المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الزَّكَاةِ - الجامع لفوائد بلوغ المرام - جـ ٢

[عبد الرحمن بن ناصر البراك]

فهرس الكتاب

‌كِتَابُ الزَّكَاةِ

ص: 5

الزكاة في اللغة: النماء والزيادة والصلاح، والزكاة في الشرع تطلق على معنيين: عام وخاص، فالعام: تزكية النفس بالتوحيد والإيمان والعمل الصالح، وقد فُسِّر بذلك قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُون (4)} [المؤمنون: 4]، وقوله:{وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِين (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7]، وفُسِّرتا كذلك بالمعنى الخاص، وهو زكاة المال، وهو حق فرضه الله على عباده في أموالهم، يُصرف في أصناف معينة، والزكاة بهذا المعنى الخاص أحدُ أركان الإسلام، وجاء ذكرها مقرونًا بالصلاة في الكتاب والسنة.

ودلَّ على فرضيتها الكتاب والسنة والإجماع، فمن جحد وجوبها كفر، ومن امتنع من أدائها أُخذت منه وعُزِّر، وهي وُصلة بين الأغنياء والفقراء، وسمِّي هذا الحق زكاة؛ لأنَّ أداءه يزكِّي نفس المتصدق ويطهرها، ويزكِّي المال بنمائه وحفظه ووقوع البركة فيه.

* * * * *

(684)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا رضي الله عنه إِلَى الْيَمَنِ

فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ:«أَنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِم» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث من أدلة السنة على الأصول الثلاثة من أصول الإسلام، وهي التوحيد والصلوات الخمس والزكاة.

(1)

البخاري (1395)، ومسلم (19).

ص: 7

وفي الحديث فوائد كثيرة، منها:

1 -

مشروعية بعث الدعاة إلى الله في النواحي، يدعون ويعلمون ويحكمون ويأخذون الصدقة والجزية، كما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا وغيره لذلك.

2 -

البداءة في الدعوة بالأهم فالأهم.

3 -

تنبيه الإمام من يبعثه إلى ما يحتاج إليه، وتعليمه ما يدعو إليه.

4 -

أن الدعوة تختلف باختلاف حال المدعو.

5 -

أن أهل الكتاب عندهم من الشبهات ما ليس عند غيرهم.

6 -

أن التوحيد أعظم الواجبات وأولها، فيبدأ به في الدعوة.

7 -

أن التوحيد هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ولهذا جاء في رواية عند البخاري:«فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهُمْ إلى أنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى»

(1)

.

8 -

أن أوجب الواجبات بعد التوحيد الصلوات الخمس.

9 -

أن فرض الصلاة عام لجميع المكلفين.

10 -

أنه لا يؤمر بالصلوات الخمس إلا من أجاب إلى التوحيد ودخل في الإسلام.

11 -

أن فرض الصلوات الخمس في كل يوم وليلة.

12 -

أن أوجب الواجبات بعد الصلوات الخمس الزكاة.

13 -

أنه لا يؤمر بأداء الزكاة إلا من التزم وجوب الصلاة، فإن من لم يلتزم بوجوب الصلاة فهو كافر، والزكاة لا تصح من كافر، وكذا لا تصح من تارك الصلاة عند القائلين بكفره.

(1)

البخاري (6937).

ص: 8

14 -

أن الزكاة إنما تجب على الأغنياء، وهم كل من ملك نصابًا، وهو المقدار الذي عُلِّق به في الشرع وجوب الزكاة.

15 -

أن للإمام تولي أخذ الزكاة من الأغنياء وصرفها في مصارفها.

16 -

وجوب قصر الزكاة على فقراء المسلمين، لقوله:«فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِم» ، فلا يجوز صرفها في الفقير الكافر.

17 -

وجوب صرفها في فقراء البلد الذي فيه المال، فلا يجوز نقلها إلى خارجه إلا لمصلحة راجحة؛ لقوله:«فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِم» .

18 -

أن من مصارف الزكاة -بل أهمها- الفقراء، ولهذا قُدِّموا في الذكر في الآية:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء} [التوبة: 60].

19 -

جواز الصرف في صنف واحد من أصناف أهل الزكاة؛ لقوله: «فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِم» .

20 -

تحريم ظلم الأغنياء بأخذ ما لا يجب عليهم كمًا وكيفًا، لقوله:«فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» .

21 -

أن الواجب في الزكاة هو الوسط من المال، لا من الرديء ولا من الأجود.

22 -

أن الزكاة مواساة بين الأغنياء والفقراء، فلا يُظلم الأغنياء لحق الفقراء بالزيادة على الواجب، ولا الفقراء بترك بعض ما وجب لهم.

23 -

التحذير من الظلم.

24 -

أن دعوة المظلوم مستجابة.

25 -

اتقاء دعوة المظلوم بترك الظلم.

26 -

نصر الله للمظلوم على الظالم.

ص: 9

27 -

أن العبادة تكون بدنية؛ كالصلاة والصيام، وتكون مالية؛ كالزكاة، وقد تكون بدنية ومالية؛ كالجهاد.

28 -

أهمية هذه الأركان الثلاثة من أركان الإسلام، فقد قُرن بينها في الكتاب والسنة، كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5]، وقوله:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، ومن السنة هذا الحديث.

29 -

أن القيام بهذه الأصول يستتبع ما عداها من أركان الإسلام وواجباته، ولعله اقتُصر عليها لذلك.

30 -

فضل معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ لبعثه صلى الله عليه وسلم إياه، مما يدل على كفاءته.

* * * * *

(685)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَتَبَ لَهُ: «هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المُسْلِمِينَ، وَالَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ:

«فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الإِبِلِ فَمَا دُونَهَا الْغَنَمُ: فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ إِلَى خَمْسٍ وَثَلاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ أُنْثَى، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَثَلاثِينَ إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ أُنْثَى، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ طَرُوقَةُ الْجَمَلِ، فَإِذَا بَلَغَتْ وَاحِدَةً وَسِتِّينَ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ إِلَى تِسْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا حِقَّتَانِ طَرُوقَتَا الْجَمَلِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلاَّ أَرْبَعٌ مِنَ الإِبِلِ فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا.

ص: 10

وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى مِائَتَيْنِ فَفِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إِلَى ثَلاثمِائَةٍ فَفِيهَا ثَلاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلاثِمِائَةٍ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، فَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً وَاحِدَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا.

وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَلا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ وَلا ذَاتُ عَوَارٍ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْمُصَّدِّقُ.

وَفِي الرِّقَةِ: رُبْعُ الْعُشْرِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ إِلاَّ تِسْعِينَ وَمِائَةً فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةُ الْجَذَعَةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ جَذَعَةٌ وَعِنْدَهُ حِقَّةٌ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْحِقَّةُ، وَيَجْعَلُ مَعَهَا شَاتَيْنِ إِنِ اسْتَيْسَرَتَا لَهُ، أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَمَنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ صَدَقَةُ الْحِقَّةِ وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ الْحِقَّةُ، وَعِنْدَهُ الْجَذَعَةُ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجَذَعَةُ، وَيُعْطِيهِ الْمُصَّدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

هذا حديث عظيم لما تضمنه من تفصيل نُصُب زكاة الإبل والغنم والورق، ولأن راويه أفضل الصحابة أبو بكر رضي الله عنه ورضي عنهم أجمعين، وهو أصل في وجوب الزكاة في هذه الأصناف.

وفيه فوائد كثيرة، منها:

1 -

رواية الصحابي عن الصحابي.

2 -

الكتابة بالعلم.

3 -

وجوب الزكاة في الإبل.

(1)

البخاري (1454).

ص: 11

4 -

أن أقل ما تجب فيه الزكاة خمس من الإبل، وأن ما دون ذلك لا صدقة فيه إلا تطوعًا.

5 -

أن نُصُب زكاة الإبل أحد عشر: من خمسة إلى مئة وإحدى وعشرين.

6 -

أن الواجب فيما دون خمس وعشرين من الإبل الغنم؛ في كل خمس شاة، ففي أربع وعشرين أربع شياه.

7 -

أن الواجب في خمس وعشرين بنت مخاض، وهي ما تم لها سنة ودخلت في الثانية، وسميت بذلك لأن أمها تكون في الغالب حاملًا.

8 -

أن الواجب في ست وثلاثين بنت لبون، وهي ما تم لها سنتان، ودخلت في الثالثة، وسميت بذلك لأن أمها في الغالب تكون ذات لبن.

9 -

أن الواجب في ست وأربعين حقة، وهي ما تم لها ثلاث سنين، ودخلت في الرابعة، وسميت بذلك لأنها استحقت طروق الفحل، ولهذا قال:«طَرُوقَةُ الْجَمَلِ» .

10 -

أن الواجب في إحدى وستين جذعة، وهي ما تم لها أربع سنين ودخلت في الخامسة، وسميت بذلك لأنها تجذع، أي تقلع أسنان اللبن.

11 -

أن الواجب في ست وسبعين بنتا لبون.

12 -

أن الواجب في إحدى وتسعين حقتان.

13 -

أن الواجب في مئة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون.

14 -

أن الفريضة تستقر بعد ذلك؛ في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة.

15 -

أن ما بين النِّصَابين لا زكاة فيه، أي: لا يزيد به الواجب ويسمى وقْصًا.

ص: 12

16 -

أن من لم يجد بنت مخاض فيجزئه ابن لبون ذكر.

17 -

أن من وجبت عليه جذعة ولم يجدها فتجزئه حقة مع شاتين أو عشرين درهمًا.

18 -

أن من وجبت عليه حِقَّة ولم يجدها فتجزئه الجذعة ويعطيه المصَدِّق شاتين أو عشرين درهمًا.

19 -

أن الواجب من الإبل يكون من الإناث، إلا من وجبت عليه بنت مخاض ولم يجدها فيجزئه ابن لبون.

20 -

وجوب الزكاة في الغنم.

21 -

أن أقل ما تجب فيه الزكاة من الغنم أربعون شاة إلى مئة وعشرين فتجب فيها شاة واحدة.

22 -

أن نُصُب زكاة الغنم أربعة:

أ. من أربعين إلى مئة وعشرين، وتجب فيها شاة واحدة.

ب. من مئة وإحدى وعشرين إلى مئتين، وتجب فيها شاتان.

ج. من مئتين وواحدةٍ إلى ثلاث مئة وتسع وتسعين وتجب فيها ثلاث شياه.

د. أربع مئة، وفيها أربع شياه، ثم في كل مئة شاة.

23 -

أثر الخلطة في زكاة الماشية بالزيادة والنقص، والمراد بالخلطة خلطة الأوصاف، وهو اشتراك المالين في المُراح والمحلب والمرعى والراعي، فتجب على الخليطين في أربعين شاةً شاةٌ واحدة، على كل واحد نصف قيمتها، إذا كان لكل منهما عشرون، قد وجبت عليهما الزكاة بسبب الخلطة. وإذا كان للخليطين ثمانون شاة بينهما، لكلٍّ أربعون، فتجب عليهما شاة واحدة، على كل واحد منهما نصف قيمتها، فهذا أثر الخلطة في تخفيف الواجب في الزكاة.

ص: 13

24 -

أن نصاب الفضة مئتا درهم، والواجب فيها ربع العشر، وهو خمسة دراهم.

25 -

أنه ليس فيما دون مئتي درهم صدقة.

26 -

أن ما زاد عن المئتين فبحسابه الواجب فيه ربع العشر ففي مئتين وعشرة مثلًا خمسة دراهم وربع درهم.

27 -

أنه لا وقص في زكاة الفضة.

28 -

أنه لا يجوز جمع المالين ولا تفريقهما فرارًا من وجوب الزكاة أو زيادتها، لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» .

29 -

أن الواجب في الزكاة إخراج الوسط، فلا يجب إخراج كرائم الأموال ونفيسها، ولا يجوز إخراج الرديء، كالهرمة وذات العوار، إلا أن يشاء المصدِّق، وهو الساعي لجباية الزكاة، وذلك أن يرى أن العدل في قبول هذه المذكورات، كأن تكون كلها معيبة، أو ذكورًا، والواجب عليه أن يستوفي حق الفقراء، ولا يظلم الأغنياء.

30 -

وجوب بعث السُّعاة لجباية الزكاة، والقصد إلى أهل الأموال في مواطنهم ومواردهم.

31 -

فضل الأنثى على الذكر في بهيمة الأنعام، وأنه لا يجوز إخراج الذكر في زكاة الإبل إلا في موضع واحد تقدم، وقال الفقهاء: وكذا إذا كان النصاب كله ذكورًا

(1)

.

* * * * *

(1)

«المغني» لابن قدامة (4/ 41).

ص: 14

(686)

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرَ. رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَاللَّفْظُ لأحْمَدَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَشَارَ إِلِى اخْتِلَافٍ فِي وَصْلِهِ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان، وَالحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في زكاة البقر ونُصُبها، ويدل لوجوب الزكاة فيها حديث أبي ذر رضي الله عنه: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلا بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا

»

(2)

الحديث. وأجمع العلماء على وجوب الزكاة في البقر.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

وجوب الزكاة في البقر.

2 -

أن نصاب البقر ثلاثون، فلا تجب الزكاة فيما دون ذلك.

3 -

أن الواجب في الثلاثين تبيع أو تبيعة، وهي ما تم لها سنة.

4 -

أن في الأربعين مسنة، وهي ما تم لها سنتان. إلى ستين ففيها تبيعان، ثم في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.

5 -

إجزاء الذكر في الثلاثين من البقر.

6 -

مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب.

7 -

أن الجزية لا تجب إلا على البالغ.

8 -

أنها -أي الجزية- مقدرة بدينار من ثياب أو غيرها والمَعافري نسبة إلى معافر، وهي قبيلة من همدان وسميت بلدتهم بذلك.

9 -

التيسير على أهل الجزية في قدرها ونوعها.

(1)

أحمد (22013)، وأبو داود (1576)، والترمذي (623)، والنسائي (2450)، وابن ماجه (1803)، وابن حبان (4886)، والحاكم (1450).

(2)

رواه مسلم (990)؛ عن أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 15

10 -

اعتبار التقويم في العروض.

11 -

فضيلة معاذ رضي الله عنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعثه داعيًا ومعلمًا وقابضًا للزكاة والجزية.

12 -

أن اليمن وطن لبعض أهل الكتاب، وهم من اليهود.

* * * * *

(687)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِيَاهِهِم» . رَوَاهُ أَحْمَدُ

(1)

.

(688)

وَلأَبِي دَاوُدَ: «وَلا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلا فِي دُورِهِمْ»

(2)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

بعث الإمام السعاة لجباية الزكاة من أهل المواشي، وكذلك الحروث، وأما الأموال الباطنة من العروض والأثمان فعلى أهل الأموال أن يأتوا بها؛ لأنها غير ظاهرة، وهم مؤتمنون عليها، وعلى هذا يحمل حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ» فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى»

(3)

.

2 -

التيسير على أهل الأموال في أخذ صدقتهم ببعث السعاة إليهم.

3 -

أنه لا يجب على أهل الأموال من المواشي أن يأتوا بمواشيهم إلى الموضع الذي فيه الإمام، أو المصدق.

4 -

أنه يجب على المصدق أن يقصد إلى أهل المواشي على مياههم، أي: مواردهم ومواضعهم التي يوجدون فيها.

(1)

أحمد (6730).

(2)

أبو داود (1591).

(3)

رواه البخاري (1497)، ومسلم (1078). وسيأتي (698).

ص: 16

5 -

أنه لا يجوز للساعي أن يطالب أصحاب المواشي بالقدوم إليه لأخذ زكاتها.

6 -

أن قصد الساعي المصدق إلى أهل الأموال في مواضعهم آمن مِنْ أن يغيبوا شيئًا منها.

* * * * *

(689)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(690)

وَلِمُسْلِمٍ: «لَيْسَ فِي الْعَبْدِ صَدَقَةٌ إِلا صَدَقَةُ الْفِطْرِ»

(2)

.

* * *

هذا الحديث نصٌّ في أن الخيل والرقيق ليسا من الأموال الزكوية، أي: التي تجب فيها الزكاة، وهذا محمول عند جمهور العلماء على ما كان للقُنية، فالخيل والرقيق يخالفان في ذلك بهيمة الأنعام، أما إذا كانت الخيل والرقيق للتجارة، أي للبيع وكسب الربح فهي من العروض، فتجب فيها زكاة العروض بالشروط المعروفة.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

أنه ليس في عين الخيل زكاة.

2 -

أنه ليس في عين الرقيق زكاة.

3 -

أنه ليس في الخيل والرقيق زكاة، ولو كان منهما شيء كثير وفي حكم الخيل والرقيق جميع المقتنيات من العقار والمنقولات إلا السائمة من بهيمة الأنعام، وفي الحلي المعد للاستعمال خلاف.

(1)

البخاري (1464)، ومسلم (982).

(2)

مسلم (982).

ص: 17

4 -

أن المفرد المضاف من صيغ العموم، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18].

5 -

وجوب زكاة الفطر عن العبد على سيده.

6 -

وجوب زكاة الفطر على كل أحد فإنها إذا وجبت على العبد فعلى الحر من باب أولى، كما جاء التصريح بذلك في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:«فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ»

(1)

.

7 -

جواز الاسترقاق وملك الرقيق، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

* * * * *

(691)

وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ: فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، لا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا فَلَهُ أَجْرُهُا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لا يَحِلُّ لآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(2)

، وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ القَوْلَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ

(3)

.

* * *

رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فيها مقال لأهل العلم، والأكثرون على توثيق بهز، والذين طعنوا فيه لم يذكروا حجة إلا روايته هذا الحديث لما فيه من التعزير بالمال، ورُدّ ذلك بأن التعزير بالمال وارد في مواضع عديدة، وقد صحح الإمام أحمد وإسحاق حديث بهز، وهما من هما علمًا وفقهًا، فأقل أحوال هذا الحديث أنه حسن

(4)

.

(1)

رواه البخاري (1503)، ومسلم (984).

(2)

أحمد (20016)، وأبو داود (1575)، والنسائي (2443)، والحاكم (1449).

(3)

ينظر: «السنن الكبرى» للبيهقي (4/ 176).

(4)

ينظر: «البدر المنير» (5/ 480 - 481).

ص: 18

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

وجوب الزكاة في الإبل.

2 -

اشتراط السوم في وجوبها.

3 -

أن الواجب في أربعين من الإبل بنت لبون، وتقدم في حديث أنس رضي الله عنه؛ أن بنت لبون تجب في ست وثلاثين من الإبل إلى خمس وأربعين، وكل هذا تقدم في حديث أنس رضي الله عنه

(1)

في كتاب أبي بكر رضي الله عنه في زكاة بهيمة الأنعام.

4 -

النهي عن تفريق الماشية خشية الزكاة؛ «وَلا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ؛ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ»

(2)

.

5 -

اعتبار الاحتساب في حصول الأجر.

6 -

أن من لم يخلص ويحتسب أجر الزكاة فلا أجر له.

7 -

تعزير من منع الزكاة بأخذ شطر ماله، أي الذي وجبت فيه الزكاة.

8 -

أن هذا التعزير واجب؛ لقوله: «عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا» .

9 -

وصف الأوامر الشرعية بالعزَمات.

10 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى الأحكام عن ربه بالوحي.

11 -

تحريم الزكاة على آل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهم بنو هاشم، وبنو المطلب في حكمهم، وسيأتي ذكر الأحاديث الواردة في ذلك.

* * * * *

(692)

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ -وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ- فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ، فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ،

(1)

تقدَّم برقم (685).

(2)

تقدم في كتاب أبي بكر.

ص: 19

وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَهُوَ حَسَنٌ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ

(1)

.

(693)

وَلِلتِّرْمِذِيِّ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «مَنِ اسْتَفَادَ مَالًا، فَلا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ» وَالرَّاجِحُ وَقْفُه

(2)

.

* * *

دل هذان الأثران على شرطين من شروط الزكاة في الأثمان [الذهب والفضة]، أحدهما: بلوغ النصاب، والثاني: مضي الحول، وعلى مقدار الواجب فيهما، وهو ربع العشر.

وفيهما فوائد، منها:

1 -

أن نصاب الفضة مئتا درهم.

2 -

أن الواجب في مئتي درهم خمسة دراهم. ولا زكاة فيما نقص عن ذلك، وهذا ثابت في حديث أنس رضي الله عنه الطويل المتقدم

(3)

، كما يدل له حديث أبي سعيد رضي الله عنه في «الصَّحِيحَيْنِ»:«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ»

(4)

، والأوقية: أربعون درهمًا.

3 -

أن نصاب الذهب عشرون دينارًا، فلا زكاة فيما نقص عن ذلك، ووزن الدينار مثقال.

4 -

أن الواجب في نصاب الذهب نصف مثقال، والمثقال يقدره بعضهم بأربعة جرامات وربع، ويقدره بعضهم بأربعة جرامات ونصف، فنصاب الذهب بالمعايير الحديثة تسعون جرامًا أو خمسة وثمانون.

(1)

أبو داود (1573).

(2)

الترمذي (631). وقد أخرجه من طريق عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا، برقم (632).

(3)

تقدَّم برقم (685).

(4)

البخاري (1459)، ومسلم (979).

ص: 20

5 -

أن ما زاد على النصاب فبحسابه، ولو درهمًا واحدًا أو دينارًا واحدًا فتجب فيه الزكاة، ويجب فيه ربع عشره، ففي مئتين وعشرين درهمًا خمسة دراهم ونصف، وفي مئتين وأربعين ستة دراهم، وفي ثلاثين مثقالًا ثلاثة أرباع مثقال، وفي الأربعين مثقال.

6 -

أنه لا زكاة في المستفاد من الذهب والفضة حتى يحول عليه الحول، وهذه الأحكام مجمع عليها.

7 -

واستثنى العلماء من شرط مضي الحول ربح التجارة، فإن حوله حول أصله، فإذا مضى الحول على الأصل أخرج الزكاة من رأس المال والربح، ولو لم يتحقق الربح إلا في آخر السنة قبل تمام الحول.

8 -

أن الذهب والفضة ليس فيهما وقص؛ أيْ: مقدارٌ بعد النصاب لا زكاة فيه كما يكون في الماشية، بل تجب الزكاة فيما زاد قليلًا كان أو كثيرًا، وهو معنى «فَمَا زَادَ» أي: على النصاب «فَبِحِسَابِ ذَلِكَ» .

* * * * *

(694)

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالرَّاجِحُ وَقْفُهُ أَيْضًا

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

وجوب الزكاة في البقر، وهو إجماع من العلماء في السائمة، ويدل له الحديث الصحيح:«مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلا بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهَا إِلاَّ أُقْعِدَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ»

(2)

الحديث، ولحديث معاذ المتقدم

(3)

في نصاب البقر.

(1)

أبو داود (1572)، والدارقطني (1941).

(2)

رواه مسلم (988)؛ عن جابر رضي الله عنه.

(3)

تقدَّم برقم (686).

ص: 21

2 -

أنه لا زكاة في البقر العوامل، وهي المتخذة للحرث وسقي الماء، وهي السواني، وظاهره: وإن كانت سائمة، والغالب في العوامل أن تكون معلوفة.

3 -

أن الإبل العوامل لا زكاة فيها، كالبقر، لعدم الفرق.

4 -

أن العلة في إسقاط زكاة العوامل هي اتخاذها للعمل، لا للدر والنسل.

* * * * *

(695)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مِنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ، فَلْيَتَّجِرْ لَهُ، وَلا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلهُ الصَّدَقَةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ

(1)

.

(696)

وَلَهُ شَاهِدٌ مُرْسَلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ

(2)

.

* * *

في هذا الحديث فوائد، منها:

1 -

أن اليتيم لا بد له من وليٍّ ينظر له، ويحفظ ماله.

2 -

رحمة الله باليتيم.

3 -

وجوب الزكاة في مال اليتيم، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، فقالوا: تجب الزكاة في مال الصغير، ومن أدلتهم عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ»

(3)

، فالصغير إذا كان له مال فهو من الأغنياء.

4 -

أن الذي يخرجها وليُّه.

(1)

الترمذي (641)، والدارقطني (1970).

(2)

«مسند الشافعي» (614). أخرجه من طريق ابن جريج عن يوسف عن ماهك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ابتغوا في مال اليتيم -أو في مال اليتامى- لا تذهبها -أو لا تستأصلها- الزكاة» .

(3)

تقدم (684).

ص: 22

5 -

أن مال اليتيم لا يدفع له حتى يبلغ ويرشد، وقد دل على ذلك قوله تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].

6 -

أن على ولي اليتيم أن يتجر في ماله حتى لا يفنى بإخراج الزكاة منه.

7 -

أن الزكاة تتكرر في كل حول، وذلك في الأموال التي يعتبر لها الحول، وهي ما عدا الخارج من الأرض؛ كالماشية والأثمان، وهذا هو السبب في أنه إذا لم يُتَّجر في مال الصغير أكلته الصدقة.

* * * * *

(697)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

في هذا الحديث شيء من هديه صلى الله عليه وسلم، وهو ما يعامل به من جاء بصدقته.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

أن الناس كانوا يأتون بأنفسهم بزكاة أموالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في الأموال الباطنة وهي الأثمان والعروض.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يبعث إلى الناس سعاة لأخذ زكاة هذه الأموال، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في الجمع بين هذا الحديث وحديث:«تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مِيَاهِهِم»

(2)

.

3 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على من أتاه بصدقته بقوله: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى فُلانٍ» أو «آلِ فُلانٍ» .

(1)

البخاري (1497)، ومسلم (1078).

(2)

رواه أحمد (6730)، وتقدم برقم (688).

ص: 23

4 -

تفسير قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103].

5 -

أن الدعاء بالصلاة على المتصدق خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} ، وأما مطلق الدعاء للمتصدق فمستحب، سواء من ولي الأمر أو من الفقير.

6 -

بطلان مقولة: لا شكر على واجب.

7 -

جواز دفع الزكاة إلى الإمام إذا كان يضعها في مواضعها، وإلا لم يَجُز، إلا إذا طلبها فتدفع إليه وتجزئ.

* * * * *

(698)

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ أَنَّ الْعَبَّاسَ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في مسألة تعجيل الزكاة قبل وجوبها، وبعد انعقاد سببها، وهو النصاب، ولم يذكر في الحديث تقدير لوقت التعجيل، ولكن قال العلماء: إن العباس عجّلها لعامين، وفسروا بذلك الحديث الصحيح في بعث عمر لجباية الصدقة، فقال: «مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ

»

(2)

الحديث، وفيه:«وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا مَعَهَا» ، ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى جواز تعجيل الزكاة لسنتين إذا حصل ما يقتضي ذلك كشدة حاجة ألمت بالناس، أو تجهيز جيش، ولا يجوز تعجيلها من غير مصلحة.

(1)

الترمذي (678)، والحاكم (5499).

(2)

رواه البخاري (1468)، ومسلم (983)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 24

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

أن الأصل إخراج الزكاة في وقتها.

2 -

جواز تعجيل الزكاة لمصلحة.

3 -

اعتبار إذن الإمام فيما يتولّى قبضه.

4 -

جواز أن يطلب الإمام من الناس تعجيل الزكاة لنائبة من النوائب.

* * * * *

(699)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ صَدَقَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(700)

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلا حَبٍّ صَدَقَةٌ»

(2)

. وَأَصْلُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

تضمَّن هذان الحديثان بيان نُصُب زكاة الإبل والفضة والخارج من الأرض.

وفي الحديثين فوائد، منها:

1 -

أن نصاب الإبل خمس، وتقدم في حديث أنس رضي الله عنه

(4)

؛ أن في الخمس من الإبل شاة.

2 -

أنه لا زكاة فيما دون الخمس.

3 -

وجوب الزكاة في الإبل.

4 -

أن نصاب الفضة خمس أواق، والأوقية أربعون درهمًا، فنصاب الفضة مئتا درهم.

(1)

مسلم (980).

(2)

مسلم (979).

(3)

البخاري (1447)، ومسلم (979).

(4)

تقدَّم برقم (685).

ص: 25

5 -

أنه لا زكاة فيما دون ذلك، وقد تقدم هذا في حديث أنس رضي الله عنه.

6 -

وجوب الزكاة في الحب والثمر.

7 -

أن نصاب الحب والثمر خمسة أوسق، والوَسْق: ستون صاعًا، بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فنصاب الحب والثمر: ثلاث مئة صاع.

8 -

أنه لا زكاة فيما دون خمسة أوسق.

9 -

أن الزكاة لا تجب في الثمر إلا فيما يوسَّق، وهو المكيل، لتقدير النصاب بالأصواع.

10 -

أن من التيسير في فريضة الزكاة أنها لا تجب في كل قليل وكثير.

11 -

أن عدم وجوب الزكاة فيما دون النصاب مستفاد من منطوق الحديث، ووجوب الزكاة فيما بلغ النصاب مستفاد من المفهوم.

* * * * *

(701)

وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ، أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا: الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ: نِصْفُ الْعُشْرِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(702)

وَلأَبِي دَاوُدَ: «أَوْ كَانَ بَعْلًا: الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي أَوِ النَّضْحِ: نِصْفُ الْعُشْرِ»

(2)

.

(703)

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ؛ وَمُعَاذٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا: «لا تَأْخُذَا فِي الصَّدَقَةِ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الأَصْنَافِ الأَرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالحَاكِمُ

(3)

.

(1)

البخاري (1483).

(2)

أبو داود (1596).

(3)

الحاكم (1460).

ص: 26

(704)

وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ: عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه: فَأَمَّا الْقِثَّاءُ، وَالْبِطِّيخُ، وَالرُّمَّانُ، وَالْقَصَبُ، فَقَدْ عَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ

(1)

.

* * *

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هو الأصل في مقدار الواجب في الخارج من الأرض، وهو العشر أو نصف العشر.

وفي الحديثين فوائد، منها:

1 -

أن الواجب فيما سُقي بلا مؤونة العشر؛ كالذي يُسقى بالمطر أو من العيون الجارية، «أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا» وهو الذي يشرب بعروقه.

2 -

أن الواجب فيما سقي بالمؤونة نصف العشر، وهو الذي يُسقى «بِالسَّوَانِي» ، وهي الدواب التي يُستخرج بها الماء من الآبار، وفي حكمها الآلات الحديثة، قال الفقهاء: والعبرة بالغالب في السقي من حيث المدة والتأثير.

3 -

ظاهره أن الحديث يدل على وجوب الزكاة في كل قليل وكثير؛ لكن خُص من ذلك ما دون خمسة أوسق، لحديث أبي سعيد رضي الله عنه في «الصَّحِيحَيْنِ»:«لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلا حَبٍّ صَدَقَةٌ»

(2)

.

4 -

أن الزكاة تجب في كل خارج من الأرض؛ من الحبوب والثمار والخضار والفواكه وغير ذلك، لعموم قوله:«فِيمَا سَقَتِ» ، وقد ذهب الحنفية إلى ظاهر هذا الحديث، وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا، فأحد الأقوال في ذلك قول الحنفية، ويقابله القول بأن الزكاة لا تؤخذ إلا من الأصناف الأربعة، المذكورة في حديث أبي موسى رضي الله عنه، وهي البر والشعير والتمر والزبيب، وهذا مذهب جماعة من السلف، واختاره بعض المتأخرين

(1)

الدارقطني (1915).

(2)

تقدم (700).

ص: 27

كالشوكاني

(1)

والصنعاني

(2)

، والمشهور من مذهب الإمام أحمد أن الزكاة لا تجب في الخارج من الأرض إلا في كل حب وثمر يكال ويدخر؛ فلا تجب في الخضروات والفواكه

(3)

، وقيل: لا تجب إلا فيما يقتات من الحبوب والثمار، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(4)

.

وفي حديث معاذ رضي الله عنه:

1 -

أنه لا زكاة في القثاء والبطيخ والرمان والقصب، والحديث وإن كان ضعيفًا فقد ذهب إلى معناه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، كما تقدم.

* * * * *

(705)

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنهما قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَرَصْتُمْ، فَخُذُوا، وَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ، فَدَعُوا الرُّبُعَ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ

(5)

.

(706)

وَعَنْ عَتَّابِ بنِ أَسِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخْرَصَ الْعِنَبُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْلُ، وَتُؤْخَذَ زَكَاتُهُ زَبِيبًا» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ

(6)

.

* * *

هذان الحديثان هما الأصل في بعث الإمام السُّعاة لخرص الثمار على الشجر.

وفيهما فوائد، منها:

1 -

وجوب الزكاة في التمر والعنب.

(1)

«نيل الأوطار» (8/ 94).

(2)

«سبل السلام» (4/ 36).

(3)

«المغني» لابن قدامة (4/ 158).

(4)

«مجموع الفتاوى» (25/ 42).

(5)

أحمد (16093)، وأبو داود (1605)، والترمذي (643)، والنسائي (2490)، وابن حبان (3280)، والحاكم (1465).

(6)

أبو داود (1603)، والترمذي (644)، والنسائي (2617)، وابن ماجه (1819). ولم نجده في «المسند» ، وليس لعتاب مسند ضمن مسند الإمام أحمد.

ص: 28

2 -

أن زكاة التمر والعنب لا تؤخذ إلا تمرًا وزبيبًا.

3 -

بعث السعاة لخرص الثمار.

4 -

جواز الاعتماد في معرفة قدر الثمر على الخرص، وهو التقدير بغلبة الظن من أهل الخبرة.

5 -

أن على الخارص أن يترك مقدار الثلث أو الربع لأهل الثمرة، فلا يجعل فيه زكاة، وذلك من أجل ما يؤكل ويتصدق به في العادة قبل الجذاذ، هذا على أحد القولين في معنى الحديث، وقيل: دعوا الثلث والربع من الزكاة ليفرقوها بأنفسهم، والأول هو الذي تدل عليه الآثار.

* * * * *

(707)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا، وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهَا:«أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟» . قَالَتْ: لا. قَالَ: «أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟» . فَأَلْقَتْهُمَا. رَوَاهُ الثَّلاثَةُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌ

(1)

.

(708)

وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها

(2)

.

(709)

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ:«إِذَا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ، فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(3)

.

* * *

هذه الأحاديث الثلاثة هي حجة من أوجب الزكاة في الحلي المستعمل.

(1)

أبو داود (1563)، والترمذي (637)، والنسائي (2478).

(2)

الحاكم (1438).

(3)

أبو داود (1564)، والدارقطني (1950)، والحاكم (1439).

ص: 29

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

حل الذهب للنساء.

2 -

جواز تحلية الصغيرة بالذهب.

3 -

وجوب الزكاة في الحلي المستعمل إذا بلغ نصابًا، وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين:

أحدهما: أن الزكاة تجب في الحلي من الذهب والفضة لهذين الحديثين، ولعموم قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم (34)} [التوبة: 34]، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ

»

(1)

الحديث.

القول الثاني: أنها لا تجب الزكاة في الحلي المعد للاستعمال وهو قول الجمهور، واستدلوا بحديث:«لا زَكَاةَ فِي الحُلِيِّ»

(2)

، وأجيب عنه بأنه ضعيف، وأنه لم يقل أحد بظاهره؛ فإن الحلي المعد للكراء أو النفقة وما كان محرَّمًا -كالذهب للرجل- تجب فيه الزكاة عند الجميع، كما استدلوا بآثار عن الصحابة، منهم عائشة وأسماء رضي الله عنهم، وأجيب بأن أقوال بعض الصحابة لا يعارض بها الأحاديث الصحيحة.

4 -

سرعة الاستجابة لأمر الله ورسوله.

(1)

رواه مسلم (987)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البيهقي في «المعرفة» (8279)؛ من حديث عافية بن أيوب، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه. ثم قال:«لا أصل له، وإنما يروى عن جابر من قوله» . وعافية قيل: ضعيف، وقال ابن الجوزي:«ما نعلم فيه جرحًا» . وقال البيهقي: «مجهول» . ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زرعة. ينظر: «التلخيص» (2/ 339).

ص: 30

5 -

أن ما يؤدى زكاته من الذهب والفضة فليس بكنز؛ فلا يستحق صاحبه الوعيد في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ

} [التوبة: 34] الآية.

6 -

أن الجزاء من جنس العمل.

7 -

أن الصغير لا يؤاخذ بما يفعله به وليه مما يوجب الإثم؛ لأنه مرفوع عنه القلم، بل العقاب يقع على الولي.

8 -

وجوب تجنيب الصغير ما يحرم على الكبير.

9 -

جواز لبس الذهب المحلق من الأساور والفَتَخ.

10 -

أن للأم ولاية على أولادها.

* * * * *

(710)

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا؛ أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نُعِدُّهُ لِلْبَيْعِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ لَيِّنٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث مع ما جاء من عمومات الكتاب والسنة هو عمدة الجمهور في وجوب الزكاة في عروض التجارة -وهي الأموال التي تتداول بالبيع والشراء طلبًا للربح- لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية، وقوله تعالى:{أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِم»

(2)

، ومن جهة المعنى لو لم تجب الزكاة في العروض -وهي أكثر أموال الأغنياء- لأدى ذلك إلى وجوب الزكاة على ذوي الأموال القليلة دون أصحاب الأموال الكثيرة، وهذا خلاف الحكمة التي شرعت الزكاة من أجلها، كما في قوله تعالى: {خُذْ

(1)

أبو داود (1562).

(2)

تقدم (684).

ص: 31

مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وخلاف قياس الأولى، وهو إثبات حكم الشيء لما هو أولى منه.

وذهبت الظاهرية إلى عدم وجوب الزكاة في العروض، محتجين بأن الأصل براءة الذمة، وأن ما استدل به على وجوب الزكاة لا ينهض دليلًا على المطلوب، والصواب وجوب الزكاة في العروض.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

وجوب الزكاة فيما أعد للبيع.

2 -

أن الأصل في العروض؛ كالسيارات والأراضي وسائر الأموال مما يقتنى= أنه لا زكاة فيه إلا إذا أعد للتجارة. واختلف العلماء في كون العروض للتجارة على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها تكون للتجارة بشرطين:

1 -

أن يملكها بفعله.

2 -

نية التجارة.

القول الثاني: أنه لا يشترط فيها إلا نية التجارة، ولو ملكها بغير فعله، كالميراث؛ يكون للتجارة بالنية.

الثالث: أن شرط الوجوب هو إعدادها للبيع فقط، وأقرب هذه الأقوال هو القول الثاني، والله أعلم.

* * * * *

(711)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَفِي الرِّكَازِ: الْخُمُسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1)

البخاري (1499)، ومسلم (1710).

ص: 32

(712)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي كَنْزٍ وَجَدَهُ رَجُلٌ فِي خَرِبَةٍ:«إِنْ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيَةٍ مَسْكُونَةٍ، فَعَرِّفْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ فِي قَرْيَةٍ غَيْرِ مَسْكُونَةٍ، فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ: الْخُمُسُ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

(1)

.

(713)

وَعَنْ بِلالِ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنَ الْمَعَادِنِ الْقَبَلِيَّةِ الصَّدَقَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث بيان حكم زكاة المعادن والركاز؛ وهو ما يوجد من دفن الجاهلية، والمراد بالمعدن: ما خلق الله في باطن الأرض من الأشياء الثمينة؛ كالذهب والفضة والحديد ونحو ذلك.

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

أن الركاز لواجده.

2 -

أنه يجب إخراج خمسه لبيت المال، أو يتصدق به واجده.

3 -

أن الركاز لا يُعَرَّف.

4 -

أنه لا يشترط في إخراج الواجب في الركاز مضي الحول، بل يجب إخراجه في الحال.

5 -

مراعاة الشارع خفة المؤنة في مقدار ما يجب في المال.

6 -

أن الواجب في الركاز لا يَختص بالذهب والفضة، فيجب فيه الخمس ولو كان جواهر أو نحوها.

(1)

لم نجده في سنن ابن ماجه، وقد عزاه المصنف للشافعي (673) في «التلخيص» (2/ 350)، ولم يعزه لابن ماجه.

(2)

أبو داود (3061) مرسلًا، وبلفظ:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم» .

ص: 33

7 -

أن الكنز إذا وجد في قرية مسكونة فهو لقطة، ومعنى ذلك أنه يُعَرَّف سنة، وإذا وجد في قرية غير مسكونة فحكمه حكم الركاز؛ يجب فيه الخمس.

8 -

وجوب الزكاة فيما يُحصَّل من المعادن، وهو ربع العشر، والظاهر أن ما يؤخذ من ناتج المعدن أنه زكاة، فيعتبر له الحول إن كان ذهبًا أو فضة، وإن كان غير ذلك فلا زكاة فيه إلا أن يقصد للتجارة.

9 -

الفرق بين الأرض التي كانت مسكونة وغير المسكونة، فما وجد في المسكونة؛ لقطة، وفي غير المسكونة؛ ركاز.

10 -

الفرق بين اللقطة والركاز في الحكم.

11 -

حكمة الشرع بالتفريق بين المختلفات.

* * * * *

ص: 34

‌بَابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ

صدقة الفطر، وتسمى زكاة الفطر، واجبة باتفاق العلماء، وقد دل عليها الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب فقوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى: 14، 15]، على ما قاله بعض المفسرين، وأما السُّنة فأحاديث الباب.

وإضافة الصدقة إلى الفطر من إضافة الشيء إلى سببه، والمراد بالفطر الفطر من رمضان، فتجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان.

* * * * *

(714)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ: عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(715)

وَلِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ:«أغْنُوهُمْ عَنِ الطَّوَافِ فِي هَذَا الْيَوْمِ»

(2)

.

(716)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نُعْطِيهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(717)

وَفِي رِوَايَةٍ: «أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ»

(4)

. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «أَمَّا أَنَا فَلا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ» .

(1)

البخاري (1503)، ومسلم (984).

(2)

«الكامل» لابن عدي (7/ 55)، والدارقطني (2133).

(3)

البخاري (1508)، ومسلم (985).

(4)

عند البخاري (1506)، ومسلم (985).

ص: 35

(718)

وَلأَبِي دَاوُدَ: «لا أُخْرِجُ أَبَدًا إِلاَّ صَاعًا»

(1)

.

(719)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ، وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في وجوب زكاة الفطر وفي مقدارها وفي بيان من تجب عليه، وفيما يجب إخراجها منه.

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

وجوب زكاة الفطر.

2 -

أن مقدارها صاع، وقوله:«فَرَضَ» فسر بقدَّر وأوجب.

3 -

وجوب إخراجها من خمسة الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد رضي الله عنه على قول بعض أهل العلم، وقيل: يجب إخراجها من قوت البلد.

4 -

وجوبها على كل مسلم ومسلمة حرًا أو عبدًا صغيرًا أو كبيرًا.

5 -

اشتراط الإسلام فيمن تجب عليه، لقوله:«مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .

6 -

شدة تمسك أبي سعيد رضي الله عنه بالسنة، وعدم التفاته إلى المخالفين، وذلك لما عدل الناس بالصاع نصف الصاع من البر الجيد، فقال رضي الله عنه قولته:«أَمَّا أَنَا فَلا أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ» . أما إخراج زكاة الفطر من هذه الأصناف الخمسة فلم يكن من تعيين النبي صلى الله عليه وسلم بل من عمل الناس، لأن هذه الخمسة هي الموجودة عندهم، فلذلك قال من قال من أهل العلم: إن هذه

(1)

أبو داود (1618).

(2)

أبو داود (1609)، وابن ماجه (1827)، والحاكم (1488).

ص: 36

الأصناف لا يتعين الإخراج منها، فيجوز الإخراج من غالب قوت البلد، ولو كانت الأصناف الخمسة موجودة، وهذا هو الراجح. وقال آخرون: لا يخرج من غيرها إلا مع عدمها، قال في المغني:«هو ظاهر المذهب»

(1)

.

7 -

أن إخراج زكاة الفطر نقودًا لا يجزئ.

8 -

الحكمة من زكاة الفطر، وهي أمران: طُهرة للمزكي، وطُعمة للمساكين.

9 -

وجوب إخراجها قبل صلاة العيد، والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين لفعل الصحابة رضي الله عنهم

(2)

.

10 -

أن إخراجها بعد صلاة العيد يصيرها صدقة عامة لا صدقة فطر، فيأثم من أخرها متعمدًا، ومن أخرها ناسيًا أو مخطئًا فيرجى أن تقبل صدقة فطر من أجل العذر.

* * * * *

(1)

«المغني» لابن قدامة (4/ 292).

(2)

كابن عمر رضي الله عنهما كما في البخاري (1511).

ص: 37

‌بَابُ صَدَقَةِ التَّطَوُعِ

التطوع هو النافلة، مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم للرجل لما قال في الزكاة: هل علي غيرها؟ قال: «لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ»

(1)

، فصدقة التطوع ما زاد على الفريضة، وتكون بالمال وبكل أنواع النفع، وتطلق الصدقة في لسان الشرع على كل نافلة من العبادات القولية والفعلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ سُلامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ؛ يَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ

»

(2)

الحديثَ.

وإضافة الصدقة إلى التطوع من إضافة الشيء إلى نوعه. ومن فضل الله على عباده أن شرع لهم أنواع النوافل زيادة في حسناتهم، وجبرًا لنقص ما فرض الله عليهم.

* * * * *

(720)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ

» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ:«وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(721)

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ

(4)

.

* * *

(1)

رواه البخاري (46)، ومسلم (11)؛ عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (2989)، ومسلم (1009)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

البخاري (1423)، ومسلم (1031).

(4)

ابن حبان (3310)، والحاكم (1517).

ص: 38

في الحديث الأول ذكر سبعة أصناف من الناس، اختص كل صنف بنوع من أنواع الطاعات التي تكون سببًا لإظلالهم يوم القيامة بظل الله، وهو الظل الذي يظل الله به عباده، ويقيهم به حر الشمس حين تدنو من رؤوس الخلائق، وإضافة الظل إلى الله من إضافة المخلوق إلى خالقه، لا من إضافة الصفة إلى الموصوف، فليس الحديث من أحاديث الصفات، بل من أحاديث أحوال القيامة، والسبعة هم -كما في الحديث-:«إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا؛ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» .

واقتصر المصنف على ما يناسب الباب.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

أن من الثواب المعجَّل في يوم القيامة أن يكون العبد في ظل الله.

2 -

فضل العدل في الرعية.

3 -

فضل الشاب الذي نشأ في عبادة الله على من كان صلاحه في الكبر؛ لأن الشاب سيكون أكثر عملًا من الكبير لو استويا في العمر، ولقوة دواعي المعصية في الشباب وضعفها حال الكبر.

4 -

فضل حب المساجد وتعلق القلب بها في جميع الأحوال؛ لأنها بيوت الله يذكر فيها اسم الله كثيرًا، ويسبح له فيها بالغدو والآصال.

5 -

فضل الحب في الله والثبات على ذلك في الاجتماع والافتراق.

6 -

فضل الخوف من الله، وأنه أعظم وازع عن اقتراف الفاحشة مع قيام دواعيها.

ص: 39

7 -

فضل إخفاء الصدقة، والمبالغة في ذلك، لما في ذلك من كمال الإخلاص، قال تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} [البقرة: 271]، سواء كانت الصدقة فريضة أو نافلة، إلا أن يكون المال ظاهرًا، فيستحب إظهار إخراج الزكاة حتى لا يتهم المسلم بأنه لا يزكي، وكذا إذا كان في إظهار الصدقة مصلحة كالتأسي به.

8 -

فضل الذكر في حال الغيبة عن الناس.

9 -

فضل الخوف من الله عند ذكره.

10 -

فضل البكاء من خشية الله.

11 -

أن هذه الأعمال السبعة سبب للوقاية من حر يوم القيامة، وذكر العدد لا مفهوم له، فالصوم والجهاد وبر الوالدين هي من أسباب إظلال الله للعبد يوم القيامة.

12 -

اشتراك الأصناف السبعة في جنس الجزاء المذكور «يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ» مع تنوع طاعاتهم، فإن منها المتعدي نفعه، ومنها القاصر.

13 -

أنه لا مفهوم للفظ الرجل في هذه الأصناف، فالمرأة كذلك تشركهم في هذا الفضل، إلا في اثنين منها، وهو قوله:«وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ» . وكذلك قوله: «إِمَامٌ عَادِلٌ» ؛ لأن المرأة لا تكون إمامًا للأمة.

وفي الحديث الثاني من الفوائد:

14 -

تفسير الظل في الحديث المتقدم.

15 -

فضل الصدقة.

16 -

تفاوت الناس في الظل بحسب تفاوتهم في الأعمال.

17 -

أن في هذا الحديث شاهدًا للصنف السادس في حديث السبعة المتقدم.

18 -

إثبات يوم القيامة.

ص: 40

19 -

الفصل فيه بين الناس، ولذا سمي يوم الفصل.

20 -

شدة حر يوم القيامة، وأنه لا يقي منه إلا ظل الله الذي يقي به من شاء من عباده؛ بسبب أعمالهم.

* * * * *

(722)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَيُّمَا مُسْلِمٍ كَسَا مُسْلِمًا ثَوْبًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ أَطْعَمَ مُسْلِمًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظمأٍ سَقَاهُ اللهُ مِنْ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِي إِسْنَادِهِ لِيْنٌ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

أن الجزاء من جنس العمل.

2 -

أن الصدقة ليست خاصة بالذهب والفضة، بل تكون كساءً وطعامًا وشرابًا.

3 -

زيادة فضل الصدقة بحسب حاجة المتصدق عليه.

4 -

أن في الجنة ثيابًا وطعامًا وشرابًا، وقد بيّن الله ذلك في كتابه بيانًا مفصّلًا، وذكر أنواعًا من ذلك.

5 -

أن ثياب أهل الجنة خضر، وقد جاء ذلك في القرآن في موضعين:{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان: 21]، {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف: 31]، ولون الخضرة في المتعة أفضل الألوان.

6 -

أن كلًّا من أنواع الصدقة المذكورة سبب لدخول الجنة.

7 -

أن هذا الثواب مشروط بإسلام المتصدِّق والمتصدَّق عليه، وشدة حاجته.

(1)

أبو داود (1682).

ص: 41

(723)

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

.

(724)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «جُهْدُ الْمُقِلِّ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ

(2)

.

* * *

في هذين الحديثين فوائد، منها:

1 -

فضل المعطي على المتصدَّق عليه، فإن اليد العليا: هي يد المتصدِّق المعطي، واليد السفلى: هي يد السائل المتصدَّق عليه، كما جاء في حديثٍ أن يد المعطي هي العليا، ويد السائل هي السفلى

(3)

، وعكس قوم من الصوفية فقالوا:«يد الآخذ هي العليا» ، ذكره الحافظ ابن حجر، ثم قال:«حكى ابن قتيبة ذلك عن قوم ثم قال: ما أرى هؤلاء إلا قومًا استطابوا السؤال فهم يحتجون للدناءة»

(4)

.

2 -

ذمُّ المسألة.

3 -

الترغيب في التعفف.

(1)

البخاري (1427)، ومسلم (1034).

(2)

أحمد (8702)، وأبو داود (1677)، وابن خزيمة (2444)، وابن حبان (3346)، والحاكم (1509).

(3)

رواه البخاري (1429)، ومسلم (1033)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر -وذكر الصدقة والتعفف والمسألة-:«الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، فَاليَدُ العُليَا المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى السَّائِلَةُ» .

(4)

«فتح الباري» (3/ 298). كتاب الزكاة، باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى.

ص: 42

4 -

أن من تجب نفقتهم من الأهل والعيال أحق بالصدقة من البعيد، والإنفاق عليهم أفضل من الصدقة على البعيد؛ لأن النفقة عليهم واجبة، والواجب أفضل من المستحب.

5 -

فضل الصدقة عن غنى وسعة، وأنها أفضل من الصدقة مع الفقر والحاجة؛ لأن النفس تكون أسمح في الغالب، ولا يعارض ذلك ما جاء في الحديث؛ «أَفضَلُ الصَّدَقةِ جُهدُ المُقِلِّ» ، فإن الصدقة مع قلة ذات اليد عن سماحة من الإيثار الذي أثنى الله به على الأنصار في قوله سبحانه:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وقد يقال: إن معنى «أَفْضَلُ» أي: من أفضل.

6 -

أن الجزاء من جنس العمل.

7 -

أن من يحمل نفسه على العفة يجعلها الله له سجية.

8 -

أن الذي يستغني بما يسره الله له يغنيه الله، ويجعل الغنى في قلبه، ويزيده من رزقه.

9 -

تفاضل العاملين في الدرجات، لقوله:«الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» .

10 -

تفاضل الأعمال، لقوله:«وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ» .

11 -

حرص الصحابة على العلم بأفضل الأعمال.

* * * * *

(725)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقُوا» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، عِنْدِي دِينَارٌ؟ قَالَ:«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ» قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ:«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى وَلَدِكَ» قَالَ:

ص: 43

عِنْدِي آخَرُ، قَالَ:«تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ» قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ:«أَنْتَ أَبْصَرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

الحث على الصدقة.

2 -

جواز إخبار الإنسان بما عنده من المال لغرض صحيح.

3 -

سؤال الإنسان عن كيفية التصرف الشرعي بماله.

4 -

أن نفقة الإنسان على نفسه ومن تلزمه نفقته صدقة إذا ابتغى بذلك وجه الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه:«وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا»

(2)

.

5 -

أن نفقة الإنسان على نفسه لحفظ حياته والتقوِّي على طاعة الله مقدمة على غيره.

6 -

تقديم الولد على الخادم في النفقة، والمراد بالخادم المملوك، فإن عجز السيد عن نفقة المملوك وجب عليه أن يعتقه أو يبيعه، وأما الزوجة فإنها مقدمة على الخادم، فإن النفقة عليها من قبيل المعاوضة، وهي وإن لم تذكر هنا، فهي مذكورة في سنن أبي داود في أصل الحديث، أي: حديث الباب؛ فيكون المذكورون في الحديث أربعة: النفس، والزوجة، والولد، والخادم، واختلف الرواة بتقديم المذكورين، فقدم بعضهم الزوجة على الولد، وقدم آخرون الولد على الزوجة.

(1)

أبو داود (1691)، والنسائي (2534)، وابن حبان (4235)، والحاكم (1514). جاء في جميع مصادر التخريج زيادة قوله:«قال: عندي آخر، قال: «تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ» ».

(2)

رواه البخاري (1295)، ومسلم (1628)؛ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

ص: 44

واختلف الفقهاء في ذلك؛ فذهب كثير من العلماء إلى تقديم الزوجة على الولد، وذهب آخرون إلى تقديم الولد على الزوجة؛ لأنه بَضعة من الإنسان، فهو كنفسه، وهذا كله إذا ضاق ما في يده، ومع السعة لا يحتاج إلى مراعاة هذا الترتيب.

7 -

أن ما زاد على النفقات الواجبة فله التصرف فيه بما شاء من إمساكه أو صرفه في مباح أو مستحب لقوله: «أَنْتَ أَبْصَرُ» .

* * * * *

(726)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا اكْتَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصلٌ في اشتراك المتعاونين على البر والنفقة في الأجر.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

جواز تصدق المرأة من طعام البيت بغير إذن زوجها إذا لم تعلم منه كراهة ذلك.

2 -

حصول الأجر لها في ذلك إذا صحت نيتها ولم تسرف فيما تتصدق به، لقوله:«غَيْرَ مُفْسِدَةٍ» ، والإفساد: إما بإعطاء الفقير فوق حاجته، أو ما يؤدي إلى حرمان من تجب نفقته على الزوج من أهل البيت.

3 -

حصول أجر هذه الصدقة لخازن الطعام إذا سمحت نفسه بما يخرجه، وكانت له نية صالحة.

4 -

حصول أجر هذه الصدقة لرب البيت بسبب اكتسابه لما تُصدِّق به.

(1)

البخاري (1425)، ومسلم (1024).

ص: 45

5 -

أن الثلاثة في الأجر سواء، كما هو ظاهر الحديث، وللعلماء تفصيل في ذلك.

6 -

الترغيب في الصدقة.

7 -

سعة فضل الله وكرمه.

8 -

فضل السماحة مع الأهل ومحبة فعل الخير، لذا قد يؤجر على ما لم ينوه نية خاصة.

9 -

سعادة الرجل بالمرأة الصالحة والخادم الصالح؛ فإنهما يعينانه على الخير.

* * * * *

(727)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتْ زَيْنَبُ امْرَأَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَ الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في صدقة المرأة على زوجها وأولادها.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

الحث على الصدقة.

2 -

حرص نساء الصحابة على العلم.

3 -

فضيلة زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنهما، وذلك بسؤالها عن أمر دينها، ورغبتها في الصدقة، وحسن سؤالها النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

البخاري (1462).

ص: 46

4 -

جواز تولِّي المرأة السؤال بنفسها.

5 -

التثبت فيما أشكل من فتوى بعض العلماء بسؤال الأعلم.

6 -

جواز ذكر من شُكَّ في فتواه عند المفتي الأعلم.

7 -

أن صدقة المرأة على زوجها وولدها أفضل من الصدقة على البعيد، وهذا في صدقة التطوع لا خلاف فيه، وأما الزكاة والصدقة الواجبة؛ فقيل: لا يجوز صرفها في الزوج والأولاد، وقيل: يجوز، وهو أظهر؛ لأنه لا تجب عليها النفقة لزوجها وولدها.

8 -

فضل ابن مسعود رضي الله عنه بصحة فتواه وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم له.

9 -

تصديق العالم لمن سبقه في الفتوى.

10 -

التصريح بالحكم في حكم المسألة، ولو تقدم ما يدل عليه، حيث قال صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ» ، ثم فصّل.

11 -

تصرف المرأة في مالها دون إذن زوجها.

* * * * *

(728)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(729)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(730)

وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِي بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوهُ أَوْ مَنَعُوهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(3)

.

(1)

البخاري (1474)، ومسلم (1040).

(2)

مسلم (1041).

(3)

البخاري (1471).

ص: 47

(731)

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَسْأَلَةُ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلاَّ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لا بُدَّ مِنْهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في ذمِّ سؤال الناس أموالَهم وما يُرَّخص فيه.

وفيها فوائد، منها:

1 -

تحريم سؤال الناس أموالهم من غير ضرورة.

2 -

أن من عقوبة اتخاذ سؤال الناس حرفة أن يأتي من هذا حاله يوم القيامة ووجهه عارٍ عن اللحم، وفي هذا فضيحة له.

3 -

أن من قبح المسألة أنها تذهب بماء الوجه، وتورث قلة الحياء.

4 -

الترهيب من سؤال الناس تكثُّرًا، أي: رغبة في كثرة المال، فهو من الكبائر.

5 -

أن المال المكتسب بالسؤال المحرم حرام وسبب للعذاب بالنار، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا» .

6 -

أن العقاب بقدر العمل: {وَمَنْ جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُون (160)} [الأنعام: 160].

7 -

الإرشاد إلى العمل باكتساب المال الحلال، والاستغناء عن سؤال الناس.

8 -

أن الاحتطاب من وجوه الكسب الطيب.

9 -

أن ما ينبت في الأرض الموات من الحطب وغيره مباح يملكه آخذه، ولو ليبيعه.

(1)

الترمذي (681).

ص: 48

10 -

أن الاكتساب بالاحتطاب ونحوه من أفضل المكاسب.

11 -

أنه لا غضاضة على الرجل أن يحمل على ظهره إذا احتاج إلى ذلك، وحمل الإنسان متاعه على رأسه أو ظهره من أسباب التواضع.

12 -

أن مشقة المسألة تقع على الوجه؛ لأنه أداتها.

13 -

أنه لا مذمة ولا مذلة في سؤال السلطان؛ لأنه لا يُسأل مالَه، وإنما يُسأل ما اؤتمن عليه من مال المسلمين.

14 -

جواز السؤال فيما لا بد منه وهو حال الضرورة، كما سيأتي في حديث قبيصة رضي الله عنه.

* * * * *

ص: 49

‌بَابُ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ

المراد بالصدقات الزكاة، قال تعالى:{* إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم (60)} [التوبة: 60].

واتفق المفسرون على أن المراد بالصدقات الزكاة، وقد تضمنت الآية أن أهل الزكاة ثمانية أصناف؛ وهم كما في الآية السابقة.

وقد أفادت الآية حصر الزكاة في هذه الأصناف، وقد ذُكر الأربعة الأول بحرف (اللام) المفيدة للتمليك، فمن أعطي منهم شيئًا ملكه، والأربعة الأخيرة بحرف (في) للدلالة على أن المراد الجهة، وفائدة ذلك الدلالة على أن ما زاد عن المقصود يرد على المتصدق، أو يصرف في نفس الغرض الذي أخذ من أجله. والله أعلم.

* * * * *

(732)

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلاَّ لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأُعِلَّ بِالإِرْسَالِ

(1)

.

* * *

(1)

أحمد (11538)، وأبو داود (1636)، وابن ماجه (1841)، والحاكم (1481). وممن رجَّح إرساله أبو حاتم وأبو زرعة. ينظر:«العلل» لابن أبي حاتم (642).

ص: 50

هذا الحديث مما يفسر الآية، فقد ذكر في هذا الحديث ثلاثة أصناف من الثمانية وهو يدل على أن الفقراء والمساكين هم الأصل من مصارف الزكاة، وأن صرفها لغير ذوي الحاجة مستثنى من الأصل، ومما يؤكد هذا أن الله بدأ بذكر الفقراء، وثنَّى بالمساكين، والمراد بالغني في الحديث: من يجد كفايته بنفسه أو بمن تجب عليه نفقته ولو لم يكن عنده مال تجب فيه الزكاة.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم الزكاة على الغني.

2 -

جواز أخذ الزكاة مع الغنى في مقابل العمل عليها.

3 -

جواز صرف الزكاة للغارم لإصلاح ذات البين وإن كان غنيًّا قادرًا على وفاء ما تحمله، وكذا الغارم لنفسه وإن كان غنيًّا، لكن لا يقدر على وفاء دينه، فيُعطى هذا وهذا ما يوفي دينه من الزكاة.

4 -

جواز صرف الزكاة للغزاة في سبيل الله، ولو كان لهم مال يستطيعون به الغزو.

5 -

جواز أن يشتري الغني الزكاة من الفقير، إلا أن يكون هو الذي أعطاها.

6 -

جواز قبول الغني هدية الفقير من الزكاة.

7 -

الفرق بين الغنى في هذا الحديث وحديث: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِم»

(1)

، فالأول حصول الكفاية، والثاني ملك النصاب، وبهذا يعلم أن الغِنى نوعان؛ نوع يوجب تحريم أخذ الزكاة إلا من استثني في الحديث وهو حصول الكفاية، والثاني يوجب إخراج الزكاة وهو ملك النصاب بشرطه، والثاني من معنيي الغنى لا يستلزم الأول، أي: وجوب الزكاة لا يستلزم حصول الكفاية، وعليه؛ فقد يحل أخذ الزكاة لمن تجب عليه الزكاة في النصاب الذي

(1)

البخاري (1395)، ومسلم (19)، وتقدم (685).

ص: 51

عنده؛ لعدم حصول الكفاية به، مثل رجل له مزرعة لا تقوم غلتها بكفايته وتجب عليه زكاة ما بلغ النصاب منها.

8 -

منزلة الجهاد في سبيل الله من الدين.

9 -

التنبيه على الإخلاص في الجهاد، لقوله:«أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ» .

* * * * *

(733)

وَعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ؛ أَنَّ رَجُلَيْنِ حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلانِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ:«إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَقَوَّاهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في إعطاء السائل الزكاة وإن كان ظاهره القدرة على العمل بعد إعلامه أنها لا تحل للقادر المكتسب.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

جواز إعطاء السائل من الزكاة إذا كان ظاهره الفقر.

2 -

التثبت من حال السائل بالنظر إلى مظهره.

3 -

أن من ظاهره الغنى لا يُعطى من الزكاة إلا أن يتحقق من حقيقة حاله.

4 -

أن من سأل الزكاة، وظاهره القدرة على العمل، فلا يُعطى إلا بعد أن يبين له أنها لا تحل للقوي المكتسب.

5 -

أن القوي إذا لم يجد عملًا فإنه يعطى إن كان فقيرًا.

6 -

أن الزكاة لا تحل للغني الذي عنده ما يكفيه.

(1)

أحمد (17972)، وأبو داود (1633)، والنسائي (2597).

ص: 52

7 -

أنها لا تحل للقوي المكتسب.

8 -

قبول قول السائل أنه فقير، لقوله:«إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا» ، وأما من ادعى أنه من أهل الزكاة غيرِ الفقراء والمساكين، فلا يُعطى إلا ببينة.

* * * * *

(734)

وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلالِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَومِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

هذا الحديث بيانٌ فصلٌ في تحريم المسألة، ومن تحل له.

وفيه فوائد، منها:

1 -

جواز توجيه الخطاب في العلم لمعيَّن لمقتضٍ للتخصيص.

2 -

أن الأصل في حكم سؤال الناس من أموالهم التحريم.

3 -

أن من تحمّل حمالة لإصلاح ذات البين فصار غارمًا؛ حلت له المسألة في حمالته.

4 -

أن من أصابته جائحة ذهبت بماله؛ حلَّت له المسألة حتى يصيب ما يسد ضرورته.

(1)

مسلم (1044)، وأبو داود (1640)، وابن خزيمة (2361)، وابن حبان (3291).

ص: 53

5 -

أن من أصابته فاقة أي: فقرٌ شديدٌ، وكان معروفًا بالغنى، فإنها لا تحل له المسألة إلا ببينة.

6 -

أن بينة الإعسار ثلاثة عدول من العارفين بحاله.

7 -

اعتبار التصريح بطروء الفاقة عليه.

8 -

أن هذا الحديث مفسر لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة رضي الله عنه: «أَوْ فِي أَمْرٍ لا بُدَّ مِنْهُ»

(1)

.

9 -

أن من ادعى الفقر ولم يعرف غناه قبل ذلك فإنه لا يُسأل البينة على دعواه، كما تقدم في حديث الرجلين الجلدين

(2)

.

10 -

التغليظ في تحريم الكسب بطريق المسألة بتسميته سحتًا.

11 -

تأكيد الحصر المتقدم لحل الزكاة في الأصناف الثلاثة.

12 -

أن المال الحرام لا بركة فيه.

13 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم باستعمال الحصر والإجمال ثم التفصيل.

* * * * *

(735)

وَعَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ؛ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» . وَفِي رِوَايةٍ: «وَإِنَّهَا لا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلا لآلِ مُحَمَّدٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(736)

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(4)

.

(1)

تقدم (731).

(2)

تقدم (733).

(3)

مسلم (1072).

(4)

البخاري (3140).

ص: 54

(737)

وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالَ لأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي، فَإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهَا، قَالَ: حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ. فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:«مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا لا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث الثلاثة هي الأصل في تحريم الصدقة على محمد صلى الله عليه وسلم وآل محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بآل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المقام: بنو هاشم.

وفي هذه الأحاديث الثلاثة فوائد، منها:

1 -

أن لفظ: (لا ينبغي) في الشرع للمحرم، وإن كان في عبارة بعض العلماء لما يحتمل التحريم، ومعناه في باب صفات الله وفي الكونيات للمستحيل، كقوله تعالى:{وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} [مريم: 92]، وقوله تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِين (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ} [الشعراء: 210، 211].

2 -

تحريم الصدقة على آل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو داخل فيهم، وقد جاء التصريح به في الرواية الأخرى.

3 -

الحكمة من تحريم الصدقة على الرسول صلى الله عليه وسلم وآله.

4 -

تسمية الصدقة «أَوْسَاخَ النَّاسِ» .

5 -

الترغيب في التنزه عنها، وسميت أوساخ الناس لأنهم يتطهرون بها من الذنوب، فتشبه الماء المستعمل في الطهارة من الحدث.

6 -

فضل بني المطلب بن عبد مناف على أبناء عمومتهم من قريش.

7 -

تحريم الصدقة على بني المطلب من قريش، واستحقاقهم من الخمس.

(1)

أحمد (27182)، وأبو داود (1650)، والترمذي (657)، والنسائي (2611)، وابن خزيمة (2344)، وابن حبان (3293).

ص: 55

8 -

أن سبب هذا الفضل مناصرتهم لبني هاشم يوم تعاهدت قريش على مقاطعة بني هاشم من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، وكتبوا في ذلك وثيقة القطيعة الباطلة شرعًا وعقلًا وعرفًا، وعلقوها في الكعبة سنة، فقيض الله الأرضة فأكلتها، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبر عمّه أبا طالب، ولم يكن أحدٌ من الناس اطلع على ذلك، فكان هذا علمًا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. فكان بنو المطلب مع بني هاشم في شعبهم حين حُصروا بسبب هذه المقاطعة، يدل لذلك ما جاء في السيرة عند الإمام أحمد وأبي داود والنسائي من قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ»

(1)

.

9 -

أن لبني المطلب نصيبًا من خمس الغنيمة من سهم ذوي القربى بسبب ذلك الوفاء.

10 -

أن بني نوفل ومنهم جبير بن مطعم وبني عبد شمس ومنهم عثمان رضي الله عنه، يلتقون جميعًا مع بني هاشم وبني المطلب في عبد مناف الجد الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم.

11 -

أن الأصل في المراد بذي القربى المذكورين في آية الخمس وآية الفيء هم بنو هاشم، وألحقت بهم السنة بني المطلب لما تقدم، دون سائر قريش.

12 -

تحريم الصدقة على موالي بني هاشم.

13 -

فضيلة أبي رافع رضي الله عنه من حيث كونه مولى للرسول صلى الله عليه وسلم، واحترازه من الحرام، واستثباته من النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم العمالة في الزكاة.

14 -

أن العتيق يتبع مواليه في الأحكام المتعلقة بالنسب لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» .

(1)

أحمد (16741)، وأبو داود (2980)، والنسائي (4148)، وأصل الحديث في البخاري (3140)؛ وهو المذكور قريبًا في أحاديث الباب برقم (737).

ص: 56

15 -

حسن خلقه وحسن تعليمه صلى الله عليه وسلم بذكر الحكم مع علته.

16 -

أنه إذا فهم الحكم بذكر الدليل لم يحتج إلى النص عليه، لقوله:«مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا لا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» فهذا هو الدليل، والحكم:«وَإِنَّا لا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» ، وهناك مقدمة محذوفة للعلم بها، أي: وأنت مولانا.

* * * * *

(738)

وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي عُمَرَ الْعَطَاءَ، فَيَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي، فَيَقُولُ:«خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ، أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في قبول العطاء من بيت المال.

وفيه فوائد، منها:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم هو القاسم لمال بيت المال، قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي»

(2)

.

2 -

فضل عمر رضي الله عنه بما أعطاه الله من الزهد والقناعة والإيثار.

3 -

أن عمر رضي الله عنه كان في بعض الأوقات فقيرًا.

4 -

كراهة السؤال من بيت المال، والتشوف للعطاء.

5 -

أن ما خلا عن ذلك فلا كراهة فيه، ما لم يكن محاباة، أو لغرض فاسد، كما قال أبو ذر في العطاء:«خُذْهُ فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً، فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ»

(3)

.

(1)

مسلم (1045).

(2)

رواه البخاري (71).

(3)

رواه مسلم (992).

ص: 57

6 -

أن ما يعطاه الإنسان من بيت المال يخير فيه بين تموله والتصدق به.

7 -

أن ما لا يحصل إلا بسؤال أو بإشراف نفس فينبغي الإعراض عنه.

8 -

جواز العمل على الصدقة لجبايتها وقسمها، وأخذ الأجرة منها. كما يدل لذلك سبب الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عمر رضي الله عنه على الصدقة، فأعطاه عمالته.

9 -

أن قوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ

» إلخ، عامٌّ فيما يعطاه الإنسان من بيت المال؛ فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

* * * * *

ص: 58

‌كِتَابُ الصِّيَامِ

ص: 59

(739)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، قَصَد الاحتياط لرمضان أم لم يقصد، والأصل في النهي التحريم.

2 -

جواز ذلك إن كان عادة.

3 -

أنه لا يجوز الاحتياط لرمضان بالصوم قبل ثبوته برؤيةٍ أو إكمال الشهر.

4 -

أنه لا يجوز صوم يوم الشك.

5 -

جواز الصيام بعد النصف من شعبان، إلا ما كان مظنة الاحتياط كاليوم واليومين، وأما حديث:«إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا»

(2)

فقد أنكره الأئمة

(3)

.

6 -

وجوب التقيُّد في العبادة بالشرع.

7 -

أن العبادة التي لم يُؤمر بها بدعة، وذلك أن الصوم عبادة غير مأمور بها هنا فكيف إذا جاء النهي عنها؟!

8 -

أن العبادة المستحبة إذا تطرق إليها احتمال البدعة فينبغي تركها.

9 -

الوقوف فيما شرع الله عند حدوده، وجه ذلك: أن الذي يصوم احتياطًا لم يقف عند حدود ما فرض الله، وذلك أن الله لم يفرض على عباده إلا صيام شهر رمضان، فمن تقدمه بصوم غير معتاد فكأنما زاد على ما فرض الله. والله أعلم.

(1)

البخاري (1914)، ومسلم (1082).

(2)

رواه أحمد (9707)، وأبو داود (2337)، والترمذي (738)، وابن ماجه (1651). وسيأتي في (باب صوم التطوع وما نهي عنه)(785).

(3)

كأحمد وابن معين وابن مهدي رحمهم الله. «نصب الراية» (2/ 441).

ص: 61

(740)

وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم» . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

اليوم الذي يشك فيه؛ هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم يُرَ الهلال، قال بعضهم: لا يكون هذا اليوم مشكوكًا فيه إلا إذا كان هناك غيم أو قتر، أما إذا لم يكن غيم ولا قتر فلا يكون يوم شك، والصحيح أنه يوم شك، حتى ولو لم يكن فيه غيم ونحوه؛ لأنه قد تقصر الأبصار عن رؤية الهلال لضعفه، أو لضعف الأبصار، فيُنهى عن صيامه مطلقًا.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

أن صيام يوم الشك معصية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما إذا لم يوافق عادة للحديث المتقدم

(2)

«إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا، فَلْيَصُمْهُ» .

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الشك، لأن عمارًا لم يرو الصيغة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقل المعنى.

3 -

ذكر الرسول بكنيته صلى الله عليه وسلم.

4 -

الدليل على جواز الرواية بالمعنى.

5 -

أن الدين ليس بالرأي، فإن في بادئ الرأي أن الاحتياط لرمضان بصوم يوم الشك أكمل.

6 -

أن اليقين لا يرتفع بالشك.

(1)

البخاري (3/ 27)،، وأبو داود (2334)، والترمذي (686)، والنسائي (2187)، وابن ماجه (1645)، وابن خزيمة (1914)، وابن حبان (3585). ولم أجده في مسند أحمد.

(2)

في أول (كتاب الصيام)(740).

ص: 62

(741)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(742)

وَلِمُسْلِمٍ: «فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلاثِينَ»

(2)

.

(743)

وللبخاري: «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلاثِينَ»

(3)

.

(744)

وَلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ»

(4)

.

* * *

في الحديثين فوائد، منها:

1 -

وجوب صوم رمضان برؤية هلاله، ووجوب الفطر من رمضان برؤية هلال شوال.

2 -

وجوب إكمال شهر شعبان ثلاثين، وإكمال شهر رمضان ثلاثين إذا لم يُر الهلال، ثم الصيام أو الفطر.

3 -

أنه لا يجوز الاعتماد في الصوم والفطر على الحساب.

4 -

أنه يجزئ في الرؤية شهادة عدل؛ للإطلاق في قوله: «لِرُؤْيَتِهِ»

(5)

، وللإجماع أنه لا تشترط رؤية الجميع. أما في الصوم فقد ثبت بالنص الاكتفاء بواحد كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما والأعرابي الآتيين، وفي الفطر فتعتبر فيه شهادة اثنين بالإجماع.

5 -

أن يوم الغيم يوم شك لا يجوز صومه.

6 -

الرد على من أوجب صوم يوم الشك.

(1)

البخاري (1900)، ومسلم (1080).

(2)

مسلم (1080).

(3)

البخاري (1907).

(4)

البخاري (1909).

(5)

هذا اللفظ هو في حديث أبي هريرة رضي الله عنه حديث الباب.

ص: 63

7 -

أن التقدير للشهر بإكماله ثلاثين لا بالتضييق عليه ونقصه؛ كما صرحت به الروايات.

8 -

أن الشهر يكون ثلاثين، وإن كان الغالب في الشهور النقص لقوله صلى الله عليه وسلم:«الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ»

(1)

.

9 -

استصحاب الأصل حتى يثبت رفعه، فالأصل بقاء ما كان على ما كان.

* * * * *

(745)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ

(2)

.

(746)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْهِلالَ، فَقَالَ:«أَتَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلالُ؛ أَنْ يَصُومُوا غَدًا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ

(3)

. وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ

(4)

.

* * *

تراءى الناس: اجتهدوا في رؤية الهلال، وقد يرونه وقد لا يرونه، ومثله حديث:«إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ»

(5)

.

(1)

هو جزء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم.

(2)

أبو داود (2342)، وابن حبان (3447)، والحاكم (1541).

(3)

أبو داود (2340)، والترمذي (691)، والنسائي (2111)، وابن ماجه (1652)، وابن خزيمة (1923)، وابن حبان (3446). ولم أجده في «مسند أحمد» .

(4)

رواه النسائي مرسلًا (2113).

(5)

رواه البخاري (3256)، ومسلم (2831)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 64

وفي الحديثين فوائد، منها:

1 -

مشروعية ترائي هلال رمضان، وكذلك هلال كل شهر يتعلق به حكم، كشوال وذي الحجة.

2 -

وجوب ترائي هلال هذه الأشهر؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

3 -

أنه يكفي في بينة شهر رمضان شهادةُ عدل، قال بعض العلماء: ولو كان امرأة.

4 -

أن على من رأى الهلال أن يبلغ الإمام؛ ليأمر الناس بالصوم أو الفطر.

5 -

أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن حال الأعرابي.

6 -

قبول شهادة الأعرابي.

7 -

اشتراط الإسلام في الشهادة على رؤية الهلال.

8 -

أنه إذا ثبتت البينة في أثناء النهار برؤية الهلال في الليلة السابقة وجب الصوم، وإن حصل أكل أو شرب أول النهار، وذهب جمهور العلماء إلى وجوب قضاء هذا اليوم، وذهب جماعة إلى عدم الوجوب، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

، والأظهر والأحوط ما ذهب إليه الجمهور.

9 -

أن الشهر يدخل بالليلة الأولى والصوم من الغد.

10 -

أن الدخول في الإسلام يكون بالشهادتين.

11 -

أنه يكفي في الشهادة الإخبار دون لفظ (أشهد) إلا في اللعان، قال تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6]. وقال سبحانه: {وَيَدْرَأ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِين (8)} [النور: 8].

12 -

الأمر بإعلان الشهر لقوله: «فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ يَا بِلالُ» .

(1)

«الفتاوى الكبرى» (2/ 460).

ص: 65

(747)

وَعَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلا صِيَامَ لَهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَمَالَ النَّسائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ

(1)

، وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا ابْنُ خُزَيمَةَ وَابْنُ حِبَّان

(2)

.

(748)

وللدَّارَقُطْنِيِّ: «لا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنَ اللَّيْلِ»

(3)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

اشتراط النية في الصيام، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(4)

.

2 -

اشتراط أن تكون نية الصيام من الليل، أي: في الليل، فلا يصح بنية من النهار لهذا الحديث:«مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلا صِيَامَ لَهُ» وخُصَّ منه صوم التطوع في الجملة.

3 -

أنه يكفي في ذلك النيةُ في آخر جزءٍ من الليل، لقوله:«قَبْلَ الْفَجْرِ» .

4 -

أنه إذا طلع الفجر قبل نية الصيام لم يصح الصوم.

5 -

أن الليل كله وقت للبيتوتة، فلذلك قال:«مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ»

(5)

أي: ينويه في وقت البيات، وهو الليل.

6 -

أن النفي يأتي لنفي الحقيقة، أي: لنفي وجود الشيء.

(1)

أحمد (26457)، وأبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (2330)، وابن ماجه (1700).

(2)

ابن خزيمة (1933)، وابن حبان في «المجروحين» (2/ 46).

(3)

الدارقطني (2215).

(4)

رواه البخاري -وهو أول حديث فيه-، ومسلم (1907)؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(5)

هي رواية للنسائي (2333).

ص: 66

7 -

أن العزم على الشيء كالإيجاب، فلذلك عُبِّر عنه بالفرض. والله أعلم.

* * * * *

(749)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» قُلْنَا: لا، قَالَ:«فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ» ، ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ:«أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» ، فَأَكَلَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

صحة صوم التطوع بنية من النهار، وخُصِّص بهذا الحديث حديثُ حفصة المتقدم، وعارض بعضهم في هذا الاستدلال، فقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم إخبار بأنه كان صائمًا من أول النهار. وجمهور العلماء على الأول.

2 -

أنه يجوز للمتطوع بالصوم أن يفطر، لقوله:«فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فَأَكَلَ، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم:«الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ»

(2)

.

3 -

فضل الله على عباده بالتوسعة عليهم في التطوع ليستكثروا من أسباب الأجر.

4 -

جواز أن يسأل الرجلُ أهلَه الطعام.

5 -

جواز أن يقولوا إذا لم يكن عندهم شيء: لا شيء عندنا.

6 -

التوسعة على الأهل في طلب الطعام بالاستفهام دون الأمر، وذلك فيما إذا لم يكن يعلم بوجود الطعام.

(1)

مسلم (1154).

(2)

رواه أحمد (26893)، وأبو داود (2456)، والترمذي (732)، والنسائي في «الكبرى» (3288)، وصحح إسناده الحاكم (1601).

ص: 67

7 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم في الطعام؛ أن لا يرد موجودًا، ولا يطلب مفقودًا.

8 -

طلب النظر إلى الطعام؛ لاختيار الأكل أو الترك.

9 -

جواز الهدية.

10 -

جواز أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته منها.

* * * * *

(750)

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(751)

وللترمذي: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قَالَ اللهُ عز وجل: أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا»

(2)

.

* * *

في الحديثين فوائد، منها:

1 -

استحباب تعجيل الفطر للصائم بعد التحقق من غروب الشمس.

2 -

أن تعجيل الفطر عنوان على بقاء الخير في هذه الأمة.

3 -

أن عدم تعجيل الفطر دليل على نقص الخير في الناس، والمراد بالخير الصلاح في الدين.

4 -

الحث على تعجيل الفطر والترغيب فيه.

5 -

إثبات صفة المحبة لله تعالى، والرد على من أنكرها من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة.

6 -

تفاضل الناس في حظهم من محبة الله.

7 -

تفاضل الناس في العمل بالسنة.

(1)

البخاري (1957)، ومسلم (1098).

(2)

الترمذي (700).

ص: 68

(752)

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

السُّحور: الراجح أنه بالضم -ضم السين- والمراد الفعل أي: فعل الأكل.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

الأمر بالسحور، والأصل في الأمر الوجوب.

2 -

الترغيب في السحور.

3 -

أن السحور سبب لخير كثير، فمن ذلك:

أ. حفظ قوة البدن.

ب. الإعانة على الصوم.

ج. الأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم.

د. مخالفة أهل الكتاب.

4 -

إثبات حكمة التشريع، وتعليل الأحكام.

5 -

اعتبار النية في ترتب الثواب العاجل والآجل على السحور.

* * * * *

(753)

وَعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ الضَّبِّيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ، فَإِنَّهُ طَهُورٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، والحَاكِمُ

(2)

.

(1)

البخاري (1923)، ومسلم (1095).

(2)

أحمد (16226)، وأبو داود (2355)، والترمذي (658)، والنسائي في «الكبرى» (3302)، وابن ماجه (1699)، وابن خزيمة (2067)، وابن حبان (3514)، والحاكم (1576).

ص: 69

في الحديث فوائد، منها:

1 -

أن السنة أن يفطر الصائم على تمر، فإن لم يجد فعلى ماء.

2 -

فضل التمر على غيره من الأطعمة والثمار.

3 -

فيه شاهد لحديث: «مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ»

(1)

، فمن لم يجد العجوة أجزأه أي تمر.

4 -

فضل الماء على سائر الأشربة، فإنه يُروي ويُنقي. كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّهُ طَهُورٌ» .

5 -

أن السنة للصائم أن يفطر بما تيسر له من الطعام أو الشراب، ولا يكتفي بمجرد نية الإفطار.

6 -

فيه شاهد لما يسمى بالإعجاز العلمي، حيث من المقرر عند الأطباء أن الأولى للصائم أن يبدأ بتناول ما هو حلو من السكريات.

* * * * *

(754)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تُوَاصِلُ؟ قَالَ: «وَأَيُّكُمْ مِثْلِي؟ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلالَ، فَقَالَ:«لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلالُ لَزِدْتُّكُمْ» . كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

المراد بالوصال: وصل اليومين فأكثر دون إفطار.

(1)

رواه البخاري (5769)، ومسلم (2047).

(2)

البخاري (1965)، ومسلم (1103).

ص: 70

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

النهي عن الوصال في الصيام.

2 -

أن النهي للكراهة لا للتحريم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم واصل بهم.

3 -

بيان الحكمة من النهي عن الوصال؛ وهو رفع ما فيه من الحرج والمشقة.

4 -

أن من مقاصد الشريعة التيسير كما قال تعالى في آيات الصيام: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

5 -

أن الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة لأمته في أفعاله، لقولهم:«فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ» أي نحن نأتسي بك.

6 -

التعليم بالفعل وبيان حكمة التشريع.

7 -

بيان الفارق بينه صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه في حكم الوصال؛ وهو أنه صلى الله عليه وسلم يعان عليه بما يفتح الله عليه من المعارف الإلهية والمعاني الإيمانية التي يقوى به قلبه ونفسه وبدنه فتقوم مقام الطعام والشراب الحسيين.

8 -

أن هذه الأحوال من آثار قربه صلى الله عليه وسلم من ربه.

9 -

حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير.

10 -

أن الخير في موافقة الأمر.

11 -

أن العبادة مبناها على الاتباع.

12 -

أن الفرح والسرور تقوى بهما النفس، وتستغني بهما عن الطعام والشراب بعض الوقت، وأكمل ذلك الفرح والسرور بمناجاة الله، ولنبينا صلى الله عليه وسلم أكمل ذلك وأفضله.

ص: 71

13 -

التعبير عن الشيء بما يقوم مقامه، ويُستغنى به عنه لقوله:«يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» ، فالإطعام والسقي المذكوران في الحديث ليس المراد منهما الطعام والشراب الحسيين المعهودين كما في قول إبراهيم عليه السلام:{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين (79)} [الشعراء: 79]، وقد يقال: إن قول إبراهيم يعم النوعين. والله أعلم.

14 -

جواز الوصال الذي لا حرج فيه، كالوصال إلى السحر، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فَأَيُّكُمْ أَرَادَ أَنْ يُوَاصِلَ فَلْيُوَاصِلْ حَتَّى السَّحَرِ»

(1)

.

15 -

أن التعزيرات على المخالفات في الشرع لا تتعين بنوع من العقوبات، ووجه ذلك؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم عاقب من أصر على طلب الوصال بأن واصل بهم أيامًا؛ ليذوقوا ما في الوصال من العنت، كما يشهد لذلك قول الراوي:«كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ» ، وقد يقال: إن هذا تعليم لا تعزير. والله أعلم.

16 -

جواز قول «لَوْ» في الإخبار عن ترتب المسبَّب الذي من فعل العبد على سببه، وأما (لو) التي جاء النهي عنها فهي الإخبار عن ترتب المسبَّب الذي ليس من فعل العبد على فعله فإن ذلك يتضمن التحسر والرجم بالغيب بخلاف ما يعلم العبد فيه ترتب المسبَّب على سببه مثل قوله:«لو أطاعوا الله ما عاقبهم» ، فإنه إخبار صحيح.

17 -

اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأحكام؛ كجواز الوصال.

18 -

بيان سبب هذا الاختصاص، وهو ما يعوضه الله به عن الطعام والشراب.

* * * * *

(1)

رواه البخاري (1967)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 72

(755)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ

(1)

.

* * *

الحاجة: الإرادة.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

أن تحريم المحرمات على الصائم آكد من تحريم المفطرات، فاجتنابها عليه أوجب من اجتناب المفطرات.

2 -

أن الصائم إذا لم يدع ما حرم الله من الزور القولي والعملي فقد يبطل صيامه، أو يُحرم ثوابه، أو ينقص.

3 -

أن الله إنما يريد من العبد الصيام عن الطعام والشراب مع الصيام عمَّا حرم من الزور قولًا وفعلًا.

4 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(2)

، فإن من صام على هذا الوجه لا بد أن يجتنب المحرمات في جميع الأوقات.

5 -

في الحديث شبهة لابن حزم في بطلان الصيام بالمعاصي

(3)

.

6 -

فيه التعبير عن الإرادة بالحاجة، فهو من التعبير بالمُسبَّب عن السَّبب، فهي من قبيل المجاز المرسل.

(1)

البخاري (1903)، وأبو داود (2362).

(2)

رواه البخاري (38)، ومسلم (760)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

«المحلى» (6/ 177).

ص: 73

7 -

إثبات الحكمة في مشروعية الصوم، وهي تحقيق التقوى، ففيه شاهد لقوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (183)} [البقرة: 183].

8 -

تعليل الأحكام الشرعية. والله أعلم.

* * * * *

(756)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لمُسْلِمٍ.

(757)

وزَادَ في رِوَايَةٍ: «فِي رَمَضَانَ»

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

أن مقدمة الجماع كالتقبيل والمباشرة لا تحرم على الصائم، وإنما يحرم الجماع، وهذا بخلاف الإحرام؛ فإنه يحرم فيه الوطء ومقدماته، وهذا مع الأمن من غلبة الشهوة المفضية إلى ما يفسد الصوم، أو مبالغة في المباشرة والتقبيل تفضي إلى الإنزال، كما نبهت إلى ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها:«وَلَكِنَّهُ كَانَ أَمْلَكَكُمْ لإِرْبِهِ» .

2 -

أن من علم أنه لا يملك شهوته حَرُمت عليه المباشرة والتقبيل، فإن ذلك من الرفث الذي أحله الله ليلة الصيام إلى تبيّن الفجر، فوجب الإمساك عنه إلى الليل، ولكن دلّت السنة على جوازه بشرطه المتقدم.

3 -

أن المذي لا يفسد الصوم، لأنه ينشأ عن المباشرة والتقبيل غالبًا ولا يحصل به قضاء الشهوة بخلاف الإنزال. ومن العلماء من قال: إن المذي الناشئ عن المباشرة أو التقبيل يفسد الصوم، والصحيح الأول.

(1)

البخاري (1927)، ومسلم (1106).

ص: 74

4 -

ثبوت خصائص البشرية للنبي صلى الله عليه وسلم التي منها الاستمتاع بالنساء.

5 -

كمال مِلْكه صلى الله عليه وسلم للدواعي البشرية؛ كالشهوة والغضب فلا تغلبه، بخلاف غيره صلى الله عليه وسلم.

6 -

التيسير على الصائم بهذه الرخصة، فيدخل في قوله تعالى -في آيات الصيام -:{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

7 -

فضيلة عائشة رضي الله عنها بنقلها الأحكام من هدي النبي صلى الله عليه وسلم حتى فيما يُستحيا من ذكره، لتعلقه بها.

* * * * *

(758)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(759)

وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ:«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . رواه الخمسة إلا التِّرْمِذِيَّ، وصحَّحَهُ أحمَدُ، وابْنُ خُزيمَةَ، وابْنُ حِبَّانَ

(2)

.

(760)

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ مَا كُرِهَت الْحِجَامَةُ لِلصَّائِمِ؛ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَفْطَرَ هَذَانِ» ، ثُمَّ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ فِي الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ، وَكَانَ أَنَسٌ يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ وَقَوَّاه

(3)

.

* * *

(1)

البخاري (1938).

(2)

أحمد (17112)، وأبو داود (2369)، والنسائي في «الكبرى» (3126)، وابن ماجه (1681)، وابن حبان (3533)، وابن خزيمة (1962، 1963، 1964)؛ من حديث ثوبان ورافع بن خديج رضي الله عنهما.

(3)

الدارقطني (2260).

ص: 75

في هذه الأحاديث فوائد، منها:

1 -

جواز الحجامة.

2 -

التداوي بالحجامة.

3 -

جواز الحجامة للمحرم، وإن ترتب عليها حلق بعض الشعر من الرأس أو غيره، لكن هل عليه فدية لذلك؟ الأظهر؛ أن عليه الفدية لحديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، والله أعلم، والسكوت عنها في حديث ابن عباس رضي الله عنهما لا يدل على نفيها.

4 -

تداوي النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة.

5 -

جواز الحجامة للصائم، فإن كان تطوعًا جاز مطلقًا مع مرض أو دونه.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما:

6 -

أن الحجامة لا تفطر الصائم على قول بعض أهل العلم.

وفي حديث شداد رضي الله عنه:

7 -

الفطر بالحجامة للحاجم والمحجوم، وفي التفطير بالحجامة نزاع، وكذلك في دلالة الحديث على التفطير، والصواب أنه دال على التفطير بالحجامة، لكن قيل: إنه منسوخ لحديث أنس رضي الله عنه، والجمهور على عدم الفطر بالحجامة، فمنهم من تأول الحديث، ومنهم من قال بالنسخ، والذين قالوا بظاهر الحديث -وهو الفطر بالحجامة- رجحوه لكثرة رواته وصراحة دلالته، بخلاف ما عورض به. وكل من القولين قويٌّ؛ والقول بالتفطير أقواهما، وهو مذهب أكابر الصحابة؛ كعلي وابن عمر وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم، ومذهب الإمام أحمد وجمع من أئمة الحديث؛ كإسحاق ابن راهويه وابن خزيمة وابن المنذر والأوزاعي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله

(1)

، وأجابوا عن

(1)

«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (25/ 135)، و «زاد المعاد» لابن القيم (4/ 62).

ص: 76

حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ بأنَّ ذكر الصوم فيه غير محفوظ، وعلى تقدير ثبوت الرواية فإنه يحتمل أمورًا:

1 -

أن يكون الصوم تطوعًا.

2 -

أو أن يكون صلى الله عليه وسلم احتجم لعذر يبيح الفطر.

3 -

أو يكون قبل حكم الفطر بالحجامة فيكون منسوخًا.

وقد بسط ابن القيم الكلام في الفطر بالحجامة في تهذيب السنن. والفصد والشرط للعلاج أو للتبرع بالدم حكمهما حكم الحجامة على الصحيح. والله أعلم.

* * * * *

(761)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اكْتَحَلَ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَائِمٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ

(1)

. قَالَ التِّرْمِذِيُ

(2)

: «لا يَصِحُّ فِيْهِ شَيْءٌ» .

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

جواز الاكتحال للصائم.

2 -

أن الكحل لا يفسد الصوم، وهذا هو الصحيح، ولا يعارض ما جاء في حديث الاكتحال بالإثمد من قوله:«لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ»

(3)

، فإنه حديث أنكره الأئمة. وأما هذا الحديث -حديث عائشة رضي الله عنها وإن كان ضعيفًا فمعناه موافق للبراءة الأصلية، وليست العهدة عليه، بل على البراءة الأصلية. والله أعلم.

* * * * *

(1)

ابن ماجه (1678).

(2)

في سننه (3/ 96).

(3)

رواه أبو داود (2377)، وقال:«قال لي يحيى بن معين: هو حديث منكر» .

ص: 77

(762)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(763)

ولِلْحَاكِمِ: «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلا كَفَّارَةَ»

(2)

. وهُوَ صَحِيْحٌ.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم الأكل والشرب على الصائم، وأن من أكل أو شرب متعمدًا وهو صائم فسد صومه.

2 -

أن من أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم لم يفسد صومه، لقوله:«فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» .

3 -

أن ما يأكله الصائم أو يشربه ناسيًا رزق رزقه الله إياه ينتفع به ولا يضر صومه.

4 -

أن من أفطر في رمضان ناسيًا بأي مفطِّر فصيامه صحيح، فيدخل في ذلك الجماع. وهذا على رواية الحاكم.

5 -

أن من أفطر ناسيًا فلا قضاء عليه ولا كفارة.

6 -

أن معنى «أَفْطَرَ» : تعاطى ما يفسُد به الصوم في الأصل، وإن لم يفسُد صومه لنسيانه، فهو من التعبير بالمسبَّب عن السبب، وبهذا يظهر الفرق بين «أَفْطَرَ» في هذا الحديث و «أَفْطَرَ» في حديث:«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ»

(3)

.

* * * * *

(1)

البخاري (1933)، ومسلم (1155).

(2)

الحاكم (1570).

(3)

تقدم برقم (759).

ص: 78

(764)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَأَعَلَّهُ أَحْمَدُ، وَقَوَّاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث اختلف في صحته والاحتجاج به، والأكثر على التصحيح.

وفيه فوائد، منها:

1 -

صحة صيام من ذرعه القيء أي: غلبه، بدليل قوله:«فَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ» لأنه كالمكره.

2 -

فساد الصوم بالاستقاء، وهو استدعاء القيء، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك

(2)

.

3 -

وجوب القضاء على من استقاء عالمًا عامدًا مختارًا، لا جاهلًا ولا ناسيًا ولا مكرهًا.

4 -

لا يجوز الاستقاء في صيام الفرض إلا لضرورة.

5 -

أن الاستقاء من المفطرات.

* * * * *

(765)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ، فَصَامَ النَّاسُ، ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ، حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرِبَ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ. قَالَ: «أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» . وَفِي لَفْظٍ: فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ

(1)

أحمد (10463)، وأبو داود (2380)، والترمذي (720)، والنسائي في «الكبرى» (3117)، وابن ماجه (1676)، والدارقطني (2273).

(2)

«الإجماع» (59).

ص: 79

قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ فِيمَا فَعَلْتَ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَشَرِبَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(766)

وَعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(767)

وأَصْلُهُ فِي (الْمُتَّفَقِ)

(3)

مِنْ حَدِيْثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو سَأَل.

* * *

في هذه الأحاديث فوائد، منها:

1 -

جواز الغزو في رمضان.

2 -

أن فتح مكة كان في رمضان.

3 -

جواز الصوم في السفر.

4 -

أن الفطر رخصة وليس بواجب.

5 -

أن الصوم في السفر أفضل ما لم يشق، أو تفوت به مصلحة راجحة.

6 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة لأمته في فعله وتركه.

7 -

اقتداء الصحابة رضي الله عنهم به صلى الله عليه وسلم وحرصهم على موافقته.

8 -

رفقه وشفقته على أمته صلى الله عليه وسلم.

9 -

أنه يجوز للمسافر إذا صام أن يفطر في أثناء النهار، فلا يجب عليه الصوم بالشروع.

(1)

مسلم (1114). وقوله: «فشَرِبَ» لم أجده في الصحيح.

(2)

مسلم (1121).

(3)

البخاري (1943)، ومسلم (1121).

ص: 80

10 -

أن تعمد المخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -ولو طلبًا للفضل- معصية.

11 -

إظهار العالم الفعلَ ليُقتدى به.

12 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، فلم يعلم مشقة الصوم على الناس إلا حين أخبروه.

13 -

التعليم بالفعل.

14 -

أن الأصل أن المسافر مخيّر بين الصوم والفطر، وأما الأفضل منهما فيختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ولا تعارض بين هذه الفائدة والفائدة ذات الرقم (5)؛ فتلك بيانٌ للأصل في حكم الصوم في السفر، وهذه بيانٌ للأفضل منهما.

15 -

فضيلة حمزة بن عمرو رضي الله عنه، وحرصه على الخير.

16 -

استحباب الأخذ برخص الله.

17 -

فضل الله على عباده بتيسير شرعه. والله أعلم.

* * * * *

(768)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «رُخِّصَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنْ يُفْطِرَ، وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَاهُ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

جواز الفطر في رمضان للشيخ الكبير إذا شق عليه الصوم، ومثله المرأة الكبيرة، كما جاء في رواية

(2)

، وفي حكمهما المريض الذي لا يرجى برؤه.

(1)

الدارقطني (2380)، والحاكم (1609).

(2)

عند البيهقي في «الكبرى» (8077).

ص: 81

2 -

أنه لا قضاء عليهما.

3 -

أنهما يطعمان عن كل يوم مسكينًا كما كان هذا الحكم في أول تشريع الصيام عامًّا لكل أحد، وذلك في قوله:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184].

4 -

اليسر في أحكام هذه الشريعة، وفي الصوم بخاصة كما قال تعالى:{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

5 -

أن هذه الرخصة للشيخ والشيخة كانت بعد تحتم الصوم ونسخ التخيير.

6 -

أنه لا يجزئ دفع القيمة في الكفارة بل يتعين الإطعام، والإطعام المذكور مطلق كما في سائر الكفارات، فيشمل تقديم الطعام وتمليكه، وأقله وجبة عشاء أو غداء.

* * * * *

(769)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«وَمَا أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ:«هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً؟» قَالَ: لا، قَالَ:«فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قَالَ: لا، قَالَ:«فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قَالَ: لا، ثُمَّ جَلَسَ، فَأُتِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ:«تَصَدَّقْ بِهَذَا» ، فَقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنَّا؟ فَمَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ:«اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» . رَوَاهُ السَّبْعَةُ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

* * *

(1)

البخاري (1936)، ومسلم (1111)، وأحمد (7290)، وأبو داود (2390)، والترمذي (724)، والنسائي في «الكبرى» (3104)، وابن ماجه (1671).

ص: 82

في الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم الجماع على الصائم في نهار رمضان، وهو أحد المفطرات المذكورة في القرآن: الأكل، والشرب، والجماع.

2 -

فضل ذلك الرجل حيث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم متذمرًا من فعلته، مستفتيًا، طالبًا للمخرج من ذنبه.

3 -

أن ما حصل منه كان عمدًا، حيث لم يعتذر بجهل ولا نسيان.

4 -

أنه جاء تائبًا.

5 -

أن التوبة من الجماع في رمضان لا تُسقط الكفّارة.

6 -

وجوب الكفارة على من جامع في نهار رمضان، وهو ممن يجب عليه الصوم.

7 -

أن كفارة الجماع في نهار رمضان أحد ثلاثة أمور مرتبة:

أولًا: عتق رقبة.

ثانيًا: فإن لم تكن فصيام شهرين متتابعين.

ثالثًا: فمن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا.

8 -

أن الكفارة لا تسقط بالعجز عن هذه الثلاثة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتصدق بالتمر الذي جيء به.

9 -

إعانة من وجبت عليه الكفارة من بيت المال.

10 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، حيث لم يوبخ الرجل، وصدَّقه في خبره عن نفسه؛ أنه لا يستطيع وأنه فقير.

11 -

جواز الضحك عند وجود سببه.

12 -

أن نفقة العيال مقدمة على الكفارات.

13 -

أن قصة هذا الرجل من العجائب؛ حيث جاء طالبًا للخلاص من ذنبه، ثم صار يطالب بالصدقة لنفسه.

ص: 83

14 -

أن من أفطر متعمدًا بجماع أو غيره لا يجب عليه القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -في الروايات الصحيحة- لم يأمره بالقضاء، فتكفيه التوبة، وجمهور العلماء على وجوب القضاء، وقد جاء في رواية:«وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ»

(1)

، فأما من لم يتب فلا ينفعه القضاء، ولا الكفارة في سقوط الإثم.

15 -

وجوب التتابع في صوم الشهرين.

16 -

أنه إذا كَفَّرَ بالصيام فيصوم ستين يومًا إلا أن يصوم في أول الشهر ويثبت عنده نقصانه.

17 -

أنه لا يجزئ عن الإطعام بذل القيمة.

* * * * *

(770)

وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. زاد مسلم في حديث أم سلمة: وَلا يَقْضِي

(2)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

حل الجماع في ليل صيام رمضان، كما جاء في رواية عن عائشة رضي الله عنها:«كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ»

(3)

، وقد نص عليه الله في قوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، الآية، فدليله الكتاب والسنة والإجماع.

2 -

جواز تأخير الغسل من الجنابة إلى ما بعد طلوع الفجر.

3 -

صحة صيام من أصبح جنبًا وهو مذهب جمهور العلماء، وقد استُدل على ذلك من القرآن بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى

(1)

رواه أبو داود (2393)، وابن ماجه (1/ 534)، والبيهقي في «الكبرى» (8055)، وأبو عوانة (2859)، والدارقطني (2402)، ورواه مالك مرسلًا في «الموطأ» (1044)، ومن طريقه الشافعي (696). «التلخيص» (2/ 397).

(2)

البخاري (1926)، ومسلم (1109).

(3)

رواه البخاري (1930)، ومسلم (1109).

ص: 84

نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة: 187]، ووجهه أن حل الجماع إلى تبيُّن الفجر يستلزم أن يصبح الصائم جنبًا، ولا يعارَض هذا الحكم بفتوى أبي هريرة رضي الله عنه أو بروايته؛ أن من أصبح جنبًا فسد صومه، فقد استفاض عنه؛ أنه رجع عن فتواه، وهذا يقتضي أن روايته المرفوعة غير محفوظة، كما بين ذلك الحافظ رحمه الله

(1)

.

4 -

أن تأخير الغسل وإصباح الصائم على جنابة لا كراهة فيه ولا نقص لوقوعه من الرسول صلى الله عليه وسلم.

5 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر؛ تقع منه الأحوال البشرية الطبيعية؛ من النكاح ودواعيه، ولا ينافي ذلك منزلة النبوة.

6 -

اليسر في شرائع الإسلام وفي أحكام الصيام، كما قال تعالى:{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

7 -

أن الاحتلام وإن أوجب غسلًا لا يفسد الصيام.

8 -

فضيلة عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، حيث نقلتا ما يتعلق بهن مما يُستحيا منه، تبليغًا للعلم وبيانًا للحكم.

* * * * *

(771)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

جواز الصوم عن الميت في الجملة.

(1)

«فتح الباري» (4/ 146).

(2)

البخاري (1952)، ومسلم (1147).

ص: 85

2 -

مشروعية صوم القريب عن قريبه الصومَ الواجب؛ من قضاء وكفارة ونذر، وخص الإمام أحمد وجماعة ذلك بالنذر، وظاهر الحديث العموم.

3 -

أن القرابة تقتضي حقًا للقريب على قريبه.

4 -

أن الصوم الواجب لا يسقط بالموت.

5 -

أمر الولي بالصوم عن قريبه وجوبًا أو استحبابًا لقوله: «صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» فهو خبر بمعنى الطلب؛ أي: ليصم، والجمهور على الاستحباب.

6 -

مشروعية قضاء الدين عن الميت من ماله وجوبًا، ومن غير ماله استحبابًا.

* * * * *

ص: 86

‌بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ وَمَا نُهِيَ عَنْ صَوْمِهِ

(772)

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، قَالَ:«يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ» ، وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، قَالَ:«يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ» ، وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ، قَالَ:«ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَبُعِثْتُ فِيهِ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

فضل يوم عرفة.

2 -

فضل صيامه.

3 -

فضل يوم عاشوراء.

4 -

فضل صيامه.

5 -

فضل يوم الاثنين.

6 -

فضل اليوم الذي ولد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ذلك تخصيصه بعبادة ولا احتفال.

7 -

فضل اليوم الذي بُعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه فيه القرآن، ويحتمل أن يكون التفضيل خاصًا بعين ذلك اليوم الذي حصلت فيه هذه النعم.

8 -

أن يوم عرفة أفضل من يوم عاشوراء.

9 -

أن من أسباب تفاضل الأعمال تفاضلَ الزمان.

10 -

أن من مكفرات الذنوب الأعمال الصالحة، سواء كانت فرضًا أو تطوعًا، وهذا التكفير يختص بالصغائر.

11 -

السؤال عن فضائل الأعمال.

(1)

مسلم (1162).

ص: 87

12 -

أن أثر السبب قد يكون سابقًا، وقد يكون متأخرًا عنه.

13 -

أن الأسباب قد تتوارد على مسبَّب واحد، فقد يستقل به الأول، وقد يقوِّي بعضها بعضًا.

* * * * *

(773)

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

مشروعية صيام ستة أيام من شوال بعد صيام رمضان.

2 -

فضل صيام ستة أيام من شوال بعد صيام رمضان، وأنه يعدل صيام الدهر.

3 -

عظم فضل الله على عباده بمضاعفة حسناتهم.

4 -

أن الأفضل المبادرة بصيامها بعد عيد الفطر، لقوله:«أَتْبَعَهُ سِتًّا» .

5 -

حصول الثواب ولو صامها متفرقة، والتتابع أفضل.

6 -

وجوب تقديم قضاء رمضان على الست؛ لقوله: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ

»، ومن كان عليه قضاء من رمضان لا يصدق عليه أنه صام رمضان بل بعضَه، فعليه أن يقضي ولو أدى ذلك إلى تأخير صيام الست عن شوال، وقد قال بعض العلماء: من لم يتمكن من صيام الست في شوال صامها في ذي القعدة؛ لأن باب التطوع واسع، وممن ذهب إلى هذا القول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله

(2)

.

* * * * *

(1)

مسلم (1164).

(2)

«الفتاوى السعدية» (ص 230).

ص: 88

(774)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِلا بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ الْيَوْمِ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ سَبْعِينَ خَرِيفًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

فضل الصيام تطوعًا.

2 -

فضل الإخلاص في العبادة.

3 -

فضل الصوم مع الجهاد في سبيل الله، إذا لم يُضعف عن أعمال الجهاد.

4 -

أن الأعمال الصالحة تقي صاحبها من النار.

5 -

إثبات النار التي أعدها الله للكافرين، ويعاقب بها العاصين.

6 -

التعبير عن كمال النجاة من النار ببعد المسافة التي لا تُقطع إلا في سبعين عامًا.

7 -

خصوصية عدد السبعة والسبعين والسبعمئة في الأحكام الشرعية والجزائية والكونية.

* * * * *

(775)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(2)

.

* * *

(1)

البخاري (2840)، ومسلم (1153).

(2)

البخاري (1969)، ومسلم (1156).

ص: 89

في الحديث فوائد، منها:

1 -

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صوم التطوع.

2 -

تحري الرسول صلى الله عليه وسلم -والله أعلم- لصيام داود عليه السلام وهو شطر الدهر، وذلك بسرد الصوم أيامًا ثم سرد الفطر أيامًا.

3 -

أن من تَحرَّى صوم داود عليه السلام إن شاء صام يومًا وأفطر يومًا، وإن شاء صام يومين أو أكثر وأفطر مثلها.

4 -

استحباب صيام أكثر شعبان.

5 -

أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يخفي صيامه عن أهله.

6 -

مراقبتهم لصومه وفطره صلى الله عليه وسلم.

7 -

أن سرده صلى الله عليه وسلم للصوم والفطر باعتبار الشهر، وعليه يجري قولهم:«حَتَّى نَقُولَ لا يُفْطِرُ» ، و «حَتَّى نَقُولَ لا يَصُومُ» ، أي: في هذا الشهر، ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله عنها:«مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلا رَمَضَانَ» .

8 -

أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم شهر محرم.

* * * * *

(776)

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَصُومَ مِنْ الشَّهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ: ثَلاثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

الأمر بصيام أيام البيض من كل شهر، وقد قيل في حكمة تخصيصها بالصوم: إن لياليها هي التي يقع فيها الكسوف -بإذن الله- وفي الصوم دفع

(1)

النسائي (2421)، والترمذي (761)، وابن حبان (3655).

ص: 90

لما يُخشى من الشر الذي قد يكون عند الكسوف، وعلى هذا فصومها لدفع المكروه، وما شُرع عند الكسوف من الصلاة والدعاء للرفع والدفع، قال صلى الله عليه وسلم:«فَصَلُّوا وَادْعُوا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ»

(1)

.

2 -

أن الأمر يأتي للاستحباب، ويحتمل أن يكون هذا الأمر للوجوب؛ فيكون منسوخًا بفرض صيام رمضان، كما يقتضيه حديث معاذ رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود والحاكم

(2)

في أحوال الصيام، وأنه شرع أولًا صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقد جاء ذكر ذلك عن جمع من الصحابة والتابعين.

3 -

فضل صيام هذه الأيام على سائر أيام الشهر، وتعرف هذه الأيام بأيام البيض، أي أيام الليالي البيض، لأن لياليها هي ليالي الإبدار واكتمال نور القمر وبقائه إلى آخر الليل، وخص من صيام هذه الأيام؛ الثالث عشر من ذي الحجة، لأنه داخل في أيام التشريق، وقد نُهي عن صيامها للحاج وغيره إلا لمن لم يجد الهدي من متمتع وقارن، كما سيأتي في حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهم

(3)

.

* * * * *

(777)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلا بِإِذْنِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

(778)

وَزَادَ أبُوْ دَاوُدَ: «غَيْرَ رَمَضَانَ»

(5)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم صوم التطوع على المرأة ذات الزوج إذا كان حاضرًا إلا بإذنه.

(1)

رواه البخاري (1040)؛ عن أبي بكرة رضي الله عنه. وتقدم (579).

(2)

أحمد (22124)، وأبو داود (507)، والحاكم (3144).

(3)

سيأتي برقم (781).

(4)

البخاري (5195)، ومسلم (1026).

(5)

أبو داود (2458).

ص: 91

2 -

جواز ذلك في غيبته بغير إذنه، وكذا إذا لم تكن عنده، أو كان الزوج لا يحتاج إلى الاستمتاع بها.

3 -

أن قضاء المرأة لصوم رمضان لا يفتقر إلى إذن الزوج، لكن إذا كان وقت القضاء موسَّعًا استُحب أن تستأذنه، ولا يجبُ عليها تأخير القضاء من أجل الزوج حتى يضيق وقتُه، وأما ما أوجبته على نفسها بالنذر فلا تصومه إلا بإذنه إلا أن يكون أذن لها بعقده، وإذا شرعت المرأة في صوم يوم من القضاء ولو قبل أن يضيق وقته حَرُمَ على الزوج أن يفسده، لأن الصوم الواجب يجب إتمامه، بخلاف التطوع.

4 -

عظم حق الزوج على المرأة.

5 -

أنه لا اعتبار بمنعه لامرأته من صوم التطوع والنوافل تحكمًا أو كراهةً للتديّن.

* * * * *

(779)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم صيام يومي العيد، عيد الفطر وعيد الأضحى، وتحريم نذر صيامهما، وأنه لا يجوز الوفاء به لأنه معصية.

2 -

أن من شرع في صيامهما ناسيًا أو جاهلًا وجب عليه الفطر.

3 -

أن يوم الأضحى والفطر عيدا المسلمين.

4 -

أن الدين والعبادة ما شرعه الله سواءٌ وافق الهوى أو خالفه، بدليل أن الفطر في العيدين هو العبادة لا الصوم.

(1)

البخاري (1991)، ومسلم (827، 1138).

ص: 92

5 -

أن عبادة هذين اليومين بالفطر، وبما شرع الله فيهما من الذكر والصلاة والصدقة والنسك.

* * * * *

(780)

وَعَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ عز وجل» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

فضل أيام التشريق، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة.

2 -

استحباب الإكثار من ذكر الله فيها مطلقًا ومقيدًا.

3 -

وجوب الفطر فيها، وخُص من ذلك صيامُها عن هدي التمتع والقران كما في الحديث الآتي.

4 -

الإشارة إلى استحباب الأكل من لحوم الهدايا والضحايا.

5 -

جواز ادخار لحوم الهدي والضحايا، وذلك من تسميتها أيام التشريق، أي: تجفيف اللحم في الشمس.

6 -

أن أيام التشريق حكمها واحد في كل ما تقدم، ومن ذلك جواز الذبح فيها جميعًا، وهي أيضًا متساوية بالنسبة إلى الحاج في رمي الجمار وأداء ما بقي من المناسك.

* * * * *

(1)

مسلم (1141).

ص: 93

(781)

وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالا: «لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلا لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم صيام أيام التشريق، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.

2 -

الرخصة لمن لم يجد هدي التمتع والقران في صيامهن.

3 -

أن أيام التشريق هي آخر أيام الحج، ولذلك رُخِّص في صيامها لمن لم يجد الهدي.

4 -

أنه لا يجوز تأخير صيام ثلاثة الأيام عن أيام التشريق.

5 -

مناسبة هذه الرخصة؛ أن أيام التشريق وقت لذبح الهدي، وصيامهن بدل عنه، وإن كان يجوز صيام ثلاثة الأيام قبل ذلك.

6 -

أن لفظ الرخصة يدل على إباحة الفعل، ونفي الرخصة يدل على التحريم.

7 -

أن قول الصحابي: «أُمِرْنَا» أو «نُهِينَا» أو «رُخِّصَ» أو «لَمْ يُرَخَّصْ» له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك كله إليه صلى الله عليه وسلم.

* * * * *

(782)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلا تَخْتَصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ، إِلا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1)

البخاري (1998).

(2)

مسلم (1144).

ص: 94

(783)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ، أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

في الحديثين فوائد، منها:

1 -

النهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام.

2 -

النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصيام، والتخصيص يكون بالتحري والقصد، وقد يكون بالفعل من غير تقصُّد ولا تحرٍّ؛ فالأول يحرم، والثاني يكره، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أمر جويرية بنت الحارث رضي الله عنها بالفطر حين صامت يوم الجمعة ولم تصم قبله ولم تصم بعده

(2)

.

3 -

جواز صيام يوم الجمعة إذا ضم إليه يوم قبله أو يوم بعده.

4 -

جواز صوم يوم الجمعة وحده إذا صادف عادة، كمن يصوم يومًا ويفطر يومًا، وكذا من عادته صوم يوم عرفة إذا صادف يوم جمعة، لقوله:«إِلا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» .

5 -

أن فضل الزمان أو المكان لا يدل على جواز تخصيصه بعبادة إلا ما خصه الشرع؛ كالعمرة والصلاة أيام البيض أو الاثنين والخميس، بل حتى يوم الجمعة. وكالاعتكاف والصلاة في مسجد معين غير المساجد الثلاثة.

6 -

أن مبنى العبادة على الأمر لا على الرأي والاستحسان.

* * * * *

(784)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، واسْتَنْكَرَهُ أَحْمَدُ

(3)

.

* * *

(1)

البخاري (1985)، ومسلم (147 - 1144).

(2)

رواه البخاري (1986).

(3)

أحمد (9707)، وأبو داود (2337)، والترمذي (738)، والنسائي (2923)، وابن ماجه (1651).

ص: 95

الحديث ضعيف.

وفيه فوائد، منها:

1 -

النهي عن صوم النصف الثاني من شعبان أو شيء منه، سواء مع صوم النصف الأول أو بدونه، ولكنه -على تقدير صحته- محمول على ابتداء الصيام بعد انتصاف الشهر، فالنهي في حق من لم يصم أوله، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله أو أكثره، والنهي فيه من جنس النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، ومع ذلك فهذا الحديث معارض بمفهوم ذلك الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ»

(1)

فمفهومه جواز الصوم قبل ذلك، فمن ضعَّف الحديث لا يحتاج إلى شيء مما ذكر.

* * * * *

(785)

وَعَنِ الصَّمَّاءِ بِنْتِ بُسْرٍ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ، إِلا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلا لِحَاءَ عِنَبٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ

(2)

، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ. وقَدْ أَنْكَرَهُ مَالِكٌ

(3)

. وَقَال أبُوْ دَاوُدَ: «هُوَ مَنْسُوخٌ» .

* * *

فيه النهي عن التطوع بصوم يوم السبت مطلقًا، أي: مفردًا أو مع غيره أو صادف عادة لقوله: «إِلا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» ، وهذا معارض من وجوه:

1 -

صوم النبي صلى الله عليه وسلم لشهر شعبان.

2 -

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صوم التطوع المطلق حتى يقول القائل: لا يفطر

(4)

.

(1)

تقدم في أول (كتاب الصيام)(739).

(2)

أحمد (27075)، وأبو داود (2421)، والترمذي (744)، والنسائي في «الكبرى» (2778)، وابن ماجه (1726).

(3)

قال أبو داود في «السنن» (2424): «قال مالك: هذا كذب» .

(4)

تقدم حديث عائشة رضي الله عنها في (باب صوم التطوع وما نهي عنه)(775).

ص: 96

3 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ»

(1)

.

4 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا»

(2)

.

5 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ، إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ»

(3)

.

6 -

حديث أم سلمة رضي الله عنها؛ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَوْمَ الأَحَدِ

» وهو الحديث الآتي في الباب.

وكل هذه الأحاديث تتضمن مشروعية صيام يوم السبت مفردًا أو مع غيره. ولأجل ذلك حكم العلماء على حديث الباب أنه شاذ أو منسوخ

(4)

. ومع ذلك ففي متنه نكارة، وهو قوله:«فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلا لِحَاءَ عِنَبٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهَا» ، فإنه يقتضي وجوب أكل شيء، ولو لم ينو الصوم، مبالغة في ترك صومه.

ومَنْ قال مِنْ العلماء: إن النهي عن إفراده وتخصيصه؛ لا يستقيم قوله مع ما تقدم، وأبعد منه قول من قال:«يحرم التطوع بصوم يوم السبت مطلقًا» . وبهذا يتبين أن الصواب جواز صوم يوم السبت مطلقًا. والله أعلم.

* * * * *

(786)

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الأَيَّامِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَوْمَ الأَحَدِ، وَكَانَ يَقُولُ:«إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَهَذَا لفْظُهُ

(5)

.

* * *

(1)

رواه مسلم (1163)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه النسائي (2387)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأصله في مسلم (1159).

(3)

أخرجه البخاري (1985)، ومسلم (1144)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

«البدر المنير» (5/ 760).

(5)

النسائي (2789)، وابن خزيمة (2167).

ص: 97

في الحديث فوائد، منها:

1 -

أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم صوم يومي السبت والأحد.

2 -

استحباب صيامهما مفردين أو مجتمعين.

3 -

الحكمة من صيامهما، وهي مخالفة المشركين، لأن السبت عيد اليهود والأحد عيد النصارى، كما أن الجمعة عيد المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة:«هَدَانَا اللهُ لَهُ وَضَلَّ النَّاسُ عَنْهُ، وَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَهُوَ لَنَا، وَاليَهُودُ يَوْمُ السَّبْتِ، وَالنَّصَارَى يَوْمُ الأَحَدِ»

(1)

.

4 -

أن مخالفة الكفار في أعيادهم السنوية آكد؛ لأنها عندهم أعظم من عيد الأسبوع.

5 -

إطلاق اسم المشركين على اليهود والنصارى.

6 -

أن من مقاصد الشرع مخالفة المشركين واليهود والنصارى في هديهم.

7 -

أن من شأن العيد الفطرَ عند المسلمين وغيرهم.

* * * * *

(787)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ، وَصحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ، واسْتَنْكَرَهُ العُقَيْليُّ

(2)

.

* * *

(1)

رواه ابن خزيمة (1726) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأصله في مسلم (856).

(2)

أحمد (8031)، وأبو داود (2440)، والنسائي في «الكبرى» (2843)، وابن ماجه (1730)، وابن خزيمة (2101)، والحاكم (1588). وينظر:«الضعفاء الكبير» للعقيلي (1/ 298).

ص: 98

في الحديث -على تقدير صحته - فوائد، منها:

1 -

النهي عن صوم يوم عرفة لمن كان حاجًّا، وهذا يوافق فعله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت

(1)

أنه صلى الله عليه وسلم كان مفطرًا في ذلك اليوم. وتركه صلى الله عليه وسلم لصوم يوم عرفة مع ما أخبر من فضله وتكفيره لسنتين يدل على أن السُّنة للحاج ترك صومه إلا أن يكون الصوم عن هدي التمتع.

والحكمة من الفطر في ذلك اليوم أنه أقوى للحاج على مقصود الوقوف من كثرة الذكر والتضرع في الدعاء، وبخاصة إذا كان الوقت حارًّا، وقيل: لأن يوم عرفة بالنسبة إلى الحاج يوم عيد، ويشهد لذلك ما رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلامِ»

(2)

، فهذا الحديث مع فعله صلى الله عليه وسلم مخصص لقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن صوم يوم عرفة:«يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ»

(3)

.

2 -

أنه قد يعرض للعمل المفضول ما يجعله أفضل من الفاضل، فالفطر في يوم عرفة الأصل أنه مفضول، ولكنه في عرفة أفضل من الصوم.

* * * * *

(788)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

(789)

ولِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بِلَفْظ: «لا صَامَ وَلا أَفْطَرَ»

(5)

.

* * *

(1)

في البخاري (1658)، ومسلم (1123)؛ من حديث أم الفضل بنت الحارث حين أرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره في عرفة، فشربه.

(2)

رواه أحمد (17379)، وأبو داود (2419)، والترمذي (773)، والنسائي (3004)، وابن حبان (3603)، والحاكم (1587). قال الترمذي:«حسن صحيح» .

(3)

تقدم (772).

(4)

البخاري (1977)، ومسلم (1159).

(5)

مسلم (1162).

ص: 99

في الحديثين فوائد، منها:

1 -

أن صوم الدهر غير مشروع، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا صَامَ» والمنفي هو الصوم الشرعي، والمثبت هو الصوم اللغوي، ومعناه: أن من صام الأبد فصيامه غير مقبول، فهو صائم، أي: ممسك غير صائم شرعًا، وهذا معنى قوله في الرواية الأخرى:«لا صَامَ وَلا أَفْطَرَ» ، أي: لا صام الصوم الشرعي ولا أفطر بالأكل والشرب، وصوم الأبد أو صوم الدهر يتحقق بصوم كل السنة أو معظم السنة، ولو أفطر في الأيام المحرم صومها وهي يوما العيد وأيام التشريق.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ»

(1)

، ونحوه فلا يدل على جواز صيام الدهر، فإن المراد أن ذلك يعدل صيام عدد أيام السنة كما جاء مفسَّرًا؛ أن الحسنة بعشر أمثالها. فشهر بعشرة أشهر وستة أيام بشهرين، ولا يلزم من حصول ثواب الدهر جواز صوم الدهر، وقد جاء النهي عنه.

2 -

أن من مقاصد الشرع التيسير، كما قال صلى الله عليه وسلم:«يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا»

(2)

.

3 -

تحريم صيام الدهر، وأنه لا يجب بالنذر.

* * * * *

(1)

رواه أبو داود (2433)، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، وهو في مسلم (1164) بلفظ:«ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» . وتقدم (774).

(2)

رواه البخاري (69)، ومسلم (1734)؛ عن أنس رضي الله عنه.

ص: 100

‌بَابُ الاعْتِكَافِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ

(790)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

الدلالة على فضل قيام رمضان، والمراد به صلاة الليل من التراويح وغيرها.

2 -

أن الأعمال الصالحة مكفرة للذنوب، وأن من ذلك قيام رمضان، لكن ذلك مقيد باجتناب الكبائر لقوله صلى الله عليه وسلم:«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ»

(2)

.

3 -

اشتراط الإيمان بشرع الله ووعده في ترتب هذا الجزاء.

4 -

اشتراط الإخلاص في العمل لله، وأنه لا ينافيه رجاء الثواب.

5 -

مشروعية العمل الصالح رجاء الثواب، ففيه: الرد على الصوفية؛ حيث يذمون من يعبد الله رجاء الثواب أو خوف العقاب.

* * * * *

(791)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ -أَيْ: العَشْرُ الأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ- شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

(1)

البخاري (2009)، ومسلم (759).

(2)

رواه مسلم (233)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

البخاري (2024)، ومسلم (1174).

ص: 101

في الحديث فوائد، منها:

1 -

فضل العشر الأواخر من رمضان.

2 -

استحباب إحيائها بالعبادة.

3 -

الإقبال فيها على أنواع العبادة، والإعراض عن الشهوات المباحة؛ كالتمتع بالأهل.

4 -

استحباب طلب ليلة القدر وأنها في العشر الأواخر، وهو أصح الأقوال.

5 -

التعاون على الخير، لقوله:«وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» .

6 -

أمر الأهل بفعل الخير وإن كان من نوافل الطاعات.

7 -

اغتنام الأوقات الفاضلة بالأعمال الصالحة.

8 -

اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العبادة وتحريه لأوقات الفضائل.

9 -

أن كمال العبد إيمانًا ومعرفةً فعلُ الفرائض، ولا يغنيه عن طلب مزيد الفضل بفعل النوافل، ففيه:

10 -

الرد على ملاحدة الصوفية القائلين بسقوط العمل عن العارف.

* * * * *

(792)

وَعَنْهَا رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، ومداومته على ذلك.

(1)

البخاري (2026)، ومسلم (1172).

ص: 102

2 -

أن من السنة الاعتكاف في العشر الأواخر.

3 -

فضل العشر الأواخر من رمضان.

4 -

جواز الاعتكاف للنساء إذا أمنت الفتنة.

5 -

حرص نساء النبي صلى الله عليه وسلم على الخير.

6 -

أن الاعتكاف لم ينسخ لقولها: «حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» .

7 -

أن الاعتكاف طاعة؛ فيجب بالنذر، لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ»

(1)

.

* * * * *

(793)

وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

مشروعية الاعتكاف.

2 -

اتخاذ مكان في المسجد ينفرد فيه المعتكف.

3 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدخل في معتكفه بعد صلاة الفجر، والظاهر أن المراد صلاة فجر اليوم الحادي والعشرين من رمضان، ويحتمل أن قولها:«دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ» أي: مكان اعتكافه في المسجد، وليس المراد ابتداء الاعتكاف، وعلى هذا فيكون ابتداء اعتكافه من أول ليلة إحدى وعشرين، وبهذا يتحقق اعتكافه

(1)

رواه البخاري (6696)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

البخاري (2033)، ومسلم (1173)، واللفظ لمسلم. وأما لفظ البخاري:«فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ» .

ص: 103

لجميع ليالي العشر، ولهذا قال أكثر العلماء: إن المعتكف يدخل معتكفه -أي: المسجد- قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين. ويحتمل أن قولها: «دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ» أي: ابتدأ الاعتكاف، وهذا يلزم منه فوات ليلة إحدى وعشرين دون اعتكاف، وهو يخالف ما استفاض عنه صلى الله عليه وسلم من اعتكاف العشر كلها.

* * * * *

(794)

وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ -وَهُوَ فِي المَسْجِدِ- فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لا يَدْخُلُ البَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

مشروعية الاعتكاف.

2 -

أن المعتكف لا يخرج من المسجد إلا لحاجة، وهي ما لا بد له منه.

3 -

إن إخراج المعتكف بعض بدنه لا ينافي الاعتكاف.

4 -

أن مس المرأة لا لشهوة لا ينافي الاعتكاف.

5 -

جواز ترجيل المعتكف لرأسه.

6 -

جواز ترجيل المرأة لرأس زوجها وإن كان معتكفًا.

7 -

جواز ترجيل المرأة رأس زوجها، وهي حائض، كما جاء ذلك في رواية لهذا الحديث في «الصَّحِيحَيْنِ»

(2)

.

8 -

أن الحائض لا تدخل المسجد.

9 -

أن المعتكف لا يخرج من المسجد من أجل ترجيل شعره ونظافة بدنه، لكن يخرج لأجل الغسل من الجنابة، لأنه واجب.

10 -

استحباب ترجيل الشعر.

(1)

البخاري (2029)، ومسلم (297).

(2)

البخاري (2028)، ومسلم (297).

ص: 104

11 -

أن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ترك حلق شعره إلا في حج أو عمرة، لكن يقصّره، لأن شعره صلى الله عليه وسلم تارة يبلغ شحمة أذنيه، وتارة يكون لِمَّة، وربما كان جُمَّة.

12 -

استحباب النظافة.

* * * * *

(795)

وَعَنْهَا رضي الله عنها قَالَتْ: «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلا يُبَاشِرَهَا، وَلا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلا لِمَا لا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَلا اعْتِكَافَ إِلا بِصَوْمٍ، وَلا اعْتِكَافَ إِلا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» . رَوَاهُ أبُوْ دَاوُدَ، ولا بَأسَ بِرِجَالِهِ، إلا أنَّ الرَّاجِحَ وَقْفُ آخِرِهِ

(1)

.

(796)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ عَلَى المُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وَالْحَاكِمُ، والرَّاجِحُ وَقْفُه أيضًا

(2)

.

* * *

في الحديثين فوائد، منها:

1 -

بيان ما تتحقق به حقيقة الاعتكاف، وهو لزوم المسجد.

2 -

أن ترك المعتكف لما ذُكر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من رأي عائشة رضي الله عنها.

3 -

أن المعتكف لا يعود مريضًا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها.

4 -

أن المعتكف لا يخرج من المسجد إلا لما لا بد منه؛ كحاجة الإنسان، والغسل من الجنابة، وما كان من الخروج ضرورة.

5 -

أنه لا يشرع اشتراط المعتكف فعلَ هذه الأمور أو بعضها، وهل يصح ذلك؟ فيه نزاع، ولعل الصواب صحة اشتراط ما تدعو إليه الضرورة من ذلك؛ كعيادة الوالدين وتشييع جنازتهما. والله أعلم.

(1)

أبو داود (2473).

(2)

الدارقطني (2355)، والحاكم (1605).

ص: 105

وقولها رضي الله عنها: «وَلا اعْتِكَافَ إِلا بِصَوْمٍ، وَلا اعْتِكَافَ إِلا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» قيل: إنه من كلامها فهو من رأيها، وهو -على هذا- موقوف عليها.

وإن كان هذا القول تابعًا لما قبله فإنه يقتضي اشتراط الصوم في الاعتكاف، وأن يكون الاعتكاف في مسجد جامع، ولكن الراجح عند الأئمة وقفه. وحديث عمر رضي الله عنه؛ أنه نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام

(1)

يقتضي صحة هذا الاعتكاف ولو لم يصم، ويدل له أيضًا حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«لَيْسَ عَلَى المُعْتَكِفِ صِيَامٌ إِلا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ» والراجح وقفه على ابن عباس كما ذكر المصنف. ويمكن أن يعتضد القول بعدم اشتراط الصوم في الاعتكاف أنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صائمًا حين قضى اعتكافه في شوال. ومما يرجح قول ابن عباس في عدم اشتراط الصوم؛ أن الدارقطني قد جزم

(2)

بأن قوله في حديث عائشة رضي الله عنها: «وَلا اعْتِكَافَ إِلا بِصَوْمٍ

» إلخ أنه مدرج ممن دونها.

* * * * *

(797)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

الاستدلال بالرؤيا في الأمور الكونية، والترجيح بها.

2 -

أن من الرؤيا ما تكون صورته مطابقة لما يقع في الخارج.

3 -

قوة الحكم بتضافر أدلته.

(1)

رواه البخاري (2032)، ومسلم (1656). وسيأتي في (باب الأيمان والنذور)(1556).

(2)

كما في «فتح الباري» (4/ 321).

(3)

البخاري (2015)، ومسلم (1165).

ص: 106

4 -

فضل ليلة القدر.

5 -

حرص الصحابة على معرفتها أو موافقتها.

6 -

أن ليلة القدر في رمضان.

7 -

أن السبع الأواخر من رمضان أرجى أن تكون فيها ليلة القدر مما قبلها وأولها ليلة ثلاث وعشرين، وهو الغالب.

8 -

أن فضل السبع الأواخر قد دلّ عليه أمر كوني وهو الرؤيا، وشرعي وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:«فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ» .

9 -

استحباب تحري الأوقات الفاضلة.

* * * * *

(798)

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ:«لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» . رَوَاهُ أبُوْ دَاوُدَ، والرَّاجِحُ وَقْفُه

(1)

. وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولًا أوردتها في «فتح الباري»

(2)

.

في الحديث فوائد، منها:

1 -

تعيين ليلة القدر في سبع وعشرين، وهذا ظاهر الحديث، وهو لا يوجب القطع، بل غايته أن يدل على أنها أرجى من غيرها من ليالي العشر، وذلك لأمرين:

الأول: أن الراجح في الحديث أنه موقوف على معاوية رضي الله عنه.

الثاني: ما ورد من الأحاديث الدالة على أنها تُلتمس في جميع ليالي العشر خصوصًا الأوتار منها والسبع الأواخر.

* * * * *

(1)

أبو داود (1386).

(2)

«الفتح» (4/ 263 - 266).

ص: 107

(799)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ:«قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ، تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، غَيْرَ أَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

أن ليلة القدر قد تُعلم، إما بمنام أو بعلامات.

2 -

تحري هذا الدعاء في ليلة القدر.

3 -

أن من أسماء الله العفُوَّ.

4 -

إثبات صفة المحبة.

5 -

أن الله يحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض.

6 -

التوسل في الدعاء بأسماء الله.

7 -

التوسل بما يناسب المطلوب من أسماء الله؛ كالغفور والرحيم في طلب المغفرة والرحمة، والتواب في طلب التوبة، والعفو في طلب العفو.

8 -

تواضع العبد لربه واعترافه بالذنب والتقصير وترك النظر إلى العمل، وهذا نظير قوله تعالى:{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون (18)} [الذاريات: 17 - 18].

9 -

حرص عائشة رضي الله عنها على الخير.

10 -

السؤال عمّا يُشرع من الأقوال والأعمال في الأوقات الفاضلة.

11 -

فضل هذا الدعاء.

* * * * *

(1)

أحمد (25384)، والترمذي (3513)، والنسائي في «الكبرى» (7665)، وابن ماجه (3850)، والحاكم (1994).

ص: 108

(800)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

فضل هذه المساجد الثلاثة، وأنها في الفضل على هذا الترتيب، ولعل السبب في فضلها أنها أسسها الأنبياء إبراهيم ومحمد وسليمان عليهم السلام.

2 -

جواز السفر إلى هذه المساجد، وقد دلت النصوص الأخرى على وجوب السفر واستحبابه إلى المسجد الحرام، وعلى استحباب السفر إلى المسجدين.

3 -

تحريم السفر إلى سائر البقاع غير هذه المساجد تدينًا بقصد البقعة.

4 -

تحريم السفر إلى قبور الأنبياء، وتحريم السفر إلى الطور الذي كلَّمَ اللهُ عليه موسى عليه السلام على وجه القربة والعبادة.

5 -

أن المسجد الحرام هو المصلى حول الكعبة، فلا يجوز السفر للصلاة في بعض نواحي الحرم.

6 -

أن مضاعفة الصلاة مختصة بالمسجد حول الكعبة، ويشهد له حديث ميمونة رضي الله عنها؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ»

(2)

.

* * * * *

(1)

البخاري (1197)، ومسلم (415 - 827).

(2)

رواه مسلم (1396).

ص: 109

‌كِتَابُ الحَجِّ

ص: 111

‌بَابُ فَضْلِهِ وَبَيَانِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ

تنوعت عبارات المصنفين في الترجمة لهذا الموضوع؛ فمنهم من يقول: (كتاب المناسك)، لأن أكثر ما يُطلق عليه اسم المناسك في لسان الشرع والفقهاء أعمال الحج والعمرة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ»

(1)

، ومنهم من يقول:(كتاب الحج والعمرة)، ومنهم من يقول:(كتاب الحج)، كما صنع الحافظ، ولعله اقتصر على لفظ الحج دون العمرة؛ لأن العمرة حج، وتدخل في الحج.

والحج في اللغة: القصد إلى معظم، وفي الشرع: القصد إلى البيت العتيق بأعمال مخصوصة.

والعمرة أصل معناها في اللغة: الزيارة، وفي الشرع: زيارة البيت الحرام بإحرام للطواف والسعي، ولا تطلق عند العرب إلا على ذلك.

وحج البيت أحد أركان الإسلام الخمسة، والصحيح أنه فرض في السنة التاسعة من الهجرة، وحج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة، ومن رحمة الله أنه لا يجب في العمر إلا مرة، وهو على الاستطاعة، لقوله تعالى:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].

ويجب على الفور عند توفر شروطه، لأن الأصل في الأمر المطلق الفورية، وتأخر النبي صلى الله عليه وسلم إلى العاشرة -وقد فرض في السنة التاسعة- من أجل أن يتطهر البيت من المشركين وعوائدهم، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]، والمراد بهذا العام هو السنة التاسعة.

* * * * *

(1)

رواه مسلم (1296)؛ عن جابر رضي الله عنه.

ص: 113

(801)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

في هذا الحديث فوائد، منها:

1 -

فضل العمرة.

2 -

استحباب المتابعة بين الحج والعمرة، لقوله:«العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ» .

3 -

أن العمرة من مكفرات السيئات، وهذا مقيد باجتناب الكبائر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ»

(2)

.

4 -

فضل الحج على العمرة.

5 -

أن مناط الفضل هو البر في الحج، لقوله:«الْحَجُّ الْمَبْرُورُ» .

6 -

أن الحج سبب لدخول الجنة.

7 -

إثبات الأسباب الشرعية.

8 -

إثبات الجنة.

9 -

الرد على من أنكر الأسباب.

10 -

أن الأسباب مؤثرة في حصول مسبَّباتها بإذن الله تعالى.

* * * * *

(802)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَأَصْلُهُ في الصَّحِيْحِ

(3)

.

(1)

البخاري (1773)، ومسلم (1349).

(2)

رواه مسلم (233)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أحمد (25322)، وابن ماجه (2901)، وينظر: البخاري (1520).

ص: 114

هذا الحديث من أدلة وجوب العمرة، وهو مذهب جمهور العلماء، وذهب جماعة من العلماء إلى أنها ليست واجبة، ولكل من القولين وجوه من الاستدلال، وقد استوفاها شيخ الإسلام في «شرح العمدة» ، واختار عدم الوجوب، وأصل الحديث في صحيح البخاري لكن بلفظ: قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: «لا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» ، وهو بهذا اللفظ لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على فضل الحج، ولهذا آثر الحافظ رحمه الله هذا اللفظ.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

عدم وجوب الجهاد على النساء.

2 -

وجوب الحج عليهن كوجوبه على الرجال.

3 -

وجوب العمرة على النساء كوجوبها على الرجال.

4 -

أن الحج والعمرة من نوع الجهاد في سبيل الله.

5 -

الإشارة إلى الفرق بين الحج والعمرة وبين الجهاد في حق المرأة لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا قِتَالَ فِيهِ» .

6 -

أن المرأة ليست من أهل القتال، وإن جاز خروجهن لبعض مصالح المجاهدين مع مراعاة الشروط المعتبرة في سفر المرأة ووجودها مع الرجال.

7 -

حرص عائشة رضي الله عنها على العلم، وعلى فضائل الأعمال.

* * * * *

ص: 115

(803)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيٌّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي عَنِ العُمْرَةِ، أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ:«لا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، والرَّاجِحُ وَقْفُهُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث من أدلة القائلين بعدم وجوب العمرة، ولا ينهض للاحتجاج به؛ لأن الراجح وقفه على جابر رضي الله عنه.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

أن العمرة ليست واجبة.

2 -

أن الاعتمار عمل صالح، ففي العمرة خير للمعتمر.

3 -

أن في وجوب العمرة خلافًا بين الصحابة رضي الله عنهم.

4 -

الترغيب في النافلة.

5 -

تنبيه السائل إلى ما يحتاج إليه، وهو من محاسن الفتوى.

6 -

أن الاقتصار على «لا» في الجواب يحصل به المقصود؛ لأنها على تقدير إعادة مضمون السؤال.

7 -

أن جابرًا رضي الله عنه لا يرى وجوب العمرة.

* * * * *

(804)

وأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيْفٍ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ»

(2)

.

* * *

هذا الحديث من أدلة القائلين بوجوب العمرة، ولكن الحديث لا ينهض للاحتجاج به؛ فقد أخرجه ابن عدي في «الكامل» ، وقال بعد ذكره:«هذا الحديث غير محفوظ» .

* * * * *

(1)

أحمد (14397)، والترمذي (931)، وابن عدي في «الكامل» (7/ 43).

(2)

أخرجه ابن عدي في «الكامل» (4/ 150)، وفي إسناده عبد الله بن لهيعة.

ص: 116

(805)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ:«الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَالرَّاجِحُ إِرْسَالُهُ

(1)

.

(806)

وأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيْثِ ابْن عُمَرَ رضي الله عنهما أيضًا، وَفِيْ إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ

(2)

.

* * *

هذا الحديث -مع ضعفه - أخذ به جمهور العلماء، وقالوا: من وجد مالًا يحصل به الزاد والراحلة وجب عليه الحج فهو المستطيع المذكور في الآية: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، ويؤيد ذلك أن من لم يستطع الحج ببدنه وهو مستطيع بماله وجب أن ينيب من يحج عنه، كما يدل لذلك حديث الخثعمية وحديث الجهنية، كما سيأتي

(3)

.

والذي أوجب لأهل العلم الأخذ بهذا الحديث -حديث الباب - أنه جاء من طرق عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم، والغالب عليها الضعف، ومنها ما صحح؛ كحديث أنس رضي الله عنه عند الحاكم، ومجموعها تثبت به الحجة، وأكثر القائلين بحديث الزاد والراحلة يقولون: لا يجب الحج على من لم يملك الزاد والراحلة وإن قدر على المشي. وذهب بعضهم إلى وجوب الحج على من قدر على المشي بلا مشقة شديدة لقربه من مكة أو لقوته، وإن كان بعيدًا لأنه مستطيع. وقالوا: إن الحديث خرج مخرج الغالب، فالغالب ألَّا يستطيع الحج إلا من ملك زادًا وراحلة، وفي هذا القول قوة، كما ترى. ومن العلماء من اشترط في وجوب الحج أمن الطريق، ولو لم ترد الأحاديث المتقدمة لكان هذا القول أظهر، وأقرب إلى ظاهر القرآن.

* * * * *

(1)

الدارقطني (2418)، والحاكم (1615).

(2)

الترمذي (813).

(3)

سيأتي برقم (809، 808).

ص: 117

(807)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: «مَنِ الْقَوْمُ؟» ، قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ. فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: «رَسُولُ اللهِ» ، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في صحة حج الصبي غير المميز، فكيف بالمميِّز؟!

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

صحة حج الصبي.

2 -

أن ثواب حجه له.

3 -

أن لمن حج به أجرًا كالولي وغيره، فإن كان مميِّزًا أمر بالنية، وإن كان غير مميِّز نوى عنه وليه.

4 -

أنه ليس كل الصحابة يعرفون شخص النبي صلى الله عليه وسلم.

5 -

الاعتزاز بنسب الإسلام.

6 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ينفرد عن أصحابه في السفر، فيمشي وحده صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو كان معه أحد لقالوا لأولئك الركب: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

7 -

أن الصبي إذا حُج به لزم وليه أن يجنبه المحظورات، ويلزمه بالواجبات كأمر المميِّز بالصلاة، والصحيح أنه لا يجب في حقه الإتمام، ولكن يستحب إذا تيسر.

8 -

المبادرة بسؤال العالم عند الظفر به.

9 -

الاكتفاء بالجواب بنعم لدلالة السؤال عليه.

10 -

زيادة المفتي في الجواب ما ينتفع به المستفتي.

11 -

الترغيب في الحج بالصبيان.

(1)

مسلم (1336).

ص: 118

12 -

أن صوت المرأة ليس بعورة.

13 -

أنه يجوز للمرأة أن تتولّى الحج بطفلها، ذكرًا أو أنثى.

* * * * *

(808)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَجَاءَت امْرَأَةٌ مَنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ:«نَعَمْ» . وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

.

(809)

وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللهَ، فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان هما الأصل في الحج عن المعضوب -وهو الشيخ الكبير أو المريض الذي لا يرجى برؤه- والحج عن الميت.

وفي الحديثين فوائد، منها:

1 -

حرص نساء الصحابة رضي الله عنهن على التفقه في الدين.

2 -

جواز مباشرة المرأة السؤال بنفسها.

3 -

وجوب الحج لقولها: «إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ» .

4 -

أنه لا يسقط عمن عجز عن أدائه بنفسه.

5 -

وجوب الاستنابة في فرض الحج على من عجز عنه عجزًا دائمًا.

(1)

البخاري (1513)، ومسلم (1334).

(2)

البخاري (1852).

ص: 119

6 -

جواز حج المرأة عن الرجل، ومن باب أولى الرجل عن المرأة.

7 -

وجوب الوفاء بالنذر.

8 -

جواز الحج عن الميت فرضًا أو نذرًا.

9 -

جواز القياس في الأحكام، لأنه شبه النّذر في ذمة الميت كالدين الذي للآدمي، بل سمّى النبي صلى الله عليه وسلم الحج الذي على الميت دينًا.

10 -

أن من مات وقد وجب عليه الحج؛ وجب أن يخرج من تركته كسائر ديونه.

11 -

استحباب قضاء الولد الدين عن والده.

12 -

النهي عن النظر إلى المرأة الأجنبية.

13 -

الإنكار بالفعل.

14 -

تمسك بقوله: «فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا» من يرى جواز كشف المرأة وجهها أمام الرجال الأجانب، وأجيب عنه بأنه ليس صريحًا؛ إذ يمكن أن ينظر الرجل إلى المرأة وإن كانت محتجبة لحسن قدها وحسن ثيابها، وكذلك قوله:«وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ» فإنه يمكن أن يُعرف أنها تنظر وإن كانت محتجبة، ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن حكم نظر المرأة إلى الرجل ليس كحكم نظر الرجل إلى المرأة، بل هو أخف، ولهذا يجوز للمرأة النظر إلى الرجل بغير شهوة، ولهذا لم يؤمر الرجال بالاحتجاب من النساء.

15 -

أن طلب العلم لا يختص بالرجال، لكن لكلٍّ خصوصاته وقدراته.

16 -

تواضعه صلى الله عليه وسلم لإرداف الفضل بن عباس رضي الله عنهما.

17 -

فضيلة الفضل بن عباس رضي الله عنهما لإرداف النبي صلى الله عليه وسلم له.

18 -

جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق ذلك.

ص: 120

19 -

عناية ابن عباس رضي الله عنهما بمعرفة الأنساب، لقوله:«امْرَأَةٌ مَنْ خَثْعَمَ» ، «امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ» .

20 -

أن أم الجهنية أدركت الحج فلم تحج، لقولها:«فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ» ، وليس المراد أنها ماتت قبل مجيء وقت الحج، فلو أرادت ذلك لقالت:«فلم تدرك الحج» ، أو «ماتت قبل أن يدركها الحج، أو أن يأتي وقت الحج» . والصحيح أن من هذه حاله لا يجب عليه ما نذره.

21 -

أن دين الله أحق بالوفاء من دين الآدمي، فإذا جمع دين لله ودين لآدمي، فقيل: يقدم دين الآدمي لأنه مبني على المشاحة، وإن كان دين الله أحق بالوفاء، لكنه مبني على المسامحة، وقيل: يتحاصان، وذلك إذا لم تف التركة بسداد الدين، وهو الصحيح.

* * * * *

(810)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ، ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ، ثُمَّ أُعْتِقَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى» . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلّا أنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ، والمحْفُوظُ أنَّهُ مَوْقُوفٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في اشتراط البلوغ والحرية في وجوب الحج وإجزائه، وهو شاهد لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم

(2)

في صحة حج الصبي، والحديث وإن اختلف في رفعه تصريحًا، فهو مرفوع حكمًا، ولذا عوّل عليه

(1)

«المصنف» لابن أبي شيبة (15105) موقوفًا، والبيهقي في «الصغرى» (1477) مرفوعًا. وقد ذهب المصنف إلى صحة رفعه كما في «التلخيص» (2/ 422).

(2)

تقدَّم برقم (807).

ص: 121

جمهور العلماء في وجوب الحج على العبد إذا عتق، وإن كان قد حج في حال الرق.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

صحة حج الصبي، وتقدم.

2 -

أنه لا يجزئ عن حجة الإسلام، وهذا بإجماع أهل العلم

(1)

؛ لأن حجَّه نفلٌ، كسائر عباداته للحديث المشهور «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ»

(2)

ومنهم «الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ» .

3 -

صحة حجة العبد والأمة، وأنه لا يجزئ عن حج الفريضة إذا عتقا، وهذا يتضمن أنه لا يجب الحج على العبد ما دام في الرق.

4 -

وجوب الحج على العبد إذا عتق، وقد اختلف العلماء في وجوب الحج على العبد قبل عتقه، وفي إجزاء حجه لو حج، فذهب الجمهور إلى عدم الوجوب، وعدم الإجزاء، على ظاهر هذا الحديث.

وذهب بعض العلماء، ومنهم الظاهرية، إلى وجوب الحج عليه إذا قدر، وعليه؛ فيجزئه عن حجة الإسلام

(3)

، ولم ير هؤلاء هذا الحديث حجة للاختلاف في رفعه. وما ذهب إليه الجمهور أظهر لهذا الحديث، لأنه مرفوع حكمًا أو تصريحًا، ولأن العبد يفارق الحر في أحكام كثيرة، منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، فهو ناقص الأهلية، فلا يتصرف إلا بإذن سيده

(1)

ينظر: «الإجماع» لابن المنذر (77)، و «المغني» لابن قدامة (5/ 7).

(2)

رواه أحمد (24694)، وأبو داود (4398)، والنسائي (3432)، وابن ماجه (2041)، وابن حبان (142)، والحاكم (2405)، عن عائشة رضي الله عنها.

(3)

ينظر: «المحلى» لابن حزم (7/ 42 - 43).

ص: 122

كالصبي المميِّز لا يتصرف إلا بإذن وليه، ولهذا -والله أعلم- قُرن بينهما في هذا الحديث.

* * * * *

(811)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَقُولُ: «لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَلا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ:«انْطَلِقْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في سد الذرائع المفضية إلى الفاحشة، وفي تحريم سفر المرأة بلا محرم.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية.

2 -

جواز وجود الرجل الأجنبي مع المرأة عند وجود محرمها.

3 -

أن الخلوة بالمرأة من أقرب الوسائل للوقوع في الفاحشة، كما يشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث:«إلَّا كانَ ثالِثَهما الشَّيطانُ»

(2)

، وأشد الخلوة أن يأمنا من دخول أحد عليهما، كما إذا غُلِّقت الأبواب.

4 -

أن مطلق المفسدة لا تزول إلا بوجود المحرم، فلا تزول مطلقًا إلا بذلك، فلا تزول بوجود امرأة أخرى أو رجل آخر.

(1)

البخاري (1862)، ومسلم (1341).

(2)

رواه أحمد (114)، وابن حبان (7254)، والبيهقي في «الكبرى» (13521). وصححه الحاكم (387) وقال:«على شرط الشيخين» .

ص: 123

5 -

تحريم سفر المرأة من غير محرم، ومحرم المرأة هو زوجها، ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح؛ ولا بد أن يكون المحرم عاقلًا بالغًا قادرًا على حماية المرأة.

6 -

عناية الشرع بالمرأة فإن المحرم إنما شرع صيانة للمرأة لا إهانة لها، ولا تقييدًا لحريتها كما يزعم المستغربون.

7 -

أن النهي عن سفر المرأة بلا محرم مطلق لا يقيد بمسافة ولا زمن، وما ورد من التقييد بيوم أو ليلة أو أكثر من ذلك فليس له مفهوم، بل هو محمول على اختلاف السائلين، وهو عام في كل سفر مباح أو عبادة.

8 -

اشتراط المحرم في سفر الحج.

9 -

اشتراط المحرم لوجوب الحج على المرأة وهذا مذهب جمهور العلماء، وذهب بعضهم إلى أنه لا يشترط، بل يجب عليها الحج إذا وجدت رفقة مأمونة مع نساء ثقات، وهو مذهب ابن حزم

(1)

، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(2)

، ويختص ذلك بحج الفرض، والصواب ما ذهب إليه الجمهور، لأنه ظاهر أحاديث النهي عن السفر بلا محرم، وقيل إنه شرط أداء لا شرط وجوب، والفرق بينهما أنه إن كان شرط وجوب فلا تجب عليها الاستنابة ولو كانت قادرة بمالها، ولا يقضى عنها بعد موتها، وإن كان شرط أداء وجبت الاستنابة والقضاء بعد الموت.

10 -

أن سفر الرجل مع امرأته للحج أولى من خروجه في الغزو.

11 -

أن من يريد الخروج للغزو في جيش أو سرية كانوا يحصون بالكتابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: «وَإِنِّي اكْتُتِبْتُ» .

12 -

أن من يكتب في جيش أو سرية ليس له أن يترك ذلك إلا بإذن الأمير.

* * * * *

(1)

«المحلى» (7/ 47).

(2)

«الفتاوى الكبرى» (5/ 381).

ص: 124

(812)

وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ:«مَنْ شُبْرُمَةُ؟» قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي، قَالَ:«حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟» قَالَ: لا. قَالَ: «حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان، والرَّاجِحُ عِنْدَ أحمَدَ وَقْفُهُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو حجة من قال من العلماء: أن من لم يحج عن نفسه لا يحج عن غيره، وإن فعل وقع عن نفسه، لكن لا يجوز له أن يتعمد ذلك. وذهب بعض أهل العلم أنه يقع الحج عن المنوب عنه لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(2)

، وهذا إنما نوى الحج عن غيره، وأجابوا عن هذا الحديث بأنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، وأجاب الجمهور عن حديث النية؛ بأن الحج ليس كسائر الأعمال في ذلك، فإنه يجوز أن يحرم إحرامًا مطلقًا ومعلقًا على إحرام الغير، ويفسخ الحج إلى العمرة، ولو بعد الطواف والسعي، إلى غير ذلك مما يخالف فيه الحج سائر العبادات في شأن النية.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

جواز النيابة في الحج عن الغير.

2 -

جواز ذكر اسم المنوب عنه في التلبية.

3 -

مشروعية الاستفصال قبل الإنكار.

4 -

جواز الحج عن الغير بغير إذنه حيث لم يستفصل.

5 -

أن من لم يحج عن نفسه لا يحج عن غيره، وهذا متوجِّه فيمن وجب عليه الحج، أما من لم يجب عليه الحج كالفقير يعطى مالًا ليحج عن غيره، فإنه يجزئ عن الغير.

(1)

أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وابن حبان (3988). ينظر:«التلخيص» (2/ 427).

(2)

رواه البخاري (1)، ومسلم (1907).

ص: 125

6 -

أن من نوى الحج عن الغير، ولم يكن حج عن نفسه وقع الحج عن نفسه.

7 -

جواز تغيير النية في الحج بعد الشروع فيه.

8 -

مشروعية التلبية في الحج، والجهر بها.

9 -

جواز قول (لا) في جواب السائل ولو كان ذا منزلة.

* * * * *

(813)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ» فَقَامَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: أَفِي كَلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لَوْ قُلْتُهَا لَوَجَبَتْ، الْحَجُّ مَرَّةٌ، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، غَيْرَ التِّرْمِذِيِّ

(1)

. وَأَصْلُهُ في مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيْثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه

(2)

.

* * *

هذا الحديث هو الدليل من السنة على فرض الحج، وهو عند مسلم

(3)

؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» ، فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ

».

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

الخطبة لبيان الأحكام المهمة.

2 -

فرض الحج على جميع الناس.

3 -

أن (كتب) و (فرض) معناهما واحد، وهو الوجوب المؤكد.

(1)

أحمد (2642)، وأبو داود (1949)، والنسائي (2619)، وابن ماجه (2886).

(2)

مسلم (1337).

(3)

تقدم.

ص: 126

4 -

أن الكتابة من الله تكون شرعية، وهي التي في الحديث، وتكون قدرية كونية، كقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:«هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ»

(1)

.

5 -

تأكيد وجوب الامتثال بالخبر وبالأمر، لقوله:«إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ» ، «فَحُجُّوا» .

6 -

تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم لشرع الله.

7 -

أنه لا يجب في العمر إلا مرة.

8 -

مشروعية التطوع بالحج.

9 -

أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار.

10 -

ذم التكلف في السؤال، كما يدل له سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجواب حتى قالها الرجل ثلاثًا.

11 -

رحمة الله بعباده فيما شرع لهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» .

* * * * *

(1)

رواه البخاري (305)، ومسلم (1211)؛ عن عائشة رضي الله عنها، وتقدم في (باب الحيض).

ص: 127

‌بَابُ المَوَاقِيْت

المواقيت: جمع ميقات، وهو ما حُدَّ لفعل من الأفعال من زمان أو مكان، وأصله من الوقت وهو الزمان.

والتوقيت: تعيين الوقت وتحديد الميقات، وعلى هذا فالمواقيت تكون زمانية؛ كأوقات الصلاة، قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (103)} [النساء: 103]، ومواقيت مكانية؛ وهي مواقيت الإحرام بالحج أو العمرة، وهي خمسة: ذو الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل، ويلملم، وذات عرق، وللحج ميقات زماني، وهو أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فلا يشرع الإحرام بحج أو عمرة قبل المواقيت المكانية ولا يشرع الإحرام بالحج قبل ميقاته الزماني.

* * * * *

(814)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ: ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ: الجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ: قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ: يَلَمْلَمَ، «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(815)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ. رواه أبُوْ دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ

(2)

.

(816)

وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ؛ مِنْ حَدِيْثِ جَابِرٍ رضي الله عنه، إِلَّا أَنَّ رَاوِيْهِ شَكَّ في رَفْعِهِ

(3)

.

(1)

البخاري (1524)، ومسلم (1181).

(2)

أبو داود (1739)، والنسائي (2652).

(3)

مسلم (1183).

ص: 128

(817)

وفي البُخَارِيِّ: أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه هُوَ الَّذِي وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ

(1)

.

(818)

وعِنْدَ أحمَدَ، وأَبِي دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيِّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَشْرِقِ: الْعَقِيقَ

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في مواقيت الإحرام بحج أو عمرة، وفي من يجب عليه الإحرام إذا مر بها.

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

أن ميقات أهل المدينة الذي يهلون منه ذو الحليفة، وتسمى أبيار علي، وهي قريبة من المدينة جدًا، وتبعد عن مكة (400) كيلًا تقريبًا.

2 -

أن ميقات أهل الشام الجحفة، وهي قرية خربة قرب رابغ، وقد عُمِرت بعد ذلك، وصار الناس يحرمون منها، وتبعد عن مكة (180) كيلًا تقريبًا.

3 -

أن ميقات أهل نجد قرن المنازل، وهو الذي يعرف الآن بالسيل، ويحرم منه كل من يأتي من الشرق، ويبعد عن مكة (80) كيلًا تقريبًا.

4 -

أن ميقات أهل اليمن يلملم، ويسمى الآن السعدية، ويبعد عن مكة (80) كيلًا تقريبًا.

5 -

أن ميقات أهل العراق ذات عرق، وهم أهل المشرق كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وواديها هو العقيق: كان يحرم منها أهل القصيم وما قرب منه، وقد تحولت طرق أهل المشرق إلى الطريق المؤدي إلى قرن المنازل (السيل)، وتبعد ذات عرق عن مكة (100) كيلًا تقريبًا.

(1)

البخاري (1531).

(2)

أحمد (3205)، وأبو داود (1740)، والترمذي (832).

ص: 129

6 -

أن هذه المواقيت لا تختص بأهل هذه البلدان المذكورة بل هي لهم، ولكل من مرّ بها من غيرهم يقصد مكة؛ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ» أي: هذه المواقيت لهذه البلدان، ولمن مرّ بهذه المواقيت من غير أهل هذه البلدان، فالضمير الأول والثالث للمواقيت، والثاني والرابع للبلدان.

7 -

أن الإحرام من هذه المواقيت إنما يجب على من مرَّ بها يريد الحج أو العمرة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجب الإحرام على كل من قصد مكة لنسك أو لغيره، فلا يدخلها إلا محرمًا، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، واستثنوا الحطاب والبريد ونحوهما من ذوي الحاجات المتكررة، والراجح ما دل عليه الحديث.

8 -

أن من كان منزله دون هذه المواقيت من جهة مكة فيحرم من منزله، أو من أي مكان أنشأ فيه نية النسك.

9 -

أن أهل مكة يحرمون من مكة، وقد دلَّ حديث عائشة رضي الله عنها حيث أحرمت من التنعيم للعمرة على أن أهل مكة لا يحرمون منها للعمرة؛ بل لا بد أن يخرجوا إلى الحلّ، فيكون حديث عائشة رضي الله عنها مخصصًا لقوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ» .

10 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وقَّت ذات عرق لأهل المشرق، كما في حديث عائشة وحديث ابن عباس الثاني.

11 -

أن عمر رضي الله عنه وقَّت ذات عرق لأهل العراق، ولعله لم يكن علم بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك من جملة موافقاته للوحي رضي الله عنه.

12 -

في الأحاديث علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم حيث وقَّت لبلدان لم تفتح يومئذ: الشام والعراق.

ص: 130

13 -

أن من تجاوز الميقات وهو لا يريد الحج ولا العمرة فإنه يحرم من المكان الذي نوى فيه النسك إلا أن يدخل الحرم فلا يحرم في الحرم بل يعود إلى الحل.

14 -

أن من كان طريقه إلى مكة لا ميقات فيه، فإنه يحرم إذا حاذى أقرب ميقات إلى طريقه.

15 -

أن هذه المواقيت لكل من مرَّ بهن أو حاذاهن برًّا أو بحرًا أو جوًّا.

* * * * *

ص: 131

‌بَابُ وُجُوهِ الإِحْرَامِ، وَصِفَتِهِ

* * *

المراد بوجوه الإحرام: أنواع النسك، وهي ثلاثة: القران والإفراد والتمتع، فالمار بالميقات في أشهر الحج يخير بين هذه الأنساك الثلاثة.

والمراد بالإحرام: نية الدخول في النسك، فمن نوى الدخول في النسك فإنه يلبي فيصير محرمًا، كما يدخل المصلي في الصلاة بتكبيرة الإحرام، وليس كما يظن الجهال؛ أن الإحرام لبس الإزار والرداء، بل الاغتسال ولبس الإزار والرداء ما هو إلا استعداد لعقد نية النسك.

وسمي الدخول في النسك إحرامًا؛ لأنه يتضمن الدخول في تحريم المحرمات في الإحرام، وهي المحظورات التسعة التي ذكرها الفقهاء، وهي:

1 -

لبس المخيط، والمراد بلبس المخيط؛ لبس الثياب المعتادة كالقميص ونحوه، والسراويل ونحوه، والخفين والجوربين.

2 -

تغطية الرأس، وهذان خاصان بالذكر.

3 -

الطيب.

4 -

حلق الشعر أو قصه من الرأس أو سائر البدن.

5 -

تقليم الأظفار.

6 -

قتل الصيد.

7 -

عقد النكاح.

8 -

الجماع.

9 -

المباشرة. ولا يفسد الحج منها إلا الجماع قبل التحلل الأول.

* * * * *

ص: 132

(819)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في أنواع النسك، فالإحرام بالحج إفراد، وبالحج والعمرة قران، وبالعمرة ثم التحلل منها ثم الإحرام بالحج هو التمتع.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

تخيير من أراد الحج بين الأنساك الثلاثة.

2 -

أن الصحابة في حجة الوداع كان منهم المفرد ومنهم القارن ومنهم المتمتع، ولكنهم بعد قدوم مكة أُمروا كلهم بالتمتع إلا من ساق الهدي.

3 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج، وقد جاءت روايات كثيرة صحيحة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، فوجب تأويل قول عائشة رضي الله عنها:«وَأَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ» يعني أنه أفرد أعمال الحج؛ لأن أعمال القارن كأعمال المفرد لا فرق.

4 -

أن من أهل بعمرة فإنه إذا طاف وسعى وقصر حلَّ، وهذا شأن المتمتع.

5 -

أن من أهل بحج أو بحج وعمرة لا يتحلل، وهذا لا يصح بإطلاق، فقد دلت الأحاديث الصحيحة أن من أهل بحج أو عمرة وليس معه هدي، فقد أمروا أنهم إذا طافوا وسعوا أن يتحللوا من إحرامهم بعد الطواف والسعي، وأن يجعلوها عمرة، إلا من ساق الهدي، فإنه لا يحل حتى ينحر هديه بمنى. ويسمى هذا التحلل عند الفقهاء فسخ الحج إلى العمرة، فقد اختلف العلماء في ذلك؛ فقيل: يجب الفسخ على من كان أحرم بحج أو حج وعمرة، وقيل: يستحب، وقيل: يحرم، وأقربها -والله أعلم- هو القول باستحباب الفسخ.

(1)

البخاري (1562)، ومسلم (1211).

ص: 133

(820)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلا مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(821)

وَعَنْ خَلَّادِ بْنِ السَّائِبِ رضي الله عنه، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالإِهْلالِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ حِبَّانَ

(2)

.

(822)

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَجَرَّدَ لإِهْلالِهِ وَاغْتَسَلَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وحسَّنَهُ

(3)

.

* * *

هذه الأحاديث اشتملت على صفة الإحرام القولية والفعلية.

وفي هذه الأحاديث فوائد، منها:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ من عند مسجد ذي الحليفة، ويعرف بمسجد الشجرة، ولعل هذا المسجد بني وعُرف بعد النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفت الروايات في وقت إهلال النبي صلى الله عليه وسلم ومكانه، والمراد بالإهلال: رفع الصوت بالتلبية، فروي أنه أهلَّ بعد ما صلَّى، وروي أنه بعد ما استقلت به راحلته على البيداء. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن هذا كله حصل، وأن كلًا ذكر ما حضره وسمعه. وبذا يحصل الجمع بين الروايات.

2 -

أن جبريل هو الذي يأتي بالوحي، ويبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم.

3 -

مشروعية التلبية للمحرم بحج أو عمرة.

(1)

البخاري (1541)، ومسلم (1186).

(2)

أحمد (16567)، وأبو داود (1814)، والترمذي (829)، والنسائي (2752)، وابن ماجه (2922)، وابن حبان (3802).

(3)

الترمذي (830).

ص: 134

4 -

وجوب رفع الصوت بها من الرجال لنزول الوحي بذلك.

5 -

استحباب التجرد والاغتسال للإحرام، والتجرد عمّا يحرم على المُحْرِم من اللباس مستحب قبل الإحرام، ويجب بعد الإحرام.

* * * * *

(823)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ: «لا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنْ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلا الْوَرْسُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل فيما يحرم على المحرم من اللباس.

وفيه فوائد، منها:

1 -

سؤال الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحكام.

2 -

مشروعية السؤال عن أحكام الدين، وذلك من التفقه في الدين، وفي الحديث:«مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»

(2)

.

3 -

عدول المفتي في الجواب عن مطابقة السؤال إذا رأى المصلحة في ذلك، وهو ما يسمى في البلاغة: الأسلوب الحكيم، فقد سأل السائل عمّا يلبس المحرم، فأجيب عن بيان ما لا يلبس، والسر في ذلك أن ما لا يلبس محصور بما ذكر، وما عداه فعلى أصل الإباحة.

4 -

تحريم القميص ونحوه على المحرم.

(1)

البخاري (1542)، ومسلم (1177).

(2)

رواه البخاري (71)، ومسلم (1037)؛ عن معاوية رضي الله عنه.

ص: 135

5 -

تحريم العمامة على المحرم.

6 -

تحريم السراويلات، جمع سراويل، وهو معروف.

7 -

تحريم البُرْنُس، وهو لباس يستر جميع البدن، وله طرف يُغطى به الرأس.

8 -

تحريم لبس النقاب، وهو ما يخاط على قدر الوجه، وقال بعض الفقهاء: يحرم على المحرمة تغطية وجهها بأي ساتر، لكن إذا حضرها رجال أجانب أو مروا بها سدلت خمارها على وجهها، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها:«كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا»

(1)

.

9 -

تحريم لبس الخفين.

10 -

جواز لبس الخفين لمن لم يجد نعلين بشرط قطعهما أسفل من الكعبين، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقيل: يشترط، لهذا الحديث، وقيل: لا يشترط، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعرفة وقال:«وَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْن»

(2)

. فمن لم يشترط القطع يجعل حديث ابن عباس رضي الله عنهما ناسخًا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، ومن اشترط القطع حمل حديث ابن عباس على حديث ابن عمر من باب حمل المطلق على المقيد جمعًا بين الدليلين.

11 -

يسر الشريعة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ وَمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ»

(3)

.

(1)

رواه أحمد (24021)، وأبو داود (1833)، وابن ماجه (2935)، وابن خزيمة (2691)، والدارقطني في «السنن» (2763).

(2)

رواه البخاري (5804)، ومسلم (1178).

(3)

رواه البخاري (1843)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهو عند مسلم (1179)؛ من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 136

12 -

تحريم لبس القفازين على المحرمة، والرجل في ذلك من باب أولى.

13 -

تحريم ما مسه الزعفران أو الورس، وهما نوعان من الطيب على ما ذكره الشراح.

14 -

تحريم الطيب على المحرم.

15 -

حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم.

* * * * *

(824)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في استحباب الطيب لمريد الإحرام قبل أن يحرم، وعند التحلل الأول في الحج.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

استحباب الطيب لمريد الإحرام.

2 -

استحباب الطيب للحاج بعد التحلل الأول.

3 -

فضيلة عائشة رضي الله عنها لتولي ذلك من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4 -

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للطيب.

5 -

جواز استدامة المحرم للطيب، إذ لا معنى أن يتطيب قبل الإحرام ثم يغسله، وقد جاء التصريح بما يدل على ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها قالت:«كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ»

(2)

، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فذهب الجمهور إلى جواز استدامة المحرم للطيب دون

(1)

البخاري (1539)، ومسلم (1189).

(2)

رواه البخاري (1538)، ومسلم (1190).

ص: 137

ابتدائه وهو الصواب، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث المحرمة للطيب على المحرم، والدالة على إباحته.

6 -

أن (كان) في مثل هذا السياق لا تفيد الاستمرار، فإن ذلك إنما وقع مرة واحدة في حجة الوداع، وهذا الذي عليه جمهور العلماء أن (كان) لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وهي للمرة الواحدة، فإن دل دليل على التكرار عمل به، وإلا فلا تقتضيه بوضعها، قاله النووي واستشهد بهذا الحديث على ذلك

(1)

.

7 -

أن للحج تحلُّلين؛ أصغر، وهو الأول، ويكون بعد الرمي والحلق أو التقصير، وتحل به كل المحظورات إلا النساء، وأكبر، ويكون بعد الطواف، ويحل به كل ما حرم على المحرم.

* * * * *

(825)

وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلا يُنْكِحُ، وَلا يَخْطُبُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في تحريم عقد النكاح على المحرم.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم عقد النكاح على المحرم زوجًا كان أو وليًا.

2 -

تحريم عقد النكاح على المحرمة.

3 -

تحريم الخطبة على المحرم.

4 -

تحريم الجماع ودواعيه على المحرم.

5 -

تحريم توكيل المحرم في عقد النكاح.

6 -

تحريم التَّوكل عن المحرم في عقد النكاح.

* * * * *

(1)

شرح النووي على صحيح مسلم (3/ 275).

(2)

مسلم (1409).

ص: 138

(826)

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه؛ فِي قِصَّةِ صَيْدِهِ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ -وَكَانُوا مُحْرِمِينَ-: «هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؟» قَالُوا: لا. قَالَ: «فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(827)

وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ:«إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان هما الأصل في حكم صيد الحلال بالنسبة للمحرم.

وفي الحديث الأول فوائد، منها:

1 -

حل صيد الحلال للمحرم، لقوله صلى الله عليه وسلم:«فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهِ» ويشكل على هذا رد النبي صلى الله عليه وسلم حمار الوحش على الصعب بن جثامة وقوله: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» ، وجُمع بين الحديثين بأن ما صاده الحلال لنفسه حلال للمحرم، وما صاده من أجل المحرم فهو حرام عليه، وحمل على هذا المعنى حديث الصعب رضي الله عنه.

2 -

حل حمار الوحش.

3 -

تحريم صيده على المحرم.

4 -

جواز الاصطياد.

5 -

تحريم قتل الصيد على المحرم والإعانة عليه.

6 -

أن الوسائل لها أحكام الغايات.

7 -

تحريم صيد المحرم على الحلال، لأنه بقتله يصير ميتة.

(1)

البخاري (1824)، ومسلم (1196).

(2)

البخاري (1825)، ومسلم (1193).

ص: 139

8 -

تحريم تنبيه المحرم الحلال للصيد.

9 -

أن أبا قتادة رضي الله عنه صيَّاد.

10 -

جواز الصيد بالرمح.

11 -

أن من لم يمر بالميقات يحرم من مكانه.

12 -

استفصال المفتي من السائل.

13 -

جواز قول (لا) للمستفهم وجواز الاقتصار عليها في الجواب.

14 -

جواز الهدية من لحم الصيد.

15 -

أن الأمر يأتي للإباحة.

16 -

جواز ادخار اللحم.

17 -

السؤال عمَّا اشتبه حكمه، وإن كان قد استُبيح، لتأكيد الاستباحة.

وفي حديث الصعب رضي الله عنه فوائد، منها:

1 -

حل حمار الوحش.

2 -

إكرام الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالإهداء إليه.

3 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم لاعتذاره عن رد الهدية.

4 -

أن الصعب رضي الله عنه صاد الحمار وهو حلال من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك رده النبي صلى الله عليه وسلم.

5 -

أن ما أهداه الصعب رضي الله عنه هو بعض الحمار، كما تقتضيه أكثر الروايات، وأما قوله في هذه الرواية:«حِمَارًا وَحْشِيًّا» ففيه نوع تجوز.

6 -

جواز أن يذكر الإنسان نفسه بصيغة الجمع، ولا يلزم، أن يكون معظمًا لنفسه، وقد تكون صيغة الجمع في هذا الحديث باعتبار أن معه صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم.

7 -

أن المحرم يقال: إنه حرام، والجماعة: حُرُم.

ص: 140

8 -

أن الصعب رضي الله عنه صياد.

9 -

كثرة حمر الوحش في الجزيرة.

* * * * *

(828)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في قتل المؤذيات بطبعها أو صيالها.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

حكمة الشريعة، وذلك في التفريق بين المختلفات والتسوية بين المتماثلات.

2 -

تعليل الأحكام.

3 -

علة حل قتل هذه المذكورات في الحل والحرم، وهو فسقهن، وهو خروج طبعهن عن سائر الحيوانات المسالمة.

4 -

تغليب الدواب في المذكورات على ما يطير منهن.

5 -

أن (كُلًّا) إذا أضيفت إلى جمع أو ضمير جمع فيجوز مراعاة لفظها أو معناها، وقد جاء «كُلُّهُنَّ فَوَاسِق» وهنا «فَاسِقٌ» .

6 -

الندب إلى قتل هذه الفواسق.

7 -

إباحة قتلهن في الحرم، وقتلهن للمحرم.

8 -

أنه لا مفهوم للعدد.

(1)

البخاري (1829)، ومسلم (1198).

ص: 141

9 -

أن الكلب الذي يُندب إلى قتله هو العقور، وهو الذي ينهش الناس، بخلاف غيره.

10 -

أن كل ما يؤذي يباح قتله، لأن الحكم يدور مع علته.

11 -

أن ما لا يؤذي لا يباح قتله تحريمًا أو كراهة. وما أبيح قتله من البهائم والصيد يقتل للأكل، لا لغيره.

* * * * *

(829)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

في الحديث فوائد، منها:

1 -

جواز التداوي بالحجامة.

2 -

جواز الحجامة للمحرم، ولو أدى ذلك إلى حلق بعض شعر الرأس، يدل لذلك ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه

(2)

، واختلف العلماء في وجوب الفدية على من احتاج إلى ذلك، والأظهر وجوب الفدية؛ لأنه حكم دل عليه القرآن والسنة في حديث كعب

(3)

، وهو نص لا يتطرق إليه احتمال، وحديث ابن عباس ليس نصًّا في حكم المسألة، وإذا تعارض نصٌّ وظاهر قُدِّم النصُّ؛ لعدم تطرق الاحتمال إليه.

3 -

جواز التداوي، ولو كان الإنسان محرمًا.

4 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم تعرض له العوارض البشرية كالصداع والحمى ونحوهما.

* * * * *

(1)

البخاري (1835)، ومسلم (1202).

(2)

رواه البخاري (1836)، ومسلم (1203)؛ عن ابن بحينة رضي الله عنه.

(3)

وهو الحديث التالي في الباب برقم (830).

ص: 142

(830)

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ:«مَا كُنْتُ أَرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى، تَجِدُ شَاةً؟» قُلْتُ: لا. قَالَ: «فَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل من السنة على وجوب الفدية على المحرم إذا حلق رأسه، وقصة كعب هذه هي سبب نزول قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

ذكر سبب نزول الآية.

2 -

وجوب الفدية على المحرم إذا حلق رأسه، ولو لعذر من حاجة وضرورة، وتسمى هذه الفدية عند العلماء فدية الأذى، أخذًا من قوله تعالى:{أَذًى مِنْ رَّأْسِهِ} .

3 -

أن فدية الأذى على التخيير بين الثلاثة المذكورة في الآية والحديث: الصيام، والصدقة، والنسك.

4 -

بيان السنة للقرآن.

5 -

بيان مقدار الصوم، وهو ثلاثة أيام.

6 -

بيان مقدار الصدقة، وهو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.

7 -

أنه يجزئ في فدية الأذى ذبح شاة، وما قام مقامها من سبع بدنة أو سبع بقرة.

8 -

أن النسك أفضل الثلاثة؛ لأنها تتضمن التقرب بالذبح وبالصدقة باللحم.

(1)

البخاري (1816)، ومسلم (1201).

ص: 143

9 -

جواز حلق المحرم لشعره إذا اضطر إلى ذلك.

10 -

مواساة النبي صلى الله عليه وسلم لكعب رضي الله عنه على وجعه.

11 -

قياس كل ما كان فيه ترفُّهٌ من المحظورات على حلق الشعر في وجوب الفدية كالطيب وتقليم الأظفار.

12 -

أن من حالات الأذى تراكم الوسخ تحت الشعر؛ مما يسبب كثرة القمل، وأنجع سبب لإزالة هذا الأذى حلق الشعر.

13 -

جواز قتل المحرم للقمل؛ أما قتله تبعًا فبالإجماع لهذا الحديث، وأما قتله ابتداء بالفَلْي فكرهه بعض العلماء، أو حرموه، ولم يذكروا على ذلك دليلًا إلا أن ذلك من الترفه، أو ما يخشى من سقوط الشعر، والصواب إباحة قتله؛ لأنه مؤذ، وما ذكروه من التعليل عليل.

* * * * *

(831)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَإِنَّهَا لَنْ تَحِلَّ لأَحَدٍ بَعْدِي، فَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ، وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ» . فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الإِذْخِرَ، يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا، فَقَالَ:«إِلَّا الإِذْخِرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(832)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لأَهْلِهَا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ، وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ لأَهْلِ مَكَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1)

البخاري (2434)، ومسلم (1355).

(2)

البخاري (2129)، ومسلم (1360).

ص: 144

(833)

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في تحريم مكة والمدينة، ولا حرم من الأرض سواهما.

وفيها فوائد، منها:

1 -

أن السنة افتتاح الخطب بحمد الله والثناء عليه.

2 -

الاكتفاء في الخطبة بالحمد والثناء على الله؛ فلا يلزم ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

3 -

أن مكة والمدينة حرم، ومعناه: أنه يحرم فيهما ما لا يحرم في غيرهما، ويقتضي ذلك فضلهما على سائر البلاد، ومن المحرمات تحريم ابتداء القتال في حرم مكة {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191].

4 -

أن من آثار حرمة مكة وحرمة البيت أن حبس الله عنها الفيل، وأهلك أصحاب الفيل.

5 -

أن القتال في مكة عام الفتح كان بإذن من الله، وبذلك سلط الله الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الكافرين، وإذنه تعالى بذلك القتال إذن شرعي وكوني.

6 -

أن الله خالق أفعال العباد والحيوان، لقوله:«وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ» ، و «حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ» .

7 -

أن تحريم مكة منذ خلق الله السماوات والأرض، فلم تزل حرمًا.

8 -

الرخصة للنبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء القتال فيها ساعة إحلالها لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» .

(1)

مسلم (1370)، وهو في البخاري أيضًا (6755).

ص: 145

9 -

أن حل القتال في مكة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة، فهو حكم خاص مؤقت؛ فليس لأحد أن يحتج بفعله صلى الله عليه وسلم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:«فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ»

(1)

.

10 -

تحريم تنفير الصيد في حرم مكة، ومن باب أولى تحريم قتله.

11 -

تحريم قطع شجره، واختلاء شوكه وحشيشه.

12 -

تحريم التقاط لقطته إلا من يريد تعريفها، فلا تملك.

13 -

أن من قتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ أي: يخيَّر بين القصاص والعفو إلى الدية أو مجانًا.

14 -

أن القصاص ليس حدًّا محتمًا؛ لأنه حق ولي المقتول.

15 -

جواز القصاص وإقامة الحدود بمكة على من ارتكب المعصية فيها.

16 -

جواز طلب الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الداعي إلى ذلك لقول العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم: «إِلَّا الإِذْخِرَ، يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي قُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا» ، والإذخر: نوع من الحشيش طيب الرائحة، كانوا يجعلونه في القبور فوق اللبن؛ يمنع دخول التراب، وفي السقف فوق الجريد كذلك؛ يمنع نزول الطين.

17 -

جواز النسخ قبل التمكن من الفعل، لقوله صلى الله عليه وسلم وهو في مقامه:«إِلَّا الإِذْخِرَ» .

18 -

إباحة قطع الإذخر.

19 -

أن إبراهيم عليه السلام حرم مكة؛ أي: أظهر تحريمها، وبلَّغه.

20 -

حرمة البيت عند الله، وعظم شأنه، ومن ذلك أن جعل له حمى؛ جعله حرمًا.

(1)

رواه البخاري (104)، ومسلم (1354)؛ عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه.

ص: 146

21 -

أن إبراهيم عليه السلام دعا لأهل مكة بالبركة.

22 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم المدينة، كما حرم إبراهيم مكة.

23 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بمثل أو مثلي ما دعا إبراهيم لأهل مكة.

24 -

أن آثار دعوة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام هي البركة في طعام مكة والمدينة.

25 -

بيان حدود حرم المدينة من «عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ» ، وحرمها ما بين اللابتين، أي: الحرتين.

* * * * *

ص: 147

‌بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ وَدُخُولِ مَكَّةَ

(834)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، فَقَالَ:«اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ، وَأَحْرِمِي» .

وَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ:«لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ» ، حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فَصَلَّى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ.

ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللّهِ} [البقرة: 158]، «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» فَرَقِيَ الصَّفَا، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ، وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ:«لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» . ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى إِلَى الْمَرْوَةِ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ، كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا

فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ:

فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنَى، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعِشَاءَ، وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ، فَأَجَازَ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا. حَتَّى

ص: 148

إِذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ. ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.

ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا، حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ، وَدَفَعَ، وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى:«أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ، السَّكِينَةَ» ، كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ. حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ، وَهَلَّلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا. فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا، مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ. ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ مطولًا

(1)

.

* * *

هذا الحديث أطول حديث وأوفاه تضمن مناسك الحج، فلم يخرج عنه إلا القليل من أحكام الحج، ويعرف هذا الحديث بحديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عني به العلماء بشرحه وذكر فوائده، وإليك ما تيسر ذكره من فوائده على وفق سياق مسلم في صحيحه، فإن الحافظ ابن حجر اختصر مواضع منه.

(1)

مسلم (1218).

ص: 149

وفيه فوائد كثيرة، منها:

1 -

فضيلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه لنقله صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم منذ خرج من المدينة إلى أن قضى المناسك.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد هجرته إلا في السنة العاشرة.

3 -

توافد الناس على المدينة للحج مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

4 -

كثرة من حج معه صلى الله عليه وسلم لقول جابر رضي الله عنه: «نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْل ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْل ذَلِكَ وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْل ذَلِكَ» .

5 -

أن ميقات المدينة ذو الحليفة.

6 -

استفتاء المسلم والمسلمة العالم عمّا أشكل من أمر الدين.

7 -

الاستنابة في الاستفتاء.

8 -

استحباب الغسل للإحرام، حتى الحائض والنفساء.

9 -

أن محمد بن أبي بكر ولد في ذي الحليفة.

10 -

أن الحيض والنفاس لا يمنع من الإحرام.

11 -

أن إهلال النبي صلى الله عليه وسلم بنسكه حين استوت به راحلته على البيداء، وهي بيداء ذي الحليفة قبل أن يبرح منها، وهذا هو الذي أدركه جابر رضي الله عنه، وقد ذكر غيره أنه أهلَّ في مصلاه، وذكر ابن عمر رضي الله عنهما أنه حين استقلت به راحلته، وجمع بين ذلك؛ بأن كلًّا ذكر من إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدركه.

12 -

مشروعية التلبية للمحرم.

13 -

أنها شعار الإحرام في الحج والعمرة، وبها يكون الدخول في النسك مع النية.

ص: 150

14 -

تضمن التلبية للتوحيد ولذا قال جابر: «أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ» ، ومعنى «لَبَّيْكَ» الإجابة والإقامة على الطاعة، واللفظ يدل على التكرار، فالمعنى: إجابة لك يا ألله بعد إجابة، وإقامة على طاعتك بعد إقامة، وهذا الذكر أي التلبية لا يشرع إلا في الإحرام.

15 -

أن تلبية النبي صلى الله عليه وسلم «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ» .

16 -

لزوم النبي صلى الله عليه وسلم لهذه التلبية.

17 -

إقراره للناس على ما يلبون به كقولهم: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ بَيْنَ يَدَيْكَ» .

18 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا بالحج، وهذا من حجة من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم مفردًا، لذلك قال: الإفراد أفضل، وقد اختلفت الروايات في النسك الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرها وأصرحها أنه أهل قارنًا، أي أهل بحج وعمرة، ومن الرواة من قال: إنه أحرم متمتعًا، والقران يسمى تمتعًا في لغة الصحابة رضي الله عنهم، بل قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، قال المفسرون: إنه يشمل القران والتمتع الخاص. وقد استوفى الإمام ابن القيم الروايات في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم، وجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، واستدل على ذلك بروايات صحيحة صريحة، وأجاب عن كل ما خالفها في بحث لا نظير له، تضمنه كتاب «زاد المعاد»

(1)

.

19 -

البداءة بالبيت لكل من قدم مكة محرمًا.

20 -

استحباب طواف القدوم لمن كان مفردًا أو قارنًا أما من كان متمتعًا فإنه يطوف للعمرة.

21 -

البداءة في الطواف باستلام الركن، وهو الحجر الأسود.

(1)

«زاد المعاد» (2/ 107).

ص: 151

22 -

مشروعية الرمل في طواف القدوم، ويكون في الأشواط الثلاثة الأولى، ويسمى الخَبَب، وهو الإسراع مع تقارب الخُطى.

23 -

استحباب المشي في الأشواط الأربعة الأخيرة.

24 -

أن الرمل يكون من الحجر إلى الحجر.

25 -

مشروعية صلاة ركعتين بعد الطواف.

26 -

استحباب فعلهما خلف مقام إبراهيم.

27 -

تذكر الآية عند ذلك {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وتلاوتها.

28 -

استحباب قراءة سورتي الإخلاص بعد الفاتحة في ركعتي الطواف، الكافرون في الأولى، وقل هو الله أحد في الثانية.

29 -

العود لاستلام الركن بعد الصلاة عند مقام إبراهيم.

30 -

الخروج إلى الصفا للسعي، واستحباب الموالاة بينه وبين الطواف.

31 -

استحباب صعود الصفا.

32 -

استحباب التكبير والتهليل وما بعده، وتكرار ذلك ثلاثًا، والدعاء بين ذلك.

33 -

جواز السجع في الدعاء والذكر من غير تكلف.

34 -

مشروعية الطواف بين الصفا والمروة، والبداءة فيه بالصفا.

35 -

استحباب السعي في بطن الوادي، ومحله الآن فيما بين العلمين الأخضرين.

36 -

أن المروة منتهى السعي.

37 -

أنه يشرع على المروة من الوقوف والذكر مثل ما يشرع على الصفا.

38 -

أن الطواف بين الصفا والمروة سبع مرات.

ص: 152

39 -

أن الذهاب إلى المروة سعية، ورجوعه إلى الصفا سعية، فينتهي الشوط السابع بالمروة.

40 -

الرد على ابن حزم في قوله: إن السعي يكون أربع عشرة طوفة، بحيث يبدأ بالصفا وينتهي بالصفا.

41 -

مشروعية فسخ الإحرام والتحلل بعمرة لمن كان مفردًا أو قارنًا، وقد اختلف العلماء في ذلك، فقيل: يحرم، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خاص بهم في تلك الحجة، وقيل: يجب الفسخ إلى التمتع على كل من أحرم مفردًا أو قارنًا ولم يسق الهدي، وقيل: إن الفسخ مستحب وهو أوسط الأقوال وأرجحها، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

، وقد خالفه تلميذه ابن القيم فاختار وجوب الفسخ

(2)

.

42 -

أن جمهور الصحابة قد حلوا، لأنهم لم يسوقوا هدايا.

43 -

أن من ساق الهدي لا يتحلل من إحرامه، بل يبقى حتى يوم النحر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق مئة بدنة بعضها جاء به من المدينة، وبعضها جاء به علي رضي الله عنه من اليمن.

44 -

أن الذين ساقوا الهدي من الصحابة قلة.

45 -

جواز تعليق الإحرام على إحرام الغير، كما فعل علي وأقره النبي صلى الله عليه وسلم.

46 -

أن فاطمة رضي الله عنها قد حلّت لأنها لم تهد شيئًا.

47 -

أن من حل من إحرامه جاز له الاكتحال والزينة.

48 -

أن أحكام الإحرام بالعمرة كأحكام الإحرام بالحج، لقوله صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّ العُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الحَجِّ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ»

(3)

، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:

(1)

«مجموع الفتاوى» (26/ 31 - 33).

(2)

«زاد المعاد» (2/ 193).

(3)

رواه مسلم (1241)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 153

«وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجِّكَ»

(1)

وهذا مطرد في محظورات الإحرام، وأما في المناسك فيتفقان في الإحرام والتلبية والطواف والسعي والحلق أو التقصير.

49 -

إنكار الرجل على أهله أو غيرهم ما يظنه حرامًا، ودفع إنكاره بالحجة.

50 -

التثبت فيما يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام.

51 -

استحباب تأكيد الفتوى لمريد الاستثبات لقوله صلى الله عليه وسلم: «صَدَقت، صَدَقت» .

52 -

أن الإحرام بالحج للمحلين بمكة إنما يشرع يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، وسمي يوم التروية لأن الناس يُروُّون فيه الماء لما بعده؛ لأن المشاعر لم يكن فيها عيون وآبار.

53 -

مشروعية التوجه إلى منى في ضحى ذلك اليوم.

54 -

الإقامة بمنى والمبيت بها ليلة التاسع، وهذا المبيت من مناسك الحج وهو مستحب لا واجب.

55 -

أن السنة بمنى عدم الجمع بين الصلوات.

56 -

استحباب الذهاب إلى عرفة بعد طلوع الشمس من اليوم التاسع.

57 -

استحباب النزول دون عرفة إذا تيسر ذلك.

58 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة، وهي قريبة من عرفة، ولهذا قال: فلما أتى عرفة، معناه: كان قريبًا منها نزل بنمرة.

59 -

جواز استظلال المحرم بالخيمة ونحوها، وهذا بالإجماع.

60 -

أنه يستحب للإمام أو نائبه أن يخطب الناس قبل صلاة الظهر والعصر.

(1)

رواه البخاري (1789)، ومسلم (1180)؛ عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه.

ص: 154

من فوائد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة:

61 -

تغليظ حرمة دماء المسلمين وأموالهم فيما بينهم.

62 -

إثبات حرمة البلد مكة، وشهر ذي الحجة، ويوم عرفة.

63 -

تغليظ تحريم المعصية بحرمة الزمان والمكان.

64 -

إبطال النبي صلى الله عليه وسلم كل شيء من أمر الجاهلية.

65 -

إبطال ما كان في الجاهلية من عقود محرمة؛ كعقد الربا، وهو معنى وضع الربا، وذلك لا يُسقط رأس المال، {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279].

66 -

إبطال الدماء التي كانت في الجاهلية، فلا يطالب فيها بقصاص ولا دية.

67 -

أنه لا فرق في ذلك بين قرشي وغيره، فالشريعة لا تحابي أحدًا لنسبه أو لشرفه.

68 -

أن العباس كان تاجرًا في الجاهلية.

69 -

تأخر تحريم ربا الجاهلية.

70 -

أن من عادة العرب الاسترضاعَ في بعض القبائل، ومن ذلك ابن ربيعة ابن الحارث، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مسترضعًا في بني سعد، وظئره حليمة السعدية كما هو مذكور في السيرة النبوية.

71 -

الوصية بتقوى الله في النساء.

72 -

التحذير من ظلمهن.

73 -

التذكير بعظم شأن عقد النكاح، وقد قال تعالى:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [النساء: 21].

ص: 155

74 -

بيان حق الرجل على امرأته، ومن ذلك ألا تأذن في بيته لأحد يكرهه، لقوله:«وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ» ، وكنى بالفراش عن البيت؛ لأن الغالب أن من دخل البيت جلس على الفراش.

75 -

جواز ضرب الرجل امرأته إذا تركت ما هو من حقه الواجب عليها، فعلًا أو تركًا، لقوله:«فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ» ، والضرب المبرح هو الذي يترك أثرًا في البدن، وذلك بما لا يزيد على عشرة أسواط، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلا فِي حَدِّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»

(1)

.

76 -

بيان حق المرأة على زوجها، لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» .

77 -

أن نفقة المرأة غير مقدرة، بل تختلف باختلاف الأحوال والأعراف.

78 -

أن التمسك بكتاب الله عصمة من الضلال.

79 -

استشهاد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على البلاغ، وشهادتهم بذلك، واستشهاده الله عليهم.

80 -

أن الله في العلو، وجواز الإشارة بالإصبع إليه سبحانه وتعالى.

81 -

مشروعية جمع الحاج بعرفة بين الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين، وقد أجمع العلماء على استحباب هذا الجمع.

82 -

أن أهل مكة يجمعون ويقصرون مع الإمام؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أتموا يا أهل مكة، وإلى هذا ذهب جمع من العلماء، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم

(2)

، ثم قيل: إن جمعهم وقصرهم للسفر، وقيل: إنه نسك من أنساك الحج، والأول أظهر، وذهب أكثر العلماء إلى أن أهل مكة لا يقصرون، لأن مسافة المناسك لا تبلغ مسافة القصر.

(1)

رواه البخاري (6850)، ومسلم (1708)، عن أبي بردة الأنصاري رضي الله عنه. وسيأتي في (باب التعزير وحكم الصائل)(1418).

(2)

«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (26/ 72)، و «زاد المعاد» لابن القيم (2/ 234).

ص: 156

83 -

أن المسافر لا يصلي جمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر بالقراءة، ولم يخطب خطبتين، وكان يوم عرفة يوم الجمعة ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى الجمعة في أي من أسفاره البتة.

84 -

مشروعية التلبية.

85 -

مشروعية صلاة الجماعة في السفر.

86 -

أن المجموعتين تكونان بأذان واحد وإقامتين.

87 -

مشروعية الموالاة بين الصلاتين المجموعتين، ثم قيل يجب، وقيل: يستحب، والثاني أظهر.

88 -

أن وقت الوقوف بعرفة يبدأ بعد الزوال وهذا مذهب جمهور العلماء، وذهب الإمام أحمد في المشهور عنه؛ أنه يبدأ بطلوع الفجر، لحديث عروة بن مضرِّس رضي الله عنه

(1)

.

89 -

أن موقف النبي صلى الله عليه وسلم عند الصخرات التي عند جبل إلال، وهو ما يسميه بعض العلماء جبل الرحمة، ولا أصل لهذه التسمية، وهو شرقي عرفة، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:«وَقَفْتُ هَا هُنَا بِعَرَفَةَ، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» وعند الإمام أحمد: «وَارْفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ»

(2)

.

90 -

وجوب الوقوف إلى غروب الشمس، وقد جعل بعض العلماء الوقوف جزءًا من الليل ركنًا من أركان الحج.

91 -

مشروعية الدفع من عرفة بعد تحقق الغروب.

92 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكبًا، وهذا بالإجماع، ولذا قيل: إن الركوب في الحج أفضل.

(1)

سيأتي في (باب صفة الحج ودخول مكة)(851).

(2)

رواها أحمد (16751)؛ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.

ص: 157

93 -

الندب إلى الرفق في السير، ومراعاة الحال، لقوله:«كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا حَتَّى تَصْعَدَ» ، وفي حديث:«فإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ»

(1)

.

94 -

فضيلة أسامة بن زيد رضي الله عنهما لإرداف النبي صلى الله عليه وسلم له من عرفة إلى مزدلفة.

95 -

تأخير صلاة المغرب إلى المزدلفة.

96 -

مشروعية الجمع في مزدلفة بين المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان واحد وإقامتين، وهذا الجمع مجمع عليه بين العلماء، ومن وصل إلى مزدلفة في وقت المغرب فهو مخير بين جمع التقديم والتوقيت، أي: يصلي كل صلاة في وقتها.

97 -

أن السنة ترك التنفل بين الصلاتين المجموعتين.

98 -

أن ظاهر حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم تلك الليلة، لقوله:«ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ» ، ولكنه معارض بأنه صلى الله عليه وسلم كان مستيقظًا في آخر الليل؛ بدليل أنه أذن للضعفة بالدفع، واستأذنه بعض أزواجه كسودة رضي الله عنها فأذن لها.

99 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المشعر بعد صلاة الفجر ووقف عنده داعيًا ومهللًا ومكبرًا، وقال:«وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»

(2)

، والمشعر جبل صغير وقد بني مكانه المسجد.

100 -

مشروعية الدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس مخالفة للمشركين، فكانوا لا يدفعون إلا بعد طلوع الشمس.

101 -

فضيلة الفضل بن عباس رضي الله عنهما، وانظر فوائد قصته فيما تقدم، في الباب الأول

(3)

.

102 -

لقط حصى الجمرات من مزدلفة أو من الطريق، وهي حُصيَّات مثل حصى الخذف، وهي ما يرميه الإنسان من بين أصابعه، وقدَّرها الفقهاء بين الحِمِّص والبُنْدُق.

(1)

رواه البخاري (1666)، ومسلم (1280)، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

(2)

رواه مسلم (1218). وهو ضمن حديث جابر المتقدم.

(3)

هو حديث ابن عباس برقم (808).

ص: 158

103 -

أن السنة رمي جمرة العقبة ضحى يوم النحر، وجمرة العقبة خارج منى، وهي حد منى مما يلي مكة.

104 -

مشروعية رمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات.

105 -

التكبير مع كل حصاة.

106 -

أنه لا يرمي في ذلك اليوم غير جمرة العقبة.

107 -

أن مناسك هذا اليوم: رمي جمرة العقبة، ونحر الهدي، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة والسعي لمن لم يكن سعى قبل ذلك.

108 -

أن السنة أن تكون المناسك على هذا الترتيب.

109 -

الأكل من لحم الهدي.

110 -

تحري الأكل من كل واحدة، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يؤخذ من كل بدنة بَضعة.

111 -

فضيلة علي رضي الله عنه لإشراك النبي صلى الله عليه وسلم له في الهدي.

112 -

أن سقاية البيت لبني عبد المطلب.

113 -

أن في ذلك فضيلة لهم، لقوله صلى الله عليه وسلم:«انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ» .

114 -

استحباب الشرب من ماء زمزم.

115 -

جواز الشرب من الدلو.

116 -

ترك العمل الفاضل إذا ترتبت عليه مفسدة راجحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَلَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ» فإنه صلى الله عليه وسلم من أهل السقاية.

117 -

فضيلة خدمة الحاج بالسقي من ماء زمزم وغير ذلك قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 19].

ص: 159

118 -

صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ذلك اليوم بمكة، وروى غير جابر رضي الله عنه أنه صلاها بمنى

(1)

، فمن العلماء من سلك طريقة الترجيح، ومنهم من سلك طريقة الجمع، وذلك بأن يقال: صلى بمكة، ثم صلى بأصحابه بمنى، فتكون له الأولى فريضة، والثانية نافلة كما كان يفعل مثل ذلك معاذ رضي الله عنه مع أصحابه، وقد صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، والجمع إذا أمكن أولى من الترجيح.

* * * * *

(835)

وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ سَأَلَ اللهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ

(2)

.

(836)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «نَحَرْتُ هَا هُنَا، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَا هُنَا، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَا هُنَا، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(837)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

(838)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ كَانَ لا يَقْدُمُ مَكَّةَ إِلا بَاتَ بِذِي طُوَى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

.

* * *

اشتملت هذه الأحاديث على جملة من هديه صلى الله عليه وسلم في المناسك.

(1)

كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند مسلم (1308)؛ «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى» .

(2)

مسند الشافعي (797).

(3)

مسلم (1218). وتقدم في أول الباب.

(4)

البخاري (1577)، ومسلم (1258).

(5)

البخاري (1573)، ومسلم (1259).

ص: 160

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

استحباب هذا الدعاء المذكور في حديث خزيمة رضي الله عنه بعد التلبية، ولكن الحديث ضعيف.

2 -

أن نحر الهدي لا يختص بالموضع الذي نحر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل منى كلها منحر، بل ورد في رواية:«وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ»

(1)

.

3 -

أنه لا يستحب تحري الموضع الذي نحر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: «فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ» .

4 -

استحباب الوقوف بموقفه صلى الله عليه وسلم بعرفة.

5 -

أن عرفة كلها موقف.

6 -

استحباب الوقوف عند المشعر بمزدلفة.

7 -

أن المزدلفة كلها موقف.

8 -

استحباب مخالفة الطريق في دخول مكة والخروج منها، وكان ذلك من هديه صلى الله عليه وسلم في ذهابه ورجوعه في بعض عباداته، كما في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى المصلى في العيدين، وكما في ذهابه إلى عرفة ورجوعه منها، والأظهر في هذا الاقتصار على ما ورد. وانظر ما تقدم في العيدين في الكلام على حديث جابر رضي الله عنه

(2)

.

9 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما قدم مكة يبيت بذي طوى.

10 -

استحباب دخول مكة في الحج والعمرة ضحى.

11 -

استحباب الغسل لدخول مكة، ويغني عنه اليومَ الغسل للإحرام لقرب العهد، كمن يحرم من السيل، فينوي بالغسل الأمرين.

* * * * *

(1)

رواه أحمد (14498)، وأبو داود (1937)، وابن ماجه (3048)، وابن خزيمة (2787)، والحاكم (1693)، عن جابر رضي الله عنه. وأصله في مسلم (1218).

(2)

المتقدم برقم (571).

ص: 161

(839)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا، وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا

(1)

.

(840)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا ثَلاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَيَمْشُوا أَرْبَعًا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(841)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّه كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الأَوَّلَ خَبَّ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا. وَفِي رِوَايَةٍ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ فَإِنَّهُ يَسْعَى ثَلاثَةَ أَطْوَافٍ بالبيت وَيَمْشِي أَرْبَعَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(842)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ الْبَيْتِ غَيْرَ الرُّكْنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

(843)

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ قَبَّلَ الحَجَرَ الأَسْوَدَ، فَقَالَ:«إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، وَلَوْلا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

.

(844)

وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ رضي الله عنه قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقْبِّلُ المِحْجَنَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(6)

.

(845)

وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: «طَافَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(7)

.

* * *

هذه الأحاديث السبعة اشتملت على جملة من أحكام الطواف بالبيت.

(1)

الحاكم (1674)، والشافعي، ومن طريقه البيهقي (9820).

(2)

البخاري (1602)، ومسلم (1266).

(3)

البخاري (1604)، ومسلم (1261).

(4)

مسلم (1269).

(5)

البخاري (1597)، ومسلم (1270).

(6)

مسلم (1275).

(7)

أحمد (17952)، وأبو داود (1883)، والترمذي (859)، وابن ماجه (2954).

ص: 162

وفيها فوائد، منها:

1 -

استحباب تقبيل الحجر الأسود، وهذا بالإجماع.

2 -

استحباب السجود على الحجر بعد تقبيله أي: وضع الجبهة عليه إن صح فيه الحديث.

3 -

فضل الحجر الأسود.

4 -

أنه لا يضر ولا ينفع.

5 -

أن تقبيل المسلمين له لا لذاته، بل تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

6 -

أنه لا سنة إلا فيما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

7 -

استحباب الرمل في الطواف الأول ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر، لما تقدم في حديث جابر رضي الله عنه

(1)

ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور هنا.

8 -

استحباب المشي في الأشواط الأربعة.

9 -

أن أصل هذه السنة (الرمل) و (المشي) قصةُ الصحابة رضي الله عنهم في عمرة القضية حين قال المشركون: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين اليمانيين، ويمشوا أربعًا، ثم صار الرمل سنة في الطواف الأول عند مقدم الحاج والمعتمر.

10 -

استحباب استلام الركنين اليمانيين، وهو مسحهما باليد اليمنى.

11 -

أنه لا يستلم من البيت إلا الركنان اليمانيان.

12 -

فضيلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

13 -

جواز خطاب الجماد لفظًا لا حقيقة في مقام الخبر عنه لا الطلب.

14 -

استلام الحجر الأسود باليد أو بالعصا، وتقبيل اليد أو العصا.

(1)

تقدم في أول (باب صفة الحج)(834).

ص: 163

15 -

استحباب الاضطباع في الطواف الأول في الحج أو العمرة، والاضطباع جعل وسط الرداء تحت الإبط الأيمن وطرفيه فوق الكتف الأيسر، مأخوذ من الضَّبْع، وهو العَضُد.

16 -

جواز الإحرام بغير اللون الأبيض.

* * * * *

(846)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلا يُنْكَرُ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(847)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّقَلِ -أَوْ قَالَ فِي الضَّعَفَةِ- مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(848)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَهُ، وَكَانَتْ ثَبِطَةً -تَعْنِي ثَقِيلَةً- فَأَذِنَ لَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(849)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيَّ، وفيه انقطاع

(4)

.

(850)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّ سَلَمَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ، فَرَمَتِ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، ثُمَّ مَضَتْ فَأَفَاضَتْ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ، وإسناده على شرط مسلم

(5)

.

(851)

وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ صَلاتَنَا هَذِهِ -يَعْنِي: بِالْمُزْدَلِفَةِ- فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ، وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ

(1)

البخاري (1659)، ومسلم (1285).

(2)

البخاري (1856)، ومسلم (1293).

(3)

البخاري (1680)، ومسلم (1290).

(4)

أحمد (2082)، وأبو داود (1940)، والترمذي (893)، وابن ماجه (3025).

تنبيه: الحديث أخرجه النسائي (3064)، وعزاه الحافظ إليه في «الفتح» (3/ 528)، وحسَّنه.

(5)

أبو داود (1942).

ص: 164

ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ». رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ خُزَيْمَةَ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث الستة اشتملت على جملة من أحكام المناسك من التلبية والوقوف بعرفة والمبيت والدفع من مزدلفة، ورمي جمرة العقبة.

وفيها فوائد، منها:

1 -

أن المحرم مخير إن شاء لبَّى، وإن شاء كبَّر.

2 -

جواز الدفع من مزدلفة آخر الليل للضعفة.

3 -

أن سودة أم المؤمنين رضي الله عنها ممن رخَّص لهم الرسول صلى الله عليه وسلم.

4 -

أن مَنْ دفع من مزدلفة آخر الليل جاز له رمي جمرة العقبة قبل الفجر، وجازت له الإفاضة إلى البيت، كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها، ومن هذه الأحاديث أخذ العلماء جواز الدفع من مزدلفة ورمي جمرة العقبة، والإفاضة إلى البيت بعد نصف الليل.

5 -

أن مَنْ دفع مِنْ الشَّبَبة لا يرمون إلا بعد طلوع الشمس، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه انقطاع

(2)

، كما قال المصنف رحمه الله. وقد أخذ به بعض أهل العلم، والجمهور على أن كل من دفع من مزدلفة آخر الليل فله أن يرمي ولو قبل طلوع الشمس.

6 -

إن إدراك الحج لا يكون إلا بالوقوف بعرفة، فهو ركن الحج الأعظم، لحديث عروة بن مضرس، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» ، أي: أدرك الحج، وقوله:«وَقَضَى تَفَثَهُ» أصل التَّفَث الوسخ والأذى، ومعنى

(1)

أحمد (16208)، وأبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (3041)، وابن ماجه (3016)، وابن خزيمة (2820).

(2)

لأنه من رواية الحسن العُرَني، عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يسمع منه. ينظر:«التقريب» للحافظ (1252).

ص: 165

قضائه: إزالته، وذلك عند التحلل، بعد رمي الجمرة والنحر، فيزيل ما يحتاج إلى إزالته بحلق الرأس، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، فعبَّر بقضاء التَّفَث عن قضاء المناسك في يوم النحر، تعبيرًا بالمسبَّب عن السبب، والتعبير بالماضي في الحديث هو من التعبير بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه، والله أعلم. وبسبب هذا المجاز اختلفت عبارات المفسرين في قضاء التَّفَث؛ فمنهم من يفسره بأداء المناسك، ومنهم من يفسره بإزالة الأذى من حلق الشعر، وتقليم الأظفار، وقد يفسرون التَّفَث بغير ذلك.

7 -

أن الوقوف بعرفة يجزئ ليلًا أو نهارًا، والجمهور قيدوه بما بعد الزوال، وقال الإمام أحمد: يجوز الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة لإطلاق حديث عروة رضي الله عنه. والراجح قول الجمهور لفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يقف إلا بعد الزوال والمسلمون معه، فهو مقيِّد لإطلاق حديث عروة.

8 -

أن الوقوف بعرفة لا يقدر بوقت؛ فيجزئ ولو لحظة، إلا أن من وقف نهارًا وجب عليه الوقوف إلى الليل، وعدَّ بعض أهل العلم الوقوف جزءًا من الليل ركنًا.

* * * * *

(852)

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لا يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبيرُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(853)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهم قَالا: «لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

(1)

البخاري (1684).

(2)

البخاري (1686 - 1687).

ص: 166

(854)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَقَالَ:«هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(855)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «رَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(856)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ، ثُمَّ يُسْهِلُ، فَيَقُومُ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعُو فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ:«هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(3)

.

(857)

وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ» قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «وَالْمُقَصِّرِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

* * *

هذه الأحاديث الستة اشتملت على جملة من المناسك؛ لوقت الدفع من مزدلفة، ورمي جمرة العقبة، وموقف الرامي منها، ووقت رميها، وصفته.

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

أن المشركين كانوا لا يدفعون إلا بعد طلوع الشمس، ويقولون:«أَشْرِقْ ثَبِيرُ، كَيْمَا نُغِيرُ» .

2 -

أن السنة الدفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس، مخالفة للمشركين.

(1)

البخاري (1749)، ومسلم (1296).

(2)

مسلم (1299).

(3)

البخاري (1751).

(4)

البخاري (1727)، ومسلم (1301).

ص: 167

3 -

أن من مقاصد الشريعة مخالفة أهل الجاهلية.

4 -

مشروعية التلبية إلى جمرة العقبة.

5 -

مشروعية رمي جمرة العقبة وحدها في ذلك اليوم.

6 -

أن السنة في رمي جمرة العقبة أن يستقبلها جاعلًا البيت عن يساره، ومنى عن يمينه.

7 -

مشروعية رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق بعد الزوال.

8 -

رمي كل جمرة بسبع حصيات.

9 -

استحباب التكبير مع كل حصاة.

10 -

البداءة بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف.

11 -

استحباب الوقوف طويلًا والدعاء بعد رمي الجمرة الأولى وبعد رمي الجمرة الثانية.

12 -

أنه لا يوقف بعد جمرة العقبة.

13 -

استحباب الموالاة والترتيب في رمي الجمار الثلاث.

14 -

أن الحلق والتقصير نسك. لا إطلاق من محظور، كما قال به بعضهم.

15 -

فضل الحلق على التقصير، والمشهور أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين والمقصرين كان في الحديبية بعد إبرام الصلح، وقيل: لعله وقع في حجة الوداع أيضًا، والله أعلم.

16 -

أن التقصير مجزئ.

17 -

أن أكثر الناس يحبون تقصير الشعر لا حلقه، وما حلق النبي صلى الله عليه وسلم إلا في حج أو عمرة.

* * * * *

(858)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ قَالَ:«اذْبَحْ وَلا حَرَجَ» ، فَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟

ص: 168

قَالَ: «ارْمِ وَلا حَرَجَ» ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إِلا قَالَ:«افْعَلْ وَلا حَرَجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(859)

وَعَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

(860)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلا النِّسَاءَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأبُوْ دَاوُدَ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ

(3)

.

(861)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ، وَإِنَّمَا يُقَصِّرْنَ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

(4)

.

(862)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

.

(863)

وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ لِرُعَاةِ الإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ عَنْ مِنًى، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ لِيَوْمَيْنِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ

(6)

.

* * *

هذه الأحاديث الستة تضمنت جملة من أحكام الحج ومناسكه، منها:

1 -

استحباب وقوف العالم للناس ليسألوه.

2 -

أن من قدم وأخر في مناسك يوم النحر نسيانًا أو جهلًا فلا حرج عليه، واختلف العلماء في المتعمد للتقديم والتأخير، فقيل: يأثم، وقيل: لا

(1)

البخاري (83)، ومسلم (1306).

(2)

البخاري (1811).

(3)

أحمد (25103)، وأبو داود (1978).

(4)

أبو داود (1985).

(5)

البخاري (1634)، ومسلم (1315).

(6)

أحمد (23775)، وأبو داود (1975)، والترمذي (955)، والنسائي (3069)، وابن ماجه (3037)، وابن حبان (3888).

ص: 169

يأثم، لعموم قوله:«فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا أُخِّرَ إِلا قَالَ: «افْعَلْ وَلا حَرَجَ» ، ومعلوم أنه قد يكون بعض ذلك تهاونًا، والله أعلم.

3 -

أن الرمي قبل الذبح، وأن الذبح قبل الحلق.

4 -

أن هذه الثلاثة قبل الإفاضة إلى مكة.

5 -

أن التحلل الأول يحصل برمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير، فيحل للحاج كل ما حرم عليه بالإحرام إلا النساء، فلا يحل له الجماع ولا المباشرة، وقال بعض العلماء: يحصل التحلل الأول برمي جمرة العقبة، والأول أظهر لحديث عائشة: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ

»، ويؤيده أن المحصر والمعتمر لا يتحلل إلا بالحلق أو التقصير.

6 -

مشروعية النحر والحلق للمحصر، وأنه ينحر قبل أن يحلق، فإن حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما طرف من حديث طويل في قصة صلح الحديبية.

7 -

أن النساء ليس عليهن حلق، بل ولا يستحب لهن ذلك، بل الواجب عليهن التقصير، وقد اختلف العلماء في حلق المرأة رأسها في غير النسك، فقيل: يحرم، وقيل: يكره، فإن شعر المرأة جمال لها. كاللحية للرجل، ويحرم عليهن التشبه بالرجال، وبالكافرات في هيئة شعورهن.

8 -

وجوب المبيت بمنى ليالي التشريق.

9 -

الرخصة في ترك المبيت لأهل الأعذار، كالرعاة والسقاة، وسائر القائمين بخدمات الحجاج كالأطباء ورجال الأمن.

10 -

أن سقاية زمزم من مآثر بني هاشم.

11 -

جواز جمع رمي الجمار الثلاث ليومين في يوم لأهل الأعذار من الرعاة ونحوهم، فالمتعجل يرمي ليومين في يوم النفر الأول، والمتأخر يرمي ليومين في أول أيام التشريق، ثم يرمي يوم النفر الثاني.

ص: 170

12 -

أن أحكام الشريعة مبناها على التيسير كما في جواز التقديم والتأخير، وترك المبيت، وجواز جمع الجمار. وهذا من رحمة الله بعباده.

13 -

أنه يجب رمي كل يوم في يومه، فلا يجوز تأخيره إلا من عذر.

14 -

منع التوكيل في الرمي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للرعاة بالتوكيل، والأظهر جوازه لمن له عذر، كما في الرمي عن الصبيان.

15 -

العناية برواحل الحجاج.

* * * * *

(864)

وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ

» الحَدِيْثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(865)

وَعَنْ سَرَّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ رضي الله عنها قَالَتْ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الرُّؤوسِ فَقَالَ: «أَلَيْسَ هَذَا أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟

» الحَدِيْثَ. رواه أبُوْ دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

(2)

.

(866)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(867)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْمُلْ فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(4)

.

(868)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(5)

.

(1)

البخاري (1741)، ومسلم (1679).

(2)

أبو داود (1953).

(3)

مسلم (1211).

(4)

أبو داود (2001)، والنسائي في «الكبرى» (4156)، وابن ماجه (3060)، والحاكم (1798). ولم أجده في «المسند» .

(5)

البخاري (1764).

ص: 171

(869)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ -أَيْ: النُّزُولَ بِالأَبْطَحِ- وَتَقُولُ: «إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّهُ كَانَ مَنْزِلًا أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(870)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث السبعة اشتملت على جملة من أحكام الحج.

وفيها فوائد، منها:

1 -

استحباب الخطبة في يوم النحر، وفي أصل حديث أبي بكرة رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ دِماءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ وأعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا» .

2 -

استحباب الخطبة في أوسط أيام التشريق وهو اليوم الثاني عشر، وهو يوم النفر الأول، وقد اضطرب الشراح في المراد بأوسط أيام التشريق؛ فقال بعضهم: هو الثاني عشر، وهو الصواب، فإن أيام التشريق هي الأيام الثلاثة بعد يوم النحر، وقال بعضهم: المراد بأوسط أيام التشريق هو الحادي عشر، وهذا لا يستقيم على كل تقدير، فالحادي عشر هو أول أيام التشريق، ويوم النحر ليس معدودًا من أيام التشريق، ولو عُدَّ منها لما كان الحادي عشر أوسطها، وسبب الإشكال قول الراوية:«خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الرُّؤوسِ» ، ويوم الرؤوس هو الحادي عشر، قيل: بالاتفاق، وهذا هو الذي حمل من قال: إن أوسط أيام التشريق في قوله صلى الله عليه وسلم: هو الحادي عشر، وإذا صح الاتفاق على أن يوم الرؤوس هو الحادي عشر فالأشبه أن الراوية أطلقت يوم الرؤوس على الثاني عشر، الذي هو أوسط أيام التشريق.

(1)

مسلم (1311).

(2)

البخاري (1755)، ومسلم (1328).

ص: 172

3 -

أن ظاهر حديث سراء بنت نبهان رضي الله عنها أن أوسط أيام التشريق يسمى يوم الرؤوس، وفيه البحث المتقدم، وسمي يوم الرؤوس لأنه اليوم الذي يأكل فيه الناس رؤوس الهدايا والضحايا.

4 -

أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، فإن عائشة رضي الله عنها لما حاضت، وكانت أحرمت بعمرة، ثم دخل عليها وقت الحج ولما تطهر، أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم بالحج فصارت قارنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ» ففيه الرد على من قال: إن القارن عليه طوافان وسعيان.

5 -

أن الحاج لا يرمل في طواف الإفاضة.

6 -

أن الرمل إنما يشرع في الطواف الأول، طواف العمرة أو طواف القدوم، كما تقدم.

7 -

النزول بالمحَصَّب، وهو الذي يسمى الأبطَح في أعلى مكة، وهو مسيل الوادي، وقد تغيّرت المعالم، وبنيت البيوت في موضع ذلك الوادي، وصُرف السيل عن مجراه، وقد اختلف العلماء في حكم النزول بالمحصَّب ليلة الرابع عشر من ذي الحجة، فقيل: إنه مستحب، وهو من المناسك، وقيل: لا يستحب، وليس من المناسك، ونزول الرسول صلى الله عليه وسلم به لا للتشريع، بل لأنه كان أسمح لخروجه كما قالت ذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

8 -

وجوب الطواف بالبيت قبل النفر من مكة، ويسمى طواف الوداع.

9 -

أنه لا يجب على الحائض فلا تحتبس بمكة من أجله، وطواف الوداع قيل: واجب على الحاج، وقيل: وعلى المعتمر أيضًا، وقيل: يجب على كل خارج من مكة.

ص: 173

10 -

جواز إبهام الآمر، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال العلماء: إن قوله «أُمِرَ النَّاسُ» أو «أُمِرْنَا» له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

11 -

منع الحائض من اللبث في المسجد.

* * * * *

(871)

وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَصَلاةٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاةٍ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِئَةِ صَلاةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في المفاضلة بين المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفضل الصلاة فيهما، والمراد بالمسجد الحرام المصلى حول الكعبة، وذلك لأمرين:

1 -

أن المسجد هو الذي يقصد للصلاة.

2 -

أن الموازنة في الحديث بين المساجد -وهي المواضع المعروفة المعدَّة للصلاة- وهي التي أفضلها المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فلا يرد إطلاق المسجد الحرام على عموم مكة وسائر الحرم؛ فإن ذلك من قبيل المجاز الذي علاقته الجزئية، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن فضل الصلاة في المسجد الحرام لا يختص بالمسجد حول الكعبة، بل يعم سائر الحرم تمسكًا بإطلاق اسم المسجد الحرام على عموم الحرم، والأول أظهر، أو هو الصواب، والله أعلم.

(1)

أحمد (16117)، وابن حبان (1620).

ص: 174

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

فضل الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم على سائر المساجد إلا المسجد الحرام.

2 -

أن الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد.

3 -

فضل المسجد الحرام على مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.

4 -

أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة صلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وأفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه، وقد اختلف العلماء في الصلاة التي يتعلق بها هذا الفضل؛ فقيل: إن ذلك خاص بالصلاة المفروضة، وقيل: إن ذلك عام في الفرض والنفل، والظاهر أنه عام في الفريضة والنافلة التي تتعلق بالمسجد كتحية المسجد. وأما ما لا يتعلق بالمسجد ففعلها في البيت أفضل كقيام الليل والرواتب.

5 -

أن المراد بالمسجد الحرام المصلى حول الكعبة.

6 -

الترغيب في الصلاة في المسجدين.

7 -

تفاضل العبادات باعتبار فضل المكان.

* * * * *

ص: 175

‌بابُ الفَوَاتِ والإِحْصَار

الفوات لغة: عدم إدراك المطلوب، والمراد به هنا: فوات الحج لمن تلبَّس به. وفواته إنما يكون بفوات الوقوف بعرفة، فمن فاته الوقوف فاته الحج، ويتحلل من إحرامه بعمرة، فإن كان حجه فرضًا فعليه الحج من قابل، وإن كان نفلًا، فقيل: يجب عليه القضاء، وقيل: لا يجب، وهذا أظهر، إلا أن يكون فوات الحج بتسبب منه وتفريط؛ فيتوجه وجوب القضاء عليه.

والحصر في اللغة هو: المنع، والمراد به هنا: منع الحاج أو المعتمر من إتمام نسكه. وقد اختلف العلماء فيما يكون به الإحصار، فقيل: يحصل بكل مانع؛ بمرض، أو ذهاب نفقة، أو عدو. وقيل: لا حصر إلا حصر العدو، وحكم المحصر أنه يذبح هديًا، ويحلق ويتحلل إلا أن يكون قد اشترط، والدليل على ذلك قوله تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].

وقصة إحصار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وهي سبب نزول الآية، وهو ما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث الآتي.

* * * * *

(872)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَحَلَقَ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلًا» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(873)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنها، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَنَا شَاكِيَةٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«حُجِّي وَاشْتَرِطِي: أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1)

البخاري (1809).

(2)

البخاري (5089)، ومسلم (1207).

ص: 176

(874)

وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ الحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كُسِرَ، أَوْ عَرَجَ فَقَدَ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» . قَالَ عِكْرِمَةُ: فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالا:«صَدَقَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

.

* * *

في هذه الأحاديث فوائد، منها:

1 -

وقوع الحصر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما حصل من صد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية.

2 -

أن ذلك الحصر من قبيل حصر العدو.

3 -

أن من أحصر عليه دم للآية الكريمة، ولفعله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

4 -

أن المحصر لا يتحلل من إحرامه إلا بعد النحر والحلق أو التقصير.

5 -

وجوب إتمام الحج والعمرة.

6 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من العام القابل، وذلك في السنة السابعة في شهر ذي القعدة.

وفي حديث ضباعة بن الزبير رضي الله عنها فوائد، منها:

1 -

مشروعية الاشتراط لمن خاف أن لا يتمكن من إتمام نسكه.

2 -

والاشتراط أن يقول عند الإحرام: «اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» .

3 -

جواز الاشتراط في العقد الذي بين العبد وربه؛ كالنذر والحلف.

4 -

أن المشترط يتحلل مجانًا.

5 -

أن الحصر يكون بالمرض.

6 -

أن الحصر لا يختص بحصر العدو.

(1)

أحمد (15731)، وأبو داود (1862)، والترمذي (940)، والنسائي (2861)، وابن ماجه (3077).

ص: 177

وفي حديث الحجاج بن عمرو رضي الله عنه:

1 -

أن من حصر بمرض ككسر؛ أنه يحل من إحرامه ولو لم يشترط.

2 -

أن من حصر عن إتمام نسكه عليه الحج من قابل قضاءً عن حجته التي حصر عنها. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك وبيان الصواب، والأظهر في هذا الحديث أن المراد بالحج من قابل: حجُّ الفرض، أما من سبق له الحج فلا قضاء عليه.

3 -

أن من حصر عن إتمام نسكه لا قضاء عليه. والصواب أيضًا أن من حصر ولم يشترط فعليه الهدي، ويحلق للتحلل لفعله صلى الله عليه وسلم.

* * * * *

ص: 178

‌كِتَابُ البُيُوع

ص: 179

درج المصنفون في أحاديث الأحكام وفقه الأحكام على ذكر أبواب المعاملات بعد أبواب العبادات، والسر في هذا ظاهر؛ فالعبادات حق الله، فهي أولى بالتقديم، ثم البيع هو أعم المعاملات التي تكون بين الناس، وهو الوسيلة الأولى لتبادل المنافع.

والبيع: مصدر، وهو اسم جنس يشمل أنواعًا، واسم الجنس لا يجمع للدلالة على الكثرة، فإذا جمع كان للدلالة على الأنواع، لذا كان مِنْ المصنفين مَنْ يترجم بكتاب البيع، ومنهم من يترجم بكتاب البيوع، كما فعله المصنف هنا رحمه الله.

والبيع: مأخوذ من الباع؛ لأن كلًّا من المتبايعين يمد باعه، أي يده للآخر. والأصل في البيع الحل، كما قال تعالى:{وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وكذلك سائر العقود، لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

* * * * *

ص: 181

‌بَابُ شُرُوطِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ

الشروط: جمع شرْط - بسكون الراء - وهو ما تتوقف صحة العقد عليه، والشَّرَط - بفتح الراء - العلامة، وجمعه أشراط، ومنه قوله تعالى:{فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]، وقول المصنف:«وَمَا نُهِيَ عَنْهُ» ، ينبه على أن من البيوع ما يحرم للنهي عنه، ومنها ما فُقد فيه شرط من شروطه.

* * * * *

(875)

عَنْ رِفَاعَةَ بِنِ رَافِعٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ الكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» . رَوَاهُ البَزَّارُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث في حكم كسب المال، والكسب يراد به العمل الذي يتوصل به إلى المال، ويراد به نفس المال المكسوب، وهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، والسؤال في الحديث عن المعنى الأول، كما يدل له جواب الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويحتمل أن يراد به المعنى الثاني، وجواب الرسول يستلزم بيان حكم المال المكسوب، فإذا كان العمل والتجارة حلالًا، كانت ثمرتهما حلالًا، وإذا كانت حرامًا، كان المال المكتسب حرامًا، فالكسب الذي هو الاكتساب تجري فيه الأحكام الخمسة: الوجوب، والاستحباب، والتحريم، والكراهة، والإباحة.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

اهتمام الصحابة بطيب المكسب.

(1)

البزار (3731)، والحاكم (2160).

ص: 182

2 -

أن طرق الكسب الحلال بعضها أطيب من بعض.

3 -

فضل عمل الرجل بيده عملًا حلالًا، لا دناءة فيه.

4 -

فضل البيع المبرور، وهو الخالي من الغش، والكذب، والكتمان، والغرر، والشبهة.

5 -

الترغيب في الصناعة والتجارة، وهو ما يسمى بالعمل الحُرِّ.

* * * * *

(876)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ:«إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ» ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ:«لا، هُوَ حَرَامٌ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:«قَاتَلَ اللهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في النهي عن بيع المحرمات وأكل ثمنها، وفيه من الفوائد:

1 -

تأكيد الخبر بذكر زمانه ومكانه.

2 -

عظم شأن فتح مكة في تقرير الأحكام، وقد خطب صلى الله عليه وسلم غير مرة، وبيَّن الأحكام المتعلقة بحرمة مكة، وأحكامًا أخرى؛ كالتي في هذا الحديث.

3 -

النهي عن بيع هذه المذكورات.

4 -

تأكيد هذا النهي بالتصريح بلفظ التحريم، وبإضافة التحريم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

(1)

البخاري (2236)، ومسلم (1581).

ص: 183

5 -

أن ما حرمه الله حرمه رسوله، وما حرمه الرسول فقد حرمه الله.

6 -

التلازم بين بعض حقوق الله وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم، كالإيمان والطاعة والمحبة والتشريع، مع التفاوت في المرتبة بين الرسول والمرسل، قال تعالى:{فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ} [الأعراف: 158]. وقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24]، وقال:{وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 46]، وقال:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59]، وقال:{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].

7 -

جواز عود الضمير إلى أحد المعطوفين، لقوله:«إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ» بإفراد الضمير، راجعًا إلى الله، وله نظائر في اللغة، ومنه في القرآن:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34]، {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11].

8 -

تحريم الخمر، وتحريم بيعها، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرةً: عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَة إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِي لَهَا وَالْمُشْتَرَاة لَهُ

(1)

.

9 -

تحريم الميتة، وتحريم بيعها.

10 -

تحريم الخنزير، وتحريم بيعه.

11 -

تحريم بيع الأصنام على هيئتها.

(1)

رواه الترمذي (1295)، وابن ماجه (3380)؛ عن أنس رضي الله عنه، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (8/ 699).

ص: 184

12 -

وجوب تحطيم الأصنام تحطيمًا يزيل صورتها.

13 -

الاستفصال عن بيع شحوم الميتة والانتفاع بها.

14 -

تحريم بيع شحوم الميتة؛ كسائر أجزائها النجسة، وإن كان ينتفع بها.

15 -

أن مجرد الانتفاع بالشيء لا يستلزم حل بيعه، كالكلب ينتفع به ولا يحل بيعه.

16 -

أن من أساليب الذم والتقبيح الدعاء ب «قَاتَلَهُ اللهُ» .

17 -

ذم اليهود بالاحتيال على ما حرم الله، وأنهم السلف لأهل الحيل؛ كما ذكر في هذا الحديث؛ وكاحتيالهم على الصيد في السَّبت، وقد حرمه الله عليهم.

18 -

قيل: فيه تحريم الانتفاع بشحوم الميتة، وذلك للاختلاف في مرجع قوله صلى الله عليه وسلم:«لا، هُوَ حَرَامٌ» قيل: الضمير للبيع، وقيل: لما ذُكر من وجوه الانتفاع؛ من طلاء السفن ودهن الجلود والاستصباح، والأظهر: رجوعه إلى البيع، لأنه موضوع الحديث، فيتعين أنه المسؤول عنه، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في اليهود:«ثُمَّ بَاعُوهُ» .

19 -

أن ما حُرِّم أكله حُرِّم أكل ثمنه.

20 -

جواز استعمال النجاسة على وجه لا يتعدَّى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّهم على الاستصباح وطلاء السفن.

21 -

تحريم ما مفسدته راجحة على مصلحته، وفي هذا احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعظمها، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما.

22 -

أن من كمال الشريعة تحريم كل ما يضر بالإنسان؛ في دينه، وعقله، ونفسه، وماله.

23 -

من السنة تحري المناسبات؛ لبيان الأحكام.

ص: 185

24 -

أن النص على التحريم أبلغ في الدلالة من مجرد النهي.

25 -

أن من تعاطى الحيل لتحليل الحرام ففيه شبه من اليهود.

* * * * *

(877)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلْعَةِ، أَوْ يَتَتَارَكَانِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في حكم اختلاف المتبايعين.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

أن المتبايعين إذا اختلفا فالقول قول صاحب السلعة، وهو البائع، وذلك إذا لم تكن لأحدهما بينة.

2 -

أن من كانت له بينة حكم له بما توجبه البينة.

3 -

عموم الحديث في كل اختلاف بين المتبايعين.

4 -

أنهما إذا اتفقا على فسخ البيع فلا يحلف واحد منهما.

* * * * *

(878)

وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

(1)

أحمد (4445)، أبو داود (3511)، والنسائي (4648)، والترمذي (1270)، وابن ماجه (2186)، والحاكم (2293).

(2)

البخاري (2237)، ومسلم (1567).

ص: 186

هذا الحديث أصل في تحريم هذه الأعواض؛ للنهي عنها، وقد جاء وصفها بالخبث، والأعواضُ المحرمة: إما ثمن عين محرمة؛ كالخنزير، أو أجرة منفعة محرمة؛ كالزنا، والكهانة، وعصر الخمر، وحملها لمن يشربها، أو ثمن ما لا يحل بيعه؛ كالكلب.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم أكل الكلب، وتحريم بيعه، وتحريم ثمنه، وتحريم اقتنائه إلا ما خصه الدليل، وهو كلب الزرع والصيد والماشية، وما يمكن قياسه على هذه المنافع.

2 -

أن ما لا يحل ثمنه لا تحل قيمته.

3 -

تحريم الزنا، وتحريم أجرة الزانية.

4 -

تسمية أجرة الزانية مهرًا، وهو من قبيل المجاز التشبيهي، أي: الاستعارة، فالأصل في المهر أنه اسم للصداق في النكاح، شبه به ما تأخذه الزانية، بجامع أنه عوض عن منفعة البضع.

5 -

تحريم الكهانة، وهي حرفة بعض الدجالين الذين يخبرون ببعض المغيبات، ويستعينون بالجن فيما يخبرون به.

6 -

تحريم ما يأخذه الكاهن على كهانته.

7 -

تسمية أجرة الكاهن حلوانًا، وسمي حلوانًا لأنه يحصل بلا كلفة، مأخوذ من الحلاوة.

8 -

أن المحرمات تتفاوت في التحريم، وتشترك في النهي عنها.

* * * * *

(879)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا، فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ، قَالَ: فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا لِي، وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ

ص: 187

مِثْلَهُ، فَقَالَ:«بِعْنِيهِ بِوقيَّةٍ» ، قُلْتُ: لا. ثُمَّ قَالَ: «بِعْنِيهِ» فَبِعْتُهُ بِوقيَّةٍ، وَاشْتَرَطْتُ حُمْلانَهُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي، فَقَالَ:«أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ. فَهُوَ لَكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا السِّيَاقُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

* * *

هذا الحديث يعرف عند العلماء بحديث جمل جابر رضي الله عنه، وهو أصل في الاستثناء من المبيع، وقد وقعت قصة جمل جابر رضي الله عنه في غزوة تبوك، وهم قافلون إلى المدينة.

وفي الحديث فوائد كثيرة، منها:

1 -

جواز الحمل على الحيوان الذي قد أعيا من الضعف.

2 -

جواز تسييب الحيوان إذا أعيا، وتعذر الانتفاع به.

3 -

تواضعه صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وحسن رعايته لهم.

4 -

فضيلة جابر رضي الله عنه، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، ومحاورته له في شأن جمله.

5 -

علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم؛ بعود النشاط إلى الجمل، بضربة النبي صلى الله عليه وسلم له.

6 -

التبايع بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما يتبايعون فيما بينهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«بِعْنِيهِ بِوقيَّةٍ» ، وقول جابر رضي الله عنه:«قُلْتُ: لا» .

7 -

أن الامتناع من البيع من النبي صلى الله عليه وسلم ليس معصية.

8 -

أنه ينبغي لأمير الجيش أن يكون خلفهم ليتعقبهم، ولا يشق عليهم بتقدمه.

9 -

جواز طلب البيع ممن لم يعرض سلعته.

(1)

البخاري (2718)، ومسلم (715) بعد الحديث (1599).

ص: 188

10 -

جواز الإلحاح في ذلك، وهي المماكسة.

11 -

جواز قول (لا) للكبير فيما لا يجب له، إلا أن يكون في العرف ما يقتضي استهجان ذلك.

12 -

بيع جابر رضي الله عنه للجمل من النبي صلى الله عليه وسلم.

13 -

في الحديث شاهد لما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم من أن الشراء هو أكثر معاملته صلى الله عليه وسلم بعد البعثة.

14 -

جواز الاستثناء في البيع.

15 -

جواز استثناء منفعة المبيع إلى مسافة معلومة.

16 -

تسليم المبيع قبل تسليم الثمن.

17 -

المبادرة بتسليم الثمن بعد قبض المبيع.

18 -

جواز تأخير التقابض في البيع إلا ما خصه الدليل؛ كما في السلم والربويات.

19 -

أنه ليس للهبة صيغة معينة، بل تصح بكل ما دل عليها، وهكذا سائر العقود.

20 -

كرم النبي صلى الله عليه وسلم.

21 -

الربح العظيم الذي حصل لجابر رضي الله عنه، بهذه المعاملة مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث جمع له بين جمله وثمنه.

22 -

شهرة جابر رضي الله عنه، بسبب قصة جمله.

* * * * *

ص: 189

(880)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنَّا عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَدَعَا بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَاعَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في جواز بيع المُدبَّر، والتدبير: تعليق العتق على الموت، وسمِّي تدبيرًا لأن الموت دُبُر الحياة؛ فالمُدَبَّر: هو من قال له سيده: إذا أنا مت فأنت حر، وقوله:«عَنْ دُبُرٍ» أي عن دبر حياته.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

ثبوت الرق في الإسلام، وهذا معلوم من دين الإسلام بالضرورة، وأدلته من الكتاب والسنة لا تحصى.

2 -

جواز التدبير.

3 -

جواز بيع المدبر.

4 -

أن التدبير حكمه حكم الوصية، لا تنفذ إلا بعد الموت.

5 -

أن للحاكم بيع ما للمدين في قضاء دينه إذا لم يكن له ما يوفي منه.

6 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف بعدة اعتبارات؛ باعتباره نبيًّا ورسولًا، وباعتباره قاضيًا، وواليًا، وقائدًا.

* * * * *

(881)

وَعَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ فَأْرَةً وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَمَاتَتْ فِيهِ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا، فَقَالَ:«أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

، وَزَادَ أَحْمَدُ، والنَّسَائِيُّ:«فِي سَمْنٍ جَامِدٍ»

(3)

.

(1)

البخاري (2534)، ومسلم (997).

(2)

البخاري (5532).

(3)

أحمد (26796)، والنسائي (4259).

ص: 190

(882)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ، فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلا تَقْرَبُوهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأبُوْ دَاوُدَ، وَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ البُّخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ بالوَّهْمِ

(1)

.

* * *

حديث ميمونة أصل في حكم السمن ونحوه من المائعات إذا وقع فيه حي فمات، ويلاحظ أن رواية الصحيح مطلقة، ليس فيها التقييد بالجامد، ويؤيد تضعيف الزيادة من جهة المعنى أن المائع هو مظنة موت ما وقع فيه، بخلاف الجامد، ولذا أنكر المحققون زيادة «جَامِدٍ» في رواية أحمد والنَّسَائِيِّ، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه في التفصيل بين الجامد والمائع فقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم، كما قال الحافظ

(2)

.

وفي حديث ميمونة رضي الله عنها فوائد، منها:

1 -

أن الفأرة مما ينجس بالموت، لأنها مما له نفس سائلة، بخلاف الذباب ونحوه، مما لا نفس له سائلة، فإنه لا ينجُس ما وقع فيه، ولذا جاء في الحديث:«إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ» . الحديث

(3)

.

2 -

أن المائع إذا وقعت فيه الميتة أو النجاسة ولم تغيره، فإنها تلقى وما حولها، ويبقى الباقي طاهرًا حلالًا، لقوله:«وَكُلُوهُ» ، ومعلوم أن هذا يختلف بالقلة والكثرة، في النجاسة وفي المائع.

3 -

جواز بيعه، لأن ما جاز أكله جاز بيعه، وبهذا تظهر مناسبة الحديث لباب البيوع.

(1)

أحمد (7601)، وأبو داود (3842)، ينظر:«العلل الكبير» للترمذي (553)، و «العلل» لابن أبي حاتم (1507).

(2)

«فتح الباري» (1/ 344).

(3)

رواه البخاري (3320)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وتقدم برقم (17).

ص: 191

4 -

أنه لا فرق في ذلك بين الجامد والمائع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل.

5 -

أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فإذا زالت النجاسة زال التحريم وثبتت الطهارة والحل.

* * * * *

(883)

وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: «سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ، فَقَالَ: زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

، والنَّسَائِيُّ، وزاد: إِلا كَلْبَ صَيْدٍ

(2)

.

* * *

هذا الحديث من الأدلة على تحريم ثمن الكلب، وقد تقدم

(3)

، وثمن السِّنَّوْر، وهو: القط، والهر.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم ثمن الكلب.

2 -

تحريم شرائه.

3 -

تحريم أكله.

4 -

تحريم ثمن السنور.

5 -

تحريم بيعه وشرائه.

6 -

تحريم أكله. وقد ذهب إلى ظاهر الحديث بعض السلف من الصحابة والتابعين، وذهب جمهور الأئمة إلى جواز بيع السنور، وحل ثمنه، وحملوا الحديث على ما لا ينتفع به من السنانير، أو أن النهي للكراهة، والقول بالتحريم أظهر، لقوله:«زَجَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ» . والزجر: هو النهي بشدة، والله أعلم.

(1)

مسلم (1569).

(2)

النسائي (4295).

(3)

تقدَّم برقم (878).

ص: 192

7 -

حل ثمن كلب الصيد، كما تفيده رواية النَّسَائِيِّ، ولكن هذه الزيادة ضعيفة.

* * * * *

(884)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ، فَقَالَتْ: كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعٍ أَوَاقٍ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ، فَأَعِينِينِي، فَقُلْتُ: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ وَيَكُونُ وَلاؤُكِ لِي فَعَلْتُ، فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا، فَقَالَتْ لَهُمْ؛ فَأَبَوْا عَلَيْهَا، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ، فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلا أَنْ يَكُونَ الْوَلاءُ لَهُمْ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ:«خُذِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاءَ، فَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:«أَمَّا بَعْدُ، مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل!؟ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

. وعِنْدَ مُسْلِمٍ: فقال: «اشْتَرِيهَا، وَأَعْتِقِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاءَ»

(2)

.

* * *

بريرة رضي الله عنها أمَة، كانت لبعض الأنصار، ولها زوج مملوك اسمه مُغِيث، وكان مولعًا بحبها، وكانت بريرة رضي الله عنها تتردد على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وتدخل عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر، أو غير حاضر، وكانت فقيرة، وربما تُصدق عليها، فأهدت لبيت النبي صلى الله عليه وسلم من صدقتها، وقد كاتبها أهلها، فاستعانت بعائشة رضي الله عنها على دين الكتابة، فاشترتها عائشة رضي الله عنها، وأعتقتها، فلما عتقت، خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بالبقاء مع زوجها، أو فسخ نكاحها، وقد ورد لها ذكر في حديث الإفك، وذلك؛ أن النبي

(1)

البخاري (2168)، ومسلم (1504).

(2)

مسلم (1504).

ص: 193

صلى الله عليه وسلم سألها عن عائشة رضي الله عنها، وهل تعيبها بشيء، فقالت: إنها كالذهب الأحمر، إلا أنها جارية تنام عن عجين أهلها؛ فتدخل عليها الداجن، فتأكله.

هذا مجمل قصة هذه الجارية الحصيفة الرشيدة، وقد اعتنى العلماء بحديث بريرة رضي الله عنها بالشرح، واستنباط الأحكام والفوائد، وممن أفرده بالتصنيف: ابن جرير، وابن خزيمة، على ما ذكره النووي

(1)

، وذكر ابن حجر؛ أن بعض المتأخرين بلغ بالفوائد من حديث بريرة رضي الله عنها: أربع مئة فائدة، وقد لخص منها جملة في «الفتح»

(2)

، كما ذكر الشيخ محمد ابن عثيمين في شرح البلوغ جملة من الفوائد

(3)

، فيها زيادة على ما ذكرناه، فليرجع إليهما، والله أعلم.

والذي يعنينا في هذا الموضع ما ذكره الحافظ من لفظ الحديث، وهو ما يتعلق بكتابتها، وعتقها، وولائها.

وفي ذلك فوائد، منها:

1 -

أن بريرة رضي الله عنها كانت أمة، مملوكة لبعض بيوت الأنصار.

2 -

جواز الرق في الإسلام.

3 -

إقرار الإسلام للرق الذي كان في الجاهلية.

4 -

جريان أحكام الرقيق عليهم.

5 -

جواز بيع الرقيق.

6 -

جواز التجارة في الرقيق.

7 -

جواز عقد الكتابة، وهو أن يشتري المملوك نفسه من سيده.

8 -

جواز البيع إلى أجل.

9 -

جعل ثمن البيع المؤجل نجومًا، أي: مقسَّطًا على آجال معلومة.

10 -

جواز بيع المكاتب، وشرائه.

(1)

«شرح صحيح مسلم» (10/ 142).

(2)

«فتح الباري» (5/ 226).

(3)

«فتح ذي الجلال والإكرام» (9/ 85).

ص: 194

11 -

مشروعية عتق المملوك.

12 -

أن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة رضي الله عنها؛ لتعتقها، فأعتقتها.

13 -

جواز تصرف المرأة الرشيدة في مالها، دون الرجوع إلى زوجها.

14 -

أن ولاء العتيق للمعتِق، وهو علاقة بينهما، توجب الإرث، وقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الْوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ؛ لا يُبَاعُ، وَلا يُوهَبُ، وَلا يُورَثُ»

(1)

.

15 -

أن اشتراط أن يكون الولاء للبائع دون المعتِق؛ شرط باطل.

16 -

أن كل شرط ينافي حكم الله؛ فهو باطل، لا يترتب عليه أثر.

17 -

أن حكم الله؛ أحق بالاتباع.

18 -

الإنكار على من يخالف حكم الله.

19 -

جواز السجع في الخطبة، أو غيرها من الكلام، وأحسنه ما خلا من التكلف.

20 -

أن من اشترط في العقد شرطًا باطلًا في الشرع متعمدًا، فتجوز معاقبته بقبول اشتراطه مع العلم ببطلانه، وأنه لا يتحقق مراده، ويصح العقد، ويبطل الشرط.

21 -

أن الشروط الباطلة لا تتقوى بالكثرة.

22 -

أن كتاب الله يطلق على حكمه، من إطلاق الكتاب على المكتوب، كقوله تعالى:{كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24].

23 -

أن الشرط الثابت بأصل الشرع أوكد من الشرط الذي يشترطه المتعاقدان، لقوله:«وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ» .

24 -

ثبوت الولاء للمعتق، سواء أكان رجلًا، أم امرأة، واحدًا كان، أو جماعة.

(1)

رواه الشافعي (237)، وابن حبان (4950)، والحاكم (7990)، عن ابن عمر رضي الله عنهما. وسيأتي برقم (1080).

ص: 195

(885)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ، فَقَالَ: لا تُبَاعُ، وَلا تُوهَبُ، وَلا تُورَثُ، لِيَسْتَمْتِعْ بِهَا مَا بَدَا لَهُ، فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وقال:«رَفَعَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ، فَوَهِمَ»

(1)

.

(886)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نَبِيعُ سَرَارِيَنَا: أُمَّهَاتِ الأَوْلادِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ، لا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(2)

.

* * *

هذان الحديثان هما الأصل في بيع أمهات الأولاد، والمراد بأم الولد: هي الأمة التي يطؤها سيدها، وتلد منه ولو سِقطًا فيه خلق إنسان.

وفي الحديثين فوائد، منها:

1 -

أن أم الولد لا تكون حرة بمجرد الولادة من سيدها.

2 -

جواز أن يستمتع بها سيدها بالوطء والخدمة.

3 -

أنها تتحرر بموت سيدها.

4 -

أنه لا يجوز لسيدها بيعها.

هذا ما أفاده أثر عمر رضي الله عنه، لكن عورض ذلك بحديث جابر رضي الله عنه المذكور، فلذلك اختلف العلماء في بيع أمهات الأولاد: فذهب الجمهور إلى عدم الجواز؛ قائلين بأنه إجماع الصحابة، وأجابوا عن حديث جابر رضي الله عنه بأنه منسوخ، فنهي عمر عن بيع أمهات الأولاد، وإقرار المهاجرين والأنصار على ذلك؛

(1)

مالك في «الموطأ» (2248)، والبيهقي في «الكبرى» (21764).

(2)

النسائي في «الكبرى» (5021)، وابن ماجه (2517)، والدارقطني (4251)، وابن حبان (4323).

ص: 196

دليلٌ على وجود ناسخ، وذهب بعضُ الصحابة وطائفةٌ من العلماء إلى جواز بيع أمهات الأولاد؛ عملًا بحديث جابر رضي الله عنه، وأن نهي عمر رضي الله عنه كان اجتهادًا، فسكوت الصحابة عن معارضته من باب إقراره على اجتهاده، والصحيح جواز بيعهن، والأحوط ترك ذلك، والله أعلم.

* * * * *

(887)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

، وزاد في رواية:«وَعَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ»

(2)

.

(888)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(3)

.

(889)

وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ: كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ، ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(4)

.

(890)

وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ، وَعَنْ هِبَتِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

.

(891)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(6)

.

* * *

هذه الأحاديث أصل في تحريم هذه البيوع، ومنشأ التحريم ما فيها من الغرر، والجهالة، أو بيع الإنسان ما لا يحل بيعه.

(1)

مسلم (1565).

(2)

مسلم (1565).

(3)

البخاري (2284).

(4)

البخاري (2143)، ومسلم (1514).

(5)

البخاري (2535)، ومسلم (1506).

(6)

مسلم (1513).

ص: 197

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

تحريم بيع فضل الماء: وهو ما زاد عن حاجة الإنسان، من ماء عينه، أو بئره، ولم يحزه.

2 -

تحريم بيع فضل الماء على من يحتاج إليه، بل يجب بذله مجانًا، ويجب الإذن بدخول الأرض إلا أن يترتب على دخول الأرض ضرر على مالك البئر.

3 -

أن الماء من الأمور المباحة المشتركة بين الناس.

4 -

تحريم بيع الماء المباح: كماء الغدران والأنهار، وتحريم منعها ممن يطلبها، وفي الحديث الصحيح:«ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلاةِ، يَمْنَعُهُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ» الحديث

(1)

. وفي الحديث الآخر: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلاثٍ: فِي الْكَلأِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ»

(2)

.

5 -

تحريم بيع عَسْب الفحل: وهو ضرابه للأنثى، سواء قدر بالمرات، أو بالإجارة في مدة معلومة؛ وذلك: لما فيه من الغرر، والجهالة، والبخل بما لا يضر.

6 -

استحباب عارية الفحل للضِّراب، وإذا لم يترتب على الإعارة ضرر فيتوجه القول بالوجوب.

7 -

أن من محاسن الإسلام تحريم هذه المحرمات.

8 -

أن من قبيح الأخلاق بخلَ الإنسان بما لا يضره، وبما لا عمل له فيه.

(1)

رواه البخاري (2358)، ومسلم (108)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد (23082)، وأبو داود (3477)؛ عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ:«المُسْلِمُونَ» .

ص: 198

9 -

تحريم بيع حَبَل الحَبَلة، وقد فسر: بما يتضمن الجهالة في المبيع، أو في الأجل، فالأول: هو بيع الحمْل، أو حمْل الحمْل، والثاني: تأجيل الثمن إلى وضع الحمل، أو حمل الحمل. وكل هذا متضمن للجهالة، وبعضها أشد من بعض. والحبَلة قيل إنه جمع حابل، أي حامل، على خلاف القياس، وهو قليل. فإن حابلًا وحاملًا -لغير العاقل- تجمعان على حوابل وحوامل.

10 -

تحريم بيع الولاء، وهبته؛ لأنه علاقة بين السيد والعتيق، كالنسب، وفي الحديث:«الْوَلاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ: لا يُبَاعُ، وَلا يُوهَبُ»

(1)

.

11 -

تحريم بيع الحصاة، وهو أن يرمي البائع بالحصاة، ويقول للمشتري: ما تبلغه الحصاة هو عليك بكذا، ومن صوره أيضًا: أن يرمي أحد المتبايعين بالحصاة، فيقول: ما تقع عليه هو عليك بكذا، فيكون من جنس الملامسة والمنابذة، وفي هذا من الجهالة ما لا يخفى.

12 -

تحريم بيع الغرر، والغرر: كل ما يتضمن الجهالة في المبيع أو الأجل، أو العجز عن تسليم المبيع، ويدخل فيه: بيع الحصاة، وبيع حبَل الحَبَلة، وبيع عَسْب الفحل.

13 -

أن من شروط البيع العلم بالمبيع برؤية، أو صفة.

14 -

العلم بالأجل إذا كان البيع مؤجلًا.

15 -

ومن فوائد هذه الأحاديث: حسم الشرع لأسباب الخصومات والمنازعات.

16 -

أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم إيتاءه جوامع الكلم، فيكون شاهدًا لقوله صلى الله عليه وسلم:«أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ»

(2)

.

* * * * *

(1)

رواه الشافعي (237)، وابن حبان (4950)، والحاكم (7990)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما. وسيأتي برقم (1080).

(2)

رواه البخاري (7013)، ومسلم (523)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 199

(892)

وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ اشْتَرَى طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(893)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، والنَّسَائيُّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ

(2)

. ولأَبِي دَاوُدَ: «مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوَكَسُهُمَا، أَوْ الرِّبَا»

(3)

.

(894)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ، وَلا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَلا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ خُزَيْمَةَ، وَالْحَاكِمُ

(4)

.

(895)

وأَخْرَجَهُ في «عُلُومِ الْحَدِيْثِ» مِنْ رِوَايَةِ أَبِي حَنِيْفَةَ، عَنْ عَمْرٍو المَذْكُورِ بِلَفْظِ:«نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» ، ومِنْ هَذَا الوَجْهِ أخرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في «الأَوْسَطِ» ، وَهُوَ غَرِيْبٌ

(5)

.

(896)

وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْعُرْبَانِ» . رَوَاهُ مَالِكٌ، قال:«بَلَغَنِيْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شِعَيْبٍ، بِهِ»

(6)

.

(897)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «ابْتَعْتُ زَيْتًا فِي السُّوقِ، فَلَمَّا اسْتَوْجَبْتُهُ، لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي بِهِ رِبْحًا حَسَنًا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِ الرَّجُلِ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِرَاعِي، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لا تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْتَهُ حَتَّى تَحُوزَهُ إِلَى رَحْلِكَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ

(1)

مسلم (1528).

(2)

أحمد (9584)، والنسائي (4632)، والترمذي (1231)، وابن حبان (4973).

(3)

أبو داود (3461).

(4)

أحمد (6671)، وأبو داود (3504)، والنسائي (4631)، والترمذي (1234)، وابن ماجه (2188)، والحاكم (2185).

(5)

الحاكم في «علوم الحديث» (128)، والطبراني في «الأوسط» (4361).

(6)

مالك في «الموطأ» (1781).

ص: 200

تُبْتَاعُ، حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِم». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأبُوْ دَاوُدَ وَاللَّفْظُ له، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان، وَالْحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث اشتملت على جملة من أحكام البيوع، وبعض البيوع المنهي عنها.

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

تحريم تصرف المشتري بالطعام قبل قبضه بالكيل، إذا اشتراه كيلًا.

2 -

اشتراط قبض المبيع لجواز تصرف المشتري فيه بالبيع، لقول ابن عباس -لما ذكر النهي عن بيع الطعام قبل قبضه-:«وَلا أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا مِثْلَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

3 -

أن من مقاصد الشريعة قطع أسباب النزاع، ومنها التصرف في المبيع قبل قبضه، ولذا جاء النهي عنه.

4 -

تحريم بيعتين في بيعة، وقد اختلف العلماء في معنى ذلك؛ فقيل: هو اشتراط عقد في عقد، كما إذا قال: بعتك داري على أن تبيعني سيارتك، أو تؤجرني دارك. وقيل: المراد ببيعتين في بيعة صورة العينة، وهي: بيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها البائع بثمن نقدًا. وقيل: معنى بيعتين في بيعة: أن تقول: بعتك كذا بألف نقدًا، أو بألفين نسيئة، ثم يتفرقان دون البت بأحدهما. ورُجِّح هذا، لقوله في الرواية:«فَلَهُ أَوَكَسُهُمَا، [وهو أنقصهما، وهو الألف في المثال] أَوْ الرِّبَا» . ورجح ابن القيم بهذا اللفظ؛ أن المراد ببيعتين في بيعة مسألةُ العينة، وأن البائع الأول ليس له إلا الثمن الأقل

(3)

.

(1)

أحمد (4988)، وأبو داود (3499)، وابن حبان (4987)، والحاكم (2271).

(2)

البخاري (2135)، ومسلم (1525).

(3)

«إعلام الموقعين» (3/ 135).

ص: 201

5 -

تحريم الربا.

6 -

تحريم الاحتيال على الحرام.

7 -

أن من عَقَد عقْد ربًا فلا يحل له إلا رأس ماله؛ كمن أقرض قرضًا بفائدة، فلا تحل له الفائدة.

8 -

تحريم الجمع بين أمرين جائزين إذا لزم منهما محرم.

9 -

تحريم الجمع بين السلف والبيع، والسلفُ: القرض، والجمع بينهما يتضمن معنى «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا فَهُوَ رِبًا»

(1)

، لأن المقرض ينتفع بعقد البيع، سواء أكان بائعًا أم مشتريًا.

10 -

تحريم الجمع بين شرطين في البيع، وقد فسِّر الشرطان بما ليس من الشروط التي هي من مقتضى العقد ولا من مصلحته، وإن كانا صحيحين إذا أفردا؛ كاشتراط المشتري على البائع حملَ الحطب وتكسيرَه. وخياطةَ الثوب وتفصيلَه. وهذا التفسير مرجوح؛ لأنه لا تظهر فيه مفسدة، ولا جهالة، وفسر الشرطان بصورة العينة المتقدمة قريبًا.

11 -

تحريم الربح فيما ليس من ضمان البائع.

12 -

تحريم بيع ما ليس عند البائع، أي ليس في ملكه، وصورة ذلك: أن يبيع ما ليس عنده بالصفة، فيذهب ويشتريه، ثم يسلمه للمشتري منه. وفسره الجمهور: ببيعِ معيَّنٍ ليس في ملكه؛ كسيارة فلان، فقد يعجز عن تسليمه، والتفسير الأول هو الموافق لحديث حكيم بن حزام، قلت: يا رسول الله، يأتيني الرجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه، ثم أبيعه من السوق فقال:«لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»

(2)

. وظاهر الحديث العموم في المعين وغير المعين، ويخص منه

(1)

رواه الحارث ابن أبي أسامة. ينظر: «بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث» للحافظ أبي بكر الهيثمي (437)، وسيأتي برقم (967).

(2)

رواه أحمد (15311)، وأبو داود (30503)، والترمذي (1232)، والنسائي (4627)، وابن ماجه (2187)؛ عن حكيم بن حزام رضي الله عنه. وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (6/ 448).

ص: 202

بيع السلم، فإنه بيع لما ليس عند البائع، بل بيع موصوف في الذمة مؤجل مع تسليم الثمن، والله أعلم. وأما حديث:«نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط» فلا يصح سندًا ولا متنًا؛ فإنه مخالف للإجماع على جواز الشرط في البيع، إذا كان لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالًا.

13 -

النهي عن بيع العُربان، وهو ما يعرف بالعَرَبون، وفيه لغات سوى ما ذكر، وهو تقديم المشتري بعض الثمن على أنه إن جاء ببقية الثمن، وإلا فما أخذه البائع فهو له. وقد اختلف العلماء في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز؛ لهذا الحديث، ولأنه أكل للمال بالباطل، فإن ما يأخذه البائع من المقدم يأخذه بغير حقه. وذهب آخرون إلى جواز العربون، وضعفوا هذا الحديث، قالوا: ومن جهة المعنى فإن المشتري راغب في فسخ البيع، ولو تضمن ذلك ذهاب بعض ماله. وقد فعله بعض الصحابة، وعليه عمل الناس. ومقدار العربون يرجع فيه إلى العرف. وهو ما تجري العادة بتنازل المشتري عنه في سبيل إقالته، فلا يكون العربون إلا يسيرًا بالنسبة لثمن السلعة؛ كنصف العشر فأقل.

14 -

أن قبض المبيع المنقول يكون بنقله إلى رحل المشتري، وما في حكم رحله.

15 -

تحريم التصرف في المبيع إلا بعد حيازة المشتري له، فلا يجوز بيع السلع في المكان الذي تبتاع فيه، أي: تشترى.

16 -

إنكار المنكر باليد وباللسان بالبيان.

17 -

ذكر الحجة على التحريم عند إنكار المنكر.

18 -

فضيلة زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم.

19 -

أن من مناقب الصحابة التناصح وقبول النصيحة.

ص: 203

20 -

شمول الشريعة لأحكام المعاملات المالية، وهو ما يسمى الاقتصاد.

21 -

الفرق بين سبب الحديث، وسبب رواية الحديث، وقصة زيد مع ابن عمر تضمنت سبب رواية الحديث.

* * * * *

(898)

وَعَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَبِيعُ الإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذَا مِنْ هَذِهِ وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

(899)

وَعَنْهُ قَالَ: «نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّجْشِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

حديث ابن عمر الأول أصل في جواز بيع الدين على من هو في ذمته، وحديث ابن عمر الثاني أصل في تحريم النجش.

وفي الحديثين فوائد، منها:

1 -

جواز التجارة في الحيوان، من الإبل وغيرها؛ لأنه جاء في أصل الحديث الأول: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ: إِنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ، وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ، وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا» الحديث.

2 -

جواز الصرف بين الذهب والفضة.

(1)

أحمد (6239)، وأبو داود (3354)، والنسائي (4582)، والترمذي (1242)، وابن ماجه (2262)، والحاكم (2285).

(2)

البخاري (2142)، ومسلم (1516).

ص: 204

3 -

جواز بيع الدين على من هو في ذمته، وإن كان ذهبًا أو فضة.

4 -

أن ثبوت الدين في الذمة ينزل منزلة القبض.

5 -

أنه يشترط في بيع الدين على من هو في ذمته شرطان:

الأول: أن يكون البيع بسعر يوم التبايع، فلا يجوز بأكثر؛ لأنه يدخل في ربح ما لم يُضمن، ويجوز بأقل؛ لأنه في معنى إسقاط بعض الدين.

الثاني: قبض الثمن قبل التفرق، وهذا فيما إذا كان مما يحرم فيه ربا النساء، كبيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، وهو المذكور في الحديث. أما إذا كان عوض الدين مما يجوز فيه بيعه به نسيئة فلا يجب فيه القبض؛ كما إذا أخذ عن الدراهم التي في الذمة ثيابًا، فيجوز التفرق قبل قبضها، كما قرر ذلك الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.

6 -

تحريم النَّجْش، وهو أن يزيد في السلعة عند عرضها من لا يريد شراءها، بل لنفع البائع أو مضرة المشتري، أو غير ذلك، فإن علم البائع كان شريكًا في الإثم، وما يأخذه من الزيادة حرام، وإذا علم المشتري فله الخيار، والنَّجْش ضد النصيحة.

7 -

وجوب النصيحة بين المسلمين، وتحريم غشهم.

8 -

تحريم خداع الجاهل والمسترسِل، بالزيادة على ثمن المثل في السلعة؛ لأن ذلك في معنى النَّجْش.

* * * * *

(900)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ المُحَاقَلَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ، وَالْمُخَابَرَةِ، وَعَنِ الثُّنْيَا، إِلَّا أَنْ تُعْلَمَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

.

(1)

أحمد (14921)، وأبو داود (3404)، والنسائي (3880)، والترمذي (1290).

ص: 205

(901)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُحَاقَلَةِ، وَالْمُخَاضَرَةِ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

اشتمل هذان الحديثان على جملة من العقود والبيوع المحرمة.

وفيهما فوائد، منها:

1 -

تحريم المحاقلة، وهي بيع الزرع بحبٍّ من جنسه؛ من بُرٍّ أو من شعير أو نحوهما، للجهل بالتساوي، وهي من جنس المزابنة، لكن المحاقلة في الزرع، والمزابنة في الثمر.

2 -

تحريم المزابنة، وهي بيع الثمر على رؤوس النخل بخرصه بتمر كيلا، وخُص منها العرايا، فيما دون خمسة أوسق، كما سيأتي.

3 -

تحريم المخابرة، وهي نوع من المزارعة، وهي أن يكون لصاحب الأرض ما ينبت في ناحية، وللمُزارع ما ينبت في الناحية الأخرى، فربما سلم هذا، وهلك الآخر، فيحصل الغبن، كما جاء في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه:«كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُؤَاجِرُونَ بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ فَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا، أَوْ يَهْلِكَ هَذَا وَيَسْلَمَ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ»

(2)

. وكما تحرم هذه المزارعة تحرم المساقاة على الشجر، على هذا الوجه. وفي معنى المخابرة كلُّ مزارعة تتضمن الغرر، كالمزارعة بجزء معلوم مما يخرج من الأرض غير مشاع، والمزارعة والمساقاة الجائزتان إجارة الأرض أو الشجر بجزء معلوم مشاع من غلة الأرض أو الشجر، كالربع والثلث، كما يدل لذلك معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر بنصف ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وعلى ذلك جرى عمل الصحابة، رضي الله عنهم.

(1)

البخاري (2207).

(2)

مسلم (1547).

ص: 206

4 -

تحريم استثناء شيء من المعقود عليه غير معلوم، كعبد من عبيد، ورأس من قطيع، لما في ذلك من الجهالة المفضية إلى الغرر.

5 -

تحريم المخاضرة، وهي بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وقد جاء النهي عن ذلك صريحًا في عدة أحاديث، منها حديث أنس رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، قال:«حتى تحمارَّ»

(1)

.

6 -

تحريم الملامسة، وهي بيع الشيء بلمسه، كأن يقول: أي ثوب لمسته فهو عليك بكذا، وهي من بيوع الجاهلية، ولا يخفى ما فيه من الغرر.

7 -

تحريم المنابذة، وهي نوع من بيوع الجاهلية، وهو بيع الشيء بنبذه إلى المشتري، كأن يقول البائع: أي ثوب نبذته إليك، فهو عليك بكذا.

8 -

أن هذه العقود لا تصح، بل هي باطلة؛ للنهي عنها.

9 -

أن هذه الأحكام من صور كمال الشريعة، لما فيها من حماية المسلم من الغرر والمخاطرة.

10 -

شمول الشريعة لأحكام المعاملات المالية.

11 -

الرد على من يقصر الدين على العبادة التي بين العبد وربه، وأن من يزعم ذلك يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض، فيكون من الكافرين حقًّا.

* * * * *

(902)

وَعَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ، وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ» . قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا قَوْلُهُ: «وَلَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ؟» قَالَ: لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(2)

.

(1)

البخاري (1488)، ومسلم (1555).

(2)

البخاري (2158)، ومسلم (1521).

ص: 207

(903)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَلَقَّوا الْجَلَبَ، فَمَنْ تُلُقِّيَ فَاشْتُرِيَ مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(904)

وَعَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، «وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلَا تُسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(905)

وَلِمُسْلِمٍ: «لَا يَسُمِ الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ الْمُسْلِمِ»

(3)

.

* * *

هذه الأحاديث أصل في وجوب رعاية حقوق المسلم على المسلم، وتحريم الاعتداء على حق من حقوقه.

وفيها فوائد، منها:

1 -

تحريم تلقي الجالبين للسلع في الطريق قبل أن يصلوا إلى السوق؛ لأنه يؤدي إلى غبنهم؛ لجهلهم بسعر السوق، وسُمُّوا في الحديث ركبانًا لأن الغالب أنهم يأتون راكبين. كما سُمُّوا في الحديث الآخر جَلَبا، من جَلَب الشيءَ، إذا أحضره، هذا على ما قاله بعضهم أن الجَلَب جمع جالب، كخدم جمع خادم. والمشهور في كلام الشراح وأهل اللغة أن الجَلَب مصدر بمعنى اسم المفعول، فالمراد به السلع المجلوبة من متاع وحيوان، وغير ذلك، والمعنيان متلازمان، فتلقي السلع يستلزم تلقي أصحابها، فلا يترتب على هذا الخلاف اللغوي اختلافٌ في المعنى والحكم.

2 -

أن من تُلُقِّي فاشتُري منه فهو بالخيار.

3 -

أن البيع صحيح، لأن النهي لم يرد على البيع نفسه، وإنما على فعل المتلقي.

(1)

مسلم (1519).

(2)

البخاري (2140)، ومسلم (1413).

(3)

مسلم (1515).

ص: 208

4 -

تحريم القصد إلى استغلال الجاهل بحال السوق، وأثمان السلع.

5 -

تحريم بيع الحاضر للبادي، وهو أن يكون له سمسارًا، كما قال ابن عباس، والسمسار من يبيع لغيره، وهو ما يعرف اليوم بالدلال. والحاضر هو المقيم في السوق، والبادي هو الوافد إليه، ولهذا البيع صورتان: الأولى: أن يَطلب الحاضر من البادي أن يبيع له؛ لأنه أعلم بالسعر. الثانية: أن يطلب البادي من الحاضر أن يتولى البيع عنه. وقد اتفق العلماء على تحريم الصورة الأولى. ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في رواية: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»

(1)

. واختلف العلماء في الصورة الثانية؛ فقال بعضهم بالتحريم لإطلاق الحديث، وقال بعضهم بالجواز؛ لأن البادي إذا طلب من الحاضر أن يتولى البيع، فإن ذلك استنصاح وتوكيل، وهذا هو الصواب، والله أعلم.

6 -

فضل السماحة في البيع، فيكون فيه شاهد لحديث:«رَحِمَ اللهُ امْرَأً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى»

(2)

.

7 -

جواز الشراء من البادي بالرُّخص ما لم يكن فيه غبن.

8 -

الفرق بين المتلقَّى الذي لم يصل إلى السوق، وبين البادي الذي وصل إلى السوق، الجاهل بالسعر؛ فالأول له الخيار إذا وصل إلى السوق، دون الثاني.

9 -

ثبوت خيار الغبن.

10 -

جواز إطلاق السيد على مالك السلعة، كإطلاق الرب.

11 -

تحريم النَّجْش

(3)

.

12 -

تحريم بيع المسلم على بيع أخيه، كأن يقول لمن اشترى سلعة بمئة: أنا أعطيك مثلها بتسعين، ليفسخ المشتري البيع، ويعقد معه. ومثله الشراء على

(1)

رواه مسلم (1522)؛ عن جابر رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (2076)، وابن ماجه (2203) واللفظ له؛ عن جابر رضي الله عنه.

(3)

تقدم تفسيره عند الحديث (899).

ص: 209

الشراء؛ كأن يقول لمن باع سلعة بتسعين: أنا أعطيك فيها مئة، فالأول ظلم للبائع، والثاني ظلم للمشتري، فيقتضي تحريم ذلك مع الكافر، وذكر الأخ في الحديث خرج مخرج الغالب، ولأن المسلم أعظم حرمة.

13 -

تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه، وذلك إذا ظهر من أهل المرأة قبول الأول، والرضا به، كما يدل لجواز الخطبة على الخطبة في غير هذه الحال حديثُ فاطمة بنت قيس، حيث ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه خطبها معاوية وأبو جهم، ولم ينكر ذلك صلى الله عليه وسلم

(1)

.

14 -

تحريم طلب المرأة طلاق ضرتها، أو طلاق امرأة من تقدم لخطبتها، وتحريم اشتراط ذلك في العقد عليها، وأن الشرط باطل، خلافًا لمن صححه؛ فإن النهي يقتضي الفساد.

15 -

تحريم المشورة على الزوج بطلاق امرأته لقطع رزقها.

16 -

تحريم تخبيب المرأة على زوجها، سواء أكان للإضرار بالزوج، أم لمصلحة المخبب؛ كأن يكون ليتزوجها، وحينئذ؛ فلا تحل له، معاملة له بنقيض قصده، وكل هذه المسائل بالقياس على ما ورد به النص، وقد جاء في الحديث أيضا:«لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا»

(2)

.

17 -

تحريم التسبب في حرمان المسلم أو المسلمة من الخير الذي هو فيه؛ لأن ذلك من الظلم والعدوان.

18 -

تحريم سوم المسلم على المسلم، وذلك إذا ركن عارض السلعة إلى صاحب السوم الأول، وظهر رضاه به، والكافر في هذا كالمسلم؛ لأن من حقه الشراء والسوم، ولا يجوز ظلم المسلم ولا الكافر.

19 -

تحريم الظلم في الأموال وغيرها من الحقوق.

(1)

رواه مسلم (1480)؛ عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.

(2)

رواه أبو داود (2175)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 210

(906)

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَلَكِنْ في إِسْنَادِهِ مَقَالٌ

(1)

.

(907)

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَبِيعَ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ، فَبِعْتُهُمَا، فَفَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَدْرِكْهُمَا، فَارْتَجِعْهُمَا، وَلَا تَبِعْهُمَا إِلَّا جَمِيعًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وابْنُ الْجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وابْنُ القَطَّانِ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في رعاية علاقة القَرابة القُربى بين المماليك بعدم التفريق بينهم عند بيعهم.

وفي الحديثين فوائد، منها:

1 -

جواز الرق في الإسلام، وهو من الأحكام القطعية.

2 -

تحريم التفريق بين الوالدة وولدها عند بيعهما، لا سيما إذا كان الولد صغيرًا.

3 -

تحريم التفريق بين الإخوة من المماليك في البيع.

4 -

وجوب رد البيع إذا وقع.

5 -

أن كل ما فيه نقل الملك فهو كالبيع في تحريم التفريق، بخلاف العتق؛ فإنه يجوز عتق أحد الأخوين دون الآخر، والوالدة دون ولدها، والولد دون أمه.

(1)

أحمد (23499)، والترمذي (1566)، والحاكم (2334).

(2)

أحمد (760)، وابن الجارود في «المنتقى» (575)، والحاكم (2574)، والطبراني في «الأوسط» (2561)، ولم نجده عند ابن حبان.

ص: 211

6 -

أن السيد ليس مطلق التصرف في مماليكه.

7 -

رعاية الإسلام لمشاعر المودة بين الأقارب.

* * * * *

(908)

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: غَلَا السِّعْرُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، غَلَا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الرَّازِقُ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ تَعَالَى، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

(909)

وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في تحريم بعض أنواع الظلم في الأموال، وهما التسعير والاحتكار.

وفيهما فوائد، منها:

1 -

تحريم التسعير، وهو تقدير أثمان السلع على البائعين، وإلزامهم بذلك.

2 -

أن الغلاء لا يبيح التسعير، ومعنى غلا السعر أي ارتفعت أثمان السلع.

3 -

أن الغلاء والرُّخص يكون بقدر الله، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:«إِنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ» .

4 -

أن من أسماء الله المسعر، والقابض الباسط، والرازق.

(1)

أحمد (12591)، وأبو داود (3451)، والترمذي (1314)، وابن ماجه (2200)، وابن حبان (4935).

(2)

مسلم (1605).

ص: 212

5 -

أنه لا يجوز لولي الأمر التسعير عند الغلاء، إلا أن يكون بتسبب من أصحاب الأموال، كالاحتكار، أما إذا كان الغلاء بسبب قلة السلع وكثرة الطلب فلا يحل التسعير.

6 -

جواز رفع ما يقع من الضرر في الأسواق إلى ولي الأمر.

7 -

أن على ولي الأمر ألا يستجيب لرغبات الناس فيما يخالف الشريعة، بل عليه أن ينبههم إلى ما يجب عليه وعليهم.

8 -

تحريم الاحتكار؛ لأن معنى الخاطئ هو المتعمد للمعصية، والاحتكار هو امتناع التاجر من بيع ما يحتاج إليه الناس انتظارًا لزمن الغلاء.

9 -

الترغيب في التيسير على الناس ببيعهم ما يحتاجون إليه بسعر المثل، وقد روي في حديث:«الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ»

(1)

.

* * * * *

(910)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(911)

وَلِمُسْلِمٍ: «فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»

(3)

.

(912)

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، عَلّقَهَا البُخَارِيُّ:«رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، لَا سَمْرَاءَ»

(4)

، قَالَ البُخَارِيُّ:«وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ» .

(913)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَنِ اشْتَرَى شَاةً مَحَفَّلَةً، فَرَدَّهَا، فَلْيَرُدَّ مَعَهَا صَاعًا» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(5)

. وزاد الإسماعيلي: «مِنْ تَمْرٍ»

(6)

.

(1)

رواه ابن ماجه (2153)؛ عن عمر رضي الله عنه.

(2)

مسلم (1515)، والبخاري (2148).

(3)

مسلم (1524).

(4)

مسلم (1524)(25)، والبخاري (4/ 362) مع «الفتح» .

(5)

البخاري (2149).

(6)

هذه اللفظة هي في سياق البخاري، وليست من زيادات الإسماعيلي.

ص: 213

(914)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ:«مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث أصل في تحريم الغش، وثبوت خيار التدليس، والتدليس في البيع إظهار المبيع بصفة خلاف ما هو عليه.

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

تحريم الغش في البيع وغيره، ويكون بالتدليس، وكتمان العيب.

2 -

أن من التدليس تصرية البهيمة، وهو جمع اللبن في الضرع؛ لإظهار أنها كثيرة اللبن، وهو التحفيل، ويقال للبهيمة: مُصَرَّاة، ومُحَفَّلة. وأما رواية:«لَا تَصُرُّوا» -بفتح التاء - فهو من الصَّر، وهو ربط ضرع البهيمة، حتى لا تحلب.

3 -

أن من اشترى شاة مصراة أو غيرها، فهو بالخيار؛ إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها.

4 -

أن له الخيار ثلاثة أيام.

5 -

أنه إذا ردَّها ردَّها وصاعًا من تمر بدلًا عن اللبن الذي كان موجودًا في ضرعها عند البيع.

6 -

أن تقويم اللبن بصاع من تمر لا يجب غيره على المشتري إلا برضاه.

7 -

أن المشتري إذا أمسك البهيمة لا يجب له على البائع شيء إلا برضاه، فلا يجب أرش لفقد الصفة، وكذا في خيار العيب، فإما الرد وأخذ الثمن، أو الإمساك مجانًا.

8 -

تحريم تصرية البهائم للبيع؛ لأنه من الغش.

(1)

مسلم (102).

ص: 214

9 -

صحة بيع المصراة.

10 -

وجوب بيان العيب الذي في السلعة.

11 -

جواز كشف المشتري لباطن السلعة؛ لمعرفة حالها، وسلامتها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدخل يده في الطعام، ولم يكتف بنظر ما ظهر.

12 -

أن الغش من كبائر الذنوب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا» ، ومنه شوب اللبن بالماء للبيع.

13 -

أن كتمان العيب منكر، فيجب إنكاره.

14 -

إنكار الإمام والمحتسب على من وقع منه شيء من ذلك.

15 -

الاقتصار على اللسان في إنكار المنكر، إذا حصل به المقصود.

* * * * *

(915)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ، حَتَّى يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، فَقَدَ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ» . رواه الطَّبَرَانِيُّ في «الأوسط» بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في تحريم الإعانة على معصية الله.

وفيه فوائد، منها:

1 -

تحريم الخمر، وهو من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة، فيكفر جاحده.

2 -

تحريم الإعانة على صناعة الخمر.

3 -

تحريم الإعانة على كل ما يروجها.

4 -

أن حبس العنب أيام قطافه لبيعه على من يصنع منه الخمر من كبائر الذنوب.

5 -

تحريم بيع السلاح أيام الفتنة؛ لما فيه من الإعانة على القتال المحرم.

(1)

«المعجم الأوسط» (5356).

ص: 215

6 -

أن من مقاصد الشريعة سدَّ الذرائع إلى الحرام، ففيه شاهد لقاعدة سد الذرائع.

7 -

التعبير بالمُسبَّب عن السبب، لقوله:«فَقَدَ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ» ، وقوله:«تَقَحَّمَ» أي أقدم على أمر صعب وشديد. وقوله: «عَلَى بَصِيرَةٍ» أي على علم.

8 -

أن من حبس العنب أيام القطاف ليتخذه زبيبًا أو لغير ذلك من المباح فلا إثم عليه، وإن قدِّر أن يشتريه من يتخذه خمرًا وهو لا يعلم بحاله.

9 -

تأثير المقاصد في حكم الأفعال.

* * * * *

(916)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَضَعَّفَهُ البُخَارِيُّ، وأبُوْ دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ خُزَيْمَةَ، وابْنُ الْجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وابْنُ القَطَّانِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث -إذا كان صحيحًا- من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصل في معرفة من يستحق غلة العين، والخراج أصله المنفعة والرزق، قال تعالى:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِين (72)} [المؤمنون: 72].

والخراج في اصطلاح الفقهاء: ما يكتسبه العبد، وهو في الحديث أعم من ذلك، فيشمل كسب العبد، وأجرة الدار والعين، وثمرة الشجر، والمراد بالضمان في الحديث ضمان التلف، ومعنى الحديث أنه يستحق ثمرة العين وغلتها ومنافعها من إذا تلفت كانت من ضمانه، وتتلف عليه، كالمشتري

(1)

أحمد (24224)، وأبو داود (3508)، والنسائي (4490)، والترمذي (1285)، وابن ماجه (2243)، وابن حبان (4927)، والحاكم (2176)، وابن الجارود في «المنتقى» (626)، وينظر:«البدر المنير» (6/ 541).

ص: 216

للسلعة زمن الخيار، فالملك له، والنماء له، ولا يدخل في ذلك ضمان تلف العين لغيره؛ كالأمين إذا تعدَّى أو فرَّط.

* * * * *

(917)

وَعَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَارًا يَشْتَرِي بِهِ أُضْحِيَّةً، أَوْ شَاةً، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ، فَأَتَاهُ بِشَاةٍ وَدِينَارٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، فَكَانَ لَوْ اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا النَّسَائِيَّ

(1)

. وقد أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ضِمْنَ حَدِيْثٍ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ

(2)

.

(918)

وَأَوْرَدَ التِّرْمِذِيُّ لَهُ شَاهِدًا: مِنْ حَدِيْثِ حَكِيْمِ بْنِ حِزَام

(3)

.

* * *

هذا الحديث أصل في صحة الوكالة، وتصرف الفضولي، وهو تصرف الإنسان فيما لا يملك ببيع ونحوه.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم شراء ما يحتاجه.

2 -

التوكيل في الشراء.

3 -

دفع الموكل الثمن للوكيل.

4 -

صحة تصرف الفضولي بالإجازة؛ بيعًا وشراء؛ ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عروة في شراء شاة، وقد حصلت بنصف دينار، ونصف الدينار الآخر ملك للنبي صلى الله عليه وسلم، فاشترى به عروة شاة أخرى، ثم باعها بدينار.

5 -

إجازة النبي صلى الله عليه وسلم لعروة في تصرفه، بدليل دعائه له.

(1)

أحمد (19356)، وأبو داود (3384)، والترمذي (1258)، وابن ماجه (2402).

(2)

البخاري (3642).

(3)

الترمذي (1257).

ص: 217

6 -

أن من البركة في البيع الربح، كما في الحديث:«فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا»

(1)

.

7 -

فضيلة عروة رضي الله عنه؛ وذلك من وجوه: 1 - توكيل النبي صلى الله عليه وسلم له. 2 - حسن تصرفه. 3 - دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له. وليس ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فرحًا بالربح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا تعنيه شيئًا، بل إحسانًا إلى عروة، ليدوم توفيقه في التجارة.

8 -

استجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، لقول الراوي:«لَوْ اشْتَرَى تُرَابًا لَرَبِحَ فِيهِ» ، وهذا من أساليب المبالغة.

9 -

مشروعية التضحية بالشاة، وهي الواحدة من الغنم.

10 -

أن شراء عروة شاتين بدينار، وبيعه إحداهما بدينار لم يكن محاباة من البائع والمشتري للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يلزم أن يكونا عالمين أن عروة وكيل للنبي صلى الله عليه وسلم، بل لم يكونوا يحابون النبي صلى الله عليه وسلم لو عاملوه مباشرة، بل يربحون عليه، ولا يربح عليهم، كما جاء في قصة جمل جابر، وقد سبق.

11 -

أن الربح ليس له قدر محدود، ما لم يتضمن الغبن.

12 -

فيه علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وذلك بإجابة دعائه لعروة رضي الله عنه.

* * * * *

(919)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ شِرَاءِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ حَتَّى تَضَعَ، وَعَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا، وَعَنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ وَهُوَ آبِقٌ، وَعَنْ شِرَاءِ الْمَغَانِمِ حَتَّى تُقْسَمَ، وَعَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضَ، وَعَنْ ضَرْبَةِ الْغَائِصِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، والبَزّارُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ

(2)

.

(1)

رواه البخاري (2082)، ومسلم (1532)؛ عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.

(2)

ابن ماجه (2196)، والبزار (4913)، والدارقطني (2839).

ص: 218

(920)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ؛ فَإِنَّهُ غَرَرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأشَارَ إِلَى أنَّ الصَّوَابَ وقْفُه

(1)

.

(921)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةٌ حَتَّى تُطْعَمَ، وَلَا يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ، وَلَا لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ» . رواه الطَّبَرَانِيُّ في «الأوسط» . وَالدَّارَقُطْنِيُّ

(2)

.

(922)

وأَخْرَجَهُ أبُوْ دَاوُدَ في «المراسيل» لعِكْرِمَةَ، وَهُوَ الرَّاجِحُ

(3)

.

(923)

وأَخْرَجَهُ أيضًا مَوْقُوفًا على ابْنِ عبَّاسٍ بإسنادٍ قَويٍّ، ورجَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ

(4)

.

(924)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ، وَالْمَلَاقِيحِ. رواه البَزّارُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ

(5)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت النهي عن أنواع من بيوع الغرر، وإن كانت هذه الأحاديث لم يثبت شيء منها مرفوعًا، بل هي بين ضعيف وموقوف، فمعناها صحيح، لما في هذه البيوع من الغرر والخطر، وقد تقدم في الأحاديث الصحيحة النهي عن الغرر، وعن أنواع منه؛ كبيع الحصاة والملامسة، ومنه ما ذكر في هذه الأحاديث، ومدار الغرر فيها إما الجهل بالمبيع؛ كاللبن في الضرع، وكالحمل في البطن، والمضامين على قول الأكثر ما في أصلاب الفحول، والملاقيح ما في بطون الإناث، وقد تقدم في الأحاديث الصحيحة النهي عن عسب الفحل، وضراب الفحل، وعن بيع حَبَل الحَبَلة

(6)

.

(1)

أحمد (3676).

(2)

«المعجم الأوسط» (3708)، و «سنن الدارقطني» (2835).

(3)

«المراسيل» (183).

(4)

«السنن الكبرى» (10858).

(5)

«مسند البزار» (4828).

(6)

عند شرح الأحاديث ذوات الأرقام (887) و (888) و (889).

ص: 219

وإما عدم القدرة على تسليم المبيع؛ كالعبد الآبق، والجمل الشارد، والسمك في الماء، والطير في الهواء.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم بيع الغرر.

2 -

النهي عن بيع العبد الآبق والجمل الشارد.

3 -

النهي عن بيع المغانم قبل قسمها، وعن بيع الصدقة قبل قبضها؛ لأن ذلك من بيع الإنسان ما لا يملك، أو ما لم يتم ملكه عليه، وقد يتضمن الجهالة في المبيع.

4 -

النهي عن بيع السمك في الماء.

5 -

النهي عن بيع الطير في الهواء.

6 -

النهي عن بيع الصوف على ظهر البهيمة، وأجازه بعضهم؛ لأنه ظاهر، يعرفه أهل الخبرة، مقدور على تسليمه.

7 -

تحريم بيع اللبن في الضرع.

8 -

تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وقد دل على ذلك أحاديث صحيحة، ستأتي.

9 -

النهي عن بيع ضربة الغائص، والمراد ما يخرجه الغائص في البحر من الدرر في الغوصة الواحدة.

10 -

جواز الغوص في البحر لاستخراج اللآلئ والدرر، إذا كان الغالب السلامة.

11 -

تحريم بيع ما في أصلاب الفحول، وهو بيع ضراب الفحل.

12 -

تحريم بيع ما في بطون الإناث.

13 -

تحريم ما يؤدي إلى النزاع والعداوة والبغضاء بين المسلمين.

* * * * *

ص: 220

(925)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ، أَقَالَهُ اللهُ عَثْرَتَهُ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في فضل إقالة المسلم في البيع، والمراد بالإقالة فسخ عقد البيع من البائع لرغبة المشتري، وفي معناه وحكمه إقالة المشتري للبائع إذا ندم على البيع، والإقالة ضرب من السماحة في البيع والشراء، فهي من الإحسان المستحب بين المسلمين، وقال الفقهاء: إنها فسخ وليست عقد بيع آخر، فلا يترتب عليها ما يترتب على البيع من الشفعة، والرد بالعيب، ووجوب التقابض في الصرف، ونحو ذلك.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

استحباب الإقالة.

2 -

أن الجزاء من جنس العمل، والعثرة من العبد الزلة والذنب، وإقالة الله مغفرته، ومنه:«أَقِيلُوا ذَوِيِ الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ»

(2)

، أي زلَّاتهم، بالتجاوز عنهم.

3 -

أن الإقالة من مقتضيات الأخوة الإسلامية.

* * * * *

(1)

أبو داود (3460)، وابن ماجه (2199)، وابن حبان (5029)، والحاكم (2291).

(2)

رواه البخاري في «الأدب المفرد» (465)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 221

‌بَابُ الخِيَارِ

الخيار: اسم مصدر بمعنى الاختيار، والمراد اختيار الفسخ أو الإمضاء في البيع، ومعنى باب الخيار، أي ذكر أدلة أنواع الخيار، وأسبابه، وذكره بعد البيع مناسب، لأنه مما يترتب على عقد البيع، وقد ذكر المؤلف في الباب قبله بعض ما يدل على الخيار، كحديث المصرَّاة، وتلقِّي الجلب.

* * * * *

(926)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا، أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدَ وَجَبَ الْبَيْعُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

(927)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْبَائِعُ وَالْمُبْتَاعُ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، ورَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وابْنُ خُزَيْمَةَ، وابْنُ الْجَارُودِ

(2)

.

(928)

وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ مَكَانِهِمَا»

(3)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في ثبوت خيار المجلس، ومعناه أن لكل من المتبايعين الفسخ أو الإمضاء، ما داما في مجلس العقد، وقد ذهب إلى القول

(1)

البخاري (2112)، ومسلم (1531)(44).

(2)

أحمد (6721)، وأبو داود (3456)، والنسائي (4483)، والترمذي (1247)، والدارقطني (2998)، وابن الجارود في «المنتقى» (620).

(3)

البيهقي في «الكبرى» (10449).

ص: 222

بخيار المجلس جمهور العلماء، لصحة الحديث في ذلك، وقالوا: المراد بالتفرق التفرقُ بالأبدان، وذهب بعض العلماء إلى أنه لا خيار للمتبايعين، بعد تمام العقد بالإيجاب والقبول، وقالوا: إن التفرق في الحديث هو التفرق في الأقوال بالإيجاب من البائع والقبول من المشتري، فمحل الخيار عندهم قبل تمام عقد البيع، وهذا تفسير غريب، ترده ألفاظ الأحاديث، ودلالة اللغة، فلهذا يقطع ببطلان هذا المذهب، وفساد كل ما بني عليه من الاستدلالات والتأويلات، فيقطع بخطأ من قال به من أهل العلم، مع حسن الظن بهم، وأنهم مأجورون على اجتهادهم.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

ثبوت خيار المجلس لكل من المتبايعين.

2 -

لزوم البيع بالتفرق من المكان اختيارًا.

3 -

وجوب البيع إذا اتفق المتبايعان على إسقاط الخيار، أو أسقطه أحدهما، لقوله صلى الله عليه وسلم:«أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ» .

4 -

أن المراد بالتفرق التفرق من المكان، لقوله:«مِنْ مَكَانِهِمَا» .

5 -

الرد على من زعم أن التفرق بالأقوال.

6 -

جواز قطع الخيار بإمضاء البيع أو بفسخه.

7 -

تحريم الاحتيال على إسقاط خيار المجلس.

8 -

تأثير النية في الفعل أو التصرف، لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ» ، أي من أجل ألا يستقيله، والمراد بالاستقالة فسخ البيع.

9 -

أن خيار المجلس من محاسن الشريعة؛ لما فيه من التوسعة على كل من المتبايعين في النظر لما هو الأصلح له.

ص: 223

10 -

أن البيع عقد لازم، لقوله صلى الله عليه وسلم:«فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ» .

11 -

جواز تنازل الإنسان عما هو من حقه.

* * * * *

(929)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: ذَكَرَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنهُ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ فَقَالَ: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في خيار الغبن، والخلابة الخديعة، والخديعة في البيع حرام، لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَإِنْ كَذِبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»

(2)

، ولاسيما خديعة المسترسل الذي لا يحسن المماكسة، واشتراط نفي الخديعة تأكيد؛ لأن ما كان واجبًا بأصل الشرع فالشرط يؤكده.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن في كل زمان مخادعين، وشرهم المنافقون.

2 -

اختلاف أحوال الناس في عقولهم، وفي قُدَرهم على المعاملة في التجارة وغيرها.

3 -

جواز الاشتراط في البيع.

4 -

أن اشتراط عدم الغبن من الشروط الجائزة.

5 -

إرشاد الجاهل إلى ما يحفظ حقه.

6 -

جواز تصرف من لا يحسن المماكسة ويخدع في البيع.

* * * * *

(1)

البخاري (2117)، ومسلم (1533).

(2)

رواه البخاري (2082)، ومسلم (1532)؛ عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.

ص: 224

‌بَابُ الرِّبَا

ذكر الربا في أبواب البيوع لأنه نوع من المعاوضات، بل نوع من البيع المشتمل على صفة توجب تحريمه، وقوله تعالى عن المرابين:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، إنما أرادوا: الربا بيع من البيوع، فهو حلال.

وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] بيان أن الأصل في البيع الحل، وأن البيع المشتمل على الربا حرام، فكما حرم الله بيوع الغرر حرم البيوع المشتملة على الربا، والرِّبا -ويقال: الرِّما - الزيادة، وهو مصدر من ربا يربو، ومنه قوله تعالى:{فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج (5)} [الحج: 5]، ومنه الربوة أي المكان المرتفع.

والربا في الشرع: نوعان؛ ربا فضل وربا نساء، فربا الفضل: هو الزيادة في أحد العوضين مما بيع بجنسه، مما دل الشرع على تحريم الزيادة فيه، كالبر والشعير والتمر. وربا النَّساء: هو تأخير أحد العوضين مما يجب فيه التقابض، وهي الربويات، أي التي يجري فيها الربا؛ كالذهب والفضة، فإنه يجب في بيع بعضها ببعض التقابض مطلقًا، ويحرم النَّساء، كما تحرم الزيادة في أحد العوضين إذا اتحد جنسهما؛ فلا يباع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة إلا مثلًا بمثل، سواءً بسواء، يدًا بيد، ولا يباع الذهب بالفضة إلا يدًا بيد، وأغلظ نوعي الربا تحريمًا ربا النساء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ»

(1)

. ومنه ربا

(1)

رواه البخاري (2178)، ومسلم (1596)؛ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

ص: 225

الجاهلية، وهو الزيادة في الدين في مقابل الزيادة في الأجل، فيقول الدائن للمدين: إما أن تَقضي وإما أن تُربي، فجاء الإسلام بوجوب إنظار المعسر، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون (280)} [البقرة: 280].

* * * * *

(930)

عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ:«هُمْ سَوَاءٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(931)

ولِلْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيْثِ أَبِي جُحَيْفَةَ

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل من السنة في تحريم الربا، وتحريم الربا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو عام في تحريم نوعي الربا.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم الربا.

2 -

أنه من الكبائر.

3 -

جواز لعن أنواع من العصاة، وفي هذا الحديث منهم أربعة: آكل الربا، وهو الدائن، وموكله، وهو المدين، ويدخل فيهما آكل الزيادة ومعطيها في ربا الفضل، وكاتب عقد الربا، والشاهد عليه.

4 -

تحريم كتابة عقد الربا.

5 -

تحريم الشهادة عليه.

6 -

أن المذكورين في الحديث هم في الإثم سواء، وقوله:«لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا» معناه أن الرسول قال: لعن الله، أو لعنة الله، وهذا يحتمل

(1)

مسلم (1598).

(2)

البخاري (2086).

ص: 226

أن يكون خبرًا عن لعن الله للمذكورين، ويحتمل أن يكون دعاء من الرسول عليهم، واللعن من الله هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، فيكون قولا وفعلا.

7 -

أن الوعيد إنما يلحق من هؤلاء من علم الحكم وحقيقة الأمر، لقوله في حديث ابن مسعود عند النسائي:«إذَا عَلِمُوْا ذَلِكَ»

(1)

.

8 -

أن المعين على المحرم كفاعل المحرم.

* * * * *

(932)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مختصرًا، وَالْحَاكِمُ بِتَمَامِهِ وصَحَّحَهُ

(2)

.

* * *

هذا الحديث من أعظم الأحاديث الدالة على تحريم الربا وتقبيحه، والتنفير منه، ولكن في متنه نكارة شديدة، وذلك من ثلاثة وجوه:

أحدها: تشبيه أدنى الربا بنكاح الأم، ولا تظهر مناسبة بين المشبَّه والمشبَّه به، ولا يخفى ما في نكاح الأم من الشناعة والبشاعة شرعًا وطبعًا، فلا يدانيه أكلُ درهم ربا.

الثاني: إطلاق اسم الربا على الغيبة، ولا يخفى أنه لا يظهر فيها معنى الربا لغة ولا شرعًا.

الثالث: جعل الربا سبعين بابًا، والمعلوم أن الربا نوعان؛ ربا الفضل وربا النساء.

وجعل الغيبة أربى الربا يشعر بأن المراد بالربا أنواع من المعاصي.

وبعد؛ ففي أدلة الكتاب والسنة من التغليظ في أكل الربا ما يغني عن هذا الحديث، وإن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالله أعلم بتأويله.

(1)

النسائي (5102).

(2)

ابن ماجه (2275)، والحاكم (2259).

ص: 227

وقد استنكر جمع من العلماء هذا المتن، ومما يضعفه أيضًا أن فيه اضطرابًا في عدد الأبواب، وَابْنُ مَاجَهْ رواه مختصرًا، كما قال الحافظ، أي دون قوله:«أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ» ، إلخ. لكن ورد له شاهد عند أبي داود بلفظ:«إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ»

(1)

، وصُحح إسناده.

وفي إطلاق اسم الربا على الغيبة أو غيرها من الذنوب مجاز علاقته المشابهة، وهي الظلم، فكأنه قيل: من أظلم الظلم، والله أعلم.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن تحريم الربا مستقر عند المخاطبين، وتحريم الربا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

2 -

كثرة أصناف الربا.

3 -

غلظ تحريم الاستطالة في عرض الرجل المسلم.

4 -

أن تحريم نكاح الأم والمحارم مستقر في الفطر والشرائع.

5 -

الدلالة على تحريم الشيء بتشبيهه بما كان تحريمه معلومًا.

6 -

إطلاق اسم الباب على أقسام الشيء وأنواعه، وهو غير مشهور في اللغة العربية، وجاء قليلًا في بعض الأحاديث، منها حديث معاذ:«أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ؟»

(2)

، ومحتمل أن يراد بأبواب الخير طرق الخير.

وذكرُ هذه الفوائد موافقةٌ للحافظ لذكْرِه الحديث.

* * * * *

(1)

أبو داود (4876)؛ عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد (22016)، والنسائي في «الكبرى» (11330)، والترمذي (2616)، وابن ماجه (3973).

ص: 228

(933)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(934)

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(935)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَهُوَ رِبًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(936)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» ، فَقَالَ: لَا، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

وَلِمُسْلِمٍ: «وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ»

(5)

.

(937)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ لا يُعْلَمُ مَكِيلُهَا بِالْكَيْلِ الْمُسَمَّى مِنَ التَّمْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(6)

.

(1)

البخاري (2177)، ومسلم (1584).

(2)

مسلم (1587).

(3)

مسلم (1588).

(4)

البخاري (2201)، ومسلم (1593).

(5)

مسلم (1593).

(6)

مسلم (1530).

ص: 229

(938)

وَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» . وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(939)

وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: اشْتَرَيْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ قِلَادَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فِيهَا ذَهَبٌ وَخَرَزٌ، فَفَصَّلْتُهَا فَوَجَدْتُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في تحريم ربا الفضل وربا النسيئة، وبيان النوعين، وبيان ما يجريان فيه من الأجناس.

وفيها فوائد؛ منها:

1 -

تحريم بيع كل من الأصناف الستة المذكورة بجنسه، وهي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، إلا بشرط التساوي في وزن الموزون، وكيل المكيل، وبشرط التقابض، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«يَدًا بِيَدٍ» ، فما اختل فيه الشرط الأول فهو من ربا الفضل، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ» ، فمعنى أشفَّ: زاد، ولهذا قال في اللفظ الآخر:«فَمَنْ زَادَ أَوْ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» ، وما اختل فيه الشرط الثاني فهو من ربا النسيئة، وما اختل فيه الشرطان فهو ربا فضل ونسيئة؛ كبيع مئة صاع من البر بمئة وعشرين نسيئة. وقوله:«الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ» اختلف المعربون في هذا التركيب، والرواية المشهورة برفع الذهب، فمنهم من قال: الذهب مبتدأ، بتقدير مضاف محذوف، أي: بيع الذهب، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقوله:«مِثْلًا بِمِثْلٍ» بالنصب على المشهور حال من فاعل فعل محذوف، تقديره: يجوز مثلًا بمثل، وأولى منه أن يقال: الذهب مبتدأ، وبالذهب متعلق بمحذوف خبر،

(1)

مسلم (1592).

(2)

مسلم (1591).

ص: 230

تقدير: يباع بالذهب، وقوله:«مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، حال، أي حال كونهما متماثلين. و «سَوَاءً بِسَوَاءٍ» حال ثانية، و «يَدًا بِيَدٍ» حال ثالثة، والتقدير: متماثلين متساويين مقبوضين.

2 -

تحريم بيع الذهب بالفضة إلا يدًا بيد.

3 -

تحريم بيع شيء من المكيلات الأربعة بغير جنسه إلا يدًا بيد.

4 -

تحريم بيع الصُّبْرة من الطعام بالكيل المسمَّى من جنسه، ومن هنا أخذ الفقهاء قولهم: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.

5 -

أن التفاضل في الصفة فيما بيع من الربويات بجنسه لا يبيح التفاضل في المقدار، كيلًا أو وزنًا؛ لحديث أبي سعيد، والجمع هو الرديء من التمر، والجَنِيب: الجيد.

6 -

الحيلة الشرعية في التوصل إلى الجيد لمن ليس عنده إلا رديء من جنسه، وهي أن يبيع الرديء بدراهم، ويشتري بثمنه من الجيد، ولا ينبغي بيع الرديء على من يراد شراء الجيد منه؛ لأن ذلك يتضمن الاحتيال على بيع الرديء بالجيد متفاضلا.

7 -

تحريم ربا النسيئة في بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والذهب بالفضة.

8 -

تحريم ربا النسيئة في بيع المكيلات الأربعة المذكورة بعضها ببعض، مع اتحاد الجنس واختلافه.

9 -

قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» مخصوص بما ثبت من بيع السَّلَم، وفيه تعجيل الثمن وتأجيل المبيع، وبما ثبت من جواز البيع إلى أجل، كبيع الطعام بدراهم أو دنانير مؤجلة، ولهذا قال الفقهاء: يجوز بيع المكيل بالموزون، متفاضلا ونسيئة.

ص: 231

10 -

أنه لا يجوز بيع شيء من هذه الأصناف الستة بجنسه ومعهما أو مع أحدهما ما ليس من جنسه؛ كذهب وخرز بذهب؛ لحديث فَضالة بن عبيد. وهو دليل من حرم مسألة مُدِّ عجوة، وصورتها بيع مُدِّ عجوة ودرهم بمُدِّ عجوة ودرهم، أو مُدِّ عجوة بمُدِّ عجوة ودرهم. والصواب أن الأولى جائزة، والثانية لا تجوز؛ لأن حقيقة الأولى درهم بدرهم ومُدٌّ بمُدٍّ، والثانية مُدٌّ بمُدٍّ ودرهم.

11 -

استدل من قال: إن العلة في الذهب والفضة هي الوزن، وفي الأربعة الكيل، فيجري الربا بين كل موزونين، وبين كل مكيلين، على التفصيل المتقدم، استدلوا بقوله في الرواية:«وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ» ، وقوله:«وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ» . والمراد بالميزان: الموزون. والعبرة في تعيين ما يكال وما يوزن من الأجناس هو عرف مكة والمدينة في عصر النبوة.

واستدل من قال: إن العلة في الأنواع الأربعة الطَّعم بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معمر بن عبد الله: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» . والراجح -والله أعلم - أن العلة في الذهب والفضة هي الثمنية، أي كونهما أثمانا يتوصل بهما إلى الحاجات، وتقوم بها السلع، وهذه خاصيتها، وينزل منزلتهما ما جعل بدلا عنهما من النقد الورقي في الزكاة، وفي جريان الربا. والراجح في علة الأنواع الأربعة الطَّعم، فيلحق بها كل مطعوم يقتات؛ كالأرز والدخن والزبيب، وذهبت الظاهرية وجماعة إلى أن ربا الفضل لا يجري إلا في الأصناف الستة، ولا يقاس عليها.

12 -

رد العقد الفاسد ولو وقع من جاهل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ» ، وقوله في حديث فضالة:«لَا تُبَاعُ حَتَّى تُفَصَّلَ» .

13 -

جواز ذكر الإنسان البؤس في معيشته على وجه الإخبار، لقول معمر:«وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ» .

* * * * *

ص: 232

(940)

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وابْنُ الْجَارُودِ

(1)

.

(941)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْهُ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ

(2)

.

(942)

وَلِأَحْمَدَ نَحْوُهُ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وصَحَّحَهُ ابْنُ القَطَّانِ

(3)

.

(943)

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً، فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ، وفي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ

(4)

.

(944)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِيَ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ

(5)

.

(945)

وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتْ الْإِبِلُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قَلَائِصِ الصَّدَقَةِ. قَالَ:«فَكُنْتُ آخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(6)

.

* * *

هذه الأحاديث دلت على أنواع من المكاسب المحرمة من ربا وغيره.

(1)

أحمد (20143)، وأبو داود (3356)، والنسائي (4620)، والترمذي (1237)، وابن ماجه (2270، وابن الجارود (611).

(2)

أبو داود (3462).

(3)

أحمد (4825)، وينظر:«نصب الراية» (4/ 17).

(4)

أحمد (22251)، وأبو داود (3541).

(5)

أبو داود (3580)، والترمذي (1337).

(6)

الحاكم (2340)، والبيهقي في «السنن الصغير» (1878).

ص: 233

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

تحريم بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، اتحد الجنس أو اختلف، لحديث سمرة، ويعارضه حديث عبد الله بن عمرو المذكور في الباب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشًا، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، وقد جمع بينهما الشافعي بحمل حديث سمرة على النسيئة من الجانبين، فيدخل في بيع الكالئ بالكالئ، كما سيأتي.

2 -

جواز بيع الحيوان بالحيوان إلى أجل؛ لحديث عبد الله بن عمرو.

3 -

تحريم بيع العينة، وهي بيع سلعة بثمن مؤجل ثم شراء البائع لها بثمن أقل مما اشتراها به نقدًا، لما فيها من الحيلة على الربا، لأنه يؤول الأمر إلى بيع دراهم بدراهم أكثر منها مؤجلة.

4 -

تحريم إيثار القعود عن الجهاد والرضا بالزرع ومنافع الدنيا.

5 -

أن إقامة الجهاد عز الأمة الإسلامية، وتركه سبب العقوبة بالذلة.

6 -

أن التوبة والرجوع إلى الله سبب رفع البلاء.

7 -

تحريم قبول الشافع للهدية ممن شفع له، ومن باب أولى أخذ الأجرة على ذلك.

8 -

تحريم الرشوة على الآخذ، وهو المرتشي، وعلى المعطي، وهو الراشي، وأنها من كبائر الذنوب.

9 -

جواز لعن الراشي والمرتشي على وجه العموم.

10 -

توكيل الإمام بعض رعيته في تجهيز الجيش.

11 -

فضيلة عبد الله بن عمرو.

12 -

وجوب الزكاة في الإبل.

ص: 234

13 -

أن لأخذ الزكاة وقتًا؛ لقوله: «إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ» ، أي: إلى وقت أخذ صدقة الإبل.

14 -

جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وبزيادة، وقد سبق تأويل حديث سمرة، وفيه النهي عن بيع الحيوان بالحيوان.

15 -

جواز الزيادة في الثمن في البيع إلى أجل، ومنه البيع بالتقسيط، وأخطأ من حرمه، ولا يصح في العادة التسوية في ثمن السلعة بين النقد والمؤجل. ولو أخذ بهذا الرأي لانسد باب البيع إلى أجل، وتعطل أصحاب الحاجات الذين لا نقد في أيديهم.

* * * * *

(946)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ؛ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إِنْ كَانَ نَخْلًا بِتَمْرٍ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ، نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(947)

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ اشْتِرَاءِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ. فَقَالَ: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟» قَالُوا: نَعَمَ. فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وصَحَّحَهُ ابْنُ الْمَدِيْنِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ

(2)

.

(948)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، يَعْنِي: الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. رَوَاهُ إِسْحَاقُ والبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ

(3)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت النهي عن بيوع هي من صور الربا.

(1)

البخاري (2205)، ومسلم (1542).

(2)

أحمد (1515)، وأبو داود (3359)، والنسائي (4545)، والترمذي (1225)، وابن ماجه (2264)، وابن حبان (5003)، والحاكم (2265).

(3)

«كشف الأستار» (1280)، ينظر:«نصب الراية» (4/ 40).

ص: 235

وفيها فوائد؛ منها:

1 -

تحريم المزابنة، من الزَّبْن بمعنى الدفع؛ لأن كلًّا من المتبايعين يدفع العوض للآخر، ولكن الاسم يختص بصور العقود المذكورة في الحديث.

2 -

تحريم بيع الثمر على رؤوس النخل بتمر كيلًا، وقد خُص من هذا بيع العرايا، كما سيأتي.

3 -

تحريم بيع العنب بزبيب كيلًا.

4 -

تحريم بيع الزرع بطعام من جنسه كيلًا.

5 -

أن علة التحريم في هذه البيوع أنها من الربويات التي يجب في بيع الواحد منها بجنسه التساوي في المقدار.

6 -

أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.

7 -

أن العنب والزبيب مما يجري فيه ربا الفضل، كالتمر، وهو لم يذكر في الأصناف الستة، فيجب أن يعد من المنصوص، كالأصناف الستة.

8 -

تحريم بيع الرطب بالتمر، ولو مع التساوي في المقدار.

9 -

ذكر العلة في ذلك، وهي أن الرطب ينقص، فيلزم من ذلك التفاضل الممنوع.

10 -

أن من حسن التعليم بيان علة الحكم، وذلك من هديه صلى الله عليه وسلم.

11 -

تنبيه المخاطب إلى علة الحكم بسؤاله لتقريره، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن الرطب ينقص إذا يبس.

12 -

تحريم بيع الكالئ بالكالئ، والمراد بالكالئ الدَّين المؤخر، وإن كان الحديث ضعيفًا فمعناه صحيح عند أهل العلم؛ فلا يجوز بيع مؤجل بمؤجل، وهو البيع مع تأجيل العوضين، ولذا يشترط في السَّلم قبض الثمن في مجلس العقد.

* * * * *

ص: 236

‌بَابُ الرُّخْصَةِ فِي العَرَايَا وَبَيْعِ الأُصُولِ وَالثِّمَارِ

(949)

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا: «أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(950)

وَلِمُسْلِمٍ: «رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا»

(2)

.

(951)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

العَرايا: جمع عَرِيَّة، كسَرايا جمع سَريَّة، وهدايا جمع هديَّة، والمشهور في معناها في الأحاديث أن يشتري الرجل الثمر على رؤوس النخل بخرصه بتمر كيلًا؛ ليأكله رطبًا، لأنه لا يجد ما يشتريه به من الذهب أو الفضة، فيجوز له ذلك فيما دون خمسة أوسق، وهذا رخصة من حكم المزابنة، الذي تقدم ذكره قريبًا

(4)

، فيلاحظ أن هذه الرخصة يشترط لها ثلاثة شروط:

1 -

الحاجة إلى أكل الرطب.

2 -

عدم الثمن الذي يشتريه به.

3 -

أن يكون ما يشتريه من الثمر دون خمسة أوسق. وسمِّيت النَّخلات عرايا لانفرادها في الحكم عن نظائرها في بيع الثمر على رؤوس النخل بالتمر، وهو المزابنة، وقيل لأنها عريت عن النقد.

(1)

البخاري (2192)، ومسلم (1539)(64).

(2)

مسلم (1539)(61).

(3)

البخاري (2382)، ومسلم (1541).

(4)

عند شرح الحديث (946)، وينظر أيضًا شرح حديث (900) و (901).

ص: 237

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن الأصل في بيع الثمر على رؤوس النخل بالتمر التحريم، بدليل قوله:«رَخَّصَ» ، فهو إباحة، فالرخصة إنما تكون مما هو محرم؛ لوجود مقتض للإباحة.

2 -

جواز بيع العرايا بالشروط المتقدمة.

3 -

النص على تقييد الإباحة بما دون خمسة أوسق.

4 -

أن تقدير الإباحة بخمسة أوسق مشكوك فيه، فيجب بناء الرخصة على اليقين، وهو ما دون خمسة أوسق، لأن الأصل في بيع الرطب بالتمر التحريم.

5 -

أن أحاديث العرايا مخصصة لأحاديث النهي عن بيع التمر بالتمر إلا مثلًا بمثل.

6 -

جواز بيع العرايا في العنب والتين قياسًا على بيع الرطب بالتمر، وفيه خلاف.

7 -

أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم ربا الوسائل، فلذا يرخص منه ما تدعو إليه الحاجة، بخلاف ربا النسيئة، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله

(1)

.

8 -

سماحة شريعة الإسلام لما اشتملت عليه من أنواع التيسير، ومن ذلك بيع العرايا للحاجة.

* * * * *

(952)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(953)

وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا؟ قَالَ: «حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ»

(3)

.

(1)

ينظر: «إعلام الموقعين» (3/ 405).

(2)

البخاري (2194)، ومسلم (1534).

(3)

البخاري (1486).

ص: 238

(954)

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهَى

(1)

. قِيلَ: وَمَا زَهْوُهَا؟ قَالَ: «تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(2)

.

(955)

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، إلا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ

(3)

.

(956)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا. بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

(957)

وَفِي رِوَايَةٍ له؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ

(5)

.

(958)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ الَّذِي بَاعَهَا، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(6)

.

* * *

هذه الأحاديث تتعلق ببيع الأصول والثمار، والمراد بالأصول الأعيان الثابتة؛ التي يكون قبضها بالتخلية؛ كالدُّور، والشجر، مما له ثمر؛ كالنخل، وشجر العنب، ونحو ذلك، مما يمكن بيع ثمره دون أصله.

والمراد بالثمار ثمار الأشجار على اختلاف أنواعها.

(1)

مِنْ أزهى النخل أو الثمر، ومعناه: تحمر أو تصفر، وغلط من قال: تَزهِي، ويقال أيضًا: زهى النخل أو الثمر يزهو، بمعناه، فجاء الفعل رباعيًا وثلاثيًا، وهو قول الجمهور. قاله النووي في شرح مسلم.

(2)

البخاري (2208)، ومسلم (1555).

(3)

أحمد (13314)، وأبو داود (3371)، والترمذي (1228)، وابن ماجه (2217)، وابن حبان (4993)، والحاكم (2192).

(4)

مسلم (1554)(14).

(5)

مسلم (1554)(17).

(6)

البخاري (2379)، ومسلم (1543).

ص: 239

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

تحريم بيع الثمر قبل بدو صلاحه إلا لمن يريد قطعه في الحال.

2 -

جواز بيع الثمر إذا بدا صلاحه، ولو لم ينضج.

3 -

اعتبار بدو الصلاح في كل جنس بحسبه، إذا بدا الصلاح في بعض الشجرة جاز بيع جميعها بالإجماع، وجاز بيع ثمر هذا النوع، على الصحيح.

4 -

أن بدو الصلاح في النخل أن يحمر أو يصفر.

5 -

الحكمة في النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وهي أنه معرض للفساد، وهي العاهة المذكورة في الحديث، فإذا بدا صلاح الثمر ذهبت العاهة.

6 -

تحريم بيع العنب حتى يبدو صلاحه؛ بأن يسود أو يبيض ويتموه حلوًا.

7 -

تحريم بيع الزرع حتى يشتد حبه.

8 -

أن ضمان الثمرة إذا أصابته جائحة سماوية على البائع، وهو معنى أمره صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح.

9 -

أن من كمال الشريعة قطع أسباب المنازعات، كما يظهر من النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، وفي وضع الجوائح.

10 -

أن التلف اليسير من الثمرة لا يضمنه البائع.

11 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم؛ لتعليله الحكم بوضع الجائحة بأن أخذ البائعِ الثمنَ من المشتري -والحالة هذه- أخذٌ بغير حق؛ إذْ لم يحصل للمشتري مقصوده.

12 -

أن التخلية في بيع الثمر على الشجر ليس قبضًا للمبيع.

13 -

جواز بيع الثمر قبل بدو صلاحه، تبعًا لأصوله، لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ الَّذِي بَاعَهَا، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» .

ص: 240

14 -

أن الثمرة قبل التأبير -وهو التلقيح - للمشتري.

15 -

جواز الشرط في البيع في الجملة.

16 -

أن ما لا يجوز بيعه منفردًا قد يجوز بيعه تبعًا؛ كالحمل والثمرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ» .

17 -

أن الأصل حرمة مال المسلم؛ فلا يحل شيء منه إلا بطيب نفس أو بسبب شرعي.

18 -

أن بائع النخل يستحق الثمرة بعد التأبير ولو لم يستثنها.

19 -

أن المعتبر في استحقاق بائع النخل للثمرة هو التأبير لا التشقق.

20 -

كمال الشريعة لاشتمالها على جميع أحكام المعاملات المالية.

* * * * *

ص: 241

‌أَبْوَابُ السَّلَمِ وَالقَرْضِ وَالرَّهْنِ

جمع المصنف رحمه الله هذه الأبواب في عنوان واحد لقلة الأحاديث فيها، ولما بينها من التشابه، لأن كلا منها يتعلق به دين، والقرض دين، والرهن توثقة بدين، والسلم بيع موصوف في الذمة مؤجل، بثمن مقبوض في مجلس العقد، والقرض بذل مال مجانا لمن ينتفع به ويرد بدله، والرهن توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها عند تعذر الوفاء.

* * * * *

(959)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَقَالَ:«مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(960)

ولِلْبُخَارِيِّ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ» .

(961)

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَا:«كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَأْتِينَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ، فَنُسْلِفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ:«وَالزَّيْتِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» . قِيلَ: أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ؟ قَالَا: «مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

(962)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا، أَتْلَفَهُ اللهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(3)

.

(1)

البخاري (2240)، ومسلم (1604).

(2)

البخاري (2254).

(3)

البخاري (2387).

ص: 242

(963)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانًا قَدِمَ لَهُ بَزٌّ مِنَ الشَّامِ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْهِ، فَأَخَذْتَ مِنْهُ ثَوْبَيْنِ بِنَسِيئَةٍ إِلَى مَيْسَرَةٍ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ» . أخْرَجَهُ الحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(1)

.

* * *

في هذه الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز بيع السلم، وقد تقدم تعريفه.

2 -

أن بيع السلم كان معروفًا في الجاهلية، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم بشروط، لقوله صلى الله عليه وسلم:«فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» ، ومن شروط السلم أن يكون المبيع مما ينضبط بالصفة، كالمثليات؛ من مكيل وموزون ومذروع ومعدود، والإسلاف تعجيل الثمن.

3 -

جواز البيع بالصفة.

4 -

أنه ليس من شرط السلم أن يكون المبيع مملوكًا للبائع عند العقد.

5 -

أنه ليس من شروط السلم أن يكون للمُسلَم إليه شجر أو زرع.

6 -

أن أحاديث جواز السلم مخصصة لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»

(2)

.

7 -

جواز البيع إلى أجل بتأجيل الثمن، أو تأجيل المبيع، ولا يجوز تأجيلهما معًا.

8 -

جواز السلم بكل شيء ينضبط بصفة.

9 -

جواز السلم في ثمر النخل.

10 -

أن من شروط السلم العلم بمقدار المبيع وصفته.

(1)

الحاكم (2207)، والبيهقي (11121).

(2)

رواه أحمد وأبو داود، والترمذي والنسائي وابن ماجه. وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (6/ 448)، وتقدم تخريجه عند الحديث (898).

ص: 243

11 -

جواز الاستصناع، كأن يطلب من النجار أن يصنع له بابًا، ومن الخياط أن يعمل له ثوبًا.

12 -

أن السكوت عن الشيء في المعاملة يدل على أنه ليس بشرط، وأُخذ من هذا قاعدة، وهي: أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.

13 -

قطع الشريعة لأسباب النزاعات؛ ومنها الجهل بالمبيع، والجهل بالأجل.

14 -

حرمة مال الناس.

15 -

تحريم أخذها لإتلافها عليهم؛ بجحدها أو المماطلة بها.

16 -

جواز الدين مع نية الوفاء.

17 -

أن الجزاء من جنس العمل، لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا، أَتْلَفَهُ اللهُ» .

18 -

أن الجزاء من الله مبناه العدل والفضل.

19 -

الحث على حسن النية في المعاملة.

20 -

التحذير من فساد النية.

21 -

إثبات الإرادة للعبد، والرد على الجبرية.

22 -

إثبات أفعال الله الاختيارية.

23 -

تواضعه صلى الله عليه وسلم؛ فهو يقبل المشورة ولا يغضب لنفسه.

24 -

الظاهر أن الذي امتنع عن البيع من الرسول صلى الله عليه وسلم نسيئة كافر، وجاء في رواية التصريح بأنه يهودي

(1)

.

(1)

رواه الترمذي (1213)، والنسائي (4628).

ص: 244

25 -

جواز معاملة الكفار بالبيع والشراء منهم، ويشهد له قصة رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي في ثمن ثلاثين صاعًا من شعير.

26 -

جواز تصديق الكافر إذا ظهر منه الصدق في المعاملة.

27 -

أنه يمر بالرسول صلى الله عليه وسلم وقت لا يجد فيه ما يشتري به حاجته.

* * * * *

(964)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(965)

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. إِلَّا أّنَّ المحْفُوظَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وغَيْرِهِ إِرْسَالُهُ

(2)

.

(966)

وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَقَالَ: لَا أَجِدُ إِلَّا خَيَارًا قَالَ: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ، فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(967)

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، فَهُوَ رِبًا» . رَوَاهُ الحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، وَإِسْنَادُهُ سَاقِطٌ

(4)

.

(968)

وَلَهُ شاهِدٌ ضَعِيفٌ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ

(5)

.

(969)

وآخرُ موقُوفٌ عَنْ عبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ

(6)

.

* * *

(1)

البخاري (2512).

(2)

الدارقطني (2920)، والحاكم (2315)، و «المراسيل» لأبي داود (187).

(3)

مسلم (1600).

(4)

«بغية الباحث» (437).

(5)

البيهقي في «الكبرى» (10933).

(6)

البخاري (3814).

ص: 245

هذه الأحاديث تضمنت حكم انتفاع المرتهن بالرهن، والمقترض بالقرض.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز ركوب الدابة المرهونة في مقابل النفقة عليها، بقدر النفقة، ولا يكون مثل ذلك في السيارة؛ لأنها لا تحتاج إلى نفقة إلا أن يستأجرها بإذن الراهن.

2 -

جواز الانتفاع بلبن البهيمة المرهونة ذات اللبن، بقدر النفقة عليها.

3 -

أن نفقة الرهن تجب على المرتهن إذا كان هو المنتفع بالظهر أو اللبن.

4 -

جواز رهن الحيوان.

5 -

أن الأصل قبض المرتهن للرهن، والصحيح أنه ليس بشرط لصحة الرهن، ولا للزومه.

6 -

رعاية الشارع للحيوان بإيجاب النفقة عليه.

7 -

جواز التصرف في مال الغير لمصلحته في الجملة.

8 -

أن هذا الحكم من تيسير الإسلام على الراهن والمرتهن؛ فإن من الحرج تكليف الراهن بالنفقة، وتعطيل منفعة الرهن، وهو في يد المرتهن.

9 -

أن الرهن لا يَغلق على الراهن، أي لا يذهب عليه؛ بحيث يكون ملكًا للمرتهن عند حلول الدين، بل يباع ويوفى منه الدين.

10 -

أن نماء الرهن ملك للراهن، وهذا معنى:«لَهُ غُنْمُهُ» .

11 -

أن الرهن إذا تلف أو نقص من غير تعد ولا تفريط من المرتهن فإنه يتلف على الراهن، وهو معنى:«وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» .

12 -

جواز اقتراض الحيوان.

13 -

جواز رد القرض بأفضل منه.

14 -

أن ذلك من حسن القضاء.

ص: 246

15 -

جواز التوكيل في قضاء الدين.

16 -

جواز الاقتراض على بيت المال.

17 -

أن الحيوان مثليٌّ يضمن بمثله.

18 -

أن الزكاة تكون في الإبل؛ لقوله: «فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنَ الصَّدَقَةِ» ، وإضافة الإبل إلى الصدقة من إضافة الموصوف إلى الصفة.

19 -

أن العقود تصح بما دل عليها من الألفاظ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ» ، ولم يقل:(وفِّه إياه).

20 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وحسن تعليمه.

21 -

أن حديث: «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً، فَهُوَ رِبًا» لا يصح رواية، ولكنه صحيح المعنى في الجملة؛ لما ورد مما يشهد لصحة معناه.

22 -

تحريم التوصل بالقرض إلى النفع بشرط لفظي أو عرفي أو بحيلة؛ كأن يُسكن المقترضُ المقرضَ داره إلى أن يقضيه، أو يعيره دابته أو سيارته؛ لأن ذلك يخرج القرض عن حقيقته، وهو الإحسان والارتفاق.

* * * * *

ص: 247

‌بَابُ التَّفْلِيسِ وَالحَجْرِ

التفليس: مأخوذ من الفَلَس، وهو اسم من الإفلاس، وهو الإعدام من المطلوب والمحبوب، والتفليس تصيير الإنسان مفلسا، والمفلس في العرف هو من لا مال له ولا متاع، وفي الاصطلاح: من لا يفي ماله بقضاء دينه، والتفليس حكم القاضي عليه بالفَلَس.

والحَجْر: لغة المنع، ومنه الحِجْر للمكان المحجور، وكل شيء ممنوع، ومنه قوله تعالى:{حِجْرًا مَّحْجُورًا (22)} [الفرقان: 22]، والحَجْر في الاصطلاح هو المنع من التصرف، ويقال للممنوع من التصرف: محجور عليه.

والحَجْر إما لحظ المحجور عليه؛ كالحجر على الصبي والمجنون والسَّفيه، أو لحظ الغرماء، وهو الحجر على المفلس.

* * * * *

(970)

عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(971)

ورواه أبُوْ دَاوُدَ، ومالك

(2)

؛ مِنْ رِوَايَةِ أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلًا بلفظ: «أَيُّمَا رَجُلٌ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ، وَلَمْ يَقْبِضِ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا، فَوَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ» . وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ وضَعَّفَهُ تبعًا لأَبِي دَاوُدَ

(3)

.

(1)

البخاري (2402)، ومسلم (1559).

(2)

أبو داود (3520)، ومالك في «الموطأ» (1979).

(3)

البيهقي (11255)، وأبو داود (3522).

ص: 248

(972)

وروى أبُوْ دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بنِ خَلْدةَ قَالَ: «أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَفْلَسَ، فَقَالَ: لَأَقْضِيَنَّ فِيكُمْ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ مَنْ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

، وضعَّفَ أبُوْ دَاوُدَ هذه الزِّيَادَةَ في ذِكْرِ الموْتِ.

* * *

هذا الحديث برواياته في حكم من وجد ماله بعينه عند رجل قد أفلس، ولم يكن قد استوفى من ثمنه بشيء، فإنه أحق به. وأصل الحديث في «الصَّحِيحَيْنِ» ، واختلف في ثبوت الزيادة عليه.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من باع سلعة على مفلس، وهو لا يعلم بفلسه، ثم وجد ماله بعينه فهو أحق به من سائر الغرماء، وكذا لو باعه قبل الفلس ثم أفلس وحجر عليه.

2 -

أن علة الاستحقاق لعين المبيع أمران؛ أولهما: وجود عين المبيع، أي وجوده بحاله. الثاني: أنه لم يقبض من ثمنه شيئًا.

3 -

أن استحقاق البائع لعين المبيع يشترط له شرطان؛ الأول: ألا يكون قبض من ثمنه شيئًا. الثاني: أن يكون المبيع باقيًا بحاله لم يتغير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بِعَيْنِهِ» .

4 -

أن المشتري إذا مات كان صاحب السلعة أسوة الغرماء؛ كما تفيده الرواية المرسلة، وهي قوله:«وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ» ، ويعارض هذه الروايةَ حديثُ عمر بن خلدة عن أبي هريرة المذكور في الباب:«مَنْ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» ، وضعف أبُوْ دَاوُدَ كلتا الروايتين. ولذا اختلف العلماء فيمن وجد عين ماله عند رجل مات وهو مفلس:

(1)

أبو داود (3523)، وابن ماجه (2360)، والحاكم (2314).

ص: 249

فذهب الشافعي إلى أن صاحب المتاع أحق به، عملًا بحديث أبي هريرة عند أَبِي دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

وذهب مالك والإمام أحمد إلى أن البائع في حال موت المشتري أسوة الغرماء، ويعضد قول الشافعي القياس؛ إذ لا فرق بين أن يكون المفلس حيًا أو ميتًا، والمقتضي لاستحقاق استرجاع البائع للمبيع قائم، وهو وجود عين ماله الذي لم يقبض من ثمنه شيئًا، والله أعلم.

* * * * *

(973)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وعلَّقَهُ البُّخَارِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(1)

.

(974)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا، فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» ، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ:«خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان يتعلقان بحكم من عليه دين.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

تحريم المطل من القادر عليه، وهو معنى ليِّ الواجد، المذكور في الحديث.

2 -

وجوب قضاء الدين الحال، دون تمنع ولا تأخير.

(1)

أبو داود (3628)، والنسائي (4689)، والبخاري معلقًا (3/ 118 - مع «الفتح» -) وابن حبان (5089).

(2)

مسلم (1556).

ص: 250

3 -

جواز معاقبة المماطل، وجواز الطعن عليه بذلك، وهذا معنى:«يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» ، والعقوبة إنما تكون بنظر الحاكم.

4 -

أن المطل ظلم لصاحب الدين، كما جاء في الحديث الصحيح:«مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ»

(1)

.

5 -

أن المصيبة تكون في الأموال كما تكون في النفوس؛ إما بتلف الأموال أو كسادها والخسارة فيها، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين (155)} [البقرة: 155].

6 -

جواز الشراء بالدين حالًّا أو مؤجلًا.

7 -

استحباب إعانة المدين بالصدقة عليه بما يوفي منه دينه.

8 -

جواز صرف الزكاة في ذلك؛ لإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ» .

9 -

استحباب الحث على التصدق على الغارم.

10 -

أنه ليس للغرماء على المفلس إلا ما وجدوا عنده من المال، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ» . والمراد أنه يجب عليهم إنظاره فيما بقي، وليس المراد أنه يسقط ما بقي من دينهم، وقيل: يسقط الدين لقوله: «وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَّا ذَلِكَ» ، والأشبه أن هذا مذهب الظاهرية.

11 -

أن الثمر إذا تلف بعد تمام قبض المشتري كان من ضمانه، لقوله في الحديث:«فَكَثُرَ دَيْنُهُ» ، ولو كان قبل القبض لكان من ضمان البائع، كما يدل له حديث وضع الجوائح، وهذا أحسن ما يقال في الجمع بين الحديثين.

* * * * *

(1)

سيأتي تخريجه (985).

ص: 251

(975)

وَعَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ، وَبَاعَهُ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وأَخْرَجَهُ أبُوْ دَاوُدَ مُرْسَلًا، وَرُجِّح

(1)

.

(976)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(977)

وَفِي رِوَايَةٍ للبيهقي: «فَلَمْ يُجِزْنِي، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ» . وصححها ابْنُ خُزَيْمَةَ

(3)

.

(978)

وَعَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «عُرِضْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَكَانَ مَنْ أَنْبَتَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَخُلِّيَ سَبِيلِي» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان، وَالْحَاكِمُ

(4)

.

* * *

هذه الأحاديث تتضمَّن ذكر نوعي الحجر؛ الحجر لمصلحة المحجور عليه، والحجر لمصلحة غيره، وهم الغرماء.

وفي هذه الأحاديث فوائد، منها:

1 -

جواز الحجر على المفلس، وهو الذي لا يفي ماله بدينه.

2 -

أن معاذًا كان ممن حجر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم للدين الذي كان عليه.

3 -

أن معاذًا رضي الله عنه لم يكن ثريًّا.

4 -

الحذر من تحمل الدين من غير حاجة ماسة إلا أن يكون له ما يوفي منه.

(1)

الدارقطني (4551)، والحاكم (2348)، و «المراسيل» لأبي داود (171).

(2)

البخاري (2664)، ومسلم (1868).

(3)

البيهقي في «السنن الصغير» (2069).

(4)

أحمد (18776)، وأبو داود (4404)، والنسائي في «الكبرى» (8567)، والترمذي (1584)، وابن ماجه (2541)، والحاكم (4333)، وابن حبان (4780).

ص: 252

5 -

جواز بيع مال المدين لوفاء دينه إذا طالبه الغرماء.

6 -

قسم مال المفلس على غرمائه بنسبة ديونهم.

7 -

أنه لا يجوز للمفلس أن يتبرع بشيء من ماله؛ لأن وفاء الدين واجب، فهو مقدم.

وفي حديث ابن عمر من الفوائد:

1 -

أن ابن عمر كان سنه يوم أحد أربعة عشر، وكانت الغزوة في السنة الثالثة.

2 -

أن البلوغ لا يتحقق ببلوغ أربعة عشر.

3 -

أن من لم يبلغ معدود من الصبيان فلا يؤذن له في القتال.

4 -

أن البلوغ يتحقق للإنسان بتمام خمس عشرة، وهذا مذهب الجمهور، وذهب أبو حنيفة إلى أن البلوغ بالسن لا يكون إلا في ثمان عشرة.

5 -

أن من لم يبلغ يحجر عليه لمصلحته.

6 -

حرص الصحابة -الآباء منهم والأبناء - على الجهاد.

وفي حديث عطية القُرَظي من الفوائد:

1 -

أن عطية من ذرية يهود بني قريظة.

2 -

أن يهود بني قريظة قُتلوا على إثر نقضهم للعهد ومواطأتهم للأحزاب الذين تحزبوا حول المدينة، قال تعالى:{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} الآية [الأحزاب: 26].

3 -

أن من علامات البلوغ الإنبات، والمراد به نبات الشعر الخشن حول القُبُل، والعلامة الثانية بلوغ سنِّ الخامسة عشرة، والعلامة الثالثة الاحتلام، وهذه الثلاثة مشتركة بين الرجال والنساء. وتزيد المرأة بالحيض والحمل.

ص: 253

4 -

أن الصبيان لا يقتلون، وكذا النساء، وإنما يقتل الرجال المقاتلة، قال تعالى:{فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)} [الأحزاب: 26].

5 -

جواز كشف العورة للضرورة، ومن ذلك معرفة البلوغ إذا حصل الشك، وكذا التطبيب.

* * * * *

(979)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إِلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا» .

وَفِي لَفْظٍ: «لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ فِي مَالِهَا، إِذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأَصَحَابُ السُّنَنِ إلا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

* * *

حديث عمرو بن شعيب في حكم تصرف المرأة ذات الزوج في مالها، وقد دلت النصوص على أن المرأة الرشيدة تتصرف في مالها بالبيع والشراء والصدقة والهدية، دون اعتبار لإذن أحد من زوج أو ولي، وأما السفيهة واليتيمة فيُحجر عليها في مالها كما يُحجر على الرجل، ويفك الحجر بأمرين:

1 -

ببلوغ النكاح، ويعلم بالاحتلام وغيره من علامات البلوغ.

2 -

بإيناس الرشد في المال، ويعرف ذلك باختباره في المعاملة بالمال، كما قال تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} الآية [النساء: 6]، والآية عامة في الرجال والنساء. ومن الأدلة على جواز تصرف المرأة في مالها قوله صلى الله عليه وسلم للنساء:«تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ»

(2)

، فجعلن يتصدقن بخواتمهن وأقراطهن، ولم يأمرهن باستئذان أزواجهن.

(1)

أحمد (7058)، وأبو داود (3546)، والنسائي (3756)، وابن ماجه (2388)، والحاكم (2299).

(2)

رواه البخاري (1466)، ومسلم (1000)؛ عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.

ص: 254

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن عقد النكاح نوع ملك من الرجل للمرأة، فإليه القوامة عليها وحمايتها، ومنعها ممن يتعدى عليها، ولذلك كانت أسيرة أو مشبَّهة بالأسيرة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:«وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ»

(1)

، ومن آثار ذلك ألَّا تخرج من بيته إلا بإذنه، ولا تدخل أحدًا بيته إلا بإذنه، ولا توطئ فراشه أحدًا يكرهه، كما جاء في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة.

2 -

أن المرأة المتزوجة ليس لها التبرع من مالها عطيةً أو هديةً إلا بإذن زوجها، وهذا يشكل مع ما تقدم، ويجاب عنه بأحد أربعة أمور:

الأول: إما أن يكون هذا الحديث منسوخًا.

الثاني: وإما أن يكون المراد المرأة غير الرشيدة.

الثالث: أو يكون تبرعها في مالها الذي وهبه لها.

الرابع: أو أن الحديث شاذٌّ لا يقاوم النصوص الدالة على جواز تصرف المرأة الرشيدة في مالها. وكيف لا يكون لها عطية في مالها؟! مع أنه يجوز لها أن تتصدق من مال زوجها غير مفسدة. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى ظاهر هذا الحديث، وذهب الجمهور إلى القول الأول، وأن المرأة الرشيدة تتصرف في مالها دون إذن من زوجها أو وليها، وأقرب الأجوبة عن هذا الحديث هو الثاني والثالث.

* * * * *

(980)

وَعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَى مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1)

رواه الترمذي (1163)؛ عن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه.

(2)

مسلم (1044). وتقدم (734).

ص: 255

هذا الحديث تقدم ذكره، في كتاب الزكاة باب قسم الصدقات، وذكرت هناك فوائده، فارجع إليه. ومناسبة ذكره في باب الحجر أن من ادعى الإعسار، وقد عُرف بالغنى وعليه دين، فإنه يحجر عليه، إلا أن يقيم بينة على دعواه، ونصاب البينة في دعوى الإعسار ثلاثة عدول من قومه يشهدون بأنه ذهب ماله فأصابته فاقة. والله أعلم.

ويضاف هنا إلى ما ذكر من الفوائد:

1 -

أن الجائحة التي تبيح المسألة هي الجائحة في جميع المال، لا في بعض؛ لقوله:«فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ» .

2 -

الترغيب في إعانة من تحمل حمالة في سبيل إصلاح ذات البين بين طائفتين، ونحوه من أفعال الخير العامة.

3 -

الترغيب في المحافظة على عزة المسلم.

4 -

أن لسبب الاكتساب أثرًا في حله أو حرمته.

5 -

أن المال المكتسب بالسؤال في هذه الأحوال حلال.

6 -

أن لحل المسألة في هذه الأحوال غاية، وهي أن يصيب المتحمل قدر حمالته، ويصيب الآخران ما يسد حاجتهما قواما من عيش.

7 -

أن المال المكتسب بالسؤال في غير هذه الأحوال حرام؛ لقوله في أصل الحديث: «فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» .

* * * * *

ص: 256

‌بَابُ الصُّلْحِ

الصلح: اسم مصدر من الإصلاح، أو الاصطلاح، والمراد به ترك الخصومات وقطع المنازعات، وهو من أفضل الأعمال، ويكون واجبًا ويكون مستحبًّا، قال الله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] إلى قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، وقال تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]، وقال تعالى:{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، والدليل من السنة حديث عمرو بن عوف المذكور في الباب.

* * * * *

(981)

عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا وَ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا وَ أَحَلَّ حَرَامًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ

(1)

. وأنْكَرُوا عَلَيهِ؛ لِأَنَّ رَاوِيَهُ كَثِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِوِ بْنِ عَوْفٍ ضَعِيفٌ، وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَهُ بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ.

(982)

وَقَدْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ

(2)

.

* * *

هذا أشهر حديث في الصلح، وهو -وإن كان ضعيفًا لضعف راويه كثير بن عبد الله - فإن معناه متفق عليه، بل هو من قواعد الشريعة في المعاملة بين المسلمين، ويلاحظ أنه يدخل في بابين، باب الصلح، وباب الشروط في العقود.

(1)

الترمذي (1352).

(2)

أخرجه ابن حبان (5091).

ص: 257

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز الصلح في المنازعات التي تكون بين المسلمين أفرادًا وجماعات.

2 -

تحريم الصلح المتضمن تحليل الحرام أو تحريم الحلال.

3 -

أن الأصل في الصلح الجواز إلا أن يدل دليل على التحريم بتضمنه الحرام.

4 -

جواز الشروط في العقود التي تكون بين المسلمين وغيرهم.

5 -

وجوب الوفاء بالشروط؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ومن الوفاء بالعقد الوفاء بشرطه.

6 -

تحريم ما تضمن من الشروط تحليل الحرام أو تحريم الحلال.

7 -

أن الأصل في الشروط الجواز إلا أن يدل دليل على ما يوجب تحريمه.

8 -

أن من شرط شرطًا له أو عليه فهو باق على شرطه، إلا أن يتفق الطرفان أو من له الحق على رفعه.

9 -

أن حكم الله وشرطه مقدم على حكم المخلوق وشرطه.

10 -

أن كل قانون يناقض شرع الله باطل.

* * * * *

(983)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ» . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ؟ وَاللهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

(1)

البخاري (6014)، ومسلم (1609).

ص: 258

هذا الحديث يتضمن حقًا من حقوق الجار، وللجار على الجار حقوق، وقد أوصى الله بالإحسان إلى الجار، والجار المسلم ذو القرابة له ثلاثة حقوق، والجار المسلم الذي لا قرابة له له حقان، والجار الكافر له حق الجوار، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بإكرام الجار والإحسان إليه، ونهى عن إيذائه، وقال صلى الله عليه وسلم:«مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»

(1)

، فالإحسان إلى الجار أفضل من الإحسان إلى البعيد، وظلم الجار أعظم من ظلم البعيد، وحرمته أعظم من حرمته.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من حق الجار على جاره أن يغرز خشب سقف بيته على جدار جاره إذا احتاج إليه، إذا كان الجدار يتحمل ذلك، ولا ضرر على صاحب الجدار، ومثل هذا وضع جسر على الجدار، من أجل بناء ملحق ونحوه.

2 -

أن من محاسن الإسلام مراعاة الجوار.

3 -

أن من الأخلاق الكريمة بذل الجار لجاره ما يحتاج إليه، ولا ضرر عليه فيه.

4 -

أن من سيئ الأخلاق بخل الإنسان بما لا يضره.

5 -

إعراض أكثر الناس عن أداء هذا الحق المذكور في الحديث في عهد أبي هريرة رضي الله عنه، فكيف بهم اليوم؟! ولهذا يطلب كثير من الناس من الجار عوضًا عن انتفاعه بجداره، وهو ما يسمى بالمباناة.

6 -

فضل أبي هريرة رضي الله عنه لصدعه بالحق، وروايته الحديث الذي يخالف أهواء الناس، وذلك في قوله:«وَاللهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» ، أي لأعلنن هذا الحديث بينكم، وإن كرهتم.

(1)

رواه البخاري (6014)، ومسلم (2624)؛ عن عائشة رضي الله عنها، ورواه أيضًا البخاري (6015)، ومسلم (2625)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 259

7 -

أن الجار إذا انتفع بجدار جاره لا تجب عليه المباناة.

8 -

أنه لا يجوز للجار أن يمنع جاره من وضع خشبه.

9 -

أنه لا ينبغي للجار أن يغرز خشبه في جدار جاره إلا بإذنه، فإنه إذا لم يفعل ذلك ساءت العلاقة بينهما.

* * * * *

(984)

وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحَيْهِمَا

(1)

.

* * *

في هذا الحديث دليل على حرمة مال المسلم.

وفيه فوائد؛ منها:

1 -

أنه لا يحل شيء من مال المسلم إلا بطيب نفس منه.

2 -

أنه لا فرق بين القليل والكثير.

3 -

أن العصا لا يجوز أخذها من صاحبها، وإن كانت مما لا تتبعه همة أوساط الناس، ولذا يجوز التقاطها من غير تعريف، إذا كانت عادية، أما العصا الغالية، وهي المصنوعة من مادة نفيسة، أو مزينة بنقش ونحوه، أو بفضة، أو شيء من الذهب، فيجب تعريفها.

4 -

حِلُّ ما طابت به نفس الإنسان، قال تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4)} [النساء: 4].

* * * * *

(1)

ابن حبان (5978)، ورواه الحاكم (318)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 260

‌بَابُ الحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ

الحوالة: مصدر أو اسم مصدر من حاله، أو أحاله، وأصله من التحول، وهي في الاصطلاح إحالة الغريم بدينه ليستوفيه مما في ذمة المحال عليه للمحيل. والضمان هو التزام ما على غيره من حقوق من دين ونحوه، ويسميها الناس الآن كفالة.

* * * * *

(985)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيٍّ فَلْيَتْبَعْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(986)

وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ: «فَلْيَحْتَلْ»

(2)

.

* * *

مضمون هذا الحديث يرجع إلى تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة، وهو السماحة في القضاء والاقتضاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«رَحِمَ اللهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى، سَمْحًا إِذَا قَضَى»

(3)

.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

وجوب قضاء الدين وأداء الحق إذا طلبه صاحبه، واستحباب بذله بلا طلب.

2 -

تحريم مطل الغني، وأنه ظلم، والمطل هو التمنع من قضاء الدين وأداء الحق، ومدافعة صاحبه من غير عذر.

(1)

البخاري (2287)، ومسلم (1564).

(2)

أحمد (9973).

(3)

رواه ابن حبان (4903)؛ عن جابر رضي الله عنه، وأصله عند البخاري (2076).

ص: 261

3 -

أن امتناع المعسر من قضاء دينه لعسرته ليس بظلم.

4 -

جواز الحوالة.

5 -

وجوب قبول الحوالة.

6 -

أن رضا المحال ليس شرطًا لصحة الحوالة وكذا المحال عليه، إذا كان المحال عليه مليئاً.

7 -

براءة ذمة المحيل من دينه إذا صحت الحوالة، فلا يرجع عليه المحال.

8 -

جواز مطالبة صاحب الحق بحقه من دين وغيره.

9 -

الإرشاد إلى السماحة في القضاء والاقتضاء، وأن ذلك من محاسن الإسلام.

10 -

جواز الدعاء على المماطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى المطل ظلمًا، وفي الحديث:«وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ»

(1)

.

* * * * *

(987)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَّا، فَغَسَّلْنَاهُ، وَحَنَّطْنَاهُ، وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَخَطَا خُطًى، ثُمَّ قَالَ:«أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟» قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«حَقَّ الْغَرِيمِ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأبُوْ دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان، وَالْحَاكِمُ

(2)

.

(988)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ الْمُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ:«هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ مِنْ قَضَاءٍ؟» فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً صَلَّى

(1)

البخاري (1496)، ومسلم (19)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أحمد (14536)، وأبو داود (3343)، والنسائي (1962)، وابن حبان (3064)، والحاكم (2346).

ص: 262

عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَالَ:«صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» ، فَلَمَّا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ:«أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(989)

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً»

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في جواز ضمان الدين، وثبوته في ذمة الضامن، وقد استُدل على الضمان بقوله تعالى عن المؤذن في قصة يوسف:{وَأَنَا بِهِ زَعِيم (72)} [يوسف: 72]، والزعيم الضمين.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية تغسيل الميت، وهو فرض كفاية.

2 -

مشروعية تكفينه، وهو فرض كفاية.

3 -

مشروعية تحنيطه، أي تطييبه، وهو مستحب.

4 -

مشروعية الصلاة عليه، وهي فرض كفاية.

5 -

استحباب إحضار الميت لأهل الفضل للصلاة عليه.

6 -

جواز تأخير الصلاة على الميت تأخيرًا يسيرًا.

7 -

كراهة تحمل الدين لمن لا وفاء عنده.

8 -

ترك أهل الفضل الصلاةَ على الميت، زجرًا عن فعله المنهي عنه.

9 -

أن الدين الذي ترك له الميت وفاء أو كان له ضامن لا يمنع من صلاة أهل الفضل عليه.

10 -

جواز السؤال عن المانع من الصلاة على الميت إذا كان متوقعًا.

11 -

أنه ليس لبيت المال شيء من تركة الميت إلا ألا يكون له ورثة.

12 -

أن ما تركه الميت من المال والضياع فلورثته، لكن بعد الدين والوصية.

(1)

البخاري (2298)، ومسلم (1619).

(2)

البخاري (6731).

ص: 263

13 -

جواز ضمان الدين، وأنه من الإحسان، ولا سيما دين المعسر.

14 -

أن ضمان دين الميت تبرأ به ذمته، دون دين الحي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ؟» .

15 -

استثبات القاضي من المُقِر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «حَقَّ الغَرِيْمِ؟» .

16 -

ثبوت حق الغريم في ذمة الضامن.

17 -

فضيلة أبي قتادة رضي الله عنه.

18 -

الاكتفاء في الجواب من المقر ب نعم.

19 -

الاستفصال عن الدين الذي على الميت.

20 -

أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على المدين الذي لم يترك وفاء لا يمنع من صلاة غيره عليه؛ لقوله: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» .

21 -

أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على المدين كان في أول الأمر.

22 -

ضمان الإمامِ دينَ المتوفى الذي لا وفاء عنده، إذا كان في بيت المال ما يتحمله.

23 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهذه الأولوية تقتضي أمرين: الأول: محبته صلى الله عليه وسلم فوق محبة النفس. الثاني: قضاء دين الميت من بيت المال، والولاة بعده بمنزلته صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر.

* * * * *

(990)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا كَفَالَةَ فِي حَدٍّ» . رواه الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ

(1)

.

* * *

(1)

البيهقي في «الكبرى» (11417).

ص: 264

هذا الحديث لم يرد في السنة غيره في الكفالة، وهو ضعيف، والكفالة هي الالتزام بإحضار من عليه الحق، من غير ضمان ما عليه، إلا ألا يستطيع إحضاره، والناس اليوم يطلقون الكفالة على الضمان، والكفالة جائزة عند العلماء في الجملة، والفرق بين الكفالة والضمان أن الضمان التزام بالحق، وللمضمون له مطالبة الضامن مع إعسار المضمون أو موته، وأما في الكفالة فلا يطالب الكفيل بالحق إذا أحضر المكفول.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أنه لا تصح الكفالة في الحدود؛ لأنه لا يمكن استيفاؤها من الكفيل، وقيل: تصح، والحديث ضعيف.

2 -

صحة الكفالة في الجملة.

* * * * *

ص: 265

‌بَابُ الشَّرِكَةِ وَالوَكَالَةِ

الشركة: مأخوذة من الشِّرْك، وهو القسط من الشيء.

والشركة نوعان:

الأول: شركة أملاك، وهي أن تكون العين أو المنفعة ملكًا لاثنين فأكثر ملكًا مشاعًا، وهو اشتراك في الاستحقاق.

الثاني: شركة عقود، وهي عقد يوجب الاشتراك في الملك والتصرف، أو التصرف فقط، وهي أنواع منها شركة العنان وشركة المضاربة.

والوكالة: اسم مصدر من التوكيل، وهي لغة الاستنابة، وهي شرعًا: استنابة جائز التصرف غيرَه في ما لَه التصرف فيه، مما تدخله النيابة.

* * * * *

(991)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا» . رواه أبُوْ دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في جواز الشركة بأنواعها السالمة من المخالفات الشرعية، وهو حديث قدسي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، والصواب أن الحديث القدسي لفظه ومعناه من الله، إلا أنه ليس له حكم القرآن؛ فلا تجزئ القراءة به في الصلاة، ويباح مسه بغير طهارة.

(1)

أبو داود (3383)، والحاكم (2322).

ص: 266

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز الشركة.

2 -

أن أقل ما تتحقق به الشركة اثنان.

3 -

فضل الأمانة وذم الخيانة.

4 -

إثبات المعية الخاصة؛ لقوله تعالى: «أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ» ، كما قال تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} إلى قوله: {وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة: 7] الآية.

5 -

أن سبب هذه المعية الأمانة.

6 -

أن معية الله للعبد سبب للخير وحلول البركة، وسلب المعية سبب لمحو البركة وعدم التوفيق.

7 -

ذم الخيانة، وأنها سبب لسلب معية الله للشريكين، لقوله تعالى:«خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا» ، أي تركتهما، وفي هذا نفي للمعية.

8 -

الترغيب في الأمانة، والتحذير من الخيانة.

* * * * *

(992)

وَعَنِ السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ؛ أنهُ كَانَ شَرِيكَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْبِعْثَةِ، فَجَاءَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ:«مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأبُوْ دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ

(1)

.

* * *

هذا الحديث يتعلق بجانب من سيرته صلى الله عليه وسلم، وهو التجارة، ومن المشهور من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه سافر قبل البعثة إلى الشام مرتين بتجارة لخديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فعرفت منه الأمانة والبركة في تجارته، لذلك رغبت في الزواج منه صلى الله عليه وسلم.

(1)

أحمد (15505)، وأبو داود (4836)، وابن ماجه (2287).

ص: 267

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز الشركة.

2 -

أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم شريك في التجارة، وهو السائب المخزومي.

3 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.

4 -

التنويه بسمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم (67) بب الحفاوة.

5 -

تقديم علاقة الأخوة في الله على ذكر علاقة التجارة.

6 -

استحباب الترحيب بالصاحب، وتذكيره بالعلاقة بينهما.

* * * * *

(993)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «اشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ

» الْحَدِيثَ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وغيره

(1)

.

* * *

هذا الحديث أهم ما استُدل به على جواز الاشتراك في الغنائم، وإن لم يكن الحديث مرفوعًا فوقوعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينه عنه دليل على الجواز، وإن قُدِّر أنه لم يعلم به؛ لأنه لو كان مما ينهى عنه لنزل القرآن بالنهي عنه، كما قال جابر:«كُنَّا نَعْزِلُ وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ» متفق عليه

(2)

. ومع ذلك فالحديث مضعف، فهو من رواية أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود، ولم يدرك أباه.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز الاشتراك فيما يصيبه المجاهد من الغنيمة.

2 -

أن بين الثلاثة رضي الله عنهم صلة خاصة، ولذا اشتركوا.

(1)

النسائي (3937).

(2)

البخاري (4911)، ومسلم (1440).

ص: 268

3 -

جواز أسر المقاتلة من الكفار، ولكن بعد الإثخان، وقد أسر في بدر سبعون من الكفار، وقد عاتب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فقال سبحانه:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67]، وقال سبحانه:{حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4].

وظاهر الحديث اختصاص المذكورين بفداء الأسيرَين، كما جاء ذكر الفداء في أصل الحديث، كما يختص القاتل بسلب المقتول، وهو مشكل؛ إذ لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: من أسر أسيرًا فله فداؤه. وأجاب بعضهم بضعف الحديث، وحمله بعضهم على أن ذلك كان قبل نزول القرآن بقسمة الغنيمة، وأنه كان أول الأمر من أصاب شيئًا فهو له. ولا يبعد -والله أعلم - أنه بعد نزول القرآن بقسمة الغنيمة بطلت هذه الشركة؛ إذ لم يكن لأحد اختصاص بشيء سوى سهمه الذي يستحقه، كغيره.

4 -

جواز شركة الأبدان، وهو الاشتراك فيما يكتسبه كل واحد؛ مثل صناعة أو عمل؛ كالاحتطاب ونحوه. وفي جوازها خلاف، والجمهور على جوازها، والأصل في العقود الإباحة إلا ما دل الدليل على منعه.

5 -

سعة الشريعة بتنويع طرق الكسب.

* * * * *

(994)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: أَرَدْتُ الْخُرُوجَ إِلَى خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«إِذَا أَتَيْتَ وَكِيلِي بِخَيْبَرَ، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا» . رَوَاهُ أبُوْ دَاوُدَ وصَحَّحَهُ

(1)

.

(995)

وَعَنْ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مَعَهُ بِدِينَارٍ يَشْتَرِي لَهُ أُضْحِيَّةً

الْحَدِيثَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ

(2)

.

(1)

أبو داود (3632).

(2)

البخاري (3642) وقد تقدم (918).

ص: 269

(996)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ

» الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(997)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَذْبَحَ الْبَاقِيَ

الْحَدِيثَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(998)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا

» الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في جواز الوكالة في كل ما للإنسان التصرف فيه، مما تدخله النيابة من العبادات والمعاملات.

وفيها فوائد؛ منها:

1 -

جواز التوكيل في قبض المال وفي دفعه، كما في حديث جابر، وجابر وكيل في قبض المال، ووكيل النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وكيلٌ في قبض المال من اليهود، وهو ثمر النخل الذي عاملهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ووكيلٌ في دفعه لجابر أو غيره، ووكيل النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر لعله سواد بن غزية، كما رجحه الحافظ ابن حجر في «الفتح»

(4)

.

2 -

اتخاذ علامة بين الوكيل والموكِّل، كما جاء في أصل حديث جابر، قال صلى الله عليه وسلم:«فَإِنِ ابْتَغَى مِنْكَ آيَةً، فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ» .

3 -

جواز تصرف الإمام في المال العام بما يراه مصلحة.

4 -

أن من هدي الصحابة أحيانًا رضي الله عنهم أن يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا الخروج لسفر.

(1)

البخاري (1468)، ومسلم (983).

(2)

مسلم (1218).

(3)

البخاري (2314)، ومسلم (1697).

(4)

«فتح الباري» (7/ 496).

ص: 270

5 -

جواز التوكيل في شراء الأضحية، وغيرها من باب أولى، كما في حديث عروة، وقد تقدم ذكر فوائده، عند ذكر المؤلف له في كتاب البيوع

(1)

.

6 -

جواز التوكيل في قبض الصدقة من أصحاب الأموال، وفي أصل هذا الحديث أنه لما رجع عمر رضي الله عنه قيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا» ثُمَّ قَالَ: «يَا عُمَرُ، أَمَا شَعَرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟» . وفي هذا الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم فوائد؛ منها:

أ. الرد عن عرض المسلم المتهم بغير حق.

ب. فضل خالد بن الوليد رضي الله عنه.

ج. جواز وقف العروض.

د. فضل وقف عدة الحرب في سبيل الله.

هـ. أن العم بمنزلة الأب.

و. أن العباس لم يمنع زكاته، بل لأنه كان عجلها لسنتين، ورجحه النووي

(2)

، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«هِيَ عَلَيَّ، وَمِثْلُهَا مَعَهَا» .

ز. أن خالد بن الوليد ليس ممن يمنع الزكاة؛ لأنه ممن حبس أعتاده وأدراعه في سبيل الله.

ح. إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على ابن جميل منعه الزكاة.

ط. أن ابن جميل كان فقيرًا فأغناه الله.

ي. أن الغنى بعد الفقر يستوجب الشكر، ومنه أداء الزكاة.

ك. الذم بما يشبه المدح.

(1)

الحديث ذو الرقم (917).

(2)

«شرح صحيح مسلم» (7/ 57).

ص: 271

7 -

جواز التوكيل في نحر الهدي وقسم لحومها وجلودها.

8 -

فضيلة علي رضي الله عنه في توليته ذلك.

9 -

جواز التوكيل في إثبات الحد وإقامته.

10 -

ثبوت حد الزنا بالاعتراف.

11 -

سؤال المتَّهم بما يوجب الحد للتثبت.

12 -

أن ثبوت الزنا من العسيف كان بالاعتراف الذي دل عليه قول أبيه، ولعل الابن كان حاضرًا، فلذا حكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

13 -

أنه لا يقبل قول الإنسان على غيره بغير بينة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل قول الرجل على المرأة حتى أرسل من يسألها.

14 -

إقامة حد الزنى على المرأة.

15 -

أن القذف وتبادل التهم في مكان الحكم لا يوجب حدًّا ولا تعزيرًا.

16 -

أن حد الزاني المحصن الرجم.

17 -

أنه لا يجمع بين الجلد والرجم في حد المحصن؛ لأنه آخر الأمرين.

18 -

أنه لا يشترط في إثبات الزنى تكرار الإقرار؛ للإطلاق في قوله: «فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» .

وما ذكره المؤلف هو طرف من حديث طويل، وفيه قصة، ولفظه كما في صحيح مسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ اللهَ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ -وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ-: نَعَمْ؛ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ وَأْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«قُلْ» ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى

ص: 272

امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ.

وفيه من الفوائد -عدا ما تقدم -:

1 -

جواز الحضور في مجلس الحكم لغير المختصمين.

2 -

أن التحاكم في الخصومات كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.

3 -

أن من الفقه معرفة قدر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: «وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ» ، لأن الأول ناشد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بكتاب الله، مما يدل على قلة فقهه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لن يحكم إلا بكتاب الله.

4 -

جواز المناشدة بالله، ومعنى «أَنْشُدُكَ اللهَ»: أسألك مذكِّرًا لك بالله.

5 -

أن زوج المرأة كان أعرابيًا، وربما كان الآخر كذلك.

6 -

جفاء بعض الأعراب.

7 -

حلم النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن خلقه.

8 -

الحكم بالقرائن، لقول الراوي:«وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» .

9 -

أدب الخصوم مع الحاكم؛ لقول الرجل: «وَأْذَنْ لِي» .

10 -

جواز فتيا المفضول مع وجود الفاضل.

11 -

جواز الحلف على الحكم والفتيا، وهذا كثير من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه على يقين من حكمه وفتواه. صلى الله عليه وسلم.

12 -

جواز الحلف على الأمر المهم وإن لم يستقسم الحالف.

13 -

جواز القسم بهذه الصيغة «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» ، ونحوها.

ص: 273

14 -

الحكمة في القسم بهذه الصيغة، وهي التذكير بأن نفوس العباد بيده سبحانه، يقبضها إذا شاء، ويبقيها إذا شاء.

15 -

خطر الفتوى بغير علم؛ فإنها تؤدي إلى تغيير حكم الله، وأكل المال بالباطل.

16 -

أن الحدود لا يفتدى منها بالمال.

17 -

فائدة الرجوع إلى أهل العلم؛ لقوله: «فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ» .

18 -

أن من أخذ منه مال بغير حق وجب رده عليه.

19 -

وجوب حد الزنى.

20 -

أن حد الزاني البكر جلد مئة وتغريب عام، وهذا في الأحرار، أما الرقيق فحد العبد والأمة خمسون جلدة، محصنا كان أو غير محصن؛ لقوله تعالى:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].

21 -

أن كل ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من حكم الله، ومما دل عليه كتاب الله {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80].

22 -

خطورة الخدم في البيوت من الرجال والنساء.

23 -

التصريح بما يستقبح التكلم به للحاجة.

* * * * *

ص: 274

‌بَابُ الِإقْرَارِ

(999)

عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قُلِ الْحَقَّ، وَلَوْ كَانَ مُرًّا» . صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ

(1)

.

* * *

ذكر المؤلف رحمه الله باب الإقرار بعد باب الشركة والوكالة؛ لأن الشركة والوكالة مظنة للخصومة والاختلاف في الحقوق، مما يجب معه الإقرار بالحق، ويحرم الجحد، والإقرار هو الاعتراف، وضده الجحد والإنكار.

وهذا الحديث طرف من حديث طويل، كما قال الحافظ رحمه الله، وسنده ضعيف، وسياق متنه يشهد لضعف سنده، لكنْ كثير مما تضمنه الحديث له شواهد من القرآن أو السنة الصحيحة، مثل ما أورده المؤلف هنا:«قُلِ الْحَقَّ، وَلَوْ كَانَ مُرًّا» ؛ فهذا القدر رواه الإمام أحمد في سياق مختصر، قال:«أَمَرَنِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ: ومنها: وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا»

(2)

، وله شاهد أيضًا من حديث علي رضي الله عنه، رواه أبو عمرو السماك في «حديثه» ، ولفظه:«صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وأَحَسِنْ إِلَى مَنْ أَسَاء إِلَيْكَ، وقُلِ الحقَّ ولَو عَلَى نَفْسِكَ»

(3)

.

وحديث أبي ذر من جوامع الكلم؛ لأنه يدل على وجوب قول الحق في كل شيء، ومنه الإقرار بما على الإنسان من حق لله أو للناس، من حق لله مما أوجبه على عباده، أو من حقوق الناس من الديون والعقود والشهادات، ويدل لمعنى هذا الحديث قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} الآية [النساء: 135].

(1)

ابن حبان (449).

(2)

أحمد (21415).

(3)

أورده الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1911) وصحح إسناده.

ص: 275

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

وجوب الإقرار بما على الإنسان من حق لغيره من دين ونفقة.

2 -

وجوب الوفاء بما صدر منه لغيره من العقود والفسوخ والشروط.

3 -

وجوب أداء الشهادة، ولو كان في ذلك ما فيه من المشقة أو الضرر في الجملة.

4 -

وجوب الصدع بالحق في بيان أحكام الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

5 -

وجوب الصبر على ما يترتب على قول الحق من المشاق، وهو ما عبر عنه بالمرارة في قوله صلى الله عليه وسلم:«وَلَوْ كَانَ مُرًّا» ، وهو من مجاز الاستعارة الذي علاقته المشابهة.

* * * * *

ص: 276

‌بَابُ العَارِيَةِ

العارية: أصلها من العُرْي، وهو التجرد، سمِّيت بذلك لتجردها عن العوض، ويقال فيها: عاريَة وعاريَّة بالتخفيف والتشديد، وتجمع على عواري، بالتخفيف والتشديد، وفي الاصطلاح: إباحة نفع عين لمن ينتفع بها، ثم يردها. وهذا تفسير بمعنى الإعارة أي فعل المعير، والأظهر في استعمال العارية أنها اسم للعين المعارة، فيقال: قبض العارية، ورد العارية، وضمن العارية.

* * * * *

(1000)

عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، والأربعة، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

(1001)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَاسْتَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في وجوب رد الإنسان ما قبضه من مال غيره؛ كالوديعة والعارية، وتحريم الخيانة، ويدل لمعناهما قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27]. وقوله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

(1)

أحمد (20086)، وأبو داود (3561)، والنسائي في «الكبرى» (5751)، والترمذي (1266)، وابن ماجه (2400)، والحاكم (2302).

(2)

أبو داود (3535)، والترمذي (1264)، والحاكم (2296)، و «العلل» لابن أبي حاتم (1114).

ص: 277

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

استعمال (عَلَى) في الدلالة على الوجوب.

2 -

التجوز بالبعض عن الكل.

3 -

أن الذمة لا تبرأ من الحق إلا بأدائه إلا أن يبرئه صاحب الحق.

4 -

وجوب رد العارية.

5 -

وجوب رد الأمانة.

6 -

وجوب رد المغصوب، وفي معناه المسروق.

7 -

وجوب حفظ الأمانة والعارية.

8 -

تحريم الخيانة.

9 -

تحريم مجازاة الخائن بمثل فعله؛ لقوله: «وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» ، فمن كان له حق على أحد فجحده، أو أمانة فخانه، ثم ظفر بشيء من ماله، فهل يجوز له أن يستوفي حقه؟ -وتسمى مسألة الظَّفَر- فقيل: يجوز مطلقًا، وقيل: لا يجوز إلا أن يكون الحق ثابتًا ببينة، أو كان سببه ظاهرًا، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

وابن القيم

(2)

، والله أعلم.

* * * * *

(1002)

وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَتْكَ رُسُلِي فَأَعْطِهِمْ ثَلَاثِينَ دِرْعًا» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ، أَوْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ؟ قَالَ:«بَلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(3)

.

(1)

ينظر: «مجموع الفتاوى» (30/ 371).

(2)

ينظر: «إغاثة اللهفان» (2/ 77).

(3)

أحمد (17950)، وأبو داود (3566)، والنسائي في «الكبرى» (5744)، وابن حبان (4720).

ص: 278

(1003)

وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَارَ مِنْهُ دُرُوعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: أَغَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

(1004)

وأخرج له شاهدًا ضعيفًا عن ابن عباس

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في مسألة ضمان العارية، وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب؛ أحدها: أن العارية مضمونة مطلقًا، وقيل: غير مضمونة مطلقًا، وقيل: مضمونة إذا شرط فيها الضمان، وهذا أرجح الأقوال، والله أعلم. وذلك فيما إذا تلفت من غير تعد ولا تفريط، أما إذا كان تلفها بتعد أو تفريط فهي مضمونة بكل حال.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

صحة التوكيل في قبض العارية.

2 -

جواز إعارة الدروع ونحوها من آلة الحرب.

3 -

جواز استعارة عدة الحرب من الكافر إذا أُمن غشه.

4 -

استفصال المعير عن ضمان العارية.

5 -

وجوب أداء العارية إذا كانت عينها موجودة.

6 -

أن العارية تبرع من المعير لا غصب.

7 -

يؤخذ من مجموع الحديثين أن العارية غير مضمونة إذا تلفت من غير تعد ولا تفريط إلا بشرط الضمان، فنَفَى الضمان في حديث يعلى، وشَرَط الضمان في حديث صفوان.

* * * * *

(1)

أبو داود (3562)، والنسائي (5747)، والحاكم (2300).

(2)

الحاكم (2301).

ص: 279

‌بَابُ الغَصْبِ

الغصب: لغة: القهر على الشيء، واصطلاحًا: الاستيلاء على حق الغير قهرًا بغير حق، وفي حكمه: السرقة والخيانة والخديعة، وكل ذلك من الظلم الداخل في قوله تعالى:{لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»

(1)

.

* * * * *

(1005)

عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1006)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ لَهَا بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ، فَضَمَّهَا وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ، وَقَالَ:«كُلُوا» وَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ لِلرَّسُولِ، وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَسَمَّى الضَّارِبَةَ عَائِشَةَ، وَزَادَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ» . وصَحَّحَهُ

(3)

.

(1007)

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزَّرْعِ شَيْءٌ، وَلَهُ نَفَقَتُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَيُقَالُ إِنَّ الْبُخَارِيَّ ضَعَّفَهُ

(4)

.

(1)

رواه البخاري (67)، ومسلم (1679). وسيأتي برقم (1010).

(2)

البخاري (2452)، ومسلم (1610).

(3)

البخاري (2481)، والترمذي (1359).

(4)

أحمد (17269)، وأبو داود (3403)، والترمذي (1366)، وابن ماجه (2466).

ص: 280

(1008)

وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ إِنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضٍ، غَرَسَ أَحَدُهُمَا فِيهَا نَخْلًا، وَالْأَرْضُ لِلْآخَرِ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَرْضِ لِصَاحِبِهَا، وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ. وَقَالَ:«لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ

(1)

.

(1009)

وَآخِرُهُ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ

(2)

. وَاخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ، وَفِي تَعْيِين صَحَابِيِّهِ

(3)

.

(1010)

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ؛ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى: «إن دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

* * *

هذه الأحاديث أصل في تحريم الظلم في الأنفس والأموال والأعراض، ووجوب ضمان ما أتلف منها، ورد ما يمكن رده.

وفيها فوائد:

ففي حديث سعيد:

1 -

تحريم اقتطاع الأرض بغير حق قهرًا أو بحيلة من دعوى كاذبة، أو تغيير حدود، أو نحو ذلك.

2 -

أن ذلك من كبائر الذنوب.

(1)

أبو داود (3074).

(2)

أبو داود (3073)، والنسائي في «الكبرى» (3073)، والترمذي (1378).

(3)

فقيل: عائشة رضي الله عنها؛ كما عند أبي داود الطيالسي (3/ 55، 56)، وقيل: جابر رضي الله عنه؛ كما عند الترمذي (1379)، وقيل: عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ كما عند الطبراني في «الأوسط» (605). ورجح الحافظ أن الصحابي هو سعيد بن زيد رضي الله عنه.

(4)

البخاري (67)، ومسلم (1679).

ص: 281

3 -

أن الغصب يحصل بالاستيلاء على الأرض قهرًا. خلافًا لمن أنكر ذلك من الحنفية.

4 -

أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن إزالة مِلك الغاصب بجنس معصيته.

5 -

أن الأرضين سبع.

6 -

أن الأرضين السبع متلاصقة، ليس بينها فراغ، خلافًا لما ورد في بعض الأخبار الإسرائيلية وغيرها.

7 -

أن من ملك أرضًا ملك ما تحتها، وكذلك الهواء تابع للقرار.

8 -

التحذير من ظلم العباد في أموالهم وإن قل.

9 -

سبب رواية سعيد بن زيد للحديث، وهو أن أروى بنت أويس ادَّعت على سعيد أنه أخذ شيئًا من أرضها، فقال:«أَنَا آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟» ، وذكر الحديث، ثم دعا عليها فأجاب الله دعوته، فهلكت في أرضها

(1)

.

10 -

إجابة دعوة المظلوم.

11 -

أن أحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا.

وفي حديث أنس رضي الله عنه:

1 -

حلم النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه مع أهله.

2 -

جواز اتخاذ الخادم.

3 -

جواز إهداء الطعام.

4 -

حل الهدية للرسول صلى الله عليه وسلم ولآله.

5 -

الغيرة بين نساء النبي رضي الله عنهن.

(1)

رواه مسلم (1610).

ص: 282

6 -

أن مما يهيج الغيرة أن تهدي المرأة لزوجها وهو في بيت ضرتها.

7 -

أن المرأة لا تلام على ما يحصل منها على وجه الغيرة.

8 -

أن من أتلف شيئًا لغيره ضمنه بمثله، لقوله:«فَضَمَّ المَكْسُورَةَ وَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ لِلرَّسُولِ» ؛ أي المرسَل بالطعام.

9 -

إنكار المنكر بالفعل؛ لقوله: «فَضَمَّهَا» -أي القَصْعة المكسورة - وجعل فيها الطعام، وقال:«كُلُوا» ، «وَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ لِلرَّسُولِ» .

10 -

شدة محبة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، كما يظهر من غيرتها عليه.

وفي حديث رافع بن خديج:

1 -

تحريم زرع الإنسان عمدًا في أرض غيره بغير إذنه.

2 -

أن الزرع يكون ملكًا لصاحب الأرض، وللزارع عوض نفقته، ما لم يكن في ذلك ضرر على صاحب الأرض، وإلى ظاهر هذا الحديث ذهب الجمهور، سواء كان رد الأرض قبل الحصاد أو بعده، وقيل: إن كان بعد الحصاد فليس لصاحب الأرض إلا أجرة الأرض، وقيل: يخير صاحب الأرض بين قلع الزرع، وعلى صاحب الزرع ضمان نقص الأرض؛ للحديث الآتي:«لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» .

3 -

أنه لا فرق بين المسلم والكافر في تحريم ظلمه واحترام حقه؛ لعموم حقه.

وفي حديث عروة رضي الله عنه:

1 -

تحريم غرس الإنسان في أرض غيره بغير إذنه.

2 -

أنه يجب على صاحب الغرس أو النخل أن يخرج نخله إذا طلب صاحب الأرض ذلك، وعليه قيمة نقص الأرض.

ص: 283

3 -

أن الكلمة لصاحب الأرض، فإن شاء طلب إخراج النخل، وإن شاء أبقاه، وعاوض صاحبه.

4 -

أنه لا ينظر لمصلحة صاحب النخل أو تضرره؛ لأنه ظالم.

5 -

الفرق بين الغرس والبناء وبين الزرع؛ فالغرس والبناء يجب على الظالم قلعه وإخراجه وإصلاح الأرض، وأما الزرع فكما تقدم في حديث رافع: أن الزرع يكون ملكًا لصاحب الأرض، ولصاحب الزرع نفقته، وسرُّ الفرق أن الغرس والبناء تطول مدته، بخلاف الزرع، وبذا يحصل الجمع بين الحديثين.

6 -

أن الخصومة في الحقوق من الأمور البشرية التي تقع بين الناس، ولا توجب طعنا في العدالة.

7 -

أن العرق غير الظالم تجب مراعاته بإزالة الضرر عن صاحبه.

8 -

أن زوال الضرر عن صاحب الأرض مقدم، كما يزال ضرر الداخل على الأرض بضرر صاحب الأرض.

وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه:

1 -

تعدد خطبه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وتقريره لقواعد الدين، اغتنامًا لاجتماع الناس، ولقوله:«لعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا»

(1)

.

2 -

مشروعية خطبة الإمام يوم النحر بمنى.

3 -

عظم حرمة المسلم عند الله؛ دمه وماله وعرضه.

4 -

تحريم دم المسلم، فلا يحل إلا بسبب شرعي؛ كالزنى بعد الإحصان.

(1)

رواه البيهقي (5/ 246)، والطبراني في «الكبير» (24/ 307) و «الأوسط» (2430)؛ عن سراء بنت نبهان رضي الله عنها، والنسائي في «الكبرى» (4002)؛ عن جابر رضي الله عنه.

ص: 284

5 -

تحريم مال المسلم، فلا يحل أكل شيء منه بالباطل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29]. وهذا هو الشاهد من الحديث في الباب.

6 -

تحريم عرض المسلم، فلا يحل انتهاكه إلا بسبب شرعي.

7 -

عظم حرمة شهر ذي الحجة؛ لأنه من الأشهر الحرم.

8 -

عظم حرمة يوم النحر.

9 -

عظم حرمة مكة.

10 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك تعظيمه للأمر بإلقاء الأسئلة التي تستجمع أذهان المخاطبين.

* * * * *

ص: 285

‌بَابُ الشُّفْعَةِ

الشفعة: في اللغة مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر؛ لأن الآخذ بالشفعة يضم الشقص الذي لشريكه إلى ملكه، فيصير معه شفعًا.

واصطلاحًا: هو استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه من يد مشتريه بثمنه الذي اشتراه به.

والحكمة منها رفع ضرر الشركة عن الشريك بضم نصيب شريكه إلى ملكه ليستقل به.

* * * * *

(1011)

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

.

(1012)

وَفِي رِوَايَةِ مسلم: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ: فِي أَرْضٍ، أَوْ رَبْعٍ، أَوْ حَائِطٍ، لَا يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَى شَرِيكِهِ»

(2)

.

(1013)

وَفِي رِوَايَةٍ الطحاوي: «قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ» . وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(3)

.

(1014)

وَعَنْ أَبِي رَافِع رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَفِيهِ قِصَّةٌ

(4)

.

(1)

البخاري (2214)، ومسلم (1608)(134).

(2)

مسلم (1608)(135).

(3)

«شرح معاني الآثار» (6015).

(4)

البخاري (6977)، والقصة عن عمرو بن الشريد قال: جاء المسور بن مخرمة فوضع يده على منكبي فانطلقت معه إلى سعد فقال أبو رافع للمسور: ألا ترى هذا أن يشتري مني بيتي الذي في داري؟ فقال: لا أزيده على أربعمئة إما مقطعة وإما منجمة. قال: أعطيت خمسمئة نقدًا فمنعته، ولولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» ما بعتكه، أو قال: ما أعطيتكه.

ص: 286

(1015)

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان، وَلَهُ عِلَّةٌ

(1)

.

(1016)

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ جَارِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا -وَإِنْ كَانَ غَائِبًا- إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ والأرْبَعَةُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(2)

.

(1017)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ والبَزَّارُ، وزَادَ:«وَلَا شُفْعَةَ لِغَائِبٍ» . وإسْنَادَهُ ضَعِيْفٌ

(3)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في حكم الشفعة.

وفيها فوائد:

ففي حديث جابر رضي الله عنه:

1 -

ثبوت حق الشفعة للشريك فيما لم يقسم من العقار، من أرض أو دار.

2 -

انتفاء حق الشفعة إذا وقعت القسمة بين الشريكين، ولم يبق بينهما اشتراك في طريق ولا غيره.

3 -

أن ذلك كله ثابت بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم.

4 -

أنه لا شفعة للجار إذا لم يكن بينهما طريق مشترك ونحوه.

5 -

أنه يجب على الشريك إذا أراد البيع أن يعلم شريكه، فإما أن يأخذ أو يدع، ثم قيل: يسقط حقه بالشفعة بعد البيع، وقيل: لا يسقط، وقيل: إن صرح بإسقاط الشفعة سقطت، وإلا فلا. والأظهر أنها تسقط الشفعة؛ وإلا لم يكن لإعلامه فائدة.

(1)

النسائي في «الكبرى» (11713)، ابن حبان (5182).

(2)

أحمد (925)، وأبو داود (3518)، والنسائي في «الكبرى» (6264)، والترمذي (1369)، وابن ماجه (2494).

(3)

ابن ماجه (2500)، والبزار (5405).

ص: 287

6 -

أن للشريك حقًا على شريكه، يراعيه في تصرفه بنصيبه.

7 -

ثبوت الشفعة في كل ما لم يقسم من عقار ومنقول، مما تمكن قسمته وما لا تمكن؛ لقوله:«قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ» ، واختلف العلماء في ثبوت الشفعة في كل ما لا تمكن قسمته -كعقار صغير - وفي المنقول؛ فذهب الأكثر إلى أنه لا شفعة في هذا، وقيل: بل تثبت فيما لا تمكن قسمته وفي المنقول، بل هو أولى؛ لأن الضرر بالشركة فيه أعظم، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

وابن القيم رحمهما الله

(2)

.

8 -

أن الشفعة لا تكون إلا في البيع، وقيل بل تكون في البيع والهبة وغيرها مما فيه نقل للملك، نقلًا اختياريًا، وهو الصحيح.

9 -

أن من حكمة الشفعة دفع ضرر الشركة عن الشريك، وقطع أسباب النزاع والخصومات، وهذا من محاسن الشريعة.

وفي حديث أبي رافع وجابر وأنس رضي الله عنهم:

1 -

مراعاة حق الجار عند بيع داره.

2 -

ثبوت الشفعة للجار إذا كان طريقهما واحدا، واختلف العلماء في شفعة الجار؛ فقيل: تثبت للجار الملاصق مطلقًا؛ لحديث أبي رافع، وقيل: لا تثبت إلا إذا كان بين الجارين اشتراك في مرفق كطريق ونحوه؛ لقوله: «إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» ، فحديث جابر مقيِّد لحديث أبي رافع.

3 -

ثبوت حق الشفعة للجار الغائب.

4 -

أن حقه لا يسقط إلا بعد علمه ورضاه.

5 -

وجوب انتظار الجار الغائب، ويثبت ملك المشتري على المبيع، وله حق التصرف فيه، ما لم يعلم مطالبة الشفيع لأخذ الشقص.

(1)

«مجموع الفتاوى» (30/ 381).

(2)

«إعلام الموقعين» (2/ 94).

ص: 288

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:

1 -

أن الشفعة على الفور، متى علم الشريك بيع الشقص؛ لقوله:«كَحَلِّ الْعِقَالِ» ، فإنه في العادة يكون سريعًا، والعقال هو الحبل الذي تعقل به الناقة.

2 -

أنه لا شفعة لغائب، ولكن حديث ابن عمر هذا ضعيف، ومعارض لحديث جابر الذي قبله.

* * * * *

ص: 289

‌بَابُ القِرَاضِ

القِراض: مصدر قارض يقارض مقارضة وقِراضًا، وهو من القرض بمعنى القطع، والقراض في الاصطلاح دفع مال لمن يعمل فيه بجزء معلوم مشاع من الربح، وهو ما يسمى بالمضاربة، وهو نوع من الشركة، وسميت قراضًا لأن كلًّا من المضارب وصاحب المال يقتطع جزءًا من الربح، وقد أجمع العلماء على جواز المضاربة.

* * * * *

(1018)

عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ثَلَاثٌ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ: الْبَيْعُ إِلَى أَجَلٍ، وَالْمُقَارَضَةُ، وَخَلْطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ لَا لِلْبَيْعِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ

(1)

.

(1019)

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه؛ أنهُ كَانَ يَشْتَرِطُ عَلَى الرَّجُلِ إِذَا أَعْطَاهُ مَالًا مُقَارَضَةً: أَنْ لَا تَجْعَلَ مَالِي فِي كَبِدٍ رَطْبَةٍ، وَلَا تَحْمِلَهُ فِي بَحْرٍ، وَلَا تَنْزِلَ بِهِ فِي بَطْنِ مَسِيلٍ، فَإِنْ فَعَلْتَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدَ ضَمِنْتَ مَالِي. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(2)

.

(1020)

وقالَ مَالكٌ في «المُوطَّأ» عَنِ العَلَاءِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ؛ أَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالٍ لِعُثْمَانَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا. وَهُوَ مَوْقُوفٌ صَحِيحٌ

(3)

.

* * *

(1)

ابن ماجه (2289).

(2)

الدارقطني (3033).

(3)

مالك في «الموطأ» (2008).

ص: 290

هذه الأحاديث أصل في جواز المضاربة، ويدل لجوازها قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ولأن الأصل في العقود الحل.

وفي هذه الأحاديث فوائد:

ففي حديث صهيب رضي الله عنه:

1 -

الترغيب في القراض، وهذا يستلزم الحل، وإن كان الحديث ضعيفًا فإنه يقويه ما بعده.

2 -

الترغيب في التوسعة على المشتري بإمهاله، وذلك من الإحسان الذي يجلب البركة للتجارة.

3 -

استحباب خلط البر بالشعير للبيت لا للبيع؛ لأن ذلك سبب لأن يبارك الله فيه، أما خلط البر بالشعير للبيع فغش إذا كان يخفى على المشتري.

4 -

استحباب طلب البركة بأسبابها.

وفي حديث حكيم رضي الله عنه والعلاء من الفوائد:

1 -

جواز المضاربة وجواز الشرط فيها.

2 -

جواز اشتراط صاحب المال على المضارب ما به حفظ المال، وتجنب أسباب تلفه.

3 -

أنه إذا تلف المال في المضاربة بتفريط العامل ضمنه.

4 -

أن من العدوان والتفريط الإخلالَ بشروط صاحب المال.

5 -

أن المضارب أمين؛ لا يضمن إلا أن يتعدى أو يفرط.

6 -

أن البينية المطلقة تقتضي المساواة؛ كما إذا قال للمضارب: الربح بيننا، فلكل واحد نصف الربح، وإذا قُصد إلى المفاضلة فلا بد من البيان؛ كأن يقول: الثلث للعامل، والباقي لصاحب المال، أو بالعكس.

ص: 291

7 -

أن حكيم بن حزام رضي الله عنه صاحب مال في الجاهلية والإسلام.

8 -

أن عثمان رضي الله عنه ذو مال، وهو الذي جهز جيش العسرة بثلاثمئة بعير بأقتابها وأحلاسها.

* * * * *

ص: 292

‌بَابُ المُسَاقَاةِ وَالإِجَارَةِ

المساقاة: في اللغة من سقي الماء، فيقال: سقاه وأسقاه، كما قال تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)} [الإنسان: 21]، وقال:{وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا (27)} [المرسلات: 27].

والمساقاة في الاصطلاح: عقدٌ من عقود المشاركة، وهو دفع الشجر لمن يعمل عليه بجزء مشاع معلوم من الثمرة، وقد قال بعض الفقهاء: إنها عقد على خلاف القياس، لاعتقادهم أنها إجارة، والأجرة فيها غير معلومة، والصواب أنها عقد مشاركة؛ كالمضاربة.

والإجارة: مأخوذة من الأجْر، وهو الثواب على العمل، يقال له: أجرة، وهي عقد على منفعة عين تستوفى منها مع بقاء العين، ولعل المؤلف جمع بينهما لما قيل إن المساقاة عقد إجارة، وعقد الإجارة لازم باتفاق العلماء، وأما المساقاة فقيل: إنها عقد جائز، والصواب أنها عقد لازم.

* * * * *

(1021)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ، أَوْ زَرْعٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1022)

وَفِي رِوَايَةٍ لهما: فَسَأَلُوا أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» ، فَقَرُّوا بِهَا، حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ

(2)

.

(1)

البخاري (2329)، ومسلم (1551).

(2)

البخاري (2338)، ومسلم (1551).

ص: 293

(1023)

وَلِمُسْلِمٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلَهُ شَطْرُ ثَمَرِهَا

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في جواز المساقاة والمزارعة، والمزارعة دفع الأرض لمن يزرعها بجزء مشاع معلوم من غلتها.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

جواز المساقاة.

2 -

جواز المزارعة.

3 -

جواز المساقاة بالنصف.

4 -

جواز أن يكون العقد جائزا من طرف، ولازما من طرف.

5 -

أنه لا يشترط أن يكون البذر من رب الأرض.

6 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأسر يهود خيبر، ولم يضرب عليهم الجزية؛ لأنها لم تشرع في ذلك الوقت.

7 -

أن هؤلاء اليهود هم ممن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم من خيبر، ولكنهم طَلبوا أن يعملوا في خيبر في نخيلها وأراضيها، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولكنه جعله جائزا من طرف المسلمين، فقال:«نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا» .

8 -

أن هؤلاء اليهود بقوا حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه.

9 -

جواز معاملة الكفار بالمؤاجرة والمساقاة ونحوهما.

10 -

جواز ائتمان الكافر إلا في الولايات.

11 -

أنه إذا سمي سهم لأحد المتعاملين فالباقي للآخر.

(1)

مسلم (1551).

ص: 294

12 -

جواز المشاركة القائمة على العدل.

13 -

تنفيذ عمر رضي الله عنه لوصية النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قوله:«أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» .

وقد اختلف العلماء في حكم المساقاة والمزارعة على مذاهب؛ أحدها: جواز المساقاة والمزارعة، كما دل على ذلك هذا الحديث، وشرط بعضهم في المزارعة أن يكون البذر من رب الأرض. الثاني: لا تجوز المزارعة ولا المساقاة، بل تجب إجارتها بمال معلوم. الثالث: تجوز المساقاة دون المزارعة، وعلة المنع أن المساقاة والمزارعة عندهم عقد إجارة، ومن شرط الإجارة العلم بالأجرة، وغلة الشجر والأرض غير معلومة، فلذلك أجازوا تأجير الأرض والشجر بثمن معلوم.

* * * * *

(1024)

وَعَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ، وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلَّا هَذَا، فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

وَفِيهِ بَيَانٌ لِمَا أُجمِلَ فِي المُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ إِطْلَاقِ النَّهْيِ عَنِ كِرَاءِ الأَرْضِ.

(1025)

وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ المُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ أيضًا

(2)

.

* * *

(1)

مسلم (1547).

(2)

مسلم (1549).

ص: 295

هذان الحديثان أصل في جواز تأجير الأرض للزرع بالذهب والفضة أو غيرهما من الأثمان.

وفيهما فوائد، منها:

1 -

جواز تأجير الأرض بمال معلوم.

2 -

النهي عن تأجير الأرض بما يخرج في بعض نواحيها؛ لما فيه من الغرر.

3 -

تحريم الغرر في كل العقود؛ كالمساقاة والمزارعة والإجارة، ونحوها.

4 -

النهي عن المزارعة، كما في حديث ثابت، ويجب حمل ذلك على ما جاء في حديث رافع، وهي المزارعة المفضية إلى الغرر، وبهذا يحصل الجمع بين حديث ثابت وحديث ابن عمر المتقدم.

5 -

تفسير ما جاء في «الصَّحِيحَيْنِ» من إطلاق النهي عن كراء الأرض، كما نبه عليه المؤلف رحمه الله.

* * * * *

(1026)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ قَالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الَّذِي حَجَمَهُ أَجْرَهُ وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(1027)

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1028)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ عز وجل: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(1)

البخاري (2103).

(2)

مسلم (1568).

(3)

لم يروه مسلم بل البخاري (2227).

ص: 296

(1029)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

(1030)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ

(2)

.

(1031)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا، فَلْيُسَمِّ لَهُ أُجْرَتَهُ» . رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَوَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَنِيفَةَ

(3)

.

* * *

كل هذه الأحاديث تتعلق بعقد الإجارة، وهو عقد على منفعة معلومة يمكن استيفاؤها من العين المؤجرة، وكل ما في هذه الأحاديث هو من استئجار الآدمي.

وفي هذه الأحاديث فوائد، منها:

1 -

جواز عقد الإجارة.

2 -

جواز استئجار الآدمي، فإن كان حرًّا فله أن يؤاجر نفسه، وإن كان عبدًا فبإذن سيده.

ومنها في حديث ابن عباس:

1 -

جواز الحجامة، وأنها من الطب النبوي.

2 -

جواز العمل في الحجامة.

3 -

أن أخذ الأجرة على الحجامة جائز، كما قال ابن عباس:«وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ» .

4 -

أن من لا يحسن غير الحجامة ونحوها لا يُنهَى عنها.

5 -

أنه لا يجوز بذل الأجر على العمل المحرم.

(1)

البخاري (5737).

(2)

ابن ماجه (2443).

(3)

«المصنف» (15024)، والبيهقي في «الكبرى» (11651).

ص: 297

وفي حديث رافع رضي الله عنه:

1 -

أن كسب الحجام خبيث.

2 -

كراهة حرفة الحجامة.

3 -

أن الخبث في كسب الحجام ليس خبث التحريم، بدليل حديث ابن عباس المتقدم.

4 -

تفاضل أسباب الكسب.

5 -

التنفير عن الحرف الرديئة.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

أن من السنة ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، وهو الحديث القدسي.

2 -

تحريم الغدر في العهد.

3 -

غلظ العهد المؤكد بالله؛ لقوله: «رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ» .

4 -

تحريم بيع الحر، ولو أذن.

5 -

أن ثمن الحر حرام.

6 -

تحريم ظلم الأجير بجحد أجرته أو منعه منها.

7 -

أن كل هذه الخصال من كبائر الذنوب؛ للوعيد بخصومة الله لهم.

8 -

نصرة الله للمظلوم.

9 -

أن الله خصم لهؤلاء الثلاثة، ومن كان الله خصمه فهو مخصوم.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما:

1 -

جواز أخذ الأجر على القرآن، والمراد بالأجر الأجرة، وهذا الحديث مجمل يحتمل: التلاوة والتعليم والرقية، فأما الرقية فهي سبب الحديث، وهو أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِمَاءٍ، فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ، فَعَرَضَ لَهُمْ

ص: 298

رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ المَاءِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ، إِنَّ فِي المَاءِ رَجُلًا لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ عَلَى شَاءٍ، فَبَرَأَ، فَجَاءَ بِالشَّاءِ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْرًا، حَتَّى قَدِمُوا المَدِينَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللهِ أَجْرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ»

(1)

. وجاء معناه في «الصَّحِيحَيْنِ» عن أبي سعيد

(2)

.

وهذان الحديثان من حجة من قال بأخذ الأجرة على تعليم القرآن، ويعضده حديث الواهبة، التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم صداقها أن يعلمها ذلك الرجل ما معه من القرآن، ويدخل في التعليم: تعليم حروف القرآن ومعانيه. وأما تلاوة القرآن فتخرج من عموم هذا الحديث؛ فلا يجوز أخذ الأجرة عليها؛ لأنها عبادة محضة كالصلاة والصيام.

2 -

فضل الصحابة، وذلك من وجوه:

1 -

أنهم لم يمتنعوا من فعل المعروف بالرقية مجانًا إلا لأن القوم منعوهم حق الضيافة، كما جاء في حديث أبي سعيد.

2 -

أن المستقر عند الصحابة أن القرآن لا يؤخذ عليه أجر، لذلك توقفوا عن التصرف في الشاء.

3 -

رجوعهم في هذا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

4 -

معرفتهم لفضل الفاتحة.

3 -

أن الفاتحة أفضل ما يرقى به من القرآن؛ لأنها أفضل سورة، ولهذا سماها الرسول صلى الله عليه وسلم رقية.

4 -

استحباب اشتراك الرفاق في اقتسام ما يكتسبه أحدهم.

(1)

البخاري (5737).

(2)

البخاري (5749)، ومسلم (2201).

ص: 299

5 -

أن ما يستحله النبي صلى الله عليه وسلم في خاصته هو أكمل ما يكون في الحل؛ لقوله كما في حديث أبي سعيد: «اضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ» .

وفي حديثي ابن عمر وأبي سعيد رضي الله عنهم:

1 -

وجوب إعطاء الأجير أجره، واستحباب المبادرة إلى إعطاء الأجير أجره، وتحريم المطل.

2 -

مشروعية تسمية الأجرة للأجير باللفظ، ويقوم مقامها العرف.

* * * * *

ص: 300

‌بَابُ إِحْيَاءِ المَواتِ

المَوات: في اللغة هو الميت، وضدهما الحي، والحياة ضدها الموت، والأرض توصف بالموت والحياة، كما قال تعالى:{يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50]، وقال تعالى:{وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33].

والموات في الاصطلاح: هي الأرض التي ليس لأحد فيها ملك ولا اختصاص، والموات من الأرض يملك بالإحياء، وسيأتي ما يحصل به إحياء الأرض.

* * * * *

(1032)

عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ عَمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» . قَالَ عُرْوَةُ: «وَقَضَى بِهِ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(1033)

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» . رواه الثَّلاثةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ

(2)

. وَقَالَ: رُوِيَ مُرْسَلًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَاخْتُلِفَ فِي صَحَابِيِّهِ، فَقِيلَ: جَابِرٌ، وَقِيلَ: عَائِشةُ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، وَالرَّاجِحُ الأَوَّلُ

(3)

.

* * *

هذان الحديثان هما الأصل في ثبوت ملك الأرض الميتة بالإحياء.

(1)

البخاري (2335).

(2)

أبو داود (3073)، والترمذي (1378)، النسائي في «الكبرى» (5729).

(3)

مراد الحافظ: سعيد بن زيد رضي الله عنه، وتقدم الكلام على تعيين الصحابي عند الحديث (1010).

ص: 301

وفيهما فوائد؛ منها:

1 -

أن من طرق ملك الأرض إحياء الأرض الميتة.

2 -

أن الأرض الميتة من جنس المباحات التي تملك بأخذها؛ كالكلأ والصيد والحطب.

3 -

أن الأرض الميتة لا تملك بمجرد وضع اليد عليها دون عمل يعمله فيها.

4 -

أن إحياء الأرض يكون بعمارتها؛ كبناء أو زرع أو حفر بئر واستخراج الماء.

5 -

أن الأرض التي ثبت ملك أحد عليها لا تملك بالإحياء.

6 -

استعمال أفعل التفضيل على غير بابها، وهو قوله:«فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» ، لأن الواقع أنه لا حق لأحد فيها إلا من أحياها.

7 -

أن الحكم في الحديثين تشريع عام لا يتوقف على إذن الإمام، وليس حكمًا تنظيميًا يرجع إلى صفة الإمامة؛ لأن الأصل في كلامه صلى الله عليه وسلم هو التشريع العام إلا أن يقوم على خلاف ذلك دليل، وقد قيل: إنه حكم تنظيميٌّ، والصواب الأول.

* * * * *

(1034)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ رضي الله عنه أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في تحريم حِمَى المنافع المشتركة العامة، كالذي يفعله بعض الملوك ورؤساء القبائل، والحِمَى مصدر حَمَى يحمي، ويطلق على المحمِيِّ من التسمية بالمصدر.

(1)

البخاري (2370).

ص: 302

في الحديث فوائد، منها:

1 -

تحريم حِمَى المرافق العامة والمنافع المشتركة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى»

(1)

فهو من باب الإخبار بالواقع، وليس إذنًا.

2 -

جواز الحِمَى لمصلحة المسلمين، كحِمَى بعض المراعي لإبل الصدقة مثلًا، أو ما يكون مرافق للناس كالموارد، وكمواقف السيارات؛ لقوله:«لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ» . وولي الأمر في ذلك قائم مقام الرسول صلى الله عليه وسلم.

3 -

أن ما حُمي لمصالح المسلمين لا يملك بالإحياء، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للباب.

* * * * *

(1035)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ

(2)

.

(1036)

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ، وَهُوَ فِي الْمُوَطَّإِ مُرْسَلٌ

(3)

.

* * *

الحديثُ أصلٌ في تحريمِ مُضَارَّةِ المسلم، ومعصومِ الدمِ والمال.

وفيه فوائد، منها:

1 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم وشواهد هذا كثيرة، وهو من خصائصه صلى الله عليه وسلم.

2 -

أن من بلاغة الكلام الإيجاز.

3 -

ورود النفي بمعنى النهي.

4 -

تحريم الضرار بالقول أو الفعل أو بالترك.

(1)

رواه البخاري (52)، ومسلم (1599)؛ عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

(2)

أحمد (2865)، وابن ماجه (2341).

(3)

مالك في «الموطأ» (2758/ 600).

ص: 303

5 -

تحريم الضرر والضرار بالعدوان على الغير؛ بالنفس أو المال أو العرض، مباشرةً أو تسببًا، ومن ذلك: تصرُّفُ الجار في ملكه بما يضر جاره، وكذلك التصرف في الطرق العامة ونحوها بما يضر الناس، من حفر وغيره.

6 -

تحريم الضرار بمنع الحقوق أو التسبب في ذلك، ومن هذا: مطل الغني غريمه، ومضارة الموصي لورثته، ومن ذلك مضارة أحد الوالدين للآخر بولدهما، ومضارة الشاهد والكاتب للمتداينَيْن، ومضارة المتداينَيْن للشاهد والكاتب.

7 -

وجوب إزالة الضرر بغير حق.

8 -

تحريم ما يضر به الإنسان نفسه أو ماله أو عرضه من تصرف بفعل أو ترك أو مطعوم أو مشروب أو غير ذلك.

9 -

الفرق بين الضرر والضرار، وهذا أليق ببيانه صلى الله عليه وسلم، وأكثر فائدة، وأحسن ما قيل في الفرق: أن الضرر: إلحاق ما يَضُرُّ بالغير مطلقًا، والضِّرَارُ: ما كان مجازاة، لكن بغير حق، فيكون الضرر أعم، فعطف الضرار عليه من عطف الخاص على العام.

10 -

أن دين الإسلام دين السلامة، ويشهد له قوله:«المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»

(1)

.

11 -

أن ثبوت الملك بإحياء الأرض يشترط فيه ألا يؤدي إلى الإضرار بأحد، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للباب.

* * * * *

(1037)

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ، وصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ

(2)

.

(1)

رواه البخاري (6484)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ومسلم (41)؛ عن جابر رضي الله عنه.

(2)

أبو داود (3077)، وابن الجارود في «المنتقى» (1015).

ص: 304

(1038)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ

(1)

.

* * *

هذان الحديثان قد اشتملا على ذكر بعض ما يكون به إحياء الأرض الموات، وإحياءُ الأرض يتحقق بما تصير به حية عرفًا من بناء أو زرع أو غرس أو حفر بئر لاستخراج الماء.

وفي الحديثين فوائد، منها:

1 -

أن من إحياء الأرض إحاطتها بحائط، أي جدار يمنع من دخولها.

2 -

أن من أحاط حائطًا على أرض ميتة ملكها.

3 -

أن من حفر بئرًا لسقي ماشيته ملَك مما حولها أربعين ذراعًا من كل جانب، فيملك ثمانين ذراعًا في ثمانين، أي ستة آلاف وأربعمئة ذراع، وقال بعض الفقهاء: إن كانت البئر بَدِيَّةً، أي: حديثة، فحريمها خمسة وعشرون ذراعًا من كل جانب، وإن كانت عاديَّة، أي: قديمة، فحريمها خمسون ذراعًا من كل جانب.

* * * * *

(1039)

وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ. رواه أبُوْ دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(2)

.

(1040)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ حُضْرَ فَرَسِهِ، فَأَجْرَى الْفَرَسَ حَتَّى قَامَ، ثُمَّ رَمَى سَوْطَهُ. فَقَالَ:«أَعْطُوهُ حَيْثُ بَلَغَ السَّوْطُ» . رَوَاهُ أبُوْ دَاوُدَ وفِيْهِ ضَعْفٌ

(3)

.

* * *

(1)

ابن ماجه (2486).

(2)

أبو داود (3058) و (3059)، والترمذي (1381)، وابن حبان (7205).

(3)

أبو داود (3072). رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (11821).

ص: 305

هذان الحديثان هما أصل في جواز إقطاع الإمام لبعض الناس شيئًا من الأرض الموات للمصلحة، وأكثر العلماء على أن الإقطاع لا يفيد الملك، وإنما يفيد الاختصاص، فإن أحيا المُقطَع ما أُقطِع مَلَكه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ»

(1)

، وجاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه إذا مضى على الإقطاع ثلاث سنين دون إحياء لم يكن به أولى من غيره

(2)

. وقال بعض العلماء: إن الإقطاع يفيد الملك، وهذا هو الذي عليه العمل في إقطاع المساكن، بخلاف الإقطاع للمشاريع الصناعية.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

جواز إقطاع الموات.

2 -

أن الإقطاع مختص بالإمام أو نائبه.

3 -

وجوب مراعاة المصلحة العامة في الإقطاع، وإلا كان أَثَرةً.

4 -

أن المقصود من الإقطاع إحياء الأرض، وبه يثبت الملك.

5 -

أن حضرموت كانت في حكم النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته.

6 -

تقدير مساحة الإقطاع بما تعرف به تحديدًا أو تقريبًا؛ لقوله في الحديث: «أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ حُضْرَ فَرَسِهِ، فَأَجْرَى الْفَرَسَ حَتَّى قَامَ» ، وحُضْرُ فرسه شوطه في العدو حتى يقف، ومعنى قام: أي وقف.

7 -

جواز الزيادة على أصل الإقطاع من قبل الإمام لرغبة المُقْطَع.

* * * * *

(1041)

وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَأِ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(3)

.

(1)

تقدم تخريجه (1033).

(2)

رواه البيهقي في «السنن الكبرى» (11821).

(3)

أحمد (23082)، وأبو داود (3477)؛ كلاهما بلفظ:«المُسْلِمُونَ» .

ص: 306

هذا الحديث أصل في إباحة هذه المذكورات وما في معناها مما خلقه الله لمنفعة عباده، من غير تسبب من أحد منهم، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29]، وأن الناس شركاء في هذه المنافع، لا يختص أحد بشيء منها إلا ما حازه وحصله بعمله، وأخصُّ ذلك الماء؛ فإنه يجب بذل فضله، وهو ما زاد عن حاجة الإنسان من العين والبئر، وإن كان هو المالك للبئر والعين، فيجب عليه بذل ما فضل عن حاجته بلا ضرر يلحقه.

وفي معنى هذه المذكورات: صيد البر والبحر ولؤلؤ البحر ونحوه، وفي حكم الكلأ سائر ما ينبت على وجه الأرض من الأشجار، لا بفعل آدمي، وخصت الثلاثة بالحديث لعموم الحاجة إليها، ومن جملة المباحات المشتركة بين الناس الأرض الميتة، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للباب.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من نعم الله هذه المذكورات الكلأ والماء والنار.

2 -

أهمية هذه المنافع لحياة الناس، وقد قرن الله في كتابه بين ذكر الزرع والماء والنار، كما في سورة الواقعة.

3 -

أن الناس شركاء في هذه المباحات، والمراد بالنار: معادنها من الحجارة وشجر المرخ والعفار، فلا يختص أحد بشيء إلا ما سبق إليه، ومن الشركة في النار الاقتباس من نار الغير.

4 -

تحريم حمى شيء من هذه المباحات.

5 -

بطلان مذهب الاشتراكية، وجه ذلك تقييد اشتراك الناس بهذه الثلاثة دون غيرها، مما ثبت عليه الملك الخاص.

* * * * *

ص: 307

‌بَابُ الوَقْفِ

الوقف: في اللغة مصدر من الثلاثي، ومعناه الحبْس، واصطلاحًا: حبْس العين ذات المنفعة، والتصدق بمنفعتها على الدوام.

وحكم العين الموقوفة أنها لا تباع ولا تورث، ولا توهب، وتصرف غلتها في وجوه البر حسب شرط الواقف. فإن كان الوقف منجزًا، أي لم يعلق على الموت ثبت في الحال، وخرج عن ملك صاحبه، وإلا كان وصية، ويُخرج بعد الموت من الثلث. والوقف نوع من أنواع القرب يعود ثوابه إلى الواقف أو إلى من نواه عنه.

* * * * *

(1042)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالَحٍ يَدْعُو لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1043)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ» ، قَالَ:«إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» . قَالَ: «فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ؛ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ» . قَالَ: «فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوَ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(2)

.

(1)

مسلم (1631).

(2)

البخاري (2737)، ومسلم (1632).

ص: 308

(1044)

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ»

(1)

.

(1045)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ

الْحَدِيثَ، وَفِيهِ:«وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في مشروعية الوقف.

وفيها فوائد؛ منها:

1 -

الحث على المبادرة بالعمل الصالح قبل الموت.

2 -

أن عمل المكلف ينقطع بموته.

3 -

أن ما تسبب فيه الإنسان -كالثلاثة المذكورة - لا ينقطع بالموت.

4 -

فضل تعليم العلم النافع، ولو كان قليلًا.

5 -

فضل توريث العلم.

6 -

أن ما لا يُنتفع به من العلم لا يعود منه ثواب على العامل.

7 -

أن ما يضر من العلم يعود إثمه على العامل بعد موته بقدر آثام من تبعه فيه، كما يدل على ذلك الحديث:«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

8 -

دوام أجر الصدقة الجارية، وهي دائمة المنفعة، وهي وقف أي نوع من المال؛ كبئر ودار وشجرة ونهر ومصحف وكتاب.

(1)

البخاري (2764).

(2)

البخاري (1468)، ومسلم (983).

(3)

مسلم (2674)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 309

9 -

فضل الولد الصالح.

10 -

أن ولد الرجل من كسبه.

11 -

الترغيب في حصول الذرية من بنين وبنات.

12 -

الإرشاد إلى حسن التربية.

13 -

الترغيب في دعاء الولد لوالديه.

14 -

انتفاع الوالدين بدعاء ولدهما.

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:

1 -

فضل عمر رضي الله عنه، وذلك من وجوه:

أ. تصدقه بأنفس ماله.

ب. استشارته للرسول صلى الله عليه وسلم.

ج. حسن تصريفه لغلة الوقف.

2 -

فضل التصدق بالنفيس من المال.

3 -

مشاورة أهل العلم في معرفة الأفضل من طرق الخير.

4 -

أن أرض خيبر المفتوحة عنوة قسمت بين الغانمين.

5 -

أن العين الموقوفة لا تباع ولا توهب ولا تورث.

6 -

أن غلتها تصرف في المصارف الشرعية من عتق وصلة رحم وصدقة وجهاد، ونحو ذلك.

7 -

أن لناظر الوقف الأكل منه بالمعروف وإطعام الصديق، غيرَ متموِّل مالًا.

ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

مشروعية بعث السعاة لقبض الزكاة.

ص: 310

2 -

فضل خالد بن الوليد رضي الله عنه.

3 -

وقف السلاح والأدراع وآلة الجهاد في سبيل الله.

4 -

الذب عن عرض المسلم.

* * * * *

ص: 311

‌بَابُ الهِبَةِ وَالعُمْرَى وَالرُّقْبَى

الهبة: مصدر وهب، وهو بذل ما ينتفع به للغير مجانًا، ويسمى بها الموهوب من التسمية بالمصدر وفي الاصطلاح تبرع جائز التبرع بشيء من ماله مجانا، ويدخل فيها العطية والوصية والصدقة والهدية، والعُمْرَى -وهي مأخوذة من العُمْر - نوع من الهبة، فعطفها عليها من نوع عطف الخاص على العام، وهي ما يقيد بعُمْرِ الموهوب له، كقولك: هي لك عُمْرَكَ، والرُّقْبى نوع من العُمْرَى، وهي التي ترجع إلى صاحبها إذا مات المُعْمَر، وسميت رُقبى لأن كلا من المُعْمِر والمُعْمَر يرقب موت صاحبه، أي: ينتظر موته، فعطف الرُّقْبَى على العُمْرَى من عطف الخاص على العام أيضًا.

* * * * *

(1046)

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما؛ أن أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟» ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فَارْجِعْهُ»

(1)

.

(1047)

وَفِي لَفْظٍ: فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي. فَقَالَ: «أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟» . قَالَ: لَا. قَالَ: «اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» . فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1048)

وَفِي رِوَايَةٍ لمسلم: قَالَ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» ، ثُمَّ قَالَ:«أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟» قَالَ: بَلَى، قَالَ:«فَلَا إِذًا»

(3)

.

(1)

البخاري (2586)، ومسلم (1623).

(2)

البخاري (2587)، ومسلم (1623).

(3)

مسلم (1623).

ص: 312

هذا الحديث أصل في وجوب العدل بين الأولاد في العطية.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز أن يحب الوالد بعض أولاده أكثر من غيره؛ لأسباب تقتضي ذلك؛ فإن المحبة مما لا يملك الإنسان التسوية فيه.

2 -

أنه لا يجوز للوالد تخصيص بعض أولاده بعطية، وإن كان أحب إليه من غيره.

3 -

وجوب العدل بين الأولاد في العطية، واختلف العلماء في حكم العدل بين الأولاد في العطية؛ فقيل: مستحب، فيجوز التفضيل، والحديث حجة عليهم، وقيل: واجب، وهو الصواب، فيحرم تفضيل بعضهم على بعض. واختلفوا في صفة التسوية بينهم؛ فقيل ذكرهم وأنثاهم سواء، وقيل: كالميراث، للذكر مثل حظ الأنثيين، وظاهر الحديث التسوية بين الذكر والأنثى.

4 -

أن تفضيل بعض الأولاد في العطية جور.

5 -

جواز الرق في الإسلام.

6 -

مشروعية الاستفصال عند الاحتمال؛ لقوله: «أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟» .

7 -

تحريم الشهادة على الجور.

8 -

أن الأمر يأتي للتوبيخ لا للإذن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» .

9 -

أن شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على الشيء تدل على جوازه.

10 -

أن شهادته صلى الله عليه وسلم أوثق من كل شهادة تكون من إنسان.

11 -

أن العدل بين الأولاد من أسباب برهم، وأن الجور من أسباب عقوقهم.

ص: 313

12 -

جواز أن يقسم الوالد ماله بين أولاده إذا عدل في ذلك.

13 -

أن التسوية بين الأولاد تكون في العطية لا في النفقة.

14 -

أن النهي يقتضي الفساد وأن العقد الفاسد لا ينفذ.

15 -

فضيلة بشير بن سعد في الرجوع إلى الحق، وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

16 -

أنه يجب على الابن المُفَضَّل أن يرد عطيته على إخوته بعد موت أبيه، إلا أن تطيب نفوسهم.

* * * * *

(1049)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1050)

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ»

(2)

.

(1051)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ، ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، والأربعة، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(3)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في تحريم الرجوع في الهبة إلا هبة الثواب.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

تحريم العود في الهبة بأن يطلب الواهب من الموهوب ردها إليه.

2 -

أنه لا فرق بين أن يكون الواهب غنيًا أو فقيرًا، والموهوب له صغيرًا أو كبيرًا.

(1)

البخاري (2589) ومسلم (1622)(8).

(2)

البخاري (2622).

(3)

أحمد (2119)، وأبو داود (3539)، والترمذي (2132)، والنسائي في «الكبرى» (6498)، وابن ماجه (2377)، وابن حبان (5123)، والحاكم (2298).

ص: 314

3 -

تقبيح العود في الهبة بما ذكر من التشبيه.

4 -

التنفير عن الشيء بتشبيهه بما جبلت النفوس على كراهته والنفرة منه، كما قال تعالى:{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176].

5 -

جواز عود الأب في عطيته لولده، ويشهد لهذا ما جاء في الحديث:«أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»

(1)

.

6 -

الإرشاد إلى اجتناب كل ما يتضمن التشبه بالحيوان في أحواله السيئة.

* * * * *

(1052)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

(1053)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: وَهَبَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً، فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ:«رَضِيتَ؟» قَالَ: لَا، فَزَادَهُ، فَقَالَ:«رَضِيتَ؟» قَالَ: لَا، فَزَادَهُ، قَالَ:«رَضِيتَ؟» قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(3)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في جواز الهدية، ومشروعية قبولها والثواب عليها.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

جواز الهدية إذا لم يقصد بها التوصل إلى حرام، فتحرم.

2 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم قبول الهدية والثواب عليها.

3 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.

4 -

مشروعية الثواب على الهدية، فإن كان الثواب على الهدية مقصودًا للمهدي فهي هدية الثواب، والإثابة عليها واجب، كما في قصة الرجل الذي لم

(1)

أحمد (6902)، وابن ماجه (2292)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(2)

البخاري (2585).

(3)

أحمد (952)، وابن حبان (6384).

ص: 315

يرض إلا بعد الثالث، أما هدية الإكرام فالمكافأة عليها مستحبة، وليس للمهدي المطالبة بالثواب.

* * * * *

(1054)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1055)

وَلِمُسْلِمٍ: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًا وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ»

(2)

.

(1056)

وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أن يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا»

(3)

.

(1057)

ولأَبِي دَاوُدَ والنَّسَائِيِّ: «لَا تُرْقِبُوا، وَلَا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَوْ أُعْمِرَ شَيْئًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ»

(4)

.

* * *

هذا الحديث أصل في جواز العُمرى، وهي -كما تقدم - مأخوذة من العُمْر.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز العُمْرَى والرُّقْبَى.

2 -

أن العُمْرَى مطلقة أو مقيدة هي للمعمَر ولورثته.

3 -

أن العُمْرَى إذا قيدت بحياة المعْمَر أوعيشه فإنها ترجع بعد موته إلى المعْمِر.

4 -

مشروعية حفظ المال، وعدم تعريضه لفواته على صاحبه.

5 -

اعتبار الشروط في العقود، وأن الوفاء بها من الوفاء بالعقد.

(1)

البخاري (2625)، ومسلم (1625)(25).

(2)

مسلم (1625)(26).

(3)

مسلم (1625)(23).

(4)

أبو داود (3556)، والنسائي (6527).

ص: 316

(1058)

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: «لَا تَبْتَعْهُ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ

» الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1059)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي «الأَدَبِ الْمُفْرَدِ» وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

(2)

.

(1060)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ» . رَوَاهُ البَزّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيْفٍ

(3)

.

(1061)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

(1062)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ وَهَبَ هِبَةً، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ وصَحَّحَهُ

(5)

، والمحْفُوظُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَولُهُ

(6)

.

* * *

هذه الأحاديث الخمسة مكمِّلات لما تضمَّنته الأحاديث السابقة، وهذه عادة المؤلف رحمه الله؛ فإنه يذكر أصول الباب في أوله، ثم يتبعها أحاديث متممات.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

هبة الفرس أو غيره من آلة الحرب لمن يجاهد عليه في سبيل الله.

(1)

البخاري (2623)، ومسلم (1620).

(2)

البخاري في «الأدب المفرد» (594)، وأبو يعلى في «المسند» (6148).

(3)

البزار (7529).

(4)

البخاري (2566)، ومسلم (1030).

(5)

الحاكم (2323).

(6)

قال البخاري: «هذا أصح» . ينظر: «التلخيص الحبير» (3/ 159).

ص: 317

2 -

أن من أخرج شيئًا لله؛ كالزكاة والصدقة لا يحل له شراؤه من المتصدق عليه؛ فإن ذلك نوع من الرجوع.

3 -

فضيلة عمر رضي الله عنه، وذلك من جهتين؛ الأولى: تبرعه بالفرس في سبيل الله. الثانية: سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عما اشتبه عليه حكمه.

4 -

استحباب الهدية توددًا للجار والقريب والصديق.

5 -

أن الهدية تجلب المودة وتزيل الحقد.

6 -

استحباب هدية المرأة لجارتها بما تيسر، ونساء المسلمات من إضافة الموصوف إلى الصفة، وفرسن الشاة هو الظلف، وهو شيء حقير في العادة.

7 -

أن من أهدى هدية ليثاب عليها فله الرجوع فيها إن لم يثب عليها، وحكمها عند الفقهاء كالبيع.

* * * * *

ص: 318

‌بَابُ اللُّقَطَةِ

اللُّقَطَة: فُعَلة من اللَّقْط أو الالتقاط، وهو أخذ الشيء من على الأرض، وهي في الاصطلاح: كل مال فقده صاحبه وضل عنه، من أثمان أو حيوان أو غيرهما. وحكم التقاط اللقطة في الجملة مستحب؛ لأنه حفظ لمال الغير، وقسم الفقهاء اللقطة ثلاثة أقسام:

1 -

ما يحرم التقاطه؛ كالإبل.

2 -

ما يباح التقاطه بلا تعريف؛ وهو ما كان حقيرًا من المال.

3 -

ما يستحب التقاطه ويجب تعريفه؛ وهو ما سوى ذلك.

* * * * *

(1063)

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ:«لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1064)

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا» . قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: «هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ» . قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: «مَا لَكَ وَلَهَا؟ مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في حكم اللُّقطة وأنواعها.

(1)

البخاري (2431)، ومسلم (1071).

(2)

البخاري (91)، ومسلم (1722).

ص: 319

وفيهما فوائد؛ منها:

1 -

جواز التقاط الشيء الحقير والانتفاع به، بلا تعريف.

2 -

تحريم الصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته.

3 -

ورع النبي صلى الله عليه وسلم باجتناب المشتبهات.

4 -

أن تلك التمرة كانت في موضع محتمل أن تكون ساقطة من تمر الصدقة، أما إذا كانت لا يحتمل فيها ذلك لم تكن من المتشابه.

5 -

أن سقوط الطعام من غير قصد وتركه لتفاهته لا يوجب الإثم، أما إن كان كثيرًا فلا يجوز تركه؛ لأن ذلك من إضاعة المال.

6 -

أن اللُّقطة ذات القيمة يجوز التقاطها أو يستحب.

7 -

أن من سيرة الصحابة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما أشكل عليهم.

8 -

أن الشريعة شاملة لأحكام العبادات والمعاملات.

9 -

أنه تجب معرفة صفات اللُّقطة، ويجب تعريفها سنَة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً» ، والعفاص الوعاء الذي توضع فيه النقود، والوكاء الرباط الذي يربط به.

10 -

وجوب رد اللُّقطة على صاحبها.

11 -

أن التعريف يرجع في صفته إلى العرف.

12 -

أن اللُّقطة يملكها الملتقط بعد تعريفها سنة.

13 -

استحباب التقاط ضالة الغنم؛ لأن عليها خطرًا من الذئب، وقوله:«هِيَ لَكَ» أي إذا أخذتها، أو «لِأَخِيكَ» أي صاحبها.

14 -

تحريم التقاط ضالة الإبل؛ لأنه لا خطر عليها؛ لأنها تأكل الشجر وترد الماء.

15 -

أن ضالة الإبل إذا كانت في مسبعة يجوز التقاطها؛ لأنها لا تسلم، وهذا من قياس العكس.

ص: 320

16 -

تعليل الأحكام الشرعية.

17 -

الغضب في التعليم فيما يقتضي الإنكار، وقوله صلى الله عليه وسلم:«مَا لَكَ وَلَهَا؟!» أي لا سبيل لك عليها.

18 -

جواز إطلاق اسم رب مضافًا على الإنسان؛ كرب الدار ورب الإبل.

19 -

أن أحكام الشريعة مبنية على الحكمة، وهي التسوية بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات.

* * * * *

(1065)

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1066)

وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ لَا يَكْتُمْ، وَلَا يُغَيِّبْ، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ والأربعة إلا التِّرْمِذِيَّ وَصحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وابْنُ الْجَارُودِ وَابْنُ حِبَّانَ

(2)

.

(1067)

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(1068)

وَعَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا لَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ، وَلَا اللُّقَطَةُ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا» . رواه أبُوْ دَاوُدَ

(4)

.

* * *

(1)

مسلم (1725).

(2)

أحمد (17481)، أبو داود (1709)، والنسائي في «الكبرى» (5968) ابن ماجه (2505)، وابن الجارود في «المنتقى» (671)، وابن حبان (4894).

(3)

مسلم (1724).

(4)

أبو داود (3804).

ص: 321

هذه الأحاديث اشتملت على جملة من أحكام اللقطة، وهي من متممات الباب.

وفيها فوائد؛ منها:

1 -

تحريم إيواء الضَّالة من غير تعريف، وهو أخذها، والضَّالة المال الضَّائع، وهي أخص بالحيوان، كما تقدم في حديث زيد بن خالد

(1)

.

2 -

وجوب تعريف اللقطة.

3 -

أن من لم يعرف اللقطة فهو ضال، والضلال ضد الهدى، وفي الحديث جناس.

وفي حديث عياض بن حمار رضي الله عنه:

1 -

مشروعية الإشهاد على اللقطة شاهدين عدلين، والحكمة من ذلك أن لا تتعرض اللقطة للنسيان أو الكتمان.

2 -

اعتبار العدالة في الشهود.

3 -

أن الأصل في الشهادات الرجال.

4 -

وجوب حفظ صفات اللقطة، ومن ذلك معرفة وعائها ووكائها.

5 -

تحريم كتمان اللقطة أو تغييب شيء منها.

6 -

وجوب تعريفها سنة إن كان يطمع في العثور على صاحبها، وإلا تصدق بها.

7 -

وجوب دفع اللقطة لصاحبها متى جاء.

8 -

أن واجد اللقطة لا يتصرف فيها إلا بعد سنة.

9 -

حرمة أموال الناس.

(1)

تقدَّم برقم (1064).

ص: 322

10 -

أن اللقطة بعد تعريفها سنة يكون لواجدها التصرف فيها تصرف المالك؛ لقوله: «وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» .

11 -

إضافة المال إلى الله، وذلك من إضافة المملوك إلى مالكه، والمخلوق إلى خالقه.

12 -

إثبات المشيئة لله تعالى.

وفي حديث عبد الرحمن التيمي رضي الله عنه:

1 -

النهي عن لقطة الحاج، فإن كان المراد لقطة الحرم فمعناه أنها لا تملك ولو بعد التعريف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَلا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ»

(1)

، وإن كان المراد ما يسقط من الحاج مطلقًا فمعناه النهي عن التقاطه، أو عن تملكه كلقطة الحرم، والمعروف عند أهل العلم أن لقطة الحاج في غير الحرم كغيره.

وفي حديث المقدام رضي الله عنه:

1 -

تحريم كل ذي ناب من السباع.

2 -

تحريم الحمار الأهلي.

3 -

تحريم اللقطة من مال المعاهد إلا إن سمحت بها نفسه، ولقطة المعاهد كاللقطة من مال المسلم، من حيث تحريم الالتقاط، ووجوب التعريف، وجواز التصرف فيها بعد تعريفها سنة.

* * * * *

(1)

رواه البخاري (2434)، ومسلم (1355)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 323

‌بَابُ الفَرَائِضِ

هذا الباب يترجم له بعض العلماء بكتاب الفرائض أو كتاب المواريث أو باب المواريث، والفرائض جمع فريضة، مأخوذ من قوله سبحانه وتعالى:{نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (7)} [النساء: 7].

ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا»

(1)

، والمواريث جمع ميراث، وهو المال المنتقل من الميت إلى الحي، فالميت موروث أو مورِّث، والحي وارث، وقد عني العلماء بأحكام المواريث، فأفردوها بمصنفات مبسوطة ومختصرة وبنظم، ورتبوا أبوابها، ووضعوا القواعد لقسمة التركات، وضمَّنوا هذه المصنفات الحث على تعلم هذا العلم، والوصية بتعلمه، وذكروا ما ورد في فضله.

* * * * *

(1069)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل في علم المواريث، وقد تضمَّن نوعي الإرث بالفرض والتعصيب إجمالًا.

وفيه فوائد، منها:

1 -

أن السنة تفسر القرآن.

2 -

أن من الأحكام ما ثبت بالسنة.

(1)

سيأتي، وهو أول حديث في هذا الباب.

(2)

البخاري (6723)، ومسلم (1615).

ص: 324

3 -

وجوب قسمة التركة على الوارثين؛ وذلك بعد الوصية والدين.

4 -

أن التركة ملك للورثة بحكم الشرع ملكًا قهريًا.

5 -

أن الإرث نوعان: فرض؛ وهو الإرث المقدر، وتعصيب؛ وهو الإرث بلا تقدير.

6 -

تقديم أصحاب الفروض، والفروض المقدرة في كتاب الله ستة: ثلثان وثلث وسدس، ونصف وربع وثمن:

- فالثلثان لأربعة أصناف: للبنتين وبنتي الابن فأكثر والأختين الشقيقتين، والأختين لأب فأكثر.

- والثلث لصنفين: للأم وللأخوين لأم فأكثر؛ ذكورًا أو إناثًا.

- والسدس لسبعة أصناف: للأم، والأب، والجدّة مطلقًا، والجد من قبل الأب، والأخ أو الأخت لأم، وبنت الابن مع البنت، والأخت لأب مع الأخت الشقيقة.

- والنصف لخمسة: للبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب، والزوج.

- والربع لصنفين: للزوج، ولزوجة فأكثر.

- والثمن لصنف واحد، وهو الزوجة فأكثر.

وشروط استحقاقهم لهذه الفروض مبينة في كتب الفقه والفرائض.

7 -

أن المسائل التي فيها فروض تكون عادلة؛ وهي: ما استغرقت فروضُهَا سِهامَها، وعائلة؛ وهي: ما زادت فروضُها على سهامها، وناقصة؛ وهي: ما نقصت فروضُها عن سهامِها.

مثال العادلة: نصف وثلث وسدس؛ كزوج وأم وأخ لأم.

ص: 325

مثال العائلة: نصف وثلثان وثلث وسدس؛ كزوج وأختين شقيقتين وأختين لأم، وأم.

والناقصة: نصفٌ فقط، أو ثلثٌ فقط؛ كزوج وعم، وأم وعم.

8 -

تقديم العصبة بالقرابة على العصبة بالولاء، وهو المُعْتَقُ والمُعْتَقة.

9 -

ترتيب العصبة بالقرابة على ترتيبهم في القرب باعتبار الجهات: البنوة، فالأبوة، فالأخوة، فالعمومة.

10 -

تقديم الأدنى إلى الميت من أهل هذه الجهات على الأبعد؛ كالابن مع ابن الابن، والأب مع الجد.

11 -

تقديم الأقوى قرابة؛ وهو المُدْلِي بأبَوَيْن على المُدْلِي بأب، وذلك في جهة الإخوة وبنيهم، وجهة العمومة وبنيهم، وهذا التفصيل في ترتيب العصبة مفهوم من قوله:«فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» ، والبنات وبنات الابن عصبة مع الابن وابن الابن، لقوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]، والأخوات الشقيقات أو لأب؛ عصبة مع إخوتهن، لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 176]، والأخت الشقيقة أو لأب؛ عصبة مع البنات أو بنات الابن على الصحيح، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بِنْتٍ وَبِنْتِ ابنٍ وأختٍ؛ أنَّ للبنتِ النصفَ، ولبنتِ الابن السدسَ، وما بَقِيَ فللأُخْتِ

(1)

.

12 -

أن المُعصِّب يسقط إذا استغرقت الفروض التركة، وخُصَّ من هذا الأب والابن؛ فإنهما لا يسقطان.

13 -

أن المعصِّبَ يأخذ ما أبقت الفروض.

14 -

أن المعصِّبَ بنفسه يحوز جميع المال؛ إذا انفرد بالميراث عن أصحاب الفروض.

(1)

البخاري (6355).

ص: 326

15 -

أن القرابة من أسباب الإرث.

16 -

أن الزوج لا يرث بالتعصيب.

17 -

أن المرأة لا ترث بالتعصيب بنفسها إلا المُعْتِقَة.

18 -

إطلاق اسم الرجل فيما يعم حكمُهُ الرجلَ والمرأةَ، ولهذا جاء تأكيد الرجل بالذكر لإخراج المرأة، ومن شواهد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ

»

(1)

؛ فإن هذا الحكم لا يختص بالرجل، وهذا أحسن ما وُجِّه به إتباع الرجل بالذَّكَرِ؛ واختار معناه الحافظ ابن رجب رحمه الله

(2)

.

19 -

فضل الذَّكرِ على الأنثى.

20 -

تفضيل الذَّكرِ وتقديمه على الأنثى في الميراث في الجملة.

21 -

اشتراك الرجال والنساء في الميراث؛ قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 7]، خلافًا للجاهلية الأولى الذين يخصون بالميراث الكبار من الرجال، دون النساء والصغار، وخلافًا لبعض القوانين المعاصرة التي تخص بالميراث الأكبر من الأولاد، أو تبيح للمورِّث التصرف في ماله كيف شاء.

22 -

فيه شاهد لما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم.

23 -

أن من كمال هذا الدين شموله لأمور العباد في حياتهم وبعد موتهم.

24 -

أن من مقاصد الشريعة الاشتراك في المال، وأحكام الميراث مبنية على هذا.

تنبيه: ما رُسم من الفوائد المتعلقة بالفرض والتعصيب مبنيٌّ على قول الجمهور؛ أن المراد بالفرائض: المواريث المقدَّرة في كتاب الله، وأما على قول من فسر الفرائض بأنها كل ما نص الله عليه في القرآن من المواريث مقدرًا

(1)

أخرجه البخاري (2272)، ومسلم (1559)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

«جامع العلوم والحكم» (2/ 437).

ص: 327

كان أو غير مقدر، فيدخل في ذلك ميراث العصبة من البنين والبنات، والإخوة والأخوات، ويختص قوله في الحديث:«فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» بميراث أبناء الإخوة الأشقاء أو لأب، والعمومة وبنيهم، والمُعْتِقِ والمُعْتِقة.

* * * * *

(1070)

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في منع التوارث لاختلاف الدين.

وفيه فوائد؛ منها:

1 -

التضاد بين الإسلام والكفر.

2 -

قطع الولاية بين المسلم والكافر.

3 -

أن المسلم لا يرث الكافر.

4 -

أن الكافر لا يرث المسلم، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء في المسألتين، وقيل: إنه لا توارث بين المسلم والكافر إلا بالولاء، وقيل: يرث المسلم الكافر إلا الحربي، واختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية

(2)

، والصواب هو القول الأول؛ لموافقته ظاهر الحديث، وقوله:«لَا يَرِثُ» خبر بمعنى النهي.

* * * * *

(1071)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي بِنْتٍ، وَبِنْتِ ابْنٍ، وَأُخْتٍ؛ فقَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِلِابْنَةِ النِّصْفُ، وَلِابْنَةِ الابْنِ السُّدُسُ -تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ- وَمَا بَقِيَ فَلِلأُخْتِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(3)

.

(1)

البخاري (6764)، ومسلم (1614).

(2)

نقله عنه تلميذه ابن القيم في «أحكام أهل الذمة» (2/ 856)، ولم نجده في مؤلفات الإمام.

(3)

البخاري (6736).

ص: 328

هذا الحديث هو الأصل في أن الأخوات الشقائق أو لأب عصبةٌ مع البنات أو بنات الابن، وسبب رواية ابن مسعود للحديث أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه سئل عن بنت وابنة ابن وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وأت ابن مسعود فسيتابعني، فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةٍ: لأقضين، للابنة النصف، ولابنة ابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت

(1)

.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن للبنت النصف، وهو حكم ثابت بالقرآن؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11].

2 -

أن لبنت الابن السدس مع البنت، وهو مستنبط من القرآن أيضًا، لقوله تعالى:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، ووجهه أن البنت إذا أخذت النصف بقي من نصيب البنتين أو البنات السدس، فتأخذه بنت الابن، سواء أكانت واحدة أم أكثر، وهو تكملة الثلثين.

3 -

أن للأخت أو الأخوات لأبوين أو لأب ما بقي بعد البنت وبنت الابن. وخالف في ذلك ابن حزم، مستدلا بحديث ابن عباس:«فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»

(2)

، والجواب أن هذا الحديث مخصص لحديث ابن عباس، ويؤيده أن الأخوات إذا انفردن عن المعصب ولم يكن فرع وارث فإنه يفرض لهن.

(1)

رواه أحمد (4073)، وأبو داود (2890)، والترمذي (2093)، وابن ماجه (2721).

(2)

تقدم تخريجه (1069).

ص: 329

4 -

الحلف على الفتيا؛ لقول ابن مسعود: «لَأَقْضِيَنَّ» ، أي: والله لأقضين.

5 -

أن من تابع غيره على الفتيا وهو مخطئ فهو ضال؛ لقول ابن مسعود في سبب رواية الحديث: «لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ» .

* * * * *

(1072)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ

(1)

، وأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِلَفْظِ أُسَامَةَ

(2)

، وَرَوَى النَّسَائِيُّ حَدِيثَ أُسَامَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ

(3)

.

* * *

هذا الحديث هو حجة من يرى أن الكفر ملل شتى، وأنه لا توارث بين أهل ملتين، وهذا قول الجمهور، فلا يرث اليهودي النصراني، وكذا عكسه، والملة هي الديانة، والذي يظهر أن الملل ست، وهي المذكورة في آية الحج في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج: 17]، فالوثنيون هم الذين أشركوا، فهم ملة واحدة، وعلى هذا فلا يرث اليهودي النصراني أو الوثني أو المجوسي ولا الصابئ، فضلا عن المسلم، ولا يرث المسلم أحدًا من هذه الطوائف الخمس.

وقيل: الكفر ملة واحدة، وهو مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد، وعليه فتتوارث هذه الطوائف إلا الكافر والمسلم فلا يتوارثان؛ لحديث أسامة المتقدم. وعليه فمعنى «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ» أي: ملة الإسلام وملة الكفر، وبهذا تظهر مزية الإسلام على سائر الملل، ويشهد لهذا القول قوله تعالى:{وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [الأنفال: 73]، فملة الكفر واحدة وإن

(1)

أحمد (6664)، وأبو داود (2911) والنسائي في «الكبرى» (6350)، وابن ماجه (2731).

(2)

الحاكم (2944).

(3)

النسائي في «الكبرى» (6348) و (6349).

ص: 330

تعددت أسماؤها ومناهجها، وكلها ضد الإسلام، ومصير أهلها واحد، وهو نار جهنم، وبئس المصير.

وبعد فمن قال: إن الكفر ملة واحدة يجعل حديث أسامة مفسِّرًا لحديث عبد الله بن عمرو، وهو الراجح؛ لما تقدم من قوله تعالى:{وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [الأنفال: 73]. والله أعلم.

* * * * *

(1073)

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ ابْنِي مَاتَ، فَمَا لِيَ مِنْ مِيرَاثِهِ؟ فَقَالَ:«لَكَ السُّدُسُ» ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ، فَقَالَ:«لَكَ سُدُسٌ آخَرُ» ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ. فَقَالَ:«إِنَّ السُّدُسَ الْآخَرَ طُعْمَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ عَنْ عِمْرَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في توريث الجد من ابن ابنه بالفرض والتعصيب جميعًا، فيرث بالفرض السدس مع الفرع الوارث بنين أو بنات، ويرث بالتعصيب مع إرثه بالفرض ما بقي بعد البنات أو بنات الابن، إن لم يكن ورثة سواهن، فإن كانت واحدة فالباقي هو الثلث، وإن كنَّ اثنتين فأكثر فالباقي هو السدس. وحكم الرسول للرجل بالسدسين؛ الثاني: طعمة أي: ليس بفرض، يقتضي أن المتوفى -وهو ابن ابن الرجل- خلف مع الجد بنتين أو أكثر، أو بنتًا وأم، وفي كل من الصورتين يرث الجد السدس فرضًا، والباقي، وهو السدس تعصيبًا، وحكم الجد في هذا كله حكم الأب.

* * * * *

(1)

أحمد (19915)، وأبو داود (2896)، والترمذي (2099)، والنسائي في «الكبرى» (6303)، ولم نقف عليه عند ابن ماجه.

ص: 331

(1074)

وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ دُونَهَا أُمٌّ. رواه أبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وَصحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وابْنُ الْجَارُودِ، وَقَوَّاهُ ابْنُ عَدِيٍّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في ميراث الجدة، والجدة الوارثة هي أم الأم عند عدم الأم، وكذا ترث أمُّ الأب منفردة أو مشاركة لأم الأم، واختلف العلماء فيمن يرث من الجدات، فقيل: ترث أم الأم وأم الأب دون أم الجد، وقيل: ترث أم الجد، فتكون الجدات الوارثات ثلاثا، يشتركن في السدس إذا استوين في الدرجة، كأم أم أم مع أم أم أب وأم الجد. ولا ترث أم أم بعدى مع أم أم قربى.

وقد توقف الصديق رضي الله عنه في توريث الجدة حتى شهد عنده المغيرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس

(2)

.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الجدة ترث السدس عند عدم الأم.

2 -

أن الجدات إذا تعددن اشتركن في السدس.

3 -

أن الجدة لا ترث الثلث؛ فليست كالأم.

* * * * *

(1)

أبو داود (2895)، والنسائي في «الكبرى» (6304)، وابن الجارود في «المنتقى» (960)، وابن عدي في «الكامل» (5/ 532).

(2)

رواه أبو داود (2894)، والترمذي (2100)، وابن ماجه (2724).

ص: 332

(1075)

وَعَنِ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ سِوَى التِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ

(1)

.

(1076)

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: كَتَبَ مَعِي عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ رضي الله عنهم؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لَا مَوْلَى لَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ والأربعة سوى أَبِي دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(2)

.

* * *

هذان الحديثان هما من أدلة توريث ذوي الأرحام، وذوو الأرحام في اصطلاح الفرضيين كل من أدلى إلى الميت بوارث، وليس بذي فرض ولا تعصيب، واختلف العلماء في توريث ذوي الأرحام؛ فذهب الجمهور إلى توريثهم إذا لم يكن هناك صاحب فرض ولا تعصيب، ثم اختلفوا في كيفية توريثهم، والمشهور في مذهب الشافعي والإمام أحمد تنزيلهم منزلة من أدلوا به، فيأخذ نصيبه؛ كأولاد البنت، وكالخال والخالة والعمة، وبنات الأخ والأخت، وبنت العم.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن الخال يرث من لا وارث له من ذوي الفروض والتعصيب، وهو أخو الأم والجدة.

2 -

أن ظاهر الحديث استقلال الخال بالإرث، فيحوز جميع المال، والجمهور يلحقون به سائر ذوي الأرحام.

(1)

أحمد (17175)، وأبو داود (2899)، والنسائي في «الكبرى» (6321)، وابن ماجه (2738)، وابن حبان (6035)، والحاكم (8002)، وينظر: علل ابن أبي حاتم (1636).

(2)

أحمد (189)، والترمذي (2103)، والنسائي في «الكبرى» (6317)، وابن ماجه (2737)، وابن حبان (6037).

ص: 333

3 -

أن الله ورسوله أولى بالمؤمنين، فالله ولي المؤمنين، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

4 -

أن من لا وارث له فماله لبيت المال.

* * * * *

(1077)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(1)

.

* * *

هذا الحديث دليل على أن الحمل يرث، لكن بشرطين:

1.

ما ذكر في هذا الحديث، وهو أن يستهل عند ولادته، وهو صرخته، ولذا قال الفقهاء: أن يستهل صارخا، والاستهلال من الإهلال، وهو رفع الصوت.

2.

تحقق وجوده في الرحم عند موت المورث، وذلك بأن يولد لأقل من ستة أشهر، منذ موت المورث.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الحمل يرث.

2 -

أن الحمل لا يرث إلا إذا استهل صارخًا عند ولادته.

3 -

رعاية الشريعة لحقوق الإنسان، ولو كان في بطن أمه.

4 -

أن من كمال الشريعة شمول أحكامها لجميع أحوال الإنسان: حملًا وطفلًا، وما بعد ذلك: حيًا وميتًا.

* * * * *

(1)

ابن حبان (6032)، ولم يروه أبو داود عن جابر رضي الله عنه، بل عن أبي هريرة رضي الله عنه (2920).

ص: 334

(1078)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَوَّاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَأَعَلَّهُ النَّسَائِيُّ، وَالصَّوَابُ: وَقْفُهُ عَلَى عُمَرَ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو دليل حرمان القاتل من الميراث، والقتل أنواع: قتل عمد، وشبه عمد، أو خطأ، والعمد قد يكون بحق؛ كالقتل قصاصًا أو حدًّا وغير ذلك، وللعلماء في هذا المقام ثلاثة مذاهب:

أحدها: العمل بظاهر الحديث في عمومه وإطلاقه، فمنع القاتل من الميراث، سواء أكان عمدًا أم غير عمد، بحق أو بغير حق، وهذا مذهب الشافعية.

الثاني: أن القتل الذي يمنع من الميراث ما أوجب قصاصًا أو دية أو كفارة، فيدخل في ذلك قتل الخطأ وشبه العمد والقتل عمدًا عدوانًا، وأما القتل بحق فلا يمنع من الميراث، كمن اقتص من ابن عمه، وهو وارثه، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.

الثالث: أن القتل لا يمنع من الميراث إلا إذا كان عمدًا عدوانًا، ورجح ذلك ابن القيم في «إعلام الموقعين»

(2)

، وهذا أقرب الأقوال، ولا ريب أن من قتل مورِّثه عمدًا عدوانًا أنه حقيق بحرمانه من ميراث مورِّثه، معاملة له بنقيض قصده، وعقوبة له على عدوانه. والغاية -والله أعلم - من هذا الحكم منع التذرع إلى الميراث بقتل المورِّث، لكن من العلماء من بالغ في ذلك، كما في القول الأول، ومنهم من توسط، كما في القول الثاني، ومنهم من قصر الحكم على الظالم المعتدي بالقتل.

(1)

النسائي في «الكبرى» (6333)، والدارقطني (4148)، وينظر:«التمهيد» لابن عبد البر (23/ 443).

(2)

«إعلام الموقعين» (6/ 425).

ص: 335

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن القتل يمنع من الميراث، وفيه الخلاف والتفصيل المتقدم.

2 -

فيه شاهد لقاعدة سد الذرائع.

3 -

فيه شاهد لقولهم: من تعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه.

4 -

حكمة الشريعة؛ فبناء أحكامها على جلب المصالح ودرء المفاسد.

* * * * *

(1079)

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا أَحْرَزَ الْوَالِدُ أَوْ الْوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ مَنْ كَانَ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وصَحَّحَهُ ابْنُ المدِينِيِّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ

(1)

.

* * *

الحديث دليل على الإرث بالتعصيب، ولكنه مقيد بما في «الصَّحِيحَيْنِ» عن ابن عباس:«أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»

(2)

، فقوله في الحديث:«لِعَصَبَتِهِ» أي بعد إعطاء أصحاب الفروض فروضهم، وقوله:«مَا أَحْرَز» أي ما ملك وكسب، والعاصب كل من كان إرثه غير مقدر بسهم؛ كالنصف والربع والسدس. وقوله:«مَا أَحْرَزَ الْوَالِدُ أَوْ الْوَلَدُ فَهُوَ لِعَصَبَتِهِ» أي إذا مات، والولد إن كان ابنا فإنه يعصب أباه، والبنت مع الابن عصبة، والأب يعصب في بعض الأحوال، وقد لا يرث إلا بالفرض، وقد يرث بالفرض والتعصيب. وتفصيل ذلك في علم الفرائض.

* * * * *

(1)

أبو داود (2917)، والنسائي في «الكبرى» (6314)، وابن ماجه (2732)، وينظر:«التمهيد» لابن عبد البر (3/ 61).

(2)

تقدم تخريجه (1069).

ص: 336

(1080)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَعَلَّهُ الْبَيْهَقِيُّ

(1)

.

* * *

الحديث دليل على الإرث بالولاء، والولاء علاقة سببها إنعام السيد على عبده بالعتق، وقوله:«لُحْمَةٌ» أي علاقة وصلة، والنسب هو العلاقة التي سببها الولادة، وفي هذا تشبيه الولاء بالنسب. ووجه الشبه التشابه بينهما في الأحكام؛ فكل منهما لا يوهب ولا يورث، وكل منهما يوجب الميراث في الجملة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

إثبات الولاء بين المعتِق والمعتَق.

2 -

الإرث بالولاء، وقد ذهب الجمهور إلى أن الإرث بالولاء يكون من جانب السيد فقط، ولا يرث به المعتَق، وقيل: بل يتوارثان عند عدم من يرثهما بفرض أو تعصيب.

3 -

أن الولاء لا يباع ولا يوهب، وكذلك لا يورث.

4 -

أن النسب لا يباع ولا يوهب.

5 -

أن العتق سبب للانتفاع في الدنيا والآخرة.

* * * * *

(1)

الحاكم (7990)، وابن حبان (4950)، والبيهقي في «الكبرى» (21433). وأورده الحافظ في (كتاب العتق) أيضًا برقم (1601).

ص: 337

(1081)

وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ

(1)

.

* * *

هذا طرف من حديث تضمن تفضيل عدد من الصحابة لفضلهم على غيرهم في خلق من الأخلاق وعلم من علوم الشريعة، ونصه: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللهُ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ»

واقتصر الحافظ منه على ما يناسب الباب، ومعنى «أَفْرَضُكُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ» أي أعلمكم بالفرائض، والمراد فرائض المواريث لا كل فرائض الدين، وقد اشتهر زيد رضي الله عنه بهذا العلم، مما يقوي الحديث من جهة معناه، ولا يلزم من فضل زيد رضي الله عنه في الفرائض أن يكون الصواب معه في كل المسائل التي خولف فيها.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

فضل زيد رضي الله عنه.

2 -

تفاضل الصحابة رضي الله عنهم.

3 -

تميز بعض الصحابة على بعض ببعض علوم الدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

4 -

أن علم الفرائض من أفضل علوم الشريعة.

5 -

الترغيب في تعلم علم المواريث.

* * * * *

(1)

أحمد (12904)، والترمذي (3791)، والنسائي في «الكبرى» (8229)، وابن ماجه (154)، وابن حبان (7131)، والحاكم (5784).

ص: 338

‌بَابُ الوَصَايَا

الوصايا: جمع وصيَّة، كهدايا جمع هديَّة، والوصيَّة هي العهد المؤكد بالأمر، وهي تتعلق بالموصي والموصى به والموصى إليه، والموصى له هو الوصي، ويقال للموصى به: وصية، وأصلها مصدر وصَّى يوصِّي توصية ووصيَّة. والوصية في الاصطلاح هي: تبرع الإنسان بمال بعد موته.

* * * * *

(1082)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في حكم الوصية، وقد دل على جوازها الكتاب والسنة والإجماع، وتجري فيها الأحكام الخمسة؛ فتجب بوفاء الديون، وتستحب في صدقة التطوع، وتحرم الوصية لوارث أو بأكثر من الثلث، وتُكره من الفقير الذي له وارث، وتباح لصديق، وقوله في الحديث:«مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» إلخ أي: ليس من حقه ولا يباح له أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده، وهذا في الوصية الواجبة، و «مَا» في الحديث نافية، و «حَقُّ» مبتدأ، و «لَهُ شَيْءٌ» في موضع جر صفة لمسلم، وجملة «يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ» في موضع جر صفة لشيء، و «يَبِيتُ» تامة و «لَيْلَتَيْنِ» ظرف، وجملة «يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ» خبر، وجملة «إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ» حال، والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال، أي يبيت ليلتين في أي حال من الأحوال إلا ووصيته مكتوبة.

(1)

البخاري (2738)، ومسلم (1627).

ص: 339

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية المبادرة إلى الوصية فيما تجب فيه وتستحب.

2 -

التنبيه إلى قصر الأمل.

3 -

أن المبادرة إلى الوصية من موجَبات الإسلام.

4 -

التوسعة في تأخير الوصية ليلة، وجاء في رواية مسلم:«ثَلَاثَ لَيَالٍ» ، فتكون التوسعة بليلتين.

5 -

أنه لا ينبغي تأخير الوصية ثلاث ليال فأكثر.

6 -

مشروعية كتابة الوصية.

7 -

الاعتماد على الخط المعروف في الوصية.

8 -

إظهار الوصية بجعل كتاب الوصية قريبًا منه حتى لا يحتاج إلى البحث عنها، يؤيده ما جاء في الرواية الأخرى:«وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ» .

9 -

أن من محاسن الإسلام تعظيم حقوق العباد.

* * * * *

(1083)

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ:«لَا» ، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: «لَا» ، قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ؟ قَالَ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

(1)

البخاري (1295)، ومسلم (1628).

ص: 340

هذا طرف من حديث طويل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد سعدًا رضي الله عنه في مرضه، وهو بمكة في حجة الوداع، فسأل سعدٌ هذا السؤال، والحديث أصل في مقدار الوصية من المال.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية عيادة المريض، وهي من حق المسلم على المسلم.

2 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم عيادة من مرض من أصحابه، بل عيادة الكافر لدعوته إلى الإسلام.

3 -

جواز الوصية ببعض المال بعد الموت.

4 -

جواز الوصية بالثلث فأقل.

5 -

تحريم الوصية بأكثر من ذلك.

6 -

أن سعدًا رضي الله عنه كان من أغنياء الصحابة.

7 -

أن سعدًا حين سؤاله النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له إلا ابنة واحدة، وقد رزق بعد ذلك بأولاد كثيرين بنين وبنات.

8 -

استحباب مراعاة حال الورثة في الوصية؛ فإن كانوا أغنياء استحبت الوصية، ولا تزيد على الثلث، وإن كانوا فقراء استحب الغض من الثلث إلى الربع والخمس أو ترك الوصية، سواء أكان الورثة الأولاد أم غيرهم، ويؤجر على ذلك إن كانت له نية.

9 -

أن الغنى قد يراد به حصول الكفاية، وقد يراد به ملك النصاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ»

(1)

.

10 -

أن الغنى خير من الفقر الذي يلجئ للسؤال.

(1)

رواه البخاري (1458)، ومسلم (19)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما. وتقدم (684).

ص: 341

11 -

أن على السائل أن يوضح الحال للمفتي حتى لا يحتاج إلى الاستفصال فيما يختلف فيه الحكم.

12 -

إجراء الأمور على ظاهر الحال؛ لقوله: «أَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ» .

13 -

أن من فوائد عيادة المريض نصيحته وإرشاده.

14 -

جواز تصرف المريض في الجملة.

15 -

مشروعية السؤال عما يشكل من مسائل الدين.

16 -

حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ، ثم علله بقوله:«أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ» ، إلخ.

17 -

فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لعيادة النبي صلى الله عليه وسلم له، وسؤال سعد النبي صلى الله عليه وسلم عن صدقته، وبشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله:«إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ، وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ، وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ» .

18 -

فيه من فوائد العربية جواز حذف الفاء مع المبتدأ من الجملة الاسمية الواقعة في جواب الشرط؛ لقوله: «خَيْرٌ» ، والتقدير: فهو خير، وذلك على رواية:«إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ» بكسر همزة (إنَّ).

* * * * *

(1084)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

* * *

(1)

البخاري (1388)، ومسلم (1004).

ص: 342

هذا الحديث أصل في وصول ثواب الصدقة عن الميت، فهو من أدلة مسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء، فيكون الحديث مخصصًا لقوله تعالى:{وَأَنْ لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، وقد يقال: إن انتفاع الإنسان بمال غيره أو عمله أوسع من استحقاقه وملكه، فلا يكون هناك تخصيص، وعليه فلا يكون في الآية تخصيص.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

استحباب الصدقة عن الوالدين.

2 -

أن أجر الصدقة عن الميت للميت، وللمتصدِّق عنه أجر الإحسان.

3 -

أن الوصية لا تثبت بمجرد النية، وإنما تثبت بالكلام.

4 -

أن التسويف في العمل الصالح سبب للفوت.

5 -

العمل بالظن المستند إلى دليل.

6 -

مشروعية الإشهاد على الصدقة الجارية؛ لقول الرجل -وهو سعد بن عبادة - في بعض روايات الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم: «أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ المِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا»

(1)

.

7 -

فضيلة سعد بن عبادة لبره بأمه.

8 -

الذي ذكر أنه سعد هو ابن عبد البر، كما في الفتح.

* * * * *

(1)

رواه البخاري (2762).

ص: 343

(1085)

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَحَسَّنَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَوَّاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ

(1)

.

(1086)

وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَزَادَ فِي آخِرِه:«إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الوَرَثَةُ»

(2)

، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.

* * *

هذا الحديث أصل في تحريم الوصية لوارث، وقد استُدل به على نسخ قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين (180)} [البقرة: 180].

والصواب أن الناسخ لآية البقرة آيات المواريث، والحديث مبين لذلك، وقال بعض العلماء: إن آية البقرة محكمة، لكن آيات المواريث مخصصة لها، والسلف يسمون التخصيص نسخًا.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الله هو المعطي وحده، كما في الحديث:«إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللهُ يُعْطِي»

(3)

، والعطاء من الله كوني وشرعي، والمذكور في الحديث هو الشرعي.

2 -

وجوب الرضا بقسمة الله للمواريث.

3 -

تحريم الوصية للوارث.

4 -

أن الوصية للوارث باطلة.

5 -

جواز إمضائها إذا رضي الباقون من الورثة.

(1)

أحمد (22294)، وأبو داود (3565)، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2713)، وابن الجارود في «المنتقى» (9049)، ينظر:«نصب الراية» (4/ 403).

(2)

الدارقطني (4150).

(3)

رواه البخاري (71)، ومسلم (1037)؛ عن معاوية رضي الله عنه.

ص: 344

6 -

أن الذي تحرم الوصية له هو الوارث بالفعل بعد الموت، فمن أوصى لغير وارث ثم صار وارثًا بطلت الوصية له، ومن أوصى لوارث ثم صار عند الموت غير وارث فيحتمل أن تصح له الوصية.

7 -

جواز الوصية لغير الوارث، وإن كان من الأقارب.

* * * * *

(1087)

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ؛ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ

(1)

.

(1088)

وأَخْرَجَهُ أحمَدُ، والبَزّارُ؛ مِنْ حَدِيْثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ

(2)

.

(1089)

وَابْنُ مَاجَهْ؛ مِنْ حَدِيْثِ أبي هُرَيْرَة

(3)

، وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ، لَكِنْ قَدْ يَقْوَى بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

* * *

هذا الحديث يشهد لصحة معناه حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم، فلو ضم إليه لكان أنسب في الترتيب، ومعنى:«تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ» أي: أباح لكم التصدق بثلث أموالكم وصية بعد الموت.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز الوصية بثلث فأقل.

2 -

أن الإنسان يثاب على التبرع بعد الموت.

3 -

أنه ليس للإنسان أن يوصي بأكثر من الثلث، ووجهه أن المقام مقام الامتنان، فلو كان يجوز بأكثر من الثلث لذكره.

4 -

أن جواز الوصية بالثلث فضلٌ من الله تعالى.

(1)

الدارقطني (4289).

(2)

أحمد (27482)، والبزار (4133).

(3)

ابن ماجه (2709).

ص: 345

5 -

أن الوصية بالثلث لا تجوز إلا فيما هو قربة؛ لقوله: «زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ» ، فمن جعل وصيته فيما لا ينفعه في الآخرة من مباح أو حرام وجب صرفها إلى ما هو قربة.

6 -

أن الإنسان ليس حرًّا في ماله يتصرف فيه كيف شاء، بل بإذنه تعالى.

7 -

حاجة العبد إلى زيادة حسناته.

8 -

نسبة التصدق إلى الله، وهو مختص بالعطاء الشرعي، فيشمل معناه جميع الرخص؛ كالقصر والفطر في السفر.

* * * * *

ص: 346

‌بَابُ الوَدِيعَةِ

(1090)

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانٌ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ

(1)

.

* * *

الوديعة: فعيلة بمعنى مفعولة، من الإيداع بمعنى الائتمان، وهي نوع من الأمانة، وهي مختصة بما يُدفع للإنسان لحفظه، بأجرة أو بغير أجرة، وفي حكم الوديعة كل ما أذن للإنسان التصرف فيه من مال غيره، أو كانت له ولاية عليه، والحديث وإن كان ضعيفًا فمعناه مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وهو أنه لا ضمان على المودَع إذا تلفت الوديعة إلا أن يتعدى أو يفرط، والتعدي فعل ما لا يجوز، والتفريط ترك ما يجب عليه. وكذلك كل أمانة إلا العارية، فقد اختلف في وجوب الضمان فيها، والصحيح وجوبه بالشرط. والله أعلم.

* * * * *

(1)

ابن ماجه (2401).

ص: 347

‌كِتَابُ النِّكَاحِ

ص: 349

لما كان المال وسيلة إلى النكاح ذكر الفقهاء أحكامه أولًا من كتاب البيع إلى الوديعة، فذكر كتاب النكاح بعد ذلك من ذكر الغاية بعد الوسيلة، وأصل النكاح في اللغة الضم والجمع، ويطلق النكاح في اللغة على الوطء وعلى العقد، ثم قيل: هو حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وقيل بالعكس، وقيل: هو حقيقة فيهما، والأمر في هذا سهل، وكل ما جاء من ذكر النكاح في القرآن فالمراد به العقد إلا قوله تعالى:{حَتَّىَ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، قيل: المراد به الوطء؛ لدلالة السنة على ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم:«حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»

(1)

، وقد يقال: المراد به في الآية العقد، والسنة قد دلت على اشتراط الوطء في حل المطلقة البائن لزوجها الأول.

والنكاح في الشرع عقد الزوجية الصحيح، وهو شريعة إلاهية وسنة كونية، جعلها الله سببًا في بقاء النوع البشري، وأهم مقاصد النكاح تحصين الفرج وغض البصر وتحصيل الذرية، والنكاح تجري فيه الأحكام الخمسة الوجوب والاستحباب والتحريم والكراهة والإباحة، ويأتي تفصيلها.

* * * * *

(1091)

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

(1)

رواه البخاري (2639)، ومسلم (1433)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

البخاري (1905)، ومسلم (1400).

ص: 351

هذا الحديث أصل في مشروعية النكاح، ويدل له من القرآن قوله تعالى:{وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تخصيص بعض المكلفين بالوصية بأمرٍ لمناسبة يختص بها، والمعشر الطائفة الذين يشتركون في وصف.

2 -

مشروعية النكاح لمن يحتاج إليه.

3 -

تأكد استحبابه أو وجوبه على الشباب لقوة الداعي عندهم، والشباب جمع شاب، وهو من حين البلوغ إلى سن الثلاثين، وقيل غير ذلك.

4 -

تقييد الأمر بالزواج بالاستطاعة، وهي القدرة على الباءة، والباءة فسرت بالقدرة على النكاح، والقدرة على كلف الزواج، والمعنى الثاني أظهر.

5 -

أن النكاح سبب لحفظ الفرج والبصر.

6 -

أن النكاح لا يعصم من الوقوع في الحرام، لكنه يعين على اجتنابه، فلا بد من مراقبة الله.

7 -

مشروعية الصوم لمن لم يستطع النكاح؛ لأن الصوم يكسر شهوته، كما يكسرها رضُّ الخصيتين، وهو الوجاء، وقطعهما هو الخصاء.

8 -

أنه لا يشرع لمن لم يستطع النكاح أن يقترض، ولا تباح له العادة السرية.

9 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم وبيانه، ويظهر ذلك في الحديث من أمور:

أ. تخصيص الشباب بالخطاب.

ب. تعليل الحكم؛ لقوله: «فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ» ، وقوله:«فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» .

ج. استعماله صلى الله عليه وسلم التشبيه.

د. ذكر ما يعوض عن المطلوب إذا تعذر.

* * * * *

ص: 352

(1092)

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ:«لَكِنِّي أَنَا أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في الاقتصاد في العبادة، وهو ما تضمنه هديه صلى الله عليه وسلم، ولهذا الحديث سبب، وهو أن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، الحديث، والمصنف اختصر القصة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

حرص الصحابة على الخير.

2 -

أنه ليس كل مريد للخير يصيبه.

3 -

أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بهديه في أحواله وعبادته في البيت.

4 -

مشروعية الخطبة لإنكار المنكر.

5 -

افتتاح الخطبة بحمد الله والثناء عليه.

6 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم قوله في الخطبة: «أما بعد» .

7 -

إبهام من يراد الإنكار عليه في الخطبة.

8 -

أن النكاح سنة، وهو من دأب المرسلين.

9 -

تحريم التبتل، وهو ترك النكاح مبالغة في العبادة.

10 -

إباحة أكل اللحم.

11 -

النهي عن تحريم الإنسان الحلال على نفسه، ويدل لذلك من القرآن قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ}

(1)

البخاري (5063)، ومسلم (1401).

ص: 353

[المائدة: 87]، أما تحريم الحلال مطلقًا على كل أحد فهو تغيير لشرع الله، وهو من أنواع الكفر.

12 -

بناء الشريعة على الاعتدال والتيسير في العبادة والأحكام.

13 -

أن من ترك سنته صلى الله عليه وسلم رغبة عنها وتفضيلًا لغيرها، فالرسول بريء منه.

14 -

أنه ليس من السنة قيام الليل كله دائمًا، ولا الصيام دائمًا.

* * * * *

(1093)

وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ، وَيَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ:«تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، إِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(1)

.

(1094)

وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ -أَيْضًا- مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ

(2)

.

* * *

هذا الحديث قد تضمن معناه الحديثان المتقدمان، فقوله:«يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ» أي: يأمر بالنكاح، وهو معنى حديث:«يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ»

(3)

، وقوله:«وَيَنْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ» أي: عن ترك النكاح على وجه التعبد، وقد تضمن معنى هذا النهيِ قوله صلى الله عليه وسلم:«وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»

(4)

.

وقد تقدم ذكر فوائد الحديثين. ومنها:

1 -

الترغيب في النكاح.

2 -

تحريم التبتل.

(1)

أحمد (12613)، وابن حبان (4028).

(2)

أبو داود (2050)، والنسائي (3227)، وابن حبان (4056).

(3)

حديث ابن مسعود رضي الله عنه في صدر الباب (1091).

(4)

هو حديث أنس رضي الله عنه السابق.

ص: 354

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، إِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ففيه فوائد؛ منها:

3 -

الترغيب في نكاح المرأة الودود، أي المتوددة لزوجها، ويعرف ذلك بما يذكر عنها وعن أهلها أو قريباتها.

4 -

أن تودد المرأة لزوجها مما يجلب السعادة لهما ودوام العشرة، مما يحقق الغاية من النكاح من التحصين وتحصيل الذرية.

5 -

الترغيب في نكاح الولود، وهي كثيرة الولادة، كما تفيده صيغة المبالغة، ويعرف ذلك بماضيها إن كانت ثيبا، وبقراباتها إن كانت بكرًا.

6 -

الحكمة من الترغيب في كثرة النسل، وهي تكثير أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

7 -

أن الذرية الصالحة هي مطلب عباد الله الصالحين، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان: 74].

8 -

أن ما يطلب من الرجل في هذا الحديث يطلب من المرأة، أي بأن تختار الرجل الصالح الودود المنجب، أي غير العقيم؛ لأن تكثير الأمة لا يحصل إلا بمراعاة أسبابه من الرجل والمرأة.

9 -

أن التسبب لكثرة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة النسل مع حسن التربية أو بالدعوة إلى الله هو مما يحبه النبي صلى الله عليه وسلم ويؤجر عليه العبد.

10 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعًا؛ لكثرة من آمن به في حياته، وبعد وفاته إلى قيام الساعة؛ حيث لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، كما يشهد لذلك حديث عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

11 -

تفاضل الأنبياء في الأتباع، وظهورُ فضل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم يوم القيامة.

12 -

أن الأوامر والنواهي تتفاضل؛ لقوله: «نَهْيًا شَدِيدًا» ، ويشهد لذلك قول أم عطية:«نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا»

(2)

.

* * * * *

(1)

البخاري (5378)، ومسلم (220) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (1278)، ومسلم (938).

ص: 355

(1095)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَعَ بَقِيَّةِ السَّبْعَةِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث خبر من النبي صلى الله عليه وسلم عن صفات المرأة الداعية إلى نكاحها في عادة الناس، وليس المراد ذكر الغايات الشرعية من صفات المرأة إلا الدين.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من أهم صفات المرأة الداعية إلى نكاحها هذه الخصال الأربع.

2 -

أن أهم هذه الخصال عند أكثر الناس المال.

3 -

أن من الناس من يفضل الحسب، وهو شرف بيت المرأة، وكرم أرومتها.

4 -

أن من الناس من يفضل في المرأة جمالها.

5 -

أن ذات الدين -أي المرأة الصالحة- هي المفضلة في الشرع.

6 -

أنه إذا تيسر اجتماع بعض الصفات المتقدمة أو كلها مع الدين كان ذلك خيرًا إلى خير.

7 -

جواز الدعاء غير المقصود على المخاطب لتأكيد الأمر أو النهي؛ لقوله: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» . أي لصقت بالتراب، ولا نالت شيئًا، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:«ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ»

(2)

، وقوله لصفية:«عَقْرَى حَلْقَى»

(3)

.

(1)

البخاري (5090)، ومسلم (1466)، وأحمد (9521)، وأبو داود (2047)، والنسائي (5318)، وابن ماجه (1858)، ورواه الترمذي (1086) لكن عن جابر رضي الله عنه.

(2)

رواه أحمد (22068)، والترمذي (2616)، وابن ماجه (3973).

(3)

البخاري (1771)، ومسلم (1211)(387).

ص: 356

8 -

أن من حسن البيان والتعليم الإجمال ثم التفصيل.

* * * * *

(1096)

وَعَنْهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا رَفَّأَ إِنْسَانًا إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، والأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في تهنئة حديث العهد بالعرس، والدعاءِ له، وهذا هو المراد بقوله:«إِذَا رَفَّأَ إِنْسَانًا إِذَا تَزَوَّجَ» ، وكان أهل الجاهلية يقولون لحديث العهد بالزواج: بالرِّفاء والبنين، أي ظفرت بالالتئام وجمع الشمل من رفَأَ الثوب، فأغنى الله المسلمين عن الترفئة الجاهلية بالترفئة النبوية، كما أغناهم عن تحية الجاهلية: عم صباحًا بتحية الإسلام: السلام عليكم.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم ترفئة حديث العهد بالزواج.

2 -

استحباب الدعاء للمتزوج، وإن لم يدخل بزوجته.

3 -

استحباب هذا الدعاء النبوي.

4 -

أن الدعاء يكون بصيغة الخبر.

5 -

أن هذا الدعاء من جوامع الكلم.

6 -

الدعاء للزوجين وإن كان المخاطب أحدهما.

7 -

تضمن الدعاء ثلاثة أمور:

(1)

أحمد (8956)، و (8957)، وأبو داود (2130)، والترمذي (1091)، والنسائي في «الكبرى» (10017)، وابن ماجه (1905)، وابن حبان (4052).

ص: 357

أ. حصول البركة للزوجين في عرسهما، وهذا يتضمن أن يكون العرس سببًا لخير كثير لهما في الدين والدنيا.

ب. حلول البركة على كل من الزوجين حتى يكون كل منهما مباركًا على صاحبه.

ج. اجتماعهما في خير من الله تعالى.

* * * * *

(1097)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم التَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» ، وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ والأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث تضمَّن أصحَّ ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ألفاظ الحمد والثناء في الخطبة؛ فإن أكثر ما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب فحمد الله وأثنى عليه، ولعل ما ذكر في هذا الحديث تفسير لما أجمل في غيره، ويؤيد ذلك ما رواه مسلم من حديث ابن عباس في قصة ضماد بلفظ قريب مما هنا

(2)

، وتسمى هذه الخطبة: خطبة الحاجة، كما قال ابن مسعود، ويدل على عظم شأنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمها أصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن.

ومن أهم الحاجات عقد النكاح؛ لأنه ليس كسائر العقود؛ إذ تبنى عليه أهم علاقة بين إنسانين، فعلى هذا العقد ينبني وجود الأسرة اللبنة الأولى للمجتمع،

(1)

أحمد (3720)، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي (3277)، وابن ماجه (1892)، والحاكم (2744).

(2)

مسلم (868).

ص: 358

وقد نوَّه الله بأول نكاح نشأت عنه البشرية في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء} [النساء: 1] ونوَّه كذلك بإنعامه على عباده بنوع هذه العلاقة فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21].

ولذلك درج العلماء على قراءة هذه الخطبة عند عقد النكاح وقراءة الآيات، ولهذا ذكر الحافظ هذا الحديث في كتاب النكاح، وقد سبقه إلى هذا بعض المصنفين في السنة، ويدل على عظم شأن هذه الخطبة أنها تضمنت أنواع التوحيد والشهادتين والإيمان بالقدر.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كل ما فيه صلاح دينهم ودنياهم.

2 -

تسمية الشيء بأهم ما تضمنه؛ لقوله: «عَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ» .

3 -

فضل هذه الخطبة.

4 -

استحباب قراءتها عند عقد النكاح، وعند التحدث في كل أمر له شأن.

5 -

استحباب قراءة الآيات الثلاث بعد الخطبة، وهي:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، وقوله:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية [النساء: 1]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70 - 71] الآية.

وفي الخطبة فوائد؛ منها:

1 -

إثبات الحمد كله لله، وهو يتضمن إثبات جميع صفات الكمال.

2 -

استحباب حمد العبد لربه واستعانته واستغفاره واستعاذته به.

3 -

الاستعاذة بالله من شر النفس وسيء العمل.

ص: 359

4 -

أنهما أخطر شيء على الإنسان، قال فيهما ابن القيم:

وَسَلِ العِيَاذَ مِنْ اثْنَتَيْنِ هُمَا اللَّتَا *

نِ بهُلْكِ هَذَا الخَلْقِ كَافِلَتَانِ

شَرُّ النُّفُوسِ وَسَيِّءُ الأَعْمَالِ مَا *

واللهِ أعْظَمُ مِنْهُمَا شَرَّانِ

وَلقَدْ أَتَى هَذَا التَّعَوُّذُ مِنْهُمَا *

فِي خُطْبَةِ المَبْعُوثِ بِالفُرْقَانِ

(1)

5 -

أن النفس الأمارة بالسوء شر على صاحبها.

6 -

أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

7 -

أنه تعالى المتفرد بالهدى والإضلال، {يُضِلُّ مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء} [النحل: 93].

8 -

إثبات القدر، من قوله:«مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ» .

9 -

فقر العبد لربه في جميع أموره.

10 -

إثبات صفة المغفرة.

11 -

إثبات كمال ربوبيته، من قوله:«نَسْتَعِينُهُ» وما بعده.

12 -

استحباب تضمين الخطبة الشهادتين.

13 -

إثبات الإلهية لله وحده، والعبودية والرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم.

14 -

أن الإقرار بالعبودية والرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هي الصراط المستقيم، فلا إفراط ولا تفريط.

15 -

تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بإضافة العبودية والرسالة إليه سبحانه.

16 -

أن من رحمة الله بعباده إرسال الرسل، وقد نص تعالى على ذلك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين (107)} [الأنبياء: 107].

17 -

أن الدعاء تصح فيه النيابة، بخلاف الإقرار بالشهادتين، ولهذا جمع الضمير في جمل الدعاء، وأفرده في الشهادتين.

(1)

نونية ابن القيم «الكافية الشافية» (3/ 875).

ص: 360

(1098)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا، فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

(1099)

وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ

(2)

.

(1100)

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ، وَابْنِ حِبَّانَ: مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ

(3)

.

(1101)

وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً: «أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا»

(4)

.

* * *

هذه الأحاديث أصل في نظر الخاطب إلى المخطوبة، فيخص بها ما ورد من تحريم النظر إلى النساء الأجنبيات.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

إباحة خطبة الرجل المرأة بنفسه أو بغيره، رجلًا كان أو امرأة.

2 -

استحباب نظر الخاطب إلى المخطوبة.

3 -

جواز أن ينظر الخاطب من المخطوبة إلى كل ما يظهر من وجهها وشعرها ونحرها وقدِّها وساقها وقدمها؛ لقوله: «إلى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا» .

4 -

أن هذا النظر ليس بواجب.

5 -

الحكمة من الندب إلى النظر إلى المخطوبة.

6 -

أن محاسن المرأة من دواعي الرغبة فيها.

(1)

أحمد (14586)، أبو داود (2082)، والحاكم (2696).

(2)

الترمذي (1087)، والنسائي في «الكبرى» (5328).

(3)

ابن ماجه (1864)، وابن حبان (4042).

(4)

مسلم (1424).

ص: 361

7 -

وجوب الاقتصار في النظر على موضع الرخصة.

8 -

أن النظر فعل.

9 -

تحريم النظر إلى النساء الأجنبيات.

10 -

تثبت الإنسان في الأمر الذي يريد الدخول فيه، سدًّا لباب القلق والندم.

11 -

كمال نصحه صلى الله عليه وسلم.

12 -

كمال دين الإسلام.

وفي الحديث الثاني:

1 -

التعبير بالفعل عن الإرادة، في قوله:«تَزَوَّجَ» .

2 -

استحباب الاستفصال في مقام الاحتمال.

3 -

جواز قول الإنسان (لا) للسائل.

4 -

الأمر بالنظر إلى المخطوبة، والجمهور على أنه للاستحباب، وأفضل طريقة لتحقيق النظر أن يترصد الخاطب للمرأة فيراها وهي لا تعلم، كما قال جابر رضي الله عنه:«كُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا»

(1)

، وإذا أعان أهل المرأة على ذلك كان حسنًا، وإن كان بترتيب لقاء من غير خلوة ولا تطويل فلا بأس. والله أعلم.

* * * * *

(1102)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَخْطُبْ بَعْضُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(2)

.

* * *

(1)

هو تمام الحديث السابق.

(2)

البخاري (5142)، ومسلم (1412).

ص: 362

هذا الحديث أصل في تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه، وتحريم العدوان على حقوقه.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن أخوة الإسلام أوثق الروابط بين المسلمين.

2 -

وجوب مراعاة هذه الأخوة.

3 -

جواز أن يخطب الرجل بنفسه أو بغيره.

4 -

تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه إذا علم بخطبته.

5 -

جواز ذلك إذا أذن الخاطب الأول أو ترك الخطبة.

6 -

أن الخاطب الثاني إذا لم يعلم بالأول فلا حرج عليه، كما يدل لذلك حديث فاطمة بنت قيس، حيث ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه خطبها معاوية وأبو جهم رضي الله عنهما

(1)

.

* * * * *

(1103)

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَهَبُ لَكَ نَفْسِي، فَنَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، قَالَ:«فَهَلْ عِنْدكَ مِنْ شَيْءٍ؟» ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ:«اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟» فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» ، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي، -قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ- فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ

(1)

رواه مسلم (1480).

ص: 363

اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ» ، فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ، فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَدُعِيَ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ:«مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟» ، قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا، فَقَالَ:«تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟» ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«اذْهَبْ، فَقَدَ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

(1104)

وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «انْطَلِقْ، فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ»

(2)

.

(1105)

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «أَمْكَنَّاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»

(3)

.

(1106)

ولأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «مَا تَحْفَظُ؟» ، قَالَ: سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَ:«قُمْ، فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً»

(4)

.

* * *

هذا الحديث يعرف بحديث الواهبة، أي المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وجواز هبة المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم بلا ولي ولا صداق هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم، كما قال:{وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50]، أي: وأحللنا لك امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها، وهو عطف على قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50].

وفي الحديث فوائد كثيرة؛ منها:

1 -

جواز هبة المرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

جرأة هذه المرأة في إعلانها هبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم أمام الحضور، وهي قائمة، والذي جرأها على ذلك أمران:

1 -

ما تعلمه من جواز ما فعلت بنصِّ القرآن.

(1)

البخاري (5030)، و (5087)، ومسلم (1425).

(2)

مسلم (1425).

(3)

البخاري (5121).

(4)

أبو داود (2112).

ص: 364

2 -

أنه لا غضاضة عليها أن تعلن ذلك؛ لأن الموهوب له الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الحظ لها لو قبلها.

3 -

جواز النظر إلى المخطوبة وتكراره؛ لأن الواهبة كالمخطوبة.

4 -

جواز ردِّ الهبة قبل قبضها.

5 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل من المرأة هبتها نفسها له.

6 -

الدلالة على الردِّ بالفعل.

7 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم حيث لم يردها صريحًا بالقول.

8 -

فضل هذه المرأة، وذلك: أ. بهبة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم رغبة في قربه لا طمعًا في الدنيا، ولذا رضيت بتزوج الفقير. ب. تولي النبي صلى الله عليه وسلم إنكاحها الرجل.

9 -

كرم النبي صلى الله عليه وسلم على ربه حيث أباح له من النكاح ما لم يبح لغيره.

10 -

الرد على الملحدين الطاعنين في النبي صلى الله عليه وسلم في أمر النكاح، وذلك أنه لا يعرف أنه تزوج امرأة بطريق الهبة مع أنه مباح له.

11 -

جواز خطبة المرأة الواهبة.

12 -

جواز أن يتولى النبي صلى الله عليه وسلم تزويج الواهبة من يرضاه لها، فكأنها قد جعلت أمرها إليه، بل يمكن أن يقال: فيه جواز أن يتولى النبي صلى الله عليه وسلم تزويج أي امرأة ممن ترضاه ويرضاه لها، فهو أولى بها من وليها؛ لقوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6].

13 -

وجوب الصداق في النكاح، فإن سمي عند العقد، وإلا وجب مهر المثل.

14 -

أنه لا حد لأقله.

15 -

أن الأصل أن يكون الصداق مالًا، كما قال تعالى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} [النساء: 24].

ص: 365

16 -

جواز أن يكون الصداق منفعة؛ كتعليم العلوم النافعة المباحة، وكالخدمة في رعي الغنم، كما في قصة موسى مع صاحب مدين.

17 -

جواز أن يكون الصداق تعليم شيء من القرآن.

18 -

أنه يجب على الزوج تسليم المهر؛ لقوله: «فعلِّمْها» .

19 -

أن الإيجاب في النكاح لا يختص ب (زوجت وأنكحت)، بل بأي لفظ يدل عليه، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية، وقرره؛ لقوله في الحديث:«مَلَّكْتُكَهَا» ، كما هو الشأن في سائر العقود

(1)

، والله أعلم.

20 -

جواز التختم بالحديد.

21 -

جواز القَسَم من غير طلب.

* * * * *

(1107)

وَعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَعْلِنُوا النِّكَاحَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(2)

.

* * *

الإعلان ضد الإسرار والإخفاء، ويشهد لهذا الحديث حديث:«فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ»

(3)

، وبه تظهر حكمة الإعلان.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية إعلان النكاح بأي وسيلة من ضرب بالدف وصنع وليمة واجتماع، أو غير ذلك مما تجري به عادة الناس، وقد اختلف العلماء في حكم الإعلان؛ فقيل: مستحب، وبه يقول من يشترط شاهدين، وهم الجمهور، وقيل

(1)

«مجموع الفتاوى» (22/ 16).

(2)

أحمد (16130)، والحاكم (2748).

(3)

رواه أحمد (15451)، والترمذي (1088)، وابن ماجه (1896)؛ عن محمد بن حاطب رضي الله عنه.

ص: 366

بوجوب الإعلان، وبه يصح النكاح، ولو لم يكن شاهدان عند العقد، وقال شيخ الإسلام:«يكفي في إعلان النكاح الشهادة عليه عند طائفة من العلماء، وطائفة أخرى توجب الإشهاد والإعلان»

(1)

، ولا ريب أن الإعلان آكد من الشاهدين؛ لأنه أبلغ في إظهار النكاح، وأما حديث:«لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» فضعيف

(2)

.

2 -

أن للإعلان فوائد؛ منها:

أ. اتباع السنة.

ب. تمييز النكاح عن السفاح.

ج. إظهار السرور.

د. دعوة الشباب للاقتداء.

هـ. ظهور ما قد يكون مانعًا من النكاح من رضاع ونحوه.

* * * * *

(1108)

وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ وصَحَّحَهُ ابْنُ المدِينِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وأُعلَّ بالإِرْسَالِ

(3)

.

(1109)

وروى الإمام أحمد عن الحسن عن عمران بن الحصين مَرْفُوعًا: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ»

(4)

.

(1)

«مجموع الفتاوى» (32/ 94).

(2)

ينظر: «مجمع الزوائد» (4/ 286)، و «التلخيص الحبير» (1618)، و «نصب الراية» (3/ 167).

(3)

أحمد (19518)، وأبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881)، وابن حبان (4077)، ولم يروه النسائي.

(4)

عزاه إلى أحمد الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/ 286)، ولم نجده في المطبوع من «المسند» .

ص: 367

(1110)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث هي عمدة الجمهور في اشتراط الولي في عقد النكاح، وهذه الأحاديث وإن لم تبلغ درجة الصحة فإنه يشد بعضها بعضًا، مع ما يشهد لها من القرآن.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم النكاح من غير ولي وبطلانُه؛ لأن قوله: «لَا نِكَاحَ» إما نفي بمعنى النهي، فيفيد التحريم، أو خبر بنفي الصحة، فيفيد البطلان.

2 -

اشتراط الولي في عقد النكاح، والولي هو القريب، وأقرب الناس إلى المرأة أبوها، ثم من بعده من عصبتها، وولاية النكاح تفيد أن الإيجاب يكون من قبله.

3 -

أن اشتراط الولي في النكاح من محاسن الإسلام؛ لما فيه من صيانة كرامة المرأة؛ لأن توليها إنكاح نفسها يزري بها، ويجعل بها شبها بالزانية، فإن الزانية هي التي تُنكح نفسها، كما جاء عن أبي هريرة من قوله رضي الله عنه

(2)

. ومن حكمة اشتراط الولي؛ أن المرأة في الغالب لا تعرف مصلحة نفسها، ولا تعرف من يخطبها، فالولي ينظر لها ويختار لها الكفء.

(1)

أبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879)، ومسند أبي عوانة (4259)، وابن حبان (4074)، والحاكم (2709).

(2)

ينظر: «سنن الدارقطني» (4/ 327).

ص: 368

4 -

أن من شرط النكاح شاهدين عدلين، ومن حكمة ذلك إعلان النكاح بأقل ما يمكن، وهو الشاهدان، فلو تواطؤوا على كتمانه بطل.

5 -

تحريم تزويج المرأة للمرأة.

6 -

بطلان نكاح المرأة بغير إذن وليها.

7 -

أن أولياء المرأة إذا اختلفوا وجب رفع الأمر إلى السلطان، وهو القاضي ليحكم بينهم، أو يتولى عقد النكاح.

8 -

أن من لا ولي لها من عصباتها فوليها السلطان.

9 -

أن من كان أقرب من العصبة فهو أحق بولاية النكاح.

10 -

اشتراط الإسلام في ولاية النكاح؛ لأن الكافر لا ولاية له على المسلم، فلا يزوج الكافر ابنته المسلمة.

11 -

أن من تزوجت بغير وليٍّ فدخل بها الزوج، فلها المهر بما استحل من فرجها، وإن لم يدخل بها فلا شيء لها.

12 -

أن ولي المرأة لو وكل من يزوجها فالنكاح صحيح.

* * * * *

(1111)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ:«أَنْ تَسْكُتَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1112)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1113)

وفي لفظ: «لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(3)

.

(1)

البخاري (5136)، ومسلم (1419).

(2)

مسلم (1421).

(3)

أبو داود (2100)، والنسائي (5354)، وابن حبان (4089).

ص: 369

(1114)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في اشتراط رضا المرأة في النكاح، فلذلك وجب استئذانها.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الأيِّم -وهي الثيِّب - لا تُزوَّج حتى تستأذن فتأذن، قولا، وقوله:«لَا تُنْكَحُ» ، خبر بمعنى النهي وهو أبلغ من صريح النهي لما فيه من الاعتناء بشأن المنهي عنه، وتأكد طلب امتثاله حتى كأنه امتُثل وأخبر عنه.

2 -

أن البكر لا تزوج حتى تستأذن فتأذن، وإذنها سكوتها، ولو أذنت بالقول كان أبلغ.

3 -

اشتراط رضى المرأة في النكاح، بكرًا كانت أو ثيبًا.

4 -

أن الأب ليس له أن يجبر ابنته البكر، وهذا مذهب الجمهور، وقال آخرون: بل له أن يجبرها، وليس ذلك إلا للأب.

وفي الحديث الثاني والثالث:

1 -

أن الثيب تختار لنفسها، ويزوجها وليها بعد إذنها.

2 -

أن البكر يختار لها وليها، لكن لا يزوجها إلا بعد استئذانها وإذنها.

وفي الحديث الرابع:

1 -

تحريم أن تزوج المرأةُ المرأة، قريبة منها أو أجنبية، ولو أذن الولي، فلا يتولى العقد إلا الولي أو نائبه.

2 -

تحريم أن تزوج المرأة نفسها، يؤكد ذلك ما سبق أنه لا نكاح إلا بولي.

(1)

ابن ماجه (1882)، والدارقطني (3535).

ص: 370

3 -

حكمة الشريعة في التفريق بين الأحوال المختلفة.

4 -

الفرق بين ولاية الرجل والمرأة في تولي عقد النكاح، والرد على دعاة التسوية بين الرجل والمرأة، وإبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من ظلم المرأة.

* * * * *

(1115)

وَعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشِّغَارِ» ، وَالشِّغَارُ: أَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الآخَرُ ابْنَتَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا صَدَاقٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

، وَاتَّفَقَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَلَى أَنَّ تَفْسِيرَ الشِّغَارِ مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في تحريم الشغار، فالشغار نوع من الأنكحة المحرمة، وهو باطل، قيل: سمي شغارًا من شغَر المكان بمعنى خلا، فسمي هذا النكاح شغارًا لخلوه عن الصداق، كما جاء في تفسير نافع رحمه الله، وقيل: من شَغَر الكلب رجله، أي رفعها ليبول، لأن كلًا من الرجلين يأخذ برجل صاحبته.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم نكاح الشغار.

2 -

أنه باطل.

3 -

سد ذرائع الظلم والفساد والنزاع.

4 -

أن من الظلم أن ينظر الولي من تزويج موليته إلى مصلحة تختص به، من غير مراعاة لمصلحتها.

5 -

أنه إذا فرض لكل من المرأتين صداق مثلها جاز هذا النكاح، وهذا مبني على تفسير ابن عمر أو نافع للشغار، وإلى هذا ذهب الجمهور، وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن فرض الصداق لكل من المرأتين لا يخرجه عن

(1)

البخاري (5112)، ومسلم (1415).

ص: 371

حكم التحريم، لأن التفسير المذكور لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم، فما هو إلا رأيٌ، وقد رجح التحريم مطلقًا من المتأخرين شيخنا الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله، في رسالة له في الأنكحة المحرمة

(1)

. وعليه؛ فمتى شُرط نكاح إحداهما بنكاح الأخرى بطل.

* * * * *

(1116)

وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ؛ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وأُعِلَّ بالإِرْسَالِ.

* * *

هذا الحديث من أدلة اعتبار رضا المرأة بمن تُزوجه، وهو مناسب لأحاديث استئذان المرأة المتقدمة، وله مناسبة لحديث النهي عن الشغار؛ لأنه مظنة لعدم رضا المولية، وإن فُرض لها صداق.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

اعتبار رضا المرأة في النكاح.

2 -

أنه ليس للأب أن يجبر ابنته على النكاح.

3 -

أن الأب إذا أكره ابنته فالنكاح صحيح.

4 -

أنه إذا وقع ذلك فلها الخيار، فإن شاءت أمضت النكاح، وإن شاءت فسخته، ومن يقول من العلماء بأن للأب إجبار ابنته البكر البالغة لا يجعل لها الخيار، بل يجب عليها السمع والطاعة إلا أن يزوجها بغير كفء لها.

5 -

صحة تصرف الفضولي بإجازة صاحب الشأن.

6 -

إنصاف الشريعة للمظلوم، ولو كان الظالم من أقرب الناس.

* * * * *

(1)

موجودة في مجموع فتاوى الشيخ (20/ 296).

ص: 372

(1117)

وَعَنِ الحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ، فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في اعتبار السبق -وجوبًا - في العقود اللازمة كالنكاح والبيع، والعقود المباحة كإحياء الموات، واستحبابًا فيما سوى ذلك من العقود وغيرها.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الذي يزوج المرأة وليها.

2 -

أن أولياء المرأة قد يستوون في حق ولاية المرأة؛ كالإخوة الأشقاء، أو الإخوة لأب.

3 -

أن المرأة لو زوجها وليَّان، كلٌّ منهما زوجها من رجل، فهي لمن تقدم عقده عليها، وعقد الآخر باطل؛ لأنه لم يصادف محلا، ولو فرض أن وقع العقدان في لحظة واحدة بطلا؛ وكذا إذا لم يتبين السابق منهما، لأنه لا فضل لأحدهما على الآخر، ولا يمكن إنفاذهما، وعلى الزوجين حينئذ أن يطلقا لرفع الاشتباه.

وقيل: يفسخ الحاكم نكاحهما، وقيل: يقرع بينهما، وتكون المرأة لمن وقعت له القرعة. وينبغي هنا أن يؤمر كلٌّ من الزوجين بالطلاق، ويعقد لمن عينته القرعة. وهذا يتصور فيما لو أذنت المرأة لوليين في أن يزوجها كلٌّ منهما من يرضاه لها، وفي هذه الحال لا ينبغي لواحد منهما أن يزوِّج حتى يؤذِن الآخر، دفعًا للاختلاف.

* * * * *

(1)

أحمد (20208)، وأبو داود (2088)، والترمذي (1110)، والنسائي في «الكبرى» (5376)، وابن ماجه (2344).

ص: 373

(1118)

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ أَوْ أَهْلِهِ، فَهُوَ عَاهِرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، وَكَذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

هذا الحديث من أدلة منع العبد من التصرف بنفسه أو مال سيده، وكذلك الأمة إلا بإذن السيد؛ لأن الرقيق مملوك.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن العبد لا يتصرف إلا بإذن سيده.

2 -

أنه لا يتزوج إلا بإذنه.

3 -

أنه إن تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر، أي زانٍ، كما قال صلى الله عليه وسلم:«وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»

(2)

.

4 -

أن نكاحه لا يصح، فإن فعل وجب عليه مفارقة الزوجة، والتوبة من ذلك، ويلحق به النسب؛ لأن وطأه وطء شبهة، وقيل: يصح بالإجازة، والمراد بالموالي السيد وأهله، فإنه في العادة قد ينوب بعضهم عن بعض، وقد يراد بالموالي السيد خاصة، فيكون من التعبير بالجمع عن الواحد.

* * * * *

(1)

أحمد (14212)، وأبو داود (2078)، والترمذي (1111)، و (1112)، ولم أجده عند ابن حبان.

(2)

رواه البخاري (6750)، ومسلم (1458)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه البخاري أيضًا (2218)، ومسلم (1457)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 374

(1119)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث من أدلة التحريم بالمصاهرة تحريمًا مؤقتًا، كقوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، وأجمع العلماء على معنى هذا الحديث، وهو يدل على أن من نكح امرأة حرم عليه أربع من قريباتها، وهنَّ: عمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها، كما تحرم أختُها بالقرآن، فإذا طلقها وبانت منه أو ماتت حللن له، والله أعلم.

ومن الحكمة في هذا التحريم أن الجمع بين هذه القرابات القريبة يؤدي إلى القطيعة بينهن، ولهذا جاء في الحديث:«فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ»

(2)

، والحديث من أدلة قاعدة سد الذرائع. فهذا الحكم من محاسن الإسلام، والحديث مخصص لعموم قوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاء ذَلِكُمْ} .

وقد ذكر الفقهاء قاعدة لمن يحرم الجمع بينهن، فقالوا: يحرم الجمع بين كل امرأتين لو كانت إحداهما ذكرًا حرمت عليه الأخرى إلا المرأة وربيبتها، فإنه يجوز الجمع بينهما.

* * * * *

(1120)

وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، وَلَا يُنْكِحُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

. وَفِي رِوَايَةٍ له: «وَلَا يَخْطُبُ» .

(1121)

وَزَادَ ابْنُ حِبَّانَ: «وَلَا يُخْطَبُ عَلَيْهِ»

(4)

.

(1)

البخاري (5109)، ومسلم (1408).

(2)

الطبراني في «الكبير» (11931)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

مسلم (1409).

(4)

ابن حبان (4124).

ص: 375

(1122)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1123)

وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ مَيْمُونَةَ نَفْسِهَا؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث تتعلق بنكاح المحرم، وحديث عثمان هو الدليل على أحد محظورات الإحرام، وهو عقد النكاح، وتحريم الخطبة.

وفيه فوائد؛ منها:

1 -

تحريم عقد النكاح على المحرم، ويدخل في ذلك عقد المحرم لنفسه، والعقد على المحرمة، وعقد المحرم لموليته الحلال.

2 -

تحريم الخطبة من المحرم بنفسه أو وكيله، وقيل: تكره.

3 -

تحريم الخطبة إلى المحرم، كما في الرواية عند ابن حبان، وفيها مقال.

4 -

أن عقد النكاح وسيلة إلى الوطء، وهو الرفث، وهو محرم في الإحرام، ففي الحديث شاهد لقاعدة سد الذرائع.

وأما حديث ابن عباس فهو معارض لحديث عثمان؛ فإن ظاهره جواز نكاح المحرم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أسوة لأمته، ويحتمل أن يكون ذلك من خصائصه، ولكن حديث ابن عباس معارَض بحديث ميمونة وأبي رافع:«أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ»

(3)

، والتعارض بينهما لا يمكن فيه الجمع ولا النسخ، فوجب الترجيح، وقد رجح جمهور العلماء حديث ميمونة وأبي رافع بوجوه:

أ. أن ميمونة صاحبة القصة، فهي أعلم بحالها.

ب. أن أبا رافع هو السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة.

(1)

البخاري (1837)، ومسلم (1410).

(2)

مسلم (1411).

(3)

رواه أحمد (27197)، والترمذي (841).

ص: 376

ج. أن ابن عباس كان صغيرًا، فلا يدرك حقيقة الحال، فمن العلماء من عدَّ هذا وهما من ابن عباس، ومنهم من تأول قوله:«وَهُوَ مُحْرِمٌ» ، أي في الحرم أو في الشهر الحرام، فأشبه أنه وهم منه رضي الله عنه.

د. أن حديث ميمونة وأبي رافع مناسب لحديث عثمان رضي الله عنهم.

* * * * *

(1124)

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ؛ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث دليل على الوفاء بالشروط في العقود، وهو من الوفاء بالعقود، وقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز الشروط في العقود في الجملة.

2 -

وجوب الوفاء بالشروط في العقود، إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، كما في الحديث المشهور:«الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا»

(2)

.

3 -

الرد على من ضيق في ذلك من أهل المذاهب.

4 -

تأكيد الوفاء بالشروط في النكاح، ومنها الصداق المسمَّى، فيجب بذله للمرأة كاملًا، إلا ما طابت به نفسها، كما قال تعالى:{وَآتُوا النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4)} [النساء: 4].

5 -

غلظ عقد النكاح، كما قال تعالى:{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظًا (21)} [النساء: 21].

(1)

البخاري (2721)، ومسلم (1418).

(2)

رواه الترمذي (1352)؛ عن عمرو بن عوف رضي الله عنه ابن حبان (5090)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 377

6 -

أن الأصل في الفروج التحريم، فلا تحل إلا بعقد النكاح الصحيح أو بملك اليمين، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُون (31)} [المعارج: 29 - 31].

7 -

توسعة الشريعة في الشروط في العقود.

8 -

أن من كمال الشريعة وشمولها اشتمالَها على أحكام العقود التي تكون بين الناس.

* * * * *

(1125)

وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ نَهَى عَنْهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1126)

وَعَنْ عَلَيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ المُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1127)

وعنه رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ. أَخْرَجَهُ السَّبْعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُدَ

(3)

.

(1128)

عَنْ رَبِيعِ بْنِ سَبُرَةَ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ، أَلَا وَإِنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَيْءٌ فَلْيُخْلِ سَبِيلَهَا، وَلَا تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وأبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وأَحمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ

(4)

.

(1)

مسلم (1405)(18).

(2)

البخاري (5115)، ومسلم (1407).

(3)

البخاري (4216)، ومسلم (1407)، وأحمد (592)، والترمذي (1121)، والنسائي في «الكبرى» (4828)، وابن ماجه (1961).

(4)

مسلم (1406)، وأبو داود (2073)، والنسائي في «الكبرى» (5525)، وابن ماجه (1962)، وأحمد (15349)، وابن حبان (4146) و (4147).

ص: 378

هذه أربعة أحاديث في حكم متعة النساء، وهي النكاح المؤقت بمدة معلومة، وقد تضمنت الأحاديث الرخصة فيها مرتين؛ مرة قبل غزوة خيبر، ومرة في غزوة أوطاس، وتضمنت الأحاديث تحريمها ثلاث مرات؛ مرة يوم خيبر، كما في حديث علي، ومرة في أوطاس، كما في حديث سلمة، والثالثة تحريمها تحريمًا مؤبدًا في حجة الوداع، كما في حديث سَبُرة بن معبد، وقد ذهب جمهور الصحابة إلى ما دل عليه حديث سبرة، وجاء عن ابن عباس أنه رخص فيها، وقيل: إنه رجع عن ذلك، وقد استقر أمر الأمة على تحريمها، وانفردت الرافضة بإباحتها، بل بتعظيمها والتعبد بها، وهذا من مخازيهم.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز النسخ مرتين.

2 -

تحريم المتعة يوم خيبر.

3 -

أن المتعة كانت حلالًا قبل ذلك.

4 -

الرخصة فيها يوم أوطاس.

5 -

تحريمها بعد ثلاثة أيام.

6 -

تحريمها تحريمًا مؤبدًا في حجة الوداع، وقيل: عام الفتح، فيكون تأكيدًا لتحريمها في أوطاس، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أباحها إباحة ثالثة، ثم حرمها تحريمًا مؤبدًا، لقوله:«إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ» .

7 -

أن المتعة حرام إلى يوم القيامة، فهي من الأنكحة الباطلة.

8 -

وجوب المبادرة إلى ترك الحرام بعد العلم بتحريمه.

9 -

أن من عقد عقدًا فاسدًا فالواجب تركه؛ ولا يحتاج إلى فسخ.

10 -

أن من وطئ امرأة بنكاح أو شبهة فلا يحل له أخذ شيء مما أعطاها.

ص: 379

11 -

تحريم النكاح بنية الطلاق؛ لأنه في معنى نكاح المتعة من حيث كونه موقتًا بالنية، والمفاسد التي حرمت المتعة من أجلها هي نفسها موجودة في النكاح بنية الطلاق، ويزيد هذا النكاح على المتعة بأنه فيه غشًّا للمرأة وأوليائها، وهو مستلزم لعدم شرط النكاح، وهو رضا الزوجة لو علمت حقيقة الحال.

* * * * *

(1129)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ والنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ

(1)

.

(1130)

وَفِي الْبَابِ: عَنْ عَلِيٍّ أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ

(2)

.

* * *

هذا الحديث من أدلة تحريم نكاح التحليل، وهو أن يتزوج الرجل المرأة البائن من زوجها بينونة كبرى، أي بعد الطلقة الثالثة، يتزوجها لا رغبة فيها، بل ليحلها لمطلقها، ولذا كان من شرط هذا النكاح إذا وطئها المحلل أن يطلقها، فإن كان هذا الشرط عند العقد فالنكاح باطل باتفاق العلماء، وإن كانوا تواطؤوا عليه، فالجمهور على تحريمه وبطلانه، وهو الصواب، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على تحريم نكاح التحليل، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم المحلِّل التيس المستعار

(3)

؛ لأنه ليس زوجًا في الحقيقة، فلذا شبهه بالتيس المستعار لينزو على الأنثى من المعز.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم نكاح التحليل، وأنه باطل.

(1)

أحمد (4284)، والنسائي في «الكبرى» (5511)، والترمذي (1120).

(2)

أبو داود (2076)، والترمذي (1119)، وابن ماجه (1935).

(3)

رواه ابن ماجه (1936)؛ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.

ص: 380

2 -

أن المطلقة لا تحل بهذا النكاح لزوجها الأول.

3 -

أن التحليل من كبائر الذنوب.

4 -

أنه يشترك في إثم ذلك المحلِّلُ والزوجُ المحلَّل له والمرأةُ إذا تواطؤوا على ذلك.

5 -

أن نكاح التحليل أقبح من نكاح المتعة وأغلظ تحريما من وجوه:

أ. أنه لم يبح قط.

ب. أنه لم يقل بحله أحد من الصحابة.

ج. لعن فاعله والراضي به.

6 -

تحريم أن تتزوج المرأة ممن تريد أن يحلها، وهو لا يعلم، ثم تختلع منه.

7 -

تحريم الاحتيال لاستحلال الحرام.

8 -

في الحديث شاهد لقاعدة سد الذرائع.

* * * * *

(1131)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْكِحُ الزَّانِي الْمَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث دليل على تحريم نكاح الزاني إلا زانية، لا ينكح العفيفة، وقد دل على ذلك قوله تعالى:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِين (3)} [النور: 3]، وقوله:«الْمَجْلُودُ» أي الذي أقيم عليه حد الزنا، وليس لهذا القيد مفهوم، بل غير المجلود أولى بالنهي.

(1)

أحمد (8300)، وأبو داود (2052).

ص: 381

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم نكاح الزاني للعفيفة ما لم يتب.

2 -

تحريم نكاح العفيف للزانية ما لم تتب.

3 -

حل نكاح الزاني للزانية.

4 -

أن العفة طيب وطهر، والزنى قذارة وخبث.

5 -

مراعاة التجانس في النكاح بين الخبيثين والتجانس بين الطيبين، كما قال تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} الآية [النور: 26].

* * * * *

(1132)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَرَادَ زَوْجُهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:«لَا، حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

* * *

هذا الحديث أصل في أن المطلقة المبتوتة لا تحل لزوجها الأول حتى تنكح زوجًا غيره، ويطأها، وهو مفسر لقوله تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّىَ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وأن المراد بالنكاح في الآية الوطء، أو أن المراد بالنكاح في الآية العقد، والوطء شرط في إحلالها للأول.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز الطلاق في الإسلام.

(1)

البخاري (5261)، ومسلم (1433).

ص: 382

2 -

أن الرجل يملك ثلاث طلقات فقط، فإن كانت متفرقات والثانية بعد رجعة والثالثة بعد رجعة، حرمت المطلقة بعد الثالثة تحريمًا قطعيًا، وإن كانت بلفظ واحد، أو بألفاظ من غير رجعة، فجمهور الأمة على أنها تقع ثلاثًا، فتحرم المطلقة، ولا تحل للأول إلا بعد زوج، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن طلاق الثلاث بلفظ واحد أو متفرقًا من غير رجعة لا يقع إلا واحدة

(1)

، ومنهم من فرق بين ما إذا كانت الثلاث بلفظ واحد أو بألفاظ، فإن كانت بلفظ واحد وقعت واحدة، كما إذا قال: أنت طالق ثلاثًا، وإن كانت بألفاظ، كما إذا قال الزوج: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، ولم يرد التأكيد والإفهام وقعت ثلاثًا.

3 -

جواز أن تتزوج المرأة أكثر من رجل واحدًا بعد واحد بعد الفراق وانقضاء العدة.

4 -

اشتراط وطء الزوج الثاني في حلها لمطلقها الأول بعد طلاق الثاني وخروجها من العدة، وهو ما عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«لَا، حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ» .

5 -

أن لذة الاستمتاع لا تكون تامة إلا بالجماع.

6 -

أن من طرق البيان التشبيه، وأن العسل يشبه به في اللذة.

7 -

جواز اختصار الكلام، والاقتصار على (لا) إذا حصل به الإفهام.

8 -

الكناية عما يستحيا من ذكره إلا إذا دعت الحاجة إلى التصريح.

* * * * *

(1)

«مجموع الفتاوى» (33/ 72)، و «الفتاوى الكبرى» (3/ 225).

ص: 383

‌بَابُ الكَفَاءَةِ وَالخِيَارِ

الكفاءة في اللغة المماثلة، وكُفْءُ الشيء مثله، والكفاءة في النكاح المماثلة في الدين والنسب والحرية، والخيار في اللغة اسم مصدر من خيَّره واختاره، والمراد به خيار العيب الذي يثبت لأحد الزوجين إذا وجد في الآخر عيبًا.

* * * * *

(1133)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ، إِلَّا حَائِكًا أَوْ حَجَّامًا» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَفِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمَّ، وَاسْتَنْكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ

(1)

.

(1134)

وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْبَزَّارِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِسَنَدٍ مُنْقَطِعٍ

(2)

.

* * *

هذا الحديث ضعيف

(3)

، وإن كان قد احتج به بعضهم على عدم تزويج العربية بالمولى.

وفي الحديث -على فرض صحته - فوائد؛ منها:

1 -

أن العرب بعضهم أكفاء بعض وإن اختلفت قبائلهم، وأن الموالي بعضهم أكفاء بعض، وعند الفقهاء أن الكفاءة تعتبر للمرأة، فلا تزوج العربية بمولى.

(1)

لم نجده في «المستدرك» ، رواه البيهقي في «الكبرى» (13770)؛ من طريق الحاكم. ينظر:«العلل» لابن أبي حاتم (1236).

(2)

البزار (2677).

(3)

ذكر الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (1623) أن ابن أبي حاتم سأل عنه أباه فقال: هذا كذب لا أصل له. وقال في موضع آخر: باطل. وقال الدارقطني في «العلل» : لا يصح.

ص: 384

2 -

أن العربية لا تزوج بمولى، والمولى أحد معانيه العتيق، ويطلق على الأعجمي لمقابلة الموالي بالعرب.

3 -

أن الحياكة -وهي النسيج- والحجامة من الصناعات الناقصة، فلا تزوج العربية حجامًا ولا حائكًا، وإن كان عربيًّا، هذا معنى الاستثناء في الحديث، ويعارضه حديث:«أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ، وَانْكِحُوا إِلَيْهِ» الآتي.

* * * * *

(1135)

وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: «انْكِحِي أُسَامَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1136)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا بَنِي بَيَاضَةَ، أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ، وَانْكِحُوا إِلَيْهِ» . وَكَانَ حَجَّامًا. رواه أبُوْ دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ

(2)

.

(1137)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «خُيِّرَتْ بَرِيرَةُ عَلَى زَوْجِهَا حِينَ عَتَقَتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ

(3)

.

(1138)

وَلِمُسْلِمٍ عنها: أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَبْدًا

(4)

.

(1139)

وَفِي رِوَايَةٍ عنها: كَانَ حُرًّا

(5)

، وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ.

(1140)

وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ؛ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا

(6)

.

* * *

هذه الأحاديث دليل على عدم اشتراط الكفاءة في النكاح؛ كفاءة النسب والصناعة والحرية، فهذه فاطمة بنت قيس وهي قرشية، أشار عليها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنكح أسامة بن زيد وهو مولى، وهذا أبو هند وهو حجام، أرشد النبي صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوه، وأن يتزوجوا من بناته، وبريرة لما عتقت خيرها النبي

(1)

مسلم (1480).

(2)

أبو داود (2102)، والحاكم (2693).

(3)

البخاري (5097)، ومسلم (1504).

(4)

مسلم (1504)(13، 11).

(5)

مسلم (1504)(9).

(6)

البخاري (5280).

ص: 385

صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء مع زوجها، وكان عبدًا، على الصحيح من الروايات، وقد اقتصر الحافظ على طرف من حديث فاطمة وحديث عائشة في قصة بريرة مما يشهد للباب. وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث فاطمة رضي الله عنها:

1 -

الاستشارة في أمر النكاح.

2 -

فضل أسامة رضي الله عنه.

3 -

جواز تزويج القرشية من غير قرشي، بل من مولى.

4 -

أن على المستشار أن ينصح لمن استشاره، ولو خالف هوى المستشير.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

جواز حرفة الحجامة، وإن كانت دنيئة، وحل كسب الحجام، وإن كان مكروها، وقد صح قوله صلى الله عليه وسلم:«كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ»

(1)

، وأنه أعطى الحجام أجرة

(2)

.

2 -

جواز تزويج أصحاب الصناعات الدنيئة، والزواج منهم، وإن كان مكروها في العادة، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ، وَانْكِحُوا إِلَيْهِ» الأمر فيه للإباحة، وبنو بياضة فخذ من الأنصار.

ومن قصة بريرة رضي الله عنها:

1 -

تخيير الأمة إذا عتقت وزوجها عبد.

2 -

جواز تزويج الحرة من مملوك لغيرها، لأنه لا يحل للسيدة أن تستمتع بعبدها.

3 -

أن زوج بريرة كان عبدًا، على الراجح من الروايات.

(1)

رواه مسلم (1568)؛ عن رافع بن خديج رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (2103)، ومسلم (1202)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 386

(1141)

وَعَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

(1142)

وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما؛ أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلَمَةَ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في إبطال أنكحة الجاهلية بعد الإسلام إذا اشتملت على ما يحرم في الإسلام، وتصحيح ما ليس كذلك.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

تحريم الجمع بين الأختين، وقد دل عليه القرآن، وأجمع العلماء على ذلك.

2 -

أن من أسلم وتحته أختان وجب عليه أن يفارق إحداهما.

3 -

أن المحرم هو الجمع بين الأختين لا نكاح الأخرى بعد فراق الأولى.

4 -

أنه لا فرق في تحريم الجمع بين الأختين بين الابتداء والاستدامة، ومن حكمة ذلك: سد باب القطيعة بين القرابة القربى.

(1)

أحمد (2366)، وأبو داود (2243)، والترمذي (1129)، وابن ماجه (1951)، وابن حبان (4155)، والدارقطني (3695)، والبيهقي (13970). والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 248 - 249).

(2)

أحمد (5558)، والترمذي (1128)، وابن حبان (4156)، والحاكم (2838)، و «العلل» لأبي حاتم (1199).

ص: 387

5 -

تحريم الجمع بين أكثر من أربع زوجات، وعلى هذا أجمعت الأمة، ولم يخالف إلا طائفة من الروافض، ويدل له قوله تعالى:{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3].

6 -

أن من أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات وجب عليه أن يختار منهن أربعًا، ويفارق الباقي، دون نظر إلى ترتيب نكاحهن.

7 -

أن الاختيار للزوج لا لهن.

8 -

أنه لا يحتاج إلى طلاق المفارَقات.

9 -

أن جمع أكثر من أربع زوجات من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وتحته تسع نسوة.

10 -

أن عقود أنكحة الكفار صحيحة إلا أن يكون موجِب التحريم قائمًا بعد الإسلام.

* * * * *

(1143)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «رَدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ إلا النَّسَائِيَّ وصَحَّحَهُ أحمد وَالْحَاكِمُ

(1)

.

(1144)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ. قالَ التِّرْمذيُّ:«حديثُ ابنِ عبَّاسٍ أَجْوَدُ إِسْنَادًا، والعَمَلُ على حديثِ عَمْرِو بنِ شُعَيبٍ»

(2)

.

(1145)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ قَالَ: «أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ، فَتَزَوَّجَتْ، فَجَاءَ زَوْجُهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ، وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي، فَانْتَزَعَهَا

(1)

أحمد (2366)، وأبو داود (2240)، والترمذي (1143)، وابن ماجه (2009)، والحاكم (6694).

(2)

الترمذي (1142).

ص: 388

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَوْجِهَا الْآخِرِ، وَرَدَّهَا إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ». رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأبُوْ دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان وَالْحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في حكم ما إذا أسلم أحد الزوجين، ثم أسلم الآخر بعد ذلك، فقيل: يبطل النكاح منذ أسلم، وبه قال ابن حزم، ولا ترجع المرأة إلا بعقد جديد، وقيل: يبطل إذا خرجت من العدة، وهو قول الجمهور، وقيل: لا يبطل، بل يبقى معلَّقًا ما لم تتزوج المرأة، فإذا أسلم الزوج رجعت إليه بالعقد الأول، وبه قال جماعة من السلف، واختاره شيخ الإسلام وابن القيم

(2)

، ومنشأ هذا الخلاف اختلاف الروايات في قصة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها أسلمت وتأخر إسلام زوجها أبي العاص بن الربيع، فلما أسلم قيل: ردها النبي صلى الله عليه وسلم بنكاح جديد، كما في حديث عمرو بن شعيب، وقيل: ردها ولم يحدث نكاحًا، كما في حديث ابن عباس.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن المسلمة لا تحل للكافر مطلقًا، وأما إذا أسلم الرجل حرمت عليه زوجته الكافرة إلا أن تكون كتابية.

2 -

تحريم نكاح المشركة.

3 -

تحريم إنكاح المسلمة للكافر.

4 -

أن المرأة إذا أسلمت لم يبطل نكاحها من زوجها الكافر، فإذا أسلم الزوج رجعت إليه من غير تجديد نكاح، على ما جاء عن ابن عباس.

(1)

أحمد (2972)، وأبو داود (2239)، وابن ماجه (2008)، وابن حبان (4159)، والحاكم (2810).

(2)

ينظر: «زاد المعاد» (5/ 137).

ص: 389

5 -

محبة زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم لزوجها أبي العاص، فقد صبرت تنتظر إسلامه ست سنين.

وفي حديث عمرو بن شعيب:

1 -

أن المرأة إذا أسلمت بطل نكاحها بعد العدة، فإذا أسلم الزوج لم ترجع إليه إلا بنكاح جديد، وهذا مذهب الجمهور، كما قَالَ التِّرْمِذِيُّ بعد الحديث:«والعمل على حديث عمرو بن شعيب» ، فحديث عمرو معارض لحديث ابن عباس في شأن زينب، ولا يمكن الجمع بينهما؛ لأن مدلوليهما متقابلان تقابل النفي والإثبات، ولا يمكن النسخ؛ لأن القضية واحدة، فوجب الترجيح، فرجح الجمهور حديث عمرو، لأنه الموافق للأصول، ورجح آخرون حديث ابن عباس؛ لأنه أصح، وإن كان فيه مقال، لكن تشهد له بعض الآثار عن السلف، ولا يترتب على هذا الخلاف كبير أمر؛ لأن للمرأة أن تختار؛ إما الزواج وإما الانتظار.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الثاني:

1 -

أن المرأة إذا أسلمت ثم أسلم زوجها في العدة أو بعدها على الخلاف المتقدم، وعلمت بإسلامه، فليس لها أن تتزوج، فإن تزوجت فالنكاح باطل، وحمل الجمهور الحديث على أن الرجل أسلم في عدة المرأة، فلذا انتزعها النبي صلى الله عليه وسلم من الزوج الثاني، وردها إلى الأول.

2 -

أن من وطئ بشبهة فلا يحد، ويُلحق به النسب.

* * * * *

(1146)

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْعَالِيَةَ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَوَضَعَتْ ثِيَابَهَا، رَأَى بِكَشْحِهَا بَيَاضًا،

ص: 390

فَقَالَ: «الْبَسِي ثِيَابَكِ، وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ» ، وَأَمَرَ لَهَا بِالصَّدَاقِ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَفِي إِسْنَادِهِ جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي شَيْخِهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا

(1)

.

(1147)

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا فَوَجَدَهَا بَرْصَاءَ، أَوْ مَجْنُونَةً، أَوْ مَجْذُومَةً، فَلَهَا الصَّدَاقُ بِمَسِيسِهِ إِيَّاهَا، وَهُوَ لَهُ عَلَى مَنْ غَرَّهُ مِنْهَا» . أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(2)

.

(1148)

وَرَوَى سَعِيدٌ أَيْضًا: عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ، وَزَادَ:«وَبِهَا قَرْنٌ، فَزَوْجُهَا بِالْخِيَارِ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا»

(3)

.

(1149)

وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَيْضًا قَالَ: «قَضَى عُمَرُ فِي الْعِنِّينِ، أَنْ يُؤَجَّلَ سَنَةً» . وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(4)

.

* * *

هذا الحديث وما بعده من الآثار هي الأصل في خيار العيب في النكاح، ومن العيوب التي يفسخ بها النكاح إجماعًا: الجنون والبرص والجُذام، وما أشبهها من الأمراض المنفرة، فإذا وجد أحد الزوجين في الآخر عيبًا فله الفسخ، فإن دخل الزوج بالمرأة فلها الصداق بما استحل من فرجها، ويرجع الزوج بالصداق على من غرَّه.

وفي الحديث والآثار فوائد؛ منها:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها، وهي العالية من بني غِفار، من كنانة.

(1)

الحاكم (6808).

(2)

سعيد بن منصور في «السنن» (818)، ومالك في «الموطأ» (1921)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (16295)

(3)

سعيد بن منصور في «السنن» (821).

(4)

ابن أبي شيبة في «المصنف» (16492).

ص: 391

2 -

بيان سبب طلاقها، وهو ما فيها من البياض، أي البرص.

3 -

أن البرص عيب يفسخ به النكاح.

4 -

أن من كنايات الطلاق: الحقي بأهلك، لكن بالنية، أو القرينة.

5 -

كرم النبي صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه، إذ أعطاها الصداق كاملًا، مع أنها لا حق لها فيه، لأن موجِب الفرقة من قبلها.

وفي أثري سعيد بن المسيب:

1 -

أن العيوب المذكورة مما يبيح فسخ النكاح.

2 -

أن من تزوج امرأة ثم دخل بها، ووجد بها عيبا، فلها المهر بما استحل من فرجها، ويرجع الزوج بالصداق على من غرَّه.

3 -

أنه إذا لم يدخل بها فلا حق لها عنده.

وفي الأثر الأخير عن سعيد بن المسيب:

1 -

أن العُنَّة عيب في النكاح يبيح فسخه، والعُنَّة عدم الشهوة، والعِنِّين الذي لا يقدر على الجماع.

2 -

أن العنين يمهل سنة، فإن زالت عنته، وإلا فسخ النكاح، ووُقِّت التربص بسنة لتمر على العنين الفصول الأربعة؛ لأن لتغير الفصول تأثيرًا على طبيعة الإنسان وقواه.

* * * * *

ص: 392

‌بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ

هذا الباب مناسب كل المناسبة لما تقدم، فقد علم مما تقدم فضل النكاح وشروطه وموانعه، وما يباح ويحرم، وكأنه بعد ذلك قد تم النكاح، والتقى الزوجان، فلا بد إذن من معرفة كيفية العشرة بينهما، والعِشْرة الصحبة، والعشير الصاحب، قال تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وعشرة النساء معاشرتهن، وهي معاملة كل من الزوجين للآخر، وأقل ذلك بذل ما يجب لكل منهما على الآخر، وترك ما يحرم، وأهم ذلك ما يحصل به الإعفاف والإحصان لكل منهما.

* * * * *

(1150)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا» . رواه أبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائيُّ وَاللَّفْظُ له، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَلكنْ أُعِلَّ بِالإِرْسَالِ

(1)

.

(1151)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ والنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأُعِلَّ بالوَقْفِ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان يدلان على ما دل عليه القرآن من وجوب إتيان المرأة في قبلها لا في دبرها؛ لأن ذلك هو الاستمتاع الطبيعي الذي به كمال اللذة، ويكون به إعفاف المرأة، ويحصل به الازدراع بوضع النطفة في موضعها، ولذا سمى

(1)

أبو داود (2162)، والنسائي في «الكبرى» (8966).

(2)

الترمذي (1165)، والنسائي في «الكبرى» (8952)، وابن حبان (4203).

ص: 393

الله النساء حرثًا، كما قال تعالى:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 222 - 223]، أي كيف شئتم، أو من أي جهة شئتم، إذا كان في موضع الحرث.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

تحريم إتيان المرأة في دبرها.

2 -

أنه من الكبائر.

3 -

أنه ليس مرادًا بقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223].

4 -

أنه أقبح من إتيان المرأة الحائض.

5 -

أنه مخالف للفطرة السليمة.

6 -

أنه لا تجب به كفارة، بل الواجب التوبة.

7 -

أنه لا يوجب فسخ النكاح، كما تظنه العامة.

8 -

أنه يحرم على المرأة المطاوعة في ذلك.

9 -

تحريم إتيان الرجل الرجل، وهو أكبر من إتيان المرأة في دبرها، ويوجب الحد، بخلاف إتيان المرأة في دبرها.

10 -

أن دين الإسلام دين الطهر والتنزه عن الأقذار، فإن الدبر محل النجاسة.

11 -

أن من أنواع الوعيد إعراض الله عن العبد، فلا ينظر إليه، ومن أنواعه اللعن.

12 -

وجوب الحذر من التعرض لوعيد الله بترك الأسباب المفضية إلى ذلك.

* * * * *

ص: 394

(1152)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ.

(1153)

وَلِمُسْلِمٍ: «فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا»

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل في الوصية بالنساء أي بالزوجات، وقد تضمن الوصية في حق الجار، وفي الرفق بالمرأة، وتعليل ذلك بما جبلت عليه المرأة في أصل خِلْقتها من عوج في خُلُقها.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الإيمان بالله اليوم الآخر أعظم ما يدعو إلى أداء الحقوق.

2 -

أن كف الأذى عن الجار من الإيمان.

3 -

عظم حق الجار، وكف الأذى أدنى حقوقه، والجار هو المجاور، وهو قريب المنزل.

4 -

وصية النبي صلى الله عليه وسلم للأزواج في نسائهم بإرادة الخير لهن والصبر عليهن، والتواصي في ذلك.

5 -

تعليل الأحكام الشرعية وبيان أنها مبنية على الحِكَم.

6 -

ذكر ما خلقت منه المرأة الأولى، وهي حواء عليها السلام، خلقت من ضِلَع آدم، كما يدل لذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1].

(1)

البخاري (5185) و (5186)، ومسلم (1468).

(2)

مسلم (1468).

ص: 395

7 -

أنَّ لِما خُلِق منه الإنسان أثرًا على خِلْقته وخُلُقه.

8 -

الحديث شاهد لنظرية الوراثة في الصفات والأحوال.

9 -

الإرشاد إلى الصبر على ما في خلق المرأة من نقص، وأن ذلك هو الأصل فيها، كما يشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ آخَرَ»

(1)

، وفي الحديث شاهد لمعنى قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين (199)} [الأعراف: 199]، أي: خذ ما تيسر من أخلاق الناس، وما سمحت به طباعهم.

10 -

أن طلب الكمال في المرأة يؤدي إلى فراقها، والصبرُ والتسامح هو الدواء الشافي.

11 -

أن دين الإسلام دين الرحمة والعطف على الضعفة.

12 -

إبطال عادة أهل الجاهلية باحتقار النساء وظلمهن.

13 -

أن الطلاق خسارة على الرجل والمرأة، فهو أعظم مفسدة مما يأخذه الرجل على امرأته.

* * * * *

(1154)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ:«أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا -يَعْنِي: عِشَاءً- لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1155)

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ، فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا»

(3)

.

* * *

(1)

رواه مسلم (1469)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

البخاري (5079) ومسلم (715).

(3)

البخاري (5244).

ص: 396

هذا الحديث أصل في مراعاة الرجل أهله بحيث لا يفجؤهم عند مقدمه من سفره، أو يفجؤهم بدخوله لمنزله من غير تنبيه.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم المشاركة في الغزوات.

2 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم إذا قدم المدينة ألا يدخل إلا ليلًا، ويعارض هذا قوله في الرواية الأخرى:«إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ، فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا» ، والجمع بينهما أن الحديث الأول فيما إذا قدموا نهارًا، وعلم بهم أهلوهم، فلا يدخلوا عليهم إلا ليلًا عشاء، والثاني إذا لم يعلموا مقدمهم. وحينئذ فلا يطرقوهم ليلًا.

3 -

ذكر الحكمة في ذلك.

4 -

تعليل الأحكام الشرعية.

5 -

تجنب أن يفجأ الرجل أهله بالدخول عليهم خصوصًا عند مقدمه من السفر.

6 -

أن المُغِيبة -وهي التي غاب عنها زوجها - لا تتزين في الغالب.

7 -

استعداد المرأة لمقدم زوجها بالامتشاط والاستحداد ونحوهما من الزينة، وهذا من الأمور العادية، ويكون عملًا صالحًا بالنية.

8 -

أن إزالة شعر العانة بالحلق، ويسمى استحدادًا؛ لأنه يكون بالحديد، وهو الموسى.

9 -

كمال الشريعة لتضمنها مثل هذه الأحكام.

* * * * *

ص: 397

(1156)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في وجوب حفظ السر بين الزوجين، وهو من أعظم الحقوق الزوجية.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من شر الناس مَنْ ينشر سر امرأته الذي بينه وبينها، وكذلك المرأة، والمراد بالسر ما يتعلق بالفراش.

2 -

أن إفشاء هذا السر من كبائر الذنوب إلا ما تقتضيه المخاصمة بين الزوجين.

3 -

سقوط منزلة من يفعل ذلك عند الله تعالى، فيستوجب العقاب.

4 -

أن من أنواع العندية: عندية الحكم.

5 -

أن العلاقة بين الزوجين مبناها على الأمانة.

6 -

جواز التعري من الزوجين تحت اللحاف إلا عند اغتسالهما، فيجوز بلا إزار.

7 -

أن الناس يتفاوتون في الشر.

8 -

أن جزاء الأعمال خيرها وشرها إنما يظهر يوم القيامة، يوم تجد كل نفس ما عملت.

* * * * *

(1)

مسلم (1437).

ص: 398

(1157)

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ:«تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَعَلَّقَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان وَالْحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في حق المرأة على زوجها، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«وَلِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»

(2)

، وقوله في خطبته في حجة الوداع:«وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ، وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»

(3)

، والشاهد لهذا من القرآن قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن حق المرأة على زوجها -إجمالًا - أداء ما يجب لها، وترك ما يحرم من قول أو فعل.

2 -

أنه يجب للمرأة على زوجها الطعام والكسوة، وهو ما يعبر عنه بالنفقة.

3 -

أن النفقة لا تجب على الرجل مع الإعسار، فلا يوجب فسخ النكاح، وفي ذلك خلاف.

4 -

أن النفقة بحسب اليسر والعسر، كما قال تعالى:{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7].

5 -

تحريم ضرب المرأة على وجهها، وضرب الوجه حرام مطلقًا.

6 -

تكريم وجه الإنسان؛ لأن به المواجهة وأهم الحواس.

(1)

أحمد (20022)، وأبو داود (2142)، والنسائي في «الكبرى» (9115)، وابن ماجه (1850)، والبخاري معلقًا «الفتح» (9/ 301)، وابن حبان (4175)، والحاكم (2764).

(2)

رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(3)

رواه مسلم (1218)؛ عن جابر رضي الله عنه.

ص: 399

7 -

تحريم تقبيح المرأة، كقول الرجل لامرأته: قبحك الله، أو: وجهك قبيح.

8 -

جواز ضرب المرأة وهجرها إذا كان منها نشوز، كما قال تعالى:{وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34].

9 -

أن الهجر المأذون فيه ما كان في البيت، أما الهجر بترك المنزل فلا يجوز.

10 -

حرص الصحابة على العلم.

11 -

شمول أحكام الشريعة لكل شؤون الإنسان، ومن ذلك شؤون الأسرة.

* * * * *

(1158)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ. فَنَزَلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

* * *

هذا الحديث مع الآية الكريمة يدلان على جواز إتيان الرجل امرأته كيف شاء، من أمام أو من الخلف، شريطة أن يكون في صمام واحد، وهو القبل، ولو ذكر المؤلف هذا الحديث مع الحديثين في أول الباب لكان أنسب.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم اليهود لإتيان المرأة من دبرها في قبلها، وهذا كتحريمهم مباشرة الحائض ومجالستها، وهذا قد يكون من شرعهم، أو مما ابتدعوه في دينهم.

(1)

البخاري (4528)، ومسلم (1435).

ص: 400

2 -

بطلان زعم اليهود، والرد عليهم.

3 -

جواز إتيان المرأة من دبرها في قبلها، لا في دبرها، كما تقدم.

4 -

أن من آي القرآن ما ينزل لسبب.

5 -

تشبيه المرأة بالحرث؛ لأن وضع النطفة فيها كوضع البذر في الأرض، كما جاء في الحديث:«لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ»

(1)

.

6 -

التيسير على الرجل في أمر النكاح، وهذا من جملة يسر الشريعة.

* * * * *

(1159)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا؛ فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل في هذا الدعاء.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

استحباب هذا الذكر والدعاء عند إرادة الوطء.

2 -

أنه ليس بواجب؛ لقوله: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ» .

3 -

أن هذا الدعاء يكون قبل الجماع، بل عند الإرادة، كما هو صريح في الحديث.

4 -

إثبات وجود الشيطان، وأن له تسلطًا على الإنسان.

(1)

رواه أحمد (16990)، وأبو داود (2158)، والترمذي (1131)، وابن حبان (4850)؛ عن رويفع بن ثابت رضي الله عنه، وسيأتي برقم (1274).

(2)

البخاري (5165)، ومسلم (1434).

ص: 401

5 -

أنه لا يعصم من شر الشيطان إلا الله.

6 -

أن الداعي يبدأ بنفسه.

7 -

استحباب الدعاء بالبعد من الشيطان، وذلك بمجانبة طاعته وما يدعو إليه.

8 -

الدعاء بإبعاد الشيطان عما رزق الله العبد من متعة الحلال والذرية.

9 -

أن الذرية رزق من الله، وفي دعاء زكريا عليه السلام:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38)} [آل عمران: 38].

10 -

أن حصول الولد راجع إلى قدر الله.

11 -

أن الولد من ماء الرجل والمرأة؛ لقوله «بَيْنَهُمَا» .

12 -

أن هذا الذكر والدعاء عصمة للولد من ضرر الشيطان، ونفي الضرر لا يستلزم نفي الأذى، كالذي يحصل في الوسوسة.

13 -

أن ذكر الله سبب لحصول الخير ودفع الشر.

14 -

إثبات تأثير الأسباب والرد على من أنكرها.

* * * * *

(1160)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ، لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

.

(1161)

وَلِمُسْلِمٍ: «كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا»

(2)

.

* * *

(1)

البخاري (5193)، ومسلم (1436).

(2)

ومسلم (1436)(121).

ص: 402

هذا الحديث أصل في وجوب حق الرجل على امرأته في الجماع والاستمتاع، وتحريم امتناعها من غير عذر.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن أمر الجماع والاستمتاع مغلَّب فيه جانب الرجل، كما في هذا الحديث، فهو الداعي والآمر، وهي المأمورة، ويشهد لهذا أنها خلقت له، كما قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم: 21].

2 -

أن امتناع المرأة من الإجابة معصية، بل كبيرة من كبائر الذنوب.

3 -

أن هذا الوعيد مختص بدعوتها إلى الفراش خاصة، أما سائر الأغراض فيجب على المرأة طاعة زوجها بالمعروف، ولو عصت فهي آثمة، ولا يلحقها هذا الوعيد الشديد.

4 -

أن الوعيد مقيد بقوله: «فَبَاتَ غَضْبَانَ»

(1)

.

5 -

إثبات الملائكة.

6 -

أنها تلعن من أُمرت بلعنه من العصاة.

7 -

أن امتناع المرأة من الإجابة من أسباب سخط الله عليها.

8 -

إثبات العلو لله.

9 -

إثبات أن الله يسخط على بعض الخلق.

10 -

الكناية عن الأمر المستهجن بما يدل عليه؛ لقوله: «إِلَى فِرَاشِهِ» .

* * * * *

(1)

هي رواية البخاري الأخرى (3237).

ص: 403

(1162)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في تحريم هذه الأمور الأربعة المذكورة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

لعن هذه الأصناف الأربعة من النساء؛ الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة. والواصلة هي التي تصل شعر غيرها بشعر ونحوه، توهم أن شعرها طويل، والمستوصلة هي التي يفعل لها ذلك، والواشمة هي التي تفعل الوشم بغيرها، وهو حقن صباغ تحت الجلد، يجعل البشرة بلونه، والغالب أنه أخضر، والمستوشمة هي التي يفعل بها ذلك إذا كان برضاها.

2 -

تحريم فعلهن؛ لما فيه من التدليس والتغيير لخلق الله، والرجل في ذلك كالمرأة، بل هو أولى بالمنع.

3 -

أن هذه الأفعال من كبائر الذنوب.

4 -

أن الراضي بفعل المعصية كالفاعل.

5 -

أن من الزينة ما يحرم، فيُخص من عموم قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32].

6 -

أن الوصل والوشم حرام، فلا يطاع فيه الزوج إذا طلبه، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

7 -

أنه ليس للإنسان التصرف في نفسه إلا في حدود ما أباح الله.

أن الإعانة على المعصية معصية، {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، فالواصلة والواشمة معينتان على الوصل والوشم، وفي حكم الوصل والوشم

(1)

البخاري (5940)، ومسلم (2124).

ص: 404

تفليج الأسنان لتحسينها، وجاء في الحديث: لعن المتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله

(1)

، وإنما يحرم التغيير لخلق الله إذا كان للتحسين لا لإزالة عيب؛ كالإصبع الزائدة.

* * * * *

(1163)

وَعَنْ جُذَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ رضي الله عنها قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ، وَهُوَ يَقُولُ:«لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسَ، فَإِذَا هُمْ يُغِيلُونَ أَوْلَادَهُمْ فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ أَوْلَادَهُمْ شَيْئًا» . ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1164)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أن رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ: أَنَّ الْعَزْلَ المَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، قَالَ:«كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ له، والنَّسَائِيُّ والطَّحَاوِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(3)

.

(1165)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

(1166)

وَلِمُسْلِمٍ: «فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَنْهَنَا»

(5)

.

* * *

(1)

البخاري (4604)، ومسلم (2125) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

مسلم (1442).

(3)

أحمد (11288)، وأبو داود (2171)، والنسائي في «الكبرى» (9031)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4346)، وفي مشكل الآثار (1916).

(4)

الذي اتفق عليه الشيخان من كلام جابر هو قوله: «كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ» ، أما جملة:«وَلَوْ كَانَ شَيْئًا يُنْهَى عَنْهُ لَنَهَانَا عَنْهُ الْقُرْآنُ» فهي عند مسلم فقط، وهي من كلام سفيان بن عيينة. البخاري (5207)، ومسلم (1440).

(5)

مسلم (1440).

ص: 405

هذه الأحاديث هي الأصل في حكم العزل، والعزل هو الإنزال خارج الرحم، وقد ذهب الجمهور إلى إباحة العزل لما سيأتي، ولكنه لا يجوز إلا بإذن الزوجة الحرة؛ لأن الولد من حقهما، وذهب ابن حزم إلى تحريم العزل مطلقًا، استدلالًا بحديث جذامة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في العزل إنه الوأد الخفي، وأجاب عن حديث أبي سعيد وجابر بأنهما على البراءة الأصلية

(1)

، ويضعف هذا الاستدلال تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في قولهم عن العزل: إنه الموؤدة الصغرى، فالصواب جوازه، والله أعلم.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به أو ينهى عنه، ولكن لا يُقَرُّ على خطأ؛ لقوله: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ

».

2 -

خبرة النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أحوال الأمم.

3 -

جواز الغيلة، وهو جماع المرضع.

4 -

أن مقصود النهي دفع الضرر.

5 -

أن الشريعة مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد.

6 -

الاعتبار بأحوال الناس وأفعالهم ما ينفع وما يضر.

7 -

جواز تسمية العزل الوأد الخفي.

8 -

إباحة التسري.

9 -

جواز العزل عن الأمة.

10 -

أن العزل لا يمنع ما قدر الله خلقه من النسم.

11 -

أن الصحابة كانوا يعزلون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

12 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن العزل.

(1)

المحلَّى (9/ 223).

ص: 406

13 -

أن مقصود العزل هو منع الحمل، فيلحق به سائر الموانع من الحبوب واللَّولب واللاصق، وكلٌّ منها يختص بمفاسد لا يشتمل عليه الآخر.

14 -

الاستدلال على إباحة الشيء بإقرار الله وإقرار رسوله صلى الله عليه وسلم.

15 -

أن ما لم ينه الله عنه ولا رسوله فالأصل فيه الإباحة.

16 -

الكناية عما يستحيا من ذكره إلا إذا دعت الحاجة إلى التصريح.

17 -

جواز ذكر ما يستحيا منه لبيان الحكم الشرعي.

18 -

كمال الشريعة وشمولها لكل أحكام الإنسان، حتى ما يتعلق بالعلاقة بين الزوجين.

* * * * *

(1167)

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. أخْرَجَاهُ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في جواز العود إلى الوطء قبل الغُسل، ولو مع زوجة أخرى.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أنه لا يجب الغسل للعود إلى الوطء.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد.

3 -

أنه صلى الله عليه وسلم لا يجب عليه القسم بين الزوجات، ويدل له قوله تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاء} [الأحزاب: 51]، على أحد التفسيرين، ويدل له من الحديث أنه طاف على غير ذات الليلة في ليلة إحداهن.

(1)

البخاري (268)، ومسلم (309).

ص: 407

4 -

قوة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الجماع.

5 -

جواز تأخير الغُسل.

* * * * *

ص: 408

‌بَابُ الصَّدَاقِ

من أحكام النكاح الصداق للمرأة، ويسمى صَدُقة ونِحلة وفريضة ومهرًا وأجرًا، قال تعالى:{وَآتُوا النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]، وقال سبحانه:{وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 25]، وقال:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، ولا يجوز التواطؤ على عدمه، ويجوز إسقاطه بعد العقد بطيب نفس من المرأة، لقوله تعالى:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4)} [النساء: 4].

والأصل أن يكون الصداق مالًا؛ لقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} [النساء: 24]، ولا حد لأكثره ولا لأقله على الصحيح، ويستحب التيسير فيه، وتكره المغالاة.

* * * * *

(1168)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في جعل عتق الجارية صداقًا لها.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

إباحة سبي نساء الكفار، وصفية رضي الله عنها من سبي يهود خيبر.

2 -

فضيلة صفية أم المؤمنين.

3 -

جواز جعل عتق الجارية مهرًا.

(1)

البخاري (5086)، ومسلم (1365).

ص: 409

4 -

أنه لا يشترط رضاها في ذلك، وهذا الحكم في عتق التطوع، لا في العتق الواجب.

5 -

اختلاف أحكام الحر والمملوك.

6 -

أن الأمة لا تكون زوجة لسيدها إلا أن يعتقها، ويجعل عتقها صداقها، فتكون حرة وزوجة.

7 -

أن عقد النكاح لا تشترط له صيغة معينة.

* * * * *

(1169)

وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا، قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ. فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَزْوَاجِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في متوسط قدر الصداق، وهو صداق النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه، وهو خمسمئة درهم، وأبو سلمة السائل أرضعته أم كلثوم بنت أبي بكر، فعائشة خالته من الرضاعة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن متوسط الصداق خمسمئة درهم.

2 -

أن هذا ليس تحديدًا للصداق؛ لأنه فعل فلا يدل على الوجوب.

3 -

أن صداق النبي صلى الله عليه وسلم خمسمئة درهم، وهذا في الأغلب، وهو الحاصل من ضرب اثني عشر ونصف في أربعين.

4 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يتزوج امرأة إلا بصداق، فلم يتزوج أحدًا من الواهبات، مع أن الله أباحهن له.

(1)

مسلم (1426).

ص: 410

5 -

أن النش هو النصف، وهو في الحديث نصف أوقية، والأوقية أربعون درهمًا.

6 -

أن غالب النقد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الفضة.

7 -

استحباب تخفيف الصداق والتيسير فيه.

8 -

فضل عائشة رضي الله عنها، وأنها مرجع في أحكام الدين وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم.

9 -

أن من طرق التعليم إلقاء السؤال على المتعلمين.

10 -

حرص السلف على العلم.

* * * * *

(1170)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ رضي الله عنهما، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَعْطِهَا شَيْئًا» ، قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، قَالَ:«فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟» . رواه أبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل من السنة في نكاح المفوِّضة، وهي التي لم يسم لها صداق، وقد دل على هذا الحكم قوله تعالى:{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

فضل علي رضي الله عنه؛ لزواجه من فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وهي سيدة نساء أهل الجنة.

2 -

إكرام النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك.

3 -

جواز ترك تسمية الصداق في العقد.

4 -

جواز تزويج الرجل موليته للفقير إذا رضيت به.

(1)

أبو داود (2125)، والنسائي في «الكبرى» (5541)(5542)، ولم نجده في «المستدرك» .

ص: 411

5 -

أن عليًا رضي الله عنه كان قليل ذات اليد يوم تزوج.

6 -

أن ترك تسمية الصداق لا يسقطه، بل يجب للمرأة مهر المثل أو ما ترضى به.

7 -

أن من كان عليه دين وادعى الإعسار، وكان يعرف له مال فيُسأل عن ماله.

8 -

أن الصداق يكون عُروضًا كما يكون أثمانًا.

9 -

التسامح في أمر النكاح، وتيسير سبله.

10 -

أن إعداد آلة الحرب لا تصير به وقفًا، بل يجوز التصرف فيها.

* * * * *

(1171)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ، أَوْ حِبَاءٍ، أَوْ عِدَةٍ، قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وَأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ابْنَتُهُ أَوْ أُخْتُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل فيما تستحقه المرأة مما يدفعه الرجل في نكاحها.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن كل ما يبذل للمرأة قبل العقد من الصداق أو الهدية، فهو ملكها، وكله صداق وإن اختلفت الأسماء.

2 -

أن العِدَة قبل النكاح حق للمرأة تستحقه بعد العقد.

3 -

أن ما يهديه الرجل للزوجة أو لأحد قرابتها بعد العقد فهو لمن أهدي له، وليس من الصداق.

(1)

أحمد (6709)، وأبو داود (2129)، والنسائي في «الكبرى» (5483)، وابن ماجه (1955).

ص: 412

4 -

استحباب إكرام الصهر.

5 -

أن المصاهرة علاقة كالنسب تقتضي حقًا بين الأصهار، وقد قرن الله بين النسب والصهر في قوله:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54].

* * * * *

(1172)

وَعَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه؛ أنهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:«لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ -امْرَأَةٍ مِنَّا- مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ

(1)

، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ والجَمَاعَةُ

(2)

.

* * *

هذا الحديث نص في حكم نكاح المفوِّضة، وهي التي لم يفرض لها صداق، وأنها تثبت لها أحكام الزوجية، كالميراث والعدة، وقد دل القرآن على صحة نكاح المفوضة في قوله تعالى:{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]، وتقدم أن زواج فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم كان على هذا الوجه، فلم يسم لها صداق، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي:«أَعْطِهَا شَيْئًا»

(3)

.

(1)

أحمد (4276)، وأبو داود (2115)، والترمذي (1145)، والنسائي في «الكبرى» (5489)، وابن ماجه (1891).

(2)

صححه ابن مهدي والترمذي وقال ابن حزم: لا مغمز فيه لصحة إسناده، والبيهقي في الخلافيات. ينظر:«التلخيص الحبير» (3/ 388).

(3)

تقدم (1170).

ص: 413

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

فضل ابن مسعود رضي الله عنه، وفقهه في كتاب الله.

2 -

صحة نكاح المفوضة.

3 -

أنه لا يشترط تسمية الصداق في العقد.

4 -

أن من لم يسم لها صداق يثبت لها مهر المثل، وهو قدر مهر نسائها.

5 -

أن المفوِّضة ترث زوجها إذا مات ولم يدخل بها.

6 -

أنه تجب عليها عدة الوفاة.

7 -

أن الوفاة يتقرر بها الصداق.

8 -

استنباط ابن مسعود لأحكام المفوِّضة من القرآن.

9 -

فرح ابن مسعود بموافقة قضائه لقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

10 -

أن حكم المفوِّضة قد دل عليه الكتاب والسنة.

11 -

أن عدة الوفاة تجب على غير المدخول بها، بخلاف عدة الطلاق، فإن آية عدة الطلاق، وهي قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: 228]، مخصوصة بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، بخلاف عدة المتوفى عنها، فهي باقية على عمومها.

* * * * *

(1173)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ سَوِيقًا، أَوْ تَمْرًا، فَقَدْ اسْتَحَلَّ» . أخْرَجَهُ أبُوْ دَاوُدَ، وَأَشَارَ إِلَى تَرْجِيحِ وَقْفِهِ

(1)

.

(1174)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ عَلَى نَعْلَيْنِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، وَخُولِفَ فِي ذَلِكَ

(2)

.

(1)

أبو داود (2110).

(2)

الترمذي (113).

ص: 414

(1175)

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: «زَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا امْرَأَةً بِخَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ» . أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ

(1)

، وَهُوَ طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ

(2)

.

(1176)

وَعَنْ عَلَيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «لَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْقُوفًا، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ

(3)

.

(1177)

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ» . أخرجه أبُوْ دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(4)

.

(1178)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أن عَمْرَةَ بِنْتَ الْجَوْنِ تَعَوَّذَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ -تَعْنِي: لَمَّا تَزَوَّجَهَا- فَقَالَ: «لَقَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ» ، فَطَلَّقَهَا، وَأَمَرَ أُسَامَةَ فَمَتَّعَهَا بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ مَتْرُوكٌ

(5)

.

(1179)

وَأَصْلُ الْقِصَّةِ فِي الصَّحِيحِ؛ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ السَّاعِدِيِّ

(6)

.

* * *

هذه الأحاديث دليل على اعتبار الصداق في النكاح.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الصداق عوض عن الاستمتاع.

2 -

أنه لا حد لأقل الصداق، وقيل: أقله عشرة دراهم، كما جاء في أثر علي، وقيل: أقله ما تقطع به يد السارق، والصواب أنه لا حد لأقله، فيصح بكل ما يتمول.

3 -

أنه لا يجب أن يكون أثمانًا، بل يصح أن يكون طعامًا أو لباسًا كالنعلين والثياب والخاتم من الحديد.

(1)

الحاكم (2733).

(2)

تقدم (1104).

(3)

الدارقطني (3603).

(4)

أبو داود (2117)، والحاكم (2742).

(5)

ابن ماجه (2037).

(6)

البخاري (5255).

ص: 415

4 -

استحباب تيسير النكاح بتخفيف الصداق.

5 -

مشروعية المُتعة للمطلقة.

6 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم؛ فإن المرأة حين استعاذت منه صلى الله عليه وسلم طلقها ومتعها.

* * * * *

ص: 416

‌بَابُ الوَلِيمَةِ

الوليمة: دعوة العرس أو طعام العرس، مأخوذة من الوَلْم بمعنى الشدِّ، والوليمة تشدُّ عقد النكاح بإعلانه والاحتفاء به، وقيل: معنى الوليمة راجع إلى معنى الجمع لاجتماع الزوجين، وتكون الوليمة قبل الدخول وبعده، والعرب تجعل اسمًا لكل طعام يدعى إليه، كالوكيرة الطعام لبناء المنزل، والنقيعة الطعام لقدوم الغائب.

ولأهمية وليمة العرس عقد لها المصنفون بابًا، يذكرون فيه ما يتعلق بها من الأحكام، وقد أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم.

* * * * *

(1180)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ فقَالَ: «مَا هَذَا؟» ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ:«فَبَارَكَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في مشروعية الوليمة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

فضل عبد الرحمن بن عوف، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة.

2 -

جواز سؤال الرجل عن بعض شأنه الذي ظهر عليه.

(1)

البخاري (5155)، ومسلم (1427).

ص: 417

3 -

جواز سؤال الرجل عن بعض شأنه إذا اقتضته مناسبة، لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية:«كَمْ أَصْدَقْتَهَا؟»

(1)

.

4 -

أن الصفرة من زينة النساء.

5 -

أن الرجل إذا أصاب ثوبه أو بدنه صفرة لا تجب عليه إزالته.

6 -

أن هدي الصحابة في الصداق الاقتصاد.

7 -

جواز تقدير الصداق بما يعلم به تقريبًا؛ لأن النوى ليس مستويًا في المقدار.

8 -

استحباب الدعاء بالبركة لحديث العهد بالعرس.

9 -

جواز الاقتصار في الدعاء للمتزوج على بعض الدعاء.

10 -

مشروعية وليمة العرس.

11 -

استحباب تكثير الطعام في وليمة العرس من غير سرف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» ، فإنه يشعر باستحباب الزيادة.

12 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وتبسطه مع أصحابه.

* * * * *

(1181)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1182)

وَلِمُسْلِمٍ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُجِبْ؛ عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ»

(3)

.

(1183)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ: يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

(1)

رواه مسلم (1427).

(2)

البخاري (5173)، ومسلم (1429).

(3)

مسلم (1429).

(4)

مسلم (1432).

ص: 418

(1184)

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أيضًا

(1)

.

(1185)

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوُهُ، وَقَالَ:«فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ»

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في حكم إجابة الدعوة إلى وليمة العرس.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

وجوب الإجابة على من دعي إلى الوليمة.

2 -

أن إجابة الدعوة مطلقًا من حق المسلم على المسلم، عرسًا كان أو نحوه.

3 -

ذم وليمة العرس، لقوله:«شَرُّ الطَّعَامِ» ، ومعناه: أقله خيرًا، كما قال صلى الله عليه وسلم في صفوف الرجال:«وَشَرُّهَا آخِرُهَا» .

4 -

بيان السبب في هذا الذم، وهو أنه يدعى إليها الأغنياء، ويمنعها الفقراء.

5 -

أن الإحسان إلى الفقراء أفضل من الإحسان إلى الأغنياء.

6 -

أن الدعوات التي بهذه الصفة مذمومة.

7 -

الندب إلى العناية بذوي الحاجات.

8 -

أن ترك الإجابة معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أن يسمح الداعي، ويقبل العذر.

9 -

أن ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أمر الله به، {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [النساء: 80].

10 -

أن من أجاب الدعوة لا يجب عليه الأكل إن كان له عذر، كالصوم، لكن يستحب له الدعاء للداعي، لقوله:«فَلْيُصَلِّ» أي فليدع.

(1)

مسلم (1431).

(2)

مسلم (1430).

ص: 419

11 -

أن من كان مفطرًا ولا عذر له فلا تتحقق الإجابة إلا بالأكل، وهذا ما يقتضيه العرف.

12 -

أن الأمر في قوله: «فَلْيَطْعَمْ» للاستحباب، وقيل: بوجوب الأكل.

* * * * *

(1186)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «طَعَامُ الْوَلِيمَةِ أَوَّلَ يَوْمٍ حَقٌّ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ

(1)

.

(1187)

وَلَهُ شَاهِدٌ عَنْ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ

(2)

.

(1188)

وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أَوْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

.

(1189)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يُبْنَى عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ، فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَتِهِ، فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلَا لَحْمٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا إِلَّا أَنْ أَمَرَ بِالْأَنْطَاعِ، فَبُسِطَتْ، فَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ، وَالْأَقِطُ، وَالسَّمْنُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(4)

.

* * *

هذه الأحاديث تتضمن مقدار طعام الوليمة ونوعه.

وفيها فوائد؛ منها:

في الحديث الأول على تقدير صحته:

1 -

مشروعية وليمة العرس.

(1)

الترمذي (1097).

(2)

رواه البيهقي (14509)، وأما ابن ماجه فرواه (1915)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

البخاري (5172).

(4)

البخاري (5085)، ومسلم (1365)، كتاب النكاح (87).

ص: 420

2 -

أن طعام الوليمة أول يوم حقٌّ، أي واجب.

3 -

أن طعام الوليمة في اليوم الثاني سنة، أي مستحب.

4 -

أن طعام الوليمة في اليوم الثالث سمعة، فهو محرم وكبيرة، ومعنى سمعة أي تسميع الناس كي يتحدثوا، فيفخر بذلك، لكن بوب البخاري في «صحيحه»:(باب حق إجابة الوليمة والدعوة، ومن أولم سبعة أيام ونحوه، ولم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم يومًا ولا يومين)، فمن العلماء من قصر الوليمة على يومين، ومنهم من أجاز أكثر من ذلك بحسب الداعي، وهذا هو الصواب، نظرًا لضعف الحديث، ولا ريب أن من أراد السمعة والدعاية فهو آثم ومذموم.

5 -

أن الجزاء من جنس العمل، خيرًا أو شرًا.

6 -

أن من سمَّع فخرًا عوقب بنقيض قصده، بأن يجعل الله سمعته بين الناس سيئة، فيذكرونه بالذم، ولعل هذا معنى:«سَمَّعَ اللهُ بِهِ» .

7 -

أن مقدار الوليمة بحسب الحال، ولو بالقليل من الطعام، كما في حديث صفية بنت شيبة.

8 -

أن طعام الوليمة لا يلزم أن يكون فيه لحم أو خبز.

9 -

أن وليمة النبي صلى الله عليه وسلم على صفية كانت تمرًا وأقطًا وسمنًا.

10 -

أن بناء النبي صلى الله عليه وسلم بصفية كان في الطريق، مرجعَه من خيبر، ففيه:

11 -

جواز الزواج في السفر.

12 -

فضل صفية، وأنها من أمهات المؤمنين.

13 -

أن صفية من سبي خيبر.

14 -

وضع الفرش لتقديم الطعام عليها.

15 -

التوكيل في الدعوة إلى الوليمة.

* * * * *

ص: 421

(1190)

وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا اجْتَمَعَ دَاعِيَانِ، فَأَجِبْ أَقْرَبَهُمَا بَابًا، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَجِبِ الَّذِي سَبَقَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ

(1)

.

(1191)

وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا آكُلُ مُتَّكِئًا» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

(1192)

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا غُلَامُ، سَمِّ اللهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1193)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ، فَقَالَ:«كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا» . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ النَّسَائِيِّ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ

(4)

.

(1194)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: مَا عَابَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا قَطُّ، كَانَ إِذَا اشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

.

(1195)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(6)

.

(1196)

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ، فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(7)

.

(1197)

ولأَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ:«أَوْ يَنْفُخْ فِيهِ» . وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(8)

.

* * *

(1)

أبو داود (3756).

(2)

البخاري (5398).

(3)

البخاري (5376)، ومسلم (2022).

(4)

أبو داود (3772)، والترمذي (1805)، والنسائي في «الكبرى» (6729)، وابن ماجه (3277).

(5)

البخاري (5409)، ومسلم (2064).

(6)

مسلم (2019).

(7)

البخاري (153)، ومسلم (267).

(8)

أبو داود (3728)، والترمذي (1888).

ص: 422

هذه الأحاديث من أحاديث آداب الطعام والشراب، ومثل هذه الأحكام يستدل بها على كمال الشريعة وشمولها لكل الفضائل في جميع الأحوال.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن أقرب الجيران أحق بإجابة الدعوة.

2 -

أن من سبق بالدعوة من الجيران فهو أحق من الجار القريب، فإن تنازل الأحق لغيره جاز.

3 -

أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل متكئًا.

4 -

أن الاتكاء حال الأكل خلاف السنة، والاتكاء يكون على الظهر وعلى الجنب، ومنه التربع.

5 -

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء به في هديه.

6 -

مشروعية التسمية على الطعام، وهذا واجب.

7 -

أن السنة الاقتصار على بسم الله في التسمية على الطعام وغيره.

8 -

مشروعية الأكل باليمين، فهو من التيمن الواجب.

9 -

فضل اليمين على الشمال.

10 -

أكل الإنسان مما يليه من الطعام، وهو واجب إذا كان مع الإنسان من يأكل معه.

11 -

من تواضع النبي صلى الله عليه وسلم أكله مع الصبيان.

12 -

خطاب الحاضر باسمه أو صفته إذا دعت الحاجة، كالتنبيه والتكريم.

13 -

العناية بتربية الصبيان على الآداب.

14 -

مشروعية الأكل من جوانب الصَّحْفة، وهو يتضمن أكل الإنسان مما يليه.

ص: 423

15 -

النهي عن الأكل من وسط إناء الطعام، كالصحن والقصعة، وذلك إذا كان الطعام نوعًا واحدًا، فإذا كان في الوسط نوع آخر جاز الأكل منه، كاللحم وغيره.

16 -

أن من أسباب البركة في الطعام لزوم الأدب في الطعام، ومن آثار البركة في الطعام زيادته حتى يكفي لأكثر مما يتوقع.

17 -

أن لحصول البركة في الطعام أسبابًا.

18 -

أن من الأمور ما لا يعلم إلا بالوحي، لقوله:«فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ فِي وَسَطِهَا» .

19 -

أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعيب ما يقدم له من الطعام، فإن اشتهاه أكل منه، وإلا تركه.

20 -

أن عيب الطعام لا يليق؛ لما فيه من تحقير النعمة والإزراء بمن قدمه.

21 -

تحريم الأكل والشرب بالشمال.

22 -

تعليل الأحكام.

23 -

أن الشيطان يأكل ويشرب بشماله.

24 -

أن للشيطان يدين شمالًا ويمينًا.

25 -

النهي عن التشبه بالشيطان، والمراد بالشيطان كل داع إلى الكفر والمعاصي، كإبليس وذريته.

26 -

أن من آداب الشراب إبعاد الشارب الإناء عند التنفس.

27 -

كراهة التنفس في إناء الشراب والنفخ فيه، ولعل من حكمة ذلك ما فيه من المشابهة لبعض الحيوان، وما قد يحصل بخروج شيء يقذر الشراب.

28 -

استحباب إبعاد الإناء عند التنفس.

29 -

استحباب التنفس عند الشراب ثلاثًا خارج الإناء، كما جاء في رواية.

30 -

شمول الشريعة لجميع الآداب، كآداب النوم والأكل والشراب.

* * * * *

ص: 424

‌بَابُ القَسْمِ

من حقوق الزوجات على الأزواج العدل بينهن، ومنه العدل بينهن في القسم، والمراد به قسم الوقت، بأن يجعل لكل واحدة يوما وليلة، ولما كان الليل أهم ما يتعلق به الغرض اعتبر القسم بالليالي، فيقال: يجعل لكل واحدة ليلة، واليوم تابع، وأصل ذلك قوله تعالى:{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، وقال تعالى:{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، فالعدل الواجب هو المستطاع، كما هو الشأن في كل واجب، لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

* * * * *

(1198)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِنِسَائِهِ، فَيَعْدِلُ، وَيَقُولُ:«اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» . رواه الأربعة، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان وَالْحَاكِمُ، وَلَكِنْ رَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ إِرْسَالَهُ

(1)

.

(1199)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ

(2)

.

(1)

أبو داود (2134)، والترمذي (1140)، والنسائي في «الكبرى» (8840)، وابن ماجه (1791)، وابن حبان (4205)، والحاكم (2761).

(2)

أحمد (7936)، وأبو داود (2133)، والترمذي (1141)، والنسائي في «الكبرى» (8839)، وابن ماجه (1969).

ص: 425

(1200)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، ثُمَّ قَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَسَمَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

.

(1201)

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَهَا أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ:«إِنَّهُ لَيْسَ بِكِ عَلَى أَهْلِكِ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1202)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1203)

وَعَنْ عُرْوَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: يَا ابْنَ أُخْتِي، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ، حَتَّى يَبْلُغَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا، فَيَبِيتَ عِنْدَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ وَاللَّفْظُ له، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(4)

.

(1204)

وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يَدْنُو مِنْهُنَّ» . الحديث

(5)

.

(1205)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» ، يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(6)

.

(1206)

وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا مَعَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(7)

.

* * *

(1)

البخاري (5214)، ومسلم (1461).

(2)

مسلم (1460).

(3)

البخاري (5212)، ومسلم (1463).

(4)

أحمد (24765)، وأبو داود (2135)، والحاكم (2760).

(5)

مسلم (1474).

(6)

البخاري (5217)، ومسلم (2443).

(7)

البخاري (2593)، ومسلم (2770).

ص: 426

تضمنت هذه الأحاديث هديه صلى الله عليه وسلم في القسم بين زوجاته الحديثة والقديمة، وفي سفره وإقامته، وما يتبع ذلك من مصالحته لبعض أزواجه في حقها، وتحريه للعدل في القسم، وإن لم يكن واجبًا عليه، لقوله تعالى:{تُرْجِي مَنْ تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاء} [الأحزاب: 51].

وفي هذه الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه، ويعدل بينهن في القسم.

2 -

أن العدل الواجب في ذلك هو ما يملكه الإنسان، وهو المستطاع.

3 -

أنه لا لوم على الإنسان بترك ما لا يستطيع كالمحبة، وقيل: كالجماع؛ لأنه تابع للمحبة، والصحيح أن العدل في الجماع ممكن، فلا يحل له تعمد ترك جماع إحداهن ليتوفر للأخرى.

مسألة: هل يجب على الرجل العدل بين زوجاته في الهبة والعطية، مما هو زائد على الواجب؟

ذهب كثير من الفقهاء من أصحاب المذاهب إلى أنه لا يجب العدل في مثل ذلك، فله أن يفضل إحدى زوجاته بهدية أو عطية، وهذا القول خلاف ظاهر الأدلة من الكتاب والسنة، كقوله سبحانه:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ» والعدل في الهبة والعطية مقدور عليه، فتجب مراعاته، ومن لا يعدل في ذلك لن تستقيم حياته الزوجية، بل يكون معهن في شقاق وشقاء، ولا يدفع الفساد والإثم بإخفاء ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»

(1)

، وقد يكون من دوافع تفضيل إحدى الزوجات مراعاة أولادها، لأن ما يخصها به يعود شيء من نفعه إليهم، فيفضي ذلك إلى نوع آخر من الجور، وهو ترك العدل بين الأولاد، والله أعلم.

(1)

رواه مسلم (2553)؛ عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.

ص: 427

4 -

جواز إضافة اللوم إلى الله في مقام النفي، كما في هذا الحديث، وفي قوله تعالى:{فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين (6)} [المؤمنون: 6]، وجاء في مقام الإثبات، كما روي في السنن:«إِنْ الله يَلُومُ على العَجْز، ولكن عليكَ بالكَيْس»

(1)

.

5 -

أن استطاعة العبد تكون بإقدار الله له، فلا يقدر إلا على ما أقدره الله عليه.

وفي الحديث الثاني:

1 -

وجوب العدل بين الزوجات، ومنه العدل في القَسم.

2 -

تحريم الميل إلى إحدى الزوجات بترك العدل المستطاع.

3 -

أنه من كبائر الذنوب.

4 -

أن الجزاء من جنس العمل.

5 -

أن من العقوبات على بعض الذنوب الفضيحة يوم القيامة، ولهذا شواهد من القرآن والسنة، قال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، وكقوله صلى الله عليه وسلم:«يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فقيل هذه غَدْرَةُ فلانِ بنِ فلانٍ»

(2)

.

وفي الحديثين الثالث والرابع:

1 -

أن من حق الزوجة الجديدة إن كانت بكرًا الإقامة عندها سبع ليال بأيامها، وإن كانت ثيبًا فحقها ثلاث ليال.

2 -

الحكمة في هذا الفرق بين البكر والثيب، وهي ما استقر في العرف من تفضيل البكر على الثيب، وما تشعر به البكر من ذلك.

3 -

أن هذا التفضيل لا ينافي العدل الواجب، بل هو من العدل؛ لأن كل ما شرعه الله فهو عدل.

(1)

رواه أحمد (23983)، وأبو داود (3627)؛ عن عوف بن مالك رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (6178)، ومسلم (1735)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 428

4 -

أن الزوجة الحديثة الثيب إذا اختارت التسبيع، جاز ذلك للرجل، ووجب لغيرها مثلها، ولم تكن لها مزية.

5 -

أن أم سلمة من أمهات المؤمنين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة.

6 -

أن الإقامة عند الثيب ثلاثًا ليس لهوان بها.

7 -

بيان ما يحتاج ذو العلاقة إلى بيانه ليكون على بينة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي» .

وفي الحديث الخامس:

1 -

جواز مصالحة المرأة زوجها بتنازلها عن حقها في القسم لتبقى في عصمته.

2 -

جواز أن تهب يومها وليلتها لإحدى ضراتها.

3 -

حكمة سودة أم المؤمنين رضي الله عنها في تصرفها بإيثارها في يومها وليلتها عائشة أحبَّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وقد نزل في هذا الصلح قوله تعالى:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128].

4 -

أن من تنازل عن حق له سقط فلا يطالِب به، كالإبراء من الدين.

5 -

أن من طلقها النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون من أمهات المؤمنين، ولذا آثرت سودة أن تهب يومها وليلتها لعائشة، لتبقى في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، فيبقى لها فضل ذلك في الدنيا والآخرة.

وفي أحاديث عائشة الأربعة الأخيرة:

1 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يطوف على نسائه في يوم إحداهن، أي يزورهن، حتى ينتهي إلى التي هو يومها، فيستقر عندها ويبيت، وفي هذا تجديد العهد مع كل واحدة حتى لا تطول الغيبة عنهن، وفيه إيناس لهن، وتوثيق للمودة.

ص: 429

2 -

أن زيارة الرجل لبعض نسائه في يوم إحداهن لا تنافي العدل، لكن من غير جماع، لقول عائشة:«فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ» .

3 -

أن المهم من القسم المبيت، لقولها:«حَتَّى يَبْلُغَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا، فَيَبِيتَ عِنْدَهَا» .

4 -

قيام النبي صلى الله عليه وسلم بحقوق الأهل مع ما هو متحمل من شؤون الأمة.

5 -

محبة النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، ففيه شاهد لما في «الصَّحِيحَيْنِ»: قيل: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال:«عَائِشَة»

(1)

.

6 -

فضيلة عائشة رضي الله عنها على سائر أزواجه صلى الله عليه وسلم، واختلف في أفضلهن، فقيل: عائشة، وقيل: خديجة رضي الله عنهما، وقيل: كل واحدة منهما أفضل من وجه، فخديجة لسبقها ومؤازرتها للنبي في أول أمره، وعائشة لفقهها وعلمها وروايتها.

7 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه حتى في مرضه إلى أن استقر في بيت عائشة بإذن نسائه، ويشهد له ما في «الصَّحِيحَيْنِ» أنه صلى الله عليه وسلم مات في بيتها، وبين سحرها ونحرها

(2)

.

8 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر تعتريه الأعراض البشرية من المرض وغيره.

9 -

حسن عشرة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ومراعاتهن له فيما يحب.

10 -

جواز سفر الرجل بإحدى نسائه، وتعيينها يكون بالقرعة، لا بالهوى والرغبة، إلا أن تأذن له البواقي بطيب نفس.

11 -

مشروعية القرعة لتعيين المستحق عند التساوي.

* * * * *

(1)

البخاري (3662)، ومسلم (2384)؛ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

(2)

البخاري (4450)، ومسلم (2443)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 430

(1207)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في بيان منزلة الزوجة عند الرجل، وأنها ليست كالخادم.

وفيه فوائد، منها:

1 -

جواز ضرب الرجل امرأته في الجملة؛ لتقصيرها في حقه كما يشهد له قوله تعالى: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ»

(2)

.

2 -

تحريم امتهان الرجل امرأته بالضرب بشبهة الرخصة في ذلك.

3 -

أن للرجل سلطانًا على امرأته، كما يشهد له قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} [النساء: 34].

4 -

جواز ضرب الرجل عبده بلا عدوان، إذا أساء.

5 -

أن للرجل سلطة على عبده بالمعروف؛ لأنه مالكه.

6 -

أن الرجل يتحمل من الضرب ما لا تتحمله المرأة.

7 -

مراعاة الحكمة في الأفعال، وهي وضع الأمور في مواضعها، ومنها الفرق بين المختلفات.

* * * * *

(1)

البخاري (5204).

(2)

رواه مسلم (1218)؛ عن جابر رضي الله عنه.

ص: 431

‌بَابُ الخُلْعِ

الخُلع نوع من الفرقة بين الرجل والمرأة، وهو ما كان بسببها أو برغبتها، وهو يتم على عوض من جهتها أو من غيرها برضاها، والخُلع اسم مصدر من خلع الرجل امرأته، إذا فسخ نكاحها، وهو فسخ لا طلاق، ولا رجعة فيه، والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، ومن السنة حديث امرأة ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنهما، والخلع طريق لتخلص المرأة ممن لا ترضى عشرته والمقام معه، وهذا من حكمة الشريعة ومحاسنها.

* * * * *

(1208)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» ، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(1209)

وَفِي رِوَايَةٍ له: «وَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا»

(2)

.

(1210)

ولأَبِي دَاوُدَ والتِّرمِذِيِّ وحسنه: «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِدَّتَهَا حَيْضَةً»

(3)

.

(1211)

وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ كَانَ دَمِيمًا، وَأَنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ:«لَوْلَا مَخَافَةُ اللهِ إِذَا دَخَلَ عَلَيَّ لَبَصَقْتُ فِي وَجْهِهِ»

(4)

.

(1)

البخاري (5273).

(2)

البخاري (5274).

(3)

أبو داود (2229)، والترمذي (1185).

(4)

ابن ماجه (2057).

ص: 432

(1212)

ولأَحْمَدَ؛ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ: «وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ»

(1)

.

* * *

هذا الحديث برواياته في شأن امرأة ثابت بن قيس بن شماس هو الأصل من السنة في مشروعية الخلع.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن امرأة ثابت اختلعت منه، وأنه أول خلع وقع في الإسلام.

2 -

جواز أن تطلب المرأة الطلاق أو الخلع إذا كرهت زوجها، ولم تطق المقام معه لعيب في خَلْقه أو خُلُقه، فإن كان لظلمه جاز لها، ولم يحل له ما يأخذه منها.

3 -

أن المرأة إذا رغبت في الفرقة فللزوج أن يطالب بما أعطاها من المهر.

4 -

أن العوض يكون برد ما أخذت من الصداق؛ لقوله: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» ، قيل: لا تجوز طلب الزيادة على ما أخذت، وقيل: تجوز لقوله تعالى: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وينبغي أن يرجع في هذا إلى اجتهاد الحاكم عند التشاح.

5 -

وجوب الطلاق على الزوج إذا طلبت المرأة ذلك، وردت ما أخذت من الصداق.

6 -

أن الصداق قد يكون عقارًا.

7 -

أن عدة المختلعة تكون بحيضة، وذهب الجمهور إلى أن عدتها كالمطلقة.

8 -

أن الخلع فسخ وليس بطلاق، فلا يحتسب من عدد الطلقات، وفي ذلك ثلاثة مذاهب، قيل: إنه طلاق مطلقًا، وقيل: فسخ مطلقًا، وقيل: إن كان بلفظ الطلاق فهو طلاق، وإلا فهو فسخ، والله أعلم بالصواب، ومن الدليل

(1)

أحمد (16095).

ص: 433

على أنه فسخ ما جاء في الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عدتها حيضة، ومن الدليل على أنه طلاق قوله صلى الله عليه وسلم:«وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» .

9 -

أن الشقاق إذا كان من أحد الزوجين فلا حاجة إلى بعث الحكمين.

10 -

أن الخلع نوع من الفرقة بين الزوجين، وهو طريق لتخلص المرأة من المقام على ما تكره.

11 -

الاحتياط لسلامة الدين؛ لقولها: «وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ» ، والمراد بالكفر كفر الإحسان.

12 -

أن الكراهة الطبيعية لا تنافي ما يجب من الموالاة الشرعية.

13 -

ذكر المرأة السبب الباعث على طلب الفرقة لإقامة عذرها.

14 -

الإرشاد إلى السنة في الطلاق وغيره؛ لقوله: «وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» .

* * * * *

ص: 434

‌كِتَابُ الطَّلَاقِ

ص: 435

الطلاق: اسم مصدر من طلَّق الرجل امرأته تطليقًا، وهو حَل عقدة النكاح الصحيح بما يدل عليه من الألفاظ، والأصل أنه بغيض شرعًا، ولكن الله شرعه إذا دعت إليه حاجة أو ضرورة، فهو من محاسن الإسلام.

وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع، وهو من حيث حكمه تجري فيه الأحكام التكليفية الخمسة؛ فيجب إذا ترتب على بقاء النكاح مفسدة راجحة، لا تجوز الإقامة عليها، ويحرم كطلاق البدعة، ويستحب إذا ترجحت مصلحته، ويكره إذا كان بغير سبب، ويباح فيما سوى ذلك.

* * * * *

(1213)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَرَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ

(1)

.

(1214)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أنهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:«مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1215)

وَفِي رِوَايَةٍ لمسْلِمٍ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا»

(3)

.

(1216)

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: «وَحُسِبَتْ عَلَيْهِ تَطْلِيقَةً»

(4)

.

(1)

أبو داود (2178)، وابن ماجه (2018)، والحاكم (2794)، ينظر:«العلل» لابن أبي حاتم (1297).

(2)

البخاري (5251)، ومسلم (1471).

(3)

مسلم (1471).

(4)

البخاري (5253).

ص: 437

(1217)

وَفِي رِوَايَةٍ لمسْلِمٍ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أُرَاجِعَهَا، ثُمَّ أُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ»

(1)

.

(1218)

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: فَرَدَّهَا عَلَيَّ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَقَالَ:«إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ»

(2)

.

* * *

هذان الحديثان قد تضمنا حكم الطلاق في سائر أحوال المرأة من حيث الطهر والحيض، وفي الحديث الأول حكم الطلاق إجمالًا، وفي الثاني بيان حكمه تفصيلًا.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن الأصل في الطلاق الحل مع الكراهة.

2 -

أن الله يبغض بعض الأفعال، وما أبغضه فهو حرام إلا أن يدل دليل على حله، كما في هذا الحديث.

3 -

بيان طلاق السنة وطلاق البدعة، فطلاق السنة أن يطلق الرجل امرأته في طهر لم يمسها فيه، أو حاملة بينة الحمل. وطلاق البدعة أن يطلقها حائضًا، أو في طهر جامعها فيه.

4 -

وجوب ارتجاع المطلقة في الحيض حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم بعد ذلك يخير بين إمساكها أو طلاقها.

5 -

أن من طلق زوجته في الحيض لزمه أن ينتظر حتى تطهر بعد الحيضة الثانية.

(1)

مسلم (1471).

(2)

مسلم (1471)، إلا أن قوله:«وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا» ليس عند مسلم، بل هي عند أبي داود (2185).

ص: 438

6 -

سؤال الرجل عن حكم ما فعله ابنه من طلاق ونحوه.

7 -

جواز طلاق الحامل، خلافًا لما يعتقده العامة.

8 -

جواز طلاق من لا تحيض لصغر أو إياس.

9 -

أن من ناب عن غيره في السؤال عن حكم شرعي يجب عليه أن يبلغه، ويأمره بما أمره الله به ورسوله.

10 -

أن الأمر بما أمر الله به ورسوله تبليغ للشرع.

11 -

وقوع طلاق البدعة؛ لقوله: «وَحُسِبَتْ عَلَيْهِ تَطْلِيقَةً» ، ولقوله:«مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» والرجعة إنما تكون بعد طلاق، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم، وهو قول لابن عمر صاحب القصة، وذهب جمع من العلماء من السلف والخلف إلى عدم الوقوع؛ لأن ما كان محرمًا فليس عليه أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون مردودًا، وهذا القول قوي في النظر والدليل. وفي المسألة استدلالات من الجانبين ومناقشات طويلة، يرجع إليها في كتب الخلاف، وقد بسط ابن القيم أدلة الفريقين في «زاد المعاد» ، ورجح -كشيخه - عدم الوقوع

(1)

.

12 -

تضييق الشرع لفرصة الطلاق مما يؤكد كراهته، ووجه ذلك تحريم الطلاق في الحيض، وفي الطهر الذي حصل فيه جماع، وهما غالب حال المرأة، وهو الوقت الذي تقل فيه الرغبة في المرأة، وهذا هو الصواب في الحكمة لا من أجل تضمن تحريم الطلاق تطويل العدة.

13 -

أن الأحكام الشرعية قد يخفى بعضها على بعض أهل العلم.

14 -

أن السنة تفسر القرآن؛ لقوله: «فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» ، والمراد قوله تعالى:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} .

* * * * *

(1)

«زاد المعاد» (5/ 202)، وينظر:«مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام (33/ 18 و 66 و 130).

ص: 439

(1219)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ؟ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1220)

وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ غَضْبَانَ ثُمَّ قَالَ:«أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» . حَتَّى قَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَقْتُلُهُ؟ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ

(2)

.

(1221)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ أُمَّ رُكَانَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«رَاجِعِ امْرَأَتَكَ» ، فَقَالَ: إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا، قَالَ:«قَدْ عَلِمْتُ، رَاجِعْهَا» . رواه أبُوْ دَاوُدَ

(3)

.

(1222)

وفي لفظ لأحمد: طَلَّقَ أَبُو رُكَانَةَ امْرَأَتَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّهَا وَاحِدَةٌ» . وَفِي سَنَدِهِمَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَفِيهِ مَقَالٌ

(4)

.

(1223)

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَحْسَنَ مِنْهُ: أَنَّ رُكَانَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ، فَقَالَ:«وَاللهِ مَا أَرَدْتُ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً» ، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

(5)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت حكم طلاق الثلاث مجموعة بلفظ واحد، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن جمع الثلاث بدعة، فهو محرم، ولكنه يقع ثلاثًا، وذهب جمع من السلف والخلف إلى أنه يقع واحدة، واستدل على تحريمه

(1)

مسلم (1472).

(2)

النسائي في «الكبرى» (5564).

(3)

أبو داود (2196).

(4)

أحمد (2387).

(5)

أبو داود (2206).

ص: 440

-أي جمع الثلاث - بحديث محمود بن لبيد المذكور، واستدل القائلون بأنه يقع واحدة بحديث ابن عباس، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله

(1)

.

واستدل الجمهور على أن جمع الطلاق يقع ثلاثًا بما جاء في حديث اللعان، وأن الرجل قال: هي طالق ثلاثًا، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم فرق بينهما

(2)

، وقد نوقش هذا الاستدلال بأن تفريق النبي صلى الله عليه وسلم لا بالطلاق، بل لمجرد اللعان، واستدلوا بإمضاء عمر رضي الله عنه الطلاق على من طلق ثلاثًا جميعًا، وبموافقة جمهور الصحابة له.

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

أن غاية ما يملكه الرجل من الطلاق ثلاث تطليقات.

2 -

تحريم جمع الثلاث.

3 -

أن طلاق الثلاث مجموعة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة، وكذلك في عهد أبي بكر، وسنتين من خلافة عمر.

4 -

أن من السياسة الشرعية إلزام من خالف حكم الشرع بموجَب قوله، لذلك ألزم عمر رضي الله عنه من طلق ثلاثًا جميعًا بوقوع الطلقات الثلاث.

5 -

قوة مذهب من جعل طلاق الثلاث واحدة؛ لأن العمل على ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه.

6 -

الغضب عند الموعظة.

7 -

شدة غيرة النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهكت محارم الله.

(1)

ينظر: «مجموع الفتاوى» (33/ 18 و 67 و 130)«الفتاوى الكبرى» كلاهما لشيخ الإسلام (3/ 225)، و «إعلام الموقعين» لابن القيم (4/ 377).

(2)

رواه البخاري (5309)، ومسلم (1492)؛ عن سهل بن سعد رضي الله عنه.

ص: 441

وفي حديث أبي ركانة رضي الله عنه:

8 -

أن طلاق الثلاث مجموعة أو مفرقة يكون واحدًا، تباح بعده الرجعة، كما في الرواية الأولى لأَبِي دَاوُدَ وعِنْدَ أحمَدَ.

9 -

أن «الْبَتَّةَ» كناية يقع بها ما نواه، فإن نوى الثلاث فعلى الخلاف، وإن نوى واحدة فواحدة، كما تفيده الرواية الثانية عند أبي داود.

* * * * *

(1224)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ» . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

(1225)

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ: «الطَّلَاقُ، وَالْعِتَاقُ، وَالنِّكَاحُ»

(2)

.

(1226)

وَلِلْحَارِثِ ابْنِ أَبِي أُسَامَةَ: مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَفَعَهُ: «لَا يَجُوزُ اللَّعِبُ فِي ثَلَاثٍ: الطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْعِتَاقُ، فَمَنْ قَالَهُنَّ فَقَدْ وَجَبْنَ» . وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ

(3)

.

(1227)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلَّمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

(1228)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَثْبُتُ

(5)

.

(1)

أبو داود (2194)، والترمذي (1184)، وابن ماجه (2039)، والحاكم (2800).

(2)

ابن عدي في «الكامل» (7/ 109).

(3)

«بغية الباحث» (503).

(4)

البخاري (5269)، ومسلم (127).

(5)

ابن ماجه (2045) والحاكم (2801)، ينظر:«العلل» لابن أبي حاتم (1296).

ص: 442

هذه الأحاديث إلى آخر الباب تضمنت حكم أنواع من الطلاق، وهي طلاق الهازل، والمكره، والمخطئ، وغير المكلف، والطلاق في النَّفْس، وحكم بعض كنايات الطلاق، والطلاق قبل النكاح.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن كلام الهازل في الطلاق والنكاح والرجعة ككلام الجاد يقع مقتضاه.

2 -

أن كلام الهازل في العتق ككلام الجاد، والهازل من لا يريد من كلامه حقيقته ولا حصول مقتضاه، واختلف العلماء في طلاق الهازل ونكاحه، فذهب أكثر العلماء إلى أنه يلزمه موجَب قوله وإن لم ينوه، لحديث أبي هريرة:«ثَلَاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ» .

وذهب آخرون إلى عدم وقوع طلاق الهازل وعدم صحة عقوده، لخلوها عن النية، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(1)

، ورد هذا بأن الهازل قاصد لمعنى كلامه، غير قاصد لحصول مقتضاه، ووقوع مقتضى كلامه ليس إليه، بل إلى الشرع، فمن تكلم بكلام وهو يريد معناه أخذ به، فلهذا: من تكلم بكلمة الكفر، وهو يعلم معناها -وإن كان لا يريد أن يكفر - فإنه يكفر بذلك.

3 -

أن مجرد حديث النفس لا يقع به طلاق ولا غيره، ولو عزم عليه بقلبه ولم يعمل ولم يتكلم مع قدرته على ذلك.

4 -

أن طلاق الناسي والمخطئ والمكره لا يقع، لحديث:«إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ، فمن طلق ساهيًا أو سبق لسانه بالطلاق أو أكره على الطلاق، لم يقع طلاق واحد منهم، وذلك لخلو الكلام

(1)

رواه البخاري (1)، ومسلم (1907)؛ عن عمر رضي الله عنه.

ص: 443

عن النية، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على صحة معنى هذا الحديث، كما قال تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، «قَالَ اللهُ: قَدْ فَعَلْتُ»

(1)

، وقال سبحانه:{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، وقد عذر الله من تكلم بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.

5 -

أن القول الراجح هو العفو عن الخطأ والنسيان في الطلاق بفعل المحلوف عليه أو تركه خطأً أو نسيانًا.

6 -

أن من قال قولًا أو عمل عملا فإنه يؤاخذ به، إلا أن يكون خطأً أو نسيانًا أو عن إكراه.

7 -

أنه إذا قرن القول بالعمل أو الفعل فإن القول يختص بعمل اللسان، وإذا أطلق العمل أو الفعل دخل فيه القول.

8 -

رحمة الله بهذه الأمة، حيث وضع عنها المؤاخذة بحديث النفس والخطأ والنسيان والإكراه.

9 -

إثبات الحكم المطلق لله، كما قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} [الأنعام: 57]، فالحلال ما حلَّله، والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعه، والعفو ما عفا عنه.

* * * * *

(1229)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ» . وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(2)

.

(1230)

وَلِمُسْلِمٍ: «إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا»

(3)

.

* * *

(1)

رواه مسلم (126)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

البخاري (5266).

(3)

مسلم (1473).

ص: 444

هذا الحديث يتضمن حكم تحريم الرجل لزوجته، مثل أن يقول: أنت عليَّ حرام، وقد اختلف السلف والخلف في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا، على أكثر من خمسة عشر قولًا، ذكرها ابن القيم في «إعلام الموقعين»

(1)

.

منها: أنه ظهار، كقوله: أنتِ عليَّ كظهر أمي، فتجب فيه كفارة الظهار.

ومنها: أنه طلاق بائن إذا نوى به الطلاق.

ومنها: أنه كتحريم الأمة السُّرية، وكتحريم الطعام، فتكون يمينًا مكفرة، وهذا ما يقتضيه قول ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة يشير به إلى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم (2)} [التحريم: 1 - 2]، وهذه الآيات نزلت في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه العسل الذي كان يشربه عند بعض أزواجه، إرضاءً لبعضهن

(2)

، أو تحريمه لمارية رضي الله عنها، كما جاء في سبب النزول

(3)

، وجمهور العلماء يفرقون بين تحريم السُّرية، وتحريم الزوجة، ولهذا اتفقوا أن تحريم السُّرية كتحريم الطعام، تجب فيه كفارة اليمين، لقوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ، وأما تحريم الزوجة ففيه الاختلاف الذي سبقت الإشارة إليه

(4)

.

والراجح ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما، وهو أن تحريم الرجل امرأته يمينٌ تَحُلُّها الكفارة، كتحريم السُّرية، وقد رفع ابن عباس هذا الحكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ومحل هذا فيما إذا قال الرجل ذلك منشئًا يريد تحريمها على نفسه وامتناعه منها، كما يُحَرِّم الرجل سريته على نفسه أو الطعام، كما جاء في سبب نزول الآية، أما إذا قال:

(1)

«إعلام الموقعين» (4/ 451 - 459).

(2)

رواه البخاري (5267)، ومسلم (1474)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

(3)

رواه النسائي في «الكبرى» (11543)؛ عن أنس رضي الله عنه.

(4)

«إعلام الموقعين» (4/ 454).

ص: 445

أنتِ عليَّ حرام، على وجه الخبر، فهو كذب، ولا تكون يمينًا، ولا تجب عليه كفارة. وهذا أحسن ما يحمل عليه اختلاف الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ولما ذكر ابن القيم المذاهب بدأ بهذا القول، وذكر أنه «قاله شيخا الإسلام وبصرا الدين وسمعُه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وتبعهما حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما» ، ثم عرض ابن القيم المذاهب وأدلتها ومآخذها، على نحو سياق ابن حزم

(1)

، ورجح قول شيخه ابن تيمية حيث قال:«وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كله، وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهارًا، ولو نوى به الطلاق، وإن حلف به كان يمينًا مكفرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه يدل النص والقياس»

(2)

، وللشيخ محمد العثيمين رحمه الله في قول الرجل لامرأته: أنت عليَّ حرام تفصيل حسن، ذكره في شرح الزاد، لعله يجمع أهم المذاهب في هذه المسألة، قال رحمه الله: «القول الراجح أنه إذا قال لزوجته: أنت عليَّ حرام، ونوى به الخبر دون الإنشاء، فإننا نقول له: كذبت، وليس بشيء؛ لأنها حلال، كما لو قال: هذا الخبز عليَّ حرام، يريد الخبر لا الإنشاء، فنقول: كذبت، هذا حلال، لك أن تأكله.

وإذا نوى الإنشاء، أي: تحريمها، فهذا إن نوى به الطلاق فهو طلاق؛ لأنه قابِلٌ لأن يكون طلاقًا، وإن نوى به الظهار فهو ظهار، وإن نوى به اليمين فهو يمين»

(3)

.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن في تحريم الرجل امرأته عن ابن عباس روايتين؛ إحداهما: أنه ليس بشيء، والثانية: أنها يمين مكفرة، والأشبه: حمل الرواية الأولى على الثانية،

(1)

«المحلى» (9/ 302).

(2)

«إعلام الموقعين» (4/ 463).

(3)

«الشرح الممتع» (13/ 79).

ص: 446

وتأويل قوله: «لَيْسَ بِشَيْءٍ» أنه لا يوجب تحريمًا، ليس مراده أنه لا يجب فيه الكفارة.

2 -

تعظيم ابن عباس رضي الله عنهما للسنة، استدلالًا واحتجاجًا بها على المخالف، كما احتج على معاوية رضي الله عنه باستلام الركنين الشاميين بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين، ثم استدل بقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]

(1)

.

3 -

أن الحجة بالسنة، لا برأي أحد من الناس، ويشهد لهذا ما جاء عنه رضي الله عنه في شأن متعة الحج أنه قال لمن نازعه فيها:«يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟»

(2)

.

* * * * *

(1231)

وَعنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَنَا مِنْهَا. قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، قَالَ:«لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(3)

.

* * *

في هذا الحديث بيان حكم الكناية في الطلاق، والمراد بالكناية اللفظ المحتمل الطلاق وليس نصًّا فيه، ومن ذلك قول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك، وحكم كناية الطلاق عند العلماء اعتبار النية فيها أو القرينة كسؤال المرأة الطلاق.

(1)

رواه أحمد (1877)، بهذا اللفظ وأصل الحديث بدون ذكر الآية. ورواه البخاري (1608)، ومسلم (1269).

(2)

رواه بنحوه الإمام أحمد في مسنده (1/ 337)، والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 145)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 239).

(3)

البخاري (5254).

ص: 447

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ابنة الجون.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها.

3 -

أن من كنايات الطلاق قول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك، وهي في هذا الحديث قد أراد النبي صلى الله عليه وسلم بها الطلاق؛ لقوله:«لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ» ، بخلاف ما جاء في قصة كعب بن مالك أنه قال لامرأته:«الحقي بأهلك»

(1)

؛ إذ لم يرد طلاقها، وإنما أراد مجرد اعتزالها، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

4 -

أن من طلقها النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون من أمهات المؤمنين.

5 -

أن من تعظيم الله إعاذة من استعاذ به، ففيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ»

(2)

.

6 -

أن ابنة الجون كانت غِرَّة، وقد جاء في قصتها أن بعض النساء قلن لها: إذا دخل عليكِ رسولُ الله فقولي: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ» ، فخدَعْنها

(3)

.

* * * * *

(1232)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ، وَلَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ» . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ مَعْلُولٌ

(4)

.

(1)

البخاري (4418)، ومسلم (2769).

(2)

رواه أحمد (5743)، وأبو داود (5109)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

ينظر: «طبقات ابن سعد» (8/ 145)، و «المستدرك» للحاكم (4/ 39)، و «فتح الباري» (9/ 359).

(4)

رواه الحاكم (2/ 204) والبيهقي (7/ 319) والطبراني في «الأوسط» (290)، ولم نجده في مسند أبي يعلى، ورجح أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني أنه مرسل. ينظر:«العلل» لابن أبي حاتم (1220)، و «العلل» للدارقطني 3/ 74 (292).

ص: 448

(1233)

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ: عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ مِثْلَهُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ أَيْضًا

(1)

.

(1234)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ لَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَنُقِلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِيهِ

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث الثلاثة موضوعها واحد، وهي أصلٌ في حكم التصرف في الشيء قبل مِلكه، وقد شملت الأحاديث ثلاثة أمور:

الأول: الطلاق قبل النكاح.

الثاني: العتق قبل المِلك.

الثالث: النَّذر قبل المِلك.

والأحاديث الثلاثة مختلف في الاحتجاج بها، ولكنها بمجموعها مع الآثار عن الصحابة تنهض للاحتجاج بها والعمل بها، وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الأحكام مرتبطة بأسبابها.

2 -

أن العقود تقتضي جواز التصرف المناسب لها.

3 -

صحة الطلاق بعد النكاح.

4 -

أنه لا يصح الطلاق قبل النكاح، لا منجَّزًا ولا معلَّقًا، وفي المعلَّق قولان، كما لو قال: إن تزوجتُ فلانة فهي طالق، والصحيح أنه لا يقع؛ لأنها ليست محلًّا للطلاق، والمطلِّق ليس أهلا لهذا التصرف؛ لأنه ليس زوجًا.

(1)

ابن ماجه (2048)، وحسَّن إسناده البوصيري في «الزوائد» (2/ 132)، وذكر الحافظ اختلاف العلماء فيه في كتابه «التلخيص الحبير» (3/ 238).

(2)

أبو داود (219) والترمذي (1181) وصحَّحه.

ص: 449

5 -

صحة العتق بعد المِلك.

6 -

أنه لا يصح قبل المِلك، كما لو قال: عبدُ فلانٍ حرٌّ، أو: هذا العبد حرٌّ، فلو ملَكه لم يعتق، وإن علَّق عتقه على مِلكه فملَكه لم يعتق عند الجمهور، ويعتق عند الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنه يفرق بين العتق والطلاق؛ لأن مِلك العبد يُقصد للعتق، بخلاف الطلاق؛ فإن النكاح لا يُقصد لأجل الطلاق عند العقلاء، ويقال أيضا: إن الشرع له تشوُّفٌ إلى تحرير الرقيق.

7 -

أن النَّذر لا يلزم إلا فيما يملكه الإنسان؛ فمن نذر التصدق بمعيَّن لا يملكه، أو عِتْقَ عبد لا يملكه لم يلزم التصدق ولا العتق بعد المِلك، اللهم إلا على قول الإمام أحمد في العتق، كما تقدم.

* * * * *

(1235)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ، أَوْ يَفِيقَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في سقوط التكليف عن المذكورين: النائم والصغير والمجنون، ونحوهم، وقد أجمع العلماء على معنى هذا الحديث في الجملة، ولهذا اشترطوا البلوغ والعقل في وجوب الواجبات، وفي ترتب الإثم على فعل المحرمات، وأما النائم فكذلك لا يأثم بترك واجب ولا فعل محرم، ولكن يتعلق به الوجوب، ولذلك يجب عليه قضاء ما فاته في نومه من الصلوات، والمراد بالقلم قلم التكليف، ورفع القلم معناه لا تكتب عليه السيئات، ولا يؤاخذ بترك واجب ولا فعل محرم؛ لفقد شرط التكليف،

(1)

رواه أحمد (24694)، وأبو داود (4398)، والنسائي في «الكبرى» (5596)، وابن حبان (2041)، والحاكم (2350).

ص: 450

وهو البلوغ والعقل، ويلحق بالنائم والمجنون كل من زال عقله بسبب ليس باختياره، أما من زال عقله بسبب محرم كالسكران، فللعلماء تفصيل في حكم أقواله وأفعاله.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن النائم غير مكلف.

2 -

أن المجنون غير مكلف.

3 -

أن الصغير غير مكلف.

4 -

أن شرط التكليف العقل والبلوغ.

5 -

أن كل من زال عقله لا يؤاخذ بأقواله وأفعاله فيما يتعلق بحقوق الله، وأما ما يتعلق بحقوق العباد فيؤاخذ بأفعاله، فيضمن ما أتلفه.

6 -

أن السكران لا يقع طلاقه، وكذلك الغضبان غضبًا يغيب عقله.

7 -

يسر الشريعة ورحمة الله بعباده.

8 -

أن المذكورين ونحوهم لا تكتب سيئاتهم بخلاف سواهم.

* * * * *

ص: 451

‌بَابُ الرَّجْعَةِ

المراد بالرجعة: رد الرجل امرأته المطلقة إلى ما كانت عليه قبل الطلاق، وشروطها: أن تكون في العدة من طلاق رجعي في نكاح صحيح.

والأصل في مشروعية الرجعة قوله تعالى في المطلقات: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] أي: في مدة التربص، وليس من شروط الرجعة رضا الزوجة؛ لأن الرجعة حق للزوج على مطلقته الرجعية، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، وتثبت بما يدل عليها من قول أو فعل، والمطلقة الرجعية زوجة إلا أنه لا قسم لها.

* * * * *

(1236)

عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ، ثُمَّ يُرَاجِعُ، وَلَا يُشْهِدُ؟ فَقَالَ:«أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا، وَعَلَى رَجْعَتِهَا» . رَوَاهُ أبُوْ دَاوُدَ هَكَذَا مَوْقُوفًا، وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ

(1)

.

(1237)

وأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ: أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما سُئِلَ عَمَّنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُشْهِدْ، فَقَالَ:«فِي غَيْرِ سُنَّةٍ فَلْيُشْهِدِ الآنَ»

(2)

.

(1238)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ،؛ أنهُ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ:«مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل من السنة في جواز الرجعة.

(1)

أبو داود (2186).

(2)

البيهقي في «الكبرى» (15189).

(3)

البخاري (5251)، ومسلم (1471).

ص: 452

وفي هذه الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز الرجعة.

2 -

مشروعية الإشهاد عليها وعلى الطلاق، وقد أمر الله بالإشهاد على الرجعة في قوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، والآية والحديث يدلان على وجوب الإشهاد؛ لأن فيهما الأمر به.

3 -

أن من لم يشهد على الطلاق والرجعة يشهد ولو بعد وقت؛ لقول عمران: «فَلْيُشْهِدِ الآنَ» .

4 -

أن من طلق امرأته في الحيض يؤمر بمراجعتها.

* * * * *

ص: 453

‌بَابُ الإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ وَالكَفَّارَةِ

أدرج المؤلف رحمه الله في هذه الترجمة ثلاث مسائل؛ الإيلاء والظهار والكفارة، والإيلاء: أن يحلف الرجل على ترك جماع زوجته مطلقًا أو أكثر من أربعة أشهر، وقد ذكر الله حكمه في قوله تعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226]، فينظر المولي أربعة أشهر ليرجع عن حلفه، أو يطلق، كما قال تعالى:{فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم (227)} [البقرة: 226 - 227]، فيمهل المولي أربعة أشهر، ثم يوقف ويؤمر؛ إما أن يفيء، أو يطلق.

الثاني -مما ذكره المؤلف-: الظهار، وهو أن يقول لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي، وهذا منكر من القول وزور، وهو كلام باطل، فالزوجة حلال وطؤها، والأم أعظم من يحرم عليه نكاحها، وفي حكم الأم سائر المحرمات في النكاح؛ كالبنت والأخت، ولا يختص الظهار بذكر الظهر، بل يشمل كل أعضاء المحرَّمة؛ كالبطن والفرج، وهذا قول الجمهور، وخصَّ ابن حزم الظهار بالظهر من الأم؛ لأن أصله عدم القياس

(1)

.

الثالث: الكفارة، والمراد كفارة الظهار، وتجب بالعزم على الوطء، وهو المراد من العود على قول الجمهور في قوله تعالى:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، وحكم الظهار وكفارته ذكرهما الله في آيات سورة المجادلة من قوله:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِّسَائِهِم مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] إلى قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة: 4]، فكفارة الظهار أحد ثلاثة أشياء مرتبة؛ عتق رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.

* * * * *

(1)

«المحلى» (9/ 189).

ص: 454

(1239)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ، فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا

(1)

، وَجَعَلَ لِلْيَمِينِ كَفَّارَةً». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ

(2)

.

(1240)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وُقِفَ الْمُؤْلِي حَتَّى يُطَلِّقَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

.

(1241)

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: «أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَقِفُونَ الْمُولِي» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ

(4)

..

(1242)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ إِيلَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، فَوَقَّتَ اللهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ» . أخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ

(5)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت حكم الإيلاء.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه، وجاء في بعض الروايات: آلى من نسائه شهرًا

(6)

.

2 -

أنه صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه بعض ما أحل الله له، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، قيل: المراد بذلك أَمَتُه، وقيل: المراد العسل الذي كان يشربه عند بعض نسائه.

(1)

تنبيه: في بعض نسخ البلوغ: «فَجَعَلَ الْحَلالَ حَرَامًا» ، وهو غلط، والصواب:«فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا» ، كما في الترمذي وسائر المصادر الحديثية، إلا عند ابن ماجه، والأظهر؛ أنه تحريف، ومعناه ما تقدم، وهو أنه استحل ما حرم على نفسه، طاعة لله.

(2)

الترمذي (1201).

(3)

البخاري (5291).

(4)

«ترتيب مسند الشافعي» (139).

(5)

البيهقي (15237).

(6)

رواه البخاري (5289).

ص: 455

3 -

أنه صلى الله عليه وسلم جعل ما حرمه على نفسه حلالًا، طاعة لله تعالى، وكفَّر عن يمين التحريم، لا يمين الإيلاء، لأنه صلى الله عليه وسلم برَّ بيمينه في الإيلاء، فقد سمَّى الله التحريم يمينًا في قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، ثم قال:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وهذا معنى قول عائشة:«فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ لِلْيَمِينِ كَفَّارَةً» ، وليس مرادها يمين الإيلاء؛ فإنه صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرًا، وبر بيمينه.

4 -

أن المولي إذا مضى عليه أربعة أشهر ولم يف فإنه يوقف ويؤمر؛ إما أن يطلق أو يفيء، ولا تطلق امرأته بمجرد مضي الأشهر، ولا يطلِّق عليه الحاكم إلا إذا امتنع من الفيئة والطلاق.

5 -

أن إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه ليس هو الإيلاء في الاصطلاح، بل هو إيلاء لغوي.

6 -

أن مدة الإيلاء في الجاهلية تبلغ السنة والسنتين، فجعلها الله أربعة أشهر.

* * * * *

(1243)

وَعَنْهُ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي وَقَعْتُ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ أُكَفِّرَ، قَالَ:«فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللهُ» . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ إِرْسَالَهُ

(1)

.

(1244)

ورواه البَزّارُ: مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ فِيهِ:«كَفِّرْ وَلَا تَعُدْ»

(2)

.

(1)

أبو داود (2223)، والترمذي (1199)، والنسائي في «الكبرى» (5622)، وابن ماجه (2065).

(2)

البزار (4797).

ص: 456

(1245)

وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَخِفْتُ أَنْ أُصِيبَ امْرَأَتِي، فَظَاهَرْتُ مِنْهَا، فَانْكَشَفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ لَيْلَةً، فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«حَرِّرْ رَقَبَةً» قُلْتُ: مَا أَمْلِكُ إِلَّا رَقَبَتِي. قَالَ: «فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» ، قُلْتُ: وَهَلْ أَصَبْتُ الَّذِي أَصَبْتُ إِلَّا مِنْ الصِّيَامِ؟ قَالَ: «أَطْعِمْ عِرْقًا مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتِّينَ مِسْكِينًا» . أخْرَجَهُ أحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ إلا النَّسَائِيَّ، وَصحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وابْنُ الْجَارُودِ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث دلت على ما دل عليه القرآن من كفارة الظهار، وهي واحد من ثلاثة مرتبة؛ عتق رقبة، فمن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين، فمن لم يجد فيطعم ستين مسكينًا، وهذا مطابق لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، إلى قوله:{فَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4].

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

وجوب الكفارة على من ظاهر من امرأته.

2 -

بيان خصال كفارة الظهار.

3 -

أنها على الترتيب؛ عتق فصيام فإطعام.

4 -

جواز جهر المستفتي بما يستحيا من ذكره.

5 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.

6 -

تحريم الجماع ودواعيه على المظاهر قبل الكفارة؛ لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4].

(1)

أحمد (23700) وأبو داود (2213)، والترمذي (1198)، وابن ماجه (2062)، وابن خزيمة (2378)، وابن الجارود في «المنتقى» (744).

ص: 457

7 -

أن من جامع قبل أن يكفر فليس عليه كفارة أخرى.

8 -

أن من جامع قبل أن يكفر فقد أساء، وحكم التحريم باقٍ.

9 -

أن الظهار ليس حكمه حكم اليمين، فيحصل التحلل منه بكفارة اليمين.

10 -

أنه يجوز للمستفتي أن يبين للمفتي حاله مع هذه الفتوى، ويعتذر عمَّا أوجب عليه.

11 -

أن الوجوب منوط بالاستطاعة.

12 -

وجوب التتابع في صيام كفارة الظهار.

13 -

أنه لا يشترط في كفارة الظهار أن تكون الرقبة مؤمنة.

14 -

أن الفقير والمسكين يعبَّر بكل واحد منهما عن الآخر.

* * * * *

ص: 458

‌باَبُ اللِّعَانِ

اللِّعان: مصدر لاعَن يُلاعِن لِعانا ومُلاعنة، ومعناه: التَّلاعُن من الطَّرفين بأن يلعن أحدهما الآخر، وأصل اللعن في اللغة: السبُّ والدعاء بالطَّرد والإبعاد، واللَّعن من الله هو الطَّرد والإبعاد من رحمته.

واللِّعان في الشرع: هو ما يشرع للزوجين إذا رمى الزوج زوجته بالزنا من الشهادات والدعاء على نفسه، وبه يدرأ حد القذف عن الزوج، ويثبت حد الزنا على المرأة إذا تمت الشهادات من الرجل ونكلت المرأة عن الشهادات، ويندفع عنها الحد بشهاداتها؛ لقوله تعالى:{وَيَدْرَأ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِين (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِين (9)} الآيتين [النور: 8، 9].

وقد وقع اللعان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل فيه أربع آيات في سورة النور من قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، إلى آخر الآيات.

* * * * *

(1246)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «سَأَلَ فُلَانٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ! فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ، فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا، ثُمَّ دَعَاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَوَعَظَهَا كَذَلِكَ، قَالَتْ:

ص: 459

لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ، فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمَرْأَةِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1247)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ تَعَالَى، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَالِي؟ قَالَ:«إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا، فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1248)

وَعَنِ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا، فَهُوَ لِلَّذِي رَمَاهَا بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1249)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛؛ أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ، وَقَالَ:«إِنَّهَا مُوجِبَةٌ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(4)

.

(1250)

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ قَالَ: «فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلَاعُنِهِمَا قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا،، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

.

* * *

في هذه الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن اللِّعان وسببه وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

أن سبب نزول آيات اللعان قصة عويمر العجلاني مع امرأته.

(1)

مسلم (1493).

(2)

البخاري (5350)، ومسلم (1493).

(3)

مسلم (1496)، ولم يروه البخاري.

(4)

أبو داود (2255)، والنسائي في «الكبرى» (5636).

(5)

البخاري (5308)، ومسلم (1492).

ص: 460

3 -

فيها شاهد لقولهم: إن البلاء موكل بالمنطق، فمن كان في عافية فلا يفرض وقوعه في البلاء.

4 -

صفة اللِّعان بين الزوجين.

5 -

حضور الإمام أو نائبه عند اللِّعان بين الزوج القاذف والمرأة.

6 -

أن اللِّعان يدرأ حد القذف عن الرجل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»

(1)

، فإذا امتنع الرجل من اللعان وجب على الزوج حد القذف.

7 -

أن المرأة إذا أصرت على تكذيب الزوج وأدت الشهادات فإنها لا تحد.

8 -

دعوة المتلاعنين إلى التوبة.

9 -

وعظ الإمام المتلاعنين حتى لا يقدما على الكذب.

10 -

البداءة في اللِّعان بالرجل؛ لأنه المدعي.

11 -

أن المتلاعنين لا بد أن يكون أحدهما كاذبا.

12 -

أنه إذا تم اللِّعان فرق بينهما.

13 -

أن هذه الفرقة لا توجب رد شيء من المهر.

14 -

أن المهر عوض عن استحلال الاستمتاع.

15 -

أن المهر لا يرد إلى الزوج، ولو قدِّر أنه صادق؛ لقوله:«إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا» .

16 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: «إِنْ كُنْتَ .. وإِنْ كُنْتَ» .

17 -

الاستدلال بالشَبَه في الخلقة.

18 -

أن الشَّبَه لا يرفع حكم اللِّعان.

(1)

رواه البخاري (2671)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 461

19 -

أن الملاعِنة إذا جاءت بمولود يشبه الزوج دلَّ ذلك على صدقها وكذبه، ولا يثبت بذلك نسبه، إلا إن أقرَّ به الزوج واستلحقه، وإن أشبه المولودُ مَنْ رُميت به دلَّ على صدق الزوج وكذبها.

20 -

أن نسبة المولود إلى الواطئ تكون كونية لا توجب نسبًا شرعيا، كما في هذا الحديث؛ لقوله:«فَهُوَ لِزَوْجِهَا» ، وقوله:«فَهُوَ لِلَّذِي رَمَاهَا بِهِ» ، بخلاف قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:«الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»

(1)

، فتجتمع النسبتان الكونية والشرعية في المولود من وطء يلحق به النسب، وتنفرد النسبة الكونية في نسبة الولد إلى الزاني، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«فَهُوَ الَّذِي رَمَاهَا بِهِ» ، وكما في حديث جريج:«مَنْ أَبُوكَ يَا غُلامُ؟»

(2)

، وتنفرد النسبة الشرعية في المولود من زنا على فراش الزوج أو السيد؛ لحديث:«الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ، والمراد بالفراش الزوجة أو السرية.

21 -

استحباب أن يضع إنسان يده على فم الملاعن عند الخامسة؛ لعظم خطرها، وهي قوله: إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.

22 -

خطر من دعا على نفسه، وهو يعلم أنه كاذب.

23 -

جواز جمع الطلاق الثلاث؛ لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم للملاعن على ذلك، كذا قيل، وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأن الفرقة باللِّعان مؤبَّدة، فلا أثر لذلك الطلاق.

24 -

أن قذف الزوج لامرأته برجل إنما يوجب حد القذف لحق المرأة.

* * * * *

(1)

البخاري (6818)، ومسلم (1458). وسيأتي تخريجه (1281).

(2)

رواه البخاري (3436)، ومسلم (2550).

ص: 462

(1251)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أن رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ. قَالَ: «غَرِّبْهَا» . قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي. قَالَ: «فَاسْتَمْتِعْ بِهَا» . رواه أبُوْ دَاوُدَ والبَزَّارُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(1)

..

(1252)

وأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ من وجه آخر: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظٍ قَالَ: «طَلِّقْهَا» . قَالَ: لَا أَصْبِرُ عَنْهَا. قَالَ: «فَأَمْسِكْهَا»

(2)

.

* * *

هذا الحديث تضمن حكم إمساك المرأة الضعيفة العفة، مثل التي تتهاون بالزنى الأصغر؛ كاللمس والنظر والكلام، بفعل منها، أو بفعل غيرها معها، ومن ذلك ما جاء في هذا الحديث، وهذا هو معنى قوله:«لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ» ، وليس المراد أنها تفعل الفاحشة الكبرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص بإمساكها، ولا يمكن أن يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالإقامة مع امرأة تصر على فعل الفاحشة؛ لقوله تعالى:{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِين (3)} [النور: 3]، ومن فهم من إذن الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل بإمساكها أنه يلزم منه جواز إمساك الزانية فقد اضطر إلى تأويل اللمس بمعنى بعيد عن سياق الحديث، وهو أنها لا ترد يد ملتمس للصدقة، فيفضي ذلك إلى إفساد ماله، والصواب ما تقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم للرجل:«غَرِّبْهَا» أي: أبعدها، يريد الطلاق، كما تدل عليه رواية النَّسَائِيِّ، ولهذا قال:«أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي» ، أي: تتعلق بها، فلا أسلو عنها، لذلك رخص له النبي صلى الله عليه وسلم بإمساكها تيسيرًا عليه، ودفعًا للحرج الذي خافه.

(1)

أبو داود (2049). ولم نجده عند البزار.

(2)

النسائي في «الكبرى» (5320).

ص: 463

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم لمس المرأة الأجنبية، ولا سيما إذا كانت ذات زوج، وهو زنى اليد، كما جاء في الحديث:«واليد تزني، وزناها اللمس»

(1)

.

2 -

استحباب مفارقة المرأة المتهاونة بمثل هذا.

3 -

جواز إمساكها إذا خاف من فراقها مفسدة أكبر من الإقامة معها.

4 -

غيرة الصحابة رضي الله عنهم على نسائهم.

5 -

بناء الفتوى على قول المستفتي المدعي، بخلاف المدعي في الخصومة.

6 -

فيه شاهد لقاعدة احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.

7 -

أن المشقة تجلب التيسير.

8 -

بناء الشريعة على التيسير.

9 -

ضعف الإنسان في أمر النساء.

* * * * *

(1253)

وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أنهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَلَيْسَتْ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ -وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ- احْتَجَبَ اللهُ عَنْهُ، وَفَضَحَهُ اللهُ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» . أخْرجَهُ أبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(2)

.

(1)

رواه أحمد (8598)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أبو داود (2263)، والنسائي في «الكبرى» (5645)، وابن ماجه (2743)، وابن حبان (4108).

ص: 464

(1254)

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «مَنْ أَقَرَّ بِوَلَدٍ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ» . أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ مَوْقُوفٌ

(1)

.

(1255)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ؟ قَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَا أَلْوَانُهَا؟» قَالَ: حُمْرٌ. قَالَ: «هَلْ فِيهَا مَنْ أَوْرَقَ؟» ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَنَّى ذَلِكَ؟» ، قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ. قَالَ: «فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت حكمين:

1.

تحريم أن تزني المرأة ذات الزوج، فتحمل من الزنى وتلد فينسب لزوجها وعشيرته، وهو معنى قوله: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ

».

2.

تحريم أن يجحد الرجل ولده وهو يعلم أنه منه، وهو معنى قوله: «وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ -وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ-

»، وكل من الأمرين من كبائر الذنوب.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم أن تتسبب المرأة بزناها بإدخال ولدها من الزنى على من ليس منهم، فتجمع بين الزنا والافتراء، وهذا هو البهتان الذي قال الله فيه:{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12]، قال ابن عباس:«يعني: لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم»

(3)

.

2 -

تحريم أن ينفي الرجل ولده، وهو يعلم أنه منه.

3 -

أن من مقاصد الشريعة حفظ النسب، وهذا أحد الضروريات الخمس.

(1)

البيهقي في «الكبرى» (15368).

(2)

البخاري (5305)، ومسلم (1500).

(3)

رواه ابن جرير في تفسيره (23/ 340).

ص: 465

4 -

أن اختلاف شبه المولود لا يسوغ نفيه.

5 -

أن من أقرَّ بولده فلا يمكنه نفيه.

6 -

أن من الوعيد أن يتبرأ الله من فاعل الذنب.

7 -

أنه لا حرج في الشك في نسب المولود إذا وجد ما يوجبه، وهو اختلاف الشبه.

8 -

أنه ينبغي للإنسان أن يسعى فيما يزيل الشك عن نفسه، ويكشف الشبهة.

9 -

أن الشبه قد يرجع إلى بعض الأصول القديمة للأبوين.

10 -

إثبات القياس.

11 -

الاحتجاج بقياس المشكِل على المسلَّم.

12 -

الشبه بين الإنسان والحيوان في تأثير الولادة في الصفات.

13 -

أنه ينبغي للمفتي أن يراعي حال المستفتي، وذلك أن يكون في الجواب ما يناسب حال المستفتي.

14 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم.

15 -

أن الإجابة ب (نعم) تتضمن الإقرار بالمسؤول عنه.

* * * * *

ص: 466

‌بَابُ العِدَّةِ وَالإِحْدَادِ وَالاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

العِدَّة: لغة بمعنى العَدَد، وتطلق على الشيء المعدود المحدود، والمراد بها هنا مدة تربص المرأة المفارقة لزوجها بطلاق أو غيره، والاستبراء هو طلب البراءة، والمراد به هنا التوصل إلى العلم ببراءة رحم المرأة، زوجة كانت أوسُرِّية، والإحداد لغة ترك الزينة، وفي لسان الشرع ترك المرأة المتوفى عنها للزينة، ويقال لها: حادٌّ ومُحِدٌّ، بلا تاء على الأفصح.

* * * * *

(1256)

عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه: أَنَّ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةَ رضي الله عنها نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ، فَجَاءَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا، فَنَكَحَتْ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(1257)

وَأَصْلُهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ»

(2)

.

(1258)

وفي لفظٍ: أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً

(3)

.

(1259)

وفي لفْظٍ لمسْلِمٍ، قَالَ الزُّهْرِيُّ:«وَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ تَزَوَّجَ وَهِيَ فِي دَمِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حتَّى تَطْهُر»

(4)

.

(1260)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ

(5)

.

(1261)

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا:«لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(6)

.

* * *

(1)

البخاري (5320).

(2)

البخاري (3991)، ومسلم (1484).

(3)

البخاري (4909).

(4)

مسلم (1484).

(5)

ابن ماجه (2077).

(6)

مسلم (1480)(44).

ص: 467

هذه الأحاديث اشتملت على جملة من أحكام المعتدات: المتوفى عنها، والمحررة تحت عبد، والمطلقة ثلاثًا.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

وجوب العدة على المتوفى عنها، وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

2 -

أن الحامل المتوفى عنها تنقضي عدتها بوضع الحمل، فالحديث مخصص للآية في عدة الوفاة، فلذلك يقدم عموم قوله تعالى:{وَأُوْلَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] على عموم قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]؛ لأنه محفوظ لم يتطرق إليه تخصيص؛ فإن القاعدة أنه إذا تعارض عامَّان قُدِّم ما دل الدليل على تقديمه، فيكون هذا العام مخصَّصًا بالعامِّ الآخر. ومن المرجحات لأحد العامَّين على الآخر كونه محفوظًا لم يتطرق إليه تخصيص، فيخص بهذا العامِّ المحفوظِ العامُّ الآخرُ غيرُ المحفوظ.

3 -

أن الأمة إذا عتقت تحت عبد، فإن عدتها ثلاث حيض، كالمطلقة، هذا إذا صح حديث بريرة، وإلا فالواجب عليها الاستبراء، أي تعتد بحيضة.

4 -

أن المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة، إلا أن تكون حاملًا فلها النفقة من أجل الحمل، وقيل: لها السكنى دون النفقة، والصواب ما دل عليه حديث فاطمة بنت قيس، فلا سكنى لها ولا نفقة.

5 -

جواز مخاطبة المرأة للرجل الأجنبي، والرجل للمرأة إذا أمنت الفتنة، كما جاء في أصل الحديث.

* * * * *

ص: 468

(1262)

وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تُحِدَّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسْ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلَا تَكْتَحِلْ، وَلَا تَمَسَّ طِيبًا، إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ

(1)

.

(1263)

ولأَبِي دَاوُدَ، والنَّسَائيِّ مِنْ الزِّيَادَةِ:«وَلَا تَخْتَضِبْ»

(2)

.

(1264)

وَلِلنَّسَائِيِّ: «وَلَا تَمْتَشِطْ»

(3)

.

(1265)

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَعَلْتُ عَلَى عَيْنِي صَبْرًا، بَعْدَ أَنْ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ، فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَانْزِعِيهِ بِالنَّهَارِ، وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ، وَلَا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَابٌ» . قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَالَ: «بِالسِّدْرِ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ

(4)

.

(1266)

وَعَنْهَا؛ أن امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَتِي مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا، أَفَنَكْحُلُهَا؟ قَالَ:«لَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

.

* * *

هذه الأحاديث الثلاثة تضمنت حكم الإحداد وصفته، والإحداد ترك الزينة بأنواعها، لوفاة الزوج أو القريب.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم الإحداد على أي ميت فوق ثلاث سوى الزوج.

2 -

جواز الإحداد على غير الزوج في مدة ثلاثة أيام.

(1)

البخاري (313)، ومسلم (938) في كتاب الطلاق (66).

(2)

أبو داود (2302)، والنسائي في «الكبرى» (5699).

(3)

النسائي في «الكبرى» (5698).

(4)

أبو داود (2305)، والنسائي في «الكبرى» (5700).

(5)

البخاري (5336)، ومسلم (1488).

ص: 469

3 -

وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا.

4 -

عظم حق الزوج.

5 -

أن من حق الزوج أن تتزين له المرأة في حياته، وتتركها لوفاته مدة العدة.

6 -

تحريم جميع أنواع الزينة والطيب على المحدة على زوجها.

7 -

أن الكحل من الزينة التي تترك في حال الإحداد.

8 -

أن المحدة إذا مرضت فلها التداوي بغير ما يعد زينة، فلا يباح الكحل في العين من أجل التداوي.

9 -

أن المُحِدة لا تستعمل طيبًا إلا إذا طهرت من الحيضة، فتطيب مواضع الدم بنبذة أي بقطعة من قسط أو أظفار، وهما نوعان من البخور.

10 -

جواز امتشاط المحدة بما لا طيب فيه من سدر ونحوه.

11 -

أن على المُحِدة أن تترك الثوب المصبوغ بحمرة أو صفرة.

12 -

الرخصة في ثوب العصب على المحدة، وهو ما يصبغ قبل نسجه، وهي ثياب تجلب من اليمن.

13 -

أن المحد لا تختضب ولا تمتشط ولا تتداوى بما يورثها جمالًا.

14 -

تحريم التداوي بالمحرم.

* * * * *

(1267)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: طُلِّقَتْ خَالَتِي، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«بَلْ جُدِّي نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1)

مسلم (1483).

ص: 470

(1268)

وَعَنْ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ: أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ، فَقَتَلُوهُ. قَالَتْ: فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؛ أن أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي؛ فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً، فَقَالَ:«نَعَمْ» . فَلَمَّا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ نَادَانِي، فَقَالَ:«امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» . قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَقَضَى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عُثْمَانُ. أخرجه أحمد، وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، والذهلي، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وغيرُهُم

(1)

.

(1269)

وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا، وَأَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ» ، قَالَ: فَأَمَرَهَا، فَتَحَوَّلَتْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت بيان المكان الذي تقيم فيه المعتدة من وفاة أو البائنة من طلاق مدة العدة.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

وجوب اعتداد المتوفَّى عنها في البيت الذي كانت تسكنه حياة زوجها؛ لحديث فُريعة.

2 -

جواز تحول المطلقة من مسكنها إلى غيره؛ لحديث فاطمة.

3 -

أنه قد يخفى على الصحابي بعض الأحكام الشرعية.

4 -

استحباب الصدقة وفعل المعروف عند الجداد.

5 -

أنه ينبغي للإنسان ألا يعرض نفسه للخطر، وما فعله زوج فُريعة فيه مخاطرة ظاهرة.

6 -

أن المتوفى عنها لا سكنى لها ولا نفقة، لكن إن تيسر لها المكث في البيت الذي مات فيه زوجها وجب عليها.

(1)

أبو داود (2300)، والترمذي (1204)، والنسائي في «الكبرى» (5694)(5696)، وابن ماجه (2031)، وابن حبان (4292)، والحاكم (2832) و (2833).

(2)

مسلم (1482).

ص: 471

7 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يحكم بالاجتهاد، لكن لا يُقَرُّ على خطأ؛ لأنه أذن لفُريعة ثم استدرك.

8 -

صحة رواية المرأة، لأن فُريعة رضي الله عنها حدثت به عثمان رضي الله عنه، فقضى به.

* * * * *

(1270)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: «لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأبُوْ دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِالِانْقِطَاعِ

(1)

.

(1271)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «إِنَّمَا الْأَقْرَاءُ؛ الْأَطْهَارُ» . أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي قِصَّةٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ

(2)

.

(1272)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ .. » رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وأَخْرَجَهُ مَرْفُوعًا وضَعَّفَهُ

(3)

.

(1273)

وأَخْرَجَهُ أبُوْ دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: مِنْ حَدِيْثِ عائشة، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَخَالَفُوهُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ

(4)

.

* * *

هذه الأحاديث اشتملت على جملة من أحكام العدد.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن عدة أم الولد المتوفى عنها سيدها كعدة الزوجة الحرة، أربعة أشهر وعشر، وقيل: تعتد بحيضة، بقصد الاستبراء، وقيل: تعتد بثلاثة أقراء، كالمطلقة الحرة.

(1)

أحمد (17803)، وأبو داود (2308)، وابن ماجه (2083)، والحاكم (2836)، والدارقطني في «السنن» (3837).

(2)

مالك في «الموطأ» (2140).

(3)

الدارقطني في «السنن» (4002).

(4)

أبو داود (2189)، والترمذي (1182)، وابن ماجه (2080)، والحاكم (2822).

ص: 472

2 -

أن أم الولد تعتق بموت سيدها.

3 -

أن الأقراء هي الأطهار، والمراد الأقراء التي تعتبرها المطلقة في عدتها، والجمهور على أنها الحيض، وقيل: هي الأطهار، ويدل له قول عائشة، فعلى القول بأنها الأطهار فإن العدة تنتهي بشروعها في الحيضة الثالثة، وعلى القول بأنها الحيض فإن عدتها تنقضي بطهرها من الحيضة الثالثة.

4 -

أن الطلاق يعتبر بحال الزوجة، حرية ورقًّا، فالحرة يقع عليها ثلاث، والأمة طلقتان، وقيل: إن الطلاق يعتبر بالزوج، فالحر يطلق ثلاثًا، والعبد طلقتين.

5 -

أن عدة الأمة المطلقة حيضتان، وهذا الفرق بين الحرة والأمة والحر والعبد أصله قياس أحكام الرقيق في النكاح والطلاق والعِدد والحدود على حد الزنا في التنصيف، وهو المذكور في قوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، ويعضد هذا القياس ما جاء من الآثار؛ كحديث ابن عمر هذا. وقال كثير من أهل العلم: المعتبر في النكاح والطلاق حال الزوج؛ فالعبد يطلق طلقتين، ويتزوج زوجتين، وأما العِدد فتعتبر بحال الزوجة، فعدة الأمة المطلقة حيضتان أو شهران، وعدة الأمة المتوفى عنها شهران وخمسة أيام، لكن عند الظاهرية لا فرق بين الحر والعبد والأمة والحرة.

* * * * *

(1274)

وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» . أخرجه أبُوْ دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان، وحسَّنَهُ البَزّارُ

(1)

.

(1)

أبو داود (2158)، والترمذي (1131)، وابن حبان (4850).

ص: 473

هذا الحديث يتعلق بحكم وطء الحامل من غيره، وعبر عن ذلك بسقي الزرع على سبيل الكناية، وهذا مناسب لتسمية الله المرأة حرثًا:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [البقرة: 223]، ويوضح معنى الحديث قول الفقهاء أن وطء الحامل يزيد في سمع الجنين وبصره، فظهر بذلك وجه تسميته في الحديث سقيا.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم وطء الحامل من غيره، سواء أكانت أمتَه، أو زوجتَه، كما لو وطئت بشبهة.

2 -

تحريم عقد النكاح على الحامل المطلقة البائن بينونة كبرى؛ لأن العقد وسيلة للوطء.

3 -

تحريم وطء المسبية الحامل، وحكم المسبية هو سبب الحديث، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس:«لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ حَامِلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً»

(1)

.

4 -

أن الإيمان بالله واليوم الآخر من دواعي الطاعة بفعل المأمور وترك المحظور.

5 -

أن ما نفي عنه الحل فهو حرام؛ لأنهما ضدان، فالحرام يقابل الحلال، كما قال تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116].

6 -

أن من أساليب البيان: الكناية.

7 -

أن وطء الحامل يزيد في نمو الحمل، كالزرع يسقى بالماء.

* * * * *

(1)

سيأتي تخريجه (1279).

ص: 474

(1275)

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: «تَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» . أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ

(1)

.

(1276)

وَعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

(2)

.

* * *

أثر عمر وحديث المغيرة في حكم امرأة المفقود، والمفقود هو من غاب غيبة طويلة، وانقطعت أخباره، ولا يُدرى عن حاله حيًّا أو ميتًا، وقد دل أثر عمر على أن امرأة المفقود تتربص أربع سنين، ثم تعتد بعد ذلك عدة الوفاة، وفي حديث المغيرة أن امرأة المفقود امرأتُه حتى يتبين أمره، حياته أو موته، ولكن الحديث ضعيف

(3)

.

وقد فصَّل الفقهاء في مدة انتظار المفقود والحكم بموته، وبنوا ذلك على ما هو الغالب من حاله، من السلامة أو العطب، فما كان الغالب من حاله العطب فينتظر للحكم بموته أربع سنين، كما في قول عمر، وما كان الغالب من حاله السلامة فينتظر حتى يبلغ من مولده تسعين سنة، وهذا لا دليل عليه من أثر ولا نظر، والصواب أن يرجع في تقدير المدة إلى اجتهاد الحاكم؛ فإن أمر المفقود يختلف باختلاف الزمان والمكان وحال المفقود، وإذا حكم الحاكم بموت المفقود ترتب على ذلك ما يترتب على موت غير المفقود من عدة زوجته، وإرث ماله، فإن تبين بعد الحكم أنه حيٌّ ورجع، استرد ماله، وزوجته هي زوجته، وإن وجدها قد تزوجت، خير بين استرجاعها، أو تركها للزوج الثاني.

* * * * *

(1)

مالك في «الموطأ» (2134)، والشافعي في «الأم» (1/ 299).

(2)

الدارقطني في «السنن» (3849).

(3)

وضعفه أبو حاتم، والبيهقي، وعبد الحق، وابن القطان، وغيرهم. ينظر:«التلخيص» (3/ 466).

ص: 475

(1277)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَبِيتَنَّ رَجُلٌ عِنْدَ امْرَأَةٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَاكِحًا، أَوْ ذَا مَحْرَمٍ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1278)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان تضمنا النهي عن الخلوة بالمرأة الأجنبية، وهي من يحل له نكاحها من قريباته أو غيرهن، والنهي عن البيات عند المرأة في بيت ليس فيه غيرهما إلا أن يكون زوجًا لها أو ذا محرم، وهو من تحرم عليه تحريمًا مؤبدًا، كالعم والخال، والخلوة بالمرأة تثبت في مكان ليس معهما غيرهما، ومتى كان ذلك كان ثالثهما الشيطان، كما في الحديث الصحيح:«لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا»

(3)

، أي يوسوس لهما بالفاحشة أو دواعيها، فإن كان معهما ثالث من رجل أو امرأة زالت الخلوة، ولكن تبقى مفسدة الاختلاط الذي يجر إلى النظر المحرم أو الكلام المحرم أو غير ذلك، مما يحرم بين الرجال والنساء الأجانب، ولا تزول الخلوة بالطفل الذي لا يعرف شؤون النساء، وهو من لا يجب على المرأة الاحتجاب منه، كما قال تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء} [النور: 31]، ومناسبة هذين الحديثين للباب أن المعتدة مظنة الطمع فيها.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية.

(1)

مسلم (2171).

(2)

البخاري (5233).

(3)

رواه أحمد (114)، والترمذي (2165)، والنسائي في «الكبرى» (9181)، وابن ماجه (2363)، وابن حبان (7254)؛ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ص: 476

2 -

تحريم أن يبيت الرجل عند امرأة في بيت وليس هو بزوج ولا ذي محرم.

3 -

خطر خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية.

4 -

حكمة الشريعة في سد ذرائع الفساد.

5 -

أن الخلوة من أعظم الذرائع المفضية إلى الوقوع في الفاحشة، كما يؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:«إِلَّا كَانَ الشَّيْطَانُ ثَالِثَهُمَا» .

6 -

في الحديثين دليل لقاعدة سد الذرائع المفضية إلى المحرم.

7 -

أن الخلوة لا تزول إلا بمن يحذران من اطلاعه، بخلاف الطفل الذي لا يفهم شيئًا عن أمور النساء الخاصة، فوجوده كعدمه.

8 -

عناية الشرع بصيانة الأعراض.

* * * * *

(1279)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» . أخرجه أبُوْ دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

(1280)

وَلَهُ شَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ

(2)

.

(1281)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِهِ

(3)

.

(1282)

وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي قِصَّةٍ

(4)

.

(1)

أبو داود (2157)، والحاكم (2790).

(2)

الدارقطني (3640).

(3)

البخاري (6818)، ومسلم (1458).

(4)

البخاري (2218)، ومسلم (1457)، ولفظه: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامَ الفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي، وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ» ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ» ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ - زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «احْتَجِبِي مِنْهُ» لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ.

ص: 477

(1283)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عِنْدَ النَّسَائِيِّ

(1)

.

(1284)

وَعَنْ عُثْمَانَ. عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ

(2)

.

* * *

حديث أبي سعيد في حكم وطء المسبية التي كانت ذات زوج، وحديث أبي هريرة فيه بيان ما به يُلحق نسب المولود، ومن يُلحق به نسب المولود، والعاهر الزاني. وقوله:«وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر» كناية عن عدم لحوق النسب بالزاني، والمعنى ليس له ولد، بل له الحجر الذي يرجم به إن كان محصَنًا، وقيل: الحجر الذي يلقم به لإبطال دعواه، وهذا أقرب.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم وطء المسبية الحامل حتى تضع، فهو شاهد لحديث رويفع المتقدم:«لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ، يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ»

(3)

.

2 -

تحريم وطء المسبية غير ذات الحمل حتى تستبرأ بحيضة.

3 -

أن الحامل لا تحيض؛ لأنه خص الاستبراء بحيضة بغير ذات الحمل، وعلَّق وطء الحامل بالوضع.

4 -

أن الاستبراء يكون بحيضة.

5 -

جواز وطء الحامل من زوجة أو سرية، إلا أن يكون به ضرر.

(1)

النسائي في «الكبرى» (5650).

(2)

أبو داود (2275).

(3)

تقدم تخريجه (1274).

ص: 478

6 -

أن من حكمة الشريعة حفظ الأنساب، والمنع مما يوجب الاختلاط.

7 -

إباحة سبي نساء الكفار إذا غلب المسلمون المجاهدون عليهم.

8 -

جواز وطء المسبية في دار الحرب.

9 -

ثبوت حكم الرق في الإسلام. وأدلة ذلك لا تحصى من الكتاب والسنة، رغم أنوف الكارهين الطاعنين من جهلة المسلمين متابعة لأعداء الإسلام.

وفي حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما:

1 -

أن المولود يلحق نسبه بصاحب الفراش، وهو الزوج أوالسيد. والفراش هو الزوجة أو السرية.

2 -

أن المولود من زنا لا يلحق بالزاني.

3 -

أنه يلحق بصاحب الفراش، إلا أن ينفيه باللعان، على القول بمشروعية اللعان بنفي الولد.

4 -

أن الشبه لا يعارض الفراش؛ فلا يقدم عليه.

5 -

إعمال كلٍّ من السببين المختلفين في القضية، وإعطاء كل منهما ما يقتضيه من الحكم، وهما في هذه القصة الشبه والفراش، فبالفراش ثبت النسب، وبالشبه ثبتت حرمة النظر، وقيل: إن أمر سودة بالاحتجاب من باب الاحتياط.

6 -

الكناية عن الخيبة والحرمان بالحجر والتراب.

7 -

أن مقتضى الدليل الشرعي مقدم على مقتضى الدليل الكوني عند التعارض.

8 -

أن المرأة المزني بها إذا لم تكن فراشًا فالولد للزاني إذا استلحقه.

ص: 479

وحديث عائشة ورد على سبب، وهو أنه اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد ابن زمعة في مولود ولد من أمة كانت لزمعة، زنى بها عتبة ابن أبي وقاص في الجاهلية، فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة:«هذا أخي يا رسول الله، ولد على فراش أبي من وليدته» ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه فرأى شبها بيِّنًا بعتبة، فقال:«هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ ابْنَةَ زَمْعَةَ» فلم تره سودة قط.

9 -

أن من طرق البيان عند العرب: الكناية الدالة على المقصود، لقوله:«وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» .

* * * * *

ص: 480

‌بَابُ الرَّضَاعِ

الرضاع: يحتمل أنه مصدر رضع رضاعًا، أو أنه اسم مصدر من أرضع يرضع إرضاعًا، تقول: رضع الصبي الثدي، وأرضعت المرأة الصبي، وهما متلازمان في الغالب، والمراد بهذا الباب من أبواب الأحكام الشرعية بيان الأحكام المترتبة من رضاع الصبي من غير أمه من تحريم النكاح وما يتبعه من الأحكام، وما يشترط في الرضاع المحرِّم، وقد دل على حكم التحريم بالرضاع الكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى في المحرمات من النساء:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم:«يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»

(1)

، وقد ذكر المؤلف في هذا الباب أحد عشر حديثًا.

* * * * *

(1285)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1286)

وَعَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1287)

وَعَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيْتِنَا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ. قَالَ:«أَرْضِعِيهِ، تَحْرُمِي عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

(1)

رواه البخاري (2645)، ومسلم (1447)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما. وسيأتي تخريجه (1290).

(2)

مسلم (1450).

(3)

البخاري (2647)، ومسلم (1455).

(4)

مسلم (1453).

ص: 481

(1288)

وَعَنْهَا: أَنْ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْحِجَابِ. قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ. وَقَالَ:«إِنَّهُ عَمُّكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1289)

وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث جملة من أحكام الرضاع، ومن العجيب في هذا المقام أن كل هذه الأحاديث ترويها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، مما يدل على عنايتها بشأن الرضاع وأحكامه.

وفي هذه الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الرضاع مما تثبت به حرمة النكاح بشروطه التي دلت عليها السنة.

2 -

أن الرضعة والرضعتين لا تحرمان، ومفهومه أن الثلاث تحرم، «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ» .

3 -

أن الرضاع المحرِّم هو ما يكون قبل الفطام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» ، والمعنى: أن الرضاع المحرم ما كان لسد جوعة الصبي، وهذا إنما يكون قبل الفطام.

4 -

أن الرضاع بعد لا يحرِّم.

5 -

ثبوت لقب علاقات القرابة للرضاع؛ كالأخوة والأبوة والعمومة، وغير ذلك.

6 -

تحريم دخول الرجل الأجنبي على المرأة والخلوة بها، ووجوب الحذر من ذلك.

(1)

البخاري (2644)، ومسلم (1445).

(2)

مسلم (1452).

ص: 482

7 -

تحذير الرجل لأهل بيته من دخول الرجال الأجانب عليهم، والتثبت في السبب المبيح.

8 -

جواز إرضاع الكبير إذا دعت الحاجة إلى دخوله إلى المرأة، كما في قصة سالم. وقد ذهب جمهور الصحابة والعلماء إلى اختصاص ذلك بسالم، فقالوا: إن إرضاع الكبير لا يحرم. وذهبت عائشة أم المؤمنين وجمع من العلماء إلى أن رضاع الكبير يحرم، والصواب أن إرضاع الكبير لا يحرم، وإذا دعت الحاجة إلى دخول رجل على امرأة فيرجع الأمر إلى اجتهاد المفتي.

9 -

أن الرضاعة تنشر الحرمة من جهة صاحب اللبن، وهو الزوج، وهو ما يعبر عنه العلماء بلبن الفحل، فكما أن إخوان المرضعة أخوال الرضيع لأنها أمه، فإخوان الزوج أعمامه، لأن الزوج أبوه من الرضاع. فعائشة رضي الله عنها أرضعتها أم القعيس، وزوجها أبو القُعيس، وأفلح أخو أبي القُعيس، ولذلك أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأذن له، وقال:«إِنَّهُ عَمُّكِ» .

10 -

أن من المستقر عند الصحابة وجوب الاستئذان للدخول إلى بيت غير بيته.

11 -

قوة عائشة رضي الله عنها في الحق، فلم تجامل أفلح بالإذن؛ بناء على اعتقادها أنه أجنبي منها.

12 -

حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله.

13 -

أن الرضاع تثبت به المحرمية كالنسب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ عَمُّكِ» .

14 -

ثبوت نسخ اللفظ والحكم في القرآن، ونسخ اللفظ دون الحكم؛ فما أنزل فيه عشر رضعات نسخ لفظًا وحكمًا، وما أنزل فيه خمس رضعات نسخ لفظه دون حكمه، لكن عائشة لم تعلم بنسخ ما يتعلق بخمس رضعات، وإجماعُ الصحابة على عدم كتابته دليلٌ على النسخ.

ص: 483

15 -

أن النسخ قد يخفى على بعض الصحابة؛ لقولها: «فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» .

16 -

نسخ القرآن بالقرآن.

17 -

أن الرضاع المحرم خمس رضعات معلومات، كما في حديث عائشة، ويؤيده ما جاء في رواية في قصة سالم عند الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال:«أَرْضِعِيه خَمْسَ رَضَعَاتٍ تَحْرُمِي عَلَيْه»

(1)

، وقد اختلف العلماء في مقدار الرضاع المحرم، فقيل: مطلق الرضاع، فتثبت الحرمة في أقل رضعة، وهو مذهب الظاهرية، وقيل: لا يحرم إلا ثلاث رضعات، لمفهوم حديث عائشة:«لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ» ، وقيل: لا يحرم إلا خمس رضعات، لحديث عائشة وحديث سهلة بنت سهيل في قصة سالم، وهذا هو الصحيح؛ لأن الحديثين نصٌّ في تحريم خمس الرضعات، والأحاديث المطلقة مجملة، والمفهوم لا يعارض المنطوق.

18 -

اشتراط العلم بالرضاع وعدد الرضعات.

19 -

أن من المتقرر عند الصحابة أن إرضاع الكبير غير محرِّم.

20 -

أن السنة تخصص العموم وتقيد المطلق في القرآن.

21 -

أن من جهل الأحكام الشرعية فعليه سؤال أهل العلم.

22 -

أن على المستفتي أن يوضح الواقع للمفتي؛ لقولها: «وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ» .

23 -

أن من حرمت عليه المرأة تحريمًا مؤبدًا أبيح له النظر إليها والخلوة بها.

* * * * *

(1)

«المسند» (42/ 435)(25650).

ص: 484

(1290)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ. فَقَالَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي؛ إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في حكم التحريم بالرضاع، وأنه كالنسب.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الرضاع سبب لتحريم النكاح، كالنسب.

2 -

أنه يحرم من النساء بالرضاع ما يحرم بالنسب، وهن سبع: الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت.

3 -

أن الرضاع ينشر الحرمة من قبل المرضعة في قراباتها ومن قبل زوجها في قراباته، لذلك تحرم على المرتضع المرضعةُ وأخواتها وأمهاتها وعماتها وخالاتها وبناتها وبنات أولادها، وأخوات الزوج وأمهاته وعماته وخالاته وبناته وبنات أولاده، كما يحرم كل أولئك من النسب. وكذلك يحرم بالرضاعة ما يحرم بالمصاهرة بواسطة النسب، على الصحيح، وهو قول جماهير أهل العلم، كزوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة وبنت الزوجة، فتحرم زوجة الأب من الرضاع وزوجة الابن من الرضاع وأم الزوجة من الرضاع وبنت الزوجة من الرضاع. كما يحرم مثلهن من النسب.

4 -

أنه يحرم الجمع بين الأختين من الرضاع، وبين المرأة وعمتها من الرضاع، وبين المرأة وخالتها من الرضاع؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» .

5 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحرم عليه من النساء ما يحرم على أمته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لما عرضت عليه ابنة حمزة: «إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ» .

(1)

البخاري (2645)، ومسلم (1447).

ص: 485

6 -

أن هذا الحديث من جوامع الكلم التي اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي معنى هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:«الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ»

(1)

.

* * * * *

(1291)

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ هو وَالْحَاكِمُ

(2)

.

(1292)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَا رَضَاعَ إِلَّا فِي الْحَوْلَيْنِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَرَجَّحَا الْمَوْقُوفَ

(3)

.

(1293)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا أَنْشَزَ الْعَظْمَ، وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ» . رواه أبُوْ دَاوُدَ

(4)

.

(1294)

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ؛ أنهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إِهَابٍ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ. فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا، فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟» فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ. وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(5)

.

(1295)

وَعَنْ زِيَادِ السَّهْمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أن تُسْتَرْضَعَ الْحَمْقَى» . أخْرجَهُ أبُوْ دَاوُدَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَلَيْسَتْ لِزِيَادٍ صُحْبَةٌ

(6)

.

* * *

اشتملت هذه الأحاديث على جملة من أحكام الرضاعة.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام.

(1)

رواه البخاري (2646)، ومسلم (1444)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

الترمذي (1152).

(3)

الدارقطني في «السنن» (4364)، وابن عدي في «الكامل» (2019).

(4)

أبو داود (2060).

(5)

البخاري (88).

(6)

أبو داود في «المراسيل» (207).

ص: 486

2 -

أن الرضاع المحرم ما وصل إلى المعدة.

3 -

أن حقن اللبن في الدم لا يُحرِّم، ومن باب أولى في الشَّرْج.

4 -

أن الرضاع المحرِّم ما كان في الحولين. وهما مدة الرضاعة؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، وبهذا يظهر تعارضٌ بين حديث الحولين، وحديث:«وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ» ؛ لأن الفطام قد يكون قبل تمام الحولين، وقد يكون بعدهما، والجمع بينهما أن الحكم للفطام تقدم أو تأخر؛ لأنه لا يكون إلا عند استغناء الطفل بالطعام، وذكر الحولين خرج مخرج الغالب. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا أَنْشَزَ الْعَظْمَ، وَأَنْبَتَ اللَّحْمَ» . وجمع بعضهم بين الحديثين باعتبار أبعدهما؛ الفطام أو تمام الحولين.

5 -

التفريق بين الزوجين إذا كان بينهما رضاع، ولو بشهادة امرأة ثقة.

6 -

أن من عُرفت عدالته لا يطلب من يزكيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب تزكية المرأة.

7 -

فضل الصحابة بكمال طاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

8 -

كراهة استرضاع الحمقاء؛ لأن اللبن غذاء يؤثر في المرتضع.

9 -

تأثر الرضيع بأخلاق المرضعة.

* * * * *

ص: 487

‌بَابُ النَّفَقَاتِ

النفقات: جمع نَفَقة، وهي اسم مصدر من الإنفاق، وليست من نَفَق الثلاثي، فإنه معنى آخر، والنفقة في اصطلاح الفقهاء: ما يبذل للإنسان لكفايته من طعام وشراب ولباس، وهي حقٌّ للزوجة والقريب والمملوك، كما قال تعالى:{وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215]، وقال سبحانه:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، وقال:{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7].

وباب النفقات من محاسن الإسلام، وهي من جنس ما يسمى بالتكافل الاجتماعي، وتكون واجبة ومستحبة، فتجب للزوجة على زوجها، وللقريب على قريبه الوارث؛ لقوله تعالى:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233]، كما سيأتي بيانه. وتجب للمملوك من الرقيق والبهائم.

ومثل هذه الواجبات أو المستحبات تجري في عرف الناس مجرى العادات لا يفعلها أكثر الناس إلا بحكم العادة، أو للتخلص من المطالبة، لا يفعلونها احتسابًا لنيل الثواب من الله، ولا ينوون بها امتثال أمر الله، فلا تقع منهم على وجه العبادة؛ لأنهم لم يفعلوها لله، فلا يجدون فيها لذة العبادة؛ التي يجدونها في صدقاتهم إذا تصدقوا.

وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في إحسان القصد في النفقة على الأهل والعيال حين قال لسعد بن أبي وقاص: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ عز وجل إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ»

(1)

، مع أن نفقة المرأة فيها شائبة المعاوضة،

(1)

رواه البخاري (1295)، ومسلم (1628)؛ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

ص: 488

فكيف بالنفقة على الأولاد، مع صلاح النية، ولهذا كان من المناسب ذكر حديث سعد في باب النفقات، للتنبيه على ما تضمنه من معنى الاحتساب وترتب الثواب، والله أعلم.

* * * * *

(1296)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ -امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ- عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ:«خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ، وَيَكْفِي بَنِيكِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1297)

وَعَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ وَيَقُولُ:«يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان وَالدَّارَقُطْنِيُّ

(2)

.

* * *

تضمن هذان الحديثان حكم النفقة على الزوجة والولد والقرابة.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

في حديث عائشة رضي الله عنها:

1 -

وجوب النفقة على الزوج لزوجته، وعلى الأب لأولاده.

2 -

جواز أن تأخذ الزوجة من مال زوجها بغير إذنه لتنفق على نفسها وأولادها.

3 -

جواز ذكر الإنسان بما يكره، وهو غائب، لغرض شرعي؛ كالاستفتاء، وهي من المسائل المستثناة من حكم الغيبة.

(1)

البخاري (5364)، ومسلم (1714).

(2)

النسائي في «الكبرى» (2323)، وابن حبان (3341)، والدارقطني (2976).

ص: 489

4 -

اعتبار العرف في قدر النفقة.

5 -

حسن تصرف هذه المرأة، امرأة أبي سفيان، حيث لم تقدم على ما همَّت به إلا بعد سؤال النبي صلى الله عليه وسلم.

6 -

أنه لا يجوز للمرأة أن تسرق من مال زوجها.

7 -

أنه لا يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها إلا بإذنه، أو ما أذن به الشرع.

8 -

أن للمرأة ولاية على أولادها.

9 -

أن المعتبر في النفقة الكفاية.

10 -

أن من له حق عند أحد فيجوز أن يستوفيه من ماله، إذا ظفر بشيء منه، وهذه مسألة الظفر. وخص ذلك بعض المحققين في الحق الظاهر سببُه؛ كالزوجية.

وفي حديث طارق رضي الله عنه:

1 -

أن السنة للخطيب القيام على المنبر.

2 -

فضل المعطي على الآخذ من جهة العطاء والأخذ.

3 -

فضل الإحسان.

4 -

فضل الاستغناء عما في أيدي الناس.

5 -

فضل القائم على غيره في النفقة، ويشهد لهذا قوله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} [النساء: 34].

6 -

وجوب نفقة القرابة.

7 -

البداءة بمن هم تحت رعاية المنفق، ثم الأقرب فالأقرب.

8 -

تقديم الأبوين والإخوة على من بعدهم.

ص: 490

9 -

البداءة بالأضعف؛ لقوله: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ» .

10 -

أن الحكم يتفاوت بتفاوت علته؛ لقوله: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ» إلخ.

11 -

تقرير الأحكام في الخطبة، سواء أكانت خطبةً راتبة كخطبة الجمعة، أم غير راتبة، أي: خطبة عارضة لسبب، كما في قصة بريرة رضي الله عنها

(1)

، والرَّهط الذين سألوا عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا ما قالوا

(2)

.

* * * * *

(1298)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيقُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

* * *

هذا الحديث أصل في وجوب نفقة العبد على سيده.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

ثبوت الرق في الإسلام.

2 -

أن أهم حوائج الإنسان الطعام والكسوة، كما قال تعالى:{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5].

3 -

أن علة هذا الاستحقاق هي الملك. وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه في الصحيح

(4)

: أن على السيد أن يطعم المملوك مما يأكل، ويلبسه مما يلبس.

4 -

الإرشاد إلى الرفق بالمملوك.

5 -

جواز تكليف المملوك بما يطيق.

6 -

أن المملوك لا يكلَّف من العمل إلا ما يطيق.

(1)

متفق عليه، وتقدم تخريجه برقم (884).

(2)

متفق عليه، وتقدم برقم (1092).

(3)

مسلم (1662).

(4)

رواه البخاري (30)، ومسلم (1661).

ص: 491

7 -

وجوب إعانتهم فيما يعجزون عنه.

8 -

حماية الشرع للحقوق التي بين العباد.

* * * * *

(1299)

وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ

». الْحَدِيثَ. وتَقَدَّمَ فِي عِشْرَةِ النِّسَاءِ

(1)

.

(1300)

وَعَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْحَجِّ بِطُولِهِ قَالَ فِي ذِكْرِ النِّسَاءِ: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في وجوب حق المرأة على زوجها.

وفيهما فوائد؛ منها:

1 -

أن للمرأة حقًا على الزوج.

2 -

أن من حقها الإنفاق عليها بتوفير الطعام والكسوة. والمعتبر في النفقة من حيث الغنى والفقر: حال الزوج؛ لقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7].

3 -

أن من حق المرأة السكنى، وهو المذكور في قوله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6].

4 -

أنه لا يجب عليه علاجها إذا مرضت، لكنه من مكارم الأخلاق.

5 -

تحريم التقبيح وضرب الوجه.

6 -

أن تقبيح الرجل للمرأة من الظلم الذي حرمه الله بين العباد.

(1)

تقدم تخريجه برقم (1157).

(2)

مسلم (1218).

ص: 492

7 -

أن في الحديث شاهدًا لقوله سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقوله:{وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].

8 -

أن للمرأة الفسخ إذا أعسر الزوج بالنفقة، إلا أن تكون تزوجته في حال إعساره، كما يدل لذلك أثر سعيد بن المسيب الآتي في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله قال: يفرق بينهما، قال سعيد: سنة، وأثر عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم: أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا

(1)

.

* * * * *

(1301)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: «أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ»

(2)

.

* * *

في هذا الحديث تغليظ إثم من امتنع عن بذل ما يجب عليه من نفقة زوجة أو قريب أو مملوك أو بهيمة. ومعنى «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا» أي: كفى المرءَ إثمًا تضييعُه من يقوت. فيفيد أن ذلك إثم عظيم، فهو من كبائر الذنوب. وكفى فعل ماض، والباء حرف زائد داخل على المفعول، و «أَنْ يُضَيِّعَ» مصدر في موضع رفع فاعل.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الامتناع من بذل النفقة الواجبة حرام.

2 -

أن للحاكم إجباره على أداء الواجب.

(1)

سيأتي تخريجهما قريبًا.

(2)

النسائي في «الكبرى» (9132)، ومسلم (996).

ص: 493

3 -

جواز تعزيره حتى يؤدي الواجب.

4 -

رعاية الشرع لأصحاب الحقوق بالتحذير من ظلمهم بتضييع حقوقهم.

* * * * *

(1302)

وَعَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ، فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا قَالَ:«لَا نَفَقَةَ لَهَا» . أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، لَكِنْ قَالَ: الْمَحْفُوظُ وَقْفُهُ

(1)

.

(1303)

وَثَبَتَ نَفْيُ النَّفَقَةِ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذا الأثر دليل على أن الحامل المتوفى عنها لا نفقة لها؛ لانقطاع السبب الموجب للنفقة؛ لأن فرقة الوفاة فرقة تامة، كبينونة المطلقة ثلاثًا، ولهذا أشار الحافظ إلى حديث فاطمة بنت قيس وقد طلقت ثلاثًا، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا نفقة لها. ولكن قال الفقهاء: تجب لها النفقة من أجل الحمل من ماله، أو من مال من تجب عليه نفقته، كما قال تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6].

* * * * *

(1304)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَيَبْدَأُ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ» ، تَقُولُ الْمَرْأَةُ: أَطْعِمْنِي، أَوْ طَلِّقْنِي. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنيُّ، وإسْنَادُهُ حَسَنٌ

(3)

.

* * *

(1)

البيهقي (7/ 431).

(2)

مسلم (1480).

(3)

الدارقطني في «السنن» (3780).

ص: 494

في هذا الحديث الترغيب في الإنفاق الواجب والمستحب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» ، وجاء في رواية عند الطبراني:«يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا وَيَدُ الْآخِذِ السُّفْلَى»

(1)

. وأورده المؤلف لدلالته على نفقة الزوجة.

وقول الحافظ هنا: «إسناده حسن» يوهم أن الحديث كلَّه مرفوع، وقد جاء في صحيح البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه سئل: سمعت هذا من رسول الله؟ قال: «لا، هذا من كيس أبي هريرة»

(2)

، وفي هذا السياق عند الدارقطني خلط، وحملوا ذلك على عاصم بن بهدلة، ولهذا حكم الحافظ في فتح الباري

(3)

أن رفع هذا اللفظ: «تَقُولُ الْمَرْأَةُ:

» خطأ.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

فضل الإنفاق وشرف المنفِق.

2 -

الترغيب في الزهد عما في أيدي الناس.

3 -

البداءة في نفقة الأقارب بالعيال.

4 -

وجوب النفقة للزوجة.

* * * * *

(1305)

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ -فِي الرَّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ- قَالَ: «يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا» . أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ؛ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْهُ. قَالَ:«فَقُلْتُ لِسَعِيدٍ: سُنَّةٌ؟ فَقَالَ: سُنَّةٌ» . وَهَذَا مُرْسَلٌ قَوِيٌّ

(4)

.

(1306)

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ؛ أَنْ يَأْخُذُوهُمْ بِأَنْ يُنْفِقُوا أَوْ يُطَلِّقُوا، فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا حَبَسُوا. أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

(5)

.

* * *

(1)

«المعجم الكبير» (4403)؛ عن رافع بن خديج رضي الله عنه.

(2)

البخاري (5355).

(3)

«فتح الباري» (9/ 501).

(4)

«سنن سعيد بن منصور» (2022).

(5)

الشافعي (2/ 65)، والبيهقي (2914).

ص: 495

هذان الأثران استدل بهما من ذهب إلى أن إعسار الزوج بالنفقة يوجب أن يكون للمرأة حقُّ الفسخ في هذه الحال؛ فأما أثر سعيد فدلالته على ذلك ظاهرة؛ لأنه قال: «يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا» أي: إذا طلبت المرأة ذلك، وقوله:«سُنَّةٌ» يحتمل أنه أراد سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأظهر؛ فهو من مراسيل سعيد بن المسيَّب، وهي من أقوى المراسيل عند أهل العلم.

أما أثر عمر فليست دلالته ظاهرة على هذا الحكم، أعني التفريق بالإعسار بالنفقة، لأن قوله:«أَنْ يُنْفِقُوا» وقوله: «فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا حَبَسُوا» ، ليس فيه ذكر للإعسار، بل ظاهره أنهم قادرون، ولا شك أن من امتنع من النفقة على امرأته وهو قادر؛ أنَّه يجبر على الإنفاق أو يفرق بينهما، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة؛ فذهب الجمهور إلى ما دلَّ عليه أثر سعيد بن المسيَّب، وقالوا: إذا أعسر الزوج بالنفقة فُرِّق بينهما، وقاسوا ذلك على العجز عن الوطء، والضرورة إلى الطعام أشدُّ من ضرورة الاستمتاع.

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الإعسار بالنفقة لا يوجب التفريق، ولا يجعل للمرأة حق الفسخ، وقد قال الله سبحانه وتعالى:{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)} [الطلاق: 7]، قالوا: ولم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه فُرِّق بينه وبين امرأته لإعساره، مع ما نقل من قلة ذات اليد عن كثير منهم، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر، ونصره ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد»

(1)

، وتوسط بعضهم فقال: لا يفرق بينهما، لكن على الزوج أن يمكنها من الاكتساب.

وفي الأثرين فوائد؛ منها:

1 -

منزلة سعيد بن المسيب في الفتوى.

2 -

بعث عمر رضي الله عنه الجنود للجهاد وحماية البلاد.

(1)

«زاد المعاد» (5/ 511).

ص: 496

3 -

رعاية عمر رضي الله عنه لحقوق المُغِيبات على أزواجهن.

4 -

أن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمن؛ لقوله: «فَإِنْ طَلَّقُوا بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا حَبَسُوا» .

5 -

وجوب النفقة على الزوج لامرأته وإن كان غائبًا للجهاد.

6 -

أن لغياب الرجل عن امرأته مدة مقدَّرة، وهي أربعة أشهر، كما جاء في أثر عن عمر

(1)

.

* * * * *

(1307)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عِنْدِي دِينَارٌ؟ قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ» . قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ» . قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: «أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ» . قَالَ: عِنْدِي آخَرُ، قَالَ:«أَنْفِقْهُ عَلَى خَادِمِكَ» . قَالَ عِنْدِي آخَرُ، قَالَ:«أَنْتَ أَعْلَمُ» . أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ بِتَقْدِيمِ الزَّوْجَةِ عَلَى الْوَلَدِ

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل في باب النفقات.

وفيه فوائد؛ منها:

1 -

أن نفقة الإنسان على نفسه مقدمة على نفقة غيره.

2 -

تقديم نفقة الولد على الزوجة.

(1)

رواه البيهقي في سننه (17673)، وعبد الرزاق في مصنفه (12594)؛ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل حفصة رضي الله عنهما:«كَمْ أَكْثَرُ مَا تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا؟ فَقَالَتْ: سِتَّةَ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَا أَحْبِسُ الْجَيْشَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا» .

(2)

الشافعي (209)، وأبو داود (1691)، والنسائي (2535)، والحاكم (1514).

ص: 497

3 -

وجوب النفقة على الخادم، وهو الأجير أو المملوك.

4 -

أن ما فضل عن النفقات الواجبة فلصاحب المال التصرف فيه بما شاء من مستحب أو مباح.

* * * * *

(1308)

وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبَاكَ، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث يدل على صلة الرحم، وأن آكدها برُّ الوالدين، ومناسبة الحديث لباب النفقات ظاهرة؛ فإن النفقة على الوالدين والرحم وسائر القرابة من البر والصلة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية صلة الرحم، والرحم هي القرابة مطلقًا.

2 -

أن أحق الرحم بالصلة الوالدان.

3 -

أن أحق الوالدين بالبر الأم.

4 -

أن الإحسان إلى الوالدين هو برهما.

5 -

أن صلة الرحم تتفاضل تبعًا لدرجة القرابة، فمن كان أقرب كان أحق بالصلة.

* * * * *

(1)

أبو داود (5139)، والترمذي (1897).

ص: 498

‌بَابُ الحَضَانَةِ

الحضانة: مصدر حَضَنه يحضُنُه حَضْنًا وحضانة إذا ضمَّه إليه، وهي مأخوذة من الحِضْن، وهو الجنب، سميت بذلك لضم الحاضنة المحضون إلى جنبها.

وفي اصطلاح الفقهاء: كفالة القاصر للقيام عليه ورعاية مصالحه، كاليتيم والسفيه والمجنون، وقد اختلف في الحضانة، هل هي حق للحاضن أو حق للمحضون على الحاضن؟

والصواب: أنها عند التنافس في كفالة المحضون أنها حق للحاضن، ومع التخاذل فهي حق للمحضون على الحاضن. وحينئذ تكون على الأقارب فرض كفاية.

* * * * *

(1309)

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ، مَا لَمْ تَنْكِحِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأبُوْ دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

* * *

في هذا الحديث أن الأحق بحضانة الولد هي الأم إذا تشاحَّ في ذلك الأبوان، ما لم تتزوج.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تقديم الأم في الحضانة على الأب.

(1)

أحمد (6707)، وأبو داود (2276)، والحاكم (2830).

ص: 499

2 -

أن حضانة الأم لا تسقط بالطلاق.

3 -

حكمة الشرع في هذا التقديم، وهي معاناة الأم مشاق الحمل والرضاعة والتربية.

4 -

أن الأم إذا تزوجت كان الأب أحق بالحضانة، قيل: مطلقًا سواء تزوجت بأجنبي أو قريب، وقيل: إن تزوجت بأحد أقارب الطفل لم يبطل حقها بالحضانة.

5 -

أن الحضانة حق للحاضن.

6 -

أن الفتوى لا يلزم فيها حضور الخصم. وفتوى الرسول صلى الله عليه وسلم هذه لا تمنع حجة الخصم الغائب.

7 -

جواز السجع في المطالبة بحق، لا لرد ما هو حق.

* * * * *

(1310)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه؛ أن امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي، وَقَدْ نَفَعَنِي، وَسَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ، فَجَاءَ زَوْجُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«يَا غُلَامُ! هَذَا أَبُوكَ، وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهُمَا شِئْتَ» . فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

.

(1311)

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ؛ أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَأَبَتِ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ. فَأَقْعَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأُمَّ نَاحِيَةً، وَالْأَبَ نَاحِيَةً، وَأَقْعَدَ الصَّبِيَّ بَيْنَهُمَا. فَمَالَ إِلَى أُمِّهِ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ اهْدِهِ» . فَمَالَ إِلَى أَبِيهِ، فَأَخَذَهُ. أخرجه أبُوْ دَاوُدَ والنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ

(2)

.

* * *

(1)

أحمد (7352)، وأبو داود (2277)، الترمذي (1357)، والنسائي (3496)، وابن ماجه (2351).

(2)

أبو داود (2244)، والنسائي (3495)، والحاكم (2828).

ص: 500

هذان الحديثان هما عمدة من يقول من العلماء بتخيير المحضون بين أبيه وأمه، ولكن بين هذين الحديثين وحديث «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ»

(1)

تعارضٌ في الظاهر، ويمكن الجمع بينها بأن الأم أحق بالصبي إذا لم يكن أهلًا للاختيار؛ كالذي لا تمييز له، فأما المميز فهو لمن اختار من أبويه.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن الصبي يخير بين أبيه وأمه، وهو لمن اختار منهما.

2 -

توجيه الصبي لاختيار الأصلح من أبويه.

3 -

أن التمييز لا يعتبر له سن؛ وأما حديث «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ»

(2)

، فقد خرج مخرج الغالب.

4 -

أنه إذا اختلف دين الأبوين في الكفر والإسلام، فلا حضانة للكافر منهما؛ لأن كونه عند الكافر فيه أعظم الضرر، والمقصود من الحضانة إصلاح المحضون، فلا يُقَر في يد من لا يصلحه.

* * * * *

(1312)

وَعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبِ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ لِخَالَتِهَا، وَقَالَ:«الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

.

(1313)

وأَخْرَجَهُ أحمد مِنْ حَدِيْثِ علي؛ فقال: «والْجَارِيَةُ عِنْدَ خَالَتِهَا، فَإِنَّ الْخَالَةَ وَالِدَةٌ»

(4)

.

* * *

هذا الحديث طرف من حديث طويل في قصة ابنة حمزة حين لحقت النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فتنازع في كفالتها عليٌّ وجعفر ابنا أبي طالب وزيد بن حارثة، وفيه أن جعفرًا قال: هي ابنة عمي وخالتها تحتي، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بها لخالتها،

(1)

المتقدم آنفًا.

(2)

رواه أبو داود (495)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(3)

البخاري (2699).

(4)

أحمد (770).

ص: 501

وقال: «الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ» ، وقد استدل بالحديث من قدم الخالة في الحضانة على العمة، وهو استدلال قويٌّ، ولا يلزم من ذلك أن تكون الخالة أمًّا فتقدم على الأب، فالأم مقدمة على الأب، بخلاف الخالة، وقد استدل من قدم العمة على الخالة بتقديم الأب عليها، والراجح القول الأول؛ لظاهر الحديث. والله أعلم.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن ابن العم من أهل الحضانة، ومن كان أدنى منه إلى المحضون من العصبة فهو أولى.

2 -

ترجيح أحد المتساويين إذا كان لأحدهما مرجح.

3 -

أن الخالة بمنزلة الأم؛ لأن هذا مقتضَى التشبيه.

4 -

أن الجدة أولى من الخالة؛ لأن الجدة أم.

5 -

أن الأم لا يسقط حقها من الحضانة إذا رضي الزوج منها بذلك.

هذا ما يتعلق بالطرف المذكور من الحديث. والله أعلم.

* * * * *

(1314)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ، فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

.

(1315)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلْتِ النَّارَ فِيهَا، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا، تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

(1)

البخاري (5460)، ومسلم (1663).

(2)

البخاري (3482)، ومسلم (2242).

ص: 502

هذان الحديثان الأليق بهما باب النفقات، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم:«كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»

(1)

، ولعل الحافظ ابن حجر ذكر الحديثين في باب الحضانة إشارة أن على الحاضن أن يرعى مصلحة المحضون بتوفير القوت له.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

إباحة الرق في الإسلام بأسبابه المشروعة.

2 -

الإحسان إلى الرقيق.

3 -

خدمة العبد لسيده.

4 -

الرفق بالمملوك، ومراعاة حالته النفسية بتطييب خاطره بإشراكه في الطعام الذي صنعه وقدمه.

5 -

إرشاد السيد إلى التواضع.

6 -

تحريم حبس الحيوان مع منعه من الطعام والشراب، وأن ذلك من أسباب دخول النار.

7 -

جواز حبس الحيوان، مع القيام بسقيه وإطعامه.

8 -

وجوب نفقة الحيوان الذي تحت يد الإنسان.

9 -

أن الإسلام دين الرفق والرحمة بالإنسان والحيوان.

10 -

إثبات عذاب القبر؛ لأن الحديث إخبار عمَّا وقع.

* * * * *

(1)

تقدم تخريجه برقم (1301).

ص: 503