الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدِّمة المستَمْلِي
الحمدُ للهِ الذي هدانا للإسلامِ، وأبان لنا معالمَ الحلالِ والحرامِ، وصلَّى اللهُ وسلَّم على عبدِهِ ورسولِهِ محمَّدٍ سيِّدِ المرسَلينَ وخيرِ الأنامِ، وعلى آلِهِ التقاة الكرامِ، وأصحابِهِ الهداةِ الأعلامِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ أشرفَ ما سعى في تحصيلِهِ أولو العقول - بعد كتاب الله سبحانه وتعالى ميراث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الحديثُ النبويُّ، الذي هو المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد القرآن؛ فهو المبين للقرآن العظيم، والمفصل لمجملاته، والموضح لأحكامه؛ قال تعالى:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} ؛ أي: القرآن؛ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؛ أي: في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين عن الله عز وجل مراده مما أجمله في كتابه؛ من أحكام الصلاة والزكاة والحج، وسائر العبادات والشرائع.
ولقد عُني العلماء بالسنة أيما عناية، فصوبوا نحوها الأنظار، ووضعوا فيها الأسفار، وصنفوا في السنن والأحكام، وفي الحلال والحرام.
وإن من أجَلِّ الكتب المصنفة في أحاديث الأحكام: كتاب «بلوغ المرام، من أدلة الأحكام» ، الذي ألفه الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تغمده الله برحمته؛ إذ استوعب فيه جمهرة أدلة الأحكام التي يحتاج إليها العلماء ويعتمدها المفتون، ولم يفُتْهُ إلا القليل؛ رغبة منه في الإيجاز.
وقد اعتنى الحافظ بتحرير كتابه هذا وتهذيبه، وأولاه ما أولاه من عناية، حتى بلغ به الغاية؛ ألا تراه في ديباجته يصرح بأنه: «حرره تحريرًا بالغًا؛ ليصير
من يحفظه من بين أقرانه نابغًا»؟، وكان الحافظ رحمه الله قد صنفه في أول الأمر لابنه محمد؛ كما ذكر ذلك تلميذه السخاوي
(1)
، ويبدو -والله أعلم- أنه كانت له فيه نية حسنة، ومقصد صالح؛ إذ وُضع لهذا الكتاب القبول، واشتهر في الأمصار، كاشتهار الشمس في رائعة النهار، وتناوله العلماء من أهل المذاهب الفقهية المختلفة بالشرح والتعليق، وصار الكتاب منطلقًا لتدريس السنة والفقه ونفع الله به الأمة نفعًا نرجو أن يعود بره إلى مؤلفه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
ومن آثار العناية ب «بلوغ المرام» : ما رأيناه من الشروح التي كتبت عليه وقد صدر منها طائفة لعدد من العلماء من المتقدمين والمتأخرين، ولكل درجات مما عملوا، وهذه الشروح -على التحقيق- يُكمِّل بعضها بعضًا، ولا يغني شرح عن شرح لدى العالم المفيد، والطالب المستزيد؛ وإن كان بعضها أتم من بعض وأجمع؛ لأن مادة الكتاب هي من الكلام النبوي، والمنهل العذب الروي؛ فإن كلام النبي صلى الله عليه وسلم مبارك كثير العطاء، وكلما زدته نظرًا، زادك معنى؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«من أصغى إلى كلام الله، وكلام رسوله بعقله، وتدبره بقلبه، وجد فيه من الفهم والحلاوة، والبركة والمنفعة .. ما لا يجده في شيء من الكلام؛ لا منظومه، ولا منثوره»
(2)
.
وإن ممن اعتنى بهذا الكتاب المبارك في هذا العصر شيخنا العلامة أبا عبد الله عبد الرحمن بن ناصر البراك -وفَّقه الله لمرضاته، ومتَّعنا الله بحياته-؛ إذ حفظه يافعًا، وتفقه به على شيوخه الأماجد، ثم درَّسه سنين عددًا في المساجد، وفي كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وصارت له به عناية خاصة.
(1)
في «الجواهر والدرر، في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر» (3/ 1220).
(2)
«اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 748).
وقد كان من فضل الله عليَّ وفضله عليَّ عظيم- أن حبب إليَّ طلب العلم، ويسَّر لي ملازمة هذا العالم الجليل، الذي فتح لي صدره قبل بيته، إذْ أقامني من نفسه مقام أعز أصفيائه، بل مقام أبنائه، وغمرني بكرمه، وجاد عليَّ بعلمه؛ وذلك من أعلى الجود
(1)
؛ فلا عليَّ بعد هذا أن أخاطبه -أعزه الله- بقول الأول:
بِكَ اهْتَزَّ غُصْنِي فِي رِيَاضِكَ مُثْمِرًا
…
وَرَاقَتْ لِيَ الدُّنْيَا وَرَاقَ نَظِيرُهَا
أحسن الله إليه، وجزاه أعظم ما جزى شيخًا عن تلاميذه.
وإن أحب الساعات إلى قلبي -بعد عبادة الله تعالى- ساعة أجلس فيها إلى هذا العالم الرباني، فأنهل من حياضه، وأطوف في رياضه، وأتفقه بفقهه، وأتأدب بأدبه، ولا تجد أحسن من حديثه إذا تكلم؛ حلاوة مقطع، ونفاسة منزع، وعذوبة مشرع:
لَقَدْ كَانَ لِي رَوْضَةً عَذْبَةً
…
مَوَارِدُهَا فِي فَمِ الصَّادِرِ
أُقَلِّبُ طَرْفِي بِأَرْجَائِها
…
فَيَرْتَعُ فِي مُونِقٍ زَاهِرِ
نفعنا الله بعلمه، وثاقب فهمه، وثبتنا وإياه على صراطه المستقيم، ودينه القويم.
لقد طلبت من شيخنا أنْ أقرأ عليه «بلوغ المرام» ؛ ليُتْحفني بالفوائد والأحكام التي تضمنتها أحاديثه؛ فإنها الغاية التي يسعى إليها دارسو الكتاب من المتعلمين والطلاب، وهي أصل العلم وقاعدته، فأجابني إلى ذلك، وتبسَّط في الكشف عن مقاصد الأحاديث وفوائدها وأحكامها الفقهية والسلوكية وغيرها، في درس لم يحضره غيري، ولا سمعه سواي، وشرعت أكتب كلامه كله لنفسي، لما أعلم ويعلم غيري من غزارة علم الشيخ، وحسن فهمه، ودقة استنباطه، ومتانة اختياراته، وجميل عباراته؛ فهي - ولا غرو - أنقى من الراحة،
(1)
ينظر: «مدارج السالكين» (2/ 293).
وأصفى من الزجاجة، وأحلى من الماء العذب، هذا؛ إلى ما هو معلوم من حسن أدب شيخنا مع الأئمة وأعلام الأمة.
وكنت استأذنته -حفظه الله-، في أن أقرأ عليه في نهاية كل درس ما دونته من فوائد الأحاديث، فكان يُقِرُّها أحيانًا، وربما زاد فيها في أحايين أخرى.
وحين سمع الأشياخ وطلاب العلم من تلاميذ شيخنا وغيرهم بهذا الشرح، أشاروا عليَّ بنشره؛ تعميمًا للفائدة به، وحفظًا له من الضياع، وترقبًا في أن يكون هذا العمل لشيخنا ولكاتبه ذخرًا صالحًا عند الله تعالى، فَراقَني ما رَأَوا، وأعجبني ما أبدَوا، وقلت في نفسي: هذا - والله - الرأي المنير، ولا ينبئك مثلُ خبير، وعرضت الأمر على شيخنا العلامة - أيَّده الله - فوافق عليه، كما وافق على نظري بتسميته:
الجامع لفوائد بلوغ المرام
لأن هذا الشرح -كما سيبدو للمُنصف- أجمعُ من غيره لفوائد الكتاب المذكور، فهو واسطة العقد من هاتيك الشروح؛ إذْ جمع فأوعى، وتقدم في هذا المضمار جنسًا ونوعا، وإذا طالعه العارفون علموا بلا شك ولا مرا، أن كلَّ الصيد في جوف الفَرا.
وبعد؛ فيا طالب العلم، دونك كتابًا جليلًا، حوى من غُرَر الفوائد، ودُرَر الفرائد، ما يشهد لصاحبه بالعلم الغزير، والتوفيق الكبير، وبالتجرد في اتباع الدليل، وسلوك سواء السبيل.
ولقد صيغ الكتاب بلغة عالية سهلة، وحررت عباراته أيما تحرير، فجاءت كنسج الحرير، كما لا يخفى على العالم النحرير والناقد البصير:
كِتَابٌ عَلَيْهِ بَهْجَةٌ وَجَلَالَةٌ
…
وَفِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ حُسْنٌ وَرَوْنَقُ
فَفِي كُلِّ سَطْرٍ مِنْهُ عِقْدٌ مُنَظَّمٌ
…
وَمِنْ كُلِّ حَرْفٍ نَفْحَةُ الْمِسْكِ تَعْبَقُ
هذا؛ وقد سبرتُ الكتاب فرأيته صالحًا -إن شاء الله- لجميع الطبقات:
- فهو نافع للعلماء من جهة استقصاء الفوائد الحديثية والفقهية، والإشارة إلى وجوه الخلاف ومآخذها، على بعد من التفصيل الذي يحير الأفهام، ويوقع في الظلام.
- كما أنه مفيد للطلاب من جهة اختصاره، وبيان وجوه الاستشهاد في الحديث.
- وهو أيضًا: نافع لعامة الناس؛ لوضوح عبارته، ولما حواه فيه من الكشف عن سماحة الإسلام، وأسرار التشريع؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ والله ذو الفضل العظيم.
ولهذا؛ فإني أرشح لأئمة المساجد: أن يقرؤوا هذا الكتاب على المصلين؛ ويشرحوا ما شاؤوا من عباراته ولطيف إشاراته، وهذا من أحسن الوسائل لتفقيه المسلمين وأيسرها، وإنها لوصية مجرب، فاشدد بها يديك.
وأيًّا ما كان؛ فإني أحسب أن كل من قرأ الكتاب، انتفع به -إن شاء الله-، مع توفيق الله؛ كما قال الشاطبي رحمه الله في خاتمة قصيدته الشهيرة «حرز الأماني»:
فَهَذَا مَعَ التَّوْفِيقِ كَافٍ مُحَصِّلَا
أسأل الله أن يجزي شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك خيرًا عن العلم وأهله، وأن يبارك في عمره وعلمه وعمله، كما أسأله سبحانه لهذا
الكتاب أن يحسُنَ وقعُه ويعُمَّ نفعُه، وأن يُتهِمَ ويُنجِدَ في البلاد، وأن ينفع الله به الحاضر والباد.
فاللهم اكتب له القبول، يا خير مأمول، وأكرم مسؤول، وانفع به من أملاه، ومن كتبه، ومن قرأه، ومن قرئ بين يديه، ومن أشار به، ومن دل عليه، ومن نشره، ومن طبعه؛ إنك يا ربنا بكل جميل كفيل، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم على نبي الرحمة والملحمة محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
وكتب ذلك
أ. د. عبد المحسن بن عبد العزيز العسكر
سَلْخَ ذي القَعدة 1436 هـ
ترجمةُ الشارحِ
(حفظَهُ الله)
* * *
اسمُهُ ونسبُهُ:
هو: أبو عبد الله عبد الرحمن بن ناصر بن برَّاك بن إبراهيم البرَّاك، ينحدر نسبه من بطن العرينات، والمشهور عند العرينات: أنَّهم ينحدرون في نسبهم من قبيلة سبيع.
ميلادُهُ ونشأتُهُ:
ولد الشيخ في بلدة البكيريَّة من منطقة القصيم، في شهر ذي القعدة، سنة (1352 هـ).
وتوفِّي والده وعمره سنةٌ، فنشأ في طفولته في بيت أخواله مع أمِّه، فتربَّى خير تربية.
ولمَّا بلغ الخامسة من عمره، سافر مع أمِّه إلى مكة، وكان في كفالة زوج أمِّه مُحمَّد بن حمودٍ البرَّاك.
وفي مكة التحق الشيخ بالمدرسة الرَّحمانيَّة، وهو في السنة الثانية الابتدائيَّة، وقدَّر الله أن يصاب بمرضٍ في عينيه، تسبَّب في ذهاب بصره، وهو في العاشرة من عمره، ونحسب أنَّ الله عوَّضه البصيرة والرشد؛ بفضله ومِنَّته.
طلَبُهُ للعلمِ ومشايخُهُ:
عاد الشيخ من مكة إلى البكيريَّة مع أسرته، فحفظ القرآن وعمره عشر سنين تقريبًا، على عمِّه عبد الله بن منصورٍ البرَّاك، ثم قرأ على مقرئ البلد عبد الرحمن بن سالمٍ الكريديس؛ رحمهم الله.
وفي عام (1364 هـ)، و (1365 هـ): بدأ الشيخ حضور الدروس، والقراءة على العلماء؛ فقرأ على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السُّبيِّل رحمه الله جملةً من «كتاب التوحيد» للشيخ مُحمَّد بن عبد الوهَّاب رحمه الله، و «الآجرُّوميَّة» في العربيَّة، وقرأ «الأصول الثلاثة» للشيخ مُحمَّد بن عبد الوهَّاب، على الشيخ مُحمَّد بن مقبلٍ قاضي البكيريَّة إذ ذاك رحمه الله.
ثمَّ سافر إلى مكة مرةً أخرى مع أهله في عام (1366 هـ) تقريبًا، ومكث بها ثلاث سنين، فقرأ في مكَّة على الشيخ عبد الله بن مُحمَّد الخليفيِّ رحمه الله، إمام المسجد الحرام، في «الآجرُّوميَّة» ، وكانت القراءة في رباط الشاميَّة.
وحضر في الحرم المكيِّ دروس العلَّامة الفقيه مُحمَّد بن عبد العزيز المانع أول مديرٍ للمعارف السعوديَّة، كما حضر دروس الشيخ عليٍّ الهنديّ، وكانت أغلب دروسه في الفقه، ثمَّ التقى هناك بالشيخ العالم صالح بن حسينٍ العليِّ العراقيِّ رحمه الله
(1)
، وكان من كبار تلاميذ العلَّامة الشيخ مُحمَّد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعوديَّة رحمه الله؛ فعني الشيخ صالحٌ بالشيخ عبد الرحمن لما رأى من ذكائه وألمعيَّته، وجعل يدارسه العلم، واستفاد الشيخ عبد الرحمن منه كثيرًا.
ثمَّ إنَّ الشيخ عبد الرحمن -إذ ذاك- قام لديه ولدى أهله عزمٌ على أن يرتحل إلى الرياض لطلب العلم على يد العلَّامة الشيخ مُحمَّد بن إبراهيم آل الشيخ، وفي تلك الأثناء لم يلبث الشيخ صالح بن حسينٍ العليُّ أن عيِّن مديرًا للمدرسة العزيزيَّة في بلدة الدِّلم
(2)
، ويبدو أنَّ هذا التعيين كان برغبته؛ ليلتقي
(1)
توفِّي في مكة 4 صفر 1405 هـ، ودفن في مقبرة العدل، وكان قدم في شبابه من العراق إلى المملكة لطلب العلم، فاستفاد علمًا كثيرًا، وأفاد، وكان معروفًا بحبِّ السُّنَّة والتمسُّك بالدليل، ولي عدة أعمالٍ، من آخرها تولِّيه التدريس في الجامعة الإسلاميَّة رحمه الله.
(2)
جنوبيَّ الرياض العاصمة، تبعد عنها حوالي 100 كلم.
هناك بصديقه الكبير وزميله في الطلب العلَّامة الجليل الشيخ عبد العزيز بن بازٍ رحمه الله، وكان قاضي الدِّلم حينذاك.
ولقد حرص الشيخ صالحٌ على أن يرافقه الشيخ عبد الرحمن إلى الدِّلم؛ حفاوةً به، وإكمالاً لسيره في العلم، فاستأذن الشيخ صالحٌ والدة الشيخ عبد الرحمن في ذلك، فأذنت له، وكان هذا بتيسير الله ولطفه؛ لأنَّه كان يؤمِّل أن يكون من حملة العلم البارزين، وهذا ما كان يحدِّث به الشيخ صالحٌ، وممَّن روى عنه ذلك الشيخ الفاضل عبد الرحمن الجلَّال رحمه الله، من أعيان الدِّلم، قال: سمعنا الشيخ صالحًا يقول: «إن أحياكم الله سترون لهذا الشابِّ شأنًا» ، وصدقت فراسة الشيخ صالحٍ؛ فقد أصبح الشيخ عبد الرحمن أحد كبار العلماء في هذا العصر؛ نسأل الله أن يجزي الشيخ صالحًا أحسن ما جزى عالمًا عن تلاميذه.
وكان ارتحال الشيخ عبد الرحمن مع شيخه العراقيِّ إلى الدِّلم في ربيعٍ الأوَّل من عام (1369 هـ)، وهناك التحق بالمدرسة العزيزيَّة في الصفِّ الرابع، وكان من أهمِّ ما استفاده في تلك السنة الإلمام بقواعد التجويد الأساسيَّة، وجعل هناك يختلف إلى حلقة الشيخ عبد العزيز بن بازٍ، وتعرَّف عن كثبٍ إلى كبار تلاميذه؛ من أمثال الشيخ عبد الله بن قعودٍ رحمه الله، والشيخ راشد بن خنينٍ رحمه الله، وغيرهما.
وفي السنة نفسها سافر مع جمعٍ من الطلاب مع الشيخ ابن بازٍ إلى الحجِّ، وبعد عودته ترك الدراسة في المدرسة العزيزيَّة، وآثر الانكباب على العلم وحفظ المتون مع طلاب الشيخ عبد العزيز بن بازٍ، ولازم دروس الشيخ ابن بازٍ المتنوِّعة، بعد الفجر، وبعد المغرب، وبعد الظهر أحيانًا، فقد كان يقرأ عليه في:«كتاب التوحيد» ، و «الأصول الثلاثة» ، و «عمدة الأحكام» ، و «بلوغ
المرام»، و «مسند أحمد» ، و «تفسير ابن كثيرٍ» ، و «الرَّحبيَّة» ، و «الآجرُّوميَّة» ، وغيرها.
ومكث الشيخ عبد الرحمن في الدِّلم في رعاية الشيخ صالحٍ العراقيِّ؛ فقد كان مقيمًا في بيته، ودرس عليه علم العروض، وكان الشيخ صالحٌ بارعًا في هذا العلم؛ كما كان يجيد نظم الشعر التعليميِّ، وغيره، وله قصائد جيادٌ.
وحفظ الشيخ عبد الرحمن في بلدة الدِّلم كتبًا ومتونًا، منها:«كتاب التوحيد» ، و «الأصول الثلاثة» ، و «الآجرُّوميَّة» ، و «قطر الندى» ، و «نظم الرَّحبيَّة» ، كما حفظ قدرًا من «ألفيَّة ابن مالك» ، ومن «ألفيَّة العراقيِّ» في علوم الحديث.
وبقي في الدِّلم إلى أواخر سنة (1370 هـ)، وكانت إقامته في الدِّلم لها أثرٌ كبيرٌ في حياته العلميَّة.
ثم لمَّا أعلن عن فتح المعهد العلميِّ في الرياض في عام (1370 هـ)، انتقل إليه كثيرٌ من طلاب المشايخ، ومنهم طلاب الشيخ عبد العزيز بن بازٍ، فاضطرَّ الشيخ للتسجيل فيه، وبدأت دراسة أوَّل دفعةٍ فيه في محرَّمٍ سنة (1371 هـ)، وكانت الدراسة في المعهد تتكوَّن من مرحلتين؛ تمهيديَّةٍ: للمبتدئين الصِّغار، وثانويَّةٍ: لمن بعدهم، والتحق به كثيرٌ من طلاب العلم في وقتها، وكانت الدراسة الثانويَّة أربع سنوات، فتخرَّج الشيخ عام (1374 هـ)، والتحق بكليَّة الشريعة، وتخرَّج فيها سنة (1378 هـ)، مع الدُّفعة الثالثة، وكان ترتيبه الثاني على زملائه البالغ عددهم أربعةً وأربعين طالبًا، كما في سجلِّ جامعة الإمام مُحمَّد بن سعودٍ الإسلاميَّة الصادر عام (1402 هـ). وكان من زملائه في تلك الدُّفعة: الشيخ الفقيه عبد العزيز الداوود رحمه الله، والشيخ مُحمَّد بن صالحٍ المنصور عالم بريدة المشهور ب «المنسلح» رحمه الله، والشيخ صالحٌ الأطرم رحمه الله.
وقد تلمذ الشيخ في المعهد والكليَّة لمشايخ كثيرين، من أبرزهم:
العلَّامة عبد العزيز بن بازٍ، والعلَّامة مُحمَّدٌ الأمين الشِّنقيطيُّ، ودرَّسهم في المعهد في التفسير، وأصول الفقه، والعلَّامة عبد الرزَّاق عفيفي، ودرَّسهم في التوحيد، والنحو، وأصول الفقه، والشيخ مُحمَّد عبد الرزَّاق حمزة، والشيخ الفرضيُّ عبد العزيز بن ناصرٍ الرَّشيد، والشيخ الفرضيُّ عبد الله الخليفيّ، والشيخ عبد الرحمن الإفريقيّ، والأستاذ النحويُّ عبد اللطيف سرحان الأزهريّ، في آخرين؛ رحمهم الله جميعًا.
وكان الشيخ عبد الرحمن في تلك المدة يحضر بعض دروس العلَّامة مُحمَّد بن إبراهيم آل الشيخ في المسجد.
وأكبر مشايخ الشيخ عبد الرحمن وأعظمهم أثرًا في نفسه: العلَّامة الشيخ عبد العزيز بن بازٍ رحمه الله؛ فقد أفاد منه أكثر من خمسين عامًا؛ بدءًا من عام (1369 هـ)، إلى وفاته في عام (1420 هـ)، ثم شيخه العراقيُّ الذي استفاد منه حبَّ الدليل، ونبذ التقليد، والتدقيق في علوم اللغة؛ كالنحو، والصرف، والعروض.
الأعمالُ التي تولَّاها:
لما تخرَّج الشيخ عبد الرحمن في الكليَّة، صدر أمر الشيخ مُحمَّد بن إبراهيم آل الشيخ رئيس القضاة لعصره: بتعيين الشيخ عبد الرحمن قاضيًا في مدينة شقراء
(1)
، فتوجَّه الشيخ عبد الرحمن إلى الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ مدير الكليَّات والمعاهد العلميَّة: أن يشفع لدى أخيه الشيخ مُحمَّدٍ: أن يعفيه من القضاء، فلمَّا لقيه، بادره الشيخ عبد اللطيف قائلاً:«إنَّ الشيخ مُحمَّدًا أصدر أمره أن تكون قاضيًا لشقراء، ولكنِّي رغبت في أن تكون مُدرِّسًا في المعهد العلميِّ؛ فوافق الشيخ مُحمَّدٌ على ذلك، والحمد لله؛ فإنِّي حريصٌ على انتقاء المُدرِّسين، كحرص الشيخ مُحمَّدٍ على انتقاء القضاة» .
(1)
تبعد عن الرياض قرابة (180) كلم، من الناحية الشماليَّة الغربيَّة منه.
وصدر القرار بتعيين الشيخ مُدرِّسًا في «المعهد العلميِّ» في مدينة الرياض عام (1379 هـ)، وبقي فيه ثلاثة أعوامٍ، ثم نقل بأمر الشيخ مُحمَّد بن إبراهيم إلى كليَّة الشريعة بالرياض عام (1381 هـ)، وتولَّى هناك تدريس العلوم الشرعيَّة.
وهنا أقف لأدوِّن ما سمعته من معالي الشيخ إبراهيم ابن الشيخ مُحمَّد بن إبراهيم آل الشيخ وزير العدل الأسبق رحمه الله؛ حين زرتُه صحبة شيخنا الشيخ عبد الرحمن، في أوائل رمضان لعام (1412 هـ)؛ إذ قال لشيخنا الشيخ عبد الرحمن -بعد كلامٍ-:«إنَّ الوالد [يريد: الشيخ مُحمَّدًا] يجلُّك كثيرًا، ويذكرك بالخير» .
ولمَّا افتتحت كليَّة أصول الدين عام (1396 هـ)، صُنِّف الشيخ عبد الرحمن في أعضاء هيئة التدريس في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، ونُقل إليها، وتولَّى التدريس في هذه الكليَّة إلى أن تقاعد في عام (1420 هـ)، وأشرف خلالها على عشرات الرسائل العلميَّة.
وبعد التقاعد رغب مسؤولو الجامعة في التعاقد معه، فأبى؛ اكتفاءً بما قدَّم، وتفرُّغًا لدروسه في المساجد؛ كما طلب إليه سماحة الشيخ ابن بازٍ رحمه الله: أن يتولَّى العمل في الإفتاء مرارًا، فامتنع؛ للسبب نفسه؛ فرضي منه الشيخ ابن بازٍ أن يُنيبه على الإفتاء في دار الإفتاء في الرياض، في فصل الصيف؛ حين ينتقل المُفتون إلى مدينة الطائف؛ فأجاب الشيخ حياءً من شيخه؛ إذ تولَّى العمل مرتين، ثم تركه.
وأشهد أنَّ الشيخ عبد العزيز بن بازٍ كان كثير التقدير لتلميذه الشيخ عبد الرحمن مُجِلًّا له؛ لعلمه وفضله، ولقد شهدتُ مواقف كثيرةً جدًّا تدلُّ على ذلك، أحدها في منزلي.
وحين انتقل الشيخ عبد العزيز إلى الرياض سنة (1395 هـ)، في إثر تعيينه رئيسًا لإدارات البحوث العلميَّة والإفتاء والدعوة والإرشاد، وصار إمامًا ل «الجامع الكبير» (جامع الإمام تركي بن عبد الله الآن)، طلب إلى الشيخ عبد
الرحمن أن يكون نائبًا له في الإمامة في حال غيابه في الصيف، وفي غير ذلك؛ فاعتذر الشيخ عبد الرحمن بكونه إمامًا في مسجد حيِّه، وبأنَّ له دروسًا هناك قائمةً وطلَّابًا ملازمين له.
ثم عرض الشيخ عبد العزيز ذلك على الشيخ الصالح فهد بن حميِّن رحمه الله، فاعتذر أيضًا، ثم عرض ذلك على شيخنا الفقيه الكبير عبد الله بن جبرين رحمه الله، فقبل ذلك، واستمرَّ إمامًا نائبًا عن الشيخ عبد العزيز مدةً طويلةً، إلى أن هُدم الجامع وأُعيد بناؤه عام (1408 هـ)، ثم صار إمامه الرسميُّ سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ المفتي العامِّ للمملكة حاليًّا، ولا يزال إمامًا حتى تحريره؛ وفَّقه الله وأعانه، ونفع به وبعلمه.
وبعد وفاة الشيخ ابن بازٍ رحمه الله: طلب إليه سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أن يكون عضوًا في الإفتاء، وألحَّ عليه في ذلك، فامتنع، وآثر الانقطاع للتدريس في المساجد.
جهودُهُ في نشرِ العلمِ:
جلس الشيخ عبد الرحمن -ولا يزال- للتعليم في مسجده الذي يتولَّى إمامته، وهو مسجد الخليفيِّ بحيِّ الفاروق بمدينة الرِّياض -حرسها الله تعالى-، ومعظم دروسه فيه، وقرئ عليه عشرات الكتب في شتى الفنون؛ كالفقه، وأصوله، والتفسير، وأصوله، والحديث، والعقيدة، والنحو، وغيرها، كما أنَّ له دروسًا في بيته مع بعض خاصَّة طلابه، وله دروسٌ منتظمةٌ في مساجد أخرى في مدينة الرياض، وله دروسٌ أخرى مع طلابٍ عبر الهاتف من داخل المملكة وخارجها، وله مشاركاتٌ متكرِّرةٌ في الدَّورات العلميَّة المكثَّفة التي تقام في الصيف، إضافةً لإلقائه كثيرًا من المحاضرات والكلمات الدَّعويَّة، وإجابته عن الأسئلة المعروضة عليه من عددٍ من أشهر المواقع الإسلاميَّة في الشَّبكة العالميَّة، وله موقعٌ يحمل مؤلَّفاته وفتاواه.
وقد تلمذ للشيخ خلائق من طلاب العلم يتعذَّر على العادِّ حصرهم؛ من المملكة العربيَّة السعوديَّة، وغيرها؛ لأنَّ الشيخ جلس للتدريس منذ أكثر من نصف قرنٍ، وكثيرٌ من أساتذة جامعاتنا الشرعيَّة، والدعاة المعروفين، قد تلمذوا له.
وبعد أن يسَّر الله جملةً من الوسائل الحديثة؛ كالشَّبكة العالميَّة، تمكَّن كثيرٌ من طلاب العلم في خارج البلاد من متابعة دروس الشيخ على الهواء مباشرةً، عن طريق موقع البثِّ الإسلاميِّ وغيره.
احتسابُهُ:
للشيخ جهودٌ كبيرةٌ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس، والتحذير من البدع، وسائر الانحرافات والمخالفات، وله في ذلك فتاوى كثيرةٌ.
إنتاجُهُ العلميُّ:
توافرت للشيخ -بفضل الله- آلات التأليف؛ من الفهم الدقيق، والحافظة القويَّة، وسعة الاطلاع، ولكنَّه بذل معظم وقته في تعليم العلم، والإجابة عن الأسئلة التي ترد عليه من أنحاء العالم شفويًّا وكتابيًّا، وكثيرٌ منها في مسائل دقيقةٍ ونوازل، وقد قرئت عليه عشرات الكتب في مختلف الفنون، وقد سجِّل بعضها، وما لم يسجَّل أكثر، وما زالت دروسه عامرةً بفضل الله ومنِّه، ومع ذلك فقد صدر للشيخ عددٌ من المؤلَّفات المطبوعة، انتفع بها الكثير، وذلك لما فيها من التحقيق والتحرير؛ منها:
1 -
فوائد جزء تبارك.
2 -
شرح الرسالة التَّدمريَّة.
3 -
جوابٌ في الإيمان ونواقضه.
4 -
موقف المسلم من الخلاف.
5 -
التعليقات على المخالفات العقديَّة في فتح الباري.
6 -
توضيح مقاصد العقيدة الواسطيَّة.
7 -
شرح العقيدة الطحاويَّة.
8 -
الفوائد المستنبطة من الأربعين النوويَّة.
9 -
شرح نواقض الإسلام.
10 -
شرح حائيَّة ابن أبي داود.
11 -
شرح داليَّة أبي الخطَّاب الكلوذانيِّ.
12 -
إرشاد العباد، إلى معاني لمعة الاعتقاد.
13 -
التعليق على القواعد المثلى.
14 -
شرح كلمة الإخلاص لابن رجبٍ.
15 -
شرح بلوغ المرام؛ وهو هذا الكتاب الذي بين يديك.
وثمَّة مؤلَّفاتٌ أخرى للشيخ وفتاوى، في مجلَّداتٍ قيد الطبع؛ يسَّر الله صدورها.
وفي حياة الشيخ جوانب كثيرةٌ مشرقةٌ أعلم أنه يكره ذكرها، أسأل الله أن يبارك في عمره، ويمدَّ فيه على الطاعة، وأن ينفع المسلمين بعلمه، كما أسأله تعالى أن يجزي خيرًا كلَّ من أسهم في نشر مؤلَّفاته، أو دلَّ عليها، وأن يوفِّق الجميع لهداه ومرضاته؛ إنَّه سميعٌ قريب.
مقدِّمةُ الشَّارحِ
(حفظهُ الله)
* * *
الحمد لله ربِّ العالمين، الذي منَّ على المؤمنين، ببعثة خاتم النبيين، يعلمهم ويزكيهم ويتلو عليهم الكتاب المبين، وقيَّض له الحملة العادلين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتَّابعين،
أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ «بلوغ المرام» تأليف الحافظ ابن حجرٍ قال عنه مؤلِّفه في مقدِّمته: «حرَّرته تحريرًا بالغًا؛ ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغًا، ويستعين به الطالب المبتدي، ولا يستغني عنه الراغب المنتهي» ؛ وهو كما قال رحمه الله؛ فإنه انتخبه من دواوين السُّنَّة؛ خصوصًا «الصحيحين» ، و «السنن الأربعة» ، و «مسند الإمام أحمد» ، وقد رتَّبه على أبواب الفقه المعروفة؛ العبادات والمعاملات، إلى كتاب القضاء والشهادات، وختمه بكتابٍ جامع، فضمَّنه جملةً من أحاديث الفضائل والأدعية والأذكار، وختمه بما ختم به البخاريُّ «الجامع الصحيح» ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنْ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانْ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانْ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» .
وقد اعتنى العلماء وطلاب العلم بهذا المصنَّف شرحًا وتدريسًا وحفظًا؛ لذلك رأيت المشاركة في خدمة هذا الكتاب المبارك، وتقريب ما تضمَّنته أحاديثه بتدوين فوائدها، مما يسَّر الله استنباطه منها، مما يعين المعلِّم والطالب على فهم مقاصد هذه الأحاديث، ومناسبتها لأبوابها، وقد سمَّيته:
الجامع
لفوائد بلوغ المرام
أسأل الله أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ولا بدَّ في هذا المقام من التنويه بجهد أخي الكريم الفاضل الشيخ الأستاذ الدكتور عبد المحسن بن عبد العزيز العسكر؛ فإنَّه الذي اقترح عليَّ إملاء فوائد الأحاديث في هذا الكتاب، فأجبتُه إلى ذلك، وأمليتُ عليه ما تيسَّر استنباطه، وما أفدتُه بمراجعتي بعض الشروح، وكان ذلك بمساعدة الشيخ الفاضل عبد المحسن؛ فأسأل الله أن يجزيه خيرًا، وأن يشكر مسعاه، وأن يبارك له في علمه وعمله؛ إنه تعالى سميع الدعاء.
قال ذلك
عبد الرحمن بن ناصر البراك
مقدِّمةُ الحافظِ ابنِ حجرٍ العَسْقلانيِّ
رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله على نِعمه الظَّاهرةِ والباطنةِ قديمًا وحديثًا، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّه ورسولِه محمَّدٍ وآلِه وصحبِه الذين ساروا في نُصرة دينِه سيرًا حثيثًا، وعلى أتباعِهم الذين وَرِثوا عِلمهم -والعلماءُ ورثةُ الأنبياءِ- أكرِمْ بهم وارثًا وموروثًا. أمَّا بعد:
فهذا مختصرٌ يشتملُ على أُصول الأدلَّةِ الحديثيةِ للأحكام الشرعيةِ، حرَّرتُه تحريرًا بالغًا، ليَصيرَ مَنْ يحفظُه مِنْ بين أَقرانِه نابغًا، ويستعينَ به الطالبُ المبتدي، ولا يستغني عنه الرَّاغبُ المُنتهي.
وقد بيَّنتُ عَقِبَ كلِّ حديثٍ مَنْ أخرجَه من الأئمة؛ لإرادةِ نُصحِ الأُمَّةِ:
فالمرادُ بالسَّبعة: أحمدُ، والبخاريُّ، ومسلمٌ، وأبو داودَ، والترمذيُّ، والنَّسائيُّ، وابنُ ماجه.
وبالسِّتَّةِ: مَنْ عدا أحمدَ.
وبالخمسة: مَنْ عدا البخاريَّ ومسلمًا. وقد أقول: الأربعةُ وأحمدُ.
وبالأربعة: مَنْ عدا الثلاثةَ الأُوَل.
وبالثلاثة: مَنْ عداهم وعدا الأخيرَ.
وبالمتفق عليه: البخاريُّ ومسلمٌ، وقد لا أذكرُ معهما غيرهما، وما عدا ذلك فهو مُبيَّنٌ.
وسمَّيتُه: «بُلوغُ المَرامِ مِنْ أَدلَّةِ الأحكامِ» .
واللهَ أسألُ ألَّا يجعلَ ما علمناه علينا وبالًا، وأن يرزقنا العملَ بما يُرضيه سبحانه وتعالى.
كِتَابُ الطَّهَارَةِ
بَابُ المِيَاهِ
(1)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز ركوب البحر. وقد دلَّ القرآن على ركوبه للتِّجارة ونحوها، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون (12)} [الجاثية: 12].
2 -
أنَّ من نعم الله على العباد تسخير البحر لهم، وقد امتنَّ الله في كتابه بذلك.
3 -
الشُّبهة في طهوريَّة ماء البحر عند السَّائل، وهي شدَّة ملوحته.
4 -
إزالة الشُّبهة والإشكال بسؤال أهل العلم.
5 -
طهوريَّة ماء البحر، وتأكيد ذلك بالحصر «هُوَ الطَّهُور» .
6 -
تأكيد الفتوى للسَّائل إذا دعت الحاجة.
7 -
استحباب زيادة المفتي على جواب السُّؤال ما تدعو إليه حاجة السَّائل، وذلك من فقهه ونصحه.
(1)
أبو داود (83)، والترمذيُّ (69)، والنسائيُّ (59)، وابن ماجه (386)، وأحمد (7232)، ومالكٌ في «الطهارة» (12)، وابن أبي شيبة (1387)، وابن خزيمة (112)، والشافعيُّ في مسنده (1/ 23).
8 -
أنَّه لا فرق بين ماء البحر وغيره من المياه؛ كماء المطر، وماء العيون، ونحوها.
9 -
حلُّ ميتة البحر، وهي ما مات فيه أو خارجه من جميع حيوانه وهو ما لا يعيش إلَّا فيه، إلَّا ما ثبت ضرره.
10 -
تخصيص القرآن بالسُّنَّة، وذلك في حكم الميتة، فقد دلَّ القرآن على تحريم الميتة مطلقًا، ودلَّ الحديث على حلِّ ميتة البحر.
* * * * *
(2)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيءٌ» . أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ أَحْمَدُ
(1)
.
(3)
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَاءَ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلا مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ ماجهْ، وَضَعَّفَهُ أبو حَاتِمٍ
(2)
.
(4)
وَلِلْبَيْهَقِيِّ: «الْمَاءُ طَهورٌ إِلَّا إِنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ، أَوْ طَعْمُهُ، أَوْ لَوْنُهُ بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فِيهِ»
(3)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ جنس الماء طهورٌ؛ أي: طاهرٌ مُطهِّرٌ، فيعمُّ جميع المياه.
2 -
طهوريَّة ماء البحر.
3 -
طهوريَّة الماء المتغيِّر بالطَّاهر، ما لم يغلب على اسم الماء.
(1)
أبو داود (67)، والنسائيُّ (326)، والترمذيُّ (66)، وأحمد (11277).
(2)
ابن ماجه (521)، وينظر:«العلل» لابن أبي حاتمٍ (المسألة: 97).
(3)
«السنن الكبرى» للبيهقيِّ (1228). وقال: «الحديث غير قويٍّ، إلا أنا لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة خلافًا» . والله أعلم.
4 -
طهوريَّة الماء المستعمل في طهارةٍ واجبةٍ من وضوءٍ أو غسلٍ، أو غسل يد قائمٍ من نوم ليلٍ.
5 -
أنَّ الماء لا ينجس بملاقاة النَّجاسة قليلاً كان أو كثيرًا، إلَّا أن يتغيَّر أحد أوصافه: لونه أو طعمه أو ريحه؛ لحديث أبي أمامة رضي الله عنه -وإن كان ضعيفًا- وللإجماع على معناه
(1)
، وأمَّا القليل (وهو ما دون القلَّتين) ففيه نزاعٌ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهم الآتي.
6 -
أنَّه لا فرق بين ورود الماء على النّجاسة وورودها عليه.
7 -
التَّيسير في حكم الماء.
8 -
طهوريَّة ماء بئر بضاعة التي كانت سبب الحديث، وأنَّها لم تتغيَّر بما يقع فيها من أقذارٍ.
9 -
تواضعه صلى الله عليه وسلم؛ حيث يستقى له ممَّا يستقي منه سائر النَّاس
(2)
.
* * * * *
(5)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» ، وَفِي لَفْظٍ:«لَمْ يَنْجُسْ» . أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالحَاكِمُ، وَابْنُ حِبَّانَ
(3)
.
(1)
ينظر: الحاشية السابقة.
(2)
وهذا مأخوذٌ من قصة حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه السابق، وأنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقال له: «إنه يستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئرٌ يلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض عذر الناس
…
» الحديث. وكانت هذه البئر موضعها في حدورٍ من الأرض، وكانت السيول تكشح هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها وتلقيها فيها، وكان لكثرته لا يؤثر فيه هذه الأشياء ولا تغيره، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شأنها؛ ليعلموا حكمها في النجاسة والطهارة. ينظر:«عون المعبود» : (1/ 90).
(3)
أبو داود (63)، والنسائيُّ (52)، والترمذيُّ (67)، وابن ماجه (518)، وابن خزيمة (92)، والحاكم (458)، وابن حبان (1249).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
انقسام الماء من حيث حكم ما لاقى النَّجاسة منه.
2 -
الفرق بين ما بلغ قلَّتين، وما دون القلَّتين من حيث حمل النَّجاسة، وهو تنجُّسه بها.
3 -
أنَّ ما بلغ قلَّتين من الماء لا ينجس بملاقاة النَّجاسة، إلَّا إن تغيَّر أحد أوصافه كما تقدَّم، وهذا منطوق الحديث.
4 -
أنَّ ما دون القلَّتين ينجس بمجرَّد ملاقاة النَّجاسة، وهذا مفهوم الحديث، فمن ذهب من العلماء إلى الأخذ بمفهومه ورأى أنَّ الحديث صحيحٌ، خصَّ بمفهومه حديث بئر بضاعة، فحمل حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه في بئر بضاعة على حديث ابن عمر رضي الله عنهم هذا، والذين لم يأخذوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهم أجابوا عنه تارةً بالطَّعن فيه بالاضطراب، وتارةً بأنَّ دلالة المفهوم ضعيفةٌ، أو لا عموم لها، وتارةً بالاختلاف في مقدار القلَّتين، وبأنَّ تحديد الكثير بالقلَّتين لا يتيسَّر ضبطه لأكثر النَّاس، مع أنَّه متعلِّقٌ بما هو من أهمِّ أحكام الدِّين وهو الطَّهارة، وعليه؛ فالرَّاجح هو: الأخذ بمنطوق حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه، وهو أنَّ الماء لا ينجس إلَّا أن يتغيَّر بنجاسةٍ قليلاً كان أو كثيرًا.
* * * * *
(6)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(1)
مسلمٌ (283).
(7)
وَلِلْبُخَارِيِّ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ»
(1)
.
(8)
وَلِمُسْلِمٍ: «مِنْهُ»
(2)
.
(9)
وَلأَبِي دَاوُدَ: «وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ»
(3)
.
* * *
في الحديث بمجموع الروايات فوائد، منها:
1 -
النَّهي عن البول في الماء الدَّائم؛ وهو الذي لا يجري، كما جاء عند البخاريِّ
(4)
ومسلمٍ من حديث أبي هريرة
(5)
رضي الله عنهم.
2 -
النَّهي عن الاغتسال من الجنابة في الماء الدَّائم. كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلمٍ، وكما في رواية أبي داود.
3 -
النَّهي عن البول في الماء الدَّائم ثمَّ الاغتسال فيه، كما في رواية البخاريِّ.
4 -
النَّهي عن البول في الماء الدَّائم ثمَّ الاغتسال منه مطلقًا؛ لطهارةٍ أو غيرها، كما في رواية مسلمٍ:«ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» .
5 -
أنَّ هذه الأحكام للماء الدَّائم قليلاً كان أو كثيرًا، وقد قال بظاهره بعض أهل العلم، وهم الذين لا يفرِّقون بين قليل الماء وكثيره، وقالوا: لا يجوز البول في الدَّائم ولا الاغتسال فيه من الجنابة، وإن كان كثيرًا، إلَّا المستبحر؛ وهو الذي يشبه البحر في كثرته.
(1)
البخاريُّ (239).
(2)
مسلمٌ (282).
(3)
أبو داود (70) ولفظه: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، ولا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الجَنَابَة» .
(4)
البخاريُّ (239).
(5)
مسلمٌ (282).
وأمَّا الذين يقسِّمون الماء إلى قليلٍ وكثيرٍ ويفرِّقون بينهما في الحكم -كما تقدَّم- فيحملون هذا الحديث على القليل وهو ما دون القلَّتين؛ لأنَّ البول فيه ينجِّسه، والاغتسال فيه من الجنابة يسلبه الطَّهوريَّة عندهم.
وعلَّة النَّهي عند الأوَّلين تقذير الماء، وقد يفضي البول فيه إلى تنجيسه.
6 -
فيه جواز البول في الماء الجاري، كما يفيده الوصف ب «الدَّائم» ، وتأكيده بالذي لا يجري، وإثبات هذا الحكم بدليل الخطاب، وهو المفهوم. والتَّحقيق: أنَّه لا عموم له، فلا يصحُّ أن يقال: يجوز البول في كلِّ ماءٍ جارٍ، فإنَّ الجاري قد يكون كثيرًا، وقد يكون قليلاً، وقد يكون موردًا للنَّاس فلا يجوز البول فيه حينئذٍ؛ لتقذيره على الواردين، أو تنجيسه إذا كان الجاري قليلاً.
* * * * *
(10)
وَعَنْ رَجُلٍ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، أَوِ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ، وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
(1)
. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
(11)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها. أَخرجَهُ مُسْلِم
(2)
.
(12)
وَلأَصْحَابِ السُّنَنِ: اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جَفْنَةٍ، فَجَاءَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا، فَقَالَتْ:«إنِّي كُنْتُ جُنُبًا» ، فَقَالَ:«إنَّ الْمَاءَ لا يُجْنِبُ» . وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ
(3)
.
* * *
(1)
أبو داود (28)، والنسائيُّ (238).
(2)
مسلمٌ (760).
(3)
أبو داود (68)، والنسائيُّ (325)، والترمذيُّ (65)، وابن ماجه (370)، وابن خزيمة (91).
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
نهي الرَّجل عن الاغتسال بفضل المرأة، وهو ما بقي من طهورها. وفي حكم الغسل الوضوء، وهذا النَّهي محمولٌ على الكراهة، أو على خلاف الأولى عند جمهور العلماء؛ لحديثي ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم المذكورين.
وقال بعضهم: إنَّ النَّهي للتَّحريم، وشرطوا في التَّحريم أن تخلو بالماء، وعليه فلا يرفع حدث الرَّجل التَّطهُّر بما خلت به.
2 -
نهي المرأة أن تغتسل بفضل الرَّجل. وقد حكي الإجماع على عدم تحريم ذلك
(1)
، ولكن هل يكره؟ ذهب أكثر أهل العلم إلى عدم الكراهة، والأظهر: أنَّه أولى بالجواز من تطهُّر الرَّجل بفضل المرأة، فالصَّارف للنَّهي في الحكم الأوَّل هو الصَّارف للنَّهي في الحكم الثَّاني.
3 -
جواز أن يغتسل الرَّجل مع امرأته من إناءٍ واحدٍ، وهذا متَّفقٌ عليه، وهو ثابتٌ من فعله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه.
4 -
جواز رؤية كلٍّ من الزَّوجين لعورة الآخر؛ فإنَّ ذلك لازمٌ من اغتسالهما جميعًا.
5 -
جواز أن يغتسل الرَّجل بفضل المرأة، كما يدلُّ عليه حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم، وأولى منه في الجواز أو مثله اغتسال المرأة بفضل الرَّجل.
6 -
جواز اغتسال الرَّجل بفضل طهور المرأة وإن خلت به؛ لظاهر الرِّواية الثَّانية لحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم.
7 -
أنَّ هذا الحكم -وهو جواز اغتسال الرَّجل بفضل طهور المرأة- لا يختصُّ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، لقوله:«إِنَّ الْمَاءَ لا يُجْنِبُ» .
(1)
حكاه النوويُّ في «شرحه» لمسلمٍ (4/ 2).
8 -
أنَّ غسل الجنب -رجلاً كان أو امرأةً- من الماء لا يسلبه الطَّهوريَّة، قليلاً كان أو كثيرًا.
9 -
مشروعيَّة الغسل من الجنابة، وقد دلَّ على وجوبه الكتاب والسُّنَّة والإجماع.
10 -
تواضعه وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم لاغتساله من فضل غسل زوجته.
11 -
التَّنبيه إلى ما يخشى من وقوع الخطأ فيه، والسُّؤال عمَّا اشتبه حكمه، لقول ميمونة رضي الله عنها:«إنِّي كنت جنبًا» .
12 -
أنَّ الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: «وَلْيَغْتَرِفَا جَمِيعًا» للإباحة؛ وذلك لأنَّ ميمونة رضي الله عنها اغتسلت من الجفنة قبله عليه الصلاة والسلام.
13 -
تعليل الأحكام، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الْمَاءَ لا يُجْنِبُ» فقد علَّل صلى الله عليه وسلم جواز غسله من الماء ببيان أنَّ الماء لا يتأثَّر.
* * * * *
(13)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وفي لفظٍ له: «فَلْيُرِقْهُ»
(1)
.
وللتِّرمذيِّ: «أُخْرَاهُنَّ، أَوْ أُولاهُنَّ»
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
نجاسة لعاب الكلب، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، كما يدلُّ له الأمر بغسل الإناء سبعًا وتسمية ذلك طهورًا، وألحقوا بلعابه سائر أجزائه،
(1)
مسلمٌ (279)، وهو أيضًا عند البخاريِّ (172)، لكن بلفظ:«إذَا شَرِبَ» .
(2)
الترمذيُّ (91).
وألحق بعضهم الخنزير في نجاسته وحكم غسلها، وأكثر العلماء على خلاف ذلك وهو أظهر، وقاس بعضهم ما أصاب الكلب بفمه من الصَّيد على ما ولغ فيه، ولا يصحُّ هذا القياس لأمرين:
أحدهما: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّن أحكام ما صاد الكلب ولم يأمر بغسل ما عضَّ الكلب.
الثَّاني: أنَّ إصابة الكلب للصَّيد لا يمكن التَّحرُّز منه، فلذا جاءت الشَّريعة بالعفو عنه، بخلاف الإناء ونحوه فالتَّحرُّز فيه ممكنٌ.
2 -
نجاسة الإناء الذي ولغ فيه الكلب، ومن باب أولى نجاسة ما في الإناء، وهذا هو مقصود المؤلِّف من إيراد الحديث، ويدلُّ له رواية مسلمٍ:«فَلْيُرِقْهُ» ، وإن كان قد تكلِّم فيها
(1)
.
3 -
وجوب غسل الإناء سبعًا.
4 -
وجوب أن تكون إحداها بترابٍ، والأولى أن تكون الأولى، كما تدلُّ عليه رواية مسلمٍ، وأمَّا القائلون بعدم نجاسة الكلب، فحملوا الأمر بغسل الإناء على التَّعبُّد؛ بدليل تقديره بسبع مرَّاتٍ، وهذا هو المشهور عن مالكٍ وأصحابه.
5 -
أنَّ الكلب محرَّم الأكل؛ فإنَّ كلَّ نجسٍ حرامٌ أكله.
6 -
تحريم ملابسة الكلب وملاعبته؛ لما تؤدِّي إليه من التَّعرُّض لنجاسته، كما هي طريقة الكفَّار في اقتناء الكلاب.
7 -
أنَّ هذا الحكم عامٌّ في الكلاب المباح اقتناؤها وغيرها، وخصَّ بعضهم ذلك بغير المباحة، والصَّواب العموم.
* * * * *
(1)
ينظر: «فتح الباري» (1/ 275).
(14)
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْهِرَّةِ: «إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» . أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
طهارة سؤر الهرَّة، وهو بقيَّة شرابها وطعامها، وهذا هو المقصود من إيراد الحديث؛ لأنَّه المناسب للباب.
2 -
طهارة بدنها.
3 -
طهارة ريقها.
4 -
العلَّة في ذلك.
5 -
تعليل الأحكام الشَّرعيَّة بالأوصاف المناسبة.
6 -
أنَّ المشقَّة تجلب التَّيسير.
7 -
يسر الشَّريعة برفع الحرج.
8 -
طهارة ما كان في معنى الهرَّة في الطَّواف كالفأر.
9 -
أنَّ الحجَّة في قول الرَّسول صلى الله عليه وسلم وفعله.
10 -
ذكر الحجَّة على حكم الفعل، كما يدلُّ لذلك سبب رواية أبي قتادة رضي الله عنه للحديث
(2)
.
(1)
أبو داود (75)، والترمذيُّ (92)، والنسائيُّ (68)، وابن ماجه (367)، وابن خزيمة (104).
(2)
والقصة رواها أصحاب السنن من حديث حميدة ابنة عبيد بن رفاعة عن خالتها كبشة ابنة كعب بن مالكٍ -وكانت تحت ابن أبي قتادة- أنَّ أبا قتادة أمرها فسكبت له وضوءًا، فجاءت هرةٌ فشربت منه، فأصغى لها الإناء، فشربت، قالت كبشة: «فرآني أنظر إليه! فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ قالت: قلت: نعم. قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
…
» الحديث.
11 -
فضيلة أبي قتادة رضي الله عنه؛ لتواضعه ورحمته؛ حيث أصغى للهرَّة الإناء كما جاء في سبب رواية الحديث.
* * * * *
(15)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ:«جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
نجاسة بول الآدميِّ، وهذا متَّفقٌ عليه.
2 -
وجوب صيانة المسجد عن الأقذار والنَّجاسات.
3 -
حُرمة المسجد في نفوس المؤمنين.
4 -
أنَّ البول في المسجد منكرٌ.
5 -
وجوب تطهير البقعة التي يُصلَّى عليها.
6 -
صفة تطهير النَّجاسة التي على الأرض إذا لم يكن لها جرمٌ، وذلك بمكاثرتها بالماء.
7 -
أنَّه لا يجب حفر الأرض ولا نقل التُّراب، ولو كانت الأرض رخوةً.
8 -
أنَّ الماء القليل لا يتنجَّس بمجرَّد ملاقاة النَّجاسة.
9 -
المبادرة في إنكار المنكر ما لم يعارض ذلك مصلحةٌ راجحةٌ.
10 -
أنَّ إنكار المنكر فرض كفايةٍ؛ ومن ذلك تطهير المسجد عن النَّجاسة.
(1)
البخاريُّ (221)، ومسلمٌ (284)، واللفظ للبخاريِّ.
11 -
العذر بالجهل، والرِّفق بالجاهل الذي هو مظنَّة الجهل.
12 -
مراعاة الحكمة في التَّعليم والإنكار، ومن ذلك بيان سبب الإنكار.
13 -
فيه دليلٌ لقاعدة ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وهي قاعدةٌ عظيمةٌ دلَّ عليها الشَّرع في مواضع، والعقل يقتضيها.
14 -
الإنكار على من خالف ما تجب مراعاته في الإنكار.
15 -
أنَّ الغالب على الأعراب الجفاء والجهل.
16 -
جواز البول قريبًا من النَّاس مع الاستتار عن العيون.
17 -
حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ورفقه في التَّعليم.
18 -
فضل الصَّحابة رضي الله عنهم؛ لغيرتهم وغضبهم لفعل المنكر.
19 -
جواز الخطأ على الصَّحابة رضي الله عنهم.
* * * * *
(16)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ؛ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالْجَرَادُ وَالْحُوتُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالطِّحَالُ وَالْكَبِدُ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ ماجهْ، وَفِيهِ ضَعْفٌ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ المطاعم منها حلالٌ ومنها حرامٌ.
2 -
أنَّ الإحلال والتَّحريم إلى الله وحده، وما حرَّمه الرَّسول صلى الله عليه وسلم فهو ممَّا حرَّم الله، وكذا ما أحلَّه.
(1)
أحمد (5723)، وابن ماجه (3314).
3 -
أنَّ الأصل تحريم الدَّم والميتة، وقد دلَّ على تحريمهما الكتاب والسُّنَّة والإجماع، كما قال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].
4 -
حِلُّ الجراد والحوت من غير تذكيةٍ، فهما مخصوصان من عموم تحريم الميتة.
5 -
حِلُّ الكبد والطِّحال، وهما دمان جامدان، فهما مخصوصان من عموم تحريم الدَّم. وقد يخرجان من عموم الدَّم المحرَّم بوصف الدَّم بالمسفوح، فهما غير مسفوحين.
6 -
تخصيص القرآن بالسُّنَّة.
7 -
الإشارة إلى أنَّ الحكمة من إحلال الشَّيء هو نفع العباد والتَّيسير عليهم؛ لقوله: «لَنَا» .
8 -
جواز الإبهام فيما هو مضافٌ إلى الله تعالى للعلم به؛ لقوله: «أُحِلَّتْ» .
9 -
طهارة هذه الأجناس الأربعة.
10 -
طهارة ما وقع فيه شيءٌ منها، وهذا هو المقصود من إيراد الحديث في الباب.
* * * * *
(17)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لْيَنْزِعْهُ؛ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الآخَرِ شِفَاءً» . أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَزَادَ:«وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ»
(1)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (3320)، وأبو داود (3844).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
طهارة الذُّباب.
2 -
طهارة ما لا نفس له سائلةٌ، مثل الخنفس والعقرب والصُّرصور.
3 -
طهارة ما وقع فيه شيءٌ من ذلك من ماءٍ وغيره، وهذا هو المقصود من إيراد الحديث في الباب.
4 -
استحباب غمس الذُّباب في الشَّراب إذا وقع فيه، سواءٌ أكان حارًّا أم باردًا.
5 -
الحكمة من غمسه؛ وهي دفع دائه عن الشَّارب بدوائه.
6 -
الإرشاد إلى الانتفاع بالشَّراب الَّذي وقع فيه الذُّباب، وإن كانت إراقة الشَّراب تؤدِّي إلى إضاعة المال لكثرته؛ فتحرم إراقته للنَّهي عن إضاعة المال.
7 -
هداية الذُّباب لمنافعه واتِّقائه لمضارِّه.
8 -
فيه علمٌ من أعلام النُّبوَّة، وقد أثبت الطِّبُّ الحديث ما دلَّ عليه الحديث.
9 -
الإرشاد إلى الأخذ بأسباب الوقاية.
10 -
اشتمال الشَّريعة على أصول طبِّ الأبدان.
11 -
كمال هذه الشَّريعة.
12 -
أنَّ الشَّيء يُدفع بضدِّه.
13 -
أنَّه ليس كلُّ ما يكرهه الإنسان كراهةً طبيعيَّةً يكون مُحرَّمًا، كما أنَّه ليس كلُّ ما يحبُّه يكون حلالاً، فلا تلازم بين المحبَّة والكراهة الطَّبيعيَّة والمحبَّة والكراهة الشَّرعيَّة، كما قال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة: 216].
(18)
وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيِّتٌ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ ما انفصل من الحيوان وهو حيٌّ بفعل الإنسان أو غيره فهو ميِّتٌ.
2 -
أنَّ ما انفصل ممَّا ميتته حرامٌ فهو حرامٌ، وما انفصل ممَّا ميتته حلالٌ -كحيوان البحر- فهو حلالٌ.
3 -
أنَّ ما قطع من البهيمة بعد ذكاتها فليس بميتةٍ، ولو قبل أن تزهق الرُّوح (أي: تخرج)، وقد خُصَّ من عموم الحديث أشياء:
- الشَّعر ونحوه: كالصُّوف والوبر والرِّيش، فإنّه يجوز أخذه من الحيوان والانتفاع به؛ لأنَّه لا ينجس بقطعه؛ لأنَّه لا تحلُّ فيه الحياة الَّتي من شأنها الحسُّ والحركة الإراديَّة.
- الطَّريدة؛ وهي: الصَّيد يتبعه جماعةٌ فيمسكون به؛ فيقتطع كلٌّ منهم جزءًا فيموت بذلك.
- فأرة المسك؛ وهي: غدَّةٌ تبرز في أسفل الغزال يجتمع فيها شيءٌ من دمه وله رائحةٌ طيِّبةٌ، وهو المسك.
4 -
أنَّ ما وقع فيه الجزء المنفصل من الحيوان فهو بحسبه طهارةً ونجاسةً، وهذا هو المقصود من إيراد الحديث في باب المياه.
* * * * *
(1)
أبو داود (2858)، والترمذيُّ (1480).
بَابُ الآنِيَةِ
* * *
(19)
عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ولا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(20)
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
* * *
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
تحريم الشُّرب في آنية الذَّهب والفضَّة، وتحريم الأكل في صحافهما، وأنَّ ذلك من كبائر الذُّنوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ، وإضافة الشُّرب إلى الآنية والأكل إلى الصِّحاف خرج مخرج الغالب، وإلَّا فإنَّه يحرم الأكل فيهما والشُّرب فيهما.
2 -
تحريم المضبَّب من الآنية بذهبٍ أو فضَّةٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ»
(3)
.
3 -
تعليل التَّحريم بأنَّ ذلك من عادة الكفَّار، وإضافة الآنية إلى الكفَّار باعتبار الواقع، وليس للملك ولا للحلِّ ولا للاختصاص، بل باعتبار الواقع.
4 -
تحريم التَّشبُّه بالكفَّار في عاداتهم.
(1)
البخاريُّ (5426)، ومسلمٌ (2067).
(2)
البخاريُّ (5634)، ومسلمٌ (2065).
(3)
رواه البخاريُّ (7288)، ومسلمٌ (1337) واللفظ له، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5 -
البشارة للمؤمنين بتنعُّمهم في الجنَّة بآنية الذَّهب والفضَّة وصحافهما، قال تعالى:{يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71]، وقال تعالى:{وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 15].
6 -
إثبات الجزاء الأخرويِّ.
7 -
الإرشاد إلى اجتناب مظاهر السَّرف والتَّرف، فما جاء النَّهي عنه من ذلك فهو حرامٌ كما في هذا الحديث، وما لم يجئ فيه نهيٌ فهو مكروهٌ؛ كالشُّرب في الآنية الثَّمينة.
8 -
تحريم الوضوء في آنية الذَّهب والفضَّة، وهذا هو المقصود من إيراد الحديثين في هذا الباب من كتاب الطَّهارة.
9 -
تحريم اتِّخاذ آنية الذَّهب والفضَّة أو استعمالها مطلقًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا» ، فإنَّه يفيد عموم الحكم.
10 -
وقوع المجاز في الحديث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ، فإنَّ ذلك من وضع المسبَّب موضع السَّبب.
11 -
أنَّ الجزاء من جنس العمل.
* * * * *
(21)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
وعند الأربعة: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ»
(2)
.
(1)
مسلمٌ (366).
(2)
أبو داود (4123)، والنسائيُّ (4241)، والترمذيُّ (1728)، وابن ماجه (3609).
(22)
وَعَنْ سَلَمَةَ بنِ المُحَبِّقِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دِبَاغُ جُلُودِ المَيْتَةِ طُهُورُهَا» . صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
(23)
وَعَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ يَجُرُّونَهَا، فَقَالَ:«لَوْ أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا؟» فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ:«يُطَهِّرُهَا المَاءُ وَالقَرَظُ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
(2)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
نجاسة جلد الميتة؛ لقوله: «فَقَدْ طَهُرَ» ، فهذا يدلُّ على أنَّه قبل الدَّبغ نجسٌ.
2 -
نجاسة الميتة.
3 -
أنَّ الأصل تحريم جميع أعضاء الميتة إلَّا ما خصَّه الدَّليل.
4 -
طهارة جلد الميتة إذا دبغ، وقد اختلف أهل العلم في ذلك اختلافًا كثيرًا، وأهمُّ ما جاء في ذلك قولان:
الأوَّل: أنَّ أيَّ جلد ميتةٍ من مأكول اللَّحم وغيره يطهر بالدِّباغ، لقوله: «أَيُّمَا إِهَابٍ
…
».
الثاني: أنَّ الَّذي يطهر بالدِّباغ جلد مأكول اللَّحم.
والرَّاجح هو: الثَّاني؛ لقوله في الحديث الآخر: «دِبَاغُ الأَدِيمِ ذَكَاتُهُ»
(3)
. وإنَّما تحلُّ الذَّكاة ما يؤكل لحمه، وعلى هذا فيكون الحديث مقيِّدًا لإطلاق
(1)
ابن حبان (4522) لكن بلفظ: «ذكاةُ الأديمِ دباغُهُ» وقيل: «زكاةُ
…
»، أمَّا اللفظ الذي أورده الحافظ هنا فقد أخرجه ابن حبان أيضًا (1290) لكن من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أبو داود (4126)، والنسائيُّ (4248).
(3)
أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (71) وغيره من حديث سلمة بن المحبِّق رضي الله عنه. وحسَّن إسناده ابن حجرٍ. ينظر: «التلخيص الحبير» (1/ 49).
الرِّوايات في طهارة جلد الميتة. وعليه فلا يطهر جلد الكلب والحمار ونحوهما بالدِّباغ.
وقد عورضت هذه الأحاديث بحديث عبد الله بن عكيمٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإهَابٍ ولا عَصَبٍ»
(1)
وقد أخذ بظاهر هذا الحديث بعض أهل العلم، فقالوا: إنَّ جلد الميتة لا يطهر بالدِّباغ، فمنهم من قال: لا يجوز الانتفاع به وإن دبغ، وقال بعضهم: يجوز الانتفاع به في اليابسات.
والصَّواب هو: القول بأنَّ جلد الميتة يطهر بالدِّباغ؛ فإنَّ حديث ابن عكيمٍ لا يقاوم الأحاديث الدَّالَّة على الطَّهارة، وعلى تقدير صحَّة حديث ابن عكيمٍ رضي الله عنه فقد أجيب عنه بما قاله أهل اللُّغة: إنَّ الإهاب هو الجلد قبل الدَّبغ، فيحمل النَّهي على ذلك. والله أعلم.
5 -
استحباب الانتفاع بجلد الميتة إذا دبغ.
6 -
الإرشاد إلى دبغ جلد الميتة للانتفاع به بأيِّ مادَّةٍ طاهرةٍ؛ كالقرظ ونحوه ممَّا ينقِّي الجلد ويمنع تعفُّنه.
7 -
في الأحاديث دليلٌ على جواز بيع جلد الميتة بعد الدَّبغ، ويحتمل أن يجوز بيعه قبل الدَّبغ ليدبغ.
8 -
الإرشاد إلى حفظ المال.
* * * * *
(1)
رواه أبو داود (4128)، والنسائيُّ (4249)، والترمذيُّ (1729) وحسَّنه، وصحَّحه ابن حبان (1277). ينظر:«فتح الباري» (9/ 659).
(24)
وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ قَالَ:«لَا تَأْكُلُوا فِيهَا، إِلَّا أَنْ لا تَجِدُوا غَيْرَهَا، فَاغْسِلُوهَا، وَكُلُوا فِيهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
النَّهي عن الأكل والشُّرب في آنية أهل الكتاب (اليهود والنَّصارى) والنَّهي عن الأكل والشُّرب في آنية المشركين؛ لأنَّه أولى، وما عدا الأواني كالثِّياب ونحوها فهي على أصل الإباحة.
2 -
جواز الأكل في آنية أهل الكتاب إذا احتاج المسلم إليها.
3 -
الأمر بغسلها إذا أريد استعمالها، وكلُّ هذه الأحكام مخصوصةٌ بآنية الكفَّار الَّتي يطبخون فيها أو يشربون فيها ما هو حرامٌ كالميتة والخنزير والخمر، وما عداها ممَّا يستعملونه في الطَّاهرات والمباحات أو يصنعونه لعموم النَّاس فلا يتناولها الحديث، كما يدلُّ لذلك رواية أحمد وأبي داود بلفظ: إنَّا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنْ وَجَدتُّمْ غَيْرَهَا
…
» الحديث
(2)
.
ويؤيِّده إباحة ذبائح أهل الكتاب، وأكل الرَّسول صلى الله عليه وسلم عند يهوديٍّ من خبز شعيرٍ وإهالةٍ سنخةٍ
(3)
، ومن الشَّاة المصليَّة الَّتي أهدتها يهوديَّةٌ
(4)
، وعلى ما جاء في رواية أحمد وأبي داود يكون النَّهي للتَّحريم والأمر بالغسل للوجوب.
(1)
البخاريُّ (5478)، ومسلمٌ (1930).
(2)
أحمد (17737)، وأبو داود (3839) واللفظ له، والترمذيُّ (1797) وقال:«هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ» .
(3)
ينظر: «مسند أحمد» (13224).
(4)
ينظر: «سنن أبي داود» (4511، 4512) و «المستدرك» للحاكم (4967).
4 -
استدلَّ بعضهم بهذا الحديث على نجاسة الخمر ولحم الخنزير، وممَّا تقدَّم تظهر مناسبة الحديث للباب.
5 -
جواز تبادل المنافع مع الكفَّار ممَّا لا يترتَّب عليه محرَّمٌ.
6 -
جواز مجاورة أهل الكتاب ومساكنتهم ما لم يترتَّب على ذلك ضررٌ في الدِّين.
* * * * *
(25)
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّؤوا مِنْ مَزَادَةِ امْرَأَةٍ مُشْرِكَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ
(1)
.
* * *
المزادة: راويةٌ من جلدٍ.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
طهارة جلد الميتة بالدِّباغ؛ لأنَّ ذبائح المشركين ميتةٌ.
2 -
جواز استعمال جلد الميتة في المائعات بعد الدَّبغ.
3 -
جواز استعمال أوعية الكفَّار الطَّاهرة، وهذا ما سيق الحديث من أجله في الباب.
ومن فوائد قصة المرأة كما وردت في أصل الحديث:
4 -
إجبار الإنسان على بذل ما لا يضرُّه إذا احتاج إليه غيره.
5 -
الإحسان إلى الكافر غير الحربيِّ ومكافأته والرِّفق به.
6 -
التَّأليف على الإسلام بحسن المعاملة.
(1)
البخاريُّ (344)، ومسلمٌ (682).
7 -
عَلَمٌ من أعلام نبوَّته صلى الله عليه وسلم، وذلك بتكثير ماء المزادتين حتَّى سقي النَّاس منهما ولم تنقصا ببركة ريق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهرٌ من قوله: "دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِنَاءٍ فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ»، وزاد البيهقيُّ والطَّبرانيُّ:«فَتَمَضْمَضَ فِي الْمَاءِ وَأَعَادَهُ فِي أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ»
(1)
، إلى قوله:«فَنُودِيَ فِي النَّاسِ» ، إلى قوله:«لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا»
(2)
.
8 -
جواز مخاطبة المرأة الأجنبيَّة إذا أمنت الفتنة وانتفت الرِّيبة.
* * * * *
(26)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْكَسَرَ، فَاتَّخَذَ مَكَانَ الشَّعْبِ سِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ. أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ
(3)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
ملك النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للقدح ونحوه، ممَّا يحتاج إليه في شؤون الحياة، لقوله:«قَدَحَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» .
2 -
تقلُّل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من متاع الدُّنيا، وذلك لاستعماله قدحًا مكسورًا؛ وهو إناءٌ من الخشب.
3 -
إصلاح ما يفسد من متاع البيت.
4 -
جواز استعمال الضَّبَّة اليسيرة من الفضَّة أو السِّلسلة في الآنية للحاجة، والضَّبَّة هي: ما يسدُّ به الكسر في الإناء.
(1)
«المعجم الكبير» (276)، «السنن الكبرى» (1046)، قال الألبانيُّ في «الإرواء» (1/ 74):«إسنادها صحيحٌ» .
(2)
البخاريُّ (344)، ومسلمٌ (682).
(3)
البخاريُّ (3109).
5 -
جواز استعمال الآنية المضبَّبة بالفضَّة، وبهذا تظهر مناسبة الحديث لباب الآنية.
6 -
حفظ المال بإصلاح ما فسد منه.
7 -
تخصيص النَّهي عن الأكل في آنية الذَّهب والفضَّة؛ وذلك بالرُّخصة في الضَّبَّة اليسيرة من الفضَّة والسِّلسلة للحاجة، ولا يقاس على ذلك الضَّبَّة من الذَّهب؛ فإنَّ الذَّهب أغلى من الفضَّة، فالنَّهي عنه آكد، وإنَّما يقاس الشَّيء على نظيره.
* * * * *
بَابُ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَبَيَانِهَا
* * *
(27)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا؟ قَالَ: «لَا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
تحريم الخمر؛ وهي كلُّ مسكرٍ، وتحريمها ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، فتحريمها معلومٌ من دين الإسلام بالضَّرورة، ومنكره كافرٌ.
2 -
تحريم بيعها وتحريم الانتفاع بها.
3 -
تحريم تخليلها.
4 -
وجوب إتلافها.
5 -
أنَّها لا تحلُّ بالتَّخليل، بل إذا تخلَّلت بنفسها.
6 -
أنَّها لا تطهر بالتَّخليل، وذلك على القول بنجاستها -وهذا قول الجمهور، وقيل: ليست بنجسةٍ لأدلَّةٍ معروفةٍ، ولكن ينبغي اجتنابها والتَّنزُّه عنها احتياطًا، وعليه فلو صلَّى من على ثيابه شيءٌ من الخمر فصلاته صحيحةٌ- وتطهر الخمر إذا تخلَّلت بنفسها، وهذا هو المقصود من إيراد الحديث في هذا الباب.
7 -
سدُّ الذَّرائع؛ لأنَّ تجويز تخليلها يدعو إلى استبقائها.
(1)
مسلمٌ (1983)، والترمذيُّ (1294).
(28)
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى:«إنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا رِجْسٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
تحريم لحوم الحمر الأهليَّة، وإلى هذا ذهب جمهور الأمَّة، وهو الصَّواب؛ لهذا الحديث وغيره، وكلُّ تأويلٍ عورض به هذا التَّحريم فباطلٌ.
2 -
حلُّ الحمر الوحشيَّة؛ لتقييد التَّحريم بالأهليَّة.
3 -
أنَّ تحريم الحمر الأهليَّة كان يوم خيبر، وكانت قبل ذلك على أصل الإباحة.
4 -
أنَّ مردَّ الأحكام في الحلال والحرام إلى الله ورسوله.
5 -
الاستنابة في تبليغ العلم.
6 -
رفع الصَّوت بالعلم.
7 -
جواز جمع الضَّمير العائد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك خاصٌّ بكلام الرَّسول ومن يبلِّغ عنه كلامه؛ وهذا أحد وجوه الجمع بين هذا الحديث وحديث:«بِئْسَ خَطِيبُ القَوْمِ أَنْتَ» حين قال: «مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى»
(2)
.
8 -
تعليل الأحكام.
9 -
اشتمال الأحكام على الحكمة.
(1)
البخاريُّ (4198)، ومسلمٌ (1940).
(2)
رواه مسلمٌ (870) من حديث عديِّ بن حاتمٍ رضي الله عنه، بلفظ:«بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ» .
10 -
نجاسة لحوم الحمر الأهليَّة؛ لقوله: «فَإِنَّهَا رِجْسٌ» ، ولأنَّها بالتَّحريم تصير ميتةً وإن ذكِّيت، والميتة نجسةٌ كما تقدَّم، وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث لباب إزالة النَّجاسة.
11 -
تحريم كلِّ رجسٍ؛ وكلُّ نجسٍ رجسٌ.
12 -
أنَّ ما حرِّم فيجب إتلافه ولو كثر، وإن كان النَّاس في حاجةٍ إليه، ولا يقال: إنَّه من إضاعة المال؛ لأنَّ الحرام ليس بمالٍ.
13 -
تأكيد النَّهي بإضافته إلى الله والرَّسول صلى الله عليه وسلم.
14 -
حسن تعليم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك بيان حكمة الحكم.
15 -
أنَّ ما علم المكلَّف تحريمه وجب عليه تركه فورًا.
16 -
وجوب غسل الأواني الَّتي استعملت في محرَّمٍ لإزالة أثره.
17 -
نجاسة جميع أجزاء الحمار ورطوباته، وخصَّ من ذلك: عرقه وريقه وشعره؛ لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يركبون الحمير، ولا يسلم راكبها من ملامسة شيءٍ من ذلك؛ ولم يأت أمرٌ بالتَّنزُّه عن شيءٍ منها.
ومن فوائد القصة التي هي سبب الحديث:
18 -
جواز النَّسخ مع التَّمكُّن من الامتثال وقبل الفعل؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم أمرهم بكسر القدور، فلمَّا قالوا له: أو نهريقها ونغسلها؟ قال: «اغْسِلُوا»
(1)
.
19 -
أنَّ أكل الحمر ليس معتادًا لهم، ولذلك جاء من يبلِّغ الرَّسول صلى الله عليه وسلم عمَّا حدث، فقال:«يَا رَسُولَ اللهِ: أُكِلَتِ الْحُمُرُ، أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ»
(2)
.
20 -
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تعرض لهم العوارض البشريَّة كالجوع والمرض، وهذا يدلُّ على أنَّه ليس لهم من الأمر شيءٌ، ولا يملكون لأنفسهم
(1)
رواه البخاريُّ (2345)، ومسلمٌ (1802) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاريُّ (4199)، ومسلمٌ (1940) عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.
نفعًا ولا ضرًّا إلَّا ما شاء الله، فيعلم بذلك بطلان عبادتهم من دون الله فضلاً عن غيرهم، كما أشار إلى ذلك الشَّيخ مُحمَّد بن عبد الوهَّاب في مسائل باب الدُّعاء إلى شهادة أن لا إله إلَّا الله: المسألة الثَّامنة عشرة.
* * * * *
(29)
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ رضي الله عنه قَالَ: «خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَلُعَابُهَا يَسِيلُ عَلَى كَتِفِي» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ من السُّنَّة الخطبة بمنًى أيَّام منًى أو يوم النَّحر، وقد ثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم خطب يوم النَّحر
(2)
، وخطب في اليوم الثَّاني من أيَّام منًى
(3)
.
2 -
الخطبة على الرَّاحلة أو موضعٍ عالٍ.
3 -
خدمة الصَّحابة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إكرامًا له واحتسابًا.
4 -
طهارة لعاب الإبل، وعلى قياسه لعاب سائر ما يؤكل لحمه، ومن أجل ذلك أورد المؤلِّف الحديث في الباب.
5 -
فضيلة عمرو بن خارجة رضي الله عنه؛ حيث كان يمسك بخطام ناقة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو واقفٌ ولعابها يسيل عليه ولا يبالي بذلك.
6 -
تعليم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أمَّته أحكام العبادات، وتحرِّي المواسم والمناسبات.
* * * * *
(1)
أحمد (17664)، والترمذيُّ (2121).
(2)
ينظر: البخاريُّ (965)، ومسلمٌ (1961).
(3)
ينظر: «سنن أبي داود» (1952، 1953)، و «صحيح ابن خزيمة» (2973).
(30)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَأَنَا أَنْظُرُ إلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(31)
وَلِمُسْلِمٍ: «لَقَدْ كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرْكًا، فَيُصَلِّي فِيهِ»
(2)
.
(32)
وفِي لَفْظٍ لَهَا: «لَقَدْ كُنْتُ أَحُكُّهُ يَابِسًا بِظُفُرِي مِنْ ثَوْبِهِ»
(3)
.
* * *
في الحديث برواياته فوائد، منها:
1 -
مشروعيَّة غسل المنيِّ رطبًا، وفركه وحكِّه يابسًا.
2 -
طهارة المنيِّ، فلا يجب غسله؛ إذ لم يرد الأمر به، وقال بعض أهل العلم بنجاسته قياسًا على ما يخرج من البول والمذي وغيرهما، والصَّواب الأوَّل، وقد صحَّ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم أنَّه قال:«إِنَّمَا هُوَ [أَيِ: المَنِيُّ] بِمَنْزِلَةِ البُصَاقِ، أَمِطْهُ عَنْكَ وَلَوْ بِإِذْخِرَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ»
(4)
، وقد روي مرفوعًا.
3 -
استحباب التَّنظُّف من الأقذار ولو لم تكن نجسةً.
4 -
خدمة المرأة زوجها وتعاهدها لشؤونه.
5 -
جواز الصَّلاة في الثَّوب الذي فيه بقع الماء بعد التَّنظيف.
6 -
استحباب النَّظافة للصَّلاة وأخذ الزِّينة.
7 -
أنَّ نساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أعلم بأحواله الخاصَّة.
8 -
التَّصريح بما يستحيا من ذكره للحاجة.
(1)
البخاريُّ (229)، ومسلمٌ (289) واللفظ له.
(2)
مسلمٌ (288).
(3)
مسلمٌ (290).
(4)
رواه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (4146)، وقال:«هذا صحيحٌ عن ابن عباسٍ من قوله، وقد روي مرفوعًا ولا يصحُّ رفعه» .
9 -
جواز الصَّلاة في الثَّوب الَّذي ينام فيه الإنسان وتصيبه الجنابة فيه.
10 -
زهده صلى الله عليه وسلم في الدُّنيا؛ حيث لم تكن له أثوابٌ للأحوال المختلفة.
* * * * *
(33)
وَعَنْ أَبِي السَّمْحِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلامِ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
نجاسة بول الآدميِّ وهو مجمعٌ عليه.
2 -
وجوب غسل البول.
3 -
أنَّ نجاسة بول الصَّبيِّ -أي: الَّذي لم يأكل الطَّعام- مخفَّفةٌ يكفي فيها الرَّشُّ.
4 -
أنَّ بول الأنثى الصَّغيرة كالكبيرة.
5 -
الفرق بين بول الصَّبيِّ والجارية في النَّجاسة وصفة التَّطهير.
6 -
حكمة هذا الفرق؛ فإنَّ الشَّريعة لا تفرِّق بين المتماثلين.
قال العلماء: حكمة الفرق -والله أعلم- أنَّ بول الصَّبيِّ يكثر التَّعرُّض له ويشقُّ التَّحرُّز منه من جهة أنَّ حمل النَّاس له أكثر من الأنثى ومن جهة أنَّ بوله ينتشر من حوله بخلاف الأنثى فإنَّه لا يتجاوز موضعها. وقيل في الفرق: إنَّ بول الصَّبيِّ أقلُّ خبثًا من الأنثى لاختلاف طبيعتهما. والله أعلم.
7 -
فيه وجهٌ من وجوه تفضيل الذَّكر على الأنثى.
(1)
أبو داود (376)، والنسائيُّ (304)، والحاكم (591).
8 -
أنَّ المشقَّة تجلب التَّيسير.
9 -
يسر الشَّريعة برفع الحرج وتخفيف المشقَّة.
* * * * *
(34)
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ: «تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ، ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(35)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَتْ خَوْلَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبِ الدَّمُ؟ قَالَ:«يَكْفِيكِ الْمَاءُ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ
(2)
.
* * *
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
نجاسة دم الحيض، وفي حكمه دم النِّفاس، ونجاستهما قطعيَّةٌ، وألحق بهما في النَّجاسة سائر الدِّماء المحرَّمة، وحكى الإجماع على ذلك غير واحدٍ من العلماء.
2 -
وجوب تطهير الثَّوب من دم الحيض وما في حكمه، وتطهير البدن من باب أولى، وقد قال صلى الله عليه وسلم للمستحاضة:«وَإِذَا أَدْبَرَتْ [أَيْ: حَيْضَتُكِ] فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي»
(3)
.
3 -
صفة تطهير الثَّوب من دم الحيض في قوله: «تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ تَنْضَحُهُ» .
4 -
أنَّه لا يُعفى عن يسير دم الحيض.
5 -
وجوب تطهير الثَّوب للصَّلاة.
(1)
البخاريُّ (227)، ومسلمٌ (291).
(2)
لم يخرج الحديث في الترمذيِّ وإنما أشار إليه المصنف. ينظر: سنن الترمذي (1/ 212)، ورواه أحمد (8767)، وأبو داود (365).
(3)
رواه البخاريُّ (228)، ومسلمٌ (334).
6 -
تحريم الصَّلاة في الثَّوب النَّجس.
7 -
أنَّ الأصل في إزالة النَّجاسة هو الماء.
8 -
أنَّه لا يجب غسل جميع الثَّوب الَّذي أصابه دم الحيض؛ وإنَّما يغسل الموقع الَّذي أصابه الدَّم.
9 -
أنَّ الواجب إزالة عين النَّجاسة دون أثرها، وجاء في ذلك هذا الحديث الضَّعيف:«يَكْفِيكِ الْمَاءُ ولا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ» ، فمعنى الحديث صحيحٌ وإن كان ضعيفًا من حيث الرِّواية؛ لأنَّ التَّكليف بإزالة الأثر حرجٌ؛ لأنَّ العمل على إزالته قد يفضي إلى تمزيق الثَّوب وذلك من إتلاف المال، ومناسبة الحديث للباب ظاهرةٌ.
* * * * *
بَابُ الوُضُوءِ
(36)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ:«لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ» . أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَذَكَرَهُ البُخَارِيُّ تَعْلِيقًا
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
رأفة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمَّته.
2 -
ترك ما يحبُّ أن يأمر به خوف المشقَّة على أمَّته صلى الله عليه وسلم.
3 -
محبَّته صلى الله عليه وسلم للسِّواك.
4 -
فضل السِّواك.
5 -
تأكُّده مع الوضوء، وهذا أحد المواضع الَّتي يتأكَّد فيها السِّواك.
6 -
أنَّه لا يكره السِّواك للصَّائم في العشيِّ؛ لعموم قوله: «مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ» ، وأمَّا حديث:«وَلَا تَسْتَاكُوا بِالْعَشِيِّ»
(2)
؛ فضعيفٌ.
7 -
أنَّ الأصل في الأمر الوجوب.
8 -
إضافة الأمَّة إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وذلك تشريفٌ لها، والمراد: أمَّة الإجابة.
(1)
مالكٌ (170، 171)، وأحمد (9928)، والنسائيُّ في «الكبرى» (3031)، وابن خزيمة (140)، والبخاريُّ (2/ 39).
(2)
أخرجه الدارقطنيُّ (2372، 2373) من طريقين: أحدهما: مرفوعٌ من حديث خبابٍ رضي الله عنه، والثاني: موقوفٌ على عليٍّ رضي الله عنه، وضعَّفه.
9 -
المشقَّة تجلب التَّيسير؛ إمَّا بعدم شرع ما يشقُّ -كما في هذا الحديث ونحوه- أو بتخفيف ما شرع من أجل المشقَّة.
10 -
يُسر هذه الشَّريعة.
11 -
أنَّ بعض ما يأمر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد يكون باجتهادٍ، وقد يترك ما يحبُّ الأمر به باجتهادٍ، فإن أقرَّ عليه ثبت الحكم، وإلَّا لم يثبت.
12 -
أنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح عند التَّكافؤ.
* * * * *
(37)
(1)
.
(38)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَاحِدَةً» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. بَلْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّهُ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي البَابِ
(2)
.
(39)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنهم فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ قَالَ: «وَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
(40)
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: «بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ»
(4)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (159)، ومسلمٌ (226).
(2)
أبو داود (115)، والترمذيُّ (48)، والنسائيُّ (92).
(3)
البخاريُّ (185)، ومسلمٌ (235).
(4)
البخاريُّ (185، 186)، ومسلمٌ (235).
حديث عثمان أصلٌ في صفة الوضوء، وهو من أصحِّ الأحاديث الواردة في ذلك.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
صفة الوضوء الكامل.
2 -
استحباب غسل الكفَّين ثلاثًا قبل إدخالهما في الوضوء.
3 -
مشروعيَّة المضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه.
4 -
مشروعيَّة غسل الوجه، وهو أحد فروض الوضوء الَّتي أمر الله بها في كتابه.
5 -
غسل اليدين إلى المرفقين، وذلك من فروض الوضوء.
6 -
المسح بالرَّأس، وهو من فروض الوضوء.
7 -
غسل الرِّجلين إلى الكعبين، وهو من فروض الوضوء.
8 -
الرَّدُّ على الرَّافضة في قولهم بمسح القدمين.
9 -
استحباب التَّثليث في غسل أعضاء الوضوء.
10 -
صفة مسح الرَّأس.
11 -
أنَّ مسح الرَّأس واحدةٌ، وأمَّا رواية تثليث مسح الرَّأس في حديث عثمان رضي الله عنه فشاذَّةٌ
(1)
.
12 -
مسح الأذنين مع الرَّأس وصفته.
13 -
التَّيامُن في الوضوء بغسل اليمنى قبل اليسرى.
(1)
ينظر: «سنن أبي داود» (1/ 23)، و «السنن الكبرى» للبيهقيِّ (1/ 103).
14 -
مشروعيَّة التَّرتيب، وهذا مذهب الجمهور، وهو من فروض الوضوء عندهم، وقال بعض أهل العلم بأنَّ التَّرتيب سنَّةٌ، والأظهر: أنَّه واجبٌ يسقط بالنِّسيان.
15 -
التَّعليم بالفعل.
16 -
رواية قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل.
17 -
أنَّ الاستنجاء ليس من الوضوء الَّذي يقصد لرفع الحدث.
18 -
استحباب ركعتين بعد الوضوء، كما جاء في أصل حديث عثمان رضي الله عنه.
19 -
فضل الإقبال على الصَّلاة، وترك حديث النَّفس فيها.
20 -
أنَّ الوضوء والصَّلاة من أسباب مغفرة الذُّنوب.
21 -
بيان السُّنَّة للقرآن.
22 -
أنَّ القدوة بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بحسب الاستطاعة، وذلك من يسر الإسلام.
23 -
جواز طلب الرَّجل الخدمة من أهله وخدمه.
* * * * *
(41)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهم فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ قَالَ: «ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مسح الرَّأس في الوضوء، وهو أحد فروضه، كما دلَّ عليه القرآن والسُّنَّة المتواترة.
(1)
أبو داود (135)، والنسائيُّ (102)، وابن خزيمة (148).
2 -
مسح الأذنين مع الرَّأس في الوضوء، وهذا هو الصَّحيح في حكم الأذنين، أنَّهما يمسحان مع الرَّأس، ويؤيِّده حديث:«الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ»
(1)
، وقد قيل بغسلهما مع الوجه، وقيل بغسل باطنهما مع الوجه ومسح ظاهرهما مع الرَّأس. ومسحهما مع الرَّأس قيل: واجبٌ، وقيل: سنَّةٌ، وهذا هو الصَّحيح، وهو قول الجمهور، وحكى الوزير ابن هبيرة الإجماع عليه
(2)
.
3 -
فيه صفة مسح الأذنين؛ باطنهما بالسَّبَّاحتين، وظاهرهما بالإبهامين.
* * * * *
(42)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِه
(3)
؛ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاثًا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(4)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
الأمر بالاستنثار ثلاثًا بعد الاستيقاظ من النَّوم، وهو واجبٌ للأمر، وقيل بالاستحباب. والاستنثار: هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، فيستلزم الأمر بالاستنشاق.
2 -
بيان علَّة الحكم؛ ويؤخذ ذلك من قوله: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ» .
3 -
أنَّ الأحكام الشَّرعيَّة معلَّلةٌ.
(1)
أخرجه أبو داود (134)، والترمذيُّ (37) وقال:«هذا حديثٌ حسنٌ ليس إسناده بذاك القائم» ، وابن ماجه (443) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وهو عند ابن ماجه أيضًا من حديث عبد الله بن زيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
قال ابن هبيرة: «وأجمعوا على أنَّ مسح باطن الأذنين وظاهرهما سنةٌ من سنن الوضوء، إلا أحمد فإنه رأى مسحهما واجبًا، وعنه أنه سنةٌ» . ينظر: «اختلاف الأئمة العلماء» (1/ 44).
(3)
في «الصحيحين» وغيره بلفظ: «مِنْ مَنَامِهِ» .
(4)
البخاريُّ (3295)، ومسلمٌ (238).
4 -
أنَّ الشَّيطان خبيثٌ يورث ما لابسه خبثًا، وهو خبثٌ معنويٌّ.
5 -
أنَّ الاستنثار ثلاثًا يزيل أثر الشَّيطان.
6 -
أنَّ الاستنثار ثلاثًا بعد الاستيقاظ من النَّوم مختصٌّ بنوم اللَّيل لقوله: «يَبِيتُ» ، ويؤيِّد ذلك رواية:«إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ»
(1)
.
7 -
أنَّ هذا الحكم لا يختصُّ بمن أراد الوضوء، فيشرع قبله أو معه أو بدونه، ولكن في رواية البخاريِّ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا
…
»
(2)
فتفيد هذه الرِّواية اختصاص حكم الاستنثار ثلاثًا بالمُتوضِّئ حملاً للمطلق على المقيَّد.
8 -
أنَّ هذا الشَّيطان هو القرين الملازم للإنسان، فلا يبعده ذكرٌ ولا تعوُّذٌ، لكنَّ ذلك يقي من شرِّه بإذن الله.
9 -
أنَّ الاستنثار الَّذي يزيل أثر الشَّيطان من الخيشوم هو ما كان على وجه التَّعبُّد لله، فلا بدَّ فيه من نيَّةٍ.
10 -
أنَّ الوتر معتبرٌ في بعض الأحكام الشَّرعيَّة؛ لقوله: «ثَلَاثًا» .
11 -
الاقتصار على الثَّلاث، فلا تشرع الزِّيادة؛ كالتَّثليث في الوضوء.
12 -
ابتلاء الإنسان بالشَّيطان.
13 -
علم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ببعض أمور الغيب، وذلك بإطلاع الله له؛ فإنَّ الشَّيطان ومبيته على خيشوم الإنسان ممَّا لا يدرك بالحسِّ.
* * * * *
(1)
عند الترمذيِّ (24)، وابن ماجه (393). وقال الترمذيُّ:«هذا حديثٌ حسنٌ وصحيحٌ» .
(2)
البخاريُّ (3121).
(43)
وَعَنْه رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
نهي المستيقظ من النَّوم عن غمس يده في الإناء الَّذي فيه الماء حتَّى يغسلها ثلاثًا، وفي رواية البخاريِّ: الأمر بالغسل قبل الإدخال
(2)
.
2 -
مشروعيَّة غسل اليدين ثلاثًا بعد الاستيقاظ من النَّوم قبل إدخالهما في الإناء، وجمهور العلماء على أنَّ الأمر للاستحباب، وقيل: للوجوب، وهو الأظهر؛ لأنَّه الأصل في الأمر، فعلى الأوَّل النَّهي للكراهة، وعلى الثَّاني يكون النَّهي للتَّحريم.
3 -
اختصاص هذا الحكم بالاستيقاظ من نوم اللَّيل؛ لقوله: «لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» ، والبيتوتة إنَّما تكون في اللَّيل.
4 -
تعليل الأحكام الشَّرعيَّة، وعلَّة هذا الحكم عدم العلم بما وقعت عليه اليد حال النَّوم، ولهذا قيل: إنَّ العلَّة الشَّكُّ في النَّجاسة، وقيل: لعلَّها كانت على المكان الَّذي يبيت عليه الشَّيطان وهو الخيشوم، فيظهر بذلك تناسبٌ بين أمر المستيقظ بالاستنثار ثلاثًا وغسل يده ثلاثًا، وقيل: إنَّ العلَّة معنويَّةٌ، فالأمر بغسل اليد ثلاثًا كالأمر بغسل أعضاء الوضوء من الحدث، ومن قال ذلك قال: إنَّ غمس اليد في الإناء قبل غسلها يسلب الماء الطَّهوريَّة؛ لأنَّه يصير مستعملاً، والصَّحيح: أنَّ طهوريَّة الماء لا تزول بالاستعمال في رفع الحدث ونحوه. وقيل: إنَّ الأمر تعبُّديٌّ؛ أي: لا تعلم له علَّةٌ، لكن يردُّ على هذا قوله: «فَإِنَّهُ لا
(1)
البخاريُّ (3295)، ومسلمٌ (278).
(2)
ينظر: البخاريُّ (162) وفيها: «فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قبل أَنْ يُدْخِلَهَا في وَضُوئِهِ
…
».
يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»، ولكنَّ الَّذي لا يعلم هو وجه هذه العلَّة؛ أي: كيف كان ذلك موجبًا لغسل اليد؟
5 -
الاحتياط لطهارة الماء.
6 -
الاحتياط للدِّين إذا وجد الشَّكُّ ولم يكن هناك أصلٌ متيقَّنٌ، والاحتياط واطِّراح الشَّكِّ تارةً يكون واجبًا وتارةً يكون مستحبًّا، بحسب نوع الحكم من وجوبٍ واستحبابٍ وتحريمٍ وكراهةٍ.
7 -
أنَّ النَّهي عن الغمس شاملٌ لكلِّ اليد وبعضها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ» أو «فَدَعُوهُ»
(1)
.
8 -
أنَّ غسل اليد من الإناء يكون بالإكفاء عليها من الإناء.
9 -
جواز إدخال اليد في الإناء بعد غسلها ثلاثًا.
10 -
أنَّ الوتر معتبرٌ في الأحكام الشَّرعيَّة؛ لقوله: «ثَلَاثًا» .
11 -
كمال الشَّريعة وشمولها للأحكام الكلِّيَّة والجزئيَّة، والأصول والفروع.
12 -
أنَّ هذا الحكم لا يختصُّ بالمتوضِّئ أو بمُريد الوضوء، وإنَّما هو عامٌّ لكلِّ من أراد استعمال الماء الَّذي في الإناء.
13 -
أنَّ هذا الحكم مختصٌّ بالماء اليسير الَّذي يكون في الآنية دون الَّذي يكون في الأحواض.
14 -
أنَّ غسل اليدين ثلاثًا مشروعٌ لمن أراد استعمال الماء ولو بالصَّبِّ عليه، فإنَّ علَّة الحكم تقتضيه.
(1)
أخرجه البخاريُّ (7288)، ومسلمٌ (1337)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
15 -
رفع التَّكليف عن النَّائم؛ لأنَّه لا يؤاخذ بما وقعت عليه يده من نجسٍ أو قذرٍ.
* * * * *
(44)
وَعَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» . أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
(45)
وَلأبِي دَاوُدَ فِي رِوَايَةٍ: «إِذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ»
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة إسباغ الوضوء، والمراد به: تعميم أعضاء الوضوء بالغسل، وهو واجبٌ، كما يدلُّ له حديث:«وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»
(3)
.
2 -
مشروعيَّة تخليل الأصابع، وهو دلك ما بين الأصابع؛ ليصل إليها الماء، فإن كان الماء لا يصل إليها إلَّا به وجب، وإلَّا كان مستحبًّا.
3 -
مشروعيَّة المبالغة في الاستنشاق.
4 -
أنَّ المبالغة في الاستنشاق لا تشرع للصَّائم.
5 -
مشروعيَّة الاستنشاق في الوضوء، والصَّحيح: أنَّه واجبٌ، ولا بدَّ بعد الاستنشاق من الاستنثار؛ لحديث: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً
(1)
أبو داود (142)، والنسائيُّ (87)، والترمذيُّ (788)، وابن ماجه (407)، وابن خزيمة (150).
(2)
أبو داود (144).
(3)
رواه البخاريُّ (60)، ومسلمٌ (241)، من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم.
ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ»
(1)
، وفي لفظٍ لمسلمٍ:«فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ»
(2)
، ولمداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك.
6 -
مشروعيَّة المضمضة في الوضوء، وهي واجبةٌ للأمر في هذا الحديث:«إِذَا تَوَضَّأْتَ فَمَضْمِضْ» ولمداومته صلى الله عليه وسلم.
7 -
في الحديث شاهدٌ لقاعدة سدِّ الذَّرائع؛ لنهي الصَّائم عن المبالغة في الاستنشاق؛ لأنَّ ذلك قد يؤدِّي إلى وصول الماء إلى جوفه.
8 -
وجوب إكمال الصَّلاة؛ لأنَّ ذلك أولى من إكمال الوضوء الَّذي هو شرطها.
9 -
أنَّ الأنف منفذٌ لما يفسد الصَّوم، فالأنف بخلاف العين وسائر منافذ البدن، وكذلك ما يحقن في البدن بواسطة الإبر، إلَّا أن يكون طعامًا أو شرابًا لتغذية البدن.
10 -
الاحتياط لسلامة الصَّوم، وهو يقتضي الاحتياط لسلامة الدِّين، ويشهد لذلك حديث:«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»
(3)
، وحديث:«وَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ»
(4)
.
11 -
فيه شاهدٌ لقاعدة أنَّ أمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لواحدٍ أمرٌ للأمَّة، كما يدلُّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا قَوْلِي لاِمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِي لِمِئَةِ امْرَأَةٍ»
(5)
.
(1)
أخرجه مسلمٌ (237) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
ينظر: الحاشية السابقة.
(3)
أخرجه النسائيُّ (5201)، والترمذيُّ (2518)، وقال:«هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ» . والحاكم (2223)، من حديث الحسن بن عليٍّ رضي الله عنهم.
(4)
رواه البخاريُّ (52)، ومسلمٌ (1599) من حديث النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهم.
(5)
أخرجه النسائيُّ (4192)، والترمذيُّ (1597) وقال:«حسنٌ صحيحٌ» ، وأحمد (27009) واللفظ له، ومالكٌ (1775) من حديث أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها. وصحَّحه ابن القطان. ينظر:«بيان الوهم والإيهام» (5/ 516).
12 -
فيه شاهدٌ لقاعدة أنَّ درء المفسدة الرَّاجحة مقدَّمٌ على حصول المصلحة المرجوحة، أو تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، فسلامة الصَّوم قدِّمت على المبالغة في الاستنشاق.
* * * * *
(46)
وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ فِي الْوُضُوءِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
الحديث حسنٌ؛ لتحسين البخاريِّ له، ولشواهده
(2)
.
وفيه فوائد، منها:
1 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان ذا لحيةٍ كثَّةٍ.
2 -
مشروعيَّة تخليل اللِّحية في الوضوء، وفي الغسل أولى، والتَّخليل هو: إيصال الماء إلى باطن الشَّعر بالأصابع.
3 -
مداومة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ لقوله: «كان» .
4 -
أنَّ إعفاء اللِّحية من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد جاء الأمر بذلك في أحاديث صحيحةٍ، وأنَّ في ذلك مخالفةً للمجوس والمشركين فيكون واجبًا، وخلافه حرامٌ.
* * * * *
(1)
الترمذيُّ (31)، وابن خزيمة (151).
(2)
ينظر: «علل الترمذيِّ الكبير» (33). حيث نقل تحسين البخاريِّ لهذا الحديث. وينظر شواهد الحديث عند الحاكم (1/ 250).
(47)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ:«إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِثُلُثَيْ مُدٍّ، فَجَعَلَ يَدْلُكُ ذِرَاعَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
الاقتصاد في ماء الوضوء.
2 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ربَّما توضَّأ بأقلَّ من المدِّ، وفي حديث أنسٍ رضي الله عنه؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يتوضَّأ بالمدِّ ويغتسل بالصّاع
(2)
.
3 -
دلك أعضاء الوضوء عند غسلها، وهو ممَّا يعين على الاقتصاد في ماء الوضوء، والله قد أمر بغسل الوجه واليدين والرِّجلين في الوضوء، فمن أدخل الدَّلك في معنى الغسل أوجبه، ومن لم يدخله في معنى الغسل لم يوجبه، وهذا هو الأظهر، لكن يستحبُّ الدَّلك لفعله صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا حصل الإسباغ بدون دلكٍ، وأمَّا إذا لم يحصل الإسباغ إلَّا بدلكٍ؛ فالدَّلك واجبٌ؛ لأنَّ ما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فهو واجبٌ.
* * * * *
(48)
وَعَنْهُ، رضي الله عنه:«أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ لأُذُنَيْهِ مَاءً غَيْرَ الْمَاءِ الَّذِي أَخَذَهُ لِرَأْسِهِ» . أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ
(3)
.
(49)
وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الوَجْهِ بِلَفْظِ: «وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ»
(4)
. وَهُوَ المَحْفُوظُ.
* * *
(1)
أحمد (16441)، وابن خزيمة (118).
(2)
رواه البخاريُّ (201).
(3)
السنن الكبرى (308).
(4)
رواه مسلمٌ (236).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة مسح الأذنين في الوضوء، وهو متَّفقٌ عليه.
2 -
استحباب أخذ ماءٍ جديدٍ لمسح الأذنين غير ماء الرَّأس، ولكنَّ هذه الرِّواية شاذَّةٌ، وعليه؛ فلا يسنُّ أخذ ماءٍ جديدٍ للأذنين، والمحفوظ رواية مسلمٍ وفيها دلالةٌ على أخذ ماءٍ جديدٍ للرَّأس.
* * * * *
(50)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ» . فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضل الوضوء.
2 -
أنَّ من ثواب الوضوء السِّيماء، وهي الغرَّة والتَّحجيل، وأصل الغرَّة: بياضٌ يكون في وجه الفرس، والتَّحجيل: بياضٌ يكون في قوائمها، والمراد به في الحديث: ما يكون في وجوه المؤمنين وأعضائهم من الحسن والبهاء.
3 -
أنَّ الغرَّة والتَّحجيل علامةٌ تميِّز هذه الأمَّة عن سائر الأمم، يعرفهم بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ وفيه أنَّ الصَّحابة قالوا: يا رسول الله كيف تعرف من لم يأت بعد من أمَّتك؟ فقال: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ
…
»
(2)
، وفي حديث
(1)
البخاريُّ (136)، ومسلمٌ (246).
(2)
رواه مسلمٌ (249).
أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا: قالوا: يا رسول الله أتعرفنا يومئذٍ؟ قال: «نَعَمْ. لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ»
(1)
.
4 -
فضل هذه الأمَّة على غيرها من الأمم.
5 -
الدَّلالة على أنَّ الجزاء من جنس العمل.
6 -
إظهار فضل هذه الأمَّة في مواقف القيامة.
7 -
وقوله: «فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ» ، فيه استحباب الزِّيادة في غسل الوجه لتطول الغرَّة الَّتي تكون يوم القيامة، وإطالة التَّحجيل بالزِّيادة في غسل اليدين والرِّجلين إلى أنصاف العضدين أو المنكبين وأنصاف السَّاقين أو الرُّكبتين، وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يفعل شيئًا من ذلك، ولكن رجَّح المحقِّقون أنَّ قوله: «فَمَنِ اسْتَطَاعَ
…
إلخ» مدرجٌ من قول أبي هريرة رضي الله عنه، وعلى هذا فلا تشرع الزِّيادة في غسل الوجه، ولا المبالغة في غسل اليدين والرِّجلين، وهذا هو الصَّواب.
8 -
إثبات البعث.
9 -
أنَّ كلَّ أمَّةٍ تأتي يوم القيامة مستقلَّةً عن غيرها.
10 -
استنبط بعض أهل العلم من الحديث كفر تارك الصَّلاة؛ لأنَّ ترك الصَّلاة يستلزم ترك الوضوء، وترك الوضوء يستلزم ألَّا يكون من أمَّة مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذين يدعون غُرًّا محجَّلين، ويعرفهم بذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأمم. والله أعلم.
* * * * *
(1)
رواه مسلمٌ (247).
(51)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(52)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَؤوا بِمَيَامِنِكُمْ» . أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(2)
.
* * *
الحديثان أصلٌ في التَّيمُّن.
وفيهما فوائد، منها:
1 -
استحباب التَّيمُّن في لبس النَّعل بأن يلبس اليمنى قبل اليسرى، والخلع بالعكس، وقد جاء في ذلك حديثٌ خاصٌّ، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ، وَلْتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ» . متَّفقٌ عليه
(3)
.
2 -
استحباب التَّيمُّن في ترجيل شعر الرَّأس، وهو تسريحه ودهنه أو غسله.
3 -
استحباب التَّيمُّن في الوضوء والغسل، وقد جاء الأمر به في الوضوء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«إذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَؤُوا بِمَيَامِنِكُمْ» ، والأمر فيه للاستحباب، وحكى الإجماع على ذلك غير واحدٍ، منهم النَّوويُّ
(4)
، وقال ابن قدامة:«لا نعلم فيه خلافًا»
(5)
.
(1)
البخاريُّ (168)، ومسلمٌ (268).
(2)
أبو داود (4141)، وابن ماجه (402)، وابن خزيمة (178)، مع اختلافٍ في ألفاظه، ولم أجده عند النسائيِّ والترمذيِّ.
(3)
رواه البخاريُّ (5855)، ومسلمٌ (2097).
(4)
«شرح النوويِّ» على مسلمٍ (3/ 160).
(5)
«المغني» (1/ 190).
4 -
أنَّ هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التَّيمُّن في شأنه كلِّه، وهو ما كان من باب التَّزيين والتَّكريم كهذه المذكورات والأكل والشُّرب، وقد جاء الأمر بذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ أَوْ شَرِبَ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ وَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ»
(1)
.
وأمَّا الأمور المكروهة والمفضولة فحقُّها الشِّمال؛ كالاستنجاء، والاستنثار، ودخول الخلاء، والخروج من المسجد.
وأمَّا السِّواك فلم يرد فيه نصٌّ بخصوصه، وقد ذكر العلماء استحباب البداءة بشقِّ الفم الأيمن، واختلفوا فيما يمسك به السِّواك، فقيل: باليمين، وقيل: بالشِّمال، وقيل: بالتَّفصيل بالفرق بين التَّسوُّك عبادةً وتسنُّنًا والتَّسوُّك تنظيفًا، والأظهر: أنَّ التَّسوُّك يكون باليمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»
(2)
، فيدخل في قولها:«وَطُهُورِهِ» .
5 -
محبَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم للتَّيمُّن، لقولها:«يُعْجِبُهُ» أي: يحبُّ التَّيمُّن، والظَّاهر: أنَّها محبَّةٌ شرعيَّةٌ طبعيَّةٌ فطريَّةٌ.
6 -
كمال هذه الشَّريعة وشمولها، حيث اشتملت على أحكام العادات والعبادات وآدابها.
7 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحلق شعره إلَّا في حجٍّ أو عمرةٍ، لكن يقصِّره فيكون شعره تارةً لمَّةً وتارةً جمَّةً.
8 -
استحباب إصلاح الشَّعر بالتَّنظيف والتَّسريح.
9 -
جواز الانتعال، ويستحبُّ في الصَّلاة، وقد يجب إذا كان يؤدِّي إلى تضرُّر القدمين، ويحسن الاحتفاء أحيانًا تجنُّبًا للتَّرف.
(1)
رواه مسلمٌ (2020) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
(2)
رواه النسائيُّ (4)، وابن ماجه (289)، وأحمد (7)، وذكره البخاريُّ تعليقًا بصيغة الجزم (2/ 40)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
* * * * *
(53)
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ، فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَالْخُفَّيْنِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
لبس النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للعمامة، ولم يعرف أنَّه يكون حاسر الرَّأس إلَّا في الإحرام.
2 -
جواز المسح على العمامة في الوضوء، قال العلماء: بشرط لبسها على طهارةٍ، قياسًا على الخفَّين، وأن تكون محنَّكةً لمشقَّة نزعها، وقاس بعض أهل العلم خمار المرأة المشدود على رأسها على العمامة في جواز المسح، وقال بجواز المسح على العمامة جمعٌ من الصَّحابة والتَّابعين، وهو مذهب الإمام أحمد وهو الصَّواب لفعله صلى الله عليه وسلم.
3 -
الجمع بين مسح النَّاصية والعمامة، والغالب من هديه مسح الرَّأس مباشرةً كما في حديث عثمان وعبد الله بن زيدٍ وعليٍّ
(2)
، ولهذا قال ابن القيِّم رحمه الله:«ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الرَّأس ثلاث سننٍ: مسح الرَّأس فقط، ومسح العمامة فقط، والجمع بينهما»
(3)
.
4 -
المسح على الخفَّين في الوضوء بشرط لبسهما على طهارةٍ، كما يدلُّ عليه حديث:«دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» الآتي
(4)
في باب المسح.
(1)
رواه مسلمٌ (274).
(2)
ينظر: الأحاديث السابقة: (37، 38، 39) في هذا الكتاب.
(3)
«زاد المعاد» (1/ 184).
(4)
سيأتي برقم (65).
وحكم المسح على الخفَّين قد تواترت به السُّنَّة، ولم ينكره إلَّا أهل البدع من الرَّافضة والخوارج.
5 -
اليسر في أحكام الشَّريعة، وأنَّ المشقَّة تجلب التَّيسير.
6 -
الجمع في الوضوء بين المسح على العمامة وعلى الخفَّين.
* * * * *
(54)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ هَكَذَا بِلَفْظِ الأَمْرِ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ الخَبَرِ
(1)
.
* * *
هذا الحديث طرفٌ من حديث جابرٍ رضي الله عنه الطَّويل في صفة حجِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
الأمر بالبداءة بما بدأ الله بذكره في كتابه.
2 -
وجوب البداءة بالصَّفا في السَّعي؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ} [البقرة: 158]، فإن بدأ بالمروة سقط الشَّوط الأوَّل.
3 -
وجوب التَّرتيب في الوضوء، وذلك بالبداءة بالوجه ثمَّ ما ذكر بعده من أعضاء الوضوء؛ لعموم قوله:«ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» ، ولهذا أورده المؤلِّف.
4 -
أنَّ الأصل البداءة بالأهمِّ، فيدلُّ التَّقديم على الأهمِّيَّة.
5 -
استشعار الامتثال عند أداء المأمور؛ لتلاوة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الآية مذكِّرًا ومفسِّرًا، ومثل ذلك أنَّه حين أتى مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم قرأ:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].
(1)
النسائيُّ (5/ 236)، ومسلمٌ (1218).
6 -
أنَّ الصَّفا والمروة من معالم الدِّين؛ فيجب تعظيمهما بما شرع الله من الطَّواف بينهما في الحجِّ أو العمرة.
7 -
بيان الرَّسول صلى الله عليه وسلم للقرآن بقوله وفعله، وبيانه لهذه الآية بما قاله على الصَّفا والمروة، وبسعيه بينهما سبعة أشواطٍ.
8 -
فيه شاهدٌ لقاعدة اعتبار عموم اللَّفظ دون خصوص السَّبب.
9 -
أنَّ السَّعي بين الصَّفا والمروة نسكٌ من مناسك الحجِّ والعمرة.
* * * * *
(55)
وَعَنْهُ، رضي الله عنه قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضعِيفٍ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فائدةٌ، وهي:
الدَّلالة على دخول المرافق في المغسول عند غسل اليدين في الوضوء، وقد ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم غسل يديه حتَّى أشرع في العضد، وغسل رجليه حتَّى أشرع في السَّاق
(2)
، وهذا يدلُّ على أنَّ الغاية داخلةٌ في قوله تعالى:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، ولهذا قال المفسِّرون: إنَّ {إِلَى} في الآية بمعنى (مع)، فمعنى الحديث صحيحٌ وإن كان سنده ضعيفًا.
* * * * *
(56)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجهْ، بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
(3)
.
(1)
«سنن الدارقطنيِّ» (272).
(2)
ينظر: «صحيح مسلمٍ» (246).
(3)
أحمد (9418)، وأبو داود (101)، وابن ماجه (399).
(57)
(58) وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، وَأَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه نَحْوُهُ
(1)
. وَقَالَ أَحْمَدُ: «لا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ»
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
ظاهر الحديث أنَّ التَّسمية شرطٌ لصحَّة الوضوء، وقال به بعض أهل العلم، ومنهم الظَّاهريَّة -إلَّا ابن حزمٍ فقال: إنَّه سنَّةٌ وهو قول الجمهور- وقال الإمام أحمد في الرِّواية المشهورة بوجوب التَّسمية مع الذِّكر، وكلُّ من قال بوجوب التَّسمية في الوضوء أو السُّنِّيَّة فالحديث عنده حسنٌ بمجموع طرقه، ولعلَّ مراد الإمام أحمد بقوله:«لا يثبت فيه شيءٌ» ، أنَّه لم يثبت حديثٌ واحدٌ من أحاديث التَّسمية، وهذا لا ينفي ثبوت الحكم بمجموع الأحاديث.
2 -
فضيلة ذكر اسم الله، ولهذا شرع في كثيرٍ من العبادات والعادات وجوبًا أو استحبابًا، تارةً بلفظ التَّسمية باسم الله، وتارةً بلفظ الحمد، وتارةً بالتَّكبير كما في الصَّلاة، وتارةً بالتَّلبية كما في الحجِّ والعمرة، والغالب بلفظ التَّسمية، وأكثر ذلك في العادات كالأكل والشُّرب والجماع والنَّوم والدُّخول والخروج والذَّبح، عادةً كان أو عبادةً.
* * * * *
(59)
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْصِلُ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
(3)
.
(60)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ: «ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، يُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْثِرُ مِنَ الْكَفِّ الَّذِي يَأْخُذُ منْهُ الْمَاءَ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
(4)
.
(1)
الترمذيُّ (25، 26).
(2)
«الكامل» لابن عديٍّ (3/ 173).
(3)
أبو داود (139).
(4)
أبو داود (111)، والنسائيُّ (92).
(61)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ: «ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدةٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاثًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ من صفة المضمضة والاستنشاق في الوضوء الفصل بينهما، كما يفيده حديث طلحة، وذلك بأن يأخذ لكلٍّ منهما ماءً جديدًا، فيمضمض ويستنشق بغرفتين، فإن ثلَّث اقتضى ستَّ غرفاتٍ، وهذا بعيدٌ، والحديث ضعيفٌ.
2 -
أنَّ من صفة المضمضة والاستنشاق أن يتمضمض ويستنشق ثلاثًا ثلاثًا من كفٍّ واحدةٍ، كما فهمه بعضهم من حديث عليٍّ رضي الله عنه، والأظهر: حمله على حديث عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه المتَّفق عليه، وهو نصٌّ في المضمضة والاستنشاق ثلاثًا بثلاث غرفاتٍ.
3 -
الأحاديث كلُّها دالَّةٌ على مشروعيَّة المضمضة والاستنشاق في الوضوء، وهو متَّفقٌ عليه. واختلف في وجوبهما، وقد تقدَّم.
* * * * *
(62)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً، وَفِي قَدَمِهِ مِثْلُ الظُّفُرِ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ، فَقَالَ:«ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
(2)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (191)، ومسلمٌ (235).
(2)
أبو داود (173)، ولم أجده عند النسائيِّ، والحديث له شاهدٌ عند مسلمٍ (243) من حديث عمر رضي الله عنه. قيل: إنه موقوفٌ عليه!
هذا الحديث من الأدلَّة على وجوب إسباغ الوضوء، وفي «الصَّحيحين» عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال للَّذين قصَّروا في غسل أعقابهم:«وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»
(1)
.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
وجوب إسباغ الوضوء.
2 -
أنَّه لا يعفى عن اليسير في غسل أعضاء الوضوء.
3 -
وجوب الموالاة؛ لقوله: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» ، وقد جاء في حديث عمر رضي الله عنه أنَّه أمره بإعادة الوضوء والصَّلاة
(2)
، وإعادة الوضوء ليس لها موجبٌ إلَّا ترك الموالاة، ولكن إذا لم تنشف الأعضاء فإحسان الوضوء بغسل المتروك من أعضاء الوضوء وما بعده، مراعاةً للتَّرتيب.
4 -
أنَّ الإخلال بالوضوء لا يعذر فيه بالجهل -في الجملة- ولا بالنِّسيان.
5 -
الأمر بالمعروف.
6 -
أنَّ إسباغ الوضوء إحسانٌ.
7 -
وجوب إزالة ما يمنع وصول الماء، إلَّا أن يكون اضطراريًّا كالجبيرة.
* * * * *
(63)
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، إلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (60)، ومسلمٌ (240).
(2)
رواه أبو داود (175) من طريق خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه (666) من حديث عمر رضي الله عنه، قال الإمام أحمد:«إسناده جيدٌ» . «نصب الراية» (1/ 35).
(3)
البخاريُّ (201)، ومسلمٌ (325).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
بيان مقدار الماء الَّذي كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ به ويغتسل به.
2 -
أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يتوضَّأ بالمدِّ، وهو ربع الصَّاع، وهو رطلٌ وثلثٌ.
3 -
أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بالصَّاع إلى خمسة أمدادٍ.
4 -
الاقتصاد في ماء الوضوء، ولا ينافي هذا أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هو وبعض أزواجه في إناءٍ يقال له (الفَرَقُ)
(1)
يسع ثلاثة أصواعٍ؛ لأنَّه لا يلزم أن يكون ممتلئًا.
5 -
بيان السُّنَّة للقرآن، فإنَّ الله أمر بالوضوء والغسل، ولم يذكر مقدار الماء لهما.
6 -
أنَّ من السُّنَّة مراعاة هذا المقدار في الوضوء والغسل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
7 -
أنَّ تعمُّد الزِّيادة الكثيرة على المدِّ وخمسة الأمداد مخالفةٌ لهديه صلى الله عليه وسلم، ومن أفعال أهل التَّنطُّع والوسواس، وقد يتضمَّن إضاعة المال.
* * * * *
(64)
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
وزاد: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ»
(2)
.
(1)
ينظر: البخاريُّ (250)، ومسلمٌ (319).
(2)
رواه مسلمٌ (234)، والترمذيُّ (55).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الوضوء عبادةٌ، ولذلك تعتبر فيه النِّيَّة، خلافًا للحنفيَّة.
2 -
فضل إسباغ الوضوء.
3 -
استحباب ذكر الشَّهادتين بعد الوضوء.
4 -
فضل الجمع بين الوضوء والشَّهادتين.
5 -
اعتبار لفظ الشَّهادة في هذا المقام، فلا يكفي أن يقول: لا إله إلَّا الله مُحمَّدٌ رسول الله؛ بل يقول: أشهد.
6 -
الجمع بين ذكر الله وذكر الرَّسول، وهو أحد المواضع الَّتي يقرن فيها ذكر الرَّسول صلى الله عليه وسلم بذكر الله عز وجل: كالتَّشهُّد والأذان والإقامة.
7 -
الجمع بين الطَّهارتين؛ الظَّاهرة والباطنة.
8 -
أنَّ من حقَّق الطَّهارتين: الحسِّيَّة بالوضوء، و المعنويَّة بالتَّوحيد، تفتح له أبواب الجنَّة الثَّمانية يوم القيامة.
9 -
أنَّ أبواب الجنَّة ثمانيةٌ.
10 -
التَّعبير بالماضي عن المستقبل لتحقُّق الوقوع في قوله: «فُتِحَتْ» .
11 -
استحباب هذا الدُّعاء بعد الوضوء: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ» .
12 -
فضل التَّوَّابين والمُتطهِّرين، ويشهد لذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين (222)} [البقرة: 222].
13 -
سِرُّ الجمع بين الوصفين: التَّوبة و التَّطهُّر، وهو أنَّ كلًّا منهما طهارةٌ وسببٌ لمغفرة الذُّنوب.
14 -
الرَّدُّ على القدريَّة القائلين بأنَّ الله لا يقدر أن يجعل العبد فاعلاً، بل العبد يستقلُّ بفعله.
15 -
الرَّدُّ على الجبريَّة في نفيهم لفعل العبد ومشيئته؛ لإضافة الفعل إليه كقوله: يتوضَّأ، يسبغ، يقول، شاء.
16 -
أنَّ ما ذكر في هذا الحديث من الأحكام عامٌّ لكلِّ أحدٍ من المسلمين.
17 -
أنَّ من صيغ العموم النَّكرة بعد النَّفي، ويؤكِّده مجيء (من) الجارَّة لتنصيص العموم، في قوله:«مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ» .
18 -
إثبات الجنَّة وأنَّ لها أبوابًا.
فوائد تتضمنها الشهادتان:
19 -
أنَّه لا يكفي في الشَّهادتين اعتقاد القلب، بل لا بدَّ من النُّطق.
20 -
لا بدَّ في الشَّهادتين من تصديق القلب وانقياده، وإقرار اللِّسان.
21 -
أنَّه لا بدَّ في الشَّهادتين من العلم بمعناهما.
22 -
أنَّ التَّوحيد مبنيٌّ على الكفر بالطَّاغوت والإيمان بالله، فالكفر بالطَّاغوت مدلول النَّفي في كلمة التَّوحيد، والإيمان بالله مدلول الإثبات في بطلان إلهيَّة كلِّ معبودٍ سوى الله.
23 -
أنَّ الله هو المستحقُّ وحده للعبادة.
24 -
وجوب إفراده تعالى بالعبادة.
25 -
تأكيد المعاني المهمَّة، ولذا أكِّد ما في كلمة التَّوحيد من الإثبات بقوله:«وَحْدَهُ» ، وما فيها من النَّفي بقوله:«لَا شَرِيكَ لَهُ» .
26 -
أنَّ الاعتقاد الحقَّ هو الجمع بين العبوديَّة والرِّسالة في شهادة أنَّ مُحمَّدًا رسول الله، خلافًا لأهل الغلوِّ وأهل الجفاء.
27 -
أنَّه لا غضاضة في وصف الرَّسول بالعبوديَّة بل في ذلك ذكر شرفه صلى الله عليه وسلم بتحقيق العبوديَّة، كما قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1].
28 -
الرَّدُّ على من جعل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعض خصائص الإلهيَّة.
29 -
وجوب اتِّباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ ذلك مقتضى أنَّه رسول الله.
30 -
تحريم الابتداع في الدِّين، والرَّدُّ على المبتدعين.
* * * * *
بَابُ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ
* * *
ذكر باب المسح على الخُفَّين بعد باب الوضوء؛ لأنَّ المسح على الخُفَّين داخلٌ في صفة الوضوء؛ لأنَّه بدلٌ عن غسل الرِّجلين.
* * * * *
(65)
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَضَّأَ، فَأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقَالَ:«دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(66)
وَلِلأرْبَعَةِ عَنْهُ إِلَّا النَّسَائِيّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلَهُ» . وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ
(2)
.
(67)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ
(3)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز المسح على الخُفَّين في الوضوء.
2 -
جواز المسح على الخفَّين وإن كان فيهما ثقوبٌ، لإطلاق اسم الخُفِّ في الأحاديث.
(1)
البخاريُّ (206)، ومسلمٌ (274).
(2)
أبو داود (165)، والترمذيُّ (97)، وابن ماجه (550).
(3)
أبو داود (162).
3 -
الرَّدُّ على الرَّافضة والخوارج في إنكار المسح على الخُفَّين.
4 -
أنَّ حكم المسح على الخُفَّين متأخِّرٌ عن آية الوضوء في المائدة؛ لأنَّ هذا الحديث كان في غزوة تبوك.
5 -
البناء على الأصل حتَّى يرد الدَّليل النَّاقل؛ لأنَّ المغيرة أراد نزع الخُفَّين بناءً على أنَّ الفرض غسل الرِّجلين.
6 -
أنَّ السُّنَّة لمن كان لابسًا للخُفَّين المسح عليهما.
7 -
أنَّ المسح على الخُفَّين أفضل من خلعهما وغسل الرِّجلين.
8 -
أنَّ خلع الخُفَّين لغسل الرِّجلين فيه مشابهةٌ لأهل البدع.
9 -
أنَّ من لم يقنع بالمسح على الخُفَّين فهو مبتدعٌ.
10 -
أنَّ شرط المسح على الخُفَّين لبسهما على طهارةٍ بالماء، لقوله:«فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» ؛ أي: بالماء، وهذا قول الجمهور، وحكي فيه الإجماع
(1)
؛ لأنَّ التَّيمُّم لا تعلُّق له بالرِّجلين، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ، فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِمَا وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا
…
»
(2)
، ولأنَّ طهارة التَّيمُّم تبطل بوجود الماء.
11 -
جواز المسح على الخُفَّين في الحضر والسَّفر؛ لقوله: «إِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» ، فالعلَّة عامَّةٌ.
12 -
أنَّ الأحكام الشَّرعيَّة مُعلَّلةٌ.
13 -
أنَّ العلَّة في هذه الرُّخصة لبسهما على طهارةٍ.
14 -
جواز الوضوء بحضرة النَّاس.
(1)
ينظر: «الاستذكار» لابن عبد البرِّ (1/ 224).
(2)
رواه الدارقطنيُّ (779)، والحاكم (646)، وصحَّحه. وسيأتي برقم (71).
15 -
جواز إعانة المتوضِّئ بالصَّبِّ عليه وبخلع ما يحتاج إلى خلعه بلا كراهةٍ.
16 -
فضيلة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لخدمته النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم.
17 -
قيل: قوله: «أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ» يدلُّ على أنَّه لا يلبس الخُفَّ اليمنى إلَّا بعد غسل اليسرى، فإن فعل لم يجزئه إلَّا أن يخلع اليمنى ثمَّ يلبسها، والصَّحيح: جوازه؛ لأنَّ المقصود حصول القدمين في الخفَّين طاهرتين، ولأنَّه لا معنى لنزع الخفِّ ثمَّ لبسه.
18 -
أنَّ المسح على الخُفَّين من وجوه يُسر الشَّريعة.
19 -
أنَّ المشروع هو المسح على ظاهر الخُفِّ وهو أعلاه، كما يدلُّ عليه حديث عليٍّ رضي الله عنه، وأمَّا حديث مسح أسفل الخُفِّ فضعيفٌ، ومسح أسفل الخُفِّ كما أنَّه مخالفٌ للسُّنَّة فهو مخالفٌ للرَّأي والعقل؛ لأنَّ مسح أسفل الخُفِّ -وهو يتعرَّض للقذر- فيه تقذيرٌ لليد ولا يزول بالمسح قذرٌ.
20 -
التَّخيير بين مسح الخُفَّين باليدين دفعةً واحدةً أو اليمنى قبل اليسرى.
21 -
أنَّ الدِّين ليس بالرَّأي، كما قال عليٌّ رضي الله عنه، بل بالشَّرع من الكتاب والسُّنَّة، والعقل الصَّريح لا يعارض ما جاء به الرَّسول صلى الله عليه وسلم، بل يشهد له أو لا يحكم بشيءٍ.
* * * * *
(68)
وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَاه
(1)
.
(1)
النسائيُّ (127)، والترمذيُّ (96)، وابن خزيمة (17).
(69)
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ» ؛ يَعْنِي: فِي المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
الحديثان أصلٌ في توقيت المسح على الخُفَّين.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
جواز المسح على الخُفَّين في السَّفر.
2 -
أنَّ مدَّة المسح على الخُفَّين في السَّفر ثلاثة أيَّامٍ.
3 -
أنَّ مدَّة الحضر يومٌ وليلةٌ.
4 -
أنَّ ابتداء مدَّة المسح من المسح بالفعل.
5 -
أنَّ المسح لا يُشرع إلَّا في الطَّهارة من الحدث الأصغر.
6 -
النَّهي عن خلع الخُفِّ من أجل غسل الرِّجلين؛ لقوله: «أَنْ لا نَنْزِعَ خِفَافَنَا» .
7 -
أنَّ النَّوم ناقضٌ للوضوء.
8 -
وجوب خلع الخُفَّين من أجل غسل الجنابة.
9 -
أنَّه لا يجوز المسح بعد انقضاء المدَّة، بل يجب استئناف الطَّهارة وغسل الرِّجلين.
10 -
التَّوسعة في الرُّخصة للمسافر.
11 -
أنَّ للسَّفر رخصًا يختصُّ بها.
12 -
مراعاة الشَّريعة في أحكامها لاختلاف الأحوال.
13 -
أنَّ المشقَّة تجلب التَّيسير.
(1)
مسلمٌ (276).
* * * * *
(70)
وَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى الْعَصَائِبِ يَعْنِي: العَمَائِمَ وَالتَّسَاخِينِ يَعْنِي: الخِفَافَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(1)
.
* * *
الحديث أصلٌ في جواز المسح على العمامة.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
بعث الإمام السَّرايا للجهاد، وهو مقيمٌ.
2 -
جواز المسح على العمامة.
3 -
جواز المسح على الخُفَّين.
4 -
أنَّ الأمر يأتي للإباحة.
5 -
أنَّ المسح لا يتقيَّد بمدَّةٍ؛ لأنَّ الحديث مطلقٌ، وفي حديث صفوان وعليٍّ رضي الله عنهم تقييد المسح على الخُفَّين بمدَّةٍ، كما مرَّ، فيجب حمل المطلق على المقيَّد. وحكم المسح على العمامة في ذلك كحكم المسح على الخفَّين.
6 -
جواز المسح على العمامة والخُفَّين على أيِّ حالٍ كان لبسهما، ولكن دلَّ حديث المغيرة المتقدِّم
(2)
وغيره على اشتراط لبس الخُفَّين على طهارةٍ وأنَّ ذلك علَّة المسح، وحكم العمامة في ذلك كالخفَّين، فيشترط لجواز المسح اللُّبس على طهارةٍ.
7 -
توجيه الإمام من يبعثه في أمرٍ إلى ما يحتاج إليه.
* * * * *
(1)
أحمد (22383)، وأبو داود (146)، والحاكم (604).
(2)
تقدَّم برقم (65).
(71)
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مَوْقُوفًا، وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا:«إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ وَلَبِسَ خُفَّيْهِ فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِمَا وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، ولا يَخْلَعْهُمَا -إنْ شَاءَ- إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
(1)
.
(72)
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، إذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(2)
.
(73)
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ:«نَعَمْ» قَالَ: يَوْمًا؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: وَيَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَمَا شِئْتَ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ وَقَالَ: لَيْسَ بِالقَوِيِّ
(3)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز المسح على الخُفَّين.
2 -
التَّخيير بين المسح على الخُفَّين أو خلعهما وغسل الرِّجلين؛ لقوله: «إنْ شَاءَ» ، لكن لا زهدًا في الرُّخصة ولا تحرُّجًا.
3 -
اشتراط لبس الخُفَّين على طهارةٍ لجواز المسح؛ لقوله: «إِذَا تَوَضَّأَ» ، «إذا تطهَّر» .
4 -
وجوب خلع الخُفَّين للغسل من الجنابة، فلا يجزئ المسح عليها في الغسل من الجنابة وهذا مجمعٌ عليه.
5 -
أنَّ المسح على الخُفَّين موقَّتٌ بيومٍ وليلةٍ للمقيم، وثلاثة أيَّامٍ للمسافر، فلا يجوز المسح بعد انقضاء المدَّة.
(1)
الدارقطنيُّ (779، 780)، والحاكم (646).
(2)
الدارقطنيُّ (747)، وابن خزيمة (192).
(3)
أبو داود (158).
6 -
أنَّ المسح على الخُفَّين رخصةٌ.
7 -
رحمة الله بعباده بتيسير شرائعه.
8 -
وفي حديث أُبيٍّ: جواز المسح على الخُفَّين وأنَّه غير موقَّتٍ بمدَّةٍ، ولكنَّ الحديث ليس بالقويِّ فلا يقاوم الأحاديث المستفيضة الدَّالَّة على التَّوقيت.
وبهذا يعلم أنَّ الصَّواب: قول من يقول بتوقيت المسح بما ورد في حديث صفوان وعليٍّ وأبي بكرة، وهم الجمهور، وجمع بعض أهل العلم بين حديث أُبيٍّ وهذه الأحاديث بحمل حديث أُبيٍّ على من يتضرَّر بمراعاة التَّوقيت؛ كصاحب البريد والمريض، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة
(1)
. والله أعلم.
* * * * *
(1)
«الفتاوى الكبرى» (1/ 420).
بَابُ نَوَاقِضِ الوُضُوءِ
* * *
نواقض الوضوء: هي مبطلات الطَّهارة، وسمِّيت نواقض؛ لأنَّ الطَّهارة كالشَّيء المبرم المحكم، ويقال للنَّواقض أيضًا: موجبات الطَّهارة؛ لأنَّها تجب الطَّهارة منها لما تشترط فيه الطَّهارة كالصَّلاة.
والنَّواقض ثلاثة أقسامٍ: فمنها: ما هو ناقضٌ بالإجماع، ومنها: ما هو مختلفٌ فيه، والرَّاجح: النَّقض، ومنها: ما هو مختلفٌ فيه، والرَّاجح: عدم النَّقض.
* * * * *
(74)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -عَلَى عَهْدِهِ- يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ حَتَّى تَخْفِقَ رُؤوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ ولا يَتَوَضَّؤُونَ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ
(1)
.
* * *
الحديث أصلٌ في عدم نقض الوضوء بالنَّوم.
وفيه فوائد، منها:
1 -
مشروعيَّة صلاة الجماعة.
2 -
التَّقدُّم إلى صلاة الجماعة قبل الإقامة.
3 -
فضل الصَّحابة وطلبهم للأجر.
4 -
الانتظار في الصَّلاة ليجتمع النَّاس.
(1)
أبو داود (200)، والدارقطنيُّ (475)، ومسلمٌ (376).
5 -
أنَّ النَّوم اليسير لا ينقض الوضوء، وهذا يخالف حديث صفوان المتقدِّم «وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ»
(1)
، ولهذا اختلف العلماء في ذلك على ثمانية مذاهب، أهمُّها قولان:
الأَوَّلُ: الفرق بين اليسير (وهو الخفيف) والكثير (وهو الثَّقيل المستغرق).
الثَّانِي: الفرق بين نوم القاعد المتمكِّن وغيره؛ كالمضطجع والمستلقي.
وحديث أنسٍ رضي الله عنه يشهد للقول الأوَّل. والقول الثَّاني: مبنيٌّ على أنَّ النَّوم مظنَّةٌ لنقض الوضوء لا أنَّه بمجرَّده ناقضٌ.
6 -
وجوب الوضوء للصَّلاة، وذلك من ضروريَّات الدِّين.
7 -
أنَّ ما وقع في عهده صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه دلَّ ذلك على جوازه، كما قال جابرٌ رضي الله عنه:«كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَنْهَنَا»
(2)
.
* * * * *
(75)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ رضي الله عنها إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله: إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ قَالَ:«لَا، إنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
(76)
وَلِلْبُخَارِيِّ: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاةٍ» .
وأشار مسلمٌ إلى أنَّه حذفها عمدًا
(4)
.
(1)
تقدَّم برقم (68).
(2)
رواه مسلمٌ (1440)، وأصله في البخاريِّ (5209).
(3)
البخاريُّ (228)، ومسلمٌ (333).
(4)
قال مسلمٌ (1/ 151): وفي حديث حماد بن زيدٍ زيادة حرفٍ تركنا ذكره. قيل: إنَّ هذه الزيادة موقوفةٌ من قول عروة بن الزبير رضي الله عنه، وردَّ ذلك الحافظ ابن حجرٍ في «الفتح» (1/ 409)، ورجَّح رفعها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
* * *
الحديث أصلٌ في حكم المستحاضة.
وفيه فوائد، منها:
1 -
وقوع الاستحاضة في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعدد النِّساء اللَّاتي استحضن نحوٌ من عشرٍ، منهنَّ: فاطمة بنت أبي حبيشٍ، وزينب وأمُّ حبيبة وحمنة بنات جحشٍ
(1)
رضي الله عنهن.
2 -
أنَّ المستحاضة تتحيَّض بعض الزَّمان باعتباراتٍ مختلفةٍ يختلف أهل العلم في أولويَّاتها، وهي: العادة، و صفة الدَّم، و غالب الحيض، وينبني على ذلك معرفة إقبال الحيض وإدباره.
3 -
الفرق بين الحيض والاستحاضة في الحكم، فالحيض يمنع من الصَّلاة، والاستحاضة لا تمنع من الصَّلاة ولا غيرها.
4 -
الفرق بين دم الحيض ودم الاستحاضة في مخرجهما من الرَّحم، فدم الاستحاضة من عرقٍ يسمِّيه الفقهاء: العاذل، ودم الحيض يقول الفقهاء: إنَّه يخرج من قعر الرَّحم، فدم الحيض دم طبيعةٍ وجبلَّةٍ، ودم الاستحاضة من علَّةٍ.
5 -
وجوب غسل الدَّم عند إدبار الحيضة، وهو انقضاؤها.
6 -
نجاسة دم الحيض.
7 -
وجوب الطَّهارة من النَّجاسة للصَّلاة، وأمَّا وجوب الغسل من الحيضة فيستفاد من غير هذا الحديث.
8 -
وجوب الوضوء على المستحاضة لكلِّ صلاةٍ، ولهذا أورد المصنِّف هذا الحديث في باب نواقض الوضوء.
(1)
ينظر: «فتح الباري» (1/ 491).
9 -
أنَّ دم الاستحاضة ناقضٌ للوضوء، لكن تباح الصَّلاة بالوضوء لكلِّ صلاةٍ، وهذا مذهب الجمهور، لهذه الرِّواية عند البخاريِّ:«ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» ولم يرها مسلمٌ ثابتةً، فلم يروها، بل ذكر أنَّه تركها. ولهذا قال الحافظ:«وأشار مسلمٌ إلى أنَّه حذفها عمدًا» ، وقد اختلف الرُّواة فيها اختلافًا كثيرًا في رفعها ووقفها على عروة رضي الله عنه، ومع ذلك أثبتها الإمام البخاريُّ وحسبك به، فمن لم تثبت عنده لا يرى وجوب الوضوء على المستحاضة لكلِّ صلاةٍ، ولا يكون خروج دم الاستحاضة عنده ناقضًا، وهو مذهب المالكيَّة
(1)
.
10 -
أنَّ أحكام الحيض والاستحاضة من أمور الدِّين الَّتي يجب تعلُّمها وتعليمها، وقد جاء بعض ذلك في القرآن، ففي هذا الحديث وغيره من النُّصوص ردٌّ على من يهوِّن من شأن العلم بهذه الأحكام.
11 -
فضل نساء الصَّحابة وسؤالهنَّ عمَّا أشكل من مسائل الدِّين حتَّى ما يستحيا من ذكره، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:«نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأنْصَارِ؛ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُنَّ الحَيَاءُ أنْ يَتَفَقَّهْنَ في الدِّينِ»
(2)
.
12 -
أنَّ المتقرِّر عند نساء الصَّحابة أنَّ خروج الدَّم يمنع من الصَّلاة، فبيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الفرق بين دم الحيض والاستحاضة.
13 -
أنَّ صوت المرأة ليس بعورةٍ.
14 -
ذكر ما يستحيا منه ممَّا يستقذر للحاجة.
* * * * *
(1)
ينظر: «الأوسط» لابن المنذر (1/ 166)، «مواهب الجليل، في شرح مختصر خليل» (1/ 423)، «فتح الباري» (1/ 488).
(2)
رواه مسلمٌ (332). وذكره البخاريُّ تعليقًا (1/ 60).
(77)
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:«فِيهِ الْوُضُوءُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
(1)
.
* * *
الحديث أصلٌ في حكم المذي، وهو ماءٌ رقيقٌ يخرج بعد تحرُّك الشَّهوة.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
وجوب الوضوء من خروج المذي.
2 -
أنَّ المذي لا يوجب الغسل، بل الَّذي يوجبه خروج المنيِّ، وهو ماءٌ أبيض غليظٌ يخرج دفقًا بلذَّةٍ، إلَّا أن يكون من احتلامٍ، فلا يعتبر فيه الدَّفق واللَّذَّة.
3 -
غسل الأنثيين والذَّكر من المذي، كما جاء في رواياتٍ لهذا الحديث عند مسلمٍ وغيره؛ كقوله:«يَغْسِلُ ذَكَرَهُ، وَيَتَوَضَّأُ»
(2)
، وقوله:«تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ»
(3)
، وقوله:«يَغْسِلْ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ»
(4)
.
4 -
أنَّه لا يجزئ في التَّطهير من المذي إلَّا الغسل دون الاستجمار، كما تفيده روايات الحديث.
5 -
نجاسة المذي، لكنَّها نجاسةٌ مخفَّفةٌ.
6 -
إخبار الإنسان عن نفسه بما يستحيا منه للحاجة.
7 -
الاستنابة في السُّؤال مع حضور السَّائل أو غيبته.
(1)
البخاريُّ (132)، ومسلمٌ (303).
(2)
مسلمٌ (303).
(3)
مسلمٌ (303).
(4)
رواه أحمد (1009)، وأبو داود (208).
8 -
سبب استنابة عليٍّ في السُّؤال عن حكم المذي، وهو حياؤه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنَّه صهره على ابنته، كما صرَّح به في روايةٍ:«فاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أسْأَلَهُ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنِّي»
(1)
.
* * * * *
(78)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
(2)
، وَضَعَّفَهُ البُخَارِيُّ
(3)
.
* * *
هذا الحديث اختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه، والأئمَّة المتقدِّمون على تضعيفه منهم الإمام البخاريُّ، ومن صحَّحه استدلَّ به على أنَّ مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء. وعلى تقدير صحَّته:
فيه فوائد، منها:
1 -
أنَّ مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء، ولو بشهوةٍ؛ لأنَّ تقبيل الزَّوجة لا يكون -في الغالب- إلَّا معها، وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا؛ فقيل:
أوَّلاً: إنَّ مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء مطلقًا، ومن أدلَّتهم هذا الحديث، وحديث عائشة رضي الله عنها اعتراضها بين يدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي من اللَّيل، قالت:«فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِ، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ»
(4)
. ويعضد هذا المذهب البراءة الأصليَّة، فالأصل عدم النَّقض إلَّا بدليلٍ.
ثانيًا: ينقض إن كان بشهوةٍ؛ فإنَّ الشَّهوة مظنَّةٌ لخروج النَّاقض، وهو المسُّ الَّذي يختصُّ بالنِّساء في العادة.
(1)
رواه البخاريُّ (269)، ومسلمٌ (303).
(2)
أحمد (25766).
(3)
ينظر: «علل الترمذيِّ» (1/ 50).
(4)
رواه البخاريُّ (382)، ومسلمٌ (512).
ثالثًا: ينقض مسُّ المرأة مطلقًا؛ لقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاء} [النساء: 43]، وقرئ:{أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاء}
(1)
، فظاهره أنَّ مطلق اللَّمس موجبٌ للطَّهارة، وهذا أقوى ما استدلَّ به أصحاب هذا المذهب، كما أنَّه دليل القول الثَّاني، لكنَّهم خصُّوه بما كان لشهوةٍ.
وأجاب الأوَّلون عن الآية بأنَّ اللَّمس أو الملامسة كنايةٌ عن الجماع، كما هي سنَّة القرآن في الكناية عنه بالمسِّ والمباشرة والدُّخول والإفضاء والإتيان. والصَّواب -إن شاء الله- هو القول الأوَّل.
2 -
جواز تقبيل الرَّجل زوجته ولو عند الخروج إلى الصَّلاة إذا أمن ما ينقض الوضوء من منيٍّ أو مذيٍ.
3 -
الكناية عمَّا يستحيا من ذكره في إخبار الإنسان عن نفسه، لقولها:«بعض نسائه» ، وعائشة رضي الله عنها تعني نفسها، كما جاء في الرِّواية حين سألها عروة.
4 -
أنَّ الاستمتاع بالزَّوجة لا ينافي كمال العبوديَّة، وشواهد هذا من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ؛ لأنَّ ذلك من مقتضيات البشريَّة والتَّعبُّد بترك ذلك بدعةٌ أنكرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:«وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»
(2)
.
5 -
حُسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع أهله.
* * * * *
(79)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ؛ أَخَرَجَ منْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(3)
.
(1)
{لَمَسْتُم} بغير ألفٍ قرأ بها حمزة والكسائيُّ من السبعة. ينظر: «السبعة» لابن مجاهدٍ (234).
(2)
رواه البخاريُّ (5063)، ومسلمٌ (1401) عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.
(3)
مسلمٌ (362).
* * *
الحديث أصلٌ في اطِّراح الشَّكِّ والبناء على اليقين.
وفيه فوائد، منها:
1 -
أنَّ من تيقَّن الطَّهارة وشكَّ في الحدث فإنَّه يبني على ما تيقَّن.
2 -
أنَّه لا فرق بين الشَّكِّ في الحدث في الصَّلاة أو خارج الصَّلاة وهذا قول الجمهور من العلماء.
وفرَّق بعضهم
(1)
فقال: إذا كان الشَّكُّ في الحدث خارج الصَّلاة استأنف الطَّهارة؛ لأنَّ حديث عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه في «الصَّحيحين» فيه ذكر الشَّكِّ في الحدث في الصَّلاة، ولفظه: شكي إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم الرَّجل يخيَّل إليه أنَّه يجد الشَّيء في الصَّلاة. قال: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»
(2)
.
والصَّواب: ما ذهب إليه الجمهور لإطلاق حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأنَّ التَّقييد في الصَّلاة لا مفهوم له، كما أنَّ ذكر المسجد في حديث أبي هريرة لا مفهوم له بالاتِّفاق.
3 -
أنَّ الشَّكَّ لا يرفع اليقين في جميع العبادات والمعاملات.
وهذه قاعدةٌ كبيرةٌ اتَّفق عليها العلماء في الجملة، ومن فروع هذه القاعدة: أنَّ من تيقَّن الحدث وشكَّ في الطَّهارة فهو محدثٌ، ومن تيقَّن نجاسة ثوبٍ أو بقعةٍ وشكَّ في تطهيرها فهي نجسةٌ. ومن شكَّ في نجاسة ثوبٍ أو بقعةٍ فهو طاهرٌ؛ لأنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة، ومن شكَّ في أداء الصَّلاة المفروضة، لم يبرأ إلَّا أن يصلِّيها؛ لأنَّ وجوبها متيقَّنٌ وأداءها مشكوكٌ فيه، ومن ادَّعى على
(1)
هذا القول منسوبٌ إلى الإمام مالكٍ، ولكن قال ابن حجرٍ:«ورواية التفصيل لم تثبت عنه وإنَّما هي لأصحابه» . «فتح الباري» (1/ 287).
(2)
رواه البخاريُّ (137)، ومسلمٌ (361).
غيره دينًا بلا بيِّنةٍ فالأصل براءة ذمَّته، ومن ثبت له دينٌ على آخر وادَّعى وفاءً بلا بيِّنةٍ فالأصل ثبوت الدَّين، وأمثلة هذه القاعدة كثيرةٌ لا حصر لها.
4 -
أنَّ اليقين يرتفع باليقين الطَّارئ عليه؛ لقوله: «يَسْمَعَ صَوْتًا» .
5 -
يسر الشَّريعة ورفع الحرج عن أهلها، فإنَّ في اعتباره الشَّكَّ حرجًا عظيمًا. وهذا كلُّه لا يمنع من الورع والاحتياط بترك ما فيه شبهةٌ ما لم يبلغ حدَّ الوسواس والحرج وكثرة الشُّكوك، أو يؤدِّي إلى مخالفة دليلٍ صحيحٍ، ويدلُّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمَّا وجد تمرةً ساقطةً:«لَوْلَا أنِّي أخَافُ أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَة لأَكَلْتُهَا»
(1)
.
6 -
أنَّ ما خرج مخرج الغالب لا يوجب تقييدًا، فيقين الحدث لا يتوقَّف على سماع الصَّوت والرِّيح، فمتى وجد غير الصَّوت والرِّيح وتحقِّق منه؛ وجب اعتباره.
7 -
أنَّ الرِّيح الخارجة من الدُّبر من نواقض الوضوء.
8 -
تحريم الانصراف من الصَّلاة لمجرَّد الشَّكِّ في الحدث.
9 -
أنَّ اعتماد ما جاء في هذين الحديثين -من اطِّراح الشَّكِّ- أعظم علاجٍ للوسواس.
* * * * *
(80)
وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: مَسِسْتُ ذَكَرِي، أَوْ قَالَ: الرَّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلاةِ، أَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا، إنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ» . أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(2)
. وَقَالَ ابْنُ المَدِينِيِّ: هُوَ أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِ بُسْرَةَ.
(1)
رواه البخاريُّ (2431)، ومسلمٌ (1071) عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.
(2)
أبو داود (182)، والترمذيُّ (85)، والنسائيُّ (165)، وابن ماجه (483)، وأحمد (16286)، وابن حبان (1119).
(81)
وَعَنْ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» . أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ
(1)
. وَقَالَ البُخَارِيُّ: هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا البَابِ.
* * *
هذان الحديثان يتعلَّقان بحكم الوضوء من مسِّ الذَّكر، والحديثان في حكمهما اختلافٌ، والأقرب: أنَّهما من نوع الحسن، وظاهرهما التَّعارض، فحديث طلقٍ يدلُّ على أنَّ مسَّ الذَّكر لا يوجب الوضوء، وحديث بسرة فيه أمر من مسَّ ذكره بالوضوء، ولهذا اختلف العلماء في انتقاض الوضوء بمسِّ الذَّكر على مذاهب:
1 -
أنَّ مسَّ الذَّكر لا ينقض الوضوء ترجيحًا لحديث طلقٍ على حديث بسرة رضي الله عنهم أو جمعًا بينهما بحمل حديث بسرة على استحباب الوضوء.
2 -
أنَّ مسَّ الذَّكر ينقض الوضوء، بل مسُّ الفرج قبلاً كان أو دبرًا ينقض الوضوء، كما جاء في حديث:«أَيُّمَا رَجُلٍ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَأَيُّمَا اِمْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ»
(2)
، وأجيب عن حديث طلقٍ رضي الله عنه بأنَّه منسوخٌ؛ لأنَّه:
أَوَّلاً: مُبقٍ على البراءة الأصليَّة، وحديث بسرة رضي الله عنها ناقلٌ.
ثَانِيًا: ذكروا أنَّ طلقًا رضي الله عنه قدم على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في أوَّل الهجرة، وقت بناء مسجده عليه الصلاة والسلام
(3)
.
(1)
أبو داود (181)، والترمذيُّ (82)، والنسائيُّ (163)، وابن ماجه (479)، ومالكٌ (100)، وأحمد (27293)، وابن حبان (1112).
(2)
رواه أحمد (7076)، والدارقطنيُّ (534) عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه. وصحَّحه البخاريُّ. ينظر:«العلل الكبرى» للترمذيِّ (55).
(3)
ذكره ابن حبان في «صحيحه» (3/ 404)، وينظر:«نصب الراية» (1/ 62).
وأجاب بعضهم بالجمع بين الحديثين، وذلك بحمل حديث بسرة على ما إذا كان المسُّ بشهوةٍ، وحديث طلقٍ على ما لم يكن بشهوةٍ، أو بحمل حديث بسرة على الاستحباب وحديث طلقٍ على نفي الوجوب.
فتبين أن في حكم الوضوء من مس الذكر قولين:
1 -
الوجوب.
2 -
الاستحباب.
وبين القائلين بالوجوب اختلافاتٌ؛ فمنهم: من قيَّد الوجوب بالمسِّ بشهوةٍ، ومنهم: من قيَّده بتعمُّد ذلك، ومنهم: من أطلق.
واختار شيخ الإسلام التَّوسُّط، وهو أنَّ الوضوء مستحبٌّ
(1)
.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
أنَّه لا يجب الوضوء من مسِّ الذَّكر؛ لحديث طلق.
2 -
تعليل ذلك بأنَّ الذَّكر كغيره من أعضاء الإنسان.
3 -
أنَّ مسَّ أيِّ موضعٍ من البدن لا ينقض الوضوء.
4 -
تعليل الأحكام الشَّرعيَّة؛ لقوله: «إنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ» .
5 -
حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم ببيان الحكم مع دليله.
6 -
أنَّ مسَّ الذَّكر موجبٌ للوضوء؛ لأنَّ الأصل في الأمر الوجوب فيكون ناقضًا للوضوء، ومن حمل الأمر على الاستحباب فعنده أنَّه غير ناقضٍ، وحمل الأمر على الوجوب أظهر؛ لأنَّه الأصل، ولاعتضاد حديث بسرة رضي الله عنه بشواهد من الحديث
(2)
بخلاف حديث طلقٍ رضي الله عنه فلا شواهد له.
* * * * *
(1)
«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/ 241)، و «الفتاوى الكبرى» (5/ 306).
(2)
جاءت هذه الشواهد عن سبعة عشر صحابيًّا، تنظر في:«نصب الراية» (1/ 54)، و «التلخيص الحبير» (1/ 213).
(82)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ، أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلْسٌ، أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لا يَتَكَلَّمُ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه
(1)
، وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ
(2)
.
* * *
الحديث استدُلَّ به على نقض الوضوء بالخارج النَّجس من البدن؛ كالدَّم والقيء، ولكنَّ الحديث ضعيفٌ ومعارضٌ بما هو أرجح منه.
وفيه على تقدير الاحتجاج به فوائد، منها:
1 -
أنَّ القيء ناقضٌ للوضوء، وإلى هذا ذهب كثيرٌ من العلماء، وعضدوا ذلك بحديث ثوبان:«أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قاء فتوضَّأ»
(3)
، ولكنَّه حديثٌ مختلفٌ في لفظه.
2 -
وذهب آخرون من العلماء إلى أنَّ القيء لا ينقض الوضوء؛ لعدم الدَّليل النَّاهض في ذلك.
3 -
نجاسة القيء.
4 -
أنَّ القلس ناقضٌ للوضوء، والقلس: ما كان من القيء ملء الفم أو دونه.
5 -
أنَّه لا يشترط في النَّقض بالقيء أن يكون كثيرًا، واشترط بعضهم ذلك.
(1)
ابن ماجه (1221).
(2)
ينظر: «التلخيص الحبير» (431)، و «المجموع» للنووي (4/ 4).
(3)
رواه الترمذي (87) بهذا اللفظ وفي بعض نسخه بلفظ: «قاء فأفطر فتوضأ» ، وهو عند أحمد (21701)، وأبو داود (2381)، والنسائي (3107)، بلفظ:«قاء فأفطر» .
6 -
أنَّ خروج الدَّم ناقضٌ للوضوء قليلاً كان أو كثيرًا، والخلاف فيه كالخلاف في القيء، واستدلَّ لعدم النَّقض بالدَّم بما سيأتي من أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وصلَّى، ولم يتوضَّأ
(1)
، وهو أجود من هذا الحديث، وأظهر من ذلك أنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم كانت تصيبهم الجراح في الجهاد ولم ينقل أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا بالوضوء، مع عموم البلوى بذلك
(2)
.
فالصَّواب: أنَّ خروج الدَّم والقيء لا ينقض الوضوء، لكن يغسل ما أصاب الثَّوب والبدن منهما، ويعفى عن اليسير؛ لأنَّ الجمهور على أنَّ القيء والدَّم نجسان، بل حكي الإجماع على نجاسة الدَّم، وهذا كلُّه فيما خرج من غير السَّبيلين.
7 -
أنَّ المذي ناقضٌ للوضوء، وهذا متَّفقٌ عليه؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه المتقدِّم
(3)
.
8 -
أنَّ من سبقه الحدث
(4)
في الصَّلاة ينصرف ويتوضَّأ، ثمَّ يعود ويبني على صلاته، ولا يتكلَّم حال انصرافه، وقال بذلك قومٌ لهذا الحديث؛ ولكنَّه لا يصلح دليلاً، ويعارضه في هذا الحكم حديث عليِّ بن طلقٍ الآتي في شروط الصَّلاة
(5)
، ولفظه:«إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ» .
(1)
رواه الدارقطني (580)، وضعفه المصنف. وسيأتي برقم (87).
(2)
جاء ذلك عن الحسن البصري فيما رواه البخاري عنه معلقًا (1/ 76)، ولفظه:«مَا زَالَ المُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ في جِرَاحاتِهِم» ، قال الحافظ في «الفتح» (1/ 337):«وصله سعيد بن منصور وابن المنذر بإسناد صحيح» .
(3)
تقدم برقم (77).
(4)
أي: غلبه من غير قصد.
(5)
سيأتي برقم (225).
وجمهور العلماء على ما دلَّ عليه حديث عليِّ بن طلقٍ، وهو أنَّ المحدث في الصَّلاة لا يبني على ما مضى من صلاته، لكن صحَّ عن ابن عمر رضي الله عنهم أنَّه إذا رعف في الصَّلاة انصرف وتوضَّأ وبنى على صلاته
(1)
، ولعلَّ هذا عنده في الرُّعاف خاصَّةً، لا في أيِّ حدثٍ.
* * * * *
(83)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ» ، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإبِلِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
الحديث أصلٌ في وجوب الوضوء من لحم الإبل دون لحم الغنم وغيرها، وفي معناه حديث البراء بن عازبٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: سئل عن الوضوء من لحم الإبل فقال: «تَوَضَّؤُوا مِنْهَا» ، وسئل عن الوضوء من لحوم الغنم فقال:«لَا تَتَوَضَّؤُوا مِنْهَا»
(3)
.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل، وقد قال بذلك الإمام أحمد وجماعةٌ، وعلَّق الشَّافعيُّ القول بالحديث على صحَّته
(4)
، والحديث صحيحٌ، بل الحديثان، وعلى هذا فأكل لحم الإبل ناقضٌ للوضوء.
(1)
رواه مالك في «الموطأ» (1/ 38)، وصححه ابن حجر. ينظر:«الدراية في تخريج أحاديث الهداية» (1/ 32).
(2)
مسلم (360).
(3)
رواه أبو داود (184)، والترمذي وصححه (81)، وابن ماجه (494)، وأحمد (18538). وقال النووي:«قال الإمام أحمد وغيره: هو صحيح» . «خلاصة الأحكام» (276).
(4)
ينظر: «المجموع» للنووي (2/ 59، 60).
2 -
وذهب الجمهور من العلماء إلى عدم النَّقض بلحم الإبل، فلا يجب الوضوء منه، وتأوَّلوا الحكم في الحديثين أنَّه من قبيل الوضوء ممَّا مسَّت النَّار، وهو منسوخٌ بحديث جابرٍ رضي الله عنه قال:«كان آخِرَ الأمرَيْنِ مِنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكُ الوضوءِ ممَّا مسَّتِ النَّارُ»
(1)
.
والصَّحيح في هذه المسألة: أنَّ المنسوخ هو وجوب الوضوء ممَّا مسَّت النَّار.
3 -
وجوب الوضوء من لحم الإبل سواءٌ أكان نيئًا أم مطبوخًا للإطلاق في الحديث، وبهذا يردُّ على من حمله على ما مسَّته النَّار.
4 -
أنَّ الشَّحم والكرش كاللَّحم في نقض الوضوء؛ لأنَّه يعبَّر باللَّحم إذا أضيف إلى الحيوان عن جميع أجزائه، كما قال تعالى:{وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ} [البقرة: 173]، وأكثر القائلين بوجوب الوضوء خصُّوه باللَّحم دون سائر الأجزاء، والأوَّل أظهر.
واعلم أنَّ القائلين بوجوب الوضوء من لحم الإبل اختلفوا في مرق لحمها وألبانها، والأحوط الوضوء منهما.
5 -
أنَّه لا يجب الوضوء من سائر اللُّحوم؛ لقوله في الحديث: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ» ، وهذا يدلُّ على فساد حمل الحديث على ما مسَّت النَّار؛ لأنَّه لو كان الأمر كذلك لما فرَّق بين الإبل والغنم.
6 -
أنَّ في لحم الإبل ما يقتضي الوضوء منه دون لحم الغنم؛ لأنَّ الشَّريعة لا تفرِّق بين المتماثلات، وقد قيل في حكمة الوضوء من لحم الإبل: إنَّها شرسة الأخلاق ففيها شيطنةٌ، وجاءت آثارٌ تشير إلى ذلك. ويشهد للفرق
(1)
رواه أبو داود (192)، والنسائي (185) وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (2/ 412)، وحسَّنه ابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (2/ 273).
بين الإبل وغيرها والأمر بالوضوء من لحمها النَّهي عن الصَّلاة في أعطانها، فالوضوء من لحم الإبل يمنع من التَّأثُّر بأخلاقها.
* * * * *
(84)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
(1)
، وَقَالَ أَحْمَدُ: لا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ
(2)
.
* * *
الحديث استدلَّ به على حكم الغسل من تغسيل الميِّت والوضوء من حمله، ولذلك أورده المؤلِّف في نواقض الوضوء ولكنَّ الحديث كما قال أحمد:«لا يصحُّ في هذا الباب شيءٌ» .
وفي الحديث -على تقدير الاحتجاج به- فوائد، منها:
1 -
الأمر بالغسل من تغسيل الميِّت.
واختلف العلماء في حكم هذا الغسل:
فقيل: إنَّه واجبٌ لهذا الحديث.
وقيل: إنَّه مستحبٌّ لهذا الحديث مع غيره؛ كحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربعٍ» قالت: «ومن غسل الميِّت»
(3)
، ولخبر أسماء بنت عميسٍ رضي الله عنهم امرأة أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه؛ أنَّها غسَّلت أبا بكرٍ حين توفِّي، فخرجت فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت:«إنِّي صائمةٌ وإنَّ هذا يومٌ شديد البرد، فهل عليَّ من غسلٍ؟ قالوا: لا»
(4)
.
(1)
أحمد (9862)، والترمذي (993) ولم أجده عند النسائي.
(2)
ينظر: «العلل» للترمذي (245).
(3)
رواه أبو داود (348)، وابن خزيمة (256)، وسيأتي برقم (123).
(4)
رواه مالك في «الموطأ» (593) وضعفه الألباني لانقطاعه. ينظر: «تمام المنة» (121).
وقيل: لا يشرع الغسل؛ إذ لم يقم عليه دليلٌ.
والأحاديث في ذلك لم يصحَّ منها شيءٌ، كما قال الإمام أحمد وعلي بن المديني
(1)
، ورجَّح شيخنا ابن باز رحمه الله صحة حديث عائشة رضي الله عنها كما سيأتي، وعلى هذا فالرَّاجح هو: القول بالاستحباب لمجموع الأحاديث والآثار. ومن ذلك ما رواه البيهقيُّ عن ابن عمر رضي الله عنهم أنَّه قال: «كنَّا نغسِّل الميِّت فمنَّا من يغتسل ومنَّا من لا يغتسل»
(2)
.
وممَّا يدلُّ على عدم وجوب الغسل ولا الوضوء حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ فِي غَسْلِ مَيِّتِكُمْ غُسْلٌ؛ إنَّهُ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ طَاهِرٌ، فَحَسْبُكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ»
(3)
.
2 -
أمر من حمل الميِّت بالوضوء.
ولم يحفظ القول به عن أحدٍ من العلماء إلَّا ابن حزمٍ بناءً على تصحيحه لحديث الباب
(4)
، ولكنَّ الحديث ضعيفٌ، ولم يرد له في هذا الحكم ما يعضده، ولا تظهر له مناسبةٌ شرعيَّةٌ.
وفي وجوب الوضوء على كلِّ من حمل الميِّت حرجٌ ظاهرٌ، وإذا كان من غسَّل الميِّت لا يجب عليه الوضوء فمن باب أولى ألَّا يجب على من حمله، بل نقول: لا يستحبُّ الوضوء من حمل الميِّت؛ لعدم الدَّليل النَّاهض على ذلك، والعبادات توقيفيَّةٌ، والحديث لا يصلح حجَّةً على ذلك، والله أعلم.
(1)
«التلخيص الحبير» (1/ 136).
(2)
رواه البيهقي في «الكبرى» (1466)، والدارقطني (1820). وصحح إسناده ابن حجر. ينظر:«التلخيص الحبير» (2/ 239).
(3)
رواه البيهقي في «الكبرى» (1461)، والدارقطني (1839)، وصححه الحاكم (1427)، وقال المصنف:«إسناده حسن» . «التلخيص الحبير» (1/ 239).
(4)
ينظر: «المحلى» (2/ 23).
ولهذا لا نحتاج إلى تأويله كما تأوَّله بعضهم بأنَّ المراد: فليكن على وضوءٍ ليتهيَّأ له الصَّلاة على الميِّت.
* * * * *
(85)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رحمه الله؛ أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ؛ أَنْ «لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ» . رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلاً، وَوَصَلَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ مَعْلُولٌ
(1)
.
* * *
هذا الحديث استدلَّ به على تحريم مسِّ المحدث للقرآن (أي: المصحف)، والحديث جاء مرسلاً؛ أي: منقطعًا، كما رواه مالكٌ، فقد سقط من إسناده اثنان أبو بكرٍ وأبوه مُحمَّد بن عمرٍو.
ووصله النَّسائيُّ والبيهقيُّ فعندهما عن عبد الله بن أبي بكر بن مُحمَّد بن عمرو بن حزمٍ عن أبيه عن جدِّه، ولكنَّ الموصول معلولٌ كما قال الحافظ، فإنَّ الصَّواب: أنَّه من رواية سليمان بن أرقم وهو ضعيفٌ عند المحدِّثين، لا سليمان بن داود كما ظنَّه بعضهم.
ولكنَّ الحديث له شواهد، وتعضده فتاوى الصَّحابة رضي الله عنهم، فيرتقي بذلك إلى درجة الحسن لغيره
(2)
.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّه لا يمسُّ القرآن إلَّا طاهرٌ؛ أي: متوضِّئٌ. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، استدلالاً بهذا الحديث وما له من الشَّواهد.
(1)
مالك في «الموطأ» (680)، والنسائي (4853)، وابن حبان (6559).
(2)
قال شيخ الإسلام: «قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه له؛ -يعني: كتاب عمرو بن حزم- وهو أيضًا قول سلمان الفارسي وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وغيرهما. ولا يعلم لهما من الصحابة مخالف» . «مجموع الفتاوى» (21/ 152).
وليس من الأدلَّة في هذه المسألة قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون (79)} [الواقعة: 79]، فإنَّ الصَّواب: أنَّ المراد بالكتاب المكنون: اللَّوح المحفوظ، وب {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون (79)}: الملائكة، كما حقَّق ذلك العلَّامة ابن القيِّم في كتابه «أقسام القرآن»
(1)
، لكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذه الآية تدل على هذا الحكم بطريق التنبيه والإشارة.
وذهب آخرون إلى جواز مسِّ المحدث للمصحف؛ بناءً على ضعف الحديث عندهم، وتأوَّلوه -على تقدير صلاحيته للاستدلال- على المسلم، وقالوا: لا يمسُّه إلَّا طاهرٌ؛ أي: مسلمٌ.
وهذا التَّأويل خلاف العرف الشَّرعيِّ في معنى الطَّاهر، فالصَّواب: تحريم مسِّ المحدث للمصحف.
2 -
تسمية المصحف قرآنًا، وهو من التَّعبير بالحالِّ عن المحلِّ، فإنَّ المصحف ليس كغيره من كتب العلم في الحرمة.
3 -
أنَّ من احترام المصحف ألَّا يمسَّه المسلم إلَّا على طهارةٍ.
4 -
تحريم الدُّخول بالمصحف في الأماكن المستقذرة؛ كالحشِّ ونحوه، وكذا وضعه في الأماكن النَّجسة.
5 -
تحريم كلِّ ما يشعر بامتهان المصحف؛ كإلقائه، أمَّا تعمُّد إلقائه في الحشِّ فكفرٌ، وليس المعوَّل في هذه المسائل على هذا الحديث وحده.
6 -
تحريم مسِّ الجنب للمصحف من باب أولى.
7 -
جواز كتابة الحديث.
8 -
بعث الدُّعاة إلى الله.
* * * * *
(1)
«التبيان في أقسام القرآن» (355).
(86)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
الحديث استدلَّ به على جواز ذكر الله للمحدث، وأنَّه لا يشترط له الوضوء.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استحباب الذِّكر على كلِّ حالٍ، وفي كلِّ حينٍ.
2 -
أنَّ مطلق الذِّكر لا تشترط له الطَّهارة، لكن تستحبُّ؛ لحديث تيمُّمه صلى الله عليه وسلم لردِّ السَّلام
(2)
، وقوله:«إنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ»
(3)
.
3 -
جواز قراءة القرآن للمحدث حدثًا أصغر من غير أن يمسَّ المصحف، أمَّا الجنب فلا يقرأ القرآن؛ لحديث عليٍّ رضي الله عنه:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنبًا»
(4)
. وفي روايةٍ: «لا يحجبه عن القرآن شيءٌ ليس الجنابة»
(5)
. وإلى هذا ذهب جمهور العلماء.
(1)
مسلم (373)، والبخاري في كتاب: الحيض، باب:«تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف» (1/ 115).
(2)
وهذا فيما رواه البخاري (330)، ومسلم (369) عن أبي الجهيم الحارث بن الصمة الأنصاري رضي الله عنه ونصه:«أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام» .
(3)
رواه أحمد (19034)، وأبو داود (17) عن المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه، وفيه؛ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه وقال:
…
الحديث. صححه الحاكم (592)، والنووي في «الأذكار» (22).
(4)
رواه أبو داود (229)، والترمذي (146)، والنسائي (265)، وابن ماجه (594)، وأحمد (627)، وابن حبان (799). وسيأتي (127).
(5)
رواه أبو داود (229)، والنسائي (265). وحسنه المصنف في «فتح الباري» (1/ 408).
وذهب آخرون إلى جواز قراءة الجنب للقرآن، وقالوا: إنَّ التَّرك لا يدلُّ على التَّحريم، كما لا يدلُّ الفعل على الوجوب، وأمَّا الحائض ففي قراءتها للقرآن قولان:
أَحَدُهُمَا: أنَّها كالجنب، وقد رُوي في ذلك حديث:«لَا تَقْرَأِ الْحَائِضُ ولا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ» لكنَّه ضعيفٌ
(1)
.
الثَّانِي: أنَّها ليست كالجنب، فيجوز لها أن تقرأ القرآن، وقالوا: لا يصحُّ قياس الحائض على الجنب؛ لأنَّ مدَّة الحيض تطول؛ فإنَّها لا يمكنها التَّطهُّر بخلاف الجنب.
4 -
استحباب كثرة الذِّكر، وقد قال تعالى:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35].
5 -
أنَّ من هدي الرَّسول صلى الله عليه وسلم كثرة الذِّكر، واستثني من هذا: الذِّكر باللِّسان حال الجماع وحال قضاء الحاجة.
* * * * *
(87)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَلَيَّنَهُ
(2)
.
* * *
تقدَّم ما يتعلَّق به عند الكلام على حديث عائشة رضي الله عنهم: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلْسٌ»
(3)
.
(1)
رواه الترمذي (131)، وابن ماجه (595) عن ابن عمر رضي الله عنهم. قال الإمام أحمد:«باطل» . ينظر: «تهذيب التهذيب» (1/ 283)، وضعفه المصنف في «التلخيص الحبير» (183).
(2)
الدارقطني (580)، وضعفه المصنف. ينظر:«التلخيص الحبير» (1/ 202).
(3)
تقدم برقم (82).
وفيه فوائد، منها:
1 -
جواز الحجامة.
2 -
أنَّ خروج الدَّم لا ينقض الوضوء ولو كان كثيرًا، فلا يجب الوضوء من الحجامة، وأمَّا حديث أبي الدَّرداء رضي الله عنه:«أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضَّأ»
(1)
فغايته أن يدلَّ على استحباب الوضوء.
3 -
أنَّ الحجامة دواءٌ.
4 -
جواز التَّداوي.
* * * * *
(88)
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَزَادَ:«وَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ»
(2)
.
(89)
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه دُونَ قَوْلِهِ: «اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» . وَفِي كِلَا الإسْنَادَيْنِ ضَعْفٌ
(3)
.
(90)
وَلأَبِي دَاوُدَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم مَرْفُوعًا: «إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا» . وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ أَيْضًا
(4)
.
* * *
قوله: «وِكَاءُ السَّه» : السَّه حلقة الدُّبر، وعبَّر بالعين عن اليقظة، وشبَّه حال اليقظة بالوكاء الَّذي يربط به السِّقاء ونحوه، فيمنع خروج ما فيه. وأيَّد هذا التَّشبيه بقوله:«فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» .
(1)
تقدم تحت رقم (82).
(2)
أحمد (16879)، والطبراني «المعجم الكبير» (875).
(3)
أبو داود (203)، وابن ماجه (477)، ينظر:«التلخيص الحبير» (159).
(4)
أبو داود (202)، وقال:«هو حديث منكر» .
وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفةً -على ما ذكر الحافظ- فقد استدلَّ بها بعض العلماء على أنَّ النَّوم ناقضٌ للوضوء، من حيث إنَّه مظنَّةٌ للحدث، ولهذا قال:«فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ» .
وتقدَّمت الإشارة إلى مذاهب العلماء في نقض الوضوء بالنَّوم، وأصحُّ ما ورد في هذا حديث صفوان بن عسَّالٍ رضي الله عنه المتقدِّم في باب المسح على الخفَّين
(1)
، وحديث أنسٍ رضي الله عنه وهو أوَّل حديثٍ في باب النَّواقض
(2)
، وتقدَّمت الإشارة إلى مذاهب النَّاس في نقض الوضوء بالنَّوم، وهي ثمانية مذاهب؛ أرجحها: أنَّ النَّوم من الجالس المتمكِّن لا ينقض الوضوء، وكذا النَّوم اليسير الَّذي لا يفقد الإنسان معه كامل شعوره.
* * * * *
(91)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَأْتِي أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فِي صَلَاتِهِ، فَيَنْفُخُ فِي مَقْعَدَتِهِ فَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ أَحْدَثَ وَلَمْ يُحْدِثْ، فَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» . أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ
(3)
.
وأصله في الصَّحيحين من حديث عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه
(4)
.
(92)
وَلِمُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه نَحْوُهُ
(5)
.
(93)
وَلِلْحَاكِمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: «إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إنَّكَ أَحْدَثْتَ، فَلْيَقُلْ: كَذَبْتَ» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ: «فَلْيَقُلْ فِي نَفْسِهِ»
(6)
.
* * *
(1)
تقدَّم برقم (68).
(2)
تقدَّم برقم (74).
(3)
البزار (281).
(4)
البخاري (137)، ومسلم (361).
(5)
تقدم برقم (79).
(6)
الحاكم (464)، وابن حبان (2665).
هذه الأحاديث تقدَّم الكلام في موضوعها في الكلام على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا
…
» الحديث
(1)
.
وفي هذه الأحاديث من الفوائد زيادةً على ما تقدم:
1 -
إثبات وجود الشَّيطان من الجنِّ، والأدلَّة على ذلك أكثر من أن تحصى وتحصر.
2 -
حرص الشَّيطان على إفساد صلاة العبد.
3 -
تخييله للمصلِّي أنَّه أحدث وهو لم يحدث.
4 -
أنَّ الشَّيطان يجمع في التَّشويش على المصلِّي بين الفعل والقول فينفخ في مقعدته، ويقول له في نفسه: أحدثت.
5 -
أنَّ ما يحسُّ به الإنسان في مخرج الحدث لا يلتفت إليه ما لم يتيقَّن خروج الحدث.
6 -
أنَّ ممَّا يحصل به اليقين سماع الصَّوت، ووجدان الرِّيح، وقد يحصل اليقين بغيرهما.
7 -
استحباب أن يقول المصلِّي للشَّيطان إذا قال له: أحدثت، أن يقول له في نفسه: كذبت.
تنبيهٌ: وكان من المناسب ذكر أحاديث آخر الباب مع ما يناسبها في أوَّله، لكن يظهر من صنيع المؤلِّف أنَّ منهجه: ذكر أصول الباب في أوَّله، ومكمِّلاته في آخره، وهذا بيِّنٌ في هذا الباب وغيره.
* * * * *
(1)
رقم (79).
بَابُ آدَاب قَضَاء الْحَاجَة
الآداب: جمع أدبٍ، والأدب: ما يستحسن من قولٍ أو فعلٍ أو تركٍ.
والمراد به هنا: ما يجب على مريد قضاء الحاجة وما يستحبُّ له حال قضاء الحاجة أو قبله أو بعده.
وورود الشَّريعة بهذه الآداب، وبيان النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لها يدلُّ على أمرين:
1 -
كمال الشَّريعة.
2 -
وأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ البلاغ المبين، وأنَّه دلَّ أمَّته على كلِّ خيرٍ وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، ومن أعظم ذلك أن بيَّن لهم ما يجب عليهم اعتقاده في ربِّهم؛ ممَّا يجب له أو يجوز عليه أو يمتنع عليه.
وقد نبَّه على هذا الاستدلال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في مطلع «العقيدة الحمويَّة» .
* * * * *
(94)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ» . أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَهُوَ مَعْلُولٌ
(1)
.
* * *
الحديث مختلَفٌ في صحَّته
(2)
، ويشهد لصحَّة معناه الأدلَّة على تعظيم ذكر الله، وما فيه ذكر الله، وما له من الحرمة.
(1)
أبو داود (19)، والترمذي (1746)، والنسائي (9470)، وابن ماجه (303). قال أبو داود:«هذا حديث منكر» ، وقال النسائي:«وهذا حديث غير محفوظ» .
(2)
وممن صححه ابن الملقن والمنذري. ينظر: «البدر المنير» (2/ 337).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استحباب إبعاد ما فيه ذكر الله عند إرادة دخول الخلاء، وهو محلُّ قضاء الحاجة.
2 -
أنَّ الخلاء ليس محلًّا لذكر الله.
3 -
كراهية دخول الخلاء بما فيه ذكر الله من خاتمٍ وغيره، كمن نقش خاتمه عبد الله وعبد الرَّحمن، أو نقش خاتمه كلمة التَّوحيد.
وأمَّا القرآن فحرمته أعظم، فدخول الخلاء به أشدُّ كراهةً، وأمَّا المصحف فالقول بتحريم دخول الخلاء به قويٌّ، كلُّ ذلك لأنَّ الخلاء محلٌّ للخبائث الحسِّيَّة والمعنويَّة والأرواح الخبيثة، ولهذا استحبَّ التَّعوُّذ بالله من الخبث والخبائث عند إرادة دخول الخلاء.
وهذه الكراهة أو التَّحريم ما لم يخش الإنسان على ما معه من ذلك من نسيانٍ أو سرقةٍ، وحينئذٍ فلا كراهة ولا تحريم؛ لما في ذلك من الحرج.
4 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان له خاتمٌ، وهذا ثابتٌ في الأحاديث الصَّحيحة، وكان نقشه (مُحمَّدٌ رسول الله)، (مُحمَّدٌ) سطرٌ و (رسول) سطرٌ و (الله) سطرٌ. ومن أجل ما فيه من ذكر الله كان يضعه من يده عند دخول الخلاء، على ما جاء في هذا الحديث.
5 -
جواز لبس الخاتم، ولا يقال: استحباب الخاتم؛ لأنَّ لبسه من الأمور العاديَّة، لا من الأمور التَّعبُّديَّة.
* * * * *
(95)
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» . أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بشرٌ يكون منه قضاء الحاجة، ففيه الرَّدُّ على من جعلوا له صلى الله عليه وسلم بعض خصائص الإلهيَّة.
2 -
افتقار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه في الوقاية من الشُّرور.
3 -
اتِّخاذ مكانٍ في البيت لقضاء الحاجة.
4 -
استحباب هذا الذِّكر عند إرادة دخول الخلاء، وقد جاء في غير الصَّحيحين زيادة «باسم الله»
(2)
قبل هذا الدُّعاء كما في «سنن سعيد بن منصورٍ» وغيرها، وجوَّد الحافظ ابن حجرٍ إسناده
(3)
.
5 -
أنَّ الأماكن الخبيثة تأوي إليها الأرواح الخبيثة، ويدلُّ له حديث زيد بن أرقم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ هَذِهِ الْحُشُوشَ مُحْتَضَرَةٌ»
(4)
.
6 -
أنَّ الشَّياطين من الجنِّ فيهم الذُّكور والإناث.
7 -
أنَّ التَّعوُّذ بالله من أعظم أسباب العصمة من شرِّ كلِّ ذي شرٍّ.
8 -
أنَّ قدرة الله فوق كلِّ شيءٍ، فلا يعصم من جميع الشُّرور إلَّا هو.
* * * * *
(1)
البخاري (142)، ومسلم (375)، وأحمد (11947)، وأبو داود (4)، والترمذي (6)، والنسائي (19)، وابن ماجه (298).
(2)
كما في «شرح عمدة الأحكام» لابن الملقن (1/ 431)، وعزاه أيضًا إلى أبي حاتم وابن السكن ولفظه: «إِذَا دَخَلْتُمُ الخَلَاءَ فَقُولُوا بِاسْمِ اللهِ، أَعُوذُ باللهِ مِنَ الخُبُثِ
…
». وأخرجه الطبراني في «الأوسط» (2803)، وابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 11) لكن من فعله صلى الله عليه وسلم.
(3)
ينظر: «فتح الباري» (1/ 294) وقال: «إسناده على شرط مسلم» .
(4)
رواه أبو داود (6)، وابن ماجه (296)، وأحمد (19331). وصححه ابن الملقن في «الإعلام» (1/ 427)، وصحح النووي إسناده في «خلاصة الأحكام» (1/ 149).
(96)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلَاءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
هذا الحديث أصلٌ في جواز الاستنجاء بالماء، والاستنجاء هو: إزالة النَّجو (وهو الخارج من الإنسان) بالماء أو بالأحجار ونحوها.
وفي الحديث فوائد، منها بعض ما في الحديثين قبله، ومنها:
1 -
فضيلة أنسٍ رضي الله عنه لخدمته النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وفضيلة ذلك الغلام، وقد قيل: إنَّه ابن مسعودٍ رضي الله عنه، ولكن قال الشَّيخ عبد العزيز بن بازٍ:«ليس بشيءٍ؛ فإنَّ ابن مسعودٍ ليس نحو أنسٍ، فهو من المهاجرين ومن الكبار السَّابقين»
(2)
، وقيل: أبو هريرة، وقيل: ابن عبَّاسٍ، وقيل: جابرٌ، ولا ينبني على تعيين الغلام شيءٌ.
2 -
جواز الاستنجاء بالماء، وهو مجمعٌ عليه، وكرهه بعض السَّلف للرِّجال، وقالوا: إنَّما يستنجي بالماء النِّساء
(3)
، وكرهوه؛ لما فيه من مباشرة النَّجاسة باليد، والصَّواب: جوازه للجميع بلا كراهةٍ لثبوته عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولعلَّ من كرهه لم يبلغه الحديث.
3 -
جواز استخدام الأحرار.
4 -
اتِّخاذ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم العنزة، وهي عصًا طويلةٌ، وفي أسفلها زجٌّ أي حديدةٌ، وكانت تنصب أمام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سترةً في المصلَّى ويصلِّي إليها.
5 -
جواز المساعدة في شأن الطَّهارة.
(1)
البخاري (152)، ومسلم (271).
(2)
قاله في «شرح بلوغ المرام» .
(3)
روي ذلك عن سعيد بن المسيب وممن روي عنه كراهة الاستنجاء بالماء ابن عمر وحذيفة وابن الزبير وغيرهم رضي الله عنهم، ينظر:«المصنف» لابن أبي شيبة (2/ 171).
6 -
التَّعاون في الخدمة.
7 -
أنَّ استخدام الأحرار برضاهم لا ينافي التَّواضع.
8 -
استعداد الإنسان بما يحتاج إليه في شؤونه؛ لحمل أنسٍ وصاحبه العنزة مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
* * * * *
(97)
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خُذِ الإِدَاوَةَ» ، فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، فَقَضَى حَاجَتَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استخدام الأحرار، وأنَّ ذلك لا ينافي التَّواضع.
2 -
فضيلة المغيرة رضي الله عنه لخدمته النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم.
3 -
استحباب البعد عن النَّاس والتَّواري عنهم لقضاء الحاجة، وأمَّا ستر العورة عن النَّاس فواجبٌ.
4 -
حاجة المتخلِّي إلى الماء إمَّا للاستنجاء أو للوضوء، وأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المغيرة بحمل الإداوة محتملٌ، والأظهر: أنَّه من أجل الوضوء؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الإداوة معه، وقد انطلق بعيدًا عن المغيرة فيشعر باقتصاره على الأحجار.
5 -
حياؤه صلى الله عليه وسلم وكمال خلقه.
* * * * *
(98)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ؛ الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ ظِلِّهِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(1)
البخاري (363)، ومسلم (274).
(2)
مسلم (269)، وهذا اللفظ لأبي داود، وأما لفظ مسلم «اللَّعَّانين» بصيغة المبالغة.
(99)
وَزَادَ أبو دَاوُدَ عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه: «الْمَوَارِدَ» ، وَلَفْظُهُ:«اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبِرَازُ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ»
(1)
.
(100)
وَلأَحْمَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: «أَوْ نَقْعِ مَاءٍ» . وَفِيهِمَا ضَعْفٌ
(2)
.
(101)
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ: النَّهْيَ عَنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ تَحْتَ الأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ، وَضَفَّةِ النَّهْرِ الْجَارِي. مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ
(3)
.
* * *
هذه الأحاديث وإن كانت ضعيفةً
(4)
-إلَّا الأوَّل منها- فإنَّ معناها تشهد له قواعد الشَّرع ومقاصده.
وفيها فوائد، منها:
1 -
وجوب احترام مرافق المسلمين، وصيانتها عمَّا يؤذيهم.
2 -
تحريم التَّخلِّي في هذه المواضع وما هو في معناها.
3 -
أنَّ ذلك مجلبةٌ للعن من يفعله، وإضافة اللَّعن إلى المكان في قوله:«اللَّاعِنَيْنِ» هو من إضافة الشَّيء إلى سببه أو إلى مكانه، فهو من المجاز العقليِّ؛ لأنَّ التَّخلِّي في الظِّلِّ الَّذي يستظلُّ به النَّاس -ونحوه: كالمتشمَّس والطَّريق- يحمل النَّاس على لعن فاعله.
ويحتمل أن يكون من إسناد اسم الفاعل إلى المفعول، فهو اللَّاعن بمعنى الملعون، فيكون مجازًا عقليًّا علاقته المفعوليَّة، ويتضمَّن مجازًا مرسلاً بالحذف؛ أي: اتَّقوا فعل الملعونين.
4 -
جواز التَّخلِّي في الظِّلِّ الَّذي لا يحتاج إليه النَّاس، وكذا الموضع الَّذي لا يحتاج إليه من الطَّريق الواسع.
(1)
أبو داود (26).
(2)
أحمد (2715).
(3)
الطبراني في «الأوسط» (2392).
(4)
ينظر: «التلخيص الحبير» (132، 135).
5 -
أنَّ التَّخلِّي في مرافق النَّاس ظلمٌ لهم.
6 -
اتِّقاء دعوة المظلوم.
7 -
أنَّ الشَّجر الَّذي لا يحتاج إلى ظلِّه ولا ثمرة له لا ينهى عن التَّخلِّي تحته.
8 -
كمال دين الإسلام بما اشتمل عليه من الآداب في جميع الأحوال.
* * * * *
(102)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَغَوَّطَ الرَّجُلَانِ فَلْيَتَوَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ولا يَتَحَدَّثَا؛ فَإِنَّ اللهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ
(1)
، وَصَحَّحَهُ ابْنُ السَّكَنِ وَابْنُ الْقَطَّانِ، وَهُوَ مَعْلُولٌ
(2)
.
* * *
هذا الحديث مع الاختلاف في صحَّته، وفي لفظه، وفي راويه من الصَّحابة رضي الله عنهم، فإنَّ معناه صحيحٌ في الجملة. وهو يدلُّ على أحكامٍ، منها ما هو ثابتٌ بأدلَّةٍ غير هذا الحديث، ومنها ما تعضده الفطرة وآداب الإسلام العامَّة.
وفيه فوائد، منها:
1 -
وجوب تواري كلٍّ من المتغوِّطين عن صاحبه، والظَّاهر أنَّ المراد: أن يستر كلٌّ منهما عورته عن الآخر، فستر العورة عن الأنظار واجبٌ لقوله صلى الله عليه وسلم:
(1)
لم أجده عنده، لكنه أخرج حديثًا في معناه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (11310) ولفظه:«لَا يَخْرُجِ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الغَائِطَ كَاشِفَانِ عَوْرَتَهُمَا يَتَحَدَّثَانِ، فَإِنَّ اللهَ عز وجل يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ» ، وسيأتي في نهاية فوائد الحديث، ورواه أبو داود (15) أيضًا عن أبي سعيد، وفيه:«كَاشِفَيْنِ» ، وكلاهما صحيح.
(2)
ينظر: «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (2460).
«احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ»
(1)
، وقوله عليه الصلاة والسلام:«لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، ولا الْمَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ»
(2)
.
2 -
تحريم أن ينظر كلٌّ من المتغوِّطين إلى عورة الآخر وأن يكشف عورته بحيث يراه الآخر، ويشتدُّ القبح إذا كانا مع ذلك يتحدَّثان.
3 -
كراهة الكلام حال قضاء الحاجة إلَّا لضرورةٍ أو حاجةٍ، وهذا ما تقتضيه الفطرة وحسن الأدب.
4 -
أنَّ الجمع بين النَّظر إلى العورة والتَّحدُّث عند التَّخلِّي سببٌ لمقت الله، فيقتضي ذلك أنَّ هذه الحال من الكبائر.
5 -
إثبات صفة المقت لله وهو شدَّة البغض، وهو ثابتٌ في القرآن؛ قال تعالى:{لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [غَافِر: 10].
6 -
ويعضد هذا الحديث ما رواه الإمام أحمد بسنده -وإن تكلِّم فيه- عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا يَخْرُجِ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ؛ فَإِنَّ اللهَ عز وجل يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ»
(3)
.
* * * * *
(103)
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمَسَّنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ، ولا يَتَمَسَّحْ مِنَ الْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ، ولا يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
(4)
.
* * *
(1)
رواه أحمد (20034)، وأبو داود (4017)، والترمذي (2769)، وابن ماجه (1920)، عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. قال الترمذي:«هذا حديث حسن» .
(2)
رواه مسلم (338) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
تقدم. ينظر: الصفحة السابقة، حاشية (1).
(4)
البخاري (154)، ومسلم (267).
اشتمل هذا الحديث على ثلاثة آدابٍ فهو بمنزلة ثلاثة أحاديث، اثنان منها يتعلَّقان بآداب قضاء الحاجة، والثَّالث يتعلَّق بآداب الشَّراب، ولعلَّ الجمع بينها في حديثٍ لم يكن من كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا وهذا في مقاماتٍ متفرِّقةٍ.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
النَّهي عن مسِّ الذَّكر باليمين حال البول.
2 -
جواز مسِّ الذَّكر باليمين في غير حال البول.
3 -
النَّهي عن التَّمسُّح باليمين، والمراد به: الاستنجاء، وهذا النَّهي للكراهة عند الجمهور، وقيل: إنَّه للتَّحريم، وهو الأصل في النَّهي، فلا يعدل عنه إلَّا بصارفٍ.
4 -
فضل اليمين على الشِّمال وصيانتها عن مباشرة القذر والنَّجاسة، كيف واليد اليمنى آلة الأكل، قال صلى الله عليه وسلم:«كُلْ بِيَمِينِكَ»
(1)
.
5 -
أنَّ التَّيمُّن لا يشرع في الأمور المستقذرة، بل يكره أو يحرم في بعض ذلك.
6 -
إطلاق اسم الخلاء على الخارج كإطلاق الغائط، فهو من المجاز المرسل الَّذي علاقته المكانيَّة.
7 -
النَّهي عن التَّنفُّس في الإناء؛ أي: عند الشُّرب منه، وهو عند جمهور العلماء للكراهة، والأظهر: أنَّه للتَّحريم، كما هو الأصل.
8 -
صيانة الشَّراب عمَّا يقذِّره، فإنَّ التَّنفُّس لا يؤمن أن يقع معه في الشَّراب ما يقذِّره من الفم أو الأنف، وترك التَّنفُّس في الإناء يكون بإبعاد الإناء
(1)
رواه البخاري (5376)، ومسلم (2022) عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه.
عند إرادة التَّنفُّس، وقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يتنفَّس في الشَّراب ثلاثًا ويقول:«إنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ»
(1)
.
* * * * *
(104)
وَعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: «لَقَدْ نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(105)
وَلِلسَّبْعَةِ: عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه: «فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ ولا تَسْتَدْبِرُوهَا بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»
(3)
.
* * *
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
النَّهي عن استقبال القبلة واستدبارها حال البول والغائط احترامًا للقبلة، وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا، فللعلماء في هذه المسألة ثمانية مذاهب، أهمُّها مذهبان:
أَحَدُهُمَا: تحريم استقبال القبلة واستدبارها حال البول والغائط مطلقًا في الصَّحراء والبنيان؛ للنَّهي الصَّريح عن ذلك في هذين الحديثين، وهو مذهب ابن حزمٍ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيميَّة وابن القيِّم
(4)
.
(1)
رواه مسلم (2028) عن أنس رضي الله عنه، وأصله في البخاري (5631).
(2)
مسلم (262).
(3)
البخاري (144)، ومسلم (264)، وأبو داود (9)، والترمذي (8)، والنسائي (21)، وابن ماجه (318)، وأحمد (23579).
(4)
ينظر: «المحلى» لابن حزم (1/ 193)، و «الفتاوى الكبرى» لشيخ الإسلام (5/ 300)، و «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية (4/ 23).
الثَّانِي: ما ذهب إليه كثيرٌ من العلماء من تحريم ذلك في الصَّحراء دون البنيان، واستدلُّوا بحديث ابن عمر، قال:«رَقِيتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى لَبِنَتَيْنِ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ»
(1)
.
وأجاب أهل القول الأوَّل عن هذا الحديث بأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك لبيان الجواز؛ لأنَّه كان خاليًا لا يراه أحدٌ، ولكن وقع عليه نظر ابن عمر رضي الله عنهم من غير قصدٍ، فيكون ذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام.
2 -
أنَّ من كانت قبلته شرقًا أو غربًا فإنَّه يتوجَّه حال قضاء الحاجة إلى الشَّمال أو الجنوب، وأمَّا قوله:«وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» فهو لأهل المدينة ومن في سمتهم؛ لأنَّ قبلتهم إلى الجنوب.
3 -
جواز استقبال النَّيِّرين عند قضاء الحاجة خلافًا لمن كرهه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» .
4 -
تحريم التَّمسُّح باليمين، وهو الاستنجاء.
5 -
أنَّ الاستنجاء بأقلَّ من ثلاثة أحجارٍ لا يجزئ في طهارة المحلِّ.
6 -
تحريم الاستنجاء بالعظم والرَّجيع وهو الرَّوث، وقد جاء تعليل هذا النَّهي بأنَّ العظم الَّذي ذكر اسم الله عليه طعام الجنِّ المؤمنين، يجدونه أوفر ما كان لحمًا. والرَّوث علفٌ لدوابِّهم، وأيضًا: فإنَّ العظم لا يحصل به الإنقاء؛ لأنَّه أملس، أو خشنٌ يؤذي المتمسِّح به.
7 -
أنَّ هذه الأحكام والآداب تدلُّ على شمول دين الإسلام، وقد روى سلمان رضي الله عنه هذا الحديث ردًّا على اليهوديِّ الَّذي قال له:«علَّمكم نبيُّكم كلَّ شيءٍ حتَّى الخراءة» ، فقال سلمان رضي الله عنه: «أجل، لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
» الحديث.
(1)
رواه البخاري (148)، ومسلم (266).
(106)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ
(1)
.
* * *
هذا طرفٌ من حديثٍ طويلٍ مشتملٍ على أربعة أحكامٍ
(2)
، والحديث عند أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكذلك هو في التَّلخيص الحبير
(3)
، فنسبته إلى رواية عائشة رضي الله عنها وهمٌ، والحديث مختلفٌ في صحَّته، ومعناه صحيحٌ؛ لأدلَّةٍ غير هذا الحديث.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أمر من أتى الغائط بالاستتار، ويحتمل أن يراد به التَّواري عن الأبصار؛ بالبعد أو دخول المكان المعدِّ لذلك، وهو الخلاء.
ويحتمل أن يراد به ستر العورة، وذلك إذا لم يكن هناك من يراه، فستر العورة مستحبٌّ في هذه الحال، ففي أصل رواية الحديث:«مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لا فَلَا حَرَجَ» أمَّا إذا كان بحضرته من يراه فستر العورة واجبٌ. ويؤيِّد الاحتمال الثَّاني -وهو أنَّ المراد ستر العورة- قوله في الحديث: «فَإنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ» .
2 -
أنَّ فعل المستحبِّ إحسانٌ.
(1)
أبو داود (35) لكن راويه أبو هريرة رضي الله عنه كما سيأتي في الشرح.
(2)
(3)
«التلخيص الحبير» (1/ 102).
3 -
أنَّ ترك المستحبِّ لا إثم فيه.
* * * * *
(107)
وَعَنْهَا رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْغَائِطِ قَالَ: «غُفْرَانَكَ» . أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ أبو حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ
(1)
.
* * *
هذا الحديث أصحُّ ما ورد في الذِّكر عقب الخروج من الغائط، وإسناده حسنٌ، وقوله:«غُفْرَانَكَ» ؛ أي: أسألك غفرانك.
وفيه من الفوائد:
1 -
استحباب الاستغفار بعد الخروج من الغائط، وأن يكون بهذه الصِّيغة.
2 -
تذكُّر الخلوص من الخبث الحسِّيِّ وسؤال الخلوص من الخبث المعنويِّ، وهو الذُّنوب، وبهذا تظهر مناسبة هذا الدُّعاء، وقيل غير ذلك.
3 -
أنَّ من مواطن الاستغفار الخروج من الغائط.
4 -
استغفار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع أنَّه قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، بل كان يكثر من الاستغفار عليه الصلاة والسلام.
* * * * *
(108)
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدتُ حَجَرَيْنِ، وَلَمْ أَجِدْ ثَالِثًا، فَأَتَيْتُهُ بِرَوْثَةٍ، فَأَخَذَهُمَا وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ:«هَذَا رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
(1)
أحمد (25220)، وأبو داود (30)، والترمذي (7)، والنسائي في «الكبرى» (9907)، وابن ماجه (300)، والحاكم (564)، و «العلل» لأبي حاتم (93).
(109)
وَزَادَ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: «ائْتِنِي بِغَيْرِهَا»
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضيلة ابن مسعودٍ رضي الله عنه لخدمته النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
الاستنجاء بالأحجار ونحوها.
3 -
أنَّه لا يجزئ أقلُّ من ثلاثة أحجارٍ، كما تقدَّم في حديث سلمان رضي الله عنه.
4 -
أنَّه لا يجزئ الاستنجاء بالنَّجاسة، وجاء في روايةٍ أنَّ الرَّوثة كانت روثة حمارٍ
(2)
.
5 -
نجاسة روث الحمار، وهكذا روث كلِّ ما لا يؤكل لحمه.
6 -
جواز استخدام الأحرار برضاهم.
7 -
أنَّ طلب الحاجة من الخادم ونحوه (كالزَّوجة والولد) ليس من السُّؤال المذموم.
8 -
أنَّ الاجتهاد إذا خالف النَّصَّ فهو باطلٌ؛ لأنَّ ابن مسعودٍ رضي الله عنه اجتهد فأتى بدل الحجر بروثةٍ فردَّها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.
9 -
عذر المجتهد إذا أخطأ فلا يؤاخذ على خطئه.
10 -
حسن خلقه عليه الصلاة والسلام.
11 -
تعليل الأحكام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «هَذَا رِجْسٌ أَوْ رِكْسٌ» .
12 -
أنَّ تعليل الحكم بعلَّةٍ يثبت به الحكم في كلِّ ما وجدت فيه علَّته، فتفيد عموم الحكم.
(1)
البخاري (156) ولفظه: «هَذَا رِكْسٌ» ، وأحمد (4299) بلفظ:«ائْتِنِي بِحَجَرٍ» ، والدارقطني (148).
(2)
هي عند ابن خزيمة (70).
(110)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِعَظْمٍ، أَوْ رَوْثٍ، وَقَالَ:«إنَّهُمَا لا يُطَهِّرَانِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَصَحَّحَهُ
(1)
.
* * *
معنى هذا الحديث وما يتعلَّق به من الفوائد تقدَّم في حديث سلمان رضي الله عنه، وفيه:«أو أن نستنجي برجيعٍ أو عظمٍ»
(2)
، وفي هذا الحديث زيادةٌ، وهي قوله:«إنَّهُمَا لا يُطَهِّرَانِ» .
وفي هذه الزيادة فوائد، منها:
1 -
بيان أنَّ الاستنجاء بالرَّجيع أو العظم لا يرفع حكم النَّجاسة، فلا يحصل بهما المقصود، وهو الطَّهارة، مع الإثم بارتكاب النَّهي.
2 -
أنَّ الاستنجاء بالأحجار ونحوها يطهِّر المحلَّ.
* * * * *
(111)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
(3)
.
(112)
وَلِلْحَاكِمِ: «أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ» . وَهُوَ صَحِيحُ الإِسْنَادِ
(4)
.
* * *
هذا الحديث يشهد له حديث صاحبي القبرين المتَّفق عليه
(5)
.
(1)
الدارقطني (156).
(2)
تقدم برقم (104).
(3)
الدارقطني (464)، وصححه ابن خزيمة، ينظر:«فتح الباري» (1/ 336).
(4)
الحاكم (656)، وأحمد (9059)، والدارقطني (465). قال الحاكم:«صحيح على شرط الشيخين» . وقال الدارقطني: «صحيح» .
(5)
رواه البخاري (218)، ومسلم (292) عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ
…
» الحديث.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
نجاسة بول الآدميِّ.
2 -
وجوب الاستنزاه من البول، وذلك باتِّقائه؛ حتَّى لا يصيب الثَّوب أو البدن شيءٌ منه، وبغسله إن أصابه.
3 -
أنَّه لا يعفى عن يسير البول.
4 -
إثبات عذاب القبر.
5 -
أنَّ من أعظم أسباب عذاب القبر عدم التَّنزُّه من البول، فيقتضي ذلك أنَّه من الكبائر.
6 -
إثبات الجزاء على الأعمال.
* * * * *
(113)
وَعَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَلَاءِ أَنْ نَقْعُدَ عَلَى الْيُسْرَى وَنَنْصِبَ الْيُمْنَى» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ
(1)
.
(114)
وَعَنْ عِيسَى بْنِ يَزْدَادَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ
(2)
.
* * *
هذان الحديثان ضعيفان فلا يصلحان للاستدلال بهما على حكمٍ، وقد استدلَّ بهما بعض الفقهاء على استحباب ما ذكر فيهما، وهو أمران:
(1)
البيهقي في «السنن الكبرى» (457). قال النووي: «هذا الحديث ضعيف لا يحتج به» . المجموع (2/ 104).
(2)
ابن ماجه (326). قال ابن أبي حاتم في «العلل» (89): «قال أبي: هو عيسى بن يزداد بن فساء، وليس لأبيه صحبة، ومن الناس من يدخله في المسند على المجاز، وهو وأبوه مجهولان» .
1 -
الاعتماد على اليسرى حال قضاء الحاجة ونصب اليمنى، وأيَّد بعضهم ذلك بأمرٍ طبيعيٍّ، وذلك أنَّه أيسر لخروج الخارج.
2 -
نتر الذَّكر ثلاثًا بعد البول، وهو استخراج بقيَّة البول بالضَّغط على المثانة من داخلٍ، والصَّواب: أنَّه لا يستحبُّ، لكنَّه أمرٌ عاديٌّ.
* * * * *
(115)
وَعَنِ ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ أَهْلَ قُبَاءَ، فَقَالَ:«إنَّ الله يُثْنِي عَلَيْكُم؟» ، قَالُوا: إنَّا نُتْبِعُ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ
(1)
. وَأَصْلُهُ فِي أَبِي دَاوُدَ
(2)
.
(116)
وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِدُونِ ذِكْرِ الْحِجَارَةِ
(3)
.
* * *
هذان الحديثان فيهما فوائد، منها:
1 -
جواز الاستنجاء بالماء خلافًا لمن كرهه، وقد تقدَّم القول فيه، وأنَّه ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم.
2 -
استحباب الاستنجاء بالماء بعد الاستنجاء بالحجارة ونحوها، كما يفيده حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم، ولكنَّ الحديث ضعيفٌ، وإلى الاستحباب ذهب أكثر أهل العلم، وذلك لوجهين:
أَحَدُهُمَا: عدم مباشرة النَّجاسة باليد.
(1)
البزار في «كشف الأستار» (247). قال الهيثمي: «رواه البزار، وفيه محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهري ضعفه البخاري والنسائي وغيرهما» . «مجمع الزوائد» (1/ 212).
(2)
أبو داود (44)، والترمذي أيضًا (3100)، لكن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بدون ذكر الحجارة. وإسناده ضعيف. ينظر:«التلخيص الحبير» (1/ 199).
(3)
ابن خزيمة (83)، لكن من حديث عويم بن ساعدة الأنصاري رضي الله عنه.
الثَّانِي: أنَّه أكمل في نظافة المحلِّ.
3 -
فضيلة أهل قباء من الصَّحابة رضي الله عنهم، وهذا مبنيٌّ على أنَّ المراد بالمسجد الَّذي أسِّس على التَّقوى هو مسجد قباء، والصَّواب: أنَّه مسجد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويدلُّ له حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه عند مسلمٍ، قال: قلت: يا رسول الله أيُّ المسجدين الَّذي أسِّس على التَّقوى؟ قال: فأخذ كفًّا من حصباء فضرب به الأرض، ثمَّ قال:«هُو مَسْجِدُكُمْ هَذَا» لمسجد المدينة
(1)
.
وعلى هذا فلا يختصُّ ثناء الله في الآية بأهل قباء بل يعمُّ أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذين كانوا يصلُّون معه من أهل قباء وغيرهم. وحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم ضعيفٌ لا يصلح الاعتماد عليه في تفسير الآية.
* * * * *
(1)
مسلم (1398).
بَابُ الْغُسْلِ وَحُكْمِ الْجُنُبِ
الغسل: اسم مصدرٍ للاغتسال وهو الفعل، والمراد بالغسل هنا: الغسل المشروع، والجنب من أصابته جنابةٌ، وهو يطلق على الواحد والمثنَّى والجمع والمذكَّر والمؤنَّث، تقول: رجلٌ جنبٌ وامرأةٌ جنبٌ، والمراد بحكم الجنب: أحكام الجنب؛ كوجوب الغسل، وما يستحبُّ له وما يكره له.
* * * * *
(117)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ
(1)
.
(118)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(119)
وَزَادَ مُسْلِمٌ: «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ» .
* * *
الحديثان من أدلَّة الغسل من الجنابة، وقد دلَّ على وجوبه الكتاب والسُّنَّة والإجماع، قال الله تعالى:{وَإِنْ كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، والمراد بالتَّطهُّر: الغسل، كما قال تعالى:{وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا} [النِّسَاء: 43]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» معناه الغسل من الإنزال، و «من» سببيَّةٌ، والماء الأوَّل: ماء الاغتسال، والماء الثَّاني: المنيُّ، وهذا جناسٌ تامٌّ.
(1)
مسلم (343)، والبخاري (180).
(2)
البخاري (291)، ومسلم (348).
وعبَّر بالماء الأوَّل عن الاغتسال؛ لأنَّه آلته، فهو مجازٌ مرسلٌ علاقته الآليَّة. وهذا اللَّفظ «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» يفيد الحصر، معناه: ما الغسل إلَّا من الإنزال، وقد جاء في بعض روايات الحديث «إنَّما الماء من الماء»
(1)
.
وفي حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه فوائد، منها:
1 -
وجوب الغسل من الإنزال بأيِّ سببٍ حصل.
2 -
أنَّه لا يجب الغسل بالجماع من غير إنزالٍ، وقد ذهب إلى هذا بعض الصَّحابة رضي الله عنهم وبعض التَّابعين؛ لحديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه ولم يبلغهم نسخ هذا الحكم.
وقد نقل غير واحدٍ إجماع العلماء على وجوب الغسل بالجماع وإن لم ينزل
(2)
، ومن خالف في ذلك فقوله شاذٌّ مخالفٌ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه:«إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ» ولفظ مسلمٍ: «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ» ، وكذلك حديث عائشة رضي الله عنهم عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ»
(3)
، وهذا كنايةٌ عن الإيلاج فلو مسَّ الختان الختان من غير إيلاجٍ لم يجب غسلٌ، وكذا قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه «ثُمَّ جَهَدَهَا» هو كنايةٌ عن الجماع، وشعبها الأربع: فخذاها وساقاها.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه فوائد، منها:
3 -
وجوب الغسل من الجماع وإن لم يكن معه إنزالٌ.
4 -
الأدب بالكناية عمَّا يستحيا من التَّصريح به.
(1)
رواها مسلم (343) وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
منهم النووي في «المجموع» (2/ 136)، وفي شرح مسلم (4/ 36)، وقال ابن تيمية:«وأما التقاء الختانين فيوجب الغسل، وهو كالإجماع» . «شرح العمدة» (1/ 357).
(3)
رواه مسلم (349).
ومن فوائد الحديثين:
5 -
شمول هذا الدِّين وكماله بتشريع هذه الأحكام المتعلِّقة بهذه الأحوال.
* * * * *
(120)
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ -وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْغُسْلُ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: «نَعَمْ؛ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ
…
» الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(121)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ، قَالَ:«تَغْتَسِلُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(122)
زَادَ مُسْلِمٌ: فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَهَلْ يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟»
(3)
.
* * *
الحديثان من أدلَّة وجوب الغسل من الجنابة بخروج المنيِّ.
وفيهما فوائد، منها:
1 -
فضيلة أمِّ سليمٍ رضي الله عنها لسؤالها عن أمر دينها وحسن سؤالها.
2 -
أنَّ من حسن السُّؤال التَّقديم له بما يكون عذرًا للسَّائل.
3 -
إثبات صفة الحياء لله تعالى.
4 -
أنَّ الله لا يستحيي من بيان الحقِّ، ولو كان بما يستحيا من ذكره. وقد أخبر الله بذلك عن نفسه في آيتين من كتابه.
(1)
البخاري (282)، ومسلم (313).
(2)
الحديث من أفراد مسلم (311).
(3)
مسلم (311).
5 -
أنَّ المرأة تحتلم، والمراد بالاحتلام: رؤية الجماع في المنام، ففيه شاهدٌ لما يروى من قوله صلى الله عليه وسلم:«النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»
(1)
.
6 -
أنَّ احتلام المرأة قليلٌ بخلاف الرِّجال؛ لقول أمِّ سلمة رضي الله عنها كما في أصل الحديث: وتحتلم المرأة؟ قال: «نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟» .
7 -
وجوب الغسل من خروج المنيِّ بالاحتلام، ولو لم يذكر احتلامًا.
8 -
أنَّ مناط وجوب الغسل رؤية المنيِّ، كما يدلُّ عليه حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه المتقدِّم
(2)
.
9 -
أنَّه لا يجب الغسل بمجرَّد الاحتلام من غير خروج الماء.
10 -
أنَّه لا يجب الغسل بمجرَّد انتقال المنيِّ من غير أن يخرج.
11 -
أنَّه لا يجب الغسل مع الشَّكِّ في خروج المنيِّ أو الشَّكِّ في كونه منيًّا.
12 -
جواز الدُّعاء على المخطئ بالإنكار عليه من غير قصد الحقيقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «تَرِبَتْ يَمِينُكِ» ؛ أي: لصقت بالتُّراب، والأصل: أنَّه دعاءٌ بالفقر، بصيغة الكناية.
13 -
الإنكار على من أنكر على المحقِّ.
14 -
أنَّ الولد يخلق من ماء الرَّجل ومن ماء المرأة.
15 -
أنَّ خلقه من مائهما سبب شبهه بهما.
16 -
اعتبار الشَّبه في لحوق النَّسب ما لم يعارضه ما هو أقوى منه وهو الفراش.
17 -
أنَّ الحياء من طبع النِّساء، ومن لا تستحيي فقد خرجت عن طبع الأنوثة.
(1)
رواه أحمد (26195)، وأبو داود (236)، والترمذي (113)، عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
تقدَّم برقم (117).
18 -
أنَّ ذكر أحوال النِّساء والعلاقات الزَّوجيَّة ممَّا يستحيا منه، وممَّا لا ينبغي الجهر به إلَّا لأمرٍ يقتضيه.
19 -
السُّؤال لمزيد التَّحقُّق.
20 -
حلم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وتقبُّله للمسائل.
21 -
ذكر المفتي للدَّليل لتحصل الطُّمأنينة للسَّائل.
* * * * *
(123)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قالتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ مِنْ أرْبَعٍ، مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمِنَ الْحِجَامَةِ، وَمِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
الحديث مختلفٌ في صحَّته، والرَّاجح: أنَّه لا بأس به كما قال شيخنا عبد العزيز بن بازٍ رحمه الله: وقولها: «كان يغتسل من أربعٍ» يقتضي أنَّه يغتسل من هذه الأسباب الأربعة، ومنها غسل الميِّت، ولم يثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم غسَّل ميِّتًا، ولهذا قال بعض شرَّاح الحديث:«كان يغتسل من أربعٍ» ؛ أي: يأمر بالغسل من أربعٍ، احترازًا من تغسيله الميِّت، كما نقله صاحب (بذل المجهود)
(2)
عن السّنديِّ. وهو توجيهٌ حسنٌ، ولم يتنبَّه إلى ذلك أحدٌ من شرَّاح (البلوغ)، ولفظ الحديث عند أحمد:«يغتسل من أربعٍ»
(3)
، وهو خبرٌ بمعنى الأمر، وهذا اللَّفظ لا يرد عليه ما ورد على لفظ حديث الباب، والله أعلم.
(1)
أبو داود (348)، وابن خزيمة (256) وقال ابن عبد الهادي:«هذا الإسناد على شرط مسلم» . «تنقيح تحقيق أحاديث التعليق» (1/ 182).
(2)
ينظر: «بذل المجهود» لخليل أحمد السهارنفوري (3/ 85).
(3)
رواه أحمد (25190) عن عائشة رضي الله عنها أيضًا.
وهو يدل على أربعة أحكامٍ:
1 -
مشروعيَّة الغسل من الجنابة، وقد تقدَّم القول فيه.
2 -
مشروعيَّة الغسل ليوم الجمعة وسيأتي البحث فيه.
3 -
مشروعيَّة الغسل من الحجامة.
4 -
مشروعيَّة الغسل من غسل الميِّت.
أمَّا الغسل من الجنابة فمجمعٌ على وجوبه، وأمَّا غسل الجمعة فمختلفٌ فيه، وأمَّا الغسل من الحجامة فمستحبٌّ؛ لهذا الحديث ولا قائل بوجوبه. وأمَّا الغسل من تغسيل الميِّت فمستحبٌّ؛ لهذا الحديث ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدِّم:«مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ»
(1)
، وجمهور العلماء على أنَّه لا يجب.
* * * * *
(124)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، فِي قِصَّةِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ عِنْدَمَا أَسْلَمَ وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَغْتَسِلَ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
(2)
، وَأَصْلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
* * *
هذا أحد حديثين في مشروعيَّة الغسل لمن دخل في الإسلام، وقد اختلف النَّاس في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنَّ هذا الغسل مستحبٌّ؛ لحديث ثمامة رضي الله عنه هذا، ولحديث قيس بن عاصمٍ رضي الله عنه، وحملوا الأمر في الحديثين على الاستحباب؛ لأنَّه قد دخل في الإسلام أفواجٌ من النَّاس في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي عهد من بعده، وما كانوا يؤمرون بالاغتسال.
وقال آخرون: إنَّ الغسل واجبٌ على من دخل في الإسلام؛ لهذين الحديثين. وفصَّل بعضهم فقال: إذا دخل في الإسلام وقد أجنب في حال كفره فإنَّه يغتسل لرفع الجنابة.
(1)
تقدَّم برقم (84).
(2)
عبد الرزاق في «مصنفه» (9834).
(3)
البخاري (462)، ومسلم (1764).
والرَّاجح -والله أعلم-: هو القول الأوَّل، والقول الثَّالث متوجِّهٌ، وعليه فليس الغسل لأجل الدُّخول في الإسلام، بل لرفع الجنابة، والغسل للجنابة لا يجب إلَّا على من حضرته الصَّلاة؛ كالوضوء من الحدث الأصغر.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضيلة ثمامة رضي الله عنه.
2 -
وجوب الاغتسال على من دخل في الإسلام عند من يقول به، وتقدَّم ذكر الخلاف في ذلك.
3 -
الجمع بين الطَّهارتين الظَّاهرة والباطنة؛ كالجمع بينهما في الوضوء والتَّشهُّد بعده، وقال تعالى:{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين} [الْبَقَرَة: 222]، وسيأتي ذكرٌ لهذا الحديث في باب المساجد
(1)
، وتذكر بقيَّة فوائده هناك إن شاء الله.
* * * * *
(125)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» . أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ
(2)
.
(126)
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ
(3)
.
* * *
(1)
سيأتي برقم (281).
(2)
البخاري (858)، ومسلم (846)، وأبو داود (341)، والنسائي (1377)، وابن ماجه (1089)، وأحمد (11578). والحديث لم يخرجه الترمذي، ولكنه أشار إليه تحت رقم (492).
(3)
أحمد (20174)، وأبو داود (354)، والترمذي (497)، والنسائي (1380)، وابن ماجه (1091).
الحديثان أصلٌ في حكم غسل الجمعة.
وفي حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه فوائد، منها:
1 -
وجوب غسل الجمعة، وقد ذهب إلى هذا جمعٌ من العلماء، وذهب الجمهور إلى أنَّ الغسل مستحبٌّ؛ لحديث سمرة رضي الله عنه -على ما قيل فيه من التَّضعيف- ولحديث عثمان رضي الله عنه عندما جاء متأخِّرًا ولم يغتسل
(1)
.
2 -
وقوله في الحديث: «وَاجِبٌ» ليس هو الوجوب في اصطلاح الأصوليِّين، بل هو كقول الرَّجل: حقُّك عليَّ واجبٌ، وأيَّدوا ذلك بأنَّ في الحديث «والسِّواك والطِّيب»
(2)
وليسا بواجبين.
3 -
أنَّ الغسل لا يجب إلَّا على المحتلم وهو البالغ.
4 -
أنَّ غسل الجمعة لا يختصُّ بمن تجب عليه، بل يشرع لكلِّ بالغٍ، والصَّحيح: أنَّه مختصٌّ بمن يحضر الجمعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهم: «مَنْ أَتَى الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ»
(3)
وغيره من الأحاديث.
5 -
أنَّه لا يؤمر به غير البالغ.
6 -
فضل يوم الجمعة وصلاة الجمعة.
7 -
أنَّ الاحتلام من موجبات البلوغ.
وفي حديث سمرة من الفوائد:
8 -
أنَّه يجزئ الوضوء للجمعة دون الغسل، وأنَّه لا عيب على من اقتصر على الوضوء للجمعة لقوله:«وَنِعْمَتْ» .
(1)
وهو عند مسلم (1992) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
(2)
رواه أبو داود (344) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ولفظه:«وَالسِّوَاكُ، وَيَمَسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قُدِّرَ لَهُ» .
(3)
رواه البخاري (877)، ومسلم (844).
9 -
فيه أنَّ الغسل أفضل من الوضوء.
10 -
أنَّ غسل الجمعة ليس بواجبٍ.
* * * * *
(127)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
* * *
هذا الحديث حجَّة من منع الجنب من قراءة القرآن، وهم الجمهور، ولكنَّ الحديث مختلفٌ فيه بين التَّصحيح والتَّحسين والتَّضعيف فمن قبله قال بموجبه، ومن ضعَّفه قال: يجوز للجنب أن يقرأ القرآن.
ووجه دلالة الحديث على تحريم القراءة على الجنب أنَّه صلى الله عليه وسلم ما كان ليمتنع من قراءة القرآن وإقرائه حال الجنابة لولا أنَّ ذلك محرَّمٌ؛ لقوله في بعض الرِّوايات: «ولم يكن يحجبه -أو قال: يحجزه- عن القرآن شيءٌ ليس الجنابة»
(2)
وقوله: «فأمَّا الجنب فلا، ولا آيةً»
(3)
.
ومع هذا الاختلاف في ثبوت الحديث، والاحتمال في دلالته فالأحوط للمسلم أن لا يقرأ شيئًا من القرآن وهو جنبٌ، وهذا كلُّه في القراءة عن ظهر قلبٍ، أمَّا مع مسِّ المصحف فلا تجوز القراءة مع الحدث الأصغر أو الأكبر، إذا كان يلزم من ذلك مسُّ المصحف.
(1)
أبو داود (229)، والترمذي (146)، والنسائي (265)، وابن ماجه (594)، وأحمد (627)، وابن حبان (799). وقد تفرد به عبد الله بن سلمة، وهو صدوق تغير حفظه، ومع هذا قال المصنف في «فتح الباري» (1/ 408):«وضعف بعضهم أحد رواته، والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة» .
(2)
رواها أبو داود (229)، والنسائي (265). وغيرهما عن علي رضي الله عنه. وحسنها المصنف في «فتح الباري» (1/ 408).
(3)
رواه أحمد (872) عن علي رضي الله عنه. قال الهيثمي: «ورجاله موثوقون» . «مجمع الزوائد» (1/ 615).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يعلِّم أصحابه القرآن.
2 -
جواز الإقراء مع الحدث الأصغر.
3 -
تحريم القراءة والإقراء على الجنب، ومن باب أولى قراءته في الحشِّ أو حال قضاء الحاجة.
4 -
أنَّ من تعظيم كلام الله التَّطهُّر لقراءته.
5 -
تحريم قراءة القرآن على الحائض والنُّفساء قياسًا على الجنب، وفي هذا القياس نظرٌ؛ لأنَّ الحائض والنُّفساء تفارقان الجنب من وجهين:
أنَّهما لا يمكنهما رفع حدثهما.
أنَّه تطول مدَّته؛ أي: الحدث، بخلاف الجنب، ولهذا فرَّق بعض العلماء بين الجنب والحائض، فقال: يجوز للحائض والنُّفساء قراءة القرآن. وأمَّا حديث: «لَا تَقْرَأِ الْحَائِضُ ولا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ» فهو ضعيفٌ
(1)
، وعليه فيجوز للحائض والنُّفساء قراءة القرآن لكن من غير مسٍّ للمصحف.
* * * * *
(128)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ بَيْنَهُمَا وَضُوءًا» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(129)
زَادَ الْحَاكِمُ: «فَإِنَّهُ أَنْشَطُ لِلْعَوْدِ»
(3)
.
* * *
(1)
رواه الترمذي (131)، وابن ماجه (595) عن ابن عمر رضي الله عنهم. وضعفه ابن حجر في «التلخيص الحبير» (183). وتقدم الكلام عنه تحت رقم (86)، ص (107).
(2)
مسلم (308).
(3)
الحاكم (543)، وقال:«وهذه لفظة تفرد بها شعبة عن عاصم، والتفرد من مثله مقبول عندهما -أي البخاري ومسلم-» . قال البيهقي في «السنن الكبرى» (985): «إسناده صحيح» .
هذا الحديث يتعلَّق ببابين: أحكام الجنب وعشرة النِّساء.
وفيه فوائد، منها:
1 -
استحباب الكناية عمَّا يستفحش التَّصريح به.
2 -
أنَّ الأهل يطلق على الزَّوجة خاصَّةً في مثل هذا السِّياق.
3 -
جواز العود من قريبٍ.
4 -
مشروعيَّة الوضوء لذلك وهو عند الجمهور على الاستحباب، لتعليله بمصلحة الجماع.
5 -
بيان الحكمة في ذلك، كما في رواية الحاكم.
6 -
تعليل الأحكام الشَّرعيَّة.
7 -
أنَّه لا يجب الغسل للعود ولا يستحبُّ بل يقتصر على الوضوء، إلَّا إذا كان العود مع امرأةٍ أخرى، كما صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رافعٍ رضي الله عنه؛ «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف ذات يومٍ على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه»
(1)
، كما ثبت في «الصَّحيحين» عن أنسٍ رضي الله عنه؛ «أنَّه طاف على نسائه بغسلٍ واحدٍ»
(2)
.
8 -
كمال هذا الدِّين وشموله للأحكام والآداب في جميع الأحوال.
* * * * *
(130)
وَلِلأرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً» . وَهُوَ مَعْلُولٌ
(3)
.
* * *
(1)
رواه أبو داود (219)، والنسائي في «الكبرى» (933). وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي «الأحكام الشرعية الصغرى» (130)، وحسن إسناده الذهبي في «المهذب» (11212)، والألباني في «صحيح أبي داود» (216).
(2)
رواه البخاري (284)، ومسلم (309).
(3)
أبو داود (228)، والترمذي (118)، والنسائي في «الكبرى» (9003)، وابن ماجه (581).
هذا الحديث استدلَّ به جمهور العلماء على جواز نوم الجنب من غير غسلٍ ولا وضوءٍ، كما يستدلُّون به على أنَّ أمر الجنب بالوضوء إذا أراد أن يرقد للاستحباب، وهو ما جاء عن عمر رضي الله عنه في «الصَّحيحين»: قال: قلت: يا رسول الله، أيرقد أحدنا وهو جنبٌ؟ قال:«نَعَمْ، إِذَا تَوَضَّأ أَحَدُكُم فَلْيَرْقُدْ»
(1)
، ومفهومه أمر الجنب بالوضوء قبل النَّوم ونهيه عن النَّوم قبل الوضوء ولكنَّ حديث عائشة رضي الله عنها معلولٌ فلا يقاوم حديث عمر رضي الله عنه.
وأجاب عنه بعضهم بأنَّ قولها: «من غير أن يمسَّ ماءً» ؛ أي: للغسل؛ جمعًا بين الحديثين، وعلى هذا فجمهور العلماء على أنَّ وضوء الجنب للنَّوم مستحبٌّ لا واجب.
ومن نظر إلى إعلال حديث عائشة رضي الله عنها وصحَّة حديث عمر رضي الله عنه قال بوجوب الوضوء، وهو قول الظَّاهريَّة، وظاهر قول مالكٍ
(2)
.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز نوم الجنب من غير وضوءٍ.
2 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان ينام جنبًا.
3 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم تصيبه الجنابة؛ لأنَّه بشرٌ.
4 -
فضل عائشة رضي الله عنها لرواية أحوال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الخاصَّة.
5 -
جواز تأخير الغسل من الجنابة؛ لأنَّه لا يجب إلَّا عند القيام إلى الصَّلاة، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِنْ كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6].
* * * * *
(1)
رواه البخاري (287)، ومسلم (306).
(2)
ينظر: «المدونة» (1/ 135)، و «التمهيد» (17/ 44).
(131)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ، ثُم يُفْرِغُ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أُصُولِ الشَّعْرِ، ثُمَّ
(1)
حَفَنَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
(2)
.
(132)
وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها: «ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى فَرْجِهِ وَغَسَلَهُ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ بِهَا الأَرْضَ»
(3)
. وَفِي رِوَايَةٍ: «فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ» ، وَفِي آخِرِهِ:«ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِالْمِنْدِيلِ فَرَدَّهُ» ، وَفِيهِ:«وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ»
(4)
.
* * *
هذان الحديثان هما الأصل في صفة الغسل من الجنابة، وقد اختصر الحافظ حديث ميمونة رضي الله عنها وهما من البيان بالفعل، فقد أمر الله بالغسل والتَّطهُّر من الجنابة من غير بيانٍ لصفته، فبيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم صفة الغسل الكامل كما تضمَّنه هذان الحديثان، وأجمع العلماء على إجزاء الغسل -وهو تعميم البدن بالماء- كيفما كان مع المضمضة والاستنشاق بشرط نيَّة رفع الحدث على الصَّحيح.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الغسل من الجنابة، وهو واجبٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع.
2 -
خدمة المرأة لزوجها، كما في حديث ميمونة رضي الله عنهم.
3 -
فيهما صفة الغسل الكامل.
4 -
غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء.
5 -
البداءة بغسل الفرج.
(1)
في «صحيح مسلم» زيادة «حتَّى إذا رأى أن قد استبرأ» .
(2)
البخاري (248)، ومسلم (316). لكن غسل الرجلين تفرد به أبو معاوية عن هشام، عن سائر الرواة، وقد أشار إلى هذا مسلم في «صحيحه» .
(3)
البخاري (257)، ومسلم (317).
(4)
مسلم (317).
6 -
مسح اليد اليسرى بعد ذلك بالتُّراب أو غيره لمزيد النَّظافة، وفي معناه غسلها بالصَّابون ونحوه.
7 -
الوضوء في أوَّل غسل الجنابة.
8 -
التَّخيير في غسل الرِّجلين بين التَّقديم مع أعضاء الوضوء أو التَّأخير بعد غسل سائر البدن.
9 -
غسل شعر الرَّأس وتخليله قبل إفاضة الماء على سائر البدن.
10 -
أنَّه لا يشرع التَّثليث في غسل سائر البدن.
11 -
أنَّه لا يشترط الدَّلك عند غسل البدن.
12 -
أنَّ ترك التَّنشُّف أولى.
13 -
إباحة التَّنشُّف من ماء الغسل والوضوء؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام لم ينكر على ميمونة رضي الله عنها.
14 -
التَّنحِّي عن المكان لغسل الرِّجلين إذا كان فيه ما يعلق بالرِّجلين كالطِّين ونحوه، كما في حديث ميمونة رضي الله عنها.
15 -
ارتفاع الحدثين الأصغر والأكبر بهذا الغسل؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام لم يتوضَّأ بعد ذلك.
فروقٌ بين الحديثين في صفة الغسل:
16 -
ذكر عدد غسلات اليدين في حديث ميمونة رضي الله عنها.
17 -
ضرب اليد بالتُّراب ومسحها بعد غسل الفرج في حديث ميمونة رضي الله عنها.
18 -
إجمال الوضوء في حديث عائشة رضي الله عنها وتفصيله في حديث ميمونة رضي الله عنها.
19 -
التَّصريح بتأخير غسل الرِّجلين في حديث ميمونة رضي الله عنها، وهو ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها، ويحتمل أنَّه غسل رجليه مرَّتين؛ لقول عائشة رضي الله عنها:«توضَّأ وضوءه للصَّلاة»
(1)
ثمَّ قولها: «ثمَّ غسل رجليه» ؛ لأنَّ وضوء الصَّلاة يتضمَّن غسل الرِّجلين، ويحتمل أنَّ قولها:«وضوءه للصَّلاة» فيه تجوُّزٌ بإطلاق الاسم على معظم الشَّيء، وهذا كلُّه على تقدير ثبوت قولها:«ثمَّ غسل رجليه» ، وهي لفظةٌ انفرد بها مسلمٌ عن البخاريِّ، وانفرد بها أبو معاوية عن بقيَّة الرُّواة، ولهذا لم يثبتها بعض أهل الحديث، وعليه فقول عائشة رضي الله عنها:«توضَّأ وضوءه للصَّلاة» على حقيقته؛ أي: توضَّأ وضوءًا كاملاً.
20 -
تخليل شعر الرَّأس ليبلغ الماء أصوله في حديث عائشة رضي الله عنها.
21 -
التَّثليث في غسل الرَّأس.
22 -
غسل الرَّأس بثلاث حفناتٍ في حديث عائشة رضي الله عنها.
23 -
التَّنحِّي لغسل الرِّجلين في حديث ميمونة رضي الله عنها.
24 -
نفض الماء باليد في حديث ميمونة رضي الله عنها لتخفيفه من الشَّعر والبدن.
* * * * *
(133)
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ شَعْرَ رَأْسِي، أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ -وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْحَيْضَةِ- قَالَ: «لَا، إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
غسل شعر الرَّأس في الغسل من الجنابة والحيض، وهو مجمعٌ عليه.
(1)
قوله: «وضوءه للصَّلاة» وهذا في أصل الحديث عند مسلم وليست في متن البلوغ.
(2)
مسلم (330).
2 -
أنَّه لا يجب نقض الشَّعر إذا كان مشدودًا، بل يكفي صبُّ الماء عليه، بحيث يصل الماء إلى باطن الشَّعر.
3 -
أنَّه لا فرق في ذلك بين غسل الحيض وغسل الجنابة، وهو مذهب الجمهور، وفرَّق بعضهم بين غسل الجنابة وغسل الحيض، فأوجب النَّقض في غسل الحيض دون الجنابة، والصَّواب: أنَّه لا يجب النَّقض إلَّا إذا غلب على الظَّنِّ عدم وصول الماء إلى باطن الشَّعر وأصوله.
4 -
جواز شدِّ المرأة شعرها وجعله ضفائر.
5 -
صبُّ الماء على الرَّأس «ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ» (أي: ثلاث غرفاتٍ بكلتا يديه) كما في النِّهاية
(1)
ليصل الماء إلى أصول الشَّعر، ويشهد لهذا الحديث في عدم وجوب النَّقض قول عائشة رضي الله عنها لابن عمرٍو رضي الله عنهم حين بلغها أنَّه يأمر النِّساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهنَّ، فقالت:«يا عجبًا لابن عمرٍو: هو يأمر النِّساء أن ينقضن رؤوسهنَّ، أفلا يأمرهنَّ أن يحلقن رؤوسهنَّ، لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحدٍ ولا أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغاتٍ»
(2)
.
* * * * *
(134)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(3)
.
* * *
الحديث هو الأصل في تحريم دخول الحائض والجنب في المسجد واللُّبث فيه، واستدلَّ على ذلك أيضًا في شأن الحائض بقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها
(1)
«النهاية» لابن الأثير (1/ 339).
(2)
رواه مسلم (331).
(3)
أبو داود (232)، وابن خزيمة (1327).
لمَّا حاضت وهي محرمةٌ: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ»
(1)
، وهو محتملٌ لذلك، واستدلَّ أيضًا في منع الجنب بقوله تعالى:{وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النِّسَاء: 43]؛ أي: لا تقربوا مواضع الصَّلاة، وفسِّر (عابرو السَّبيل) بالمجتاز في المسجد غير لابثٍ فيه.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ نفي الحلِّ يعبَّر به في نصوص الشَّرع عن التَّحريم؛ كقوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاء كَرْهًا} [النساء: 19].
2 -
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلُّ ويحرِّم، وما أحلَّ وحرَّم فقد أحلَّه الله وحرَّمه، كما قال تعالى:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80].
3 -
تحريم دخول المسجد واللُّبث فيه على الحائض والجنب، أمَّا دخولهما المسجد من غير لبثٍ فهو جائزٌ، كما دلَّ على ذلك السُّنَّة الصَّحيحة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:«نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ» فقالت: إنِّي حائضٌ، فقال:«إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ»
(2)
، وإذا كان هذا في الحائض فالجنب أولى، كما استدلَّ على ذلك -في حقِّ الجنب- بقوله تعالى:{وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]، كما تقدَّم.
واختلف العلماء في لبث الحائض والجنب في المسجد، فذهب الجمهور إلى التَّحريم مطلقًا، وذهب الإمام أحمد في المشهور إلى جوازه بعد الوضوء؛ لما جاء أنَّ أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا يجلسون في المسجد وهم جنبٌ إذا توضَّؤوا
(3)
.
(1)
البخاري (305)، ومسلم (1211). وسيأتي (162).
(2)
رواه مسلم (298).
(3)
عزاه ابن كثير إلى أحمد وسعيد بن منصور في «سننه» ، وصحح إسناده، وقال:«على شرط مسلم» . «تفسير ابن كثير» (1/ 503).
والقول بالتَّحريم مطلقًا هو موجب الحديث، وفعل الصَّحابة رضي الله عنهم لا يصلح للتَّخصيص؛ إذ قد يكون عن اجتهادٍ أو لم يعلموا بدليل التَّحريم.
وذهب ابن المنذر وداود وابن حزمٍ إلى جواز لبث الحائض والجنب في المسجد ولو لم يتوضَّأ الجنب؛ لأنَّ حديث الباب لم يصحَّ عندهم، وحملوا قوله تعالى:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43] على الصَّلاة نفسها، وقوله:{وَلَا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} على المسافر، وأيَّدوا قولهم ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها في المرأة السَّوداء الَّتي كان لها خباءٌ في المسجد
(1)
.
ويمكن الجواب عنه بأنَّه لا يلزم من ذلك إقامتها في المسجد وهي حائضٌ؛ لأنَّنا لا نعلم كم مكثت في المسجد، ويحتمل أن تكون امرأةً كبيرةً آيسةً، هذا وهي قضيَّة عينٍ لا عموم لها، قاله ابن رجبٍ
(2)
.
* * * * *
(135)
وعنها رضي الله عنها قَالَتْ: «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(136)
وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ: «وَتَلْتَقِي أَيْدِينَا»
(3)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
التَّصريح بما يستحيا من ذكره لبيان أحكام الشَّرع.
2 -
جواز اغتسال الرَّجل وامرأته من إناءٍ واحدٍ في مكانٍ واحدٍ ووقتٍ واحدٍ، ومعنى «تختلف أيدينا فيه» أنَّ كلًّا منهما تخلف يده يد الآخر، وقد تلتقيان كما في رواية ابن حبَّان.
(1)
رواه البخاري (428).
(2)
ينظر: «فتح الباري» لابن رجب (3/ 254).
(3)
البخاري (269) ولم يذكر (من الجنابة)، ومسلم (321)، وابن حبان (1111).
3 -
أنَّ اغتسال الرَّجل وامرأته ليس من الاغتسال في فضل أحدهما.
4 -
أنَّه لا يجب على الزَّوجين ستر كلٍّ منهما عورته عن الآخر، وهذا يستلزم جواز الرُّؤية، ومطلق الرُّؤية لا يستلزم النَّظر، فإنَّ النَّظر يكون مع القصد.
5 -
طهوريَّة الماء المستعمل؛ لأنَّه لا بدَّ أن يتساقط من بدن الجنب شيءٌ في الإناء.
6 -
الاقتصاد في ماء الوضوء والغسل، وأنَّه يكفي الاثنين ما بين الصَّاعين والثَّلاثة، كما في حديث أنسٍ رضي الله عنه:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضَّأ بالمدِّ ويغتسل بالصَّاع إلى خمسة أمدادٍ»
(1)
.
* * * * *
(137)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَاهُ
(2)
.
(138)
وَلأَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها نَحْوُهُ، وَفِيهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ
(3)
.
* * *
الحديثان يدخل معناهما في صفة الغسل، ومعناهما صحيحٌ وإن ضعِّفا، فإنَّ حدث الجنابة يتعلَّق حكمه بجميع البدن، ولهذا جاء الشَّرع فيه بالاغتسال، وهو التَّطهُّر الَّذي قال الله فيه:{وَإِنْ كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، والاغتسال: غسل جميع البدن، فيدخل في ذلك ما تحت الشَّعر.
ويشهد لصحَّة ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم؛ ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها في صفة غسله صلى الله عليه وسلم من أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشَّعر حتَّى إذا ظنَّ أنَّه أروى بشرته حثا على رأسه ثلاث حثياتٍ
(4)
، كما يدلُّ له حديث عائشة
(1)
تقدم برقم (63).
(2)
أبو داود (248)، والترمذي (106).
(3)
أحمد (24797).
(4)
رواه البخاري (248)، ومسلم (316).
رضي الله عنها أنَّ أسماء بنت شَكَلٍ رضي الله عنهم سألت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة، فقال:«تَأْخُذُ مَاءً فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ -أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ- ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا -أَيْ: أُصُولَهُ- ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ»
(1)
.
وقال لها مثل ذلك في غسل الحيض، وعليه فإذا كان الشَّعر مشدودًا أو ملبَّدًا بحيث لا يصل الماء إلى أصول الشَّعر إلَّا بنقضه وجب نقضه، وإذا كان الماء يصل إلى جلدة الرَّأس بتخليل الشَّعر ودلكه فلا يجب نقضه؛ لأنَّه لا يجب غسل باطن ضفائر الشَّعر المسترسل على الصَّحيح.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
وجوب الإسباغ في الغسل، وهو تعميم جميع البدن بالماء.
2 -
غسل باطن الشَّعر، وهو ما تحت الشَّعر من البشرة.
3 -
أنَّه لا يعفى عن شيءٍ من البدن، فمن ترك بقعةً وجب عليه غسلها ولو بعد جفاف بدنه؛ لأنَّ الغسل لا تجب فيه الموالاة، وعلى هذا فالمرأة إذا اغتسلت من الجنابة أو الحيضة وعلى أظفارها ما يسمَّى ب (المناكير) فيجب عليها إزالة ما على أظفارها ثمَّ غسل الأظفار بنيَّة رفع الجنابة، وإن كانت قد صلَّت فيجب عليها إعادة الصَّلاة. وبهذا يتمُّ القول في باب الغسل.
* * * * *
(1)
رواه مسلم (332).
بَابُ التَّيَمُّمِ
التَّيَمُّمُ لُغَةً: القصد، تقول: تيمَّمت كذا؛ أي: قصدتُه.
وَفِي الشَّرْعِ: قصد الصَّعيد الطَّيِّب بضربه باليدين ثمَّ مسح الوجه والكفَّين بنيَّة التَّطهُّر، وهو رخصةٌ من الله لعباده يقوم مقام الوضوء والغسل عند عدم الماء أو خوف التَّضرُّر باستعماله.
وقد دلَّ على مشروعيَّته الكتاب، والسُّنَّة المتواترة، وإجماع الأمَّة.
* * * * *
(139)
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهم؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا، لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ
…
» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
(1)
.
(140)
وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، عِنْدَ مُسْلِمٍ:«وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ»
(2)
.
(141)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، عِنْدَ أَحْمَدَ:«وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا»
(3)
.
* * *
اقتصر الحافظ على خصلتين من الخمس في حديث جابرٍ رضي الله عنه اختصارًا، والشَّاهد من الحديث قوله:«وَطَهُورًا» ؛ أي: مطهِّرًا، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في البحر:«هُو الطَّهُورُ مَاؤُهُ»
(4)
ويؤكِّد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ
(1)
رواه البخاري (335) ومسلم (521).
(2)
مسلم (522).
(3)
أحمد (763). وحسنه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1406).
(4)
تقدم، وهو أول حديث في كتاب الطهارة.
فَلْيُصَلِّ»؛ أي: فعنده المسجد والطَّهور، وإن لم يكن ماءٌ. وبقيَّة الخصائص الخمس هي قوله صلى الله عليه وسلم:«وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» .
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ للرَّسول صلى الله عليه وسلم خصائص لم تكن لمن قبله من الأنبياء.
2 -
أنَّ من هذه الخصائص ما تشاركه فيه أمَّته صلى الله عليه وسلم؛ كحلِّ الغنائم، والصَّلاة في أيِّ بقعةٍ من الأرض، والتَّطهُّر من أيِّ موضعٍ، والنَّصر بالرُّعب، ومنها ما لا تشاركه فيه الأمَّة؛ كعموم الرِّسالة والشَّفاعة الكبرى.
3 -
تفاضل الأنبياء وتفاضل الأمم.
4 -
فضل نبيِّنا مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء، وفضل أمَّته على من قبلها من الأمم.
5 -
نصر الله لنبيِّه مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ولأتباعه بالرُّعب الَّذي يلقيه الله في قلوب أعدائه، وشاهده في القرآن {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ} [الأنفال: 12].
6 -
خوف الكفَّار من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وبينهم مسيرة شهرٍ، وفي روايةٍ «شَهْرَيْنِ»
(1)
، والبعد والقرب في هذا يرجع إلى حال المؤمنين من حيث قوَّة الإيمان والتَّوكُّل والأخذ بالأسباب.
7 -
جواز الصَّلاة في جميع بقاع الأرض إلَّا ما خصَّه الدَّليل: كالمقبرة، والحمَّام، والمواضع النَّجسة.
8 -
جواز التَّطهُّر بالتَّيمُّم على جميع أجزاء الأرض، سواءٌ أكان صخرًا أم رملاً أم ترابًا، إلَّا ما خصَّه الدَّليل كالمواضع النَّجسة.
(1)
أخرجها البيهقي في «الكبرى» (4065) عن أبي أمامة رضي الله عنه وصححها الألباني في «صحيح الجامع» (4220).
وخصَّ كثيرٌ من العلماء التَّيمُّم بالتُّراب الَّذي له غبارٌ، لما جاء في حديث حذيفة عند مسلمٍ «وجعلت تربتها لنا طهورًا» ، ونحوه من حديث عليٍّ رضي الله عنه عند أحمد:«وَجُعِلَ التُّرَابُ لِيَ طَهُورًا» وعضدوا ذلك بقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة: 6]، ف «من» على هذا للتَّبعيض، وكذلك الباء في قوله:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] تدلُّ على ممسوحٍ به؛ كقوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6].
ونازع بعض العلماء في هذه الأدلَّة فقالوا: يجوز التَّيمُّم على جميع أجزاء الأرض.
9 -
أنَّه لا تؤخَّر الصَّلاة عن وقتها، ولا لآخر وقتها من أجل طلب الماء؛ لقوله:«فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ» .
10 -
أنَّ الأمم الماضية لا يصلُّون إلَّا في محاريبهم، وهي الأماكن المعدَّة للصَّلاة، وأنَّهم لا يجزئهم في طهارتهم التَّيمُّم.
11 -
حلُّ الغنائم لهذه الأمَّة وتحريمها على الأمم السَّابقة، فإذا غنموا من أموال الكفَّار جمعوه فنزلت عليه نارٌ فأكلته.
12 -
جواز النَّسخ بين الشَّرائع بل وفي الشَّريعة الواحدة.
13 -
رحمة الله بهذه الأمَّة بهذه الشَّريعة السَّمحة.
14 -
اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشَّفاعة الكبرى دون سائر الأنبياء، وهي المقام المحمود.
15 -
الدَّلالة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم لجميع النَّاس واختصاص كلِّ نبيٍّ بقومه.
16 -
أنَّ التَّيمُّم رافعٌ للحدث؛ لقوله: «طَهُورًا» .
17 -
أنَّ كلَّ موضعٍ تجوز الصَّلاة فيه يسمَّى مسجدًا.
18 -
أنَّه لا يسع أحدًا الخروج عن شريعة مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لا اليهود ولا النَّصارى ولا غيرهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً» .
* * * * *
(142)
وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهم، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ، فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُم أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ:«إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا» ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ
(1)
.
(143)
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «وَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ الأَرْضَ، وَنَفَخ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ»
(2)
.
* * *
هذا الحديث مع ما في القرآن أصلٌ في مشروعيَّة التَّيمُّم وصفته، والآية والحديث مبيِّنان للإجمال في حديث جابرٍ رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم:«وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»
(3)
؛ فإنَّه لم يبيِّن فيه صفة التَّيمُّم.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
فضيلة عمَّار بن ياسرٍ رضي الله عنهم.
2 -
بعث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في المهمَّات.
3 -
أنَّ الجنابة تكون بالاحتلام.
4 -
التَّيمُّم للجنابة.
5 -
فهم عمَّارٍ رضي الله عنه التَّيمُّم للجنابة من الآية.
(1)
البخاري (347)، ومسلم (368).
(2)
البخاري (338).
(3)
تقدم برقم (139).
6 -
جواز العمل بالاجتهاد عند عدم النَّصِّ أو خفائه.
7 -
جواز الاجتهاد في عصر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
8 -
جواز القياس في الجملة، وذلك أنَّ عمَّارًا قاس التُّراب على الماء في تعميم البدن.
9 -
أنَّ من اجتهد ثمَّ وجد النَّصَّ على خلاف اجتهاده وجب رجوعه إلى النَّصِّ.
10 -
أنَّ القول يطلق على الفعل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تَقُولَ» .
11 -
التَّعليم بالفعل.
12 -
فيه صفة التَّيمُّم للتَّطهُّر من الجنابة، وأنَّه لا يختلف عن التَّيمُّم للحدث الأصغر.
13 -
أنَّ التَّيمُّم يكون بضربةٍ واحدةٍ.
14 -
مسح الوجه والكفَّين في التَّيمُّم.
15 -
الاقتصار على مسح الكفَّين دون الذِّراعين.
16 -
تقديم الوجه على الكفَّين في التَّيمُّم وجوبًا.
17 -
مسح باطن الكفَّين وظاهرهما في التَّيمُّم.
18 -
حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه.
19 -
ترك التَّصريح بما لا حاجة إلى ذكره؛ لقول عمَّارٍ: «في حاجةٍ» .
20 -
جواز التَّصريح بما يستحيا من ذكره إذا دعت الحاجة، لقوله رضي الله عنه:«فأجنبت» .
21 -
أنَّه لا يجوز التَّيمُّم إلَّا عند عدم الماء.
22 -
أنَّ من اجتهد فأخطأ فإنَّه لا يؤمر بالإعادة ولا ينكر عليه.
23 -
جواز نفخ الكفَّين إذا علق بهما ترابٌ كثيرٌ.
24 -
يسر الشَّريعة في حكم التَّيمُّم وصفته.
* * * * *
(144)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ؛ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَ الأَئِمَّةُ وَقْفَهُ
(1)
.
* * *
هذا الحديث اختلف الأئمَّة في رفعه ووقفه، والرَّاجح أنَّه موقوفٌ.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة التَّيمُّم، وهو ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع.
2 -
صفة التَّيمُّم، وأنَّه ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين.
وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، وهو مخالفٌ لما دلَّ عليه حديث عمَّارٍ المتقدِّم المتَّفق على صحَّته من وجهين:
الأوَّل: عدد الضَّربات.
الثَّاني: صفة مسح اليدين.
وذهب كثيرٌ من العلماء إلى أنَّ التَّيمُّم ضربةٌ واحدةٌ للوجه والكفَّين دون الذِّراعين، وهو الصَّواب كما دلَّ عليه حديث عمَّارٍ رضي الله عنه، ودلَّت عليه الآية. فحديث ابن عمر رضي الله عنهم لا يقاوم حديث عمَّارٍ رضي الله عنه؛ لأنَّه موقوفٌ كما تقدَّم، ويؤيِّد ذلك أنَّ اليدين في آية التَّيمُّم لم يحدَّ مسحهما بغايةٍ كما في الوضوء، وأقلُّ ما يطلق عليه اسم اليد هو الكفُّ، فهو الَّذي يتعلَّق به الحكم بيقينٍ؛ ولهذا اقتصر في حدِّ السَّرقة على قطع الكفِّ.
(1)
الدارقطني (685)، وينظر:«التلخيص الحبير» (208).
ولا يصحُّ قياس مسح اليدين في التَّيمُّم على غسلهما في الوضوء؛ لأنَّه قياسٌ في مقابل النَّصِّ؛ فلا يصحُّ، مع ما بين المسح بالتُّراب والغسل بالماء من الفرق المانع من القياس؛ ولأنَّ المسح مبنيٌّ على التَّخفيف.
* * * * *
(145)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الصَّعِيدُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللهَ وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» . رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَلَكِنْ صَوَّبَ الدَّارَقُطْنِيُّ إرْسَالَهُ
(1)
.
(146)
وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوُهُ، وَصَحَّحَهُ
(2)
.
* * *
هذان الحديثان معناهما واحدٌ، ويعضد أحدهما الآخر، فالأشبه أنَّهما من الحسن لغيره، ومعناهما صحيحٌ متَّفقٌ عليه بين العلماء، ولا عبرة بمن شذَّ.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الصَّعيد -وهو التُّراب أو هو ما على وجه الأرض- كالماء في التَّطهير.
2 -
أنَّ التَّيمُّم كالوضوء وكالغسل.
3 -
أنَّ التَّيمُّم رافعٌ للحدث، وإلى هذا ذهب كثيرٌ من أهل العلم.
وذهب الجمهور إلى أنَّه مبيحٌ لا رافعٌ، فيتقيَّد بوقت الصَّلاة.
والحديث يدلُّ للقول الأوَّل وهو الصَّواب. ويدلُّ له أيضًا أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم سمَّى التُّراب طهورًا في حديث جابرٍ رضي الله عنه، وفي هذا الحديث سمَّاه وضوءًا.
(1)
مسند البزار (3973) بلفظ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ المُسْلِمِ أَوِ المُؤْمِنِ» . ينظر: «بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (5/ 266)، و «العلل» للدارقطني (8/ 93).
(2)
الترمذي (124).
4 -
أنَّ شرط التَّيمُّم عدم الماء؛ كما جاء في القرآن: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، وفي هذا الحديث:«وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ» .
5 -
أنَّ عدم الماء مبيحٌ للتَّيمُّم وإن طالت المدَّة.
6 -
توضيح الأحكام بفرض وجود ما هو نادرٌ، وهو من المبالغة؛ فذكر العشر لا مفهوم له.
7 -
أنَّ رفع التَّيمُّم للحدث موقَّتٌ بعدم الماء، وقد نقل غير واحدٍ الإجماع على ذلك، وحكم بالشُّذوذ على من قال بأنَّه رافعٌ مطلقًا حتَّى بعد وجود الماء، كما روي عن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن
(1)
.
8 -
أنَّ عدم الماء شرطٌ في التَّيمُّم ابتداءً ودوامًا.
9 -
بطلان حكم التَّيمُّم بوجود الماء فيما يستقبل من الصَّلوات لا فيما مضى، وهذا هو الفرق بين التَّيمُّم والتَّطهُّر بالماء، فطهارة الماء تبطل بالحدث، وطهارة التَّيمُّم تبطل بالحدث وبوجود الماء.
10 -
أنَّ من تقوى الله التَّطهُّر بالماء عند وجوده من الحدث السَّابق.
11 -
حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم بتوضيح الأحكام بالتَّشبيه والتَّقدير وغيرهما.
12 -
وجوب إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة في الغسل والوضوء؛ لقوله: «وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» .
* * * * *
(147)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا، فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ، وَلَمْ يُعِدِ الآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا
(1)
مصنف عبد الرزاق (1/ 231).
ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ:«أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ» ، وَقَالَ لِلآْخَرِ:«لَكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
(1)
.
* * *
الحديث اختلف في وصله وإرساله، والأكثرون على أنَّه مرسلٌ، وله شاهدٌ من حديث ابن عبَّاسٍ
(2)
، لكن فيه ابن لهيعة، ويدلُّ لصحَّة معنى الحديثين قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابرٍ رضي الله عنه المتقدِّم:«فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ»
(3)
؛ أي: دخل عليه وقتها ولا ماء عنده، ولم يأمره بتأخير الصَّلاة لطلب الماء.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
التَّيمُّم في السَّفر لعدم الماء، وهو جائزٌ بالإجماع.
2 -
جواز الاجتهاد في عصر النَّبي صلى الله عليه وسلم في حال الغيبة عنه.
3 -
جواز الاختلاف بين المجتهدين.
4 -
خطأ من قال: كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ.
5 -
أنَّ الصَّواب من الأقوال المتضادَّة واحدٌ.
6 -
أنَّ المجتهد مأجورٌ وإن أخطأ.
7 -
أنَّ المجتهد إذا عمل عملين وأخطأ في أحدهما فله الأجر على العملين.
8 -
عذر بعض المجتهدين لبعضٍ.
9 -
أنَّ من صلَّى بالتَّيمُّم ثمَّ وجد الماء فإنَّه لا يعيد.
10 -
أنَّه لا يجب تأخير الصَّلاة لآخر وقتها ولو ظنَّ أنَّه يجد الماء.
(1)
أبو داود (338)، والنسائي (431).
(2)
رواه أحمد (2614).
(3)
تقدم برقم (139).
11 -
أنَّ المصيب أفضل من المجتهد المخطئ ولو كان عمله أكثر.
12 -
التَّحاكم عند الاختلاف إلى النَّصِّ من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فالرَّدُّ إلى الله هو الرَّدُّ إلى كتابه، والرَّدُّ إلى الرَّسول هو الرَّدُّ إليه في حياته صلى الله عليه وسلم وإلى سنَّته بعد وفاته.
13 -
أنَّ الَّذي لم يعد أصاب والَّذي أعاد أخطأ.
* * * * *
(148)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6]، قَالَ:«إِذَا كَانَتْ بِالرَّجُلِ الْجِرَاحَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْقُرُوحُ، فَيُجْنِبُ، فَيَخَافُ أَنْ يَمُوتَ إِنِ اغْتَسَلَ؛ تَيَمَّمَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْقُوفًا، وَرَفَعَهُ الْبَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ
(1)
.
* * *
هذا الأثر هو من تفسير ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم للآية، وابن عبَّاسٍ ترجمان القرآن، والظَّاهر أنَّه فسَّر الآية بالمثال، وهي عادة السَّلف في التَّفسير كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيميَّة في مقدِّمة التَّفسير.
وفي الآية وفي تفسير ابن عباسٍ رضي الله عنهم لها فوائد، منها:
1 -
أنَّ المرض الَّذي يباح لأجله التَّيمُّم هو ما يخاف معه الموت باستعمال الماء، وهذا ممَّا لا خلاف فيه، ونصُّ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم على هذه الصُّورة على سبيل المثال لا يقتضي تقييد الحكم بها، وممَّا يدلُّ على أنَّه قصد المثال لا الحصر: تقييد الجراحة بأنَّها في سبيل الله، فإنَّه لا أحد يقول بذلك.
(1)
الدارقطني (678)، والبزار (5057)، وابن خزيمة (272)، والحاكم (588).
2 -
إباحة التَّيمُّم لكلِّ مرضٍ يخشى الضَّرر معه باستعمال الماء؛ لإطلاق الآية، والتَّقييد بالضَّرر راجعٌ إلى النَّظر في المعنى والحكمة، وهذا قول جمهور العلماء.
3 -
إباحة التَّيمُّم لكلِّ مريضٍ بأيِّ مرضٍ ولو لم يخش ضررًا باستعمال الماء، وهو قول الظَّاهريَّة
(1)
، وهو قولٌ يخالف بناء الأحكام على المعاني والحكم؛ فإنَّ المريض الَّذي لا يضرُّه استعمال الماء كالصَّحيح لا فرق
(2)
.
4 -
رحمة الله بعباده أن رفع الحرج عنهم.
5 -
وجوب التَّيمُّم إذا خشي المريض من استعمال الماء الموت أو الضَّرر، ويشهد لذلك قوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]، وقد استدلَّ بهذه الآية عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما أجنب فعدل عن الغسل إلى التَّيمُّم خشيةً على نفسه من استعمال الماء مع شدَّة البرد
(3)
.
6 -
جواز التَّفسير بذكر بعض الصُّور الَّتي تتناولها الآية.
7 -
وجوب اجتناب ما يضرُّ بالحياة والصِّحَّة، وهذا راجعٌ إلى أحد الضَّروريَّات الخمس، وهو حفظ النَّفس.
* * * * *
(149)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «انْكَسَرَتْ إحْدَى زَنْدَيَّ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَأَمَرَنِي أَنْ أَمْسَحَ عَلَى الْجَبَائِرِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه بِسَنَدٍ وَاهٍ جِدًّا
(4)
.
(1)
ينظر: «المحلى» (1/ 347).
(2)
وقال ابن رجب: «إنه قول مخالف للإجماع» . «فتح الباري» (2/ 80).
(3)
وهذا في حديث أخرجه أبو داود (334) وأحمد (17845). قال ابن حجر: «إسناده قوي» . «فتح الباري» (1/ 454).
(4)
ابن ماجه (657).
(150)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، فِي الرَّجُلِ الَّذِي شُجَّ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ:«إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ عَلَى رُوَاتِهِ
(1)
.
* * *
حديث عليٍّ رضي الله عنه وحديث جابرٍ رضي الله عنه ضعيفان كما ذكر المصنِّف، لكنَّ العمل عليهما عند جمهور أهل العلم وهو المسح على الجبيرة والعصابة إذا خيف الضَّرر بنزعهما، وقد اختصر المؤلِّف حديث جابرٍ رضي الله عنه فحذف سببه، وأصل الحديث: قال جابرٌ رضي الله عنه: «خرجنا في سفرٍ، فأصاب رجلاً منَّا حجرٌ فشجَّه في رأسه، ثمَّ احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصةً في التَّيمُّم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصةً وأنت تقدر على الماء، فاغتسل؛ فمات فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم» » إلخ.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز المسح على الجبيرة.
2 -
جواز المسح على العصابة.
3 -
السُّؤال عمَّا أشكل من مسائل الدِّين.
4 -
أنَّ الَّذي يُسأَل هو العالم بأحكام الشَّريعة؛ قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُون (43)} [النحل: 43، والأنبياء: 7].
5 -
أنَّ المسح على الجبيرة لا توقيت له.
6 -
أنَّ الجبيرة لا يشترط للمسح عليها لبسها على طهارةٍ، وهذا على الصَّحيح من قولي العلماء.
7 -
ضرر الفتوى بلا علمٍ.
8 -
الزَّجر عن الفتوى بغير علمٍ.
(1)
أبو داود (336).
9 -
أنَّ السُّؤال عن أمور الدِّين شفاءٌ من داء الجهل.
10 -
التَّيمُّم لما يعجز الإنسان عن غسله في الوضوء أو الغسل.
11 -
الجمع بين التَّيمُّم والمسح على الجبيرة والعصابة إذا وضعتا على غير طهارةٍ، وقد قال بذلك بعض العلماء؛ أخذًا من حديث جابرٍ رضي الله عنه، حيث جمع فيه بين التَّيمُّم والمسح.
ولكنَّ الحديث ضعيفٌ كما تقدَّم، فالرَّاجح -والله أعلم- أنَّه إذا أمكن المسح كفى عن التَّيمُّم، وعليه؛ فإذا كان الجرح مكشوفًا ولا يمكن مسحه كان الواجب التَّيمُّم، وإذا كان معصوبًا؛ كان الواجب المسح. والله أعلم.
وذهبت الظَّاهريَّة
(1)
إلى أنَّ ما تعذَّر غسله من البدن أو أعضاء الوضوء فلا يجب التَّيمُّم له، ولا المسح على ما وضع عليه؛ من جبيرةٍ أو عصابةٍ؛ لأنَّه لم يصحَّ في المسح على الجبيرة حديثٌ، والقياس لا يصحُّ عندهم، قالوا: وقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. ولا شكَّ أنَّ قول جمهور العلماء أرجح، وهم بالعمل بالآية أسعد.
* * * * *
(151)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لا يُصَلِّيَ الرَّجُلُ بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا صَلَاةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلصَّلَاةِ الأُخْرَى» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا
(2)
.
* * *
حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم هذا حكم عليه المصنِّف بالضَّعف الشَّديد، بل حكم عليه بعضهم بالوضع
(3)
، ومع هذا فقد قال بموجبه كثيرٌ من العلماء.
(1)
ينظر: «المحلى» (1/ 316).
(2)
الدارقطني (710)، وقال:«الحسن بن عمارة ضعيف» .
(3)
ينظر: «السلسلة الضعيفة» للألباني (423).
وعضدوه بآثارٍ جاءت عن الصَّحابة رضي الله عنهم تدلُّ على معناه؛ منهم ابن عمر رضي الله عنهم؛ فقد جاء عنه قوله: «يتيمَّم لكلِّ صلاةٍ وإن لم يحدث»
(1)
.
وعضدوه من جهة المعنى بأنَّ التَّيمُّمَ طهارةُ ضرورةٍ؛ تبيح الصَّلاة ولا ترفع الحدث؛ فيقتصر فيه على قدر الحاجة.
وقد تقدَّم أنَّ الصَّواب أنَّ التَّيمُّم رافعٌ للحدث إلى وجود الماء، بقوله صلى الله عليه وسلم:«وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»
(2)
، وقوله عليه الصلاة والسلام:«الصَّعِيدُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ»
(3)
.
وهذا يقتضي أنَّ التَّيمُّم لا يبطل إلَّا بما يبطل الوضوء ما دام العذر المبيح للتَّيمُّم قائمًا؛ فيبطل التَّيمُّم بزوال العذر؛ وهو وجود الماء أو القدرة على استعماله، وحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم هذا وأثر ابن عمر رضي الله عنهم لا يصلحان لمعارضة هذين الحديثين.
وفي هذا الحديث -لو صح- ثلاث فوائد:
1 -
أنَّه مرفوعٌ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حكمًا؛ لقوله: «من السُّنَّة» .
2 -
أنَّ التَّيمُّم مبيحٌ لما تجب له الطَّهارة لا رافعٌ للحدث.
3 -
أنَّ حكم التَّيمُّم يبطل بخروج الوقت؛ فيجب التَّيمُّم لوقت كلِّ صلاةٍ، بل قال بعضهم: يجب التَّيمُّم لكلِّ صلاةٍ؛ كما دلَّ عليه أثر ابن عمر رضي الله عنهم المتقدِّم. والله أعلم.
* * * * *
(1)
رواه الدارقطني (1/ 184)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 221)، وقال:«إسناده صحيح، وقد روي عن علي وعن عمرو بن العاص وعن ابن عباس رضي الله عنهم» .
(2)
تقدم برقم (139).
(3)
تقدم برقم (145).
بَابُ الْحَيْضِ
قال العلماء: الحيض لغةً: السَّيلان، ومنه حاض الوادي إذا سال.
وهو في الاصطلاح: جريان الدَّم من قعر الرَّحم على موجب الجبلَّة والطَّبيعة، ويكون في أوقاتٍ معلومةٍ غالبًا، ويقال للحيض: نفاسٌ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«لَعَلَّكِ نَفِسْتِ» ؛ يعني: حضت، ثمَّ قال:«هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ»
(1)
.
وباب الحيض اختلف العلماء في كثيرٍ من مسائله، وتباينت مذاهبهم فيه، وتوسَّعوا في تفصيل مسائله، وذلك لكثرة اختلاف أحوال النِّساء في حيضهنَّ.
* * * * *
(152)
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ دَمٌ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِك فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَاسْتَنْكَرَهُ أبو حَاتِمٍ
(2)
.
(153)
وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: «وَلْتَجْلِسْ فِي مِرْكَنٍ، فَإِذَا رَأَتْ صُفْرَةً فَوْقَ الْمَاءِ فَلْتَغْتَسِلْ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، غُسْلاً وَاحِدًا، وَتَغْتَسِلْ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ غُسْلاً وَاحِدًا وَتَغْتَسِلْ لِلْفَجْرِ غُسْلاً وَاحِدًا، وَتَتَوَضَّأْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ»
(3)
.
(1)
رواه البخاري (305)، ومسلم (1211) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
أبو داود (286)، والنسائي (216)، وابن حبان (1348)، والحاكم (620). قال أبو حاتم في «العلل» (117):«لم يتابع محمد بن عمرو على هذه الرواية، وهو منكر» .
(3)
أبو داود (296).
(154)
وَعَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَسْتَفْتِيهِ، فَقَالَ:«إِنَّمَا هِي رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَإِذَا اسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ، وَصُومِي وَصَلِّي فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُكِ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي كُلَّ شَهْرٍ كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ، فَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ ثُمَّ تَغْتَسِلِي حِينَ تَطْهُرِينَ، وَتُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ تُؤَخِّرِينَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِينَ الْعِشَاءَ ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَافْعَلِي. وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الصُّبْحِ وَتُصَلِّينَ» ، قَالَ:«وَهُوَ أَعْجَبُ الأَمْرَيْنِ إلَيَّ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْبُخَارِيُّ
(1)
.
* * *
هذه الأحاديث أصلٌ في تمييز دم الحيض من دم الاستحاضة. والاستحاضة: جريان الدَّم من المرأة دائمًا أو غالبًا، واختلف العلماء فيما تعتبر به المستحاضة حيضها:
فقيل: باللَّون، وهو الأسود إن كان، لحديث عائشة رضي الله عنها، وهو قول مالكٍ
(2)
.
وقيل: بالعادة، إن كانت لها عادةٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة:«امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ»
(3)
وهو قول أبي حنيفة
(4)
.
وقيل: تعتبر حيضها بأحد ثلاثة أمورٍ مرتَّبةٍ:
1 -
بالعادة إن كانت.
2 -
وإلَّا فبتمييز لون الدَّم.
(1)
أبو داود (287)، والترمذي (128)، وابن ماجه (627)، وأحمد (27474).
(2)
ينظر: «بداية المجتهد» (1/ 55).
(3)
هو حديث أم حبيبة رضي الله عنها الآتي.
(4)
ينظر: «المبسوط» (3/ 178).
3 -
وإن لم تكن عادةٌ ولا تمييزٌ فبغالب الحيض، وهو ستَّة أيَّامٍ أو سبعةٌ؛ لحديث حمنة رضي الله عنها المذكور وهو المشهور في مذهب الشَّافعيِّ وأحمد، وهو الرَّاجح؛ لأنَّه يتضمَّن العمل بأحاديث الباب كلِّها.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ فاطمة بنت أبي حبيشٍ رضي الله عنها إحدى المستحاضات في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
الفرق بين الحيض والاستحاضة في الصِّفة والأحكام.
3 -
أنَّ دم الحيض أسود يعرف، أي تعرفه النِّساء، وقيل: يعرف -بضمِّ الياء وكسر الرَّاء- من العرف وهو الرَّائحة.
4 -
أنَّ دم الاستحاضة لا يمنع من الصَّلاة بخلاف الحيض.
5 -
أنَّ المستحاضة تقعد عن الصَّلاة في الأيَّام الَّتي تعتبرها حيضتها.
6 -
وجوب الوضوء على المستحاضة للصَّلاة، وذلك بعدما تغسل عنها الدَّم وتغتسل عند إدبار حيضتها كما في الصَّحيح:«وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي»
(1)
وقوله: «فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي» تفسِّره رواية البخاريِّ: «وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» كما تقدَّم في نواقض الوضوء
(2)
.
7 -
أنَّ دم الاستحاضة يضرب إلى الصُّفرة لقوله: «إِذَا رَأَتْ صُفْرَةً» .
8 -
تحقُّق المستحاضة من صفة دمها بالجلوس في ماءٍ، لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَلْتَجْلِسْ فِي مِرْكَنٍ
…
» إلخ. والمركن: إناءٌ يشبه الطَّست، أو هو الطَّست؛ تغسل فيه الثِّياب ويغتسل فيه.
9 -
جواز جمع المستحاضة للصَّلوات: الظُّهر والعصر، والمغرب والعشاء.
(1)
تقدم برقم (75).
(2)
تقدم برقم (76)، وهي في الحديث الآتي.
10 -
مشروعيَّة الغسل للمستحاضة ثلاث مرَّاتٍ للظُّهر والعصر، وللمغرب والعشاء، وللفجر.
11 -
أنَّ حمنة بنت جحشٍ رضي الله عنها إحدى المستحاضات في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
12 -
فضل نساء الصَّحابة؛ حيث لم يمنعهنَّ الحياء من التَّفقُّه في الدِّين.
13 -
أنَّ للشَّيطان تأثيرًا في نزف الدَّم من الرَّحم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا هِيَ رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ» ؛ أي: رفسةٌ من الشَّيطان.
14 -
أنَّ من لا عادة لها ولا تمييز تجلس غالب مدَّة الحيض ستًّا أو سبعًا وتصوم وتصلِّي في باقي أيَّام الشَّهر؛ ثلاثةً وعشرين أو أربعةً وعشرين، وتعتبر في تعيين أحد العددين السِّتَّة أو السَّبعة بغالب حال نسائها.
15 -
أنَّ المستحاضة مخيَّرةٌ في الصَّلاة بين التَّوقيت والجمع.
16 -
أنَّها إذا اختارت الجمع استحبَّ لها الاغتسال ثلاث مرَّاتٍ.
17 -
أنَّها إذا اختارت التَّوقيت؛ وهو فعل كلِّ صلاةٍ في وقتها، فعليها الوضوء لكلِّ صلاةٍ.
18 -
أنَّ الجمع بين الصَّلوات والاغتسال أفضل من التَّوقيت من غير اغتسالٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَهُوَ أَعْجَبُ الأَمْرَيْنِ إلَيَّ» .
* * * * *
(155)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ رضي الله عنها شَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّمَ، فَقَالَ:«امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي» ، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(1)
مسلم (334).
(156)
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ»
(1)
، وَهِيَ لأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
(2)
.
* * *
هذا الحديث هو من الأدلَّة على ردِّ المستحاضة في معرفة حيضها إلى عادتها.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ أمَّ حبيبة بنت جحشٍ إحدى المستحاضات في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
أنَّ المستحاضة الَّتي لها عادةٌ تدع الصَّلاة أيَّام عادتها.
3 -
وجوب الغسل على الحائض إذا انقضت حيضتها.
4 -
أنَّ المستحاضة المعتادة تنقضي حيضتها بانقضاء أيَّامها المعتادة.
5 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمَّ حبيبة رضي الله عنها بالاغتسال لكلِّ صلاةٍ.
6 -
أنَّ الحائض لا تصلِّي، فلا تجب عليها ولا تصحُّ منها.
7 -
وجوب الصَّلاة على المستحاضة في غير أيَّام حيضتها.
8 -
وجوب الوضوء للمستحاضة لكلِّ صلاةٍ.
9 -
أنَّ دم الاستحاضة ناقضٌ للوضوء.
* * * * *
(1)
قوله: «وفي رواية للبخاري» يوهم أن البخاري روى حديث أم حبيبة رضي الله عنها وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» ، وليس كذلك، فحديث أم حبيبة رضي الله عنها لم يروه من الشيخين إلا مسلم كما ذكر الحافظ هنا، وأما رواية البخاري التي ذكرها هنا فهي طرف من حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها الذي أورده الحافظ في باب نواقض الوضوء، وقد ذكر هناك هذه الرواية التي انفرد بها البخاري عن مسلم؛ وهي قوله:«وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» ، فظهر بذلك أن قوله:«وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» حديث آخر لا علاقة له بحديث أم حبيبة رضي الله عنها. قاله شيخنا عبد الرحمن البراك حفظه الله.
(2)
أبو داود (298)، وقد تقدمت هذه الرواية برقم (76).
(157)
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كُنَّا لا نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ
(1)
.
* * *
هذا الحديث عن أمِّ عطيَّة، وحديث عائشة رضي الله عنهم، وهو قولها للنِّساء:«لا تعجلن حتَّى ترين القصَّة البيضاء»
(2)
.
هذان الأثران هما الأصل عند العلماء في حكم الصُّفرة والكدرة.
والمراد بالصُّفرة والكدرة: دمٌ خفيفٌ يشبه غسالة اللَّحم، تفرزه الرَّحم في أيَّام عادة المرأة في أوَّلها أو في آخرها، وفي غير أيَّام العادة، وقد اختلف العلماء في حكم الصُّفرة والكدرة اختلافًا كبيرًا، والجمهور على أنَّهما في زمن العادة حيضٌ، وفي غيرها ليست حيضًا، كما يفهم من منطوق ومفهوم قول أمِّ عطيَّة رضي الله عنها.
فمنطوقه أنَّ الصُّفرة والكدرة بعد الطُّهر ليست من الحيض، فلا تمنع ممَّا يمنع منه الحيض، ومفهوم ذلك أنَّ الصُّفرة قبل الطُّهر حيضٌ، وهذا يوافق قول عائشة رضي الله عنها للنِّساء:«لا تعجلن حتَّى ترين القصَّة البيضاء» ، والمراد بالقصَّة: ماءٌ أبيض تدفعه الرَّحم يدلُّ على انقطاع الدَّم، وبه تعرف المرأة الطَّهارة.
وذهب ابن حزمٍ إلى أنَّ الصُّفرة والكدرة ليست حيضًا مطلقًا
(3)
، وإنَّما دم الحيض هو الأسود الثَّخين المنتن، وفرَّق بعضهم بين ما اتَّصل بالدَّم في أوَّل العادة، فلم يجعله حيضًا، دون ما اتَّصل به في آخرها؛ فهو حيضٌ.
وذهب بعض العلماء إلى أنَّه لا اعتبار إلَّا للمتَّصل فقط، سواءٌ أكان قبل الدَّم أم بعده، فذلك حيضٌ عندهم، كما يدلُّ له قول عائشة رضي الله عنها: «لا تعجلن
(1)
البخاري (326)، وأبو داود (307).
(2)
رواه البخاري معلقًا مجزومًا به (1/ 120)، ووصله مالك في «الموطأ» (189).
(3)
ينظر: «المحلى» (1/ 388).
حتَّى ترين القصَّة البيضاء»، والرَّاجح -والله أعلم- أنَّ الصُّفرة والكدرة بعد الدَّم متَّصلةً به حيضٌ، وما سوى ذلك ليس شيئًا، كما يدلُّ له قول أمِّ عطيَّة.
وقول أمِّ عطيَّة رضي الله عنها: «كُنَّا» ؛ أي: نساء الصَّحابة في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وبعده، وبهذا يكون له حكم الرَّفع عند أكثر العلماء.
وفي حديث أم عطية وقول عائشة رضي الله عنهم فوائد، منها:
1 -
الاستدلال بما كان عليه الحال في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ قول الصَّحابيِّ: «كُنَّا» ينصرف إلى عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيكون له حكم الرَّفع.
2 -
أنَّ الصُّفرة والكدرة بعد الطُّهر ليست حيضًا؛ فحكمها حكم الاستحاضة.
3 -
أنَّ الصُّفرة والكدرة قبل الطُّهر حيضٌ.
4 -
فقه عائشة رضي الله عنها في الأحكام الشَّرعيَّة.
5 -
سؤال النِّساء لها.
6 -
أنَّ أظهر علامةٍ للطُّهر من الحيض القصَّة البيضاء، وقد يعرف الطُّهر بالجفوف.
7 -
إرشاد النِّساء إلى التَّثبُّت في معرفة الطَّهارة من الحيض.
* * * * *
(158)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَم يُؤَاكِلُوهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(159)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
* * *
(1)
مسلم (302).
(2)
البخاري (300)، ومسلم (293).
هذان الحديثان هما الأصل في حكم مباشرة الحائض وما يحلُّ منها، فالأوَّل من قوله صلى الله عليه وسلم، والثَّاني من فعله.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
تشدُّد اليهود في أمر النَّجاسة.
2 -
أنَّ من تشدُّد اليهود ترك مجالسة الحائض ومؤاكلتها.
3 -
مخالفة هذه الشَّريعة لما عليه اليهود.
4 -
يسر شريعة الإسلام.
5 -
إباحة الاستمتاع من الحائض بكلِّ نوعٍ من الاستمتاع إلَّا الجماع في الفرج؛ فإنَّه حرامٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع.
6 -
استحباب ترك مباشرة الحائض فيما بين السُّرَّة والرُّكبة؛ لفعله صلى الله عليه وسلم.
7 -
جواز التَّصريح بما يستحيا من ذكره؛ لبيان الحكم الشَّرعيِّ.
8 -
فضل عائشة رضي الله عنها في تبليغ هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع أهله.
9 -
طهارة بدن الحائض وثيابها إلَّا ما أصابه الدَّم.
10 -
جواز أمر الرَّجل امرأته بما يناسب لاستمتاعه بها؛ لقولها: «يأمرني» ، وهذا ممَّا تجب طاعته فيه.
* * * * *
(160)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم -فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ- قَالَ: «يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ، أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ الْقَطَّانِ، وَرَجَّحَ غَيْرُهُمَا وَقْفَهُ
(1)
.
(1)
أبو داود (264)، والترمذي (136)، والنسائي (289)، وابن ماجه (640)، وأحمد (2032)، والحاكم (614)، وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 277).
هذا الحديث هو عمدة من أوجب الكفَّارة في وطء الحائض، وقد اختلف النَّاس في ثبوت هذا الحديث والعمل به، والأكثر على تضعيفه وعدم وجوب الكفَّارة، وذهب كثيرون إلى تصحيح الحديث والعمل بمقتضاه، وهذا هو الرَّاجح، وممَّن قوَّاه وذهب إليه: الإمام أحمد، وجاء عن ابن القيِّم قوله:«إنَّ وجوب الكفَّارة هو موجب القياس، ووجهه أنَّ الشَّريعة جاءت بالكفَّارة في التَّحريم الموقَّت كالوطء في نهار رمضان والظِّهار فهكذا وطء الحائض»
(1)
.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
تحريم وطء الحائض، وهو ثابتٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع كما تقدَّم.
2 -
وجوب الكفَّارة بوطء الحائض، وإنَّما تجب الكفَّارة على العالم العامد دون الجاهل والنَّاسي، والمرأة والرَّجل في ذلك سواءٌ؛ لعدم الفارق، كما قال جمهور العلماء مثل ذلك في كفَّارة الجماع في نهار رمضان، والجماع في الإحرام.
3 -
تقدير الكفَّارة بدينارٍ أو نصف دينارٍ، و (أو) في قوله:«أَوْ بِنِصْفِ دِينَارٍ» قيل: للتَّخيير، وقيل: للتَّنويع، والأظهر: أنَّها للتَّخيير، أمَّا التَّخيير فظاهرٌ، وأمَّا التَّنويع فيرجع إلى اختلاف حال الحائض، فالوطء عند إقبال الدَّم وفورانه يجب فيه دينارٌ، وفي إدبار الحيض نصف دينارٍ.
4 -
فيه شاهدٌ لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
* * * * *
(1)
«إعلام الموقعين» (3/ 342).
(161)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ
(1)
.
* * *
هذا الحديث طرفٌ من حديثٍ طويلٍ كما أشار المصنِّف، ونصُّه: عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو في فطرٍ إلى المصلَّى، فمرَّ على النِّساء فقال:«يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ؛ فَإِنِّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» ، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: «تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ. مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إحْدَاكُنَّ» . قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: «أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟» قلن: بلى. قال: «فَذَلِك مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟» قلن: بلى. قال: «فَذَلِك مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا» .
والحديث دليلٌ على منع الحائض من الصَّلاة والصَّوم؛ فأمَّا الصَّلاة فقد دلَّ عليها أيضًا أحاديث المستحاضة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ»
(2)
، وأمَّا الصَّوم فقد دلَّ عليه أيضًا حديث عائشة رضي الله عنها في قولها:«كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصَّوم ولا نؤمر بقضاء الصَّلاة»
(3)
.
وفي هذا القدر من الحديث الذي أورده المصنف فوائد، منها:
1 -
تحريم الصَّلاة على الحائض؛ فلا تجب عليها، ولا تصحُّ منها.
2 -
تحريم الصَّوم على الحائض؛ فلا يصحُّ منها؛ لكن يجب عليها؛ بدليل أمرها بالقضاء.
(1)
البخاري (304)، ومسلم (80).
(2)
تقدم برقم (75).
(3)
رواه مسلم (335).
3 -
أنَّ ترك الحائض للصَّوم والصَّلاة أمرٌ مستقرٌّ عند نساء الصَّحابة رضي الله عنهم وعنهنَّ.
4 -
أنَّ ترك الحائض للصَّلاة والصَّوم نقصٌ في دينها، لكن ليس ممَّا تأثم به، وهو نقصٌ سببه النَّقص الطَّبيعيُّ، لكن تؤجر على إيمانها وامتثالها لأمر ربِّها وقبولها لشرعه.
* * * * *
(162)
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا جِئْنَا سَرِفَ حِضْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ
(1)
.
* * *
هذا الحديث طرفٌ من حديثٍ طويلٍ روته عائشة رضي الله عنها في حجَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وهو الأصل في منع الحائض من الطَّواف بالبيت، وقد دلَّ على هذا الحكم أيضًا حديث عائشة رضي الله عنها في شأن صفيَّة رضي الله عنها لمَّا قيل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّها حائضٌ، قال:«أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟»
(2)
، وحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم في طواف الوداع، وهو قوله:«أمر النَّاس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلَّا أنَّه خفِّف عن الحائض»
(3)
.
وقد أجمع العلماء على تحريم الطَّواف بالبيت على الحائض، إلَّا أنَّه اختلف في تعليل هذا الحكم: أهو لمنع الحائض من المكث في المسجد؛ أم لاشتراط الطَّهارة للطَّواف أو وجوبها؟
(1)
البخاري (305)، ومسلم (1211).
(2)
رواه البخاري (1757)، ومسلم (1211).
(3)
سيأتي في كتاب الحج «باب صفة الحج ودخول مكة» .
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ (سرف) موضعٌ بين مكَّة والمدينة في طريق الحاجِّ، وهو قريبٌ من مكَّة.
2 -
أنَّ عائشة رضي الله عنها حاضت في حجَّتها مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
3 -
بكاء عائشة رضي الله عنها لمَّا حاضت خوفًا من أنَّ حيضها يمنعها من إكمال المناسك.
4 -
تسلية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لها ببيان أنَّ هذا قدر الله على بنات آدم، فالكتابة في الحديث كونيَّةٌ، وأنَّ الحيض لا يمنعها من شيءٍ من المناسك إلَّا الطَّواف بالبيت.
5 -
استحباب تسلية المصاب بما يهوِّن عليه المصيبة.
6 -
إباحة جميع المناسك للحائض، الواجب منها والمستحبِّ؛ من الوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والسَّعي بين الصَّفا والمروة.
7 -
تحريم الطَّواف على الحائض، وقد أجمع على ذلك عامَّة العلماء.
8 -
أنَّه لا يصحُّ طواف الحائض، وقد أجمع على ذلك كلُّ من يرى اشتراط الطَّهارة للطَّواف أو وجوبها، وهم جمهور العلماء الأئمَّة الأربعة وغيرهم.
وأمَّا من ذهب إلى أنَّ الطَّهارة للطَّواف مستحبَّةٌ؛ فطواف الحائض لا يصحُّ عندهم من غير ضرورةٍ، ويصحُّ مع الضَّرورة؛ لأنَّ النَّهي يقتضي الفساد، وقد يقول بعض هؤلاء: إنَّ الحيض مانعٌ من صحَّة الطَّواف وإن لم تكن الطَّهارة شرطًا فيه؛ كما يمنع الحيض من الصِّيام.
والقول الثَّاني هو الظَّاهر من اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة، ومنشأ هذا الاختلاف في صحَّة طواف الحائض هو الاختلاف في علَّة تحريم الطَّواف
على الحائض؛ أذلك لمنع الحائض من المكث في المسجد، أم لاشتراط الطَّهارة في الطَّواف كما تقدَّم.
فتحصَّل ممَّا سبق: أنَّ منع الحيض من صحَّة الطَّواف؛ إمَّا أن يكون كمنع الحيض من الصَّلاة والصِّيام؛ فلا يصحُّ بحالٍ، وهو قول الجمهور، وإمَّا أن يكون كمنع الحدث من الصَّلاة؛ فيصحُّ مع الضَّرورة؛ كفاقد الطَّهورين، وإمَّا أن يكون الطَّواف مع الحيض كالصَّلاة في الأرض المغصوبة، وهذا مقتضى قول من يعلِّل تحريم الطَّواف بتحريم المكث في المسجد، فالحيض عنده ليس مانعًا للطَّواف لذاته، فيحتمل أن يصحَّ من غير ضرورةٍ مع الإثم، كما قيل ذلك في الصَّلاة في الأرض المغصوبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «وكثيرٌ من العلماء -كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الرِّوايتين عنه- يقولون: إنَّها في حال القدرة على الطَّهارة إذا طافت مع الحيض أجزأها وعليها دمٌ، مع قولهم: إنَّها تأثم بذلك»
(1)
.
9 -
جواز قراءة الحائض للقرآن؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ» ، وممَّا يفعل الحاجُّ قراءة القرآن.
* * * * *
(163)
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ، وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ:«مَا فَوْقَ الإِزَارِ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ وَضَعَّفَهُ
(2)
.
* * *
هذا الحديث ضعَّفه أبو داود كما نقله الحافظ، وهو يدلُّ بمفهومه على تحريم مباشرة الحائض فيما بين السُّرَّة والرُّكبة، وإنَّما يحلُّ من مباشرتها ما
(1)
«مجموع الفتاوى» (26/ 203).
(2)
أبو داود (213).
فوق الإزار، وقد تقدَّم بيان حكم مباشرة الحائض وأنَّه يحلُّ منها كلُّ شيءٍ إلَّا الجماع، كما في حديث أنسٍ رضي الله عنه:«اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ»
(1)
.
لكن يستحبُّ الاقتصار في المباشرة على ما فوق الإزار كما دلَّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها المتقدِّم: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتَّزر، فيباشرني وأنا حائضٌ»
(2)
.
وهذا الحديث لا يصلح لمعارضة الحديثين المذكورين؛ لضعفه.
* * * * *
(164)
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَقْعُدُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نِفَاسِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ، وَاللَّفْظُ لأَبِي دَاوُدَ.
(165)
وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «وَلَمْ يَأْمُرْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَضَاءِ صَلَاةِ النِّفَاسِ» . وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ
(3)
.
* * *
هذا الحديث هو عمدة الجمهور في تقدير مدَّة النِّفاس وأنَّها أربعون يومًا، ومعنى «تقعد»؛ أي: عن الصَّلاة والصِّيام، وقد أجمع العلماء على أنَّ النُّفساء كالحائض في ذلك، بل إنَّ أحكام النِّفاس أحكام الحيض فيما يحلُّ ويحرم إلَّا ما ذهب إليه ابن حزمٍ من جواز الطَّواف للنُّفساء
(4)
مستدلًّا بقصَّة أسماء بنت عميسٍ رضي الله عنها حين ولدت بذي الحليفة، فأمرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتحرم، ولم ينهها عن شيءٍ من المناسك
(5)
.
(1)
تقدم برقم (158).
(2)
تقدم برقم (159).
(3)
أبو داود (311)، والترمذي (139)، وابن ماجه (648)، وأحمد (26561)، والحاكم (625).
(4)
ينظر: «المحلى» (7/ 179).
(5)
سيأتي في أول (باب صفة الحج ودخول مكة).
وقد اختلف العلماء في مدَّة النِّفاس؛ فقيل: أربعون يومًا، وهو مذهب الجمهور لهذا الحديث. وقيل: ستُّون يومًا، وقيل: سبعون يومًا، والرَّاجح: هو القول الأوَّل؛ لأنَّ ما سواه لم يذكر له دليلٌ. وإذا كان الإطلاق في المدَّة لا يمكن فلا بدَّ من تحديدٍ، ولا تحديد إلَّا بدليلٍ، والتَّحديد بالأربعين هو الَّذي تدلُّ عليه الآثار. والله أعلم.
* * * * *
كِتَابُ الصَّلَاةِ
الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعاء، هذا هو المشهور، والصَّواب: أنَّ الصَّلاة أخصُّ من الدُّعاء، بل الصَّلاة تتضمَّن ثناءً على المصلَّى عليه، وبه فسِّرت الصَّلاة من الله كما جاء عن أبي العالية رحمه الله، قال:«الصَّلاة من الله: ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى»
(1)
، وأمَّا الصَّلاة من العبد على غيره فهي بسؤال الله أن يصلِّي عليه كما في صلاة المؤمنين على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما في الصَّلاة الإبراهيميَّة: اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ
…
إلخ.
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قومٌ بصدقتهم يقول: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ»
(2)
؛ عملاً بقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103].
وقد ذكر العلَّامة ابن القيِّم فروقًا لفظيَّةً ومعنويَّةً بين الصَّلاة والدُّعاء
(3)
.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الشَّرْعِ: فهي العبادة المعروفة ذات الرُّكوع والسُّجود والتَّحريم والتَّسليم، وسمِّيت صلاةً لاشتمالها على نوعي الدُّعاء: دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
والصَّلاة منها ما هو فرضٌ، وهو الصَّلوات الخمس في كلِّ يومٍ وليلةٍ، ومنها ما هو تطوُّعٌ، وهو أنواعٌ، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للرَّجل الّذي سأله عن الصَّلوات:«خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»
(4)
.
والصَّلوات الخمس أعظم واجبات الدِّين ومبانيه، بعد الشَّهادتين، وهي عمود الإسلام، ولهذا جاء في «الصَّحيح» قوله صلى الله عليه وسلم: «بيْنَ الرَّجُلِ وَبيْنَ الشِّرْكِ
(1)
ذكره البخاريُّ (3/ 280)، قال: باب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] قال أبو العالية: «صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء» .
(2)
رواه البخاريُّ (1497)، ومسلمٌ (1077).
(3)
«جلاء الأفهام» (253).
(4)
رواه البخاريُّ (46)، ومسلمٌ (11)، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
أَوِ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاة»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبيْنَهُمُ الصَّلَاةُ؛ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»
(2)
.
وقد أمر الله بإقامتها والمحافظة عليها، وأثنى على عباده المؤمنين بذلك، فقال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِين (43)} [البقرة: 43]، وقال سبحانه:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين (238)} [البقرة: 238]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون (277)} [البقرة: 277]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُون (34)} [المعارج: 34].
وذمَّ المعرضين عن الصَّلاة وتوعَّدهم والمضيِّعين لها، فقال:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُون (48)} [المرسلات: 48]، وقال تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} [مريم: 59 - 60].
وكتاب الصَّلاة في مصنَّفات العلماء يشتمل على أبوابٍ يذكر فيها أحكام الصَّلاة وأنواعها.
* * * * *
(1)
رواه مسلمٌ (82)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
(2)
رواه أحمد (22937)، وابن ماجه (1079)، والنَّسائيُّ (462)، والترمذيُّ (2621)، والحاكم (11)، وصححاه.
بَابُ المَوَاقِيتِ
المَوَاقِيتُ: جمع ميقاتٍ؛ وهو: الوقت المحدود لأمرٍ ما، ويطلق على المكان المحدود كذلك، كما في مواقيت الإحرام.
وَالمَقْصُودُ بِهَذَا البَابِ: بيان أوقات الصَّلوات الخمس، بذكر الأحاديث الدَّالَّة عليها من السُّنَّة، فإنَّها مبيِّنةٌ لما أجمل في القرآن؛ كقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (103)} [النساء: 103]، وقوله:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78].
* * * * *
(166)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهم، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«وَقْتُ الظُّهْرِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ، وَوَقْتُ صَلاةِ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ، وَوَقْتُ صَلاةِ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ، وَوَقْتُ صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
هذا الحديث أصلٌ في بيان مواقيت الصَّلوات الخمس، وهو أجمع حديثٍ بيَّن فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله أوقات الصَّلاة، فإنَّ ما سواه من أحاديث المواقيت إخبارٌ عن فعله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الحافظ رحمه الله أطرافًا منها حسب ما يقتضيه المقام والاختصار.
(1)
مسلمٌ (612).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أوَّل وقت الظُّهر؛ وهو زوال الشَّمس، وذلك بإجماع العلماء.
2 -
آخر وقت الظُّهر؛ وهو إذا صار ظلُّ الشَّيء مثله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَكَانَ ظِلُّ الرَّجُلِ كَطُولِهِ» ، وعنده يحضر وقت العصر، وإليه ذهب الجمهور لهذا الحديث. وذهب أبو حنيفة إلى أنَّ آخر وقت الظُّهر إذا صار ظلُّ الشَّيء مثليه، وحينئذٍ يدخل وقت العصر عنده.
3 -
أوَّل وقت العصر.
4 -
آخر وقت العصر الاختياريِّ، وهو اصفرار الشَّمس.
5 -
أوَّل وقت المغرب؛ وهو غروب الشَّمس، كما يدلُّ عليه اسم هذه الصَّلاة.
6 -
آخر وقت صلاة المغرب؛ وهو مغيب الشَّفق، وهو الحمرة كما سيأتي.
7 -
آخر وقت صلاة العشاء؛ وهو نصف اللَّيل.
8 -
أوَّل وقت صلاة الصُّبح؛ وهو طلوع الفجر.
9 -
آخر وقت صلاة الصُّبح؛ وهو طلوع الشَّمس.
10 -
بيان مواقيت الصَّلاة بالتَّحديد لأوَّلها وآخرها، وقد دلَّ على ذلك أيضًا حديث جبريل عندما صلَّى بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في يومين في أوَّل الوقت وفي آخره
(1)
.
وقد أجمع العلماء على أوائل أوقات الصَّلاة على ما تقدَّم إلَّا العصر؛ فالجمهور على أنَّ أوَّل وقتها حين يصير ظلُّ الشَّيء مثله، وقال أبو حنيفة:«أوَّل وقتها حين يصير ظلُّ الشَّيء مثليه» .
(1)
رواه أحمد (3081)، وأبو داود (393)، والترمذيُّ (149)، وابن خزيمة (325)، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهم. وصححه ابن عبد البرِّ، ينظر:«التلخيص الحبير» (243).
وأجمع العلماء على أنَّ آخر وقت صلاة الفجر؛ ما لم تطلع الشَّمس. وأنَّ آخر وقت المغرب ما لم يغب الشَّفق. واختلفوا في آخر وقت الظُّهر، فقيل: إذا صار ظلُّ الشَّيء مثله، وهو أوَّل وقت العصر، وعليه؛ فهذا الوقت مشتركٌ بين الظُّهر والعصر، وهذا مذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة:«آخر وقت الظُّهر إذا صار ظلُّ الشَّيء مثليه» ، وقيل: ما لم تصفرَّ الشَّمس، وقيل: إلى أن يبقى قدر خمس ركعاتٍ قبل أن تغرب الشَّمس، والصَّواب: الأوَّل، وما بعد ذلك فهو وقتٌ للجمع أو للضَّرورة.
واختلفوا في آخر وقت العصر، فقيل: إلى أن يصير ظلُّ الشَّيء مثليه، على ما جاء في حديث جبريل، وقيل: ما لم تصفرَّ الشَّمس، على ما في حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم هذا، وهذا هو الرَّاجح؛ لأنَّ حديث عبد الله متأخِّرٌ، وهو من البيان بالقول لا بالفعل، وقيل: آخر وقت العصر قدر ركعةٍ قبل أن تغرب الشَّمس، والصَّحيح: أنَّ هذا وقت ضرورةٍ لا وقت اختيارٍ. والله أعلم.
واختلفوا في آخر وقت العشاء، فقيل: إلى ثلث اللَّيل؛ لحديث جبريل، وقيل: إلى نصف اللَّيل؛ لحديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم، وقيل: إلى طلوع الفجر، وممَّن ذهب إلى ذلك أبو حنيفة والشَّافعيُّ، واستدلَّ لهم بحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الأُخْرَى»
(1)
، وخصَّ من ذلك صلاة الفجر، فإنَّ ما بعد طلوع الشَّمس ليس وقتًا لها بالإجماع.
وقيل: ما بعد ثلث اللَّيل أو نصفه وقت ضرورةٍ، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وقال ابن حزمٍ: ما بعد نصف اللَّيل ليس وقتًا لصلاة العشاء مطلقًا، كما أنَّ ما بعد طلوع الشَّمس ليس وقتًا لصلاة الصُّبح.
11 -
التَّيسير في أوقات الصَّلاة؛ حيث جعلها الله موسَّعةً.
(1)
رواه مسلمٌ (681).
(167)
وَلَهُ
(1)
مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه فِي العَصْرِ: «وَالشَّمْسُ بَيْضَاءُ نَقِيَّةٌ» .
(168)
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه: «وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ»
(2)
.
(169)
وَعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي العَصْرَ، ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إِلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وكَانَ يَسْتحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ مِنَ الْعِشَاءِ، وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا، وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ حينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ، وكَانَ يَقْرَأُ بِالسِّتِّينَ إِلَى الْمِئَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
(170)
وَعِنْدَهُمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه: «وَالْعِشَاءُ أَحْيَانًا يُقَدِّمُهَا، وَأَحْيَانًا يُؤَخِّرُهَا، إِذَا رَآهُمُ اجْتَمَعُوا عَجَّلَ، وَإِذَا رَآهُمْ أَبْطَؤُوا أَخَّرَ، وَالصُّبْحُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّيهَا بِغَلَسٍ»
(4)
.
(171)
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه: «فَأَقَامَ الْفَجْرَ حينَ انْشَقَّ الْفَجْرُ، وَالنَّاسُ لا يَكَادُ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا»
(5)
.
* * *
هذه الأطراف من حديث بريدة وحديث أبي موسى رضي الله عنهم -في العصر والفجر- وحديث أبي برزة، وحديث جابرٍ رضي الله عنهم كلُّها أخبارٌ عن هديه صلى الله عليه وسلم في وقت أداء الصَّلوات الخمس، وليس فيها تحديدٌ للأوقات، وهي في جملتها تدلُّ على أنَّ هديه صلى الله عليه وسلم: التَّبكير بالصَّلوات في أوَّل وقتها؛ إلَّا العشاء فإنَّه صلى الله عليه وسلم يستحبُّ تأخيرها؛ لكن يعجِّلها خوف المشقَّة على أصحابه.
(1)
مسلمٌ (613).
(2)
مسلمٌ (614).
(3)
البخاريُّ (541)، ومسلمٌ (647).
(4)
البخاريُّ (560)، ومسلمٌ (646).
(5)
مسلمٌ (614).
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
التَّبكير بصلاة الظُّهر؛ لقول أبي برزة رضي الله عنه في أصل الحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي الهجير -أي: الظُّهر- حين تدحض الشَّمس» ؛ أي: تزول، إلا في شدة الحر؛ لحديث:«إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ»
(1)
.
2 -
التَّبكير بصلاة العصر، كما يدلُّ له قول بريدة رضي الله عنه:«والشَّمس بيضاء نقيَّةٌ» ، وقول أبي موسى رضي الله عنه:«والشَّمس مرتفعةٌ» ، وقول أبي برزة رضي الله عنه:«ثمَّ يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشَّمس حيَّةٌ» ؛ أي: لم تزُل حرارتها، ولم يضعف ضوؤها، ولم يدخلها صفرةٌ.
3 -
التَّبكير بصلاة المغرب؛ لقول جابرٍ في أصل حديثه: «والمغرب إذا وجبت» ؛ أي: إذا سقطت الشَّمس في الأفق؛ أي: غربت.
4 -
استحباب تأخير صلاة العشاء، إلَّا أن يشقَّ على المأمومين فيستحبُّ تعجيلها.
5 -
أنَّ هديه صلى الله عليه وسلم التَّغليس بصلاة الفجر؛ أي: يصلِّيها بغلسٍ؛ وهو اختلاط ظلام اللَّيل بضياء النَّهار، وهو يدلُّ على أنَّه صلى الله عليه وسلم يدخل فيها في أوَّل الوقت؛ لقول أبي موسى رضي الله عنه:«فأقام الفجر حين انشقَّ الفجر، والنَّاس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا» ، وقول أبي برزة رضي الله عنه:«وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرَّجل جليسه» ، مع تطويله القراءة صلى الله عليه وسلم.
6 -
فضل المبادرة إلى فعل الخيرات من الفرائض، وسائر الطَّاعات، قال تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148].
7 -
ترك الفاضل إلى المفضول دفعًا للمشقَّة.
8 -
رأفة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ورحمته بأصحابه وأمَّته.
(1)
البخاري (510)، ومسلم (615).
9 -
استحباب تطويل القراءة في صلاة الفجر؛ لقوله: «وكان يقرأ بالسِّتِّين إلى المئة» ؛ أي: في صلاة الغداة، وهي صلاة الصُّبح، وقوله:«بالسِّتِّين إلى المئة» تحتمل أن يكون في الرَّكعتين، وأن يكون في إحداهما، وشكَّ في ذلك بعض الرُّواة، ولكلٍّ من الاحتمالين شاهدٌ من هديه صلى الله عليه وسلم في قراءته في صلاة الصُّبح؛ فيشهد لاحتمال أنَّه في الرَّكعتين قراءته في فجر يوم الجمعة بالسَّجدة والإنسان، ومجموع آياتهما ستُّون، ويشهد للثَّاني ما ورد أنَّه صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر سورة الصَّافَّات
(1)
. نبَّه إلى هذا المعنى الحافظ ابن حجرٍ
(2)
في كلامه على حديث أبي برزة حين ذكره البخاريُّ في باب القراءة في الفجر، والله أعلم.
10 -
حرص الصَّحابة رضي الله عنهم على حضور الصَّلاة مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لقول أبي برزة رضي الله عنه: «ثمَّ يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة» .
11 -
كراهة النَّوم قبل صلاة العشاء.
12 -
كراهة السَّمر بعد العشاء، وخصَّ من ذلك تحدُّث الرَّجل مع أهله، والإمام في مصالح المسلمين، وفي تعليم العلم، من غير تمادٍ يؤدِّي إلى ترك قيام اللَّيل وترك صلاة الفجر.
* * * * *
(172)
وَعَنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَنْصَرِفُ أَحَدُنَا وَإِنَّهُ لَيُبْصِرُ مَوَاقِعَ نَبْلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
* * *
(1)
ينظر: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهم عند أحمد (4989).
(2)
ينظر: «فتح الباري» (2/ 289)، قال ابن حجر: «فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح بالصافات
…
».
(3)
البخاريُّ (559)، ومسلمٌ (637).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
بيان هديه صلى الله عليه وسلم في وقت صلاة المغرب.
2 -
أنَّ السُّنَّة التَّبكير بصلاة المغرب.
3 -
عدم التَّطويل في صلاة المغرب.
4 -
صلاة المغرب جماعةً.
5 -
ضبط الوقت بمدى الرُّؤية.
6 -
الرَّدُّ على الرَّافضة الذين لا يصلُّون المغرب حتَّى تشتبك النُّجوم.
7 -
عناية الصَّحابة رضي الله عنهم بالرَّمي.
* * * * *
(173)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَعْتَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ بِالعِشَاءِ، حَتَّى ذَهَبَ عَامَّةُ اللَّيْلِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى، وَقَالَ:«إِنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
قولها رضي الله عنها: «أعتم» ؛ أي: دخل في العتمة، وهي: ظلمة اللَّيل.
وقولها رضي الله عنها: «عامَّة اللَّيل» ؛ أي: كثيرٌ من اللَّيل.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استحباب تأخير صلاة العشاء ما لم يخش خروج الوقت، وما لم يشقَّ على المأمومين.
2 -
تعمُّد التَّأخير -وإن شقَّ- لقصد التّعليم والبيان.
3 -
شفقته صلى الله عليه وسلم على أمَّته.
4 -
ترك الأفضل لدفع المشقَّة، ففيه شاهدٌ لقاعدة:(المشقَّة تجلب التَّيسير)، وقاعدة:(درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح).
(1)
مسلمٌ (638).
5 -
إيثاره صلى الله عليه وسلم الأيسر من الأمرين، وإن كان الآخر أفضل.
6 -
أنَّ الأمر يقتضي الوجوب، كما جاء في روايةٍ:«لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لأَمَرْتُهُمْ بِالصَّلَاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ»
(1)
.
7 -
أنَّ الغالب من هديه صلى الله عليه وسلم عدم تأخير العشاء لآخر وقتها.
8 -
أنَّ اليسير من النَّوم لا ينقض الوضوء، كما جاء في روايةٍ أنَّ عمر رضي الله عنه قال:«يا رسول الله نام النِّساء والصِّبيان»
(2)
.
9 -
جواز الاجتهاد للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
10 -
جواز أن يأمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم باجتهادٍ؛ ويكون أمره ملزمًا.
11 -
احترام الصَّحابة رضي الله عنهم للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بانتظارهم إيَّاه، وصبرهم له مع التَّأخير الكثير.
* * * * *
(174)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ؛ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استحباب تأخير صلاة الظُّهر في شدَّة الحرِّ.
والإبراد هو: التَّأخير إلى امتداد الفيء، وانكسار حرارة الرَّمضاء، وليس المراد زوال الرَّمضاء بالكلِّيَّة، وبهذا يظهر الجمع بين هذا الحديث وحديث خبَّابٍ رضي الله عنه:«شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصَّلاة في الرَّمضاء، فلم يشكنا»
(4)
.
(1)
رواه البخاريُّ واللفظ له (7239)، ومسلمٌ (642) عن ابن عباس رضي الله عنهم.
(2)
رواه البخاريُّ (566)، ومسلمٌ (638).
(3)
البخاريُّ (536)، ومسلمٌ (615).
(4)
رواه مسلمٌ (619).
وقيل: إنَّ الأمر للوجوب على الأصل، والجمهور على أنَّه للاستحباب، ثمَّ قيل: إنَّ استحباب الإبراد عامٌّ لكلِّ مصلٍّ، وقيل: إنَّه خاصٌّ بمن يلحقه مشقَّةٌ بالتَّعجيل في شدَّة الحرِّ، وهذا -والله أعلم- أظهر، وإذا كانت المشقَّة في التَّأخير لسببٍ ما، كان التَّعجيل أفضل، كما كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك في صلاة العشاء، إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطؤوا تأخَّر.
2 -
أنَّ الأصل في الظُّهر فعلها في أوَّل وقتها.
3 -
تخصيص أدلَّة المسارعة في الخيرات.
4 -
تعليل الأحكام.
5 -
حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم ببيان علَّة الحكم.
6 -
أنَّ شدَّة الحرِّ من فيح جهنَّم، و «من»: للتَّبعيض، أو للتَّشبيه، ويرجِّح الأوَّل قوله صلى الله عليه وسلم:«اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا؛ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ ونَفَسٍ فِي الصَّيْفِ»
(1)
.
7 -
أنَّ النَّار موجودةٌ الآن.
* * * * *
(175)
وَعَنْ رَافِعِ بنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأُجُورِكُمْ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ
(2)
.
* * *
(1)
رواه البخاريُّ (3260)، ومسلمٌ (617) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أحمد (17257)، وأبو داود (424)، والترمذيُّ (154)، والنَّسائيُّ في «الكبرى» (1543)، وابن ماجه (672)، وابن حبان (1490).
استدلَّ بهذا الحديث من يرى تأخير صلاة الفجر إلى وقت الإسفار؛ وهو ذهاب الغلس، وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه، وذهب الجمهور من العلماء إلى استحباب التَّغليس بصلاة الفجر؛ عملاً بالأحاديث الدَّالَّة على ذلك كما تقدَّم، وحملوا الإصباح -في هذا الحديث- والإسفار -كما في روايةٍ- على التَّحقُّق من طلوع الفجر، أو تطويل الصَّلاة حتَّى يحصل الإسفار، وهذا أجود، والأولى حمل الإسفار على الإمهال في صلاة الفجر من غير أن يخرج بها عن وقت الغلس.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استحباب إطالة صلاة الفجر وإطالة القراءة فيها.
2 -
فضيلة صلاة الفجر.
3 -
تفاضل الأعمال في الأجور.
4 -
التَّعبير عن الصَّلاة بوقتها، وهو من مجاز الحذف؛ أي: أصبحوا بصلاة الصُّبح.
5 -
تسمية الثَّواب أجرًا، وشواهد هذا المعنى في القرآن كثيرةٌ؛ كقوله تعالى:{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون (8)} [فصلت: 8].
* * * * *
(176)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(177)
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها نَحْوُهُ، وَقَالَ:«سَجْدَةً» بَدَلَ «رَكْعَةً» ، ثُمَّ قَالَ:«وَالسَّجْدَةُ إِنَّمَا هِيَ الرَّكْعَةُ»
(2)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (579)، ومسلمٌ (608).
(2)
مسلمٌ (609).
تقدَّم في حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم أنَّ وقت الفجر ما لم تطلع الشَّمس، ووقت العصر ما لم تصفرَّ الشَّمس، وهذا الحديث موافقٌ لحديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم في آخر وقت صلاة الفجر، ودالٌّ على الزِّيادة في وقت صلاة العصر إلى غروب الشَّمس.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ وقت الفجر إلى طلوع الشَّمس.
2 -
أنَّ وقت العصر إلى غروب الشَّمس.
3 -
أنَّ من أدرك ركعةً من صلاة الصُّبح قبل طلوع الشَّمس فقد أدرك الصَّلاة في وقتها، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل غروب الشَّمس فقد أدرك العصر في وقتها، وهذا محمولٌ عند العلماء على حال الضَّرورة؛ كحائضٍ طهرت، وصبيٍّ بلغ، وكافرٍ أسلم، ونائمٍ استيقظ من نومه، وعلى هذا؛ فلا يجوز تعمُّد تأخير الصَّلاة إلى هذه الغاية، فلا يجوز تعمُّد تأخير العصر إلى أن تصفرَّ الشَّمس، ولا يجوز تأخير الصُّبح حتَّى لا يبقى إلَّا قدر ركعةٍ.
4 -
جواز فعل فرض الوقت وفعل الفائتة في وقت النَّهي، وقد ذهب الجمهور إلى ذلك، وذهبت الحنفيَّة إلى جواز ذلك في فرض الوقت كركعةٍ من صلاة العصر قبل غروب الشَّمس، ومنعوا ذلك في الفائتة، ولهذا قالوا: من أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشَّمس أتمَّها وصحَّت منه، ومن أدرك ركعةً من الصُّبح فإنَّها لا تصحُّ منه؛ لأنَّ الرَّكعة الثَّانية تقع في وقت النَّهي، فتبطل الرَّكعة الأولى
(1)
، وهذا باطلٌ؛ فإنَّه خلاف نصِّ الحديث.
5 -
أنَّ من أدرك أقلَّ من ركعةٍ لم يكن مدركًا للوقت، وذهب بعض العلماء إلى أنَّ من أدرك من الوقت قدر تكبيرةٍ فقد أدرك الوقت، وهذا خلاف ظاهر الحديث.
(1)
ينظر: «عمدة القاري» (4/ 197).
6 -
إطلاق السَّجدة على الرَّكعة، وهذا من التَّعبير بالجزء عن الكلِّ، ونحوه إطلاق الرَّكعة على مجموع أفعال الرَّكعة من ركعات الصَّلاة.
* * * * *
(178)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ولا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(179)
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ» .
(180)
وَلَهُ
(2)
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً؛ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ؛ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تَتَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ» .
والحكم الثَّاني عند الشَّافعيِّ من:
(181)
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَزَادَ:«إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ»
(3)
.
(182)
وَكَذَا لأَبِي دَاوُدَ: عَنْ أَبِي قَتَادَةَ نَحْوُهُ
(4)
.
* * *
هذان الحديثان صريحان في النَّهي عن الصَّلاة في هذه الأوقات، وهي خمسةٌ:
1 -
بعد صلاة الفجر حتَّى تطلع الشَّمس.
2 -
إذا طلعت الشَّمس حتَّى ترتفع.
(1)
البخاريُّ (586)، ومسلمٌ (827).
(2)
مسلمٌ (831).
(3)
مسند الشافعيِّ (157).
(4)
أبو داود (1083).
3 -
حين يقوم قائم الظَّهيرة؛ أي: حين تتوسَّط الشَّمس في كبد السَّماء حتَّى تزول.
4 -
بعد العصر حتَّى تتضيَّف الشَّمس للغروب؛ أي: حين تشرع في الغروب.
5 -
إذا شرعت في الغروب حتَّى يتمَّ.
وهذه الأوقات تنقسم إلى قسمين: وقتان طويلان؛ وهما الأوَّل والرَّابع، وثلاثةٌ قصيرةٌ؛ وهي السَّاعات المذكورة في حديث عقبة؛ وهي الثَّاني والثَّالث والخامس.
وأجمع العلماء على أنَّه لا يدخل في النَّهي عن الصَّلاة بعد الفجر وبعد العصر فرض الوقت.
واختلفوا فيما سوى ذلك من الفوائت، وأنواع التَّطوُّعات، وذهب أبو حنيفة إلى أنَّ النَّهي عامٌّ في جميع الصَّلوات، وخصَّ الجمهور من ذلك الفرائض الفائتة، وخصَّ الشَّافعيُّ من ذلك ذوات الأسباب؛ كتحيَّة المسجد، وركعتي الطَّواف، وصلاة الكسوف.
وعلى هذا، فالمحرَّم تعمُّد الصَّلاة في هذه الأوقات من غير سببٍ. والمخصِّص لأحاديث النَّهي في الصَّلوات الفائتة قوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نَسِيَ صَلاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، لا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ»
(1)
، وفي ذوات الأسباب الأحاديث الواردة في مشروعيَّتها؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلا يَجْلِسْ حتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»
(2)
، وقوله صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَصَلُّوا وَادْعُوا اللهَ
…
»
(3)
الحديث.
(1)
رواه البخاريُّ (597)، ومسلمٌ (684) عن أنسٍ رضي الله عنه.
(2)
سيأتي في «باب المساجد» برقم (292).
(3)
رواه البخاريُّ (1212) عن عائشة رضي الله عنها.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
تحريم الصَّلاة في هذه الأوقات الخمسة إلَّا ما خصَّه الدَّليل على ما تقدَّم.
2 -
الحكمة من النَّهي عن الصَّلاة عند طلوع الشَّمس وعند غروبها، وهي عدم مشابهة الكفَّار الَّذين يسجدون للشَّمس عند طلوعها وغروبها، كما جاء النَّصُّ على ذلك في أحاديث أخرى، وهذا من أدلَّة تحريم التَّشبُّه بالكفَّار.
3 -
أنَّ حكمة النَّهي عن الصَّلاة في الوقتين الطَّويلين سدُّ ذريعة التَّشبُّه بالكفَّار، فهو من أدلَّة سدِّ الذَّرائع. وبهذا يتبيَّن أنَّ النَّهي عن الصَّلاة في الوقتين الطَّويلين أخفُّ من الصَّلاة عند طلوع الشَّمس وعند غروبها؛ لأنَّ الأوَّل من تحريم الوسائل، والثَّاني من تحريم الغايات.
4 -
تحريم الصَّلاة عند توسُّط الشَّمس في كبد السَّماء، وهو حين يقف الظِّلُّ قبيل زوال الشَّمس، وخصَّ من ذلك يوم الجمعة لمن حضرها؛ لما جاء في الآثار من أنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم كانوا يصلُّون حتَّى يخرج الإمام
(1)
.
5 -
تحريم دفن الميِّت في السَّاعات الثَّلاث؛ لقوله: «وأن نقبر فيهنَّ موتانا» .
* * * * *
(1)
ومن ذلك ما أخرجه مالكٌ في «الموطأ» (233) عن ثعلبة بن أبي مالكٍ القرظيِّ رضي الله عنه؛ «أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلون يوم الجمعة حتَّى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذَّن المؤذنون قال ثعلبة: جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذنون وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم منا أحدٌ» . صحَّحه النوويُّ في «خلاصة الأحكام» (2/ 808).
(183)
وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أوْ نَهَارٍ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضل بني عبد منافٍ، وهو الجدُّ الثَّالث للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
اختصاصهم بأمر البيت سدانةً وسقايةً.
3 -
أنَّ لهم أمرًا ونهيًا في المسجد الحرام، وأنَّ أمر الشَّرع فوق أمرهم.
4 -
جواز الطَّواف بالبيت في كلِّ وقتٍ.
5 -
جواز الصَّلاة في المسجد الحرام في كلِّ وقتٍ، فيحتمل أن يكون ذلك مطلقًا بسببٍ أو بغير سببٍ، وقد قيل بذلك في جميع الحرم، وهو المشهور عند الشَّافعيِّ، ويحتمل أن يكون المراد ركعتي الطَّواف؛ لأنَّها من ذوات الأسباب، وهذا الاحتمال أظهر؛ لأنَّه عطف الصَّلاة على الطَّواف بالواو.
6 -
تخصيص أحاديث أوقات النَّهي عن الصَّلاة بهذا الحديث، وقال بذلك جمعٌ من أهل العلم، وذهب آخرون إلى تخصيص حديث جبيرٍ رضي الله عنه هذا بأحاديث النَّهي عن الصَّلاة في الأوقات المخصوصة، كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهم أنَّه كان لا يصلِّي ركعتي الطَّواف بعد العصر، وهكذا كلُّ من لا يرى فعل ذوات الأسباب في أوقات النَّهي.
7 -
إقرار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم على ما لهم من السِّدانة والسِّقاية.
* * * * *
(1)
أبو داود (1894)، والترمذيُّ (868)، والنَّسائيُّ (584)، وابن ماجه (1254)، وأحمد (16736)، وابن حبان (1553).
(184)
وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
(1)
، وَصَحَّحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ وَقفَهُ
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الشَّفق الحمرة في الأفق التي تكون بعد غروب الشَّمس، وهذا قول الجمهور، وقال بعض العلماء: الشَّفق: البياض، وقال بعضهم: الشَّفق: الحمرة، ولكن يعرف غيابه بذهاب البياض، ولهذا فرَّق بعضهم بين السَّفر والحضر، ففي الحضر يعتبر ذهاب البياض، وفي السَّفر يعتبر ذهاب الحمرة.
2 -
أنَّ وقت المغرب ينتهي بمغيب الحمرة، كما جاء في حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم
(3)
.
3 -
أنَّ دخول وقت العشاء إذا غاب الشَّفق كما تقدَّم.
* * * * *
(185)
وَعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْفَجْرُ فَجْرَانِ: فَجْرٌ يُحَرِّمُ الطَّعَامَ وَتَحِلُّ فيهِ الصَّلَاةُ، وَفَجْرٌ تَحْرُمُ فيهِ الصَّلَاةُ -أَيْ: صَلاةُ الصُّبْحِ- وَيَحِلُّ فيهِ الطَّعَامُ» . رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ
(4)
.
(186)
وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه نَحْوُهُ، وَزَادَ فِي الذِي يُحَرِّمُ الطَّعَامَ:«إِنَّهُ يَذْهَبُ مُسْتَطِيلاً فِي الأُفُقِ» ، وَفِي الآخَرِ:«إِنَّهُ كَذَنَبِ السِّرْحَان»
(5)
.
* * *
(1)
الدَّارقطنيُّ (1056) عن ابن عمر رضي الله عنهم مرفوعًا، ورواه موقوفًا من طريقٍ آخر. قال البيهقيُّ في «السنن» (1/ 373):«الصحيح موقوفٌ» .
(2)
رواه ابن خزيمة (354) لكن عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم ولم يصححه بل أشار إلى ضعفه. تنبيهٌ: في بعض نسخ «البلوغ» : «وصحح ابن خزيمة، وغيره وقفه على ابن عمر» ، والله أعلم. ينظر أيضًا:«التلخيص الحبير» (251).
(3)
تقدَّم في أول الباب برقم (166).
(4)
ابن خزيمة (356)، والحاكم (690).
(5)
الحاكم (691)، وقال:«وإسناده صحيحٌ» .
المراد بالفجر: ظهور الضَّوء من قبل المشرق آخر اللَّيل.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الفجر نوعان.
2 -
الفرق بينهما في الصِّفة:
وذلك أنَّ الفجر الأوَّل -ويسمَّى الكاذب- يكون «كَذَنَبِ السِّرْحَان» ، أي: عموديًّا رأسيًّا.
والفجر الثَّاني -ويسمَّى الصَّادق- يكون ضوؤه مستطيلًا في الأفق، أي: معترضًا يمينًا وشمالًا.
3 -
الفرق بينهما في الحكم:
- الفجر الكاذب يحلُّ فيه الطَّعام لمن يريد الصَّوم، وتحرم فيه صلاة الفجر.
- الفجر الصَّادق يحرم فيه الطَّعام للصَّائم، وتحلُّ فيه صلاة الفجر.
4 -
وجوب العلم بالفرق بينهما صفةً وحكمًا.
* * * * *
(187)
وَعَنِ ابنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الأَعْمَالِ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا» . رَوَاهُ الترمِذِيُّ، وَالحَاكمُ، وَصَحَّحَاهُ، وَأصْلُهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ»
(1)
.
(188)
وَعَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللهِ، وَأَوْسَطُهُ رَحْمَةُ اللهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللهِ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ جِدًّا
(2)
.
(1)
الترمذيُّ (173)، والحاكم (678)، وأصله في البخاريِّ (527)، ومسلمٍ (85).
(2)
الدَّارقطنيُّ (1/ 469).
(189)
وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم نَحْوُهُ، دُونَ الأَوْسَطِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا
(1)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
فضل الصَّلاة في أوَّل وقتها، ويستثنى من هذا الظُّهر في شدَّة الحرِّ، وصلاة العشاء، فالأفضل فيهما التَّأخير.
2 -
أنَّ الصَّلاة في أوَّل وقتها أفضل الأعمال، ولفظ «الصَّحيحين»:«الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» .
3 -
أنَّ أوقات الصَّلوات موسَّعةٌ، والوقت الموسَّع للعبادة هو ما يتَّسع لأكثر من فعلها.
4 -
إثبات هذه الصِّفات لله: الرِّضا، و الرَّحمة، و العفو، وهي ثابتةٌ بالنُّصوص من الكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة.
5 -
تفاضل الصَّلاة من حيث الوقت؛ أوَّله، وأوسطه، وآخره.
6 -
تفاضل العاملين بحسب حظِّهم من الفضائل.
* * * * *
(190)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَّا سَجْدَتَيْنِ» . أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ
(2)
.
(191)
وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَّا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ»
(3)
.
(192)
وَمِثْلُهُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهم
(4)
.
(1)
الترمذيُّ (172).
(2)
أحمد (5811)، وأبو داود (1278)، والترمذيُّ (419)، وابن ماجه (235).
(3)
عبد الرزَّاق في «المصنف» (4760).
(4)
الدَّارقطنيُّ (965)، وعبد الرزاق في «المصنف» (4757).
الحديثان فيهما فوائد، منها:
1 -
أنَّ راتبة الفجر قبليَّةٌ.
2 -
النَّهي عن الصَّلاة بعد طلوع الفجر إلَّا ركعتي الفجر، وخُصَّ من ذلك ذوات الأسباب كركعتي الطَّواف، وتحيَّة المسجد على الصَّحيح كما تقدَّم، وخُصَّ من ذلك أيضًا الوتر لمن نام عنه أو نسيه؛ لحديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ نَامَ عَنِ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ»
(1)
.
وقد ذهب الجمهور إلى كراهة التَّطوُّع بالصَّلاة بعد طلوع الفجر؛ لظاهر حديثي ابن عمر، وابن عمرٍو رضي الله عنهم.
وقال بعض العلماء بجواز التَّطوُّع من غير استحبابٍ. و الأظهر: أنَّ النَّهي في الحديثين للتَّحريم؛ كنظائره في أحاديث النَّهي المتقدِّمة. والله أعلم.
* * * * *
(193)
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعَصْرَ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتِي، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ:«شُغِلْتُ عَنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُهُمَا الآنَ» ، قُلْتُ: أَفَنَقْضِيهِمَا إِذَا فَاتَتَا؟ قَالَ: «لَا» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ
(2)
.
(194)
وَلأَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِمَعْنَاهُ
(3)
.
* * *
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة ركعتين بعد الظُّهر، وهما الرَّاتبة.
(1)
سيأتي برقم (445).
(2)
أحمد (26678).
(3)
أبو داود (1280).
2 -
قضاؤهما بعد العصر إذا فاتتا، وكذا سائر الرَّواتب إذا فاتت، وأمَّا رواية: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: «لَا» ، فمختلفٌ في صحَّتها، ومن صحَّحها قال: لا يجوز قضاء الرَّاتبة بعد العصر.
3 -
جواز قضاء الرَّاتبة بعد العصر؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أدلَّة جواز فعل ذوات الأسباب في أوقات النَّهي.
4 -
مداومته صلى الله عليه وسلم على صلاة الرَّكعتين بعد العصر، كما في «الصَّحيحين» عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العصر عندي قطُّ»
(1)
، وقد أخذ منه بعض العلماء جواز الصَّلاة بعد العصر، وذهب الجمهور إلى أنَّ هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصَّواب، وبه يحصل الجمع بين الأدلَّة.
* * * * *
(1)
البخاريُّ (591)، ومسلمٌ (835).
بَابُ الأَذَانِ
الأَذَانُ: اسم مصدرٍ من آذن، أو أذَّن، ومعناه الإعلام. واصطلاحًا: الإعلام بدخول وقت الصَّلاة، أو حضور الصَّلاة.
وقد ذكر الله النِّداء للصَّلاة -أي الصَّلوات الخمس- في قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58]، والنِّداء للجمعة في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].
والأذان والإقامة قيل: إنَّهما فرض كفايةٍ يقاتل أهل بلدٍ تركوهما، والدَّليل على وجوبهما قوله صلى الله عليه وسلم:«وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ»
(1)
، ولمداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولا يشرع الأذان لغير الصَّلوات الخمس.
والأذان إنَّما شرع في المدينة، وقد كان الصَّحابة رضي الله عنهم يتحيَّنون وقت الصَّلاة؛ أي: يتحرَّونه، ففكَّروا بشيءٍ يعرفون به الوقت، فرأى بعضهم أن يتَّخذوا ناقوسًا كناقوس النَّصارى، أو بوقًا كبوق اليهود، فكره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لما فيه من المشابهة، ثمَّ إنَّ عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه رضي الله عنه رأى الأذان، فأقرَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأمر عبد الله أن يلقيه على بلالٍ رضي الله عنه
(2)
.
* * * * *
(195)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ رضي الله عنه قَالَ: طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ
…
فَقَالَ: تَقُولُ: «اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ
…
» فَذَكَرَ الأَذَانَ؛ بِتَرْبِيعِ التَّكْبِيرِ بِغَيْرِ تَرْجِيعٍ، وَالإِقَامَةَ فُرَادَى، إِلَّا قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ
(1)
سيأتي برقم (216).
(2)
كما في الحديث الآتي.
صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ
…
». الحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه هو ابن عبد ربِّه، ويعرف بالَّذي أري الأذان في المنام، وهو غير عبد الله بن زيد بن عاصمٍ، وقوله:«طاف بي طائفٌ وأنا نائمٌ» ؛ أي: رأيت في المنام رجلاً جاء إليَّ ومعه ناقوسٌ، فقلت: «أَعْطِنِيهِ نُعْلِمُ بِهِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، فَقَالَ: تَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ
…
» إلى آخر الأذان «بتربيع التَّكبير» ؛ أي: بالتَّكبير في أوَّل الأذان أربعًا، والباقي مثنى مثنى، ثمَّ علَّمه الإقامة:«فُرَادَى إِلَّا قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ» .
والتَّرجيع هو النُّطق بالشَّهادتين مرَّةً بخفض الصَّوت، ومرَّةً برفعه، فأقرَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقال:«إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ» ، فثبت بذلك حكم الأذان بشهادة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وتقريره.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضيلة عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه.
2 -
أنَّ الرُّؤيا قد تكون سببًا في شرع بعض الأحكام، وذلك في حياة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لا بعده، فإنَّ الأحكام الشَّرعيَّة لا تثبت إلَّا ببيانه صلى الله عليه وسلم.
3 -
مشروعيَّة الأذان في الصَّلوات الخمس.
4 -
صفة الأذان وأنَّه خمس عشرة جملةً، وللأذان صفاتٌ أخرى، لكن أشهرها ما في رواية عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه.
5 -
أنَّه لا ترجيع في أذان عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه.
6 -
مشروعيَّة الإقامة، وأنَّها إحدى عشرة جملةً.
7 -
أنَّ جمل الإقامة فرادى إلَّا جملة «قد قامت الصَّلاة» .
(1)
أحمد (16477)، وأبو داود (499)، والترمذيُّ (189)، وابن خزيمة (370).
8 -
كراهة التَّشبُّه باليهود والنَّصارى وغيرهم من الكافرين، وهو على مراتب.
9 -
فضيلة هذه الأمَّة بشعار الأذان المشتمل على أصول الإيمان.
10 -
أنَّ الأذان شعار ديار الإسلام.
11 -
فضيلة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث قرن ذكره بذكر الله في الأذان والإقامة.
* * * * *
(196)
وَزَادَ أَحْمَدُ فِي آخِرِهِ قِصَّةَ قَوْلِ بِلَالٍ رضي الله عنه فِي أَذَانِ الفَجْرِ: «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ»
(1)
.
(197)
وَلاِبْنِ خُزَيْمَةَ: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ فِي الفَجْرِ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ»
(2)
.
* * *
في هذين الحديثين فوائد، منها:
1 -
التَّثويب في أذان الفجر، وهو قول المؤذِّن: الصَّلاة خيرٌ من النَّوم، والصَّحيح أنَّه في الأذان الثَّاني الذي يكون بعد طلوع الفجر، ويقال لهذا الأذان: الأوَّل، بالنِّسبة للإقامة؛ لأنَّ الإقامة تسمَّى أذانًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ»
(3)
.
2 -
تحديد موضع التَّثويب من الأذان، وأنَّه بعد الحيعلتين.
3 -
التَّذكير بفضل الصَّلاة في هذا الوقت؛ لأنَّه مظنَّة التَّهاون بها.
4 -
المفاضلة بين الصَّلاة والنَّوم مع أنَّه لا نسبة بينهما؛ توبيخًا لمن يؤثر النَّوم عليها؛ فإنَّ لسان حاله يقول: النَّوم خيرٌ من الصَّلاة.
(1)
تقدَّم فيما قبله.
(2)
ابن خزيمة (386).
(3)
رواه البخاريُّ (624)، ومسلمٌ (838)، عن عبد الله بن مغفلٍ المزنيِّ رضي الله عنه.
5 -
أنَّ تفضيل الكامل على النَّاقص جائزٌ إذا اقتضاه سببٌ.
* * * * *
(198)
عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ الأذَانَ، فَذَكَرَ فيهِ التَّرْجِيعَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
، وَلَكِنْ ذَكَرَ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِهِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ.
(199)
وَرَوَاهُ الخَمْسَةُ فَذَكَرُوهُ مُرَبَّعًا
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ أبا محذورة رضي الله عنه أحد مؤذِّني النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
أنَّ أبا محذورة رضي الله عنه حسن الصَّوت، كما سيأتي في رواية ابن خزيمة.
3 -
استحباب أن يكون المؤذِّن حسن الصَّوت.
4 -
استحباب التَّرجيع في الأذان، وهذا أحد أنواع الأذان، فيؤذَّن به أحيانًا؛ لأنَّ الأفضل في العبادة الَّتي لها أنواعٌ أن يؤتى بهذا تارةً، وبهذا تارةً.
5 -
تربيع التَّكبير في أوَّل الأذان، كما في حديث عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه، وهو أرجح الرِّوايتين في حديث أبي محذورة رضي الله عنه.
6 -
بركة دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة رضي الله عنه فهو سبب هدايته كما جاء في أصل الحديث
(3)
.
(1)
مسلمٌ (379).
(2)
أحمد (15376)، وأبو داود (502)، والترمذيُّ (191)، والنَّسائيُّ (630)، وابن ماجه (708).
(3)
أصل القصة عند ابن ماجه، قال: خرجت في نفرٍ، فكنَّا ببعض الطَّريق، فأذَّن مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصَّلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذِّن ونحن عنه متنكِّبون، فصرخنا نحكيه، نهزأ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلينا قومًا، فأقعدونا بين يديه، فقال:«أَيُّكُمُ الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ قَدِ ارْتَفَعَ؟» فأشار إليَّ القوم كلُّهم، وصدقوا، فأرسل كلَّهم وحبسني، وقال لي:«قُمْ فَأَذِّنْ» فقمت ولا شيء أكره إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ممَّا يأمرني به. =
(200)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، وَيُوتِرَ الإِقَامَةَ، إِلَّا الإِقَامَةَ» يَعْنِي قَوْلَهُ: «قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. وَلَمْ يَذْكُرْ مُسْلمٌ الاسْتِثْنَاءَ.
(201)
وَلِلنَّسَائِيِّ: «أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلَالاً»
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الأذان والإقامة.
2 -
وجوب شفع الأذان، والمراد: ذكر كلِّ جملةٍ من الأذان مرَّتين إلَّا التَّكبير في أوَّله فالمشروع فيه التَّربيع، وخصَّ من شفع الأذان كلمة التَّوحيد في آخره (لا إله إلا الله)؛ فإنَّها تقال مرَّةً، وهو إجماعٌ.
3 -
وجوب إيتار الإقامة؛ وهو ذكر كلِّ جملةٍ من الإقامة مرَّةً واحدةً، إلَّا الإقامة؛ يعني:(قد قامت الصَّلاة). وخصَّ أيضًا من الوتر في الإقامة التَّكبير في أوَّلها وآخرها، وإن لم يذكر في الحديث فإنَّه يثنَّى بالاتِّفاق، وقد ذهب
= فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى عليَّ رسول الله التَّأذين هو بنفسه، فقال:«قُلِ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ» . ثمَّ قال لي: «ارْفَعْ مِنْ صَوْتِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» ، ثمَّ دعاني حين قضيت التَّأذين، فأعطاني صرَّةً فيها شيءٌ من فضَّةٍ، ثمَّ وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثمَّ أمرَّها على وجهه، ثمَّ على ثدييه، ثمَّ على كبده، ثمَّ بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرَّة أبي محذورة، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ» ، فقلت: يا رسول الله أمرتني بالتَّأذين بمكَّة؟ قال: «نَعَمْ، قَدْ أَمَرْتُكَ» فذهب كلُّ شيءٍ كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهيةٍ، وعاد ذلك كلُّه محبَّةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
رواه البخاريُّ (605)، ومسلمٌ (378).
(2)
النَّسائيُّ (626).
الجمهور في صفة الإقامة إلى ما دلَّ عليه هذا الحديث، وذهب أبو حنيفة إلى شفع الإقامة أيضًا؛ لما جاء في حديث أبي محذورة رضي الله عنه
(1)
، فإن صحَّ فلا تعارض في الحديثين، فإنَّ كلًّا من الصِّفتين جائزٌ، ويكون من تنوُّع العبادات، وإن كان أذان بلالٍ وإقامته أشهر وأكثر.
4 -
فضيلة بلالٍ رضي الله عنه وأنَّه أشهر مؤذِّني النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
5 -
تفسير رواية النَّسائيِّ لرواية الصَّحيح بتعيين الآمر، وهو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.
* * * * *
(202)
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «رَأَيْتُ بِلَالاً يُؤَذِّنُ وَأَتَتَبَّعُ فَاهُ هَهُنَا وَهَهُنَا، وَإِصْبَعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَه
(2)
.
(203)
وَلاِبْنِ مَاجَهْ: «وَجَعَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ»
(3)
. وَلأَبِي دَاوُدَ
(4)
: «لَوَى عُنُقَهُ لَمَّا بَلَغَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاة يَمِينًا وَشِمَالاً، وَلَمْ يَسْتَدِرْ» . وَأَصْلُهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ»
(5)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الأذان.
2 -
مشروعيَّة الالتفات في الأذان عند الحيعلتين يمينًا وشمالاً، وهذا من السُّنَّة التَّقريريَّة، وفائدته: الزِّيادة في إسماع الصَّوت، والظَّاهر: أنَّه لا يشرع في الأذان بواسطة المكبِّر؛ لفوات الحاجة إلى ذلك.
(1)
وهذا في رواية أصحاب السنن وأنه صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة
…
إلى آخر ما جاء في الحديث.
(2)
أحمد (18759)، والترمذيُّ (197).
(3)
ابن ماجه (711).
(4)
أبو داود (520).
(5)
البخاريُّ (634)، ومسلمٌ (503).
3 -
استحباب وضع المؤذِّن إصبعيه في أذنيه حال الأذان؛ لأنَّ ذلك يعينه على رفع الصَّوت، وذكر وضع الأصابع زيادةٌ على ما في «الصَّحيحين» ، وقد اختلف في صحَّة هذه الزِّيادة.
4 -
أنَّ الالتفات بالرَّأس والعنق لا بالبدن.
5 -
استحباب رفع الصَّوت في الأذان، ومع هذه المكبِّرات لا تحسن المبالغة في رفع الصَّوت؛ لعدم الحاجة، ولما فيه من إزعاج من في المسجد وخارج المسجد.
* * * * *
(204)
وَعَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْجَبَهُ صَوْتُهُ، فَعَلَّمَهُ الأَذَانَ» . رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضيلة أبي محذورة رضي الله عنه.
2 -
حسن صوت أبي محذورة رضي الله عنه.
3 -
استحباب حسن الصَّوت في الأذان.
4 -
تعليم الأذان.
5 -
حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ لتعليمه أبا محذورة الأذان.
* * * * *
(205)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهم قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَيْنِ، غَيْرَ مَرَّةٍ ولا مَرَّتَيْنِ، بِغَيْرِ أَذَانٍ ولا إِقَامَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(1)
ابن خزيمة (377).
(2)
مسلمٌ (887).
(206)
وَنَحْوُهُ فِي المُتَّفَقِ عَلَيْهِ
(1)
: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم، وَغَيْرِهِ.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة صلاة العيدين، وهي ركعتان يجهر فيهما بالقراءة، ووقتها بعد ارتفاع الشَّمس، إلى أن تكون في كبد السَّماء قبل الزَّوال.
2 -
أنَّه لا ينادى لصلاة العيد، بل يأتي الإمام ويبدأ بالصَّلاة بلا أذانٍ ولا إقامةٍ، وقال بعضهم: ينادى لها كصلاة الكسوف، ولا أصل له، وهو قياسٌ فاسدٌ؛ لأنَّه خلاف النَّصِّ، وهو قياسٌ مع الفارق؛ فإنَّ صلاة العيد وقتها معلومٌ، وصلاة الكسوف عند حدوث السَّبب.
3 -
تأكيد الخبر بذكر تكرير المشاهدة.
4 -
فضيلة جابر بن سمرة رضي الله عنه.
5 -
أنَّ عيد المسلمين يوم ذكرٍ وعبادةٍ.
6 -
أنَّه لا عيد للمسلمين سوى العيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى.
7 -
الاجتماع لصلاة العيدين كالجمعة.
8 -
أنَّ السُّنَّة تكون بالتَّرك كما تكون بالفعل.
9 -
أنَّ ما تركه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع وجود مقتضيه ففعله بدعةٌ.
* * * * *
(207)
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ، فِي نَوْمِهِمْ عَنِ الصَّلَاةِ:«ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ» . رَواهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(1)
البخاريُّ (959)، ومسلمٌ (886).
(2)
مسلمٌ (681).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
الأذان للفائتة.
2 -
أنَّ من نام عن الصَّلاة صلَّاها إذا استيقظ من نومه.
3 -
أنَّ الصَّلاة الفائتة تصلَّى على صفتها كالمؤدَّاة.
4 -
أنَّ تأخير الفائتة لأجل الأذان والطَّهارة جائزٌ.
5 -
أنَّ من حكمة نوم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصُّبح؛ أن يسنَّ ويعلِّم كيفيَّة أداء الصَّلاة الفائتة.
* * * * *
(208)
وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ»
(1)
.
(209)
وَلَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم: «جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ»
(2)
. وَزَادَ أبو دَاوُدَ: «لِكُلِّ صَلَاةٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «وَلَمْ يُنَادِ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا»
(3)
.
* * *
الحديث الأوَّل طرفٌ من حديث جابرٍ رضي الله عنه الطَّويل في صفة حجَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد وردت رواياتٌ مخالفةٌ لحديث جابرٍ رضي الله عنه، ففي بعضها الأذان والإقامة لكلِّ صلاةٍ، وفي بعضها الإقامة للصَّلاتين دون الأذان، وقد أورد الحافظ بعضها بعد حديث جابرٍ رضي الله عنه. وما دلَّ عليه حديث جابرٍ رضي الله عنه هو الذي ذهب إليه جمهور أهل العلم، ورأوا أنَّ الرِّوايات المخالفة لحديث جابرٍ خطأٌ؛ لوهمٍ أو نسيانٍ.
(1)
مسلمٌ (1218).
(2)
مسلمٌ (1288).
(3)
أبو داود (1928).
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
6 -
تأخير الحاجِّ صلاة المغرب إلى حين الوصول إلى مزدلفة.
7 -
الجمع بين الصَّلاتين بمزدلفة، وهذا الجمع متَّفقٌ عليه.
8 -
الأذان للصَّلاتين المجموعتين أذانًا واحدًا.
9 -
الإقامة لكلِّ واحدةٍ منهما.
* * * * *
(210)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ بلَالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتَّى يُنادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» ، وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى لا يُنَادِي حتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. وَفِي آخِرِهِ إِدْرَاجٌ
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
الأذان للفجر قبل طلوع الفجر؛ للتَّنبيه على قربه؛ ليرجع القائم، ويستيقظ النَّائم.
2 -
عدم الاكتفاء به عن الأذان بعد طلوع الفجر.
3 -
اتِّخاذ أكثر من مؤذِّنٍ في مسجدٍ واحدٍ.
4 -
صحَّة أذان الأعمى إذا كان هناك من ينبِّهه، أو عنده ما يستدلُّ به على طلوع الفجر كالسَّاعة.
(1)
البخاريُّ (617)، ومسلمٌ (1092).
(2)
قوله: «وكان رجلاً أعمى
…
»، مدرجٌ من كلام الزهريِّ، فقد رواه الطحاويُّ والبيهقيُّ، بهذا الإسناد، وفيه: «قال ابن شهابٍ: وكان رجلاً أعمى
…
» إلخ، وجزم ابن قدامة بأنه من كلام ابن عمر رضي الله عنهم، ونقله عنه الحافظ، وأجاب بأنه لا يمنع أن يكون ابن شهابٍ قاله أن يكون شيخه قاله أيضًا، وكذا شيخ شيخه، وهو عبد الله بن عمر رضي الله عنهم. ينظر:«فتح الباري» (2/ 100).
5 -
أنَّ الأذان قبل الفجر لا يحرِّم الطَّعام على الصَّائم.
6 -
إباحة الأكل والشُّرب في ليل الصِّيام حتَّى يتحقَّق طلوع الفجر، كما قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وفي حكم الأكل والشُّرب: الجماع؛ فيلزم من ذلك أن يصبح الإنسان جنبًا، وقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا فيغتسل ويصوم.
7 -
صحَّة صوم من أكل شاكًّا في طلوع الفجر.
8 -
فضيلة بلالٍ وابن أمِّ مكتومٍ رضي الله عنهم.
9 -
جواز التَّقليد في وقت الصَّلاة.
10 -
جواز العمل بخبر الواحد في الأذان.
* * * * *
(211)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم: أَنَّ بِلَالاً أَذَّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَ، فَيُنَادِيَ:«أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ نَامَ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ وَضَعَّفهُ
(1)
.
* * *
هذا الحديث وإن كان ضعيفًا فيستفاد منه:
1 -
أنَّ من أذَّن قبل الوقت فينبغي أن يرجع ويعلم النَّاس بغلطه.
2 -
أنَّ هذا النِّداء من بلالٍ كان قبل أذانه المعتاد.
3 -
مشروعيَّة تصحيح الخطأ من قبل المخطئ نفسه، وأنَّه لا غضاضة عليه في ذلك.
4 -
إطلاق اسم العبد على المملوك، وهذا بالنِّسبة لبلالٍ باعتبار ما كان.
* * * * *
(1)
أبو داود (532).
(212)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(213)
وَلِلْبُخَارِيِّ: عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه
(2)
.
(214)
وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي فَضْلِ القَوْلِ كَمَا يَقُولُ المُؤَذِّنُ كَلِمَةً كَلِمَةً سِوَى الحَيْعَلَتَيْنِ؛ فَيَقُولُ: «لَا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ»
(3)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة إجابة المؤذِّن، والمراد: أن يقول سامعه مثل ما يقول، كلَّما قال جملةً قال سامعه مثلها، وهو مستحبٌّ عند جمهور العلماء، وقال قومٌ بالوجوب ومنهم الظَّاهريَّة؛ لظاهر الأمر، ولا شكَّ أنّه قولٌ قويٌّ، واستدلَّ الجمهور على أنَّ الأمر للاستحباب بما رواه مسلمٌ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سمع مؤذِّنًا يقول: «الله أكبر الله أكبر» ، فقال:«عَلَى الفِطْرَةِ» ، ثمَّ قال:«أشهد أن لا إله إلاّ الله» ، فقال:«خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ»
(4)
.
2 -
أنَّ الإجابة في الحيعلتين أن يقول السَّامع بعد كلِّ جملةٍ: (لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله)، كما في حديثي عمر ومعاوية رضي الله عنها، وهما مخصِّصان لحديث أبي سعيدٍ ومعاوية رضي الله عنهم.
3 -
أنَّ إجابة المؤذِّن متضمِّنةٌ للعبادة والاستعانة. العبادة: بالتَّكبير وبالشَّهادتين، والاستعانة: بقول: لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله عند الحيعلتين.
4 -
أنَّ التَّرديد مع المؤذِّن إجابةٌ بالقول تقتضي الإجابة بالفعل.
5 -
أنَّ إجابة المؤذِّن إنَّما تشرع لمن تجب عليه الصَّلاة الَّتي ينادى لها، لكن إجابة من لا تجب عليه هذه الصَّلاة هو من الذِّكر المطلق.
(1)
البخاريُّ (611)، ومسلمٌ (383).
(2)
البخاريُّ (612).
(3)
مسلمٌ (385).
(4)
مسلمٌ (382) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
6 -
أنَّ (لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله) استعانةٌ لا تصبُّرٌ.
7 -
الفرق بين الحيعلتين وسائر جمل الأذان من حيث نوع الكلام، فجمل الأذان خبرٌ، والحيعلتان إنشاءٌ، فلذلك اختلف حكمهما.
* * * * *
(215)
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي، قَالَ:«أَنْتَ إِمَامُهُمْ، وَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ، وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا» . أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ، وَحَسّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز طلب الإمامة في الصَّلاة ممَّن هو أهلٌ، ما لم يتَّخذها وسيلةً لرزقٍ من بيت المال أو وقفٍ.
2 -
فضيلة عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه.
3 -
أنَّ اختيار المؤذِّن يرجع فيه إلى الإمام.
4 -
مشروعيَّة نصب الإمام والمؤذِّن.
5 -
كراهة أخذ الأجرة على وظيفة الأذان، وقيل بالتَّحريم، ولا يحرم الرَّزق من بيت المال، والتَّطوُّع أفضل، وأمَّا أخذ الأجرة على الأذان كلَّ مرَّةٍ بكذا فحرامٌ كأخذ الأجرة على تلاوة القرآن.
6 -
فضل الإمامة على الأذان، وقيل: إنَّ الأذان أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا»
(2)
والأوَّل أظهر. والله أعلم.
(1)
أحمد (16270)، وأبو داود (531)، والترمذيُّ (209)، والنَّسائيُّ (671)، وابن ماجه (714)، والحاكم (718).
(2)
رواه البخاريُّ (590)، ومسلمٌ (437)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
7 -
وجوب مراعاة الإمام لمن خلفه، واعتبار ذلك بالأضعف.
8 -
جواز طلب الولاية إذا كانت الغاية هي المصلحة العامَّة للمسلمين، أمَّا إذا كانت الغاية ما في الإمارة ونحوها من الشَّرف والمصالح الماليَّة فلا يجوز سؤالها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّا لا نُوَلِّي هَذَا الأَمْرَ مَنْ سَأَلَهُ»
(1)
، وقوله لعبد الرَّحمن بن سمرة رضي الله عنه: «لَا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ
…
»
(2)
الحديث.
9 -
وصيَّة الإمام لمن يولِّيهم بما يحقِّق مقصود الولاية.
* * * * *
(216)
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ
…
» الحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ
(3)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الأذان، وهو فرض كفايةٍ بدليل الأمر «فليؤذِّن» .
2 -
أنَّه لا يعتبر في المؤذِّن ما يعتبر في الإمام من حفظ القرآن والعلم بالسُّنَّة ونحو ذلك.
3 -
أنَّ وقت الأذان هو دخول وقت الصَّلاة، وقد شرع لذلك.
4 -
مشروعيَّة الأذان عند إرادة فعل الصَّلاة إذا لم يؤذَّن لها في أوَّل الوقت، وحضور الصَّلاة في الحديث يشمل دخول الوقت وإرادة فعل الصَّلاة، ولذلك يشرع للمجموعتين وللفوائت.
5 -
اشتراط كون المؤذِّن مسلمًا ذكرًا، لقوله:«أَحَدُكُمْ» فلا يصحُّ أذان الكافر ولا المرأة.
* * * * *
(1)
رواه البخاريُّ (7149)، ومسلمٌ (1733) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاريُّ (6622)، ومسلمٌ (1652).
(3)
البخاريُّ (628)، ومسلمٌ (674)، وأحمد (15598)، وأبو داود (589)، والترمذيُّ (205)، والنَّسائيُّ (634)، وابن ماجه (979).
(217)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبِلَالٍ: «إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ، وَاجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ
…
» الحَدِيثَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ
(1)
.
* * *
الحديث وإن كان ضعيفًا فيعضده العمل والمعنى، فإنَّ المقصود من الأذان إعلام البعيد؛ فيناسبه التَّرسُّل، والإقامة إعلامٌ للحاضرين؛ فالمناسب لحالهم الحدر، وكذلك الفصل بين الأذان والإقامة بما يُمكِّن من الاستعداد للصَّلاة والفراغ من الشُّغل اليسير كالأكل والوضوء والغسل.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الأذان والإقامة للصَّلوات الخمس.
2 -
استحباب التَّرسُّل في الأذان.
3 -
استحباب الحدر في الإقامة؛ وهو عدم الفصل بين الجمل.
4 -
استحباب الفصل بين الأذان والإقامة بحسب ما تدعو إليه الحاجة.
5 -
توجيه الإمام رعيَّته كلًّا بما يخصُّه.
* * * * *
(218)
وَلَهُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا يُؤَذِّنُ إلَّا مُتَوَضِّئٌ» . وَضَعَّفَهُ أيضًا
(2)
.
(219)
وَلَهُ: عَنْ زِيَادِ بْنِ الحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ» . وَضَعَّفَهُ أَيْضًا
(3)
.
(1)
الترمذيُّ (195).
(2)
الترمذيُّ (200).
(3)
الترمذيُّ (199).
(220)
وَلأَبِي دَاوُدَ: فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا رَأَيْتُهُ -يَعْنِي الأَذَانَ- وَأَنَا كُنْتُ أُرِيدُهُ. قَالَ: «فَأَقِمْ أَنْتَ» . وَفِيهِ ضَعْفٌ أَيْضًا
(1)
.
(221)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «المُؤَذِّنُ أَمْلَكُ بِالأَذَانِ، وَالإِمَامُ أَمْلَكُ بِالإِقَامَةِ» . رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَضَعَّفَهُ
(2)
.
(222)
وَلِلْبَيْهَقِيِّ نَحْوُهُ: عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ
(3)
.
* * *
هذه الأحاديث وإن كانت ضعيفةً -كما ذكر الحافظ- فإنَّ معانيها صحيحةٌ ولها ما يعضدها من الآثار والعمل.
وفيها فوائد، منها:
1 -
استحباب الطَّهارة للأذان من الحدث الأصغر، وليست شرطًا، وهذا متَّفقٌ عليه، وأمَّا الطَّهارة من الجنابة؛ فقيل: إنَّها شرطٌ لصحَّة الأذان، والصَّحيح: أنَّها ليست شرطًا، إلَّا إن كان الأذان في المسجد فإنَّه ينهى عنه؛ لنهي الجنب عن المكث في المسجد، وإذا توضَّأ جاز؛ لأنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أراد أحدهم المكث في المسجد توضَّأ لذلك. ويعضد معنى هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللهَ تَعَالَى إِلَّا عَلَى طَهَارَةٍ»
(4)
، فالطَّهارة للذِّكر مطلقًا مستحبَّةٌ فكيف الأذان؟
2 -
استحباب أن يتولَّى الإقامة من تولَّى الأذان؛ ويشهد لذلك عمل بلالٍ في حياة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعمل المؤذِّنين بعده.
3 -
جواز أن يتولَّى الإقامة غير من تولَّى الأذان، وهذا ممَّا لا خلاف فيه.
4 -
أنَّ الأذان إلى المؤذِّن المعيَّن لذلك، فلا يفتقر إلى إذن الإمام.
(1)
أبو داود (512).
(2)
ابن عديٍّ في «الكامل» (5/ 18).
(3)
البيهقيُّ في «الكبرى» (2279).
(4)
رواه أحمد (19034)، وأبو داود (17)، وابن حبان (803)، وصححه ابن خزيمة (206).
5 -
توقُّف الإقامة للصَّلاة على إذن الإمام، فليس للمؤذِّن أن يفتئت عليه، ويعضد هذا أثر عليٍّ رضي الله عنه الَّذي أشار إليه المصنِّف، وعمل بلالٍ رضي الله عنه ومن بعده.
* * * * *
(223)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَه ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
الحديث فيه فوائد، منها:
1 -
أنَّ ما بين الأذان والإقامة من أوقات إجابة الدُّعاء.
2 -
استحباب الدُّعاء في هذا الوقت.
3 -
أنَّ لإجابة الدُّعاء أسبابًا ولها موانع.
4 -
التَّرغيب في تحرِّي الدُّعاء بين الأذان والإقامة؛ فإنَّ قبول الدُّعاء فيه أرجى، وإلَّا فالدّعاء مستحبٌّ في كلِّ وقتٍ، والإجابة مرجوَّةٌ بل محقَّقةٌ؛ لوعده تعالى، ما لم يكن مانعٌ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
5 -
أنَّ الوعد في هذا الحديث عامٌّ للرِّجال والنِّساء.
* * * * *
(224)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدتَّهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ
(2)
.
* * *
(1)
النَّسائيُّ في «الكبرى» (9812)، وابن خزيمة (426).
(2)
وأخرجه البخاريُّ أيضًا (614)، وأبو داود (529)، والترمذيُّ (211)، والنَّسائيُّ (679)، وابن ماجه (722).
الحديث فيه فوائد، منها:
1 -
أنَّه يستحبُّ لمن سمع النِّداء للصَّلاة أن يدعو للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا الدُّعاء.
2 -
أنَّ هذا الدُّعاء لا يختصُّ بآخر الأذان، فلا فرق أن يقوله السَّامع في أوَّل الأذان أو آخره؛ لإطلاق الحديث، ولكن قد ورد ما يدلُّ على تقييد الحديث؛ وأنَّ محلَّ هذا الدُّعاء بعد سماع الأذان كاملاً وإجابة المؤذِّن، وهو ما رواه مسلمٌ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ
…
». الحديث
(1)
.
3 -
التَّوسُّل إلى الله بصفاته، وهي هنا ربوبيَّته للدَّعوة التَّامَّة، وهي الأذان؛ لأنَّه دعوةٌ إلى الصَّلاة، وربوبيَّته للصَّلاة القائمة وهي الصَّلاة الحاضرة، ومعنى ربوبيَّته لذلك: أنَّه شرعهما وهو المستحقُّ لهما؛ لأنَّهما من أنواع العبادة.
4 -
أنَّ المشروع ذكر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم باسمه العلم في هذا الدُّعاء وكما في الصَّلاة الإبراهيميَّة.
5 -
استحباب الدُّعاء للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بما جاء في الكتاب والسُّنَّة؛ من الأمر به والتَّرغيب فيه؛ مثل الصَّلاة والسَّلام عليه، ومثل هذا الدُّعاء بعد إجابة المؤذِّن.
6 -
أنَّ إرشاد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أمَّته إلى هذا الدُّعاء وترغيبهم في الصّلاة عليه ليس هو من سؤال الدُّعاء من الغير، بل ذلك من تبليغ الشَّرع وإرشاد الأمَّة إلى ما ينفعها من الكلم الطَّيِّب والعمل الصَّالح. والله أعلم.
7 -
أنَّ ممَّا يطلب ويدعى به للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الوسيلة والمقام المحمود، والمراد بالوسيلة: درجةٌ في الجنَّة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ؛ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ»
(2)
،
(1)
مسلمٌ (384).
(2)
هذا تتمة حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الآنف الذكر.
والمراد بالمقام المحمود: مقام الشَّفاعة الكبرى الَّتي يتأخَّر عنها آدم وأولو العزم من الرُّسل، ويتقدَّم لها نبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وهذه الشَّفاعة إحدى خصائصه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي
…
»، وفيه «وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ»
(1)
.
8 -
أنَّ الله قد وعد نبيَّه ذلك المقام، وذلك في قوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا (79)} [الإسراء: 79].
9 -
أنَّ هذا الدُّعاء من أسباب الأهليَّة لشفاعته صلى الله عليه وسلم لقوله: «حَلَّتْ لَهُ» ؛ أي: حصلت له، وهذه الشَّفاعة هي الخاصَّة بأهل الإيمان والتَّوحيد.
10 -
أنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما دعا العبد للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وهو الشَّفاعة كان جزاؤه أن يشفع له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.
11 -
التَّوسُّل إلى الله بوعده، كما أخبر تعالى عن المؤمنين:{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194].
* * * * *
(1)
تقدَّم برقم (139).
بَابُ شُرُوطِ الصَّلاةِ
الشُّروط: جمع شَرْطٍ بإسكان الرَّاء، وهو لغةً: الإلزام والالتزام، كما في البيع ونحوه، ويطلق على الأمر المشروط، من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول.
والشَّرط في اصطلاح العلماء: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ، وقيل: ما يتوقَّف عليه الشَّيء؛ كالطَّهارة للصَّلاة، والرِّضا في البيع.
وشروط العقود شروطٌ للصِّحَّة، والشُّروط في العبادات؛ منها: ما هو شرطٌ للوجوب، ومنها: ما هو شرطٌ للصِّحَّة، ومنها: ما هو شرطٌ للوجوب والصِّحَّة معًا، ومنها: ما هو شرطٌ للإجزاء.
فالطَّهارة شرطٌ لصحَّة الصَّلاة، ودخول الوقت شرطٌ للوجوب والصِّحَّة، والبلوغ شرطٌ للوجوب، والبلوغ والحرِّيَّة شرطٌ للوجوب والإجزاء في الحجِّ، والعقل شرطٌ للوجوب والصِّحَّة، والإسلام شرطٌ للصِّحَّة.
* * * * *
(225)
عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا فَسَا أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلْيَتَوَضَّأْ، وَلْيُعِدِ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
* * *
(1)
أحمد (655)، وأبو داود (205)، والترمذيُّ (1164)، والنَّسائيُّ في «الكبرى» (8976)، وابن حبان (2237). وقد جعله الإمام أحمد من مسند عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه؛ وهو خطأٌ كما نبَّه عليه الحافظ ابن كثيرٍ عند تفسير قوله تعالى:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة: 223]، والحديث ليس في ابن ماجه.
هذا الحديث من أدلَّة اشتراط الطَّهارة للصَّلاة، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة والإجماع.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الحدث -وهو الفساء والضُّراط- مبطلٌ للطَّهارة، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه لمَّا سئل: ما الحدث؟
(1)
، وهذا بإجماع أهل العلم. ومن أدلَّة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حتَّى يَتَوَضَّأَ»
(2)
، وفي حكم الحدث سائر نواقض الوضوء على ما فيها من خلافٍ: كأكل لحم الإبل، والقيء، والنَّوم.
2 -
أنَّ الطَّهارة شرطٌ لصحَّة الصَّلاة.
3 -
أنَّ الصَّلاة تبطل بالحدث في أثنائها؛ فلا يصحُّ البناء على ما قبل الحدث، وأمَّا حديث عائشة رضي الله عنها المتقدِّم في نواقض الوضوء، وفيه: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ
…
» إلى قوله: «فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلاتِهِ»
(3)
، فهو ضعيفٌ لا يعارض حديث عليِّ بن طلقٍ رضي الله عنه هذا.
4 -
وجوب الإعادة على من أحدث في الصَّلاة إذا كانت الصَّلاة واجبةً.
5 -
وجوب الانصراف من الصَّلاة بعد تيقُّن الحدث لا مع الشَّكِّ؛ لحديث عبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سئل عن رجلٍ يخيَّل إليه في الصَّلاة أنَّه يجد الحدث، قال:«لَا يَنْصَرِف؛ حتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»
(4)
.
6 -
جواز التَّصريح بما يستهجن ذكره لبيان الدِّين، وأنَّ ذلك لا ينافي الحياء.
(1)
في حديثٍ أخرجه البخاريُّ (135).
(2)
البخاريُّ (6954)، ومسلمٌ (225)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
تقدَّم برقم (82).
(4)
تقدَّم برقم (91).
7 -
أنَّ خروج الرِّيح لا يجب له الاستنجاء؛ لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم إنَّما أمر بالوضوء فقط، وهذا بالإجماع.
8 -
عظم شأن الصَّلاة؛ إذ لا تصحُّ إلَّا على طهارةٍ.
* * * * *
(226)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
هذا الحديث من أحاديث ما يجب ستره من البدن في الصَّلاة وحكمه مختصٌّ بالمرأة.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ العمل منه مقبولٌ ومنه مردودٌ، فما كان على وفق ما شرع الله فهو مقبولٌ، وما كان على خلافه فهو مردودٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»
(2)
، ونفي القبول في الأحاديث أنواعٌ:
أ - ما يتضمَّن حرمان الثَّواب مع الإجزاء؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» رواه مسلمٌ
(3)
.
ب - ما يتضمَّن عدم الإجزاء؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُور»
(4)
، ومنه هذا الحديث.
(1)
أحمد (25167)، وأبو داود (641)، والترمذيُّ (377)، وابن ماجه (655)، وابن خزيمة (775).
(2)
رواه البخاريُّ (2697)، ومسلمٌ (1718)، عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
مسلمٌ (2230)؛ من حديث صفيَّة رضي الله عنها عن بعض أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(4)
رواه مسلمٌ (224)، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
ج - ما يتضمَّن عدم الثَّواب وعدم الإجزاء؛ كقوله تعالى في الحديث القدسيِّ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»
(1)
.
2 -
وجوب ستر المرأة رأسها في الصَّلاة وأنَّ ذلك شرطٌ لصحَّتها.
3 -
صحَّة صلاة من لم تبلغ ولو لم تستر رأسها، لقوله صلى الله عليه وسلم:«صَلَاةَ حَائِضٍ» ؛ أي: بالغٍ.
4 -
أنَّه لا فرق في مقتضى هذا الحديث بين الحرَّة والأمة، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فمنهم من قال: عورة الأمة في الصَّلاة ما بين السُّرَّة والرُّكبة، وأمَّا الحرَّة فكلُّها عورةٌ في الصَّلاة إلَّا وجهها، وقال بعضهم: إلَّا وجهها وكفَّيها، وقال بعضهم: وجهها وكفَّيها وباطن قدميها، والحديث لم يدلَّ إلَّا على وجوب ستر الرَّأس.
5 -
أنَّ الحيض من علامات البلوغ.
* * * * *
(227)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «إِنْ كَانَ الثَّوْبُ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ» ؛ - يَعْنِي: فِي الصَّلَاةِ - وَلِمُسْلِمٍ: «فَخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ» - «وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(228)
وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرةَ رضي الله عنه: «لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»
(3)
.
* * *
حديث جابرٍ وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم يتعلَّقان بستر العورة في الصَّلاة. وعورة الرَّجل -في حكم النَّظر- من السُّرَّة إلى الرُّكبة، وهذا قول كثيرٍ من
(1)
رواه مسلمٌ (2985)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
البخاريُّ (361)، ومسلمٌ (3010).
(3)
البخاريُّ (359)، ومسلمٌ (516).
العلماء، ومنهم من أدخل السُّرَّة والرُّكبة في العورة، ومنهم من أخرجهما، وهذا قول من يقول: إنَّ الفخذ عورةٌ، وقد جاء في الحديث:«الْفَخِذُ عَوْرَةٌ»
(1)
، وفي حديثٍ آخر:«لَا تَكْشِفْ فَخِذَكَ، ولا تَنْظُرْ إِلَى فَخِذِ حَيٍّ ولا مَيِّتٍ»
(2)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ الفخذ ليس بعورةٍ، مستدلًّا بما ورد من انكشاف فخذ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في عددٍ من المناسبات، ومن ذهب إلى ذلك يقول: العورة: السَّوءتان؛ القبل والدُّبر.
ومن قال: الفخذ عورةٌ قال: العورة نوعان: مغلَّظةٌ وغير مغلَّظةٍ، فالمغلَّظة لا يجوز النَّظر إليها إلَّا للضَّرورة، وغير المغلَّظة لا يجوز كشفها ولا النَّظر إليها إلَّا بصفةٍ عارضةٍ، وعلى وجه النُّدرة.
وأمَّا ما يجب على الرَّجل ستره في الصَّلاة فهو العورة والعاتقان أو أحدهما، فمن صلَّى مكشوف العورة أو شيءٍ منها من غير عذرٍ لم تصحَّ صلاته، ومن صلَّى مكشوف العاتقين، فقيل: يكره، وقيل: يحرم، ولا تصحُّ صلاته، وهذا أظهر في الدَّليل. والله أعلم.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
جواز الصَّلاة في الثَّوب الواحد.
2 -
أنَّ الاتِّزار بالثَّوب الواحد يجزئ إذا كان ضيِّقًا لا يتَّسع للالتحاف به، ولا يوجد غيره.
(1)
رواه أبو داود (4016)، والترمذيُّ (2796)، والبخاريُّ معلقًا غير مجزومٍ به، في (باب ما يذكر في الفخذ)(1/ 139)، عن جرهدٍ الأسلميِّ وابن عباسٍ ومحمد بن جحشٍ رضي الله عنهم. والحديث مختلفٌ في صحته. ينظر:«نصب الراية» (4/ 313)، و «البدر المنير» (4/ 146).
(2)
رواه أحمد (1249)، وأبو داود (4015)، وابن ماجه (1460)، عن عليٍّ رضي الله عنه. وأعلَّ بالطعن في أحد رواته والانقطاع. ينظر:«التلخيص الحبير» (1/ 279)، و «البدر المنير» (4/ 142).
3 -
الأمر بالالتحاف به إذا كان واسعًا؛ وهو التَّجلُّل به ومخالفة طرفيه، فقيل: الالتحاف به واجبٌ، وقيل: مستحبٌّ، والصَّواب: أنَّه واجبٌ؛ للأمر به في حديث جابرٍ رضي الله عنه، وفي معناه حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» ، فحديث أبي هريرة رضي الله عنه مؤكِّدٌ لقوله في حديث جابرٍ رضي الله عنه:«فَالْتَحِفْ بِهِ» وحديث جابرٍ رضي الله عنه مفسِّرٌ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأنَّ محلَّ النَّهي إذا كان الثَّوب واسعًا.
4 -
عظم شأن الصَّلاة؛ إذ يجب ويستحبُّ فيها من اللِّباس ما ليس في غيرها من الأحوال، قال تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وأقلُّ الزِّينة ستر العورة، والزِّيادة على ذلك مستحبَّةٌ، واختُلِف في وجوب ستر العاتق كما تقدَّم.
5 -
يُسر الشَّريعة، ومن ذلك جواز الصَّلاة في الثَّوب الواحد والالتحاف فيه، ولو وجد ثوبًا آخر، كما فعل جابرٌ رضي الله عنه؛ إذ صلَّى في ثوبٍ واحدٍ ملتحفًا به، وثوبه الآخر على المشجب، وذكر أنَّه تعمَّد ذلك لتعليم الجاهل
(1)
.
* * * * *
(229)
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ بِغَيْرِ إِزَارٍ؟ قَالَ: «إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدمَيْهَا» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ، وَصَحَّحَ الأَئِمَّةُ وَقْفَهُ
(2)
.
* * *
هذا الحديث اختُلف في رفعه ووقفه، واللَّفظ الَّذي ساقه المصنِّف هو المرفوع، لكن قوله:«وصحَّح الأئمَّة» يرجِّح أنَّه موقوفٌ، ومعنى كونه موقوفًا:
(1)
ينظر: «صحيح البخاريِّ» (345).
(2)
أبو داود (640). وممن صحَّح وقفه: أبو داود، والدَّارقطنيُّ، وابن الجوزيِّ، وابن عبد الهادي. ينظر:«التلخيص الحبير» (444).
أنَّ المسؤول هي أمُّ سلمة رضي الله عنها، وهي المجيبة بقولها:«إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا» .
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّه يجوز للمرأة أن تصلِّي بدرعٍ وخمارٍ، والدِّرع هو: القميص الَّذي يستر جميع البدن.
2 -
اشتراط أن يكون الدِّرع سابغًا يغطِّي ظهور القدمين.
3 -
وجوب ستر المرأة قدميها في الصَّلاة، وقد اختلف العلماء في ذلك فقيل: يجب، وقيل: يستحبُّ؛ لأنَّ الحديث من قول أمِّ سلمة رضي الله عنها فلا يكون حجَّةً على الوجوب. وهنا ملاحظتان على ترتيب هذه الأحاديث:
أ - كان من المناسب أن يبدأ بحديث جابرٍ وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم؛ لتعلُّقهما بالرِّجال.
ب - أن يذكر حديث أمِّ سلمة مع حديث عائشة رضي الله عنهم؛ لتعلُّقهما بلباس المرأة في الصَّلاة.
* * * * *
(230)
وَعَنْ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَأَشْكَلَتْ عَلَيْنَا الْقِبْلَةُ، فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا إِلَى غَيْرِ القِبْلَةِ، فَنَزَلَتْ:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} [البقرة: 115]. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ
(1)
.
(231)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَوَّاهُ البُخَارِيُّ
(2)
.
* * *
(1)
الترمذيُّ (345).
(2)
الترمذيُّ (344). قوله: «وقوَّاه البخاريُّ» يريد بذلك ما نقله الترمذيُّ عن البخاريِّ أنه قال: «حديث عبد الله بن جعفرٍ المخرميِّ، عن عثمان بن محمدٍ الأخنسيِّ، عن سعيدٍ المقبريِّ، عن أبي هريرة أقوى من حديث أبي معشرٍ وأصحُّ» .
هذان الحديثان يتعلَّقان بحكم استقبال القبلة في الصَّلاة، والقبلة هي: الكعبة والمسجد الحرام، وقد دلَّ الكتاب والسُّنَّة والإجماع على اشتراط استقبال القبلة في الصَّلاة إلَّا ما خصَّه الدَّليل، قال الله تعالى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ
…
»
(1)
الحديث. وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا قطعيًّا، فمن جحد القبلة كفر، ومن صلَّى متعمِّدًا إلى غير القبلة لم تصحَّ صلاته.
وهذان الحديثان قد ضعَّف التِّرمذيُّ أوَّلهما، وقوَّى البخاريُّ الحديث الثَّاني، ومع ذلك فقد اتَّفق العلماء على مضمونهما.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ من صلَّى إلى غير القبلة وقد اجتهد فأخطأ فصلاته صحيحةٌ.
2 -
أنَّ أيَّ جهةٍ أمر الله سبحانه بالتَّوجُّه إليها فهي القبلة، فالكلُّ ملكه، وقوله:{فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} [البقرة: 115]؛ أي: قبلة الله؛ أي: القبلة الَّتي شرع الله، هذا أرجح القولين في الآية، وعلى هذا؛ فلا تكون الآية من آيات الصِّفات.
وقيل: {فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} وجهه الَّذي هو صفته، ومشى على ذلك ابن القيِّم، واختار شيخه الأوَّل، وهو المأثور عن السَّلف كابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم وغيره.
والوجه يطلق على الجهة، فإضافة الوجه إلى الله على القول الأوَّل من إضافة المخلوق إلى خالقه، وعلى القول الثَّاني تكون من إضافة الصِّفة إلى الموصوف.
(1)
رواه البخاريُّ (391)، عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.
3 -
أنَّه لا فضل لجهةٍ على جهةٍ، فهي في ذاتها متساويةٌ، وإنَّما الفضل في الإيمان بالله وطاعته، كما قال تعالى:{لَّيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية [البقرة: 177].
4 -
أنَّه يجزئ البعيد في استقبال القبلة جهتها، وهو الواجب، لا عينها، وأمَّا القريب ففرضه استقبال عين الكعبة.
5 -
أنَّ قبلة أهل المدينة ما بين المشرق والمغرب من جهة اليمن، فذكر المشرق والمغرب في الحديث باعتبار أهل المدينة ومن على سمتهم؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:«لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ ولا تَسْتَدْبِرُوهَا بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»
(1)
، وعليه؛ فمن كان محلُّه في المشرق أو المغرب فما بين الشَّام واليمن له قبلةٌ.
6 -
اليسر في هذا الدِّين، كما هو ظاهرٌ من الفائدتين الرَّابعة والخامسة، وفي الحديث الصَّحيح:«إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ»
(2)
، ويدلُّ لذلك قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
* * * * *
(232)
وَعَنْ عَامِرِ بنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
(233)
زَادَ البُخَارِيُّ: «يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَصْنَعُهُ فِي المَكْتُوبَةِ»
(4)
.
(234)
وَلأَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه: «كَانَ إِذَا سَافَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ اسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُ رِكَابِهِ» . وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ
(5)
.
* * *
(1)
تقدَّم برقم (105).
(2)
رواه البخاريُّ (39)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
البخاريُّ (1093)، ومسلمٌ (701).
(4)
البخاريُّ (1097).
(5)
أبو داود (1225)، بلفظ:«ثمَّ صلَّى حيث وجَّهه ركابه» بدل «حيث كان وجه ركابه» .
هذان الحديثان في حكم صلاة التَّطوُّع على الرَّاحلة في السَّفر.
وفيهما فوائد، منها:
1 -
جواز صلاة النَّافلة على الرَّاحلة في السَّفر، ومن ذلك الوتر، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهم
(1)
.
2 -
أنَّ المكتوبة لا تصحُّ على الرَّاحلة إلَّا عند الضَّرورة؛ كخوفٍ من عدوٍّ أو ضررٍ.
3 -
أنَّ التَّطوُّع على الرَّاحلة لا يشترط له استقبال القبلة، فيصلِّي المسافر حيث توجَّهت به راحلته، وإذا أمكنه استقبال القبلة وهو يسير وجب عليه؛ كما في السَّيَّارة والطَّائرة والسَّفينة؛ لأنَّها في الغالب تسير في اتِّجاهٍ واحدٍ.
4 -
استحباب استقبال القبلة عند تكبيرة الإحرام، لمن يصلِّي على الرَّاحلة في السَّفر.
5 -
أنَّ المتطوِّع على راحلته يومئ بالرُّكوع والسُّجود.
6 -
تيسير الله أمر العبادة على العباد.
7 -
استحباب التَّطوُّع المطلق بالصَّلاة في السَّفر.
8 -
أنَّ صلاة النَّافلة على الرَّاحلة مختصَّةٌ بالسَّفر دون الحضر؛ إذ لم يكن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يتطوَّع على راحلته إلَّا في السَّفر.
9 -
أنَّ السُّنَّة تخصِّص القرآن، وهو قوله تعالى:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149].
* * * * *
(1)
رواه البخاريُّ (955)، ومسلمٌ (700).
(235)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ، إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَهُ عِلَّةٌ
(1)
.
(236)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلَّى فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ: المَزْبَلَةِ، وَالْمَجْزَرَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالْحَمَّامِ، وَمَعَاطِنِ الإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ
(2)
.
(237)
وَعَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تُصَلُّوا إِلَى القُبُورِ، ولا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(3)
.
* * *
هذه الأحاديث تضمَّنت النَّهي عن الصَّلاة في مواضع من الأرض، والأصل: جواز الصَّلاة في جميع المواضع؛ لما ثبت في «الصَّحيحين» من قوله صلى الله عليه وسلم: «وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»
(4)
، ويستثنى من ذلك ما قام الدَّليل على تحريم الصَّلاة فيه، فيكون مخصوصًا من عموم الأرض، فقد ثبت النَّهي عن الصَّلاة في المقبرة وإلى المقبرة، وعن الصَّلاة في معاطن الإبل، واتَّفق العلماء على تحريم الصَّلاة في المواضع النَّجسة، وقد دلَّ حديث أبي سعيدٍ وابن عمر رضي الله عنهم على النَّهي عن الصَّلاة في سبعة مواضع، ولكنَّ حديث ابن عمر رضي الله عنهم لا يصلح للاحتجاج، ولكن من هذه المواضع ما صحَّ النَّهي عنه؛ كالمقبرة ومعاطن الإبل، وكذا الحمَّام عند من صحَّح حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه، والمراد بالحمَّام: المكان المعدُّ للاستحمام، وهو الاغتسال بالماء الحارِّ، لا المعدُّ لقضاء الحاجة، كما يعرف الآن، وأمَّا الصَّلاة على ظهر البيت، وهو سطح الكعبة فلا دليل على منع الصَّلاة فيه إلَّا حديث ابن عمر رضي الله عنهم وهو ضعيفٌ.
(1)
الترمذيُّ (317). وأعله بعضهم برواية الثوري المرسلة، وقد روي موصولاً، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن أسانيده جيدة وقال في «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/ 677):«ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه» .
(2)
الترمذيُّ (346).
(3)
مسلمٌ (972).
(4)
تقدم برقم (139).
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الأرض كلَّها مصلًّى.
2 -
المنع من الصَّلاة في المقبرة، وقد صحَّت بذلك الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم:«أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ»
(1)
.
3 -
النَّهي عن الصَّلاة في الحمَّام، وأصحُّ ما جاء فيه حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه، وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجَّح شيخنا الشَّيخ عبد العزيز بن بازٍ وصله وسلامته من العلَّة
(2)
.
4 -
النَّهي عن الصَّلاة في معاطن الإبل، وهي مباركها عند الماء، وقد صحَّ النَّهي عن الصَّلاة فيها، وليس هذا النّهي لنجاسة أبوالها وأرواثها، بل ذلك من جنس الأمر بالوضوء من لحمها، وحكمة ذلك -والله أعلم-: ما جبلت عليه من أخلاق الشَّياطين.
5 -
النَّهي عن الصَّلاة في المزبلة والمجزرة، ولم يأت النَّهي عن ذلك إلَّا في حديث ابن عمر رضي الله عنهم، وهو ضعيفٌ، لكن ينهى عن الصَّلاة فيهما من أجل النَّجاسة، فإذا كان فيهما موضعٌ لا نجاسة فيه فالأصل صحَّة الصَّلاة.
6 -
النَّهي عن الصَّلاة في قارعة الطَّريق وفوق ظهر الكعبة، ولم يرد النَّهي عن ذلك إلَّا في حديث ابن عمر رضي الله عنهم، وقد أخذ بذلك كثيرٌ من العلماء، والصَّحيح: أنَّه لا تحرم الصَّلاة في سطح الكعبة ولا في قارعة الطَّريق؛ إلَّا أن تترتَّب على ذلك مفسدةٌ شرعيَّةٌ.
7 -
تحريم الصَّلاة إلى القبور.
8 -
سدُّ ذرائع الشِّرك.
9 -
تحريم الجلوس على القبور.
(238)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ، فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ أَذًى أَوْ قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ؛ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا» . أَخْرَجَهُ أبو دَاودَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
(239)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وَطِئَ أَحَدُكُمُ الأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاودَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(2)
.
* * *
هذان الحديثان أوردهما المؤلِّف في باب شروط الصَّلاة، للاستدلال بهما على أنَّ من شروط الصَّلاة الطَّهارة من النَّجاسة، فيجب على من أراد الصَّلاة أن يطهِّر بدنه وثوبه ومكان الصَّلاة من النَّجاسة، وفي حكم الثَّوب كلُّ ما يلبس على البدن، ومن ذلك: النَّعل والخفُّ.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ تطهير النَّعل والخفِّ بدلكهما بالتُّراب.
2 -
وجوب تفقُّد النَّعل والخفِّ قبل الدُّخول في المسجد إذا احتمل أن يكون فيهما قذرٌ.
3 -
وجوب التَّطهُّر من النَّجاسة للصَّلاة.
4 -
أنَّ تطهير النَّجاسة لا يختصُّ بالماء.
5 -
صيانة المسجد من الأقذار.
6 -
استحباب الصَّلاة في النِّعال ونحوها.
7 -
أنَّ المشقَّة تجلب التَّيسير.
(1)
أبو داود (650)، وابن خزيمة (786).
(2)
أبو داود (386)، وابن حبان (1404).
(240)
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(241)
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: «إِنْ كُنَّا لَنَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، يُكَلِّمُ أَحَدُنَا صَاحِبَهُ بِحَاجَتِهِ حَتَّى نَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين (238)} [البقرة: 238]، فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
(2)
.
* * *
هذان الحديثان في حكم الكلام في الصَّلاة، ولحديث معاوية سببٌ، قال معاوية: بينا أنا أصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم! فقلت: وا ثكل أُمِّياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم! فلمَّا رأيتهم يصمِّتونني لكنِّي سكتُّ، فلمَّا صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمِّي، ما رأيت معلِّمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: «إنَّ هذِهِ الصَّلَاةَ
…
» الحديث.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
تحريم الكلام في الصَّلاة، واتَّفق العلماء على أنَّ من تكلَّم في الصَّلاة عمدًا بطلت صلاته.
2 -
أنَّ الكلام في الصَّلاة سهوًا أو خطأً لا يبطلها.
3 -
أنَّ الكلام في الصَّلاة كان جائزًا ثمَّ نسخ.
(1)
مسلمٌ (537).
(2)
البخاريُّ (1200)، ومسلمٌ (539).
4 -
أنَّ النَّسخ قد يكون بالأشدِّ.
5 -
أنَّ حكم الكلام في الصَّلاة عامٌّ في فرضها ونفلها، وشاملٌ لقليل الكلام وكثيره.
6 -
وجوب التَّكبير والتَّسبيح والقراءة في الصَّلاة، وهذا فصَّلته السُّنَّة.
7 -
أنَّه ليس في الصَّلاة موضع سكوتٍ، وقول أبي هريرة رضي الله عنه:«أرأيت سكوتك بين التَّكبير والقراءة؛ ما تقول؟»
(1)
، يريد: الإسرار.
8 -
أنَّ ترك نوعٍ من الكلام يسمَّى سكوتًا.
9 -
إطلاق العامِّ وإرادة الخاصِّ في قوله: «ونهينا عن الكلام» .
ويؤخذ من سبب حديث معاوية:
10 -
حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن تعليمه.
11 -
الرِّفق بالجاهل.
12 -
أنَّ الرِّفق سببٌ لقبول النُّصح والإرشاد، وأنَّ العنف سببٌ للنُّفرة عن الحقِّ.
13 -
جواز تنبيه من أخطأ في صلاته بكلامٍ أو غيره؛ وذلك بالإشارة ونحوها.
14 -
أنَّ من عطس في الصَّلاة يحمد الله لكن لا يشمَّت.
ويؤخذ من قوله: «حتَّى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين (238)} [البقرة: 238]» :
15 -
أنَّ القرآن نزل منجَّمًا.
16 -
إثبات العلوِّ لله تعالى.
17 -
أنَّ القرآن منزَّلٌ غير مخلوقٍ.
(1)
البخاريُّ (744)، ومسلمٌ (598).
18 -
فضيلة صلاة العصر؛ لقوله تعالى: {والصَّلَاةِ الْوُسْطَى} .
19 -
عظم شأن الصَّلاة.
20 -
وجوب القيام في الصَّلاة إلَّا ما خصَّه الدَّليل.
21 -
أنَّ السُّنَّة تفسِّر القرآن.
22 -
أنَّ السُّكوت في الصَّلاة من تمام القنوت.
* * * * *
(242)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(243)
زَادَ مُسْلِمٌ: «فِي الصَّلَاةِ»
(1)
.
* * *
هذا الحديث فيه بيان ما يفعله المسلم إذا نابه شيءٌ في الصَّلاة.
وفيه فوائد، منها:
1 -
أنَّ الرَّجل إذا نابه شيءٌ في صلاته يسبِّح، أي يقول:«سبحان الله» ؛ كالمأموم إذا سها إمامه فزاد أو نقص في صلاته.
2 -
أنَّ المرأة تصفِّق تصفيقًا يحصل به التَّنبيه ويرشد إلى المقصود.
3 -
أنَّ صوت المرأة فتنةٌ؛ فلذا جاءت السُّنَّة بإرشادها إلى التَّصفيق عند الحاجة.
4 -
جواز صلاة المرأة مع الرِّجال في المسجد أو غيره.
5 -
أنَّ للمرأة -إذا صلَّت مع الرِّجال- أن تنبِّه الإمام إذا لم ينبِّهه الرِّجال.
6 -
جواز الفعل اليسير للحاجة في الصَّلاة.
(1)
البخاريُّ (1203)، ومسلمٌ (422).
7 -
أنَّ الذِّكر المشروع في غير محلِّه من الصَّلاة لا يبطلها، لكن يكره؛ كالتَّسبيح في القعود، لكن إذا دعت إليه الحاجة فلا كراهة؛ لهذا الحديث.
8 -
وقوله في الحديث الآخر: «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ
…
»
(1)
، يدلُّ على أنَّ ذلك لا يختصُّ بصلاة الجماعة؛ بل يشمل الإمام والمأموم والمنفرد.
9 -
الفرق بين الرِّجال والنِّساء في الأحكام في الجملة.
* * * * *
(244)
وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ» . أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ، إِلَّا ابْنَ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(2)
.
* * *
هذا الحديث يدخل في شمائل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وممَّا يبيِّن كمال عبادته.
وفيه فوائد، منها:
1 -
تعظيم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لربِّه.
2 -
كمال إقباله صلى الله عليه وسلم على الله في صلاته.
3 -
إجلاله صلى الله عليه وسلم لله وشوقه إليه.
4 -
فضل البكاء في الصَّلاة من خشية الله.
5 -
العمل على كتمانه، لكن من غلبه البكاء فكان له نشيجٌ فلا حرج عليه، وأمَّا تعمُّد النَّشيج والصِّياح فينهى عنه؛ لأنَّه تكلُّف ما ليس بمشروعٍ في الصَّلاة.
(1)
رواه البخاريُّ (7190)، ومسلمٌ (421) عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.
(2)
أحمد (16317)، وأبو داود (904)، والترمذيُّ في «الشمائل» (322)، والنَّسائيُّ (549)، وابن حبان (753).
(245)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ:«كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَدْخَلانِ، فَكُنْتُ إِذَا أَتَيْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي تَنَحْنَحَ لِي» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَه
(1)
.
* * *
هذا الحديث يدخل في فضائل أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه.
وفيه فوائد، منها:
1 -
فضيلة عليٍّ رضي الله عنه.
2 -
كثرة دخوله على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو أخصُّ أهل بيت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم به؟ فإنَّه ابن عمِّه وصهره على فضلى بناته.
3 -
جواز التَّنحنح في الصَّلاة للحاجة، وأنَّه لا يبطلها، ولو قصد به التَّنبيه؛ لأنَّه ليس بكلامٍ، ولو بان حرفان.
* * * * *
(246)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، قَالَ:«قُلْتُ لِبِلَالٍ: كَيْفَ رَأَيْتَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ: يَقُولُ هَكَذَا، وَبَسَطَ كَفَّهُ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز السَّلام على المصلِّي.
2 -
أنَّه يردُّ بالإشارة ولا يتكلَّم.
3 -
أنَّ الإشارة ليست بكلامٍ؛ فمن حلف ألَّا يتكلَّم لم يحنث بالإشارة باليد والرَّأس ونحوهما.
(1)
النَّسائيُّ (1210)، وابن ماجه (3708).
(2)
أبو داود (927)، والترمذيُّ (368).
4 -
صفة ردِّ السَّلام بالإشارة، وهي أن يبسط كفَّه ويجعل باطنها إلى الأرض.
5 -
جواز السَّلام على قارئ القرآن، لكنَّ القارئ يردُّ بالكلام.
6 -
جواز الفعل اليسير في الصَّلاة من غير جنسها للحاجة.
7 -
أخذ العالم ممَّن دونه، وأنَّ هذا لا يزري بالعالم، بل يرفع من قدره.
8 -
حرص الصَّحابة رضي الله عنهم على العلم.
* * * * *
(247)
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(248)
وَلِمُسْلِمٍ: «وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي المَسْجِدِ»
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ورحمته للصِّغار.
2 -
أنَّ الحركة الكثيرة من غير جنس الصَّلاة لا تبطل الصَّلاة إذا كانت متفرِّقةً.
3 -
فضيلة أمامة بنت زينب رضي الله عنهم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 -
حمل المصلِّي ما يحتاج إلى حمله.
5 -
جواز حمل المرأة طفلها في الصَّلاة إذا خشيت أن يشوِّش عليها ببكاءٍ أو غيره.
6 -
التَّعليم بالفعل.
(1)
البخاريُّ (516)، ومسلمٌ (543).
7 -
أنَّ الأصل في ثياب الطِّفل الطَّهارة، وجواز حمله ما لم تعلم نجاستها.
8 -
يُسر الدِّين وسماحة الشَّريعة.
9 -
جواز إدخال الصِّبيان المسجد إذا كان لا يترتَّب عليه مفسدةٌ تتعلَّق بالمصلِّين أو المسجد.
* * * * *
(249)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْتُلُوا الأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ؛ الحَيَّةَ، وَالْعَقْرَبَ» . أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة قتل الحيَّة والعقرب؛ لأنَّهما من الحيوانات المؤذية والضَّارَّة، فيقتلن في الحلِّ والحرم.
2 -
جواز قتلهما في الصَّلاة، وذلك إذا عرضا للمصلِّي قريبًا منه، أو بعيدًا وخشي منهما الضَّرر.
3 -
احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.
4 -
جواز الحركة في الصَّلاة للحاجة والضَّرورة، وذلك من يسر الشَّريعة.
5 -
مجيء الأمر للإباحة والاستحباب.
* * * * *
(1)
أبو داود (921)، والترمذيُّ (390)، والنَّسائيُّ (1201)، وابن ماجه (1245)، وابن حبان (2352).
بَابُ سُتْرَةِ المُصلِّي
السُّتْرَةُ: ما يتَّقى به النَّظر أو ما يحذر من أيِّ شيءٍ.
السُّتْرَةُ فِي الصَّلَاةِ: ما تستر به العورة أو غيرها من البدن.
وَسُتْرَةُ المُصَلِّي: ما يتَّقي به المارَّ بين يديه من جدارٍ أو عصًا أو نحوها، ويقال لها: السُّترة في الصَّلاة.
واتِّخاذ المصلِّي للسُّترة بين يديه سنَّةٌ عند جمهور العلماء، وقيل: إنَّ اتِّخاذها واجبٌ، وممَّا يرجِّح أنَّها سنَّةٌ: ما جاء أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى في الصَّحراء إلى غير سترةٍ
(1)
، ولعلَّ ذلك لبيان الجواز، والغالب من هديه صلى الله عليه وسلم الصَّلاة إلى سترةٍ، ولهذا كانت تحمل معه العنزة فيصلِّي إليها.
* * * * *
(250)
عَنْ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الحَارِثِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمُ المَارُّ بَيْنَ يَدَيِ المُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ؛ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
(2)
.
(251)
وَوَقَعَ فِي البَزَّارِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: «أَرْبَعِينَ خَرِيفًا»
(3)
.
(1)
وهو ما رواه أحمد (1965)، عن ابن عباسٍ رضي الله عنه:«أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى في فضاءٍ ليس بين يديه شيءٌ» .
(2)
البخاريُّ (510)، ومسلمٌ (507)، واللفظ لهما، دون قوله:«مِنَ الإثْمِ» فلم تثبت في «الصحيحين» ولا غيرهما، وهي زيادةٌ تفرد بها الكشميهنيُّ (ت 548) أحد رواة صحيح البخاريِّ، قال ابن حجرٍ: «وليست هذه الزيادة في شيءٍ من الروايات عند غيره
…
». فتح الباري (1/ 585).
(3)
البزار في «مسنده» (3782) قال الألبانيُّ: قوله: «أَرْبَعينَ خَريفًا» فهذه الزيادة: (خريفًا) خطأٌ من ابن عيينة فإنه رواه عن أبي النضر عن بسر بن سعيدٍ وخالفه مالكٌ، وسفيان الثوريُّ، فقالا: قال أبو النضر: «لا أدري أقال: أربعين يومًا أو شهرًا أو سنةً؟» ، وهو رواية الجماعة وهو رواية أحمد عن ابن عيينة أيضًا فهي تقوِّي خطأ رواية البزار عنه».
هذا الحديث تضمَّن حكم المرور بين يدي المصلِّي.
وفيه فوائد، منها:
1 -
عظم شأن الصَّلاة.
2 -
تحريم المرور بين يدي المصلِّي؛ بينه وبين سترته أو قريبًا منه، سواءٌ كانت الصَّلاة فرضًا أو نفلاً، ولا فرق بين الحرم وغيره لإطلاق الحديث، وهو قول الجمهور، ولا تلازم بين تحريم المرور ووجوب السُّترة، فيحرم المرور بين يدي المصلِّي حتَّى ولو قيل بعدم وجوب السُّترة.
3 -
أنَّ المرور بين يدي المصلِّي من الكبائر؛ لما ورد في الحديث، ولما ورد من الأمر بمنع المارِّ والإذن بمقاتلته.
4 -
أنَّ المحذور هو المرور دون الجلوس أو الاضطجاع أو مدِّ اليد إلى شيءٍ لأخذه.
5 -
أنَّ عقوبة المارِّ بين يدي المصلِّي أعظم من وقوفه أربعين، وأمَّا رواية:«مِنَ الإِثْمِ» فلم تصحَّ، ونسبتها إلى البخاريِّ خطأٌ؛ لأنَّ أكثر رواة البخاريِّ لم يذكروها.
6 -
أنَّ طول الوقوف ممَّا يتألَّم به الإنسان ويتضرَّر، فكيف إذا كان مدَّةً طويلةً؛ كأربعين يومًا، وأكثر من ذلك؟!
7 -
أنَّ الأربعين في رواية «الصَّحيحين» مبهمةٌ، وأمَّا تعيينها بأربعين خريفًا فهي عند البزَّار بسندٍ ضعيفٍ، والمعوَّل على رواية «الصَّحيحين» فلا يجزم بتعيين مدَّةٍ.
* * * * *
(252)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ عَنْ سُتْرَةِ المُصلِّي؟ فَقَالَ: «مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة سترة المصلِّي.
2 -
أنَّ مقدار السُّترة مثل مؤخرة الرَّحل؛ يعني: في العرض والارتفاع إذا تيسَّر ذلك، والرَّحل هو: ما يوضع على ظهر البعير يكون عليه الرَّاكب، ومؤخرته طرفه الذي يكون من خلف الرَّاكب، وقريبٌ منها العنزة، وهي رمحٌ قصيرةٌ كانت تغرز بين يدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى في الصَّحراء.
3 -
السُّؤال عن المجمل في الدَّليل.
4 -
أنَّ الظَّاهر أنَّ هذا الحديث من نوع مراسيل الصّحابة؛ لأنَّ عائشة رضي الله عنها لم تكن مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في تبوك.
5 -
أنَّ السُّترة متقرِّرةٌ عند الصَّحابة رضي الله عنهم، ولذا سألوا عن كيفيَّتها.
* * * * *
(253)
وَعَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ وَلَوْ بِسَهْمٍ» . أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ
(2)
.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة السُّترة في الصَّلاة.
2 -
تأكُّد السُّترة في الصَّلاة.
3 -
إجزاء السَّهم ونحوه في سترة الصَّلاة.
(1)
مسلمٌ (500).
(2)
الحاكم (928).
4 -
أنَّها إذا كانت أطول من السَّهم فهو أفضل، وتقدَّم أنَّها مثل مؤخرة الرَّحل، والسَّهم ما يرمى به، وهو عودٌ دقيقٌ قصيرٌ في رأسه حديدةٌ مدبَّبةٌ يقال لها:(النَّصل).
* * * * *
(254)
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقْطَعُ صَلَاةَ الْمَرْءِ المُسْلِمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بينَ يَدَيْهِ مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ؛ المَرْأَةُ، وَالحِمَارُ، وَالكَلْبُ الأَسْوَدُ
…
» الحَدِيثَ. وَفِيهِ: «الكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(255)
وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه نَحْوُهُ، دُونَ الكَلْبِ
(2)
.
(256)
وَلأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم نَحْوُهُ دُونَ آخِرِهِ، وَقَيَّدَ المَرْأَةَ بِالحَائِضِ
(3)
.
* * *
هذه الأحاديث في بيان ما يقطع الصَّلاة مروره بين يدي المصلِّي.
وفيها فوائد، منها:
1 -
أنَّ السُّترة تمنع من قطع الصَّلاة بمرور أحد الثَّلاثة.
2 -
أنَّ مرور أحد الثَّلاثة المذكورة بين يدي المصلِّي الَّذي لم يتَّخذ سترةً أو بينه وبين سترته = يقطع صلاته.
وقد ذهب الجمهور في معنى القطع أنَّه تنقيص الثَّواب، وذهبوا إلى تخصيص هذا الحكم بمرور الكلب الأسود دون المرأة والحمار؛ لحديث
(1)
مسلمٌ بمعناه (510)، وعند أبي داود (702)، وأحمد (21323) نحوه.
(2)
مسلمٌ (511) وقد جاء فيه ذكر (الكلب) لكنَّه مطلقٌ، ولم يقيد بالأسود.
(3)
أبو داود (703)، والنَّسائيُّ (750). وقد اختلف في رفعه ووقفه؛ فرفعه شعبة كما عند أبي داود والنَّسائيِّ، وخالفه غيره من أصحاب قتادة، قال أبو داود عقبه:«وقفه سعيدٌ وهشامٌ وهمامٌ عن قتادة عن جابر بن زيدٍ على ابن عباسٍ» ، وقد رواه النَّسائيُّ موقوفًا أيضًا.
عائشة رضي الله عنها في اضطجاعها بين يدي الرَّسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلِّي
(1)
، وحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم حين أرسل الأتان ترتع بين يدي بعض الصَّفِّ
(2)
.
وذهب جماعةٌ من العلماء إلى أنَّ المراد بالقطع إبطال الصَّلاة، فمنهم من خصَّ ذلك بمرور الكلب الأسود لما تقدَّم، ومنهم من قال بظاهر هذا الحديث وهو إبطال الصَّلاة بمرور أحد الثَّلاثة، وأجابوا عن حديث عائشة رضي الله عنها بأنَّ الاضطجاع أو الجلوس بين يدي المصلِّي ليس له حكم المرور. وعن حديث ابن عبَّاسٍ؛ بأنَّ سترة الإمام سترةٌ للمأموم، أو بأنَّه لا يلزم من إرسالها بين يدي الصَّفِّ أن تكون قريبةً.
واستدلَّ من قال بأنَّ القطع تنقيص الثَّواب بحديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه الآتي: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ وَادْرَؤُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ»
(3)
، ولكنَّ الحديث ضعيفٌ.
والرَّاجح: ما دلَّ عليه حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه وما في معناه وهو قطع الصَّلاة -أي إبطالها- بمرور أحد الثَّلاثة.
3 -
أنَّه إنَّما يقطع الصَّلاة بمرور المرأة الحائض؛ أي: البالغ.
4 -
أنَّه إنَّما يقطع مرور الكلب الأسود.
5 -
تعليل ذلك بأنَّه شيطانٌ.
6 -
أنَّ غير الأسود لا يقطع الصَّلاة.
7 -
أنَّ مرور الشَّيطان يقطع الصَّلاة، كما يدلُّ له قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ لِيَقْطَعَ الصَّلاة عَلَيَّ»
(4)
.
8 -
تعليل الأحكام الشَّرعيَّة.
(1)
رواه البخاريُّ (283)، ومسلمٌ (1173).
(2)
رواه البخاريُّ (76)، ومسلمٌ (1152).
(3)
سيأتي برقم (260).
(4)
رواه البخاريُّ (1210)، ومسلمٌ (541)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
9 -
أنَّ أيَّ حمارٍ يقطع الصَّلاة؛ لإطلاق الحديث؛ لكن يقيَّد بالأهليِّ؛ لأنَّه المعروف عند الإطلاق.
10 -
خفاء الحكمة في قطع الصَّلاة بمرور المرأة والحمار.
11 -
أنَّ العباد لا يحيطون بحكمة التَّشريع.
12 -
جواز السُّؤال عن الحكمة طلبًا لمزيد العلم لا معارضةً ولا توقُّفًا عن العمل.
* * * * *
(257)
وَعَنْ أَبِي سَعيدٍ الخُدْريّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بينَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(258)
وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّ مَعَهُ القَرِينَ»
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
تحريم المرور بين المصلِّي وسترته.
2 -
أنَّه يجب على المصلِّي منع المجتاز من المرور بدفعه أو بقتاله.
3 -
أنَّه يقاتل من أصرَّ على المرور، وهذا الدَّفع والقتال قيل: إنَّه واجبٌ، وهو قول الظَّاهريَّة، وروايةٌ عن الإمام أحمد، وهو ظاهر الأمر، وذهب جمهور العلماء إلى جوازه أو استحبابه.
4 -
أنَّ من يتعمَّد المرور بين المصلِّي وسترته من غير عذرٍ شيطانٌ.
5 -
أنَّه إذا عاند ولم يندفع فإنَّ مروره يقطع الصَّلاة؛ لقوله: «فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» ، بدليل أنَّه صلى الله عليه وسلم علَّل قطع الكلب الأسود بأنَّه شيطانٌ كما تقدَّم.
(1)
البخاريُّ (509)، ومسلمٌ (505).
(2)
عند مسلم (506)، عن ابن عمر رضي الله عنهم.
6 -
جواز الحركة في الصَّلاة لمصلحتها ما لم تكثر.
7 -
أنَّ من لم يتَّخذ سترةً فليس له دفع المارِّ بين يديه ولا قتاله.
8 -
مشروعيَّة السُّترة في الصَّلاة، وأنَّها تزيد في حرمة المرور بين يدي المصلِّي.
9 -
بيان علل الأحكام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» .
* * * * *
(259)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ شَيْئًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَنْصِبْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَلْيَخُطَّ خَطًّا، ثُمَّ لا يَضُرُّهُ مَنْ مَرَّ بينَ يَدَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَلمْ يُصِبْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ؛ بَلْ هُوَ حَسَنٌ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة السُّترة في الصَّلاة.
2 -
أنَّها تكون تلقاء وجه المصلِّي ولا يكره صموده إليها، وقد ورد ما يدلُّ على النَّهي عن الصُّمود إلى السُّترة وأنَّه ينبغي جعلها إلى الحاجب الأيمن أو الأيسر، ولكنَّ الحديث ضعيفٌ.
3 -
أنَّ الأولى في السُّترة أن تكون عريضةً وطويلةً كالجدار ونحوه.
4 -
أنَّها إذا لم تتيسَّر كذلك أجزأ نصب العصا.
5 -
أنَّه إذا لم يتيسَّر عصًا أو نحوها أجزأ أن يخطَّ خطًّا بيده أو رجله أو بأيِّ شيءٍ، قال العلماء: ويكون الخطُّ على شكل هلالٍ، فيكون كهيئة المحراب المعروف.
(1)
أحمد (7392)، وابن ماجه (943)، وابن حبان (2361). ويعني بقوله:«ولم يصب من زعم أنه مضطربٌ» : الحافظ العراقيَّ وابن الصلاح؛ فإنهما قد مثَّلا به للمضطرب.
6 -
أهمِّيَّة السُّترة في الصَّلاة.
7 -
أنَّ الأحكام منوطةٌ بالاستطاعة.
8 -
يسر الشَّريعة.
* * * * *
(260)
وَعَنْ أَبِي سَعيدٍ الخُدْريّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ شَيْءٌ، وَادْرَؤُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّه لا يقطع الصَّلاة شيءٌ ممَّا يمرُّ بين يدي المصلِّي؛ أي: لا يبطلها، وقد تأوَّل الجمهور لهذا الحديث أحاديث القطع بالمرأة والحمار والكلب الأسود، فحملوه على قطع الكمال لا الإبطال؛ جمعًا بين الأحاديث؛ ولكن يشكل عليهم أنَّ الحديث ضعيفٌ، ويمكن الجمع بين حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه -لو صحَّ- وأحاديث القطع بحمل العامِّ على الخاصِّ، فأحاديث القطع تكون مخصِّصةً لحديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه.
2 -
أنَّ على المصلِّي أن يدرأ المارَّ حسب استطاعته؛ فلا يترك شيئًا يمرُّ بين يديه، ويشهد له حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه المتقدِّم في دفع من يريد المرور ومقاتلته. والله أعلم.
* * * * *
(1)
أبو داود (719). وفي إسناده مجالد بن سعيدٍ وهو ضعيفٌ. ينظر: «ميزان الاعتدال» (3/ 438).
بَابُ الحَثِّ عَلَى الخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ
الخُشُوعُ فِي اللُّغَةِ: السُّكون، ويكون في الصَّوت والبصر والجوارح، ومنه قوله تعالى:{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم: 43]، {وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ} [طه: 108]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت: 39]؛ أي: ساكنةً لا حركة فيها.
وَالخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ: الإقبال عليها بترك ما ينافيها أو ينافي كمالها من الأفعال والهيئات وليس من شرطه البكاء، ولكنَّ البكاء ينشأ من شدَّة الخوف أو الشَّوق، قال تعالى:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا * (58)} [مريم: 58].
* * * * *
(261)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
(1)
.
ومعناه: أن يجعل يده على خاصرته.
(262)
وَفِي البُخَارِيِّ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ «أَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْيَهُودِ»
(2)
.
* * *
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
النَّهي عن الاختصار في الصَّلاة، وروي: التَّخَصُّر وَالخَصْر، والمراد به: وضع اليد على الخاصرة، أو اليدين على الخاصرتين، والخاصرة هي: ما بين أسفل الأضلاع والعظم الَّذي فوق الفخذ، فالخاصرتان: وسط الإنسان
(1)
البخاريُّ (1220)، ومسلمٌ (545).
(2)
البخاريُّ (3458).
من جانبيه، وهما موضع ما يشدُّه الإنسان على وسطه، وهيئة الاختصار تشعر بالغفلة أو الكبر، وهذا ممَّا ينافي الخشوع في الصَّلاة.
2 -
أنَّ علَّة النَّهي عن ذلك التَّشبُّه باليهود.
3 -
أنَّ اليهود يختصرون في الصَّلاة.
4 -
ذمُّ التَّشبُّه بالكفَّار.
5 -
أنَّ من مقاصد الشَّرع ترك التَّشبُّه بالكفَّار في العادات أو العبادات.
* * * * *
(263)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قُدِّمَ العَشَاءُ فَابْدَؤوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا المَغْرِبَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ من عادتهم العشاء قبل المغرب.
2 -
سماحة الشَّريعة بمراعاة الطَّبيعة البشريَّة.
3 -
أنَّ السُّنَّة البداءة بالطَّعام قبل الصَّلاة إذا حصل تزاحمٌ بينهما.
4 -
الرُّخصة بترك الجماعة لحضور الطَّعام.
5 -
أنَّ محلَّ هذه الرُّخصة إذا لم يكن تقديم الطَّعام عند حضور الصَّلاة عادةً أو متعمَّدًا.
6 -
أنَّه يجوز له في هذه الحال أن يأكل عادته ولو إلى حدِّ الشِّبع، ولا يجب عليه الاقتصار على ما يسدُّ رمقه.
7 -
أنَّ صلاة الإنسان ونفسه متعلِّقةٌ بشيءٍ من أمر دنياه من طعامٍ وغيره ممَّا يذهب خشوعه أو يضعفه.
(1)
البخاريُّ (672)، ومسلمٌ (557).
8 -
العناية بأمر الصَّلاة؛ لأنَّ البداءة بالطَّعام ليتفرَّغ القلب لها لا تهاونًا بها.
9 -
الاستعداد للصَّلاة بما يعين على إقامتها والخشوع فيها من فعلٍ أو تركٍ.
10 -
تحريم مشاهدة المسلسلات في القنوات؛ لأنَّها من أعظم ما يلهي القلب في الصَّلاة، بل يلهي عن الصَّلاة.
* * * * *
(264)
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلَا يَمْسَحِ الحَصَى؛ فَإِنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
(265)
وَزَادَ أَحْمَدُ: «وَاحِدَةً أَوْ دَعْ»
(1)
.
(266)
وَفِي «الصَّحِيحِ» عَنْ مُعَيْقِيبٍ نَحْوُهُ بِغَيْرِ تَعْلِيلٍ
(2)
.
* * *
حديثا أبي ذرٍ ومعيقيبٍ رضي الله عنهم فيهما فوائد، منها:
1 -
النَّهي عن مسح الأرض عند السُّجود.
2 -
أنَّ في تعفير الوجه بالتُّراب رحمةً للعبد لما فيه من الخضوع والذُّلِّ لله، ومسح الأرض يؤذن بالرَّغبة في تخفيف تعفير الوجه.
3 -
الرُّخصة في مسح الأرض مرَّةً واحدةً، والتَّرك أفضل.
4 -
أنَّ السُّجود على التُّراب أفضل.
5 -
أنَّ مسح ما يؤذي ويذهب الخشوع من شوكٍ أو حصًى لا يدخل في النَّهي.
6 -
ترك الحركة الَّتي لا حاجة إليها في الصَّلاة.
(1)
أحمد (21330)، وأبو داود (945)، والتِّرمذيُّ (379)، والنَّسائيُّ (1190)، وابن ماجه (1027).
(2)
رواه البخاريُّ (1207)، ومسلمٌ (546).
(267)
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الالتِفَاتِ فِي الصَّلَاة، فَقَالَ:«هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ العَبْدِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(1)
.
(268)
وَلِلتِّرْمِذِيِّ: عَنْ أَنَسٍ وَصَحَّحَهُ: «إِيَّاكَ وَالالْتِفَاتَ فِي الصَّلَاة؛ فَإِنَّهُ هَلَكَةٌ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَفِي التَّطَوُّعِ»
(2)
.
* * *
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
ذمُّ الالتفات في الصَّلاة، والمراد به: الالتفات بالرَّأس يمينًا أو شمالاً لا بكلِّ البدن؛ فإنَّ ذلك انحرافٌ عن القبلة تبطل به الصَّلاة.
2 -
أنَّ الالتفات في الصَّلاة من الشَّيطان.
3 -
أنَّه نقصٌ من الصَّلاة إلَّا لحاجةٍ، كما ثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم بعث فارسًا فكان يلتفت إلى الشِّعب، وثبت أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه التفت لمَّا نبِّه إلى خروج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من بيته وهم في الصَّلاة ولم يكن يلتفت في الصَّلاة رضي الله عنه.
4 -
التَّحذير من الالتفات في الصَّلاة.
5 -
أنَّه سببٌ للهلكة، وهذا يدلُّ على تحريمه، لكنَّ حديث أنسٍ رضي الله عنه ضعيفٌ
(3)
، فالصَّحيح: أنَّ الالتفات مكروهٌ؛ لحديث عائشة.
6 -
حرص عائشة رضي الله عنها على العلم، فلذلك كانت عالمةً.
7 -
أنَّ الالتفات في التَّطوُّع أيسر.
(1)
البخاريُّ (751).
(2)
التِّرمذيُّ (589). تنبيهٌ: الموجود في نسخ التِّرمذيِّ: «هَذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ» ، وفي بعضها:«هذا حديثٌ غريبٌ» ، وقد حسَّن التِّرمذيُّ هذا الإسناد نفسه في موضعٍ آخر من «جامعه» (2678).
(3)
في إسناده عليُّ بن زيدٍ، المعروف بابن جدعان، ضعَّفه أحمد وابن معينٍ والنَّسائيُّ، وقال أبو زرعة وأبو حاتمٍ:«ليس بالقويِّ» . ينظر: «تهذيب التهذيب» (3/ 163).
(269)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، فَلا يَبْزُقَنَّ بيْنَ يَدَيْهِ ولا عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ شِمَالِهِ، تَحْتَ قَدَمِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(270)
وَفِي رِوَايَةٍ: «أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ» .
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضل الصَّلاة.
2 -
أنَّ المصلِّي مناجٍ لله.
3 -
جواز أن يقول الإنسان: «ناجيت ربِّي» .
4 -
نهي المصلِّي أن يبصق بين يديه، والنَّهي للتَّحريم.
5 -
تعليل ذلك في الرِّواية الأخرى: «فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ»
(2)
، وفي لفظٍ:«فَإِنَّ اللهَ عز وجل يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ»
(3)
.
6 -
نهي المصلِّي أن يبصق عن يمينه، وجاء تعليل ذلك بأنَّ عن يمينه ملكًا.
7 -
إرشاد المصلِّي إذا بدره بصاقٌ أن يبصق عن يساره وتحت قدمه، وذلك إذا لم يكن في المسجد، فإن كان في المسجد لم يجز له أن يبصق فيه، بل في ثوبه، وقد تيسَّر ما يغنيه عن ذلك وهي المناديل.
* * * * *
(1)
البخاريُّ (1214)، ومسلمٌ (551).
(2)
رواه البخاريُّ (406)، ومسلمٌ (547)، عن ابن عمر رضي الله عنهم.
(3)
رواه أحمد (17170)، والتِّرمذيُّ وصحَّحه (2863)، وابن خزيمة (483).
(271)
وَعَنْهُ، قَالَ: كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ لا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلاتِي» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(1)
.
(272)
وَاتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِهَا فِي قِصَّةِ أَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، وَفِيهِ:«فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي عَنْ صَلَاتِي»
(2)
.
* * *
هذا الحديث يعرف بحديث القرام أو قرام عائشة رضي الله عنها وهو يدخل في أبوابٍ كثيرةٍ.
وفيه فوائد، منها:
1 -
جواز ستر حائط البيت تبعًا لستر السَّهوة والفرجة.
2 -
أنَّ العناية بذلك من شأن النِّساء.
3 -
تحريم تصوير ذوات الأرواح وإن لم يكن للصُّورة ظلٌّ؛ كأن تكون من نسجٍ أو صباغٍ.
4 -
أنَّ رؤية بعض المناظر تعرض لفكر الرَّائي يتذكَّرها.
5 -
أنَّ تذكُّر المشاهد في الصَّلاة ينافي كمال الإقبال عليها.
6 -
استحباب أن يكون ما يلبس في الصَّلاة خاليًا عن الأعلام والألوان والنُّقوش، ولهذا طلب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنبجانيَّة أبي جهمٍ؛ لأنَّها كذلك.
7 -
كراهة لبس ما يلهي المصلِّي؛ كاللِّباس الَّذي فيه أعلامٌ ونقوشٌ وكتابةٌ، وأعظم من ذلك ما فيه صورٌ محرَّمةٌ.
8 -
اجتناب كلِّ ما يمنع من الخشوع في الصَّلاة.
9 -
تحريم تعليق الصُّور على الحيطان سواءٌ كانت مقصودةً أو غير مقصودةٍ.
(1)
البخاريُّ (374).
(2)
البخاريُّ (373)، ومسلمٌ (556).
10 -
كراهة زخرفة المساجد.
11 -
أمر من فعل المنكر بتغييره؛ لأنَّه أدعى للقبول، لقوله صلى الله عليه وسلم:«أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ» .
12 -
أنَّ سؤال الإنسان من له عليه أمرٌ ليس من السُّؤال المذموم؛ كالسَّيِّد والزَّوج والوالد.
13 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بشرٌ قد يشغله ما يراه في صلاته.
* * * * *
(273)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
النَّهي عن رفع البصر إلى السَّماء في الصَّلاة، وقد قيل: إنَّه يكره، والصَّواب: أنَّه يحرم.
2 -
تأكيد الكلام بما يتضمَّن القسم.
3 -
تهديد من يصرُّ على ما نهي عنه.
4 -
مناسبة الجزاء للذَّنب.
5 -
أنَّه يجب على المصلِّي أن يكون نظره إلى قبلته، ويستحبُّ أن يكون إلى موضع سجوده إلَّا في التَّشهُّد فينظر إلى إشارته بإصبعه.
6 -
البعد عن كلِّ ما ينافي الخشوع في الصَّلاة والإقبال عليها.
* * * * *
(1)
مسلمٌ (428).
(274)
وَلَهُ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، ولا وهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ»
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
النَّهي عن الصَّلاة بحضرة الطَّعام، ومعناه: البداءة بالطَّعام إذا قدِّم قبل الصَّلاة كما تقدَّم في حديث أنسٍ رضي الله عنه، فالنَّفي بمعنى النَّهي.
2 -
النَّهي عن الصَّلاة حال مدافعة الأخبثين؛ البول والغائط.
3 -
عظم أمر الصَّلاة والعناية بكمالها.
4 -
التَّفرُّغ لها من كلِّ ما يشغل عن الخشوع فيها، فإن كان الشَّاغل شديدًا بحيث يذهب معه الخشوع بالكلِّيَّة وحضور القلب؛ فتحرم الصَّلاة ولا تصحُّ، وإلَّا كرهت وصحَّت، وقيل: لا تصحُّ الصَّلاة في هاتين الحالتين مطلقًا، وهو قول الظَّاهريَّة.
5 -
أنَّ البول والغائط أخبث النَّجاسات المنفصلة عن الإنسان.
6 -
أنَّ مجرَّد الإحساس لا يمنع من الصَّلاة.
7 -
مراعاة الشَّريعة لطبيعة الإنسان.
8 -
يسر الشَّريعة.
ولو جمع المؤلِّف بين هذا الحديث وحديث أنسٍ رضي الله عنه لكان أولى بحسن التَّرتيب، فلتراجع فوائد حديث أنسٍ رضي الله عنه
(2)
.
* * * * *
(1)
مسلمٌ (560).
(2)
تقدَّم برقم (264)، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قُدِّمَ العَشَاءُ فَابْدَؤُوا بِهِ
…
» الحديث.
(275)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَزَادَ:«فِي الصَّلَاةِ»
(1)
.
* * *
الحديث عزاه المصنِّف إلى مسلمٍ والتِّرمذيِّ، وجعل الزِّيادة للتِّرمذيِّ، والصَّواب: أنَّها عند مسلمٍ
(2)
أيضًا، والتَّثاؤب معروفٌ وهو حالة كسلٍ أو تنبئ عن الكسل، وتستدعي فتح الفم لغير حاجةٍ وبغير اختيارٍ، ولكن تمكن الإنسان مدافعته.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ التَّثاؤب من الشَّيطان؛ لأنَّ الشَّيطان يحبُّ من الإنسان الكسل؛ لأنَّ الكسل يقعد بصاحبه عن القيام بما ينبغي القيام به، أو يمنعه من أدائه على الوجه الأكمل.
2 -
الإرشاد إلى كظم التَّثاؤب بردِّه، والاستعانة بوضع اليد.
3 -
كراهة التَّثاؤب مطلقًا وبخاصَّةٍ في الصَّلاة.
4 -
أنَّ كون التَّثاؤب من الشَّيطان لا يدلُّ على الإثم، مثلما يقع في النَّفس من الوساوس.
5 -
استحباب كظم التَّثاؤب.
6 -
شدَّة كراهة الصَّوت عند التَّثاؤب الَّذي يشبه العواء.
(1)
مسلمٌ (2994)، والتِّرمذيُّ (370). والزيادة عند التِّرمذيِّ بلفظ:«التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ» .
(2)
مسلمٌ (2995)؛ من حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه، بلفظ: «إِذَا تَثَاوَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ
…
».
7 -
أنَّ الشَّيطان يضحك من بعض أحوال بني آدم، كما ثبت في رواية عند البخاري
(1)
.
8 -
إثبات الإرادة والاستطاعة للإنسان، وهي مناط التَّكليف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَا اسْتَطَاعَ» .
* * * * *
(1)
البخاريُّ (3289)
بَابُ المَسَاجِدِ
المساجد: جمع مسجدٍ؛ وهو: مكان السُّجود، وهو بكسر الجيم على خلاف القياس؛ لأنَّ مضموم العين في المضارع حقُّه الفتح في اسم الزَّمان والمكان، وكلُّ موضعٍ تجوز الصَّلاة فيه يسمَّى مسجدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:«وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»
(1)
.
ويراد بالمساجد في الشَّرع: الأماكن والبيوت المعدَّة لإقامة الصَّلوات الخمس فيها، ويقال لها: بيوت الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ
…
»
(2)
الحديث، وهي المرادة بالبيوت في قوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال (36) رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [النور: 36 - 37].
وللمساجد فضائل وأحكامٌ، وهي أفضل البقاع كما قال صلى الله عليه وسلم:«أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»
(3)
، وأفضلها المساجد الثَّلاثة: المسجد الحرام ومسجد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، وجاء ذكر المساجد في مواضع من القرآن؛ كقوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114]، وقوله تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وقوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} [الجن: 18].
* * * * *
(1)
تقدَّم برقم (139).
(2)
رواه مسلمٌ (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلمٌ (671)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(276)
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِبِنَاءِ المَسَاجِدِ فِي الدُّورِ، وَأَنْ تُنَظَّفَ، وَتُطَيَّبَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَ إِرْسَالَهُ
(1)
.
* * *
هذا الحديث اختلف في وصله وإرساله، فمن العلماء من رجَّح إرساله؛ لأنَّ من أرسله أكثر، ومنهم من رجَّح وصله؛ لأنَّه من زيادة الثِّقة، وزيادة الثِّقة مقبولةٌ، والصَّحيح: أنَّ هذا الحديث متَّصلٌ.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
الأمر ببناء المساجد في الدُّور؛ يعني: الأحياء، وهي الحارات، وبناء المساجد في الدُّور واجبٌ، وهو أوَّل ما بدأ به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى المدينة مهاجره، وجرى على ذلك المسلمون فيما ينشئونه من البلدان والأحياء، وبناء المساجد هو ممَّا لا يتمُّ الواجب إلَّا به فيكون واجبًا، وليس المراد بهذا الحديث الأمر ببناء مسجدٍ في كلِّ بيتٍ يصلِّي فيه أهل الدَّار خلافًا لمن ظنَّ ذلك.
2 -
وجوب تنظيف المساجد وصيانتها عن الأقذار. وقد أمر الله أن ترفع المساجد؛ أي: تعظَّم، كما قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36].
3 -
الأمر بتطييبها وهو مستحبٌّ. وسيأتي تفصيل ذلك في الأحاديث الَّتي أوردها المصنِّف.
* * * * *
(277)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَاتَلَ اللهُ اليَهُودَ؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(278)
وَزَادَ مُسْلِمٌ: «وَالنَّصَارَى»
(2)
.
(1)
أحمد (26386)، وأبو داود (455)، والتِّرمذيُّ (594).
(2)
البخاريُّ (437)، ومسلمٌ (530).
(279)
وَلَهُمَا: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة رضي الله عنها: «كَانُوا إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا» وَفِيهِ: «أُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ»
(1)
.
* * *
حديث أبي هريرة رضي الله عنه جاء معناه في «الصَّحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لمَّا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهه ثمَّ قال وهو كذلك:«لَعْنَةُ اللهِ عَلَى اليَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»
(2)
.
وحديث عائشة رضي الله عنها الَّذي ذكره المصنِّف أصله أنَّ أمَّ حبيبة وأمَّ سلمة رضي الله عنهم ذكرتا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كنيسةً رأتاها في أرض الحبشة، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فقال صلى الله عليه وسلم:«أُولئِكِ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ العَبْدُ الصَّالِحُ أوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ» .
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
التَّحذير من اتِّخاذ القبور مساجد، وذلك ببناء المساجد عليها أو بالصَّلاة عندها.
2 -
نصح الرَّسول صلى الله عليه وسلم لأمَّته وتبليغه الرِّسالة حتَّى وهو في سياق الموت.
3 -
أنَّ اتِّخاذ القبور مساجد من كبائر الذُّنوب؛ للدُّعاء باللَّعن والقتال على من فعله، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«أُولئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ» .
4 -
أنَّ اتِّخاذ القبور مساجد من فعل اليهود والنَّصارى.
5 -
أنَّ بناء المساجد على القبور من التَّشبُّه بأهل الكتاب.
6 -
أنَّ ذمَّ اليهود والنَّصارى أو غيرهم بفعلٍ من أفعالهم تحذيرٌ لهذه الأمَّة، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها بعد ذكر الحديث:«يحذِّر ما صنعوا» .
(1)
البخاريُّ (427)، ومسلمٌ (528).
(2)
رواه البخاريُّ (435)، ومسلمٌ (531).
7 -
أنَّ التَّقييد بقبور الأنبياء لا مفهوم له، فقد خرج مخرج الغالب، وقد جاء في بعض الرِّوايات:«قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ»
(1)
.
8 -
أنَّ اليهود عندهم غلوٌّ في الدِّين كالنَّصارى، وإن كان الغالب عليهم الجفاء والإساءة إلى الأنبياء إلى حدِّ القتل، كما ذكر الله ذلك في مواضع كثيرةٍ من كتابه.
9 -
أنَّ الدُّعاء بالقتل أو بالقتال هو بمعنى اللَّعن، كما قال تعالى:{قُتِلَ الْخَرَّاصُون (10)} [الذاريات: 10]؛ أي: لُعنَ الخرَّاصون.
10 -
أنَّ من عادة النَّصارى تزيين كنائسهم وزخرفتها ورسم الصُّور في حيطانها.
11 -
أنَّ زخرفة المساجد بالألوان والنُّقوش والكتابات من التَّشبُّه بهم.
12 -
أنَّ الغلوَّ في الأنبياء والصَّالحين من أعظم وسائل الشِّرك، بل هو سبب حدوث الشِّرك في العالم.
13 -
عظم خطر الشِّرك. ولذا جاءت الشَّريعة بسدِّ كلِّ طريقٍ يفضي إليه.
14 -
حماية جناب التَّوحيد.
15 -
وجوب هدم المسجد المبنيِّ على قبرٍ؛ لأنَّه كمسجد الضِّرار إذ لم يؤسَّس على تقوًى بل أسِّس على معصية الله.
16 -
تحريم الصَّلاة فيه وأنَّها لا تصحُّ.
17 -
أنَّ الصَّلاة عند القبور من اتِّخاذها مساجد؛ لأنَّ الموضع الَّذي يصلَّى فيه يسمَّى مسجدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:«وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»
(2)
.
* * * * *
(1)
مسلمٌ (532)، عن جندبٍ رضي الله عنه.
(2)
تقدَّم برقم (139).
(280)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَيْلاً، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ
…
» الحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
هذا الحديث تقدَّم طرفٌ منه من رواية عبد الرَّزَّاق في باب الغسل وحكم الجنب
(2)
، والرَّجل هو: ثمامة بن أثالٍ رضي الله عنه سيِّد بني حنيفة، بعث النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سَريَّةً فجاءت به أسيرًا فربطه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يمرُّ به ويدعوه إلى الإسلام، وفي الثَّالثة أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بإطلاقه فأسلم.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
بعث الإمام السَّرايا للجهاد في سبيل الله.
2 -
جواز أسر الكفَّار، ولو كان الأسير سيِّدًا وشريفًا.
3 -
جواز ربط الأسير في المسجد.
4 -
دعوة الأسير إلى الإسلام.
5 -
جواز إطلاقه إذا رجي إسلامه.
6 -
جواز دخول الكافر للمسجد إذا كان فيه مصلحةٌ تتعلَّق بالدَّاخل أو بالمسجد.
7 -
وجوب غسل الكافر إذا أسلم، عند من يقول بوجوبه.
8 -
حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن طريقته في الدَّعوة.
9 -
فضيلة ثمامة بن أثالٍ رضي الله عنه.
10 -
أنَّ إسلام السَّادة من الكفَّار فيه نصرٌ للإسلام والمسلمين.
11 -
مشروعيَّة مقاطعة الكفَّار المحاربين اقتصاديًّا بترك الشِّراء منهم أو البيع لهم؛ لما في أصل القصَّة من أنَّ ثمامة رضي الله عنه منع أن يصل إلى قريشٍ شيءٌ من بُرِّ اليمامة حتَّى يأذن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأقرَّه عليه الصلاة والسلام على ذلك، ثمَّ طلبت قريشٌ من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يأذن، فأذِن عليه الصلاة والسلام.
(1)
البخاريُّ (462)، ومسلمٌ (1462).
(2)
تقدَّم برقم (124).
(281)
وَعَنْهُ رضي الله عنه، «أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه مَرَّ بِحَسَّان يُنْشِدُ فِي المَسْجِدِ، فَلَحَظَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أُنْشِدُ وفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز إنشاد الشِّعر الَّذي لا إثم فيه في المسجد.
2 -
أنَّ الإنكار قد يكون بالنَّظر.
3 -
أنَّ إنشاد الشِّعر ليس ممَّا تبنى له المساجد، وهذا منشأ إنكار عمر رضي الله عنه، لكن دلَّت السُّنَّة على جوازه.
4 -
أنَّ إنشاد حسَّان للشِّعر في مسجد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليس كثيرًا وإلَّا لعرف ذلك عمر رضي الله عنه.
5 -
قوَّة صاحب الحجَّة على مخالفه ولو كان كبير القدر.
6 -
صحَّة المذهب إذا قام على الدَّليل.
7 -
فضيلة حسَّان رضي الله عنه لإنشاده الشِّعر الَّذي فيه نصرة الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم له بذلك وإذنه له بذلك في المسجد.
8 -
فضيلة عمر رضي الله عنه لتسليمه لحكم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فلم يعارض السُّنَّة برأيه لمَّا استبانت له.
9 -
أنَّ الشِّعر ممَّا يجاهد به في سبيل الله وينصر به الدِّين، وهذا خير أنواع الشِّعر.
10 -
الاستدلال على جواز الشَّيء بإقرار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لفاعله.
11 -
إنزال النَّاس منازلهم.
12 -
مواجهة المفضول بفضل الفاضل عليه إذا اقتضت الحال ذلك.
(1)
البخاريُّ (3212)، ومسلمٌ (2485).
(282)
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ
(1)
ضَالَّةً فِي المَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّهَا اللهُ عَلَيْكَ؛ فَإِنَّ المَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(283)
وَعَنْهُ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ، أَوْ يَبْتَاعُ فِي المَسْجِدِ، فَقُولُوا: لا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَكَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
(3)
.
* * *
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
تحريم إنشاد الضَّالَّة في المسجد، وإنشاد الضَّالَّة في هذا الحديث هو السُّؤال عنها، وتحريم البيع والشِّراء في المسجد.
2 -
مشروعيَّة الدُّعاء على من أنشد ضالَّةً في المسجد؛ بألَّا يردَّها الله عليه، والدُّعاء على من باع أو ابتاع في المسجد؛ ألَّا يربح الله تجارته.
3 -
الإنكار على منشد الضَّالَّة في المسجد وإن كان جاهلاً، وكذا من باع أو ابتاع، فيكون الغرض من هذا الدُّعاء هو الإنكار والزَّجر لا حقيقة معناه.
4 -
تعليل النَّهي عن إنشاد الضَّالَّة في المسجد؛ بأنَّ المسجد لم يبن لذلك، فإنَّ المسجد قد بني لمصالح الدِّين، والإنشاد من طلب الدُّنيا، وكذا البيع والشِّراء.
5 -
تعليل الأحكام الشَّرعيَّة.
6 -
مشروعيَّة أن يبيَّن للمنشد وغيره سبب الإنكار والإغلاظ.
7 -
أنَّ تعليل الإنكار بما ذكر يفيد عموم الحكم، فيتناول البيع والشِّراء.
8 -
أنَّ حكم اللُّقطة حكم الضَّالَّة لا يجوز إنشادها في المسجد.
(1)
نشد الضالة ينشدها نشدًا، من باب قتل: طلبها واسترشد عنها، ويقال أيضًا: أنشد الضالة، فهو ثلاثيٌّ ورباعيٌّ. «القاموس المحيط» (نشد).
(2)
مسلمٌ (568).
(3)
التِّرمذيُّ (1321)، والنَّسائيُّ في «الكبرى» (9933).
9 -
تعظيم المساجد وصيانتها عمَّا لم تبن له وإن كان جنسه مباحًا كالبيع والشِّراء إلَّا ما خصَّه الدَّليل كالنَّوم في المسجد، ومن باب أولى صيانتها عن الأقوال والأفعال المحرَّمة.
10 -
أنَّ الله هو الذي يردُّ الضَّالَّة إلى صاحبها بما شاء من الأسباب؛ فيوجب ذلك التوكُّل على الله واللَّجأ إليه في ردِّها، ولا يمنع ذلك من فعل السَّبب كإنشادها عند أبواب المساجد والأسواق، ومن ذلك الإعلان عنها في وسائل الإعلام.
11 -
أنَّ من تسبَّب إلى ردِّها بما حرَّم الله قد يعاقب بالحرمان، ومن أشدِّ ذلك الاستعانة على معرفة الضَّالَّة بسؤال السَّحرة والكهَّان.
* * * * *
(284)
وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُقَامُ الحُدُودُ فِي المَسَاجِدِ، ولا يُسْتَقَادُ فِيهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ
(1)
.
* * *
الحديث وإن ضعَّفه المصنِّف هنا فقد قال في التَّلخيص: «إسناده لا بأس به»
(2)
. وبشواهده حسَّنه الألبانيُّ
(3)
، ويشهد لصحَّة معناه النُّصوص الدَّالَّة على تعظيم المساجد وصيانتها عن كلِّ ما ينافي طهارتها وحرمتها.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
تحريم إقامة الحدود في المسجد؛ كقطع يد السَّارق، وجلد الزَّاني أو رجمه، وجلد القاذف والشَّارب، وإقامة هذه الحدود وإن كانت عبادةً فإنَّها تستلزم أمورًا لا تليق بحرمة المسجد؛ كالنَّجاسة، فإنَّ قطع يد السَّارق أو رجم الزَّاني يؤدِّي إلى تنجيس المسجد بالدَّم، كما يلزم الصُّراخ من المحدود.
(1)
أحمد (15579)، وأبو داود (4490).
(2)
ينظر: «التلخيص الحبير» (4/ 146).
(3)
(7/ 271).
2 -
تحريم الاستقادة في المسجد، وهو الاقتصاص من الجاني بالقتل أو ما دونه، ويلزم منه ما يلزم من إقامة الحدود، أمَّا إثبات الحدود والملاعنة فتجوز في المسجد؛ لأنَّه لا يترتَّب على ذلك مفسدةٌ.
3 -
إثبات الحدود في الشَّرع، وهي في اصطلاح الفقهاء: العقوبات المقدَّرة؛ كقطع يد السَّارق، وجلد الزَّاني والقاذف، وإقامتها واجبةٌ إذا استوفيت الشُّروط.
4 -
إثبات القود في الشَّرع؛ وهو القصاص في النَّفس وما دونها، ويجب بمطالبة صاحب الحقِّ.
* * * * *
(285)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَضَرَبَ عليهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً فِي المَسْجِدِ؛ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز ضرب الخيمة في المسجد ما لم يضرَّ ذلك بالمصلِّين، كما فعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لاعتكافه، وكما ضرب خيمةً لسعدٍ رضي الله عنه يمرَّض فيها.
2 -
جواز تمريض المريض في المسجد.
3 -
فضيلة سعد بن معاذٍ رضي الله عنه.
4 -
احتفاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بسعد بن معاذٍ رضي الله عنه.
5 -
مشروعيَّة عيادة المريض.
* * * * *
(1)
البخاريُّ (463)، ومسلمٌ (1769).
(286)
وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِي، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِي المَسْجِدِ
…
» الحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز اللَّعب بالحراب ونحوها في المسجد.
2 -
أنَّ من مظاهر الفرح اللَّعب بالسِّلاح، فقد كان لعب الحبشة في يوم عيدٍ، وليس من اللَّعب بالسِّلاح أن يشير به بعضهم إلى بعضٍ فإنَّ ذلك محرَّمٌ، بل من كبائر الذُّنوب، بل يكون برمي الحربة في الهواء، ثمَّ أخذها أو الرَّمي بها إلى الهدف، أو القفز مع شهر الحربة أو السَّيف ونحو ذلك.
3 -
جواز النَّظر للاستمتاع إلى من يفعل ذلك.
4 -
جواز نظر المرأة إلى الرِّجال لغير شهوةٍ ودون اختلاطٍ، فإنَّ عائشة رضي الله عنها كانت تنظر إليهم من حجرتها، أمَّا إذا رأت المرأة من الرِّجال ما يحرِّك شهوتها أو خشيت ذلك وجب عليها غضُّ بصرها، كما قال تعالى:{وَقُلْ لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 31].
5 -
جواز إعانة الرَّجل امرأته على ذلك.
6 -
أنَّ القليل من الفضول لا يقدح في منزلة الأفاضل.
7 -
فضيلة عائشة رضي الله عنها لمنزلتها من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
8 -
أنَّ للحبشة طريقةً عجيبةً في اللَّعب بالحراب.
9 -
حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن معاشرته لأهله.
* * * * *
(1)
البخاريُّ (454)، ومسلمٌ (892).
(287)
وَعَنْهَا رضي الله عنها: «أَنَّ وَلِيدَةً سَوْدَاءَ كَان لَهَا خِبَاءٌ فِي المَسْجِدِ، فَكَانتْ تَأْتِينِي، فَتَحَدَّثُ عِنْدِي
…
» الحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
هذا طرفٌ من حديثٍ طويلٍ تضمَّن قصَّة هذه الوليدة.
وفيه فوائد، منها:
1 -
جواز اتِّخاذ الخباء في المسجد إذا لم يؤذ المصلِّين.
2 -
جواز سكنى الغريب في المسجد وإن كانت امرأةً ما لم تصبها الحيضة، فمتى حاضت فلا يحلُّ لها اللُّبث في المسجد إلَّا للضَّرورة.
في قصَّة هذه الوليدة بعض الأمور العجيبة، ولهذا كانت تنشد عند عائشة رضي الله عنها:
وَيَوْمُ الوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا
أَلَا إِنَّهُ مِنْ دَارَةِ الكُفْرِ نَجَّانِي
وقد قصَّت على عائشة رضي الله عنها قصَّة الوشاح، وخلاصتها: أنَّها كانت عند قومٍ كفَّارٍ، وكان لإحدى بناتهم وشاحٌ من أدمٍ أحمر ففقدوه، فاتَّهموا به الوليدة، فضربوها وفتَّشوها، وبينما هم كذلك، إذ جاءت حدأةٌ فألقت الوشاح بينهم، فاعتذروا لها وخلَّوا سبيلها فقالت هذا البيت، وصارت تردِّده، وفي هذه القصَّة فوائد تركنا ذكرها اختصارًا.
* * * * *
(288)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «البُزَاقُ فِي المَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (439). والحديث من أفراد البخاريِّ، وليس في مسلمٍ.
(2)
البخاريُّ (415)، ومسلمٌ (552).
البزاق مصدرٌ وهو التَّفل، ويطلق على ما يبصقه الإنسان من ريقه ومن النُّخامة.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
تحريم البصاق في المسجد؛ أي: على أرضه أو جداره وأشدُّ ذلك ما كان في قبلته.
2 -
أنَّ كفَّارة البصاق في المسجد دفنها، وذلك إذا كانت على أرضٍ ترابيَّةٍ، أمَّا إذا كانت على الجدار أو على فراش المسجد فلا بدَّ من حكِّها ومسحها.
3 -
وجوب صيانة المسجد عن الأقذار وإن لم تكن نجاسةً، فالنَّجاسة أولى أن يصان عنها المسجد.
4 -
أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «خَطِيئَةٌ» يدلُّ على أنَّ البصاق ذنبٌ محقَّقٌ تجب التَّوبة منه، ولا يجوز تعمُّده ولو نوى التَّكفير.
5 -
أنَّ البزاق طاهرٌ.
* * * * *
(289)
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي المَسَاجِدِ» . أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
التَّباهي: التَّفاخر. والتَّباهي في المساجد يحتمل أنَّ المراد التَّفاخر في داخل المساجد بالأحساب والأنساب ونحو ذلك، ومعلومٌ أنَّ ذلك من أمور الجاهليَّة كما قال صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ فِي
(1)
أحمد (12473)، وأبو داود (449)، والنَّسائيُّ (688)، وابن ماجه (739)، وابن خزيمة (1323).
الأَحْسَابِ
…
»
(1)
وهذا ممَّا يجب أن تصان عنه المساجد كسائر المحرَّمات، ويحتمل أن يكون المراد التَّباهي بتشييد المساجد وزخرفتها وتزيينها، فيكون المعنى: حتَّى يتباهى النَّاس في شأن المساجد؛ بمعنى: يتباهى النَّاس بالمساجد، والثَّاني هو المشهور والمعروف في كلام شرَّاح الحديث، وهو من التَّفاخر بما هو مذمومٌ في الشَّرع، وعدولٌ عن مقصود الشَّرع ببناء المساجد.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
إثبات قيام السَّاعة، وهي القيامة الكبرى.
2 -
أنَّ للسَّاعة علاماتٍ.
3 -
أنَّ من علاماتها أن يتباهى النَّاس في المساجد.
4 -
ذمُّ التَّباهي في المساجد وبالمساجد.
5 -
إعراض كثيرٍ من النَّاس عن المقاصد الشَّرعيَّة الحقيقيَّة واهتمامهم بخلافها.
6 -
ذمُّ زخرفة المساجد، وليس من المذموم إحكام بنائها وتوفير ما يعين على العبادة فيها.
7 -
في الحديث علمٌ من أعلام النُّبوَّة، فقد وقع ما أخبر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كما أخبر، فقد تباهى النَّاس في المساجد.
8 -
الرَّدُّ على من ينكر بناء المساجد من غير عنايةٍ بزخرفتها وزينتها.
9 -
أنَّ من النَّاس من يعمل العمل يظنُّه عملاً صالحًا وهو بخلاف ذلك.
* * * * *
(1)
رواه مسلمٌ (934)، عن أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنه.
(290)
وَعَنِ ابْنِ عَباسٍ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أُمِرْتُ بِتَشْيِيدِ المَسَاجِدِ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
* * *
تشييد المساجد رفع بنائها فوق الحاجة، وقيل: طلاؤها بالشِّيد، وهو الجصُّ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«مَا أُمِرْتُ» ؛ أي: ما أمرني ربِّي، وفي معناه: صبغها بالألوان.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم عبدٌ يؤمر وينهى، ورسولٌ يبلِّغ أمر الله ونهيه.
2 -
أنَّ تشييد المساجد ليس مأمورًا به؛ لا وجوبًا ولا استحبابًا.
3 -
أنَّ تشييد المساجد مكروهٌ، وقد يكون محرَّمًا إذا تضمَّن الإسراف.
4 -
استحباب الاقتصاد في بناء المساجد.
5 -
أنَّ التَّعبُّد بتشييد المساجد بدعةٌ.
* * * * *
(291)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي، حتَّى القَذَاةُ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ المَسْجِدِ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(2)
.
* * *
الحديث ضعيفٌ
(3)
، ولكنَّ القدر الَّذي ذكره الحافظ معناه صحيحٌ يشهد له قوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه (7)} [الزلزلة: 7]. وحديث المرأة الَّتي كانت تقمُّ المسجد
(4)
.
(1)
أبو داود (448)، وابن حبان (1615).
(2)
أبو داود (461)، والتِّرمذيُّ (2916)، وابن خزيمة (1297).
(3)
ضعَّفه النوويُّ في «خلاصة الأحكام» (884).
(4)
سيأتي في «كتاب الجنائز» برقم (636).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أُجُورُ أُمَّتِي» معناه: أعلمه الله بأجور أعمالهم حتَّى أجر إخراج القذاة من المسجد، والقذاة ما يؤذي العين، وهو مثالٌ للقلَّة.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
إثبات الجزاء على الأعمال.
2 -
تفاوت الأجور بحسب تفاضل الأعمال الصَّالحة.
3 -
استحباب إخراج القمامة من المسجد وإن كانت يسيرةً.
4 -
إطلاع الله نبيَّه على ثواب الأعمال.
5 -
تسمية ثواب الأعمال أجرًا، وهذا المعنى في القرآن كثيرٌ.
* * * * *
(292)
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
نهي الدَّاخل إلى المسجد عن الجلوس قبل أن يصلِّي ركعتين، فإن كان على طهارةٍ صلَّى، وإن لم يكن على طهارةٍ فينبغي له أن يتوضَّأ ليصلِّي الرَّكعتين، فعلى القول بوجوبهما؛ يجب التَّطهُّر من أجل أن يصلِّيهما، وإن كانتا سنَّةً سنَّ له التَّطهُّر، فإنَّ ما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فهو واجبٌ، وما لا يتمُّ المسنون إلَّا به فهو سنَّةٌ مستحبَّةٌ.
2 -
أنَّه يشرع لمن دخل المسجد أن يصلِّي ركعتين، وتسمَّى هاتان الرَّكعتان عند العلماء تحيَّة المسجد، وذهب الجمهور إلى أنَّهما سنَّةٌ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابيِّ الَّذي قال: هل عليَّ غيرها؟ أي: الصَّلوات الخمس، قال: «لَا، إِلَّا أَنْ
(1)
البخاريُّ (1167)، ومسلمٌ (714).
تَطَوَّعَ»
(1)
، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبهما. وقد ثبت الأمر بهما والنَّهي عن تركهما، وهذا القول قويٌّ، وهو قول الظَّاهريَّة
(2)
وآخرين من العلماء
(3)
.
3 -
جواز صلاة الرَّكعتين في أيِّ وقتٍ للإطلاق في وقت الدُّخول، وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من خصَّ هذا الحديث بأحاديث أوقات النَّهي، وخصَّ آخرون أحاديث أوقات النَّهي بهذا الحديث وغيره من أحاديث ذوات الأسباب؛ كصلاة الكسوف، وركعتي الطَّواف. والقول الثَّاني أظهر في النَّظر، وممَّا يرجِّح صلاة تحيَّة المسجد في وقت النَّهي؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم أمر الَّذي دخل المسجد وجلس -والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة- أمره أن يقوم فيصلِّي ركعتين
(4)
، ففي هذا دلالةٌ على أنَّ تحيَّة المسجد لا تفوت بالجلوس، بل من جلس خطأً أو نسيانًا فإنَّه يؤمر بها ويذكَّر بها، وأيضًا فإنَّ حديث أبي قتادة رضي الله عنه عامٌّ محفوظٌ لم يدخله التَّخصيص وأحاديث النَّهي عامَّةٌ في الصَّلاة وقد دخلها التَّخصيص، والعامُّ المحفوظ مقدَّمٌ على العامِّ الَّذي قد دخله الخصوص.
4 -
أنَّ من تعظيم المسجد صلاة هاتين الرَّكعتين.
* * * * *
(1)
رواه البخاريُّ (46)، ومسلمٌ (11) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
(2)
حكاه عنهم ابن بطالٍ في شرحه للبخاريِّ (2/ 93).
(3)
ينظر: «إكمال المعلم» للقاضي عياضٍ (3/ 49).
(4)
رواه البخاريُّ (931)، ومسلمٌ (875) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ
جمع المصنِّف في هذا الباب أحاديث صفة الصَّلاة، وجعلها تحت بابٍ واحدٍ ولم يصنِّفها أبوابًا كما يصنع أكثر المصنِّفين، ولهذا كان هذا الباب أطول أبواب كتاب الصَّلاة، وموضوع هذا الباب هو الغاية من كتاب الصَّلاة، وما قبله وسيلةٌ وما بعده توابع ومكمِّلاتٌ.
* * * * *
(293)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاة فَأَسْبِغِ الوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» . أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
(1)
.
(294)
وَلاِبْنِ مَاجَه بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ: «حتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا»
(2)
.
(295)
وَمِثلُهُ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ
(3)
. وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: «فَأَقِمْ صُلْبَكَ حتَّى تَرْجِعَ العِظَامُ»
(4)
.
(296)
وَلِلنَّسَائِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ: «إِنَّهَا لَنْ تَتِمَّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حتَّى يُسْبِغَ الوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ، ثُمَّ يُكَبِّرَ اللهَ، وَيَحْمَدَهُ، وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ»
(5)
.
(1)
البخاريُّ (6251)، ومسلمٌ (397)، وأحمد (9635)، وأبو داود (856)، والتِّرمذيُّ (303)، والنَّسائيُّ (883)، وابن ماجه (1060).
(2)
نفس المصدر.
(3)
أحمد (18997)، وابن حبان (1787).
(4)
أحمد (18995).
(5)
أبو داود (858)، والنَّسائيُّ (1135).
(297)
وَفِيهَا: «فَإِنْ كَان مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ وَإِلَّا فَاحْمَدِ اللهَ، وَكَبِّرْهُ، وَهَلِّلْهُ»
(1)
.
(298)
وَلأَبِي دَاوُدَ: «ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ القُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ اللهُ»
(2)
.
(299)
وَلاِبْنِ حِبَّانَ: «ثُمَّ بِمَا شِئْتَ»
(3)
.
* * *
هذا الحديث يعرف عند العلماء بحديث المسيء في صلاته، فإنَّ سببه أنَّ رجلاً دخل المسجد فصلَّى ثمَّ جاء فسلَّم على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ
…
» ردَّه ثلاثًا، فقال: يا رسول الله، والَّذي بعثك بالحقِّ لا أحسن غير هذا فعلِّمني، فعلَّمه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.
والحديث أصلٌ في صفة الصَّلاة وأكمل بيانٍ قوليٍّ في ذلك، واتَّفق العلماء على وجوب ما تضمَّنه من ذلك، وأنَّ الصَّلاة لا تصحُّ بترك شيءٍ ممَّا جاء فيه، إلَّا الاستفتاح على ما جاء في حديث رفاعة رضي الله عنه.
وقد عزاه المصنِّف إلى السَّبعة من المصنِّفين، واعتمد أحد ألفاظ البخاريِّ كما ذكر، وأضاف إلى ذلك بعض الرِّوايات الَّتي فيها زيادة بيانٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ومن حديث رفاعة بن رافعٍ رضي الله عنه.
وفي الحديث فوائد كثيرةٌ، منها:
1 -
بداءة الدَّاخل للمسجد بالصَّلاة.
2 -
مشروعيَّة السَّلام على من كان في المسجد.
3 -
مشروعيَّة السَّلام لمن جاء إلى مجلس علمٍ.
4 -
تكرار السَّلام بتكرُّر المجيء.
(1)
أبو داود (861)، والنَّسائيُّ في «الكبرى» (1643).
(2)
أبو داود (859).
(3)
ابن حبان (1787).
5 -
حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم للجاهل، ومن ذلك ترديده له؛ ليشعر بالخطأ ويتطلَّع إلى التَّعليم، ولهذا قال في الثَّالثة:«والَّذي بعثك بالحقِّ ما أحسن غير هذا، فعلِّمني» .
6 -
حسن أدب هذا الرَّجل رضي الله عنه.
7 -
أنَّ من صلَّى وترك ركنًا من الصَّلاة أو شرطًا لم يكن مصلِّيًا الصَّلاة الشَّرعيَّة؛ فلا تصحُّ صلاته.
8 -
وجوب الإعادة على من صلَّى كذلك ولو كان جاهلاً ما دام في الوقت.
9 -
العذر بالجهل فيما مضى وخرج وقته من العبادات ما لم يكن ذلك عن تفريطٍ.
10 -
وجوب الوضوء على من قام إلى الصَّلاة إذا لم يكن توضَّأ قبل ذلك.
11 -
وجوب إسباغ الوضوء.
12 -
وجوب استقبال القبلة في الصَّلاة، وهذان شرطان من شروط الصَّلاة باتِّفاق العلماء؛ الطَّهارة واستقبال القبلة.
13 -
وجوب القيام في الصَّلاة على من كان قادرًا.
14 -
وجوب تكبيرة الإحرام حال القيام لمن كان قادرًا، وهي ركنٌ لا تنعقد الصَّلاة بدونها.
15 -
أنَّ معنى التَّكبير قول (الله أكبر) فلا يقوم غير هذا اللَّفظ مقامه، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الصَّواب.
16 -
وجوب قراءة شيءٍ من القرآن في الصَّلاة على من يحفظ شيئًا منه.
17 -
تعيُّن سورة الفاتحة لمن يحفظها، والقراءة ركنٌ في الصَّلاة لا تصحُّ بدونها مع القدرة.
18 -
أنَّ من ليس معه شيءٌ من القرآن ولا يقدر على تعلُّمه يجزئه أن يذكر الله ويحمده ويكبِّره.
19 -
أنَّ الرُّكوع في الصَّلاة فرضٌ.
20 -
وجوب الطُّمأنينة في الرُّكوع وأنَّه لا يجزئ إلَّا بها.
21 -
وجوب الاعتدال من الرُّكوع ووجوب الطُّمأنينة فيه، فلا تصحُّ الصَّلاة بدونهما خلافًا للحنفيَّة.
22 -
أنَّ السُّجود في الصَّلاة فرضٌ، وقد اتَّفق المسلمون على هذا، كما تجب فيه الطُّمأنينة.
23 -
وجوب الرَّفع من السُّجود، ووجوب الطُّمأنينة بين السَّجدتين خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله.
24 -
وجوب السَّجدة الثَّانية والطُّمأنينة فيها وإن لم تذكر في أكثر الرِّوايات، وهي في إحدى روايات البخاريِّ، وقد انعقد الإجماع على فرض هذه السَّجدة
(1)
.
25 -
أنَّ كلَّ ما تقدَّم فرضٌ في كلِّ ركعةٍ من الصَّلاة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» .
26 -
وجوب التَّرتيب بين أركان الصَّلاة على وفق ما جاء في هذا الحديث.
27 -
أنَّ التَّسميع والتَّحميد وتكبيرات الانتقال والتَّسبيح في الرُّكوع والسُّجود ليست من واجبات الصَّلاة إلَّا أن يدلَّ لها دليلٌ آخر.
(1)
حكاه في «المغني» (2/ 208).
28 -
وجوب هذه الأركان في كلِّ صلاةٍ فرضًا كانت أو نفلاً إلَّا ما خصَّه الدَّليل.
29 -
جواز الحلف على الخبر وإن لم يستحلف المخبر، لقول الرَّجل: والَّذي بعثك بالحقِّ.
30 -
الحلف بالله بذكر فعلٍ من أفعاله.
31 -
ثناء السَّائل على المسؤول.
32 -
اعتراف السَّائل على نفسه بالجهل لحثِّ العالم على تعليمه.
33 -
يسر الشَّريعة الإسلاميَّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» .
34 -
أنَّ الاستفتاح بعد التَّكبير من تمام الصَّلاة.
35 -
استحباب الزِّيادة على الفاتحة بما تيسَّر من القرآن.
* * * * *
(300)
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَ يَدَيْهِ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ ولا قَابِضِهِمَا، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ القِبْلَةَ، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ اليُسْرَى وَنَصَبَ اليُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ اليُسْرَى وَنَصَبَ الأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ
(1)
.
* * *
هذا الحديث أشمل حديثٍ ورد في سنن الصَّلاة الفعليَّة.
(1)
البخاريُّ (828).
وقد اشتمل على فوائد، منها:
1 -
حرص الصَّحابة رضي الله عنهم على العلم وعلى الاقتداء بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
مشروعيَّة تكبيرة الإحرام، وهي من أركان الصَّلاة.
3 -
رفع اليدين حذو المنكبين عند تكبيرة الإحرام.
4 -
إمكان اليدين من الرُّكبتين حال الرُّكوع، وذلك بقبضهما باليدين مفرَّجتي الأصابع.
5 -
هصر الظَّهر حال الرُّكوع؛ وهو تسويته، فلا يكون مقوَّسًا.
6 -
الاعتدال بعد الرُّكوع حتَّى يكون كما كان قبله، وهذا الاعتدال ركنٌ كما تقدَّم في حديث المسيء.
7 -
وضع اليدين -أي: الكفَّين- على الأرض حال السُّجود.
8 -
صفة وضع اليدين بأن تكون الكفَّان مبسوطتين غير مفترش الذِّراعين.
9 -
استقبال القبلة بأطراف أصابع الرِّجلين حال السُّجود، وذلك بأن يجعل بطون الأصابع إلى الأرض.
10 -
صفة الجلوس في التَّشهُّد الأوَّل؛ وذلك بأن يقعد على رجله اليسرى وينصب اليمنى، ومثله الجلوس بين السَّجدتين.
11 -
صفة الجلوس في التَّشهُّد الأخير، وهي أن يقدِّم رجله اليسرى إلى يمينه وينصب اليمنى، ويقعد على مقعدته؛ وتسمَّى هذه الجلسة: التَّورُّك. وتسمَّى جلسة التَّشهُّد الأوَّل: الافتراش. هذا؛ وقد اختلف العلماء في التَّورُّك والافتراش؛ والرَّاجح بالدَّليل ما ذكرناه؛ وهو: أنَّ المصلِّي يجلس في التَّشهُّد الأوَّل مفترشًا، وفي التَّشهُّد الأخير متورِّكًا، وذلك في الصَّلاة ذات التَّشهُّدين كالظُّهر والعصر. وأمَّا الصَّلاة التي ليس فيها إلا تشهُّدٌ واحدٌ؛ كالفجر والجمعة وما شابههما من النَّوافل، فلا تورُّك فيها، وهذا مشهور مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
12 -
مشروعيَّة الرُّكوع والسُّجود في الصَّلاة، وهما من أركانها كما تقدَّم، وكلُّ ما ذكر في الحديث فهو من سنن الصَّلاة إلَّا تكبيرة الإحرام، والرُّكوع، والاعتدال، والسُّجود؛ فإنَّها أركانٌ.
* * * * *
(301)
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ قَالَ: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ
…
» إِلَى قَوْلِهِ: «مِنَ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ
…
» إِلَى آخِرِهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(302)
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «أَنَّ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ»
(2)
.
* * *
هذا الحديث من أصحِّ ما ورد من أذكار الاستفتاح وأدعيته في الصَّلاة، وأطولها، وظاهر الرِّواية المشهورة أنَّ المراد إذا قام إلى الصَّلاة المكتوبة، لكن إذا صحَّت الرِّواية الَّتي أشار إليها المصنِّف أنَّ ذلك في قيام اللَّيل اختصَّ هذا الاستفتاح بصلاة اللَّيل، وقد يترجَّح ذلك بأنَّ هذا الاستفتاح طويلٌ فلا يناسب السَّكتة الَّتي ذكرها أبو هريرة رضي الله عنه بقوله:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبَّر للصَّلاة سكت هنيهةً»
(3)
؛ فإنَّه يدلُّ على أنَّها قليلةٌ تناسب الدُّعاء الَّذي ذكر في الحديث، وقد اختصر المصنِّف حديث عليٍّ رضي الله عنه واكتفى بذكر طرفٍ منه؛ لأنَّ منهجه في هذا الكتاب الاختصار.
وفي الحديث فوائد كثيرةٌ، منها:
1 -
مشروعيَّة هذا الاستفتاح.
(1)
مسلمٌ (771).
(2)
هذه الرواية ليست في مسلمٍ.
(3)
رواه البخاريُّ (744)، ومسلمٌ (598).
2 -
عظم شأنه بما اشتمل عليه من معاني التَّوجُّه والتَّذلُّل والتَّعظيم لله.
وقوله: «وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ» .
فيه فوائد، منها:
3 -
استحضار الإخلاص في العمل.
4 -
ذكر توحيد الرُّبوبيَّة المقتضي لإخلاص العبادة له سبحانه.
5 -
أنَّ الحنيف هو المخلص لله في عبادته.
6 -
أنَّ ذلك لا يتمُّ إلَّا بالبراءة من الشِّرك والمشركين.
فيه فوائد، منها:
7 -
استحضار تحقيق العبوديَّة والتَّوحيد في جميع الأحوال وفي جميع أنواع العبادة الَّتي من أعظمها الصَّلاة والنُّسك.
8 -
أنَّ الذَّبح لله عبادةٌ كالصَّلاة، والذَّبح لغيره شركٌ.
9 -
أنَّ التَّوحيد لا يتحقَّق إلَّا بتخصيصه تعالى بالعبادة مع نفي الشُّركاء، وهذا معنى لا إله إلَّا الله.
10 -
أنَّ التَّوحيد أعظم ما أمر الله به.
11 -
أنَّه بالتَّوحيد يكون الإنسان مسلمًا ويدخل في عداد المسلمين، والإسلام هو: الاستسلام لله بتوحيده وطاعته.
12 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عبدٌ لله، يأمره وينهاه.
فيه فوائد، منها:
13 -
إثبات اسم الله (الملك)، وصفة الملك له على كلِّ شيءٍ.
14 -
إثبات تفرُّده بالإلهيَّة.
15 -
التَّوسُّل إلى الله بربوبيَّته باسمه (الملك)، وبتفرُّده بالإلهيَّة.
16 -
إثبات الرُّبوبيَّة العامَّة.
17 -
اختصاص المخلوق بالعبوديَّة، والخالق بالرُّبوبيَّة.
18 -
توسُّل العبد بربوبيَّته تعالى له وبعبوديَّته لربِّه.
19 -
أنَّ ظلم النَّفس بالذُّنوب من شأن الإنسان.
20 -
التَّوسُّل إلى الله بالاعتراف بذلك.
21 -
تأكيد الاعتراف بالذَّنب مع تنويع اللَّفظ، فقوله:«ظَلَمْتُ نَفْسِي» اعترافٌ، وقوله:«اعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي» تأكيدٌ.
22 -
مشروعيَّة الاستغفار من جميع الذُّنوب.
23 -
أنَّ كلَّ ما تقدَّم من التَّوسُّلات لطلب المغفرة.
24 -
إعظام الرَّغبة إلى الله لطلب المغفرة من جميع الذُّنوب.
25 -
أنَّه لا يغفر الذُّنوب إلَّا الله.
26 -
التَّوسُّل إلى الله بذلك لطلب المغفرة.
27 -
مشروعيَّة طلب الهداية لأحسن الأخلاق والوقاية من سيِّئها.
28 -
أنَّه لا يقدر على ذلك إلَّا الله.
29 -
من حسن هذا الدُّعاء طلب الكمال في الفضائل والسَّلامة من كلِّ الرَّذائل، وطلب الكمال في الفضائل لقوله:«لأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ» ، والسَّلامة من كلِّ الرَّذائل لقوله:«وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا» ، فالخير يدعى فيه بالأكمل والأفضل، والشَّرُّ تطلب السَّلامة من جميعه.
30 -
إثبات هداية التَّوفيق، والرَّدُّ على القدريَّة لقوله:«اهْدِنِي» و «اصْرِفْ عَنِّي» .
31 -
التَّوسُّل إلى الله بتفرُّده بذلك.
فيه فوائد، منها:
32 -
أنَّ التَّلبية لا تختصُّ بالإحرام بل تشرع في هذا الاستفتاح.
33 -
إظهار الاستجابة لدعوة الله والطَّاعة لأمره «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْك» ومعناه: إجابةٌ لك بعد إجابةٍ، وإسعادٌ بعد إسعادٍ.
34 -
الثَّناء على الله بأنَّ الخير كلَّه عنده، وهو المتصرِّف فيه بالعطاء والمنع.
35 -
إثبات اليد لله.
36 -
أنَّ الشَّرَّ لا يضاف إلى الله اسمًا ولا صفةً ولا فعلاً، فأسماؤه كلُّها حسنى، وصفاته كلُّها صفات كمالٍ، وأفعاله كلُّها عدلٌ وحكمةٌ، وإنَّما يوجد الشَّرُّ في مخلوقاته وليس فيها شرٌّ محضٌ؛ لأنَّ كلَّ ما خلقه سبحانه فله فيه حكمةٌ، فوجوده موجب الحكمة.
37 -
الاستعانة بالله والتَّوكُّل عليه في قوله: «أَنَا بِكَ» ، والتَّوجُّه إليه بعبادته وطاعته في قوله:«وَإِلَيْكَ» .
38 -
تضمُّن الكلمتين «أَنَا بِكَ» «وَإِلَيْكَ» توحيد الرُّبوبيَّة وتوحيد العبادة.
39 -
تنزيه الله عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ في قوله: «تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ» .
40 -
الثَّناء على الله بكثرة الخير في قوله: «تَبَارَكْتَ» .
41 -
الاستغفار من جميع الذُّنوب، وهو طلب المغفرة منه تعالى.
42 -
إظهار التَّوبة إلى الله من جميع الذُّنوب، وحقيقتها: الرُّجوع إلى الله بالنَّدم، والإقلاع عن المعاصي، وعقد العزم على تركها.
43 -
الجمع بين الاستغفار والتَّوبة.
44 -
أنَّ جماع ما اشتمل عليه هذا الاستفتاح التَّذلُّل لله وتعظيمه والثَّناء عليه وتمجيده والتَّوسُّل إليه بذلك في حصول المرغوب والنَّجاة من المرهوب.
45 -
افتقار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه في جلب المنافع ودفع المضارِّ.
46 -
تحقيق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لمقام العبوديَّة بما اشتمل عليه هذا الذِّكر من التَّذلُّل وإظهار الافتقار مع التَّمجيد لله والثَّناء عليه.
* * * * *
(303)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَبَّرَ لِلصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيَّةً، قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ:«أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدتَّ بيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (744)، ومسلمٌ (598).
هذا أصحُّ حديثٍ ورد في الاستفتاح، ولكنَّ هذا الاستفتاح دعاءٌ محضٌ.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استحباب السَّكتة بعد تكبيرة الإحرام.
2 -
الإسرار في الاستفتاح.
3 -
فضل أبي هريرة رضي الله عنه، وحرصه على العلم، وحسن أدبه؛ لقوله -كما في رواية مسلمٍ-: «بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله: أرأيت سكوتك
…
».
4 -
التَّوجُّه إلى الله بطلب الوقاية من الخطايا، وهي الذُّنوب بأنواعها؛ ما وقع منها وما لم يقع، فما لم يقع؛ فالوقاية منه بالعصمة والحفظ، وهو مضمون الجملة الأولى، وما وقع؛ فبالمغفرة والعفو، وهو مضمون الجملة الثَّانية والثَّالثة.
5 -
أنَّ ضمان المغفرة لا يوجب ترك الاستغفار وعدم الخوف من الذُّنوب، فالرَّسول صلى الله عليه وسلم مع أنَّ الله قد غفر له من ذنبه ما تقدَّم وما تأخَّر فإنَّه يدعو بهذا الدُّعاء ويستغفر كثيرًا.
6 -
مشروعيَّة التَّكبير عند الدُّخول في الصَّلاة.
7 -
أنَّ السُّكوت يطلق على الإسرار بالكلام.
8 -
أنَّ الذُّنوب دنس القلوب فناسب طلب النَّقاء منها نقاءً تامًّا.
9 -
أنَّ الثَّوب الأبيض يظهر عليه الوسخ وإن قلَّ.
10 -
أنَّ الذُّنوب قذرٌ تطلب الطَّهارة منها.
11 -
أنَّ الذُّنوب تورث حرارةً وخبثًا، فناسب ذكر الماء والثَّلج والبرد.
12 -
أنَّ الصَّلاة ليس فيها سكوتٌ بل كلُّها ذكرٌ.
* * * * *
(304)
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، ولا إِلَهَ غَيْرُكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ مَوْصُولاً، وَهُوَ مَوْقُوفٌ
(1)
.
(305)
وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ الخَمْسَةِ، وَفِيهِ: وَكَانَ يَقُولُ بعْدَ التَّكْبِيرِ: «أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ»
(2)
.
* * *
أثر عمر وحديث أبي سعيدٍ رضي الله عنهم اشتملا على أشهر الاستفتاحات في الصَّلاة وأوجزها وأفضلها كلماتٍ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، ولا إِلَهَ غَيْرُكَ» ، وكان عمر رضي الله عنه يجهر به في الصَّلاة، كما اشتمل حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه على الاستعاذة بعد الاستفتاح.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة هذا الاستفتاح.
2 -
اشتماله مع تكبيرة الإحرام على أربع الكلمات الَّتي عليها مدار غالب أنواع الذِّكر وهي: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلَّا الله، والله أكبر).
3 -
فضل هذا الاستفتاح بتمحُّضه للذِّكر بلفظ الخطاب لله.
4 -
تنزيه الله عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ.
5 -
الجمع بين الحمد والتَّسبيح في جملةٍ واحدةٍ في قوله: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ» .
6 -
الثَّناء على الله ببركة أسمائه وهي كثرة الخير.
7 -
التَّمجيد لله بقوله: «وَتَعَالَى جَدُّكَ» ؛ أي: جلَّت عظمتك.
(1)
مسلمٌ (399)، والدارقطنيُّ (1142).
(2)
أحمد (11473)، وأبو داود (775)، والتِّرمذيُّ (242)، والنَّسائيُّ (898)، وابن ماجه (804).
8 -
توحيد الله في إلهيَّته بنفي الإلهيَّة عن غيره وإثباتها له سبحانه.
9 -
مشروعيَّة الاستعاذة بالله من الشَّيطان قبل القراءة، كما يدلُّ له قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم (98)} [النحل: 98].
10 -
التَّوسُّل إلى الله في ذلك باسميه تعالى: السَّميع العليم.
11 -
الاستعاذة بالله من همز الشَّيطان ونفخه ونفثه، وهمزه: الخنق، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشِّعر الباطل.
12 -
أنَّ القدوة من النَّاس ينبغي له أن يجهر بما يخفى على النَّاس من الأمور الشَّرعيَّة.
* * * * *
(306)
(1)
، وَلَهُ عِلَّةٌ.
* * *
هذا الحديث يشبه حديث أبي حميدٍ السَّاعديِّ رضي الله عنه المتقدِّم
(2)
من حيث شموله لكثيرٍ ممَّا يشرع في الصَّلاة، بل هو موافقٌ لحديث أبي حميدٍ رضي الله عنه في أكثر ما جاء فيه، فهو من أصول أحاديث صفة الصَّلاة، والحديث رواه مسلمٌ فهو صحيحٌ عنده، وقد أعلَّه بعضهم بأنَّ أبا الجوزاء الرَّاوي عن عائشة رضي الله عنها لم يسمع هذا الحديث منها؛ لأنَّه جاء في بعض الرِّوايات أنَّه أرسل إليها رسولاً
(1)
مسلمٌ (498).
(2)
تقدَّم برقم (300).
فسألها، وهذا ما أشار إليه الحافظ بقوله:«وله علَّةٌ» ، ولكنَّ الرَّاجح: ما ذهب إليه مسلمٌ فإنَّه على شرطه؛ لأنَّ المعاصرة وإمكان السَّماع كافيان في الحكم باتِّصال رواية الثِّقة عن شيخه، وأبو الجوزاء مع عائشة رضي الله عنها متحقِّقٌ فيه ذلك فوجب حمله على الاتِّصال، والله أعلم.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استفتاح الصَّلاة بالتَّكبير، وهي تكبيرة الإحرام وهي ركنٌ.
2 -
استفتاح القراءة ب: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (2)} [الفاتحة: 2]، ويحتمل أنَّ المراد السُّورة، ويحتمل أنَّ المراد الآية الأولى؛ فيدلُّ على عدم ذكر البسملة. وقراءة الفاتحة من أركان الصَّلاة كما تقدَّم في حديث المسيء.
3 -
مشروعيَّة الرُّكوع في الصَّلاة، وهو من أركانها.
4 -
أنَّ من صفة الرُّكوع ألَّا يصوِّب المصلِّي رأسه؛ أي: بأن يخفضه إلى الأرض، ولا يشخصه؛ أي: لا يرفعه، بل يكون محاذيًا لظهره.
5 -
مشروعيَّة الاعتدال من الرُّكوع والطُّمأنينة فيه، وهو من أركان الصَّلاة.
6 -
مشروعيَّة السُّجود، وهو من أركان الصَّلاة.
7 -
مشروعيَّة الجلوس بين السَّجدتين والطُّمأنينة فيه، وهو من أركان الصَّلاة.
8 -
مشروعيَّة السَّجدة الثَّانية، وحكمها حكم الأولى.
9 -
مشروعيَّة التَّشهُّد بعد كلِّ ركعتين، وهذا في الغالب، وإلَّا فيشرع التَّشهُّد في الثَّالثة من المغرب، وفي الوتر بواحدةٍ، وقد لا يتشهَّد في الوتر إلَّا في الثَّالثة أو الخامسة أو السَّابعة.
10 -
مشروعيَّة السَّلام، وبه التَّحلُّل من الصَّلاة، وقيل: إنَّه ركنٌ، وقيل: سنَّةٌ، والأوَّل أظهر، وهو قول الجمهور من العلماء
(1)
.
(1)
ينظر: «شرح مسلمٍ» للنوويِّ (4/ 215).
11 -
النَّهي عن عقبة الشَّيطان، وهي الإقعاء، وفسِّر الإقعاء بأن يجعل المصلِّي ظهور قدميه إذا جلس إلى الأرض ويفرِّق بينهما ويجلس بمقعدته على الأرض، وفسِّر بأن يقعد على مقعدته وينصب فخذيه وساقيه ويتَّكئ بيديه، وهذا تفسير أبي عبيدة
(1)
.
12 -
النَّهي عن افتراشٍ كافتراش السَّبع، وهو بسط الذِّراعين على الأرض حال السُّجود.
13 -
مشروعيَّة الافتراش في الجلوس في الصَّلاة، وهو أن يفرش المصلِّي رجله اليسرى فيجلس عليها وينصب اليمنى، وذلك من سنن الصَّلاة.
14 -
التَّشبيه للتَّقبيح والتَّنفير.
* * * * *
(307)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم: «أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(308)
وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ:«يَرْفَعُ يَدَيْهِ حتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ»
(3)
.
(309)
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ رضي الله عنه نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَكِنْ قَالَ:«حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا فُرُوعَ أُذُنَيْهِ»
(4)
.
* * *
هذه الأحاديث اشتملت على سنَّةٍ من سنن الصَّلاة، وهي رفع اليدين في هذه المواضع وهي ثلاثةٌ: عند تكبيرة الإحرام، وعند الرُّكوع، والرَّفع منه، وصفة هذا الرَّفع: أن يرفع المصلِّي يديه حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه كما
(1)
ينظر: «غريب الحديث» لابن سلامٍ (1/ 265).
(2)
البخاريُّ (735)، ومسلمٌ (390).
(3)
أبو داود (730).
(4)
مسلمٌ (391).
في حديث مالك بن الحويرث مستقبلًا ببطونهما القبلة، وقد ورد رفع اليدين في موضعٍ رابعٍ، وهو عند القيام من التَّشهُّد الأوَّل كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهم في روايةٍ عند البخاريِّ
(1)
، وما ذكر فيه الرَّفع سوى هذه المواضع كالرَّفع عند السُّجود فهو عند المحقِّقين شاذٌّ، وقد ذهب جمهور العلماء إلى الرَّفع في هذه المواضع الأربعة، وذهب أبو حنيفة إلى عدم رفع اليدين إلَّا عند تكبيرة الإحرام، وهذه الأحاديث ظاهرة الدَّلالة على خلافه، والله أعلم.
وقد جاءت آثارٌ تدلُّ على استحباب رفع اليدين عند التَّكبيرات الزَّوائد في صلاة العيدين والاستسقاء والتَّكبيرات في صلاة الجنازة، ويلاحظ أنَّ هذا الرَّفع عند التَّكبير في هذه المواضع كلِّها مرتبطٌ بالقيام، فهو مناسبٌ لما ورد من مشروعيَّة التَّكبير عند الصُّعود كما كان الصَّحابة رضي الله عنهم إذا علوا الثَّنايا كبَّروا وإذا هبطوا سبَّحوا
(2)
.
* * * * *
(310)
وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى يَدِهِ اليُسْرَى عَلَى صَدْرِهِ» . أَخْرَجَه ابْنُ خُزَيْمَةَ
(3)
.
* * *
هذا الحديث فيه مشروعيَّة وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصَّدر في الصَّلاة حال القيام، وصفة ذلك أن يضع يده اليمنى على كفِّه اليسرى والرُّسغ والسَّاعد كما جاء في حديث وائل بن حجرٍ؛ وحديث وائلٍ هذا أصحُّ من حديث عليٍّ رضي الله عنه، وفيه قال: «إنَّ من السُّنَّة في الصَّلاة وضع الأكفِّ على الأكفِّ تحت
(1)
البخاريُّ (739).
(2)
رواه أبو داود (2599)، عن ابن عمر رضي الله عنهم. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» .
(3)
ابن خزيمة (479)، وأصل الحديث في مسلمٍ (401) دون قوله:«على صدره» ، فهي زيادةٌ تفرد بها مؤمل بن إسماعيل، لكنَّ الحديث له شواهد وطرقٌ يتقوى بها، وصحَّحه النوويُّ في «خلاصة الأحكام» (1096).
السُّرَّة»
(1)
فإنَّه حديثٌ ضعيفٌ، وقد اختلف العلماء في مكان وضع اليدين؛ فقيل: على الصَّدر، وقيل: فوق السُّرَّة، وقيل: تحت السُّرَّة، وقيل بالتَّخيير، والرَّاجح هو الأوَّل، والأمر في هذا واسعٌ.
* * * * *
(311)
وَعَنْ عُبادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(312)
وَفِي رِوَايَةٍ لاِبْنِ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
(3)
.
(313)
وَفِي أُخْرَى لأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ:«لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤُونَ خَلْفَ إمَامِكُم؟» ، قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ:«لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا»
(4)
.
* * *
هذا الحديث هو عمدة من أوجب قراءة الفاتحة على كلِّ مصلٍّ، إمامًا كان أو مأمومًا أو منفردًا، والحديث معيِّنٌ لما يجب من القراءة في الصَّلاة؛ فيفسَّر به قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء:«ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ»
(5)
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أنَّ قراءة الفاتحة ركنٌ في الصَّلاة فتجب على الإمام والمنفرد، وذهب أبو حنيفة إلى صحَّة صلاة من لم يقرأ الفاتحة
(6)
(1)
رواه أبو داود (756)، وأحمد (875). قال النوويُّ رحمه الله في «خلاصة الأحكام» (1097):«اتفقوا على تضعيفه؛ لأنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق الواسطيِّ، منكر الحديث، مجمعٌ على ضعفه» .
(2)
البخاريُّ (756)، ومسلمٌ (394).
(3)
ابن حبان (1794)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، والدارقطنيُّ (1225)، وقال:«هذا إسنادٌ صحيحٌ» .
(4)
أحمد (22750)، وأبو داود (823)، والتِّرمذيُّ (311)، وابن حبان (1785).
(5)
تقدَّم برقم (294).
(6)
«المغني» (2/ 146).
مستدلًّا بحديث: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ -ثلاثًا- غَيْرُ تَمَامٍ»
(1)
.
واختلف القائلون بوجوب قراءة الفاتحة في وجوبها على المأموم على مذاهب:
1 -
أنَّها لا تجب على المأموم مطلقًا، لكن يستحبُّ له أن يقرأها في سكتات الإمام وما يسرُّ فيه، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، واستدلُّوا بحديث:«مَنْ كَان لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ»
(2)
.
2 -
وجوب القراءة مطلقًا؛ أي: في الصَّلاة السِّرِّيَّة والجهريَّة، واستدلُّوا بعموم حديث عبادة هذا، وبرواية أحمد وأبي داود وغيرهما لهذا الحديث، وفيه أنَّه قال:«لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤُونَ خَلْفَ إمَامِكُمْ؟» ، قلنا: نعم، قال:«لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» .
وأجاب القائلون بعدم وجوب القراءة على المأموم عن هذا الحديث بأنَّه من قول عبادة رضي الله عنه، ورجَّح ذلك الإمام ابن تيميَّة رحمه الله
(3)
.
3 -
أنَّ القراءة تجب على المأموم في السِّرِّيَّة دون الجهريَّة جمعًا بين حديث عبادة: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» ، وحديث:«إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ»
(4)
وفيه: «وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا»
(5)
، وهذا القول أرجح في النَّظر؛ لكن يشكل عليه حديث:«لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤُونَ خَلْفَ إمَامِكُمْ» إلَّا إذا صحَّ أنَّه من قول عبادة رضي الله عنه.
(1)
رواه مسلمٌ (395) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن ماجه (850)، والدارقطنيُّ (1233) عن جابرٍ رضي الله عنه. قال المصنف في «الفتح» (2/ 242):«لكنه حديثٌ ضعيفٌ عند الحفاظ وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطنيُّ وغيره» .
(3)
ينظر: «مجموع الفتاوى» (23/ 176).
(4)
رواه البخاريُّ (378)، ومسلمٌ (411)، عن أنس بن مالكٍ، وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم.
(5)
رواه مسلمٌ (404).
ومن العجب أنَّ الظَّاهر من تقرير شيخ الإسلام ابن تيميَّة أن يذهب إلى القول الأوَّل. وممَّا يحسن ذكره هنا أنَّ شيخنا عبد العزيز بن بازٍ رحمه الله يرى أنَّ الفاتحة في حقِّ المأموم واجبةٌ وليست ركنًا
(1)
فلا تجب مع النِّسيان ولا على المسبوق إذا أدرك الإمام في الرُّكوع، وهو قولٌ متوسِّطٌ يرتفع به الحرج، ويقوِّيه سعة الخلاف، وتعارض ظواهر الأدلَّة.
* * * * *
(314)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاة بِ: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (2)} [الفاتحة: 2]» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(315)
زَادَ مُسْلِمٌ: «لا يَذْكُرُونَ {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم (1)} [الفاتحة: 1] فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ ولا فِي آخِرِهَا» .
(316)
وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ: «لا يَجْهَرُونَ بِ {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم (1)} [الفاتحة: 1]»
(3)
.
(317)
وَفِي أُخْرَى لاِبْنِ خُزَيْمَةَ: «كَانُوا يُسِرُّونَ»
(4)
.
وعلى هذا يحمل النَّفي في رواية مسلمٍ، خلافًا لمن أعلَّها.
(318)
وَعَنْ نُعَيْمٍ المُجْمِرِ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَرَأَ: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم (1)} [الفاتحة: 1]، ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ القُرْآنِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ:{وَلَا الضَّالِّين (7)} قَالَ: آمِينَ. وَيَقُولُ كُلَّمَا سَجَدَ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الجُلُوسِ: اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَقُولُ إِذَا
(1)
ينظر: «مجموع فتاوى ابن بازٍ» (12/ 102).
(2)
البخاريُّ (743)، ومسلمٌ (399).
(3)
رواه أحمد (12845)، والنَّسائيُّ (906)، وابن خزيمة (496). وهذا لفظ أحمد وإسناده على شرط الشيخين.
(4)
رواه ابن خزيمة (498). وإسناده ضعيف؛ فيه سويد بن عبد العزيز ضعَّفه أحمد وابن معينٍ، ينظر:«التهذيب» (4/ 276).
سَلَّمَ: وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلاةً بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
(319)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَرَأْتُمُ الفَاتِحَةَ فَاقْرَؤُوا: {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} فَإِنَّهَا إِحْدَى آيَاتِهَا» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَوَّبَ وَقْفَهُ
(2)
.
(320)
وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ أُمِّ القُرْآنِ رَفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ: «آمِينَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
(3)
.
(321)
وَلأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ نَحْوُهُ
(4)
.
* * *
اشتملت هذه الأحاديث على حكم الجهر والإسرار بالبسملة في الصَّلاة الجهريَّة، وقد دلَّت روايات حديث أنسٍ رضي الله عنه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهم في ذلك وأنَّهم كانوا لا يجهرون ب {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} ، بل كانوا يقرؤونها سرًّا، وهذا يفسِّر قوله: «كانوا يفتتحون الصَّلاة ب {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (2)} ؛ أي: يفتتحون القراءة في الصَّلاة بقوله تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (2)} فليس المراد أنَّهم لا يقرؤون البسملة.
ويشكل على حديث أنسٍ رضي الله عنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه فإنَّه صريحٌ بأنَّه قرأ {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} ، وأضاف جملة صلاته إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وقد جمع بين الحديثين بأنَّ الهدي الغالب من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هو الإسرار بالبسملة، وقد يجهر بها أحيانًا، وعلى هذا فالسُّنَّة هي الإسرار ويجوز الجهر، وقد تنازع العلماء في ذلك على مذاهب:
(1)
النَّسائيُّ (904)، وابن خزيمة (499).
(2)
الدارقطنيُّ (1190).
(3)
الدارقطنيُّ (1274)، والحاكم (815).
(4)
أبو داود (933)، والتِّرمذيُّ (248).
أَحَدُهَا: القول بما دلَّت عليه هذه الرِّوايات على ما تقدَّم
(1)
، وهو الصَّواب.
الثَّانِي: الجهر بالبسملة دائمًا على أنَّها آيةٌ من الفاتحة
(2)
، واستدلَّ من قال ذلك بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتأوَّل قول أنسٍ رضي الله عنه:«كانوا يفتتحون الصَّلاة ب {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (2)}» بأنَّه أراد اسم السُّورة، فكأنَّه قال: يفتتحون الصَّلاة بالفاتحة، وأعلَّ رواية مسلمٍ الصَّريحة في عدم ذكر البسملة، كما أشار الحافظ
(3)
.
الثَّالِثُ: القول بعدم قراءة البسملة لا سرًّا ولا جهرًا تمسُّكًا بأكثر روايات حديث أنسٍ رضي الله عنه، ولأنَّ البسملة ليست آيةً من الفاتحة عنده، أو ليست آيةً من القرآن كما هو أحد الأقوال في عدِّ البسملة من القرآن
(4)
. الثَّاني: أنَّها آيةٌ من كلِّ سورةٍ
(5)
. الثَّالث: أنَّها آيةٌ من سورة الفاتحة
(6)
، والصَّواب: أنَّها آيةٌ من القرآن أنزلت للفصل بين السُّور والدَّلالة على بداياتها، ولهذا أثبتها الصَّحابة أمام كلِّ سورةٍ.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ السُّنَّة ترك الجهر بالبسملة.
2 -
أنَّ هذا ممَّا مضى عليه الخلفاء الرَّاشدون.
3 -
أنَّ هذه السُّنَّة لم تنسخ.
(1)
وهو قول الحنفية والحنابلة، ينظر:«المغني» (2/ 149).
(2)
وهو قول الشافعية، ينظر:«المجموع» (3/ 298).
(3)
ينظر: «فتح الباري» (2/ 228).
(4)
وهو قول مالكٍ، والمشهور عن أبي حنيفة. ينظر:«الحاوي الكبير» للماوردي (2/ 105).
(5)
وهو قول الشافعية. ينظر: المصدر السابق.
(6)
وهو قول قراء مكة والكوفة وفقهائهما، وعليه الشافعيُّ وأصحابه، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، اختارها بعض الحنابلة. ينظر:«المجموع» للنووي (3/ 290).
4 -
أنَّ قول أنسٍ رضي الله عنه: «لا يذكرون {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} في أوَّل قراءةٍ ولا في آخرها» يريد ترك الجهر، وهذا يفسِّر قوله:«يفتتحون الصَّلاة ب {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (2)}» .
5 -
أنَّ البسملة ليست آيةً من الفاتحة، ويدلُّ له الحديث القدسيُّ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ العَبْدُ: الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي
…
» الحديث
(1)
.
6 -
تضعيف مذهب من يرى الجهر بالبسملة دائمًا.
7 -
جواز الجهر بها أحيانًا لبيان الجواز، كما هو ظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
8 -
فضيلة سورة الفاتحة.
9 -
أنَّ من أسماء الفاتحة أمَّ القرآن؛ أي: أصله؛ لأنَّ معانيه أجملت فيها.
10 -
أنَّ من صفة الصَّلاة التَّكبير في كلِّ خفضٍ ورفعٍ، قيل: إنَّ ذلك واجبٌ، وقيل: إنَّه سنَّةٌ.
11 -
أنَّ السُّنَّة للإمام إذا قال: {وَلَا الضَّالِّين (7)} أن يقول: «آمِينَ» يجهر بها الإمام والمأموم.
12 -
تحرِّي أبي هريرة رضي الله عنه صفة صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وإرشاده النَّاس لذلك؛ لقوله رضي الله عنه: «والَّذي نفسي بيده إنِّي لأشبهكم صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم» .
* * * * *
(322)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبي أَوْفَى رضي الله عنهم قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إنِّي لا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مِنْه، قَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، ولا إِلَهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ
(1)
رواه مسلمٌ (395)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الْعَظِيمِ
…
» الحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالحَاكِمُ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
يسر هذا الدِّين.
2 -
وجوب القراءة في الصَّلاة.
3 -
سقوط القراءة عمَّن لا يستطيع حفظ شيءٍ من القرآن.
4 -
أنَّ من لا يستطيع شيئًا من القرآن يجزئه أن يقول: «سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، ولا إِلَهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أَكْبَرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ» .
5 -
وجوب تعلُّم الفاتحة على من يستطيع ذلك.
6 -
تصديق المكلَّف فيما يخبر به عن حاله في أمر دينه؛ لأنَّه مؤتمنٌ عليه.
7 -
فضيلة هذا الذِّكر؛ لكونه بدلاً عن الفاتحة.
* * * * *
(323)
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِنَا، فَيَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَة الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَيُسْمِعُنَا الآيَةَ أَحْيَانًا، ويُطَوِّلُ الرَّكْعَةَ الأُولَى، ويَقْرَأُ فِي الأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
* * *
(1)
أحمد (19110)، وأبو داود (832)، والنَّسائيُّ (923)، وابن حبان (1808)، والدارقطنيُّ (1195)، والحاكم (883).
(2)
البخاريُّ (759)، ومسلمٌ (451).
هذا الحديث من أحاديث صفة الصَّلاة المتعلِّقة بالقراءة فيها.
وفيه فوائد، منها:
1 -
قراءة الفاتحة في كلِّ ركعةٍ من الظُّهر والعصر.
2 -
قراءة سورةٍ مع الفاتحة في الأوليين من الظُّهر والعصر.
3 -
الإسرار في القراءة في الظُّهر والعصر.
4 -
جواز الجهر ببعض الآيات بقدر ما يسمع القريب.
5 -
تطويل الإمام للرَّكعة الأولى من الصَّلاة؛ ومن حكمة ذلك أن يدرك النَّاس الصَّلاة من أوَّلها.
6 -
الاقتصار على قراءة الفاتحة في الرَّكعتين الأخريين من الظُّهر والعصر.
7 -
حرص الصَّحابة رضي الله عنهم على معرفة صفة الصَّلاة من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
* * * * *
(324)
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نَحْزُرُ قِيَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ قَدْرَ: {الم (1) تَنْزِيلُ} [السَّجْدَة]، وَفِي الأُخْرَيَيْنِ قَدْرَ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ. وفِي الأُولَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ عَلَى قدْرِ الأُخْرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَالأُخْرَيَينِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
هذا الحديث من أحاديث صفة الصَّلاة المبيِّنة لمقدار القيام في صلاتي الظُّهر والعصر.
(1)
مسلمٌ (452).
وفيه فوائد، منها:
1 -
أنَّ ما ذكر في الحديث من قدر قيامه صلى الله عليه وسلم في الظُّهر والعصر كان بالحزر، وهو التَّقدير بالظَّنِّ.
2 -
أنَّ من طرق العلم الحزر من ذوي الخبرة بالشَّيء.
3 -
أنَّ القيام في الرَّكعتين الأوليين من الظُّهر بمقدار {الم (1) تَنْزِيلُ} .
4 -
أنَّ مقدار القيام في الرَّكعتين الأخريين من الظُّهر على النِّصف من الأوليين.
5 -
أنَّ الأوليين من العصر بمقدار الأخريين من الظُّهر.
6 -
أنَّ الرَّكعتين الأخريين من العصر على النِّصف من الأوليين.
7 -
عدم الاقتصار على الفاتحة في الرَّكعتين الأخريين من الظُّهر والعصر؛ لأنَّ الفاتحة لا تبلغ ربع {الم (1) تَنْزِيلُ} ، فضلاً عن نصفها، ولا منافاة بين هذا الحديث وحديث أبي قتادة رضي الله عنه السَّابق الدَّالِّ على الاقتصار على الفاتحة، فيقال: الغالب هو الاقتصار، وقد يزيد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على الفاتحة في بعض الأحيان، وما دلَّ عليه حديث أبي قتادة رضي الله عنه أقوى ممَّا دلَّ عليه حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه وأرجح؛ لأنَّ حديث أبي قتادة رضي الله عنه خبرٌ عن علمٍ وحديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه خبرٌ عن ظنٍّ.
8 -
أنَّ صلاة الظُّهر في جملتها أطول من صلاة العصر.
* * * * *
(325)
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ رحمه الله قَالَ: كَانَ فُلَانٌ يُطِيلُ الأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ العَصْرَ، وَيَقْرَأُ فِي المغْرِبِ بِقِصَارِ المُفَصَّلِ، وفِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِهِ، وفِي
الصُّبْحِ بِطِوَالِهِ. فَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ: «مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
(1)
.
* * *
هذا الحديث يتضمَّن بيان مقدار القيام والقراءة في الصَّلاة.
وفيه فوائد، منها:
1 -
أنَّ من هديه صلى الله عليه وسلم تطويل الرَّكعتين الأوليين من الظُّهر والعصر.
2 -
تخفيف صلاة العصر، وقد دلَّ على ذلك حديث أبي قتادة وحديث أبي سعيدٍ المتقدِّمان
(2)
.
3 -
أنَّ هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب القراءة بقصار المفصَّل؛ مثل: (الضُّحى)، و (الشَّرح)، و (التِّين).
4 -
أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء بأوساط المفصَّل؛ مثل: (سبِّح، والغاشية، والبروج).
5 -
أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بطوال المفصَّل؛ مثل: (الذَّاريات، والطُّور، والنَّجم).
وما ذكر هو الغالب من فعله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب ب (الطُّور)
(3)
، بل قرأ ب (الأعراف)
(4)
، وثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء ب (التِّين)
(5)
، وأنَّه صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر ب (الزَّلزلة)
(6)
، وثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب ب (المرسلات)
(7)
،
(1)
النَّسائيُّ (981).
(2)
تقدَّم برقم (323)، (324).
(3)
ينظر: البخاري (765)، ومسلم (463)؛ من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(4)
ينظر: ما أخرجه البخاري (764) وغيره؛ من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(5)
ينظر: ما أخرجه البخاري (769)، ومسلم (464)؛ من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(6)
ينظر: ما أخرجه أبو داود (816). وصحح إسناده في عمدة القاري (6/ 46)، والنووي في الخلاصة (1226).
(7)
ينظر: ما أخرجه البخاري (763)، ومسلم (462)؛ من حديث ابن عباس رضي الله عنهم.
فلا ينبغي المداومة في المغرب على قصار المفصَّل، وأوصى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه أن يقرأ ب (سبِّح)، و (الشَّمس)، و (اللَّيل)، وذلك في صلاة العشاء
(1)
.
6 -
الثَّناء على من أشبهت صلاته وهديه صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهديه.
7 -
أنَّ من طرق رفع الحديث تشبيه الفعل بفعل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا ثبت رفع هذا الحديث بقول أبي هريرة رضي الله عنه:«ما صلَّيت وراء أحدٍ أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا» .
* * * * *
(326)
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بالطُّورِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
* * *
هذا الحديث تحمَّله جبير بن مطعمٍ رضي الله عنه قبل أن يسلم، فقد قدم المدينة في فداء أسارى بدرٍ، وسمع الرَّسول صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطُّور، قال:«فلمَّا بلغ قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون (35)} [الطور: 35] كاد قلبي أن يطير» ، وذلك لشعوره بعظمة معنى الآية، وهو التَّنبيه على أنَّه لا بدَّ للنَّاس من خالقٍ، فليسوا خالقين لأنفسهم، ولا خلقوا من غير شيءٍ، فإنَّ ذلك ممتنعٌ في العقل.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز القراءة في المغرب من طوال المفصَّل، واستحباب ذلك أحيانًا.
2 -
تفسير حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدِّم بأنَّه كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بقصار المفصَّل، وأنَّ ذلك ليس دائمًا بل غالبًا.
(1)
ينظر: ما أخرجه البخاري (705)، ومسلم (465)؛ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
(2)
البخاريُّ (765)، ومسلمٌ (463).
3 -
فضيلة جبير بن مطعمٍ رضي الله عنه.
4 -
جواز تحمُّل الحديث في حال الكفر ثمَّ روايته بعد الإسلام.
5 -
إرشاد القرآن إلى الدَّلائل العقليَّة في التَّوحيد وغيره من أصول الدِّين.
* * * * *
(327)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الفَجْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ: {الم (1) تَنْزِيلُ} [السَّجْدَة]، وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان]» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(328)
وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «يُدِيمُ ذَلِكَ»
(2)
.
* * *
هذا الحديث يدلُّ على خصيصةٍ من خصائص يوم الجمعة، ويوم الجمعة هو أفضل أيَّام الأسبوع، كما جاء عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:«خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ»
(3)
، ولهذا اليوم خصائص كونيَّةٌ وشرعيَّةٌ، فمن الخصائص الكونيَّة ما جاء في الحديث
(4)
أنَّه فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنَّة، وفيه أهبط منها، وفيه تقوم السَّاعة. ومن خصائصه الشَّرعيَّة: صلاة يوم الجمعة، وهي أعظم خصائص ذلك اليوم.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضل يوم الجمعة.
2 -
أنَّ السُّنَّة تطويل القراءة في صلاة الفجر.
3 -
أنَّ من السُّنَّة قراءة {الم (1) تَنْزِيلُ} [السَّجْدَة]، و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان] في فجر يوم الجمعة، والمداومة على ذلك. ورأى بعض العلماء ترك
(1)
البخاريُّ (891)، ومسلمٌ (880).
(2)
في «الصغير» (986).
(3)
رواه مسلمٌ (854)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
المتقدِّم.
ذلك أحيانًا؛ لئلَّا يظنَّ وجوب قراءتهما، وأنَّه لا يقوم مقامَهما غيرُهما من سور القرآن.
ومن غلط بعض النَّاس ظنُّه أنَّ المقصود من قراءة {الم (1) تَنْزِيلُ} هو السَّجدة، وأنَّه يحصل المقصود بقراءة أيِّ سورةٍ فيها سجدةٌ، وقد نبَّه على ذلك العلَّامة ابن القيِّم وذكر أنَّ حكمة قراءة هاتين السُّورتين في فجر الجمعة؛ أنَّهما متضمِّنتان لما حدث ويحدث في يوم الجمعة من بدء الخلق وقيام السَّاعة، ففيه خلق آدم وفيه تقوم السَّاعة، والله أعلم.
* * * * *
(329)
عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا مَرّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ عِنْدَهَا يَسْأَلُ، ولا آيَةُ عَذَابٍ إِلَّا تَعَوَّذَ مِنْهَا» . أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ
(1)
.
* * *
هذا الحديث أصله في مسلمٍ
(2)
مطوَّلاً، وفيه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة والنِّساء وآل عمران قبل أن يركع وكان إذا مرَّ بآية تسبيحٍ سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذٍ تعوَّذ، فأطال القيام والرُّكوع والاعتدال والسُّجود، وفيه أنَّه قال في ركوعه:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» ، وفي سجوده:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» ، وقد ذكره المؤلِّف مختصرًا وعزاه إلى الخمسة، وكان الأولى أن يشير إلى طوله وأنَّ أصله في مسلمٍ.
وفي اللفظ الذي ذكره المؤلف فوائد، منها:
1 -
فضيلة حذيفة رضي الله عنه لصلاته مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في قيام اللَّيل في بعض اللَّيالي.
(1)
أحمد (23240)، وأبو داود (871)، والتِّرمذيُّ (262)، والنَّسائيُّ (1007)، وابن ماجه (1351).
(2)
مسلمٌ (772).
2 -
الجهر بالقراءة في صلاة اللَّيل.
3 -
تدبُّر القرآن عند تلاوته واستحضار معانيه.
4 -
التَّعوُّذ عند آيات العذاب.
5 -
السُّؤال عند آيات الرَّحمة، وذلك مختصٌّ بصلاة النَّافلة؛ إذ لم ينقل أحدٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه فعل ذلك في الفريضة.
6 -
جواز صلاة النَّافلة جماعةً بصفةٍ عارضةٍ لا دائمةٍ؛ كصلاة الزَّائر والضَّيف مع صاحب البيت.
* * * * *
(330)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإني نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ القُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
هذا الحديث اشتمل على حكمين من أحكام الرُّكوع والسُّجود أحدهما تركٌ والآخر فعلٌ.
وفيه فوائد، منها:
1 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم يؤمر وينهى، والآمر والنَّاهي له ربُّه، وأمره ونهيه أمرٌ ونهيٌ للأمَّة، فهو أسوةٌ لهم صلى الله عليه وسلم.
2 -
النَّهي عن قراءة القرآن في الرُّكوع.
3 -
النَّهي عن قراءة القرآن في السُّجود، والأصل في النَّهي التَّحريم، ويؤكِّد النَّهي تأكيد الخبر عنه ب «ألا» و «إنَّ» .
4 -
الأمر بتعظيم الرَّبِّ في الرُّكوع.
5 -
الأمر بالاجتهاد في الدُّعاء في السُّجود.
(1)
مسلمٌ (479).
6 -
أنَّ الرُّكوع أخصُّ بذكر الله وتعظيمه، ويجوز فيه الدُّعاء.
7 -
أنَّ السُّجود أخصُّ بالدُّعاء، ويشرع فيه التَّسبيح، ومنه: سبحان ربِّي الأعلى.
8 -
أنَّ الدُّعاء في السُّجود سببٌ للإجابة.
9 -
جواز بناء الأفعال المضافة لله للمفعول، وإن كان مقتضاها خيرًا، كما في قوله:«نُهِيتُ» و «يُسْتَجَابَ لَكُمْ» .
10 -
أنَّ أفضل ذكرٍ في الصَّلاة قراءة القرآن، ومحلُّه منها القيام، وهو اللَّائق به دون الرُّكوع والسُّجود.
11 -
أنَّ من قرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا متعمِّدًا عالمًا بالنَّهي بطلت صلاته، وهذا مذهب الظَّاهريَّة وهو قويٌّ.
12 -
إثبات اسم (الرَّبِّ) لله عز وجل غير مضافٍ بل معرَّفًا ب (أل).
* * * * *
(331)
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبْحَانَكَ اللّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة هذا الذِّكر في الرُّكوع والسُّجود.
2 -
جواز الدُّعاء في الرُّكوع.
3 -
مشروعيَّة التَّسبيح في السُّجود.
4 -
تأويل القرآن بفعل المأمور به، فإنَّ عائشة رضي الله عنها ذكرت أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بعد أن نزل عليه قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
(1)
البخاريُّ (817)، ومسلمٌ (484).
تَوَّابًا (3)} [النصر: 3] كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» يتأوَّل القرآن، وذلك في آخر حياته، فإنَّ سورة النَّصر قد دلَّت على دنوِّ أجله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم فيها: إنَّها أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له؛ أي: جعل له علامةً.
5 -
كمال عبوديَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لربِّه لكثرة تحميده وتسبيحه واستغفاره.
6 -
اشتمال هذا الذِّكر على تنزيه الله عن كلِّ نقصٍ ووصفه بكلِّ كمالٍ على وجه الإجمال.
7 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم محتاجٌ إلى الاستغفار؛ مع علوِّ قدره، فكيف بمن دونه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار في الصَّلاة وخارج الصَّلاة.
* * * * *
(332)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ:«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوع، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائمٌ:«رَبَّنا وَلَكَ الحَمْدُ» ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي سَاجِدًا، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنِ اثْنَتَيْنِ بَعْدَ الجُلُوسِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
هذا الحديث من أصول الأحاديث في صفة الصَّلاة.
وفيه فوائد، منها:
1 -
افتتاح الصَّلاة بالتَّكبير، وهذه هي تكبيرة الإحرام الَّتي لا تنعقد الصَّلاة بدونها.
(1)
البخاريُّ (789)، ومسلمٌ (392).
2 -
التَّكبير في كلِّ خفضٍ ورفعٍ وانتقالٍ في أفعال الصَّلاة، ولهذا تُسمَّى هذه التَّكبيرات: تكبيرات الانتقال، ومحلُّها حال الانتقال في الصَّلاة من ركنٍ إلى ركنٍ، وخصَّ من هذا الرَّفع من الرُّكوع، وهذه التَّكبيرات مشروعةٌ للإمام والمأموم والمنفرد، واختلف العلماء في حكمها، فذهب الجمهور إلى أنَّها سنَّةٌ، وذهب آخرون إلى أنَّها واجبةٌ وهو قولٌ قويٌّ لمداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقوله:«صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي»
(1)
.
3 -
عظم شأن هذه الكلمة «الله أكبر» .
4 -
أنَّ الله أكبر من كلِّ شيءٍ؛ في ذاته وصفاته {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ} [الأنعام: 19].
5 -
ما يشرع من الذِّكر عند الرَّفع من الرُّكوع؛ وهو «سمع الله لمن حمده» ؛ ومعناه: استجاب، وهو مناسبٌ للذِّكر عند الاعتدال.
6 -
ما يشرع من الذِّكر حال الاعتدال؛ وهو «ربَّنا ولك الحمد» ، أو «اللَّهمَّ ربَّنا ولك الحمد» ، مع الواو وبدونها، كما جاءت بذلك الرِّوايات، والتَّسميع والتَّحميد قيل: إنَّهما من واجبات الصَّلاة وقيل: سنَّةٌ، وهما مشروعان للإمام والمنفرد. وأمَّا المأموم فيشرع له: التَّحميد دون التَّسميع لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا قَالَ -أَيِ: الإِمَامُ-: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا ولَكَ الْحَمْدُ»
(2)
. وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّه يشرع له التَّسميع كالإمام والمنفرد، والأوَّل هو الصَّحيح للحديث، وفيه:«فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا» ففرَّق بين التَّكبير والتَّسميع.
* * * * *
(1)
سيأتي برقم (373).
(2)
سيأتي في (باب صلاة الجماعة والإمامة) برقم (462).
(333)
عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّموَاتِ ومِلْءَ الأرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
هذا الحديث اشتمل على أطول ذكرٍ مشروعٍ حال القيام بعد الرُّكوع، وقد تضمَّن معاني عظيمةً من التَّحميد والتَّمجيد لله تعالى.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة هذا الذِّكر بعد الرَّفع من الرُّكوع للإمام والمأموم والمنفرد، والقدر المجزئ منه:«اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» .
2 -
أنَّ الحمد كلَّه مستحقٌّ لله تعالى، وهذا يتضمَّن إثبات جميع المحامد له سبحانه، وهي صفات الكمال.
3 -
أنَّ ما يستحقُّه الرَّبُّ تعالى من الحمد لا نهاية له.
4 -
جواز التَّجوُّز بوصف الأمور المعنويَّة بما يختصُّ بالأمور الحسِّيَّة، وذلك في قوله:«مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ» .
5 -
إثبات المشيئة لله تعالى.
6 -
التَّوجُّه إلى الله بالخطاب في مقام الثَّناء.
7 -
فضل هذا التَّحميد؛ لقوله: «أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ» ؛ أي: هذا الحمد أحقُّ ما قال العبد.
8 -
الاعتراف لله بالعبوديَّة، وهذه العبوديَّة هي العامَّة، لكنَّها في هذا السِّياق تتضمَّن العبوديَّة الخاصَّة.
9 -
أنَّ الله تعالى هو المعطي المانع.
(1)
رواه مسلمٌ (477).
10 -
كمال قدرته سبحانه وتعالى، وكمال عجز الخلق، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
11 -
أنَّ الحظوظ من المال والسُّلطان لا تمنع صاحبها ممَّا أراده الله به، ولا تنجيه من عذابه، فالجدُّ هو: الحظُّ، وقوله:«وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» ؛ أي: لا ينفع ذا الحظِّ منك حظُّه، وقد ضمَّن فعل «ينفع» معنى: ينجي ويخلِّص.
12 -
وجوب التَّوكُّل على الله في جميع الأمور، وتعليق القلب به عز وجل خوفًا ورجاءً.
* * * * *
(334)
عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ؛ عَلَى الْجَبْهَةِ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ، والرُّكْبَتَينِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْن» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
هذا الحديث اختصر منه المؤلِّف قوله صلى الله عليه وسلم: «وَلَا نَكْفِتَ الثِّيَابَ ولا الشَّعَرَ» ؛ أي: وأمرت ألَّا نكفت
…
إلخ.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الرَّسول عبدٌ لله يأمره وينهاه.
2 -
جواز بناء الفعل للمفعول في أفعال الله للعلم به.
3 -
أنَّ من كلام الله الأمر والنَّهي.
4 -
وجوب السُّجود على سبعة أعظمٍ مع القدرة، وهي مبيَّنةٌ في لفظ الحديث.
5 -
وجوب السُّجود على الأنف مع الجبهة، وهما عضوٌ واحدٌ.
(1)
البخاريُّ (812)، ومسلمٌ (490).
6 -
أنَّ من ترك السُّجود على واحدٍ من الأعظم السَّبعة لم يفعل ما أمر به، فإن كانت الجبهة لم يصحَّ سجوده مطلقًا، وإن كان غيرها وكان ترك السُّجود على العضو عمدًا لم يصحَّ سجوده، وإن كان سهوًا فالأظهر أنَّه يصحُّ سجوده.
7 -
أنَّ السُّجود على أطراف القدمين يجزئ وإن كانت الأصابع لغير القبلة.
8 -
التَّعليم بالإشارة.
9 -
أنَّ الإشارة منزَّلةٌ منزلة الكلام إذا دلَّت على المراد.
10 -
أنَّ اليد إذا أطلقت فالمراد بها الكفُّ، فقوله صلى الله عليه وسلم:«وَالْيَدَيْنِ» ؛ أي: الكفَّين؛ لما ورد من النَّهي عن بسط الذِّراعين في السُّجود، كما تقدَّم في حديث عائشة رضي الله عنها.
11 -
وجوب إبقاء الشَّعر والثِّياب على حالها عند السُّجود، وذلك من كمال السُّجود وكمال التَّواضع لله، ولكن لا أثر لمخالفة ذلك في صحَّة السُّجود، فمن كفَّ ثوبه أو شعره عند السُّجود فقد أساء، وسجوده صحيحٌ، وقيل: كفُّ الشَّعر والثَّوب مكروهٌ، وهو قول أكثر العلماء.
12 -
أنَّ من حسن البيان الإجمال ثمَّ التَّفصيل، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ
…
» ثمَّ فصَّلها.
* * * * *
(335)
عَنِ ابْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(336)
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَجَدتَّ فَضَعْ كَفَّيْكَ، وَارْفَعْ مِرْفَقَيْكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (807)، ومسلمٌ (495).
(2)
مسلمٌ (494).
هذان الحديثان اشتملا على بعض هيئة السُّجود، لكنَّ حديث ابن بحينة رضي الله عنه فعلٌ، وحديث البراء رضي الله عنه قولٌ.
وفيهما فوائد، منها:
1 -
حرص الصَّحابة على العلم روايةً وتبليغًا حتَّى في دقائق المسائل.
2 -
مجافاة اليدين عن الجنبين في السُّجود، والمبالغة في ذلك ما لم يؤذ أحدًا.
3 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على لبس القميص؛ لأنَّه لو كان لابسًا قميصًا لم ير بياض إبطيه.
4 -
وجوب وضع الكفَّين على الأرض في السُّجود، وهما من الأعضاء السَّبعة كما تقدَّم.
5 -
وجوب رفع المرفقين عن الأرض؛ لأنَّ وضعهما على الأرض يستلزم ما نهي عنه من افتراشٍ كافتراش السَّبع أو الكلب، والله أعلم.
* * * * *
(337)
وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَان إذَا رَكَعَ فَرَّجَ بيْنَ أَصَابِعِهِ، وَإذَا سَجَدَ ضَمَّ أَصَابِعَهُ» . رَوَاهُ الحَاكِم
(1)
.
(338)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(2)
.
(1)
رواه الحاكم مفرقًا في موضعين من «المستدرك» من طريقين وصحَّح إسنادهما؛ الأول: من طريق عمرو بن عونٍ: «كان إذا ركع فرَّج بين أصابعه» ورقمه (817)، والثاني: من طريق الحارث بن عبد الله الخازن: «كان إذا سجد ضمَّ أصابعه» ، ورقمه (829).
(2)
النَّسائيُّ (1660)، وابن خزيمة (978).
(339)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي» . رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَاللَّفْظُ لأَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(1)
.
* * *
مجموع هذه الأحاديث تضمَّن بعض السُّنن في الرُّكوع والسُّجود، وهيئة الجلوس لمن صلَّى قاعدًا، وما يشرع من الذِّكر بين السَّجدتين.
وفيها فوائد، منها:
1 -
حرص الصَّحابة رضي الله عنهم على معرفة هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في صلاته حتَّى في الأمور الدَّقيقة.
2 -
أنَّ السُّنَّة تفريج أصابع اليدين حال وضعهما على الرُّكبتين في الرُّكوع.
3 -
ضمُّ أصابع اليدين حال وضعهما على الأرض في السُّجود، وهذا هو المناسب لحال السُّجود كتفريج الأصابع حال الرُّكوع.
4 -
أنَّ المصلِّي قاعدًا يكون متربِّعًا في محلِّ القيام، والتَّربُّع معروفٌ.
5 -
مشروعيَّة الدُّعاء بين السَّجدتين بما في حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم.
6 -
فضل هذا الدُّعاء لما اشتمل عليه من المطالب العظيمة مع إيجازه، فقد تضمَّن طلب خير الدُّنيا والآخرة والسَّلامة من الشُّرور في الدُّنيا والآخرة.
* * * * *
(1)
أبو داود (850)، والتِّرمذيُّ (284)، وابن ماجه (898)، والحاكم (967). وعند التِّرمذيِّ وابن ماجه:«وَاجْبُرْنِي» بدل «وَعَافِنِي» ، وعند ابن ماجه:«وَارْفَعْنِي» بدل: «وَاهْدِنِي» ، فتكون الكلمات بمجموع الروايات سبع كلماتٍ.
(340)
عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَإذَا كَانَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ لَمْ يَنْهَضْ حتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(1)
.
* * *
هذا الحديث هو الأصل في جلسة الاستراحة في الصَّلاة، وهي أن يستوي المصلِّي جالسًا قبل أن ينهض للرَّكعة الثَّانية أو الرَّابعة، فتكون في الرَّكعة الأولى والثَّالثة، ولهذا قال:«فإذا كان في وترٍ من صلاته» .
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضيلة مالك بن الحويرث رضي الله عنه، فإنَّه وفد على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وبعض قومه ليتعلموا، وأعظم ما علَّمهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم صفة الصَّلاة، ولهذا أوصاهم بوصايا تختصُّ بالصَّلاة.
2 -
أنَّ من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة جلسة الاستراحة.
وقد اختلف العلماء؛ هل فعلها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم تشريعًا؟ فتكون من سنن الصَّلاة أو فعلها للحاجة لمَّا ثقل صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك ثلاثة مذاهب:
الأَوَّلُ: أنَّها سنَّةٌ.
الثَّانِي: أنَّها ليست سنَّةً بل هي أمرٌ عاديٌّ تقتضيه بعض الأحوال.
الثَّالِثُ: أنَّها سنَّةٌ لمن احتاج إليها.
والأوَّل هو الرَّاجح، فمالك بن الحويرث الَّذي رواها هو الَّذي روى:«صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»
(2)
، ولم ينفرد مالك بن الحويرث في روايته لجلسة الاستراحة بل قد رواها أبو حميدٍ السَّاعديُّ رضي الله عنه.
* * * * *
(1)
البخاريُّ (823).
(2)
سيأتي برقم (373).
(341)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ شَهْرًا، بَعْدَ الرُّكُوعِ، يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَرَكَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(342)
وَلأَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَزَادَ:«فَأَمَّا فِي الصُّبْحِ فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا»
(2)
.
(343)
وَعَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يَقْنُتُ إِلَّا إِذَا دَعَا لِقَوْمٍ، أَوْ دَعَا عَلَى قَوْمٍ» . صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(3)
.
(344)
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ الأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «قُلْتُ لأَبِي: يَا أَبَتِ، إنَّكَ قَدْ صَلَّيْتَ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَليٍّ، أَفَكَانوا يَقْنُتُونَ فِي الْفَجْرِ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، مُحْدَثٌ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ
(4)
.
(345)
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهم قَالَ: عَلَّمَنِي رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيما أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ؛ فَإنَّكَ تَقْضِي ولا يُقْضَى عَلَيْكَ، إنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ
(5)
.
(346)
وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ وَالبَيْهَقِيُّ: «وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ»
(6)
.
(1)
البخاريُّ (3170)، ومسلمٌ (677).
(2)
أحمد (12657)، والدارقطنيُّ (1693). إسناده ضعيفٌ؛ لأنَّ فيه ثلاث عللٍ: الأولى: سوء حفظ أبي جعفرٍ الرازي، وهو عيسى بن ماهان. ينظر:«الكامل في ضعفاء الرجال» (1400). والثانية: أنَّ الربيع بن أنسٍ البكريَّ صدوقٌ له أوهامٌ، كما قال المصنف في «التقريب» (1882). والثالثة: نكارته لمخالفته لما ثبت في «الصحيحين» أنه صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا ثمَّ تركه.
(3)
ابن خزيمة (620).
(4)
أحمد (15879)، والتِّرمذيُّ (402)، والنَّسائيُّ (1079)، وابن ماجه (1241).
(5)
أحمد (1718)، وأبو داود (1425)، والتِّرمذيُّ (464)، والنَّسائيُّ (1744)، وابن ماجه (1178).
(6)
الطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (2701)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (3138).
(347)
زَادَ النَّسائيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي آخِرِهِ: «وَصَلَّى اللهُ عَلَى النَّبِيِّ»
(1)
.
(348)
وَلِلْبَيْهَقِيِّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا دُعَاءً نَدْعُو بِهِ فِي الْقُنُوتِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ» . وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ
(2)
.
* * *
أصل معنى القنوت: الخضوع، وقد جاء في القرآن عامًّا وخاصًّا؛ فالعامُّ: هو الخضوع القهريُّ لله تعالى، وهو موجب ربوبيَّته العامَّة؛ كقوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُون (116)} [البقرة: 116]. والخاصُّ: هو الخضوع ودوام الطَّاعة اختيارًا؛ كقوله سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9]، وكقوله عز وجل:{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب: 35].
ويدخل في هذا النَّوع السُّكوت في الصَّلاة، كما قال زيد بن أرقم رضي الله عنه:«لمَّا نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين (238)} [البقرة: 238]؛ أمرنا بالسُّكوت، ونهينا عن الكلام»
(3)
؛ أي: كلام النَّاس.
ويدخل فيه طول القيام كما في الحديث: «أَفْضَلُ الصَّلَاة طُولُ الْقُنُوتِ»
(4)
؛ أي: القيام، قال النَّوويُّ:«المراد بالقنوت هنا القيام باتِّفاق العلماء»
(5)
.
ومنه الدُّعاء في الصَّلاة حال القيام قبل الرُّكوع أو بعده، وهذا هو المقصود بالقنوت في هذه الأحاديث، وقد تضمَّنت هذه الأحاديث ثلاثة أنواعٍ من هذا القنوت:
1 -
قنوت النَّوازل؛ دعاءٌ لقومٍ أو على قومٍ.
2 -
القنوت في الفجر.
3 -
القنوت في الوتر.
(1)
النَّسائيُّ (1745).
(2)
البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (3141).
(3)
تقدَّم برقم (241).
(4)
رواه مسلمٌ (756)، عن جابرٍ رضي الله عنه.
(5)
ينظر: «شرح النوويِّ على مسلمٍ» (6/ 35).
فأمَّا القنوت في النَّوازل فلا خلاف فيه بين العلماء، وقد جاءت فيه أحاديث صحيحةٌ، في «الصَّحيحين» وغيرهما، ومنها حديث أنسٍ رضي الله عنه، وهو أوَّل هذه الأحاديث «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرًا، بعد الرُّكوع، يدعو على أحياءٍ من أحياء العرب، ثمَّ تركه» ، وحديث أنسٍ رضي الله عنه أيضًا عند ابن خزيمة:«أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلَّا إذا دعا لقومٍ، أو دعا على قومٍ» .
وأمَّا القنوت في الفجر دائمًا فذهب إليه الشَّافعيُّ رحمه الله مستدلًّا بما عند أحمد والدَّارقطنيِّ عن أنسٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم «فأمَّا في الصُّبح فلم يزل يقنت حتَّى فارق الدُّنيا» ، وذهب الجمهور إلى عدم مشروعيَّته، وضعَّفوا رواية أحمد، وتأوَّلوا القنوت في رواية أحمد بطول القيام، واستدلُّوا بأنَّ الَّذين نقلوا صفة صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنَّه كان يدعو في صلاة الفجر بعد الرُّكوع إلَّا قنوت النَّوازل؛ وبقول طارقٍ الأشجعيِّ رضي الله عنه لمَّا سأله ابنه سعدٌ:«هل كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليٌّ يقنتون في الفجر؟ قال: أي بنيَّ محدثٌ» .
و قول الجمهور هو الصّواب، فليس من سنن صلاة الفجر الدُّعاء بعد الرُّكوع، ومن الممتنع أن يكون ذلك من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا ينقله أحدٌ، ولا ينقلون شيئًا ممَّا كان يدعو به، لكن من يرى القنوت في الفجر يجوز أن يصلِّي خلفه من لا يرى القنوت، كما هو الشَّأن في المختلف فيه من واجبات الصَّلاة وشروطها. والظَّاهر: أنَّه لا يتابعه في القنوت بل يشتغل بالذِّكر المشروع في هذا الموضع.
وأمَّا القنوت في الوتر فاستدلَّ له بحديث الحسن رضي الله عنه قال: «علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهنَّ في قنوت الوتر: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ
…
»».
وقد اختلف العلماء في قنوت الوتر على مذاهب:
أَحَدُهَا: أنَّه لا يشرع مطلقًا، واستدلُّوا بأنَّه لم ينقل أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر، وضعَّفوا حديث الحسن رضي الله عنه أو لم يبلغهم
(1)
.
الثَّانِي: أنَّه مستحبٌّ مطلقًا؛ أي: كلَّ العام، لحديث الحسن رضي الله عنه
(2)
.
الثَّالِثُ: أنَّه لا يشرع إلَّا في رمضان
(3)
.
الرَّابِعُ: أنَّه لا يشرع إلَّا في النِّصف الأخير من رمضان
(4)
، واستدلَّ لهذا القول بما جاء عن جمعٍ من الصَّحابة منهم: عليٌّ وابن عمر وأبيٌّ رضي الله عنهم أنَّهم كانوا لا يقنتون إلَّا في النِّصف الثَّاني من رمضان
(5)
، والرَّاجح أنَّه جائزٌ مطلقًا، لكن لا تنبغي المداومة عليه؛ لأنَّه ليس من السُّنَّة المشهورة الثَّابتة.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة القنوت في الصَّلوات الخمس كلِّها أو بعضها؛ دعاءً لأسرى المسلمين والمستضعفين، ودعاءً على الكفرة المعتدين، ويعرف هذا القنوت عند العلماء بقنوت النَّوازل. وقد استفاضت بذلك الأحاديث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
أنَّ قنوت النَّوازل لا يكون دائمًا، بل بحسب الأسباب المقتضية له.
3 -
مشروعيَّة القنوت في صلاة الفجر.
(1)
ذكره ابن المنذر في «الأوسط» (5/ 207) عن طاوسٍ، وروي ذلك عن محمد بن نصرٍ عن ابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير. وروي عن مالكٍ مثل ذلك. ينظر:«المدونة» (1/ 224).
(2)
ذكره عن الحسن قتادة. ينظر: «المصنف» لعبد الرزاق (3/ 121).
(3)
حكاه النوويُّ عن مالكٍ في «المجموع» (3/ 510).
(4)
ينظر: «الأوسط» لابن المنذر (5/ 206).
(5)
أثر أبيٍّ رضي الله عنه رواه أبو داود (1428)، وضعَّفه النوويُّ في «خلاصة الأحكام» (1915). وأثر عليٍّ رضي الله عنه رواه البيهقيُّ في «الكبرى» (4631)، وكذلك أثر ابن عمر رضي الله عنهم (4633). ينظر:«مختصر قيام الليل للمروزي» (314).
4 -
أنَّ القنوت في صلاة الفجر سنَّةٌ دائمةٌ من صفة الصَّلاة؛ لقوله في الحديث: «فأمَّا في الصُّبح فلم يزل يقنت حتَّى فارق الدُّنيا» ، ولكن هذه الرِّواية ضعيفةٌ.
5 -
أنَّ القنوت في الفجر دائمًا بدعةٌ؛ لقول طارقٍ الأشجعيِّ رضي الله عنه لمَّا سئل عن القنوت في الفجر: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ وعمر وعثمان وعليٌّ يقنتون في الفجر، قال طارقٌ: أي بنيَّ، محدثٌ؛ أي: القنوت محدثٌ.
6 -
مشروعيَّة القنوت في الوتر.
7 -
الدُّعاء فيه بما جاء في حديث الحسن رضي الله عنه.
8 -
فضل هذا الدُّعاء، لتعليم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الحسن رضي الله عنه لهذا الدُّعاء ولما اشتمل عليه من المعاني الجليلة، وقد اشتمل على دعاء المسألة في جمله الخمس الأولى، وقد تضمَّنت طلب الهداية والعافية والولاية والبركة والوقاية من الشُّرور، فتضمَّنت طلب الخير عاجلاً وآجلاً والسَّلامة من الشَّرِّ عاجلاً وآجلاً.
كما تضمَّنت الجمل الأربع الأخيرة إثبات ربوبيَّته سبحانه، وتنزيهه عن كلِّ نقصٍ، وكمال قدرته.
9 -
أنَّ العباد قسمان: أولياء الله وأعداء الله؛ لأنَّه لا يذلُّ من والاه ولا يعزُّ من عاداه.
10 -
أنَّ العزَّة للمؤمنين، ولا عزَّة للكافرين بحالٍ من الأحوال.
11 -
أنَّ من المطالب العظيمة في الدُّعاء الدُّخول في عباد الله الصَّالحين ممَّن هداهم الله وعافاهم وتولَّاهم، ومن ذلك قول سليمان عليه السلام:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين (19)} [النمل: 19].
12 -
ختم دعاء القنوت بالصَّلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما في رواية النَّسائيِّ.
13 -
فقر العبد إلى ربِّه في جميع أموره.
* * * * *
(349)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ، فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» . أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ
(1)
.
(350)
وَهُوَ أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ إذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ» . أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ
(2)
.
(351)
فَإِنَّ لِلأَوَّلِ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم. صَحَّحَهُ ابْنُ خُزيْمَةَ، وَذَكَرَهُ البُخَارِيُّ مُعَلَّقًا مَوْقُوفًا
(3)
.
* * *
هذان الحديثان اشتملا على هيئة الهويِّ من القيام إلى السُّجود، لكنَّهما متعارضان، فحديث أبي هريرة رضي الله عنه يدلُّ على وضع اليدين قبل الرُّكبتين، وحديث وائلٍ رضي الله عنه يدلُّ على تقديم الرُّكبتين قبل اليدين.
ولذلك اختلف العلماء، فذهب الأكثر إلى حديث وائلٍ رضي الله عنه، فقالوا بتقديم الرُّكبتين على اليدين، وقالوا: إنَّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه مقلوبٌ، وإنَّ أصله:«وَلْيَضَعْ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ» بدليل حديث وائلٍ رضي الله عنه؛ ولأنَّ تقديم اليدين قبل الرُّكبتين لا يناسب قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ» ، فإنَّ البعير يقدِّم يديه، فيناقض آخر الحديث أوَّله.
وذهب آخرون إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تقديم اليدين قبل الرُّكبتين، قالوا: لأنَّه أقوى من حديث وائلٍ رضي الله عنه؛ لأنَّ له شاهدًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهم كما ذكر المصنِّف، ومنعوا دعوى القلب، قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ» : إنَّه يتضمَّن النَّهي عن تقديم الرُّكبتين وشبَّه ذلك ببروك البعير؛ لأنَّ ركبتي البعير في يديه.
(1)
أبو داود (840)، والتِّرمذيُّ (269)، والنَّسائيُّ (1090).
(2)
أبو داود (838)، والتِّرمذيُّ (268)، والنَّسائيُّ (1088)، وابن ماجه (882).
(3)
رواه ابن خزيمة (627)، والبخاريُّ معلقًا (1/ 159).
فتبيَّن أنَّ مسلك أهل القول الأوَّل هو الجمع بين الحديثين، ومسلك أهل القول الثَّاني هو التَّرجيح لحديث أبي هريرة رضي الله عنه على حديث وائلٍ رضي الله عنه، بل ضعَّفوه وزعم بعضهم أنَّه باطلٌ.
والصَّواب: أنَّ حديث وائلٍ رضي الله عنه له شاهدٌ من حديث أنسٍ رضي الله عنه عند الحاكم
(1)
وغيره
(2)
، فيقوى بذلك، ويؤيِّده ما جاء عن عددٍ من الصَّحابة أنَّهم كانوا يقدِّمون الرُّكبتين قبل اليدين
(3)
، وإلى هذا ذهب كثيرٌ من أئمَّة الحديث كأحمد وإسحاق رحمهما الله.
وذهب بعض أهل العلم إلى التَّخيير؛ لتكافؤ الأدلَّة.
وعلى كلٍّ فالأمر واسعٌ، ومثل هذه المسألة لا ينبغي التَّشدُّد فيها، ولا ريب أنَّ تقديم الرُّكبتين قبل اليدين في السُّجود هو المناسب؛ لأنَّ به ترتيب أعضاء السُّجود، فيضع المصلِّي ركبتيه فيديه فجبهته، وعند النُّهوض بالعكس، والله أعلم.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه فوائد، منها:
1 -
النَّهي -عند السُّجود من قيامٍ- عن بروكٍ كبروك البعير، قيل: معناه تقديم اليدين، وقيل: معناه تقديم الرُّكبتين، فعلى الأوَّل يوافق آخر الحديث أوَّله، وتكون الجملة الثَّانية مؤكِّدةً ومفسِّرةً للجملة الأولى، وعلى المعنى الثَّاني يكون آخر الحديث مخالفًا لأوَّله، ولهذا قال من قال: إنَّه انقلب على الرَّاوي، وإنَّ أصل الحديث:«وَلْيَضَعْ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ» .
(1)
المستدرك (822) وقال الحاكم: «هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة ولم يخرجاه» . اه.
(2)
البيهقي في السنن الكبرى (2464).
(3)
ينظر: صحيح ابن خزيمة (628)، والسنن الكبرى للبيهقي (2464) ومعرفة السنن والآثار للبيهقي (884).
2 -
النَّهي عن التَّشبُّه بالحيوان في الصَّلاة كما جاء في مواضع: عن نقرٍ كنقر الغراب، والتفاتٍ كالتفات الثَّعلب، وانبساطٍ كانبساط الكلب.
3 -
بيان الرَّسول صلى الله عليه وسلم لهيئة الصَّلاة في جميع أفعالها.
4 -
أنَّ المصلِّي يضع يديه قبل ركبتيه، كما تفيده الجملة الثَّانية.
5 -
أنَّ المصلِّي يضع ركبتيه قبل يديه كما تفيده الجملة الأولى عند الأكثر.
وفي حديث وائلٍ فوائد، منها:
6 -
بيان هيئة السُّجود من قيامٍ، وذلك بوضع الرُّكبتين قبل اليدين.
7 -
بيان النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لهيئات أفعال الصَّلاة بفعله، ويدخل ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:«صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُوني أُصَلِّي»
(1)
.
8 -
حرص الصَّحابة رضي الله عنهم على معرفة هديه صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة وغيرها من العبادة، ونقلهم ذلك للأمَّة.
* * * * *
(352)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا قَعَدَ لِلتَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَالْيُمْنَى عَلَى الْيُمْنَى وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ، وَأَشَارَ بِإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(353)
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا، وأَشَارَ بِالّتِي تَلِي الإبْهَامَ»
(2)
.
* * *
هذا الحديث فيه بيانٌ لشيءٍ من هيئة الجلوس للتَّشهُّد في الصَّلاة.
(1)
سيأتي برقم (373).
(2)
مسلمٌ (580).
وفيه فوائد، منها:
1 -
وضع اليد اليسرى على الرُّكبة اليسرى في جلوس التَّشهُّد، وجاء في غير هذا الحديث:«على فخذه اليسرى»
(1)
، ولا منافاة بينهما.
2 -
وضع اليد اليمنى على الرُّكبة اليمنى في جلسة التَّشهُّد أو على فخذه اليمنى كما ورد في غير هذا الحديث
(2)
.
3 -
قبض ثلاثة الأصابع: الخنصر والبنصر والوسطى، والإشارة بالسَّبَّابة، وهو معنى «عقد ثلاثةً وخمسين» ، وقيل: معنى ثلاثةً وخمسين؛ أن يقبض الخنصر والبنصر ويحلِّق الوسطى مع الإبهام.
4 -
تقييد هذه الهيئة بما فيها من عقد الأصابع والإشارة بجلسة التَّشهُّد، وإلى هذا ذهب الأكثر.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّها لا تختصُّ بجلسة التَّشهُّد، بل تكون في الجلسة بين السَّجدتين أيضًا.
* * * * *
(354)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: الْتَفَتَ إلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: التَّحِيَّاتُ للهِ، والصَّلَوَاتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ الله الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ، فَيَدْعُو» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(355)
وَلِلنَّسَائِيِّ: «كُنَّا نَقُولُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْنَا التَّشَهُّدُ»
(4)
.
(356)
وَلأَحْمَدَ: «أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ النَّاسَ»
(5)
.
(1)
رواه مسلمٌ (579)، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.
(2)
المصدر السابق.
(3)
البخاريُّ (831، 835)، ومسلمٌ (402).
(4)
النَّسائيُّ (1276).
(5)
أحمد (3562).
(357)
وَلِمُسْلِمٍ: عَنِ ابْنِ عَباسٍ رضي الله عنهم قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ: «التَّحِيَّاتُ المُبَارَكَاتُ الصَّلَواتُ الطَّيِّبَاتُ للهِ
…
»
(1)
إِلَى آخرِهِ.
* * *
حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه هذا أصحُّ حديثٍ وأتمُّ حديثٍ في التَّشهُّد، وهو الأصل في وجوبه، ويشهد له حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم.
وفيه فوائد، منها:
1 -
وجوب التَّشهُّد في الصَّلاة بأيِّ نوعٍ من أنواع التَّشهُّد الوارد، وأولاها ما رواه ابن مسعودٍ رضي الله عنه.
ومحلُّ التَّشهُّد في الجلوس بعد كلِّ ركعتين، وفي الرَّكعة الأخيرة من الصَّلاة، كما قالت عائشة رضي الله عنها:«وكان يقول في كلِّ ركعتين التَّحيَّة» وتقدَّم
(2)
. ولهذا كان في الصَّلاة الثُّلاثيَّة والرُّباعيَّة تشهُّدان.
فأمَّا التَّشهُّد الأوَّل فقيل: إنَّه واجبٌ، ويسقط بالسَّهو، ويجبر بسجدتين قبل السَّلام كما سيأتي في حديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه في باب سجود السَّهو.
وقيل: التَّشهُّد الأوَّل سنَّةٌ؛ لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أتى بالسُّجود بدلاً عنه؛ لجبر الصَّلاة، ولا يلزم من ذلك وجوبه.
وأمَّا التَّشهُّد الَّذي قبل السَّلام فإنَّه فرضٌ؛ لقول ابن مسعودٍ رضي الله عنه: «كنَّا نقول قبل أن يفرض علينا التَّشهُّد
…
» وذكره. وفي روايةٍ: «فإذا فعل ذلك فقد تمَّت صلاته»
(3)
، وهذا يدلُّ على أنَّ المراد به التَّشهُّد الأخير.
2 -
الثَّناء على الله بما يستحقُّه من التَّحيَّات -وهي: التَّعظيمات- والصَّلوات -وهي شاملةٌ للفرض والنَّفل- والطَّيِّبات -وهي: الأعمال الصَّالحة قوليَّةً أو فعليَّةً-، وفي الحديث الصَّحيح:«إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا»
(4)
.
(1)
مسلمٌ (403).
(2)
تقدَّم برقم (305).
(3)
أبو داود (857).
(4)
رواه مسلمٌ (1015)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 -
أنَّ الله سبحانه هو المستحقُّ لكلِّ أنواع التَّعظيم.
4 -
وجوب الإخلاص لله تعالى في الصَّلاة وغيرها؛ وذلك بأن يبتغي بها وجه الله، ولا تكون مقبولةً إلَّا كذلك.
5 -
وجوب السَّلام على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا التَّشهُّد بالصِّيغة المذكورة.
6 -
الدُّعاء للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالسَّلامة والرَّحمة والبركة، وتقديم السَّلام على الرَّحمة والبركة يرجع إلى معنى أنَّ التَّخلية قبل التَّحلية.
7 -
مشروعيَّة السَّلام على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، وبلفظ الخطاب، لقوله:«أَيُّهَا النَّبِيّ» وقد جاء عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّه لمَّا مات النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: «السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ»
(1)
وهذا اجتهادٌ منه رضي الله عنه، والصَّواب: لزوم اللَّفظ الَّذي علَّمه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه وكانوا يقولونه في حياته صلى الله عليه وسلم وهم غائبون عنه، وهو لا يسمعهم.
8 -
وجوب سلام المصلِّي على نفسه في هذا التَّشهُّد وعلى جميع عباد الله الصَّالحين من الملائكة والإنس والجنِّ، كما يدلُّ لهذا العموم قوله صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» متَّفقٌ عليه
(2)
.
9 -
أنَّ الأصل في اللَّفظ العامِّ أن يشمل جميع أفراده؛ لقوله: «فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» .
10 -
أنَّ اللَّفظ المضاف والمحلَّى ب (أل) الَّتي للجنس من صيغ العموم، لقوله:«عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ» .
11 -
فضل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على جميع عباد الله الصَّالحين؛ لتخصيصه بالسَّلام وتقديمه عليهم وعلى النَّفس.
12 -
مشروعيَّة الدُّعاء للمؤمنين مع دعاء الإنسان لنفسه، وهذا من أنواع الإحسان إلى الغير، كما جاء في الاستغفار {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد: 19].
(1)
رواه البخاريُّ (6265).
(2)
البخاريُّ (6230)، ومسلمٌ (402).
13 -
مشروعيَّة البداءة بالنَّفس في الدُّعاء العامِّ.
14 -
وجوب ذكر الشَّهادتين في هذا التَّشهُّد.
15 -
فضل هذا التَّشهُّد لما اشتمل عليه من تعظيم الله وتوحيده والشَّهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم بالعبوديَّة والرِّسالة والسَّلام عليه وعلى جميع عباد الله الصَّالحين.
16 -
أنَّ توحيد الله لا يتحقَّق إلَّا بالنَّفي والإثبات؛ نفي الإلهيَّة عمَّا سوى الله وإثباتها له وحده.
17 -
أنَّ الاعتقاد في الرَّسول صلى الله عليه وسلم هو الشَّهادة له بالعبوديَّة والرِّسالة، خلافًا لأهل الغلوِّ والجفاء في حقِّه صلى الله عليه وسلم.
18 -
مشروعيَّة الدُّعاء بعد هذا التَّشهُّد، وأولى ذلك -بعد الصَّلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: الاستعاذة بالله من أربعٍ، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إِذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ؛ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»
(1)
.
19 -
جواز ذكر الرَّسول صلى الله عليه وسلم بلفظ الخطاب نحو: (الصَّلاة والسَّلام عليك يا رسول الله) و (بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله) ما لم يخش توهُّم السَّامع دعاء الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
20 -
افتقار الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه عز وجل.
21 -
أنَّ العباد منهم الصَّالح وغير الصَّالح، وحقيقة الصَّلاح الإيمان والتَّقوى.
22 -
تأكيد الإقرار لله بالتَّوحيد ولنبيِّه بالعبوديَّة والرِّسالة، وذلك لقوله:«أَشْهَدُ» في الموضعين.
23 -
أنَّ التَّوحيد نفي الإلهيَّة عمَّا سوى الله وإثباتها له سبحانه.
24 -
وجوب إخلاص العبادة لله؛ لأنَّ ذلك مقتضى شهادة أن لا إله إلَّا الله.
(1)
سيأتي برقم (361).
25 -
علوُّ قدر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وشرفه، حيث وصف بالعبوديَّة الخاصَّة وبالرِّسالة وقرنت الشَّهادة له بذلك بالشَّهادة لله بالتَّوحيد.
26 -
في وصف الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالعبوديَّة والرِّسالة ردٌّ على أهل الغلوِّ والجفاء.
27 -
وجوب اتِّباع الرَّسول صلى الله عليه وسلم وتحريم الابتداع في الدِّين؛ لأنَّ ذلك مقتضى أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
28 -
جواز الدُّعاء بعد التَّشهُّد بما يحبُّ الإنسان من خير الدُّنيا والآخرة.
29 -
أنَّ من مواضع الدُّعاء والإجابة دبر الصَّلاة وقبل السَّلام.
30 -
عظم شأن هذا الذِّكر (التَّشهُّد)، لقوله:«كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن»
(1)
(2)
.
31 -
الوصيَّة لمن تعلَّم علمًا أن يعلِّمه النَّاس، وهو من تبليغ الشَّرع الَّذي قال فيه الرَّسول صلى الله عليه وسلم:«فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»
(3)
.
32 -
إثبات الإجازة في الرِّواية.
* * * * *
(358)
عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ، لَمْ يَحْمَدِ اللهَ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيّ، فَقَالَ:«عَجِلَ هَذَا» ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ:«إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ
(4)
.
* * *
(1)
رواه مسلمٌ (403).
(2)
أحمد (3562).
(3)
رواه البخاريُّ (7078)، ومسلمٌ (1679).
(4)
أحمد (23937)، وأبو داود (1481)، والتِّرمذيُّ (3477)، والنَّسائيُّ (1283)، وابن حبان (1960)، والحاكم (843).
هذا الحديث أصلٌ في افتتاح الدُّعاء بحمد الله والصَّلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفيه فوائد، منها:
1 -
جواز الجهر بالذِّكر في الصَّلاة لقوله: «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته» .
2 -
البداءة في الدُّعاء في الصَّلاة بحمد الله والصَّلاة على رسول الله، والظَّاهر: أنَّ محلَّ هذا هو التَّشهُّد، فيدلُّ على وجوب التَّشهُّد والصَّلاة على الرَّسول صلى الله عليه وسلم، ويكون المراد بحمد الله هو قوله: «التَّحِيَّاتُ للهِ
…
» إلخ، وأمَّا دعاء الاستفتاح أو في السُّجود أو بين السَّجدتين فلا يقول أحدٌ بمشروعيَّة افتتاحها بالحمد والصَّلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
3 -
وجوب التَّشهُّد والصَّلاة على الرَّسول صلى الله عليه وسلم قبل الدُّعاء الَّذي قبل السَّلام، أمَّا الدُّعاء قبل التَّشهُّد فهو استعجالٌ منهيٌّ عنه.
4 -
أنَّ الدُّعاء قبل التَّشهُّد لا يبطل الصَّلاة.
5 -
مشروعيَّة تعليم الجاهل.
6 -
ترك المسيء في صلاته حتَّى يفرغ فيعلَّم.
* * * * *
(359)
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَرَنَا اللهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ:«قُولُوا: اللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَالسَّلَامُ كَمَا عَلِمْتُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(360)
وَزَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِيهِ: «فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ، إذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ فِي صَلَاتِنَا؟»
(1)
.
* * *
(1)
مسلمٌ (405)، وابن خزيمة (711).
هذا أحد الأحاديث الدَّالَّة على صفة الصَّلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة، وتعرف بالصَّلاة الإبراهيميَّة لذكر إبراهيم عليه السلام فيها، وقد روى الصَّلاة الإبراهيميَّة جمعٌ من الصَّحابة رضي الله عنهم بألفاظٍ مختلفةٍ، منها هذا الحديث واتَّفقت معظم الرِّوايات الصَّحيحة على ذكر محمَّدٍ وآل محمَّدٍ في الصَّلاة والتَّبريك، واختلفت في ذكر إبراهيم وآل إبراهيم، ففي بعضها ذكر إبراهيم، وفي بعضها ذكر آل إبراهيم، وفي بعضها الجمع بينهما.
وقد تنازع النَّاس في حكم الصَّلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة؛ فذهب الجمهور إلى أنَّها سنَّةٌ وليست واجبةً، وذهب جمعٌ من العلماء إلى القول بالوجوب، بل قال بعضهم: إنَّها ركنٌ في التَّشهُّد الأخير، وروي القول بالوجوب عن جماعةٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم على ما ذكر الشَّوكانيُّ
(1)
.
والقول بالوجوب دون الرُّكنيَّة هو أوسط المذاهب وأقربها للصَّواب، والله أعلم.
ولا يظهر من الأدلَّة اختصاص الصَّلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالتَّشهُّد الأخير؛ لأنَّ الصَّلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قرينة السَّلام عليه في الآية، وقد ذكر السَّلام عليه صلى الله عليه وسلم في التَّشهُّد الَّذي علَّمه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم فلمَّا سألوه عن كيفيَّة الصَّلاة عليه صلى الله عليه وسلم وعلَّمهم إيَّاها قال:«وَالسَّلَامُ كَمَا عَلِمْتُمْ» كما في حديث أبي مسعودٍ رضي الله عنه هذا.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
حرص الصَّحابة رضي الله عنهم على العلم.
2 -
الرُّجوع في معرفة الشَّرع إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
3 -
فضل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وآله، وفضل إبراهيم عليه السلام وآله.
(1)
ينظر: «نيل الأوطار» (4/ 360).
4 -
أنَّ صلاة المؤمنين على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم دعاؤهم أن يصلِّي الله عليه، وصلاته تعالى على نبيِّه هو الثَّناء عليه؛ كما قال أبو العالية:«الصَّلاة من الله ثناؤه على عبده، وصلاة الملائكة الدُّعاء»
(1)
وهو سؤال الله أن يصلِّي عليه، كما تقدَّم.
5 -
جواز ذكر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم باسمه العلم «محمَّدٍ» في مقام الصَّلاة عليه.
6 -
أنَّه لا يشرع وصفه بالسَّيِّد في الصَّلاة عليه في الصَّلاة.
7 -
مشروعيَّة التَّبريك على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وآله في الصَّلاة.
8 -
مشروعيَّة الصَّلاة والتَّبريك على إبراهيم وآله في الصَّلاة.
9 -
جواز الاقتصار على ذكر إبراهيم دون الآل، وعلى ذكر الآل دون إبراهيم، وجواز الجمع بينهما.
10 -
إثبات اسمين من أسمائه تعالى (الحميد) و (المجيد)، وما دلَّا عليه من صفتي الحمد والمجد، و «حَمِيدٌ» ؛ بمعنى محمودٍ، و «مَجِيدٌ»؛ أي: ذو مجدٍ، وهو الرِّفعة والشَّرف وكمال الأوصاف، ومعنى «بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ»؛ أي: اجعل البركة عليه، وأسبغها عليه.
11 -
مناسبة ذكر هذين الاسمين.
12 -
أنَّ المطلوب من الصَّلاة والبركة هو من آثار هذين الاسمين.
13 -
أنَّ أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم (محمَّدٌ)، وهو علمٌ وصفةٌ.
14 -
تشبيه الصَّلاة على النَّبيِّ وآله بالصَّلاة على إبراهيم وآله، وكذا التَّبريك، وذلك في الكيفيَّة والكمِّيَّة، وقد قيل: إنَّ هذا يقتضي تفضيل إبراهيم على محمَّدٍ صلَّى الله عليهما وسلَّم في أمر الصَّلاة، على قاعدة أنَّ المشبَّه به أمكن في الوصف من المشبَّه، وهو مشكلٌ على ما هو متقرِّرٌ من فضل محمَّدٍ
(1)
حكاه البخاريُّ (3/ 280)، في باب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56].
صلى الله عليه وسلم على إبراهيم صلى الله عليه وسلم، لذلك احتاج من قال بذلك إلى الجواب عنه، فطوَّلوا الكلام، وعندي أنَّه يرفع هذا الإشكال أن يقال: إنَّ الكاف للتَّعليل أو التَّشبيه في مطلق الوصف بقطع النَّظر عن الكمِّيَّة والكيفيَّة.
* * * * *
(361)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ أَرْبَعٍ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، ومِنْ عَذَابِ القَبْرِ، ومِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(362)
وفِي رِوَايَةٍ لمسلمٍ: «إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُم مِنَ التَّشَهُّدِ الأَخِيرِ
…
».
(363)
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه أَنهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي قَالَ: «قلِ: اللهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، ولا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
* * *
هذان الحديثان تضمَّنا طلب الوقاية من جميع الشُّرور في الدُّنيا والآخرة، فهما من أنفع الأدعية ومن جوامع الدُّعاء.
وفيهما فوائد، منها:
1 -
مشروعيَّة الاستعاذة بالله من هذه الأربع بعد التَّشهُّد الأخير، وقيل: إنَّ هذا الدُّعاء واجبٌ لأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
أنَّ آخر الصَّلاة قبل السَّلام موضعٌ للدُّعاء، فيستحبُّ في هذا الموضع.
3 -
أنَّه لا يعيذ ولا يعصم من هذه الشُّرور إلَّا الله.
(1)
البخاريُّ (1377)، ومسلمٌ (588)، والذي في البخاريِّ هو من فعله صلى الله عليه وسلم وليس من قوله.
(2)
البخاريُّ (834)، ومسلمٌ (2704).
4 -
إثبات جهنَّم دار الكافرين، وأنَّها أعظم ما يحذر ويتَّقى؛ ولذلك بدأ بها.
5 -
إثبات عذاب القبر، واستحباب الاستعاذة بالله منه.
6 -
استحباب الاستعاذة بالله من فتنة المحيا والممات، والمراد: من شرِّهما، كما جاء في روايةٍ
(1)
، والمراد بفتنة المحيا: فتن الدُّنيا؛ من فتن الشَّهوات والشُّبهات، والمراد بفتنة الممات: فتنة الإنسان في قبره بسؤاله عن ربِّه ودينه ونبيِّه.
7 -
استحباب الاستعاذة بالله من المسيح الدَّجَّال، وهو الأعور الكذَّاب الَّذي يخرج في آخر الزَّمان، وفتنته هي الابتلاء به، وبما معه من الخوارق، وقد حذَّر منه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنذره أمَّته، ووَصَفَه.
8 -
فضل هذا الاستغفار الَّذي علَّمه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكرٍ، واستحبابه لا سيَّما في الصَّلاة.
9 -
فضل الاعتراف لله بظلم النَّفس.
10 -
أنَّ ذلك من أنواع الاستغفار.
11 -
أنَّه لا يغفر الذُّنوب إلَّا الله.
12 -
التَّوسُّل إلى الله بالإقرار بذلك في مغفرة الذُّنوب.
13 -
طلب الاستغفار بصيغة الطَّلب «اغفر لي» .
14 -
التَّواضع لله عند طلب المغفرة بأنَّ ذلك محض فضله، وذلك بقوله:«مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ» .
15 -
الجمع بين طلب المغفرة والرَّحمة، فبالمغفرة تكون النَّجاة من المرهوب، وبالرَّحمة يحصل الفوز بالمطلوب.
16 -
إثبات هذين الاسمين: «الْغَفُورُ» و «الرَّحِيمُ» لله تعالى، وما دلَّا عليه من صفتي المغفرة والرَّحمة له عز وجل.
(1)
وهي عند النَّسائيِّ (5520)، وابن حبان (1019)، وابن خزيمة (721).
17 -
التَّوسُّل إلى الله بأسمائه وصفاته.
18 -
أنَّ استغفار العبد ودعاءه ربَّه مقتضٍ فقره وظلمه لنفسه، ومقتضٍ أنَّ الله غفورٌ رحيمٌ.
19 -
فضل أبي بكرٍ رضي الله عنه وحرصه على العلم.
20 -
أنَّ سؤال العالم سببٌ لاستخراج علمه فينتفع به السَّائل وغيره.
21 -
أنَّ السُّؤال عن العلم غير مذمومٍ بل محمودٌ.
22 -
فضل الأدعية النَّبويَّة واستحباب معرفتها وحفظها.
* * * * *
(364)
وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ:«السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ» ، وَعَنْ شِمَالِهِ:«السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ
(1)
.
* * *
هذا الحديث أحد الأحاديث الدَّالَّة على مشروعيَّة التَّسليم من الصَّلاة، وقد روى ذلك جمعٌ من الصَّحابة رضي الله عنهم من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله، كما قال صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة:«تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ»
(2)
.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة التَّسليم من الصَّلاة، وبه يكون الخروج منها.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التَّسليم؛ لمداومته صلى الله عليه وسلم ولقوله: «وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، ولكنَّهم اختلفوا: هل الواجب تسليمتان أو تسليمةٌ واحدةٌ؟ ذهب الأكثر إلى الثَّاني.
(1)
أبو داود (997).
(2)
رواه أحمد (1006)، وأبو داود (61)، والتِّرمذيُّ (3)، وابن ماجه (275)، عن علي رضي الله عنه. وصحح المصنف إسناده في «فتح الباري» (2/ 322).
وذهب بعضهم إلى وجوب التَّسليمتين، وهذا هو الأقوى دليلاً، ولا سيَّما في الفريضة.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى عدم وجوب التَّسليم، فيمكن الخروج من الصَّلاة بأيِّ فعلٍ أو قولٍ منافٍ
(1)
.
2 -
مشروعيَّة التَّسليم عن اليمين وعن الشِّمال.
3 -
فضل اليمين للبداءة به.
4 -
مشروعيَّة الجمع في التَّسليم بين السَّلام والرَّحمة والبركة، لكنَّ أكثر من روى التَّسليم لا يذكر فيه «وبركاته» ، ولهذا قال بعض أهل العلم: إنَّ زيادة (وبركاته) شاذَّةٌ، ومنهم شيخنا الشَّيخ عبد العزيز بن بازٍ رحمه الله
(2)
، وعدَّها بعضهم من تنوُّع الذِّكر، وهذا التَّسليم هو سلامٌ على الملائكة والمصلِّين، فينبغي للمصلِّي أن ينوي به ذلك والخروج من الصَّلاة.
5 -
عظم شأن الصَّلاة حيث افتتحت بالذِّكر وختمت به.
6 -
اشتمال التَّسليم على جماع الخير، وهو السَّلامة من الأضرار والمكروهات، والظَّفر بالمنافع والمحبوبات.
* * * * *
(365)
عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: «لَا إِلهَ إِلَّا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
* * *
(1)
ينظر: «بدائع الصنائع» للكاساني (1/ 58).
(2)
ينظر: «حاشية سماحة الشيخ عبد العزيز بن بازٍ على البلوغ» (238).
(3)
البخاريُّ (844)، ومسلمٌ (593).
هذا من أصحِّ الأحاديث في الذِّكر بعد الصَّلاة، وقد كتب به المغيرة إلى معاوية رضي الله عنهم، وقد اشتمل على أفضل الذِّكر «لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له» كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيّونَ مِنْ قَبْلِي: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
(1)
.
والمراد بدبر الصَّلاة في هذا الحديث وأمثاله: ما بعد السَّلام، وقد تضمَّنت جمل الحديث النَّصَّ على نوعي التَّوحيد؛ توحيد الإلهيَّة، و توحيد الرُّبوبيَّة، ممَّا يدلُّ على عظم شأن هذا الذِّكر.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مداومته صلى الله عليه وسلم على هذا الذِّكر بعد كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ.
2 -
استحباب هذا الذِّكر وتأكُّده بعد كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ.
3 -
بطلان كلِّ معبودٍ سوى الله.
4 -
إثبات الإلهيَّة لله وحده.
5 -
وجوب إفراده تعالى بالعبادة.
6 -
تحريم الشِّرك.
7 -
مشروعيَّة تأكيد ما تضمَّنته كلمة التَّوحيد لقوله: «وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ» ، ف «وحده» تأكيد الإثبات، و «لا شريك له» تأكيد النَّفي.
8 -
إثبات تمام الملك وعمومه له سبحانه.
9 -
إثبات الحمد كلِّه له سبحانه.
10 -
إثبات الحكمة لله في خلقه وأمره.
(1)
رواه مالكٌ في «الموطأ» (572) إلى قوله «لا شريك له» ، مرسلاً عن عبيد الله بن كريز، والتِّرمذيُّ (3585) عن عمرو بن شعيبٍ بتمامه. وحسَّنه الألبانيُّ بمجموع طرقه وشواهده في «الصحيحة» (1503).
11 -
إثبات قدرته سبحانه وتعالى على كلِّ شيءٍ لقوله: «وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
12 -
إثبات تفرُّده سبحانه بالعطاء والمنع، ففيه شاهدٌ لقوله تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2]، وقوله:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد (36) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون (38)} [الزمر: 36 - 37].
13 -
أنَّه لا ينجي أحدًا ممَّا أراده الله به من سوءٍ؛ قوَّةٌ ولا مالٌ ولا سلطانٌ.
14 -
كمال قدرته سبحانه وتعالى، وكمال عجز الخلق، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
15 -
أنَّ الحظوظ من المال والسُّلطان لا تمنع صاحبها ممَّا أراده الله به ولا تنجيه من عذابه، فالجدُّ هو: الحظُّ، وقوله:«وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» ؛ أي: لا ينفع ذا الحظِّ منك حظُّه. وقد ضمِّن فعل «يَنْفَعُ» معنى ينجِّي ويخلِّص.
16 -
وجوب التَّوكُّل على الله في جميع الأمور وتعليق القلب به عز وجل خوفًا ورجاءً.
* * * * *
(366)
عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَال: إنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَان يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلاةِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(1)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (2822).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ من هديه صلى الله عليه وسلم التَّعوُّذ بالله من هذه المذكورات دبر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ.
2 -
استحباب هذا التَّعوُّذ دبر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ أسوةً بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
والدُّبر في هذا الحديث يحتمل أن يراد به آخر الصَّلاة قبل السَّلام؛ لأنَّه موضع الدُّعاء، ورجَّح ذلك شيخ الإسلام ابن تيميَّة.
ويحتمل أن يراد به ما بعد السَّلام كما جاء في أحاديث الذِّكر بعد الصَّلاة كحديث المغيرة رضي الله عنه المتقدِّم وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي وغيرهما، والأمر محتملٌ.
3 -
استحباب تكرار فعل التَّعوُّذ مع كلِّ هذه المذكورات.
4 -
ذمُّ البخل والجبن، واستحباب التَّعوُّذ منهما، والجبن هو: البخل بالنَّفس في مواضع البذل، فهو أخصُّ من البخل.
5 -
استحباب الاستعاذة بالله من الهرم، وهو أرذل العمر؛ لأنَّه يفقد به الإنسان عقله، فيفقد ما كان قد علمه، فلا يعلم حينئذٍ شيئًا، كما قال تعالى:{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5].
6 -
استحباب التَّعوُّذ من فتنة الدُّنيا، والمراد: جميع فتنها؛ فتن الشَّهوات والشُّبهات.
7 -
استحباب الاستعاذة بالله من عذاب القبر.
8 -
إثبات عذاب القبر.
9 -
افتقار الرَّسول صلى الله عليه وسلم إلى ربِّه، وحاجته إلى عصمته والوقاية من الشُّرور.
* * * * *
(367)
عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ اللهَ ثَلَاثًا، وَقَالَ:«اللهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
هذا الحديث يدلُّ ظاهره على أوَّل دعاءٍ وذكرٍ بعد السَّلام من الصَّلاة المكتوبة.
وفيه فوائد، منها:
1 -
مداومته صلى الله عليه وسلم على هذا الذِّكر بعد الصَّلاة.
2 -
استحباب البداءة بالذِّكر بعد الصَّلاة بما جاء في هذا الحديث قبل الانصراف عن القبلة، كما صرِّح بذلك في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلمٍ
(2)
.
3 -
مشروعيَّة الاستغفار ثلاثًا بعد الصَّلاة إمَّا بلفظ: (أستغفر الله) أو (اللَّهمَّ اغفر لي).
4 -
الجمع بين الدُّعاء والثَّناء على الله.
5 -
السِّرُّ في تقديم الاستغفار على الثَّناء في هذا الموضع -والله أعلم- هو استشعار التَّقصير في الصَّلاة، ولذا شرع ختم العمل به في قيام اللَّيل والحجِّ والصَّلاة كما في هذا الحديث.
6 -
إثبات اسم الله «السَّلام» ، ووصفه بمعناه، والتَّوسُّل به.
7 -
مشروعيَّة طلب السَّلامة من جميع الشُّرور.
8 -
أنَّ السَّلامة لا تطلب إلَّا من الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّه مالكها وحده كما يفيده الحصر بتقديم الجارِّ والمجرور «وَمِنْكَ السَّلامُ» .
(1)
مسلمٌ (591).
(2)
مسلمٌ (592)، وهو قولها رضي الله عنها:«كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم لم يقعد إلَّا مقدار ما يقول: «اللَّهمَّ أنت السَّلام ومنك السَّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» ».
9 -
الثَّناء على الله بالبركة، وهي كثرة الخير الَّتي لا نهاية لها، وبركته تعالى ذاتيَّةٌ كما يدلُّ لذلك فعل «تبارك» ، وهذا الفعل لا يسند إلَّا إلى الله أو إلى اسمه؛ {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين (14)} [المؤمنون: 14]، {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإِكْرَام (78)} [الرحمن: 78]، وهو تعالى يجعل البركة فيمن شاء وما شاء.
10 -
وصفه تعالى بالجلال، وهو العظمة.
11 -
وصفه تعالى بالإكرام؛ لأنَّه الَّذي يكرم أولياءه، ويحتمل أنَّ ذا الجلال والإكرام؛ أي: المستحقُّ للإجلال والإكرام؛ بتعظيمه وتوحيده وطاعته.
12 -
أنَّ زيادة: «وَتَعَالَيْتَ» بعد: «تَبَارَكْتَ» بدعةٌ؛ أي: في هذا الموضع.
* * * * *
(368)
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللهَ ثَلَاثًا وثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ، وَقَالَ تَمَامَ المئَةِ: لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لهُ المُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ لَهُ خَطَايَاهُ، وإن كَانتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(369)
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «أَنَّ التَّكْبِيرَ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ»
(2)
.
* * *
مضمون هذا الحديث هو: ما أرشد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الفقراء إليه، حين شكوا إليه سبق الأغنياء لهم بالصَّدقة بفضول أموالهم، وأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنَّهم إذا فعلوا ذلك
(1)
مسلمٌ (597).
(2)
رواه مسلمٌ (596)؛ من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، ولفظ الحديث:«مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ -أَوْ فَاعِلُهُنَّ- دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَة» .
سبقوا غيرهم ولم يسبقهم إلَّا من فعل مثل فعلهم، وهذا الذِّكر من أصحِّ ما ورد من الذِّكر بعد الصَّلاة.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استحباب هذا الذِّكر بعد كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ.
2 -
استحباب المواظبة عليه.
3 -
فضل هذا الذِّكر.
4 -
أنَّ المواظبة عليه سببٌ لمغفرة الذُّنوب، فيدخل في قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
5 -
فضل هذه الكلمات الثَّلاث؛ فإنَّ معنى «سَبَّحَ اللهَ» ، «وَحَمِدَ اللهَ» ، «وَكَبَّرَ اللهَ»؛ أي قال: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وأكثر الأذكار مداره عليها مع كلمة لا إله إلَّا الله، وقد فسِّرت بها الباقيات الصَّالحات، وأدلَّة فضلهنَّ كثيرةٌ كقوله صلى الله عليه وسلم:«لَأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ ولا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ»
(1)
، وقد ورد الذِّكر بهنَّ دبر كلِّ صلاةٍ.
6 -
اعتبار العدد المنصوص من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم دون زيادةٍ أو نقصٍ في حصول القدوة وترتُّب الجزاء.
7 -
تنزيه الله عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، وهو معنى (سبحان الله).
8 -
إثبات الحمد كلِّه لله، وإثبات جميع صفات الكمال، وهو معنى (الحمد لله).
9 -
أنَّ الله أكبر من كلِّ شيءٍ، وهو معنى (الله أكبر).
10 -
توضيح المعاني بالتَّمثيل والتَّشبيه بالمحسوس؛ لقوله: «وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» .
(1)
رواه مسلمٌ (2695)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
11 -
أنَّ صفة هذا الذِّكر بالبداءة بالتَّسبيح مفردًا بعددٍ، ثمَّ التَّحميد ثمَّ التَّكبير، ويجوز جمع الكلمات الثَّلاث؛ لقوله في الحديث الآخر:«تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» .
* * * * *
(370)
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:«أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ؛ لا تَدَعَنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ
(1)
.
* * *
هذا الحديث من أشهر الأحاديث الواردة في الدُّعاء دبر الصَّلوات وهذا الدُّعاء من أجمع الدَّعوات وأنفعها.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضيلة معاذٍ رضي الله عنه؛ حيث نوَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمحبَّته له، بقوله صلى الله عليه وسلم -كما جاء في أصل الحديث-:«يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ» ، وبتخصيصه بحمل هذه الوصيَّة.
2 -
فضل هذا الدُّعاء.
3 -
استحباب هذا الدُّعاء دبر كلِّ صلاةٍ، وهو محتملٌ أن يكون محلُّه قبل السَّلام أو بعد السَّلام، ورجَّح بعضهم أنَّ محلَّه قبل السَّلام؛ لأنَّه موضعٌ للدُّعاء.
4 -
مشروعيَّة الاستعانة بالله.
5 -
أنَّ أفضل ما تكون الاستعانة بالله على محابِّه.
6 -
فقر العبد إلى ربِّه في القيام بعبادته وطاعته.
7 -
الفرق بين الذِّكر والشُّكر، فالذِّكر: ما شرعه الله تعالى من الثَّناء عليه وتعظيمه بالقلب واللِّسان، والشُّكر: هو القيام بما شرع الله تعالى في مقابل
(1)
أحمد (22119)، وأبو داود (1522)، والنَّسائيُّ (1302).
إنعامه؛ من طاعته وعبادته قولاً وفعلاً ظاهرًا وباطنًا، قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُون (152)} [البقرة: 152].
8 -
أنَّ حسن العبادة من أهمِّ المطالب، وحسنها يكون بتحقيق الإخلاص لله والمتابعة للرَّسول صلى الله عليه وسلم.
9 -
تفاضل النَّاس في العبادة.
10 -
التَّنبيه على الأمور المهمَّة؛ بتقديم ما يدلُّ على ذلك؛ لقوله: «يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ» ، وقوله:«أُوصِيكَ» ، وفي روايةٍ أنَّه أخذ بيده.
* * * * *
(371)
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْمَوْتُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
(372)
وَزَادَ فِيهِ الطَّبَرَانِيُّ: وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} [الإخلاص]
(2)
.
* * *
هذا الحديث من أدلَّة فضل آية الكرسيِّ و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} فأمَّا «آية الكرسيِّ» فقد ثبت في الصَّحيح أنَّها أعظم آيةٍ في كتاب الله
(3)
، وأنَّ من قرأها في ليلةٍ لم يزل عليه من الله حافظٌ، ولا يقربه شيطانٌ
(4)
، وأمَّا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} فقد ثبت في الصَّحيح أنَّها تعدل ثلث القرآن
(5)
، وقد كان النَّبيُّ
(1)
النَّسائيُّ في «الكبرى» (9848)، والطبرانيُّ في «المعجم الكبير» (7532). وصحَّحه المنذريُّ في «الترغيب» (2329) وعزاه إلى ابن حبان في كتاب (الصلاة) المفرد، ولم يخرجه في «صحيحه» .
(2)
«المعجم الكبير» (7532)، وأنكر الطبرانيُّ هذه الزيادة، وصحَّحها المنذريُّ في «الترغيب» (2/ 261) والهيثميُّ في «مجمع الزوائد» (10/ 102).
(3)
رواه مسلمٌ (810) عن أبيّ بن كعبٍ رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاريُّ (2311) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
رواه البخاريُّ (5015)، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، ومسلمٌ (811)، عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه.
صلى الله عليه وسلم يقرأ بها بعد الفاتحة في الوتر
(1)
وفي الرَّكعة الثَّانية من ركعتي الفجر
(2)
، وركعتي الطَّواف
(3)
.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استحباب قراءة آية الكرسيِّ دبر كلِّ صلاةٍ.
2 -
فضل آية الكرسيِّ.
3 -
استحباب قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} .
4 -
فضل هذه السُّورة، وفضل هذه الآية والسُّورة راجعٌ إلى ما تضمَّنتا من توحيد الله وأسمائه وصفاته وتنزيهه.
5 -
أنَّ المواظبة على قراءتهما دبر كلِّ صلاةٍ من أسباب دخول الجنَّة.
6 -
أنَّ دخول الجنَّة لا يكون إلَّا بعد الموت.
7 -
إثبات وجود الجنَّة.
* * * * *
(373)
عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(4)
.
* * *
(1)
رواه التِّرمذيُّ (462)، والنَّسائيُّ (1701)، عن ابن عباسٍ رضي الله عنه. قال التِّرمذيُّ:«وفي الباب عن عليٍّ وعائشة وعبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه عن أبي بن كعبٍ رضي الله عنه، ويروى عن عبد الرحمن بن أبزى رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم» . وصحَّح إسناده النوويُّ في «خلاصة الأحكام» (1885).
(2)
رواه مسلمٌ (726)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلمٌ (1218)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
(4)
البخاريُّ (631)، وقد تقدَّم أصل الحديث (216). وهذه الجملة المذكورة هنا في حديث مالكٍ رضي الله عنه هي جزءٌ منه، وقد انفرد بها البخاريُّ عن بقية أصحاب الكتب الستة.
هذا الحديث من جوامع الكلم، وهو يدلُّ على وجوب أخذ صفة الصَّلاة من صلاته صلى الله عليه وسلم، وهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم في الحجِّ:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ»
(1)
. وهذا الحديث هو ما وصَّى به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مالك بن الحويرث رضي الله عنه ومن معه حين وفدوا عليه صلى الله عليه وسلم فقال عند توديعهم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وقال: «وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» ، وقد أحسن المؤلِّف في وضعه هذا الحديث عقب أحاديث صفة الصَّلاة، فهو من حسن الختام.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ صلاته صلى الله عليه وسلم بما فيها من أقوالٍ وأفعالٍ بيانٌ لما أمر الله به من إقام الصَّلاة.
2 -
وجوب الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في صفة الصَّلاة.
3 -
بيان الأحكام بالأفعال.
* * * * *
(374)
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(2)
.
(375)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَرِيضٍ صَلَّى عَلَى وِسَادَةٍ، فَرَمَى بِهَا، وَقَالَ:«صَلِّ عَلَى الأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، وَإِلَّا فَأَوْمِ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ» . رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ، وَلَكِنْ صَحَّحَ أبو حَاتِمٍ وَقْفَهُ
(3)
.
* * *
هذان الحديثان من أحاديث صفة صلاة أهل الأعذار، وفي الحديث الأوَّل أنَّ عمران رضي الله عنه كان به بواسير، فسأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاة، فأمره بما جاء في هذا الحديث، والحديثان من أدلَّة تعليق الواجبات بالاستطاعة.
(1)
رواه مسلمٌ (1297)، عن جابرٍ رضي الله عنه.
(2)
البخاريُّ (1117).
(3)
البيهقيُّ في «الصغرى» (590)، وفي «الكبرى» (3669).
وفيهما فوائد، منها:
1 -
وجوب القيام في الصَّلاة مع القدرة في الفرض والنَّفل لإطلاق الحديث، لكن جاء ما يدلُّ على جواز القعود في النَّافلة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلِّي بعض صلاته في اللَّيل قاعدًا، وقال صلى الله عليه وسلم:«صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ»
(1)
واتَّفق العلماء على جواز صلاة النَّافلة من قعودٍ.
2 -
أنَّ من عجز عن القيام يصلِّي قاعدًا، ويسجد إن استطاع وإلَّا أومأ بالرُّكوع والسُّجود، ويجعل السُّجود أخفض من الرُّكوع.
3 -
جواز القعود على أيِّ صفةٍ كانت، والأفضل أن يكون متربِّعًا.
4 -
أنَّ من عجز عن القعود يصلِّي مضطجعًا على جنبه الأيمن أو الأيسر، والأيمن أفضل، قال الفقهاء: فإن لم يستطع فمستلقيًا ويومئ برأسه للرُّكوع والسُّجود، وقد جاء في روايةٍ تعزى إلى النَّسائيِّ:«وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا»
(2)
.
5 -
أنَّ من لم يستطع السُّجود يومئ، لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وأمَّا قوله:«وَإِلَّا فَأَوْمِ» فلم يثبت في الرِّواية
(3)
.
6 -
أنَّ من لا يستطيع السُّجود على الأرض لا يتَّخذ ما يسجد عليه من وسادةٍ ونحوها.
(1)
رواه مسلمٌ (735)، وأبو داود (950)، والنَّسائيُّ (1658)، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. واللفظ لغير مسلمٍ.
(2)
هذه الزيادة ليست في «الصُّغرى» ولا في «الكبرى» ، ولا في «تحفة الأشراف» ، وقد عزاها إلى النَّسائيِّ: الزيلعيُّ في «نصب الراية» (2/ 175)، والمصنف في «التلخيص الحبير» (1/ 407)، والمناويُّ في «فيض القدير» (4/ 198)، وغيرهم. وربما تكون هذه اللفظة من المفقود من «سنن النَّسائيِّ» ، والله أعلم.
(3)
مراد الشيخ حفظه الله؛ ما جاء في بعض نسخ (البلوغ) وفيه هذه الزيادة معزوةً إلى البخاريِّ من حديث عمران بن حصينٍ، وليست في البخاريِّ، كما أنَّها ليست في بقية نسخ (البلوغ)، ولذا لم نذكرها.
7 -
اليسر في أحكام الشَّريعة، كما قال تعالى:{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185].
8 -
أنَّ المرض لا يسقط وجوب الصَّلاة.
9 -
أنَّ المريض يصلِّي بحسب حاله.
10 -
عظم أمر الصَّلاة في الدِّين.
11 -
سؤال المسلم عمَّا أشكل عليه في أمر دينه.
* * * * *
بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ وَغَيْرِهِ
(السَّهو) و (النِّسيان) و (الذُّهول) و (الغفلة)؛ يظهر أنَّ النِّسيان أعمُّ منها كلِّها، فالنِّسيان: غياب الشَّيء عن الذِّهن بعد العلم به؛ سواءٌ ذكره أو لم يذكره، وسواءٌ كان حاضرًا أو متقدِّمًا.
والسَّهو: نوعٌ من النِّسيان لكنَّه يختصُّ بما هو قريبٌ.
والذُّهول: هو الغفلة عن الشَّيء مع حصوله في العلم.
والغفلة: عدم العلم بالشَّيء والشُّعور به للإعراض عنه، أو الذُّهول عنه بسبب مفاجأةٍ.
وكلُّ هذه الأحوال منها الممدوح والمذموم ودون ذلك بحسب أسبابه ومتعلَّقاته.
وممَّا ذكر من الفرق بين السَّهو والنِّسيان؛ أنَّ السَّهو -لتعلُّقه بالفعل- لا يرد على معيَّنٍ مرَّتين؛ فيسهى عنه ثمَّ يسهى عنه في وقتٍ آخر بل عن مثله، بخلاف النِّسيان، فإنَّ الشَّيء ينسى ثمَّ يذكر ثمَّ ينسى بعينه وذلك في غير الأفعال، ويظهر من هذا فرقٌ آخر، وهو أنَّ السَّهو يتعلَّق بالأفعال، والنِّسيان عامٌّ.
وسجود السَّهو هو ما يشرع من السُّجود بسبب السَّهو في الصَّلاة، فإضافته إليه من إضافة الشَّيء إلى سببه، وهو يشرع لثلاثة أشياء: الزِّيادة، و النَّقص، و الشَّكِّ.
* * * * *
(376)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُحَيْنَةَ رضي الله عنه؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الأُولَييْنِ، وَلَمْ يَجْلِسْ، فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَضَى الصَّلاةَ، وَانْتَظَرَ
النَّاسُ تَسْلِيمَهُ، كَبَّرَ وهُوَ جَالِسٌ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْن، قبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، ثُمَّ سَلَّمَ». أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ البُخَارِيِّ
(1)
.
(377)
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «يُكَبِّرُ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وهُوَ جَالِسٌ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، مَكَانَ مَا نَسِيَ مِنَ الجُلوسِ»
(2)
.
* * *
هذا الحديث من أصحِّ الأحاديث في سجود السَّهو، وهو دليل السُّجود للنَّقص، وراويه عبد الله بن مالكٍ الأزديِّ رضي الله عنه، وبحينة أمُّه وهي بنت الحارث بن المطَّلب بن عبد منافٍ.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
وجوب التَّشهُّد الأوَّل.
2 -
أنَّه يسقط بالسَّهو.
3 -
أنَّ الصَّلاة بتركه تجبر بسجود السَّهو.
4 -
أنَّ سجود السَّهو سجدتان.
5 -
أنَّ محلَّ السُّجود قبل السَّلام.
6 -
مشروعيَّة التَّكبير بكلِّ سجدةٍ في الخفض والرَّفع.
7 -
وقوع السَّهو من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن حكمة تقدير الله لذلك في الصَّلاة؛ بيان الأحكام.
8 -
وجوب سجود السَّهو لترك التَّشهُّد الأوَّل؛ لأنَّ بدل الواجب واجبٌ.
9 -
استنباط حكم الفعل من القرينة، لقوله رضي الله عنه:«مكان ما نسي من الجلوس» .
10 -
أنَّ من نسي التَّشهُّد الأوَّل وقام لا يرجع إليه.
(1)
البخاريُّ (829)، ومسلمٌ (570)، وأحمد (22929)، وأبو داود (1034)، والترمذيُّ (391)، والنَّسائيُّ (1221)، وابن ماجه (1206).
(2)
مسلمٌ (570)، وهي كذلك عند البخاريِّ (1230).
11 -
مشروعيَّة التَّسليم من الصَّلاة، وقد تقدَّم أنَّه واجبٌ لا يخرج من الصَّلاة إلَّا به.
12 -
وجوب متابعة المأمومين للإمام إذا قام وترك التَّشهُّد الأوَّل.
* * * * *
(378)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إِحْدَى صَلَاتَيِ العَشِيِّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، وَفِي الْقَوْمِ أبو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ، فَقَالُوا: قُصِرَتِ الصَّلَاةُ، وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذَا الْيَدَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَسِيتَ أَمْ قُصِرَتِ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ:«لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ» ، فَقَالَ: بَلَى قَدْ نَسِيتَ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ فَكَبَّرَ، فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
(1)
.
(379)
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «صَلَاةَ الْعَصْرِ»
(2)
.
(380)
وَلأَبِي دَاوُدَ: فَقَالَ: «أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟» ، فَأَوْمَؤُوا: أَيْ نَعَمْ
(3)
. وَهِيَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» لَكِنْ بِلَفْظِ: فَقَالُوا.
(381)
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «وَلَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَقَّنَهُ اللهُ ذَلِكَ»
(4)
.
(382)
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه؛ «أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِهِمْ، فَسَهَا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، (ثُمَّ تَشَهَّدَ)، ثُمَّ سَلَّمَ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
(5)
.
(1)
البخاريُّ (1229)، ومسلمٌ (573).
(2)
مسلمٌ (99 - 573).
(3)
أبو داود (1008).
(4)
أبو داود (1012).
(5)
أبو داود (1039)، والترمذيُّ (395)، والحاكم (1208). وأمَّا رواية «ثمَّ تشهَّد» فشاذةٌ؛ تفرَّد بها أشعث بن عبد الملك الحمرانيُّ، ينظر:«فتح الباري» (3/ 99).
حديث أبي هريرة رضي الله عنه من أصحِّ الأحاديث وأشهرها في سجود السَّهو، وفي معناه حديث عمران ولكنَّ المؤلِّف اختصره، وهما من أدلَّة سجود السَّهو للزِّيادة في الصَّلاة.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة سجود السَّهو للزِّيادة في الصَّلاة، والزِّيادة الَّتي حصلت في هذه القصَّة هي السَّلام قبل تمام الصَّلاة، والقعود للتَّشهُّد للثَّالثة في حديث عمران رضي الله عنه في بعض رواياته
(1)
.
2 -
أنَّ محلَّ السُّجود للزِّيادة بعد السَّلام.
3 -
أنَّ سجود السَّهو سجدتان.
4 -
التَّكبير في سجود السَّهو خفضًا ورفعًا.
5 -
مشروعيَّة التَّسليم من سجود السَّهو.
6 -
وقوع النِّسيان من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
7 -
مشروعيَّة التَّثبُّت في الخبر ولو مع تصديق المخبر؛ لتحصيل اليقين والطُّمأنينة.
8 -
أنَّ من سلَّم قبل تمام صلاته لا تجب عليه إعادة ما صلَّى، بل يتمُّ صلاته ويبني على ما صلَّى ما لم يطل الفصل عرفًا.
9 -
فضيلة أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهم؛ لقوله: «فهابا أن يكلِّماه» أدبًا.
10 -
فضيلة ذي اليدين؛ لشجاعته بمخاطبة الرَّسول صلى الله عليه وسلم بما حصل في الصَّلاة.
11 -
التَّثبُّت في الأمر قبل الحكم، لقوله:«أنسيت أم قصرت الصَّلاة؟» ، ثمَّ قال:«بلى قد نسيت» .
(1)
ينظر: الترمذي (395)، والنسائي (1237)، وابن ماجه (1215).
12 -
أنَّ من أخبر عن اعتقاده لا يكون كاذبًا ولو خالف الواقع، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ» ؛ أي: في ظنِّي واعتقادي.
13 -
تأثُّر الكُمَّل من المؤمنين نفسيًّا إذا دخل عبادتهم نقصٌ أو خللٌ، ولو لم يعلموا به؛ لقوله:«فقام إلى خشبةٍ معروضةٍ في المسجد فاتَّكأ عليها كأنَّه غضبان»
(1)
كما في روايةٍ.
14 -
تفاضل النَّاس في كلِّ زمانٍ في الاهتمام بالعبادة وأداء الواجب وطلب الفضيلة؛ لقوله: «وخرج سرعان النَّاس» .
15 -
أنَّه لا يجب بعث طلبٍ في أثر السَّرعان فضلاً أن ينادى في النَّاس: أنَّ الصَّلاة لم تتمَّ، لكن من علم أنَّ صلاته لم تتمَّ فيجب عليه إتمامها ما لم يطل الفصل، فإن طال وجب عليه إعادتها كاملةً.
16 -
العمل بالإشارة؛ لقوله: «فأومؤوا: أي نعم» .
17 -
أنَّ الكلام في مصلحة الصَّلاة في هذه الحال لا يفسدها، بل لو لم يكن في مصلحة الصَّلاة ما لم يتيقَّن الإنسان أنَّ الصَّلاة لم تتمَّ.
* * * * *
(383)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى أَثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فَإنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ، وَإنْ كَانَ صَلَّى تَمَامًا كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(384)
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ:«وَمَا ذَلِكَ؟» ، قَالوا: صَلَّيْتَ كَذَا، قَالَ: فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَينِ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا
(1)
رواه البخاريُّ (482).
(2)
مسلمٌ (571).
بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «إنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُوني، وَإذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(385)
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ
(2)
: «فَلْيُتِمَّ، ثُمَّ يُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ» .
(386)
وَلِمُسْلِمٍ؛ «أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ»
(3)
.
(387)
وَلأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهم مَرْفُوعًا:«مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ» ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(4)
.
* * *
هذه الأحاديث هي الأصل في حكم الشَّكِّ في الصَّلاة، وقد دلَّت على أنَّ الشَّكَّ في الصَّلاة نوعان: تارةً لا يكون معه ترجُّحٌ لأحد الاحتمالين، وتارةً يترجَّح أحد الاحتمالين.
دلَّ على الأوَّل وحكمه حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه، وعلى الثَّاني وحكمه حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
حكم الشَّكِّ في عدد الرَّكعات.
2 -
البناء على اليقين مع التَّردُّد في قوله: «فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى» «وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ» .
(1)
البخاريُّ (401)، ومسلمٌ (572). واللفظ لمسلمٍ؛ إذ في البخاريِّ زيادة:«ثُمَّ ليُسَلِّمْ» وهو ما اعتبره الحافظ روايةً للبخاريِّ.
(2)
في الحديث المتقدِّم.
(3)
مسلمٌ (95 - 572).
(4)
أحمد (1752)، وأبو داود (1033)، والنَّسائيُّ (1247)، وابن خزيمة (1022).
3 -
البناء على غالب الظَّنِّ، لقوله في حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه:«فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ» . وقد اختلف العلماء في هذه الحال فقيل: إنَّ هذا حكم الإمام والمنفرد، فكلاهما يبني على غالب ظنِّه، وقيل: يختصُّ ذلك بالإمام لاعتضاده بسكوت المأمومين، والصَّواب: الأوَّل لعموم حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه.
وفي الحديثين دليلٌ لقاعدة: البناء على اليقين عند الشَّكِّ، والعمل بغالب الظَّنِّ.
4 -
أنَّ سجود السَّهو للشَّكِّ سجدتان.
5 -
أنَّ من بنى على ما استيقن يسجد قبل السَّلام، كما في حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه، ومن بنى على غالب ظنِّه يسجد بعد السَّلام كما في حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه.
6 -
أنَّ النِّسيان من العوارض البشريَّة.
7 -
الحكمة من سجود السَّهو؛ وهي: جبر النَّقص أو شفع الصَّلاة إن حصل فيها زيادة ركعةٍ، وإلَّا كان ترغيمًا للشَّيطان، وسجود السَّهو ترغيمٌ للشَّيطان بكلِّ حالٍ؛ لما في سجود السَّهو من جبر الصَّلاة وزيادة الأجر.
ومن فوائد حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه:
8 -
وقوع النِّسيان من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
9 -
مشروعيَّة تذكير النَّاسي في الصَّلاة، وإن كان النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم.
10 -
مشروعيَّة سجود السَّهو للزِّيادة في الصَّلاة ولو لم يعلم به إلَّا بعد السَّلام والانصراف عن القبلة.
11 -
مشروعيَّة التَّسليم من الصَّلاة.
12 -
مشروعيَّة التَّسليم من سجود السَّهو الَّذي محلُّه بعد السَّلام.
13 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بشرٌ تجوز عليه العوارض البشريَّة كالمرض وغيره.
14 -
إمكان نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة لقوله: «إنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلَاةِ شَيْءٌ أَنْبَأْتُكُمْ بِهِ» .
وأمَّا حديث عبد الله بن جعفرٍ رضي الله عنه فإنَّه مجملٌ يفسِّره حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه المتقدِّم، فيكون المراد به: الشَّكَّ الَّذي يكون معه رجحانٌ لأحد الاحتمالين ويبني فيه المصلِّي على ما ترجَّح عنده، يدلُّ لذلك قوله:«فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ بعْدَمَا يُسَلِّمُ» وهذا هو الذي ذكر في حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه. والله أعلم.
* * * * *
(388)
عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ، فَقَامَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَاسْتَتَمَّ قَائِمًا، فَلْيَمْضِ، وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ، وَإنْ لَمْ يَسْتَتِمَّ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ ولا سَهْوَ عَلَيْهِ» ، رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ
(1)
.
* * *
هذا الحديث ضعَّفه الحافظ كما ترى، ويشهد لمعناه حديث عبد الله بن بحينة رضي الله عنه المتقدِّم أوَّل الباب
(2)
، فإنَّه صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين ولم يتشهَّد، ومضى في صلاته.
وحديث ابن بحينة رضي الله عنه هو الأصل في هذه المسألة، وأنَّ من نسي التَّشهُّد الأوَّل، وشرع في الرَّكعة بأن استتمَّ قائمًا فإنَّه يمضي، أمَّا من نهض ولم يستتمَّ قائمًا وتذكَّر فإنَّه يرجع للتَّشهُّد، ولا سجود عليه لهذا السَّهو؛ لعدم ما يوجبه من زيادةٍ أو نقصٍ أو شكٍّ.
(1)
أبو داود (1036)، وابن ماجه (1208)، والدارقطنيُّ (1419).
(2)
تقدَّم برقم (376).
فإن كان نهوضه لشكٍّ في عدد الرَّكعات رجع لزوال الشَّكِّ، فلا أثر له، وإن لم يزل الشَّكُّ فعليه العمل بما استيقن أو بما ترجَّح عنده، على ما تقدَّم في حديث أبي سعيدٍ وابن مسعودٍ رضي الله عنهم، ويجب حمل الحديث على أنَّ الشَّكَّ قد زال.
وقد فصَّل الفقهاء رحمهم الله فيمن سها عن التَّشهُّد الأوَّل فقالوا: إن ذكر قبل أن يستتمَّ قائمًا رجع إليه وجوبًا، فإن استتمَّ قائمًا كره الرُّجوع، فإن شرع في القراءة حرم الرُّجوع، وهذا تفصيلٌ حسنٌ، ويستدلُّون لذلك بحديث المغيرة وحديث ابن بحينة رضي الله عنهم.
وممَّا يضعف حديث المغيرة رضي الله عنه من جهة المتن: أنَّه يخالف ظاهره حديثي أبي سعيدٍ وابن مسعودٍ رضي الله عنهم، وأنَّه في حكم من شكَّ فقام من اثنتين، والمسألة في حكم من سها عن التَّشهُّد الأوَّل لا من شكَّ في عدد الرَّكعات، وهذا هو الَّذي وقع من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم -أعني السَّهو دون الشَّكِّ-، وفرقٌ بين السَّهو والشَّكِّ، فالشَّكُّ تردُّدٌ، والسَّهو نسيانٌ عارضٌ. والله أعلم.
* * * * *
(389)
عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ليْسَ عَلَى مَنْ خَلْفَ الإمَامِ سَهْوٌ، فَإنْ سَهَا الإمَامُ فَعَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ خَلْفَهُ» . رَوَاهُ البَزَّارُ وَالبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ
(1)
.
* * *
هذا الحديث ضعَّفه المصنِّف، وهو في حكم سهو الإمام والمأموم، ويشهد له في الجملة قوله صلى الله عليه وسلم في الأئمَّة:«يُصَلُّونَ لَكُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» وهو في صحيح البخاريِّ
(2)
.
(1)
رواه الدارقطنيُّ (1413)، والبيهقيُّ معلقًا في «الكبرى» (2/ 351)، ولم أجده في «مسند البزار» ولم يعزه المصنف له في «التلخيص» ، وإنما عزاه للدارقطنيِّ فقط.
(2)
رواه البخاريُّ (694)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنه ليس على المأموم سهوٌ، ومعناه: أنَّه لا سجود عليه، فإنَّه تابعٌ للإمام في الانصراف من الصَّلاة فيسلِّم إذا سلَّم، وخصَّ الفقهاء ذلك بغير المسبوق، فأمَّا المسبوق بركعةٍ أو أكثر فقالوا: يسجد لسهوه مع إمامه، ولسهوه فيما انفرد فيه، بل ولسهو إمامه.
2 -
أنَّ سهو الإمام يلزم حكمه من خلفه؛ فيقوم مع الإمام إذا ترك التَّشهُّد الأوَّل، ويسجد معه سجود السَّهو ولو لم يكن من المأموم سهوٌ.
3 -
أنَّ بين صلاة المأموم والإمام ارتباطًا ترتَّب عليه أحكامٌ، ومن ذلك: أنَّ الإمام يحمل عن المأموم سهوه، فلا سجود عليه، وأنَّ المأموم يلزمه حكم سهو إمامه.
واختلف العلماء في بطلان صلاة المأموم ببطلان صلاة الإمام، والصَّواب: أنَّها لا تبطل؛ فلو صلَّى الإمام محدثًا ناسيًا لحدثه ولم يذكر الإمام ذلك حتَّى سلَّم من الصَّلاة بطلت صلاة الإمام دون المأموم، وكذا لو ذكر الإمام في أثناء الصَّلاة على الصَّحيح، ويستخلف من يتمُّ.
4 -
أهمِّيَّة متابعة المأموم للإمام، ووجهه وجوب سجود السَّهو على المأموم تبعًا لإمامه وإن لم يسْهُ المأموم، وسقوط السَّهو عنه وإن سها.
5 -
قوَّة ارتباط صلاة المأموم بصلاة الإمام.
* * * * *
(390)
عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ
(1)
.
* * *
(1)
أبو داود (1038)، وابن ماجه (1219).
هذا الحديث ضعيفٌ، وهو مخالفٌ لحديث ابن بحينة رضي الله عنه في موضع سجود السَّهو، وسجود السَّهو منه ما محلُّه قبل السَّلام، ومنه ما محلُّه بعد السَّلام.
وفي الحديث فائدتان:
1 -
أنَّ كلَّ سهوٍ يشرع له السُّجود، وظاهره: أنَّه يتكرَّر السُّجود لتكرُّر السَّهو، ولم يقل ذلك أحدٌ بإطلاقٍ، والجمهور على أنَّ السُّجود لا يتعدَّد بتعدُّد السَّهو، بل يكفي سجدتان وإن سها المصلِّي مرَّتين أو ثلاثًا؛ سواءٌ أكان السَّهو من جنسٍ أو أجناسٍ. لكن إذا اختلفت مرَّات السَّهو في موضع السُّجود؛ قدِّم ما كان قبل السَّلام وأغنى عن السُّجود بعد السَّلام.
وذهب بعض أهل العلم إلى السُّجود قبل السَّلام وبعد السَّلام، والصَّواب: أنَّ السُّجود لا يتكرَّر بتكرُّر السَّهو؛ لأنَّ الحديث ضعيفٌ، ولأنَّه لا يمكن العمل بظاهره. والله أعلم.
2 -
أنَّ محلَّ سجود السَّهو بعد السَّلام مطلقًا، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فمنهم من عمل بظاهر هذا الحديث وقال: سجود السَّهو كلُّه بعد السَّلام، ومنهم من قال: كلُّه قبل السَّلام، والقولان ضعيفان؛ لأنَّ كلًّا منهما يخالف بعض الأحاديث المتقدِّمة، وهي صحيحةٌ، والقول الثَّالث: أنَّ من سجود السَّهو ما محلُّه قبل السَّلام، ومنه ما محلُّه بعد السَّلام على ما جاء في أحاديث ابن بحينة وأبي سعيدٍ وابن مسعودٍ رضي الله عنهم، وهذا القول هو الصَّحيح.
* * * * *
(391)
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «سَجَدْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّت (1)} [الانشقاق]، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق]» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(392)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: «{ص} ليْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِيهَا» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(2)
.
(1)
مسلمٌ (578).
(2)
البخاريُّ (1069).
(393)
وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ «أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَدَ بِالنَّجْمِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(1)
.
(394)
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَرَأْتُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم النَّجْمَ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيها» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(395)
عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ رحمه الله قَالَ: «فُضِّلَتْ سُورَةُ الحَجِّ بِسَجْدَتَيْنِ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ فِي (المَرَاسِيلِ)
(3)
.
(396)
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مَوْصُولاً مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، وَزَادَ:«فَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا، فَلَا يَقْرَأْهَا» . وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ
(4)
.
(397)
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(5)
.
(398)
وَفِيهِ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ» ، وَهُوَ فِي «المُوَطَّأِ»
(6)
.
(399)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: «كَانَ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ عَلَيْنَا القُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ، وَسَجَدَ، وَسَجَدْنَا مَعَهُ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ بِسَنَدٍ فِيهِ لِينٌ
(7)
.
* * *
هذه الأحاديث منها ما هو صحيحٌ، ومنها ما فيه مقالٌ، وكلُّها قد استدلَّ بها على مشروعيَّة سجود التِّلاوة، واختلف العلماء في سجود التِّلاوة هل هو صلاةٌ أو عبادةٌ مستقلَّةٌ؟ ذهب الجمهور إلى أنَّه صلاةٌ فيشترط فيه ما يشترط في الصَّلاة
(8)
، وذهب آخرون إلى أنَّه ليس بصلاةٍ فلا تشترط له الطَّهارة ولا السِّتارة
(9)
.
(1)
البخاريُّ (1071).
(2)
البخاريُّ (1073)، ومسلمٌ (577).
(3)
«المراسيل» لأبي داود (76).
(4)
أحمد (17364)، والترمذيُّ (578).
(5)
البخاريُّ (1077).
(6)
الموطأ (551).
(7)
أبو داود (1413).
(8)
ينظر: «المغني» (2/ 358)، و «المجموع» (3/ 558).
(9)
أي: ستر العورة.
وفي القرآن خمس عشرة سجدةً، ذكر المؤلِّف أدلَّة ستَّةٍ منها؛ وهي:(ص)، و (النَّجم)، و (الانشقاق)، و (العلق)، وسورة (الحجِّ) وفيها سجدتان، وقد دلَّ على ذلك حديث أبي هريرة وحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم في (ص) و (النَّجم)، وحديث خالد بن معدان رضي الله عنه.
وقد اختلف العلماء في عدد سجدات التِّلاوة: فذهب الجمهور إلى أنَّها أربع عشرة سجدةً، ولم يعدُّوا سجدة (ص)، وقال آخرون: بل هي خمس عشرة؛ أي: بسجدة (ص)، وذهب كثيرٌ من العلماء إلى أنَّ السَّجدات إحدى عشرة، وقالوا: إنَّ سجدات المفصَّل منسوخةٌ، وسجدة (ص) ليست من عزائم السُّجود
(1)
.
والرَّاجح: أنَّ سجدات التِّلاوة خمس عشرة، وسجدة (ص) وإن لم تكن من عزائم السُّجود فقد سجدها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا دليلاً.
وأمَّا سجدات المفصَّل فقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه أنَّه سجد مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في سورة الانشقاق، وسورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، وإسلام أبي هريرة كان في السَّنة السَّابعة فتبطل دعوى النَّسخ.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة السُّجود في سورة الانشقاق.
2 -
مشروعيَّة السُّجود في سورة العلق.
3 -
الرَّدُّ على من قال بنسخ السُّجود في المفصَّل.
4 -
مشروعيَّة السُّجود في سورة ص.
5 -
مشروعيَّة السُّجود في سورة النَّجم.
6 -
أنَّ سجود التِّلاوة ليس بواجبٍ، ويؤخذ ذلك من حديث زيدٍ رضي الله عنه؛ لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لم يأمره، ومن حديث عمر رضي الله عنه وهو صريحٌ.
7 -
مشروعيَّة سجود التِّلاوة في الصَّلاة وخارج الصَّلاة.
(1)
ينظر: «المغني» (2/ 352).
8 -
أنَّ سورة الحجِّ فيها سجدتان، واختلف في السَّجدة الثَّانية، والجمهور على مشروعيَّتها
(1)
.
9 -
مشروعيَّة التَّكبير لسجود التِّلاوة في الخفض دون الرَّفع، وهذا خارج الصَّلاة، أمَّا داخلها فيكبِّر في الخفض والرَّفع لعموم أدلَّة التَّكبير في الصَّلاة.
10 -
أنَّه لا يشرع القيام في سجود التِّلاوة، ولا التَّشهُّد ولا السَّلام؛ لعدم نقل ذلك.
11 -
مشروعيَّة السُّجود للمستمع إذا سجد القارئ.
وهذه مواضع السُّجود في القرآن: الأعراف، الرعد، النحل، الإسراء، مريم، الحج، الفرقان، النمل، آلم تنزيل، ص، فصلت، النجم، الانشقاق، العلق.
* * * * *
(400)
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا جَاءَهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ خَرَّ سَاجِدًا للهِ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ
(2)
.
(401)
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه قَالَ: سَجَدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَطَالَ السُّجُودَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَه، وقَالَ:«إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي، فَبَشَّرَنِي، فَسَجَدتُّ للهِ شُكْرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(3)
.
(402)
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهم، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَلِيًّا إِلَى الْيَمَنِ
…
فَذَكَرَ الحَدِيثَ قَالَ: «فَكَتَبَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِإِسْلَامِهِمْ، فَلَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْكِتَابَ خَرَّ سَاجِدًا» . رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ
(4)
، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ
(5)
.
* * *
(1)
ينظر: «المغني» (2/ 356).
(2)
أحمد (20455)، وأبو داود (2774)، والترمذيُّ (1578)، وابن ماجه (1394).
(3)
أحمد (1664)، والحاكم (2071).
(4)
البيهقيُّ (4744).
(5)
البخاريُّ (4349). وهو سياقٌ مختصرٌ ليس فيه تمام الحديث المتقدم، لذا لم يرد فيه ذكر سجود الشكر، لكن قال البيهقيُّ:«وسجود الشكر في تمام الحديث صحيحٌ على شرطه» .
سجود الشُّكر كسجود التِّلاوة ليس هو بصلاةٍ، وإضافة السُّجود إلى الشُّكر هو من إضافة الشَّيء إلى نوعه؛ كقولهم: صلاة التَّطوُّع.
وكلُّ هذه الأحاديث فعليَّةٌ، أي من سنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الفعليَّة.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة سجود الشُّكر، وذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وقال بعضهم: لا يشرع للشُّكر سجودٌ. وهذه الأحاديث حجَّةٌ عليهم
(1)
.
2 -
أنَّ سبب سجود الشُّكر تجدُّد النِّعم العظيمة عامَّةً أو خاصَّةً.
3 -
أنَّ الشُّكر ما كان من الطَّاعة في مقابل نعمةٍ.
4 -
حرص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق وفرحه بذلك.
5 -
فرحة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بكرامة الله لأمَّته، كما جاء في حديث سعدٍ رضي الله عنه لمَّا شفع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأمَّته، رواه أبو داود
(2)
.
6 -
فرحه صلى الله عليه وسلم بمضاعفة أجر الصَّلاة عليه، كما بيَّن ذلك في بعض روايات حديث عبد الرَّحمن بن عوفٍ رضي الله عنه.
7 -
فضل عليٍّ رضي الله عنه.
8 -
مشروعيَّة بعث الدُّعاة إلى الله.
9 -
اعتماد الكتابة إذا عرف الخطُّ أو علم صدق حامل الكتاب.
10 -
فضيلة أهل اليمن؛ لمبادرتهم إلى الإسلام بلا قتالٍ، وعناية الرَّسول صلى الله عليه وسلم بهم.
11 -
أنَّ سجود الشُّكر على الفور عند وجود سببه.
12 -
أنَّه لا يشرع فيه تكبيرٌ ولا تسليمٌ.
* * * * *
(1)
ينظر: «المجموع» (3/ 565).
(2)
أبو داود (2775)، عن سعد بن أبي وقاصٍ رضي الله عنه. وصحَّحه النوويُّ في «المجموع» (3/ 566).
بَابُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ
إضافة الصَّلاة إلى التَّطوُّع من إضافة الشَّيء إلى نوعه، والتَّطوُّع أصله ما يفعله الإنسان بطواعيةٍ منه من غير أن يُفرَض عليه، والمراد به في الاصطلاح: كلُّ عبادةٍ ليست واجبةً، ويسمَّى نافلةً، فصلاة التَّطوُّع: هي النَّوافل من الصَّلوات مطلقةً أو مقيَّدةً، وهي مقابلةٌ للصَّلاة المفروضة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للَّذي سأله عن الصَّلوات الخمس؛ هل عليَّ غيرها؟ قال:«لَا؛ إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»
(1)
.
وآكد صلاة التَّطوُّع: الوتر، ثمَّ الرَّواتب، ثمَّ قيام رمضان، ثمَّ ذوات الأسباب، ومن فضل الله على عباده أن شرع لهم أنواع النَّوافل في أنواع العبادات؛ من الصَّلاة، والصَّدقة، والصِّيام، والحجِّ؛ زيادةً في حسناتهم، وجبرًا لنقص الفرائض.
* * * * *
(403)
عَنْ رَبيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «سَلْ» ، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّةِ. فَقَالَ: «أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟» ، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ:«فَأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
المراد بكثرة السُّجود؛ كثرة الصَّلاة، وقوله صلى الله عليه وسلم لربيعة رضي الله عنه:«سَلْ» ؛ أي: سلني ما شئت ممَّا ينفعك، وكان ربيعة رضي الله عنه يخدم النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أحيانًا، وقوله:«أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الجَنَّةِ» معناه: أسألك الشَّفاعة لي في مرافقتك في
(1)
رواه البخاريُّ (46)، ومسلمٌ (11)، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
(2)
مسلمٌ (489).
الجنَّة. وليس المراد أن يكون في منزلة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنَّما المراد: دخوله الجنَّة مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ» معناه: أعنِّي في شفاعتي لك على نجاة نفسك وفوزك بنيل مطلوبك؛ أعنِّي على ذلك بكثرة السُّجود، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟» معناه: أو تسألني غير ذلك؟ و المعنى: ألك حاجةٌ غير ما ذكرت تسألنيها؟ قال: «هو ذاك» ؛ أي: مطلوبي هو ما ذكرت من مرافقتك في الجنَّة.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
تسابق الصَّحابة رضي الله عنهم على خدمة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
فضل ربيعة بن كعبٍ رضي الله عنه لخدمته النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم.
3 -
إكرام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم، خصوصًا من يخدمه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«سَلْ» .
4 -
علوُّ همَّة ربيعة بن كعبٍ رضي الله عنه؛ حيث لم يطلب شيئًا من منافع الدُّنيا.
5 -
طلب الشَّفاعة من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حياته.
6 -
إجابة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ربيعة رضي الله عنه إلى ما طلب.
7 -
أنَّ شفاعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سببٌ لنيل المطلوب، لكنَّه لا يغني عن الأسباب الشَّرعيَّة من أداء الفرائض والنَّوافل.
8 -
فضل الصَّلاة.
9 -
أنَّ السُّجود أفضل أركان الصَّلاة، واستدلَّ له بقوله صلى الله عليه وسلم:«أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وهُوَ سَاجِدٌ»
(1)
وقيل: القيام أفضل؛ لتقديمه في قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود (26)} [الحج: 26]، واختار شيخ الإسلام أنَّ القيام ذكره أفضل، والسُّجود فعله أفضل
(2)
.
(1)
رواه مسلمٌ (482)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
«مجموع الفتاوى» (14/ 10).
10 -
التَّرغيب في الإكثار من نوافل الصَّلاة.
11 -
أنَّ ذلك من أسباب دخول الجنَّة.
* * * * *
(404)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: «حَفِظْتُ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بعْدَ المَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(405)
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: «وَرَكْعَتَيْنِ بعْدَ الْجُمُعَةِ فِي بَيْتِهِ»
(2)
.
(406)
وَلِمُسْلِمٍ: «كَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»
(3)
.
(407)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، «أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لا يَدَعُ أَرْبَعًا قبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(4)
.
(408)
وَعَنْهَا رضي الله عنها، قَالَتْ:«لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(5)
.
(409)
وَلِمُسْلِمٍ: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
(6)
.
(410)
وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَومٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
(411)
وَفِي رِوَايَةٍ: «تَطَوُّعًا»
(7)
.
(412)
وَلِلتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ، وَزَادَ:«أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ»
(8)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (1180)، ومسلمٌ (729).
(2)
البخاريُّ (937)، ومسلمٌ (729).
(3)
مسلمٌ (88 - 723).
(4)
البخاريُّ (1182).
(5)
البخاريُّ (1163)، ومسلمٌ (94 - 724).
(6)
مسلمٌ (725)، عن عائشة رضي الله عنها.
(7)
مسلمٌ (728).
(8)
الترمذيُّ (415).
هذه الأحاديث هي الأصل في السُّنن الرَّواتب التَّابعة للصَّلوات المكتوبة، فمنها قبليَّةٌ ومنها بعديَّةٌ.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ سنن الرَّواتب ثنتا عشرة ركعةً، دلَّ حديث ابن عمر رضي الله عنهم على عشرٍ منها، ودلَّ حديث عائشة رضي الله عنها على زيادة ركعتين قبل الظُّهر، وحديث أمِّ حبيبة رضي الله عنها على أنَّها اثنتا عشرة ركعةً.
2 -
أنَّ راتبة الظُّهر القبليَّة أربع ركعاتٍ؛ قيل: بسلامٍ، وقيل: بسلامين، وهو الرَّاجح؛ لأنَّ المعروف من هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة اللَّيل والنَّهار أنَّه يسلِّم من كلِّ ركعتين.
وقيل في الجمع بين حديث عائشة رضي الله عنها وحديث ابن عمر رضي الله عنهم أنَّه من قبيل تنوُّع العبادات، وعلى هذا فتكون راتبة الظُّهر إمَّا ركعتين أو أربع ركعاتٍ، وقيل: يؤخذ بحديث عائشة رضي الله عنها؛ لأنَّه مشتملٌ على زيادة علمٍ، ويؤيِّد ذلك قولها:«لا يدع أربعًا قبل الظُّهر» ، وحديث أمِّ حبيبة رضي الله عنها المذكور.
3 -
أنَّ راتبة الظُّهر البعديَّة ركعتان.
4 -
أنَّ راتبة المغرب ركعتان بعدها، وكذلك العشاء.
5 -
أنَّ راتبة الفجر ركعتان قبلها، فهذه اثنتا عشرة ركعةً.
6 -
استحباب أن تكون راتبة المغرب والعشاء والفجر في البيت، وكذا سنَّة الجمعة.
7 -
أنَّ السُّنَّة بعد الجمعة ركعتان على ما في حديث ابن عمر رضي الله عنهم، وجاء عند مسلمٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا
أَرْبَعًا»
(1)
، فالأوَّل فعله صلى الله عليه وسلم، والثَّاني قوله صلى الله عليه وسلم، والمعروف في الأصول أنَّ القول أقوى من الفعل.
وعلى هذا فالسُّنَّة بعد الجمعة أربع ركعاتٍ، سواءٌ صلَّاها في المسجد أو البيت، وإن صلَّى ركعتين في المسجد وركعتين في البيت فحسنٌ؛ لأنَّ ذلك يتضمَّن الجمع بين الحديثين.
وقال بعض أهل العلم: إن صلَّاها في المسجد صلَّى أربعًا، وإن صلَّى في البيت صلَّى ركعتين.
8 -
فضل الرَّكعتين قبل الفجر.
9 -
أنَّ ركعتي الفجر آكد من سائر الرَّواتب فلا تترك في حضرٍ ولا سفرٍ.
10 -
شدَّة تعاهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لركعتي الفجر.
11 -
أنَّ السُّنَّة تخفيف ركعتي الفجر، ويدلُّ له حديث عائشة رضي الله عنها الآتي:«كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يخفِّف الرَّكعتين اللَّتين قبل صلاة الصُّبح»
(2)
.
12 -
فضل صلاة الفجر؛ لأنَّها أولى بالفضل من راتبتها.
13 -
أنَّه لا راتبة للعصر قبليَّةٌ ولا بعديَّةٌ، ولا للمغرب ولا للعشاء راتبةٌ قبلهما.
14 -
من حكمة السُّنن الرَّواتب زيادة حسنات العبد ممَّا يزيد في ثوابه، ومن حكمتها جبر نقص الفرائض.
15 -
حقارة الدُّنيا وما فيها بجنب عمل الآخرة وإن قلَّ؛ لأنَّ الدُّنيا فانيةٌ والآخرة باقيةٌ.
* * * * *
(1)
مسلمٌ (881).
(2)
سيأتي الحديث برقم (418).
(413)
وَلِلْخَمْسَةِ عَنْهَا رضي الله عنها: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ»
(1)
.
(414)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللهُ امْرَأً صَلَّى أرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَصَحَّحَهُ
(2)
.
(415)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ المُزَنِيِّ رضي الله عنه عَنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: «صَلُّوا قَبْلَ المَغْرِبِ، صَلُّوا قَبْلَ المَغْرِبِ» ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ:«لِمَنْ شَاءَ» ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
(416)
وَفِي رِوَايَةِ ابْن حِبَّانَ: «أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى قَبْلَ المَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ»
(3)
.
(417)
وَلِمُسْلِمٍ: عَنِ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي رَكْعَتَيْن بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَرَانَا، فَلَمْ يَأمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا»
(4)
.
* * *
هذه الأحاديث الأربعة تضمَّنت أنواعًا من سنن الصَّلوات في أوقات الصَّلوات المكتوبة، ولكنَّها ليست من الرَّواتب الَّتي تتأكَّد المحافظة عليها وتقضى إذا فاتت.
وفيها فوائد، منها:
1 -
مشروعيَّة أربع ركعاتٍ قبل الظُّهر، وهي من الرَّواتب كما تقدَّم.
2 -
مشروعيَّة أربع ركعاتٍ بعد الظُّهر، واثنتان منها من الرَّواتب كما تقدَّم.
3 -
مشروعيَّة أربع ركعاتٍ قبل صلاة العصر، وليست من الرَّواتب.
(1)
أحمد (26772)، وأبو داود (1269)، والترمذيُّ (427)، والنَّسائيُّ (1813)، وابن ماجه (1160).
(2)
أحمد (5980)، وأبو داود (1271)، والترمذيُّ (430)، وابن خزيمة (1193).
(3)
البخاريُّ (1183)، وابن حبان (1588).
(4)
مسلمٌ (836).
4 -
فضل هذه الرَّكعات؛ لقوله: «رَحِمَ اللهُ امْرَأً
…
».
5 -
التَّرغيب في صلاة ركعتين قبل المغرب وأنَّهما غير واجبتين، لقوله:«لِمَنْ شَاءَ» .
6 -
حرص الصَّحابة على هاتين الرَّكعتين، يؤيِّده ما جاء في الحديث الآخر؛ أنَّهم كانوا يبتدرون السَّواري
(1)
.
7 -
إقرار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك.
8 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ربَّما صلَّى هاتين الرَّكعتين، فدلَّ على هذه السُّنَّة قوله وفعله وتقريره صلى الله عليه وسلم، وقول أنسٍ رضي الله عنه:«فلم يأمرنا ولم ينهنا» يدلُّ على أنَّه لم يبلغه أمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم بهما كما في حديث عبد الله بن مغفَّلٍ رضي الله عنه.
* * * * *
(418)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّفُ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: أَقَرَأَ بِأُمِّ الكِتَابِ؟» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(419)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الفَجْرِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون (1)} [الكافرون]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} [الإخلاص]» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(3)
.
(420)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(4)
.
(421)
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذَا صَلَّى أحَدُكُمُ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
(5)
.
(1)
رواه البخاريُّ (625)، ومسلمٌ (837)، عن أنسٍ رضي الله عنه.
(2)
البخاريُّ (1165)، ومسلمٌ (92 - 724).
(3)
مسلمٌ (726).
(4)
البخاريُّ (1160).
(5)
أحمد (9368)، وأبو داود (1261)، والترمذيُّ (420).
هذه الأحاديث الأربعة اشتملت على سننٍ تتعلَّق بركعتي الفجر، والأحاديث الثَّلاثة الأولى صحيحةٌ، والرَّابع الَّذي فيه الأمر بالضَّجعة صحَّحه بعضهم كالتِّرمذيِّ، وضعَّفه آخرون، بل قال ابن تيميَّة: إنَّه باطلٌ
(1)
.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
تخفيف ركعتي الفجر.
2 -
أنَّ من سنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قراءة سورتي الإخلاص
(2)
في ركعتي الفجر بعد الفاتحة.
3 -
فضل سورتي الإخلاص.
4 -
مشروعيَّة الاضطجاع بعد صلاة ركعتي الفجر، وقد اختلف النَّاس في ذلك؛ فقيل: هذه الضَّجعة واجبةٌ؛ لحديث الأمر بها، وشذَّ ابن حزمٍ فرأى أنَّ من لم يضطجع لم تصحَّ صلاته
(3)
، وهذا من عجائبه، فأيُّ علاقةٍ بين هذه الضَّجعة وصلاة الفجر؟! وقيل: سُنَّةٌ؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنَّها ليست مشروعةً؛ لأنَّ اضطجاع الرَّسول صلى الله عليه وسلم للرَّاحة فهو أمرٌ عاديٌّ ولم يكن للتَّشريع، ولأنَّ الأمر بها لم يصحَّ، وقد صحَّ عن ابن عمر رضي الله عنه أنَّه إذا رأى من يضطجع في المسجد بعد الرَّكعتين حصبه بالحصى
(4)
.
وأظهر هذه الأقوال: القول الثَّالث، وهو أنَّها غير مشروعةٍ فإنَّها أشبه بالعادات الَّتي تقتضيها الحاجة.
* * * * *
(1)
نقله عنه ابن القيم في «زاد المعاد» (1/ 319).
(2)
أي: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} ، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون (1)} فكلٌّ منهما تسمى سورة الإخلاص.
(3)
«المحلى» لابن حزمٍ (3/ 196).
(4)
رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 348)، وصحَّحه المصنف في «فتح الباري» (3/ 44).
(422)
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً، تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(423)
وَلِلْخَمْسَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِلَفْظِ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى» . وَقَالَ النَّسَائِيُّ: «هَذَا خَطَأٌ»
(2)
.
(424)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(3)
.
* * *
الحديثان اشتملا على فضل صلاة اللَّيل وصفتها، ومعنى «مَثْنَى»: ثنتين ثنتين؛ أي: كلُّ ركعتين بسلامٍ، ومعنى «تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى»؛ أي: تجعل صلاته وترًا.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
ورود الأمر بصيغة الخبر.
2 -
صفة صلاة اللَّيل، وهي: التَّسليم من كلِّ ركعتين، ويستثنى من هذا الوتر، فإنَّه يجوز لثلاثٍ متَّصلةٍ بسلامٍ واحدٍ، ويجوز بخمسٍ وسبعٍ وتسعٍ.
3 -
أنَّه لا حدَّ لعدد صلاة اللَّيل، خلافًا لمن أوجب الاقتصار على إحدى عشرة.
4 -
ختم صلاة اللَّيل بالوتر.
(1)
البخاريُّ (990)، ومسلمٌ (749).
(2)
أحمد (4791)، وأبو داود (1295)، والترمذيُّ (597)، والنَّسائيُّ (1665)، وابن ماجه (1322)، وابن حبان (2482).
(3)
مسلمٌ (1163).
5 -
أنَّ الوتر يكون ركعةً في بعض الأحيان.
6 -
أنَّ وقت الوتر ينتهي بطلوع الفجر.
7 -
أنَّ ختم صلاة اللَّيل بركعةٍ يصيِّرها كلَّها وترًا، وإن لم تكن الرَّكعة متَّصلةً بالصَّلاة قبلها.
8 -
أنَّ صلاة النَّهار مثنى مثنى كصلاة اللَّيل، لكن قال النَّسائيُّ عن رواية «والنَّهار» إنَّها خطأٌ، ولو لم تصحَّ هذه الرِّواية فإنَّ مجموع الأحاديث الواردة في التَّطوُّع بالصَّلاة يدلُّ على أنَّ صلاة النَّهار مثنى مثنى كصلاة اللَّيل، فإنَّه لم يحفظ أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى أربعًا بسلامٍ واحدٍ.
9 -
أنَّ صلاة اللَّيل أفضل من صلاة النَّهار؛ المطلق أفضل من المطلق، والمقيَّد أفضل من المقيَّد.
10 -
أنَّ أفضل الصَّلاة بعد الفريضة صلاة اللَّيل.
11 -
أنَّ الفرض أفضل من التَّطوُّع.
12 -
التَّرغيب في صلاة اللَّيل تطوُّعًا، ويدلُّ لهذا ثناؤه تعالى في كثيرٍ من الآيات على أصحاب قيام اللَّيل؛ كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)} [الفرقان: 64]، وقوله:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، وقوله:{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون (18)} [الذاريات: 17 - 18].
13 -
تفاضل الأعمال والعاملين.
* * * * *
(425)
وَعَنْ أَبِي أيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ
بِثَلَاثٍ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِوَاحِدَةٍ فَلْيَفْعَلْ». رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ وَقْفَهُ
(1)
.
(426)
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «ليْسَ الْوِتْرُ بِحَتْمٍ كَهَيْئَةِ المَكْتُوبَةِ، وَلكِنْ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
(2)
.
(427)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنَ الْقَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ، وَقَالَ:«إنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الْوِتْرُ» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ
(3)
.
(428)
عَنْ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» ، قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْوِتْرُ مَا بيْنَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(4)
.
(429)
وَرَوَى أَحْمَدُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ نَحْوَه
(5)
.
(430)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنهم، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَليْسَ مِنَّا» ، أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ بِسَنَدٍ لَيِّنٍ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(6)
.
(431)
وَلَهُ شَاهِدٌ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عِنْدَ أَحْمَدَ
(7)
.
* * *
(1)
أبو داود (1422)، والنَّسائيُّ (1711)، وابن ماجه (1190)، وابن حبان (2407).
(2)
رواه النَّسائيُّ (1675)، والترمذيُّ (454)، والحاكم (1119).
(3)
ابن حبان (2409).
(4)
أحمد (39/ 442)، وأبو داود (1418)، والترمذيُّ (452)، وابن ماجه (1168)، والحاكم (1149).
(5)
أحمد (6693).
(6)
أبو داود (1419)، والحاكم (1147).
(7)
أحمد (23019).
هذه الأحاديث اشتملت على حكم الوتر وصفته، والوتر من صلاة اللَّيل، وهي: صلاةٌ مقيَّدةٌ بعددٍ؛ أقلُّه واحدةٌ، ويجوز بثلاثٍ وخمسٍ وسبعٍ، وكلُّها بسلامٍ واحدٍ.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الوتر سنَّةٌ مؤكَّدةٌ، بل هو أوكد نوافل الصَّلاة، وهذا مذهب الجمهور، واستدلُّوا بحديث عليٍّ رضي الله عنه:«ليس الوتر بحتمٍ كهيئة المكتوبة» ، وبحديث جابرٍ رضي الله عنه:«إنِّي خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمُ الْوِتْرُ» وحملوا ما ورد من الأمر به ونحوه على تأكيد الاستحباب، ولو كان واجبًا لكان صلاةً سادسةً، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» فقال الرَّجل: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ»
(1)
. وقال بعض أهل العلم بوجوب الوتر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيُّوب رضي الله عنه: «الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ، وهذا اللَّفظ يستعمل في الواجب، والمتأكِّد الَّذي ليس بواجبٍ، واستدلَّ للوجوب بحديث بريدة رضي الله عنه:«الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا» ، لكنَّ الحديث فيه مقالٌ
(2)
، فلا ينهض لمعارضة الأحاديث الصَّحيحة.
2 -
فضل الوتر.
3 -
أنَّ وقت الوتر ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر الثَّاني، كما يدلُّ له حديث خارجة رضي الله عنه.
4 -
جواز الوتر بثلاثٍ وخمسٍ وسبعٍ بلا تشهُّدٍ ولا سلامٍ إلَّا في آخرها، وقد ورد الوتر بتسع ركعاتٍ، لكن يتشهَّد في الثَّامنة ولا يسلِّم، ويتشهَّد في التَّاسعة ويسلِّم
(3)
.
(1)
رواه البخاريُّ (46)، ومسلمٌ (11) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
(2)
في إسناده أبو المنيب عبيد الله بن عبد الله العتكيُّ، مختلفٌ فيه، وقال المصنف في «التقريب» (372):«صدوقٌ يخطئ» .
(3)
رواه مسلمٌ (746)، عن عائشة رضي الله عنها.
5 -
أنَّ الوتر سنَّةٌ سنَّها الرَّسول صلى الله عليه وسلم بقوله وبفعله.
6 -
حرصه صلى الله عليه وسلم في التَّخفيف عن أمَّته، وخوفه ممَّا يشقُّ عليهم.
7 -
أنَّ ما شرع الله من الوتر وغيره من العبادات نعمٌ من الله على عباده يعرِّضهم بها لجزيل الثَّواب؛ لقوله في حديث خارجة رضي الله عنه: «إِنَّ اللهَ أَمَدَّكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ» .
* * * * *
(432)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ ولا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ قَالَ:«يَا عَائِشَةُ، إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ ولا يَنَامُ قَلْبِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(433)
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْهَا رضي الله عنها: «كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَيُوتِرُ بِسَجْدَةٍ، وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَتِلْكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ»
(2)
.
(434)
وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ، لا يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي آخِرِهَا»
(3)
.
(435)
وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «مِنْ كُلِّ اللّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْتَهى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا
(4)
.
* * *
هذه الأحاديث الأربعة الَّتي روتها أمُّ المؤمنين رضي الله عنها اشتملت على هديه صلى الله عليه وسلم في قيام اللَّيل والوتر، وأنَّه أنواعٌ.
(1)
البخاريُّ (1147)، ومسلمٌ (738).
(2)
البخاريُّ (1140)، ومسلمٌ (738).
(3)
مسلمٌ (737)، والبخاري (1170) غير أنه لم يذكر الوتر بخمس.
(4)
البخاريُّ (996)، ومسلمٌ (745).
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مداومته صلى الله عليه وسلم على قيام اللَّيل.
2 -
إطالته صلى الله عليه وسلم للصَّلاة في قيام اللَّيل، وتحمُّل مشقَّة ذلك.
3 -
أنَّ الغالب عليه في صلاته صلى الله عليه وسلم أنَّه لا يزيد على إحدى عشرة ركعةً في رمضان ولا في غيره.
4 -
أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يستريح في تهجُّده فيصلِّي أربعًا ثمَّ يستريح ثمَّ يصلِّي أربعًا، ثمَّ يستريح، ثمَّ يصلِّي ثلاثًا، والصَّحيح: أنَّ الأربع بسلامين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى»
(1)
، ولحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم: «أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى ركعتين ثمَّ ركعتين
…
»
(2)
، وقولها:«ثمَّ يصلِّي ثلاثًا» يحتمل أن تكون بسلامٍ، ويحتمل أن تكون بسلامين؛ لأنَّ الوتر يكون واحدةً وثلاثًا وخمسًا كما تقدَّم.
5 -
أنَّه صلى الله عليه وسلم قد يوتر في آخر صلاته بركعةٍ، وقد يوتر بخمسٍ لا يجلس إلَّا في آخرها.
6 -
أنَّه صلى الله عليه وسلم قد يصلِّي ثلاث عشرة، ولكنَّ ذلك قليلٌ.
7 -
وصف الصَّلاة بالحسن، وحسن الصَّلاة إكمالها بواجباتها وسننها وتناسبها.
8 -
أنَّ صلاة الرَّسول صلى الله عليه وسلم غايةٌ في الحسن.
9 -
أنَّ نومه صلى الله عليه وسلم لا كنوم غيره، فإنَّه صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه، فيغيب بالنَّوم عن الأمور الخارجة عنه ممَّا حوله ولا يغيب عن أحواله الباطنة، لذلك كان نومه غير ناقضٍ، وقد ثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم ينام حتَّى يكون له غطيطٌ ثمَّ يخرج إلى الصَّلاة. رواه البخاريُّ
(3)
، وفي روايةٍ:«فخرج فصلَّى ولم يتوضَّأ»
(4)
. وفي هذا دليلٌ على أنَّ غطيط النَّائم ليس عيبًا.
(1)
تقدَّم برقم (423).
(2)
البخاريُّ (992).
(3)
البخاريُّ (117)، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهم.
(4)
البخاريُّ (698).
10 -
أنَّه صلى الله عليه وسلم قد يوتر في أوَّل اللَّيل، وفي وسطه، والغالب على هديه صلى الله عليه وسلم أنَّه يوتر في آخر اللَّيل.
* * * * *
(436)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ اللهِ! لا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ؛ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم أحد عبَّاد الصَّحابة وحفَّاظهم، لذلك خصَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بهذه الوصيَّة، وحكمها عامٌّ، ولعلَّ فيها إشارةً؛ أنَّ من الاجتهاد في العبادة ما يؤدِّي إلى الانقطاع، وكان عبد الله يجتهد في العبادة كثيرًا.
وفيه فوائد، منها:
1 -
فضيلة عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم.
2 -
فضل قيام اللَّيل.
3 -
المحافظة على قيام اللَّيل.
4 -
استحباب المداومة على نوافل الطَّاعات، وفي الحديث:«أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ»
(2)
.
5 -
ذمُّ الانقطاع عمَّا تعوَّده العبد من الخير، والحذر من أسبابه.
6 -
أنَّ من عرف بما يذمُّ عليه واشتهر؛ يجوز ذكره به تحذيرًا من مثل حاله، فإنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم سمَّى ذلك الرَّجل، ولكنَّ عبد الله لم يرد ذكر اسم ذلك الرَّجل فكنَّى عنه بفلانٍ، وفلانٌ في اللُّغة كنايةٌ عمَّن لا يراد ذكر اسمه العلم، ويقال في الأنثى: فلانة.
(1)
البخاريُّ (1152)، ومسلمٌ (1159).
(2)
رواه البخاريُّ (6465)، ومسلمٌ (782)، عن عائشة رضي الله عنها.
(437)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوْتِرُوا يَا أَهْلَ القُرْآنِ؛ فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
(438)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(439)
وَعَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(3)
.
(440)
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ ب {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1)} [الأعلى]، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون (1)} [الكافرون]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} [الإخلاص]» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ
(4)
.
(441)
وَزَادَ: «وَلَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرهِنَّ» .
(442)
وَلأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَفِيهِ:«كُلُّ سُورَةٍ فِي رَكْعَةٍ، وَفِي الأَخِيرَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد (1)} وَالمُعَوِّذَتَيْنِ»
(5)
.
(443)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(6)
.
(444)
وَلاِبْنِ حِبَّانَ: «مَنْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَلَمْ يُوتِرْ فَلَا وِتْرَ لَهُ»
(7)
.
(1)
أحمد (877)، وأبو داود (1416)، والترمذيُّ (453)، والنَّسائيُّ (1674)، وابن ماجه (1169)، وابن خزيمة (1067).
(2)
البخاريُّ (998)، ومسلمٌ (751).
(3)
أحمد (16296)، وأبو داود (1439)، والترمذيُّ (470)، والنَّسائيُّ (1678)، وابن حبان (2449).
(4)
أحمد (21141)، وأبو داود (1423)، والنَّسائيُّ (1700).
(5)
أبو داود (1424)، والترمذيُّ (463).
(6)
مسلمٌ (754).
(7)
ابن حبان (2408).
(445)
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عَنِ الْوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ
(1)
.
(446)
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَافَ أَلَّا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(447)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالْوِتْرُ، فَأَوْتِرُوا قبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
(3)
.
* * *
هذه عشرة أحاديث تضمَّنت جملةً من أحكام الوتر، وبيانها يأتي ضمن ذكر الفوائد، وهي:
1 -
فضل حفَّاظ القرآن القائمين به.
2 -
تأكُّد الوتر في حقِّهم أكثر من غيرهم.
3 -
أنَّ من أسماء الله الوتر.
4 -
إثبات صفة المحبَّة لله.
5 -
أنَّ الله يحبُّ الوتر، وهذا مجملٌ تبيِّن مواضعه الأحاديث الدَّالَّة على استحباب الوتر أو وجوبه، فإنَّه يجب في: الطَّواف، والسَّعي، ورمي الجمار، والسُّجود على سبعة أعضاءٍ، ويستحبُّ في الوضوء، وفي تغسيل الميِّت، وفي أكل التَّمرات قبل الذَّهاب لصلاة عيد الفطر.
6 -
أنَّ محلَّ الوتر آخر الصَّلاة باللَّيل.
(1)
أحمد (11264)، وأبو داود (1431)، والترمذيُّ (465)، وابن ماجه (1188).
(2)
مسلمٌ (755).
(3)
الترمذيُّ (469).
7 -
استحباب الوتر أوَّله لمن خاف ألَّا يقوم آخره، ويشهد لذلك وصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه أن يوتر قبل أن ينام
(1)
.
8 -
استحباب الوتر آخر اللَّيل لمن وثق أنَّه يقوم في هذا الوقت.
9 -
أنَّ آخر وقت الوتر قبل طلوع الفجر، يدلُّ لذلك عدَّة أحاديث.
10 -
أنَّه إذا طلع الفجر ذهب وقت صلاة اللَّيل والوتر.
11 -
النَّهي عن الوتر مرَّتين، فمن أوتر أوَّل اللَّيل فلا يوتر آخره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» ، لكن من بدا له أن يصلِّي بعد الوتر فلا حرج عليه، لكن لا يوتر مرَّةً أخرى.
وذهب بعض السَّلف إلى أنَّ من أوتر أوَّل اللَّيل وأراد أن يصلِّي آخره صلَّى ركعةً يشفع بها الوتر السَّابق، ثمَّ يصلِّي ما بدا له ثمَّ يوتر، وهذا خلاف قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلةٍ» ، بل يتضمَّن الوتر ثلاث مرَّاتٍ! ومن جهة النَّظر: كيف توصل ركعةٌ بركعةٍ قد مضى عليها ساعاتٌ؟! ولم تنو هذه الرَّكعة اللَّاحقة.
12 -
أنَّ من نام عن الوتر أو نسيه قضاه في النَّهار لكن يشفعه، فمن كان يوتر بثلاثٍ صلَّى أربعًا، أو بخمسٍ صلَّى ستًّا، لما صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه إذا فاته ورده من اللَّيل صلَّى من الضُّحى ثنتي عشرة ركعةً
(2)
.
13 -
مشروعيَّة قراءة السُّور الثَّلاث في الوتر: الأعلى، الكافرون، الإخلاص، كلُّ سورةٍ في ركعةٍ.
14 -
قراءة المعوِّذتين مع سورة الإخلاص.
15 -
فضل هذه السُّور الثَّلاث، ويدلُّ لذلك أنَّ {سَبِّحِ} [سورة الأعلى] كان يقرأ بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الجمعة والعيدين، وسورتي (الكافرون) و (الإخلاص)
(1)
رواه البخاريُّ (1981)، ومسلمٌ (721)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاثٍ
…
وأن أوتر قبل أن أنام».
(2)
رواه مسلمٌ (746)، عن عائشة رضي الله عنها.
يقرأ بهما في ركعتي الفجر وركعتي الطَّواف. وسورة (الإخلاص) تعدل ثلث القرآن.
* * * * *
(448)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى أَرْبَعًا، وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(449)
وَلَهُ عَنْهَا رضي الله عنها أَنَّهَا سُئِلَتْ: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَتْ: لَا، إِلَّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ»
(2)
.
(450)
وَلَهُ عَنْهَا رضي الله عنها: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي سُبْحَةَ الضُّحَى قَطُّ، وَإنِّي لَأُسَبِّحُهَا»
(3)
.
(451)
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه أَنَّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةُ الأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
(4)
.
(452)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَي عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ
(5)
.
(453)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْتِي، فَصَلَّى الضُّحَى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي «صَحِيحِهِ»
(6)
.
* * *
هذه الأحاديث تبيِّن حكم صلاة الضُّحى وصفتها، وإضافة الصَّلاة إلى الضُّحى من إضافة الشَّيء إلى سببه وهو وقتها كصلاة الظُّهر وصلاة الفجر ونحو ذلك.
(1)
مسلمٌ (719).
(2)
مسلمٌ (717).
(3)
مسلمٌ (718).
(4)
رواه مسلمٌ (748). ولم أجده عند الترمذيِّ.
(5)
الترمذيُّ (473).
(6)
ابن حبان (2531).
وقد دلَّ على مشروعيَّة صلاة الضُّحى سننٌ قوليَّةٌ وفعليَّةٌ، فأمَّا القوليَّة؛ فما جاء في وصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:«يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» وفيه: «وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى»
(2)
، وحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه المذكور في الباب. وأمَّا الفعليَّة؛ فهذه الأحاديث الَّتي ساقها الحافظ رحمه الله، عن عائشة رضي الله عنها.
وهذه الأحاديث تدلُّ على أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على صلاة الضُّحى، ولم يكن يداوم على عددٍ معيَّنٍ من الصَّلاة؛ فتارةً يصلِّي الضُّحى أربعًا، وتارةً ثمانيًا، وثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم صلَّى ضحى يوم الفتح بمكَّة ثماني ركعاتٍ
(3)
، لكن قال بعض أهل العلم: إنَّ هذه صلاة الفتح؛ أي صلَّى هذه الصَّلاة شكرًا لله عز وجل على نعمة الفتح.
لذا اختلف العلماء: فذهب الجمهور إلى استحباب صلاة الضُّحى واستحباب المداومة عليها، وكره بعضهم المداومة عليها. واختار شيخ الإسلام استحباب المداومة عليها لمن لا يقوم آخر اللَّيل؛ أخذًا من وصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه
(4)
، وقد أوصاه أن يوتر قبل أن ينام.
والرَّاجح -والله أعلم-: هو القول الأوَّل، وهو أنَّه يستحبُّ المداومة عليها، لحديث أبي هريرة وأبي ذرٍّ رضي الله عنهم، وأمَّا حديث عائشة رضي الله عنها:«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي سبحة الضُّحى قطُّ، وإنِّي لأسبِّحها» فأحسن ما يقال في الجواب عنه: إنَّه مرجوحٌ في مقابل الأحاديث الصَّحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله، فإنَّه لا
(1)
رواه البخاريُّ (1981)، ومسلمٌ (721)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاثٍ
…
وركعتي الضُّحى
…
».
(2)
رواه مسلمٌ (720)، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاريُّ (357)، ومسلمٌ (336)، عن أمِّ هانئ رضي الله عنها، وذلك حين ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتكي عليًّا رضي الله عنه، وتطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يجير من أجارت.
(4)
«الفتاوى الكبرى» (2/ 128).
يمكن الجمع بين قولها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي الضُّحى أربعًا» وقولها: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي سبحة الضُّحى قطُّ، وإنِّي لأسبِّحها» فإنَّ هذا تقابلٌ بين النَّفي والإثبات في أمرٍ واحدٍ عن راوٍ واحدٍ. وفي قولها: «وإنِّي لأسبِّحها» مع قولها: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي سبحة الضُّحى» نكارةٌ
(1)
، فاللَّائق أن تقول: فأنا لا أسبِّحها؛ أي: اقتداءً بتركه صلى الله عليه وسلم.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة صلاة الضُّحى.
2 -
فضل صلاة الضُّحى.
3 -
أنَّ أقلَّها ركعتان.
4 -
أنَّ أكثرها ثمان ركعاتٍ، وما زاد فمن التَّطوُّع المطلق، وقيل: لا حدَّ لأكثرها
(2)
؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «ويزيد ما شاء الله» .
5 -
أنَّ وقتها من ارتفاع الشَّمس إلى أن يقوم قائم الظَّهيرة.
6 -
أنَّ أفضل وقتها حين ترمض الفصال؛ أي: حين تجد حرَّ الرَّمضاء.
7 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على صلاة الضُّحى، وإن كانت أحاديثه القوليَّة تقتضي استحباب المداومة عليها.
8 -
استحباب صلاة ركعتين لمن قدم من سفرٍ، وتكون في مسجدٍ، كما دلَّ لذلك حديث كعب بن مالكٍ وحديث جابرٍ رضي الله عنهم، قال كعبٌ رضي الله عنه:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين»
(3)
.
(1)
قال بالنكارة أيضًا ابن عبد البرِّ. «التمهيد» (8/ 145).
(2)
«فتح الباري» (3/ 54).
(3)
رواه البخاريُّ (4418)، ومسلمٌ (2769).
9 -
فضل الأوّاب؛ وهو الرَّجَّاع إلى الله بفعل الصَّالحات والتَّوبة من السَّيِّئات.
10 -
تسمية صلاة الضُّحى سبحةً، وتسمية التَّنفُّل بالصَّلاة مطلقًا تسبيحًا، كما قال ابن عمر رضي الله عنهم:«لو كنت مسبِّحًا لأتممت»
(1)
.
* * * * *
(1)
رواه البخاريُّ (1101)، ومسلمٌ (689).
بَابُ صَلاةِ الجَمَاعَةِ وَالإِمَامَةِ
هذا الباب يشتمل على موضوعين:
1 -
صلاة الجماعة.
2 -
الإمامة.
والمقصود من هذا الباب: بيان حكم صلاة الجماعة وأحكامها وأحكام الإمامة. والإمامة من أحكام صلاة الجماعة، وإضافة الصَّلاة إلى الجماعة من إضافة الشَّيء إلى نوعه، أو إلى صفته.
وقوله: «والإمامة» معطوفٌ على الصَّلاة، والتَّقدير: باب صلاة الجماعة وباب الإمامة، وهو يشبه عطف الخاصِّ على العامِّ.
* * * * *
(454)
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(455)
وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا»
(2)
.
(456)
وَكَذَا لِلْبُخَارِيِّ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه، وَقَالَ:«دَرَجَةً»
(3)
.
(457)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ.
(1)
البخاريُّ (645)، ومسلمٌ (650).
(2)
البخاريُّ (648)، ومسلمٌ (649).
(3)
البخاريُّ (646).
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
(1)
.
(458)
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(459)
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى المَسْجِدِ. فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلّى دَعَاهُ؛ فَقَالَ:«هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَجِبْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(3)
.
(460)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ رَجَّحَ بَعْضُهُمْ وَقْفَهُ
(4)
.
* * *
هذه الأحاديث تضمَّنت حكم صلاة الجماعة وبيان فضلها، فأمَّا حكمها فقد اختلف فيه أهل العلم على مذاهب:
أَحَدُهَا: أنَّها واجبةٌ على الأعيان من الرِّجال المكلَّفين، واستدلَّ لهذا القول بأدلَّةٍ؛ منها: أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه الثَّلاثة، وحديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم، وهي ظاهرة الدَّلالة على الوجوب.
الثَّانِي: أنَّها سنَّةٌ مؤكَّدةٌ، واستدلُّوا بأحاديث فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذِّ؛ كحديث ابن عمر رضي الله عنهم وحديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكورين في الباب، فتارك الجماعة عندهم تاركٌ لما هو أفضل، وهذه حجَّةٌ ضعيفةٌ؛ فإنَّ الأفضليَّة لا تنافي الوجوب، ولا جواب لهم عن أدلَّة الموجبين لصلاة الجماعة.
(1)
البخاريُّ (644)، ومسلمٌ (651).
(2)
البخاريُّ (657)، ومسلمٌ (651).
(3)
مسلمٌ (653).
(4)
ابن ماجه (793)، والدارقطنيُّ (1555)، وابن حبان (2064)، والحاكم (897).
وَالثَّالِثُ: أنَّها فرض كفايةٍ، تجب إقامتها في مسجدٍ من البلد أو في مساجد البلد، ولعلَّهم في هذا قصدوا إلى الجمع بين الأدلَّة، ولكنَّ أدلَّة الوجوب لا تحتمل فرض الكفاية، فالرَّسول صلى الله عليه وسلم همَّ بتحريق بيوت المتخلِّفين مع إقامة صلاة الجماعة في مسجده صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ صلاة الجماعة شرطٌ؛ فلا تصحُّ صلاة منفردٍ ما دامت الجماعة الرَّاتبة باقيةً، فمن صلَّى قبل فراغها لم تصحَّ صلاته؛ كصلاة الجمعة، لا تصحُّ صلاة الظُّهر ممَّن تجب عليهم إلَّا بعد انقضائها.
وذهب بعض الشُّرَّاح إلى أنَّ الأحاديث لم تدلَّ على وجوب الجماعة إلَّا في مسجده صلى الله عليه وسلم
(1)
، ولا وجه لهذا التَّخصيص؛ فليس في شيءٍ من الأحاديث التَّقييد بمسجده صلى الله عليه وسلم، وقد كان للصَّحابة رضي الله عنهم في عصره صلى الله عليه وسلم مساجد يصلُّون فيها غير مسجده.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ صلاة الجماعة في المسجد تفضل على صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين ضعفًا أو خمسٍ وعشرين درجةً أو جزءًا، والضِّعف والدَّرجة والجزء معناها واحدٌ، وهو مقدارٌ من الأجر.
وهذا التَّفاوت في مقدار التَّضعيف والدَّرجات بين سبعٍ وعشرين وخمسٍ وعشرين، قيل: إنَّه راجعٌ إلى أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أخبر أوَّلاً بخمسٍ وعشرين ثمَّ أخبر بسبعٍ وعشرين زيادةً تفضَّل الله بها. وقيل: إنَّ ذلك راجعٌ إلى تفاوت الجماعات في الكثرة والقلَّة والبعد والقرب في المساجد. والله أعلم.
2 -
أنَّ الجماعة الَّتي لها هذا التَّضعيف والتَّفضيل هي الجماعة الرَّاتبة، الَّتي تقام في المسجد، يدلُّ لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه الَّذي اختصره المؤلِّف،
(1)
هو الصنعانيُّ.
ولفظه: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلِ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ، ولا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ» . فعلَّل التَّضعيف بما ذكر من التَّطهُّر والخروج إلى المسجد، وكتابة الخطى، وصلاة الملائكة.
3 -
التَّرغيب في صلاة الجماعة.
4 -
سعة فضل الله تعالى بمضاعفة الحسنات لعباده.
5 -
صحَّة صلاة الفذِّ ولو ترك الجماعة من غير عذرٍ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم أثبت لها قدرًا من الثَّواب تزيد عليه صلاة الجماعة بخمسٍ وعشرين أو سبعٍ وعشرين.
6 -
وجوب صلاة الجماعة على كلِّ مكلَّفٍ قادرٍ من الرِّجال.
7 -
جواز القسم بدون استحلافٍ؛ للتَّأكيد وبيان أهمِّيَّة الأمر.
8 -
جواز القسم بهذه الصِّيغة «والَّذي نفسي بيده» وإثبات اليد لله.
9 -
أنَّه لا يلزم من الهمِّ بالشَّيء فعله، فقد يمنع منه مانعٌ.
10 -
جواز معاقبة المتخلِّف عن الجماعة من غير عذرٍ.
11 -
جواز التَّعزير بإتلاف المال.
12 -
جواز التَّخلُّف عن صلاة الجماعة الرَّاتبة لتغيير منكرٍ يفوت.
13 -
وجوب الصَّلاة جماعةً في المسجد.
14 -
أنَّ إقامة صلاة الجماعة في البيوت لا يسقط وجوب صلاة الجماعة في المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ» ، ولم يقل: لا يصلُّون جماعةً.
15 -
أنَّ الصَّلاة ثقيلةٌ على المنافقين، وأثقلها صلاة العشاء والفجر.
16 -
عظم أجر هاتين الصَّلاتين.
17 -
إيثار المنافقين لمنافع الدُّنيا -وإن كانت زهيدةً- على ثواب الآخرة.
18 -
التَّحذير من مشابهة المنافقين في ذلك.
19 -
التَّخلُّف عن صلاة الجماعة من سمات المنافقين.
20 -
فضل العلم لأهله العاملين، وأنَّه يحمل على العمل.
21 -
سقوط الجماعة بالأعذار الشَّرعيَّة؛ كالمرض والخوف وغيرهما.
22 -
أنَّ مناط وجوب الجماعة سماع النِّداء، فمن لم يسمع النِّداء لبعده لم تجب عليه، ولا عبرة بسماع النِّداء بمكبِّرات الصَّوت مع بعد المكان، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعمى:«هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟» قال: نعم. قال: «فَأَجِبْ» .
23 -
أنَّ العمى ليس عذرًا في ترك الجماعة إذا كان الأعمى يمكنه الحضور.
24 -
جواز رجوع العالم عن فتواه لمقتضٍ يوجب ذلك.
25 -
أنَّ صلاة الجماعة واجبةٌ على الأعيان من وجوهٍ:
- همُّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلِّفين عن شهود الصَّلاة.
- أنَّه لم يرخِّص للأعمى حين طلبه الرُّخصة في التَّخلُّف عن صلاة الجماعة.
- قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ» ، وهذا الحديث استدلَّ به من قال إنَّ الجماعة شرطٌ، فلا تصحُّ صلاة المتخلِّف إلَّا إذا فاتته صلاة الجماعة كالجمعة، واستدلَّ به من قال بوجوب الجماعة على الأعيان، فيأثم المتخلِّف وإن كانت صلاته صحيحةً. وأمَّا من قال: إنَّ الجماعة سنَّةٌ أو فرض كفايةٍ، فتأوَّلوا هذا الحديث على معنى: لا صلاة كاملةٌ.
26 -
أنَّ المرأة لا يجب عليها حضور الجماعة.
* * * * *
(461)
وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ رضي الله عنه أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا، فَدَعَا بِهِمَا، فَجِيءَ بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا:«مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا؟» ، قَالَا: قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا، قَالَ:«فَلَا تَفْعَلَا، إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا، ثُمَّ أَدْرَكْتُمَا الإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ فَصَلِّيَا مَعَهُ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
* * *
يزيد بن الأسود العامريُّ رضي الله عنه كما جاء في المسند، وليس هو يزيد بن الأسود الجُرشيُّ رحمه الله الذي كان معاوية رضي الله عنه يقدِّمه في الاستسقاء لصلاحه؛ رجاء بركة دعائه، كما كان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك مع العبَّاس رضي الله عنه عمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانت صلاة يزيد العامريِّ مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع بمنًى.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة إعادة الصَّلاة لمن صلَّى ثمَّ أدركها مع الإمام، وقد اختلف العلماء في هذا الموضع في مسألتين:
أولاهما: أيُّ الصَّلاتين يعتدُّ بها المكلَّف لفرضه؟ على ثلاثة مذاهب:
1 -
قيل: الفريضة الأولى، والثَّانية نافلةٌ.
2 -
وقيل: بالعكس.
3 -
وقيل: يفوَّض الأمر إلى الله يختار لعبده الأولى أو الثَّانية.
والأوَّل هو الصَّواب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَصَلِّيَا مَعَهُ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ» ، والظَّاهر عود الضَّمير إلى الصَّلاة مع الإمام.
(1)
أحمد (17474)، وأبو داود (575)، والترمذيُّ (219)، والنَّسائيُّ (857)، وابن حبان (1565).
والمسألة الثَّانية: هل تشرع إعادة الصَّلاة لمن أدركها مع الإمام في جميع الصَّلوات الخمس؟ هذا هو ظاهر عموم الحديث. وقيل: لا تعاد في وقت النَّهي، فلا تعاد الفجر والعصر. وسبب الحديث يردُّ هذا القول، وهو أنَّ قصَّة الرَّجلين إنَّما كانت في صلاة الفجر.
وقيل: لا تعاد صلاة المغرب؛ لأنَّها وتر النَّهار، وهذا التَّعليل لا ينهض لمعارضة عموم الحديث.
4 -
فضيلة يزيد بن الأسود رضي الله عنه لحجِّه مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وصلاته معه.
5 -
صحَّة صلاة من صلَّى في بيته؛ لقول الرَّجلين: «قد صلَّينا في رحالنا» .
6 -
أنَّ من صلَّى ثمَّ جاء إلى مسجد جماعةٍ ولم يصلِّ الإمام فإنَّه يؤمر بالصَّلاة معهم، وينهى عن الجلوس في المسجد والنَّاس يصلُّون؛ لئلَّا يتَّهم بترك الصَّلاة.
7 -
اجتناب مواقف التُّهم.
8 -
أنَّ الصَّلاة الثَّانية نافلةٌ والأولى هي الفريضة.
9 -
التَّثبُّت قبل الإنكار.
10 -
تفقُّد الإمام لمن في المسجد.
11 -
أنَّ استدعاء المخطئ يوجب خوفه من العقاب.
12 -
إقامة الصَّلوات الخمس في مسجد الخيف أيَّام منًى.
13 -
جواز إعادة صلاة الفجر مع الإمام ومثلها العصر، خلافًا لمن منع ذلك من أجل النَّهي عن الصَّلاة في الوقتين.
14 -
تخصيص عموم أحاديث النَّهي عن الصَّلاة بعد الفجر وبعد العصر بذوات الأسباب؛ كتحيَّة المسجد وصلاة الكسوف.
* * * * *
(462)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، ولا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، ولا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَإِذَا سَجَدَ فاسْجُدُوا، ولا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ، وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَأَصْلُهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ»
(1)
.
* * *
هذا أوَّل الأحاديث المتعلِّقة بالإمامة من أحاديث الباب، وهو أصلٌ في باب الإمامة، والإمام هو من يتقدَّم غيره حسًّا أو معنًى، والإمام في الصَّلاة هو: من يقتدى به ويتبع في صلاة الجماعة، وقد تضمَّن هذا الحديث صفة الائتمام، والاقتداء بالإمام.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة اتِّخاذ الإمام في صلاة الجماعة، وهو واجبٌ بل لا تمكن صلاة الجماعة إلَّا بإمامٍ.
2 -
الحكمة من جعل الإمام، وهي الائتمام به.
3 -
أنَّ الائتمام بالإمام هو أعظم المقصود من جعله، وهو ما يفيده الحصر «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ» .
4 -
إثبات الجعل الشَّرعيِّ.
5 -
وجوب الائتمام بالإمام، وذلك بالإتيان بأفعال الصَّلاة كلِّها وبعض الأقوال من بعده.
(1)
أبو داود (603). وأصله في البخاريِّ (734)، ومسلمٍ (417).
6 -
أنَّه لا يجب الائتمام به في النِّيَّة كمن يصلِّي الظُّهر خلف من يصلِّي العصر.
7 -
تحريم التَّقدُّم على الإمام، وهو ما يعرف بمسابقة الإمام.
8 -
وجوب مراعاة صفة الائتمام في تكبيرة الإحرام وفي الرُّكوع وفي الرَّفع منه وفي التَّسميع وفي السُّجود والقيام والقعود.
9 -
أنَّ المأموم يقول: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» ، بعد قول الإمام:«سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» .
10 -
صحَّة إمامة القاعد.
11 -
اتِّباعه في القعود، وقد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم حين صلَّى قاعدًا، وأشار إلى من كان خلفه أن اجلسوا، وقد اختلف العلماء في قعود المأموم إذا كان الإمام قاعدًا، فقيل: إنَّ ذلك منسوخٌ بحديث عائشة رضي الله عنها الآتي، وفيه أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه ابتدأ الصَّلاة قائمًا، ثمَّ جاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وذلك في مرضه عليه الصلاة والسلام، فجلس عن يسار أبي بكرٍ رضي الله عنه، فكان أبو بكرٍ يقتدي بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قائمًا، ويقتدي النَّاس بصلاة أبي بكرٍ قيامًا، فجمع بينهما بعض أهل العلم
(1)
فقال: إن ابتدأ الصَّلاة قاعدًا صلَّى من خلفه قعودًا، وإن ابتدأ الصَّلاة قائمًا ثمَّ عرض له ما يوجب القعود صلَّى من خلفه قيامًا، وخصَّ الإمام أحمد ذلك بالإمام الرَّاتب.
وعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا» مخصِّصٌ لقوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصينٍ رضي الله عنه: «صَلِّ قَائِمًا»
(2)
.
* * * * *
(1)
هو الإمام أحمد. «المغني» (3/ 62).
(2)
تقدَّم برقم (374).
(463)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ:«تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
هذا الحديث من أحاديث الحثِّ على التَّقدُّم إلى صلاة الجماعة مثل حديث «خير صفوف الرِّجال أوَّلها»
(2)
وحديث «لو يعلم النَّاس ما في النِّداء والصَّفِّ الأوَّل
…
» الحديث
(3)
.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
تفقُّد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم.
2 -
تفقُّد الإمام لجماعة مسجده.
3 -
موعظة الإمام لمن رأى منه تقصيرًا فيما ينبغي.
4 -
الأمر بالتَّقدُّم إلى صلاة الجماعة.
5 -
الأمر بالائتمام بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصَّلاة، وهو يحتمل الائتمام العامَّ، ذكره عياضٌ
(4)
فيكون كقوله: «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي»
(5)
، ويحتمل أن يراد به ائتمام المأموم بالإمام، وأكثر الشُّرَّاح على هذا، فيكون كقوله:«إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ»
(6)
وهذان الاحتمالان يجريان في قوله: «وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ» فيكون معنى «وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ» إمَّا: فليقتد بكم من يجيء بعدكم من التَّابعين، وإمَّا: فليقتد بكم من خلفكم من الصُّفوف المتأخِّرة، وذلك باستدلالهم على ما يفعله الإمام بما يفعله أهل الصُّفوف المتقدِّمة، وبناءً على هذا قال بعضهم: إنَّ المسبوق إذا أدرك المأمومين ركوعًا فركع معهم أدرك
(1)
مسلمٌ (438).
(2)
سيأتي برقم (472).
(3)
رواه مسلمٌ (437)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
ينظر: «إكمال المعلم بفوائد مسلمٍ» (2/ 351).
(5)
تقدَّم برقم (373).
(6)
تقدَّم برقم (462).
الرَّكعة مستدلًّا بهذا الحديث، وهذا ضعيفٌ! فإنَّ المعوَّل في إدراك الرَّكعة إدراك الرُّكوع مع الإمام.
6 -
التَّحذير الشَّديد من التَّأخُّر عن حضور صلاة الجماعة، لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه:«وَلَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ» .
7 -
أنَّ من عقوبة السَّيِّئة السَّيِّئة بعدها، وشواهد هذا كثيرةٌ.
* * * * *
(464)
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: «احْتَجَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُجْرَةً بِخَصَفَةٍ، فَصَلَّى فِيهَا، فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ
…
» الحَدِيثَ، وَفِيهِ:«أَفْضَلُ صَلَاةِ المَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا المَكْتُوبَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
قوله: «احتجر» ؛ أي: احتجز مكانًا من المسجد ليصلِّي فيه من اللَّيل صلاة تطوُّعٍ. والخصفة: ما ينسج من خوص النَّخل، ومعناه: جعل الخصفة حاجزًا دون النَّاس، وقوله:«فتتبَّع إليه رجالٌ» ؛ أي: شعر به رجالٌ فطلبوا موضعه واجتمعوا إليه، فصلَّوا بصلاته صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث أنَّهم انتظروه ليلةً فلم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم ثمَّ قال لهم:«فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» .
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز احتجاز مكانٍ من المسجد للانفراد فيه ما لم يضيِّق على المصلِّين، ومن هذا القبيل الخباء للمعتكف.
2 -
حرص الصَّحابة رضي الله عنهم على الخير.
3 -
صلاة النَّافلة جماعةً إذا لم يتَّخذ ذلك راتبًا.
(1)
البخاريُّ (731)، ومسلمٌ (781).
4 -
جواز الائتمام بمن دخل في الصَّلاة منفردًا.
5 -
أنَّ صلاة التَّطوُّع في البيت أفضل منها في المسجد.
6 -
التَّرغيب في الصَّلاة في البيوت.
7 -
أنَّ الصَّلاة المكتوبة الأفضل أن تكون في المسجد، وتقدَّم حكم صلاة الجماعة وأنَّها واجبةٌ.
8 -
رحمة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأمَّته وخشيته ممَّا يشقُّ عليهم.
9 -
أنَّ العمل المفروض لا خيار فيه للمكلَّف.
10 -
أنَّ صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في المسجد تطوُّعًا كصلاته في بيته؛ أي: في الفضل، وهذا خاصٌّ به عليه الصلاة والسلام.
11 -
جواز أن يكون بين الإمام والمأموم حاجزٌ.
* * * * *
(465)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى مُعَاذٌ بِأَصْحَابِهِ الْعِشَاءَ فَطَوَّلَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَتُرِيدُ أَنْ تَكُونَ يَا مُعَاذُ فَتَّانًا؟ إِذَا أَمَمْتَ النَّاسَ فَاقْرَأْ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} وَ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1)} وَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضل معاذٍ رضي الله عنه؛ وذلك من جهة حرصه على الصَّلاة مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن جهة رغبته في الصَّلاة، لذلك يطيل فيها.
2 -
صحَّة صلاة المفترض خلف المتنفِّل، فإنَّ صلاة معاذٍ رضي الله عنه الثَّانية نافلةٌ.
(1)
البخاريُّ (705)، ومسلمٌ (465).
3 -
جواز إعادة الصَّلاة جماعةً لسببٍ.
4 -
التَّحذير ممَّا ينفِّر عن الصَّلاة.
5 -
مشروعيَّة التَّأليف على الدِّين وتحبيب العبادة للنَّاس في حدود ما دلَّت عليه السُّنَّة.
6 -
الإنكار على من خالف السُّنَّة ولو كان مجتهدًا والإغلاظ له.
7 -
بيان مقدار القراءة في صلاة العشاء.
8 -
الإرشاد إلى قراءة هذه السُّور ونحوها من أوساط المفصَّل في صلاة العشاء.
9 -
أنَّ السُّنَّة القراءة بالسُّورة كلِّها، لقوله:«اقْرَأْ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} [سورة الشمس] و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} [سورة الأعلى]» ، ولم يثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم قسم السُّورة بين ركعتين إلَّا ما ورد من قراءته {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون (1)} [المؤمنون]، حيث أخذته سعلةٌ فركع عند قوله:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِين (45)} [المؤمنون: 45]
(1)
، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر بالصافات.
* * * * *
(466)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها -فِي قِصَّةِ صَلَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ وَهُوَ مَرِيضٌ- قَالَتْ: «فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بكْرٍ، فَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ جَالِسًا وَأَبُو بَكْرٍ قَائِمًا، يَقْتَدِي أبو بكْرٍ بِصَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِصَلَاةِ أَبِي بكْرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
* * *
تقدَّمت الإشارة إلى هذا الحديث في مسألة إمامة القاعد؛ في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ»
(3)
.
(1)
رواه البخاريُّ معلقًا (1/ 251)، ووصله مسلمٌ (455)، عن عبد الله بن السائب رضي الله عنهم.
(2)
البخاريُّ (713)، ومسلمٌ (418).
(3)
تقدَّم برقم (462).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بشرٌ تعرض له العوارض البشريَّة كالمرض.
2 -
فضل أبي بكرٍ رضي الله عنه على سائر الصَّحابة رضي الله عنهم.
3 -
جواز الاستنابة في الإمامة.
4 -
جواز عزل النَّائب في الإمامة أثناء الصَّلاة، لكن ذلك لا ينبغي إلَّا في أوَّل الصَّلاة؛ لئلَّا يلزم من ذلك تمام صلاة المأموم قبل الإمام، فإن وقع ذلك سلَّم المأموم الَّذي تمَّت صلاته وتابع المسبوق مع الإمام، وإن انتظر من تمَّت صلاته حتَّى يسلِّم الإمام فحسنٌ. والله أعلم.
5 -
صلاة المأموم قائمًا خلف الإمام القاعد، قيل: هذا الحديث ناسخٌ للحديث المتقدِّم: «وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ» ، وقيل بالفرق بين ما إذا ابتدأ الصَّلاة قاعدًا فيصلِّي المأموم خلفه قاعدًا أو ابتدأها قائمًا ثمَّ اعتلَّ فجلس فيستمرُّ المأموم قائمًا. وبهذا جمع الإمام أحمد بين الحديثين كما تقدَّم.
6 -
جواز التَّبليغ عن الإمام لحاجةٍ؛ كضعف صوته أو بعد المأموم.
7 -
جواز استعمال مكبِّر الصَّوت عند الحاجة من غير مبالغةٍ.
8 -
جواز الانتقال من الإمامة إلى الائتمام.
9 -
جواز انتقال المأمومين من إمامٍ إلى إمامٍ.
10 -
الإشارة إلى استخلاف أبي بكرٍ رضي الله عنه.
* * * * *
(467)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَمَّ أَحَدُكُمُ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ؛ فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الحَاجَةِ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كَيْفَ شَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (703)، ومسلمٌ (467).
موضوع الحديث هو بعض ما يجب على الإمام للمأمومين، وهو التَّخفيف.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الإمامة في صلاة الجماعة.
2 -
أنَّ الإمام ليس له أن يصلِّي كيف شاء.
3 -
وجوب مراعاة الإمام للمأمومين بالتَّخفيف، ما لم يؤدِّ إلى الإخلال بواجبات الصَّلاة، بل قال بعض العلماء: إنَّ التَّخفيف الَّذي أمر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هو ما كان يفعله عليه الصلاة والسلام.
4 -
أنَّ ذلك رعايةٌ لحال الضُّعفاء وذوي الحاجات.
5 -
أنَّ رعاية المأمومين عامٌّ في الفرض والنَّفل.
6 -
في الحديث شاهدٌ لقاعدة يسر هذا الدِّين.
7 -
أنَّ من صلَّى وحده له أن يطوِّل ما شاء ما لم يؤدِّ إلى خروج الوقت أو يخرج العبادة إلى صورة البدعة.
8 -
أنَّ من صلَّى بقومٍ محصورين يعلم رضاهم فهو كمن صلَّى وحده.
* * * * *
(468)
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ سَلِمَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبِي: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا، قَالَ:«فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا» ، قَالَ: فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي، فَقَدَّمُونِي، وَأَنَا ابْنُ سِتِّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ
(1)
.
(469)
وَعَنْ أبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ
(1)
البخاريُّ (4302)، وأبو داود (585)، والنَّسائيُّ (635).
سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا -وفِي رِوَايَةٍ: سِنًّا- ولا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، ولا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ؛ إِلَّا بِإِذْنِهِ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(470)
وَلاِبْنِ مَاجَه: مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه: «وَلَا تَؤُمَّنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، ولا أَعْرَابِيٌّ مُهَاجِرًا، ولا فَاجِرٌ مُؤْمِنًا» . وَإِسْنَادُهُ وَاهٍ
(2)
.
* * *
هذه الأحاديث فيها بيان الأحقِّ بالإمامة، ومن لا تصحُّ إمامته، دلَّ على المسألة الأولى الحديثان الأوَّلان، الأوَّل منهما في البخاريِّ، والثَّاني في مسلمٍ، ودلَّ على المسألة الثَّانية الحديث الثَّالث، وهو عند ابن ماجه، وقال فيه المصنِّف:«وإسناده واهٍ» ، فهو ضعيفٌ شديد الضَّعف.
والحديثان فيهما فوائد، منها:
1 -
فضيلة عمرو بن سلمة رضي الله عنه، حيث كان أكثر حفظًا للقرآن مع صغر سنِّه.
2 -
صحَّة إمامة الصَّبيِّ.
3 -
أنَّ الأحقَّ بالإمامة من كان أكثر حفظًا للقرآن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا» ، وفي الحديث الآخر:«يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ» ، والظَّاهر أنَّ المراد بالأقرأ هو: الأكثر حفظًا، وبهذا يزول ما يظنُّ من التَّعارض. والأصل: أنَّه لا يعتدُّ بما يحفظ من القرآن إلَّا مع سلامة القراءة من اللَّحن والتَّحريف.
4 -
قبول رواية الواحد.
(1)
مسلمٌ (673).
(2)
ابن ماجه (1081). وفي إسناده عبد الله بن محمد العدوي، متروك الحديث، قال عنه وكيع:«يضع الحديث» ، وقال عنه ابن حبان:«منكر الحديث جدًّا» . ينظر: «التقريب» (322).
5 -
أنَّ الحجَّة فيما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6 -
عمل الصَّحابة رضي الله عنهم بظاهر الدَّليل.
7 -
سرعة انقيادهم رضي الله عنهم لأمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم وتواضعهم لمن رفعه الله بالعلم؛ وإن كان أصغر سنًّا.
8 -
وجوب الأذان للصَّلاة المكتوبة إذا دخل وقتها.
9 -
فضل الإمامة على الأذان.
10 -
أنَّ المؤذِّن لا يراعى فيه ما يراعى في الإمام من الصِّفات كالعلم والسِّنِّ، لقوله:«فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ» ولم يقيِّده بشيءٍ.
11 -
صحَّة صلاة المفترض خلف المتنفِّل؛ لأنَّ صلاة الصَّبيِّ في حقِّه نافلةٌ.
12 -
فضيلة القرآن العظيم.
13 -
فضل حامل القرآن.
من فوائد الحديث الثاني:
14 -
أنَّ الأمر يرد بصيغة الخبر؛ لقوله: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ» ؛ أي: ليؤمَّ القوم.
15 -
تقديم الأقرأ في الإمامة، وإن كان دون غيره في العلم بالسُّنَّة.
16 -
تقديم الأعلم بالسُّنَّة عند التَّساوي في القراءة.
17 -
التَّقديم بالهجرة عند التَّساوي في القراءة والسُّنَّة.
18 -
التَّقديم بالسِّنِّ مع التَّساوي في القراءة والسُّنَّة والهجرة.
19 -
تقديم الوالي في الإمامة في ولايته؛ لقوله: «وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ» .
20 -
الأدب في ترك الجلوس في المكان الخاصِّ بصاحب المنزل.
21 -
أنَّه إذا أذن عن طيب نفسٍ فلا حرج في الجلوس على تكرمته
(1)
.
(1)
قال النوويُّ في شرحه لمسلمٍ (5/ 174): «التكرمة: الفراش ونحوه ممَّا يبسط لصاحب المنزل ويختصُّ به» .
الحديث الثالث -وهو ضعيفٌ- اشتمل على ثلاث مسائل:
- الأُولَى: النَّهي عن إمامة الأعرابيِّ -وهو البدويُّ- للمهاجر، وفي معناه المقيم في الحضر، ولكنَّه معارضٌ بالأحاديث الصَّحيحة كما تقدَّم، فالصَّواب: تقديم الأعرابيِّ على المهاجر والحضريِّ إذا كان أقرأ.
- الثَّانِيَةُ: النَّهي عن إمامة المرأة للرَّجل. وهذا الحديث وإن كان لا يصحُّ، فقد دلَّ على عدم صحَّة إمامة المرأة للرَّجل أدلَّةٌ أخرى، منها: أنَّه كما لا يصحُّ أن تصافَّ المرأة الرِّجال فلا تصحُّ إمامتها لهم من باب أولى، ومنها: عمل المسلمين المطَّرد؛ فلا يعلم عن أحدٍ أنَّه جعل المرأة إمامًا للرِّجال، وقد ذهب جمهور العلماء إلى عدم صحَّة إمامة المرأة للرِّجال، وهو الصَّواب المقطوع به، وخصَّ من ذلك إمامة المرأة لأهل بيتها من النِّساء والخدم، ويدخل في ذلك الصِّبيان والمماليك؛ لحديث أمِّ ورقة رضي الله عنها الآتي
(1)
.
- الثَّالِثَةُ: النَّهي عن إمامة الفاجر (وهو المظهر للفسق) للمؤمن التَّقيِّ. وقد اختلف العلماء في صحَّة إمامة الفاسق، فذهب الجمهور إلى أنَّ إمامته لا تصحُّ، فلا تصحُّ الصَّلاة خلفه إلَّا أن يكون سلطانًا، أو يلزم من ترك الصَّلاة خلفه تعطيل الشَّعائر؛ كالجمعة والعيد، وقيل: تصحُّ إمامته ولكن إذا أمكن الصَّلاة خلف العدل فهو أولى وأفضل.
* * * * *
(471)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رُصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بِالأَعْنَاقِ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(2)
.
(1)
سيأتي برقم (482).
(2)
أبو داود (667)، والنَّسائيُّ (814)، وابن حبان (2166).
(472)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا، وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(473)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِي مِنْ وَرَائِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(474)
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُمْتُ وَيَتِيمٌ خَلْفَهُ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
(3)
.
* * *
هذه الأحاديث الأربعة تضمَّنت أحكام الصُّفوف في صلاة الجماعة، وموقف المأموم من الإمام.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
وجوب رصِّ الصُّفوف بحيث لا يكون فيها فُرَجٌ.
2 -
وجوب تقريب الصُّفوف بعضها من بعضٍ، ويعرف ذلك بالعرف.
3 -
وجوب تسوية الصَّفِّ بحيث لا يكون فيه تقدُّمٌ ولا تأخُّرٌ.
4 -
أنَّ التَّسوية تضبط بالمحاذاة بين الأعناق.
5 -
ترغيب الرِّجال في التَّقدُّم إلى الصَّلاة والصُّفوف الأولى.
6 -
أنَّ أفضل الصُّفوف الصَّفُّ الأوَّل ثمَّ الثَّاني ثمَّ الثَّالث.
7 -
أنَّ شرَّ صفوف الرِّجال آخرها، ومعنى «شرُّها»؛ أي: أقلُّها فضلاً.
8 -
أنَّ صفوف النِّساء عكس صفوف الرِّجال في الفضل، فخيرها آخرها وشرُّها أوَّلها.
9 -
جواز حضور النِّساء صلاة الجماعة من غير ترغيبٍ في ذلك.
(1)
مسلمٌ (440).
(2)
البخاريُّ (726)، ومسلمٌ (763).
(3)
البخاريُّ (727)، ومسلمٌ (658).
10 -
أنَّ النِّساء يصلِّين مع الجماعة صفوفًا.
11 -
اعتبار أحكام صفوف النِّساء بصفوف الرِّجال إلَّا في المتقدِّم والمتأخِّر من الصُّفوف، وعليه؛ فلا تصلِّي المرأة منفردةً خلف صفوف النِّساء.
12 -
صحَّة مصافَّة الصَّغير.
13 -
صحَّة صلاة المميِّز.
14 -
أنَّ موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام.
15 -
صحَّة صلاة من وقف عن يسار الإمام، وقال بعض أهل العلم: لا تصحُّ، والصَّواب الأوَّل.
16 -
جواز الحركة في الصَّلاة، إذا دعت الحاجة؛ فإنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم أخذ برأس ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم وأداره من ورائه.
17 -
أنَّ موقف الاثنين من الإمام خلفه.
18 -
أنَّ موقف المرأة الواحدة في صلاة الجماعة خلف الرِّجال.
19 -
جواز صلاة النَّافلة جماعةً في بعض الأحيان، بحيث لا تكون عادةً.
20 -
أنَّ العمل بأحكام الصُّفوف من تمام الصَّلاة، ولا يحصل ذلك إلَّا بالتَّعاون.
* * * * *
(475)
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«زَادَكَ اللهُ حِرْصًا ولا تَعُدْ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
(476)
وَزَادَ أبو دَاوُدَ فِيهِ: «فَرَكَعَ دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ مَشَى إِلَى الصَّفِّ»
(1)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (783)، وأبو داود (684).
هذا الحديث هو الأصل لما ذهب إليه الجمهور من إدراك الرَّكعة مع الإمام بإدراك الرُّكوع، حتَّى الَّذين قالوا بوجوب الفاتحة على المأموم، قالوا: يسقط وجوبها عن المسبوق إذا أدرك الرُّكوع، وذهب آخرون من أهل العلم من الظَّاهريَّة وغيرهم إلى أنَّ الرَّكعة لا تدرك بالرُّكوع لفوات القراءة، وأجابوا عن هذا الحديث بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكرة:«وَلَا تَعُدْ» ، وحمل الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم:«وَلَا تَعُدْ» على الرُّكوع دون الصَّفِّ، ويؤيِّد ما ذهب إليه الجمهور ما جاء في السُّنن أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا ولا تَعُدُّوهَا شَيْئًا، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاةَ»
(1)
.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضل الحرص على الخير ما لم يؤدِّ إلى مخالفةٍ شرعيَّةٍ.
2 -
فضيلة أبي بكرة رضي الله عنه.
3 -
صحَّة صلاة المنفرد خلف الصَّفِّ، لكن يعارضه الحديثان الآتيان، وهذا على تقدير أنَّه ركع ورفع قبل أن يصل إلى الصَّفِّ، أمَّا إذا دخل في الصَّفِّ راكعًا فقد زال الانفراد بإدراك الرُّكوع.
4 -
عدم وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، أو سقوطها عن المسبوق، على الخلاف في حكم القراءة على المأموم.
5 -
نهي الإنسان عن السُّرعة لإدراك الإمام في ركوعه.
6 -
حسن معاملة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم وحسن تعليمه.
7 -
أنَّه ينبغي الدُّعاء لمن علم منه حسن القصد.
8 -
أنَّ من ارتكب محظورًا جاهلاً فلا إثم عليه.
9 -
النَّهي عن الدُّخول في الصَّلاة قبل الدُّخول في الصَّفِّ.
10 -
جواز الحركة لإتمام الصَّفِّ، ومن ذلك الحركة لسدِّ الفرجة القريبة.
(1)
رواه أبو داود (893)، والحاكم (786)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصحَّح إسناده.
(477)
وَعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ رضي الله عنه؛ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
(478)
وَلَهُ عَنْ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: «لَا صَلَاةَ لمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ»
(2)
.
(479)
وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَابِصَةَ: «أَلَا دَخَلْتَ مَعَهُمْ أَوِ اجْتَرَرْتَ رَجُلاً؟»
(3)
.
* * *
هذان الحديثان هما عمدة من قال من العلماء: لا تصحُّ صلاة المنفرد خلف الصَّفِّ، وفي حكم صلاة المنفرد خلف الصَّفِّ ثلاثة مذاهب:
الأَوَّلُ: ذهب الجمهور إلى الصِّحَّة، وضعَّفوا هذين الحديثين، واستدلُّوا بحديث أبي بكرة رضي الله عنه المتقدِّم، فإنَّه ركع دون الصَّفِّ، واستدلُّوا بوقوف أمِّ أنسٍ رضي الله عنها خلفهم وحدها. قال أنسٌ رضي الله عنه:«فصففت واليتيم وراءه -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم والعجوز من ورائنا»
(4)
.
الثَّانِي: وذهب آخرون إلى أنَّها لا تصحُّ صلاة المنفرد خلف الصَّفِّ مطلقًا، واستدلُّوا بهذين الحديثين: حديث وابصة وطلقٍ رضي الله عنهم وقالوا: إنَّهما صالحان للاحتجاج؛ أي: بمجموعهما، وردُّوا القدح فيهما، وأمَّا ركوع أبي بكرة رضي الله عنه خلف الصَّفِّ فقد نهاه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمَّا وقوف المرأة وحدها فذلك حكمٌ يختصُّ بالمرأة مع الرِّجال؛ لتعذُّر مصافَّتها لهم، فلا يصحُّ لها الانفراد خلف الصَّفِّ مع النِّساء.
(1)
أحمد (18003)، وأبو داود (682)، والترمذيُّ (230)، وابن حبان (2199).
(2)
هو عند ابن حبان (2202) من رواية عليِّ بن شيبان ولم أجده من رواية طلق رضي الله عنه.
(3)
الطبرانيُّ في «الكبير» (394).
(4)
تقدَّم برقم (475).
الثَّالِثُ: الفرق بين من تعذَّر عليه الدُّخول في الصَّفِّ، ومن فرَّط في ذلك، فالأوَّل معذورٌ، وسقط عنه وجوب المصافَّة لعجزه، فإنَّه لا واجب مع العجز، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيميَّة
(1)
، وهذا المذهب قويٌّ من حيث القواعد والأصول، والمذهب الثَّاني قويٌّ من حيث ظاهر الحديثين، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل الَّذي أمره أن يعيد الصَّلاة، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام:«لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» فيه عمومٌ وإطلاقٌ، واختار هذا القول شيخنا الشَّيخ عبد العزيز بن بازٍ رحمه الله
(2)
.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
تعليم الجاهل.
2 -
وجوب المصافَّة في صلاة الجماعة.
3 -
تحريم الانفراد خلف الصَّفِّ أو خلف الإمام إذا كان وحده.
4 -
بطلان صلاة المنفرد خلف الصَّفِّ.
5 -
أمر من صلَّى وحده خلف الصَّفِّ بالإعادة.
6 -
عموم هذه الأحكام للرِّجال والنِّساء، لقوله:«لَا صَلَاةَ لمُنْفَرِدٍ» ، وخصَّ من ذلك المرأة الواحدة مع الرِّجال؛ لحديث أنسٍ رضي الله عنه المتقدِّم
(3)
.
7 -
أنَّ من جاء ولم يجد مكانًا في الصَّفِّ فله أن يجترَّ رجلاً من الصَّفِّ برضاه، وقد قال بذلك بعض أهل العلم
(4)
، ومنعه آخرون؛ لضعف الحديث في ذلك، والأظهر: أنَّه جائزٌ وهو من الإحسان على من خشي فوات الرَّكعة لعدم من يصافُّه.
* * * * *
(1)
«مجموع الفتاوى» (23/ 223).
(2)
«مجموع فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن بازٍ رحمه الله» (12/ 219).
(3)
تقدَّم برقم (474).
(4)
حكاه ابن المنذر عن عطاءٍ والنخعيِّ، ينظر:«المجموع» للنووي (4/ 190).
(480)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ولا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الإقامة للصَّلاة المكتوبة.
2 -
رفع الصَّوت بالإقامة حتَّى يسمعها من كان خارج المسجد.
3 -
لزوم الأدب في المشي إلى الصَّلاة في الهيئة والحركة، ولو خشي الماشي فوات بعض الصَّلاة.
4 -
النَّهي عن الإسراع المنافي للسَّكينة والوقار؛ السَّكينة في الحركة، والوقار في الهيئة.
5 -
دخول المسبوق مع الإمام بأيِّ حالٍ من أحوال الصَّلاة.
6 -
أنَّ ما يدركه المسبوق مع الإمام أوَّل صلاته، لقوله:«وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» ، وهذا هو الصَّحيح، وقيل: إنَّ ما يدركه آخر صلاته؛ لقوله في روايةٍ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا»
(2)
حملوا القضاء على المعنى الاصطلاحيِّ عند الأصوليِّين، وهو: فعل العبادة بعد خروج وقتها، والصَّحيح: أنَّ القضاء في لغة الشَّرع هو أداء الفعل المأمور به في وقته أو بعد وقته كما قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10]؛ أي: أدِّيت وفرغ منها، وقوله:{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200].
7 -
تعظيم أمر الصَّلاة بالمشي إليها والدُّخول فيها.
8 -
وجوب الإتمام على المسافر إذا ائتمَّ بالمقيم، ولو كان في آخر ركعةٍ.
(1)
البخاريُّ (636)، ومسلمٌ (602).
(2)
عند أحمد (7250)، والنَّسائيِّ (860)، وابن حبان (2145).
(481)
وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللهِ عز وجل» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
التَّرغيب في صلاة الجماعة.
2 -
فضل صلاة الاثنين على صلاة الواحد، والثَّلاثة على صلاة الاثنين.
3 -
أنَّه كلَّما كانت الجماعة أكثر كانت الصَّلاة أفضل.
4 -
فضل الصَّلاة في المسجد الَّذي يكون أكثر جماعةً ما لم يعارض ذلك مصلحةٌ راجحةٌ، وهذا كلُّه في الصَّلاة الَّتي تشرع لها الجماعة، وأهمُّها الصَّلاة المكتوبة.
5 -
إثبات المحبَّة لله تعالى.
6 -
أنَّ الجماعة ليست شرطًا لصحَّة الصَّلاة.
7 -
أنَّ الاثنين جماعةٌ.
8 -
تفاضل الأعمال بأسبابٍ.
9 -
مشروعيَّة إقامة جماعةٍ لمن فاتتهم الجماعة الرَّاتبة، ويشهد لذلك حديث:«مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا؟»
(2)
.
* * * * *
(1)
أبو داود (554)، والنَّسائيُّ (842)، وابن حبان (2056).
(2)
رواه أحمد (11408)، وأبو داود (574)، والترمذيُّ وحسَّنه (220)، وابن حبان (2397)، والحاكم (761).
(482)
وَعَنْ أُمِّ وَرَقَةَ رضي الله عنها؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا أَنْ تَؤُمَّ أَهْلَ دَارِهَا» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز صلاة النِّساء جماعةً.
2 -
إمامة المرأة للنِّساء، بل قيل: ومن يكون من أهل الدَّار من الصِّبيان، والخدم؛ كمملوك المرأة، قال الفقهاء:«وتقوم وسطهنَّ»
(2)
.
3 -
أنَّ الأمر يأتي للإباحة.
4 -
فضل أمِّ ورقة رضي الله عنها.
5 -
أنَّ صلاة النِّساء في البيوت أفضل من صلاتهنَّ في المسجد، ومع هذا فالحديث مختلفٌ في صحَّته، وجمهور الفقهاء على تصحيحه.
* * * * *
(483)
وعَنْ أَنَس رضي الله عنه؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُوَ أَعْمَى» . رَوَاهُ أحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ
(3)
.
(484)
وَنَحْوُهُ لاِبْنِ حِبَّانَ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها
(4)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضيلة عبد الله بن أمِّ مكتومٍ رضي الله عنه في دينه وعقله وعلمه.
2 -
صحَّة إمامة الأعمى في الصَّلاة.
3 -
صحَّة توليته الإمارة، فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة أميرًا وإمامًا.
(1)
أبو داود (592)، وابن خزيمة (1676).
(2)
«المجموع» للنووي (4/ 187).
(3)
أحمد (13000)، وأبو داود (595).
(4)
ابن حبان (2134).
4 -
أنَّ الجهاد لا يجب على الأعمى، كما قال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61].
5 -
مشروعيَّة نصب الإمام في الصَّلاة.
6 -
مشروعيَّة نصب الأمير للجماعة.
7 -
جواز نسبة الرَّجل إلى أمِّه إذا كان لا يكره ذلك.
8 -
ضعف اشتراط البصر في القاضي.
* * * * *
(485)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَصَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
(1)
.
* * *
الحديث وإن كان ضعيفًا فمعناه صحيحٌ في الجملة، تشهد له نصوصٌ من السُّنَّة الصَّحيحة.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الصَّلاة على من مات من الموحِّدين، وهي فرض كفايةٍ، وخصَّ من هذا الحكم؛ شهيد المعركة، وترك الإمام الصَّلاة على بعض النَّاس زجرًا له عن بعض الأفعال؛ كقاتل نفسه.
2 -
عدم الصَّلاة على من مات من المشركين والمنافقين.
3 -
صحَّة الصَّلاة خلف أئمَّة المسلمين أبرارًا كانوا أو فجَّارًا، وهذا مذهب أهل السُّنَّة والجماعة.
(1)
الدارقطنيُّ (1761).
4 -
صحَّة الصَّلاة خلف الفاسق المسلم، والصَّلاة خلف العدل أولى، وقيل: لا تصحُّ الصَّلاة خلف الفاسق، والصَّحيح الأوَّل، وكذا المبتدع إلَّا أن يخرج ببدعته من الإسلام
(1)
.
* * * * *
(486)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ، فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإِمَامُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
(2)
.
* * *
هذا الحديث وإن كان ضعيفًا فمعناه صحيحٌ عند أهل العلم، ويدلُّ له قوله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ولا تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»
(3)
، أمَّا ما يعتدُّ به المسبوق ممَّا يدركه مع الإمام فهذا يرجع فيه إلى الدَّليل المبين، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله:«إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا ولا تَعُدُّوهَا شَيْئًا، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ»
(4)
، وهذه الأحاديث تفيد أنَّ المسبوق يدخل مع الإمام في أيِّ حالٍ من أحوال الصَّلاة ركوعًا أو سجودًا أو قيامًا أو قعودًا، ولكنَّه لا يعتدُّ بما أدركه بعد الرُّكوع.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ المسبوق يدخل مع الإمام في أيِّ حالٍ من أحوال الصَّلاة.
2 -
أنَّه لا ينتظر حتَّى يشرع في الرَّكعة الَّتي بعدها.
3 -
أنَّ المسبوق يؤجر على دخوله مع الإمام فيما لا يعتدُّ به.
* * * * *
(1)
تقدَّم في شرح: «ولا فاجرٌ مؤمنًا» برقم (470).
(2)
الترمذيُّ (591).
(3)
تقدَّم برقم (480).
(4)
رواه أبو داود (893)، والحاكم (786)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصحح إسناده.
بَابُ صَلَاةِ المُسَافِرِ وَالمَرِيضِ
هذا الباب يشتمل على موضوعين: صلاة المسافر، وصلاة المريض.
وخصَّا بالذِّكر؛ لأنَّ صلاة المسافر تختلف عن صلاة المقيم في عدد ركعاتها، ويشرع للمسافر قصر الرُّباعيَّة ركعتين. وأمَّا صلاة المريض فتخالف صلاة الصَّحيح في صفة أدائها.
ثمَّ إنَّ السَّفر والمرض من أسباب إباحة الجمع بين الصَّلاتين.
* * * * *
(487)
وَعَنْ عَائشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أَوَّلُ مَا فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(488)
وَلِلْبُخَارِيِّ: «ثُمَّ هَاجَرَ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا، وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَر عَلَى الأَوَّلِ»
(2)
.
(489)
زَادَ أَحْمَدُ: «إِلَّا المَغْرِبَ فَإنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ، وَإلَّا الصُّبْحَ فَإِنَّهَا تُطَوَّلُ فِيها الْقِرَاءَةُ»
(3)
.
* * *
هذا الحديث تخبر فيه أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن عدد ركعات الصَّلاة أوَّل ما فرضت، وأنَّها فرضت ركعتين سفرًا وحضرًا، وأنَّه زيد في صلاة الحضر في ثلاث صلواتٍ: الظُّهر والعصر والعشاء، وأقرَّت صلاة السَّفر على ما هي عليه، وظاهر رواية أحمد أنَّ صلاة الفجر لم تزل تطوَّل فيها القراءة، والمغرب كانت ثلاثًا من أوَّل الأمر؛ لأنَّها وتر النَّهار فلم يزد فيهما.
(1)
البخاريُّ (1090)، ومسلمٌ (685).
(2)
البخاريُّ (3935).
(3)
أحمد (26042).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ الصَّلاة أوَّل ما فرضت ركعتين.
2 -
إتمام صلاة الحضر.
3 -
أنَّ ذلك كان في المدينة بعد الهجرة.
4 -
أنَّ صلاة المسافر ركعتان على ما كانت عليه.
5 -
استحباب تطويل القراءة في الفجر، وأنَّ ذلك من حكمة عدم الزِّيادة فيها.
6 -
أنَّ صلاة المغرب منذ شرعت كانت ثلاث ركعاتٍ، وأنَّه لم يزد فيها؛ لأنَّها وتر النَّهار.
7 -
وجوب قصر الصَّلاة في السَّفر، لقولها:«أوَّل ما فُرِضت الصَّلاة ركعتين، فأُقرَّت صلاة السَّفر» ، وقد استدلَّ بهذا الحديث من ذهب إلى وجوب القصر، وقد اختلف العلماء في حكم القصر في السَّفر على مذاهب:
أَحَدُهَا: أنَّه واجبٌ؛ استدلالاً بهذا الحديث، وهو مذهب أبي حنيفة وابن حزمٍ.
وَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّه مستحبٌّ والإتمام جائزٌ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّ القصر رخصةٌ والإتمام أفضل، ولا ريب أنَّ هذا القول ضعيفٌ؛ لأنَّه خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويردُّ عليه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»
(1)
.
وَأَرْجَحُ الأَقْوَالِ -والله أعلم- هو القول بوجوب القصر فيما اتُّفق على جواز القصر فيه، ومع هذا فمن أتمَّ فلا يؤمر بالإعادة، فليس الإتمام في السَّفر كالقصر في الحضر؛ لاختلاف الأدلَّة واختلاف المذاهب.
(1)
سيأتي بعد حديث عائشة رضي الله عنها الآتي.
8 -
أنَّ مبنى الشَّريعة على التَّيسير ورفع الحرج.
9 -
تعليل الأحكام الشَّرعيَّة؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «فإنَّها وتر النَّهار» ، ولقولها:«فإنَّها تطوَّل فيها القراءة» .
* * * * *
(490)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ وَيُتِمُّ، وَيَصُومُ وَيُفْطِرُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ
(1)
.
(491)
وَالمَحْفُوظُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مِنْ فِعْلِهَا، وَقَالَتْ:«إنَّهُ لا يَشُقُّ عَلَيَّ» . أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ
(2)
.
* * *
المتواتر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يقصر في جميع أسفاره، وفي حجَّة الوداع، قال أنسٌ رضي الله عنه:«خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكَّة، فكان يصلِّي ركعتين ركعتين حتَّى رجعنا إلى المدينة»
(3)
، وحديث عائشة رضي الله عنها هذا معلولٌ كما قال المصنِّف، فلم يثبت الإتمام في السَّفر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ المحفوظ عن عائشة من فعلها؛ والصَّواب: أنَّها تأوَّلت كما تأوَّل عثمان في الإتمام بمنًى، وروي عنها أنَّها قالت للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت» ، فقال:«أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ»
(4)
؛ وهذا لا يصحُّ عنها، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة:«ما كانت أمُّ المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه فتصلِّي خلاف صلاتهم»
(5)
.
(1)
الدارقطنيُّ (2298). وذكر ابن القيم في «زاد المعاد» (1/ 464)؛ أنَّ الحديث لا يصحُّ، ونقل عن شيخ الإسلام قوله:«هو كذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
(2)
البيهقيُّ (6087). وإسناده صحيحٌ، ينظر:«فتح الباري» (2/ 571).
(3)
سيأتي برقم (495).
(4)
الدارقطنيُّ (2293)، وضعّفه ابن القيم في «زاد المعاد» (2/ 55، 93).
(5)
ينظر: «زاد المعاد» (1/ 465).
والمحفوظ أنَّها إنَّما أتمَّت بعد وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم متأوِّلةً في ذلك أنَّه لا يشقُّ عليها.
وقوله في الحديث: «ويصوم ويفطر» هو ثابتٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحةٍ غير هذا الحديث.
* * * * *
(492)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
(493)
وَفِي رِوَايَةٍ: «كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»
(2)
.
* * *
الرُّخصة هي: الحكم المتضمِّن للتَّخفيف، والمعصية: مخالفة الأمر، والعزيمة هي: الأمر المحتَّم، والعزائم هي: الواجبات، وقد تكون الرُّخصة عزيمةً إذا وجب الأخذ بها، فتكون رخصةً من وجهٍ، وعزيمةً من وجهٍ؛ كالقصر في السَّفر على القول بوجوبه، وكالأكل من الميتة عند الضَّرورة.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
إثبات صفة المحبَّة لله عز وجل.
2 -
التَّرغيب في الأخذ بالرُّخص الشَّرعيَّة، ومنها: القصر في السَّفر، ولأجل هذا ساقه المصنِّف في الباب.
3 -
أنَّ الأخذ بالرُّخص طاعةٌ لله، محبوبةٌ له.
4 -
إثبات صفة الكراهة لله تعالى.
(1)
أحمد (5866)، وابن خزيمة (2027)، وابن حبان (2742).
(2)
عند ابن حبان (3568)، بالإسناد نفسه.
5 -
أنَّ المعاصي مكروهةٌ لله تعالى.
6 -
التَّنفير عن معصية الله.
7 -
وصف الله بالعزم فيما أوجبه على عباده.
* * * * *
(494)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ فَرَاسِخَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(495)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ المَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ؛ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ
(2)
.
(496)
وَعَنِ ابْنِ عباسٍ رضي الله عنهم قَالَ: «أَقَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ» . وَفِي لَفْظٍ: «بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(3)
.
(497)
وَفِي رِوَايَةٍ لأَبِي دَاوُدَ: «سَبْعَ عَشْرَةَ» . وَفِي أُخْرَى: «خَمْسَ عَشْرَةَ»
(4)
.
(498)
وَلَهُ عنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه: «ثَمَانِيَ عَشْرَةَ»
(5)
.
(499)
وَلَهُ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: «أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يقْصُرُ الصَّلَاةَ»
(6)
. وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ.
* * *
هذه الأحاديث ظاهرة الدَّلالة على أنَّ هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم القصر في السَّفر، وتقدَّم أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنَّه أتمَّ في شيءٍ من أسفاره، ويتعلَّق بهذه الأحاديث مسألتان من مسائل القصر:
(1)
مسلمٌ (691).
(2)
البخاريُّ (1081)، ومسلمٌ (693).
(3)
البخاريُّ (1080، 4298).
(4)
أبو داود (1230، 1231).
(5)
أبو داود (1229).
(6)
أبو داود (1235).
إِحْدَاهُمَا: المسافة الَّتي تقصر فيها الصَّلاة، وقد اختلف النَّاس في ذلك اختلافًا كثيرًا:
فذهب الجمهور إلى أنَّ الصَّلاة لا تقصر في أقلَّ من أربعة بردٍ، (وهي ثمانيةٌ وأربعون ميلاً؛ وهي ثمانون كيلو تقريبًا)؛ كما جاء عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم، وسيذكره المؤلِّف
(1)
.
وذهبت الظَّاهريَّة إلى جواز القصر في ثلاثة أميالٍ؛ وهي من الكيلوات خمسةٌ؛ استدلالاً بحديث أنسٍ رضي الله عنه.
وذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أنَّه لا تقدير لمسافة القصر، بل يجوز القصر في كلِّ سفرٍ، طالت المسافة أو قصرت؛ كما يدلُّ لذلك حديث عائشة رضي الله عنها في أوَّل الباب «فأُقرَّت صلاة السَّفر»
(2)
.
وما ذهب إليه الجمهور من تقدير المسافة بأربعة بردٍ أضبط في التَّمييز بين ما تقصر فيه الصَّلاة وما لا تقصر، ومن يعلِّق جواز القصر على مطلق السَّفر ولا يحدُّ في ذلك مسافةً أقرب إلى ظاهر الأدلَّة، ولكن يشكل عليه اختلاف النَّاس في مصطلح السَّفر؛ فلا بدَّ من ضابطٍ؛ فقيل: إنَّه ما يحتاج النَّاس فيه إلى زادٍ ومزادٍ، وهذا أيضًا يختلف باختلاف وسائل السَّفر؛ ففي هذا العصر لا يحتاج المسافر بالطَّائرة والسَّيَّارة في كثيرٍ من الأحيان إلى حمل زادٍ، بل قد لا يحتاج مدَّة سفره إلى طعامٍ وشرابٍ؛ لقصر مدَّة رحلته، فلا بدَّ من ربط هذا الضَّابط بالسَّفر على الوسائل القديمة، ولهذا يختلف النَّاس في هذا العصر في مسمَّى السَّفر؛ فلا يسمُّون سفرًا إلَّا ما كان إلى بلادٍ بعيدةٍ، أو قريبةٍ يطول مكثه بها.
وبهذا يتبيَّن أنَّ ما ذهب إليه الجمهور أبعد عن الإشكال، ولو قيل بالعمل بالرَّأيين فيقال: يجوز القصر في كلِّ ما يسمِّيه النَّاس سفرًا؛ ولو لم يبلغ أربعة بردٍ، ولكلِّ من قصد أربعة بردٍ فصاعدًا؛ ولو لم يسمَّ سفرًا لكان له وجهٌ. والله أعلم.
(1)
سيأتي برقم (504).
(2)
تقدَّم برقم (487).
وأمَّا حديث أنسٍ رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميالٍ أو فراسخ صلَّى ركعتين» فالظَّاهر: أنَّه إخبارٌ عن ابتداء القصر الواقع من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في أسفاره؛ لا تحديدٌ لمسافة القصر، ولا لمسافة ابتداء القصر، وإلَّا فمن المعلوم أنَّ ثلاثة أميالٍ لا يصدق عليها اسم السَّفر بحالٍ من الأحوال.
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حكم القصر إذا أقام المسافر أثناء سفره في بلدٍ أو مكانٍ؛ وله في هذا حالان:
إِحْدَاهُمَا: ألَّا يعزم على الإقامة مدَّةً معلومةً؛ بل كلَّ يومٍ يقول: أخرج غدًا، فله القصر أبدًا.
الثَّانِيَةُ: أن يعزم على الإقامة مدَّةً؛ فإن كانت يومًا أو يومين أو ثلاثةً فله القصر، وإن كانت أكثر من ذلك فالجمهور على أنَّه إذا عزم على الإقامة أكثر من أربعة أيَّامٍ أتمَّ منذ نوى الإقامة، وقيل: يقصر أبدًا؛ ما لم يعزم على الاستيطان بذلك المكان.
وبين هذين القولين أقوالٌ أخرى؛ قيل: عشرة أيَّامٍ، وقيل: خمسة عشر يومًا، وقيل: عشرون يومًا.
وحجَّة الجمهور أنَّ فرض المقيم الإتمام؛ فمتى أقام المسافر أتمَّ، وخصُّوا من ذلك إذا أقام أربعة أيَّامٍ فأقلَّ؛ لما ثبت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أقام بمكَّة عام حجَّة الوداع أربعة أيَّامٍ يقصر قبل خروجه إلى منًى، واحتجَّ القائلون بالإطلاق بآثارٍ عن بعض الصَّحابة رضي الله عنهم أنَّهم قصروا شهورًا وربَّما سنةً أو سنتين؛ ولعدم الدَّليل على تقييد مدَّة القصر.
وَأَضْبَطُ هذه الأقوال هو ما ذهب إليه الجمهور من التَّقدير بأكثر من أربعة أيَّامٍ. وأمَّا القول بالإطلاق فيرد عليه أنَّ الَّذي يقيم سنين ليس هو في حال سفرٍ؛ بل في حال إقامةٍ، نعم؛ لكنَّه غير مستوطنٍ، والمقابل للسَّفر هو الإقامة، لا الاستيطان.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قصر الصَّلاة في السَّفر.
2 -
جواز القصر لمن قصد ثلاثة أميالٍ.
3 -
أنَّ المسافر وإن أقام في موضعٍ فإنَّه يقصر، وتقدَّم ذكر الخلاف في مدَّة الإقامة الَّتي يجوز فيها القصر.
4 -
أنَّ أطول مدَّةٍ قصر فيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو مقيمٌ عشرون يومًا في غزوة تبوك؛ كما جاء في حديث جابرٍ رضي الله عنه، وعند الجمهور إذا عزم المسافر على الإقامة هذه المدَّة أتمَّ، وإن لم يعزم قصر، وعند ابن حزمٍ يقصر مطلقًا؛ وإن لم يعزم على الإقامة، ثمَّ يجب عليه الإتمام بعد العشرين يومًا.
5 -
اختلاف الرِّوايات في مدَّة إقامته صلى الله عليه وسلم عام الفتح، والجمهور يقولون: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة بتبوك ومكَّة هذه المدد المذكورة.
* * * * *
(500)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَكِبَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(501)
وَفِي رِوَايَةِ الحَاكِمِ فِي «الأَرْبَعِينَ» بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، ثُمَّ رَكِبَ» .
(502)
وَلأَبِي نُعَيْمٍ فِي «مُسْتَخْرَجِ مُسْلِمٍ» : «كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَزَالَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ»
(2)
.
(503)
وَعَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(3)
.
* * *
هذه الأحاديث هي الأصل في مشروعيَّة الجمع بين الصَّلاتين في السَّفر لمن جدَّ به السَّير، وقد ذهب جمهور العلماء إلى ما دلَّت عليه هذه الأحاديث، وقد ذهب أكثر القائلين بجواز الجمع للمسافر إلى جوازه تقديمًا وتأخيرًا.
وذهب ابن حزمٍ إلى جواز جمع التَّأخير دون التَّقديم
(1)
؛ لظاهر حديث أنسٍ رضي الله عنه في «الصَّحيحين»
(2)
.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى عدم جواز الجمع إلَّا للحاجِّ بعرفة ومزدلفة، وحملوا ما ورد في الجمع على الجمع الصُّوريِّ؛ وهو صلاة الأولى في آخر وقتها، والثَّانية في أوَّل وقتها، والجمع الحقيقيُّ هو فعل الصَّلاتين في وقت إحداهما.
والصَّواب: ما ذهب إليه أكثر العلماء من جواز الجمع الحقيقيِّ؛ لهذه الأحاديث. والجمع شرع تيسيرًا، والجمع الصُّوريُّ فيه حرجٌ وعسرٌ بتحرِّي آخر وقت الأولى، وأوَّل وقت الثَّانية.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ وقت الظُّهر من زوال الشَّمس.
2 -
جواز الجمع بين الظُّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السَّفر.
3 -
جواز جمع التَّقديم وجمع التَّأخير؛ بحسب الأرفق بالمسافر.
4 -
التَّصريح بتأخير الظُّهر إلى وقت العصر، وتقديم العصر إلى وقت الظُّهر، ففيه:
5 -
الرَّدُّ على من تأوَّل الأحاديث بالجمع الصُّوريِّ.
6 -
تفسير الإجمال في حديث معاذٍ رضي الله عنه بحديث أنسٍ رضي الله عنه؛ حيث لم يصرَّح بنوع الجمع تقديمًا أو تأخيرًا، ومن جهة حال الجمع؛ وهو حال الجدِّ في السَّير.
(1)
«المحلى» (1/ 165).
(2)
آنفًا.
7 -
أنَّ الفجر لا تجمع إلى صلاةٍ أخرى، وكذا العصر لا تجمع إلى المغرب، وهذا بالإجماع.
* * * * *
(504)
وَعَنِ ابْنِ عباسٍ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ؛ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، كَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(1)
.
(505)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ أُمَّتي الَّذِينَ إِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا، وَإِذَا سَافَرُوا قَصَرُوا وَأَفْطَرُوا» . أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الأَوْسَطِ» بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ. وَهُوَ فِي مُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ مُخْتَصَرًا
(2)
.
* * *
هذان الحديثان لا يعوَّل عليهما لضعف إسناديهما.
وقد تقدَّم ما يتعلَّق بالحديث الأوَّل من تحديد مسافة القصر واختلاف العلماء في ذلك؛ وأنَّ المعتمد في ذلك هو الموقوف على ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم، وقد صحَّحه الحافظ.
وأمَّا الحديث الثَّاني فهو من أحاديث الفضائل، وفضل الاستغفار معروفٌ، وأدلَّته مشهورةٌ، وحكم الفطر في السَّفر سيأتي ذكر أدلَّته، وأدلَّة المفاضلة بينه وبين الصِّيام، وأمَّا القصر في السَّفر فقد تقدَّم ذكر أدلَّته واختلاف العلماء في حكمه.
* * * * *
(1)
الدارقطنيُّ (1447). ولم أجده عند ابن خزيمة.
(2)
الطبرانيُّ في «الأوسط» (6558)، والبيهقيُّ في «معرفة السنن والآثار» (6072).
(506)
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهم قَالَ: كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ:«صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(1)
.
(507)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: عَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرِيضًا، فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ، فَرَمَى بِهَا، وَقَالَ:«صَلِّ عَلَى الأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ، وَإِلَّا فَأَوْمِ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ» . رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَ أبو حَاتِمٍ وَقْفَهُ
(2)
.
(508)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(3)
.
* * *
هذه الأحاديث الثَّلاثة قد سبقت في باب صفة الصَّلاة، وتقدَّم ذكر ما يتعلَّق بها من الفوائد والأحكام.
* * * * *
(1)
تقدَّم برقم (374).
(2)
تقدَّم برقم (375).
(3)
تقدَّم برقم (338).
بَابُ صَلَاةِ الجُمُعَةِ
قوله: «باب صلاة الجمعة» ؛ أي: صلاة يوم الجمعة، وإضافة الصَّلاة إلى الجمعة من باب إضافة الشَّيء إلى وقته.
وقد خصَّ الله يوم الجمعة بخصائص كونيَّةٍ وشرعيَّةٍ كثيرةٍ، تقصَّاها ابن القيِّم رحمه الله في «زاد المعاد»
(1)
.
وأعظم خصائص هذا اليوم: صلاة الجمعة، الَّتي جعلها الله بدلاً عن صلاة الظُّهر لمن كان من أهلها ولكلِّ من حضرها.
ويوم الجمعة هو اليوم الَّذي هدى الله إليه هذه الأمَّة، وقد ضلَّ عنه أهل الكتاب؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:«مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ ولا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ خَيْرٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ، هَدَانَا اللهُ لَهُ وَضَلَّ النَّاسُ عَنْهُ، وَالنَّاسُ لَنَا فيهِ تَبَعٌ، فَهُوَ لَنَا، وَاليَهُودُ يَوْمُ السَّبْتِ، وَالنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ، إِنَّ فِيهِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ»
(2)
.
* * * * *
(509)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم؛ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ:«لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(3)
.
* * *
هذا الحديث وما في معناه هو الدَّليل من السُّنَّة على وجوب الجمعة، وقد دلَّ على وجوبها القرآن في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ
(1)
في مقدمته للزاد (1/ 59).
(2)
رواه ابن خزيمة (1726)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأصله في مسلمٍ (856).
(3)
مسلمٌ (865).
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون (9)} [الجمعة: 9]، فصلاة الجمعة ثابتةٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، فهي من ضروريَّات الدِّين الَّتي من جحد شيئًا منها كفر، فجاحد صلاة الجمعة كجاحد صلاة الظُّهر.
وقوله: «لَيَنْتَهِيَنَّ» جواب قسمٍ، يقدَّر: والله لينتهينَّ، والمراد بالأقوام: التَّاركون لحضور صلاة الجمعة، والودع: التَّرك، وقيَّده بالجمعات؛ لأنَّ الوعيد إنَّما يستحقُّ بترك ثلاث جمعٍ فأكثر؛ كما جاء مفصَّلاً في حديثٍ آخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ»
(1)
.
وقوله: «أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ» : «أَوْ» للتَّخيير الَّذي الغرض منه التَّهديد، والمعنى: لا بدَّ من أحد الأمرين إمَّا الانتهاء عن ترك الجمعات، وإمَّا الختم على القلوب، وكلا الأمرين مؤكَّدٌ بالقسم، وكذا قوله:«ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ» . وقوله: «عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ» ؛ أي: قال ذلك وهو يخطب صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّه كان للرَّسول صلى الله عليه وسلم منبرٌ يخطب عليه؛ وهو ما صنعه له غلام المرأة الأنصاريَّة
(2)
.
2 -
تأكيد الخبر بالرُّؤية والسَّماع.
3 -
التَّحذير من ترك صلاة الجمعة.
4 -
أنَّ صلاة الجمعة فرض عينٍ على من كان من أهلها.
5 -
التَّنبيه على أهمِّيَّة الأمر بالقسم عليه.
6 -
أنَّ ترك الجمعات سببٌ لأعظم العقوبات؛ وهو: الختم على القلب.
7 -
أنَّ ترك الجمعة من غير عذرٍ كبيرةٌ من كبائر الذُّنوب.
(1)
رواه أحمد (15498)، وأبو داود (1052)، والترمذيُّ (500)، والنَّسائيُّ (1368)، وابن ماجه (1126)، والحاكم (1036)، وابن حبان (2786)، وابن خزيمة (1858)، من رواية أبي الجعد الضمريِّ رضي الله عنه. وهو صحيحٌ، ينظر:«البدر المنير» (4/ 583).
(2)
قصتها في البخاريِّ (2095)، من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
8 -
أنَّ من أفعال الله الختم على قلوب من شاء؛ عقوبةً على ما ارتكبوا من مخالفة أمره.
9 -
الرَّدُّ على القدريَّة من المعتزلة وغيرهم في زعمهم أنَّ الله لا يُضلُّ أحدًا، ولا يهدي أحدًا.
10 -
الرَّدُّ على الجبريَّة؛ لقوله: «لَيَنْتَهِيَنَّ» و «وَدْعِهِمُ» .
11 -
إثبات الأسباب الشَّرعيَّة؛ فالمعصية سببٌ للعقاب، والتَّوبة سببٌ للسَّلامة.
12 -
أنَّ تمادي الإنسان في ترك الجمعات يصيِّره من الغافلين عن ذكر الله وآياته، وعن ذكر اليوم الآخر، وعمَّا ينجي العبد من عذاب الله، مع الإقبال على الحياة الدُّنيا.
* * * * *
(510)
وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الجُمُعَةَ، ثُمَّ نَنْصَرِفُ وَليْسَ لِلْحِيطَانِ ظِلٌّ يُسْتَظلُّ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
. وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(511)
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «كُنَّا نُجَمِّعُ مَعَهُ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَرْجِعُ نَتَتَبَّعُ الفَيْءَ»
(2)
.
(512)
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهم قَالَ: «مَا كُنَّا نَقِيلُ ولا نَتَغَدَّى إِلَّا بعْدَ الجُمُعَةِ»
(3)
. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
(513)
وَفِي رِوَايَةٍ: «فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» .
* * *
(1)
البخاريُّ (4168)، ومسلمٌ (860).
(2)
مسلمٌ (31 - 860).
(3)
رواه البخاريُّ (939)، ومسلمٌ (859). وهو بلفظه أيضًا في البخاريِّ.
هذه الأحاديث استدلَّ بها على أنَّ هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التَّبكير بصلاة الجمعة، وأنَّه لم يكن يبرد بها؛ لقوله:«ثمَّ ننصرف وليس للحيطان ظلٌّ يستظلُّ به» ، وقوله:«نتتبَّع الفيء» ؛ ممَّا يدلُّ على أنَّهم ينصرفون من صلاة الجمعة بُعَيد الزَّوال، وكذا قول سهلٍ:«ما كنَّا نقيل ولا نتغدَّى إلَّا بعد الجمعة» ، وكانت عادتهم في القيلولة والغداء قبل وقت صلاة الظُّهر.
وقد اختلف العلماء في وقت صلاة الجمعة؛ فذهب الجمهور إلى أنَّ وقتها وقت الظُّهر؛ فلا تصلَّى إلَّا بعد الزَّوال، وذهب الإمام أحمد -في المشهور- إلى أنَّ وقتها قبل الزَّوال، بل المذهب أنَّ وقتها من ارتفاع الشَّمس؛ فأوَّل وقتها أوَّل وقت صلاة العيد إلى آخر وقت صلاة الظُّهر، واستدلَّ الإمام أحمد على ذلك بحديث سلمة وسهلٍ رضي الله عنهم، والحقيقة أنَّ دلالة الحديثين غير ظاهرةٍ، وإن كانت محتملةً، كيف وفي رواية حديث سلمة:«كنَّا نجمِّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشَّمس» .
وقوله: «نجمِّع» ؛ أي: نصلِّي الجمعة. وأمَّا قوله: «ثمَّ ننصرف وليس للحيطان ظلٌّ يستظلُّ به» ، وقوله:«ثمَّ نرجع نتتبَّع الفيء» فغاية ما يدلُّ عليه التَّبكير في أوَّل الوقت كما تقدَّم، ومعلومٌ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيل الخطبة، وكان يقرأ في الصَّلاة ب «سبِّح» والغاشية، أو الجمعة والمنافقون، وهذا كلُّه ممَّا يؤيِّد أنَّه لم يكن يبتدئ الخطبة والصَّلاة إلَّا بعد الزَّوال، وبهذا يعلم أنَّ ما ذهب إليه الجمهور هو الصَّحيح، هذا؛ وصلاة الجمعة بدلٌ عن صلاة الظُّهر فوقتها وقتها.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ السُّنَّة التَّبكير بصلاة الجمعة؛ ولو مع شدَّة الحرِّ، وأخذ بعض العلماء من ذلك أنَّه لا ينهى عن التَّنفُّل بالصَّلاة قبل الزَّوال يوم الجمعة؛ فقد أُثِرَ أنَّ الصَّحابة كانوا يكثرون من التَّنفُّل قبل صلاة الجمعة.
2 -
التَّصريح بأنَّ صلاة الجمعة بعد الزَّوال؛ كما هو مذهب الجمهور.
3 -
جواز اتِّقاء الرَّمضاء بالمشي فيما تيسَّر من الظِّلِّ؛ والفيء هو: الظِّلُّ بعد الزَّوال، فالظِّلُّ أعمُّ من الفيء، وفيه معنى الفرار من قدر الله إلى قدر الله.
4 -
أنَّ المنفيَّ هو الظِّلُّ الممتدُّ الَّذي يستظلُّ به الإنسان؛ لا نفي أصل الظِّلِّ؛ كما تدلُّ عليه الرِّواية الأخرى «نتتبَّع الفيء» .
5 -
أنَّ من عادة الصَّحابة رضي الله عنهم القيلولة؛ وهي: النَّوم قبل صلاة الظُّهر، ومن عادتهم تأخير القيلولة والغداء بعد صلاة الجمعة؛ ممَّا يدلُّ على تبكير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بها.
6 -
أنَّ الحجَّة فيما كانوا يفعلون في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو من السُّنَّة التَّقريريَّة.
* * * * *
(514)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا، حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
تضمَّن هذا الحديث ذكر سبب نزول قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} الآية [الجمعة: 11]، كما تضمَّن إشكالاً؛ إذ كيف ينفضُّ كثيرٌ من الصَّحابة إلى العير، ويتركون النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قائمًا يخطب؟!
وقد أجاب العلماء عن ذلك بأنَّ الخطبة كانت بعد الصَّلاة؛ وقد جاء ما يؤيِّد ذلك عند أبي داود في (المراسيل)
(2)
.
يضاف إلى ذلك أنَّ الأمر بالسَّعي إلى الجمعة وترك البيع إنَّما كان بعد هذه الحادثة، فما وقع منهم لم يكن مخالفةً؛ لقوله تعالى:{وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:
(1)
مسلمٌ (863)، وهو كذلك في البخاريِّ (936).
(2)
«المراسيل» لأبي داود (94)، من رواية مقاتل بن حيان.
9]، وحتَّى لو كان هذا؛ فلم يعفوا من اللَّوم والعتاب، ومن عذرهم شدَّة الحاجة الَّتي لم تصل إلى حدِّ الضَّرورة؛ فلذا لم يعذروا، بل عوتبوا على ذلك.
وممَّا يؤيِّد أنَّهم لم يرتكبوا ذنبًا عظيمًا أنَّهم لم يعاقبوا أو يهدَّدوا بعقابٍ، بل اقتصر على اللَّوم والتَّذكير بأنَّ ما عند الله من الأجر والثَّواب خيرٌ ممَّا انصرفوا إليه من اللَّهو والتِّجارة، بل ولم يواجهوا بالعتاب؛ فإنَّ الآية وردت في صيغة الخبر عن الغائب.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة صلاة الجمعة.
2 -
القيام في خطبة الجمعة، وهذا هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في الجمعة وغيرها.
3 -
أنَّ من طبع النُّفوس محبَّة منافع الدُّنيا، والحرص عليها، ولا سيَّما مع الحاجة.
4 -
أنَّ الصَّحابة ليسوا بمعصومين، بل تجوز عليهم الذُّنوب في الجملة.
5 -
أنَّه يجزئ في عدد الجمعة اثنا عشر رجلاً، وهذا أحد الأقوال في المسألة، وفي الاستدلال بالحديث على ذلك نظرٌ، وقد اختلف اختلافًا كثيرًا في العدد المشترط لوجوب الجمعة، وأقلُّ ما قيل: إنَّها تجب بثلاثةٍ مستوطنين، وقول الأكثرين إنَّها تجب بأربعين، والصَّواب: أنَّه يجزئ لوجوبها ثلاثةٌ؛ لحديث: «مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ ولا بَدْوٍ لا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ»
(1)
.
6 -
فضل من بقي مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كأبي بكرٍ، وعمر، وجابرٍ رضي الله عنهم.
(1)
رواه أحمد (21710)، وأبو داود (547)، والنَّسائيُّ (846)، وابن حبان (2101)، وابن خزيمة (1486)، وصحَّحه الحاكم (768). وصحَّح النوويُّ إسناده في «خلاصة الأحكام» (784).
7 -
جواز التِّجارة إذا لم يترك لأجلها واجبٌ، ولهذا قال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، وقال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال (36) رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار (37)} [النور: 36 - 37].
* * * * *
(515)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، لَكِنْ قَوَّى أبو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ
(1)
.
* * *
منطوق هذا الحديث أنَّ من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة أنَّه يكون مدركًا لصلاة الجمعة، فيجزئه أن يضيف إليها ركعةً أخرى، فتتمَّ له جمعةٌ، ومفهومه أنَّ من لم يدرك ركعةً -والرَّكعة تدرك بإدراك الرُّكوع- فإنَّه لا تتمُّ له جمعةٌ فيجب عليه أن يصلِّيها ظهرًا، وهذا قول جمهور العلماء؛ وهو أنَّ الجمعة تدرك بإدراك ركعةٍ، ولا تدرك بأقلَّ من ذلك، ويؤيِّد هذا ما في «الصَّحيحين» أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ»
(2)
، وهذا يشمل الجمعة وغيرها، واتَّفق العلماء على منطوق هذا الحديث وعلى مفهومه في الجمعة، واختلفوا فيما يدرك به الوقت وصلاة الجماعة؛ فقيل: لا تدرك إلَّا بإدراك ركعةٍ، وقيل: تدرك بإدراك تكبيرة الإحرام قبل سلام الإمام، والصَّواب الأوَّل؛ للحديث المتَّفق عليه.
(1)
النَّسائيُّ (556)، وابن ماجه (1123)، والدارقطنيُّ (1606). ينظر:«العلل» لابن أبي حاتمٍ (607).
(2)
البخاريُّ (580)، ومسلمٌ (607)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهم: «وَغَيْرِهَا» ؛ أي: غير صلاة الجمعة، ومعناه -والله أعلم- أنَّ من أدرك ركعةً من الجمعة وغيرها فقد أدرك الصَّلاة، فإن كانت ثنائيَّةً كالجمعة والفجر فيجزئه أن يضيف إليها أخرى، وإلَّا أضاف إليها ما فاته من الصَّلاة.
وهذا على أنَّ لفظة «وغيرها» محفوظةٌ، والأشبه أنَّها غير محفوظةٍ؛ فإنَّها لا تناسب قوله:«فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ» ؛ فإنَّ الصَّلاة الرُّباعيَّة لا تتمُّ بإضافة ركعةٍ.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ صلاة الجمعة ركعتان.
2 -
أنَّ من أدرك ركعةً فقد أدرك الجمعة.
3 -
أنَّ من لم يدرك ركعةً فإنَّه لم يدرك الجمعة؛ فيصلِّيها ظهرًا.
4 -
أنَّ حكم غير الجمعة حكم الجمعة في الإدراك بركعةٍ.
5 -
أنَّ ما يدركه المسبوق هو أوَّل صلاته، وما يأتي به بعد هو آخر صلاته.
6 -
صحَّة صلاة المأموم مع اختلاف نيَّته ونيَّة الإمام؛ فإنَّ من لم يدرك ركعةً عليه أن ينوي ظهرًا، ومن دخل مع الإمام بنيَّة الجمعة ثمَّ تبيَّن له أنَّه في الرَّكعة الأخيرة؛ فالَّذي يظهر أنَّه يجزئه أن يستأنف نيَّة الظُّهر وهو في الصَّلاة مع الإمام.
7 -
فضل الله على عباده أن جعل المدرك ركعةً مدركًا للجمعة والجماعة.
* * * * *
(516)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهم «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَجْلِسُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ قَائِمًا، فَمَنْ أَنْبَأَكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا فَقَدْ كَذَبَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يخطب قائمًا.
2 -
أنَّه يشرع للجمعة خطبتان.
3 -
القعود بين الخطبتين.
4 -
جزم جابرٍ رضي الله عنه بما أخبر به.
5 -
تكذيب من أخبر بخلاف الأمر الثَّابت.
6 -
أنَّ كلَّ ما ينافي الحقَّ فهو باطلٌ.
* * * * *
(517)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهم قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ:«صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» ، وَيَقُولُ:«أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(518)
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الجُمُعَةِ: يَحْمَدُ اللهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ»
(3)
.
(519)
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ»
(4)
.
(1)
مسلمٌ (862).
(2)
مسلمٌ (867).
(3)
مسلمٌ (44 - 867).
(4)
مسلمٌ (45 - 867).
(520)
وَلِلنَّسَائِيِّ: «وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»
(1)
.
(521)
وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنهم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ» رَوَاهُ مُسْلِم
(2)
.
* * *
حديثا جابرٍ وعمَّارٍ رضي الله عنهم قد اشتملا على بعض صفات الخطبة وصفة الخطيب حال الخطبة، وذكر بعض موضوعات الخطبة لصلاة الجمعة.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الخطبة لصلاة الجمعة، وتقدَّم أنَّها خطبتان.
2 -
استحباب تقصير الخطبة.
3 -
استحباب تطويل الصَّلاة.
4 -
أنَّ الملازمة لذلك من الفقه في الدِّين.
5 -
أنَّ تقرير ذلك بهديه صلى الله عليه وسلم في الخطبة والصَّلاة.
6 -
أنَّ معرفة مقدار الطُّول والقصر يعرف بهديه صلى الله عليه وسلم في الخطبة والصَّلاة.
7 -
استحباب رفع الصَّوت بالخطبة وإلقائها بصفة المنذر من خطرٍ؛ لقوله: «احمرَّت عيناه وعلا صوته
…
» إلخ.
8 -
أنَّ من هديه صلى الله عليه وسلم في الخطبة أن يقول: «أَمَّا بَعْدُ» .
9 -
التَّذكير بمنزلة الكتاب والسُّنَّة.
10 -
أنَّ أحسن الكلام القرآن.
11 -
أنَّ هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور خيرٌ من هدي كلِّ أحدٍ.
12 -
الحثُّ على التَّمسُّك بالكتاب والسُّنَّة.
(1)
النَّسائيُّ (1577).
(2)
مسلمٌ (869).
13 -
التَّحذير من المحدثات في الدِّين؛ وهي البدع.
14 -
أنَّ كلَّ بدعةٍ في الدِّين ضلالةٌ.
15 -
أنَّه ليس في البدع بدعةٌ حسنةٌ.
16 -
التَّذكير بتفرُّده تعالى بالهدى والإضلال: «مَنْ يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ» ، والهداية في هذا الحديث هي: الهداية الخاصَّة الَّتي أثبتها الله لنفسه، ونفاها عن نبيِّه في قوله تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين (56)} [القصص: 56].
* * * * *
(522)
وَعَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا أَخَذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد (1)} [ق]، إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ يَقْرَؤُهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
ظاهر هذا الحديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (ق) كاملةً في الخطبة كلَّ جمعةٍ، ويرد على هذا إشكالان:
أَحَدُهُمَا: أنَّه قد ورد أنَّه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة (ص) وآياتٍ من سورة (الزُّخرف)، فوجب حمل العموم على الكثرة، ولا سيَّما أنَّه لم يرو هذا الحديث غير أمِّ هشامٍ رضي الله عنها.
الثَّانِي: أنَّ قراءة سورة (ق) كاملةً في الخطبة وهي طويلةٌ إن لم يقتصر عليها كانت الخطبة طويلةً، وإن اقتصر عليها لم تكن وحدها خطبةً، والظَّاهر: أنَّه صلى الله عليه وسلم يقرؤها ضمن الخطبة؛ ولهذا قال بعض شرَّاح الحديث للخروج من هذا الإشكال: «لعلَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ منها في كلِّ جمعةٍ، وأنَّ أمَّ هشامٍ رضي الله عنها حفظت سورة
(1)
مسلمٌ (873).
(ق) من مجموع خطبه صلى الله عليه وسلم بهذه السُّورة»
(1)
، وهذا التَّأويل ألجأ إليه الإشكال المتقدِّم. ويمكن أن يقال: إنَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ بعضها في الخطبة الأولى وبعضها في الخطبة الثَّانية، مع ما يسبق ذلك من معاني الخطبة. والله أعلم.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضيلة أمِّ هشامٍ بنت حارثة بن النُّعمان الأنصاريَّة النَّجَّاريَّة رضي الله عنها.
2 -
جواز حضور النِّساء صلاة الجمعة.
3 -
أنَّ من حضر الجمعة ممَّن لا تجب عليه أجزأته عن الظُّهر؛ كالمرأة، والعبد، والمسافر، وهذا باتِّفاقٍ.
4 -
فضل سورة (ق).
5 -
كثرة قراءة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لهذه السُّورة في خطبة الجمعة، وقولها:«كلَّ جمعةٍ» يمكن حمله على الكثرة.
6 -
السِّرُّ في ذلك: ما اشتملت عليه السُّورة من أمر البعث والجزاء، والرَّدِّ على المنكرين بذكر أدلَّة إمكان البعث وقدرته -تعالى- على ذلك؛ فالسُّورة من أوَّلها إلى آخرها في شأن البعث.
7 -
مشروعيَّة قراءة القرآن في خطبة الجمعة بسورة (ق) أو غيرها، وجواز الاقتصار في الموعظة على ذلك.
8 -
أنَّ قراءة هذه السُّورة (ق) لا ينافي تقصير الخطبة المستحبَّ.
9 -
مشروعيَّة التَّذكير بالقرآن؛ فإنَّه أنفع ما يذكَّر به؛ ولهذا قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيد (45)} [ق: 45].
* * * * *
(1)
«مرقاة المفاتيح» (5/ 90).
(523)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَهُوَ كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، وَالَّذِي يَقُولُ لَهُ: أَنْصِتْ، ليْسَتْ لَهُ جُمُعَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادٍ لا بَأْسَ بِهِ
(1)
.
(524)
وَهُوَ يُفَسِّرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مَرْفُوعًا: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ -يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ- فَقَدْ لَغَوْتَ»
(2)
.
(525)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ، فَقَالَ:«صَلَّيْتَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ:«قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
* * *
في هذه الأحاديث فوائد، منها:
1 -
تحريم الكلام والإمام يخطب يوم الجمعة.
2 -
أنَّ خطبة الجمعة واجبةٌ، وللجمعة خطبتان، وقد عدَّ بعض العلماء تقديم الخطبتين شرطًا لصحَّة الجمعة
(4)
، وقيل: إنَّهما واجبتان، وليستا بشرطٍ.
3 -
تشبيه من يتكلَّم يوم الجمعة حال الخطبة بالحمار يحمل أسفارًا، وفي ذلك ما فيه من التَّقبيح والذَّمِّ البالغ، ووجه الشَّبه: أنَّ الَّذي يتكلَّم حال الخطبة قد تكلَّف الحضور والانتظار، وحرم نفسه الانتفاع بما في الخطبة من الخير؛ فليس له من حضوره إلَّا التَّعب، وهكذا الحمار الَّذي يحمل الأسفار -وهي كتب العلم- ليس له من حملها إلَّا التَّعب، ويسمِّي البلاغيُّون هذا التَّشبيه تشبيهًا تمثيليًّا، وهذا المثل هو الَّذي ضربه الله لليهود؛ إذ لم يعملوا بما علموا.
4 -
أنَّه لا يجوز الكلام حال الخطبة ولا لإنكار المنكر؛ كتصميت من يتكلَّم حال الخطبة.
(1)
أحمد (2033).
(2)
البخاريُّ (934)، ومسلمٌ (851)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
البخاريُّ (931)، ومسلمٌ (875).
(4)
«روضة الطالبين» للنوويِّ (1/ 531).
5 -
أنَّ من قال لمتكلِّمٍ: (أنصت) فذلك لغوٌ منه فلا ثواب له، بل يأثم ويحرم فضل الجمعة، وصلاته صحيحةٌ، ومن هذا القبيل ردُّ السَّلام وتشميت العاطس، فإنَّه داخلٌ في الكلام المنهيِّ عنه، بخلاف الذِّكر والدُّعاء والصَّلاة على الرَّسول صلى الله عليه وسلم إذا حصل ما يقتضيه، ويجوز للخطيب أن يكلِّم بعض الحاضرين بما تدعو إليه الحاجة، كما يجوز لحاضر الجمعة تكليم الخطيب بما تدعو إليه الحاجة؛ ابتداءً، وجوابًا.
6 -
مشروعيَّة تحيَّة المسجد وتأكُّدها، والجمهور على أنَّها سنَّةٌ، وقيل بوجوبها، وهو قولٌ قويٌّ
(1)
.
7 -
جواز فعلها والإمام يخطب، وقيل: لا يجوز ذلك، وإلى هذا ذهبت الحنفيَّة
(2)
، وتأوَّلوا الحديث؛ بأنَّ الدَّاخل سليكٌ الغطفانيُّ ليقوم فيتصدَّق النَّاس عليه، وهذا تأويلٌ ساقطٌ لا دليل عليه.
8 -
أمر من تركها بأدائها.
9 -
أنَّ تحيَّة المسجد لا تسقط بالجلوس.
10 -
التَّثبُّت في إنكار المنكر؛ لقوله: «صَلَّيْتَ؟» .
11 -
وجوب القيام في تحيَّة المسجد؛ لقوله: «قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ» ويؤيِّده قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ»
(3)
.
12 -
أنَّه لا ينكر على من دخل والإمام يخطب، وإنكار عمر على عثمان رضي الله عنهم؛ لأنَّ التَّأخُّر لا يليق به لعلوِّ منزلته، ومثله يقتدى به.
* * * * *
(1)
«المغني» لابن قدامة (3/ 192 - 193).
(2)
«بدائع الصنائع» (1/ 263 - 264).
(3)
تقدَّم برقم (292).
(526)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ (الْجُمُعَةِ)، وَ (الْمُنَافِقُونَ)» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(527)
وَلَهُ: عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهم: «كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1)} [سورة الأعلى]، وَ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَة (1)} [سورة الغاشية]»
(2)
.
* * *
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
فضل هذه السُّور لقراءتها في المجامع العظيمة.
2 -
مشروعيَّة قراءة (الجمعة) و (المنافقون) بعد الفاتحة في صلاة الجمعة.
3 -
الحكمة من قراءة هاتين السُّورتين؛ وهي: التَّذكير بما اشتملتا عليه من تسبيح الله والامتنان على المؤمنين ببعثة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وتوبيخ اليهود على عدم عملهم بالتَّوراة، ومن ذلك تكذيبهم للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم له، كما اشتملت على النَّدب إلى صلاة الجمعة وترك الاشتغال عنها بالتِّجارة، وكذا ما اشتملت عليه سورة المنافقون من فضحهم وذكر بعض صفاتهم القوليَّة والفعليَّة، ثمَّ توجيه المؤمنين إلى عدم الاشتغال عن ذكر الله بحظوظ الدُّنيا من المال والولد، وندبهم إلى الإنفاق من رزق الله والحثِّ على ذلك قبل الفوت، ولا يخفى ما بين السُّورتين من التَّناسب.
4 -
مشروعيَّة قراءة (سبِّح) و (الغاشية) في الجمعة والعيدين، والحكمة من ذلك: ما اشتملت عليه السُّورتان من تسبيح الله وذكر صفاته، والامتنان على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وذكر انقسام النَّاس عند التَّذكير، وذكر عاقبة الفريقين إجمالاً في سورة (سبِّح)، وبتفصيلٍ في سورة (الغاشية)، مع التَّذكير بآيات الله الكونيَّة في
(1)
مسلمٌ (879).
(2)
مسلمٌ (878).
قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت (17)} [الغاشية: 17] الآيات، وآياته الشَّرعيَّة في قوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر (21)} [الغاشية: 21].
5 -
أنَّ قراءة هذه السُّور ليس من التَّطويل المنهيِّ عنه، ولا من التَّقصير الَّذي ينافي الفقه؛ كما تقدَّم في قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ»
(1)
.
* * * * *
(528)
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم العِيدَ، ثُمَّ رَخَّصَ فِي الْجُمُعَةِ؛ فَقَالَ:«مَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ فَلْيُصَلِّ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّه قد وقع اجتماع الجمعة والعيد في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
أنَّه إذا اجتمع العيد والجمعة في يومٍ رخِّص لمن حضر صلاة العيد في ترك الجمعة.
3 -
أنَّه لا يرخَّص لمن لم يحضر صلاة العيد في ترك الجمعة.
4 -
وجوب صلاة الجمعة.
5 -
اليسر في الشَّريعة.
6 -
أنَّ المشقَّة تجلب التَّيسير.
7 -
أنَّ صلاة الجمعة لا تسقط بصلاة العيد، بل تجب إقامتها؛ كما يدلُّ لذلك حديث النُّعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه قال: «وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ
(1)
تقدَّم برقم (521).
(2)
أحمد (19318)، وأبو داود (1070)، والنَّسائيُّ (1590)، وابن ماجه (1310)، وابن خزيمة (1464).
وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلاتَيْنِ»
(1)
، وسقوط وجوب الجمعة لا يسقط فرض الظُّهر؛ فإنَّ الله كتب على عباده خمس صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ. وهذا يبطل قول من ذهب إلى سقوط صلاة الظُّهر.
* * * * *
(529)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ للجمعة راتبةً بعديَّةً.
2 -
أنَّ راتبة الجمعة أربع ركعاتٍ، وتقدَّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهم؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي ركعتين بعد الجمعة في بيته
(3)
، وقد جمع بعض العلماء بين الحديثين بأنَّ من صلَّى في المسجد صلَّى أربعًا، ومن صلَّاها في بيته صلَّى ركعتين، وجمع بعضهم بأنَّه يصلِّي ركعتين في المسجد وركعتين في بيته، والأظهر: أنَّ راتبة الجمعة أربعٌ؛ سواءٌ صلِّيت في المسجد أو في البيت؛ لأنَّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قوليٌّ، وهو صريحٌ في الأمر بصلاة أربعٍ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهم فعلٌ؛ والقول مقدَّمٌ على الفعل عند الاختلاف.
* * * * *
(530)
وَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنه، أَنَّ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ لَهُ:«إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ، حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ؛ أَلَّا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(4)
.
* * *
(1)
مسلمٌ (878).
(2)
مسلمٌ (881).
(3)
تقدَّم برقم (405).
(4)
مسلمٌ (883).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
إرشاد الجاهل.
2 -
تعليم النَّاس السُّنَّة، كما فعل معاوية مع السَّائب رضي الله عنهم.
3 -
النَّهي عن وصل الجمعة بصلاةٍ بعدها؛ حتَّى لا يظنَّ أنَّها أربعٌ.
4 -
النَّهي عن وصل الصَّلاة المكتوبة بصلاة النَّافلة بعدها.
5 -
أنَّ الفصل بين المكتوبة والنَّافلة يكون بالخروج، وبالكلام؛ ويشمل كلام النَّاس والذِّكر بعد الصَّلاة.
6 -
الحكمة من النَّهي عن وصل المكتوبة بالنَّافلة هي التَّمييز بينهما بالكلام أو الخروج، وهو مطَّردٌ في الشَّريعة كما في الصِّيام.
7 -
استدلال المفتي على فتواه.
* * * * *
(531)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَفْرُغَ الإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ؛ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى، وَفَضْلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
* * *
هذا الحديث من أحاديث فضل الجمعة وأعمال الجمعة.
وفيه فوائد، منها:
1 -
فضل صلاة الجمعة.
2 -
فضل يوم الجمعة، وأدلَّة ذلك كثيرةٌ.
3 -
مشروعيَّة الغسل يوم الجمعة لمن يأتي الجمعة، وتقدَّم في كتاب الطَّهارة ذكر حكم غسل الجمعة والخلاف في ذلك، وذكر الأدلَّة.
(1)
مسلمٌ (857).
4 -
أنَّ غسل الجمعة خاصٌّ بالرِّجال؛ لأنَّه مشروعٌ لإتيان الجمعة، وهو إنَّما يجب على الرِّجال.
5 -
التَّعبير بالجمعة عن صلاة الجمعة، وهو من التَّعبير عن الفعل بزمانه، والمراد بإتيان الجمعة هو: الإتيان إلى المسجد لصلاة الجمعة.
6 -
استحباب التَّنفُّل بالصَّلاة لمن أتى الجمعة، وأقلُّ ذلك ركعتان، ولا حدَّ للزِّيادة.
7 -
أنَّه ليس للجمعة راتبةٌ قبلها؛ لقوله: «فَصَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ» .
8 -
أنَّ أفعال العباد مقدَّرةٌ، ففيه:
9 -
إثبات القدر.
10 -
مشروعيَّة الخطبة؛ لقوله: «حَتَّى يَفْرُغَ الإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ» .
11 -
مشروعيَّة الإنصات حتَّى يفرغ الإمام من خطبته، وهو واجبٌ حال الخطبة، وقد جاء ما يدلُّ على تقييد هذا الإطلاق بما إذا تكلَّم الإمام، كما في «صحيح البخاريِّ»
(1)
، وأمَّا قبل الخطبة فلا يشرع الإنصات، بل يشرع الكلام بالخير؛ من تلاوة القرآن، أو ذكرٍ، أو أمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكرٍ.
12 -
أنَّ شهود صلاة الجمعة على هذا الوجه سببٌ لمغفرة الذُّنوب عشرة أيَّامٍ، والحديث مطلقٌ في الذُّنوب؛ ولكنَّه يقيَّد بما إذا اجتنبت الكبائر؛ كما في «الصَّحيح»:«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ؛ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ»
(2)
.
ومغفرة الذُّنوب بالأعمال الصَّالحة أحد نوعي الجزاء؛ وهما الأجر والمغفرة؛ كما قال تعالى: {وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ
(1)
رواه البخاريُّ (883)، عن سلمان الفارسيِّ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ
…
ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى».
(2)
رواه مسلمٌ (233)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم (9)} [المائدة: 9]، وقال تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
13 -
سعة فضل الله.
14 -
أنَّ الأصل أن يكون الخطيب هو الإمام؛ لقوله: «حَتَّى يَفْرُغَ الإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ» .
* * * * *
(532)
وَعنْهُ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «فِيهِ سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مسْلمٌ وهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللهَ عز وجل شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» . وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(533)
وَفي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ»
(1)
.
(534)
وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «هِيَ مَا بيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلاةُ» . رواهُ مسْلمٌ، ورجَّحَ الدارقطنِيُّ أنَّهُ منْ قولِ أبي بردةَ
(2)
.
(535)
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه عِنْدَ ابْنِ مَاجَه
(3)
.
(536)
وَجَابِرٍ رضي الله عنه عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ؛ أَنَّهَا مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ
(4)
. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ قَوْلاً؛ أَمْلَيْتُهَا فِي «شَرْحِ البُخَارِيِّ»
(5)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (935)، ومسلمٌ (852).
(2)
مسلمٌ (853). وينظر: «الإلزامات والتتبع» للدارقطنيِّ (167).
(3)
ابن ماجه (1139).
(4)
أبو داود (1048)، والنَّسائيُّ (1388).
(5)
«فتح الباري» (2/ 416).
اشتملت هذه الأحاديث على ذكر خصيصةٍ من خصائص يوم الجمعة؛ وهي ساعة الإجابة، وقد اختلف النَّاس في تعيينها على أكثر من أربعين قولاً؛ على ما ذكره الحافظ رحمه الله؛ وسبب ذلك: أنَّ الحديث الَّذي في «الصَّحيحين» لم تعيَّن فيه السَّاعة، بل ذكرت مطلقةً؛ كما هو ظاهرٌ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وحديث أبي بردة عن أبيه مختلفٌ في رفعه ووقفه على أبي بردة رضي الله عنه. وما جاء في حديث عبد الله بن سلامٍ وجابرٍ رضي الله عنهم من «أنَّها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشَّمس» لا يناسب ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من قوله: «وأشار بيده يقلِّلها» ، وفي اللَّفظ الآخر:«وَهِيَ سَاعَةٌ خَفِيفَةٌ» .
ومع ذلك فهذان الوقتان هما أرجح ما جاء في تعيينها، وأرجحهما من حيث الدَّليل أنَّها من بعد صلاة العصر إلى غروب الشَّمس، وإن كان قد أشكل على عبد الله بن سلامٍ رضي الله عنه أنَّ هذا ليس وقت صلاةٍ، وفي الحديث:«وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي» وقد أجاب عن ذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ ب «أنَّ العبد المؤمن إذا صلَّى ثمَّ جلس لا يحبسه إلَّا الصَّلاة فهو في صلاةٍ»
(1)
.
وعلى كلٍّ فينبغي تحرِّي الدُّعاء في هذين الوقتين، وهو متيسِّرٌ لكلِّ من يصلِّي الجمعة إذا خرج الإمام حتَّى يفرغ من الصَّلاة؛ لأنَّه لا يحتاج إلى تفرُّغٍ، وأمَّا الوقت الآخر فلا يتيسَّر تحرِّي ساعة الإجابة إلَّا بالتَّفرُّغ؛ وهي ساعةٌ طويلةٌ يمكن أن يدركها الإنسان؛ ولو في آخرها قبل المغرب.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
فضل يوم الجمعة.
2 -
أنَّ فيه ساعة إجابةٍ.
3 -
أنَّها ساعةٌ خفيفةٌ.
(1)
رواه أحمد (23781)، وابن ماجه (1139)، عن عبد الله بن سلامٍ رضي الله عنه. قال البوصيريُّ في «مصباح الزجاجة» (1/ 380):«إسناده صحيحٌ ورجاله ثقاتٌ» .
4 -
تفاضل الأوقات في إجابة الدُّعاء، وهو سبحانه يجيب الدَّعوات في كلِّ وقتٍ، ولكنَّ بعض الأوقات أحرى من بعضٍ.
5 -
التَّرغيب في تحرِّي الدُّعاء في أوقات الإجابة.
6 -
أنَّ إجابة الدُّعاء في هذه السَّاعة مشروطٌ بكون العبد يصلِّي.
7 -
أنَّ أرجح ما قيل في تعيين ساعة الإجابة: وقت الخطبة، وصلاة الجمعة، وما بعد العصر إلى غروب الشَّمس من يوم الجمعة.
* * * * *
(537)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا جُمُعَةً» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
(1)
.
* * *
هذا الحديث ممَّا استدلَّ به القائلون بأنَّه يشترط لوجوب الجمعة وصحَّتها حضور أربعين من أهل وجوبها، وهو مذهب الشَّافعيِّ وأحمد رحمهما الله، في المشهور عنهما، ولكنَّ الحديث ضعيفٌ على ما ذكر الحافظ رحمه الله.
وقد تعدَّدت أقوال النَّاس في العدد المعتبر للجمعة، وتقدَّمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على حديث جابرٍ رضي الله عنه في قصَّة الَّذين انصرفوا والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب، وأنَّ الرَّاجح هو: القول بأنَّ أقلَّ عددٍ ثلاثةٌ مستوطنون
(2)
.
* * * * *
(538)
وَعَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كُلَّ جُمُعَةٍ. رَوَاهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ
(3)
.
(1)
الدارقطنيُّ (1579).
(2)
تقدَّم برقم (514).
(3)
البزار (4664).
(539)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهم؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي الخُطْبَةِ يَقْرَأُ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُذَكِّرُ النَّاسَ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ
(1)
. وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ
(2)
.
* * *
هذان الحديثان يدلَّان على بعض ما يشرع في خطبة الجمعة؛ ومن ذلك: الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات، وقد أمر الله نبيَّه بذلك في قوله:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]. ومنه: قراءة آياتٍ من القرآن؛ ويشهد لهذا حديث أمِّ هشامٍ بنت حارثة رضي الله عنها عند مسلمٍ أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة (ق) على المنبر يوم الجمعة كما تقدَّم
(3)
.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
الدُّعاء للمؤمنين والمؤمنات في خطبة الجمعة بخير الدُّنيا والآخرة، ومن أهمِّ ذلك الاستغفار لهم.
2 -
قراءة شيءٍ من القرآن في خطبة الجمعة، وقد عدَّ بعض الفقهاء ذلك ركنًا من أركان الخطبة؛ فلا تصحُّ الخطبة الخالية عن القرآن
(4)
، ولا ريب أنَّ القرآن خير ما يذكَّر به {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيد (45)} [ق: 45]، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون (50)} [المرسلات: 50]، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23].
* * * * *
(540)
وَعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا أَرْبَعَةً: مَمْلُوكٌ، وَامْرَأَةٌ، وَصَبِيٌّ، وَمَرِيضٌ» .
(1)
أبو داود (1101)، ولفظه:«كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدًا، وخطبته قصدًا، يقرأ آياتٍ من القرآن، ويذكر الناس» .
(2)
مسلمٌ (866). ولفظه: «كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا» .
(3)
تقدَّم برقم (522).
(4)
«المجموع» للنَّوويِّ (4/ 383).
رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَقَالَ:«لَمْ يَسْمَعْ طَارِقٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . وَأَخْرَجَهُ الحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ طَارِقٍ المَذْكُورِ عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه
(1)
.
(541)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ليْسَ عَلَى مُسَافِرٍ جُمُعَةٌ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
(2)
.
* * *
تضمَّن هذان الحديثان ذكر من لا تجب عليه الجمعة، وتقدَّم أنَّ الجمعة واجبةٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، والمذكورون في الحديثين خمسةٌ؛ فمنهم من لا تجب عليه الجمعة؛ لعدم التَّكليف؛ كالصَّبيِّ. ومنهم من ليس من أهل الجمعة؛ كالمرأة. ومنهم من لا تجب عليه؛ للعذر؛ كالمريض والمسافر، ولا خلاف في عدم وجوبها على هؤلاء، لكن من حضرها منهم أجزأته عن الظُّهر بالإجماع، وأمَّا العبد فلا تجب عليه؛ لحقِّ سيِّده، وهذا مذهب الجمهور، وذهبت الظَّاهريَّة إلى وجوبها على العبد، ولو صحَّ حديث طارقٍ لكان حجَّةً عليهم، ولكنَّ الحديث فيه مقالٌ؛ فلا يصلح عندهم لتخصيص أدلَّة وجوب الجمعة، وإذا لم يثبت الحديث فقول الظَّاهريَّة قويٌّ.
ويؤيِّد حديث ابن عمر «ليس على مسافرٍ جمعةٌ» عمل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه لم يصلِّ الجمعة في السَّفر قطُّ، ومن ذلك أنَّه لم يصلِّ الجمعة بعرفة حين جمع بين الظُّهر والعصر.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
وجوب الجمعة على كلِّ مسلمٍ.
2 -
أنَّ الجمعة من فرائض الأعيان.
3 -
أنَّها لا تجب على العبد؛ أي: المملوك، وقيل: تجب عليه، وقيل: تجب عليه إذا أذن له سيِّده.
(1)
أبو داود (1067)، والحاكم (1063).
(2)
في «الأوسط» (818).
4 -
أنَّها لا تجب على المرأة؛ لأنَّها ليست من أهل الجمعة والجماعة.
5 -
أنَّها لا تجب على الصَّبيِّ.
6 -
أنَّها لا تجب على المريض للمرض الَّذي يشقُّ معه حضورها.
7 -
حكمة الشَّريعة ويسرها.
8 -
التَّفريق بين الرَّجل والمرأة في بعض الأحكام؛ فالأحكام الشَّرعيَّة منها ما هو مختصٌّ بالرَّجل، ومنها ما هو مختصٌّ بالمرأة، ومنها ما هو مشتركٌ. فحضور صلاة الجمعة يجب على الرِّجال دون النِّساء.
9 -
عدم وجوب الجمعة على المسافر، والمعوَّل في هذا على سيرته صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ هذا الحديث ضعيفٌ؛ ففي جميع أسفاره صلى الله عليه وسلم لم يثبت أنَّه أتمَّ.
* * * * *
(542)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَوَى عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلْنَاهُ بِوُجُوهِنَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
(1)
.
(543)
وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ البَرَاءِ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ
(2)
.
(544)
وَعَنِ الحَكَمِ بْنِ حَزْنٍ رضي الله عنه قَالَ: «شَهِدْنَا الجُمُعَةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ
(3)
.
* * *
في هذه الأحاديث فوائد، منها:
1 -
استحباب استقبال الخطيب يوم الجمعة، وهذا هو اللَّائق بالمستمعين؛ فإنَّ استقبال الخطيب أدلُّ على الإقبال، وأكمل في الاستماع،
(1)
الترمذيُّ (509).
(2)
لم أجده عند ابن خزيمة في المطبوع، ولكن أخرجه البيهقيُّ في «الكبرى» من طريق ابن خزيمة.
(3)
أبو داود (1096).
وهذا هو اللَّائق في سائر الخطب والدُّروس، ولا يلزم من ذلك التَّحلُّق؛ فإنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب النَّاس، والنَّاس على صفوفهم؛ كما ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في خطبة العيد
(1)
.
2 -
استحباب اتِّكاء الخطيب على عصًا ونحوها، وذلك ممَّا يعين على قوَّة الإلقاء وضبط اليد عن الحركة بلا حاجةٍ، ولم يأت ذكر هذه السُّنَّة إلَّا في هذا الحديث، وقد ورد أنَّه صلى الله عليه وسلم ربَّما اتَّكأ في بعض الخطب على كتف بلالٍ رضي الله عنه.
3 -
مشروعيَّة الخطبة في الجمعة.
4 -
اتِّخاذ المنبر للخطبة، وهذا ثابتٌ بالأحاديث الصَّحيحة.
* * * * *
(1)
سيأتي برقم (568).
بَابُ صَلَاةِ الخَوْفِ
صلاة الخوف: هي الصَّلاة الَّتي تفعل في حال الخوف، وإضافتها إلى الخوف من إضافة الشَّيء إلى سببه، وذلك باعتبار صفة الصَّلاة لا باعتبار أصل الصَّلاة؛ فإنَّ الصَّلوات الخمس مكتوبةٌ على العبد في كلِّ يومٍ وليلةٍ.
والأصل: أنَّ سببها هو الخوف من العدوِّ في الجهاد، والحكم يشمل كلَّ خائفٍ من عدوٍّ أو سبعٍ أو خطرٍ؛ كسيلٍ وحريقٍ.
والأصل في صلاة الخوف: الكتاب والسُّنَّة والإجماع، وقد دلَّ القرآن على بعض صفاتها، ودلَّت السُّنَّة على صفاتٍ أخرى، سيأتي ذكرها في أحاديث الباب، قال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} الآية [البقرة: 238 - 239].
ووجوب الصلاة في حال الخوف وتيسيرها بالقصر يدل على:
1 -
عظم شأن الصَّلاة المكتوبة.
2 -
أنَّها لا تسقط بحالٍ من الأحوال.
3 -
يسر دين الإسلام.
4 -
وجوب صلاة الجماعة.
وكلُّ ما حفظ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف إنَّما كان في السَّفر، ولم يصلِّها في الحضر، وقد شغل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر فلم يصلِّها إلَّا بعد المغرب، فدعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على المشركين؛ فقال:«مَلَأَ اللهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ؛ وهِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ»
(1)
.
واختلف العلماء في توجيه تأخير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاة عن وقتها؛ فقيل: إنَّ صلاة الخوف لم تشرع إلَّا بعد وقعة الأحزاب، وقيل: إنَّ هذا يدلُّ على أنَّ صلاة الخوف لا تشرع في الحضر، والقرآن يشهد للقول الثَّاني، وذلك في قوله:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)} [النساء: 101].
* * * * *
(545)
عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الخَوْفِ؛ «أَنَّ طَائِفَةً صَلَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةً وِجَاهَ العَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّذِينَ مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَصَفُّوا وِجَاهَ العَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.
(546)
وَوَقَعَ فِي (المَعْرِفَةِ) لاِبْنِ مَنْدَه: عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ، عَنْ أَبِيهِ.
(547)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا العَدُوَّ، فَصَافَفْنَاهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِنَا، فَقَامَتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى العَدُوِّ، وَرَكَعَ بِمَنْ مَعَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ تُصَلِّ، فَجَاءُوا، فَرَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ
(1)
رواه البخاريُّ (6396)، ومسلمٌ (627)، عن عليٍّ رضي الله عنه.
(2)
البخاريُّ (4129)، ومسلمٌ (842).
وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
، وَهَذَا لَفْظُ البُخَارِيِّ.
(548)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «شَهِدتُّ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الخَوْفِ، فَصَفَّنَا صَفَّيْنِ: صَفٌّ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القِبْلَةِ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ العَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى السُّجُودَ، قَامَ الصَّفُّ الذِي يَلِيهِ
…
» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
(549)
وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ، فَلَمَّا قَامُوا سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الأَوَّلُ وَتقدَّمَ الصَّفُّ الثَّانِي» .
(550)
وَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَفِي آخِرِهِ:«ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(551)
وَلأَبِي دَاوُدَ: عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ مِثْلُهُ، وَزَادَ:«أَنَّها كَانَتْ بِعُسْفَانَ»
(3)
.
(552)
وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى بِآخَرِينَ أَيْضًا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ»
(4)
.
(553)
وَمِثْلُهُ لأَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه
(5)
.
(554)
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي الْخَوْفِ بِهَؤُلاءِ رَكْعَةً وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَلَمْ يَقْضُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(6)
.
(555)
وَمِثْلُهُ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم
(7)
.
(1)
البخاريُّ (942)، ومسلمٌ (839).
(2)
مسلمٌ (840).
(3)
أبو داود (1236).
(4)
النسائيُّ (1551).
(5)
أبو داود (1248).
(6)
أحمد (2335)، وأبو داود (1246)، والنسائيُّ (1529)، وابن حبان (1452).
(7)
ابن خزيمة (1344).
اشتملت هذه الأحاديث على خمس صفاتٍ لصلاة الخوف، واختلاف الصِّفات راجعٌ إلى جهة العدوِّ بالنِّسبة إلى القبلة وغيرها، وإلى شدَّة الخوف وخفَّته.
وكلُّ هذه الصِّفات فيها جعل العسكر طائفتين؛ طائفةٌ تصلِّي مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ تنصرف وتأتي الطَّائفة الأخرى، إلَّا ما في حديث جابرٍ رضي الله عنه الأوَّل، فإنَّ فيه أنَّ العسكر صلَّوا معه جميعًا؛ لأنَّ العدوَّ كان في جهة القبلة فجعلهم صفَّين، فينفرد الصَّفُّ الثَّاني في السُّجود في الرَّكعة الأولى، وينفرد الصَّفُّ الأوَّل في السُّجود في الرَّكعة الثَّانية، وإليك هذه الصِّفات الخمس:
الأُولَى: في حديث صالح بن خوَّاتٍ جعلهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم طائفتين، فصلَّى بطائفةٍ ركعةً، ثمَّ أتمُّوا لأنفسهم وثبت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قائمًا، ثمَّ جاءت الطَّائفة الَّتي كانت في وجاه العدوِّ فصلَّى بهم الرَّكعة الثَّانية، وثبت النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جالسًا وأتمُّوا لأنفسهم، ثمَّ سلَّم بهم.
الثَّانِيَةُ: جعلهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم طائفتين، فصلَّى بالأولى ركعةً ثمَّ انصرفوا، وجاءت الطَّائفة الأخرى فصلَّى بهم ركعةً، ثمَّ قضى كلُّ واحدٍ من الطَّائفتين بنفسه ركعةً، والظَّاهر من جهة المعنى -والله أعلم- أنَّ الطَّائفة الأولى قضت لنفسها الرَّكعة قبل أن تنصرف من مكانها، وكذا الطَّائفة الثَّانية، وإن كان ظاهر اللَّفظ أنَّ الطَّائفة الأولى انصرفوا قبل أن يقضوا الرَّكعة الباقية.
والفرق بين هذه الصفة والتي قبلها من وجهين:
1 -
أنَّه في الصِّفة الأولى أنَّ الطَّائفة الأولى صلَّوا الرَّكعة الثَّانية قبل أن ينصرفوا، أمَّا في الصِّفة الثَّانية فظاهر الحديث أنَّ الطَّائفة الأولى انصرفوا قبل أن يقضوا الرَّكعة الثَّانية، ثمَّ قضوها بعد.
2 -
أنَّه في الصِّفة الأولى انتظر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الطَّائفة الثَّانية حتَّى قضوا الرَّكعة الثَّانية، ثمَّ سلَّم بهم، فحظيت الطَّائفة الأولى بتكبيرة الإحرام مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحظيت الطَّائفة الثَّانية بالتَّشهُّد مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والتَّسليم معه. وأمَّا في الصِّفة الثَّانية فإنَّ الطَّائفة الثَّانية قد جلست مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في التَّشهُّد حتَّى سلَّم، ثمَّ قضوا الرَّكعة الَّتي بقيت عليهم.
الثَّالِثَةُ: في حديث جابرٍ رضي الله عنه الأوَّل، حيث كان العدوُّ في جهة القبلة، جعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم العسكر صفَّين، فكبَّروا جميعًا وركعوا ورفعوا جميعًا، ثمَّ سجد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم والصَّفُّ الَّذي يليه، وثبت الصَّفُّ المؤخَّر يرقب العدوَّ، فلمَّا قام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم والصَّفُّ الَّذي يليه سجد الصَّفُّ المؤخَّر، فلمَّا قاموا تقدَّم الصَّفُّ المؤخَّر وتأخَّر الصَّفُّ المقدَّم ثمَّ صنعوا في الرَّكعة الثَّانية كالأولى؛ ركعوا ورفعوا جميعًا، ثمَّ سجد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم والصَّفُّ الَّذي يليه، فلمَّا جلسوا انحدر الصَّفُّ المؤخَّر للسُّجود ثمَّ سلَّم بهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جميعًا.
الرَّابِعَةُ: في حديث جابرٍ رضي الله عنه الثَّاني، جعلهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم طائفتين، فصلَّى بطائفةٍ ركعتين، والطَّائفة الأخرى وجاه العدوِّ، ثمَّ جاءت الطَّائفة الأخرى فصلَّى بهم ركعتين، وقد استدلَّ بهذا الحديث على جواز صلاة المفترض خلف المتنفِّل، فإنَّ صلاته صلى الله عليه وسلم بالطَّائفة الثَّانية نافلةٌ.
الخَامِسَةُ: في حديث حذيفة رضي الله عنه، جعلهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم طائفتين، فصلَّى بطائفةٍ ركعةً، ثمَّ بالطَّائفة الأخرى ركعةً، ولم تقض الطَّائفتان ركعةً أخرى، وفي هذه الصِّفة دليلٌ على أنَّ صلاة الخوف تكون ركعةً، ومحلُّ ذلك شدَّة الخوف.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة صلاة الخوف.
2 -
تنوُّع صفة صلاة الخوف بحسب الحال مع العدوِّ.
3 -
عظم شأن الصَّلاة.
4 -
وجوب صلاة الجماعة.
5 -
أنَّ صلاة الخوف في السَّفر يجتمع فيها قصر العدد وقصر الأركان؛ بالتَّخفيف في الأحكام.
6 -
مشروعيَّة حمل السِّلاح في صلاة الخوف، وقد جاء الأمر به في القرآن، قال تعالى:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102].
7 -
جواز التَّخلُّف عن الإمام، وجواز الانفراد في صلاة الخوف وما في حكمها.
8 -
أنَّ العمل الكثير في الصَّلاة للضَّرورة لا يبطلها.
9 -
سقوط استقبال القبلة في الصَّلاة عند الاضطرار.
10 -
أنَّ الأصل وجوب متابعة الإمام في الصَّلاة.
11 -
أنَّ ابن عمر وجابرًا رضي الله عنهم ممَّن شهد صلاة الخوف مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
* * * * *
(556)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ» . رَوَاهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
(1)
.
(557)
وَعَنْهُ مَرْفُوعًا: «لَيْسَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَهْوٌ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
(2)
.
* * *
(1)
البزار في مختصر زوائده «كشف الأستار» (678).
(2)
الدارقطنيُّ (1770).
هذان الحديثان وإن كانا ضعيفي الإسناد فمعناهما له وجهٌ، ومعنى «صَلَاةُ الْخَوْفِ رَكْعَةٌ» أي: أنَّها تكون ركعةً في بعض الأحوال، وتقدَّم حديث حذيفة رضي الله عنه وفيه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى بطائفةٍ ركعةً ثمَّ صلَّى بطائفةٍ ركعةً ولم يقضوا
(1)
، وذلك في حال شدَّة الخوف.
وأمَّا حديث: «لَيْسَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَهْوٌ» فمعناه: ليس فيها سهوٌ له حكمٌ؛ أي: لا يسجد له؛ لأنَّه يسقط فيها كثيرٌ من الواجبات فكيف بسجود السَّهو! وحال الخوف مظنَّةٌ للسَّهو كثيرًا. والله أعلم.
* * * * *
(1)
تقدَّم برقم (554).
بَابُ صَلَاةِ العِيدَيْنِ
المُرَادُ بِالعِيدَيْنِ: عيد الفطر وعيد الأضحى، ويتبع عيد الأضحى يوم عرفة قبله وأيَّام منًى بعده، قال صلى الله عليه وسلم:«يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلامِ»
(1)
، وليس للمسلمين سوى هذين العيدين، كما يدلُّ لذلك حديث أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال:«قَدْ أَبْدَلَكُمُ اللهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ»
(2)
.
وأمَّا ما سوى هذين العيدين من الأيَّام ممَّا يعظِّمه النَّاس -سمَّوه عيدًا أو لم يسمُّوه عيدًا- كيوم مولد الرَّسول صلى الله عليه وسلم، واليوم الوطني، ويوم الاستقلال، ويوم شمِّ النَّسيم، ويوم الحبّ- فتعظيمها حرامٌ، وهي دائرةٌ بين البدعة والتَّشبُّه بالكفَّار في أعيادهم، أو تجمع الأمرين؛ كالمولد، فهو محدثٌ في الدِّين وتشبُّهٌ بالنَّصارى في تعظيم مولد المسيح عليه وعلى نبيِّنا الصَّلاة والسَّلام، وقد تضافرت الأدلَّة في النَّهي عن الابتداع في الدِّين وعن التَّشبُّه بالكافرين.
وإضافة الصَّلاة إلى العيد من إضافة الشَّيء إلى سببه ووقته، وقد اختلف في حكم صلاة العيدين على ثلاثة مذاهب؛ قيل: سنَّةٌ، وقيل: فرض كفايةٍ، وقيل: فرض عينٍ، وهو قويٌّ؛ لأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالخروج إليها حتَّى أمر النِّساء، وأن تخرج العواتق وذوات الخدور، حتَّى الحيَّض، إلَّا أنَّهنَّ يعتزلن المصلَّى، كما سيأتي في حديث أمِّ عطيَّة رضي الله عنها.
* * * * *
(1)
رواه أحمد (17379)، وأبو داود (2419)، والترمذيُّ (773)، والنسائيُّ (3004)، وابن حبان (3603)، والحاكم (1587)، عن عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه. قال الترمذيُّ:«حسنٌ صحيحٌ» .
(2)
سيأتي برقم (573).
(558)
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
(1)
.
* * *
هذا الحديث أجمع العلماء على معناه في الجملة، وهو أصلٌ عظيمٌ في صحَّة الفطر والأضحى والحجِّ إذا وقع من النَّاس بحسب ما ظهر لهم، ولو تبيَّن أنَّه وقع خطأٌ في الرُّؤية، فلو ثبت ذلك؛ لم يقدح في فطر النَّاس وحجِّهم وتضحيتهم، فلا تجب إعادة شيءٍ من ذلك، سواءٌ أكان الخطأ بالتَّقدُّم أم بالتَّأخُّر، وهذا من وجوه يسر الشَّريعة ورفع الحرج عن العباد. والله أعلم.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
بناء أحكام الشَّريعة على الظَّواهر الكونيَّة الَّتي لا قدرة للعباد على معرفة حقيقة الأمر فيها.
2 -
صحَّة عيد الفطر، ولو تبيَّن بعد ذلك الخطأ في الرُّؤية -رؤية رمضان أو رؤية شوَّالٍ- لكن إن كان الخطأ بالتَّقدُّم وجب على من لم يصم إلَّا ثمانيةً وعشرين يومًا أن يقضي يومًا إتمامًا لعدَّة الشَّهر.
3 -
أنَّ من رأى هلال شوَّالٍ وحده وردَّ قوله لا يفطر، وكذا -على الصَّحيح- من رأى هلال رمضان وردَّ قوله لا يصوم.
4 -
صحَّة حجِّ النَّاس ونحرهم بحسب الظَّاهر ولو تبيَّن خطؤهم في الرُّؤية بعد ذلك.
5 -
يسر الشَّريعة ورفع الحرج الَّذي يلحق العباد لو كلِّفوا معرفة ما لا قدرة لهم على معرفة حقيقة الأمر فيه.
* * * * *
(1)
الترمذيُّ (802).
(559)
وَعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ:«أَنَّ رَكْبًا جَاؤُوا فَشَهِدُوا أنَّهمْ رَأَوُا الْهِلالَ بِالأَمْسِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُفْطِرُوا، وَإِذَا أَصْبَحُوا يَغْدُوا إِلَى مُصَلَّاهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ
(1)
.
* * *
هذا الحديث هو الأصل في حكم ما إذا ثبت عيد الفطر في أثناء النَّهار.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
وجوب الفطر إذا ثبت دخول الشَّهر في أثناء النَّهار.
2 -
قبول شهادة المستور في رؤية الهلال.
3 -
قبول الشَّهادة في رؤية الهلال، ولو لم تؤدَّ إلَّا في أثناء النَّهار إذا كان تأخير الأداء لعذرٍ.
4 -
قضاء صلاة العيد من الغد إذا خرج وقتها قبل العلم بدخول الشَّهر.
5 -
أنَّ السُّنَّة أداء صلاة العيد في المصلَّى في الصَّحراء خارج البنيان.
6 -
أنَّه إذا غمَّ الهلال وجب إكمال الشَّهر ثلاثين.
7 -
وجوب صلاة العيد، لأمر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم إذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلَّاهم.
* * * * *
(560)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ.
(561)
وَفِي رِوَايَةٍ مُعَلَّقَةٍ وَوَصَلَهَا أَحْمَدُ: «وَيَأْكُلُهُنَّ أَفْرَادًا»
(2)
.
(1)
أحمد (20584)، وأبو داود (1157).
(2)
البخاريُّ (953)، وأحمد (12268). إلا أنَّ رواية البخاريِّ المعلقة بلفظ:«ويأكلهنَّ وترًا» .
(562)
وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ، ولا يَطْعَمُ يَوْمَ الأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
* * *
في هذين الحديثين فوائد، منها:
1 -
أنَّ السُّنَّة الأكل يوم الفطر قبل الخروج إلى الصَّلاة.
2 -
استحباب أكل التَّمرات، ويكون أكلهنَّ وترًا؛ ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا.
3 -
أنَّ السُّنَّة في عيد الأضحى ترك الأكل إلى ما بعد الصَّلاة؛ ليأكل من أضحيَّته.
4 -
الحكمة من هذه السُّنَّة في العيدين؛ وهي: المبادرة بالفطر يوم الفطر، والبداءة بالأضحيَّة يوم الأضحى.
* * * * *
(563)
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ فِي الْعِيدَيْنِ؛ يَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمسْلمينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
* * *
أمُّ عطيَّة رضي الله عنها هي غاسلة زينب بنت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وروت قصَّة غسلها وما أمر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولها عنايةٌ برواية ما يتعلَّق بأمر النِّساء؛ كهذا الحديث، وحديث:«نهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعزَم علينا»
(3)
.
(1)
أحمد (22983)، والترمذيُّ (542)، وابن حبان (2812).
(2)
البخاريُّ (974)، ومسلمٌ (890).
(3)
رواه البخاريُّ (1287)، ومسلمٌ (938)، عن أم عطية رضي الله عنها. وسيأتي برقم (656).
وقولها: «أمرنا» له حكم الرَّفع، فهو بمعنى أمرنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كما في روايةٍ عند مسلمٍ
(1)
. والمأمورات هنَّ النِّساء الكبيرات كالأمَّهات، فلهنَّ التَّصرُّف في توجيه البنات الصَّغيرات.
«العواتق» جمع عاتقٍ، وهنَّ البنات الأبكار، وهو صفةٌ لمحذوفٍ؛ أي: البنات العواتق، ولفظ «الصَّحيحين»:«العواتق وذوات الخدور» أو «العواتق ذوات الخدور»
(2)
، والمراد بذوات الخدور: اللَّاتي لا يبرزن للنَّاس، والخدور جمع خدرٍ: اسمٌ للبيت الَّذي تكون فيه الفتاة، ولهذا يقال لهنَّ: المخدَّرات.
وعطف ذوات الخدور على العواتق -في بعض الرِّوايات- من عطف الصِّفة على الصِّفة، أو من عطف الخاصِّ على العامِّ. وجملة:«ويعتزل» بالرَّفع مستأنفةٌ، وبالنَّصب معطوفةٌ على «نخرج». وجملة:«يشهدن الخير» تعليلٌ للأمر بخروجهنَّ.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضل أمِّ عطيَّة رضي الله عنها.
2 -
خروج النِّساء شابَّاتٍ وكبيراتٍ لصلاة العيد، وهذا جائزٌ ومشروعٌ بشرطه؛ من لزوم الحجاب، والبعد عن دواعي الفتنة.
3 -
أنَّ صلاة العيدين فرضٌ على الأعيان، فإذا أمر بها النِّساء والبنات الأبكار؛ فالرِّجال أولى، وتقدَّمت الإشارة إلى الخلاف في ذلك.
4 -
أنَّ عادة الصَّحابة رضي الله عنهم عدم خروج البنات الأبكار، ولا إلى المساجد.
5 -
فضل حضور مجامع العبادة.
6 -
عظم مشهد صلاة العيد حتَّى أمر بخروج الجميع له.
7 -
أنَّ دعوة المسلمين في الصَّلاة والخطبة يعود نفعها على جميع الحاضرين، حتَّى ولو لم يكن من أهل الصَّلاة.
(1)
مسلمٌ (890).
(2)
البخاريُّ (324)، ومسلمٌ (980).
8 -
تنوُّع الشَّريعة في الاجتماعات للعبادة، وذلك في الاجتماع خمس مرَّاتٍ كلَّ يومٍ، والاجتماع مرَّةً كلَّ أسبوعٍ، واجتماعين في كلِّ سنةٍ، وكلَّما كان الاجتماع أعمَّ وأوسع كان المشروع منه أقلَّ، وذلك من وجوه يسر الشَّريعة.
9 -
أنَّ دعوة المسلمين مجتمعين أرجى للقبول.
* * * * *
(564)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُصَلُّونَ الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة صلاة العيدين.
2 -
مشروعيَّة الخطبة للعيد.
3 -
أنَّ السُّنَّة تقديم صلاة العيد على الخطبة.
4 -
أنَّ الأصل في الاقتداء هو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.
5 -
أنَّ أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهم يقتدى بفعلهما.
6 -
أنَّ تقديم الصَّلاة على الخطبة في العيد سنَّةٌ ماضيةٌ لا تجوز مخالفتها، ولهذا لمَّا أنكر الرَّجل على مروان تقديم الخطبة قال أبو سعيدٍ الخدريُّ رضي الله عنه:«أمَّا هذا فقد أدَّى ما عليه» ، وروى قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ
…
»
(2)
الحديث.
7 -
ومن الفروق بين صلاة العيد والجمعة: تقديم صلاة العيد على الخطبة.
* * * * *
(1)
البخاريُّ (963)، ومسلمٌ (888).
(2)
رواه مسلمٌ (49)، من طريق طارق بن شهابٍ عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه.
(565)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا ولا بَعْدَهُمَا» . أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ صلاة العيد ركعتان.
2 -
أنَّه لا يتنفَّل للصَّلاة قبلها ولا بعدها، وقال بعض أهل العلم: يجوز التَّطوُّع المطلق قبلها وبعدها؛ لأنَّه لم يرد نهيٌ عن الصَّلاة، لكن لم يؤثر عن الصَّحابة رضي الله عنهم أنَّهم كانوا يصلُّون قبل العيد كما كانوا يصلُّون قبل الجمعة، ولعلَّ ذلك أنَّ الحضور لصلاة العيد في وقت النَّهي، وإذا خرج وقت النَّهي حضر الإمام. لكن إذا وقعت صلاة العيد في المسجد فتصلَّى تحيَّة المسجد، ومن قال: إنَّ المصلَّى مسجدٌ؛ قال: تصلَّى فيه تحيَّة المسجد، والأظهر: أنَّه ليس له حكم المساجد المعدَّة للصَّلوات الخمس.
3 -
أنَّه صلى الله عليه وسلم لا يتنفَّل بعد صلاة العيد مطلقًا؛ لظاهر الحديث، ولكن ورد أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي بعد العيد إذا رجع لبيته ركعتين، والحديث عند ابن ماجه، وسيذكره المؤلِّف بعد الحديث القادم.
* * * * *
(566)
وَعنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ، ولا إِقَامَةٍ. أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ. وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ
(2)
.
* * *
(1)
البخاريُّ (964)، ومسلمٌ (884)، وأحمد (3153)، وأبو داود (1159)، والترمذيُّ (537)، والنسائيُّ (1586)، وابن ماجه (1291).
(2)
أبو داود (1147)، وأصله في البخاريِّ (5249)، ومسلمٍ (886).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّه لا يؤذَّن لصلاة العيد.
2 -
أنَّه لا إقامة لصلاة العيد.
3 -
أنَّ من الفروق بين الجمعة والعيد ترك الأذان والإقامة للعيد.
4 -
أنَّ النِّداء لصلاة العيد كنداء صلاة الكسوف بدعةٌ، خلافًا لمن ذهب إلى ذلك من الفقهاء.
* * * * *
(567)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ
(1)
.
* * *
تقدَّم ما يتعلَّق بهذا الحديث في الكلام على حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم السَّابق
(2)
.
* * * * *
(568)
وَعنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فيقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ -وَالنَّاسُ عَلَى صُفُوفِهِمْ- فَيَعِظُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يتنفَّل قبل العيد في المصلَّى.
2 -
أنَّ صلاة العيد قبل الخطبة.
3 -
مشروعيَّة الخطبة لصلاة العيد.
(1)
ابن ماجه (1293).
(2)
تقدَّم برقم (565).
(3)
البخاريُّ (956)، ومسلمٌ (889).
4 -
أنَّ خطبة العيد واحدةٌ، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقيل: للعيد خطبتان كالجمعة، وقيل: بل ليس له إلَّا خطبةٌ واحدةٌ، واستدلَّ لذلك بأنَّ أكثر الأحاديث فيها ذكر الخطبة مطلقةً، وظاهرها أنَّها واحدةٌ، ولكن ورد عند ابن ماجه؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خطب في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوسٍ. وقد ضعِّف الحديث
(1)
.
5 -
عدم التَّحلُّق على الخطيب، بل يبقى النَّاس على صفوفهم.
6 -
أنَّ المقصود من الخطب الشَّرعيَّة الوعظ والتَّذكير والتَّعليم لأحكام الدِّين، وجاء في حديث ابن عبَّاسٍ في «الصَّحيحين» أنَّه صلى الله عليه وسلم بعدما فرغ من خطبته عند الرِّجال انطلق ومعه بلالٌ إلى النِّساء فوعظهنَّ وأمرهنَّ بالصَّدقة، فجعلت النِّساء يلقين في ثوب بلالٍ رضي الله عنه من خواتيمهنَّ وأقراطهنَّ
(2)
.
7 -
أنَّ من السُّنَّة أن تؤدَّى صلاة العيد في الصَّحراء خارج البلد، حتَّى في المدينة النَّبويَّة.
* * * * *
(569)
وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الأُولَى، وَخَمْسٌ فِي الآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيْهِمَا» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ
(3)
. وَنَقَلَ التَّرْمِذِيُّ
(4)
عَنِ البُخَارِيِّ تَصْحِيحَهُ.
* * *
اختلف العلماء في رواية عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه، وهو عمرو بن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فقوله:(عن أبيه)؛ يعني: شعيبًا، وقوله:(عن جدِّه) يحتمل أن يكون جدَّ عمرٍو وهو محمَّدٌ؛ فتكون الرِّواية مرسلةً، ويحتمل أن يكون جدَّ شعيبٍ وهو عبد الله بن عمرٍو؛ فتكون الرِّواية
(1)
رواه ابن ماجه (1289)، عن جابرٍ رضي الله عنه. وضعَّفه الألبانيُّ في تحقيقه ل «سنن ابن ماجه» .
(2)
رواه البخاريُّ (975)، ومسلمٌ (884).
(3)
أبو داود (1151).
(4)
«العلل الكبير» للترمذيِّ (154).
متَّصلةً إن كان شعيبٌ أدرك عبد الله، وإلَّا كانت الرِّواية منقطعةً.
لذلك ذهب كثيرٌ من العلماء إلى تضعيف روايته لما تحتمله من الانقطاع أو الإرسال.
وذهب أئمَّة الحديث كأحمد والبخاريِّ إلى تصحيح رواية عمرو بن شعيبٍ إذا صحَّ السَّند إليه، وهذا يقتضي أنَّهم يرون أنَّ شعيبًا قد أدرك عبد الله، وذكر بعضهم أنَّ محمَّدًا قد مات قبل شعيبٍ، فكان شعيبٌ يروي عن جدِّه عبد الله.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة التَّكبير سبعًا في الرَّكعة الأولى قبل القراءة، وخمسًا في الرَّكعة الثَّانية، ومن لا يصحِّح الحديث لا يقول بالتَّكبيرات الزَّوائد، والصَّحيح: أنَّها مشروعةٌ لصحَّة الحديث.
والتَّكبيرات السَّبع الأولى يحتمل أن تكون تكبيرة الإحرام منها، فتكون الزَّوائد ستًّا، ويحتمل ألَّا تكون منها، فتكون الزَّوائد سبعًا، والأظهر الأوَّل. والله أعلم.
2 -
أنَّ التَّكبيرات الزَّوائد من الفروق بين العيد والجمعة
(1)
.
(1)
وقال شيخنا عبد الرحمن البراك أيضًا في مقالٍ له عن التكبيرات الزوائد في صلاة العيدين والذكر بينها: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمَّا بعد؛ فإنَّ من أحكام صلاة العيدين الواردة في صفتها: التكبيرات الزوائد قبل القراءة، وقد دلَّ على ذلك حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:«التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الأُولَى، وَخَمْسٌ فِي الآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا» أخرجه أبو داود. ولفظه عند أحمد: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كبَّر في عيدٍ ثنتي عشرة تكبيرةً؛ سبعًا في الأولى وخمسًا في الآخرة. قال عبد الله ابن الإمام أحمد: قال أبي: «وأنا أذهب إلى هذا» . والحديث حسنٌ لغيره بتعدد طرقه وشواهده من آثار الصحابة، ونقل الترمذيُّ عن البخاريِّ تصحيحه، قاله الحافظ في بلوغ المرام، وحسَّن الألبانيُّ رحمه الله حديث أبي داود، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى استحباب التكبيرات الزوائد في صلاة العيدين، وإن اختلفوا في عددها لاختلاف الآثار =
3 -
أنَّ للعيدين خصوصيَّةً في التَّكبير، فيشرع الإكثار منه في صلاة العيد وخارج الصَّلاة، وقد دلَّ على ذلك أحاديث وآثارٌ، وصفة التَّكبير في عيد الفطر والأضحى وعشر ذي الحجَّة وأيَّام التَّشريق: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، كما جاء عند ابن مسعود رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة في المصنف
(1)
.
* * * * *
(570)
وَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الأَضْحَى وَالْفِطْرِ بِ {ق}، وَ {اقْتَرَبَتِ}» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
= عن الصحابة. وأرجحها ما دلَّ عليه حديث عمرو بن شعيبٍ، سبعٌ في الأولى وخمسٌ في الثانية. واختار ابن القيم أنَّ السبع التي في الأولى إحداها تكبيرة الإحرام، فتصير الزوائد ستًّا، ويؤيده ما جاء عن ابن عباسٍ رضي الله عنهم عند ابن أبي شيبة أنَّه كان يكبر في العيد في الأولى سبع تكبيراتٍ بتكبيرة الإحرام. ويستحبُّ رفع اليدين مع كلِّ تكبيرةٍ؛ لما جاء عن عمر رضي الله عنه، وقد جاء عن عددٍ من الصحابة رضي الله عنهم استحباب الحمد والثناء على الله والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد كلِّ تكبيرةٍ من التكبيرات الزوائد، منهم عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، وقد أخذ بذلك كثيرٌ من أهل العلم رحمهم الله، فإنهم يستحبون الوقوف بين كلِّ تكبيرتين؛ للحمد والثناء والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، واختار بعض الفقهاء: الحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلَّى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. وممَّا يلاحظ أنَّ كثيرًا من أئمة المساجد اليوم يتابعون التكبيرات ولا يقفون للحمد والثناء والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بين التكبيرات، فينبغي مراعاة ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، ومن المعلوم أنَّهم أبعد الناس عن الابتداع وأهدى سبيلاً، فالأخذ بسنتهم هدى، قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه:«من كان مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمَّة، أبرَّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنَّهم كانوا على الهدى المستقيم» . والله أعلم. وصلَّى الله وسلَّم على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. انتهى كلام شيخنا حفظه الله.
(1)
مصنف ابن أبي شيبة (1/ 488)
(2)
مسلمٌ (891).
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة قراءة {ق} و {اقْتَرَبَتِ} في صلاة العيدين أحيانًا؛ لما تقدَّم من حديث النُّعمان رضي الله عنه؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيهما ب {سَبِّحِ} و {الْغَاشِيَة}
(1)
.
2 -
عظم شأن هاتين السُّورتين؛ لقراءتهما في أعظم اجتماعٍ يكون في الصَّلاة في سائر بلاد المسلمين.
3 -
الحكمة من قراءة هاتين السُّورتين، وذلك راجعٌ إلى ما اشتملتا عليه من التَّذكير والموعظة، فسورة {ق} مدارها من أوَّلها إلى آخرها على اليوم الآخر، وما يكون فيه من البعث والنُّشور، والجزاء والحساب، والجنَّة والنَّار. وسورة {اقْتَرَبَتِ} من أوَّلها إلى آخرها؛ في قصص المكذِّبين للرُّسل، وذكر مصارعهم وما يصيرون إليه في الآخرة {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَر (48)} [القمر: 48]، وذكر ما يصير إليه المتَّقون {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر (54)} [القمر: 54].
4 -
الجهر بالقراءة في صلاة العيدين.
* * * * *
(571)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ الْعِيدِ خَالَفَ الطَّرِيقَ» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ
(2)
.
(572)
وَلأَبِي دَاوُدَ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، نَحْوُهُ
(3)
.
* * *
قوله: «خالف الطَّريق» معناه: ذهب إلى المصلَّى من طريقٍ ورجع من طريقٍ آخر، وورد مثل هذا في مواضع من حجَّته صلى الله عليه وسلم، فإنَّه دخل مكَّة من
(1)
تقدَّم برقم (527).
(2)
البخاريُّ (986).
(3)
أبو داود (1156).
أعلاها وخرج من أسفلها
(1)
، وخرج إلى عرفة من طريق ضبٍّ ورجع من طريق المأزمَيْن.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ من السُّنَّة مخالفة الطَّريق في العيد، واختلف العلماء في حكمة ذلك، فقيل: لتكثير مواضع العبادة، وقيل: ليسلِّم على أهل الطَّريقين ويقضي حوائجهم، وقيل غير ذلك.
ويحتمل أنَّ مخالفة الطَّريق في العيد وفي الحجِّ لم يكن للتَّشريع والتَّعبُّد بذلك، بل لأنَّه المناسب لذهابه ورجوعه، فيكون أمرًا عاديًّا، كما اختلف العلماء في نزوله صلى الله عليه وسلم بالمحصَّب: هل كان نسكًا أو لأنَّه كان أسمح لخروجه؟ ومخالفة الطَّريق ليست مطَّردةً في هديه صلى الله عليه وسلم في الذَّهاب إلى عبادةٍ والرُّجوع منها، كما في أسفاره صلى الله عليه وسلم للجهاد، وعلى هذا فيقتصر في مخالفة الطَّريق على ما ورد.
2 -
حرص الصَّحابة رضي الله عنهم على نقل سيرته صلى الله عليه وسلم.
* * * * *
(573)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فقالَ:«قَدْ أَبْدَلَكُمُ اللهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ لأهل الجاهليَّة أعيادًا.
(1)
رواه أحمد (24121)، وابن خزيمة (959)، عن عائشة رضي الله عنها. وأصله في البخاريِّ (1576)، ومسلمٍ (1257).
(2)
أبو داود (1134)، والنسائيُّ (1555).
2 -
أنَّ أعياد أهل الجاهليَّة تقصد للَّهو واللَّعب.
3 -
أنَّه كان لأهل المدينة يومان معيَّنان من السَّنة للَّعب فيهما.
4 -
نهي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن هذين اليومين.
5 -
أنَّ الله قد أغنى المسلمين عن أعياد الجاهليَّة بعيد الفطر وعيد الأضحى.
6 -
ترك المسلمين لأعياد الجاهليَّة استغناءً بما شرع الله لهم، فلم يكن لذينك العيدين ذكرٌ في الإسلام.
7 -
تحريم العود لأعياد الجاهليَّة.
8 -
تحريم التَّشبُّه بأهل الجاهليَّة بإحداث أيَّامٍ تكون عيدًا، فالأعياد من الدِّين، وليس للمسلمين من ذلك إلَّا ما شرع الله، كما قال صلى الله عليه وسلم:«يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلامِ»
(1)
.
* * * * *
(574)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنهُ
(2)
.
(575)
وَعَنْ أَبِي هُريْرةَ رضي الله عنه: «أَنَّهمْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَصَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ لَيِّنٍ
(3)
.
* * *
هذان الحديثان اشتملا على حكمين:
الأَوَّلُ: أنَّ من السُّنَّة الخروج لصلاة العيد مشيًا، وهذا يوافق ما دلَّت عليه السُّنَّة من فضل المشي إلى المساجد لصلاة الجماعة والجمعة، وأنَّ الخطى
(1)
تقدَّم في مقدمة الباب.
(2)
الترمذيُّ (530).
(3)
أبو داود (1160).
تكتب بها الحسنات وتحطُّ بها السَّيِّئات، ولا يحصل ذلك للرَّاكب كما في قصَّة الرَّجل الَّذي كان يأتي إلى مسجد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ماشيًا، فقيل له: لو اتَّخذت لك حمارًا، فقال: إنِّي أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قَدْ جَمَعَ اللهُ لَكَ ذَلكَ كُلَّهُ» . رواه مسلمٌ
(1)
.
الثَّانِي: جواز صلاة العيد في المسجد من غير كراهةٍ إذا كان عذرٌ يمنع من الخروج إلى المصلَّى؛ كالمطر، ويكره ذلك من غير عذرٍ؛ لأنَّه خلاف سنَّة الرَّسول صلى الله عليه وسلم الدَّائمة، ولأنَّ صلاة العيد في المسجد يفوت فيها بعض المعاني الشَّرعيَّة الَّتي لا تحصل إلَّا بأداء الصَّلاة في الصَّحراء؛ الَّتي منها إظهار هذه الشَّعيرة، وتيسير التَّجمُّع العامِّ.
* * * * *
(1)
مسلمٌ (663)، عن أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه.
بَابُ صَلَاةِ الكُسُوفِ
الكسوف والخسوف هو: ذهاب ضوء أحد القمرين، وقيل: الكسوف أخصُّ بالشَّمس والخسوف أخصُّ بالقمر، قال تعالى:{وَخَسَفَ الْقَمَر (8)} [القيامة: 8]. ويقال: كسفت الشَّمس وانكسفت وخسفت.
وقد ثبت كسوف الشَّمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّةً، ولم ينقل أنَّ القمر خسف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت كسوف الشَّمس في عهده صلى الله عليه وسلم أكثر من مرَّةٍ.
وقد ذكر العلماء السَّبب الكونيَّ للكسوف والخسوف، وأنَّ كسوف الشَّمس يكون بحيلولة القمر بينها وبين الأرض فيحجب ضوءها، وخسوف القمر بحيلولة الأرض بينه وبين الشَّمس، فإنَّ نور القمر يستمدُّه من ضوء الشَّمس بإذن الله، فما يرى من ظلمةٍ في القمر عند كسوفه هو ظلُّ الأرض، وما يرى من ظلمةٍ في قرص الشَّمس هو جرم القمر.
ويذكر الفلكيُّون أنَّهم يدركون وقت الكسوف بالحساب، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميَّة وابن القيِّم وقرَّراه، وهما إمامان مرضيَّان، ومؤتمنان على الشَّريعة، ولا ريب أنَّ الاشتغال بمعرفة وقت الكسوف من الفضول الَّذي لا فائدة فيه، وليس في علم المسلم للكسوف قبل حدوثه فائدةٌ، بل يهوِّن أمره، ولو كان في تقدُّم العلم به خيرٌ لأطلع الله عليه نبيَّه صلى الله عليه وسلم بل فجأهم كسوف الشَّمس فقام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فزعًا يجرُّ رداءه، ولكن على المسلمين أن يفعلوا ما شرع الله لهم عند الكسوف ولو علموا ذلك من قبل، وقد بيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في خطبته بعد صلاة الكسوف حكمة الله في حدوث كسوف الشَّمس والقمر فقال: «إِنَّ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ»
(1)
، وفي روايةٍ للبخاريِّ:«وَلَكِنْ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ»
(2)
.
وإضافة الصَّلاة إلى الكسوف من إضافة الشَّيء إلى سببه. واتَّفق العلماء على شرعيَّة صلاة الكسوف، والجمهور على أنَّها سنَّةٌ، وقيل: واجبةٌ، وهو ظاهر الأدلَّة، كما سيأتي.
* * * * *
(576)
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فقالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ ولا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللهَ وَصَلُّوا حَتَّى تَنْكَشِفَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
(577)
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «حَتَّى تَنْجَلِي»
(4)
.
(578)
وَلِلْبُخَارِيِّ؛ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه: «فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ»
(5)
.
(579)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ بِقِرَاءَتِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي رَكْعَتَيْنِ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.
(580)
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: «الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ»
(6)
.
(581)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: «انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً نَحْوًا مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً،
(1)
هذا حديث الباب برقم (576).
(2)
البخاريُّ (1059) عن أبي موسى رضي الله عنه.
(3)
البخاريُّ (1043)، ومسلمٌ (915). هذا لفظ البخاريِّ إلا قوله:«حَتَّى تنكَشِفَ» فقد تفرَّد به مسلمٌ.
(4)
البخاريُّ (1060). لكن بلفظ: «حَتَّى يَنْجَلِي» .
(5)
البخاريُّ (1040).
(6)
البخاريُّ (1065)، ومسلمٌ (901).
ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً وهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلاً، وهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلاً، وهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وقدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ فَخَطَبَ النَّاسَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.
(582)
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «صَلَّى حِينَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجَدَاتٍ»
(2)
.
(583)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِثْلُ ذَلِكَ
(3)
.
(584)
وَلَهُ: عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: «صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ»
(4)
.
(585)
وَلأَبِي دَاوُدَ: عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه: «صَلَّى، فَرَكَعَ خَمْسَ رَكَعَاتٍ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، وَفَعَلَ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلكَ»
(5)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ابنًا اسمه إبراهيم، وهو من سرِّيَّته مارية، ولمَّا ولد قال:«وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ»
(6)
، وفيه: استحباب التَّسمية باسم الأب أدنى أو أعلى إذا كان الاسم حسنًا.
2 -
أنَّ إبراهيم مات صغيرًا.
3 -
أنَّ الشَّمس كسفت في يوم موته.
(1)
البخاريُّ (1052)، ومسلمٌ (907).
(2)
مسلمٌ (908).
(3)
رواه أحمد (1216). وقد أشار إليه مسلمٌ في آخر حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهم الذي قبل هذا، فقال في آخره:«وعن عليٍّ مثل ذلك» .
(4)
مسلمٌ (904).
(5)
أبو داود (1182).
(6)
رواه البخاريُّ (1303)، ومسلمٌ (2315)، عن أنسٍ رضي الله عنه.
4 -
أنَّ موت إبراهيم ليس سببًا في كسوف الشَّمس.
5 -
إبطال عقائد الجاهليَّة في كسوف الشَّمس والقمر.
6 -
ثبوت أنَّ الشَّمس انكسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7 -
مشروعيَّة الصَّلاة للكسوف.
8 -
الجهر فيها بالقراءة.
9 -
أنَّه لا يعمل بالحساب في صلاة الكسوف بل بالرُّؤية، لقوله:«فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا» .
10 -
مشروعيَّة النِّداء لها بلفظ: «الصَّلاة جامعةٌ» ، ويجوز في الكلمتين الرَّفع على المبتدأ والخبر، والنَّصب على الإغراء؛ أي: احضروا الصَّلاة، وجامعةً حالٌ.
11 -
أنَّ صلاة الكسوف ركعتان؛ في كلِّ ركعةٍ ركوعان وسجدتان.
12 -
تطويل صلاة الكسوف، وأنَّ كلَّ ركنٍ أطول من الَّذي بعده، إلَّا أن ينجلي؛ فلا تطوَّل.
13 -
مشروعيَّة الخطبة بعد الصَّلاة.
14 -
أنَّ أصحَّ الرِّوايات في صلاة الكسوف أنَّ في كلِّ ركعةٍ ركوعين.
15 -
أنَّه قد ورد في رواياتٍ أنَّ في كلِّ ركعةٍ ثلاثة ركوعاتٍ وأربعة ركوعاتٍ وخمسة ركوعاتٍ، والرَّاجح الأوَّل، وهو ما جاء في حديث عائشة وابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم، متَّفقٌ على حديثهما، ونظرًا إلى أنَّ الكسوف لم يحدث إلَّا مرَّةً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رجَّح كثيرون من أهل العلم ما دلَّ عليه حديث ابن عبَّاسٍ وعائشة رضي الله عنهم؛ لأنَّه لا يمكن الجمع بينهما وبين الأحاديث الَّتي فيها الزِّيادة على ركوعين، فسلكوا طريق التَّرجيح.
وقد ورد في أحاديث صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف؛ أنَّه عرضت عليه الجنَّة والنَّار في مقامه وهو يصلِّي، وقد رآه الصَّحابة مرَّةً تقدَّم ومرَّةً تأخَّر، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك، وبيَّن لهم حكمة الكسوف، وأبطل اعتقادات الجاهليَّة.
وممَّا جاء في خطبته صلى الله عليه وسلم: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ»
(1)
.
16 -
الأمر بالصَّلاة والصَّدقة والدُّعاء عند الكسوف.
* * * * *
(586)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: مَا هَبَّتْ رِيحٌ قَطُّ إِلَّا جَثَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ:«اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً ولا تَجْعَلْهَا عَذَابًا» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ
(2)
.
(587)
وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ صَلَّى فِي زَلْزَلَةٍ سِتَّ رَكَعَاتٍ، وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، وَقَالَ:«هَكَذَا صَلَاةُ الآيَاتِ» . رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ
(3)
.
(588)
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ؛ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِثْلَهُ؛ دُونَ آخِرِهِ
(4)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
شدَّة خوفه صلى الله عليه وسلم من ربِّه.
2 -
مشروعيَّة هذا الدُّعاء عند هبوب الرِّيح الشَّديدة «اللَّهمَّ اجعلها رحمةً ولا تجعلها عذابًا» .
(1)
رواه البخاريُّ (1044)، ومسلمٌ (901)، عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
الشافعيُّ في «مسنده» (502)، والطبرانيُّ في «الكبير» (11533).
(3)
البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (6381).
(4)
أخرجه البيهقيُّ من طريق الشافعيِّ في «السنن الكبرى» (6381). ونقل قول الشافعيِّ: «ولو ثبت هذا الحديث عندنا عن عليٍّ رضي الله عنه لقلنا به» .
3 -
أنَّ الرِّيح تكون رحمةً وتكون عذابًا، وتكون رحمةً لقومٍ وعذابًا لآخرين، تكون رحمةً؛ كالرِّيح الَّتي تسوق السَّحاب، وتكون عذابًا؛ كالرِّيح الَّتي أرسلت على عادٍ، وتكون رحمةً لقومٍ وعذابًا لآخرين؛ كالرِّيح الَّتي نصر بها الرَّسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون على الأحزاب.
4 -
مشروعيَّة الصَّلاة للزَّلزلة.
5 -
أنَّها كصلاة الكسوف.
6 -
مشروعيَّة الصَّلاة لكلِّ آيةٍ يخوِّف الله بها عباده؛ كالرِّيح الشَّديدة، وكالصَّواعق والرَّعد القاصف المرعب. وقول ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم:«هَكَذَا صَلَاةُ الآيَاتِ» يحتمل أن يكون قال ذلك باجتهاده قياسًا على صلاة الكسوف، ويحتمل أن يكون مرفوعًا، فيكون دليلاً له على صلاته في الزَّلزلة.
7 -
مشروعيَّة اللَّجأ إلى الله في الشَّدائد بالصَّلاة والدُّعاء، والتَّوبة والاستغفار.
* * * * *
بَابُ صَلَاةِ الاسْتِسْقَاءِ
الاسْتِسْقَاءُ: طلب السُّقيا من الله تعالى، وإضافة الصَّلاة إلى الاستسقاء من إضافة الشَّيء إلى سببه، وهي سنَّةٌ عند جمهور العلماء.
وذهب أبو حنيفة إلى أنَّها لا تسنُّ؛ لأنَّها لم تثبت عنده، ولكنَّها ثابتةٌ عند غيره بأحاديث صحيحةٍ في الصَّحيحين وغيرهما كما سيأتي.
وصفتها كصفة صلاة العيد، ووقتها وقت صلاة العيد، وتسنُّ في الصَّحراء كذلك.
* * * * *
(589)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: «خَرَجَ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَاضِعًا، مُتَبَذِّلًا، مُتَخَشِّعًا، مُتَرَسِّلًا، مُتَضَرِّعًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدِ، لَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو عَوَانَةَ وَابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
(590)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ، فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، فَخَرَجَ حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللهَ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وقدْ أَمَرَكُمُ اللهُ أَنْ تَدْعُوهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ» . ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللهُ، لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ عَلَيْنَا قُوَّةً وَبَلاغًا إِلَى حِينٍ» . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ
(1)
أحمد (2039)، وأبو داود (1416)، والترمذيُّ (558)، والنسائيُّ (1507)، وابن ماجه (1266)، وأبو عوانة (2524)، وابن حبان (2862).
رِدَاءَهُ، وهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللهُ سَحَابَةً، فَرَعَدَتْ، وَبَرَقَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ. رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَقَالَ:«غَرِيبٌ» . وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ
(1)
.
(591)
وَقِصَّةُ التَّحْوِيلِ فِي «الصَّحِيحِ» مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، وَفِيهِ:«فَتَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ»
(2)
.
(592)
وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ مُرْسَلِ أَبِي جَعْفَرٍ البَاقِرِ: «وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ؛ لِيَتَحَوَّلَ الْقَحْطُ»
(3)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة صلاة الاستسقاء.
2 -
الخروج إليها في خشوعٍ وتذلُّلٍ وتمهُّلٍ وتبذُّلٍ في الثِّياب.
3 -
أنَّها كصلاة العيد في صفتها ووقتها ومكانها.
4 -
أنَّ سببها تأخُّر المطر.
5 -
أنَّه ليس لها أيَّامٌ مخصوصةٌ، بل إذا حصل القحط وعد الإمام النَّاس يومًا يخرجون فيه.
6 -
أنَّ الخطبة والدُّعاء قبل الصَّلاة خلاف العيد، كما هو ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن زيدٍ رضي الله عنه، وإلى هذا ذهب جماعةٌ من العلماء.
وذهب آخرون إلى أنَّ ذلك بعد الصَّلاة قياسًا على صلاة العيد، ولحديثٍ روي في ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه
(4)
، والأوَّل أظهر دليلاً.
(1)
أبو داود (1173).
(2)
رواه البخاريُّ (1024)، ومسلمٌ (894). إلا أنَّه لم يذكر الجهر بالقراءة.
(3)
الدارقطنيُّ (1798).
(4)
رواه أحمد (8327)، وابن ماجه (1268)، وابن خزيمة (1409). ولفظه:«خرج نبيُّ الله يستسقي، فصلَّى بنا ركعتين بلا أذانٍ ولا إقامةٍ، ثمَّ خطبنا ودعا الله عز وجل» . تفرد به النعمان بن راشدٍ؛ ضعَّفه أحمد والنسائيُّ ويحيى بن معينٍ. ينظر: «البدر المنير» (5/ 161).
7 -
جواز شكوى الحال إلى من له قدرةٌ على إزالتها أو عنده سببٌ في ذلك.
8 -
الخطبة على المنبر.
9 -
افتتاح الخطبة بفواتح سورة الفاتحة.
10 -
حمد الله والثَّناء عليه بين يدي الدُّعاء.
11 -
استحباب الدُّعاء بما في حديث عائشة رضي الله عنها.
12 -
التَّوسُّل إلى الله بتوحيده وبغناه وفقر العباد.
13 -
التَّذكير بما يهيِّج على الدُّعاء، ويقوِّي الرَّجاء.
14 -
إثبات جملةٍ من صفات الله تعالى: كالإلهيَّة، والرُّبوبيَّة، والفعل، والإرادة، والغنى التَّامِّ، وإجابة الدُّعاء، والأمر، والوعد والإجابة.
15 -
التَّوسُّل إلى الله في الدُّعاء بما يقتضي حصول المطلوب.
16 -
مشروعيَّة رفع اليدين عند الدُّعاء في الاستسقاء والمبالغة في رفعهما.
17 -
إثبات الأسباب الكونيَّة والشَّرعيَّة، فالدُّعاء سببٌ شرعيٌّ وإنزال المطر سببٌ كونيٌّ.
18 -
أنَّ الغالب من لباس النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حلَّةٌ؛ وهي إزارٌ ورداءٌ؛ لأنَّ القميص لا يبدو منه الإبطان.
19 -
مشروعيَّة تحويل الرِّداء ونحوه من الثِّياب، وذلك بتغيير هيئته؛ بجعل طرفه الأيمن على منكبه الأيسر، وطرفه الأيسر على منكبه الأيمن، ويفعل مثل ذلك في البشت (المشلح) ونحوه.
20 -
ذمُّ القنوط من رحمة الله، وسؤال العافية منه، كما جاء في روايةٍ في دعاء الاستسقاء عند البيهقيِّ
(1)
.
21 -
علمٌ من أعلام نبوَّته صلى الله عليه وسلم، وذلك من سرعة إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم.
(1)
في «معرفة السُّنَّة والآثار» (2210).
(593)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللهَ عز وجل يُغِيثُنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا
…
» فَذَكَرَ الحَدِيثَ، وَفِيهِ الدُّعَاءُ بِإِمْسَاكِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ من لم يحضر إلى الجمعة إلَّا والإمام يخطب لا ينكر عليه.
2 -
جواز استيقاف الخطيب وتكليمه إذا دعت الحاجة.
3 -
طلب الدُّعاء من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
4 -
ذكر السَّبب الموجب لذلك.
5 -
جواز الإخبار بما نزل من المصائب، لا على وجه التَّسخُّط.
6 -
مشروعيَّة الاستسقاء على المنبر.
7 -
مشروعيَّة رفع اليدين في الدُّعاء.
8 -
ضعف بني آدم وقلَّة صبرهم على السَّرَّاء والضَّرَّاء.
9 -
أنَّ المصائب تكون بفقد المطلوب وزيادته.
10 -
جواز الدُّعاء بوقف المطر إذا خيف الضَّرر، ويقال له: الاستصحاء.
11 -
مشروعيَّة رفع اليدين لذلك.
12 -
الدُّعاء بذلك على المنبر.
13 -
إجابة الله دعاء نبيِّه صلى الله عليه وسلم في الحال، وذلك:
(1)
البخاريُّ (1014)، ومسلمٌ (897).
14 -
علمٌ من أعلام نبوَّته صلى الله عليه وسلم.
15 -
مشروعيَّة الخطبة للجمعة.
16 -
القيام في الخطبة.
17 -
استحباب الدُّعاء بما دعا به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من قوله: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا» .
18 -
كمال قدرة الله تعالى.
19 -
الاقتصاد في الدُّعاء.
20 -
جواز عدم افتتاح الدُّعاء بالحمد والصَّلاة على الرَّسول، ولعلَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اكتفى بما كان في أوَّل الخطبة من حمد الله والثَّناء عليه.
* * * * *
(594)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ:«اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَسْقِي إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا» ، فَيُسْقَوْنَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
جواز التَّوسُّل بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حياته؛ أي: بدعائه.
2 -
جواز التَّوسُّل بدعاء الصَّالحين في حياتهم.
3 -
مشروعيَّة الاستسقاء عند القحط.
4 -
إكرام عمر رضي الله عنه لقرابة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك فضيلةٌ لعمر رضي الله عنه.
5 -
فضيلة العبَّاس بن عبد المطَّلب رضي الله عنه.
6 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يستسقى به بعد موته، ولا يطلب منه الدُّعاء.
(1)
البخاريُّ (1010).
7 -
إجماع الصَّحابة رضي الله عنهم على ذلك.
8 -
أنَّ الذُّنوب مجلبةٌ للمصائب.
9 -
أنَّ التَّوبة ترفعها، كما جاء عن العبَّاس رضي الله عنه أنَّه قال:«اللَّهمَّ إنَّه ما نزل بلاءٌ إلَّا بذنبٍ، ولا رفع إلَّا بتوبةٍ»
(1)
.
10 -
الرَّدُّ على المبتدعة الَّذين يتوسَّلون بذاته صلى الله عليه وسلم أو بجاهه.
* * * * *
(595)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ وَقَالَ: «إِنَّه حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
استحباب التَّعرُّض للمطر ليصيب البدن، وكشف البدن لذلك.
2 -
تعليل الأحكام، لقوله:«إِنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» .
3 -
أنَّ المطر أطيب ما يكون قبل وقوعه على الأرض.
4 -
أنَّ ماء المطر يخلقه الله في السَّحاب ثمَّ ينزله على من يشاء، ولعلَّ هذا -والله أعلم- هو معنى قوله:«حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» ؛ أي: قريب العهد بخلق الله له، بخلاف ما إذا نزل على الأرض وسالت به الأودية، فلا تكون له هذه المزيَّة، وهي قرب العهد بربِّه.
والمطر ماءٌ مباركٌ لكثرة منافعه، فكلُّ ما ينتفع به من الحيوان والنَّبات هو من آثار الماء، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ
(1)
رواه الدّينوريُّ في «المجالسة» (727)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (26/ 358).
(2)
مسلمٌ (898).
وَحَبَّ الْحَصِيد (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَّضِيد (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ} [ق: 9 - 11] وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِنْ مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)} [الفرقان: 48 - 49].
5 -
إثبات الرُّبوبيَّة العامَّة لله عز وجل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ» .
6 -
إثبات الأفعال الاختياريَّة لله عز وجل.
* * * * *
(596)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَأَى الْمَطَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا» . أَخْرَجَاهُ
(1)
.
(597)
وَعَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا فِي الاسْتِسْقَاءِ: «اللَّهُمَّ جَلِّلْنَا سَحَابًا، كَثِيفًا، قَصِيفًا، دَلُوقًا، ضَحُوكًا، تُمْطِرُنَا منْهُ رَذَاذًا قِطْقِطًا، سَجْلاً، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ» . رَوَاهُ أبو عَوَانَةَ فِي «صَحِيحِهِ»
(2)
.
* * *
في هذين الحديثين فوائد، منها:
1 -
استحباب هذا الدُّعاء إذا نزل المطر.
2 -
أنَّ من أسماء المطر الصَّيِّب، وهو من الصَّوب، وهو على وزن (فيعل)، والصَّوب: النُّزول، ومنه قوله تعالى:{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19].
3 -
أنَّ المطر قد ينزل ولا ينفع، وهذا مشهورٌ عند النَّاس.
(1)
البخاريُّ (1032). ولم أجده في مسلمٍ.
(2)
أبو عوانة (2514). وضعَّفه الحافظ في «التلخيص الحبير» (2/ 99).
4 -
استحباب الدُّعاء بما في حديث سعدٍ رضي الله عنه في الاستسقاء، ولكنَّ الحديث ضعيفٌ، وفي متنه نكارةٌ، حيث يناقض آخره أوَّله؛ إذ كيف يقول:«تُمْطِرُنَا مِنْهُ رَذَاذًا قِطْقِطًا» وقد قال: «دَلُوقًا» ، والدَّلوق: المنهمر، والرَّذاذ: المطر الضَّعيف، والقطقط: المطر الصِّغار، وقصيفٌ: بمعنى قاصفٍ؛ وهو الرَّعد الشَّديد، فلا يناسب الدُّعاء بذلك.
5 -
أنَّ من أسماء الله «ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ» ، كما قال تعالى:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالإِكْرَام (78)} [الرحمن: 78].
6 -
التَّوسُّل بأسماء الله وصفاته.
* * * * *
(598)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَرَجَ سُلَيْمَانُ عليه السلام يَسْتَسْقِي، فَرَأَى نَمْلَةً مُسْتَلْقِيَةً عَلَى ظَهْرِهَا رَافِعَةً قَوَائِمَهَا إِلَى السَّمَاءِ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، لَيْسَ بِنَا غِنًى عَنْ سُقْيَاكَ، فقالَ: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(1)
.
(599)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
في هذين الحديثين فوائد، منها:
1 -
أنَّ الاستسقاء سنَّة الأنبياء.
2 -
الخروج إلى الصَّحراء للاستسقاء.
3 -
أنَّ النَّمل من عجائب المخلوقات.
4 -
أنَّ النَّملة تدرك ربَّها، وتفتقر إليه.
5 -
أنَّ النَّمل يستسقي.
(1)
أحمد في «الزهد» (110)، والحاكم (1216).
(2)
مسلمٌ (896).
6 -
أنَّ الله في السَّماء، لقوله:«مُسْتَلْقِيَةً عَلَى ظَهْرِهَا رَافِعَةً قَوَائِمَهَا إِلَى السَّمَاءِ» .
7 -
أنَّ الظَّاهر أنَّ النَّملة الَّتي استسقت هي النَّملة الَّتي أخبر الله عنها بذلك القول البليغ: {يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُون (18)} [النمل: 18]. ومن قولها البليغ ما في هذا الحديث: «اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِكَ، لَيْسَ بِنَا غِنًى عَنْ سُقْيَاكَ» ، ويحتمل أن تكون غيرها.
8 -
أنَّ الله يستجيب دعاء من دعاه حتَّى الحيوان.
9 -
إثبات الأسباب.
10 -
أنَّ الدُّعاء من أسباب السُّقيا.
11 -
فهم سليمان عليه السلام لكلام النَّملة، وقد قال تعالى:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 19].
12 -
إطلاع الله سليمان عليه السلام على ما هو من علم الغيب؛ من قوله: «فَقَدْ سُقِيتُمْ» .
13 -
أنَّه قد ينتفع الإنسان بدعاء غيره.
14 -
أنَّ النَّاس قد يسقون بدعاء غيرهم.
15 -
أنَّ النَّاس إذا خرجوا إلى الاستسقاء فمطروا لم يستسقوا؛ لحصول مطلوبهم.
ومن الفوائد في حديث أنسٍ رضي الله عنه:
16 -
مشروعيَّة رفع اليدين في الاستسقاء.
17 -
المبالغة في رفعهما لقوله: «فأشار بظهر كفَّيه إلى السَّماء» .
18 -
إثبات العلوِّ لله تعالى.
* * * * *
بَابُ اللِّبَاسِ
اللِّبَاسُ: مصدر لبس يلبس لبسًا ولباسًا، وأكثر ما يطلق على الملبوس، وهو المراد هنا من إطلاق المصدر على اسم المفعول، قال الله تعالى:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون (26)} [الأعراف: 26].
فهذا امتنانٌ من الله على عباده بما خلق لهم من اللِّباس، وبيان الحكمة منه؛ وهو ستر العورات والتَّجمُّل به، ولهذا سمّاه الله زينةً، قال تعالى:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
والأصل في كلِّ لباسٍ الإباحة إلَّا ما خصَّه الدَّليل؛ كالذَّهب والحرير والمعصفر في حقِّ الرِّجال.
وذكر هذا الباب في هذا الموضع لا تظهر له مناسبةٌ، وكثيرٌ من المصنِّفين في الأحكام يذكر أحكام اللِّباس عند الكلام على ستر العورة من شروط الصَّلاة.
* * * * *
(600)
عَنْ أَبِي عَامِرٍ الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ
(1)
.
* * *
هذا الحديث رواه البخاريُّ معلَّقًا بصيغة الجزم عن شيخه هشام بن عمَّارٍ، وقد حكم المحقِّقون بأنَّه متَّصلٌ؛ لثبوت اللُّقيِّ بين البخاريِّ وشيخه، وأنَّ البخاريَّ ليس مدلِّسًا. ولهذا قال المصنِّف:«وأصله في البخاريِّ» .
(1)
أبو داود (4039)، وأصله في البخاريِّ -معلقًا مجزومًا به- (5590).
وقد طعن فيه ابن حزمٍ بتعليق البخاريِّ له في مقام دفع الاستدلال به على تحريم المعازف، وقد ردَّ عليه المحقِّقون من أهل الحديث كالحافظ العراقيِّ وغيره، قال العراقيُّ في ألفيَّة الحديث:
وَإنْ يَكُنْ أوَّلُ الاسْنَادِ حُذِفْ
مَعْ صِيغَةِ الجَزْم فَتَعلِيقًا عُرِفْ
وَلَوْ إِلَى آخِرِهِ أمَّا الذِي
لِشَيْخِهِ عَزَا ب (قالَ) فَكَذِي
عَنْعَنَةٍ كخَبَرِ المَعَازِفِ
لَا تَصْغَ (لاِبْنِ حَزْمٍ) المُخَالِفِ
(1)
قال ابن الصَّلاح: «ولا التفات إلى أبي محمَّد بن حزمٍ الظَّاهريِّ في ردِّ ما أخرجه البخاريُّ من حديث أبي عامرٍ أو أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنه عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ» الحديث، من جهة أنَّ البخاريَّ أورده قائلاً فيه: قال هشام بن عمَّارٍ، وساقه بإسناده فزعم ابن حزمٍ أنَّه منقطعٌ فيما بين البخاريِّ وهشامٍ، وجعله جوابًا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوهٍ، والحديث صحيحٌ معروف الاتِّصال بشرط الصَّحيح»
(2)
.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
تحريم هذه المذكورات، وهي: الزِّنى والحرير والخمر والمعازف، والحر: الفرج، والمعازف: الغناء وآلاته.
2 -
أنَّ وقوع استحلال هذه المحرَّمات في الأمَّة علمٌ من أعلام نبوَّته صلى الله عليه وسلم، والمتدبِّر للواقع في هذا العصر يدرك أنَّ استحلال هذه المحرَّمات قد وقع في بلدانٍ كثيرةٍ من ديار الإسلام لم يسبق له نظيرٌ، ومن أعظم أسباب ذلك استيلاء النَّصارى على تلك البلدان.
3 -
إخباره صلى الله عليه وسلم عمَّا سيكون في المستقبل.
4 -
التَّناسب بين هذه المذكورات، فالخمر والغناء من دواعي الزِّنى، وإن كانت متفاوتةً في الحكم، فأعظمها الزِّنى ثمَّ الخمر ثمَّ المعازف، وأمَّا الحرير فإنَّما يحرم لبسه على الذُّكور.
5 -
تحريم الحرير، وهذا هو الشَّاهد من الحديث، وهذا الحكم مجملٌ في الحديث، تبيِّنه الأحاديث الآتية، ومثله في الإجمال الحديث الآخر:«مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ في الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ»
(1)
، وقد جاء تقييد هذا التَّحريم بذكور الأمَّة، فجاءت الرُّخصة بقدر أربع أصابع، والرُّخصة في لبس الحرير للحاجة، كما سيأتي.
6 -
أنَّ استحلال هذه المحرَّمات سببٌ لعاجل العقوبات من الخسف والمسخ.
7 -
أنَّ عقوبة المستحلِّين لهذه المحرَّمات تقع بهم وقت البيات؛ لأنَّه وقت ممارستهم لهذه المنكرات؛ من الزِّنى والخمر والمعازف، كما يفيده قوله:«فَيُبَيِّتُهُمُ اللهُ» .
* * * * *
(1)
رواه البخاريُّ (5832)، ومسلمٌ (2073) عن أنسٍ رضي الله عنه.
(601)
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(1)
.
(602)
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ أَرْبَعٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
(2)
.
(603)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ فِي قَمِيصِ الْحَرِيرِ، فِي سَفَرٍ؛ مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
(604)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «كَسَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُلَّةً سِيَرَاءَ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ
(4)
.
(605)
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لإِنَاثِ أُمَّتِي، وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهِمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
(5)
.
* * *
الحلَّة السِّيراء هي من لباس الحرير، قيل: إنَّها من الحرير الخالص، وقيل: إنَّها مضلَّعةٌ بالحرير؛ أي: معلَّمةٌ؛ أي: فيها أعلامٌ؛ أي: خطوطٌ من الحرير.
وهذه الأحاديث الخمسة قد دلَّت على تحريم الحرير.
وفيها فوائد، منها: في حديث حذيفة رضي الله عنه:
1 -
تحريم الأكل والشُّرب في آنية الذَّهب والفضَّة، وسبق في باب الآنية من كتاب الطَّهارة.
(1)
البخاريُّ (5837).
(2)
البخاريُّ (5828)، ومسلمٌ (2069).
(3)
البخاريُّ (2919)، ومسلمٌ (2076).
(4)
البخاريُّ (5840)، ومسلمٌ (2071).
(5)
أحمد (19507)، والنسائيُّ (5163)، والترمذيُّ (1720).
2 -
تحريم لبس الحرير والدِّيباج، وهو نوعٌ من الحرير، فعطفه عليه من عطف الخاصِّ على العامِّ.
3 -
تحريم الجلوس على الحرير والدِّيباج، والجلوس والافتراش من اللُّبس، كما قال أنسٌ رضي الله عنه:«فقمت إلى حصيرٍ لنا قد اسودَّ من طول ما لبس»
(1)
.
وأحسن ما قيل في تحريم الأكل والشُّرب في آنية الذَّهب والفضَّة ما في ذلك من السَّرف والخيلاء، ولأنَّها آنية الكفَّار، كما قال صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّها لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ»
(2)
.
وأمَّا تحريم لبس الرِّجال للحرير فلما فيه من الخيلاء، والتَّرف الَّذي لا يليق بالرِّجال.
وفي حديث عمر رضي الله عنه:
4 -
الرُّخصة باليسير من الحرير بقدر: إصبعين، أو ثلاثٍ، أو أربعٍ.
وفي حديث أنسٍ رضي الله عنه:
5 -
الرُّخصة في لبس الحرير للحكَّة؛ لأنَّ غيره يثيرها.
6 -
تخصيص وتقييد الأحاديث المطلقة في تحريم الحرير بما وردت فيه الرُّخصة.
7 -
تفاوت المحرَّمات في التَّحريم؛ فمن المحرَّمات: ما لا يحلُّ إلَّا للضَّرورة، ومنها: ما لا يحلُّ إلَّا للحاجة، ومنها: ما يحرم على الرِّجال والنِّساء، ومنها: ما يحرم على الرِّجال، ومنها: ما يحرم على النِّساء.
وفي حديث عليٍ وأبي موسى رضي الله عنهم:
8 -
إنكار المنكر بإظهار الكراهة والغضب.
(1)
رواه البخاريُّ (380)، ومسلمٌ (658).
(2)
في باب الآنية برقم (19).
9 -
جواز التَّصرُّف في الحرير بالهبة والبيع، ولو لمن لا يحلُّ له إذا كان لا يلبسه.
10 -
أنَّ الغضب ليس صفة ذمٍّ مطلقًا، بل منه ما هو محمودٌ.
11 -
جواز تشقيق الثَّوب لينتفع به عددٌ.
12 -
حلُّ لبس الذَّهب والحرير للنَّساء الصَّغيرات والكبيرات.
وحلُّ الذَّهب للنِّساء يختصُّ باللِّباس، لحاجتهنَّ إلى الزِّينة، وأمَّا الآنية من الذَّهب والفضَّة فحكمهنَّ حكم الرِّجال؛ أي: في التَّحريم.
13 -
أنَّ تحريم لبس الذَّهب والحرير مختصٌّ بالرِّجال.
14 -
الحكمة في التَّشريع، وهي هنا مناسبة لبس الذَّهب والحرير للنِّساء دون الرِّجال.
* * * * *
(606)
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ
(1)
.
* * *
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
إثبات صفة المحبَّة لله تعالى.
2 -
أنَّ من شكر الله إظهار العبد نعمة الله عليه، فمن أغناه الله فلا يظهر بمظهر الفقراء في الرَّثاثة والفرح بالزَّهيد من الدُّنيا، وإظهار نعمة الغنى يكون بالبذل في وجوه البرِّ، وبالتَّمتُّع بما أباح الله من المطعم والمشرب والملبس والمركب على وجه التَّوسُّط والاعتدال، فلا تقشُّف ولا سرف ولا اختيال.
(1)
البيهقيُّ في «الكبرى» (6093).
وكلُّ نعمةٍ فإظهارها بحسبها؛ كالجاه والقوَّة البدنيَّة إظهارهما بنفع الضُّعفاء وذوي الحاجات كما فعل موسى عليه السلام مع المرأتين، ومن أنعم الله عليه بالعلم أظهره بالتَّعليم والدَّعوة على بصيرةٍ فلا يكتمه فيشبه حال الجاهل.
3 -
إثبات الرُّؤية لله عز وجل.
4 -
أنَّ كلَّ ما بالعبد من النِّعم من الله.
* * * * *
(607)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ وَالْمُعَصْفَرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(608)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهم قَالَ: رَأَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ، فقالَ:«أُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا؟» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
هذان الحديثان في الأوَّل منهما: النَّهي عن نوعٍ من الحرير، وهو القسِّيُّ، نسبةً إلى القسِّ موضعٍ بمصر، وفي الثَّاني: النَّهي عن المعصفر وهو المصبوغ بالعصفر، وهو صبغٌ أحمر.
وفيهما فوائد، منها:
1 -
تحريم لبس القسِّيِّ، وكلُّ أدلَّة تحريم الحرير هو داخلٌ فيها، وتخصيصه بالذِّكر لسببٍ اقتضاه، ولا يوجب تخصيص الأحاديث العامَّة في النَّهي عن لبس الحرير. ومن القواعد المقرَّرة في الأصول أنَّ النَّصَّ على بعض أفراد العامِّ بحكم العامِّ لا يخصِّصه بقصر الحكم على الخاصِّ.
2 -
تحريم لبس المعصفر على الرِّجال، ومن شواهد النَّهي عن المعصفر؛ النَّهي عن المياثر الحمر. والمنهيُّ عنه هو الأحمر الخالص، بدليل ما ثبت عن
(1)
مسلمٌ (2078).
(2)
مسلمٌ (2077).
النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّه لبس حُلَّةً حمراء
(1)
. قال العلماء: إنَّها لم تكن خالصةً، وبهذا يندفع التَّعارض.
3 -
الإنكار على من فعل محرَّمًا، ولو كان جاهلاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله:«أُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا؟» ممَّا يشعر بأنَّ المعصفر من شأن النِّساء، وفي الحديث؛ قال عبد الله رضي الله عنه:«أغسلهما» قال: «بَلْ أَحْرِقْهُمَا»
(2)
، وفي هذا جواز التَّغليظ في الإنكار وجواز العقوبة بالمال.
ولكن جاء عند أحمد وأبي داود عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم قال: فنظر إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا عليَّ ريطةٌ مضرَّجةٌ بعصفرٍ، فقال:«مَا هَذِهِ؟» فعرفت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كرهها، فأتيت أهلي وهم يسجرون تنُّورهم، فلففتها ثمَّ ألقيتها فيه، ثمَّ أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«مَا فَعَلَتِ الرَّيْطَةُ؟» قلت: قد عرفت ما كرهت منها؛ فأتيت أهلي وهم يسجرون تنُّورهم فألقيتها فيه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَهَلَّا كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِكَ!»
(3)
، فقوله صلى الله عليه وسلم:«فَهَلَّا كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِكَ!» يشكل مع قوله عند مسلمٍ: «بَلْ أَحْرِقْهُمَا» .
فجمع بعضهم بين حديث الرَّيطة وحديث الثَّوبين بأنَّهما قصَّتان، وفيه بعدٌ؛ إذ لا يظنُّ بعبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهم أن يعود إلى ما نهاه الرَّسول صلى الله عليه وسلم عنه.
وأحسن من هذا الجمع أن يقال: إنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَحْرِقْهُمَا» ليس على الحقيقة بل على التَّغليظ، كيف وعبد الله رضي الله عنه كان جاهلاً بالحكم! ولكنَّه حمل كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على ظاهره فأحرق الرَّيطة، فلذلك قال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَهَلَّا كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِكَ!» .
* * * * *
(1)
البخاريُّ (369)، ومسلمُ (503).
(2)
هذه الرواية تمام الحديث السابق.
(3)
رواه أحمد (6852)، وأبو داود (4066)، وابن ماجه (3603). وحسَّنه الألبانيُّ. ينظر:«سنن أبي داود» بأحكام الألبانيِّ (4066).
(609)
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم؛ «أَنَّها أَخْرَجَتْ جُبَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكْفُوفَةَ الْجَيْبِ وَالْكُمَّيْنِ وَالْفَرْجَيْنِ بِالدِّيبَاجِ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ
(1)
.
(610)
وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ
(2)
(611)
وَزَادَ البُخَارِيُّ فِي الأَدَبِ المُفْرَدِ: «وَكَانَ يَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ وَالْجُمُعَةِ»
(3)
.
* * *
هذا الحديث من أدلَّة التَّبرُّك والاستشفاء بآثار بدن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كشعره وعرقه، ووضوئه صلى الله عليه وسلم، وأدلَّة ذلك مشهورةٌ في الصَّحيحين وغيرهما.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يلبس الجبَّة؛ وهي ذات أكمامٍ تلبس فوق الثِّياب مفتوحةً من الأمام، وهي باقيةٌ بهذا الاسم إلى اليوم عند بعض النَّاس.
2 -
جواز الاحتفاظ بثياب الميِّت إذا كان في ذلك مصلحةٌ.
3 -
الاستشفاء بثياب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك بغسلها والاستشفاء بمائها.
4 -
جواز اليسير من الحرير؛ مثل ما يكفُّ به الجيب والكمَّان والفرجان، والمراد بفرجي الجبَّة: الشِّقَّان في أسفلها من الجانبين.
5 -
أنَّ ما جعل الله تعالى في نبيِّه صلى الله عليه وسلم من البركة لا يزول بالغسل.
6 -
أنَّ قبض عائشة رضي الله عنها لجبَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لا بالميراث، بل لنفع المسلمين بها، ولهذا لمَّا ماتت قبضتها أختها أسماء رضي الله عنها.
7 -
التَّجمُّل بالثِّياب لاستقبال الوفود ولصلاة الجمعة.
* * * * *
(1)
أبو داود (4054).
(2)
مسلمٌ (2069).
(3)
«الأدب المفرد» (348).
كِتَابُ الجَنَائِزِ
هذا الكتاب يتضمَّن أحكام معاملة الأموات من المرض إلى ما بعد الدَّفن.
والجنائز: جمع جنازةٍ؛ بفتح الجيم وكسرها، وهو جثمان الميِّت، وقيل: الجنازة -بالفتح-: الميِّت، وبالكسر: النَّعش عليه الميِّت.
وأحكام الجنائز من أدلَّة كمال الشَّريعة، وشمولها لشأن الإنسان حيًّا وميِّتًا. وفي موضوعات هذا الكتاب عظاتٌ بالغةٌ، وكلُّها تذكِّر بالموت وبالآخرة، ولهذا استهلَّ المصنِّف أحاديث هذا الكتاب بقوله صلى الله عليه وسلم:«أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ: الْمَوْتِ» ، وبالموت ينتقل الإنسان من دار العمل إلى دار البرزخ؛ وهي من دار الجزاء، وبعدها البعث من القبور إلى دار النُّشور إلى دار القرار في الجنَّة أو النَّار، وليس القبر هو المثوى الأخير كما يقول بعض النَّاس.
وللإنسان في هذا الوجود أربع أحوالٍ: موتتان وحياتان، قال تعالى:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون (28)} [البقرة: 28].
وقد جرى كثيرٌ من المصنِّفين في الأحكام على ذكر هذا الكتاب في إثر كتاب الصَّلاة، ومناسبته ظاهرةٌ؛ لأنَّ أهمَّ أحكام كتاب الجنائز: تغسيل الميِّت وتكفينه والصَّلاة عليه، وكلُّها تدخل في جنس أحكام الصَّلاة.
* * * * *
(612)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ: الْمَوْتِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
(613)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ يَنْزِلُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْينِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(1)
الترمذيُّ (2307)، والنسائيُّ (1823)، وابن حبان (2992).
(2)
البخاريُّ (5671)، ومسلمٌ (2680).
(614)
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» . رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
* * *
هذه الأحاديث الثلاثة اشتملت على فوائد، منها:
1 -
استحباب الإكثار من ذكر الموت، والمراد: تذكُّره في القلب والتَّذكير به.
2 -
الحكمة من ذلك، وهي: الاستعداد له بالعمل الصَّالح، ولا يجوز أن يكون تذكُّر الموت سببًا للتَّحسُّر والحزن، وتعطيل مصالح الدِّين والدُّنيا.
3 -
أنَّ اللَّذَّات تسبِّب الغفلة والرُّكون إلى الدُّنيا، وتذكُّر الموت يوجب اليقظة؛ جاء في الحديث:«فَإِنَّه مَا كَانَ فِي كَثِيرٍ إِلَّا قَلَّلَهُ، ولا قَلِيلٍ إِلَّا جَزَّأَهُ»
(2)
، وفي حديث آخر:«فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ قَطُّ وهُوَ فِي ضِيقٍ إِلَّا وَسَّعَهُ عَلَيْهِ، ولا ذَكَرَهُ وهُوَ فِي سَعَةٍ إِلَّا ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ»
(3)
.
ومعنى هذا: أنَّ تذكُّر الموت يوجب القناعة بالقليل من الدُّنيا، ويوجب احتقار الكثير من الدُّنيا.
4 -
أنَّ لذَّات الدُّنيا لا تدوم، وأقصى مداها الموت، فالموت يقطعها ويهدمها، وهو معنى «هاذم اللَّذَّات» أو «هادم اللَّذَّات» ، وقد تنقطع قبل ذلك بأسبابٍ؛ كالمرض والهرم.
وفي حديث أنسٍ رضي الله عنه:
5 -
تحريم تمنِّي الموت لما نزل بالإنسان من المصائب.
6 -
أنَّ تمنِّي الموت ممَّا ينافي الصَّبر.
(1)
الترمذيُّ (982)، والنسائيُّ (1828)، وابن ماجه (1452)، وابن حبان (3011).
(2)
رواه الطبرانيُّ في «الأوسط» (5780)، والبيهقيُّ في «الشعب» (10074)، عن ابن عمر رضي الله عنهم.
(3)
رواه ابن حبان (2993)، والطبراني في «الأوسط» (8560)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
7 -
جواز التَّفويض على الله بسؤال خير الأمرين من الحياة أو الموت.
8 -
أنَّ الأولى من ذلك سؤال الحياة الطَّيِّبة.
9 -
أنَّ الحياة خيرٌ للمؤمن؛ لأنَّ من شأنه أن يزداد من العمل الصَّالح ولهذا جاء: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ»
(1)
.
10 -
تفرُّد الله بعلم الغيب.
11 -
قوله: «الْمُؤْمِنُ يَمُوتُ بِعَرَقِ الْجَبِينِ» قيل: هو كنايةٌ عن جهاده واجتهاده فيما يقرِّب إلى الله حتَّى ينزل به الموت وهو على ذلك. وقيل: إنَّه كنايةٌ عن شدَّة معالجته للموت، وأنَّه يشدَّد على المؤمن تمحيصًا لذنوبه أو رفعًا لدرجاته، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا نزل به الموت جعل يطرح خميصةً على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها كما في الصَّحيح
(2)
.
وجاء في «صحيح البخاريِّ» أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانت عنده ركوةٌ أو علبةٌ فيها ماءٌ يدخل فيها يديه ثمَّ يمسح وجهه منه، ويقول:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ»
(3)
.
وهذا لا ينافي ما جاء في حديث البراء رضي الله عنه من أنَّ نفس المؤمن تخرج كما تسيل القطرة من في السِّقاء، وأنَّ نفس الكافر تنتزع كما ينتزع السَّفُّود من الصُّوف المبلول
(4)
؛ فهذا وصفٌ للحظة خروجها وقبض ملك الموت لها.
* * * * *
(1)
رواه أحمد (17698)، والترمذيُّ (2329)، عن عبد الله بن بسرٍ رضي الله عنه. وحسَّن إسناده الترمذيُّ.
(2)
عند البخاريِّ (435)، ومسلمٍ (531)، من حديث عائشة وابن عباسٍ رضي الله عنهم.
(3)
البخاريُّ (4449).
(4)
رواه أحمد (18534). وأورده الهيثميُّ في «مجمع الزوائد» (3/ 49 - 50)، وقال:«هو في الصحيح باختصارٍ، رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح» .
(615)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرةَ رضي الله عنهم قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالأَرْبَعَةُ
(1)
.
(616)
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اقْرَؤُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ {يس}» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(2)
.
* * *
هذان الحديثان اشتملا على بعض ما يعامل به المحتضر، فالموتى في الحديثين المراد بهم: من حضره الموت.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
استحباب تلقين المحتضر (لا إله إلَّا الله)؛ والحكمة من ذلك أن تكون آخر كلامه، وقد جاء في الحديث:«مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»
(3)
؛ والتَّلقين: هو التَّذكير بالقول، والنُّطق به عند من قد يعجز عن النُّطق به؛ إعانةً له أو تذكيرًا له.
ولا خلاف بين أهل العلم في استحباب تلقين المحتضر، واختلفوا في تلقين الميِّت بعد الدَّفن جواب المسائل الثَّلاث، ولم يثبت فيه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شيءٌ، بل الَّذي صحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم القيام على القبر، والدُّعاء للميِّت بالمغفرة والتَّثبيت.
وقد جاء عن جماعةٍ من السَّلف تلقين الميِّت أوَّل ما يدفن من فعلهم، وهذا لا يكفي دليلاً على الشَّرعيَّة، فالصَّواب: أنَّ تلقين الميِّت لا يشرع ولا ينفع، فيغني عنه قوله صلى الله عليه وسلم:«اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ»
(4)
.
(1)
مسلمٌ (916 - 917)، وأبو داود (3117)، والترمذيُّ (976)، والنسائيُّ (1825)، وابن ماجه (1445).
(2)
أبو داود (3121)، والنسائيُّ في «الكبرى» (10846)، وابن حبان (3002).
(3)
رواه أبو داود (3116)، والحاكم (1300)، وصحَّحه عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه.
(4)
سيأتي برقم (665).
2 -
فضل كلمة التَّوحيد.
3 -
أنَّ التَّوحيد أوَّل الأمر وآخره، فهو أوَّل واجبٍ، وآخر واجبٍ.
4 -
استحباب قراءة سورة {يس} على المحتضر.
5 -
فضل سورة {يس} وذلك على تقدير صحَّة الحديث، ولكن رجَّح بعض المحقِّقين أنَّه ضعيفٌ
(1)
؛ لأنَّ في إسناده مجهولاً، وهو أبو عثمان
(2)
، ومن صحَّحه ظنَّه أبا عثمان النَّهديَّ. وإذا لم يصحَّ فلا يعمل به، ولا يخفى أنَّ قراءة القرآن عند الصَّحيح والمريض فيه خيرٌ عظيمٌ للقارئ والمستمع.
* * * * *
(617)
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ» فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ:«لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ؛ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا تَقُولُونَ» . ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(3)
.
* * *
أمُّ سلمة هي: أمُّ المؤمنين رضي الله عنها زوج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، واسمها هند بنت أبي أميَّة المخزوميَّة، تزوَّجها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزوميِّ، وكان أخًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من الرَّضاعة. وقد توفِّي في السَّنة الرَّابعة من الهجرة.
وفي هذا الحديث تروي لنا أمُّ سلمة رضي الله عنها قصَّة وفاته رضي الله عنه، ودعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم له، وجاء في الصَّحيح
(4)
عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(1)
نقل الحافظ في «التلخيص الحبير» (2/ 110) عن ابن العربيِّ عن الدارقطنيِّ أنَّه قال: «هذا حديثٌ ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصحُّ في الباب حديثٌ» .
(2)
«الميزان» للذهبيِّ (4/ 550).
(3)
مسلمٌ (920).
(4)
مسلمٌ (918).
«مَا مِنْ مسْلم تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ اؤْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا منْها إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا منْها» . قالت: فلمَّا مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خيرٌ من أبي سلمة؟! أوَّل بيتٍ هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ إنِّي قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث فوائد؛ منها:
1 -
فضيلة أبي سلمة رضي الله عنه.
2 -
احتفاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم به.
3 -
عظم شأن هذا الدُّعاء.
4 -
ذكر المدعوِّ له باسمه.
5 -
اشتمال هذا الدُّعاء على طلب النَّجاة من المرهوب؛ بمغفرة الذُّنوب، وحصول المطلوب؛ من رفعة الدَّرجة مع أولياء الله المهديِّين، وفسحة القبر وتنويره.
6 -
استحباب الدُّعاء للميِّت ولعقبه.
7 -
تفاضل المؤمنين في الدَّرجات عند الله تعالى.
8 -
أنَّ القبر يوسَّع وينوَّر لبعض العباد، ويظلم ويضيَّق على آخرين، ومن شواهد هذا المعنى: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث المرأة الَّتي كانت تقمُّ المسجد: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ»
(1)
.
9 -
إثبات نعيم القبر وعذابه.
10 -
أنَّ الله يكون خليفةً لعبده المؤمن على عقبه، ومن كان الله خليفته أمن على من يخاف عليه.
11 -
الإشارة في هذا الدُّعاء إلى ما تحقَّق من زواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأمِّ سلمة، وكفالته لأولادها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:«وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ» ، فاستجاب الله دعاءه.
(1)
سيأتي برقم (637).
12 -
استحباب تغميض عيني الميِّت.
13 -
أنَّ آخر ما يذهب من حواسِّ الميِّت بصره بعد خروج الرُّوح، لذلك ينظر إلى الرُّوح عند خروجها.
14 -
أنَّ الرُّوح شيءٌ قائمٌ بنفسه؛ يقبض ويرسل ويذهب ويجيء.
15 -
حضور الملائكة عند أهل الميِّت.
16 -
تأمين الملائكة على دعاء أهل الميِّت.
17 -
استحباب دعاء أهل الميِّت له ولأنفسهم بما ينفعهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ» ، والحذر من خلاف ذلك.
18 -
أنَّ من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عيادة المرضى.
* * * * *
(618)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّي سُجِّيَ بِبُرْدِ حِبَرَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(619)
وَعَنْهَا رضي الله عنها؛ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَبَّلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِهِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(2)
.
(620)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ، حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
(3)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا مات وقبل أن يغسَّل؛ سجِّي -أي: غطِّي- ببرد حبرةٍ، وهو كساءٌ ذو ألوانٍ، كان يجتلب من اليمن، وإضافة البرد إلى الحبرة من إضافة الموصوف إلى الصِّفة.
(1)
البخاريُّ (5814)، ومسلمٌ (942).
(2)
البخاريُّ (4455).
(3)
أحمد (9679)، والترمذيّ (1078).
2 -
استحباب تغطية الميِّت حتَّى يتهيَّأ تغسيله، ووجه الاستحباب أنَّ ما اختار الله لنبيِّه هو الخير.
3 -
أنَّ الحكمة من ذلك ستر بدن الميِّت حتَّى يكون كهيئة النَّائم.
4 -
جواز تقبيل الميِّت من بعض خاصَّته، ولا ينبغي الإكثار من ذلك؛ لأنَّ الصَّحابة لم يفعلوه مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
5 -
فضيلة أبي بكرٍ رضي الله عنه؛ فقد جاء في القصَّة أنَّه بلغه موت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو بالسُّنح، فأقبل حتَّى دخل على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقبَّله وقال:«طبت حيًّا وميِّتًا» ، ثمَّ خرج وخطب النَّاس خطبته الشَّهيرة وقال:«من كان يعبد محمَّدًا صلى الله عليه وسلم فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت»
(1)
.
6 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قد مات، ففيه الرَّدُّ على الَّذين يدعونه زاعمين أنَّه حيٌّ في قبره كحياته بين أصحابه رضي الله عنهم.
7 -
أنَّ همَّ الدَّين لا يفارق نفس المؤمن حتَّى بعد موته.
8 -
الحثُّ على المبادرة في قضاء دين الميِّت.
9 -
أنَّ من الإحسان إلى الميِّت قضاء دينه.
10 -
أنَّ الدَّين الَّذي للآدميِّين ليس ممَّا يغفر للميِّت.
* * * * *
(621)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الَّذِي سَقَطَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فَمَاتَ: «اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(622)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي، نُجَرِّدُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا، أَمْ لَا؟
…
» الحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ
(3)
.
(1)
رواه البخاريُّ (3667).
(2)
البخاريُّ (1265)، ومسلمٌ (1206).
(3)
أحمد (26306)، وأبو داود (3141).
(623)
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نُغَسِّلُ ابْنَتَهُ، فَقَالَ:«اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ، بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَاجْعَلْنَ فِي الآخِرَةِ كَافُورًا، أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ» . فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ، فَأَلْقَى إِلَيْنَا حِقْوَهُ، فَقَالَ:«أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(624)
وَفِي رِوَايَةٍ: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا»
(2)
.
(625)
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَضَفَرْنَا شَعْرَهَا ثَلَاثَةَ قُرُونٍ، فَأَلْقَيْنَاهُ خَلْفَهَا»
(3)
.
* * *
هذه الأحاديث هي الأصل في مشروعيَّة تغسيل الميِّت، وقد أجمع العلماء على وجوبه، وهو فرض كفايةٍ، وخصَّ من هذا شهيد المعركة؛ فإنَّه لا يغسَّل، كما في قصَّة شهداء أحدٍ رضي الله عنهم، لما جاء في «صحيح البخاريِّ» عن جابرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ» ولم يغسِّلهم
(4)
. وفي تغسيل الميِّت وتطييبه وتكفينه والصَّلاة عليه إكرامٌ له، وذلك من كرامته على ربِّه.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
وجوب تغسيل الميِّت وأنَّه فرض كفايةٍ.
2 -
أنَّ الإحرام لا يبطل بالموت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عبَّاسٍ المذكور في الباب: «وَلَا تُحَنِّطُوهُ ولا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ؛ فَإنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» .
3 -
جواز الغسل للمحرم.
4 -
وجوب تكفين الميِّت.
5 -
أنَّ مؤنة تكفين الميِّت وتجهيزه مقدَّمٌ على دينه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ» .
(1)
البخاريُّ (1253)، ومسلمٌ (939).
(2)
البخاريُّ (167)، ومسلمٌ (939).
(3)
البخاريُّ (1263).
(4)
البخاريُّ (1346).
6 -
استحباب السِّدر في تغسيل الميِّت أو ما يقوم مقامه، إن لم يتيسَّر.
7 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم غسِّل؛ كغيره من أموات المسلمين، إلَّا أنَّه غسِّل في ثيابه. فقد ورد أنَّ الصَّحابة رضي الله عنهم تردَّدوا في تجريد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ثمَّ سمعوا هاتفًا من ناحية البيت لا يدرون من هو؛ أن اغسلوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه
(1)
.
8 -
أنَّ الأصل عند الصَّحابة رضي الله عنهم تجريد الميِّت؛ لكن لا بدَّ من ستر عورته.
9 -
أنَّ المرأة تغسِّلها النِّساء دون الرِّجال، وهذا بالإجماع، وكذلك الرَّجل يغسِّله الرَّجل دون النِّساء، إلَّا من لا حرمة لعورته كمن دون سبعٍ من الذُّكور والإناث، وقيَّده بعضهم بمن لا يشتهى، وينبغي أن يخصَّ ذلك بمن دون سبعٍ.
واختار الموفَّق أنَّ الرِّجال لا يغسِّلون الأنثى مطلقًا
(2)
، وأمَّا الصَّبيُّ فتغسِّله النِّساء؛ لأنَّ من عادتهنَّ تولِّي شؤون الصِّبيان، وخصَّ من المسألة تغسيل كلٍّ من الزَّوجين للآخر على الصَّحيح وسيأتي.
10 -
استحباب غسل الميِّت ثلاثًا، والزِّيادة على ذلك إن دعت الحاجة، واستحباب الوتر.
11 -
الرُّجوع إلى رأي النِّساء فيما هو من شؤونهنَّ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ» .
12 -
استحباب توضئة الميِّت والبداءة بميامنه قبل غسل سائره.
13 -
استحباب الكافور في غسل الميِّت، أو ما يتيسَّر من طيبٍ.
14 -
استحباب ضفر شعر المرأة.
15 -
حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وعنايته بابنته زينب رضي الله عنها.
(1)
هو تمام حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم.
(2)
«المغني» لابن قدامة (3/ 463).
16 -
أنَّ في ثيابه صلى الله عليه وسلم بركةً، ولا سيَّما ما باشر بدنه.
17 -
نهي المُحْرِم عن تغطية رأسه.
18 -
نهي المحرم عن الطِّيب، لقوله:«وَلَا تُحَنِّطُوهُ» ، والحنوط: ما يطيَّب به الميِّت.
19 -
مشروعيَّة تطييب الميِّت غير المحرم.
20 -
مشروعيَّة التَّلبية للمحرم.
21 -
أنَّ من شرع في النُّسك ثمَّ مات لا تشرع النِّيابة عنه في باقي نسكه، ولو كان فريضةً.
22 -
أنَّه لا يجب التَّكرار في غسل الميِّت؛ لأنَّ الأمر المطلق لا يجب فيه التَّكرار.
23 -
جواز الوقوف بعرفة على الرَّاحلة إذا كانت تطيق.
24 -
أنَّه يكفي للمحرم أن يكفَّن في ثوبيه، ولا تشرع الزِّيادة.
25 -
أنَّه يجوز للمحرم أن يتجرَّد من ثيابه عند اغتساله.
26 -
العمل بما يسمع من صوتٍ مجهولٍ إذا دلَّت على صحَّته القرائن، ولم يخالف الشَّرع.
* * * * *
(626)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كُفِّنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ ولا عِمَامَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(627)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ، فَأَعْطَاه إِيَّاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
(1)
البخاريُّ (1264)، ومسلمٌ (941).
(2)
البخاريُّ (1269)، ومسلمٌ (2400).
(628)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّها مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ
(1)
.
(629)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
هذه الأحاديث تدلُّ على مشروعيَّة تكفين الميِّت، وهو فرض كفايةٍ بإجماع أهل العلم، وتقدَّم الأمر به في حديث الَّذي وقع عن راحلته
(3)
، والواجب منه: ثوبٌ يستر جميع بدن الميِّت.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كفِّن في «ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحوليَّةٍ» ؛ نسبةً إلى سحولٍ، «من كرسفٍ»؛ أي: من قطنٍ، وهي ثلاث لفائف، فهي غير قميصه الَّذي غسِّل فيه صلى الله عليه وسلم.
2 -
استحباب تكفين الرَّجل بثلاثة أثوابٍ، وأمَّا المرأة ففي خمسة أثوابٍ: درعٍ وإزارٍ ومقنعةٍ على رأسها ولفافتين.
3 -
استحباب البياض في الكفن.
4 -
استحباب الأبيض للحيِّ والميِّت؛ لقوله: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ» .
5 -
ذكر علَّة الحكم «فَإِنَّها مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُم» .
6 -
التَّبرُّك بآثار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كثيابه.
7 -
حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ حيث أعطى قميصه يكفَّن به عبد الله بن أبيٍّ، تطييبًا لنفس ولده، وإن كان لن ينفعه ذلك؛ لأنَّه رأس المنافقين، وقد قال تعالى:
(1)
أحمد (2219)، وأبو داود (3878)، والترمذيُّ (994)، وابن ماجه (3566).
(2)
مسلمٌ (943).
(3)
تقدَّم برقم (621).
{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} الآية [التوبة: 80]، وقال تعالى:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُون (84)} [التوبة: 84].
8 -
حرص عبد الله بن عبد الله بن أبيٍّ رضي الله عنه على نجاة والده.
9 -
مشروعيَّة برِّ الوالد الكافر.
10 -
أنَّ المحبَّة الطَّبيعيَّة ليست من الموالاة المحرَّمة.
11 -
جواز التَّكفين في القميص.
12 -
التَّذكير بما يوجب الإحسان من الأخوَّة الإيمانيَّة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ» .
13 -
أنَّ من الإحسان إلى الميِّت إحسان كفنه؛ بأن يكون وافيًا، جديدًا أو نظيفًا، وبالعدد المستحبِّ.
* * * * *
(630)
وَعنْهُ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ:«أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟» فَيُقَدِّمُهُ فِي اللَّحْدِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(1)
.
(631)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ؛ فَإِنَّه يُسْلَبُ سَرِيعًا» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ
(2)
.
* * *
أحدٌ جبلٌ معروفٌ بالمدينة، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هَذَا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»
(3)
، وكثيرًا ما كان الرَّسول صلى الله عليه وسلم يمثِّل به؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:«لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا»
(4)
، والمراد به في هذا الحديث: الغزوة الَّتي وقعت عنده
(1)
البخاريُّ (1343).
(2)
أبو داود (3154).
(3)
رواه البخاريُّ (4422)، ومسلمٌ (1392)، عن أبي حميد رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاريُّ (3673)، ومسلمٌ (2541)، عن أبي سعيد رضي الله عنه.
بين المسلمين والمشركين، وقد أصيب المسلمون في الغزوة، وقتل منهم سبعون، وهم شهداء أحدٍ، وقد أنزل الله في شأن هذه الغزوة كثيرًا من سورة آل عمران، ومنها قوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون (169)} [آل عمران: 169].
وفي هذين الحديثين فوائد، منها:
1 -
جواز الجمع بين الرَّجلين في كفنٍ واحدٍ عند شحِّ الثِّياب، وذلك على أظهر الاحتمالين، وفي حكمهما المرأتان، وقيل: معنى الجمع بينهما أن يقطع الكفن بينهما.
2 -
فضل حفظ القرآن.
3 -
تقديم الأكثر قرآنًا في اللَّحد؛ ومعناه: جعله ممَّا يلي القبلة.
4 -
مشروعيَّة تكفين شهداء المعركة.
5 -
أنَّ السُّنَّة ترك الصَّلاة عليهم، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فذهب بعضهم إلى ظاهر هذا الحديث، وهذا هو الصَّحيح.
وذهب آخرون إلى مشروعيَّة الصَّلاة عليهم استدلالاً بحديث عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى على قتلى أحدٍ بعد ثمان سنين
(1)
.
6 -
أنَّ شهيد المعركة لا يغسَّل، ومن حكمة ذلك إبقاء آثار الجهاد في سبيل الله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«ادْفِنُوهُمْ فِي دِمَائِهِمْ»
(2)
.
ومن فوائد حديث عليٍ رضي الله عنه:
7 -
النَّهي عن المغالاة في الكفن، والمراد به: شراء الغالي الثَّمن.
8 -
أنَّ المشروع في الكفن هو التَّوسُّط.
(1)
رواه البخاريُّ (4042)، ومسلمٌ (2296). ورواية:«بعد ثمان سنين» عند البخاريِّ وليست في مسلمٍ.
(2)
رواه البخاريُّ (1346)، عن جابرٍ رضي الله عنه.
9 -
تعليل النَّهي عن المغالاة؛ بأنَّ الكفن يسلب عن الميِّت سريعًا، والمراد -والله أعلم- أنَّه يبلى سريعًا.
* * * * *
(632)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ» الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(1)
.
(633)
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها؛ «أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
(2)
.
* * *
في هذين الحديثين فوائد، منها:
1 -
مشروعيَّة تغسيل الميِّت، وهو فرض كفايةٍ، وقد سبق.
2 -
جواز تغسيل الرَّجل لامرأته، ومثله تغسيل المرأة لزوجها، ويشهد له حديث عائشة رضي الله عنها:«لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا نساؤه»
(3)
. وإلى جواز تغسيل كلٍّ من الزَّوجين للآخر ذهب الجمهور من العلماء.
وذهبت الحنفيَّة إلى أنَّ الرَّجل لا يغسِّل امرأته لانقطاع الزَّوجيَّة بالموت، ويردُّه هذان الحديثان، ونقل الإجماع على أنَّ المرأة تغسِّل زوجها؛ لأنَّها تعتدُّ منه وتحدُّ.
3 -
جواز عهد الرَّجل أو المرأة إلى من يغسِّله.
4 -
فضل عائشة رضي الله عنها.
5 -
منزلة عليٍّ رضي الله عنه عند فاطمة بنت محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها.
(1)
أحمد (25908)، وابن ماجه (1465)، وابن حبان (6586).
(2)
الدارقطنيُّ (1851).
(3)
رواه أبو داود (3141)، وأحمد (26306). وصحَّح إسناده المصنف في «التلخيص الحبير» (1811).
(634)
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه -فِي قِصَّةِ الْغَامِدِيَّةِ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِرَجْمِهَا فِي الزِّنَى- قَالَ: «ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(635)
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنهم قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
* * *
حديث الغامديَّة رضي الله عنها حديثٌ طويلٌ يتضمَّن اعترافها بالزِّنى عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتردُّدها تطلب من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يقام عليها الحدُّ، فأمر بها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فشدَّت عليها ثيابها ثمَّ رجمت، ثمَّ صلَّى عليها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ثمَّ دفنت رضي الله عنها، فاستغرب عمر رضي الله عنه صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عليها وقد زنت، فقال صلى الله عليه وسلم:«لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ»
(3)
.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
فضل هذه المرأة لصدق توبتها.
2 -
جواز الاعتراف بما يوجب الحدَّ.
3 -
استحباب الاستتار بستر الله وترك الاعتراف مع التَّوبة.
4 -
أنَّ الحامل لا يقام عليها الحدُّ حتَّى تضع، ويستغني عنها ولدها.
5 -
أنَّ الحدَّ لا يسقط بالتَّوبة.
6 -
أنَّ من وجب عليه الحدُّ بالاعتراف يجاب إلى طلبه في إقامة الحدِّ.
7 -
أنَّ حدَّ الزَّاني المحصن الرَّجم، وقد دلَّ على ذلك أحاديث؛ منها حديث الغامديَّة رضي الله عنها، وهو مجمعٌ عليه بين المسلمين، لم يخالف في ذلك إلَّا الخوارج.
(1)
مسلمٌ (1695).
(2)
مسلمٌ (978).
(3)
رواه مسلمٌ (1696)، عن عمران بن حصينٍ رضي الله عنه.
8 -
الصَّلاة على الزَّاني المرجوم، ولا سيَّما إذا جاء نادمًا معترفًا؛ كهذه المرأة.
وفي حديث جابرٍ فوائد، منها:
9 -
استحباب ترك الصَّلاة من ذوي العلم والفضل على من قتل نفسه؛ زجرًا عمَّا ارتكب.
10 -
أنَّه لا ينهى عن الصَّلاة عليه من سائر النَّاس.
11 -
الزَّجر عن قتل الإنسان نفسه، وهو كبيرةٌ من كبائر الذُّنوب، ومن خواصِّه أنَّه تتعذَّر التَّوبة منه؛ إلَّا إذا كان موته بالسِّراية فقد تمكنه التَّوبة، كما لو جرح نفسه جرحًا يفضي إلى الموت.
12 -
أنَّ قتل الإنسان نفسه ليس بكفرٍ خلافًا للخوارج، بدليل أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عن الصَّلاة عليه.
* * * * *
(636)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه -فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ التِي كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ- قَالَ: فَسَأَلَ عَنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: مَاتَتْ، فَقَالَ:«أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟» فَكَأنَّهمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، فَقَالَ:«دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا» ، فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(637)
وَزَادَ مُسْلِمٌ: ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» .
* * *
هذا الحديث كثير الفوائد، فمنها:
1 -
فضل تنظيف المساجد، وهذا مِنْ رَفْعِها الَّذي أمر الله به {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36].
(1)
البخاريُّ (1337)، ومسلمٌ (956).
2 -
جواز أن يتولَّى ذلك امرأةٌ إذا أمنت الفتنة.
3 -
جواز دفن الميِّت ليلاً.
4 -
حرص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على الصَّلاة على من يموت من المسلمين، وإن كان ممَّن لا يهتمُّ بشأنه عند كثيرٍ من النَّاس.
5 -
جواز الصَّلاة على القبر، فقيل: مطلقًا، وقيل: إلى شهرٍ.
6 -
أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب؛ لقوله: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا» .
7 -
أنَّ النَّاس متفاوتون في المنزلة؛ فمنهم الرَّفيع والوضيع.
8 -
أنَّ الغالب على النَّاس عدم الاهتمام بشأن الضُّعفاء.
9 -
فضل صلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على الميِّت.
10 -
أنَّ القبور منها ما هو منوَّرٌ، ومنها ما هو مظلمٌ.
11 -
أنَّها تنوَّر بصلاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويرجى ذلك بصلاة المؤمنين ودعائهم، وتقدَّم دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة رضي الله عنه:«وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ»
(1)
.
12 -
جواز النَّعي، وهو: الإخبار بموت الميِّت؛ لقوله: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي؟» .
13 -
أنَّ من قدَّم خدمةً للمسلمين ينبغي أن يقابل بالاحترام والإكرام.
14 -
أنَّ الميِّت ينتفع بالصَّلاة عليه والدُّعاء له.
15 -
إثبات الأسباب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ» ، وأنَّ تحقيق أثرها إلى الله تعالى.
16 -
التَّذكير بأحوال أهل القبور والوعظ بذلك في المقبرة، لا بصفة الخطبة.
17 -
أنَّ من مات في البلد لا يصلَّى عليه صلاة الغائب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا» .
(1)
تقدَّم برقم (617).
(638)
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه؛ «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَى عَنِ النَّعْيِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
(1)
.
(639)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(2)
.
* * *
النَّعي هو: الإخبار بموت الميِّت، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه النَّهي عنه، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقوعه من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيدلُّ على الجواز، فبين الحديثين تعارضٌ في الظَّاهر، والجمع بينهما: أنَّ النَّعي المنهيَّ عنه؛ ما كان على طريقة أهل الجاهليَّة؛ بأن يرسلوا رسولاً ينادي في القبائل: مات فلان ابن فلانٍ، فخرًا وتعظيمًا لشأنه. وأمَّا الجائز؛ فهو مجرَّد الإخبار لمصلحة الميِّت؛ كالصَّلاة عليه، والدُّعاء له، أو غير ذلك ممَّا تدعو إليه الحاجة.
وفي الحديثين فوائد؛ منها:
1 -
تحريم النَّعي الَّذي كان يفعله أهل الجاهليَّة.
2 -
جواز نعي الميِّت لمصلحته وللحاجة، بل استحبابه.
3 -
فضل النَّجاشيِّ رحمه الله، وهو ملك الحبشة الَّذي آوى الصَّحابة رضي الله عنهم الَّذين هاجروا إليه، ثمَّ دعوه إلى الإسلام فأسلم، وأظهر تصديق المسلمين فيما وصفوا به المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، كما في سورة مريم، وقد تلاها عليه جعفر بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، ولكنَّه استسرَّ بإسلامه.
4 -
جواز الصَّلاة على الغائب، وقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب متباينةٍ؛ فقيل: يجوز على أيِّ غائبٍ، وقيل: لا يجوز على أيِّ غائبٍ،
(1)
أحمد (23455)، والترمذيّ (986).
(2)
البخاريُّ (1245)، ومسلمٌ (951).
وقيل: يجوز على خواصِّ المسلمين وأعيانهم، وقيل: يجوز على من علم أنَّه لم يصلَّ عليه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة
(1)
.
5 -
في الحديث علمٌ من أعلام نبوَّته صلى الله عليه وسلم، وهو إخباره بحدث موت النَّجاشيِّ وهو بالحبشة، فمثل هذا في مثل ذلك الزَّمان لا يعلم إلَّا بوحيٍ.
6 -
مشروعيَّة الصَّلاة على الميِّت.
7 -
أنَّ التَّكبيرات في صلاة الجنازة أربعٌ، وذهب جمهور أهل العلم أنَّه لا يزاد عليها، وأنَّه الَّذي استقرَّت عليه السُّنَّة، وقيل: تجوز الزِّيادة فتكون خمسًا أو ستًّا أو سبعًا.
8 -
مشروعيَّة الخروج إلى المصلَّى، وهو مصلَّى العيد، ويحتمل أن يراد به مصلَّى الجنائز، ولعلَّ خروجه صلى الله عليه وسلم إلى المصلَّى لكثرة المصلِّين.
* * * * *
(640)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مسْلم يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(641)
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا، فَقَامَ وَسَطَهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
(642)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «واللهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(4)
.
* * *
(1)
نقله عنه ابن القيم في «زاد المعاد» (1/ 520).
(2)
مسلمٌ (948).
(3)
البخاريُّ (1331)، ومسلمٌ (964).
(4)
مسلمٌ (973).
في الحديثين الأوَّلين فوائد، منها:
1 -
مشروعيَّة صلاة الجنازة، والمقصود منها: نفع الميِّت بالدُّعاء له.
2 -
التَّرغيب في كثرة المصلِّين.
3 -
فضل من قام على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا.
4 -
فضل التَّوحيد.
5 -
أنَّ غير المسلم لا تنفعه الصَّلاة عليه.
6 -
أنَّ تحقيق التَّوحيد سببٌ لقبول الشَّفاعة.
7 -
أنَّ قبول شفاعتهم مشروطٌ بذلك.
8 -
جواز الصَّلاة على النُّفساء.
9 -
أنَّ موقف الإمام في الصَّلاة على المرأة حذاء وسطها، وقوله:«وسطها» بفتح السِّين، وحكي فيه الإسكان.
10 -
تقدُّم الإمام على المأمومين في الجنازة كغيرها من الصَّلوات.
11 -
أنَّ من ورد تسميته شهيدًا فإنَّه يصلَّى عليه، غير شهيد المعركة، ومن أولئك: المرأة تموت في نفاسها.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها فوائد، منها:
12 -
جواز صلاة الجنازة في المسجد.
13 -
أنَّ الغالب في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاة على الجنازة في غير المسجد، بل في مصلَّى الجنائز خلاف ما جرى عليه النَّاس اليوم، ولهذا أشكل على بعض النَّاس؛ فحلفت عائشة رضي الله عنها على خبر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صلَّى على ابني بيضاء في المسجد.
14 -
جواز الحلف لتأكيد الخبر، ولو لم يستحلف، ولو لم يتَّهم. وابنا بيضاء هما: سهلٌ وسهيلٌ ابنا وهب بن ربيعة القرشيِّ، والبيضاء أمُّهما واسمها دعدٌ.
15 -
جواز تعريف الرَّجل بأمِّه.
(643)
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَأنَّه كَبَّرَ عَلَى جَنَازَةٍ خَمْسًا، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالأَرْبَعَةُ
(1)
.
(644)
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أنَّهُ كَبَّرَ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ سِتًّا، وَقَالَ:«إِنَّهُ بَدْرِيٌّ» . رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ
(2)
. وَأَصْلُهُ فِي البُخَارِيِّ
(3)
.
(645)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكَبِّرُ عَلَى جَنَائِزِنَا أَرْبَعًا، وَيَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي التَّكْبِيرَةِ الأُولَى» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ
(4)
.
(646)
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى جَنَازَةٍ، فَقَرَأَ فَاتِحَةَ الكِتَابِ، فَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(5)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الصَّلاة على الميِّت.
2 -
أنَّ الأصل التَّكبير في صلاة الجنازة أربع تكبيراتٍ.
3 -
جواز الزِّيادة على الأربع خمسًا أو ستًّا.
4 -
أنَّ الغالب من فعله صلى الله عليه وسلم هو الاقتصار على الأربع تكبيراتٍ، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، وذهب بعضهم إلى جواز الزِّيادة لحديث زيدٍ وعليٍّ رضي الله عنهم.
(1)
مسلمٌ (957)، وأبو داود (3197)، والترمذيُّ (1023)، والنسائيُّ (1981)، وابن ماجه (1505).
(2)
رواه غير سعيد بن منصور جماعة، وصحَّحه ابن حزم في المحلى (5/ 126).
(3)
البخاريُّ (4004)، بلفظ أن عليًّا كبَّر على سهل بن حنيف، فقال:«إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا» .
(4)
الشافعيُّ في «المسند» (578).
(5)
البخاريُّ (1335).
5 -
أنَّ من السُّنَّة قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة بعد التَّكبيرة الأولى، وهي ركنٌ؛ لعموم قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
(1)
.
6 -
التَّعليم بالفعل، والجهر بالذِّكر للتَّعليم.
7 -
منزلة أهل بدرٍ عند الصَّحابة رضي الله عنهم.
* * * * *
(647)
وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ، فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(2)
.
(648)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا، وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا، وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا، وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، ولا تُضِلَّنَا بَعْدَه» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالأَرْبَعَةُ
(3)
.
(649)
وَعنْهُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(4)
.
* * *
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة الصَّلاة على الميِّت، وهذا معلومٌ من دين الإسلام بالضَّرورة.
(1)
تقدَّم برقم (311).
(2)
مسلمٌ (963).
(3)
أبو داود (3201)، والترمذيُّ (1024)، والنسائيُّ في «الكبرى» (10853)، وابن ماجه (1498). والحديث ليس في مسلم.
(4)
أبو داود (3199)، وابن حبان (3076).
2 -
مشروعيَّة الدُّعاء للميِّت في صلاة الجنازة، وهو الغاية منها.
3 -
مشروعيَّة الدُّعاء في صلاة الجنازة بما ورد، وقد اشتمل حديث عوفٍ رضي الله عنه على الدُّعاء للميِّت بكلِّ خيرٍ، والوقاية من كلِّ شرٍّ، فتضمَّن الخير: الدُّعاء له بالرَّحمة وإكرام نزله، وتوسيع مدخله، وإبداله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وإدخاله الجنَّة، وتضمَّنت الوقاية من كلِّ شرٍّ: الدُّعاء له بالمغفرة والعفو والعافية، وما في قوله:«وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ» ، وما في قوله:«وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ» . وهذه معانٍ متلازمةٌ، ويتضمَّن بعضها بعضًا.
وفي تنويع هذه الدَّعوات: معنى الإلحاح في الدُّعاء وكثرة التَّضرُّع إلى الله، واقتران المغفرة والرَّحمة في أوَّل الدُّعاء يشبه اقتران دخول الجنَّة والوقاية من فتنة القبر وعذاب النَّار في آخره.
وحقيقة المغفرة: ستر الذُّنوب وترك العقاب عليها، والرَّحمة إذا اقترنت بالمغفرة تضمَّنت حصول المحبوب؛ وهو الثَّواب، وأعظمه الجنَّة، وإذا أفردت تضمَّنت حصول المطلوب والنَّجاة من المرهوب الَّذي أعظمه النَّار.
والفرق بين العفو والعافية؛ أنَّ العافية تتضمَّن السَّلامة من الشَّرِّ الحاصل وما قد يحصل، والعفو ترك المؤاخذة على ما حصل من الذُّنوب، والعافية عند اقترانها بالعفو تكون أخصَّ بما لم يقع من المكروه.
والنُّزل: هو الضِّيافة، وإكرام النُّزل؛ أن تكون الضِّيافة كريمةً حسنةً، وأعظم ذلك الجنَّة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107)} [الكهف: 107].
وقوله: «وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ» المراد: قبره، كما قال صلى الله عليه وسلم في أبي سلمة:«وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ»
(1)
.
(1)
تقدَّم برقم (617).
وقوله: «وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» المراد: تطهيره من الذُّنوب تطهيرًا يزيل عينها وأثرها، وهذا يتضمَّن مغفرتها، والعفو عنها، ولمَّا كانت الذُّنوب نجسًا وتورث حرًّا كنَّى عن ذلك بالغسل بالماء والثَّلج والبرد.
وقوله: «وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ» معناه قريبٌ من الَّذي قبله، إلَّا أنَّ الغسل أخصُّ بما في الذُّنوب من النَّجس، والتَّنقية من الدَّنس أخصُّ بما في الذُّنوب من تغيير الحسن وتقبيح المنظر، وذلك يتضمَّن إزالة ما حصل والصِّيانة ممَّا لم يحصل، والَّذي يظهر: أنَّ التَّنقية من الدَّنس أبلغ من الغسل؛ لأنَّه يتضمَّن إزالة كلِّ أثرٍ يكدِّر صفو البياض.
وقوله: «كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ» لعلَّ معناه والله أعلم: كما خلقت الأبيض من الثِّياب نقيًّا صافيًا.
وقوله: «وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ» وهي الجنَّة، «وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ» الأهل ما يكون في الجنَّة من زوجاتٍ وخدمٍ، وما جاء في رواية:«وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ»
(1)
من قبيل عطف الخاصِّ على العامِّ، وقد يراد بذلك دخوله في الجنَّة في الآخرة الدُّخول التَّامَّ، «وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ» قد يراد به الدُّخول النِّسبيُّ الَّذي يكون في البرزخ. والله أعلم.
وقوله: «وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ» هو معنى: «أَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ» .
وقوله: «وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» المراد بفتنة القبر؛ سؤال الملكين للميِّت عن ربِّه ودينه ونبيِّه. والوقاية منها؛ يعني: من شرِّها، وذلك بتثبيت العبد حتَّى يجيب بالصَّواب، ويوقى العذاب.
وفي هذا الدعاء فوائد، منها:
4 -
إثبات الجنَّة والنَّار.
(1)
هي إحدى روايات الحديث السابق.
5 -
إثبات فتنة القبر وتوسيع القبر على بعض النَّاس.
6 -
الجمع في الدُّعاء بين الوقاية من النَّار والفوز بالجنَّة.
7 -
الدُّعاء لعموم المسلمين في صلاة الجنازة، والتَّفصيل في ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
8 -
أنَّ المعوَّل في الحياة على الإسلام؛ وهو الأعمال الظَّاهرة، وفي الآخرة على الإيمان؛ وهو ما في القلب، ولهذا جاء هذا التَّفريق، وإن كان لا إسلام إلَّا بإيمانٍ، ولا إيمان إلَّا بإسلامٍ.
9 -
جواز أن يدعو المصلِّي على الجنازة لنفسه بما ورد، لقوله:«اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، ولا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ» ، والمراد ب «أجره» أجر الصَّلاة عليه، ومعنى:«وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُ» ؛ أي: ثبِّتنا على الهدى حتَّى نموت على الإسلام كما مات هذا العبد.
10 -
تخصيص الميِّت بالدُّعاء، وهو معنى إخلاص الدُّعاء له.
* * * * *
(650)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَسْرِعُوا بِالْجَنَازَةِ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تقدِّمُونَهَا إِلَيْهِ، وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(1)
.
(651)
وَعنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ» ، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(652)
وَلِمُسْلِمٍ: «حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ»
(2)
.
(1)
البخاريُّ (1315)، ومسلمٌ (944).
(2)
البخاريُّ (1325)، ومسلمٌ (945).
(653)
(1)
.
(654)
وَعَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه؛ «أنَّه رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ أَمَامَ الْجَنَازَةِ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ وَطَائِفَةٌ بِالإِرْسَالِ
(2)
.
(655)
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
* * *
هذه الأحاديث اشتملت على حكم اتِّباع الجنازة، وفضله، وصفة السَّير بها.
وفيها فوائد، منها:
1 -
مشروعيَّة الإسراع بالجنازة سرعةً لا تشقُّ على من يحملها ولا من يتبعها، ولا تضرُّ بالميِّت.
2 -
الإسراع في تجهيزه.
3 -
الحكمة من الإسراع بالجنازة.
4 -
أنَّ الجنازة إن كانت صالحةً فالإسراع لمصلحة الميِّت، وإن كانت غير صالحةٍ فمصلحة الإسراع لمن يحمل الميِّت.
5 -
من أدب الكلام الإبهام بذكر الأمر المكروه، لقوله:«وَإِنْ تَكُ سِوَى ذَلكَ» .
(1)
البخاريُّ (47).
(2)
أحمد (6042)، وأبو داود (3179)، والترمذيُّ (1007)، والنسائيُّ (1943)، وابن ماجه (1482)، وابن حبان (3045).
(3)
البخاريُّ (1287)، ومسلمٌ (938).
6 -
أنَّ الفاجر شرٌّ على أهله أو من يجالسه ويقاربه، وهذا الحديث شبيهٌ بقوله صلى الله عليه وسلم: «مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ
…
» الحديث
(1)
.
7 -
أنَّ المسلمين فيهم الصَّالح ودونه.
8 -
فضل اتِّباع الجنازة حتَّى يصلَّى عليها.
9 -
أنَّ من تبعها حتَّى تدفن أفضل ممَّن اتَّبعها حتَّى يصلَّى عليها؛ فأجر الأوَّل قيراطان، وأجر الثَّاني قيراطٌ.
10 -
اعتبار الإيمان بشرع الله وموعوده ورجائه في حصول الأجر.
11 -
أنَّ الفضل والأجر في اتِّباع جنازة المسلم.
12 -
أنَّ الأجر لا يتمُّ إلَّا بالبقاء مع الجنازة حتَّى تدفن.
13 -
أنَّ من يتبع الجنازة مشيًا يكون أمامها، كما في حديث سالمٍ عن أبيه رضي الله عنه، وقد قيل: إنَّه مرسلٌ
(2)
، ولكن روى الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «الرَّاكِبُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا»
(3)
، وهو أرجح من حديث سالم بن عبد الله رضي الله عنهم، من وجهين:
الأول: أنَّ الأوَّل مختلفٌ في وصله وإرساله، وحديث المغيرة رضي الله عنه لم يختلف فيه.
الثاني: أنَّ الأوَّل فعلٌ، والثَّاني قولٌ.
وعلى هذا فالرَّاجح أنَّ الماشي ينظر ما هو الأصلح والأرفق به وبمن معه.
(1)
رواه البخاريُّ (6512)، ومسلمٌ (950)، عن أبي قتادة بن ربعيٍّ رضي الله عنه.
(2)
ينظر: «العلل» للدارقطنيِّ (12/ 280).
(3)
رواه أحمد (18162)، وأبو داود (3180)، والترمذيُّ (1031)، وابن ماجه (1481)، والنسائيُّ (1941). قال الحاكم:«هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط البخاريِّ» . وأقرَّه عليه الشيخ تقي الدين القشيريُّ في آخر كتابه (الاقتراح). ينظر: «البدر المنير» (5/ 235).
14 -
نهي النِّساء عن اتِّباع الجنائز، والأظهر؛ أنَّه للتَّحريم، وقول أمِّ عطيَّة رضي الله عنها:«وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» راجعٌ إلى فهمها، ويعارض ذلك أحاديث، منها:«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّارات القبور»
(1)
.
15 -
أنَّ اتِّباع جنازة المسلم من حقِّ المسلم على المسلم، كما صحَّ بذلك الخبر عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
16 -
الفرق بين الرِّجال والنِّساء في بعض الأحكام.
* * * * *
(656)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا، فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى تُوضَعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(3)
.
* * *
هذا الحديث في حكم القيام لمرور الجنازة.
وفيه فوائد، منها:
1 -
مشروعيَّة القيام عند رؤية الجنازة، والمراد: الوقوف، فقيل: إنَّ هذا واجبٌ للأمر به، وقيل: إنَّ الوجوب منسوخٌ، لما صحَّ عن عليٍّ رضي الله عنه:«أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ثمَّ قعد»
(4)
. فقيل: معناه كان يقوم ثمَّ تركه، وقيل: معناه أنَّه كان تارةً يقوم، وتارةً يقعد، فيدلُّ على التَّوسعة.
2 -
مشروعيَّة القيام لأيِّ جنازةٍ حتَّى جنازة الكافر، ويؤيِّده أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قام لجنازة يهوديٍّ مرَّت به
(5)
.
(1)
رواه أحمد (8670)، والترمذيُّ (1056)، وابن ماجه (1576). قال الترمذيُّ:«حسنٌ صحيحٌ» .
(2)
وهو ما رواه البخاريُّ (1140)، ومسلمٌ (2162)، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ؛
…
وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ».
(3)
البخاريُّ (1310)، ومسلمٌ (959).
(4)
رواه مسلمٌ (962).
(5)
البخاريُّ (1311)، ومسلمٌ (960)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
3 -
الحكمة من هذا القيام؛ وهي: تعظيم أمر الموت، فيقوم من رأى الجنازة متذكِّرًا متفكِّرًا.
4 -
أنَّه لا يجب على من رأى الجنازة أن يتبعها، فإذا قام وتوارت عنه الجنازة جلس.
5 -
أنَّ من تبع الجنازة فلا يجلس حتَّى توضع، والمراد: حتَّى توضع في الأرض؛ لأنَّه قد يطول الانتظار حتَّى توضع في اللَّحد، وقد ثبت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا أتى إلى ميِّتٍ ولمَّا يلحد له قعد صلى الله عليه وسلم وقعد الصَّحابة رضي الله عنهم حوله
(1)
. والله أعلم.
* * * * *
(657)
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ يَزِيدَ رضي الله عنه أَدْخَلَ الْمَيِّتَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ الْقَبْرِ، وَقَالَ:«هَذَا مِنَ السُّنَّةِ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ
(2)
.
(658)
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقُبُورِ، فَقُولُوا: بِاسْمِ اللهِ، وعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالوَقْفِ
(3)
.
(659)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ
(4)
.
(660)
وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: «فِي الإِثْمِ»
(5)
.
(1)
رواه أبو داود (3212)، والنسائيُّ (2000)، والحاكم وصحَّحه (107)، عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه. ينظر:«التلخيص الحبير» (2/ 228).
(2)
أبو داود (3211).
(3)
أحمد (4990)، وأبو داود (3213)، والنسائيُّ (10860)، وابن حبان (3109). «العلل» للدارقطنيِّ (12/ 358).
(4)
أبو داود (3207).
(5)
ابن ماجه (1617).
(661)
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: «الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا؛ كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(1)
.
(662)
وَلِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه نَحْوُهُ، وَزَادَ:«وَرُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ» . وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(2)
.
(663)
وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ»
(3)
.
(664)
وَعَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه؛ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَأَتَى الْقَبْرَ، فَحَثَى عَلَيْهِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ، وَهُوَ قَائِمٌ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
(4)
.
(665)
وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ؛ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ» . رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ
(5)
.
(666)
وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ أَحَدِ التَّابِعِينَ قَالَ: «كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ إِذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْرُهُ، وَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ، أَنْ يُقَالَ عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلَانُ! قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَا فُلَانُ! قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَدِينِيَ الإِسْلامُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مَوْقُوفًا
(6)
.
(667)
وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا مُطَوَّلاً
(7)
.
* * *
هذه الأحاديث اشتملت على بيان السُّنن القوليَّة والفعليَّة في دفن الميِّت.
(1)
مسلمٌ (966).
(2)
البيهقيُّ في «الكبرى» (6736)، وابن حبان (6635).
(3)
مسلمٌ (970).
(4)
الدارقطنيُّ (1836). إسناده ضعيفٌ.
(5)
أبو داود (3221)، والحاكم (1373).
(6)
لم نقف عليه في المطبوع من «سنن سعيد بن منصورٍ» وهو كلام تابعيٍّ لا يحتجُّ به.
(7)
الطبرانيُّ في «الكبير» (7979).
وفيها فوائد، منها:
1 -
إنزال الميِّت في القبر من قبل رجلي القبر، والمراد برجلي القبر: النَّاحية الَّتي يكون فيها رجلا الميِّت، ومعنى ذلك؛ أنَّه يبدأ إدخال الميِّت برأسه، فنزول الميِّت في قبره يشبه نزوله من رحم أمِّه.
2 -
استحباب أن يقال: «بِاسْمِ اللهِ، وعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ» عند وضع الميِّت في قبره، ومعنى ذلك؛ أنَّ وضعه في قبره بإعانةٍ من الله مع ذكر اسمه سبحانه، وعلى شريعة نبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ أي: على سنَّته في دفن الميِّت.
3 -
تحريم كسر عظم الميِّت، وأنَّه ككسر عظم الحيِّ في الإثم لا في الضَّمان، والَّذي يحرم كسر عظمه حيًّا هو المسلم، كما جاء عند الإمام أحمد بلفظ:«إنَّ كَسْرَ عَظْمِ الْمُؤْمِنِ .. »
(1)
.
4 -
الرفق بالمسلم عند تغسيله محافظة على أعضائه.
5 -
تحريم نبش قبور المسلمين من غير ضرورةٍ قبل أن تبلى العظام.
6 -
صفة قبر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنَّه كان لحدًا، واللَّحد هو: الحفر في جانب القبر، ممَّا يلي القبلة يوضع فيه الميِّت، وأصل اللَّحد في اللُّغة: الميل، ولذلك سمِّيت الحفرة الَّتي يوضع فيها الميِّت لحدًا، لكونها مائلةً عن سمت القبر.
7 -
أنَّ اللَّحد أفضل من الشَّقِّ؛ لأنَّه الَّذي فعل بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا»
(2)
، والمراد بالشَّقِّ: حفرةٌ تكون في وسط القبر يوضع فيها الميِّت، وهو جائزٌ، ولكنَّ اللَّحد أفضل. ومن الفرق بين الشَّقِّ واللَّحد؛ أنَّ اللَّبن الَّتي يصان بها بدن الميِّت من انهيال التُّراب عليه أنَّها تكون منصوبةً في
(1)
أحمد (24308).
(2)
رواه أبو داود (3208)، والترمذيُّ (1045)، والنسائيُّ (2008)، وابن ماجه (1554)، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهم وحسنه الألباني في «تخريج المشكاة» (1701).
اللَّحد، ومعترضةً في الشَّقِّ، ولذا قال سعدٌ رضي الله عنه:«وانصبوا عليَّ اللَّبن نصبًا» ومعنى ذلك: أنَّ أطراف اللَّبن تكون إلى فوق.
8 -
استحباب وصيَّة المريض إلى أهله بما ينبغي أن يفعل به بعد موته في غسله وتكفينه والصَّلاة عليه ودفنه وتحرِّي السُّنَّة في ذلك.
9 -
استحباب رفع القبر قدر شبرٍ، ولا يزاد على ذلك.
10 -
النَّهي عن تجصيص القبر، وعن القعود عليه، وعن البناء عليه، والأصل في النَّهي التَّحريم، وأطلق كثيرٌ من أهل العلم الكراهة.
وتجصيص القبر يحتمل أن يراد به تجصيص اللَّحد، ويحتمل أن يراد به تجصيص سطح القبر، والكلُّ داخلٌ في النَّهي، إلَّا أن يكون موضع اللَّحد لا يتماسك فيه التُّراب إلَّا بتجصيصٍ، فهذا جائزٌ للحاجة، وفي القعود على القبر امتهانٌ للميِّت، وفي البناء على القبر تعظيمٌ وغلوٌّ.
11 -
استحباب المشاركة في دفن الميِّت بثلاث حثياتٍ؛ لفعله صلى الله عليه وسلم في قبر عثمان بن مظعونٍ رضي الله عنه، ولكنَّ الحديث مضعَّفٌ
(1)
، لكن له شاهدٌ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن ماجه
(2)
.
واستحباب هذه السُّنَّة هو الَّذي عليه أكثر أهل العلم. وذلك إذا تيسَّر من غير مشقَّةٍ.
12 -
إثبات الأخوَّة في الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُم» .
13 -
استحباب الوقوف على القبر بعد الفراغ من دفن الميِّت؛ للدُّعاء له بالمغفرة والتَّثبيت، وليس لأحدٍ أن يقول:«فَإنَّه الآنَ يُسْأَلُ» فإنَّه لا يمكن
(1)
لأنه من طريق القاسم العمري وعاصم بن عبيد الله، فالأول: كذَّبه أحمد وقال عنه أبو زرعة وأبو حاتمٍ والنسائيُّ: «متروكٌ» ، والثاني: قال البخاريُّ وأبو حاتمٍ عنه: «منكر الحديث» .
(2)
وهو قوله رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى على جنازةٍ ثمَّ أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثًا» . ابن ماجه (1565). حسَّنه ابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 37)، وصحَّحه النوويُّ في «خلاصة الأحكام» (2/ 1019).
لأحدٍ أن يجزم بذلك لمعيَّنٍ، بخلاف الرَّسول صلى الله عليه وسلم فإنَّ الله يطلعه على ما شاء من الغيب.
14 -
جواز سؤال الدُّعاء للغير.
15 -
إثبات فتنة القبر، وأدلَّتها من السُّنَّة متواترةٌ، وفي القرآن إشارةٌ إليها في قوله تعالى:{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
16 -
تلقين الميِّت بعد الفراغ من دفنه وتفرُّق النَّاس عنه، بأن يقال: «يا فلان! قل: لا إله إلَّا اللَّه
…
» إلخ، كما جاء في الأثر المذكور.
ومراد ضمرة بن حبيبٍ بقوله: «كانوا» ؛ يعني: التَّابعين، ويحتمل أنَّه يريد الصَّحابة رضي الله عنهم، والتَّلقين بهذه الصُّورة لم يثبت مرفوعًا إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن معيَّنٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم، ولو كان ذلك من سنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لاشتهر؛ لأنَّه من الأمور الظَّاهرة المتكرِّرة، وتقدَّم الكلام على حديث «لقِّنوا موتاكم: لا إله إلَّا الله»
(1)
وأنَّ المراد به المحتضر، وهو تلقينه في الحياة، وأمَّا التَّلقين بعد دفن الميِّت فالأظهر أنَّه بدعةٌ، ومن فعله من التَّابعين لم يذكر له مستندٌ، فهو محض اجتهادٍ واستحسانٍ، وهو يشبه ما أوصى به عمرو بن العاص رضي الله عنه أن يفعل عند قبره من المكث قدر ما تنحر جزورٌ ويقسَّم لحمها ليستأنس بهم، وينظر ماذا يراجع به رسل ربِّه
(2)
. وهذا اجتهادٌ لا يتابع عليه رضي الله عنه.
* * * * *
(668)
وَعَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(3)
.
(669)
زَادَ التِّرْمِذِيُّ: «فَإِنَّها تُذَكِّرُ الآخِرَةَ»
(4)
.
(1)
تقدَّم برقم (615).
(2)
رواه مسلمٌ (121).
(3)
مسلمٌ (977).
(4)
الترمذيُّ (1054).
(670)
زَادَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَتُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا»
(1)
.
(671)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
(2)
.
* * *
هذه الأحاديث في حكم زيارة القبور، والمراد بزيارة القبور: الذَّهاب إليها والوقوف عليها، وهي نوعان: زيارةٌ شرعيَّةٌ، وزيارةٌ بدعيَّةٌ، فالزِّيارة الشَّرعيَّة: هي الَّتي يقصد منها السَّلام على الأموات والدُّعاء لهم والاعتبار. والبدعيَّة: هي الَّتي يقصد منها تحرِّي الصَّلاة والدُّعاء عندها أو دعاء أهلها أو الطَّواف بها.
وفي الأحاديث فوائد؛ منها:
1 -
مشروعيَّة زيارة القبور، وهي مستحبَّةٌ للرِّجال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«فَزُورُوهَا» .
2 -
أنَّه قد نهي عن زيارة القبور في أوَّل الأمر؛ سدًّا لذريعة الغلوِّ في القبور.
3 -
جواز النَّسخ في الشَّريعة.
4 -
النَّصُّ على المنسوخ في الدَّليل النَّاسخ.
5 -
الحكمة من زيارة القبور؛ وهو: تذكُّر الآخرة والزُّهد في الدُّنيا، والزُّهد في الدُّنيا يكون بالإعراض عن حظوظها إلَّا ما لا بدَّ منه، أو يعين على عمل الآخرة.
6 -
تحريم زيارة النِّساء للقبور، وأنَّه من الكبائر.
7 -
تخصيص عموم حديث الإذن بزيارة القبور، فلا تدخل النِّساء في قوله صلى الله عليه وسلم:«فَزُورُوهَا» .
(1)
ابن ماجه (1571).
(2)
الترمذيُّ (1056)، وابن حبان (3178).
واختلف العلماء في زيارة النِّساء للقبور، فقيل: إنَّها حرامٌ؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل: جائزةٌ، ولم يقل أحدٌ باستحباب زيارة النِّساء للقبور، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميَّة
(1)
، وجعل ذلك دليلاً على عدم دخولهنَّ في قوله صلى الله عليه وسلم:«فَزُورُوهَا» .
واستدلَّ المجوِّزون بعموم حديث بريدة رضي الله عنه، وتقدَّم الجواب عنه، وبحديث عائشة رضي الله عنها عند مسلمٍ: قالت: قلت: كيف أقول لهم -أي: أهل القبور- يا رسول الله؟ قال: «قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ»
(2)
الحديث، وأحسن ما أجيب عنه بحمله على حال المرور بالقبور دون قصد الزِّيارة.
* * * * *
(672)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ» . أَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ
(3)
.
(673)
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لا نَنُوحَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(4)
.
(674)
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
(5)
.
(675)
وَلَهُمَا: نَحْوُهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه
(6)
.
(676)
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «شَهِدتُّ بِنْتًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تُدْفَنُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عنْدَ الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(7)
.
(1)
«الفتاوى الكبرى» (3/ 50).
(2)
مسلمٌ (974).
(3)
أبو داود (3128).
(4)
البخاريُّ (1306)، ومسلمٌ (936).
(5)
البخاريُّ (1292)، ومسلمٌ (927).
(6)
البخاريُّ (1291)، مسلمٌ (933).
(7)
البخاريُّ (1285).
هذه الأحاديث اشتملت على ما يجوز وما لا يجوز من البكاء على الميِّت.
وفيها فوائد، منها:
1 -
تحريم النِّياحة، وأنَّها من كبائر الذُّنوب؛ لما ذكر من لعن النَّائحة، والنِّياحة: رفع الصَّوت بالبكاء. والنَّدب: دعاء النَّائحة الميِّت وتعداد محاسنه.
2 -
أنَّ المستمعة للنِّياحة في حكم النَّائحة، وشريكتها في اللَّعن.
3 -
أنَّ حضور المنكر من غير إنكارٍ مع القدرة يقتضي الرِّضا به.
4 -
أنَّ أكثر ما تكون النِّياحة من النِّساء.
5 -
أخذ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم العهد من النِّساء بترك النِّياحة.
6 -
تعظيم أمر النِّياحة بتغليظ الزَّجر عنها.
7 -
جواز البكاء على الميِّت من غير نياحةٍ ولا ندبٍ.
8 -
أنَّ الإنسان لا يعذَّب بحزن القلب ولا دمع العين، وأنَّ الميِّت لا يعذَّب بذلك.
9 -
ما كان عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من الرَّحمة، وابنته رضي الله عنها الميِّتة يحتمل أن تكون زينب زوجة العاص بن الرَّبيع أو إحدى زوجتي عثمان رضي الله عنه؛ رقيَّة وأمِّ كلثومٍ رضي الله عنهم. والله أعلم.
وأمَّا حديث عمر رضي الله عنه: «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» وفي لفظٍ: «بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»
(1)
. فقد تقدَّم حكم النِّياحة وحكم البكاء الجائز، والبكاء المحرَّم هو المذكور في هذا الحديث، وهو النِّياحة. وأمَّا البكاء الجائز فلا يقتضي إثمًا ولا عذابًا على الباكي فضلاً عن الميِّت. وأمَّا النِّياحة فهي من كبائر الذُّنوب، وإثمها على النَّائحة ولا إثم على الميِّت؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ولهذا ردَّت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها على ابن عمر رضي الله عنهم هذا الحديث؛ محتجَّةً بهذه الآية، وقال أئمَّة العلم: الصَّواب مع ابن عمر رضي الله عنهم، وأثبتوا ما روى، وفسَّروه بوجوهٍ:
(1)
هو في مسلمٍ (927).
1 -
أنَّ الَّذي يعذَّب هو من أوصى أهله بالنِّياحة عليه.
2 -
أنَّه من كان يعلم من عادة أهله ذلك، ولم يكن ينكر عليهم.
3 -
أنَّه ليس المراد عذاب العقوبة، وإنَّما المراد تألُّمه بنياحة أهله لعلمه بتحريم ذلك، وأنَّه يضرُّهم، وهذا يقتضي أنَّ الله يطلعه على فعل أهله. واختار هذا الوجه شيخ الإسلام ابن تيميَّة وابن القيِّم رحمهما الله. والوجه الأوَّل والثَّاني أظهر؛ لأنَّ القول باطِّلاع الميِّت يحتاج إلى دليلٍ.
4 -
إثبات الأسباب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» .
* * * * *
(677)
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَدْفِنُوا مَوْتَاكُمْ بِاللَّيْلِ إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه.
(678)
وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ، لَكِنْ قَالَ:«زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ، حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ»
(1)
.
(679)
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهم قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ -حِينَ قُتِلَ- قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اصْنَعُوا لآِلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» . أَخْرَجَهُ الخَمْسَةُ، إِلَّا النَّسَائِيَّ
(2)
.
(680)
وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى المَقَابِرِ: «السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ
(3)
.
(1)
ابن ماجه (1521). وأصله في مسلم (943).
(2)
أحمد (1751)، وأبو داود (3132)، والترمذيُّ (998)، وابن ماجه (1610).
(3)
مسلمٌ (975).
(681)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فقالَ:«السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالأَثَرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ
(1)
.
(682)
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ
(2)
.
(683)
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ المُغِيرَةِ رضي الله عنه نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ:«فَتُؤْذُوا الأَحْيَاءَ»
(3)
.
* * *
هذه الأحاديث مختلفة الموضوعات.
وسنذكر فوائدها مرتبةً:
1 -
النَّهي عن دفن الميِّت في اللَّيل، وقد ذهب بعض أهل العلم -منهم ابن حزمٍ-
(4)
إلى معنى هذا الحديث.
وذهب الجمهور إلى جواز الدَّفن ليلاً، وأجابوا عن هذا الحديث بأنَّ المراد النَّهي عن الاستعجال في دفن الميِّت، فربَّما دفن قبل أن يصلَّى عليه، وقد جاء مصرَّحًا بهذا القيد في بعض الرِّوايات.
وممَّا يدلُّ على جواز الدَّفن ليلاً ما رواه البخاريُّ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرٍ قد دفن ليلاً، فقال:«مَتَى دُفِنَ هَذَا؟» قالوا: البارحة. قال صلى الله عليه وسلم: «أَفَلَا آذَنْتُمُونِي؟» قالوا: دفنَّاه في ظلمة اللَّيل فكرهنا أن نوقظك
(5)
.
2 -
جواز تأخير دفن الميِّت إلى النَّهار، وأنَّ ذلك لا ينافي الأمر بالإسراع.
(1)
الترمذيُّ (1053).
(2)
البخاريُّ (1393).
(3)
الترمذيُّ (1982).
(4)
«المحلى» (5/ 114).
(5)
البخاريُّ (1321).
3 -
استحباب صنع الطَّعام لأهل الميِّت في يوم المصيبة؛ إعانةً لهم على ما يحتاجون إليه من الطَّعام، ويشقُّ عليهم مباشرة صنعه. ولكن ينبغي أن يقتصر في ذلك على قدر ما يكفي أهل الميِّت، ولا ينبغي لمن حضر للتَّعزية والمواساة التَّثقيل على أهل الميِّت بتطويل الإقامة عندهم، فإنَّ ذلك يؤذيهم، وأمَّا صنع الطَّعام الكثير سواءٌ أكان من أهل البيت أو غيرهم من أجل من حضر للتَّعزية فقد جاء النَّهي عنه؛ كما جاء في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال:«كنَّا نعدُّ الاجتماع إلى أهل الميِّت وصنيعة الطَّعام بعد دفنه من النِّياحة»
(1)
.
والمراد بجعفرٍ: جعفر بن أبي طالبٍ الَّذي قتل في غزوة مؤتة.
4 -
أنَّ الحزن الشَّديد يشغل الإنسان عن أهمِّ حوائجه.
5 -
مشروعيَّة زيارة القبور.
6 -
أنَّ الغاية من الزِّيارة هي الدُّعاء.
7 -
استحباب الدُّعاء المذكور في حديثي بريدة وابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم.
وقد اشتمل هذا الدُّعاء على السَّلام على الأموات بصيغة الخطاب.
8 -
استحباب دعاء الزَّائر لنفسه ضمن دعائه للأموات، والمراد بالدِّيار: القبور، كما جاء في اللَّفظ الآخر.
9 -
الفرق بين الإسلام والإيمان.
10 -
التَّعميم في الدُّعاء؛ لقوله: «أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ» .
11 -
الفرق بين المغفرة والعافية، ففي العافية النَّجاة، وفي المغفرة ستر الذَّنب، وترك المؤاخذة عليه. وذلك يستلزم الفوز بثواب الله، وهو الجنَّة.
12 -
جواز تعليق الأمر المحقَّق على المشيئة؛ للدَّلالة على أنَّه لا يكون إلَّا بمشيئة الله.
(1)
رواه أحمد (6905)، وابن ماجه (1612). وصحَّح إسناده النوويُّ في «المجموع» (5/ 290).
13 -
بداءة الدَّاعي بنفسه؛ لقوله: «أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيةَ» ، وهذا مطَّردٌ فيما إذا دعا الإنسان لنفسه ولوالديه.
14 -
أنَّ كلَّ النَّاس سيموتون؛ لقوله: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ» ، وقوله:«أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالأَثَرِ» .
15 -
النَّهي عن سبِّ الأموات باللَّعن أو التَّقبيح، وإن كانوا يستحقُّون ذلك لكفرهم.
16 -
تعليل النَّهي عن سبِّهم؛ لأنَّهم قد أفضوا إلى ما قدَّموا؛ أي: صاروا وانتهوا إلى ما قدَّموا من العمل، فلا معنى للسَّبِّ إذًا، ولأنَّ ذلك يؤذي الأحياء.
17 -
النَّهي عن إيذاء المسلم بسبِّ أحدٍ من أقربائه الَّذين ماتوا.
* * * * *