المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌مقدمة فضيلة الشيخ مصطفى بن العدوي الحمد لله والصلاة - الجامع في أمثال القرآن

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌مقدمة فضيلة الشيخ

مصطفى بن العدوي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد:

فمن نعم الله عز وجل على العبد بعد أن يوفقه ويهديه ويشرح صدره للإسلام أن يوفقه لطلب العلم الشرعي، المتمثل بالدرجة الأولى في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلك علامة خير، وذلك شاهد صدق بإذن الله، إذ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

(1)

وقال: «مَنْ يُرِد الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»

(2)

.

هذا، ومن أجل العلوم وأنفعها كما أشرت وأسلفت العلم بكتاب الله عز وجل وتدبر آياته والتفكر فيها.

ولقد ضرب الله عز وجل في كتابه العزيز أمثالا للناس لعلهم يتذكرون ويتفكرون ويتقون، وفهم هذه الأمثال على الوجه الذي يريده الله عز وجل نعمة عظيمة

(1)

أخرجه البخاري (5027) من حديث عثمان رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (3116)، ومسلم (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه.

ص: 3

من أجل النعم فذلك بإذن الله يورث تفكرًا وتدبرًا ويحمل على التقوى بإذن الله.

والذين يعقلون هذه الأمثال وصفهم الله عز وجل ب {الْعَالِمُونَ} .

إذ الله عز وجل قال: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

هذا، ومن أهل العلم الذين رزقهم الله فهمًا وآتاهم الله بصيرة في هذا الصدد العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، والمتأمل في كتبه والناظر في رسائله يرى ذلك بوضوح وجلاء، فقد تكلم العلامة رحمه الله عن أمثال القرآن في العديد من كتبه، وكان منها كتاب الأمثال له، وقد قيل: إنه هو الذي أفرده بالتصنيف، وقيل: إنه أُخِذَ من «إعلام الموقعين» وعلى كلٍّ فقد أجاد العلامة ابن القيم رحمه الله في شرح كثير من أمثال القرآن إجادة لا تخفى.

هذا، وقد قام أخي في الله/ الشيخ/ أبو أويس أشرف بن نصر بن صابر الكردي حفظه الله تعالى بتحقيق الأحاديث والآثار الواردة في كتاب الأمثال لابن القيم وكذا تخريجها، مع الحكم عليها بما تستحقه من الصحة والضعف، وكذا فقد تتبع كتب العلامة ابن القيم، وأورد أقواله وشروحه في الأمثال التي لم تذكر في كتاب الأمثال أو ذكرت مختصرة وبسطت في موضع آخر من كتبه ورتبها على سور القرآن.

وأضاف في الحاشية بعض الإضافات والنقولات عن بعض أهل العلم الأولين كالطبري وابن كثير وغيرهما.

هذا، وقد راجعت مع أخي/ الشيخ/ أبي أويس حفظه الله عمله فألفيته، ولله الحمد نافعًا مباركًا.

ص: 4

أسأل الله أن يجازيه خيراً وأن يوفقه لمواصلة طلب العلم والدعوة إلى الله، وصل اللهم على سيدنا محمد وسلم، والحمد لله رب العالمين.

كتبه/ أبو عبد الله

مصطفى بن العدوي

ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ تَعَالَى، نَحْمَدُه، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بالِلهِ من شُرُور أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْد اللهُ فَلا مُضِلّ لَه، ومَن يُضْلِل فَلا هَادِي لَه، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَه إلا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَريك لَه، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}

[آل عمران: 102].

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1].

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70 - 71].

فَإنَّ أصدقَ الْحَدِيث كِتَابُ الله، وَخَيْرَ الْهَدْي هَدْي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرّ الأُمُور مُحْدَثَاتُهَا، وَكل مُحْدَثَةٍ بِدْعَة، وَكل بِدْعَةٍ ضلالة

(1)

.

أما بعد: فَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي مَيز، وَلَا يشتبه عَلَى ذِي لُبٍّ مَا جَعَل الله تَعَالَى فِي الْأَمْثَالِ من الحِكْمَةِ، وأودع فِيها من الفَائِدَة، وناط بِهَا مَنْ الحَاجَةِ؛ فَإِنْ ضَرب الأمثال في القرآن يُستفاد منه أمورٌ كثيرة.

(1)

وزيادة «كل ضلالة في النار» شاذة، وقد تكلمت عليها في حاشية «الاعتصام» للشاطبي. ط. دار ابن رجب (ص 57) بتحقيقي. وانظر غير مأمور شرحًا لألفاظ خطبة الحاجة في «مجموع الفتاوى» (18/ 285 - 290).

ص: 6

‌أغراض ضرب الأمثال

1 -

منها: التذكير، قال سبحانه وتعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)} [الزمر: 27].

وقال سبحانه وتعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 25].

قال ابن عاشور رحمه الله

(1)

: خُصّت أمثال القرآن بالذكر من بين مزايا القرآن لأجل لَفت بصائرهم للتدبر في ناحية عظيمة من نواحي إعجازه، وهي بلاغة أمثاله، فإن بلغاءهم كانوا يتنافسون في جَودة الأمثال وإصابتها المحزّ

(2)

من تشبيه الحالة بالحالة.

2 -

ومنها: التفكر والاعتبار والاستبصار قال سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [الحشر: 21].

(1)

هو: محمد الطاهر بن عاشور التونسي، مالكي المذهب، أشعري العقيدة، بلاغي الأسلوب، أحد أعضاء المجمعين العربيين في دمشق والقاهرة. من مؤلفاته:«الوقف وآثاره في الإسلام» ، و «أصول الإنشاء والخطابة» «موجز البلاغة» ، «التحرير والتنوير» توفي رحمه الله تعالى سنة (1393) هجرية.

وانظر غير مأمور: «الأعلام للزركلي» (6/ 174)، وكتاب «المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات» للشيخ محمد المغراوي (3/ 1403 - 1443).

(2)

يقال: تكلم فأصاب المحز: تكلم فأقنع. «المعجم الوسيط» (م/ حزز).

ص: 7

قال ابن القيم رحمه الله

(1)

: الفكر: هو إحضار معرفتين في القلب لِيُستثمَرَ منهما معرفةٌ ثالثةٌ.

ومثال ذلك: إذا أحضر في قلبه العاجلة وعيشها ونعيمها وما يقترن به من الآفات وانقطاعه وزواله، ثم أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها، ولذتها ودوامها وفضلها على نعيم الدنيا وجزم بهذين العلمين أثمر له ذلك علما ثالثا؛ وهو أن الآخرة ونعيمها الفاضل الدائم أولى عند كل عاقل بإيثاره من العاجلة المنقطعة المنغصة

وهذا يُسمى تفكرًا، وتذكرًا، ونظرًا، وتأملًا، واعتبارًا، وتدبرًا، واستبصارًا. وهذه معان متقاربة تجتمع في شيء وتتفرق في آخر

* والتفكر في القرآن نوعان:

* تفكر فيه ليقع على مراد الرب تعالى منه.

* وتفكر في معاني ما دعا عباده إلى التفكر فيه.

فالأول: تفكر في الدليل القرآني.

والثاني: تفكر في الدليل العياني.

الأول: تفكر في آياته المسموعة.

والثاني: تفكر في آياته المشهودة.

ولهذا أنزل الله القرآن ليتدبر ويتفكر فيه، ويعمل به، لا لمجرد تلاوته مع الإعراض عنه.

(1)

في «مفتاح دار السعادة» (1/ 542 فما بعد) ط ابن القيم وابن عفان.

ص: 8

قال الحسن البصري: «أنزل القرآن ليعمل به؛ فاتخذوا تلاوته عملًا» .

وقال: «تفكرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ من قِيَامِ لَيْلَةٍ»

(1)

.

وكان سفيان الثوري كثيرًا ما يتمثل:

إذا المرءُ كانت له فِكرة

ففي كلِّ شيءٍ له عبرة

(2)

3 -

ومنها: التدبر والتأمل، قال سبحانه وتعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29].

وقال سبحانه وتعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82].

وقال سبحانه وتعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68].

وقال سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}

[العنكبوت: 43].

وعن عمرو بن مُرَّةَ قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني؛ لأني سمعت الله سبحانه وتعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)}

(3)

.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 507) قال: حدثنا محمد بن فضيل عن العلاء بن المسيب عن الحسن به.

(2)

انظر «مفتاح دار السعادة» (1/ 538 فما بعد) الوجه (153) ط ابن القيم وابن عفان.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» (18174) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ بن الجنيد، ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدشتكي، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد، ثنا

أَبُو سِنَانٍ سعيد بن سنان، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ. وانظر:«فضائل القرآن» لأبي عبيد (ص/ 42)، و «مفتاح دار السعادة» (1/ 317).

ص: 9

4 -

ومنها: تقريب المعقول في صورة المحسوس، قال سبحانه وتعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261].

5 -

ومنها: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59].

فأخبر سبحانه وتعالى أن عيسى نظيرُ آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات، وهو مجيئها طوعًا لمشيئته وتكوينه، فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم، ووجود حواء من غير أم؛ فآدم وعيسى نظيران يجمعهما المعنى الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به

(1)

.

6 -

ومنها: المدح والذم، قال سبحانه وتعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}

[الفتح: 29].

وقال سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة: 5].

(1)

قاله ابن القيم في «إعلام الموقعين» (2/ 252)، و «هداية الحيارى» (ص/ 107).

قال الرازي: أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 10

قال ابن القيم رحمه الله: ضربُ الأمثال في القرآن يُستفاد منه أمورٌ: التذكير، والوعظ، والحث، والزجر، والاعتبار، والتقرير، وتقريب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس، بحيث يكون نسبته للعقل كنسبة المحسوس إلى الحس.

وقد تأتي أمثال القرآن مشتملةً على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر

(1)

.

(1)

«بدائع الفوائد» (4/ 1314) ط عالم الفوائد، وانظر:«مدارج السالكين» (4/ 504)، و «الإتقان» (4/ 44) للسيوطي.

ص: 11

‌تعددُ الأَمْثَالِ

قد أكثر سبحانه وتعالى من هذه الأمثال ونوعها مستدلًّا بها على حسن شكره وعبادته وقبح عبادة غيره

(1)

.

قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)} [الزمر: 27].

وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)} [الإسراء: 89].

وقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)} [الكهف: 54].

وعن عبد الله بن عَمْروِ بْنِ الْعَاصِي

(2)

رضي الله عنه أنه قال: «عَقَلْتُ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَلْفَ مَثَلٍ»

(3)

.

(1)

«مفتاح دار السعادة» (2/ 333).

(2)

قال النووي في شرح مسلم (1/ 77): وأما العاصي فأكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه ونحوها بحذف الياء، وهي لغة، والفصيح الصحيح: العاصي، بإثبات الياء .... ولا اغترار بوجوده في كتب الحديث أو أكثرها بحذفها، والله أعلم.

(3)

إسناده ضعيف: رواه ابن لهيعة واختلف عليه؛ فرواه إسحاق بن عيسى - وهو صدوق - عنه عن أبي قبيل -حيي بن هانئ المعافري - سمعت عمرو بن العاصي به. أخرجه أحمد (4/ 204). =

ص: 12

وقَال ابْنُ الجوزي رحمه الله: «فِي القُرْآنِ ثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ مَثَلًا»

(1)

.

وَقَال شَيْخُ الْإِسْلَام ابْن تيميةَ رحمه الله: «وَقَدْ قَيْل: إِنْ فِي الْقُرْآنِ اثْنَيْن وَأَرْبَعِينَ مَثَلًا»

(2)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: «قد اشتمل منها على بضعة وأربعين مثلًا»

(3)

.

* * *

= وخالفه زيد بن الحباب وكامل بن طلحة وسعيد بن أبي مريم ثلاثتهم عن ابن لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيْدَ بنِ عَمْرٍو، عَنْ شُفَيٍّ الأصبحي عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو به.

أخرجه الرامهرمزي في «الأمثال» (ص/ 6)، وأبو الشيخ الأصبهاني في «الأمثال» (1)، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 169)، وابن عساكر (31/ 257).

والخلاصة: أن مداره على ابن لهيعة، وقد اختلف عليه وهو ضعيف باستثناء رواية العبادلة التي لم تستنكر عليه.

(1)

في «المدهش» (1/ 16 - 18).

(2)

«منهاج السنة» (7/ 238).

(3)

«الكافية الشافية» (1/ 41) ط عالم الفوائد، و «إعلام الموقعين» (1/ 248) ط ابن الجوزي. والبِضْعُ: من الثلاث إِلى التِّسع. (3 - 9).

ص: 13

‌تعريف الأمثال

* الأمثال: جمع مثل، والمَثل و المِثل والمثيل: كالشبه والشِبه والشبيه لفظًا ومعنًى.

قال الراغب الأصفهاني: المثل عبارةٌ عن قولٍ في شيء يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهةٌ ليبين أحدُهما الآخر ويصورَهُ، وعلى هذا الوجه ما ضَرَب الله تعالى من الأمثال.

قال الزركشي رحمه الله

(1)

: حقيقته: إخراج الأغمض إلى الأظهر؛ وهو قسمان:

1 -

ظاهر: وهو المصرح به

(2)

.

2 -

وكامن: وهو الذي لا ذكر للمثل فيه، وحكمه حكم الأمثال

(3)

.

(1)

في «علوم القرآن» (1/ 450) ط دار المعرفة.

(2)

أي: ما صُرِّح فيها بلفظ المثل أو ما يدل على التشبيه.

(3)

فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

[البقرة: 179].

وقوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].

وانظر: «المدهش» (1/ 17، 16): ط الكتب العلمية. و «مدارج السالكين» (2/ 69 - 70) ط دار طيبة.

ص: 14

وحكى السيوطي

(1)

قسماً ثالثا وهو المرسل

(2)

واكتفينا بالأول لشهرته.

قال ابن القيم رحمه الله: فإِنَّهَا تشبِيهُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فِي حُكْمِهِ، وَتَقْرِيبُ المَعْقُولِ مِنْ المَحْسُوسِ، أَوْ أَحَدُ المَحْسُوسَيْنِ مِنْ الآخَرِ، وَاعْتِبَارُ أَحَدِهَما بِالْآخَرِ، كَقَوْلِهِ فِي حَقِّ المُنَافِقِينَ:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: 17 - 20]

(3)

.

قال الأستاذ مناع خليل القطان:

(4)

فابن القيم رحمه الله يقول: في أمثال القرآن: تشبيه شيء بشيء في حكمه، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر. ويسوق الأمثلة: فتجد أكثرها على طريقة التشبيه الصريح، كقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 24].

ومنها ما يجيء على طريقة التشبيه الضمني، كقوله سبحانه وتعالى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، إذ ليس فيه تشبيه صريح.

(1)

في «الإتقان» (4/ 84 - 49).

(2)

وهو عبارة عن جمل أرسلت إرسالا من غير تصريح بلفظ التشبيه.

ومنه قوله تعالى: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51]، وقوله تعالى:{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67]، وقوله تعالى:{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81].

(3)

«إعلام الموقعين» (1/ 270 - 271) ط ابن الجوزي.

(4)

في «مباحث في علوم القرآن» (ص/ 276 - 277).

ص: 15

‌منهج ابن القيم رحمه الله في شرح الأَمْثَالِ

أفصح العلامة ابن القيم رحمه الله عن منهج البلاغيين في شرح الأمثال؛ حيث جاء ذلك واضحًا في تفسيره لقوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35].

قال رحمه الله: وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان:

أحدهما: طريقة التشبيه المركب، وهي أقرب مأخذًا، وأسلم من التكلف، وهي: أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ومقابلته بجزء من المشبه به، وعلى هذا عامة أمثال القرآن الكريم.

فتأمل صفة المشكاة، وهي كوة لا تنفذ لتكون أجمع للضوء، قد وضع فيها مصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادته من أصفى الأذهان وأتمها وقودًا، من زيت شجرة في وسط القراح

(1)

لا شرقية ولا غربية بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار، بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة والآفات إلى الأطراف دونها، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها، يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا

(1)

القَرَاحُ: المزرعة التي ليس فيها بناء ولا شجر وجمعه «أَقْرِحَةٌ» . «المصباح المنير»

(م/ ق رح).

ص: 17

المجموع المركب هو مثل نور الله سبحانه وتعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به.

والطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصل، فقيل: المشكاة صدر المؤمن، والزجاجة قلبه، وشبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها، وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة؛ فهو يرحم ويحسن ويتحنن، ويشفق على الخلق برقته

(1)

.

* * *

(1)

«اجتماع الجيوش الإسلامية» (50 - 51) و (ص/ 70 - 71) ط الرشد، وانظر: ما سيأتي في سورة الحج الآية (31).

وانظر: منهجيته في البحث والتأليف في «ابن قيم الجوزية حياته آثاره موارده» (ص/ 85 فما بعد).

ص: 18

‌رسالة الأَمْثَالِ

مما لا شك فيه أن العلامة ابن القيم رحمه الله ذكر طائفة من الأمثال بصدد الحديث عن قياس الشبه من «إعلام الموقعين»

(1)

.

ثم استلت هذه الأمثال في مؤلف مفرد، فهل هذا الاستلال من ابن القيم أم من غيره؟!!!

الذي يتبين لي - والعلم عند الله سبحانه وتعالى أنها من غيره؛ لأسباب يعضد بعضها بعضًا وهي:

* أولًا: ما جاء في مطلع الرسالة: «قال شيخنا رحمه الله: وقع في القرآن أمثال

وفي آخرها: لا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.

قالوا: فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل .... !!!».

• ثانيًا: لا يختلف المخطوط عما في «إعلام الموقعين» إلا في بعض الحروف والكلمات.

• ثالثًا: عزم ابن القيم رحمه الله على إفراد كتاب في الأمثال حيث قال في «الكافية الشافية» (1/ 41) ط عالم الفوائد: «سنفرد لها إن شاء الله كتابًا مستقلًّا متضمنًا لأسرارها ومعانيها، وما تضمنه من كنوز العلم وحقائق الإيمان، والله المستعان» .

(1)

(2/ 270 - فما بعد).

ص: 19

وقال في آخر الأمثال التي أوردها في كلامه على قياس الشبه من «إعلام الموقعين» : «فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس

».

• رابعًا: قد بسط القول في بعض الأمثال في غير «إعلام الموقعين» أكثر مما فيه، وذلك واضح في المثال الأول والثاني.

• خامسًا: أما عن مخطوطها أو ما كتب عليه من نسبة أو عدِّها ضمن مؤلفاته، فلعلها أفردت في حياته أو بعده بقليل، والله أعلم.

* * *

ص: 20

‌ترجمة ابن قيم الجوزية رحمه الله

-

•‌

‌ اسمه وكنيته ولقبه

هو: الإمام شمس الدين، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حَرِيز الزُّرَعي

(1)

الدِّمَشْقي، الشهير بابن قيم الجوزية

(2)

رحمه الله.

•‌

‌ مولده:

ولد سَنَة إِحْدَى وَتِسْعِين وَسِتِّ مئةٍ.

•‌

‌ شيوخه المشاهير:

والده، ابن عبد الدائم، ابن تيمية، إسماعيل مجد الدين بن محمد الفراء الحراني شيخ الحنابلة، يوسف جمال الدين المزي إمام المحدثين، وغيرهم كثير.

•‌

‌ رحلته:

الرحلة في الطلب أمر معهود لدى أهل العلم؛ فلا تكاد تقع عين ناظر على ترجمة عالم ما، إلا ويجد فيها بيان رحلاته في الطلب لتلقي العلوم عن الشيوخ، وابن القيم رحمه الله واحد من أولئك؛ فقد رحل إلى مصر.

(1)

نسبة إلى زُرَع قرية بنواحي دمشق.

(2)

انتشر تجوزًا واختصارًا (ابن القيم)، والمشتهر بقيم الجوزية والد هذا الإمام؛ لأنه كان قيِّمًا على المدرسة الجوزية بدمشق.

ص: 21

ولعل عدم اشتهار الرحلة عنه يرجع إلى أسباب، منها:

1 -

أنه كان يعيش في أكناف والده، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم رحمهم الله تعالى.

2 -

كانت دمشقُ محطَّ أنظار العلماء والناهلين.

3 -

تدوين العلوم وانتشارها.

•‌

‌ تلاميذه

أبو الفداء ابن كثير المفسر، ابن رجب الحنبلي، علي بن عبد الكافي السبكي، الإمام الذهبي، ابن عبد الهادي، النَّابُلُسي المعروف بالجنة،

(1)

وغيرهم.

•‌

‌ غرامه بجمع الكتب:

قال تلميذه ابنُ رَجَب رحمه الله: «وكَان شَدِيدَ المَحَبَّةِ لِلْعِلْمِ وكتابته ومطالعته وتصنيفه، واقتناء الكُتُب، واقتنى من الكُتُب مَا لَم يَحْصُلْ لَغَيْره»

(2)

.

وقال تلميذه ابن كثير رحمه الله: «واقتنى من الكُتُبِ مَا لا يَتَهَيَّأ لَغَيْره تحصيلُ عُشْرهِ من كتب السَّلَف والخلف»

(3)

.

•‌

‌ ثناء العلماء عليه:

قال بُرْهَان الدِّين الزرعي: مَا تَحْتَ أَدِيم السمَاء أوَسعَ علمًا مَنه.

(1)

لُقِّب بذلك لكثرة ما عنده من العلوم؛ لأن الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس، وكان عنده ما تشتهيه أنفس الطلبة.

(2)

«ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 449).

(3)

«البداية والنهاية» (14/ 235).

ص: 22

وقال تلميذه ابن كَثِيرٍ: كَان ملَازمًا للاشتغال ليْلًا ونَهَارًا، كَثِيرَ الصَّلَاة والتِّلَاوة، حَسَنَ الخلق، كَثِير التودد، لَا يَحْسدُ ولَا يحقدُ.

وقال: لَا أَعْرِف فِي زمَاننا من أَهل العلَم أكثر عبَادَة منه، وكَان يُطِيل الصّلَاة جِدًّا، ويمد رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا.

قال الذَّهَبِيُّ: وكَان إِذا صَلَّى الصُّبْحَ جَلَس مكَانه يَذكر الله حَتَّى يتعالى النَّهَارُ، وَيَقُول هَذِه غدوتي لَو لَم أقعدها سَقَطَت قواي.

قال ابن حَجَرٍ عَنْهُ: كَان جَرِيء اللِّسَان، وَاسِعَ العلم، عارفًا بالخلاف ومذهب السَّلَف.

قال الشوكَاني: كَان متَقيدًا بالأدلة الصَّحِيحَةِ، مُعْجَبًا بِالْعَمَلِ بِهَا، غَيْر معولٍ عَلَى الرَّأي صادعاً بِالْحَقّ، لَا يحابي فِيه أَحَدًا، وَنعْمَةُ الْجُرْأَةِ.

وقال الشوكاني

(1)

: برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف.

فهذه طائفة من أقوال الأئمة في بيان منزلة ابن القيم في الطلب

والتحصيل.

•‌

‌ وفاته:

مَات فِي ثَالِث عَشر من شَهر رَجَب، سَنَة إِحْدَى وَخَمْسِين وَسَبْع مئةٍ، وله ستون عامًا.

(1)

في «البدر الطالع» (1/ 143).

ص: 23

•‌

‌ مؤلفاته:

لقد تجاوزت مؤلفاته التسعين مؤلفاً، منها ما يتكون من مجلدات ك «إعلام الموقعين»

(1)

و «زاد المعاد» و «مدارج السالكين» ، ومنها «الرسائل» ، ومنها بين ذلك

(2)

.

* * *

(1)

في ضبط (إعلام) بكسر الهمزة أو فتحها الوجهان، وإن كان الكسر هو المستفيض المشهور.

(2)

وانظر: «المقصد الأرشد» (2/ 384 - 385)، و «الذيل على طبقات الحنابلة»

(4/ 368 - 372)، و «البداية والنهاية» (أحداث 751)، و «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة» (1/ 480) و «الوافي في الوفيات» (1/ 261) و «ابن قيم الجوزية حياته آثاره موَارده» للعلامة بكر أبو زيد رحمه الله ومنه اقتضبت جل هذه الترجمة.

ص: 24

‌منهجي في الكتاب

1 -

جمعتُ الأمثال التي ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتبه ورتبتها على سور القرآن.

2 -

أوردتُ من كلام العلامة ابن القيم رحمه الله ما يتعلق بها تفسيرًا أو استشهادًا، مقتصرًا على أوعب موطن مع العزو إلى جل المواطن الأخرى، متحريًا أفضل الطبعات.

3 -

ذكرت آيات ليست أمثالا، إنما هي متعلقة بالباب.

4 -

حكمتُ على الأحاديث والآثار الواردة في كلامه رحمه الله صحةً أو ضعفًا بما تقتضيه القواعد الحديثية.

5 -

بيَّنتُ معاني غريب الألفاظ.

6 -

ذكرتُ في الحاشية آثارًا صحيحة، وأقوالًا للمفسرين، كالإمام الطبري والحافظ ابن كثير وغيرهم؛ تجلية للمعنى وأما أصل الكتاب فشتمل على كلام ابن القيم رحمه الله.

ص: 25

7 -

ترجمتُ للعلامة ابن القيم رحمه الله ترجمة موجزة.

ولمّا تم ما أردته بحمد ذي المن والفضل، سميته «الجَامِع فِي أَمْثَالِ الْقُرْآن للعلامة ابْن القَيِّم رحمه الله» .

وَالحَمْدُ لِلهِ أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا.

وصلِّ اللهم عَلى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وعَلى آلِه وسلم.

وكتبه أبو أويس أشرف بن نصر بن صابر الكردي

مصر- كفر الشيخ- بلطيم- الحنفي الكبرى.

نزيل منية سمنود/ أجا/ دقهلية.

جوال/ 0107192699

* * *

ص: 26

‌سورة البقرة

1 -

قال سبحانه وتعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} [البقرة: 17، 18].

شبَّه سبحانه وتعالى أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارًا لتضيء لهم وينتفعوا بها، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين، فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق فأوقدوا النار لتضيء لهم الطريق.

فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث، فإن الهدي يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب. مما يسمعه بأذنه ويراه بعينه ويعقله بقلبه.

وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى فلا تسمع قلوبهم شيئًا ولا تبصره ولا تعقل ما ينفعها؛ وقيل لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نُزِّلوا بمنزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل.

والقولان متلازمان، وقال في صفتهم {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} لأنهم قد رأوا في ضوء النار وأبصروا الهدى، فلما طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا وقال سبحانه وتعالى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل ذهب نورهم، وفيه سر بديع وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله سبحانه وتعالى.

فإن الله تعالى مع المؤمنين وإن الله مع الصابرين وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون؛ فذهاب الله بذلك النور انقطاع لمعيته التي خص بها أولياءه

ص: 27

فقطعها بينه وبين المنافقين فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم. فليس لهم نصيب من قوله {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ولا من {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} .

وتأمل قوله سبحانه وتعالى {أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} كيف جعل ضوءها خارجًا عنه منفصلًا ولو اتصل ضوئها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة، وكان الضوء عارضًا والظلمة أصلية، فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به حجة من الله قائمة وحكمة بالغة تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده.

وتأمل قوله سبحانه وتعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل بنارهم ليطابق أول الآية، فإن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب بما فيها من الإشراق وهو النور؛ وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق وهو النارية.

وتأمل كيف قال بنورهم ولم يقل بضوئهم مع قوله {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} لأن الضوء هو زيادة في النور فلو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل، فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابًا بالشيء وزيادته.

وأيضًا فإنه أبلغ في النفي عنهم وإنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى سمى كتابه نورًا ورسوله صلى الله عليه وسلم نورًا ودينه نورًا وهداه نورًا ومن أسمائه النور والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم ذهاب بهذا كله، وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)} كيف طابق هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها، وبذل الهدى في مقابلتها.

ص: 28

وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها بدلا عن النور الذي هو الهدى، فبذلوا الهدى والنور وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة فيا لها من تجارة ما أخسرها وصفقة ما أشد غبنها.

وتأمل كيف قال الله سبحانه وتعالى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} فوحده ثم قال {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} فجمعها فإن الحق واحد وهو صراط الله المستقيم الذي لا صراط يوصل إليه سواه، وهو عبادته وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لا بالأهواء والبدع وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق بخلاف طرق الباطل فإنها متعددة متشعبة.

ولهذا يفرد سبحانه الحق ويجمع الباطل، كقوله سبحانه وتعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ

الآية} [الأنعام: 153] فجمع سبل الباطل ووحد سبيل الحق ولا يناقض هذا قوله سبحانه وتعالى {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16].

فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد وصراطه المستقيم فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد وسبيل واحد وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خط خطًّا مستقيمًا وقال: «هذا سبيل الله» ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله فقال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ

ص: 29

فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}

(1)

.

وقد قيل: إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام ويكون بمنزلة قوله سبحانه وتعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} ويكون قوله سبحانه وتعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} مطابقًا لقوله سبحانه وتعالى: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} .

ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه هو تركهم في ظلمات الحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه ولا يبصرون سبيلا بل هم صم بكم عمي، وهذا التقدير وإن كان حقا ففي كونه مرادًا بالآية نظر، فإن السياق إنما قُصِد لغيره ويأباه قوله سبحانه وتعالى {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدًا، ويأباه قوله سبحانه وتعالى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} وموقد نار الحرب لا نور له ويأباه قوله سبحانه وتعالى {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر.

• قال الحسن رحمه الله: هو المنافق أبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر

(2)

.

ولهذا قال: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ}

(3)

أي: لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه، وقال سبحانه وتعالى في حق الكفار:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} فسلب العقل عن الكفار، إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان، وسلب الرجوع عن المنافقين

(1)

صحيح: أخرجه أحمد (1/ 435). وانظر: حاشية «الاعتصام» (ص/ 44) ط ابن رجب.

(2)

ذكره ابن أبي حاتم «التفسير» وأسند نحوه (185) عن عطاء وإسناده ضعيف.

(3)

قال قتادة: قوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} : صمٌّ عن الحق فلا يسمعونه، عميٌ عن الحق فلا يبصرونه، بُكمٌ عن الحق فلا ينطقون به. أخرجه الطبري في «التفسير» (401) بإسناد حسن.

ص: 30

لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان.

(1)

.

2 -

قال سبحانه وتعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: 19، 20].

ثم ضرب الله سبحانه وتعالى لهم - للمنافقين- مثلًا آخر مائيًّا فقال سبحانه وتعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} فشبه نصيبهم مما بعث الله سبحانه وتعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم من النور والحياة بنصيب المستوقد للنار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها وذهب نوره وبقي في الظلمات حائرًا تائهًا لا يهتدي سبيلًا ولا يعرف طريقًا، وبنصيب أصحاب الصيب وهو المطر الذي يصوب، أي ينزل من علو إلى أسفل، فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، ونصيب المنافقين من هذا الهدى بنصيب من لم يحصل له من الصيب إلا ظلمات ورعد وبرق، ولا نصيب له فيما وراء ذلك مما هو المقصود بالصيب من حياة البلاد والعباد والشجر والدواب.

وأن تلك الظلمات التي فيه وذلك الرعد والبرق مقصود لغيره وهو وسيلة إلى كمال الانتفاع بذلك الصيب، فالجاهل لفرط جهله يقتصر على الإحساس بما في الصيب من ظلمة ورعد وبرق ولوازم ذلك من برد شديد وتعطيل مسافر عن

(1)

«اجتماع الجيوش الإسلامية» (63 - 68) ط مكتبة الرشد. وانظر: «إعلام الموقعين» (2/ 217)، و «الوابل الصيب» (ص/ 125)، و «مدارج السالكين» (1/ 613)، و «طريق الهجرتين» (2/ 881).

ص: 31

سفره وصانع عن صنعته، ولا بصيرة له تنفذ إلى ما يؤول إليه أمر ذلك الصيب من الحياة والنفع العام. وهكذا شأن كل قاصر النظر ضعيف العقل لا يجاوز نظره الأمر المكروه الظاهر إلى ما وراءه من كل محبوب.

وهذه حال أكثر الخلق إلا من صحت بصيرته، فإذا رأى ضعيف البصيرة ما في الجهاد من التعب والمشاق والتعرض لتلاف المهج

(1)

والجراحات الشديدة وملامة اللوام ومعاداة من يخاف معاداته لم يقدم عليه لأنه لم يشهد ما يؤول إليه من العواقب الحميدة والغايات التي إليها تسابق المتسابقون، وفيها تنافس المتنافسون.

وكذلك من عزم على سفر الحج إلى البيت الحرام، فلم يعلم من سفره ذلك إلا مشقة السفر ومفارقة الأهل والوطن، ومقاساة الشدائد وفراق المألوفات ولا يجاوز نظره وبصيرته آخر ذلك السفر ومآله وعاقبته فإنه لا يخرج إليه ولا يعزم عليه، وحال هؤلاء حال ضعيف البصيرة والإيمان الذي يرى ما في القرآن من الوعد والوعيد والزواجر والنواهي والأوامر الشاقة على النفوس التي تفطمها عن رضاعها من ثدي المألوفات والشهوات، والفطام على الصبي أصعب شيء وأشقه.

والناس كلهم صبيان العقول، إلا من بلغ مبالغ الرجال العقلاء الألباء

(2)

وأدرك الحق علمًا وعملًا ومعرفة فهو الذي ينظر إلى ما وراء الصيب وما فيه من الرعد والبرق والصواعق، ويعلم أنه حياة الوجود.

(1)

أَي: الروحُ. «لسان العرب» (مادة: مهج).

(2)

الألباء: جمع لبيب وهو: العاقل.

ص: 32

• وقال الزمخشري

(1)

: لقائل أن يقول: شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر، وما يتعلق به من تشبه الكفار بالظلمات. وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق. وما يصيب الكفرة من الإقراع من البلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق.

والمعنى: أو كمثل ذوي صيب، والمراد: كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا.

قال: والصحيح الذي عليه علماء أهل البيان لا يتخطونه: إن التمثلين جميعًا من جهة التمثلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به. وهذا القول الفحل والمذهب الجزل بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها من بعض لم تأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما جاء في القرآن حيث شبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئًا واحدًا بأخرى مثلها، كقوله سبحانه وتعالى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا

الآية} [الجمعة: 5].

الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة؛ وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار ولا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من

الكد والتعب وكقوله سبحانه وتعالى {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ

الآية} [الكهف: 45].

(1)

«الكشاف» (1/ 86). قال الذهبي في «السير» (20/ 151): العلامة، كبير المعتزلة، أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشري الخوارزمي النحوي، صاحب «الكشاف» و «المفصل» ، وكان داعية إلى الاعتزال، الله يسامحه.

ص: 33

المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء هذا النبات. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيره شيئًا واحدًا فلا. كذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة، شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق.

قال:

(1)

إن قلت أي التمثيلين أبلغ؟ قلت: الثاني؛ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته؛ ولذلك أخر، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهون إلى الأغلظ.

* * *

(1)

أي: الزمخشري.

ص: 34

أقسام الناس في الهدى

الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم

* قلت: قال «شيخنا»

(1)

: الناس في الهدى الذي بعث الله سبحانه وتعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام قد اشتملت عليهم هذه الآيات من أول السورة إلى ههنا.

* القسم الأول: قبلوه ظاهرًا وباطنًا، وهم نوعان:

- أحدهما: أهل الفقه فيه، والفهم والتعليم، وهم الأئمة الذين عقلوا عن الله سبحانه وتعالى كتابه وفهموا مراده وبلغوه إلى الأمة واستنبطوا أسراره وكنوزه، فهؤلاء مثل الأرض الطيبة التي قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فرعى الناس فيه ورعت أنعامهم؛ وأخذوا من ذلك الكلأ الغذاء والقوت والدواء وسائر ما يصلح لهم.

- النوع الثاني: حفظوه وضبطوه وبلغوا ألفاظه إلى الأمة فحفظوا عليهم النصوص، وليسوا من أهل الاستنباط والنفقة في مراد الشارع، فهم أهل حفظ وضبط وأداء لما سمعوه، والأولون أهل فهم وفقه واستنباط وإثارة لدفائنه وكنوزه، وهذا النوع الثاني بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فوردوه وشربوا منه وسقوا منه أنعامهم وزرعوا به.

(1)

أي: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله.

ص: 35

‌فَصْلٌ

* القسم الثاني: من ردَّه ظاهرًا وباطنًا وكفر به ولم يرفع به رأسًا، وهؤلاء أيضا نوعان:

- أحدهما: عرفه وتيقن صحته، وأنه حق ولكنه حمله الحسد والكبر وحب الرياسة والملك والتقدم بين قومه على جحده ودفعه بعد البصيرة واليقين.

- النوع الثاني: أتباع هؤلاء الذين يقولون هؤلاء ساداتنا وكبراؤنا وهم أعلم منا بما يقبلونه وما يردونه، ولنا أسوة بهم ولا نرغب بأنفسنا عن أنفسهم، ولو كان حقًّا لكانوا هم أهله وأولى بقبوله، وهؤلاء بمنزلة الدواب والأنعام يساقون حيث يسوقهم راعيهم وهم الذين قال الله فيهم {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة: 166].

وقال سبحانه وتعالى فيهم {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 66 - 68].

وقال سبحانه وتعالى فيهم: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)} [غافر: 47 - 48].

وقال فيهم: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)} [ص: 57 - 60] أي: سننتموه لنا وشرعتموه.

ص: 36

{قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)} [ص: 61] فقولهم: لا مرحبًا بهم إنهم صالوا النار أي: داخلوها كما دخلناها، ومقاسون عذابها كما نقاسيه، فأجابهم الأتباع وقالوا:{قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا}

[ص: 60].

* وفي الضمير قولان:

- أحدهما: أنه ضمير الكفر والتكذيب ورد قول الرسول صلى الله عليه وسلم واستبدال غيره به، والمعنى أنتم زينتم لنا الكفر ودعوتمونا إليه وحسنتموه لنا؛ وقيل على هذا القول: إنه قول الأمم المتأخرين للمتقدمين، والمعنى على هذا: أنتم شرعتم لنا تكذيب الرسل ورد ما جاءوا به والشرك بالله سبحانه وتعالى؛ وبدأتم به وتقدمتمونا إليه؛ فدخلتم النار قبلنا فبئس القرار، أي: بئس المستقر والمنزل.

- والقول الثاني: أن الضمير في قوله: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} ضمير العذاب وصلي النار، والقولان متلازمان، وهما حق.

وأما القائلون {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)} فيجوز أن يكون الأتباع دعوا على سادتهم وكبرائهم وأئمتهم به لأنهم الذين حملوهم عليه ودعوهم إليه، ويجوز أن يكون جميع أهل النار سألوا ربهم أن يزيد من سن لهم الشرك وتكذيب الرسل صلى الله عليهم وسلم ضعفًا وهم الشياطين.

* * *

ص: 37

‌فَصْلٌ

* القسم الثالث: من أقسام الناس في الهدى الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم:

الذين قبلوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ظاهرًا وجحدوه وكفروا به باطنًا، وهم المنافقون الذين ضرب لهم هذان المثلان بمستوقد النار وبالصيب، وهم أيضا نوعان:

- أحدهما: من أبصر ثم عَمِي، وعلم ثم جهل، وأقر ثم أنكر، وآمن ثم كفر، فهؤلاء رؤوس أهل النفاق وسادتهم وأئمتهم، ومثلهم مثل من استوقد نارًا ثم حصل بعدها على الظلمة.

- والنوع الثاني: ضعفاء البصائر الذين أعشى بصائرهم ضوء البرق فكاد أن يخطفها لضعفها وقوته، وأصم أذنهم صوت الرعد فهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق، ولا يقربون من سماع القرآن والإيمان بل يهربون منه، ويكون حالهم حال من يسمع الرعد الشديد، فمن شدة خوفه منه يجعل أصابعه في أذنه.

وهذه حال كثير من خفافيش البصائر في كثير من نصوص الوحي، إذا وردت عليه مخالفة لما تلقاه عن أسلافه وذوي مذهبه ومن يحسن به الظن ورآها مخالفة لما عنده عنهم هرب من النصوص وكره من يسمعه إياها، ولو أمكنه لسد أذنيه عند سماعها ويقول: دعنا من هذه ولو قدر لعاقب من يتلوها ويحفظها وينشرها ويعلمها. فإذا ظهر له منها ما يوافق ما عنده مشى فيها وانطلق، فإذا جاءت بخلاف ما عنده أظلمت عليه فقام حائرًا لا يدري أين يذهب ثم يعزم له التقليد وحسن الظن برؤسائه وسادته على اتباع ما قالوه دونها، ويقول مسكين الحال: هم أخبر بها مني وأعرف.

ص: 38

فيالله العجب، أو ليس أهلها والذابون عنها والمنتصرون لها والمعظمون لها والمخالفون لأجلها آراء الرجال المقدمون لها على ما خالفها أعرف بها أيضًا منك وممن اتبعته.

فلم كان من خالفها وعزلها عن اليقين وزعم أن الهدى والعلم لا يستفاد منها، وأنها أدلة لفظية لا تفيد شيئًا من اليقين، ولا يجوز أن يحتج بها على مسألة واحدة من مسائل التوحيد والصفات، ويسميها الظواهر النقلية، ويسمي ما خالفها القواطع العقلية.

فلم كان هؤلاء أحق بها وأهلها وكان أنصارها والذابُّون عنها والحافظون لها هم أعداؤها ومحاربوها، ولكن هذه سنة الله في أهل الباطل أنهم يعادون الحق وأهله، وينسبونهم إلى معاداته ومحاربته كالرافضة الذين عادوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل وأهل بيته، ونسبوا أتباعه وأهل سنته إلى معاداته ومعاداة أهل بيته،

{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} [الأنفال: 34].

والمقصود أن هؤلاء المنافقين قسمان:

أئمة وسادة يدعون إلى النار وقد مردوا على النفاق، وأتباع لهم بمنزلة الأنعام والبهائم. فأولئك زنادقة مستبصرون وهؤلاء زنادقة مقلدون، فهؤلاء أصناف بني آدم في العلم والإيمان، ولا يجاوز هذه السنة اللهم إلا من أظهر الكفر وأبطن الإيمان كحال المستضعف بين الكفار الذي تبين له الإسلام ولم يمكنه المجاهرة بخلاف قومه، ولم يزل هذا الضرب في الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، وهؤلاء عكس المنافقين من كل وجه.

ص: 39

• [موجز لأقسام الناس في الهدى الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا فالناس إما مؤمن ظاهرًا وباطنًا وإما كافر ظاهرًا وباطنًا وإما مؤمن ظاهرًا كافر باطنًا وإما كافر ظاهرًا مؤمن باطنًا، والأقسام الأربعة قد اشتمل عليها الوجود، وقد بين القرآن أحكامها، فالأقسام الثلاثة الأول ظاهرة، وقد اشتمل عليها أول سورة البقرة.

* القسم الرابع: من أقسام الناس في الهدى الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما القسم الرابع: ففي قوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ} [الفتح: 25] فهؤلاء كانوا يكتمون إيمانهم في قومهم ولا يتمكنون من إظهاره، ومن هؤلاء: مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، ومن هؤلاء النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

فإنه كان ملك النصارى بالحبشة وكان في الباطن مؤمنًا، وقد قيل: إنه وأمثاله الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 199].

وقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)} [آل عمران: 113 - 114].

فإن هؤلاء ليس المراد بهم التمسك باليهودية والنصرانية بعد محمد صلى الله عليه وسلم قطعًا فإن هؤلاء قد شهد لهم بالكفر وأوجب لهم النار، فلا يثنى عليهم بهذا الثناء، وليس المراد به من آمن من أهل الكتاب ودخل في جملة المؤمنين وباين قومه،

(1)

انظر البخاري (1317)، ومسلم (952).

ص: 40

فإن هؤلاء لا يطلق عليهم أنهم من أهل الكتاب إلا باعتبار ما كانوا عليه، وذلك الاعتبار قد زال بالإسلام واستحدثوا اسم المسلمين والمؤمنين، وإنما يطلق الله سبحانه هذا الاسم على من هو باق على دين أهل الكتاب. هذا هو المعروف في القرآن، كقوله سبحانه وتعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ .. } الآية [آل عمران: 70]، وقوله:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64].

وقوله: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ .. } الآية [آل عمران: 65].

وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ .. } الآية [البقرة: 144].

ولهذا قال جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس

(1)

وأنس بن مالك

(2)

والحسن

(3)

وقتادة

(4)

أن قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} الآية [آل عمران: 199] أنها نزلت في النجاشي، زاد الحسن وقتادة: وأصحابه

(5)

.

وذكر ابن جرير في «تفسيره»

(6)

من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة عن

(1)

ذكره الواحدي في «أسباب النزول» (1/ 132).

(2)

حسن لشواهده: أخرجه النسائي في «التفسير» (108) وفصل القول فيه الشيخ مقبل ابن هادي رحمه الله في «الصحيح المسند من أسباب النزول» (ص/ 87 - 89).

(3)

عزاه السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 416) لعبد بن حميد.

(4)

أخرجه الطبري بإسناد حسن، وهو مرسل.

(5)

انظر «زاد المسير» (1/ 422).

(6)

ضعيف جدًّا بذكر سبب النزول: أخرجه الطبري (8384) ومن طريقه ابن عدي في «الكامل» (3/ 325) من طريق أبي بكر الهذلي وهو متروك، وخالفه معمر وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلًا. =

ص: 41

ابن المسيب عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اخرجوا فصلوا على أخٍ لكم» ؛ فصلى بنا، فكبر أربع تكبيرات، فقال:«هذا النجاشي أصحمة» . فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على عِلْج

(1)

نصراني لم يره قط، فأنزل الله سبحانه وتعالى:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية.

* والمقصود: أن الأقسام الأربعة قد ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه وبين أحكامها في الدنيا وأحكامها في الآخرة، وقد تبين أن أحد الأقسام من آمن ظاهرًا وكفر باطنًا، وأنهم نوعان رؤساؤهم وساداتهم وأتباعهم ومقلدوهم، وعلى هذا فأصحاب المثل الأول الناري شر من أصحاب المثل الثاني المائي كما يدل السياق عليه، وقد يقال وهو أولى إن المثلين لسائر النوع.

وأنهم قد جمعوا بين مقتضى المثل الأول من الإنكار بعد الإقرار والحصول في الظلمات بعد النور، وبين مقتضى المثل الثاني من ضعف البصيرة في القرآن وسد الآذان عند سماعه والإعراض عنه، فإن المنافقين فيهم هذا وهذا. وقد يكون الغالب على فريق منهم المثل الأول، وعلى فريق منهم المثل الثاني.

* * *

= وأصل الحديث في الصلاة على النجاشي. أخرجه البخاري ومسلم من حديث جابر وأبي هريرة وعمران بن حصين رضي الله عنهم.

(1)

العلج بكسر العين المهملة وسكون اللام وهو الرجل القوي الضخم، والرجل من كفار العجم، جمعه: عُلوجٌ وأعْلاجٌ.

ص: 42

‌فَصْلٌ

[في بيان الحِكَم التي اشتمل عليها المثلان المتقدمان]

وقد اشتمل هذان المثلان على حكم عظيمة:

منها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره لا من قبل نفسه، فإذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة.

وهكذا المنافق لما أقر بلسانه من غير اعتقاد ومحبة بقلبه، وتصديق جازم، كان ما معه من النور كالمستعار.

ومنها: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله.

وتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها فإذا انقطعت مادة الإيمان طُفئ كما تُطفأ النار بفراغ مادتها.

ومنها: أن الظلمة نوعان: ظلمة مستمرة لم يتقدمها نور، وظلمة حادثة بعد النور وهي أشد الظلمتين وأشقهما على من كانت حظه، وظلمة المنافق ظلمة بعد إضاءة فمثلت حاله بحال المستوقد للنار الذي حصل في الظلمة بعد الضوء، وأما الكافر فهو في الظلمات لم يخرج منها قط.

ومنها: أن في هذا المثل إيذانًا وتنبيهًا على حالهم في الآخرة، وأنهم يعطون نورًا ظاهرًا كما كان نورهم في الدنيا ظاهرًا، ثم يطفأ ذلك النور أحوج ما يكونون إليه إذ لم تكن له مادة باقية تحمله ويبقون في الظلمة على الجسر لا يستطيعون العبور.

ص: 43

فإنه لا يمكن أحدا عبوره إلا بنور ثابت يصحبه حتى يقطع الجسر؛ فإن لم يكن لذلك النور مادة من العلم النافع والعمل الصالح وإلا ذهب الله سبحانه وتعالى به أحوج ما كان إليه صاحبه، فطابق مثلهم في الدنيا بحالتهم التي هم عليها في هذه الدار وبحالتهم يوم القيامة عندما تقسم الأنوار دون الجسر ويثبت نور المؤمنين ويطفأ نور المنافقين.

ومن ههنا تعلم السر في قوله سبحانه وتعالى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل أذهب الله نورهم.

فإن أردت زيادة بيان وإيضاح فتأمل ما رواه مسلم في «صحيحه»

من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقد سُئل عن الورود فقال:«نَجِاءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ النَّاسِ، قال فَتُدْعَى الأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ ثُمَّ يَأْتِينَا رَبُّنَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ مَنْ تَنْظُرُونَ فَيَقُولُونَ نَنْظُرُ رَبَّنَا. فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ. فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ - قَالَ - فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتَّبِعُونَهُ وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ - مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ - نُورًا ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يُحَاسَبُونَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَإِ نَجْمٍ فِى السَّمَاءِ ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَشْفَعُونَ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَكَانَ فِى قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً فَيُجْعَلُونَ بِفِنَاءِ الْجَنَّةِ وَيَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ» وذكر باقي الحديث.

فتأمل قوله فينطلق ويتبعونه ويعطى كل إنسان منهم نورًا المنافق والمؤمن. ثم تأمل قوله سبحانه وتعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} .

(1)

ص: 44

وتأمل حالهم إذا أطفئت أنوارهم فبقوا في الظلمة، وقد ذهب المؤمنون في نور إيمانهم يتبعون ربهم عز وجل. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة

(1)

: «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد» . فيتبع كل مشرك إلهه الذي كان يعبده، والموحد حقيق بأن يتبع الإله الحق الذي كان كل معبود سواه باطلًا.

وتأمل قوله سبحانه وتعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم: 42] وذكر هذه الآية في حديث الشفاعة في هذا الموضع، وقوله في الحديث:«فيكشف عن ساقه» .

وهذه الإضافة تبين المراد بالساق المذكور في الآية، وتأمل ذكر الانطلاق واتباعه سبحانه بعد هذا، وذلك يفتح لك بابًا من أسرار التوحيد، وفهم القرآن ومعاملة الله سبحانه وتعالى لأهل توحيده الذين عبدوه وحده ولم يشركوا به شيئًا هذه المعاملة التي عامل بمقابلتها أهل الشرك حيث ذهبت كل أمة مع معبودها فانطلق بها واتبعته إلى النار، وانطلق المعبود الحق واتبعه أولياؤه وعابدوه، فسبحان الله رب العالمين الذي قرت عيون أهل التوحيد به في الدنيا والآخرة، وفارقوا الناس فيه أحوج ما كانوا إليهم.

ومنها: أن المثل الأول متضمن لحصول الظلمة التي هي الضلال والحيرة التي ضدها الهدى، والمثل الثاني متضمن لحصول الخوف الذي ضده الأمن فلا هدى ولا أمن {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82].

(1)

البخاري (472)، ومسلم (182، 183) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 45

قال ابن عباس وغيره

(1)

من السلف: مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد نارًا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء، ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة خائفًا متحيرًا، كذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف.

قال مجاهد

(2)

: إضاءة النار لهم إقبالهم إلى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة، وقد فسرت تلك الإضاءة وذهاب النور بأنها في الدنيا، وفسرت بالبرزخ، وفسرت بيوم القيامة والصواب أن ذلك شأنهم في الدور الثلاثة؛ فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جوزوا في البرزخ وفي القيامة بمثل حالهم جزاءً وفاقًا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46] فإن المعاد يعود على العبد فيه ما كان حاصلًا له في الدنيا، ولهذا يسمى يوم الجزاء {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72]، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى

} الآية [مريم: 76].

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه الطبري (388) من طريق السدي الكبير - إسماعيل بن عبد الرحمن - عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حجر في «العجاب» (ص/ 60) بعد ذكر هذه الروايات: «والسدي صدوق؛ لكنه خلط روايات الجميع فلم تتميز رواية الثقة من الضعيف، ولم يلق السدي من الصحابة إلا أنس بن مالك» .

(2)

في إسناده مقال: أخرجه الطبري (393، 394) من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وقد اختلف العلماء في سماعه التفسير من مجاهد؛ فذهب سفيان بن عيينة، والقطان، وابن حبان، إلى إثبات القاسم بن أبي بزة بينهما وهو ثقة. وصححه الثوري والبخاري وابن تيمية وقال الخليلي في «الإرشاد»: قريب إلى الصحة.

ص: 46

ومن كان مستوحشًا مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد، ومن قرت عينه به في هذه الحياة الدنيا قرت عينه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث، فيموت العبد على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويعود عليه عمله بعينه فينعم به ظاهرًا وباطنًا. أو يعذب به ظاهرًا وباطنًا فيعود عليه حكم العمل الصالح باطنًا فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم وقوة القلب، واستبشاره وحياته وانشراحه، واغتباطه ما هو من أفضل النعيم وأجله وأطيبه وألذه، وهل النعيم إلا طيب النفس، وفرح القلب وسروره وانشراحه واستبشاره، هذا وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه وتلذ عينه من سائر المشتهيات التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين؛ ويكون تنوع تلك المشتهيات وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه وبلوغه مرتبة الإحسان فيه وبحسب تنوعه فمن تنوعت أعماله المرضية لله المحبوبة له في هذه الدار، تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار، وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا، وكان مزيده بتنوعها والابتهاج بها، والالتذاذ بنيلها هناك على حسب مزيده من الأعمال وتنوعه فيها في هذه الدار.

وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثرا وجزاء ولذة وألمًا يخصه لا يشبه أثر الآخر وجزاءه.

ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة وآلام أهل النار وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات. فليست لذة من ضرب في كل مرضاة الله بسهم وأخذ منها بنصيب. كلذة من أنمى سهمه ونصيبه في نوع واحد منها. ولا ألم من ضرب في كل مسخوط لله بنصيب وعقوبته كألم من ضرب بسهم واحد من مساخطه.

ص: 47

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كمال ما يستمتع به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا. فرأى قنوًا من حشف معلقًا في المسجد للصدقة فقال: «إن صاحب هذا يأكل الحشف يوم القيامة»

(1)

فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها.

وهذا الباب يفتح لك أبوابًا عظيمة من فهم المعاد وتفاوت الناس في أحواله وما يجري فيه من الأمور المتنوعة.

* فمنها: خفة حمل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره فإنه بحسب خفة وزره وثقله، إن خف خف، وإن ثقل ثقل.

* ومنها: استظلاله بظل العرش أو ضحاؤه للحر والشمس إن كان له من الأعمال الصالحة الخالصة والإيمان مما يظله في هذه الدار من حر الشرك والمعاصي والظلم استظل هناك في ظل أعماله تحت عرش الرحمن، وإن كان ضاحيًا هنا للمعاصي والمخالفات والبدع والفجور ضحى هناك للحر الشديد.

* ومنها: طول وقوفه في الموقف ومشقته عليه وتهوينه عليه إن طال وقوفه في الصلاة ليلًا ونهارًا لله، وتحمل لأجله المشاق في مرضاته وطاعته خف عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه، وإن آثر الراحة هنا والدعة والبطالة والنعمة طال عليه الوقوف هناك واشتدت مشقته عليه.

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه النسائي في «سننه» (2493) عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَبِيَدِهِ عَصًا وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ قِنْوَ حَشَفٍ فَجَعَلَ يَطْعَنُ فِي ذَلِكَ الْقِنْوِ فَقَالَ: «لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْ هَذَا إِنَّ رَبَّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ يَأْكُلُ حَشَفًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وفي إسناده صالح بن أبي عريب، مختلف فيه روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في «الثقات» ، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله، ولا يعرف روى عنه غير عبد الحميد ابن جعفر. وقال الحافظ: مقبول.

ص: 48

وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)} [الإنسان: 23، 27]. فمن سبَّح الله ليلًا طويلًا لم يكن ذلك اليوم ثقيلًا عليه، بل كان أخف شيء عليه.

* ومنها: أن ثقل ميزانه هناك بحسب تحمل ثقل عمل الحق في هذه الدار لا بحسب مجرد كثرة الأعمال، وإنما يثقل الميزان باتباع الحق والصبر عليه وبذله إذا سئل وأخذه إذا بذل كما قال الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما: واعلم أن لله حقًّا بالليل لا يقبله بالنهار وله حقٌّ بالنهار لا يقبله بالليل. واعلم أنه إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقل ذلك عليهم في دار الدنيا وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلًا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في دار الدنيا وخفته عليهم وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه إلا باطل أن يكون خفيفًا.

(1)

(1)

إسناده منقطع: أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (914) وهناد (496) وابن أبي شيبة في «المصنف» (32676)، (35574)، (38211) وغيرهم من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد بن الحارث اليامي أن أبا بكر حين حضره الموت أرسل إلى عمر يستخلفه، فقال الناس: تستخلف علينا فظا غليظا، ولو قد ولينا كان أفظ وأغلظ، فما تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر، قال أبو بكر: أبربي تخوفونني، أقول اللهم استخلفت عليهم خير خلقك، ثم أرسل إلى عمر فقال: إني موصيك بوصية إن أنت حفظتها: إن لله حقا بالنهار لا يقبله بالليل وإن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وزبيد ثقة من السادسة.

ص: 49

* ومنها: أن ورود الناس الحوض، وشربهم منه يوم العطش الأكبر بحسب ورودهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشربهم منها فمن وردها في هذه الدار وشرب منها وتضلع ورد هناك حوضه وشرب منه وتضلع فله صلى الله عليه وسلم حوضان عظيمان حوض في الدنيا وهو سنته وما جاء به، وحوض في الآخرة، فالشاربون من هذا الحوض في الدنيا هم الشاربون من حوضه يوم القيامة فشارب ومحروم ومستقل ومستكثر.

والذين يذودهم أنفسهم وأتباعهم عن سنته ويؤثرون عليها غيرها فمن ظمأ من سنته في هذه الدنيا ولم يكن له منها شرب فهو في الآخرة أشد ظمأ وأحر كبدًا وإن الرجل ليلقى الرجل فيقول يا فلان أشربت؟ فيقول: نعم والله.

فيقول لكني والله ما شربت، واعطشاه.

فرد أيها الظمآن والورد ممكن

فإن لم ترد فاعلم بأنك هالك

وإن لم يكن رضوان يسقيك شربة

سيسقيكها إذ أنت ظمآن مالك

وإن لم ترد في هذه الدار حوضه

ستصرف عنه يوم يلقاك آنك

* ومنها: قسمه الأنوار في الظلمة دون الجسر، فإن العبد يعطى من النور هناك بحسب قوة نور إيمانه، ويقينه وإخلاصه ومتابعته للرسول في دار الدنيا

فمنهم: من يكون نوره كالشمس ودون ذلك كالقمر ودونه كأشد كوكب في السماء إضاءة.

ومنهم: من يكون نوره كالسراج في قوته وضعفه وما بين ذلك.

ص: 50

* ومنهم: من يعطى نوراً على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفئ أخرى بحسب ما كان معه من نور الإيمان في دار الدنيا فهو هذا النور بعينه أبرزه الله لعبده في الآخرة ظاهرًا يرى عيانًا بالأبصار ولا يستضيء به غيره ولا يمشي أحد إلا في نور نفسه إن كان له نور مشى في نوره، وإن لم يكن له نور أصلًا لم ينفعه نور غيره، ولما كان المنافق في الدنيا قد حصل له نور ظاهر غير مستمر ولا متصل بباطنه ولا له مادة من الإيمان أعطي في الآخرة نورًا ظاهرًا لا مادة له ثم يطفأ عنه أحوج ما كان إليه.

* ومنها: أن مشيهم على الصراط في السرعة والبطء بحسب سرعة سيرهم وبطئه على صراط الله المستقيم في الدنيا، فأسرعهم سيرًا هنا أسرعهم هناك وأبطأهم هنا أبطأهم هناك، وأشدهم ثباتًا على الصراط المستقيم هنا أثبتهم هناك، ومن خطفته كلاليب الشهوات والشبهات والبدع المضلة هنا خطفته الكلاليب التي كأنها شوك السعدان هناك، ويكون تأثير الكلاليب فيه هناك على حسب تأثير كلاليب الشهوات والشبهات والبدع فيه هاهنا، فناج مسلم، ومخدوش مسلَّم، ومخردل أي مقطع بالكلاليب مكردس في النار

(1)

، كما أثرت فيهم تلك الكلاليب في الدنيا جزًاء وفاقًا وما ربك بظلام للعبيد.

* والمقصود: أن الله تبارك وتعالى ضرب لعباده المثلين المائي والناري في سورة البقرة وفي سورة الرعد وفي سورة النور لما تضمن المثلان من الحياة والإضاءة، فالمؤمن حي القلب مستنيره، والكافر والمنافق ميت القلب مظلمه، وقال الله سبحانه وتعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} الآية.

(1)

انظر البخاري (7439)، ومسلم (302)، والطبري (23676) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا.

ص: 51

وقال سبحانه وتعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} الآيات [فاطر: 19 - 22].

فجعل من اهتدى بهداه واستنار بنوره بصيرًا حيًّا في ظل يقيه من حر الشبهات والضلال والبدع والشرك، مستنيرًا بنوره، والآخر أعمى ميتًا في حر الكفر والشرك والضلال منغمسًا في الظلمات.

وقال سبحانه وتعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} الآية [الشورى: 52]، وقد اختلفوا في مفسر الضمير من قوله سبحانه وتعالى {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} فقيل هو الإيمان لكونه أقرب المذكورين، وقيل هو الكتاب فإنه النور الذي هدى به عباده.

* قال شيخنا: والصواب أنه عائد على الروح المذكور في قوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الآية [الشورى: 52]، فسمى وحيه روحًا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة، ومن عدمها فهو ميت لا حي، والحياة الأبدية السرمدية في دار النعيم هي ثمرة حياة القلب بهذا الروح الذي أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فمن لم يحيا به في الدنيا فهو ممن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى، وأعظم الناس حياة في الدور الثلاث دار الدنيا، ودار البرزخ ودار الجزاء، أعظمهم نصيبًا من الحياة بهذا الروح. وسماه روحًا في غير موضع من القرآن كقوله سبحانه وتعالى:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)} [غافر: 15].

وقال سبحانه وتعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)} [النحل: 2].

وسماه نورًا لما يحصل به من استنارة القلوب وإضاءتها.

ص: 52

وكمال الروح بهاتين الصفتين، بالحياة والنور، ولا سبيل إليهما إلا على أيدي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، والاهتداء بما بعثوا به وتلقي العلم النافع والعمل الصالح من مشكاتهم، وإلا فالروح ميتة مظلمة، وإن كان العبد مشارًا إليه بالزهد والفقه والفضيلة والكلام والبحوث، فإن الحياة والاستنارة بالروح الذي أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وجعله نورا يهدي به من يشاء من عباده وراء ذلك كله، فليس العلم كثرة النقل والبحث والكلام، ولكن نور يميز به صحيح الأقوال من سقيمها وحقها من باطلها، وما هو من مشكاة النبوة مما هو من آراء الرجال.

ويميز النقد الذي عليه سكة أهل المدينة النبوية الذي لا يقبل الله عز وجل ثمنًا لجنته سواه.

من النقد الذي عليه سكة جنكسخان ونوابه من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة وكل من اتخذ لنفسه سكة وضربًا ونقدًا يروجه بين العالم؛ فهذه الأثمان كلها زيوف لا يقبل الله سبحانه وتعالى في ثمن جنته شيئًا منها، بل ترد على عاملها أحوج ما يكون إليها وتكون من الأعمال التي قدم الله سبحانه وتعالى عليها فجعلها هباء منثورًا، ولصاحبها نصيب وافر من قوله سبحانه وتعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: 103 - 104].

وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله عز وجل أو على غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة؛ ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم فأتعبوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال والانتصار لهم وفهم ما قالوه، وبثه في المجالس والمحاضر. وأعرضوا عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم صفحًا. ومن به رمق منهم يعيره أدنى التفات طلبًا للفضيلة.

ص: 53

وأما تجريد أتباعه وتحكيمه واستفراغ قوى النفس في طلبه وفهمه، وعرض آراء الرجال عليه ورد ما يخالفه منها، وقبول ما وافقه، ولا يلتفت إلى شيء من آرائهم وأقوالهم إلا إذا أشرقت عليها شمس الوحي وشهد لها بالصحة، فهذا أمر لا تكاد ترى أحدًا منهم يحدث به نفسه فضلًا عن أن يكون أخيته ومطلوبه، وهذا الذي لا ينجي سواه.

فوارحمتا لعبد شقي في طلب العلم واستفرغ قواه واستعد فيه أوقاته وآثره على ما الناس فيه. والطريق بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسدود وقلبه عن المرسل سبحانه وتعالى وتوحيده والإنابة إليه والتوكل عليه والتنعم بحبه والسرور بقربه مطرود ومصدود، وقد طاف عمره كله على أبواب المذاهب، فلم يفز إلا بأخس المطالب.

سبحان الله إن هي والله إلا فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها، وحيرت العقول عن طرق قصدها، تربى فيه الصغير وهرم عليه الكبير، فظنت خفافيش الأبصار أنها الغاية التي تسابق إليها المتسابقون، والنهاية التي تتنافس فيها المتنافسون وهيهات أين الظلام من الضياء، وأين الثرى من كواكب الجوزاء، وأين الحرور من الظلال، وأين طريقة أصحاب اليمين من طريقة أصحاب الشمال، وأين القول الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم، وأين العلم الذي سنده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين سبحانه، من الخوض الخرص الذي سنده شيوخ الضلال من الجهمية والمعتزلة وفلاسفة المشائين، بل أين الآراء التي أعلى درجاتها أن تكون عند الضرورة سائغة الاتباع إلى النصوص النبوية الواجب على كل مسلم تحكيمها والتحاكم إليها في موارد النزاع، وأين الآراء التي نهي قائلها عن تقليده فيها وحض على النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر.

ص: 54

وأين الأقوال والآراء التي إذا مات أنصارها والقائمون بها فهي من جملة الأموات، إلى النصوص التي لا تزول إلا إذا زالت الأرض والسماوات.

لقد استبان والله الصبح لمن له عينان ناظرتان؛ وتبين الرشد من الغي لمن له أذنان واعيتان، لكن عصفت على القلوب أهوية البدع والشبهات والآراء المختلفات، فأطفأت مصابيحها وتحكمت فيها أيدي الشهوات فأغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها وتقليدها لآراء الرجال، فلم تجد حقائق القرآن والسنة فيها منفذًا وتمكنت فيها أسقام الجهل والتخليط فلم تنتفع معها بصالح الغذاء، واعجبًا جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم تقبل الاغتذاء بكلام الله سبحانه وتعالى ونص نبيه المرفوع، واعجبًا لها كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ فيها والصواب، وعجزت عن الاهتداء بمطالع الأنوار ومشارقها من السنة والكتاب، فأقرت بالعجز عن تلقي الهدى العلم من مشكاة السنة والقرآن، ثم تلقته من رأي فلان ورأي فلان.

فسبحان الله ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس الهدى من مشكاتها من الكنوز والذخائر، وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر، قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرًا، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرًا وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورًا، درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ووقعت أعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها، وأفلت كواكبه من آفاقهم فليسوا يبصرونها، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يثبتونها، خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التحريف بالتأويلات الباطلة، فلا يزال يخرج عليها

ص: 55

من جيوشهم المخذولة كمين بعد كمين، نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام

لئام فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام، وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز. وقالوا: ما لك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز. أنزلوا النصوص منزلة الخليفة العاجز في هذه الأزمان، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان، حرموا والله الوصول بخروجهم عن منهج الوحي وتضييع الأصول، وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها وتقطعت بهم أسبابهم أحوج ما كانوا إليها، حتى إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه؛ وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه وقدموا على ما قدموه وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وسُقِطَ في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه.

فياشدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورًا، ويا عظم المصيبة عندما تبين بوارق آماله وأمانيه خلبًا وغرورًا.

فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه سبحانه وتعالى يوم تبلى السرائر، وما عذر من نبذ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره في يوم لا ينفع فيه الظالمين المعاذر.

أفيظن المعرض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينجو غدًا بآراء الرجال، ويتخلص من مطالبة الله سبحانه وتعالى له بكثرة البحوث والجدال أو ضروب الأقيسة وتنوع الأشكال أو بالشطحات والمشارات وأنواع الخيال، هيهات.

والله لقد ظن أكذب الظن ومنّى نفسه أبين المحال، وإنما ضُمنت النجاة لمن حكم هدى الله سبحانه وتعالى على غيره، وتزود التقوى، وائتم بالدليل، وسلك الصراط

ص: 56

المستقيم واستمسك من التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بالعروة الوثقى، التي لا انفصام لها والله سميع عليم

(1)

.

* * *

(1)

«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص/ 68 - 93) ط مكتبة الرشد، وانظر:«إعلام الموقعين» (2/ 271)، و «الوابل الصيب» (ص/ 128)، و «مدارج السالكين» (1/ 613).

ص: 57

3 -

قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}

[البقرة: 26].

وهذا جواب اعتراض اعترض به الكفار على القرآن، وقالوا: إن الرب أعظم من أن يذكرَ الذباب والعنكبوت ونحوها من الحيوانات الخسيسة، فلو كان ما جاء به محمد كلام الله، لم يذكر فيه الحيوانات الخسيسة، فأجابهم سبحانه وتعالى بأن قال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}

(1)

فإن ضرب الأمثال بالبعوضة فما فوقها، إذا تضمن تحقيق الحق وإيضاحه وإبطال الباطل وإدحاضه كان من أحسن الأشياء، والحسن لا يُستحيا منه، فهذا جواب الاعتراض.

فكأن معترضًا اعترض على هذا الجواب أو طلب حكمه ذلك، فأخبر سبحانه وتعالى عما له في ضرب تلك الأمثال من الحكمة، وهي: إضلال من شاء وهداية من شاء.

ثم كأن سائلًا سأل عن حكمة الإضلال لمن يُضِلُّهُ بذلك، فأخبر سبحانه وتعالى عن حكمته وعدله، وأنه إنما يضل به الفاسقين:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 27] فكانت أعمالهم هذه القبيحة التي ارتكبوها سببًا لأن أضلهم وأعماهم عن الهدى

(2)

.

(1)

للعلماء في قوله تعالى: {فَمَا فَوْقَهَا} قولان:

أحدهما: فما هو أكبر منها؛ والثاني: فما دونها في الصغر، والحقارة.

(2)

«بدائع الفوائد» (4/ 1549 - 1550) ط عالم الفوائد.

ساق الطبري رقم (569) بإسناد حسن عن قتادة: «{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، فسقوا فأضلَّهم الله على فِسقهم» .

ص: 58

4 -

قال سبحانه وتعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171].

فَتَضَمَّنَ هَذَا المَثَل نَاعِقًا، أَيْ: مُصَوِّتًا بِالْغَنَمِ وَغَيْرِهَا، وَمَنْعُوقًا بِهِ وَهُوَ الدَّوَابُّ، فَقِيلَ: النَّاعِقُ الْعَابِدُ وَهُوَ الدَّاعِي لِلصَّنَمِ، وَالصَّنَمُ هُوَ المَنْعُوقُ بِهِ المَدْعُوُّ، وَإِنَّ حَالَ الكَافِرِ فِي دُعَائِهِ كَحَالِ مَنْ يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُهُ، هَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُه

(1)

.

وَاسْتَشْكَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»

(2)

وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ هَذَا القَوْلَ، وَقَالُوا: قَوْلُهُ: {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَسْمَعُ شيئا دُعَاءً وَلَا نِدَاءً.

* وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا الِاسْتِشْكَالِ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ:

* أَحَدُهَا: أَنَّ «إلَّا» زَائِدَةٌ، وَالمَعْنَى بِمَا لَا يَسْمَعُ دُعَاءً وَنِدَاءً، قَالُوا: وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الأَصْمَعِيُّ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

حَرَاجِيح مَا تَنْفَكُّ إلَّا مُنَاخَةً

(3)

(1)

أخرج الطبري في «تفسيره» رقم (2462) بإسناد صحيح إلى ابن زيد قال: في قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} قال: الرجل الذي يصيح في جَوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له: الصَّدى. فمثل آلهة هؤلاء لَهم، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، لا يَسمع إلا دعاء ونداء. قال: والعرب تسمي ذلك الصدى.

وأخرج رقم (2456) بإسناد حسن عن قتادة في قوله: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} ، يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به.

وانظر تفسير الآية في: «الطبري» ، و «زاد المسير» ، و «القرطبي» .

(2)

(1/ 212).

(3)

قاله ذو الرمة، يصف إبلًا، وهو في «ديوانه» .

ص: 59

أَيْ: مَا يَنْفَكُّ مُنَاخَةً، وَهَذَا جَوَابٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ «إلَّا» لَا تُزَادُ فِي الْكَلَامِ.

* الجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي مُطْلَقِ الدُّعَاءِ لَا فِي خُصُوصاتِ الْمَدْعُوِّ.

* الجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ المَعْنَى أَنَّ مَثَلَ هَؤُلَاءِ فِي دُعَائِهِمْ آلِهَتَهُم الَّتِي لَا تَفْقَهُ دُعَاءَهُمْ كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ، فَلَا يَنْتَفِعُ بنعقِتهِ بِشَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي دُعَاءٍ وَنِدَاءٍ، وَكَذَا المُشْرِكُ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ إلَّا العَنَاءُ.

وَقِيلَ: المَعْنَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَفْقَهُ ما يَقُولُ الرَّاعِي أَكْثَرَ مِنْ الصَّوْتِ؛ فَالرَّاعِي هُوَ دَاعِي الكُفَّارِ، وَالكُفَّارُ هُمْ البَهَائِمُ المَنْعُوقُ بِهَا.

* قَالَ سِيبَوَيْه

(1)

: المَعْنَى: وَمَثَلُك يَا مُحَمَّدُ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النَّاعِقِ وَالمَنْعُوقِ.

وَعَلَى قَوْلِهِ فَيَكُونُ المَعْنَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ودَاعِيهمْ كَمَثَلِ الغَنَمِ وَالنَّاعِقِ بِهَا.

وَلَك أَنْ تَجْعَلَ هَذَا مِنْ التَّشْبِيهِ المُرَكَّبِ، وَأَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ المُفَرَّقِ، فَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنْ المُرَكَّبِ كَانَ تَشْبِيهًا لِلْكُفَّارِ فِي عَدَمِ فِقْهِهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ بِالغَنَمِ الَّتِي يَنعقُ بِهَا الرَّاعِي، فَلَا تَفْقَهُ مِنْ قَوْلِهِ شَيْئًا غَيْرَ الصَّوْتِ المُجَرَّدِ الذي هُوَ الدُّعَاءُ وَالنِّدَاءُ، وَإِنْ جَعَلْتَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ المُفَرَّقِ فَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمَنْزِلَةِ البَهَائِمِ، وَدُعَاءُ دَاعِيهمْ إلَى الطَّرِيقِ وَالهُدَى

(1)

نصه في «الكتاب» : (1/ 212): قوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} ، وإنما شبهوا بالمنعوق به. وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى.

ص: 60

بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَنْعِقُ بِهَا، وَدُعَاؤُهُمْ إلَى الطريق والهُدَى بِمَنْزِلَةِ النَّعْيقِ، وَإِدْرَاكُهُمْ مُجَرَّدَ الدُّعَاءِ وَالنِّدَاءِ كَإِدْرَاكِ البَهَائِمِ مُجَرَّدَ صَوْتِ النَّاعِقِ، وَاللهُ أَعْلَمُ

(1)

.

وقال

(2)

: سواءٌ كان المعنى: ومثلُ داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع من الدواب إلا أصواتًا مجردةً، أو كان المعنى: ومثل الذين كفروا حين ينادون كمثل دواب الذي ينعق بها فلا تسمع إلا صوت الدعاء والنداء، فالقولان متلازمان، بل هما واحد، وإن كان التقدير الثاني أقرب إلى اللفظ وأبلغ في المعنى؛ فعلى التقديرين لم يحصل لهم من الدعوة إلا الصوت الحاصل للأنعام.

فهؤلاء لم يحصل لهم حقيقة الإنسانية التي يميز بها صاحبها عن سائر الحيوان.

* والسمع يراد به إدراك الصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به القبول والإجابة والثلاثة في القرآن:

* فمن الأول: قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة: 1]، وهذا أصرح ما يكون في إثبات صفة السمع؛ ذَكَرَ الماضيَ والمضارعَ واسمَ الفاعل:(سمع) و (يسمع)، وهو (سميع)، وله السمع؛ كما قَالَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ المُجَادِلَةُ تشكو إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا فِي جانب البَيْتِ، وإنه ليخفى علي بعض كلامها، فَأَنْزَلَ اللهُ:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1]

(3)

.

(1)

«إعلام الموقعين» (1/ 313 - 315) ط ابن الجوزي.

(2)

«مفتاح دار السعادة» (1/ 294 - 295) ط. ابن القيم وابن عفان.

(3)

إسناده صحيح: أخرجه أحمد (6/ 46)، وابن ماجه (2063) وغيرهما من طرق عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها به. =

ص: 61

* والثاني: سمع الفهم؛ كقوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، أي: لأفهمهم، {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23]؛ لما في قلوبهم من الكبر والإعراض عن قبول الحق، ففيهم آفتان: إحداهما: أنهم لا يفهمون الحق لجهلهم، ولو فهموه لتولوا عنه وهم معرضون عنه لكبرهم

(1)

وهذا غاية النقص والعيب.

* والثالث: سمعُ القَبُول والإجابة؛ كقوله سبحانه وتعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]. أي: قابلون مستجيبون، ومنه قوله سبحانه وتعالى:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41]. أي: قابلون له مستجيبون لأهله، ومنه قول المصلى: سمع الله لمن حمده؛ أي: أجاب الله حمد من حمده، ودعاء من دعاه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد؛ يسمع الله لكم»

(2)

أي: يجيبكم.

= وسبق التعليق عليه في «التنقيح والتحرير على مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية» (ص/ 31 - 32) ط. دار التأصيل.

(1)

وهي الآفة الثانية، فالأولى: الجهل، والثانية: الكبر.

(2)

أخرجه مسلم (404) من حديث أبي موسى رضي الله عنه بلفظ: «وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ. يَسْمَع اللهُ لَكُمْ» .

* فائدة: قال ابن القَيِّم رحمه الله في «زاد المعاد» (1/ 209) عند كلامه على صِفَةِ رَفْعِهِ صلى الله عليه وسلم من الركوع، وما يقوله عند ذلك: «

وَرُبّمَا قَالَ: «اللهُمّ رَبّنَا لَكَ الْحَمْدُ» صَحّ ذَلِكَ عَنْهُ. وَأَمّا الْجَمْعُ بَيْنَ «اللهُمّ» وَ «الْوَاوُ» فَلَمْ يَصِحّ». كذا قال رحمه الله.

ولكنَّ الأمر على خلاف ذلك؛ فقد ثبت الجمع بين «اللهُمّ» وَ «الْوَاوُ» في «صحيح البخاري» (796) وغيره. نبه على هذا الحافظ ابن حجر في تعليقه على الحديث، والعلامة الألباني في «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم» (ص/ 136) و أ. جمال محمد السيد في رسالته:«ابن قيم الجوزية وجهوده في خدمة السنة النبوية وعلومها» (2/ 266 - 267).

ص: 62

* والمقصود: أن الإنسان إذا لم يكن له علم بما يصلحه في معاشه ومعاده كان الحيوان البهيم خيرًا منه لسلامته في المعاد مما يهلكه دون الإنسان الجاهل

(1)

.

* * *

(1)

«الوابل الصيب» (ص/ 126).

ص: 63

5 -

قال سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].

هو استفهام إنكار معادل لاستفهام مقدر في قوة الكلام. فإذا قلت: لم فعلت هذا أم حسبت أن لا أعاقبك، كان معناه: أحسبت أن أعاقبك فأقدمت على العقوبة، أم حسبت أني لا أعاقبك فجهلتها.

(1)

فَعَزّى سُبْحَانَهُ نَبِيّهُ بِذَلِكَ

(2)

وَأَنّ لَهُ أُسْوَةً بِمَنْ تَقَدّمَهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَعَزّى أَتْبَاعَهُ بِقَوْلِهِ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الْبَقَرَةُ: 214].

وَقَوْلُهُ: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

ص: 64

لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [الْعَنْكَبُوتُ: 1 - 10].

فَلْيَتَأَمّل الْعَبْدُ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا تَضَمّنَتْهُ مِنْ الْعِبَرِ وَكُنُوزِ الْحِكَمِ فَإِنّ النّاسَ إذَا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ الرّسُلُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ آمَنّا وَإِمّا أَلّا يَقُولَ ذَلِكَ بَلْ يَسْتَمِرّ عَلَى السّيّئَاتِ وَالْكُفْرِ فَمَنْ قَالَ آمَنّا امْتَحَنَهُ رَبّهُ وَابْتَلَاهُ وَفَتَنَهُ وَالْفِتْنَةُ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ لِيَتَبَيّنَ الصّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ آمَنّا فَلَا يَحْسِبْ أَنّهُ يُعْجِزُ اللّهَ وَيَفُوتُهُ وَيَسْبِقُهُ فَإِنّهُ إنّمَا يَطْوِي الْمَرَاحِلَ فِي يَدَيْهِ.

وَكَيْفَ يَفِرّ الْمَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ إذَا كَانَ تُطْوَى فِي يَدَيْهِ الْمَرَاحِلُ فَمَنْ آمَنَ بِالرّسُلِ وَأَطَاعَهُمْ عَادَاهُ أَعْدَاؤُهُمْ وَآذَوْهُ فَابْتُلِيَ بِمَا يُؤْلِمُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يُطِعْهُمْ عُوقِبَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَحَصَلَ لَهُ مَا يُؤْلِمُهُ وَكَانَ هَذَا الْمُؤْلِمُ لَهُ أَعْظَمَ أَلَمًا وَأَدُومَ مِنْ أَلَمِ اتّبَاعِهِمْ فَلَا بُدّ مِنْ حُصُولِ الْأَلَمِ لِكُلّ نَفْسٍ آمَنَتْ أَوْ رَغِبَتْ عَنْ الْإِيمَانِ لَكِنّ الْمُؤْمِنَ يَحْصُلُ لَهُ الْأَلَمُ فِي الدّنْيَا ابْتِدَاءً ثُمّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمُعْرِضُ عَنْ الْإِيمَانِ تَحْصُلُ لَهُ اللّذّةُ ابْتِدَاءً ثُمّ يَصِيرُ إلَى الْأَلَمِ الدّائِمِ.

وَسُئِلَ الشّافِعِيّ رحمه الله أَيّمَا أَفْضَلُ لِلرّجُلِ أَنْ يُمَكّنَ أَوْ يُبْتَلَى؟ فَقَالَ لَا يُمَكّنُ حَتّى يُبْتَلَى وَاَللّهُ سبحانه وتعالى ابْتَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ فَلَمّا صَبَرُوا مَكّنَهُمْ فَلَا يَظُنّ أَحَدٌ أَنّهُ يَخْلُصُ مِنْ الْأَلَمِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْآلَامِ فِي الْعُقُولِ فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلَمًا مُسْتَمِرّا عَظِيمًا بِأَلَمٍ مُنْقَطِعٍ يَسِيرٍ وَأَشْقَاهُمْ مَنْ بَاعَ الْأَلَمَ الْمُنْقَطِعَ الْيَسِيرَ بِالْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرّ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَخْتَارُ الْعَاقِلُ هَذَا؟ قِيلَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النّقْدُ وَالنّسِيئَةُ. وَالنّفْسُ مُوَكّلَةٌ بِحُبّ الْعَاجِل

(1)

.

(1)

«زاد المعاد» (3/ 11).

ص: 65

6 -

قال سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261].

وهذه الآية كأنها كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرض، ومثل سبحانه بهذا المثل إحضارًا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التي غيبت في الأرض، فأنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته، كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي هي من الحبة الواحدة.

فينضاف الشاهد العِياني الشاهد الإيماني القرآني، فيقوى إيمان المنفق، وتسخو نفسه بالإنفاق.

وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه الآية على سنابل، وهي من جموع الكثرة، إذ المقام مقام تكثير وتضعيف؛ وجمعها على سنبلات في قوله سبحانه وتعالى:{وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف: 43]، فجاءَ بها على جمع القلة؛ لأن السبعة قليلة، ولا مقتضى للتكثير.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]، قيل: المعنى والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاءُ لا لكل منفق بل يختص برحمته من يشاءُ؛ وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه، وفى صفات المنفق وأحواله، وفى شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع.

وقيل: والله يضاعف لمن يشاءُ فوق ذلك، فلا يقتصر به على السبعمائة، بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة.

ص: 66

واختلف في تقدير الآية فقيل: مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة.

وقيل: مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة، ليطابق الممثل للممثل به. فها هنا أربعة أُمور: منفق، ونفقة، وباذر، وبذر.

فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه؛ فذكر من شق الممثل المنفِق، إذ المقصود ذكر حاله وشأْنه، وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها. وذكر من شق الممثل به البذر إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة.

وترك ذكر الباذر لأن الغرض لا يتعلق بذكره.

فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان. وهذا كثير في أمثال القرآن، بل عامتها ترد على هذا النمط.

ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها، وهما «الواسع والعليم» ، فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة، ولا يضيق عنها عَطَنُه، فإن المضاعف سبحانه واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل، ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق، فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها، فإن كَرَمَهُ سبحانه وفضله لا يناقض حكمته، بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته، ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه.

ثم قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة: 262].

هذا بيان للقرض الحسن ما هو؟ وهو أن يكون في سبيله، أي: في مرضاته والطريق الموصلة إليه، ومن أهمها سبيل الجهاد.

ص: 67

ف «سبيل الله» خاص وعام، والخاص جزءٌ من السبيل العام وأن لا يتبع صدقته بمنّ ولا أذى، فالمن نوعان:

أحدهما: مَنٌّ بقلبه من غير أن يصرح به بلسانه.

وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو يمنعه شهود منَّة الله عليه في إعطائه المال وحرمان غيره، وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه فللَّه المنة عليه من كل وجه، فكيف يشهد قلبه منه لغيره؟

والنوع الثاني: أن يمن عليه بلسانه فيتعدَّى على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأنه أوجب عليه حقًّا، وطوقه منة في عنقه، فيقول: أَمَا أعطيتُك كذا وكذا؟ ويعدد أياديه عنده.

قال سفيان

(1)

: يقول أعطيتك فما شكرت.

وقال عبد الرحمن بن زيد: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلًا شيئًا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه

(2)

.

وكانوا يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها، وإذا أُسديت إليكم صنيعة فلا تنسوها.

وفى ذلك قيل:

وإنَّ امرأً أهدى إليَّ صنيعةً

وذكرنيها مرةً لبخيلُ

(3)

(1)

انظر: «تفسيره» ، و «تفسير البغوي» (1/ 250).

(2)

انظر: «تفسيره» ، «تفسير البغوي» (1/ 250).

(3)

انظر: «المستطرف» (2/ 122) وفيه (للئيم) بدل (لبخيل).

ص: 68

وقيل: «صنوان: مَنْ منح سائلَهُ ومَنَّ، ومن منع نائلَه وضنَّ»

(1)

.

وحظر الله على عباده المنَّ بالصنيعة واختصَّ به صفة لنفسه؛ لأنَّ منَّ العباد تكدير وتعبير، ومن الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير.

وأيضاً: فإنه هو المنعم في نفس الأمر، والعباد وسائط، فهو المنعم على عبده في الحقيقة.

وأيضاً: فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يمن عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله.

وأيضاً: فالمنَّةُ أن يشهد المعطي أنه هو رب الفضل والإنعام وأنه ولي النعمة ومسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا الله.

وأيضاً: فالمانُّ بعطائه يشهد نفسه مترفعاً على الآخذ، مستعليًا عليه، غنيًّا عنه، عزيزًا؛ ويشهد ذلة الآخذ وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغي ذلك للعبد.

وأيضاً: فإن المعطي قد تولى الله ثوابه، وردَّ عليه أضعافَ ما أعطى، فبقي عوضُ ما أعطى عند الله، فأيّ حقٍّ بقي له قبل الآخذ؟ فإذا امتنَّ عليه فقد ظلمه ظلمًا بينًا، وادعى أن حقَّه في قِبَله.

ومن هنا - والله أعلم - بطلت صدقته بالمنّ، فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله، وعوض تلك الصدقة عنده، فلم يرض به، ولاحظ العوضَ من الآخذ والمعاملة عنده، فمن عليه بما أعطاه أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له.

فتأمل هذه النصائح من الله لعباده، ودلالته على ربوبيته وإلهيته وحده، وأنه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته وإلهيته، لا إله غيره ولا رب سواه.

(1)

«الكشاف» (1/ 311).

ص: 69

ونبه بقوله: {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة: 262].

على أن المنَّ والأذى - ولو تراخى عن الصدقة، وطال زمنه - ضر بصاحبه، ولم يحصل له مقصود الإنفاق. ولو أتى بالواو وقال: ولا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لأوهمت تقييد ذلك بالحال. وإذا كان المن والأذى المتراخي مبطلًا لأثر الإنفاق مانعًا من الثواب فالمقارن أولى وأحرى.

وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاء فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 262]. وقرنه بالفاء في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 274]. فإن الفاء الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تُفهِم معنى الشرط والجزاء وأن الخبر مستحق بما تضمنه المبتدأ من الصلة أو الصفة.

فلما كان المقام هنا يقتضي بيان حصر المستحق للجزاء دون غيره جرد الخبر عن الفاء فإن المعنى: أن الذي ينفق ماله لله ولا يمن ولا يؤذي هو الذي يستحق الأجر المذكور لا الذي ينفق لغير الله، ويمن ويؤذي بنفقته، فليس المقام مقام شرط وجزاء، بل مقام بيان للمستحق دون غيره.

وفي الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرًّا وعلانية.

فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال، فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وجد من ليل أو نهار، وعلى أي حالة وُجد من سر أو علانية، فإنه سبب للجزاء على كل حال.

فليبادر إليه العبد، ولا ينتظر به غير وقته وحاله، فلا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر، ولا بنفقة السر وقت العلانية؛ فإن نفقته في أي وقت وعلى أي حال وجدت سببٌ لأجره وثوابه.

ص: 70

فتدبر هذه الأسرار في القرآن، فلعلك لا تظفر بها تمر بك في التفاسير. والمنة والفضل لله وحده لا شريك له.

ثم قال سبحانه وتعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263]. فأخبر سبحانه أن القول المعروف - وهو الذي تعرفه القلوب ولا تنكره - والمغفرة - وهي: العفو عمن أساء إليك - خير من الصدقة المقرونة بالأذى. فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة؛ فهما نوعان من أنواع الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقرونة بما يبطلها، ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة. ويدخل في هذا القول المعروف الرد الجميل على السائل، والعدة الحسنة، والدعاء الصالح له.

ويدخل في المغفرة مغفرته للسائل، إذا وجد منه بعض الجفوة والأذى له بسبب رده، فيكون عفوه عنه خيرًا من أن يتصدق عليه ويؤذيه.

هذا على المشهور من القولين في الآية.

والقول الثاني: أن المغفرة من الله، أي: مغفرة لكم من الله بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من صدقة يتبعها أذى.

وفيها قول ثالث. أي: مغفرة وعفو من السائل إذا رُدَّ وتعذر المسؤول خير من أن ينال منه صدقة يتبعها أذى.

وأصح الأقوال هو الأول، ويليه الثاني، والثالث ضعيف جدًّا؛ لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسؤول لا للسائل الآخذ، والمعنى: أن قول المعروف له والتجاوز والعفو خير لك من أن تصدق عليه وتؤذيه.

ثم ختم الآية بصفتين مناسبتين لما تضمنته، فقال:{وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}

[البقرة: 263]. وفيه معنيان:

ص: 71

أحدهما: أن الله غني عنكم، لن يناله شيء من صدقاتكم، وإنما الحظ الأوفر لكم في الصدقة، فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى.

فكيف بمنفق يمن بنفقته ويؤذي بها مع غنى الله التام عنها وعن كل ما سواه؟ ومع هذا فهو حليم، إذ لم يعاجل المانَّ المؤذي بالعقوبة.

وفي ضمن هذا الوعيد له والتحذير.

والمعنى الثاني: أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه، فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح، مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة، فكيف يؤذي أحدكم بمنه وأذاه، مع قلة ما يعطي ونزارته وفقره؟

(1)

.

* * *

(1)

«طريق الهجرتين» (2/ 792 - 800) ط عالم الفوائد. وانظر: «إعلام الموقعين» (1/ 315).

ص: 72

7 -

قال الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [البقرة: 264].

فتضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة، وهذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة، مع قوله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2].

وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في أول هذه الرسالة

(1)

فلا حاجة إلى إعادته.

وقد يقال: إن المنَّ والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها، إلا أنه ليس في اللفظ ما يدل على هذا التقييد، والسياق يدل على إبطالها به مطلقًا.

وقد يقال: تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياءِ وعدم الإيمان، فإن الرياءَ لو تأخر عن العمل لم يبطله.

* ويجاب عن هذا بجوابين:

* أحدهما: أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل، وهي حال المرائي والمانّ المؤذي في أن كل واحد منهما يحبط العمل.

(1)

«طريق الهجرتين» (2/ 537) فما بعد.

ص: 73

* الثاني: أن الرياءَ لا يكون إلا مقارنًا للعمل؛ لأنه «فعال» من الرؤية. أي: صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيًا. وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنًا ومتراخيًا، وتراخيه أكثر من مقارنته.

وقوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ} إما أن يكون المعنى كإبطال الذي ينفق، فيكون شبه الإبطال بالإبطال، أو المعنى: لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاءَ الناس، فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق.

وقوله: {فَمَثَلُهُ} أي: مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس.

* وفيه قولان:

* أحدهما: أنه واحد.

* والثاني: جمع صفوانة.

{عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد، {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره.

وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها، فإنه تضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي- الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمانٍ بالله واليوم الآخر- بالحجر لشدته وصلابته وعدم الانتفاع به.

وتضمن تشبيه ما علِق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر. والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها، كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدًا، فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله.

ص: 74

وفيه معنى آخر: وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملًا يترتب عليه الأجر، يزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة.

ولكن وراءَ هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه، كما أن تحت التراب حجرًا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه فلا ينبت ولا يخرج شيئًا

(1)

.

* * *

(1)

«طريق الهجرتين» (800 - 802)، وانظر:«إعلام الموقعين» (1/ 317 - 318)، و «مدارج السالكين» (ص/ 497، 436).

ص: 75

8 -

قال سبحانه وتعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} [البقرة: 265].

وهذا مثل الذي مصدر نفقته على الإخلاص والصدق، فإن ابتغاءَ مرضاته هو غاية الإخلاص، والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل، فإن المنفق تعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكر في هذه الآية:

* إحداهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناءً أو غرضًا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين.

* والآفة الثانية: ضعف نفسه بالبذل وتقاعسها وترددها، هل تفعل أم لا؟

فالآفة الأولى تزول بابتغاءِ مرضاة الله، والآفة الثانية تزول بالتثبيت، فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل، وهذا هو صدقها. وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده، وهذا إخلاصها.

فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة وهي: البستان الكثير الأشجار، فهو مجتنّ بها، أي: مستتر ليس قاعًا فارغًا.

والجنة بربوة - وهو المكان المرتفع- لأنها أكمل من الجنة المستفلة التي بالوهاد والحضيض؛ لأنها إذا ارتفعت كانت بمدرجة الأهوية والرياح، وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، فكانت أنضج ثمرًا وأطيبه وأحسنه وأكثره.

فإن الثمار تزداد طيبًا وزكاءً بالرياح والشمس، بخلاف الثمار التي تنشأُ في الظلال.

ص: 76

وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الشرب.

فقال سبحانه وتعالى: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة: 265]، وهو المطر الشديد العظيم القطر فأدت ثمرتها، وأعطت بركتها، فأخرجت ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر، بسبب ذلك الوابل.

فهذا حال السابقين المقربين.

{فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265]، وهو دون الوابل، فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها، فتكتفي في إخراج بركتها بالطل.

وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة وهم درجات عند الله.

فأصحاب الوابل أعلاهم درجة، وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وأصحاب الطل مقتصدوهم.

فمثَّل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاءَ أكل الجنة ونموه بالأضعاف، فكذلك نفقتهم -كثيرة أو قليلة - بعد أن صدرت عن ابتغاءِ مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم فهي زاكية عند الله نامية مضاعفة.

واختلف في الضعفين، فقيل: ضعفا الشيء مثلاه زائدًا عليه، وضعفه مثله. وقيل: ضعفه مثلاه وضعفاه ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله، كلما زاد ضعفًا زاد مثلًا.

والذي حمل هذا القائل على ذلك فراره من استواءِ دلالة المفرد والتثنية، فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه، فإذا ضُمَّ إلى المثل صار مثلين، وهما الضعف.

ص: 77

فلو قيل: «لها ضعفان» لم يكن فرق بين المفرد والمثنى، فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل، ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعافه أمثال مضافة إلى الأصل، وهكذا أبدًا.

والصواب أن الضعفين هما المثلان فقط: الأصل ومثله.

وعليه يدل قوله سبحانه وتعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265]، أي: مثلين، وقوله سبحانه وتعالى:{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ (30)} [الأحزاب: 30]، أي: مثلين.

ولهذا قال في المحسنات: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31]، وأما ما توهموه من استواءِ دلالة المفرد والتثنية، فوهم منشؤه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل، وليس كذلك، بل المثل له اعتباران: إن اعتبر وحده فهو ضعف، وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان. والله أعلم

(1)

.

واختلف في رافع قوله: {فَطَلٌّ} فقيل: مبتدأٌ خبره محذوف، أي: فطل يكفيها، وقيل: خبر مبتدؤه محذوف، فالذي يرويها ويصيبها طل

(2)

والضمير في {أَصَابَهَا} إما أن يرجع إلى الجنة أو إلى الربوة، وهما متلازمان

(3)

.

* * *

(1)

للسيوطي رسالة «مطلع البدرين فيمن يؤتى أجره مرتين» .

(2)

الأول: قول المبرد، والثاني: قول الزجاج. انظر غير مأمور: «معاني الزجاج» (1/ 348)، و «المحرر الوجيز» (1/ 360).

(3)

«طريق الهجرتين» (803 - 806)، وانظر:«إعلام الموقعين» (2/ 316).

ص: 78

-9 قال سبحانه وتعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} [البقرة: 266].

قال الحسن: هذا مثلٌ قلَّ والله من يعقله من الناس، شيخ كبير ضعف جسمه، وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا

(1)

.

وفي صحيح البخاري

(2)

عن عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266]؟ قَالُوا: اللهُ أَعْلَمُ. فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ: قُولُوا: نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ.

فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. قَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تَحْقِرْ نَفْسَكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ. قَالَ عُمَرُ: أَيُّ عَمَلٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَمَلٍ. قَالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ عز وجل، ثُمَّ بَعَثَ اللهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ

(3)

.

(1)

إسناده منقطع: أخرجه عبد الرزاق (343)، وابن أبي حاتم في «التفسير» ، والطبري (6100) من طريق معمر عن الحسن.

قال الإمام أحمد: معمر لم يسمع من الحسن ولم يره، بينهما رجل ويقال: إنه عمرو بن عبيد. انظر: «جامع التحصيل» (350).

(2)

(3)

هذا الحديث مما يستدل به على تفاوت الناس في الفهم، وقد تكلم العلامة ابن القيم في «الصواعق المرسلة» (2/ 507 - فما بعد) ط العاصمة. على هذه المسألة.

ص: 79

فقوله سبحانه وتعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} أخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري، وهو أبلغ من النفي والنهي، وألطف موقعًا؛ كما ترى غيرك يفعل فعلًا قبيحًا فتقول: أيفعل هذا عاقل؟ أيفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة؟

وقال سبحانه وتعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام، كما تقول: أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من أن يقال: أيودون.

وقوله: «أَيَوَدُّ» أبلغ في هذا الإنكار من لو قيل: أَيريد؛ لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها.

وقوله سبحانه وتعالى: {أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار، وأكثرها نفعًا.

فإن منهما القوت والغذاءَ والدواءَ والشراب والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطبًا ويابسًا، ومنافعهما كثيرة جدًّا.

وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما فرجحت طائفة النخيل، ورجحت طائفة العنب.

وذكرت كل طائفة حججًا لقولها، قد ذكرناها في غير هذا الموضع

(1)

.

فصل الخطاب أن هذا يختلف باختلاف البلاد، فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر، فالأرض التي يكون فيها سلطان النخيل لا يكون العنب بها طائلًا ولا كثيرًا؛ لأنه إنما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السبخة، فينمو فيها فيكثر، وأما النخيل فنموه وكثرته في الأرض الحارة السبخة، وهي لا تناسب العنب، فالنخل في أرضه

ص: 80

وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها، والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها. والله أعلم.

* والمقصود أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها، فالجنة المشتملة عليهما من أفضل الجنان، ومع هذا فالأنهار تجري تحت هذه الجنة، وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها.

ومع ذلك فلم تعدم شيئًا من أنواع الثمار المشتهاة، بل فيها من كل الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب.

فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب، و {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}

[البقرة: 266]، ونظير هذا قوله سبحانه وتعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)} [الكهف: 32]. إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34].

وقد قيل: إن الثمار هنا وفى آية [البقرة: 266]. المراد بها المنافع والأموال، والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها، لقوله هنا:{لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 266]، ثم قال سبحانه وتعالى:{فَأَصَابَهَا} أي: الجنة {إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} ، وفى [الكهف]:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42]، وما ذلك إلا ثمار الجنة.

ثم قال سبحانه وتعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه:

أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها.

الثاني: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه.

الثالث: أن له ذرية، فهو حريص على بقاءِ جنته لحاجته وحاجة ذريته.

ص: 81

الرابع: أنهم ضعفاءُ، فهم كَلٌّ عليه لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم.

الخامس: أن نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم، وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة: لخطرها في نفسها، وشدة حاجته وذريته إليها.

فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار، وهى الريح التي تستدير في الأرض، ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود، وفيها نار مرت بتلك الجنة، فأحرقتها، وصيرتها رماداً؟، فصدق والله الحسن «هذا مثلٌ قلَّ من يعقله من الناس»

(1)

.

ولهذا نبه سبحانه على عظم هذا المثل، وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال سبحانه وتعالى:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}

[البقرة: 266]، فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قِبلةَ قلبه لكفاه وشفاه.

فهكذا العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصي الله، كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح.

ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده - من ذكر مجرد الطبقات- لم نذكرها، ولكنها من أهم المهم، والله المستعان الموفق لمرضاته.

فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره، وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه -والله- إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها، ولكن لابدَّ أن يغيب عنه علمه بذلك عند المعصية، ولهذا استحق اسم الجهل فكل من عصى الله فهو جاهل.

(1)

إسناده منقطع: سبق الكلام عليه آنفًا.

ص: 82

* فإن قيل: الواو في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} واو الحال، أم واو العطف؟

وإذا كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها؟

* قلت: فيه وجهان:

- أحدهما: أنه واو الحال، اختاره الزمخشرى.

والمعنى: أيود أحدكم أن تكون له جنة شأْنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته؟.

- والثاني: أن تكون للعطف على المعنى، فإن فعل التمني وهو قوله:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} لطلب الماضي كثيرًا، فكأن المعنى: أيود لو كانت له جنة من نخيل وأعناب، وأصابه الكبر، فجرى عليها ما ذكر؟.

وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي- الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان- بالصفوان الذي عليه التراب، فإنه لم يُنبت شيئًا أصلًا، بل ذهب بذره ضائعًا، لعدم إيمانه وإخلاصه.

ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصًا نيتَهُ لله ثم عرض له ما أبطل ثوابه، بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهاها، ثم سلط عليها الإعصار الناري فأحرقها، فإنَّ هذا نَبتَ له شيءٌ وأثْمَرَ له عمله ثم احترق، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق.

فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاءً للصدور وهدى ورحمة

(1)

.

(1)

«طريق الهجرتين» (2/ 806 - 812)، و «إعلام الموقعين» (2/ 316)، و «مدارج السالكين» (1/ 436) و (2/ 147).

ص: 83

10 -

قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275].

فعارضوا- أي: الكفار - تحريمه للربا بعقولهم، التي سوت بين الربا والبيع، فهذا معارضة النص بالرأي، ونظير ذلك مما عارضوا به تحريم الميتة بقياسها على المذكي، وقالوا: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله، وفي ذلك أنزل الله:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} [الأنعام: 121]

(1)

.

(1)

سبب نزول هذا ورد من طرق عن عكرمة وابن جبير وعنترة بن عبد الرحمن وغيرهم عن ابن عباس موصولًا ومرسلًا وموقوفًا.

أما طريق عكرمة: فأخرج أبو داود في «سننه» (2819)، وابن ماجه (3173)، والحاكم في «المستدرك» (4/ 113، 231) من طرق عن إسرائيل حَدَّثَنَا سِمَاكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} يَقُولُونَ: مَا ذَبَحَ اللهُ فَلَا تَأْكُلُوا وَمَا ذَبَحْتُمْ أَنْتُمْ فَكُلُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} . وصححه الحاكم وقال ابن حجر في «الفتح» (9/ 539) وابن كثيرٍ في «التفسير» : إسناده صحيح.

لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة. ومتابعة شريك والحكم بن أبان التي أخرجها الطبري (13809) و (13805)، والطبراني في «المعجم الكبير» (13809) ضعيفة.

وأما طريق ابن جبير: فرواه عنه عطاء بن السائب وعنه اثنان:

زياد البكائي وفيه ضعف. أخرجه الترمذي (3069) وقال: حسن غريب.

والثاني: عمران بن عيينة وهو ضعيف يعتبر به. واختلف عليه في الوصل والإرسال، فرواه عنه عثمان بن أبي شيبة وغيره موصولًا. أخرجه أبو داود (2802)، والبزار في «مسنده» (5059)، والطبراني في «الكبير» (12295) وغيرهم. وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ بإسناد أحسن من هذا الإسناد.

وخالفهم أبو سعيد الأشج فأرسله. =

ص: 84

وعارضوا أمره بتحويل القبلة بعقولهم، وقالوا: إن كانت القبلة الأولى حقًّا فقد تركت الحق، وإن كانت باطلًا فقد كنت على باطل، وإمام هؤلاء شيخ الطريقة إبليس عدو الله، فإنه أول من عارض أمر الله بعقله، وزعم أن العقل يقتضي خلافه

(1)

ونُقِرُّ

أن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه خلافًا لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وكما قال سبحانه وتعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)

= أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير» ، وقال الترمذي: ورواه بعضهم عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا.

وضعف ابن القيم هذا الحديث في تعليقه على سنن أبي داود بعلل أربع:

1 -

اضطراب عطاء حيث رواه على الوصل والإرسال.

2 -

اختلاطه والاختلاف في الاحتجاج بحديثه.

3 -

ضعف عمران بن عيينة.

4 -

من حيث المتن ففيه «جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:

». فقال: سورة الأنعام مكية باتفاق، ومجيء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومجادلتهم إياه إنما كان بعد قدومه المدينة، وأما بمكة فإنما كان جداله مع المشركين عباد الأصنام.

وأما طريق عنترة بن عبد الرحمن: فأخرها النسائي (7/ 237)، والحاكم (4/ 233) عن عمرو بن علي عن يحيى عن سفيان عن هارون بن عنترة به. بدون ذكر سبب النزول. ورواه الطبري (13811) مصرحًا بالسبب لكن في إسناده إسحاق بن يوسف الأزرق ثقة يغلط على سفيان.

والخلاصة: أن أصل الحديث يصح بطريق عنترة، وذكر السبب، أسانيده ضعيفة، وصحح الحديث العلامة الألباني رحمه الله بالمجموع بدون لفظة «اليهود» . «صحيح أبي داود» رقم (2509، 2510).

(1)

«الصواعق المرسلة» (3/ 895، 896).

ص: 85

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}

(1)

.

* * *

(1)

هذا من كلام أبي الحسن الأشعري في «الإبانة» (ص/ 66)، فقد نقل عنه ابن القيم في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص/ 294) كثيرا من كتابه «الإبانة» .

وأخرج الطبري (6248) بإسناد صحيح عن ابن زيد قال: في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} . قال: هذا مثلهم يومَ القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس، كأنه خُنق، كأنه مجنون.

ص: 86

‌سورة آل عمران

11 -

قال سبحانه وتعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]

(1)

.

وكل واحد من الصحابة لم يسألنا أجرًا وهم مهتدون، بدليل قوله سبحانه وتعالى خطابًا لهم:{وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [آل عمران: 103]. ولعل من الله واجب، وقوله سبحانه وتعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد: 16، 17]. وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ} [محمد: 4، 5].

(1)

قال الطبري: وإنما ذلك مثَلٌ لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام. يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرَف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن يُنعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانًا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له.

وقال ابن عاشور: فأرى أن شَفا حفرة النَّار هنا تمثيل لحالهم في الجاهلية حين كانوا على وشك الهلاك والتَّفاني الَّذي عبَّر عنه زهير بقوله:

تفانَوا ودَقُّوا بينَهم عِطْر مَنْشَم

بحال قوم بلغ بهم المشي إلى شفا حفير من النَّار كالأُخدُود فليس بينهم وبين الهلاك السَّريع التَّام إلا خطوة قصيرة، واختيار الحالة المشبَّه بها هنا لأن النَّار أشدّ المهلكات إهلاكًا، وأسرعُها، وهذا هو المناسب في حمل الآية ليكون الامتنان بنعمتين محسوستين هما: نعمة الأخوة بعد العداوة، ونعمة السلامة بعد الخطر.

ص: 87

وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69]. وكل منهم قاتل في سبيل الله وجاهد إما بيده أو بلسانه فيكون الله قد هداهم، وكل من هداه فهو مهتد فيجب إتباعه بالآية

(1)

.

* * *

(1)

هي قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس: 21]، وانظر:«إعلام الموقعين» (5/ 566)، وهو يتحدث عن وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم.

ص: 88

12 -

قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59].

فأخبر سبحانه وتعالى، أن عيسى نظير آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات، وهو مجيئها طوعًا لمشيئته وتكوينه، فكيف يستنكرُ وجودَ عيسى مِنْ غير أب منْ يقرُّ بوجود آدم من غير أب ولا أم، ووجود حواء من غير أم؛ فآدم وعيسى نظيران يجمعهما المعنى الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به

(1)

.

* * *

(1)

إعلام الموقعين (2/ 252)، و «هداية الحيارى» (ص/ 107).

قال الرازي: أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم.

وصح عن قتادة أنه قال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، ذكر لنا أنّ سيِّديْ أهل نجران وأسقُفَّيْهم: السيد والعاقبُ، لقيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن عيسى فقالا: كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . قوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} ، يعني: فلا تكن في شكّ من عيسى أنه كمثل آدم، عبدُ الله ورسوله، وكلمةُ الله ورُوحه. أخرجه الطبري (7162) واللفظ له، وابن المنذر (543) من طريقين عن يزيد عن سعيد عن قتادة به.

ص: 89

13 -

قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)} [آل عمران: 116، 117].

هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ سبحانه وتعالى لِمَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي غَيْرِ طَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ، فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَا يُنْفِقُهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي المَكَارِمِ وَالْمَفَاخِرِ وَكَسْبِ الثَّنَاءِ وَحُسْنِ الذِّكْرِ لَا يَبْغُونَ بِهِ وَجْهَ اللهِ، وَمَا يُنْفِقُونَهُ لِيَصُدُّوا بِهِ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ عليهم الصلاة والسلام، بِالزَّرْعِ الَّذِي زَرَعَهُ صَاحِبُهُ يَرْجُو نَفْعَهُ وَخَيْرَهُ فَأَصَابَتْهُ رِيحٌ شَدِيدَةُ الْبَرْدِ جِدًّا، يُحْرِقُ بَرْدُهَا مَا يَمُرُّ عَلَيْهِ مِنْ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، فَأَهْلَكَتْ ذَلِكَ الزَّرْعَ وَأَيْبَسَتْهُ.

وَاخْتُلِفَ فِي الصِّرِّ؛ فَقِيلَ: الْبَرْدُ الشَّدِيدُ

(1)

، وَقِيلَ: النَّارُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاس

(2)

.

(1)

ورد عن ابن عباس بإسناد صحيح: أخرجه الطبري في «التفسير» (7674)، وابن أبي حاتم في «التفسير» (4074) من طرق عن هارون بن عنترة. وابن أبي حاتم أيضًا في «التفسير» (4075) من طريق أبي حميد الرؤاسي كلاهما عن عنترة بن عبد الرحمن عن ابن عباس به، وثم طرق أخر ضعيفة. أخرجها الطبري عن ابن عباس.

(2)

قال ابن الجوزي في «زاد المسير» (1/ 360): وفي الصرِّ ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه البرد. قاله الأكثرون.

والثاني: أنه النار. قاله ابن عباس. وقال ابن الأنباري: وإنما وصفت النار بأنها صر لتصريتها عند الالتهاب.

والثالث: أن الصر: التصويت؛ والحركة من الحصى والحجارة، ومنه صرير النعل، ذكره ابن الأنباري.

ص: 90

وقَالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ

(1)

: وَإِنَّمَا وُصِفَت النَّارُ أَنَّهَا صِرٌّ لِتَصْرِيَتِهَا عِنْدَ الِالْتِهَابِ، وَقِيلَ: الصِّرُّ الصَّوْتُ الَّذِي يَصْحَبُ الرِّيحَ مِنْ شِدَّةِ هُبُوبِهَا، وَالأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مُتَلَازِمَةٌ؛ فَهُوَ بَرْدٌ شَدِيدٌ مُحْرِقٌ بِيبسِهِ لِلْحَرْثِ كَمَا تُحْرِقُهُ النَّارُ، وَفِيهِ صَوْتٌ شَدِيدٌ.

وَفِي قَوْلِهِ: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ إصَابَتِهَا لِحَرْثِهِمْ هُوَ ظُلْمُهُمْ؛ فَهُوَ الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِم الرِّيحَ المَذْكُورَةَ حَتَّى أَهْلَكَتْ زَرْعَهُمْ وَأَيْبَسَتْهُ، فَظُلْمُهُمْ هُوَ الرِّيحُ الَّتِي أَهْلَكَتْ أَعْمَالَهُمْ وَنَفَقَاتِهِمْ وَأَتْلَفَتْهَا.

* * *

(1)

هو: محمد بن القاسم بن محمد أبو بكر بن الأنباري النحوي اللغوي.

قال الزبيدي: كان من أعلم الناس بالنحو والأدب، وأكثرهم حفظاً. سمع من ثعلب وخلق، وكان صدوقاً فاضلاً ديناً خيراً من أهل السنة.

توفي سنة (328) هجرية.

وذكروا في ترجمته أنه رحمه الله كان بخيلا إلى الغاية قال له أبو يوسف يوما قد أجمع أهل بغداد على بخلك فأعطني درهما أخرق به الإجماع فضحك ولم يعطه.

وانظر: «بغية الوعاة» (1/ 212)، و «البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة» (1/ 71)، و «مناهج اللغويين في تقرير العقيدة» (ص/ 360 فما بعد) ط دار المنهاج.

(101)

«إعلام الموقعين» (2/ 318 - 319).

ص: 91

‌سورة الأنعام

14 -

قال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71].

ضرب الله سبحانه وتعالى لمن لم يحصل له العلم بالحق واتباعه مثلًا مطابقًا

لحاله؛ قال سبحانه وتعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)} [الأنعام: 71]

(1)

.

* * *

(1)

«مفتاح دار السعادة» (1/ 309)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 172) ط دار المعرفة.

قال الطبري: وهذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لمن كفَر بالله بعد إيمانه، فاتبع الشياطين، من أهل الشرك بالله وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه، المقيمون على الدين الحق، يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون، والصواب الذي هم به متمسكون، وهو له مفارق وعنه زائل، يقولون له:«ائتنا فكن معنا على استقامة وهدى» ! وهو يأبى ذلك، ويتبع دواعي الشيطان، ويعبد الآلهة والأوثان.

ص: 92

15 -

قال سبحانه وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ

كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} [الأنعام: 122].

أي: أو من كان كافرًا ميت القلب مغمورًا في ظلمة الجهل، فهديناه لرشده، ووفقناه للإيمان، وجعلنا قلبه حيًّا بعد موته، مشرقًا مستنيرًا بعد ظلمته، فجعل الكافر لانصرافه عن طاعته وجهله بمعرفته وتوحيده وشرائع دينه وترك الأخذ بنصيبه من رضاه والعمل بما يؤديه إلى نجاته وسعادته، بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه، فهديناه للإسلام وأنعشناه به، فصار يعرف مضار نفسه ومنافعها، ويعمل في خلاصها من سخط الله سبحانه وتعالى وعقابه، فأبصر الحق بعد عماه عنه، وعرفه بعد جهله به، واتبعه بعد إعراضه عنه، وحصل له نور وضياء يستضيء به، فيمشي بنوره بين الناس وهم في سدف الظلام كما قيل:

ليلي بوجهك مشرق

وظلامه في الناس ساري

الناس في سدف الظلام

ونحن في ضوء النهار

(1)

* * *

(1)

«إغاثة اللهفان» (ص/ 37) ط دار ابن رجب، وانظر:«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص/ 39).

صح عن قتادة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} ، هذا المؤمن معه من الله نور وبيِّنة يعمل بها ويأخذ، وإليها ينتهي، كتابَ الله {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} ، وهذا مثل الكافر في الضلالة، متحير فيها متسكع، لا يجد مخرجًا ولا منفذًا. أخرجه الطبري (13844)، وابن أبي حاتم (7885).

ص: 93

16 -

قال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)} [الأنعام: 125، 126]

(1)

.

* فأعظم أسباب شرح الصدر:

* التوحيدُ وعلى حسب كماله، وقوته، وزيادته يكونُ انشراحُ صدر صاحبه.

- قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}

[الزمر: 22].

- وقال سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].

فالهُدى والتوحيدُ مِنْ أعظم أسبابِ شرح الصدر، والشِّركُ والضَّلال مِنْ أعظم أسبابِ ضيقِ الصَّدرِ وانحراجِه.

* ومنها: النورُ الذي يقذِفُه الله في قلب العبد، وهو نورُ الإيمان، فإنه يشرَحُ الصدر ويُوسِّعه، ويُفْرِحُ القلبَ، فإذا فُقِدَ هذا النور من قلب العبد، ضاقَ وحَرِجَ، وصار في أضيق سجنٍ وأصعبه.

(1)

قال الطبري: قوله تعالى: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} ، هذا مثل من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه، مثل امتناعه من الصُّعود إلى السماء وعجزه عنه؛ لأن ذلك ليس في وسعه.

ص: 94

وقد روى الترمذي في «جامعه» : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دَخَلَ النور القلبَ، انْفَسَحَ وانشرحَ» . قالوا: وما عَلَامَةُ ذَلِكَ يَا رسُولَ اللهِ؟ قال: «الإنَابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ، والتَجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدادُ للمَوْتِ قَبْلَ نُزوله»

(1)

.

فيُصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور، وكذلك النورُ الحِسِّي، والظلمةُ الحِسِّية، هذه تشرحُ الصدر، وهذه تُضيِّقه.

* ومنها: العلم، فإنه يشرح الصدر، ويوسِّعه حتى يكون أَوسعَ من الدنيا، والجهلُ يورثه الضِّيق والحَصْر والحبس، فكلما اتَّسع علمُ العبد، انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل عِلم، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلمُ النافع، فأهلُه أشرحُ الناس صدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأحسنهم أخلاقًا، وأطيبُهم عيشًا.

(1)

ضعيف: روي عن ابن عباس متصلًا، وفي إسناده حفص بن عمر العدني ضعيف جدًّا، أخرجه ابن أبي حاتم (3/ 108)، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه من طرق ثلاثة:

أحدها: معلة بالضعف والانقطاع.

والثانية: فيها عدي بن الفضل متروك.

الثالثة: إلى الثانية مع ضعفها أخرجها ابن جرير (13855، 13857)، والحاكم (4/ 113). وروي عن أبي جعفر عبد الله بن المسور المدائني مرسلًا، ورجحه الدارقطني في «العلل» (رقم/ 812)، وقال: عبد الله بن المسور متروك. ووافقه ابن رجب في «شرح علل الترمذي» (2/ 773): أخرجها الطبري (13852 فما بعد)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 221 - 222) وغيرهما. وفصل هذه الطرق العلامة الألباني رحمه الله في «السلسلة الضعيفة» (965).

ص: 95

* ومنها: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبتُه بكلِّ القلب، والإقبالُ عليه، والتنعُّم بعبادته، فلا شيء أشرحُ لصدر العبد من ذلك. حتى إنه ليقولُ أحيانًا: إن كنتُ في الجنة في مثل هذه الحالة، فإني إذًا في عيش طيب.

وللمحبة تأثيرٌ عجيبٌ في انشراح الصدر، وطيبِ النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا مَنْ له حِس به، وكلَّما كانت المحبَّة أقوى وأشدَّ، كان الصدرُ أفسحَ وأشرحَ، ولا يَضيق إلا عند رؤية البطَّالين الفارِغين من هذا الشأن، فرؤيتُهم قَذَى عينه، ومخالطتهم حُمَّى روحه.

* ومِنْ أعظم أَسباب ضيق الصدر: الإعراضُ عن الله سبحانه وتعالى، وتعلُّقُ القلب بغيره، والغفلةُ عن ذِكره، ومحبةُ سواه، فإن مَنْ أحبَّ شيئًا غيرَ الله عُذِّبَ به، وسُجِنَ قلبُه في محبة ذلك الغير، فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالًا، ولا أنكد عيشًا، ولا أتعب قلبًا، فهما محبتان:

محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذةُ القلب، ونعيم الروح، وغِذاؤها، ودواؤُها، بل حياتُها وقُرَّةُ عينها، وهى محبةُ الله وحدَه بكُلِّ القلب، وانجذابُ قوى الميل، والإرادة، والمحبة كلِّها إليه.

ومحبةٌ هي عذاب الروح، وغمُّ النفس، وسِجْنُ القلب، وضِيقُ الصدر، وهى سببُ الألم والنكد والعناء، وهى محبة ما سواه سبحانه.

* ومن أسباب شرح الصدر دوامُ ذِكره على كُلِّ حال، وفى كُلِّ موطن، فللذكْر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثيرٌ عجيب في ضِيقه وحبسه وعذابه.

* ومنها: الإحسانُ إلى الخَلْق ونفعُهم بما يمكنه من المال، والجاهِ، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسنَ أشرحُ الناس صدرًا، وأطيبُهم

ص: 96

نفسًا، وأنعمُهم قلبًا، والبخيلُ الذي ليس فيه إحسان أضيقُ الناسِ صدرًا، وأنكدُهم عيشًا، وأعظمُهم همًّا وغمًّا.

وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في «الصحيح» مثلًا للبخيل والمتصدِّق، كمَثَل رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، كُلَّمَا هَمَّ المُتَصَدِّقُ بِصَدَقَةٍ، اتَّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ، حَتَّى يَجُرَّ ثِيَابهُ وَيُعْفِىَ أثَرَهُ، وكُلَّمَا هَمَّ البَخِيلُ بِالصَّدَقَةِ، لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ. فهذا مَثَلُ انشِراحِ صدر المؤمن المتصدِّق، وانفساح قلبه، ومثلُ ضِيقِ صدر البخيل وانحصارِ قلبه

(1)

.

* ومنها: الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متَّسِعُ القلب، والجبانُ: أضيق الناس صدرًا، وأحصرُهم قلبًا، لا فرحة له ولا سرور، ولا لذَّة له، ولا نعيم إلا منْ جنس ما للحيوان البهيمي، وأما سرور الروح، ولذَّتُها، ونعيمُها، وابتهاجُها، فمحرَّمٌ على كل جبان، كما هو محرَّم على كل بخيلٍ، وعلى كُلِّ مُعرِض عن الله سبحانه، غافلٍ عن ذِكره، جاهلٍ به وبأسمائه سبحانه وتعالى وصفاته، ودِينه، متعلق القلبِ بغيره. وإن هذا النعيم والسرور، يصير في القبر رياضًا وجنة، وذلك الضيقُ والحصر، ينقلبُ في القبر عذابًا وسجنًا. فحال العبد في القبر. كحال القلب في الصدر، نعيمًا وعذابًا وسجنًا وانطلاقًا، ولا عبرةَ بانشراح صدر هذا لعارض، ولا بضيق صدرِ هذا لعارض، فإن العوارِضَ تزولُ بزوال أسبابها، وإنما المعوَّلُ على الصِّفة التي قامت بالقلب تُوجب انشراحه وحبسه، فهي الميزان .. والله المستعان.

(1)

أخرجه البخاري (1443)، ومسلم (1021) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 97

* ومنها: بل من أعظمها: إخراجُ دَغَلِ القَلْبِ من الصفات المذمومة التي تُوجب ضيقه وعذابه، وتحولُ بينه وبين حصول البُرء، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرحُ صدره، ولم يُخرِجْ تلك الأوصافَ المذمومة من قلبه، لم يحظَ مِنْ انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوِرَانِ على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.

* ومنها: تركُ فضولِ النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطةِ، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضولَ تستحيلُ آلامًا وغمومًا، وهمومًا في القلب، تحصُرُه، وتحبِسه، وتضيِّقهُ، ويتعذَّبُ بها، بل غالِبُ عذابِ الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا اللهُ ما أضيقُ صدر مَنْ ضرب في كل آفةٍ من هذه الآفات بسهم، وما أنكَدَ عيشَه، وما أسوأ حاله، وما أشدَّ حصرَ قلبه، ولا إله إلا الله، ما أنعمَ عيش مَنْ ضرب في كل خَصلةٍ من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همته دائرةً عليها، حائمةً حولها، فلهذا نصيب وافر مِنْ قوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13].

ولذلك نصيب وافر من قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14]. وبينهما مراتبُ متفاوتة لا يُحصيها إلا الله تبارك وتعالى.

* والمقصود: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان أكملَ الخلق في كلِّ صفة يحصُل بها انشراحُ الصدر، واتِّساعُ القلب، وقُرَّةُ العين، وحياةُ الروح، فهو أكملُ الخلق في هذا الشرح والحياة، وقُرَّةِ العين مع ما خُصَّ به من الشرح الحِسِّيِّ، وأكملُ الخلق متابعة له، أكملُهم انشراحًا ولذَّة وقُرَّة عين، وعلى حسب متابعته ينالُ العبد من انشراح صدره وقُرَّة عينه، ولذَّة روحه ما ينال، فهو صلى الله عليه وسلم في ذُروة الكمال مِنْ شرح الصدر، ورفع الذِّكْر، ووضع الوِزْر، ولأتباعه من ذلك بحسب نصيبهم من اتِّباعه .. والله المستعانُ.

ص: 98

وهكذا لأتباعه نصيبٌ من حفظ الله لهم، وعصمتِه إياهم، ودفاعِه عنهم، وإعزازه لهم، ونصرِه لهم، بحسب نصيبهم من المتابعة، فمستقِلٌّ ومستكثِر، فمَن وجد خيرًا، فليحمد الله. ومَن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه

(1)

.

* * *

(1)

«زاد المعاد» (2/ 24) ط. دار ابن رجب، وانظر:«الفوائد» (ص/ 196) ط عالم الفوائد، و «إغاثة اللهفان» (1/ 123)، و «شفاء العليل» (1/ 106) ط دار الفكر.

ص: 99

‌سورة الأعراف

17 -

قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)} [الأعراف: 57، 58]

(1)

.

فأخبر سبحانه أنهما إحياءان، وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه، ثم ذكر قياسًا آخر، أن من الأرض ما يكون أرضًا طيبةً فإذا أنزل عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها.

ومنها: ما تكون أرضًا خبيثة لا تخرج نباتها إلا نكدًا، أي: قليلًا غير منتفع به، فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة، فشبه سبحانه الوحي الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض بحصول الحياة بهذا وهذا، وشبه القلوب بالأرض إذ هي محل الأعمال، كما أن الأرض محل النبات، وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تخرج نباتها به إلا قليلًا لا ينفع، وأن القلب الذي آمن

(1)

أخرج الطبري (14790)، وابن أبي حاتم (8644) بإسناد حسن عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} ، فَذَلِكَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ، يَقُولُونَ: يَنْزِلُ المَاءُ، فَيخْرج البَلَدُ الطَّيِّبُ نَبَاتهُ بِإِذْنِ اللهِ، فَكَذَلِكَ القُلُوبُ لمَّا نَزَلَ القُرْآنُ، فَالْقَلْبُ المُؤْمِنُ آمَنَ بِهِ، وَثَبَتَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، وَقَلبُ الكَافِرِ لمَّا دَخَلَهُ الإِيمَانُ لَمْ يَتَعَلَّقْ مِنْهُ شَيْءٌ يَنْفَعُهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ مِنَ الإِيمَانِ شَيْءٌ إِلا مَا لا يَنْفَعُ، كَمَا لَمْ يَخْرُجْ هَذَا البَلَدُ إِلا مَا لَمْ يَنْفَعْ مِنَ النَّبَاتِ.

ص: 100

بالوحي وزكا عليه وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر؛ فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله وتدبره بان أثره عليه، فَشُبِّه بالبلد الطيب الذي يمرعُ ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فَيُنبت من كل زوج كريم، والمعرض عن الوحي عكسه، والله الموفق

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 258 - 259)، وانظر:«التبيان في أيمان القرآن» (ص/ 226).

قال ابن عاشور: فالمقصود من هذه الآية التّمثيل، وليسَ المقصود مجرّد تفصيل أحوال الأرض بعد نزول المطر؛ لأنّ الغرض المسوق له الكلام يجمع أمرين: العبرةَ بصنع الله، والموعظَة بما يماثل أحواله. فالمعنى: كما أنّ البلد الطّيّب يَخرج نباته سريعًا بَهِجًا عند نزول المطر، والبلد الخبيثَ لا يكاد ينبت فإن أنبت أخرج نبْتًا خبيثًا لا خير فيه

وفي تفصيل معنى الآية ما أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282)، عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا. فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَت المَاءَ. فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَت المَاءَ. فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ. فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا. وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ. وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .

ص: 101

18 -

قال سبحانه وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} [الأعراف: 175 - 177].

فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ مَنْ آتَاهُ كِتَابَه

(1)

وَعَلَّمَهُ الْعِلْمَ الَّذِي مَنَعَهُ غَيْرَهُ، فَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَآثَرَ سَخَطَ الله عَلَى رِضَاهُ، وَدُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ، وَالمَخْلُوقَ

(1)

أخرج الطبري (15404 - 15409)، وعبد الرزاق (957)، وابن أبي حاتم (9308) من طرق عن منصور والأعمش عن مسروق عن عبد الله رضي الله عنه في قوله:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} قال: رجل من بني إسرائيل يقال له: بَلْعَم بن أَبَر. وإسناده صحيح.

وأخرج الطبري (15404، 15406)، وابن أبي حاتم (9309) من طرق عن شعبة، عن يعلى بن عطاء قال: سمعت نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود قال: سمعت

عبد الله بن عمرو رضي الله عنه في هذه الآية: {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} ، قال: هو صاحبكم - يعني أمية بن أبي الصلت-. وإسناده حسن.

عَنْ قَتَادَةَ «{فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}، هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِمَنْ عَرضَ عَلَيْهِ الْهُدَى، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ وَتَرَكَهُ» . أخرجه ابن أبي حاتم (9315) بإسناد حسن.

ووجه الجمع بين هذه الأقوال: أن تحمل الآية عليها كلها، لأنها تحتملها من غير تضاد، ويكون كل قول ذكر على وجه التمثيل. والله أعلم.

ص: 102

عَلَى الْخَالِقِ؛ بِالْكَلْبِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَخْبَثِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَوْضَعِهَا قَدْرًا، وَأَخَسِّهَا نَفْسًا، وَهِمَّتُهُ لَا تَتَعَدَّى بَطْنهُ، وَأَشَدُّهَا شَرها وَحِرْصًا.

وَمِنْ حِرْصِهِ أَنَّهُ لَا يَمْشِي إلَّا وَخَطْمُهُ فِي الْأَرْضِ يَتَشَمَّمُ وَيَتَروَّحُ حِرْصًا وَشَرَهًا، وَلَا يَزَالُ يَشمُّ دُبُرَهُ دُونَ سَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَإِذَا رَمَيْت له بِحَجَرٍ رَجَعَ إلَيْهِ لِيَعَضَّهُ مِنْ فَرطِ نَهمَتَهُ، وَهُوَ مِنْ أَمْهَنِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَحْمَلِهَا لِلْهَوَانِ، وَأَرْضَاهَا بِالدَّنَايَا، وَالْجِيَفُ الْقَذِرَةُ المُرَوِّحَةُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ اللَّحْمِ الطَّرِيِّ، وَالعذْرَةُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الْحَلْوَى، وَإِذَا ظَفِرَ بِمَيْتَةٍ تَكْفِي مِائَةَ كَلْبٍ لَمْ يَدَعْ كَلْبًا يَتَنَاوَلُ معه مِنْهَا شَيْئًا إلَّا عزَّ عَلَيْهِ وَقَهَرَهُ لِحِرْصِهِ وَبُخْلِهِ وَشَرَهِهِ، وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ وَحِرْصِهِ أَنَّهُ إذَا رَأَى ذَا هَيْئَةٍ رَثَّةٍ وَثِيَابٍ دَنِيَّةٍ وَحَالٍ رزيةٍ نَبَحَهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ مُشَارَكَتَهُ لَهُ وَمُنَازَعَتَهُ فِي قوَّتِهِ، وَإِذَا رَأَى ذَا هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَثِيَابٍ جَمِيلَةٍ وَرِيَاسَةٍ وَضَعَ لَهُ خَطْمَهُ بِالْأَرْضِ، وَخَضَعَ لَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْ إلَيْهِ رَأْسَهُ.

وَفِي تَشْبِيهِ مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا وَعَاجِلَهَا عَلَى اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ مَعَ وُفُورِ عِلْمِهِ بِالْكَلْبِ فِي حَالِ لَهَثِهِ سِرٌّ بَدِيعٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَالُهُ مَا ذَكَرَهُ اللهُ مِنْ انْسِلَاخِهِ مِنْ آيَاتِهِ وَاتِّبَاعِهِ هَوَاهُ إنَّمَا كَانَ لِشِدَّةِ لَهَفِهِ عَلَى الدُّنْيَا لِانْقِطَاعِ قَلْبِهِ عَنْ اللهِ سبحانه وتعالى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ فَهُوَ شَدِيدُ اللَّهَفِ عَلَيْهَا، وَلَهَفُهُ نَظِيرُ لَهَفِ الْكَلْبِ الدَّائِمِ فِي حَالِ إزْعَاجِهِ وَتَرْكِهِ، وَاللَّهَفُ وَاللَّهَثُ شَقِيقَانِ وَأَخَوَانِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى.

قَالَ ابْنُ جُرَيْج

(1)

: الْكَلْبُ مُنْقَطِعُ الْفُؤَادِ، لَا فُؤَادَ لَهُ، إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، فَهُوَ مَثَلُ الَّذِي يَتْرُكُ الْهُدَى، لَا فُؤَادَ لَهُ، إنَّمَا فُؤَادُهُ مُنْقَطِعٌ.

(1)

أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (15485)، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في «الدر المنثور» (3/ 611) دار الفكر. بإسناد ضعيف.

ص: 103

* قُلْت: مُرَادُهُ بِانْقِطَاعِ فُؤَادِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فُؤَادٌ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ وَتَرْكِ اللَّهَثِ؛ وَهَكَذَا الَّذِي انْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لَمْ يَبْقَ مَعَهُ فُؤَادٌ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْ الدُّنْيَا وَتَرْكِ اللَّهَفِ عَلَيْهَا، فَهَذَا يَلْهَفُ على الدُّنْيَا مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَهَذَا يَلْهَثُ مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْ الْمَاءِ، فَالْكَلْبُ مِنْ أَقَلِّ الْحَيَوَانَاتِ صَبْرًا عَنْ الْمَاءِ، وَإِذَا عَطِشَ أَكَلَ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، وَإِنْ كَانَ صَبَرَ عَلَى الْجُوعِ؛ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ الْحَيَوَانَاتِ لَهَثًا، يَلْهَثُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمَاشِيًا وَوَاقِفًا، ذَلِكَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ؛ فَحَرَارَةُ الْحِرْصِ فِي كَبِدِهِ تُوجِبُ لَهُ دَوَامَ اللَّهَثِ، فَهَكَذَا مُشْبِهُهُ شِدَّةُ حَرَارَة الشَّهْوَةِ فِي قَلْبِهِ تُوجِبُ لَهُ دَوَامَ اللَّهَث، فَإِنْ حَمَلْت عَلَيْهِ الْمَوْعِظَةَ وَالنَّصِيحَةَ فَهُوَ يَلْهَفُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ وَلَمْ تَعِظْهُ فَهُوَ يَلْهَفُ.

قَالَ مُجَاهِدٌ: وَذَلِكَ مَثَلُ الَّذِي أُوتِيَ الْكِتَابَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِه

(1)

.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْهَا، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَهْتَدِ إلَى خَيْرٍ، كَالْكَلْبِ إنْ كَانَ رَابِضًا لَهَثَ وَإِنْ طُرِدَ لَهَث

(2)

.

وَقَالَ الحَسَنُ: هُوَ الْمُنَافِقُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْحَقِّ، دُعِيَ أَوْ لَمْ يُدْعَ، وُعِظَ أَوْ لَمْ يُوعَظْ، كَالْكَلْبِ يَلْهَثُ طُرِدَ أَوْ تُرِكَ

(3)

.

(1)

في إسناده مقال: أخرجه الطبري في تفسيره رقم (1584)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» رقم (9366)، ومجاهد في «تفسيره» رقم (487)، وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ كما في «الدر المنثور» (3/ 611) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد وسبق التنبيه عليها.

(2)

إسناده منقطع: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (15487)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» رقم (9335) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

قال الخليلي في «الإرشاد» (1/ 394): أجمع الحفاظ على أن ابن أبي طلحة لم يسمع التفسير من ابن عباس.

(3)

في تفسير الطبري رقم (15487): وكان الحسن يقول: هو المنافق.

ص: 104

وَقَالَ عَطَاءٌ: يَنْبَحُ إنْ حَمَلْت عَلَيْهِ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ.

وَقَالَ أَبُومُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَة

(1)

: كُلُّ شَيْءٍ يَلْهَثُ إِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ إلَّا الْكَلْبَ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الْكَلَالِ، وَحَالِ الرَّاحَةِ وَحَالِ الصِّحَّةِ وَحَالِ الْمَرَضِ وَالْعَطَشِ، فَضَرَبَهُ اللهُ مَثَلًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ. وَقَالَ: إنْ وَعَظْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ وَإِنْ تَرَكْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ كَالْكَلْبِ إنْ طَرَدْتَهُ لَهَثَ وَإِنْ تَرَكْتَهُ عَلَى حَالِهِ لَهَثَ.

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)} [الأعراف: 193].

وَتَأَمَّلْ مَا فِي هَذَا المَثَلِ مِنْ الْحِكْمِ وَالمَعْنَى

(2)

:

(1)

في «تأويل مشكل القرآن» (369).

(2)

وقال في «الفوائد» (ص/ 147 فما بعد): فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخلاف علمه.

وتأمّل ما تضمنته هذه الآية من ذمه، وذلك من وجوه:

أحدها: أنه ضل بعد العلم، واختار الكفر على الإيمان عمدًا لا جهلًا.

وثانيها: أنه فارق الإيمان مفارقة من لا يعود إليه أبدًا؛ فإنه انسلخ من الآيات بالجملة، كما تنسلخ الحية من قشرها، ولو بقي معه منها شيء، لم ينسلخ منها.

وثالثها: أن الشيطان أدركه ولحقه، بحيث ظفر به وافترسه، ولهذا قال:{فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} ، ولم يقل تبعه، فإن معنى أتبعه أدركه ولحقه، وهو أبلغ من تبعه لفظًا ومعنى.

ورابعها: أنه غوي بعد الرشد. والغي: الضلال في العلم والقصد، وهو أخص بفساد القصد والعمل كما أن الضلال أخص بفساد العلم والاعتقاد؛ فإذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، وان اقترنا فالفرق ما ذكر.

وخامسها: أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعه بالعلم فكان سبب هلاكه؛ لأنه لم يرفع به فصار وبالًا عليه، فلو لم يكن عالمًا لكان خيرًا له وأخف لعذابه. =

ص: 105

* فَمِنْهَا: قَوْلُهُ: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي آتَاهُ آيَاتِهِ، فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ، فَأَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ:{فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أَيْ: خَرَجَ مِنْهَا كَمَا تَنْسَلِخُ الْحَيَّةُ مِنْ جِلْدِهَا، وَفَارَقَهَا فِرَاقَ الْجِلْدِ ينسلخُ عَنْ اللَّحْمِ، وَلَمْ يَقُلْ: فَسَلَخْنَاهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ إلَى انْسِلَاخِهِ مِنْهَا بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ.

= وسادسها: أنه سبحانه أخبر عن خسة همته، وأنه اختار الأسفل الأدنى على الأشرف الأعلى.

وسابعها: أن اختياره للأدنى لم يكن عن خاطر وحديث نفس، ولكنه كان عن إخلاد إلى الأرض، وميل بكليّته إلى ما هناك، وأصل الإخلاد اللزوم على الدوام، كأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض، ومن هذا يقال: أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به، قال مالك بن نويرة:

بأبناء حي من قبائل مالكٍ

وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا

وعبّر عن ميله إلى الدنيا بإخلاده إلى الأرض؛ لأن الدنيا هي الأرض وما فيها

وما يستخرج منها من الزينة والمتاع.

وثامنها: أنه رغب عن هداه، واتبع هواه، فجعل هواه إمامًا له، يقتدي به ويتبعه.

وتاسعها: أنه شبهه بالكلب الذي هو أخس الحيوانات همة، وأسقطها نفسًا، وأبخلها وأشدها كَلَبًا، ولهذا سمي كلبًا.

وعاشرها: أنه شبه لهثه على الدنيا، وعدم صبره عنها، وجزعه لفقدها، وحرصه على تحصيلها، بلهث الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد، وهكذا. هذا إن ترك فهو لَهْثَانُ على الدنيا، وإن وعظ وزجر فهو كذلك. فاللهث لا يفارقه في كل حال كلهث الكلب.

وهذا التمثيل لم يقع بكل كلب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وذلك أخس ما يكون وأشنعه.

ص: 106

* وَمِنْهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أَيْ: لَحِقَهُ وَأَدْرَكَهُ، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ:{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] وَكَانَ مَحْفُوظًا مَحْرُوسًا بِآيَاتِ الله، مَحْمِيَّ الْجَانِبِ بِهَا مِنْ الشَّيْطَانِ، لَا يَنَالُ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا عَلَى غِرَّةٍ وَخَطْفَةٍ، فَلَمَّا انْسَلخ مِنْ آيَاتِ الله ظَفِرَ بِهِ الشَّيْطَانُ ظَفْرَ الْأَسَدِ بِفَرِيسَتِهِ، فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ الْعَامِلِينَ بِخِلَافِ علمهِم، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ، كَعُلَمَاءِ السُّوءِ.

* وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرِّفْعَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَإِيثَارِهِ وَقَصْدِ مَرْضَاةِ اللهِ، فَإِنَّ هَذَا كان مِنْ أَعْلَمْ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ اللهُ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَنْفَعْهُ بِهِ فَنَعُوذُ بِاَللهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ عَبْدَهُ إذَا شَاءَ بِمَا آتَاهُ مِنْ الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ اللهُ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لَا يَرْفَعُ أَحَدًا بِهِ رَأْسًا، فَإِنَّ الْخَافِضَ الرَّافِعَ الله سُبْحَانَهُ خَفَضَهُ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَالمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا فَضَّلْنَاهُ وَشَرَّفْنَاهُ وَرَفَعْنَا قَدْرَهُ وَمَنْزِلَتَهُ بِالْآيَاتِ الَّتِي آتَيْنَاهُ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ} بعلمه {بِهَا}

(1)

.

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {لَرَفَعْنَاهُ} عَائِدٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَالمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَا عَنْهُ الْكُفْرَ بِمَا مَعَهُ مِنْ آيَاتِنَا.

قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: لَرَفَعْنَا عَنْهُ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَعَصَمْنَاهُ

(2)

وَهَذَا المَعْنَى حَقٌّ، وَالْأَوَّلُ هُوَ مُرَادُ الْآيَةِ، وَهَذَا مِنْ لَوَازِمِ المُرَادِ.

(1)

إسناده منقطع: أخرجه الطبري في «تفسيره» رقم (15474) عن ابن جريج قال: قال ابن عباس. وابن جريج لم يسمع من ابن عباس.

(2)

في إسناده مقال: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (15475)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» رقم (9324)، ومجاهد في «تفسيره» رقم (487) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لدفعنا عنه.

ص: 107

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ كَثِيرًا مَا يُنَبِّهُونَ عَلَى لَازِمِ مَعْنَى الْآيَةِ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ المُرَادُ مِنْهَا.

وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} .

قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رَكَنَ إلَى الْأَرْض

(1)

.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سَكَنَ

(2)

.

وَقَالَ مُقَاتِلٌ: رَضِيَ بِالدُّنْيَا.

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَزِمَهَا وَأَبْطَأَ، وَالمُخْلِدُ مِنْ الرِّجَالِ: هُوَ الَّذِي تبطِئُ مِشْيَتَهُ، وَمِنْ الدَّوَابِّ: الَّذي تَبْقَى ثَنَايَاهُ إلَى أَنْ تَخْرُجَ رَبَاعِيَّتُهُ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خَلَدَ وَأَخْلَدَ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْخُلُودِ وَهُوَ الدَّوَامُ وَالْبَقَاءُ، وَيُقَالُ: أَخْلَدَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ، إذَا أَقَامَ بِه

(3)

.

قَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ:

بِأَبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قَبَائِل مَالِكٍ

وَعَمْر بْن يَرْبُوع أَقَامُوا فأَخْلَدُوا

(4)

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (15479، 15478)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» رقم (9327) بإسنادين في أحدهما ابن وكيع، وفي الآخر شريك، وكلاهما ضعيف.

(2)

في إسناده مقال: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (15480)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» رقم (9326) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.

(3)

انظر: هذا وما قبله في «تفسير البغوي» (2/ 176).

(4)

انظر: «الأصمعيات» (1/ 25).

ص: 108

* قُلْت: وَمِنْهُ قَوْله سبحانه وتعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] أَيْ: قَدْ خُلِقُوا لِلْبَقَاءِ؛ لِذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُونَ وَلَا يَبيدون، وَهُمْ عَلَى سِنٍّ وَاحِدٍ أَبَدًا.

وَقِيلَ: هُمْ المُقَرَّطُونَ فِي آذَانِهِمْ وَالمُسَوَّرُونَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فَسَّرُوا اللفظة بِبَعْضِ لَوَازِمِهَا، وَذَلِكَ إشارَةٌ إلى التَّخْلِيدِ عَلَى ذَلِكَ السِّنِّ، فَلَا تنَافِي بين الْقَوْلَيْنِ.

وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} .

قَالَ الْكَلْبِيُّ: اتَّبَعَ مَسَافِلَ الْأُمُورِ وَتَرَكَ مَعَالِيَهَا.

وَقَالَ أَبُو رَوق

(1)

: اخْتَارَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ.

وَقَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ الدُّنْيَا وَأَطَاعَ شَيْطَانَهُ.

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ هَوَاهُ مَعَ الْقَوْم

(2)

يَعْنِي: الَّذِينَ حَارَبُوا مُوسَى عليه الصلاة والسلام وَقَوْمَهُ.

وَقَالَ يَمَانٌ: اتَّبَعَ امْرَأَتَهُ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي حَمَلَتْهُ عَلَى مَا فعلَه

(3)

.

* فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِدْرَاكُ بِلَكِنَّ يَقْتَضِي أَنْ يُثْبِتَ بَعْدَهَا نَفي مَا قَبْلَهَا، أَوْ يَنْفِيَ مَا أَثْبَتَ، كَمَا تَقُولُ: لَوْ شِئْت لَأَعْطَيْتُهُ لَكِنِّي لَمْ أُعْطِهِ، وَلَوْ شِئْت لَمَا فَعَلْت كَذَا لَكِنِّي فَعَلْتُهُ؛ فَالِاسْتِدْرَاكُ يَقْتَضِي: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ أَوْ فلَمْ نَرْفَعْ، ولكنه

(1)

اسمه عطية بن الحارث الكوفي صاحب التفسير، صدوق من الطبقة الخامسة.

(2)

صحيح إلى ابن زيد: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (15483)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» رقم (9332) وابن زيد ضعيف.

(3)

ذكر هذه الأقوال الثعالبي في تفسيره (3/ 97) ط دار الكتب العلمية.

ص: 109

أخلد، فَكَيْفَ اسْتَدْرَكَ بِقَوْلِهِ:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} ؟

* قِيلَ: هَذَا مِنْ الْكَلَامِ المَلْحُوظِ فِيهِ المَعْنَى المَعْدُولِ فِيهِ عَنْ مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ إلَى المَعَانِي، وَذَلِكَ أَنَّ مَضْمُونَ قَوْلِهِ:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أَنَّهُ لَمْ يَتَعَاطَ الْأَسْبَابَ الَّتِي تَقْتَضِي رَفْعَهُ بِالْآيَاتِ مِنْ إيثَارِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَلَكِنَّهُ آثَرَ الدُّنْيَا وَأَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ

(1)

: المَعْنَى: وَلَوْ لَزِمَ آيَاتِنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا، فَذَكَرَ المَشِيئَةَ وَالمُرَادُ مَا هِيَ تَابِعَةٌ لَهُ وَمُسَبَّبَةٌ عَنْهُ.

قَالَ: أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ} فَاسْتَدْرَكَ الْمَشِيئَةَ بِإِخْلَادِهِ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ تكُونَ {وَلَوْ شِئْنَا} فِي مَعْنَى مَا هُوَ فِعْلُهُ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ، وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأْ.

فَهَذَا مِنْهُ شِنْشِنَةٌ تعْرِفُهَا مِنْ قَدَرِيٍّ نَافٍ للْمَشِيئَةِ الْعَامَّةِ مُبْعِدٍ لِلنُّجْعَةِ فِي جَعْلِ كَلَامِ اللهِ مُعْتَزِلِيًّا قَدَرِيًّا، فَأَيْنَ قَوْلُهُ:{وَلَوْ شِئْنَا} مِنْ قَوْلِهِ: «وَلَوْ لَزِمَهَا» ثُمَّ إذَا كَانَ الملزُومُ لَهَا مَوْقُوفًا عَلَى مَشِيئَةِ اللهِ وَهُوَ الْحَقُّ بَطَلَ أَصْلُهُ.

وَقَوْلُهُ: «إنَّ مَشِيئَةَ الله تَابِعَةٌ لِلُزُومِهِ الْآيَاتِ» مِنْ أَفْسَدِ الْكَلَامِ وَأَبْطَلِهُ، بَلْ لُزُومُهُ لِآيَاتِهِ تَابِعة لِمَشِيئَةِ الله عز وجل، فَمَشِيئَةُ اللهِ سُبْحَانَهُ مَتْبُوعَةٌ، لَا تَابِعَةٌ،

(1)

«تفسيره» (2/ 172) والزمخشري هو: أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد، كبير المعتزلة، وقد نظم أبياتًا يمدح فيها كشافه، وانظر: ردًّا مفحمًا على «الكشاف» لابن أبي جمرة في «لسان الميزان» (7/ 63).

ص: 110

وَسَبَبٌ لَا مُسَبّبٌ، وَمُوجِبٌ مُقْتَضي لَا مُقْتَضًى، فَمَا شاءَ اللهُ وَجَبَ وُجُودُهُ، وَمَا لَمْ يَشَأْ امْتَنَعَ وُجُودُهُ

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 289 - 296).

ص: 111

‌سورة يونس

19 -

قَال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24]

(1)

.

شَبَّهَ سُبْحَانَهُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فِي أَنَّهَا تَتَزَيَّنُ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ فَتَرُوقُهُ بِزِينَتِهَا وَتُعْجِبُهُ فَيَمِيلُ إلَيْهَا وَيَهْوَاهَا اغْتِرَارًا مِنْهُ بِهَا، حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ مَالِكٌ لَهَا قَادِرٌ عَلَيْهَا سُلِبَهَا بَغْتَةً أَحْوَجَ مَا كَانَ إلَيْهَا، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. فَشَبَّهَهَا بِالْأَرْضِ التي يَنْزِلُ الْغَيْثُ عَلَيْهَا فَتُعْشِبُ، وَيَحْسُنُ نَبَاتُهَا، وَيَرُوقُ مَنْظَرُهَا لِلنَّاظِرِ، فَيَغْتَرَّ بِهِ، وَيَظُنَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا، مَالِكٌ لَهَا، فَيَأْتِيهَا أَمْرُ الله فَتُدْرِكُ نَبَاتَهَا الْآفَةُ بَغْتَةً، فَتُصْبِحُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ قَبْلُ، فَيَخِيبُ ظَنُّهُ، وَتُصْبِحُ يَدَاهُ صفرًا مِنْهَا، فَهكَذَا حَالُ الدُّنْيَا وَالْوَاثِقُ بِهَا سَوَاءٌ؛ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ التَّشْبِيهِ وَالْقِيَاسِ.

وَلَمَّا كَانَتْ الدُّنْيَا عُرْضَةً لِهَذِهِ الْآفَاتِ، وَالْجَنَّةُ سَلِيمَةً مِنْهَا قَالَ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى

ص: 112

دَارِ السَّلَامِ} فَسَمَّاهَا هُنَا دَارَ السَّلَامِ لِسَلَامَتِهَا مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الدُّنْيَا، فَعَمَّ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهَا، وَخَصَّ بِالْهِدَايَةِ مَنْ شَاءَ، فَذَاكَ عَدْلُهُ وَهَذَا فَضْلُهُ

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 274)، وانظر:«عدة الصابرين» (ص/ 334).

ص: 113

‌سورة هود

20 -

قال سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)} [هود: 24]

(1)

.

فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْكُفَّارَ، وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ.

ثُمَّ ذَكَرَ المُؤْمِنِينَ، وَوَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْإِخْبَاتِ إلَى رَبِّهِمْ، فَوَصَفَهُمْ بِعُبُودِيَّةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، جَعَلَ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ مِنْ حَيْثُ كَانَ قَلْبُهُ أَعْمَى عَنْ رُؤْيَةِ الْحَقِّ أَصَمَّ عَنْ سَمَاعِهِ؛ فشبه بِمَنْ بَصَرُهُ أَعْمَى عَنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ، وَسَمْعُهُ أَصَمُّ عَنْ سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ بَصِيرُ الْقَلْبِ سَمِيعُهُ، كَبَصِيرِ الْعَيْنِ وَسَمِيعِ الْأُذُنِ؛ فَتَضَمَّنَت الْآيَةُ قِيَاسَيْنِ وَتَمْثِيلَيْنِ لِلْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ نَفَى التَّسْوِيَةَ عَنْ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ:{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}

(2)

.

(1)

أخرج الطبري في «تفسيره» (6/ 4319) ط دار السلام:

عن قتادة بإسناد حسن: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} الآية، هذا مثلٌ ضربه الله للكافر والمؤمن، فأما الكافر فصم عن الحق، فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره. وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به، وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به.

(2)

«إعلام الموقعين» (2/ 275) ط ابن الجوزي. وانظر: مسألة تقديم السمع على البصر في «بدائع الفوائد» (1/ 123 - 130) ط عالم الفوائد.

ص: 114

‌سورة الرعد

21 -

قال سبحانه وتعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)} [الرعد: 14].

قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} ، أنه سبحانه وتعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته، وإن لم يوجب لداعيه بها ثوابًا؛ فإنه يستحقها لذاته؛ فهو أهل أن يعبد وحده، ويدعى وحده، ويقصد ويشكر ويحمد، ويحب ويرجى ويخاف، ويتوكل عليه ويستعان به، ويستجار به، ويلجأ إليه، ويصمد إليه، فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده

(1)

.

* * *

(1)

«مدارج السالكين» (2/ 209).

قال الشيخ عطية سالم في «تكملة أضواء البيان» (8/ 66) ط دار الفكر: قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد: 14]، فلو نظرت إلى مثل هذا الشخص على هذه الحالة، وفي تلك الصورة بكل أجزائها، وهو باسط يده مفرجة الأصابع إلى ماء بعيد عنه، وهو فاغر فاه ليشرب، لقلت: وأي جدوى تعود عليه؟ ومتى يذوق الماء وهو على تلك الحالة؟ إنه يموت عطشًا، ولا يذوق منه قطرة، وكذلك حال من يدعو غير الله مع ما يدعوهم من دونه لا يحصل على طائل كقوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)} [العنكبوت: 41]، فأي غناء لإنسان في بيت العنكبوت.

ص: 115

(1)

أخرج الطبري (20319) بسند حسن: عن قتادة قوله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} ، الصغير بصغره، والكبير بكبره {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} أي عاليًا {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} و «الجفاء»: ما يتعلق بالشجر {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} .

هذه ثلاثة أمثال ضربَها الله في مثلٍ واحد. يقول: كما اضمحلّ هذا الزبد فصار جُفاءً لا ينتفع به ولا تُرْجى بركته، كذلك يضمحلّ الباطل عن أهله كما اضمحل هذا الزبد، وكما مكث هذا الماء في الأرض، فأمرعت هذه الأرض وأخرجت نباتها، كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي هذا الماء في الأرض، فأخرج الله به ما أخرج من النبات.

قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} الآية، كما يبقى خالص الذهب والفضة حين أدخل النار وذهب خَبَثه، كذلك يبقى الحق لأهله.

قوله: {أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} ، يقول: هذا الحديد والصُّفْر الذي ينتفع به فيه منافع. يقول: كما يبقى خالص هذا الحديد وهذا الصُّفر حين أدخل النار وذهب خَبَثه، كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي خالصهما.

وأخرج الطبري أيضاً (20322)، بإسناد صحيح إلى ابن زيد: في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} ، قال: هذا مثل ضربه الله للحق والباطل. فقرأ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} .

{أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} ، هذا لا ينفع أيضًا قال: وبقي الماءُ في الأرض فنفع الناس، وبقي الحَلْيُ الذي صلح من هذا، فانتفع الناس به.

{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} ، وقال: هذا مثل ضربه الله للحق والباطل.

ص: 116

شَبَّهَ الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلَهُ لِحَيَاةِ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ بِالمَاءِ الَّذِي أَنْزَلَهُ لِحَيَاةِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ.

وَشَبَّهَ الْقُلُوبَ بِالْأَوْدِيَةِ، فَقَلْبٌ كَبِيرٌ يَسَعُ عِلْمًا عَظِيمًا كَوَادٍ كَبِيرٍ يَسَعُ مَاءً كَثِيرًا وَقَلْبٌ صَغِيرٌ إنَّمَا يَسَعُ بحسبه كَالْوَادِي الصَّغِيرِ، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، وَاحْتَمَلَتْ قُلُوبٌ مِنْ الْهُدَى وَالعِلم بِقَدَرِهَا؛ وَكَمَا أَنَّ السَّيْلَ إذَا خَالَطَ الْأَرْضَ وَمَرَّ عَلَيْهَا احْتَمَلَت غُثَاءً وَزَبَدًا فَكَذَاكَ الْهُدَى وَالْعِلْمُ إذَا خَالَطَ الْقُلُوبَ أَثَارَ مَا فِيهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ لِيَقْلَعَهَا وَيُذْهِبَهَا، كَمَا يُثِيرُ الدَّوَاءُ وَقْتَ شُرْبِهِ مِنْ الْبَدَنِ أَخْلَاطَهُ فَيَتَكَدَّرُ بِهَا شَارِبُهُ، وَهِيَ مِنْ تَمَامِ نَفْعِ الدَّوَاءِ، فَإِنَّهُ أَثَارَهَا لِيذهَب بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُجَامِعُهَا وَلَا يُساكنها؛ وَهَكَذَا {يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}

(1)

.

(1)

وأخرج البخاري في صحيحه رقم (79)، ومسلم رقم (2282) عَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .

قال في «الوابل الصيب» :

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة إلى الهدى والعلم ثلاث طبقات:

الطبقة الأولى: ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم الذين قاموا بالدين علمًا وعملًا ودعوة إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أتباع الرسل صلوات الله عليهم وسلامه حقًّا، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت في نفسها، وزكا الناس بها.

وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة؛ ولذلك كانوا =

ص: 117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ورثة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم الذين قال تعالى فيهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} [ص: 45] فالأيدي: القوة في أمر الله، والأبصار: البصائر في دين الله عز وجل، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوى يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه، فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين، والبصر بالتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهمًا خاصًّا، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل-: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه.

فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن:

الطبقة الثانية: فإنها حفظت النصوص، وكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها منهم، فاستنبطوا منها، واستخرجوا كنوزها، واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، فاستخرجوا غوامضها وأسرارها، ووردها كل بحسبه {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} .

وهؤلاء هم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» .

وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، مقدار ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ نحو العشرين حديثًا الذي يقول فيه:«سمعت» و «رأيت» ، وسمع الكثير من الصحابة، وبورك في فهمه والاستنباط منه حتى ملأ الدنيا علمًا وفقهًا.

قال أبو محمد بن حزم: وجمعت فتاويه في سبعة أسفار كبار.

وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا فعلم ابن عباس كالبحر وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمع كما سمعوا، وحفظ القرآن كما حفظوا، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص، فأنبتت من كل زوج كريم:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . =

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأين تقع فتاوى ابن عباس، وتفسيره، واستنباطه، من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟! وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق، يؤدي الحديث كما سمعه، ويدرسه بالليل درسًا، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط، وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها، واستخراج كنوزها.

وهكذا الناس بعده قسمان:

قسم حفاظ: معتنون بالضبط، والحفظ، والأداء، كما سمعوا، ولا يستنبطون ولا يستخرجون كنوز ما حفظوه.

وقسم معتنون بالاستنباط واستخراج الأحكام من النصوص، والتفقه فيها.

فالأول كأبي زرعة، وأبي حاتم، وابن وارة.

وقبلهم: كبندار محمد بن بشار، وعمرو الناقد، وعبد الرزاق.

وقبلهم: كمحمد بن جعفر غندر، وسعيد بن أبي عروبة، وغيرهم من أهل الحفظ والإتقان والضبط لما سمعوه، من غير استنباط وتصرف، واستخراج الأحكام من ألفاظ النصوص.

والقسم الثاني: كمالك، والليث، وسفيان، وابن المبارك، والشافعي، والأوزاعي، وإسحاق، والإمام أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبي داود، ومحمد بن نصر المروزي، وأمثالهم ممن جمع الاستنباط والفقه إلى الرواية.

فهاتان الطائفتان هما أسعد الخلق بما بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قبلوه ورفعوا به رأسًا.

وأما الطائفة الثالثة: وهم أشقى الخلق، الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأسًا، فلا حفظ، ولا فهم، ولا رواية، ولا دراية، ولا رعاية.

فالطبقة الأولى: أهل رواية ودارية.

والطبقة الثانية: أهل رواية ورعاية، ولهم نصيب من الدراية، بل حظهم من الرواية أوفر. =

ص: 119

ثُمَّ ذَكَرَ المَثَلَ النَّارِيَّ فَقَالَ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وَهُوَ الْخَبَثُ الَّذِي يَخْرُجُ عِنْدَ سَبْكِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ، فَتُخْرِجُهُ النَّارُ وَتُمَيِّزُهُ وَتَفْصِلُهُ عَنْ الْجَوْهَرِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ فَيُرْمَى وَيُطْرَحُ وَيَذْهَبُ جُفَاءً؛ فَكَذَلِكَ الشَّهَوَاتُ وَالشُّبُهَاتُ يَرْمِيهَا قَلْبُ المُؤْمِنِ وَيَطْرَحُهَا وَيَجْفُوهَا كَمَا يَطْرَحُ السَّيْلُ وَالنَّارُ ذَلِكَ الزَّبَدَ وَالْغُثَاءَ وَالْخَبَثَ، وَيَسْتَقِرُّ فِي قَرَارِ الْوَادِي المَاءُ الصَّافِي الَّذِي يَسْتَقِي مِنْهُ النَّاسُ وَيَزْرَعُونَ وَيَسْقُونَ أَنْعَامَهُمْ، كَذَلِكَ يَسْتَقِرُّ فِي قَرَارِ الْقَلْبِ وجذره الْإِيمَانُ الْخَالِصُ الصَّافِي الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ؛ وَمَنْ لَمْ

= والطبقة الثالثة: الأشقياء، لا رواية، ولا دراية، ولا رعاية، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} فهم الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، إن همة أحدهم إلا بطنه وفرجه، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه مع ذلك في لباسه وزينته، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه فوق ذلك كان في داره وبستانه ومركوبه، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه في الرياسة والانتصار للنفس الكلبية، فإن ارتفعت همته عن نصرة النفس الكلبية، كان همه في نصرة النفس السبعية، وأما النفس الكلبية فلم يعطها أحد من هؤلاء.

فإن النفوس ثلاثة: كلبية، وسبعية، وملكية.

فالكلبية: تقنع بالعظم، والكسرة، والجيفة، والعذرة.

والسبعية: لا تقنع بذلك، بل بقهر النفوس، والاستعلاء عليها بالحق والباطل.

وأما الملكية: فقد ارتفعت عن ذلك، وشمرت إلى الرفيق الأعلى، فهمتها العلم والإيمان، ومحبة الله تعالى، والإنابة إليه، والطمأنينة به، والسكون إليه، وإيثار محبته ومرضاته، وإنما تأخذ من الدنيا ما تأخذه لتستعين به على الوصول إلى فاطرها وربها ووليها، لا لتنقطع به عنه.

ص: 120

يَفْقَهْ هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُمَا وَيَعْرِفْ مَا يُرَادُ مِنْهُمَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِمَا، وَاللهُ المُوَفِّقُ

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 273 - 274)، وانظر:«مفتاح دار السعادة» (1/ 249 - 250، 407)، و «الوابل الصيب» (ص/ 133، 143).

ص: 121

(1)

أوردها العلامة ابن القيم رحمه الله في «حادي الأرواح» الباب الثامن والأربعون «في ذكر طعام أهل الجنة

».

قال ابن كثير رحمه الله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: صفتها ونعتها، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: سارحة في أرجائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها، يفجرونها تفجيرًا، أي: يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا، كما قال تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} [محمد: 15]. وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} أي: فيها المطاعم والفواكه والمشارب، لا انقطاع [لها] ولا فناء.

وفي الصحيحين، من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا، ثم رأيناك تَكعْكعت فقال:«إني رأيت الجنة -أو: أريت الجنة -فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا» .

وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأكل أهل الجنة ويشربون، ولا يمتخطون ولا يتغوّطون ولا يبولون، طعامهم جُشَاء كريح المسك، ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس» . رواه مسلم.

وقد قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} [الواقعة: 32، 33].

وقال: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14].

وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} [النساء: 57].

وفي الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة، يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها» ، ثم قرأ:{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)}

[الواقعة: 30]. =

ص: 122

‌سورة إبراهيم

24 -

قال سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ

فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)} [إبراهيم: 18].

فَشَبَّهَ سبحانه وتعالى أَعْمَالَ الْكُفَّارِ فِي بُطْلَانِهَا وَعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِرَمَادٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ؛ فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَهُمْ فِي حُبُوطِهَا وَذَهَابِهَا بَاطِلًا كَالْهَبَاءِ المَنْثُورِ لِكَوْنِهَا عَلَى غَيْرِ أَسَاس مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، وَكَوْنِهَا لِغَيْرِ اللهِ عز وجل وَعَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ: بِرَمَادٍ طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ الْعَاصِفُ فَلَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ وَقْتَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ؛ فَكذَلِكَ قَالَ: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} لَا يَقْدِرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا كَسَبُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَلَى شَيْءٍ، فَلَا يَرَوْنَ لَها أَثَرًا مِنْ ثَوَابٍ وَلَا فَائِدَةٍ نَافِعَةٍ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ، مُوَافِقًا لِشَرْعِهِ.

وَالْأَعْمَالُ أَرْبَعَةٌ، فَوَاحِدٌ مَقْبُولٌ وَثَلَاثُةٌ مَرْدُودَةٌ؛ فَالمَقْبُولُ الْخَالِصُ الصَّوَابُ، فَالْخَالِصُ: أَنْ يَكُونَ لِلهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَالصَّوَابُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا شَرَعَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالثَّلَاثَةُ المَرْدُودَةُ مَا خَالَفَ ذَلِكَ.

= وكثيرًا ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار، ليرغب في الجنة ويحذّر من النار؛ ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر، قال بعده:{تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}

[الحشر: 20]. انتهى مختصرًا.

ص: 123

وَفِي تَشْبِيهِهَا بِالرَّمَادِ سِرٌّ بَدِيعٌ، وَذَلِكَ لِلتَّشَابُهِ الَّذِي بَيْنَ أَعْمَالِهِمْ وَبَيْنَ الرَّمَادِ فِي إحْرَاقِ النَّارِ وَإِذْهَابِهَا لِأَصْلِ هَذَا وَهَذَا، فَكَانَت الْأَعْمَالُ الَّتِي لِغَيْرِ اللهِ عز وجل وَعَلَى غَيْرِ مُرَادِهِ طُعْمَةً لِلنَّارِ، وَبِهَا تُسْعَرُ النَّارُ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَيُنْشِئُ اللهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِم الْبَاطِلَةِ نَارًا وَعَذَابًا، كَمَا يُنْشِئُ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ المُوَافِقَةِ لِأَمْرِهِ الَّتِي هِيَ خَالِصَةٌ لِوَجْهِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ نَعِيمًا وَروحًا، فَأَثَّرَت النَّارُ فِي أَعْمَالِ أُولَئِكَ حَتَّى جَعَلَتْهَا رَمَادًا، فَهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وقُودُ النَّارِ

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 297 - 298).

ص: 124

25 -

قَال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} [إبراهيم: 24، 25].

فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ تُثْمِرُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَالشَّجَرَةَ الطَّيِّبَةَ تُثْمِرُ الثَّمَرَ النَّافِعَ.

وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، فَإِنَّهَا تُثْمِرُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ مَرضِيٍّ لله عز وجل ثَمَرَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.

وَفِي تَفْسِيرِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: {كَلِمَةً طَيِّبَةً} ، شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، و {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} وَهُوَ الْمُؤْمِنُ، {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} ، قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} يَقُولُ: يُرْفَعُ بِهَا عَمَلُ الْمُؤْمِنِ إلَى السَّمَاء

(1)

.

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {كَلِمَةً طَيِّبَةً} هَذَا مَثَلُ الْإِيمَانِ؛ والْإِيمَانُ الشَّجَرَةُ الطَّيِّبَة

(2)

.

وَأَصْلُهَا الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ الْإِخْلَاصُ فِيهِ، وَفَرْعُهُ فِي السَّمَاءِ خَشْيَةُ الله.

(1)

إسناده منقطع: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (20448) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ولم يسمع منه.

(2)

إسناده ضعيف: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (20449) من طريق عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع به، وعبد الله بن أبي جعفر متكلم فيه، وهو ضعيف في أبيه خاصة، قاله ابن حبان.

ص: 125

وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ وَأَحْسَنُ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ شَبَّهَ شَجَرَةَ التَّوْحِيدِ فِي الْقَلْبِ بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الثَّابِتَةِ الْأَصْلِ الْبَاسِقَةِ الْفَرْعِ فِي السَّمَاءِ عُلُوًّا، الَّتِي لَا تَزَالُ تُؤْتِي ثَمَرَتَهَا كُلَّ حِينٍ، وَإِذَا تَأَمَّلْت هَذَا التَّشْبِيهَ رَأَيْتَهُ مُطَابِقًا لِشَجَرَةِ التَّوْحِيدِ الثَّابِتَةِ الرَّاسِخَةِ فِي الْقَلْبِ، الَّتِي فُرُوعُهَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ صَاعِدَةٌ إلَى السَّمَاءِ، وَلَا تَزَال هَذِهِ الشَّجَرَةُ تُثْمِرُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّ وَقْتٍ؛ بِحَسْبِ ثَبَاتِهَا فِي الْقَلْبِ، وَمَحَبَّةِ الْقَلْبِ لَهَا، وَإِخْلَاصِهِ فِيهَا، وَمَعْرِفَتِهِ بِحَقِيقَتِهَا، وَقِيَامِهِ بِحقِّهَا، وَمُرَاعَاتِهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَمَنْ رَسَخَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي قَلْبِهِ بِحَقِيقَتِهَا الَّتِي هِيَ حَقِيقَتُهَا وَاتَّصَفَ قَلْبُهُ بِهَا، وَانْصَبَغَ بِهَا بِصِبْغَةِ الله

(1)

الَّتِي لَا أَحْسَنَ صِبْغَةً مِنْهَا، فَعَرَفَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يُثْبِتُهَا قَلْبُهُ لله وَيَشْهَدُ بِهَا لِسَانُهُ وَتُصَدِّقُهَا جَوَارِحُهُ، وَنَفَى تِلْكَ الْحَقِيقَة وَلَوَازِمَهَا عَنْ كُلِّ مَا سِوَى الله عز وجل، وَوَاطَأَ قَلْبُهُ لِسَانَهُ فِي هَذَا النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَانْقَادَتْ جَوَارِحُهُ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ طَائِعَةً سَالِكَةً سُبُلَ رَبِّهِ ذُلُلًا غَيْرَ نَاكِبَةٍ عَنْهَا وَلَا بَاغِيَةٍ سِوَاهَا بَدَلًا، كَمَا لَا يَبْتَغِي الْقَلْبُ سِوَى مَعْبُودِهِ الْحَقِّ بَدَلًا.

فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ عَلَى هَذَا اللِّسَانِ لَا تَزَالُ تُؤْتِي ثَمَرَتَهَا مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الصَّاعِدِ إلَى الله كُلَّ وَقْتٍ؛ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي رَفَعَتْ هَذَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ إلَى الرَّبِّ سبحانه وتعالى، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ تُثْمِرُ كَلِمًا كَثِيرًا طَيِّبًا يُقَارِنُهُ عَمَلٌ صَالِحٌ فَيَرْفَعُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَرْفَعُ الْكَلِمَ

ص: 126

الطَّيِّبَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ تُثْمِرُ لِقَائِلِهَا عَمَلًا صَالِحًا كُلَّ وَقْتٍ.

* وَالمَقْصُودُ: أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ إذَا شَهِدَ المُؤْمِنُ بِهَا عَارِفًا بِمَعْنَاهَا وَحَقِيقَتِهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مُتَّصِفًا بِمُوجَبِهَا قَائِمًا قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَجَوَارِحُهُ بِشَهَادَتِهِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الَّتِي رَفَعَتْ هَذَا الْعَمَلَ مِنْ هَذَا الشَّاهِدِ، أَصْلُهَا ثَابِتٌ رَاسِخٌ فِي قَلْبِهِ، وَفُرُوعُهَا مُتَّصِلَةٌ بِالسَّمَاءِ، وَهِيَ مُخْرِجَةٌ لِثَمَرَتِهَا كُلَّ وَقْتٍ.

وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ قَالَ: إنَّ الشَّجَرَةَ الطَّيِّبَةَ هِيَ النَّخْلَةُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الصَّحِيحُ

(1)

.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ المُؤْمِنُ نَفْسهُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي عَمِّي حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} يَعْنِي بِالشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ المُؤْمِنَ، وَيَعْنِي بِالْأَصْلِ الثَّابِتِ فِي الْأَرْضِ وَالْفَرْعِ فِي السَّمَاءِ يَكُونُ المُؤْمِنُ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ وَيَتَكَلَّمُ فَيَبْلُغُ عَمَلُهُ وَقَوْلُهُ السَّمَاءَ وَهُوَ فِي الْأَرْض

(2)

.

وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ فِي {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} : ذَلِكَ مَثَلُ المُؤْمِنِ، لَا يَزَالُ يَخْرُجُ مِنْهُ كَلَامٌ طَيِّبٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ يَصْعَدُ إلَى الله

(3)

.

(1)

صحيح: أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (61)، ومسلم برقم (2811).

(2)

إسناده مسلسل بالضعفاء: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (20451).

(3)

إسناده ضعيف: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (20452) من طريق فضيل بن مرزوق عنه.

قال ابن حبان في «الضعفاء» : فضيل بن مرزوق كان يخطئ عن الثقات ويروي عن عطية العوفي الموضوعات. انتهى من تهذيب التهذيب.

ص: 127

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} قَالَ: ذَلِكَ المُؤْمِنُ، ضُربَ مَثَلَهُ فِي الْإِخْلَاصِ لِله وَحْدَهُ وَعِبَادَتهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} ، قَالَ: أَصْلُ عَمَلِهِ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، قَالَ: ذِكْرُهُ فِي السَّمَاءِ

(1)

.

وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فالمَقْصُودُ بِالمَثَلِ المُؤْمِنُ، وَالنَّخْلَةُ مُشَبَّهَةٌ بِهِ وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِهَا، وَإِذَا كَانَتْ النَّخْلَةُ شَجَرَةً طَيِّبَةً فَالمُؤْمِنُ المُشَبَّهُ بِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ: إنَّهَا شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَالنَّخْلَةُ مِنْ أَشْرَافِ أَشْجَارِ الْجَنَّةِ.

* وَفِي هَذَا المَثَلِ مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْعُلُومِ وَالمَعَارِفِ مَا يَلِيقُ، وَيَقْتَضِيه عِلْمُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ سبحانه وَحِكْمَتُهُ.

* فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّجَرَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ عُرُوقٍ وَسَاقٍ وَفُرُوعٍ وَوَرَقٍ وَثَمَرٍ، فَكَذَلِكَ شَجَرَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ؛ لِيُطَابِقَ المُشَبَّهُ المُشَبَّهَ بِهِ، فَعُرُوقُهَا الْعِلْمُ وَالمَعْرِفَةُ وَالْيَقِينُ، وَسَاقُهَا الْإِخْلَاصُ، وَفُرُوعُهَا الْأَعْمَالُ، وَثَمَرَتُهَا مَا تُوجِبُهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنْ الْآثَارِ الْحَمِيدَةِ وَالصِّفَاتِ الْمَمْدُوحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الزَّكِيَّةِ وَالسَّمْتِ الصَّالِحِ وَالْهَدْيِ وَالدَّلِّ المَرْضِيِّ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَى غَرْسِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فِي الْقَلْبِ وَثُبُوتِهَا فِيهِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ.

فَإِذَا كَانَ الْعِلْمُ صَحِيحًا مُطَابِقًا لِمَعْلُومِهِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ كِتَابَهُ بِهِ، وَالِاعْتِقَادُ مُطَابِقًا لِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَتْ بِهِ عَنْهُ رُسُلُهُ صلوات الله وسلامه عليهم، وَالْإِخْلَاصُ قَائِمٌ فِي الْقَلْبِ، وَالْأَعْمَالُ مُوَافِقَةٌ لِلْأَمْرِ، وَالْهَدْيُ وَالدَّلُّ وَالسَّمْتُ مُشَابِهٌ لِهَذِهِ الْأُصُولِ مُنَاسِبٌ لَهَا، عُلِمَ أَنَّ شَجَرَةَ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ أَصْلُهَا ثَابِتٌ

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (20453) من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع به، قال ابن حبان: الناسُ يتقون ما كان من رواية أبي جعفر عن الربيع؛ لأن في أحاديثه عنه اضطرابًا كثيرًا.

ص: 128

وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ عُلِمَ أَنَّ الْقَائِمَ بِالْقَلْبِ إنَّمَا هُوَ الشَّجَرَةُ الْخَبِيثَةُ الَّتِي اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ.

* وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّجَرَةَ لَا تَبْقَى حَيَّةً إلَّا بِمَادَّةٍ تَسْقِيهَا وَتُنَمِّيهَا، فَإِذَا انقطعَ عَنْها السَّقْيُ أَوْشَكَ أَنْ تَيْبَسَ.

فَهَكَذَا شَجَرَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْقَلْبِ إنْ لَمْ يَتَعَاهَدْهَا صَاحِبُهَا بِسَقْيِهَا كُلَّ وَقْتٍ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْعَوْدِ بِالتَّذَكُّرِ عَلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّفَكُّرِ عَلَى التَّذَكُّرِ، وَإِلَّا أَوْشَكَ أَنْ تَيْبَسَ.

وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الْإِيمَانَ يَخْلَقُ فِي الْقَلْبِ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ فَجَدِّدُوا إيمَانَكُمْ»

(1)

.

(1)

إسناده حسن: أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 4)، والطبراني كما في «مجمع الزوائد» (1/ 52) من طريق ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن ميسرة عن أبي هانئ الخولاني حميد بن هانئ عن أبي عبد الرحمن الحبُلي عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الحاكم: رواته مصريون ثقات، ووافقه الذهبي.

* قلت: قال ابن المديني: عبد الرحمن بن ميسرة مجهول، كذا في «الميزان» ، و «نصب الراية» (1/ 12) لكن وثقه العجلي والحاكم والذهبي وحسن حديثه الهيثمي والعراقي والألباني، وروى عنه جمع وهو كما قالوا.

وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد ضعيف.

أخرجه أحمد (2/ 359)، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 357)، وعبد بن حميد كما في «المنتخب» رقم (1424)، ومحمد بن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» (799)، وابن الأعرابي في «معجمه» رقم (1139)، والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (974) من طرق عن صدقة بن موسى السلمي عن محمد بن واسع عن سمير بن نهار عن أبي

هريرة رضي الله عنه. =

ص: 129

وَبِالْجُمْلَةِ فَالْغَرْسُ إنْ لَمْ يَتَعَاهَدْهُ صَاحِبُهُ أَوْشَكَ أَنْ يَهْلَكَ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ شِدَّةَ حَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَوْقَاتِ وَعَظِيمِ رَحْمَتِهِ وَتَمَامِ نِعْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ بِأَنْ وَضعهَا عَلَيْهم وَجَعَلَهَا مَادَّةً لِسَقْيِ غِرَاسِ التَّوْحِيدِ الَّذِي غَرَسَهُ فِي قُلُوبِهِمْ.

m وَمِنْهَا: أَنَّ الْغَرْسَ وَالزَّرْعَ النَّافِعَ قَدْ أَجْرَى اللهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُخَالِطَهُ دَغَلٌ وَنَبْتٌ غَرِيبٌ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، فَإِنْ تَعَاهَدَهُ رَبُّهُ وَنَقَّاهُ وَقَلَعَهُ كَمُلَ الْغَرْسُ وَالزَّرْعُ، وَاسْتَوَى، وَتَمَّ نَبَاتُهُ وَكَانَ أَوْفَرَ لِثَمَرَتِهِ، وَأَطْيَبَ وَأَزْكَى، وَإِنْ تَرَكَهُ أَوْشَكَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ، أَوْ يُضْعِفَ الْأَصْلَ وَيَجْعَلَ الثَّمَرَةَ ذَمِيمَةً نَاقِصَةً بِحَسْبِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِقْهُ نَفْسٍ فِي هَذَا وَمَعْرِفَةٌ بِهِ فَإِنَّهُ يَفُوتُهُ رِبْحٌ كَبِيرٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ؛ فَالمُؤْمِنُ دَائِمًا سَعْيُهُ فِي شَيْئَيْنِ: سَقْيِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَتَنْقِيَةِ مَا حَوْلَهَا، فَبِسَقْيِهَا تَبْقَى وَتَدُومُ، وَبِتَنْقِيَةِ مَا حَوْلَهَا تَكْمُلُ وَتَتِمُّ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

فَهَذَا بَعْضُ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا المَثَلُ الْعَظِيمُ الْجَلِيلُ مِنْ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ، وَلَعَلَّهَا قَطْرَةٌ مِنْ بَحْرٍ بِحَسَبِ أَذْهَانِنَا الْوَاقِفَةِ، وَقُلُوبِنَا المُخْبطِةِ، وَعُلُومِنَا الْقَاصِرَةِ، وَأَعْمَالِنَا الَّتِي تُوجِبُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ، وَإِلَّا فَلَوْ طَهُرَتْ مِنَّا الْقُلُوبُ، وَصَفَت الْأَذْهَان، وَزَكَت النُّفُوسُ، وَخَلَصَت الْأَعْمَالُ، وَتَجَرَّدَت الهمم لِلتَّلَقِّي عَنْ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ لَشَاهَدْنَا مِنْ مَعَانِي كَلَامِ الله عز وجل وَأَسْرَارِهِ وَحِكَمِهِ مَا تَضْمَحِلُّ عِنْدَهُ الْعُلُومُ، وَتَتَلَاشَى عِنْدَهُ مَعَارِفُ الْحقِّ.

= قلت: وصدقة بن موسى ضعيف، واختلف في سمير فقيل: شتير كما عند ابن حبان رقم (136) وليس فيه وجه الشاهد، ورجح الأول الدارقطني في «العلل» (8/ 339).

وله شاهد من حديث ابن عباس وإسناده ضعيف. كما في «أخبار أصبهان»

(1/ 277 - 278).

ص: 130

وَبِهَذَا تَعْرِفُ قَدْرَ عُلُومِ الصَّحَابَةِ وَمَعَارِفِهِمْ رضي الله عنهم، وَأَنَّ التَّفَاوُتَ الَّذِي بَيْنَ عُلُومِهِمْ وَعُلُومِ مَنْ بَعْدَهُمْ كَالتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الْفَضْلِ، وَاللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ مَوَاقِعَ فَضْلِهِ وَمَنْ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 298، 304).

ص: 131

26 -

قال سبحانه وتعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 26، 27].

ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَثَلَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ فَشَبَّهَهَا بِالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} ، فَلَا عِرْقَ ثَابِتٌ، وَلَا فَرْعَ عَالٍ، وَلَا ثَمَرَةَ زَاكِيَةٌ، فَلَا ظِلَّ، وَلَا جَنًى، وَلَا سَاقَ قَائِمٌ، وَلَا عِرْقَ فِي الْأَرْضِ ثَابِتٌ، فَلَا أَسْفَلَهَا مُغْدِقٌ وَلَا أَعْلَاهَا مُونِقٌ، وَلَا جَنَى لَهَا، وَلَا تَعْلُو بَلْ تُعْلَى.

وَإِذَا تَأَمَّلَ اللَّبِيبُ أَكْثَرَ كَلَامِ هَذَا الْخَلْقِ فِي خِطَابِهِمْ وَكتبهم وَجَدَهُ كَذَلِكَ؛ فَالْخُسْرَانُ كلَّ الخسران الْوُقُوفُ مَعَهُ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ أَفْضَلِ الْكَلَامِ وَأَنْفَعِهِ.

قَالَ الضَّحَّاكُ: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلْكَافِرِ بِشَجَرَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ، يَقُولُ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ، وَلَيْسَ لَهَا ثَمَرَةٌ، وَلَا فِيهَا مَنْفَعَةٌ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ ليس يَعْمَلُ خَيْرًا وَلَا يَقُولُهُ، وَلَا يَجْعَلُ اللهُ فِيهِ بَرَكَةً وَلَا مَنْفَعَة

(1)

.

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وَهِيَ الشِّرْكُ {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} يَعْنِي الْكَافِرَ، {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} ، ويَقُولُ: الشِّرْكُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَأْخُذُ بِهِ الْكَافِرُ وَلَا بُرْهَانٌ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلًا، فَلَا يَقْبَلُ الله عَمَلَ الْمُشْرِكِ، وَلَا يَصْعَدُ إلَى الله، فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ، وَلَا فَرْعٌ فِي السَّمَاءِ؛ يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الآخرة

(2)

.

(1)

إسناده واه: أخرجه الطبري في التفسير رقم (20538)، وفي إسناده الحسين بن الفرج، كذبه ابن معين.

(2)

إسناده مسلسل بالضعفاء: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (20531).

ص: 132

وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَثَلُ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ مَثَلُ الْكَافِرِ، لَيْسَ لِقَوْلِهِ وَلَا لِعَمَلِهِ أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ، وَلَا يَسْتَقِرُّ قَوْلُهُ وَلَا عَمَلُهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَصْعَدُ إلَى السَّمَاء

(1)

.

وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ رَجُلًا لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ؟ قَالَ: لا أَعْلَمُ لَهَا فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرًّا وَلَا فِي السَّمَاءِ مِصْعَدًا، إلَّا أَنْ يلْزَمَ عُنُقَ صَاحِبِهَا حَتَّى يُوافى بِهَا الْقِيَامَة

(2)

.

وَقَوْلُهُ: {اجْتُثَّتْ} أَي: اسْتُؤْصِلَتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ.

ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ فِي الْفَرِيقَيْنِ أَصْحَابِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْكَلِمِ الْخَبِيثِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُثَبِّتُ الَّذِينَ آمَنُوا بِإِيمَانِهِمْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ يُضِلُّ الظَّالِمِينَ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْقَوْلِ الثَّابِتِ، فَأَضَلَّ هَؤُلَاءِ بِعَدْلِهِ لِظُلْمِهِمْ، وَثَبَّتَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَضْلِهِ لِإِيمَانِهِمْ.

وَتَحْتَ قَوْلِهِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} كَنْزٌ عَظِيمٌ مَنْ وقف عليه لِمَظِنَّتِهِ وَأَحْسَنَ اسْتِخْرَاجَهُ وَاقْتِنَاءَهُ وَأَنْفَقَ مِنْهُ فَقَدْ غَنِمَ، وَمَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ حُرِمَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ تَثْبِيتِ اللهِ لَهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ.

فَإِنْ لَمْ يُثَبِّتْهُ وَإِلَّا زَالَ سَمَاءُ إيمَانِهِ وَأَرْضِهِ عَنْ مَكَانِهِمَا، وَقَدْ قَالَ سبحانه وتعالى لِأَكْرَمِ خَلْقِهِ عَلَيْهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم:{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)} [الإسراء: 74]، وَقَالَ سبحانه وتعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12].

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (20534) من طريق أبي جعفر عن الربيع به.

(2)

إسناده حسن: أخرجه الطبري رقم (20532).

ص: 133

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ الْتجَلي قَالَ: «وَهُوَ يَأَمرهم وَيُثَبِّتُهُمْ»

(1)

.

وَقَالَ سبحانه وتعالى لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]، فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ قِسْمَانِ: مُوَفَّقٌ بِالتَّثْبِيتِ، وَمَخْذُولٌ بِتَرْكِ التَّثْبِيتِ، وَمَادَّةُ التَّثْبِيتِ أَصْلُهُ وَمَنْشَؤُهُ مِنْ الْقَوْلِ الثَّابِتِ، وَفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ، فَبِهِمَا يُثَبِّتُ اللهُ عَبْدَهُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَثْبَتَ قَوْلًا وَأَحْسَنَ فِعْلًا كَانَ أَعْظَمَ تَثْبِيتًا، قَالَ سبحانه وتعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)} [النساء: 66] فَأَثْبَتُ النَّاسِ قَلْبًا أَثْبَتُهُمْ قَوْلًا.

وَالْقَوْلُ الثَّابِتُ هُوَ الْقَوْلُ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَهُوَ ضِدُّ الْقَوْلِ الْبَاطِلِ الْكَذِبِ؛ فَالْقَوْلُ نَوْعَانِ:

- ثَابِتٌ لَهُ حَقِيقَةٌ.

- وَبَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.

- وَأَثْبَتُ الْقَوْلِ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَلَوَازِمُهَا، فَهِيَ أَعْظَمُ مَا يُثَبِّتُ اللهُ بِهَا عبادَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا تَرَى الصَّادِقَ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ وَأَشْجَعِهِمْ قَلْبًا، وَالْكَاذِبَ مِنْ أَمْهَنِ النَّاسِ وَأَخْبَثِهِمْ وَأَكْثَرِهِمْ تَلَوُّنًا وَأَقَلِّهِمْ ثَبَاتًا، وَأَهْلُ الْفِرَاسَةِ يَعْرِفُونَ صِدْقَ الصَّادِقِ مِنْ ثَبَاتِ قَلْبِهِ وَقْتَ الْاختبارِ وَشَجَاعَتِهِ وَمَهَابَتِهِ، وَيَعْرِفُونَ كَذِبَ الْكَاذِبِ بِضِدِّ ذَلِكَ؛ وَلَا يَخْفَى ذَلِكَ إلَّا عَلَى ضَعِيفِ الْبَصِيرَةِ.

وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ كَلَامٍ سَمِعَهُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ بِهِ، فَقَالَ: وَالله مَا فَهِمْت مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا أَنِّي سمعت لِكَلَامِهِ صَوْلَةً لَيْسَتْ بِصَوْلَةِ مُبْطِلٍ، فَمَا مُنِحَ الْعَبْدُ مِنْحَةً أَفْضَلَ مِنْ مِنْحَةِ الْقَوْلِ الثَّابِتِ وَيَجِدُ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّابِتِ ثَمَرَتَهُ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ

(1)

إسناده حسن: أخرجه أحمد (2/ 368) والترمذي في «جامعه» (2557) من طريقين عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 134

إلَيْهِ فِي قُبُورِهِمْ وَيَوْمَ مَعَادِهِمْ كَمَا فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ

(1)

.

* [سُؤَالُ الْقَبْرِ وَالتَّثْبِيتُ فِيهِ].

وَقَدْ جَاءَ هَذَا مُبَيَّنًا فِي أَحَادِيثَ صِحَاحٍ: فَمِنْهَا: مَا فِي «المُسْنَدِ» مِنْ حَدِيثِ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَإِذَا الْإِنْسَانُ دُفِنَ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ جَاءَهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ فَأَقْعَدَهُ فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: صَدَقْت، فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَنْزِلُك لَوْ كَفَرْت بِرَبِّك، فَأَمَّا إذْ آمَنْت فَإِنَّ الله أَبْدَلَك بِهِ هَذَا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَنْهَضَ لَهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ.

وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالمُنَافِقُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْت وَلَا اهْتَدَيْت، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَنْزِلُك لَوْ آمَنت بِرَبِّك، فَأَمَّا إذْ كَفَرْت فَإِنَّ اللهَ أَبْدَلَك بِهِ هَذَا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ المَلَكُ بِالْمِطْرَاقِ قَمْعَةً يَسْمَعُهُ خَلْقُ الله كُلُّهُمْ إلَّا الثَّقَلَيْنِ».

قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ الله، مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ يَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ مَلَكٌ بِيَدِهِ مِطْرَاقٌ إلَّا هيلَ عِنْدَ ذَلِكَ.

(1)

قال ابن القيم في كتابه «الروح» (1/ 54) ط دار الكتب العلمية: وأحاديث المسألة في القبر كثيرة كما في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب فذكر الحديث.

والحديث: أخرجه البخاري رقم (1369)، ومسلم رقم (2871).

ص: 135

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}

(1)

.

وَفِي «المُسْنَدِ» نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ.

وَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَاذَانَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَذَكَرَ فيضَ رُوحِ المُؤْمِنِ فَقَالَ: «يَأْتِيهِ آت، يَعْنِي فِي قَبْرِهِ، فَيَقُولُ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَمَنْ نَبِيُّك؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ: مَا رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ وَهِيَ آخرُ فِتْنَةٍ تعرضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَذَلِكَ حين يَقُولُ اللهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. فَيَقُولُ: رَبِّي اللهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْت» . وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ

(2)

.

(1)

إسناده حسن: أخرجه أحمد برقم (3/ 3 - 4)، وابنه في «السنة» رقم (1456)، وابن أبي عاصم في «السنة» رقم (865)، والطبري في «التفسير» رقم (20543) من طريق أبي عامر عبد الملك بن عمير العقدي حدثنا عباد بن راشد عن داود بن أبي هند به. وإسناده حسن للإختلاف في عباد.

(2)

إسناده حسن: أخرجه مطولًا ومختصرًا الطيالسي في «مسنده» رقم (753)، والطبري في «تفسيره» رقم (20780، 20787)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» رقم (7417)، والروياني في «مسنده» (386)، وابن الأعرابي في «معجمه» رقم (1654)، والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» رقم (20)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 56)، والقزويني في «التدوين في أخبار قزوين» (1/ 22) عن أبي عوانة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» رقم (12185)، وهناد في «الزهد» رقم (339)، ومن طريقهما أبو داود في «سننه» رقم (4753)، وابن خزيمة في «التوحيد» رقم (175)، والمروزي في «زوائده على الزهد لابن المبارك» رقم (1219)، والطبري في «تفسيره» رقم (20764)، والبيهقي في «الشعب» رقم (390) عن أبي معاوية. =

ص: 136

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأخرجه أحمد في «مسنده» رقم (4/ 297)، والروياني في «مسنده» رقم (382)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 38)، والبغوي في «شرح السنة» رقم (1518) من طريق سفيان الثوري.

وأخرجه أبو داود في «سننه» رقم (4754)، والطبري في «تفسيره» رقم (20766)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 37) من طريق عبد الله بن نمير.

وأخرجه أبو داود في «سننه» (2312)، والطبري في «تفسيره» رقم (20765)، وابن خزيمة في «التوحيد» رقم (175) من طريق جرير.

وأخرجه ابن خزيمة أيضا في «لتوحيد» رقم (175)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 38) من طريق محمد بن فضيل. والحاكم في «المستدرك» (1/ 39)، وابن المقرئ في «معجمه» رقم (1255) من طريق شعبة.

وأخرجه الطبري في «تفسيره» رقم (14614، 20763) من طريق أبي بكر بن عياش.

والحاكم في «المستدرك» (1/ 39) من طريق زائدة.

تسعتهم عن الأعمش ثنا المنهال بن عمرو عن زاذان الكندي قال: سمعت البراء به.

وتابع الأعمش يونس بن خباب:

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (3/ 579 - 580)، ومن طريقه أحمد (4/ 295 - 296)، وابن خزيمة في «التوحيد» رقم (176)، والطبري في «التفسير» رقم (20768)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 39 - 40) عن معمر.

وأخرجه أحمد في «المسند» (4/ 295 - 296)، وابن ماجه برقم (1548)، والروياني في «مسنده» (383) من طريق حماد بن زيد.

وأخرجه الطبري في «التفسير» (20768)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 39) من طريق مهدي بن ميمون.

وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 39) من طريق عباد بن عباد.

أربعتهم عن يونس بن خباب به.

وخالفهم شعيب بن صفوان فأثبت أبا البختري الطائي بين زاذان والبراء. =

ص: 137

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 39) وقال: وهم فيه شعيب بن صفوان بإجماع الأئمة الثقات على روايته عن يونس بن خباب عن المنهال عن زاذان أنه سمع البراء.

* قلت: ويونس بن خباب ضعيف يعتبر به، وقد قال أبو داود: ليس في حديثه نكارة إلا أنه زاد في حديث عذاب القبر.

وتابعهما عمر بن قيس.

أخرجه النسائي في «الكبرى» رقم (2128)، وابن ماجه رقم (1549)، والطبري في «التفسير» رقم (20767)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 40) من طريقين عن عمر بن قيس به.

وتابعهم أبو خالد الداراني والحسن بن عبيد الله وعوف الأعرابي.

أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 40) من طريق أبي خالد والحسن وابن عبيد الله. والطبراني في «الأوسط» رقم (3499) من طريق عوف به.

وتابع المنهال بن عمرو محمد بن عتبة بإسناد ضعيف.

أخرجه الروياني في «مسنده» رقم (385).

وتابع زاذان الكندي أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي.

أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 39)، مختصرًا ورجاله ثقات.

وقد أعل الحديث ابن حبان في «صحيحه» بعد رقم (3117) فقال: خبر الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء سمعه الأعمش عن الحسن بن عمارة عن المنهال ابن عمرو وزاذان لم يسمعه من البراء فلذلك لم أخرجه.

* قلت: «أبو أويس» : وسماع زاذان من البراء عند أحمد في «المسند» (4/ 288)، وأبي داود رقم (4754)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 37 - 38). وثبت أيضًا سماع الأعمش من المنهال بن عمرو عند أبي داود في «سننه» رقم (4754)، وأحمد في المسند (4/ 288)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 382، 374).

فضلًا عن المتابعات التي قد سبقت، فالحديث حسن.

وصحَّحه الحاكم والبيهقيُّ والقرطبيُّ والمصنّفُ في كتابه «الروح» (65)، =

ص: 138

وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} قَالَ: إذَا قِيلَ لَهُ فِي الْقَبْرِ: مَنْ رَبُّك؟ وَمَا دِينُك؟ فَيَقُولُ رَبِّي اللهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَآمَنْت وَصَدَّقْت، فَيُقَالُ لَهُ: صَدَقْت، عَلَى هَذَا عِشْت، وَعَلَيْهِ مِتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ»

(1)

.

وَقَالَ الْأَعْمَشُ: عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَنْ زَاذَانَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَذَكَرَ قَبْضَ رُوحِ المُؤْمِنِ، قَالَ:«فَتَرْجِعُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيُبْعَثُ إلَيْهِ مَلَكَانِ شَدِيدَا الِانْتِهَارِ، فَيُجْلِسَانِهِ وَيَنْهرَانِهِ وَيَقُولَانِ: مَنْ رَبُّك؟ فَيَقُولُ: اللهُ، وَمَا دِينُك: فَيَقُولُ: الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ: مَا هَذَا الرَّجُلُ أَوْ النَّبِيُّ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، قال: فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا يُدْرِيَك؟ قَالَ: يَقُولُ: قَرَأْت كِتَابَ اللهِ فَآمَنْت بِهِ وَصَدَّقْت، وذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}» . وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ» وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ

(2)

.

وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ قَالَ: «إنَّ المَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ مُدْبِرِينَ، فَإِذَا كَانَ مُؤْمِنًا كَانَتْ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَالزَّكَاةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَسَارِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ

= وجمع الدارقطني طرقه في جزء مفرد، وأفرده أيضًا عاصم بن عبد الله القريوتي في جزء أسماه «صحة حديث البراء بن عازب في رد الروح إلى جسد الميت والرد على من ضعفه» ط مكتبة لينة.

(1)

إسناده حسن: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (20769)، وفي «تهذيب الآثار» رقم (727)، ومجاهد في «التفسير» (ص 125)، من طريق حماد بن سلمة به.

(2)

لم يروه ابن حبان في «صحيحه» وسبق التنبيه عليه آنفًا.

ص: 139

وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُؤْتَى مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ فَيَقُولُ فِعْلُ الخَيْرَاتِ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ قَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ قَدْ دَنَتْ لِلْغُرُوبِ فَيَقُولُ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ مَا نَسْأَلُك عَنْهُ، فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَيُقَالُ: إنَّك سَتَفْعَلُ، فَأَخْبِرْنَا عَمَّا نَسْأَلُك، فَيَقُولُ: وَعَمَّ تَسْأَلُونِي؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَرَأَيْت هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي بعث فِيكُمْ، مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ فَيَقُولُ: أَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم؟ فَيقولون: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّهُ جَاءَنا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ الله فَصَدَّقْنَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيت، وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: اُنْظُرْ إلَى مَا أَعَدَّ اللهُ لَك فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يجعَلُ نِسْمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطَّيِّبة، وَهِيَ طَيْرٌ خُضْرٌ تَعَلَّقَ بِشَجَرِ الْجَنَّةِ، فيُعَادُ الْجَسَدُ إلَى مَا بَدَأَ مِنْهُ مِنْ التُّرَابِ وَذَلِكَ قَوْلُ الله سبحانه وتعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} »

(1)

.

(1)

إسناده حسن وفي متنه غرابة: أخرجه هناد في «الزهد» رقم (338) حدثنا عبدة وهو ابن سليمان الكلابي.

وابن حبان في «صحيحه» رقم (3113)، من طريق المعتمر بن سليمان.

وعبد الله بن أحمد في «السنة» رقم (1453) مختصرًا، والطبراني في «الأوسط» (2630)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 380 - 381) من طريق حماد بن سلمة.

والحاكم في «المستدرك» (1/ 380) من طريق سعيد بن عامر.

والبيهقي في «الاعتقاد» (255)، وفي «إثبات عذاب القبر» رقم (67) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، وذكره الدارقطني في «العلل» (9/ 295) عن نعيم. =

ص: 140

وَلَا تسْتَطِلْ هَذَا الْفَصْلَ المُعْتَرِضَ فِي المُفْتِي وَالشَّاهِدِ وَالْحَاكِمِ، بَلْ وَكُلُّ مُسْلِمٍ أَشَدُّ ضَرُورَةً إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّفَسِ، وَبِالله التَّوْفِيقُ

(1)

.

* * *

= ستتهم عن بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

وخالفهم يزيد بن هارون وجعفر بن سليمان وخالد بن عبد الله الواسطي وعبدة بن سليمان فأوقفوه على أبي هريرة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 383 - 384)، والطبري في «التفسير» رقم (20770)، وفي «تهذيب الآثار» رقم (728)، وذكر الدارقطني في «العلل» (9/ 296) طريقي عبدة بن سليمان وخالد بن عبد الله الواسطي واكتفى بذكر الخلاف.

ولعل الرفع والوقف من محمد بن عمرو بن علقمة؛ فقد قال الميموني: سألت أحمد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة فقال لي: ربما رفع بعض الحديث وربما قصر به. من «العلل ومعرفة الرجال» (ص 225) وعلى كل فالإسناد حسن لكن في المتن غرابة.

وأخرجه أحمد في «المسند» (2/ 445)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (3/ 378) وغيرهما من طريق سُفيان عن السُّدّي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:«إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين» .

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 304 - 311).

ص: 141

(1)

قال الطبري رحمه الله: وأما قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} فإن معناه: هدم الله بنيانهم من أصله، والقواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس، وكان بعضهم يقول: هذا مثَل للاستئصال، وإنما معناه: إن الله استأصلهم، وقال: العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء.

ذكر ابن عاشور رحمه الله جملة من الاستعارات ثم قال: ومن مجموع هذه الاستعارات تتركّب الاستعارة التمثيليّة. وهي تشبيه هيئة القوم الّذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العزّة بهيئة قوم أقاموا بنيانًا عظيمًا ذا دعائم وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده فخرّ سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعًا. فهذا من أبدع التمثيليّة لأنها تنحلّ إلى عدّة استعارات.

(2)

نقله العلامة ابن القيم رحمه الله في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص/ 228) ط الرشد. من (قول الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله.

وأخرج الطبري بإسناد حسن عن قتادة، قوله:{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} إي: والله، لأتاها أمر الله من أصلها {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} والسقف: أعالي البيوت، فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} .

ص: 142

28 -

قال سبحانه وتعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} [النحل: 60].

أنه سبحانه وصف نفسه بأن له المثل الأعلى، فقال سبحانه وتعالى:{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)} [النحل: 60].

وقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27].

فجعل مثل السوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال للمشركين وأربابهم، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده؛ ولهذا كان المثل الأعلى وهو أفعل تفضيل، أي: أعلى من غيره فكيف يكون أعلى وهو عدم محض ونفي صرف، وأي مثل أدنى من هذا؟ سبحانه وتعالى الله عن قول المعطلين علوًّا كبيرًا.

فمثل السوء لعادم صفات الكمال؛ ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده، وكلامه، وحكمته؛ لأنهم فقدوا الصفات التي من اتصف بها كان كاملًا.

وهي: الإيمان، والعلم، والمعرفة، واليقين، والعبادة لله، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والصبر، والرضا، والشكر، وغير ذلك من الصفات التي اتصف بها من آمن بالآخرة، فلما سلبت تلك الصفات عنهم، وهي صفات كمال صار لهم مثل السوء فمن سلب صفات الكمال عن الله، وعلوه على خلقه، وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته وحياته، وسائر ما وصف به نفسه، فقد جعل له مثل السوء، ونزهه عن المثل الأعلى فإن مثل السوء هو العدم، وما يستلزمه، وضده المثل الأعلى، وهو: الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره، ولما كان الرب سبحانه وتعالى هو الأعلى، ووجهه الأعلى، وكلامه الأعلى،

ص: 143

وسمعه الأعلى، وبصره وسائر صفاته عليا، كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان؛ لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده، ويستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير.

وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه، فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة، ونظير هذا القهر المطلق، مع الوحدة فإنهما متلازمان، فلا يكون القهار إلا واحدًا، إذ لو كان معه كفؤ له، فإن لم يقهره لم يكن قهارًا على الإطلاق، وإن قهره لم يكن كفؤًا، وكان القهار واحدًا فتأمل كيف كان قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].

وقوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم: 27]

(1)

من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه.

فإن قلت: قد فهمت هذا وعرفته فما حقيقة المثل الأعلى؟

قلت: قد أشكل هذا على جماعة من المفسرين واستشكلوا قول السلف فيه، فإن ابن عباس وغيره قالوا:{مَثَلُ السَّوْءِ} العذاب والنار. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} شهادة أن لا إله إلا الله.

وقال قتادة: هو الإخلاص والتوحيد.

وقال الواحدي: هذا قول المفسرين في هذه الآية، ولا أدري لم قيل للعذاب مثل السوء وللإخلاص المثل الأعلى.

(1)

انظر: «هداية الحيارى» (ص/ 355) ط عالم الفوائد.

ص: 144

قال: وقال قوم: المثل السوء الصفة السوء من احتياجهم إلى الولد وكراهتهم للإناث خوف العيلة والعار {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} الصفة العليا من تنزهه وبراءته عن الولد.

قال: وهذا قول صحيح. فالمثل كثيرًا ما يرد بمعنى الصفة. قاله جماعة من المتقدمين.

وقال ابن كيسان: مثل السوء ما ضرب الله للأصنام وعبدتها من الأمثال، والمثل الأعلى نحو قوله:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور: 35].

وقال ابن جرير: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم: 27]. نحو قوله: هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره.

قلت: المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا وعلم العالمين بها ووجودها العلمي والخبر عنها وذكرها وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه فهاهنا أربعة أمور:

الأول: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه في نفس الأمر علمها العباد أو جهلوها وهذا معنى قول من فسره بالصفة.

الثاني: وجودها في العلم والتصور وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه، بل يختص به في قلوبهم كما اختص في ذاته.

وهذا معنى قول من قال من المفسرين: أهل السماء يعظمونه ويحبونه ويعبدونه، وأهل الأرض يعظمونه ويجلونه وإن أشرك به من أشرك وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له

ص: 145

خاضعون لعظمته مستكينون لعزته وجبروته. قال سبحانه وتعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)} [البقرة: 116]. فلست تجد أحدًا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره وأكمل وأعظم من كل ما سواه.

الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل.

الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه والإنابة إليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى فعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها

(1)

.

* * *

(1)

الصواعق المرسلة (2/ 1030 - 1035)، وانظر:«الفوائد» (ص/ 38 فما بعد).

ص: 146

29 -

قال سبحانه وتعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)}

[النحل: 74].

فنهاهم أن يضربوا له مثلًا من خلقه، ولم ينههم أن يضربوه هو مثلًا لخلقه؛ فإن هذا لم يقله أحد، ولم يكونوا يفعلونه؛ فإن الله سبحانه أجل وأعظم وأكبر من كل شيء في فطر الناس كلهم، ولكن المشبهون المشركون يغلون فيمن يعظمونه فيشبهونهم بالخالق، والله سبحانه وتعالى أجل في صدور جميع الخلق من أن يجعلوا غيره أصلا ثم يشبهونه سبحانه بغيره فالذي يشبهه بغيره إن قصد تعظيمه لم يكن في هذا تعظيم؛ لأنه مثل أعظم العظماء بما هو دونه، بل بما ليس بينه وبينه نسبة وشبه في العظمة والجلالة، وعاقل لا يفعل هذا.

وإن قصد التنقيص شبهه بالناقصين المذمومين لا بالكاملين الممدوحين.

ومن هنا يعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمن التشبيه والتمثيل لا بالكاملين ولا بالناقصين، وأن نفي تلك الصفات يستلزم تشبيهه بأنقص الناقصين.

فانظر إلى الجهمية وأتباعهم جاءوا إلى التشبيه المذموم فأعرضوا عنه صفحًا وجاءوا إلى الكمال والمدح فجعلوه تشبيهًا وتمثيلًا عكس ما يثبته القرآن وجاء به من كل وجه

(1)

.

* * *

(1)

«إغاثة اللهفان» (2/ 230)

ص: 147

30 -

قال سبحانه وتعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} [النحل: 75، 76].

هَذَانِ مَثَلَانِ مُتَضَمِّنَانِ قِيَاسَيْنِ مِنْ قِيَاسِ الْعَكْسِ، وَهُوَ نَفْيُ الْحُكْمِ لِنَفْيِ عِلَّتِهِ وَمُوجِبِهِ، فَإِنْ الْقِيَاسَ نَوْعَانِ:

قِيَاسُ طَرْدٍ: يَقْتَضِي إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ لِثُبُوتِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ.

وَقِيَاسُ عَكْسٍ: يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ الْفَرْعِ لِنَفْيِ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِيهِ.

فَالمَثَلُ الْأَوَّلُ مَا ضَرَبَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ وَلِلْأَوْثَانِ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ المَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ، يُنْفِقُ كَيْف يَشَاءُ عَلَى عَبِيدِهِ سِرًّا وَجَهْرًا وَلَيْلًا وَنَهَارًا، «يَمِينُهُ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةُ سَحَّاءَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»

(1)

وَالْأَوْثَانُ مَمْلُوكَةٌ عَاجِزَةٌ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَكَيْف تَجْعَلُونَهَا شُرَكَاءَ لِي وَتَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِي مَعَ هَذَا التَّفَاوُتِ الْعَظِيمِ وَالْفَرْقِ المُبِينِ؟ هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ

(2)

وغَيْرِهِ.

(1)

يشير إلى ما أخرجه «البخاري» رقم (4684)، ومسلم رقم (993) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَدُ اللهِ مَلأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِى يَدِهِ، وَقَالَ: عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» .

(2)

في إسناده مقال: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (31603) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد.

ص: 148

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَمَثَلُ المُؤْمِنِ فِي الْخَيْرِ الَّذِي عِنْدَهُ ثُمَّ رَزَقَهُ مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَالْكَافِرُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ عَاجِزٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَا خَيْرَ عِنْدَهُ، فَهَلْ يَسْتَوِي الرَّجُلَانِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ

(1)

.

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْبَه بِالمُرَادِ، فَإِنَّهُ أَظْهَرُ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَأَوْضَحُ عِنْدَ المُخَاطَبِ، وَأَعْظَمُ فِي إقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَأَقْرَبُ نَسَبًا بِقَوْلِهِ:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} [النحل: 73، 74].

ثُمَّ قَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} وَمِنْ لَوَازِمِ هَذَا الْمثلِ وَأَحْكَامِهِ أَنْ يَكُونَ المُؤْمِنُ المُوَحِّدُ كَمِنْ رَزَقَهُ مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا، وَالْكَافِرُ المُشْرِكُ كَالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَهَذَا مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمثلُ وَأَرْشد إلَيْهِ، فَذَكَره ابْنُ عَبَّاسٍ مُنَبِّهًا عَلَى إرَادَتِهِ، لأَنَّ الْآيَةَ اخْتصَّتْ بِهِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّك تَجِدْهُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، فَيظنُّ الظان أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي لَا مَعْنَى لَهَا غَيْرُهُ فَيَحْكِيه قَوْلهُ.

* * *

(1)

أخرج نحوه الطبري في «التفسير» رقم (21601) وإسناده مسلسل بالضعفاء.

ص: 149

‌فَصْلٌ

وَأَمَّا المَثَلُ الثَّانِي فَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ وَلِمَا يعبدُونَ مِنْ دُونِهِ أَيْضًا فَالصَّنَمُ الَّذِي يعبدُونَ مِنْ دُونِهِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَبْكَمَ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَنْطِقُ، بَلْ هُوَ أَبْكَمُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، قَدْ عَدِمَ النُّطْقَ الْقَلْبِيَّ وَاللِّسَانِيَّ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ عَاجِزٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ، وَمَعَ هَذَا فَأَيْنَمَا أرسلتَهُ لَا يَأْتِيَك بِخَيْرٍ، وَلَا يَقْضِي لَك حَاجَةً، وَاللهُ سُبْحَانَهُ حَيٌّ قَادِرٌ مُتَكَلِّمٌ، يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهَذَا وَصْفٌ لَهُ بِغَايَةِ الْكَمَالِ وَالْحَمْدِ.

فَإِنَّ أَمْرَهُ بِالْعَدْلِ - وَهُوَ الْحَقُّ - يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالمٌ بِهِ، مُعَلِّمٌ لَهُ، رَاضٍ بِهِ، آمِرٌ لِعِبَادِهِ بِهِ، مُحِبٌّ لِأَهْلِهِ، لَا يَأْمُرُ سِوَاهُ، بَلْ تَنَزَّهَ عَنْ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ وَالسَّفَهُ وَالْبَاطِلُ، بَلْ أَمْرُهُ وَشَرْعُهُ عَدْلٌ كُلُّهُ، وَأَهْلُ الْعَدْلِ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَهُمْ الْمُجَاوِرُونَ عَنْ يَمِينِهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُور

(1)

.

وَأَمْرُهُ بِالْعَدْلِ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ الدِّينِيَّ وَالْأَمْرَ الْقَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ، وَكِلَاهُمَا عَدْلٌ لَا جَوْرَ فِيهِ بِوَجْهٍ مَا.

كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك، نَاصِيَتِي بِيَدِك، مَاضٍ فِي حُكْمُك، عَدْلٌ فِي قَضَاؤُك»

(2)

فَقَضَاؤُهُ هُوَ أَمْرُهُ الْكَوْنِيُّ.

(1)

يشير إلى ما أخرجه مسلم رقم (1827) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ

رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عز وجل، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا ولوا» .

(2)

في سنده أبو سلمة الجهني لم نقف له على كبير موثق.

أخرجه أحمد (1/ 391)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (10/ 353)، وأبو يعلى في «مسنده» رقم (52776)، وابن حبان في «صحيحه» رقم (972)، والطبراني في «المعجم الكبير» رقم (10352)، والحاكم في «المستدرك» برقم (1/ 509 - 510) =

ص: 150

فَإِنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ، فَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَقٍّ وَعَدْلٍ، وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ الْقَائِمُ بِهِ حَقٌّ وَعَدْلٌ، وَإِنْ كَانَ فِي المَقْضِيِّ المُقَدَّرِ مَا هُوَ جَوْرٌ وَظُلْمٌ فَإن الْقَضَاءَ غَيْرُ المَقْضِيِّ، وَالْقَدَرُ غَيْرُ المُقَدَّرِ، ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

= وغيرهم من طرق عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه به.

قلت: وأبو سلمة الجهني ذكره ابن حبان في «الثقات» وروى له في صحيحه.

وقال الذهبي والحسيني والحافظ ابن حجر: مجهول. انظر: «الميزان» والإكمال وتعجيل المنفعة (1293).

وقال ابن معين: «أبو سلمة الجهني أراه موسى الجهني» وهذا على الشك، فإن كان كما قال ابن معين، فلا يوجد موسى الجهني، إنما الذي يوجد موسى بن عبد الله الجهني وهو ثقة، ومن رجال التهذيب.

قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه فإنه مختلف في سماعه عن أبيه، وقال الدارقطني في «العلل» (5/ 819): إسناده ليس بالقوي.

* قلت: وتابع أبا سلمة الجهني عبد الرحمن بن إسحاق لكن ضعفه جمهور المحدثين، واختلف عليه أيضًا في الوصل والإرسال.

فأخرجه البزار في «البحر الزخار» برقم (1994) موصولًا. والدارقطني في «العلل» تحت رقم (819) مرسلا.

وله شاهد لا يصح عن أبي موسى رضي الله عنه نحوه. أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم (340) من طريق فياض بن غزوان عن عبد الله بن زبيد عن أبي موسى به. وعبد الله بن زبيد مجهول وبينه وبين أبي موسى مفاوز تنقطع فيها أعناق مطي الإبل.

ص: 151

وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ رَسُولِهِ هود صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]، فَقَوْلُهُ:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ} نَظِيرُ قَوْلِهِ: «نَاصِيَتِي بِيَدِك» وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} نَظِيرُ قَوْلِهِ: «عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك» .

فَالْأَوَّلُ مُلْكُهُ، وَالثَّانِي حَمْدُهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ، وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِالْعَدْلِ، وَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ وَحِكْمَةٌ وَعَدْلٌ؛ فَهُوَ عَلَى الْحَقِّ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ فَلَا يَقْضِي عَلَى الْعَبْدِ مَا يَكُونُ ظَالِمًا لَهُ بِهِ، وَلَا يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ ذَنْبِهِ، وَلَا يَنْقُصُهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْئًا، وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْهَا وَلَمْ يَتَسَبَّبْ إلَيْهَا شَيْئًا، وَلَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَلَا يَفْعَلُ قَطُّ مَا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، وَيُثْنَى بِهِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ الْعَوَاقِبُ الْحَمِيدَةُ، وَالْغَايَاتُ المَطْلُوبَةُ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّهُ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَقَوْلُهُ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يَقُولُ: إنَّ رَبِّي عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ، يُجَازِي المُحْسِنَ مِنْ خَلْقِهِ بِإِحْسَانِهِ، وَالمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ شَيْئًا، وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ، وَالْإِيمَانَ بِهِ.

ثُمَّ حَكَى عَنْ مُجَاهِدٍ

(1)

مِنْ طَرِيقِ شِبْل عن ابنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قَالَ: الْحَقُّ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْهُ.

(1)

في إسناده مقال: أخرجه الطبري في «التفسير» رقم (18070 - 18073) من طرق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.

ص: 152

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: 14] وَهَذَا اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ، فَإِنَّ كَوْنَهُ بِالْمِرْصَادِ هُوَ مُجَازَاةُ المُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ وَالمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ: إنَّ رَبِّي يَحُثُّكُمْ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَحُضُّكُمْ عَلَيْهِ؛ وَهَؤُلَاءِ إنْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي أُرِيدَ بِهَا فَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى هَذَا المُقَدَّرِ، وَقَدْ فَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ كَوْنِهِ آمِرًا بِالْعَدْلِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ حَثَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ مِنْ جُمْلَةِ كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَقَدْ أَصَابُوا.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: مَعْنَى كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَنَّ مَرَدَّ الْعِبَادِ وَالْأُمُورِ كُلِّهَا إلَى الله لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَهَؤُلَاءِ إنْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِهِ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَمِنْ مُقْتَضَاهُ وَمُوجِبِهِ فَهُوَ حَقٌّ.

وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى: مَعْنَاهُ كُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ وَفِي مِلْكِهِ وَقَبْضَتِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَلَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ، وَقَدْ فَرَّقَ هود بَيْنَ قَوْلِهِ:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَهُمَا مَعْنَيَانِ مُسْتَقِلَّانِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ، وَلَا تَحْتَمِلُ الْعَرَبِيَّةُ غَيْرَهُ إلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ.

وَقَالَ جَرِيرٌ يَمْدَحُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ:

أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ

إذَا اعْوَجَّ المَوَارِدُ مُسْتَقِيم

(1)

(1)

في ديوان جرير (1/ 218) يمدح هشام بن عبد الملك وليس عمر بن عبد العزيز.

ص: 153

وَقَدْ قَالَ سبحانه وتعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

وَإِذَا كَانَ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ رُسُلَهُ عليهم الصلاة والسلام وَأَتْبَاعَهُمْ عَلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ صِرَاطُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ هُوَ مُوَافَقَةُ أَمْرِهِ؛ فَصِرَاطُهُ الَّذِي هُوَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ هُوَ مَا يَقْتَضِيهِ حَمْدُهُ وَكَمَالُهُ وَمَجْدُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ وَفِعْلِهِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

* * *

‌فَصْلٌ

وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَانٍ مِثْلُ الْآيَةِ الْأُولَى سَوَاءٌ، أَنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي معنى هَذَا الْقَوْلِ، والله الموفق

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 283 - 287)، وانظر:«الصواعق المرسلة» (3/ 1035).

ص: 154

31 -

قال سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)} [النحل: 91، 92].

قال سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91].

وقال سبحانه وتعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177].

وهذا يتناول عهودهم مع الله بالوفاء له بالإخلاص والإيمان والطاعة وعهودهم مع الخلق وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن من علامات النفاق الغدر بعد العهد فما أناب إلى الله عز وجل من خان عهده وغدر به، كما أنه لم ينب إليه من لم يدخل تحت عهده فالإنابة لا تتحقق إلا بالتزام العهد والوفاء به

(1)

.

قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}

(2)

فَعَيَّرَ سبحانه وتعالى مَنْ نَقَضَ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ إثْبَاتُهُ مُؤَدِّيًا إلَى نَفْيِهِ وَإِبْطَالِهِ كَانَ بَاطِلًا

(3)

.

(1)

«مدارج السالكين» (2/ 8).

(2)

أخرج الطبري بإسناد حسن عن قتادة: قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه! وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده.

(3)

انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 209).

قال الطبري: يقول تعالى ذكره ناهيًا عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وآمرًا بوفاء العهود، وممثلًا ناقض ذلك بناقضة غزلها من بعد إبرامه وناكثته من بعد إحكامه: ولا تكونوا أيها الناس في نقضكم أيمانكم بعد توكيدها وإعطائكم الله =

ص: 155

32 -

قال سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)} [النحل: 112].

فتأمل كيف جمع بين الذوق واللباس؛ ليدل على مباشرة المذوق وإحاطته وشموله، فأفاد الإخبار عن إذاقته أنه واقع مباشر غير منتظر، فإن الخوف قد يتوقع ولا يباشر، وأفاد الإخبار عن لباسه أنه محيط شامل كاللباس للبدن

(1)

.

= بالوفاء بذلك العهود والمواثيق {غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ} يعني: من بعد إبرام. وكان بعض أهل العربية يقول: القوّة: ما غُزِل على طاقة واحدة ولم يثن. وقيل: إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بمكة.

(1)

مدارج السالكين (3/ 87).

قال ابن كثير رحمه الله: هذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يُتخطَّف الناس من حولها، ومن دخلها آمن لا يخاف، كما قال تعالى:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57]، وهكذا قال هاهنا:{يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا} أي: هنيئًا سهلًا {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} أي: جحدت آلاء الله عليها وأعظم ذلك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28، 29]. ولهذا بدَّلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما، فقال:{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} أي: ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يُجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، وذلك لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم، فأكلوا العِلْهِز -وهو: وبر البعير، يجعل بدمه إذا نحروه.

وقوله: {وَالْخَوْفِ} وذلك بأنهم بُدِّلوا بأمنهم خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حين هاجروا إلى المدينة، من سطوة سراياه وجُيوشه، وجعلوا كل ما لهم في سفَال ودمار، =

ص: 156

‌سورة الإسراء

33 -

قال سبحانه وتعالى: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء: 48].

مثلوك بالشاعر مرة، والساحر أخرى، والمجنون مرة، والمسحور أخرى، فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في تِيهه وتحيُّره طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه، فإن أي طريق أخذها فهي طريق ضلال وحيرة، فهو متحير في أمره لا يهتدي سبيلًا، ولا يقدر على سلوكها، فهكذا حال أعداء رسول الله معه، حتى ضربوا له

= حتى فتحها الله عليهم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول الذي بعثه الله فيهم منهم، وامتن به عليهم في قوله:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، وقال تعالى:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10، 11] الآية وقوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} إلى قوله: {وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151، 152].

وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم، فخافوا بعد الأمن، وجاعوا بعد الرغد، بَدَّل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنًا، ورزقهم بعد العَيْلَة، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم، وسادتهم وقادتهم وأئمتهم.

وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل مضروب لمكة، قاله العوفي، عن ابن عباس. وإليه ذهب مجاهد، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وحكاه مالك عن الزهري، رحمهم الله.

ص: 157

أمثالًا برَّأه الله منها، وهو أبعد خلق الله منها، وقد علم كل عاقل أنها كذبٌ وافتراءٌ وبهتانٌ

(1)

.

* * *

(1)

«بدائع الفوائد» (2/ 744 - 745).

ص: 158

(1)

استشهد بها العلامة ابن القيم في قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266] وهو يجمع بين {جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة: 266] و {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 266] وكان وجه الجمع أن أكثر أشجار الجنة من نخيل وأعناب ولا ينفي هذا ما سواه من ثمار مشتهاة. «طريق الهجرتين» (2/ 809).

قال بعض المفسرين: بيِّن - أيها الرسول - في شأن الكفار الأغنياء مع المؤمنين الفقراء مثلًا وقع فيما سلف بين رجلين: كافر ومؤمن، وللكافر حديقتان من أعناب، وأحطناهما بالنخيل زينة وفائدة، وجعلنا بين الجنتين زرعًا نضِرًا مثمرًا.

وقد أثمرت كل واحدة من الجنتين ثمرها ناضجًا موفورًا، ولم تنقص منه شيئًا، وفجَّرنا نهرًا ينساب خلالهما.

وكان لصاحب الجنتين أموال أخرى مثمرة، فداخله الزهو بتلك النعم، فقال لصاحبه المؤمن في غرور وهما يتناقشان: أنا أكثر منك مالًا وأقوى عشيرة ونصيرًا. ثم دخل إحدى جنتيه مع صاحبه المؤمن، وهو مأخوذ بغروره فقال: ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدًا!، وما أظن القيامة حاصلة، ولو فرض ورجعت إلى ربي بالبعث كما تزعم، والله لأجدن خيرًا من هذه الجنة عاقبة لي؛ لأنني أهل للنعيم في كل حال، فهو يقيس الغائب على الحاضر، ولا يعلم أن الغائب فيه الجزاء على الإيمان وفعل الخير.

قال صاحبه المؤمن مجيبًا له: أتسوغ لنفسك أن تكفر بربك الذي خلق أصلك آدم من تراب، ثم من نطفة مائية، ثم صوّرك رجلًا كاملًا، فإن اعتززت بمالك =

ص: 159

= وعشيرتك، فاذكر ربك وأصلك الذي هو من الطين.

لكن أقول: إن الذي خلقني وخلق هذا العالم كله هو الله ربي، وأنا أعبده - وحده - ولا أشرك معه أحدًا.

ولولا قلت عند دخولك جنتك والنظر إلى ما فيها: هذا ما شاء الله ولا قوة لي على تحصيله إلا بمعونة الله، فيكون ذلك شكرًا كفيلًا بدوام نعمتك.

ثم قال له: إن كنت تراني أقل منك مالًا وأقل ولدًا ونصيرًا، فلعل ربي يعطيني خيرًا من جنتك في الدنيا أو الآخرة، ويرسل على جنتك قدَرًا قدَّره لها كصواعق من السماء، فتصير أرضًا ملساء لا ينبت فيها شيء، ولا يثبت عليها قدم.

أو يصير ماؤها غائرًا في الأرض لا يمكن الوصول إليه، فلا تقدر على إخراجه لسقيها.

قد عاجل الله الكافر، وأحاطت المهلكات بثمار جنته، وأهلكتها، وأبادت أصولها، فأصبح يقلب كفيه ندمًا وتحسرًا على ما أنفق في عمارتها، ثم عاجلها الخراب، فتمنى أن لم يكن أشرك بربه أحدًا.

عند هذه المحنة لم تكن له عشيرة تنصره من دون الله كما كان يعتز، وما كان هو بقادر على نصرة نفسه.

فإن النصرة في كل حال ثابتة لله الحق - وحده - وهو - سبحانه - خير لعبده المؤمن يجزل له الثواب ويحسن له العاقبة.

(1)

«اجتماع الجيوش الإسلامية» (1/ 71) ط الرشد، وانظر:«المثل الثاني من سورة البقرة» ، و «عدة الصابرين» (ص/ 333) ط عالم الفوائد.

قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: {وَاضْرِبْ} يا محمد للناس {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في زوالها وفنائها وانقضائها {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ} أي: ما فيها من الحَبّ، فشب وحسن، وعلاه الزهر والنور والنضرة =

ص: 160

‌سورة الحج

36 -

قال سبحانه وتعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)} [الحج: 31].

فَتَأَمَّلْ هَذَا المَثَلَ وَمُطَابَقَتَهُ لِحَالِ مَنْ أَشْرَكَ بِالله وَتَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ، وَنحو ذلك.

فِي هَذَا التَّشْبِيهِ أَمْرَانِ:

* أَحَدُهُمَا: أَنْ تَجْعَلَهُ تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا، وَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ بِرَجُلٍ قَدْ تَسَبَّبَ إلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ هَلَاكًا لَا يُرْجَى مَعَهُ نَجَاةٌ، فَصَوَّرَ حاله بِصُورَةِ مَنْ خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ فِي الهوي فَتَمَزَّقَ مِزَعًا فِي حَوَاصِلِهَا، أَوْ

= ثم بعد هذا كله {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} يابسًا {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي: تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} أي: هو قادر على هذه الحال وهذه الحال، وكثيرًا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة يونس:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} الآية [يونس: 24]، وقال في سورة الزمر:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)} [الزمر: 21]، وقال في سورة الحديد:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20].

وفي الحديث الصحيح: «الدنيا حلوة خضرة» .

ص: 161

عَصَفَت بِهِ الرِّيحُ حَتَّى هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ المَطَارِحِ الْبَعِيدَةِ، وَعَلَى هَذَا لَا تَنْظُرُ إلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُشَبَّهِ وَمُقَابِلتهِ مِنْ الْمُشَبَّهِ بِهِ.

* وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُفَرَّقِ، فَيُقَابِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ المُمَثَّلِ بِالمُمَثَّلِ بِهِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ فِي عُلُوِّهِ وَسَعَتِهِ وَشَرَفِهِ بِالسَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مِصْعَدَهُ وَمَهْبِطَهُ، فَمِنْهَا هَبَطَ إلَى الْأَرْضِ، وَإِلَيْهَا يَصْعَدُ مِنْهَا، وَشَبَّهَ تَارِكَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ بِالسَّاقِطِ مِنْ السَّمَاءِ إلَى أَسْفَلِ سَافِلِينَ مِنْ حَيْثُ التَّضْيِيق الشَّدِيد وَالْآلَام المُتَرَاكِمَة وَالطَّيْر الَّذِي يخْطَفُ أَعْضَاءَهُ ويمَزِّقُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ بِالشَّيَاطِينِ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللهُ سبحانه وتعالى عَلَيْهِ تَؤُزُّهُ أَزًّا وَتُزْعِجُهُ وَتُقْلِقُهُ إلَى مَظَانِّ هَلَاكِهِ؛ فَكُلُّ شَيْطَانٍ لَهُ مُزْعَةٌ مِنْ دِينِهِ وَقَلْبِهِ، كَمَا أَنَّ لِكُلِّ طَيْرٍ مُزْعَةً مِنْ لَحْمِهِ وَأَعْضَائِهِ، وَالرِّيحُ الَّتِي تَهْوِي بِهِ فِي مَكَان سَحِيقٍ هُوَ هَوَاهُ الَّذِي يحملُهُ عَلَى إلْقَاءِ نَفْسِهِ فِي أَسْفَلِ مَكَان وَأَبْعَدِهِ مِنْ السَّمَاء

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 311 - 312)، وانظر:«الكشاف» (3/ 152) فقد نقل منه المصنف بتصرف.

ص: 162

37 -

قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} [الحج: 73]

(1)

.

حَقِيقٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَسْتَمِعَ لِهَذَا المَثَلِ، وَيَتَدَبَّرَهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ مَوَارد الشِّرْكِ مِنْ قَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ المَعْبُودَ أَقَلُّ دَرَجَاتِهِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إيجَادِ مَا يَنْفَعُ عَابِده وَإِعْدَامِ مَا يَضُرُّهُ، وَالْآلِهَةُ الَّتِي يَعْبُدُهَا المُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ تَقْدِرَ عَلَى خَلْقِ ذُّبَاب وَلَو اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ لِخَلْقِهِ، فَكَيْفَ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ؟ وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِصَارِ مِنْ الذُّبَابِ إذَا سَلَبَهُمْ شَيْئًا مِمَّا عَلَيْهِمْ مِنْ طِيبٍ وَنَحْوِهِ فَيَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، فَلَا هُمْ قَادِرُونَ عَلَى خَلْقِ الذُّبَابِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَضْعَفِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَا عَلَى الِانْتِصَارِ مِنْهُ وَاسْتِرْجَاعِ مَا يسلبهُمْ إيَّاهُ، فَلَا أَعْجزَ مِنْ هَذِهِ الْآلِهَةِ، وَلَا أَضْعَفَ مِنْهَا، كَيْفَ يَسْتَحْسِنُ عَاقِلٌ عِبَادَتَهَا مِنْ دُونِ الله سبحانه وتعالى؟!

وَهَذَا المَثَلُ مِنْ أَبْلَغِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ فِي بُطْلَانِ الشِّرْكِ، وَتَجْهِيلِ أَهْلِهِ، وَتَقْبِيحِ عُقُولِهِمْ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّ الشَّياطينَ قَدْ تَلَاعَب بِهِمْ أَعْظَمَ مِنْ تَلَاعُبِ الصِّبْيَانِ بِالْكُرَةِ، حَيْثُ أَعطوا الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي مِنْ بَعْضِ لَوَازِمِهَا الْقُدْرَةُ عَلَى جَمِيعِ المَقْدُورَاتِ، وَالْإِحَاطَةُ بِجَمِيعِ المَعْلُومَاتِ، وَالْغِنَى عَنْ جَمِيعِ المَخْلُوقَاتِ، وَأَنْ يصمدَ إلَى الرَّبِّ فِي جَمِيعِ الْحَاجَاتِ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهَفَاتِ، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، فَأَعْطَوْهَا صُوَرًا وَتَمَاثِيلَ تمتَنِعُ عَلَيْهَا الْقُدْرَةُ عَلَى مَخْلُوقَاتِ الآلِهَةِ الْحَقِّ وَأَذَلِّهَا وَأَصْغَرِهَا وَأَحْقَرِهَا، وَلَو اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَتَعَاوَنُوا عَلَيْهِ.

(1)

أخرجه الطبري بإسناد صحيح إلى ابن زيد في قوله: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا}

إلى آخر الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لآلهتهم، وقرأ:{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} حين يعبدون مع الله ما لا ينتصف من الذباب ولا يمتنع منه.

ص: 163

وَأَدَلُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَجْزِهِمْ وَانْتِفَاءِ إلَهِيَّتِهِمْ: أَنَّ هَذَا الْخَلْقَ الْأَقَلَّ الْأَذَلَّ الْعَاجِزَ الضَّعِيفَ لَو اخْتَطَفَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَاسْتَلَبَهُ فَاجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ لَعَجزُوا عَنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ الْعَابِدِ وَالمَعْبُودِ فِي الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ بِقَوْلِهِ:{ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قِيلَ: الطَّالِبُ الْعَابِدُ، وَالْمَطْلُوبُ الْمَعْبُودُ، فَهُوَ عَاجِزٌ مُتَعَلِّقٌ بِعَاجِزٍ، وَقِيلَ: هُوَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ السَّالِبِ وَالمَسْلُوبِ، وَهُوَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْإِلَهِ وَالذُّبَابِ فِي الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ؛ وَعَلَى هَذَا: فالطَّالِبُ الْإِلَهُ الْبَاطِلُ، وَالْمَطْلُوبُ الذُّبَابُ يَطْلُبُ مِنْهُ مَا اسْتَنقذه مِنْهُ، وَقِيلَ: الطَّالِبُ الذُّبَابُ، وَالمَطْلُوبُ الْإِلَهُ، فَالذُّبَابُ يَطْلُبُ مِنْهُ مَا يَأْخُذُهُ مِمَّا عَلَيْهِ.

وَالصَّحِيحُ: أَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، فَضَعْفُ الْعَابِدِ وَالمَعْبُودِ وَالمُسْتَلِبِ وَالمُسْتَلَبِ؛ فَمَنْ جَعَلَ هَذَا إلَهًا مَعَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ فَمَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وَلَا عَظَّمَهُ حَقَّ عظمتهِ

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 312 - 313)، و «مفتاح دار السعادة» (2/ 333)، و (3/ 197)، و «الصواعق المرسلة» (2/ 466) و (4/ 1363).

ص: 164

‌سورة النور

38 -

قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35].

وقد ضرب سبحانه وتعالى النور في قلب عبده مثلًا لا يعقله إلا العالمون، فقال سبحانه وتعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} [النور: 35].

قال أبي بن كعب: «مثل نوره في قلب المسلم»

(1)

.

وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه من معرفته ومحبته والإيمان به وذكره، وهو نوره الذي أنزله إليهم، فأحياهم به، وجعلهم يمشون به بين الناس، وأصله في قلوبهم، ثم تقوى مادتُه فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم، بل ثيابهم ودورهم، يُبْصِرُه مَنْ هو من جنسهم وسائر الخلق له منكرون.

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه الطبري من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية عن أبي به.

وفي رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع اضطرابٌ كثيرٌ. قاله ابن حبان.

ص: 165

فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بإيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه، وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا؛ فمنهم من نوره كالشمس، وآخر كالقمر، وآخر كالنجوم، وآخر كالسراج، وآخر يُعطى نورًا على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذا كانت هذه حال نوره في الدنيا، فأعطي على الجسر بمقدار ذلك، بل هو نفس نوره ظهر له عيانًا، ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا بل كان نوره ظاهرًا، لا باطنًا أُعطي نورًا ظاهرًا مآله إلى الظلمة والذهاب.

وضرب الله عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلًا بالمشكاة، وهي: الكوة في الحائط. فهي مثل الصدر، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج، وحتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه، وهي مثل القلب، وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافًا هي في قلب المؤمن، وهي: الصفاء والرقة والصلابة، فيرى الحق والهدى بصفائه، وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته، ويجاهد أعداء الله سبحانه وتعالى ويغلظ عليهم ويشتد في الحق ويصلب فيه بصلابته، فلا تُبطل صفةٌ منه صفةً أخرى ولا تعاديها بل تساعدها وتعاضدها، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

وقال سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. وقال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73].

ص: 166

وفي أثرٍ: «القلوب آنية الله سبحانه وتعالى في أرضه فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها»

(1)

.

* وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيض:

أحدهما: قلب حجري قاسٍ لا رحمة فيه ولا إحسان ولا بر ولا له صفاء يرى به الحق بل هو جبار جاهل، لا علم له بالحق ولا رحمة للخلق.

وبإزائه قلب ضعيف مائي، لا قوة فيه ولا استمساك، بل يقبل كل صورة، وليس له قوة حفظ تلك الصور، ولا قوة التأثير في غيره، وكل ما خالطه أثر فيه من قوي وضعيف وطيب وخبيث.

وفي الزجاجة مصباح؛ وهو النور الذي في الفتيلة، وهي حاملته، ولذلك النور مادة؛ وهي زيت قد عصر من زيتونة في أعدل الأماكن، تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فزيتها من أصفى الزيت، وأبعده من الكدر، حتى إنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار، فهذه مادة نور المصباح.

وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن، هو من شجرة الوحي التي

(1)

صح مقطوعًا من قول خالد بن معدان: أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد «الزهد» (2307) عن أبيه عن عبد الله بن الحارث المخزومي عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان. ووصله محمد بن القاسم الأسدي عن أبي أمامة رضي الله عنه وهو كذاب.

أخرجه أيضًا: عبد الله بن أحمد في زوائد «الزهد» (834).

وأسنده الطبراني في «مسند الشاميين» (840) عن جعفر الفريابي عن إسحاق بن راهويه عن بقية بن الوليد حدثني محمد بن زياد عن أبي عِنبة مرفوعًا. وخالف بقية بن الوليد أبو مطيع معاوية بن يحيى الأطرابلسي فأوقفه، وتابعه أيضًا عبد الوهاب بن نجدة وبكر ابن زرعة. وانظر:«الصحيحة» (1691) للعلامة الألباني رحمه الله.

ص: 167

هي أعظم الأشياء بركة، وأبعدها من الانحراف، بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها، لم تنحرف انحراف النصرانية، ولا انحراف اليهودية، بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شيء، فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن.

ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه، ثم خالط النار فاشتدت بها إضاءته، وقويت مادة ضوء النار به كان ذلك نورًا على نور. وهكذا المؤمن قلبه مضيء يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله، ولكن لا مادة له من نفسه فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه، وخالطت بشاشته، فازداد نورًا بالوحي على نوره الذي فطره الله سبحانه وتعالى عليه، فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة، نور على نور، فيكاد ينطق بالحق وإن لم يسمع فيه أثرًا، ثم يسمع الأثر مطابقًا لما شهدت به فطرته، فيكون نورًا على نور، فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملًا، ثم يسمع الأثر جاء به مفصلًا، فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي والفطرة.

فليتأمل اللبيبُ هذه الآيةَ العظيمةَ، ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة، فذكر سبحانه وتعالى نوره في السموات والأرض، ونوره في قلوب عباده المؤمنين، النور المعقول المشهود بالبصائر والقلوب، والنور المحسوس المشهود بالأبصار الذي استنارت به أقطار العالم العلوي والسفلي، فهما نوران عظيمان أحدهما أعظم من الآخر.

وكما أنه إذا فُقِد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره؛ لأن الحيوان إنما يتكون حيث النور، ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور لا يعيش فيها حيوان، ولا يتكون ألبتة فكذلك أمة فُقِدَ منها نور الوحي والإيمان ميتة، وقلب فُقِدَ منه هذا النور ميت ولا بد، لا حياة له البتة، كما لا حياة للحيوان

في مكان لا نور فيه

(1)

.

(1)

«الوابل الصيب» (119 - 124) ط عالم الفوائد.

ص: 168

‌فَصْلٌ

والله سبحانه وتعالى سمى نفسه نورًا، وجعل كتابه نورًا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورًا ودينه نورًا. واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورًا يتلألأ. قال سبحانه وتعالى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)} .

وقد فسر قوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بكونه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى.

* والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين:

إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله.

فالأول: كقوله عز وجل: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69]. فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره سبحانه وتعالى إذا جاء لفصل القضاء.

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: «أعوذ بنور وجهك الكريم أن تضلني لا إله إلا أنت»

(1)

.

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما أخرج مسلم (2717) «

أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي

» والبخاري (7383) نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 169

وفي الأثر الآخر: «أعوذ بوجهك أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات»

(1)

، فأخبر أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله؛ كما أخبر سبحانه وتعالى أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.

وفي معجم الطبراني والسُّنَّة له، وكتاب عثمان الدارمي، وغيرها، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه)

(2)

.

وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السماوات والأرض.

وأما من فسرها بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض بهذه الاعتبارات كلها.

وفي صحيح مسلم

(3)

وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله بخمس كلمات فقال: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه الطبراني في «الدعاء» (1036)، والأصبهاني في «الحجة في بيان المحجة» (462) وفي إسناده محمد بن إسحاق مدلس، ولم يصرح بالتحديث.

وانظر: «الضعيفة» (2933) للعلامة الألباني رحمه الله.

(2)

إسناده ضعيف: أخرجه أبو داود في «الزهد» (158)، والطبراني في «المعجم الكبير» (8886) وفي إسناده أبو عبد السلام -الزبير بن جوان شير- ضعفه الدولابي في «الكنى» (2/ 133).

(3)

ص: 170

من خلقه».

وفي صحيح مسلم

(1)

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نور أنّى أراه»

(2)

.

فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: معناه كان ثم نور، وحال دون رؤيته نور، فأنّى أراه!!

قال: ويدل عليه أن في بعض ألفاظ الصحيح: هل رأيت ربك؟ فقال: «رأيت نورًا» .

وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال: «نوراني أراه» على أنها ياء النسب، والكلمة كلمة واحدة، وهذا خطأ لفظًا ومعنًى، وإنما أوجب لهم هذا الإشكال والخطأ أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه وكان قوله:«أنّى أراه» ، كالإنكار للرؤية حاروا في الحديث؛ ورده بعضهم باضطراب لفظه، وكل هذا عدول عن موجب الدليل.

وقد حكى عثمانُ بن سعيد الدارمي، في كتاب الرد له، إجماعَ الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج، وبعضهم استثنى ابن عباس من ذلك.

وشيخنا يقول: ليس ذلك بخلاف في الحقيقة، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه

(3)

، وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين حيث قال: إنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل ولم يقل بعيني رأسه، ولفظ أحمد كلفظ ابن عباس رضي الله عنهما.

(1)

(2)

أخرجه مسلم (178).

(3)

أخرج مسلم (176) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رآه بقلبه.

ص: 171

ويدل على صحة ما قاله شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «حجابه النور»

(1)

، فهذا النور هو - والله أعلم - النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه:«رأيت نورًا» .

* * *

(1)

أخرجه مسلم (179) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

ص: 172

‌فَصْلٌ

وقوله سبحانه وتعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ

الآية} هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن، كما قال أبي بن كعب وغيره

(1)

.

وقد اختلف في مفسر الضمير في «نوره» فقيل: هو النبي صلى الله عليه وسلم، أي: مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: مفسره المؤمن، أي: مثل نور المؤمن، والصحيح: أنه يعود على الله سبحانه وتعالى، والمعنى: مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده، وأعظم عباده نصيبًا من هذا النور رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا مع تضمنه عود الضمير المذكور وهو وجه الكلام يتضمن التقادير الثلاثة، وهو أتم لفظًا ومعنًى.

وهذا النور يضاف إلى الله سبحانه وتعالى إذ هو معطيه لعبده وواهبه إياه، ويضاف إلى العبد إذ هو محله وقابله، فيضاف إلى الفاعل والقابل، ولهذا النور فاعل وقابل ومحل وحامل ومادة وقد تضمنت الآيةُ ذكرَ هذه الأمور كلها على وجه التفصيل.

فالفاعل: هو الله سبحانه وتعالى مفيض الأنوار، الهادي لنوره من يشاء.

والقابل: العبد المؤمن.

والمحل: قلبه.

والحامل: همته وعزيمته وإرادته.

والمادة: قوله وعمله.

(1)

أما أثر أبي رضي الله عنه فأخرجه الطبري بإسناد ضعيف؛ لأنه من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي به.

وفي رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع اضطراب كثير. قاله ابن حبان. وورد عن ابن عباس وإسناده منقطع.

ص: 173

وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقر به عيون أهله وتبتهج به قلوبهم.

* وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان:

إحداهما: طريقة التشبيه المركب وهي أقرب مأخذًا، وأسلم من التكلف، وهي: أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ومقابلته بجزء من المشبه به، وعلى هذا عامة أمثال القرآن الكريم.

فتأمل صفة المشكاة، وهي كوة لا تنفذ لتكون أجمع للضوء، قد وضع فيها مصباح، وذلك المصباح داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها، ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودًا، من زيت شجرة في وسط القراح

(1)

لا شرقية ولا غربية بحيث تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار، بل هي في وسط القراح محمية بأطرافه تصيبها الشمس أعدل إصابة، والآفات إلى الأطراف دونها، فمن شدة إضاءة زيتها وصفائها وحسنها يكاد يضيء من غير أن تمسه نار، فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله سبحانه وتعالى الذي وضعه في قلب عبده المؤمن وخصه به.

والطريقة الثانية: طريقة التشبيه المفصل، فقيل المشكاة صدر المؤمن، والزجاجة قلبه، وشبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها، وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة، فهو يرحم ويحسن ويتحنن، ويشفق على الخلق برقته.

(1)

القَرَاحُ: المزرعة التي ليس فيها بناء ولا شجر وجمعها: «أَقْرِحَةٌ» . «المصباح المنير» (م: قرح).

ص: 174

وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه ويباعد الكَدَر والدَّرَن والوَسَخ بحسب ما فيه من الصفاء، وبصلابته يشتد في أمر الله سبحانه وتعالى، ويتصلب في ذات الله سبحانه وتعالى ويغلظ على أعداء الله سبحانه وتعالى، ويقوم بالحق لله سبحانه وتعالى وقد جعل الله سبحانه وتعالى، القلوب كالآنية، كما قال بعض السلف:«القلوب آنية الله في أرضه، وأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها»

(1)

والمصباح: هو نور الإيمان في قلبه والشجرة المباركة هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى، ودين الحق، وهي مادة المصباح التي يتقد منها، والنور على النور: نور الفطرة الصحيحة والإدراك الصحيح، ونور الوحي والكتاب، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورًا على نور، ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه بالأثر، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع والفطرة والوحي، فيريه عقله وفطرته وذوقه أن الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل البتة، بل يتصادقان ويتوافقان.

فهذا علامة النور على النور، عكس من تلاطمت في قلبه أمواج الشبه الباطلة والخيالات الفاسدة من الظنون الجهليات التي يسميها أهلها القواطع العقليات

(2)

.

* * *

(1)

سبق التعليق عليه قريبًا.

(2)

«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص: 49 - 53)، و «إعلام الموقعين» (2/ 279)، و «شفاء العليل» (1/ 105).

ص: 175

39 -

قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} [النور: 39، 40].

ذَكَرَ سُبْحَانَهُ لِلْكَافِرِينَ مَثَلَيْنِ: مَثَلًا بِالسَّرَابِ، وَمَثَلًا بِالظُّلُمَاتِ المُتَرَاكِمَةِ.

* وَذَلِكَ لِأَنَّ المُعْرِضِينَ عَنْ الهُدَى وَالحَقِّ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ فبين لَهُ عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَقَائِقِ خِلَافَ مَا كَانَ يَظُنُّهُ، وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَعِلْمٍ، فَإِذَا انْكَشَفَت الْحَقَائِقُ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى شَيْءٍ، وَأَنَّ عَقَائِدَهُمْ وَأَعْمَالَهُم الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَيْهَا كَانَتْ كَسَرَابٍ تُرَى فِي أعيُنِ النَّاظِرِ مَاءً وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهَكَذَا الْأَعْمَالُ الَّتِي لِغَيْرِ الله عز وجل وَعَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ، يَحْسَبُهَا الْعَامِلُ نَافِعَةً وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي قَالَ اللهُ عز وجل فِيهَا:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23].

وَتَأَمَّلْ تشبيه اللهِ سُبْحَانَهُ السَّرَابَ بِالْقِيعَةِ - وَهِيَ الْأَرْضٌ قَفْرٌ الْخَالِيَةُ مِنْ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْعلمِ - فَمَحَلُّ السَّرَابِ أَرْضٌ قَفْرٌ لَا شَيْءَ بِهَا، وَالسَّرَابُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَذَلِكَ مُطَابِقٌ لِأَعْمَالِهِمْ وَقُلُوبِهِم الَّتِي أَقْفَرَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى.

وَتَأَمَّلْ مَا تَحْتَ قَوْلِهِ: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} ، وَالظَّمْآنُ الَّذِي اشْتَدَّ عَطَشُهُ فَرَأَى السَّرَابَ فَظَنَّهُ مَاءً فَتَبِعَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، بَلْ خَانَهُ أَحْوَجُ مَا كَانَ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ، لَمَّا كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ عَلَى غَيْرِ طَاعَةِ الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام، وَلِغَيْرِ اللهِ جُعِلَتْ كَالسَّرَابِ، فرفعَتْ لَهُمْ أَظْمَأَ مَا كَانُوا إليها، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، وَوَجَدُوا الله

ص: 176

سُبْحَانَه

(1)

ثَمَّ؛ فَجَازَاهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَوَفَّاهُمْ حِسَابَهُمْ.

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ التَّجَلِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا السَّرَابُ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللهِ، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ المَسِيحَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلَا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ: فَيَقُولُونَ: أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ لَهُمْ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ

(2)

.

وَهَذِهِ حَالُ كُلِّ صَاحِبِ بَاطِلٍ، فَإِنَّهُ يَخُونُهُ بَاطِلُهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إلَيْهِ، فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَهُوَ كَاسْمِهِ بَاطِلٌ؛ فَإِذَا كَانَ الِاعْتِقَادُ غَيْرَ مُطَابِقٍ وَلَا حَقٍّ كَانَ مُتَعَلَّقُهُ بَاطِلًا؛ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ غَايَةُ الْعَمَلِ بَاطِلَةً - كَالْعَمَلِ لِغَيْرِ اللهِ عز وجل، وعَلَى غَيْرِ أَمْرِهِ - بَطَلَ الْعَمَلُ بِبُطْلَانِ غَايَتِهِ، وَتَضَرَّرَ عَامِلُهُ بِبُطْلَانِهِ، وَبِحُصُولِ ضِدِّ مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ، فَلَمْ يَذْهَبْ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَاعْتِقَادُهُ، لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، بَلْ صَارَ مُعَذَّبًا بِفوَاتِ نَفْعِهِ، وَبِحُصُولِ ضِدِّ النَّفْعِ؛ فَلِهَذَا قَالَ سبحانه وتعالى:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} فَهَذَا مَثَلُ الضَّالِّ الَّذِي يَحْسَبُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى.

(1)

مقتبس من قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39].

(2)

صحيح: أخرجه البخاري رقم (7439)، ومسلم رقم (183).

ص: 177

‌فَصْلٌ

[أصحاب مثل الظلمات المتراكمة]

النَّوْعُ الثَّانِي: أَصْحَابُ مَثَلِ الظُّلُمَاتِ المُتَرَاكِمَةِ، وَهُمْ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَالْهُدَى، وَآثَرُوا عَلَيْهِ ظُلُمَاتِ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ، فَتَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ ظُلْمَةُ الطَّبْعِ وَظُلْمَةُ النُّفُوسِ وَظُلْمَةُ الْجَهْلِ حَيْثُ لَمْ يَعْمَلُوا بِعِلْمِهِمْ فَصَارُوا جَاهِلِينَ، وَظُلْمَةُ اتِّبَاعِ الْغَيِّ وَالْهَوَى، فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ كَانَ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ لَا سَاحِلَ لَهُ وَقَدْ غَشِيَهُ مَوْجٌ وَمِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْمَوْجِ مَوْجٌ، وَمِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ مُظْلِمٌ به، فَهُوَ فِي ظُلْمَةِ الْبَحْرِ وَظُلْمَةِ المَوْجِ وَظُلْمَةِ السَّحَابِ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ الَّتِي لَمْ يُخْرِجْهُ اللهُ مِنْهَا إلَى نُورِ الْإِيمَانِ.

وَهَذَانِ المَثَلَانِ بِالسَّرَابِ الَّذِي ظَنَّهُ مَادَّةَ الْحَيَاةِ وَهُوَ المَاءُ، وَالظُّلُمَاتُ المُضَادَّةُ لِلنُّورِ نَظِيرُ المَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبَهُمَا اللهُ لِلْمُنَافِقِينَ وَالمُؤْمِنِينَ، وَهُما المَثَلُ المَائِيُّ وَالمَثَلُ النَّارِيُّ، وَجَعَلَ حَظَّ المُؤْمِنِينَ مِنْهُمَا الْحَيَاةَ وَالْإِشْرَاقَ وَحَظَّ المُنَافِقِينَ مِنْهُمَا الظُّلْمَةَ المُضَادَّةَ لِلنُّورِ وَالمَوْتَ المُضَادَّ لِلْحَيَاةِ؛ فَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ فِي هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ، حَظُّهُم مِنْ الْمَاءِ السَّرَابُ الَّذِي يَغُرّ النَّاظِرَ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَحَظُّهُم الظُّلُمَاتُ المُتَرَاكِمَةُ.

وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِهِ حَالُ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُمْ عَدِمُوا مَادَّةَ الْحَيَاةِ وَالْإِضَاءَةِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الْوَحْيِ؛ فَيَكُونُ المَثَلَانِ صِفَتَيْنِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرَادُ بِهِ تَنْوِيعُ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ أَصْحَابَ المَثَلِ الْأَوَّلِ هُمْ الَّذِينَ عَمِلُوا عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، بَلْ عَلَى جَهْلٍ وَحُسْنِ ظَنٍّ بِالْأَسْلَافِ، فَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وَأَصْحَابُ المَثَلِ الثَّانِي هُمْ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَآثَرُوا الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ، وَعَمُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ

ص: 178

أَبْصَرُوهُ، وَجَحَدُوا بَعْدَ أَنْ عَرَفُوهُ، فَهَذَا حَالُ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوَّلُ حَالُ الضَّالِّينَ.

وَحَالُ الطَّائِفَتَيْنِ مُخَالِفٌ لِحَالِ المُنْعَمِ عَلَيْهِم المَذْكُورِينَ فِي قَوْله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ} إلَى قَوْلِهِ: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} .

* فَتَضَمَّنَت الْآيَاتُ أَوْصَافَ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ:

- المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ؛ وَهُمْ أَهْلُ النُّورِ.

- وَالضَّالِّينَ: وَهُمْ أَصْحَابُ السَّرَابِ.

- وَالمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: وَهُمْ أَهْلُ الظُّلُمَاتِ المُتَرَاكِمَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

فَالمَثَلُ الْأَوَّلُ مِنْ المَثَلَيْنِ لِأَصْحَابِ الْعَمَلِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ، وَالمَثَلُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ وَالِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَكِلَاهُمَا مُضَادٌّ لِلْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا مَثَّلَ حَالَ الْفَرِيقِ الثَّانِي فِي تَلَاطُمِ أَمْوَاجِ الشُّكُوكِ وَالشُّبُهَاتِ وَالْعُلُومِ الْفَاسِدَةِ فِي قُلُوبِهِمْ بِتَلَاطُمِ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ فِيهِ، وَأَنَّهَا أَمْوَاجٌ مُتَرَاكِمَةٌ مِنْ فَوْقِهَا سَحَابٌ مُظْلِمٌ، وَهَكَذَا أَمْوَاجُ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ فِي قُلُوبِهِمْ المُظْلِمَةِ الَّتِي قَدْ تَرَاكَمَتْ عَلَيْهَا سُحُبُ الْغَيِّ وَالْهَوَى وَالْبَاطِلِ، فَلْيَتَدَبَّر اللَّبِيبُ أَحْوَالَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلْيُطَابِقْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَثَلَيْنِ، يَعْرِفْ عَظَمَةَ الْقُرْآنِ وَجَلَالَتَهُ، وَأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.

وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ المُوجِبَ لِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ نُورًا، بَلْ تَرَكَهُمْ عَلَى الظُّلْمَةِ الَّتِي خُلِقُوا فِيهَا فَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنْهَا إلَى النُّورِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ {وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257].

ص: 179

وَفِي «المُسْنَدِ»

(1)

مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

قَالَ: «إنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، وَأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ» .

فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ الله، فَاَللهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ، فَمَنْ أَرَادَ هِدَايَتَهُ جَعَلَ لَهُ نُورًا وُجُودِيًّا يُحْيِي بِهِ قَلْبَهُ وَرُوحَهُ كَمَا يُحْيِي بَدَنَهُ بِالرُّوحِ الَّتِي يَنْفُخُهَا فِيهِ، فَهُمَا حَيَاتَانِ: حَيَاةُ الْبَدَنِ بِالرُّوحِ، وَحَيَاةُ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ بِالنُّورِ، وَلِهَذَا سَمَّى سُبْحَانَهُ الْوَحْيَ رُوحًا لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى: {يُنَزِّلُ

(1)

إسناده صحيح: أخرجه أحمد (2/ 176)، وابن أبي عاصم في «السنة» (243)، والحاكم في «المستدرك» (1/ 30 - 31)، وابن بطة في «الإبانة» رقم (1409) وغيرهم من طرق عن الأوزاعي حدثني ربيعة بن يزيد.

وأخرجه الترمذي في «جامعه» رقم (2642)، والفريابي في «القدر» رقم (66)، وابن أبي عاصم في «السنة» رقم (241) وغيرهم من طرق عن يحيي بن أبي عمرو السيباني.

وأخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» رقم (939) مختصرًا من طريق عروة بن رويم.

ثلاثتهم عن عبد الله بن فيروز عن عبد الله بن عمرو

به مرفوعًا.

وأخرجه النسائي (2/ 34) مختصرًا، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» رقم (1076)، والطبراني في «مسند الشاميين» رقم (517) من طريق سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن عبد الله بن الديلمي به. فزاد أبا إدريس. وإسناده صحيح.

وقد أثبت البخاري في «تاريخه» (3/ 288) سماع ربيعة بن يزيد من ابن الديلمي.

ووجه الجمع بين الروايتين لعله سمعه من أبي إدريس عن ابن الديلمي ثم سمعه من ابن الديلمي.

والحديث حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.

ص: 180

الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]

(1)

.

وَقَالَ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]، وَقَالَ سبحانه وتعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] فَجَعَلَ وَحيهُ رُوحًا وَنُورًا، فَمَنْ لَمْ يُحْيِهِ بِهَذَا الرُّوحِ فَهُوَ مَيِّتٌ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا مِنْهُ فَهُوَ فِي الظُّلُمَاتِ مَا لَهُ مِنْ نُورٍ

(2)

.

* * *

(1)

قال الشنقيطي في «أضواء البيان» (3/ 256): أظهر الأقوال في معنى الروح في هذه الآية الكريمة: أن المراد بها الوحي؛ لأن الوحي به حياة الأرواح، كما أن الغذاء به حياة الأجسام. ويدل لهذا قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]، وقوله:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 15 - 16].

ومما يدل على أن المراد بالروح بالوحي إتيانه بعد قوله: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} بقوله: {أَنْ أَنْذِرُوا} [النحل: 2] لأن الإنذار إنما يكون بالوحي، بدليل قوله:{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} الآية [الأنبياء: 45]، وكذا لإتيانه بعد قوله:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] بقوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} الآية [غافر: 15]؛ لأن الإنذار إنما يكون بالوحي أيضًا.

(2)

«إعلام الموقعين» (2/ 277 - 281)، وانظر:«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص/ 59، 58، 53)، و «الروح» (ص/ 545)، و «الصواعق المرسلة» (2/ 774).

ص: 181

‌سورة الفرقان

40 -

قال سبحانه وتعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)}

[الفرقان: 33].

هذا غاية الكمال أن يكون المعنى في نفسه حقًّا والتعبير عنه أفصح تعبير وأحسنه وهذا شأن القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

.

* * *

(1)

«الصواعق المرسلة» (1/ 215).

قال الإمام الطبري: يقول تعالى ذكره: ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون بمثل يضربونه إلا جئناك من الحق، بما نبطل به ما جاءوا به، وأحسن منه تفسيرًا.

ص: 182

41 -

قال سبحانه وتعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44].

فَشَبَّهَ أَكْثَرَ النَّاسِ بِالْأَنْعَامِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ التَّسَاوِي فِي عَدَمِ قَبُولِ الْهُدَى وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَجَعَلَ الْأَكْثَرِينَ أَضَلَّ سَبِيلًا مِنْ الْأَنْعَامِ؛ لِأَنَّ الْبَهِيمَةَ يَهْدِيهَا سَائِقُهَا فَتَهْتَدِي وَتَتْبَعُ الطَّرِيقَ، فَلَا تَحِيدُ عَنْهَا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَالْأَكْثَرُونَ يَدْعُونهُم الرُّسُلُ وَيهْدُونَهُم السَّبِيلَ فَلَا يَسْتَجِيبُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا يَضُرُّهُمْ وَبَيْنَ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَالْأَنْعَامُ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَضُرُّهَا مِنْ النَّبَاتِ وَالطَّرِيقِ فَتَجْتَنِبهُ وَمَا يَنْفَعُهَا فَتُؤْثِرُهُ، وَاللهُ سبحانه وتعالى لَمْ يَخْلُق لِلْأَنْعَامِ قُلُوبًا تَعْقِلُ بِهَا، وَلَا أَلْسِنَةً تَنْطِقُ بِهَا، وَأَعْطَى ذَلِكَ لِهَؤُلَاءِ ثُمَّ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنْ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ، فَهُمْ أَضَلُّ مِنْ الْبَهَائِمِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَهْتَدِي إلَى الرُّشْدِ وَإِلَى الطَّرِيقِ مَعَ الدَّلِيلِ له أَضَلُّ وَأَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ لَا يَهْتَدِي حَيْثُ لَا دَلِيلَ مَعَهُ

(1)

.

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 281)، و «الصواعق» (1/ 215).

قال الشنقيطي رحمه الله: «وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلوا أضل من الأنعام؟

قلت: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها، وتجتنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي». انتهى منه.

وإذا علمت ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فاعلم أن الله بينه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في سورة الأعراف:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} [الأعراف: 179]، وقوله تعالى في البقرة: =

ص: 183

‌سورة العنكبوت

42 -

قال سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)} [العنكبوت: 41].

فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ، وَأَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَهُمْ أَضْعَفُ مِنْهُمْ، فَهُمْ فِي ضَعْفِهِمْ وَمَا قَصَدُوهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ كَالْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، وَهُوَ أَوْهَنُ الْبُيُوتِ وَأَضْعَفُهَ

(1)

.

وَتَحْتَ هَذَا المَثَلِ أَنَّ هَؤُلَاءِ المُشْرِكِينَ أَضْعَفُ مَا كَانُوا حِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ الله أَوْلِيَاءَ فَلَمْ يَسْتَفِيدُوا بِمَنْ اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ إلَّا ضَعْفًا، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 81 - 82].

وَقَالَ سبحانه وتعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)}

(2)

.

= {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171].

(1)

أخرج الطبري في «تفسيره» (8/ 6476)، وابن أبي حاتم رقم (18168) بإسناد حسن عن قَتادة، قوله:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} قال: هذا مثل ضربه الله للمشرك: مَثل إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت واهن ضعيف لا ينفعه.

(2)

أخرج الطبري في تفسيره (8/ 6861) بإسناد حسن عن قتادة: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} الآلهة {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيرًا، ولا تدفع عنهم سوءًا، إنما هي أصنام.

ص: 184

وَقَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ إهْلَاكَ الْأُمَمِ المُشْرِكِينَ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)} [هود: 101].

فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا يَتَعَزَّزُ بِهِ وَيَتَكَبَّرُ بِهِ وَيَسْتَنْصِرُ بِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِهِ إلَّا ضِدُّ مَقْصُودِهِ، وَفِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَمْثَالِ وَأَدَلِّهَا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَخَسَارَةِ صَاحِبِهِ وَحُصُولِهِ عَلَى ضِدِّ مَقْصُودِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، فَكَيْفَ نَفَى عَنْهُمْ عِلْمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .

فَالجَوَابُ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَنْفِ عَنْهُمْ عِلْمَهُمْ بِوَهَنِ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ، وَإِنَّمَا نَفَى عَنْهُمْ عِلْمَهُمْ بِأَنَّ اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ كَالْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا، فَلَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَمَا فَعَلُوهُ، وَلَكِنْ ظَنُّوا أَنَّ اتِّخَاذَهُم الْأَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ تُفِيدُهُمْ عِزًّا، وَقُوةً، فَكَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ مَا ظَنُّوا

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 275 - 276).

ص: 185

43 -

قال سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت: 43].

أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يعقل أمثاله إلا العالمون، والكفار لا يدخلون في مسمى العالمين، فهم لا يعقلونها

(1)

.

* * *

(1)

«مفتاح دار السعادة» (1/ 317).

أخرج ابن أبي حاتم في «التفسير» (18174) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بن الجنيد، ثنا أَحْمَدُ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدشتكي، ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد، ثنا أَبُو سِنَانٍ سعيد بن سنان، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني، لأني سمعت الله تعالى يقول:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} . وإسناده صحيح.

ص: 186

‌سورة الروم

44 -

قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)} [الروم: 27]

(1)

.

45 -

وقال سبحانه وتعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} [الروم: 28].

وَهَذَا دَلِيلُ قِيَاسٍ احْتَجَّ اللهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَلَى المُشْرِكِينَ حَيْثُ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عَبِيدِهِ وَمِلْكِهِ شُرَكَاءَ، فَأَقَامَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً يَعْرِفُونَ صِحَّتَهَا مِنْ نُفُوسِهِمْ، لَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا إلَى غَيْرِهِمْ، وَمِنْ أَبْلَغِ الْحِجَاجِ أَنْ يَأْخُذَ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ، وَيَحْتَجَّ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ، مُقَرَّرٌ عندها مَعْلُومٌ لَهَا، فَقَالَ:{هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ} ، عَبِيدِكُمْ وَإِمَائِكُمْ شُرَكَاءَ فِي المَالِ وَالْأَهْلِ؟ أَيْ: هَلْ يُشَارِكُكُمْ عَبِيدُكُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ فَأَنْتُمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، تَخَافُونَ أَنْ يُقَاسِمُوكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَيُشَاطِرُوكُمْ إيَّاهَا، وَيَسْتَأْثِرُونَ بِبَعْضِهَا عَلَيْكُمْ، كَمَا يَخَافُ الشَّرِيكُ شَرِيكَهُ؟

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَخَافُونَ أَنْ يَرِثُوكُمْ كَمَا يَرِثُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا

(2)

. وَالمَعْنَى: هَلْ يَرْضَى أَحَدٌ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكَهُ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ حَتَّى

(1)

انظر: ما سبق في الآية (60) من سورة النحل.

(2)

إسناده منقطع: علقه البخاري كما في «الفتح» (8/ 370)، ووصله الطبري في «التفسير» رقم (27775) من طريق عطاء الخرساني عن ابن عباس.

قال الإمام أحمد: لم يسمع من ابن عباس شيئًا.

ص: 187

يُسَاوِيَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ يَخَافُ أَنْ يَنْفَرِدَ فِي مَالِهِ بِأَمْرٍ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَمَا يَخَافُ غَيْرَهُ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَحْرَارِ؟ فَإِذَا لَمْ تَرْضَوْا ذَلِكَ لِأَنْفُسِكُمْ فَلِمَ عَدَلْتُمْ بِي مِنْ خَلْقِي مَنْ هُوَ مَمْلُوكٌ لِي؟ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ بَاطِلًا فِي فِطَرِكُمْ وَعُقُولِكُمْ - مَعَ أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَيْكُمْ مُمْكِنٌ فِي حَقِّكُمْ؛ إذْ لَيْسَ عَبِيدُكُمْ مِلْكًا لَكُمْ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُمْ إخْوَانُكُم جَعَلَهُم اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، وَأَنْتُمْ وَهُمْ عبادي، فَكَيْفَ تَسْتَجِيزُونَ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ فِي حَقِّي، مَعَ أَنَّ مَنْ جَعَلْتُمُوهُمْ لِي شُرَكَاءَ عَبِيدِي وَمِلْكِي وَخَلْقِي؟ فَهَكَذَا يَكُونُ تَفْصِيلُ الْآيَاتِ لِأُولِي الْعُقُولِ

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 281 - 282)، وانظر:«الجواب الكافي» (ص/ 193) ط ابن رجب.

ص: 188

‌سورة يس

46 -

قال سبحانه وتعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)}

[يس: 13 - 19].

{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14].

قال: قوينا.

قال: هي أنطاكية.

وجاء الثالث وقد اجتمع الناس على الاثنين فقال: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 20 - 21]

(1)

.

(1)

«بدائع الفوائد» (3/ 1033).

أخرج الطبري بإسناد حسن عن قتادة {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} قال: ذُكر لنا أن عيسى ابن مريم بعث رجلين من الحواريين إلى أنطاكية - مدينة بالروم- فكذبوهما فأعزهما بثالث {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} ، وانظر: تفسير ابن كثير في تعقبه على قول قتادة.

قال السعدي رحمه الله: أي: واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك، الرادين لدعوتك، مثلًا يعتبرون به، ويكون لهم موعظة إن وفقوا للخير، وذلك المثل: أصحاب القرية، وما =

ص: 189

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= جرى منهم من التكذيب لرسل الله، وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله، وتعيين تلك القرية، لو كان فيه فائدة، لعينها الله، فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف والتكلم بلا علم، ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذا تجد عنده من الخبط والخلط والاختلاف الذي لا يستقر له قرار، ما تعرف به أن طريقَ العلم الصحيح، الوقوفُ مع الحقائق، وترك التعرض لما لا فائدة فيه، وبذلك تزكو النفس، ويزيد العلم، من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر الأقوال التي لا دليل عليها، ولا حجة عليها ولا يحصل منها من الفائدة إلا تشويش الذهن واعتياد الأمور المشكوك فيها.

والشاهد: أن هذه القرية جعلها الله مثلًا للمخاطبين. {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} من الله تعالى يأمرونهم بعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، وينهونهم عن الشرك والمعاصي.

{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي: قويناهما بثالث، فصاروا ثلاثة رسل، اعتناء من الله بهم، وإقامة للحجة بتوالي الرسل إليهم، {فَقَالُوا} لهم:{إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} فأجابوهم بالجواب الذي ما زال مشهورًا عند من رد دعوة الرسل: ف {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي: فما الذي فضلكم علينا وخصكم من دوننا؟ قالت الرسل لأممهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .

{وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} أي: أنكروا عموم الرسالة، ثم أنكروا أيضًا المخاطبين لهم، فقالوا:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}

فقالت هؤلاء الرسل الثلاثة: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} فلو كنا كاذبين، لأظهر الله خزينا، ولبادَرَنَا بالعقوبة.

{وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أي: البلاغ المبين الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها، وما عدا هذا من آيات الاقتراح، ومن سرعة العذاب، فليس إلينا، وإنما وظيفتنا -التي هي البلاغ المبين- قمنا بها، وبيناها لكم، فإن اهتديتم، فهو حظكم وتوفيقكم، وإن ضللتم، فليس لنا من الأمر شيء.

فقال أصحاب القرية لرسلهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي: لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إلا الشر، وهذا من أعجب العجائب، أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم الله بها على العباد، وأجل كرامة يكرمهم بها، وضرورتهم إليها فوق كل =

ص: 190

47 -

قال سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا

أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}

[يس: 78 - 83]

(1)

.

= ضرورة، قد قدم بحالة شر، زادت على الشر الذي هم عليه، واستشأموا بها، ولكن الخذلان وعدم التوفيق، يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه.

ثم توعدوهم فقالوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} أي: لنقتلنكم رجمًا بالحجارة أشنع القتلات {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

فقالت لهم رسلهم: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} وهو ما معهم من الشرك والشر، المقتضي لوقوع المكروه والنقمة، وارتفاع المحبوب والنعمة. {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ} أي: بسبب أنا ذكرناكم ما فيه صلاحكم وحظكم، قلتم لنا ما قلتم.

{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} متجاوزون للحد، متجرهمون في قولكم، فلم يزدهم دعاؤهم إلا نفورًا واستكبارًا.

(1)

أخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره» (18665) بسند صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْعَاصِي بْنَ وَائِلٍ أَخَذَ عَظْمًا مِنَ الْبَطْحَاءِ فَفَتَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: أَيُحْيِي اللهُ تَعَالَى هَذَا بَعْدَ مَا أَرَى؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، يُمِيتُكَ اللهُ ثُمَّ يُحْيِيكَ، ثُمَّ يُدْخِلُكَ جَهَنَّمَ» ، قَالَ: وَنَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخَرِ «يس» .

وروي بسند مسلسل بالضعفاء عن ابن عباس: أن ذلك كان في أبي بن خلف، واستنكره ابن كثير؛ لأن السورة مكية وعبد الله بن أبي بن سلول إنما كان بالمدينة، وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أبي بن خلف أو العاصي بن وائل أو فيهما، فهي عامة في كل من أنكر البعث والعياذ بالله تعالى.

ص: 191

قال سبحانه في تثبيت أمر البعث: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 78، 79]. إلى آخر السورة.

فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها في ألفاظ تشابه هذه الألفاظ؛ في الإيجاز والاختصار، ووضوح الدلالة، وصحة البرهان لألفى نفسه ظاهر العجز منقطع الطمع يستحي الناس من ذلك.

فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده الملحد اقتضى جوابًا فكان في قوله سبحانه: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ما وَفَّى بالجواب، وأقام الحجة وأزال الشبهة، لولا ما أراد سبحانه من تأكيد حجته وزيادة تقريرها، وذلك أنه سبحانه أخبر أن هذا الملحد السائل عن هذه المسألة لو لم ينس خلق نفسه، وبدأ كونه، وذكر خلقه، لكانت فكرته فيه كافية في جوابه مسكتة له عن هذا السؤال، ثم أوضح سبحانه ما تضمنه قوله:{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} وصرح به جوابًا له عن مسألته فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]. فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، إذ كل عاقل يعلم علمًا ضروريًّا أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزًا عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز.

ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه، وعلمه بتفاصيل خلقه اتبع ذلك بقوله:{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79].

فهو عليم بالخلق الأول وتفاصيله وجزئياته ومواده وصورته وعلله الأربع.

ص: 192

وكذلك هو عليم بالخلق الثاني وتفاصيله ومواده وكيفية إنشائه، فإن كان تام العلم كامل القدرة كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم.

ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر يتضمن جوابًا عن سؤال ملحد آخر يقول: العظام إذا صارت رميمًا عادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعته حارة رطبة لتقبل صورة الحياة، فتولى سبحانه جواب هذا السؤال بما يدل على أمر البعث ففيه الدليل والجواب معًا فقال:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} [يس: 80].

فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها ولا تستعصي عليه هو الذي يفعل ما أنكره الملحد، ودفعه من إحياء العظام وهي رميم.

ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر، وأن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر.

فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتدارًا، فقال:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)}

[يس: 81].

فأخبر سبحانه أن الذي أبدع السموات والأرض على جلالتهما وعظم شأنهما وكبر أجسامهما وسعتهما وعجيب خلقتهما أقدر على أن يحيي عظامًا قد صارت رميمًا فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)} [غافر: 57].

ص: 193

وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} [الأحقاف: 33].

ثم أخذ سبحانه ذلك وبينه بيانًا آخر يتضمن مع إقامة الحجة دفع شبهة كل ملحد وجاحد؛ وهو أنه ليس في فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة ولا يمكنه الاستقلال بالفعل بل لا بد معه من آلة ومشارك ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته وقوله للمكون: كن، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده.

فأخبر عن نفاذ مشيئته وإرادته وسرعة تكوينه وانقياد المكون له وعدم استعصائه عليه.

ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعله وهو قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83].

فتبارك الذي تكلم بهذا الكلام الذي جمع في نفسه بوجازته وبيانه وفصاحته وصحة برهانه كل ما تلزم الحاجة إليه من تقرير الدليل، وجواب الشبهة، ودحض حجة الملحد، وإسكات المعاند بألفاظ لا أعذب منها عند السمع، ولا أحلى منها ومن معانيها للقلب، ولا أنفع من ثمرتها للعبد

(1)

.

* * *

(1)

الصواعق المرسلة (2/ 473 - 477)، وانظر:«إعلام الموقعين» (2/ 260).

ص: 194

‌سورة الصافات

48 -

قال سبحانه وتعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} [الصافات: 65].

كانت صورتك

(1)

قبل معصية ربك وإيثارك معاداته على طاعته وموالاته من أحسن الصور، وأنت مع الملائكة الأكرمين، فلما وقع ما وقع جعل قبح صورتك وبشاعة منظرك مثلًا يضرب لكل قبيح كما قال سبحانه وتعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} [الصافات: 65]

(2)

.

(1)

أي: إبليس. جاء هذا في معرض رد الشبه التي أوردها إبليس لعنه الله تعالى.

(2)

«الصواعق المرسلة» (4/ 1553).

أخرج الطبري بإسناد حسن عن قتادة: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)} [الصافات: 62] حتى بلغ {فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] قال: لما ذكر شجرة الزقوم افتتن الظلَمة، فقالوا: ينبئكم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، فأنزل الله ما تسمعون: إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم، غُذِيت بالنار ومنها خُلقت.

قوله: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} [الصافات: 65] قال: شبهه بذلك.

قال الطبري رحمه الله: فإن قال قائل: وما وجه تشبيهه طلع هذه الشجرة برءوس الشياطين في القبح، ولا علم عندنا بمبلغ قبح رءوس الشياطين، وإنما يمثَّل الشيء بالشيء تعريفًا من المُمَثِّل له قُرب اشتباه الممثَّل أحدهما بصاحبه مع معرفة المُمَثَّل له الشيئين كليهما، أو أحدهما، ومعلوم أن الذين خوطبوا بهذه الآية من المشركين، لم يكونوا عارفين شَجَرة الزقوم، ولا رءوس الشياطين، ولا كانوا رأوهما، ولا واحدًا منهما؟.

قيل له: أما شجرة الزقوم فقد وصفها الله تعالى ذكره لهم وبينها حتى عرفوها ما هي وما صفتها، فقال لهم:{شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} =

ص: 195

= فلم يتركهم في عَماء منها. وأما في تمثيله طلعها برءوس الشياطين، فأقول لكل منها وجه مفهوم:

أحدها: أن يكون مثَّل ذلك برءوس الشياطين على نحو ما قد جرى به استعمال المخاطبين بالآية بينهم، وذلك أن استعمال الناس قد جرى بينهم في مبالغتهم إذا أراد أحدهم المبالغة في تقبيح الشيء، قال: كأنه شيطان، فذلك أحد الأقوال.

والثاني: أن يكون مثل برأس حية معروفة عند العرب تسمى شيطانًا، وهي حية لها عُرْفٌ فيما ذكر قبيح الوجه والمنظر، وإياه عنى الراجز بقوله:

عَنْجَرِدٌ تَحْلِفُ حِينَ أحْلِفُ

كمِثْلِ شَيْطَانِ الحَماطِ أعْرَفُ

ويُروى: عُجَيِّزٌ.

والثالث: أن يكون مثل نبت معروف برءوس الشياطين ذُكِر أنه قبيح الرأس.

(1)

ورد في معنى هذا المثل ثلاثة أمثال أخر من القرآن:

أحدها: قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24].

ثانيها: قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} [الكهف: 45]. =

ص: 196

50 -

قال سبحانه وتعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} [الزمر: 29].

هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُشْرِكِين وَالمُوَحِّدِ؛ فَالمُشْرِكُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ يملِكُهُ جَمَاعَةٌ متنازعون مختلفون متشاحنون، والرجل الشكس: الضيق الخلق، فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون فِي خِدْمَتِهِ، لَا يُمْكِنُهُ أن يبلغ رِضَاهُمْ أَجْمَعِينَ، وَالْمُوَحِّدُ لَمَّا كَانَ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ عَبْدٍ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، قَدْ سَلَّمَ لَهُ، وَعَلِمَ مَقَاصِدَهُ، وعرف الطريق إلَى رِضَاهُ، فَهُوَ فِي رَاحَةٍ مِنْ تَشَاحُنِ الْخُلَطَاءِ فِيهِ، بَلْ هُوَ سَالِمٌ لِمَالِكِهِ مِنْ غَيْرِ تنَازعٍ فِيهِ، مَعَ رَأْفَةِ مَالِكِهِ بِهِ، وَرَحْمَتِهِ لَهُ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ، وَتَوليتهِ لِمَصَالِحِهِ، فَهَلْ يَسْتَوِيان هَذَانِ الْعَبْدَانِ؟ وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ الْأَمْثَالِ؛ فَإِنَّ الْخَالِصَ لِمَالِكٍ وَاحِدٍ يسْتَحِقُّ مِنْ مَعُونَتِهِ

= ثالثها: قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].

وانظرها في مواطنها من هذا الكتاب ففيها تفصيل للمثل المذكور.

قال ابن عاشور رحمه الله: فمُثلت حالة إنزال القرآن واهتداء المؤمنين به والوعدُ بنماء ذلك الاهتداء، بحالة إنزال المطر ونبات الزرع به واكتماله. وهذا التمثيل قابل لتجزئة أجزائه على أجزاء الحالة المشبه بها: فإِنزال الماء من السماء تشبيه لإِنزال القرآن لإِحياء القلوب، وإسلاكُ الماء ينابيع في الأرض تشبيه لِتبليغ القرآن للناس، وإخراج الزرع المختلف الألوان تشبيه لحال اختلاف الناس من طَيِّب وغيره، ونافع وضار، وهياج الزرع تشبيه لِتكاثر المؤمنين بين المشركين.

وأما قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} فهو إدماج للتذكير بحالة الممات واستواءِ الناس فيها من نافع وضار. وفي تعقيب هذا بقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} إلى قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 22، 23] إشارة إلى العبرة من هذا التمثيل.

ص: 197

وَإِحْسَانِهِ وَالْتِفَاتِهِ إلَيْهِ وَقِيَامِهِ بِمَصَالِحِهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الشُّرَكَاءِ الْمُتَشَاكِسِينَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)}

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 319 - 320)، وانظر:«بدائع الفوائد»

(2/ 600)، و «مدارج السالكين» (1/ 600)، و «مفتاح دار السعادة»

(2/ 333، 480).

ص: 198

‌سورة الشورى

51 -

قال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

أنه سبحانه وصف نفسه بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وأنه لا سمي له، ولا كفؤ له، وهذا يستلزم وصفه بصفات الكمال، التي فات

(1)

بها شبه المخلوقين، واستحق بقيامها به أن يكون {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهكذا كونه ليس له سمي، أي: مثيل يساميه في صفاته وأفعاله، ولا من يكافيه فيها، ولو كان مسلوب الصفات والأفعال والكلام والاستواء والوجه واليدين، ومنفيا عنه مباينة العالم ومحايثته واتصاله به وانفصاله عنه وعلوه عليه، وكونه يمنته أو يسرته وأمامه أو وراءه، لكان كل عدم مثلاً له في ذلك، فيكون قد نفى عن نفسه مشابهة الموجودات.

وأثبت لها مماثلة المعدومات، فهذا النفي واقع على أكمل الموجودات وعلى العدم المحض، فإن العدم المحض لا مثل له ولا كفؤ ولا سمي، فلو كان المراد بهذا نفي صفاته وأفعاله واستوائه على عرشه، وتكلمه بالوحي وتكليمه لمن يشاء من خلقه، لكان ذلك وصفا له بغاية العدم فهذا النفي واقع على العدم المحض، وعلى من كثرت أوصاف كماله ونعوت جلاله وأسماؤه الحسنى حتى تفرد بذلك الكمال فلم يكن له شبه في كماله ولا سمي ولا كفوء.

(1)

فات: فاتني كذا أي: سبقني. والمعنى: أن الله وصف بصفات الكمال التي لا تشبه صفات المخلوق بحال.

ص: 199

فإذا أبطلتم هذا المعنى الصحيح تعين ذلك المعنى الباطل قطعًا وصار المعنى أنه لا يوصف بصفة أصلا ولا يفعل فعلا ولا له وجه ولا يد ولا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يقدر تحقيقا لمعنى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقال إخوانكم من الملاحدة: ليس له ذات أصلا تحقيقا لهذا النفي، وقال غلاتهم: ولا وجود له تحقيقا لهذا النفي، وأما الرسل وأتباعهم فقالوا: إنه حي وله حياة و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في حياته وهو قوي وله القوة وليس مثله شيء في قوته وهو سميع بصير له السمع والبصر يسمع ويبصر وليس كمثله شيء في سمعه وبصره ومتكلم ومكلم وليس كمثله شيء في كلامه وتكليمه وله وجه ويدان، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهو مستو على عرشه، وليس كمثله شيء وهذا النفي لا يتحقق إلا بإثبات صفات الكمال، فإنه مدح له، وثناء أثنى به على نفسه والعدم المحض لا يمدح به أحد ولا يثني به عليه ولا يكون كمالا له بل هو أنقص النقص، وإنما يكون كمالا إذا تضمن الإثبات كقوله تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] لكمال حياته وقيوميته.

وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] لكمال غناه وملكه وربوبيته.

وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] لكمال عدله وغناه ورحمته.

وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] لكمال قدرته.

وقوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [يونس: 61]، {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 38].

ص: 200

ونظائر ذلك لكمال علمه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] لعظمته وإحاطته بما سواه، وأنه أكبر من كل شيء وأنه واسع

(1)

فيرى ولكن لا يحاط به إدراكا كما يعلم ولا يحاط به علما، فيرى ولا يحاط به رؤية، فهكذا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هو متضمن لإثبات جميع صفات الكمال، على وجه الإجمال وهذا هو المعقول في نظر الناس وعقولهم وإذا قالوا: فلان عديم المثل أو قد أصبح ولا مثل له في الناس أو ما له شبيه ولا له من يكافيه، إنما يريدون بذلك أنه تفرد من الصفات والأفعال والمجد بما لم يلحقه فيه غيره، فصار واحدا من الجنس لا مثيل له، ولو أطلقوا ذلك عليه باعتبار نفي صفاته وأفعاله ومجده، لكان ذلك عندهم غاية الذم والتنقص له، فإذا أطلق ذلك في سياق المدح والثناء لم يشك عاقل في أنه إنما أراد كثرة أوصافه وأفعاله وأسمائه التي لها حقائق تحمل عليها.

فهل يقول عاقل لمن لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا يتصرف بنفسه ولا يفعل شيئًا ولا يتكلم ولا له وجه ولا يد ولا قوة ولا فضيلة من الفضائل: إنه لا شبيه له ولا مثل له وإنه وحيد دهره وفريد عصره ونسيج وحده وهل فطر الله الأمم وأطلق ألسنتهم ولغاتهم إلا على ضد ذلك وهل كان رب العالمين أهل الثناء والمجد إلا بأوصاف كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه الحسنى وإلا فبماذا يثني عليه المثنون؟! وبماذا يثني على نفسه أعظم مما يثني به عليه جميع خلقه؟! ولأي شيء يقول أعرف خلقه به: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»

(2)

.

(1)

كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].

(2)

أخرجه مسلم (486) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 201

ومعلوم أن هذا الثناء الذي أخبر أنه لا يحصيه، لو كان بالنفي لكان هؤلاء أعلم به منه وأشد إحصاء له، فإنهم نفوا عنه حقائق الأسماء والصفات نفيًا مفصلًا وذلك مما يحصيه المحصي بلا كلفة ولا تعب، وقد فصله النفاة وأحصوه وحصروه.

الوجه الثاني والسبعون

(1)

أن الله سبحانه إنما نفى عن نفسه ما يناقض الإثبات، ويضاد ثبوت الصفات، والأفعال فلم ينف إلا أمرا عدميا أو ما يستلزم العدم فنفى السنة والنوم المستلزم لعدم كمال الحياة والقيومية ونفى العزوب والخفاء المستلزم لنفي كمال العلم.

ونفي اللغوب المستلزم نفي كمال القدرة ونفي الظلم المستلزم لنفي كمال الغنى والعدل ونفي العبث المستلزم لنفي كمال الحكمة والعلم ونفي الصاحبة والولد المستلزمين لعدم كمال الغنى وكذلك نفي الشريك والظهير والشفيع المقدم بالشفاعة المستلزم لعدم كمال الغنى والقهر والملك ونفي الشبيه والمثيل والكفؤ المستلزم لعدم التفرد بالكمال المطلق.

ونفي إدراك الأبصار له وإحاطة العلم به المستلزمين لعدم كمال عظمته وكبريائه وسعته وإحاطته وكذلك نفي الحاجة والأكل والشرب عنه سبحانه لاستلزام ذلك عدم غناه الكامل وإذا كان إنما نفى عن نفسه العدم أو ما يستلزم العدم علم أنه أحق بكل وجود وثبوت وكل أمر وجودي لا يستلزم عدمًا ولا نقصًا ولا عيبًا وهذا هو الذي دل عليه صريح العقل فإنه سبحانه له الوجود الدائم القديم الواجب لنفسه الذي لم يستفده من غيره ووجود كل موجود مفتقر

(1)

أي: في الرد على المعطلة.

ص: 202

إليه ومتوقف في تحقيقه عليه والكمال وجود كله والعدم نقص كله فإن العدم كاسمه لا شيء فعاد النفي الصحيح إلى نفي النقائص والعيوب ونفي المماثلة في الكمال، وعاد الأمران إلى نفي النقص وحقيقة ذلك نفي العدم وما يستلزم العدم فتأمل، هل نفى القرآن والسنة عنه سبحانه سوى ذلك وتأمل هل ينفي العقل الصحيح الذي لم يفسد بشبه هؤلاء الضلال الحيارى غير ذلك فالرسل جاءوا بإثبات ما يضاده، وهو سبحانه أخبر، أنه لم يكن له كفوا أحد بعد وصفه نفسه بأنه الصمد والصمد السيد الذي كمل في سؤدده، ولهذا كانت العرب تسمي أشرافها بهذا الاسم، لكثرة الصفات المحمودة في المسمى به قال شاعرهم:

ألا بَكرَ الناعي بخيري

(1)

بني أسدْ

بعمرِو بن مسعودٍ وبالسيّد الصَّمَدْ

(2)

فإن الصمد من تصمد نحوه القلوب بالرغبة والرهبة، وذلك لكثرة خصال الخير فيه وكثرة الأوصاف الحميدة له ولهذا قال جمهور السلف منهم عبد الله بن عباس:

(3)

«الصمد السيد الذي كمل سؤدده، فهو العالم الذي كمل علمه القادر الذي كملت قدرته الحكيم الذي كمل حكمه الرحيم الذي كملت رحمته الجواد الذي كمل جوده، ومن قال: «إنه الذي لا جوف له»

(4)

فقوله لا يناقض هذا التفسير، فإن اللفظ من الاجتماع، فهو الذي اجتمعت فيه صفات الكمال ولا جوف له، فإنما لم يكن أحدٌ كفوا له لما كان صمدا كاملا في صمديته فلو لم تكن صفات كمال ونعوت جلال ولم يكن له علم ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة

(1)

وفي رواية «بخيري» .

(2)

انظر: «الأغاني» للأصفهاني (22/ 96).

(3)

أخرجه الطبري من طريقي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ولم يسمع منه. وعن عطية العوفي وهو ضعيف.

(4)

صح عن الحسن ومجاهد: أخرجه الطبري.

ص: 203

ولا كلام ولا وجه ولا يد ولا سمع ولا بصر ولا فعل يقوم به ولا يفعل شيئا البتة ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا فوق عرشه ولا يرضى ولا يغضب ولا يحب ولا يبغض ولا هو فعال لما يريد ولا يرى ولا يمكن أن يرى ولا يشار إليه ولا يمكن أن يشار إليه لكان العدم المحض كفوا فإن هذه الصفات منطبقة على المعدوم فلو كان ما يقوله المعطلون هو الحق لم يكن صمدا وكان العدم كفوا له وكذلك قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].

فأخبر أنه لا سمي له عقيب قول العارفين به {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 64، 65].

فهذا الرب الذي له هذا الجند العظيم ولا ينزلون إلا بأمره وهو المالك ما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك فهو الذي قد كملت قدرته وسلطانه وملكه وكمل علمه فلا ينسى شيئا أبدا وهو القائم بتدبير أمر السموات والأرض وما بينهما كما هو الخالق لذلك كله وهو ربه ومليكه فهذا الرب هو الذي لا سمي له لتفرده بكمال هذه الصفات والأفعال فأما من لا صفة له ولا فعل ولا حقائق لأسمائه إن هي إلا ألفاظ فارغة من المعاني فالعدم سمي له وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].

فإنه سبحانه ذكر ذلك بعد ذكر نعوت كماله وأوصافه فقال {حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)} [الشورى: 1 - 6] إلى قوله: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ

ص: 204

وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

فهذا الموصوف بهذه الصفات والنعوت والأفعال والعلو والعظمة والحفظ والعزة والحكمة والملك والحمد والمغفرة والرحمة والكلام والمشيئة والولاية وإحياء الموتى والقدرة التامة الشاملة والحكم بين عباده وكونه فاطر السموات والأرض وهو السميع البصير.

فهذا هو الذي ليس كمثله شيء لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله وثبوتها له على وجه الكمال الذي لا يماثله فيه شيء فالمثبت للصفات والعلو والكلام والأفعال وحقائق الأسماء هو الذي يصفه سبحانه بأنه ليس كمثله شيء.

وأما المعطل النافي لصفاته وحقائق أسمائه فإن وصفه له بأنه ليس كمثله شيء مجاز لا حقيقة كما يقول في سائر أوصافه وأسمائه ولهذا قال من قال من السلف إن النفاة جمعوا بين التشبيه والتعطيل فسموا تعطيلهم تنزيها وسموا ما وصف به نفسه تشبيهًا وجعلوا ما يدل على ثبوت صفات الكمال وكثرتها دليلا على نفيها وتعطيلها وراج ذلك على من لم يجعل الله له نورا واغتر به من شاء الله وهدى الله من اعتصم بالوحي والعقل والفطرة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

(1)

.

* * *

(1)

انظر «الصواعق المرسلة» (3/ 1019 - 1030).

ص: 205

‌سورة الزخرف

52 -

قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)} [الزخرف: 55، 56].

قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ، وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقر واستحكم عليهم إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم؛ فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضب واستحكم، فحلت العقوبة فهذا الموضع من أسرار القرآن وأسرار التقدير الإلهي وفكر العبد فيه من أنفع الأمور له فإنه لا يدري أي المعاصي هي الموجبة التي يتحتم عندها عقوبته فلا يُقَالُ بعدها والله المستعان

(1)

.

* * *

(1)

«شفاء العليل» (1/ 49) ط دار الفكر.

أخرج الطبري بإسناد حسن عن قتادة: {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} ، أي: عظة لمن بعدهم.

ص: 206

53 -

قال سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59)} [الزخرف: 57 - 59]

(1)

.

فِي سُنَن ابن مَاجَه

(2)

منْ حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا ضَلَّ قَوْم بَعْد هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَل، ثُمَّ تَلَا تِلْكَ الْآيَة:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}

(3)

.

(1)

أخرج الطبري بإسناد حسن عن قتادة: قال: لما ذكر عيسى في القرآن قال مشركو قريش: يا محمد ما أردت إلى ذكر عيسى؟ قال: وقالوا: إنما يريد أن نحبه كما أحبَّت النصارى عيسى.

وقال: {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: آية.

(2)

إسناده حسن: أخرجه الترمذي في «جامعه» (3253)، وابن ماجه (48)، وأحمد (5/ 252، 256) وغيرهم من أكثر من سبع طرق عن حجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه به.

وقال الترمذي: حسن صحيح، إنما نعرفه من حديث حجاج بن دينار، وحجاج ثقة مقارب الحديث.

وتعقبه ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 654) قائلًا: ينبغي أن يقال فيه: حسن؛ لأن فيه أبا غالب حزورًا، وهو مختلف فيه.

وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وصححه العلامة الألباني رحمه الله في تخريج «السنة» لابن أبي عاصم (101).

وذكره العقيلي في «الضعفاء الكبير» (1396) في ترجمة حجاج بن دينار.

وقال: (لا يتابع عليه ولا يعرف إلا به).

(3)

«حاشية ابن القيم على سنن أبي داود» (12/ 213) ط الكتب العلمية، ذكره وهو يتحدث عن المراء في القرآن.

ص: 207

‌سورة محمد

54 -

قال سبحانه وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)} [محمد: 10]

(1)

.

فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله.

وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض، سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب، أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار، أو كان اللفظ يعمُّهما وهو الصواب؛ فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك، ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين، ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار

(2)

.

(1)

قال ابن عاشور: المراد بالكافرين: كفار مكة. والمعنى: ولكفاركم أمثال عاقبة الذين من قبلهم من الدّمار، وهذا تصريح بما وقع به التعريض للتأكيد بالتعميم ثم الخصوص.

وأمثال: جمع مِثْل بكسر الميم وسكون الثاء، وجمع الأمثال لأن الله استأصل الكافرين مرات حتى استقر الإسلام فاستأصل صناديدهم يوم بدر بالسيف، ويوم حنين بالسيف أيضًا، وسلط عليهم الريح يوم الخندق فهزمهم، وسلط عليهم الرعب والمذلة يوم فتح مكة، وكل ذلك مماثل لما سلطه على الأمم في الغاية منه وهو نصر الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه، وقد جعل الله ما نصر به رسوله صلى الله عليه وسلم أعلى قيمة بكونه بيده وأيدي المؤمنين مباشرة بسيوفهم وذلك أنكى للعدو.

وضمير {أَمْثَالُهَا} عائد إلى {عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} باعتبار أنها حالة سوء.

(2)

«إعلام الموقعين» (2/ 250).

ص: 208

55 -

قال سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)} [محمد: 15]

(1)

.

فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة، ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا، فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة، وأن يصير قارصًا، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذَّةِ شربها، وآفة العسل عدم تصفيته.

وهذا من آيات الرب سبحانه وتعالى أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها، ويجريها في غير أخدود، وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها، كما

(1)

قال السعدي -رحمه الله تعالى-: أي: مثل الجنة التي أعدها الله لعباده، الذين اتقوا سخطه، واتبعوا رضوانه، أي: نعتها وصفتها الجميلة.

{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أي: غير متغير، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بمرارة، ولا بكدورة، بل هو أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها ريحًا، وألذها شربًا.

{وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} بحموضة ولا غيرها، {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أي: يلتذ به شاربه لذة عظيمة، لا كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع الرأس، ويغول العقل.

{وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} من شمعه، وسائر أوساخه.

{وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} من نخيل، وعنب، وتفاح، ورمان، وأترج، وتين، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم.

ثم قال: {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} يزول بها عنهم المرهوب، فأي هؤلاء خير أم من هو خالد في النار التي اشتد حرها، وتضاعف عذابها، {وَسُقُوا} فيها {مَاءً حَمِيمًا} أي: حارًّا جدًّا، {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} .

فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين، والعاملين والعملين.

ص: 209

ينفي عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا، من الصداع والغَول واللغو والإنزاف وعدم اللذة.

فهذه خمس آفات من آفات خمر الدنيا: تغتال العقل، وتكثر اللغو على شربها؛ بل لا يطيب لشاربها ذلك إلا باللغو، وتنزف في نفسها، وتنزف المال، وتصدع الرأس، وهي كريهة المذاق.

وهي رجس من عمل الشيطان، توقع العداوة والبغضاء بين الناس، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتدعو إلى الزنا، وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم، وتُذهب الغيرة وتُورث الخِزي والندامة والفضيحة، وتُلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان: وهم المجانين، وتسلبه أحسن الأسماء والسمات.

وتكسوه أقبح الأسماء والصفات، وتسهل قتل النفس، وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرَّته أو هلاكه، ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال، الذي جعله الله قياما له، ولمن تلزمه مؤنته، وتهتك الأستار، وتظهر الأسرار، وتدل على العورات، وتهون ارتكاب القبائح والمأثم، وتخرج من القلب تعظيم المحارم، ومدمنها كعابد وثن، وكم أهاجت من حرب، وأفقرت من غنى، وأذلت من عزيز، ووضعت من شريف، وسلبت من نعمة، وجلبت من نقمة، وفسخت من مودة، ونسجت من عداوة، وكم فرقت بين رجل وزوجته، فذهبت بقلبه، وراحت بلبه، وكم أورثت من حسرة، وأجرت من عبرة، وكم أغلقت في وجه شاربها بابًا من الخير، وفتحت له بابًا من الشر، وكم أوقعت في بلية.

وعجلت من منيته، وكم أورثت من خزية، وجرت على شاربها من محبة وجرت عليه من سفلة فهي جماع الإثم، ومفتاح الشر، وسلابة النعم، وجالبة النقم.

ص: 210

ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد كما ثبت عنه أنه قال: «من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة»

(1)

لكفى وآفات الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا وكلها منتفية عن خمر الجنة

(2)

.

* * *

(1)

أخرجه مسلم (2003) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

حادي الأرواح (1/ 121) ط عالم الفوائد.

ص: 211

‌سورة الفتح

56 -

قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}

[الفتح: 29].

قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الْفَتْحُ: 29].

وَقَالَ عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [التّوْبَةُ: 120]

(1)

.

(1)

انظر «زاد المعاد» (3/ 265)، و «هداية الحيارى» (ص/ 290).

قال السعدي رحمه الله: يخبر تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} أي: جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أي: متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} أي: وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها الركوع والسجود.

{يَبْتَغُونَ} بتلك العبادة {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أي: هذا مقصودهم =

ص: 212

= بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه.

{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} أي: قد أثرت العبادة -من كثرتها وحسنها- في وجوههم، حتى استنارت، لما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت [بالجلال] ظواهرهم.

{ذَلِكَ} المذكور {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} أي: هذا وصفهم الذي وصفهم الله به، مذكور بالتوراة هكذا.

وأما مثلهم في الإنجيل، فإنهم موصوفون بوصف آخر، وأنهم في كمالهم وتعاونهم {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} أي: أخرج فراخه، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء.

{فَاسْتَغْلَظَ} ذلك الزرع أي: قوي وغلظ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} جمع ساق، {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} من كماله واستوائه، وحسنه واعتداله، كذلك الصحابة رضي الله عنهم، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه، وكون الصغير والمتأخر إسلامه، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه، من إقامة دين الله والدعوة إليه، كالزرع الذي أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ، ولهذا قال:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال، ومعامع القتال.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فالصحابة رضي الله عنهم، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، قد جمع الله لهم بين المغفرة، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة.

ص: 213

هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْقِيَاسِ التَّمْثِيلِيِّ؛ فَإِنَّهُ شَبَّهَ تَمْزِيقَ عِرْضِ الْأَخِ بِتَمْزِيقِ لَحْمِهِ، وَلَمَّا كَانَ المُغْتَابُ يُمَزِّقُ عِرْضَ أَخِيهِ فِي غِيبَتِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقْطَعُ لَحْمَهُ فِي حَالِ غِيبَةِ رُوحِهِ عَنْهُ بِالمَوْتِ، وَلَمَّا كَانَ المُغْتَابُ عَاجِزًا عَنْ دَفْعِهِ بنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ ذَمِّهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ المَيِّتِ الَّذِي يُقَطَّعُ لَحْمُهُ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الْأُخُوَّةِ التَّرَاحُمَ وَالتَّوَاصُلَ وَالتَّنَاصُرَ فَعَلَّقَ عَلَيْهَا المُغْتَابُ ضِدَّ مُقْتَضَاهَا مِنْ الذَّمِّ وَالْعَيْبِ وَالطَّعْنِ كَانَ ذَلِكَ نَظِيرَ تَقْطِيعِ لَحْمِ أَخِيهِ، وَالْأُخُوَّةُ تَقْتَضِي حِفْظَهُ وَصِيَانَتَهُ وَالذَّبَّ عَنْهُ، وَلَمَّا كَانَ المُغْتَابُ مُتَفَكِّهًا بِغِيبَتِهِ وَذَمِّهِ مُتَحَلِّيًا بِذَلِكَ شُبِّهَ بِآكِلِ لَحْمِ أَخِيهِ بَعْدَ تَقْطِيعِهِ، وَلَمَّا كَانَ المُغْتَابُ مُحِبًّا لِذَلِكَ مُعْجَبًا بِهِ شُبِّهَ بِمَنْ يُحِبُّ أَكْلَ لَحْمِ أَخِيهِ مَيْتًا، وَمَحَبَّتُهُ لِذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ أَكْلِهِ، كَمَا أَنَّ أَكْلَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى تَمْزِيقِهِ.

فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ وَحُسْنَ مَوْقِعِهِ وَمُطَابقَته المَعْقُول فِيهِ المَحْسُوسَ، وَتَأَمَّلْ إخْبَارَهُ عَنْهُمْ بِكَرَاهَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْأَخِ مَيْتًا، وَوَصْفَهُمْ بِذَلِكَ فِي آخَرِ الْآيَةِ، وَالْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِهَا أَنْ يُحِبَّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ، فَكَمَا أَنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ فِي طِبَاعِهِمْ فَكَيْفَ يُحِبُّونَ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَنَظِيرُهُ.

فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِمَا كَرِهُوهُ عَلَى مَا أَحَبُّوهُ، وَشَبَّهَ لَهُمْ مَا يُحِبُّونَهُ بِمَا هُوَ أَكْرَهُ شَيْءٍ إلَيْهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَنْهُ؛ فَلِهَذَا يُوجِبُ الْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ وَالْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونُوا أَشَدَّ شَيْءٍ نُفْرَةً عَمَّا هُوَ نَظِيرُهُ وَمُشْبِهُهُ، وَبِالله التَّوْفِيقُ

(1)

.

* * *

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 296 - 297).

ص: 214

‌سورة الذاريات

58 -

قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 22، 23]

(1)

.

أقسم - سبحانه - أعظم قسم، بأعظم مقسم به، على أجل مقسم عليه، وأكد الأخبار بهذا القسم، ثم أكده -سبحانه- بشبهه بالأمر المحقق الذي لا يشك فيه ذو حاسة سليمة، فقال تعالى:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 23].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «يريد إنه لحق واقع، كما أنكم تنطقون»

(2)

.

وقال الفراء: «إنه لحق كما أن الآدمي ناطق»

(3)

.

وقال الزجاج: «هذا كما تقول في الكلام إن هذا لحق كما أنك ههنا»

(4)

.

(1)

قال ابن عاشور: قوله: {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} زيادة تقرير لوقوع ما أوعده بأن شبه بشيء معلوم كالضرورة لا امتراء في وقوعه وهو كون المخاطبين ينطقون. وهذا نظير قولهم: كما أن قبلَ اليوم أمس، أو كما أن بعد اليوم غدًا. وهو من التمثيل بالأمور المحسوسة، ومنه تمثيل سرعة الوصول لقرب المكان في قول زهير:

فهن ووادِي الرسّ كاليد للفم

وقولهم: مثل ما أنك ها هنا، وقولهم: كما أنك ترى وتسمع.

(2)

لم أقف عليه.

(3)

«معاني القرآن» (3/ 85).

(4)

«معاني القرآن» (5/ 54)، وفيه «إن هذا لحق كما أنك متكلم» .

ص: 215

* قلت: وفي الحديث «إنه لحق كما أنك ههنا»

(1)

.

فشبه - سبحانه - تحقيق ما أخبر به بتحقيق نطق الآدمي ووجوده.

والواحد منا يعرف أنه ناطق ضرورة، ولا يحتاج نطقه إلى الاستدلال على وجوده، ولا يخالجه شك في أنه ناطق. فكذلك ما أخبر الله - سبحانه- عنه من أمر التوحيد، والنبوة، والمعاد، وأسمائه، وصفاته، حق ثابت في نفس الأمر، يشبه بثبوت نطقكم ووجوده.

وهذا باب يعرفه الناس في كلامهم، يقول أحدهم: هذا حق مثل الشمس. وأفصح الشاعر عن هذا بقوله:

وليس يصح في الأفهام شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

(2)

وههنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الرب - تعالى - شهد بصحة ما أخبر به، وهو أصدق الصادقين، وأقسم عليه، وهو أبر المقسمين، وأكده بتشبيهه بالواقع الذي لا يقبل الشك بوجه، وأقام عليه من الأدلة العيانية والبرهانية ما جعله معاينًا مشاهدًا بالبصائر، وإن لم يعاين بالأبصار، ومع ذلك فأكثر النفوس في غفلة عنه لا تستعد له، ولا تأخذ له أهبة.

(1)

إسناده ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 245)، وأبو داود (4294) من حديث معاذ رضي الله عنه. وعلة إسناده ابن ثوبان فقد ذكره الذهبي في مناكيره، وأعل أيضا: بالوقف.

(2)

البيت للمتنبي في «ديوانه» (343).

والمعنى: إنما يقام الدليل على الشيء الخفي، فأما الظاهر الجلي، فهو بمنزلة النهار الذي لا يحتاج إلى الدليل؛ لأن كل من رآه عرفه، ومن خفي عليه ضوء النهار، فلا فائدة لإقامة الدلالة في حقه، إذ المعاينة أقوى، والمشاهدة أولى.

ص: 216

والمستعد له، الآخذ له أهبته؛ لا يعطيه حقه منهم إلا الفرد بعد الفرد فأكثر هذا الخلق لا ينظرون في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار، ولا يتفكرون في قلة مقامهم في دار الغرور، ولا في رحيلهم وانتقالهم عنها، ولا إلى أين يرحلون؟ وأين يستقرون؟ قد ملكهم الحس، وقل نصيبهم من العقل، وشملتهم الغفلة، وغرتهم الأماني التي هي كالسراب، وخدعهم طول الأمل، وكأن المقيم لا يرحل، وكأن أحدهم لا يبعث ولا يسأل، وكأن مع كل مقيم توقيع من الله لفلان بن فلان بالأمان من عذابه، والفوز بجزيل ثوابه.

فأما همتهم ففي اللذات الحسية، والشهوات النفسية، كيفما حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، غافلين عن المطالبة، آمنين من المعاقبة، يسعون لما يدركون، ويتركون ما هم به مطالبون، ويعمُرون ما هم عنه منتقلون، ويخربون ما هم إليه صائرون، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7].

ألسنتهم لا تنطق إلا بشهوات نفوسهم، فلا ينظرون في مصالحها، ولا يأخذون في جمع زادها في سفرها {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر/ 19]. والعجب كل العجب من غفلة من تعد عليه لحظاته، وتحصى عليه أنفاسه، ومطايا الليل والنهار تسرع به، ولا يتفكر إلى أين يحمل؟ ولا إلى أي منزل ينقل؟.

وكيف تنام العين وهي قريرةٌ

ولم تدر في أي المَحَلَّين تنزل

(1)

(1)

انظر: «شعب الإيمان» (1/ 544)، و «حلية الأولياء» (9/ 344).

ص: 217

وإذا نزل بأحدهم الموت قلِق لخراب ذاته، وذهاب لذاته، لا لما سبق من جناياته، ولا لسوء منقلبه بعد مماته، فإن خطرت على أحدهم خطرة من ذلك اعتمد العفو والرحمة، وكان يتيقن أن ذلك نصيبه ولا بد.

فلو أن العاقل أحضر ذهنه ما استحضر عقله، وسار بفكره، وأمعن النظر، وتأمل الآيات لفهم المراد من إيجاده، ولَنَظَرتْ عينُ الراحل إلى الطريق، ولأخذ المسافر في التزود، والمريض في التداوي.

والحازم يُعِد لما يجوز أن يأتي؛ فما الظن بأمر متيقن! كما أنه لصدق إيمانهم، وقوة إيقانهم، وكأنهم يعاينون الأمر، فأضحت ربوع الإيمان من أهلها خالية، ومعالمه على عروشها خاوية.

قال ابن وهب: أخبرني مسلمة بن علي عن الأوزاعي قال: «كان السلف إذا صدع الفجر أو قبله كأنما على رؤوسهم الطير، مقبلين على أنفسهم، حتى لو أن حبيبًا لأحدهم غاب عنه حينًا ثم قدم؛ لما التفت إليه. فلا يزالون كذلك إلى طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتحلقون، فأول ما يفيضون فيه أمر معادهم، وما هم صائرون إليه، ثم يأخذون في الفقه»

(1)

.

* * *

(1)

إسناده ضعيف جدًّا: أخرجه أبو الفضل الزهري في «حديثه» (517)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (35/ 184)، وفي إسناده مسلمة بن علي الخشني متروك.

وانظر: «التبيان في أيمان القرآن» (ص/ 638 - 642)، و (ص/ 265)، و «الصواعق المرسلة» (2/ 775)، و «شفاء العليل» (1/ 134).

ص: 218

‌سورة الحديد

59 -

قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20].

فأخبر سبحانه عن حقيقة الدنيا بما جعله مشاهدًا لأولي البصائر، وإنها لعب ولهو تلهو بها النفوس، وتلعب بها الأبدان، واللعب واللهو لا حقيقة لهما، وأنهما مشغلة للنفس مضيعة للوقت يقطع بها الجاهلون العمر فيذهب ضائعًا في غير شيء.

ثم أخبر أنها زينة زُينت للعيون وللنفوس فأخذت بالعيون والنفوس استحسانًا ومحبة، ولو باشرت القلوبُ معرفةَ حقيقتها ومآلها ومصيرها لأبغضتها ولآثرت عليها الآخرة، ولما آثرتها على الآجل الدائم الذي هو خير وأبقى.

قال الإمام

(1)

: حدثنا وكيع حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها»

(2)

.

(1)

أي: الإمام أحمد.

(2)

رجاله ثقات: أخرجه وكيع في «الزهد» (64)، ومن طريقه أحمد في «المسند» (1/ 441)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (19/ 35444)، وتابعه جماعة. ووكيع سمع من المسعودي قبل الاختلاط، قاله الإمام أحمد.

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وانظر: «العلل» (5/ 163 - 164)، =

ص: 219

وفى «جامع الترمذي»

(1)

من حديث سهل بن سعد قال: قال

= و «الصحيحة» للعلامة الألباني رحمه الله. أي: المرفوع.

وقال أبو نعيم في «الحلية» (2/ 102): لم يروه عن عمرو بن مرة متصلًا مرفوعًا إلا المسعودي.

وله شاهد وصححه العلامة الألباني رحمه الله في «الصحيحة» (437).

(1)

أسانيده ضعيفة: أخرجه الترمذي في «جامعه» (2320)، وابن ماجه في «سننه» (4110)، والحاكم (4/ 306) وفيه ذكر ورود الحديث. وغيرهم من طرقي عبد الحميد بن سليمان أخو فليح وزكريا بن منظور بن ثعلبة وكلاهما ضعيف عن أبي حازم عن سهل بن سعد به مرفوعًا.

وقال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه.

وقال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث عبد الحميد بن سليمان عن أبي حازم.

وقال الدارقطني في «أطراف الغرائب» (3/ 94): تفرد به عبد الحميد بن سليمان عن أبي حازم.

وضعف العقيلي في «الكامل» (5/ 319) سليمان، وذكر له الحديث.

وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي قائلًا: زكريا بن منظور ضعفوه.

وأورد العقيلي الحديث في ترجمة عبد الحميد وقال: تابعه زكريا بن منظور وهو دونه.

وضعف الحديث ابن طاهر كما في «تخريج أحاديث الكشاف» (3/ 252).

وله شواهد: منها: حديث أبي هريرة، وفي إسناده محمد بن عمار بن جعفر لم أقف له على ترجمه وشيخه صالح مولى التوأمة صدوق اختلط. وتابعه أبو معشر لكنه ضعيف.

أخرجهما ابن أبي عاصم في «الزهد» (129).

ومنها: حديث ابن عباس، وفي إسناده الحسن بن عمارة متروك.

أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 304).

ومنها: عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. =

ص: 220

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء» . قال الترمذي: حديث صحيح.

وفي «صحيح مسلم»

(1)

من حديث المُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِه

(2)

في الْيَمّ

(3)

فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ».

وفي «الترمذي»

(4)

من حديثه قال: كنت مع الركب الذين وقفوا مع

= أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (509) وفي إسناده عثمان بن عبيد الله بن رافع. ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (1/ 156) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا.

وروي عن الحسن وأبي طوالة مرسلًا.

والخلاصة: أن كل طرقه ضعيفة. وقال العلامة الألباني في «الصحيحة» (686): وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب. و الله أعلم.

(1)

أخرجه مسلم (2858). قال النووي: مَعْنَى الْحَدِيث: مَا الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَة فِي قِصَر مُدَّتهَا، وَفَنَاء لَذَّاتهَا، وَدَوَام الْآخِرَة، وَدَوَام لَذَّاتهَا وَنَعِيمهَا، إِلَّا كَنِسْبَةِ المَاء الَّذِي يَعْلَق بِالْأُصْبُعِ إِلَى بَاقِي الْبَحْر.

(2)

أشار يحيى - أحد رواة السند - بالسبابة. وأشار إسماعيل أحد الرواة أيضًا: بالإبهام.

(3)

اليم في كلام العرب مرادف البحر، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر.

(4)

أخرجه الترمذي (2321) من طريق ابن المبارك في «الزهد» (508)، وأحمد (4/ 230) وغيرهم من طرق عن مجالد بن سعيد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد بن شداد به. ومجالد ضعيف.

وله شواهد، منها: ما أخرجه مسلم (2957) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْي أسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ» . =

ص: 221

رسول الله على السَّخلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها» ، قالوا: ومن هوانها ألقوها يا رسول الله، قال:«فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» .

وفي «الترمذي»

(1)

أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

= فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ:«أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ» . قَالُوا: وَالله لَو كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ، فَقَالَ:«فَوَ الله لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» .

(1)

ضعيف مرفوعًا، حسن من قول أبي الدرداء: ورد عن أبي هريرة وابن مسعود وجابر وأبي الدرداء وكعب.

أما حديث أبي هريرة فرواه ابن ثوبان واختلف عليه على أربعة أوجه:

أحدها: أخرجها الترمذي في «جامعه» (2322) من طريق علي بن ثابت.

وابن ماجه في «سننه» (4112)، وابن أبي عاصم في «الزهد» (126) من طريق عتبة ابن حماد الدمشقي.

والعقيلي في «الضعفاء الكبير» (3213) من طريق أسد بن موسى. ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة السلولي ثنا أبو هريرة رضي الله عنه به.

وأخرجه البيهقي في «الشعب» (1580) بإسنادٍ حسنٍ عن عتبة بن حماد عن ابن ثوبان عن أبيه عن عطاء بن قرة به. فزاد أباه.

وأما الوجه الثالث: فأخرجه البزار (1736)، والطبراني في «الأوسط» (4072)، وفي «مسند الشاميين» (163).

عن المغيرة بن المطرف عن ابن ثوبان عن عبدة بن أبي لبابة عن أبي وائل عن ابن مسعود به مرفوعًا.

قال البزار: وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن عبد الله بن ثابت بن ثوبان بغير هذا الإسناد، ولا نعلم أحدًا تابع المغيرة بن المطرف على هذه الرواية. =

ص: 222

= وقال الدارقطني في «العلل» (5/ 89): وَهَذا إِسنادٌ مَقلُوب، وإِنَّما رَواهُ ابن ثَوبان عَنْ عَطاءِ بنِ قُرَّة، عَنْ عَبدِ الله بنِ ضَمرَة، عَنْ أَبِي هُرَيرة. وهُو الصَّحِيحُ.

وأما الوجه الرابع: فأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (19/ 401)، والدارمي (331) عن يحيى بن يمان عن ابن ثوبان عن أبيه عن عبد الله بن ضمرة عن كعب قوله. وابن يمان ضعيف.

والإسناد الأول لا يقوى على التحسين؛ لأن فيه ابن ثوبان لا يتحمل هذا الخلاف وقال الحافظ فيه: صدوق يخطئ. وعبد الله بن ضمرة السلولي وثقه العجلي وذكره ابن حبان في «الثقات» ، وروى عنه جماعة، وقال ابن القطان: لا تعرف حاله.

وأما حديث جابر: فرواه الثوري عنه واختلف عليه، فأخرجه البيهقي في «الشعب» (10513)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1331) من طريق مهران بن أبي مهران عن سفيان عن ابن المنكدر عن أبيه مرفوعًا.

وخالفه عبد الملك بن عمرو العقدي عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر به أخرجه البيهقي في «الزهد» (246)، وابن الأعرابي في «الزهد» (65) وغيرهما وقال الدارقطني في «العلل» (14/ 69): كلا الطريقين غير محفوظ.

وأخرجه أحمد في «الزهد» (154) عن يحيى بن سعيد عن الثوري عن ابن المنكدر مرسلا. وصوبه أبو حاتم في «العلل» (1863).

وأما حديث أبي الدرداء؛ فأخرجه ابن أبي عاصم في «الزهد» (127)، والطبراني في «مسند الشاميين» (612) عن خداش بن المهاجر عن عبد الرحمن بن يزيد عن مسلم ابن مشكم عن أبي الدرداء مرفوعًا.

وخداش بن المهاجر قال أبو حاتم: شيخ مجهول أرى حديثه مستقيمًا.

وخالفه خالد ابن معدان وجبير بن نفير عن أبي الدرداء موقوفًا.

أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (543) وغيره عن ثور بن يزيد عن خالد به ولم يسمع من أبي الدرداء.

وأخرجه أبو داود في «الزهد» (213) بإسناد حسن عن جبير بن نفير به.

ص: 223

والحديثان حسنان.

قال الإمام أحمد

(1)

: حدثنا هيثم بن خارجة: أنبأنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن دينار البهراني قال: قال عيسى عليه السلام للحواريين: «بحق أقول لكم: إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة، وأن عباد الله ليسوا بالمتنعمين.

بحق أقول لكم: إن شركم عملًا عالم يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة، إنه لو يستطيع جعل الناس كلهم في عمله مثله».

وقال أحمد

(2)

: حدثنا يحيى بن إسحاق، قال: أخبرني سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: «يا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبني على موج البحر دارًا؟» قالوا: يا روح الله ومن يقدر على ذلك؟ قال: «إياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارًا» .

وفى كتاب «الزهد» لأحمد

(3)

أن عيسى ابن مريم عليه السلام كان يقول: «بحق أقول لكم: إن أكل الخبز وشرب الماء العذب ونومًا على المزابل مع الكلاب كثير لمن يريد أن يرث الفردوس» .

وفى «المسند» عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله ضرب طعام ابن آدم مثلًا للدنيا وإن قَزَّحَهُ

(1)

في «الزهد» (485) وإسناده ضعيف لضعف عبد الله بن دينار وللانقطاع بينه وبين عيسى عليه السلام.

(2)

في «الزهد» (325) وإسناده حسن إلى مكحول، ويحيى بن إسحاق هو أبو بكر السيلحيني وثقه أحمد وغيره.

(3)

وإسناده ضعيف؛ للانقطاع الذي بين عمر بن عمرو وابن عمر رضي الله عنهما. وثم علل أخر.

ص: 224

وملَّحه فلينظر إلى ماذا يصير»

(1)

.

(1)

ورد مرفوعًا وصح موقوفًا عَلى أُبَيٍّ رضي الله عنه: أخرجه المروزي في زوائده على «الزهد» (495)، وابن أبي الدنيا في «الجوع» (165)، والشاشي في «مسنده» (1502) والبيهقي في «الشعب» (5264) من طرق عن أبي غسان-مالك بن إسماعيل عن عبد السلام بن حرب المُلائي عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري عن عُتي بن ضمرة السعدي عن أبي بن كعب به مرفوعًا. رجاله ثقات والحسن مدلس وقد عنعن.

وأخرجه أحمد (5/ 136)، والمروزي في «زوائده» (494)، وابن حبان في «صحيحه» (702)، والشاشي (1501)، والطبراني في «المعجم الكبير» (1/ 198) وأبو نعيم في «الحلية» (139) وفي «معرفة الصحابة» (757) والبيهقي في «الزهد» (414) من طرق عن أبي حذيفة - موسى بن مسعود - عن الثوري عن يونس بن عبيد به.

وخالفه محمد بن عبد الله الأسدي فوقفه.

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» (13/ 390) وموسى بن مسعود أبو حذيفة قال الحافظ: صدوق سيء الحفظ. وقال في محمد بن عبد الله الأسدي: ثقة ثبت، إلا أن في حديثهما عن الثوري ضعفًا.

وأخرجه المروزي في «زوائده» (492) من طريق هشيم. أخرجه ابن أبي الدنيا في «الجوع» (166) حدثنا أبو خيثمة ثنا إسماعيل ابن علية كلاهما عن يونس بن عبيد به موقوفًا.

وأخرجه الطيالسي في «المسند» (548)، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية» (1/ 319) عن أبي الأشهب.

وأخرجه أبو حاتم في «الزهد» (33) ثنا أبو عمر الحوضي ثنا يزيد بن إبراهيم التستري كلاهما عن الحسن عن أبي بن كعب موقوفًا. والحسن لم يدرك أبي بن كعب فالوقف أصح.

وأخرجه أحمد (3/ 452) وابن أبي الدنيا في «الجوع» (164) والطبراني في «الكبير» (8138) والبيهقي في «الشعب» (9989، 5266) من طريقين عن الحمادين عن ابن جدعان عن الحسن البصري عن الضحاك بن سفيان الكلاعي نحوه مرفوعًا. وابن جدعان ضعيف والحسن لم يسمع من الضحاك بن سفيان. =

ص: 225

‌فَصْلٌ

ثم أخبر سبحانه وتعالى عنها أنها يفاخر بعضنا بعضًا بها، فيطلبها ليفخر بها على صاحبه، وهذا حال كل من طلب شيئا للمفاخرة من مال أو جاه أو قوة أو علم أو زهد.

* والمفاخرة نوعان: مذمومة ومحمودة.

فالمذمومة: مفاخرة أهل الدنيا بها.

والمحمودة: أن يطلب المفاخرة في الآخرة، فهذه من جنس المنافسة المأمور بها، وهي أن الرجل ينفس على غيره بالشيء ويغار أن يناله دونه ويأنف من ذلك ويحمى أنفه له.

= ومرد هذا للأول فلا يعد شاهدًا.

وأخرجه الطبراني في «الكبير» (6/ 248) بسند ضعيف عن الفريابي عن سفيان به نحوه مرفوعًا.

وأخرجه المروزي في (زوائده)(491، 492) عن سفيان مرسلا. وفي رواية على الشك.

قال ابن صاعد: وقد روي هذا الحديث عن أبي بن كعب ووقفه بعض ورفعه بعض.

وقال ابن الأثير في «النهاية في غريب الأثر» (4/ 84).

أي تَوْبَلَه من القِزْح وهو التابِلُ الذي يُطرح في القِدْر كالكمُّون والكُزْبرة ونحو ذلك. يقال: قَزْحتُ القِدْر إذا تركْتُ فيها الأبَازِير.

والمعنى أنَّ المَطْعَم وإن تَكَلَّف الإنسان التَّنَوقَ في صنعته وتَطْييبه فإنه عائِد إلى حالٍ يُكْرَه ويُسْتَقْذَر فكذلك الدنيا المَحْرُوص على عِمارتها ونَظْم أسْبابها راجِعة إلى خَراب وإدْبارً.

ص: 226

يقال: نَفِستُ عليه الشيءَ، أنفسه نفاسة إذا ضننت به، ولم تحب أن يصير إليه دونك، والتنافس تفاعل من ذلك، كأن كل واحد من المتنافسين يريد أن يسبق صاحبه إليه، وحقيقة المنافسة الرغبة التامة والمبادرة والمسابقة إلى الشيء النفيس.

* * *

ص: 227

‌فَصْلٌ

ثم أخبر تعالى عنها أنها تكاثر في الأموال والأولاد؛ فيحب كل واحد أن يَكثر بني جنسه في ذلك، ويفرح بأن يرى نفسه أكثر من غيره مالًا وولدًا وأن يقال فيه ذلك، وهذا من أعظم ما يلهي النفوس عن الله والدار الآخرة؛ كما قال تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)} [التكاثر: 1 - 4].

والتكاثر في كل شيء، فكل من شغله وألهاه التكاثر بأمر من الأمور عن الله والدار الآخرة، فهو داخل في حكم هذه الآية، فمن الناس من يلهيه التكاثر بالمال، ومنهم من يلهيه التكاثر بالجاه، أو بالعلم، فيجمعه تكاثرًا وتفاخرًا، وهذا أسوأ حالا عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه فإنه جعل أسباب الآخرة للدنيا، وصاحب المال والجاه استعمل أسباب الدنيا لها وكاثر بأسبابها.

* * *

ص: 228

‌فَصْلٌ

ثم أخبر سبحانه عن مصير الدنيا وحقيقتها وأنها بمنزلة غيث أعجب الكفار نباته.

والصحيح - إن شاء الله- أن الكفار هم الكفار بالله، وذلك عرف القرآن حيث ذكروا بهذا النعت في كل موضع، ولو أراد الزراع لذكرهم باسمهم الذي يعرفون به، كما ذكرهم به في قوله تعالى:{يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} وإنما خص الكفار به لأنهم أشد إعجابًا بالدنيا، فإنها دارهم التي لها يعملون ويكدحون، فهم أشد إعجابا بزينتها وما فيها من المؤمنين.

ثم ذكر سبحانه عاقبة هذا النبات وهو اصفراره ويبسه، وهذا آخر الدنيا ومصيرها، ولو ملكها العبد من أولها إلى آخرها فنهايتها ذلك.

فإذا كانت الآخرة انقلبت الدنيا واستحالت إلى عذاب شديد، أو مغفرة من الله وحسن ثوابه وجزائه، كما قال على بن أبي طالب رضي الله عنه:«الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ومطلب نجح لمن سالم. فيها مساجد أنبياء الله، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومتجر أوليائه، فيها اكتسبوا الرحمة، وربحوا فيها العافية، فمن ذا يذمها وقد آذنت بنيها، ونعت نفسها وأهلها، فتمثلت ببلائها، وشوقت بسرورها إلى السرور تخويفا وتحذيرا وترغيبا، فذمها قوم غداة الندامة، وحمدها آخرون؛ ذكرتهم فذكروا، ووعظتهم فاتعظوا. فيا أيها الذّامّ للدنيا المغتر بتغريرها متى استذمّت إليك؟ بل متى غرتك؟ أبمنازل آبائك في الثرى، أم بمضاجع أمهاتك في البلى؟! كم رأيت موروثا، كم عللت بكفيك عليلا، كم مرضت مريضا بيديك تبتغى له الشفاء، وتستوصف له الأطباء؟ ثم لم تنفعه شفاعتك، ولم تسعفه طلبتك، مثلت لك الدنيا غداة مصرعه مصرعك» .

ص: 229

ثم التفت إلى المقابر فقال: «يا أهل الغربة ويا أهل التربة أما الدور فسكنت، وأما الأموال فقسمت، وأما الأزواج فنكحت، فهذا خبر ما عندنا، فهاتوا خبر ما عندكم» ، ثم التفت إلينا فقال: «أما لو أذن لهم لأخبروكم أن خير الزاد التقوى)

(1)

.

فالدنيا في الحقيقة لا تذم وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها، وهى قنطرة أو معبر إلى الجنة أو إلى النار.

ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها، صار لها اسم الذم عند الإطلاق وإلا فهي مبنى الآخرة ومزرعتها، ومنها زاد الجنة، وفيها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله ومحبته وذكره ابتغاء مرضاته، وخير عيش ناله أهل الجنة في الجنة إنما كان بما زرعوه فيها وكفى بها مدحًا وفضلًا لأولياء الله فيها من قرة العيون، وسرور القلوب وبهجة النفوس ولذة الأرواح والنعيم الذي لا يشبهه نعيم بذكره ومعرفته ومحبته وعبادته والتوكل عليه والإنابة إليه والأنس به والفرح بقربه والتذلل له ولذة مناجاته والإقبال عليه والاشتغال به عمن سواه وفيها كلامه ووحيه وهداه وروحه الذي ألقاه من أمره فأخبر به من شاء من عباده.

(1)

أسانيده ضعيفة: أخرجه ابن أبي الدنيا في «ذم الدنيا» (108، 147) وفيه انقطاع بين عبد الله بن صالح وابن عفراء.

وأخرجه الدينوري في «المجالسة» (1211) وفي إسناده الفضل بن موفق ضعيف، وحبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة لا يصح. قاله أبو داود.

وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 235) وابن عساكر (58/ 79) وفيه بشير بن زاذان متهم.

ص: 230

ولقد فضل ابن عقيل وغيره هذا على نعيم الجنة، وقالوا: هذا حق الله عليهم وذاك حظهم ونعيمهم، وحقه أفضل من حظهم.

* قالوا: والإيمان والطاعة أفضل من جزائه.

* والتحقيق: أنه لا يصح التفضيل بين أمرين في دارين مختلفين، ولو أمكن اجتماعهما في دار واحدة لأمكن طلب التفضيل.

فالطاعة والإيمان في هذه الدار أفضل ما فيها ودخول الجنة والنظر إلى وجه الله وسماع كلامه والفوز برضاه أفضل ما في الآخرة.

فهذا أفضل ما في هذه الدار وهذا أفضل ما في الدار الأخرى، ولا يصح أن يقال: فأي الأمرين أفضل؟ فهذا أفضل الأسباب وهذا أفضل الغايات وبالله التوفيق

(1)

.

* * *

(1)

«عدة الصابرين» (ص/ 325) ط عالم الفوائد، وانظر:«طريق الهجرتين» (2/ 549).

ص: 231

(1)

هذا مثل آخر لمُمَثَّل آخر، وليس مثلًا منْضمًّا إلى المثل الذي قبله لأنه لو كان ذلك لكان معطوفًا عليه بالواو، أو ب (أو) كقوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19].

والوجه: أن هذا المثل متصل بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر: 15] كما يفصح عنه قوله في آخره: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} الآية، أي: مثلهم في تسبيبهم لأنفسهم عذاب الآخرة كمثل الشيطان إذ يوسوس للإنسان بأن يكفر ثم يتركه ويتبرأ منه فلا ينتفع أحدهما بصاحبه ويقعان معًا في النار.

فجملة {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} حال من ضمير {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر: 15] أي: في الآخرة.

فالمعنى: إذ قال للإِنسان في الدنيا: اكفر، فلما كفر ووافى القيامة على الكفر قال الشيطان يوم القيامة:{إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} ، أي: قال كل شيطان لقرينه من الإِنس: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} طمعًا في أن يكون ذلك منجيه من العذاب.

ففي الآية إيجاز حذف حُذف فيها معطوفات مقدرة بعد شرط (لَمَّا) هي داخلة في الشرط إذ التقدير: فلما كفر واستمر على الكفر، وجاء يوم الحشر واعتذر بأن الشيطان أضله قال الشيطان:{إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} إلخ. وهذه المقدرات مأخوذة من آيات أخرى مثل آية سورة إبراهيم وآية سورة ق: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} الآية [ق: 27]. وظاهر أن هذه المحاجة لا تقع إلا في يوم الجزاء وبعد موت الكافر على الكفر دون من أسلموا.

وقول: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} من تمام المثل. أي كان عاقبة الممثل بهما خسرانهما معًا. وكذلك تكون عاقبة الفريقين الممثلين أنهما خائبان فيما دبّرا =

ص: 232

وهذا السياق لا يختص بالذي ذُكِرَت عنه هذه القصةُ بل هو عامٌّ في كل من أطاع الشيطان في أمره له بالكفر لينصره ويقضي حاجته فإنه يتبرأ منه ويسلمه كما يتبرأ من أوليائه جملة في النار ويقول لهم: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22]. فأوردهم شر الموارد وتبرأ منهم كل البراءة.

وتكلم الناسُ في قول عدو الله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} فقال قتادة وابن إسحاق: صدق عدو الله في قوله: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48]. وكذب في قوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} والله ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة فأوردهم وأسلمهم وكذلك عادة عدو الله بمن أطاعه.

وقالت طائفة: إنما خاف بطش الله تعالى به في الدنيا كما يخاف الكافر والفاجر أن يقتل أو يؤخذ بجرمه لا أنه خاف عقابه في الآخرة وهذا أصح وهذا الخوف لا يستلزم إيمانا ولا نجاة.

قال الكلبي: خاف أن يأخذه جبريل ويعرفهم حاله فلا يطيعونه

(1)

، وهذا فاسد فإنه إنما قال لهم ذلك بعد أن فر ونكص على عقبيه، إلا أن يريد أنه إذا عرف المشركون أن الذي أجارهم وأوردهم إبليس لم يطيعوه فيما بعد ذلك، وقد أبعد النجعة إن أراد ذلك وتكلف غير المراد.

= وكادا للمسلمين.

وجملة {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} تذييل، والإِشارة إلى ما يدل عليه {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} من معنى، فكانت عاقبتهما سوأى والعاقبة السّوأى جزاء جميع الظّالمين المعتدين على الله والمسلمين، فكما كانت عاقبة الكافر وشيطانه عاقبة سوء كذلك تكون عاقبة الممثلين بهما وقد اشتركا في ظلم أهل الخير والهدى.

(1)

انظر: «تفسير البغوي» (3/ 367).

ص: 233

وقال عطاء: إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك وهذا خوف هلاك الدنيا فلا ينفعه

(1)

.

وقال الزجاج وابن الأنباري: ظن أن الوقت الذي أنظر إليه قد حضر.

زاد ابن الأنباري قال: أخاف أن يكون الوقت المعلوم الذي يزول معه إنظاري قد حضر فيقع بي العذاب فإنه لما عاين الملائكة خاف أن يكون وقت الانتظار قد انقضى فقال ما قال إشفاقًا على نفسه

(2)

.

* * *

(1)

ذكره البغوي في «تفسيره» (3/ 366).

(2)

«إغاثة اللهفان» (109 - 110) وانظر: «الفوائد» (ص/ 149).

ص: 234

‌سورة الجمعة

61 -

قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} [الجمعة: 5].

فَقَاسَ سُبْحَانَهُ مَنْ حَمَّلَهُ كِتَابَهُ لِيُؤْمِنَ بِهِ وَيَتَدَبَّرَهُ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيَدْعُوَ إلَيْهِ ثُمَّ خَالَفَ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْمِلْهُ إلَّا عَلَى ظَهْرِ قَلْبٍ، فَقرَأَهُ به بغير تَدَبُّرٍ وَلَا تَفَهُّمٍ وَلَا اتِّبَاعٍ له وتَحْكِيمٍ لَهُ وَعَمَلٍ بِمُوجِبِهِ، كَحِمَارٍ عَلَى ظَهْرِهِ زَامِلَةُ أَسْفَارٍ لَا يَدْرِي مَا فِيهَا، وَحَظُّهُ مِنْهَا حَمْلُهَا عَلَى ظَهْرِهِ لَيْسَ إلَّا؛ فَحَظُّهُ مِنْ كِتَابِ اللهِ كَحَظِّ هَذَا الْحِمَارِ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِهِ؛ فَهَذَا الْمَثَلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضُرِبَ لِلْيَهُودِ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِمَنْ حَمَلَ الْقُرْآنَ فَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ، وَلَمْ يَرْعَهُ حَقَّ رِعَايَتِه

(1)

.

(1)

«إعلام الموقعين» (2/ 288) وانظر «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص/ 71).

أخرج الطبري رقم (33948) بإسناد حسن عن قتادة {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} قال: يحمل كتابًا لا يدري ماذا عليه، ولا ماذا فيه.

وصح عند الطبري أيضا برقم (33952) إلى ابن زيد، في قول الله:{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} قال: الأسفارُ: التوراة التي يحملها الحمار على ظهره، كما تحمل المصاحف على الدواب، كمثل الرجل يسافر فيحمل مصحفه، قال: فلا ينتفع الحمارُ بها حين يحملها على ظهره، كذلك لم ينتفع هؤلاء بها حين لم يعملوا بها وقد أوتوها، كما لم ينتفع بها هذا وهي على ظهره.

وانظر: «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام (22/ 258).

ص: 235

‌سورة التحريم

62 -

قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)} [التحريم: 10 - 12].

فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالٍ: مَثَلٌ لِلْكافر

(1)

وَمثلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَتَضَمَّنَ مَثَلُ الْكُفَّارِ أَنَّ الْكَافِرَ يُعَاقَبُ عَلَى كُفْرِهِ وَعَدَاوَتِهِ لله وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَوْلِيَائِهِ، وَلَا يَنْفَعُهُ مَعَ كُفْرِهِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المُؤْمِنِينَ مِنْ لُحْمَةِ نَسَبٍ أَوْ صِلَةِ صِهْرٍ أَوْ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الِاتِّصَالِ.

فَإِنَّ الْأَسْبَابَ تَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا مُتَّصِلًا بِالله وَحْدَهُ عَلَى أَيْدِي رُسُلِهِ عليهم الصلاة والسلام، فَلَوْ نَفَعَتْ وَصْلَةُ الْقَرَابَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ أَوْ النِّكَاحِ مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ لَنَفَعَت الْوَصْلَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ نُوحٍ ولُوطٍ وَامْرَأَتَيْهِمَا، فَلَمَّا لَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللهِ شَيْئًا وقيل لهما:{ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} قَطَعَت الْآيَةُ حِينَئِذٍ طَمَعَ مَنْ ارَتكب مَعْصِيَةَ الله وَخَالَفَ أَمْرَهُ، رَجَاء أَنْ يَنْفَعَهُ صَلَاحُ غَيْرِهِ مِنْ

(1)

أخرج الطبري في «تفسيره» رقم (34326) بإسناد حسن: عن قتادة، قوله:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} الآية، هاتان زوجتا نَبِيِّ الله لما عصتا ربهما، لم يُغن أزواجهما عنهما من الله شيئًا.

ص: 236

قَرِيبٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ الِاتِّصَالِ، فَلَا اتِّصَالَ فَوْقَ اتِّصَالِ الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ، وَلَمْ يُغْنِ نُوحٌ عليه الصلاة والسلام عَنْ ابْنِهِ، وَلَا إبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام عَنْ أَبِيهِ، وَلَا نُوحٌ ولُوطٌ عليهما الصلاة والسلام عَنْ امْرَأَتَيْهِمَا مِنْ اللهِ شَيْئًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3]، وَقَالَ تَعَالَى:{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)} [الانفطار: 19].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، وَقَالَ:{وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33].

وَهَذَا كُلُّهُ تَكْذِيبٌ لِأَطْمَاعِ المُشْرِكِينَ الْبَاطِلَةِ أَنَّ مَنْ تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ دُونِ الله مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ صِهْرٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ صُحْبَةٍ يَنْفَعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ يُجِيرُهُمْ مِنْ عَذَابِ الله تعالى، أَوْ تشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تعالى، وَهَذَا أَصْلُ ضَلَالِ بَنِي آدَمَ وَشِرْكِهِمْ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ، وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ اللهُ تعالى جَمِيعَ رُسُلِهِ عليهم الصلاة والسلام وَأَنْزَلَ جَمِيعَ كُتُبِهِ بِإِبْطَالِهِ، وَمُحَارَبَةِ أَهْلِهِ وَمُعَادَاتِهِمْ.

* * *

ص: 237

‌فَصْلٌ

* وَأَمَّا المَثَلانِ اللَّذَانِ لِلْمُؤْمِنِينَ:

* فَأَحَدُهُمَا امْرَأَةُ فِرْعَوْن

(1)

.

وَوَجْهُ المَثَلِ أَنَّ اتِّصَالَ المُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا إذَا فَارَقَهُ فِي كُفْرِهِ وَعَمَلِهِ، فَمَعْصِيَةُ العاصي لَا تَضُرُّ المُطِيعَ شَيْئًا فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ تَضَرَّرَ بِهَا فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَحِلُّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ إذَا أَضَاعُوا أَمْرَ اللهِ عز وجل فَتَأْتِي عَامَّةً، فَلَمْ تضُرَّ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ اتِّصَالُهَا بِهِ وَهُوَ مِنْ أَكْفَرِ الْكَافِرِينَ، وَلَمْ يَنْفَع امْرَأَةَ نُوحٍ وَلُوطٍ اتِّصَالُهُمَا بِهِمَا وَهُمَا رَسُولَا رَبِّ الْعَالَمِينَ.

* المَثَلُ الثَّانِي لِلْمُؤْمِنِينَ: مَرْيَم الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا، لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنْ النِّسَاءِ: المَرْأَةَ الْكَافِرَةَ الَّتِي لَهَا وَصْلَةٌ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَالمَرْأَةَ الصَّالِحَةَ الَّتِي لَهَا وَصْلَةٌ بِالرَّجُلِ الْكَافِرِ، وَالمَرْأَةَ الْعَزبة الَّتِي لَا وَصْلَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَحَدٍ:

فَالأَولَى: لَا تَنْفَعُهَا وَصْلَتُهَا وَسَبَبُهَا.

وَالثَّانِيَةُ: لَا تَضُرُّهَا وَصْلَتُهَا وَسَبَبُهَا.

وَالثَّالِثَةُ: لَا تضُرُّهَا عَدَم الْوَصْلَةِ شَيْئًا.

(1)

أخرج الطبري في «تفسيره» رقم (34330) بإسناد حسن: عن قتادة قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} وكان أعتى أهل الأرض على الله، وأبعده من الله، فوالله ما ضرّ امرأته كُفر زوجها حين أطاعت ربها، لتعلموا أن الله حكم عدل، لا يؤاخذ عبده إلا بذنبه.

ص: 238

ثُمَّ فِي هَذِهِ الْأَمْثَالِ مِنْ الْأَسْرَارِ الْبَدِيعَةِ مَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ السُّورَةِ؛ فَإِنَّهَا سِيقَتْ فِي ذِكْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ تَظَاهُرِهِنَّ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُنَّ إنْ لَمْ يُطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَيُرِدْنَ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَمْ يَنْفَعْهُنَّ اتِّصَالُهُنَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا لَمْ يَنْفَعْ امْرَأَة نُوحٍ وَلُوط اتِّصَالهمَا بِهِمَا، وَلِهَذَا إنَّمَا ضَرب الله فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَثَل اتِّصَال النِّكَاحِ دُونَ الْقَرَابَةِ.

قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّام

(1)

: ضَرَبَ اللهُ المَثَلَ الْأَوَّلَ يُحَذِّرُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمَا المَثَلَ الثَّانِيَ يُحَرِّضُهُمَا عَلَى التَّمَسُّكِ بِالطَّاعَةِ.

وَفِي ضَرْبِ المَثَلِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْيَمَ أَيْضًا اعْتِبَارٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهَا لَمْ يَضُرَّهَا عِنْدَ اللهِ شَيْئًا قَذْفُ أَعْدَاءِ اللهِ تعالى الْيَهُودَ لَهَا، وَنِسْبَتُهُمْ إيَّاهَا وَابْنَهَا إلَى مَا بَرَّأَهُمَا اللهُ عَنْهُ، مَعَ كَوْنِهَا الصِّدِّيقَةُ الكُبْرَى الْمُصْطَفَاةُ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ؛ فَلَا يَضُرُّ الرَّجل الصَّالح قَذف الْفُجَّارِ وَالْفُسَّاقِ فِيهِ.

وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِعَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ إنْ كَانَتْ السُّورَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ قِصَّةِ الْإِفْكِ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهَا عَلَى مَا قَالَ فِيهَا الْكَاذِبُونَ إنْ كَانَتْ قَبْلَهَا.

كَمَا فِي التَّمْثِيلِ بِامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ تَحْذِيرٌ لَهَا وَلِحَفْصَةَ مِمَّا اعْتَمَدَتَاهُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْأَمْثَالُ التَّحْذِيرَ لَهُنَّ وَالتَّخْوِيفَ، وَالتَّحْرِيضَ لَهُنَّ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّوْحِيدِ، وَالتَّسْلِيَة وَتَوْطِين النَّفْسِ لِمَنْ أُوذِيَ مِنْهُنَّ وَكُذِبَ عَلَيْهِ.

وَأَسْرَارُ التَّنْزِيلِ فَوْقَ هَذَا وَأَجَلُّ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا أَسْرَارُ الْأَمْثَالِ الَّتِي لَا يَعْقِلُهَا إلَّا الْعَالِمُونَ

(2)

.

(1)

له ترجمة في «السير» (9/ 396 - 397).

(2)

«إعلام الموقعين» (2/ 320 - 323) وانظر: «جلاء الأفهام» (1/ 230) ط دار العروبة.

ص: 239

‌سورة القلم

63 -

قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)} [القلم: 17 - 33]

(1)

.

ص: 240

(1)

قال ابن كثير رحمه الله: هذا مَثَل ضَرَبه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النعم الجسيمة، وهو بَعْثُهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة؛ ولهذا قال:{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} أي: اختبرناهم، {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} أي: حلفوا فيما بينهم لَيجُذَّنَ ثَمرها ليلًا لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل، ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء، {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} أي: فيما حلفوا به. ولهذا حنثهم الله في أيمانهم، فقال:{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} أي: أصابتها آفة سماوية، {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قال ابن عباس: أي كالليل الأسود. وقال الثوري، والسدي: مثل الزرع إذا حُصِد، أي هشيمًا يبسًا.

{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} أي: لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضًا ليذهبوا إلى الجَذَاذ.

{أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} أي: تريدون الصرام.

{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} أي: يتناجون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم. ثم فسر الله عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به، فقال:{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)} أي: يقول بعضهم لبعض: لا تمكنوا اليوم فقيرًا يدخلها عليكم!

قال الله تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} أي: قوة وشدة.

وقال مجاهد: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} أي: جد.

{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} أي: عليها فيما يزعمون ويَرومون.

{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أي: فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها، وهي على الحالة التي قال الله عز وجل، قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مُدْلَهِمَّة، لا ينتفع بشيء منها، فاعتقدوا أنهم قد أخطئوا الطريق؛ ولهذا قالوا:{إِنَّا لَضَالُّونَ} أي: قد سلكنا إليها غير الطريق فتُهنا عنها. قاله ابن عباس وغيره. ثم رجعوا عما كانوا فيه، وتيقنوا أنها هي فقالوا:{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: بل هذه هي، ولكن نحن لا حَظّ لنا ولا نصيب.

{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي: أعدلهم وخيرهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} ! =

ص: 241

قال: هذه مدينة ضَرَوَان

(1)

قد مررتُ بها، وهي قريبة من عبد الرزاق، رأيتها سوداء حمراء، أثرُ النار يتبين فيها، ليس فيها أثر زرع ولا خضرة، إنما غَدَوا

= قال مجاهد، والسدي، وابن جريج:{لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} أي: لولا تستثنون.

قال السدي: وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحًا. وقال ابن جريج: هو قول القائل: إن شاء الله.

وقيل: معناه: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} أي: هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم، {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينفع؛ ولهذا قالوا:{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} أي: يلوم بعضهم بعضًا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين من حق الجذاذ، فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب، {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي: اعتدينا وبَغَينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا، {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} قيل: رغبوا في بذلها لهم في الدنيا. وقيل: احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة، والله أعلم.

قال الله تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أي: هكذا عذاب من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه، ومنع حق المساكين والفقراء وذوي الحاجات، وبدل نعمة الله كفرا {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم، وعذاب الآخرة أشق. انتهى مختصرًا.

(1)

ضروان بفتحات؛ بليد قرب صنعاء، سمي باسم واد هو على طرفه، وذلك الوادي مستطيل هذه المدينة في طرفه من جهة صنعاء وطول الوادي مسيرة يومين أو ثلاثة، وعلى طرفه الآخر من جهة الجنوب مدينة يقال لها: شوابة، وهذا الوادي المسمى بضروان هو بين هاتين البلدتين، قيل: هي الأرض التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز. وقيل إنها كانت أحسن بقاع الله في الأرض، وأكثرها نخلًا وفاكهة، وإن أهلها غدوا إليها وتواصوا ألا يدخلها عليهم مسكين فأصبحوا فوجدوا نارًا تأجج فمكثت النار تتقد فيها ثلاثمائة سنة وبينها وبين صنعاء أربعة فراسخ. «معجم البلدان» (3/ 456).

ص: 242

على أن يصرموها أو يجذوها وفيها حرث، وكانوا قد أقسموا أن لا يدخلها مسكين:{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قد أكلتها النار حتى تركتها سوداء.

قال {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أعدلهم

(1)

.

* * *

(1)

«بدائع الفوائد» (3/ 1018 - 1019).

ص: 243

‌سورة المدثر

64 -

قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)}

[المدثر: 50، 51].

قَوْله تَعَالَى فِي تَشْبِيهِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ كَلَامِهِ وَتَدَبُّرِهِ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} شَبَّهَهُمْ فِي إعْرَاضِهِمْ وَنُفُورِهِمْ عَنْ الْقُرْآنِ بِحُمُرٍ رَأَت الْأَسَدَ

(1)

والرُّمَاةَ

(2)

فَفَرَّتْ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ التَّمْثِيلِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ فِي جَهْلِهِمْ بِمَا بَعَثَ اللهُ سبحانه رَسُولَهُ كَالْحُمُرِ، فهِيَ لَا تَعْقِلُ شَيْئًا، فَإِذَا سَمِعَتْ صَوْتَ الْأَسَدِ والرَّامي نَفَرَتْ مِنْهُ أَشَدَّ النُّفُورِ، وَهَذَا غَايَةُ الذَّمِّ لِهَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ نَفَرُوا عَنْ الْهُدَى الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ وَحَيَاتُهُمْ كَنُفُورِ الْحُمُرِ عَنْ مَا يُهْلِكُهَا وَيَعْقِرُهَا، وَتَحْتَ المُسْتَنْفِرَةِ مَعْنًى أَبْلَغُ مِنْ النَّافِرَةِ؛ فَإِنَّهَا لِشِدَّةِ نُفُورِهَا قَدْ اسْتَنْفَرَ

(1)

ثبت عن أبي موسى وابن عباس وقتادة: أنهم فسروا {قَسْوَرَةٍ} بالرماة.

أخرجه الطبري في «التفسير» (35356)، (35355)، (35365) وقد بسطت القول في تخريجه في «التنقيح والتحرير على مقدمة أصول التفسير» لابن تيمية (ص 40، 41) ط دار التأصيل.

(2)

أخرج الطبري رقم (35377) ط دار السلام، حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني داود بن قيس عن زيد بن أسلم في قول الله: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} قال: الأسد. وهذا إسناده صحيح.

وأخرج برقم (35370)، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر كما في «الدر المنثور» من طريق أبي جمرة، قال: قلت لابن عباس: القسورة الأسد، فقال: ما أعلمه بلغة أحدٍ من العرب. الأسد: هم عصبة الرجال. وإسناده صحيح. وانظر: «التنقيح والتحرير على مقدمة أصول التفسير» لابن تيمية (ص/ 41 - 42) ط دار التأصيل.

ص: 244

بَعْضُهَا بَعْضًا وَحَضَّهُ عَلَى النُّفُورِ، فَإِنَّ فِي الِاسْتِفْعَالِ مِنْ الطَّلَبِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْفِعْلِ المُجَرَّدِ فَكَأَنَّهَا تَوَاصَتْ بِالنُّفُورِ، وَتَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْفَاءِ

(1)

. فَالمَعْنَى أَنَّ الْقَسْوَرَةَ اسْتَنْفَرَهَا وَحَمَلَهَا عَلَى النُّفُورِ بِبَأْسِهِ وَشِدَّتِهِ

(2)

. والحمد لله أولًا وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا.

وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين

(3)

.

* * *

(1)

قال البناء في «إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر» (ص/ 562): واختلف في (مستنفرة) فنافع وابن عامر وأبو جعفر بفتح الفاء اسم مفعول، أي: ينفرها القناص، والباقون بكسرها بمعنى نافرة. قال الزمخشري: كأنها تطلب النفار في نفوسها في جمعها له وحملها عليه. انتهى. فأبقى السين على بابها، قال السمين: وهو معنى حسن. وانظر: «الموضح في وجوه القراءات وغيرها» (3/ 1314).

(2)

«إعلام الموقعين» (2/ 287 - 288).

(3)

انظر: «هداية الحيارى» (ص/ 450).

وكان الفراغ منه يوم الأحد السادس عشر من شهر ذي الحجة عام تسعة وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. الموافق 14/ 12/ 2008 م.

وكتبه

أبو أويس أشرف بن نصر بن صابر الكردي

مصر/ كفر الشيخ/ بلطيم/ الحنفي الكبرى

نزيل منية سمنود/ أجا/ الدقهلية.

جوال/ 0107192699

ص: 245