفطر، وكلاهما يقعان في مناسبة شرعية.

أما عيد الفطر ففي مناسبة انقضاء المسلمين من صوم رمضان.

وأما الأضحى فمناسبته اختتام عشر ذي الحجة، فالمناسبة لهذين العيدين مناسبة شرعية.

وهناك عيد ثالث وهو ختام الأسبوع وهو يوم الجمعة، ويتكرر في كل أسبوع مرة، وليس في الإسلام عيد سوى هذه الأعياد الثلاثة: الفطر، والأضحى، والجمعة.

فليس فيه عيد بمناسبة مرور ذكرى غزوة بدر، ولا غزوة الفتح، ولا غيرها من الغزوات العظيمة التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا، ناهيك بما يقام من أعياد وانتصارات وهمية.

بل إني أعجب لقوم يجعلون أعيادًا للهزائم ذكرى يوم الهزيمة أو ذكرى احتلال البلد الفلاني للبلد الفلاني، مما يدل على سفه عقول كثير من الناس اليوم؛ لأنهم لما حصل لهم شيء من البعد عن دين الإسلام صاروا حتى في تصرفهم يتصرفون تصرف السفهاء، وليس هناك أعياد لمناسبة ولادة أحد من البشر حتى النبي صلى الله عليه وسلم لا يُشرع العيد لمناسبة ولادته، وهو أشرف بني آدم فما بالك بمن دونه؟

* * *

(1)

«الشرح الممتع» (5/ 145 - 148).

ص: 586

‌المبحث الخامس: منكرات العيدين أو المحرمات التي تقع في أيام العيدين

إذا كانت المناسبة للأعياد هي انقضاء عبادة كصوم رمضان أو اختتام العشر أو أيام الحج، فينبغي أن يُشكر الله في هذا اليوم ويجوز اللعب واللهو المباح والاجتماع على الطعام.

وإذا كان يوم العيد يوم فرحة وسرور فينبغي أن ينضبط هذا الشعور بالضوابط الشرعية، فيفرح في عيد الفطر؛ لأنه صام وقام فيرجو رحمة الله قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .

أما إذا فعل فِعل السفهاء من ارتكاب للمحرمات وفعل الموبقات، بحجة أنه يوم عيد وفرح وسرور فنقول: هذا هو الفرح المذموم، قال تعالى:{ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} .

• وهناك بعض المحرمات التي تقع في هذا اليوم وينبغي الحذر منها، مثل:

1) التشبه بالكفار والغربيين في الملابس واستماع المعازف.

2) التزين بحلق اللحية، وهو الأمر الذي عليه كثير من الناس، وحلق اللحية محرم في دين الله سبحانه وتعالى.

3) مصافحة النساء الأجنبيات.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يصافح النساء.

4) الدخول علي النساء لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» فَقال رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قال: «الْحَمْوُ الموْتُ»

(1)

.

الحمو: أقرباء الزوج كالأب والأخ والعم وغيرهم .... وقوله صلى الله عليه وسلم: «الْحَمْوُ الموْتُ»

(1)

أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172).

ص: 587

معناه أن حماها هو الغاية في الشر والفساد فشبهه بالموت؛ وذلك أنه شر من الغريب من حيث أنه آمن مُدلّ والأجنبي متخوف مترقب، يحتمل أن يكون دعاء عليها، أي مكان الموت منها بمنزلة الحمو الداخل عليها إن رضيت بذلك

(1)

.

5) تبرج النساء وخروجهن إلى الأسواق وغيرها، وهذا محرم في شريعة الله، يقول تعالى:{وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ولقوله صلى الله عليه وسلم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لم أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ

(2)

المائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا»

(3)

.

6) الإسراف والتبذير فيما لا مصلحة فيه، ولا فائدة منه، يقول الله تعالى:{وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المسْرِفِينَ} . ويقول جل شأنه: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} .

7) ترك كثير من الناس للصلاة في المسجد من غير عذر شرعي، واقتصار البعض على صلاة العيدين دون سائر الصلوات!

* * *

(1)

«الفائق في غريب الحديث» (1/ 318).

(2)

قال القاضي عياض في «مشارق الأنوار» (1/ 79): هي إبل غلاظ ذات سنامين ومعناه والله أعلم أنهن يُعظمن رءوسهن بالخُمُر ويكون شعورهن ولا يغضضن من أبصارهن.

(3)

أخرجه مسلم (2128)، (2856).

ص: 588

‌المبحث السادس: من بدع العيدين

• تخصيص الرجال والنساء زيارة القبور فيهما.

• تخصيص بعض الأضرحة يوم العيد وعرفة بالزيارة.

قال ابن تيمية: ما يُفعل يوم عرفة، مما لا أعلم بين المسلمين خلافًا في النهي عنه، وهو قصد قبر من يحسن به الظن والاجتماع العظيم عند قبره

(1)

.

• ذهاب الناس واجتماعهم عند من مات له ميت حديثًا وجلوسهم عند أهله وتجديد الحزن والهم

(2)

.

* * *

ص: 589