المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الجِنَايَاتِ - الجامع لفوائد بلوغ المرام - جـ ٣

[عبد الرحمن بن ناصر البراك]

فهرس الكتاب

‌كِتَابُ الجِنَايَاتِ

ص: 5

الجِنايات: جمع جِناية، وهي العدوان على من له حرمة في دمه وماله وعرضه وفي الاصطلاح عدوان على معصوم في دمه بقتل أو ما دونه، فتشمل الشجاج والجراحات وإتلاف الأعضاء، مما يوجب قصاصًا أو دية.

* * * * *

(1316)

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ؛ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ؛ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1317)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا يَحِلُّ قَتْلُ مُسْلِمٍ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ: زَانٍ مُحْصَنٌ فَيُرْجَمُ، وَرَجُلٌ يَقْتُلُ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا فَيُقْتَلُ، وَرَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ فَيُحَارِبُ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَيُقْتَلُ، أَوْ يُصْلَبُ، أَوْ يُنْفَى مِنَ الْأَرْضِ» . رَوَاهُ أبُوْ دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(2)

.

(1318)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث أن أعظم الجنايات العدوان على النفس، وأن أعظمها القتل.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن أعظم الحُرَم حرمة دم المسلم.

(1)

البخاري (6878)، ومسلم (1676).

(2)

أبو داود (4353)، والنسائي (4028)، والحاكم (8095).

(3)

البخاري (6533)، ومسلم (1678).

ص: 7

2 -

فضيلة الإسلام، وأنه السبب الأعظم في عصمة الدم.

3 -

أن دم المسلم لا يحل إلا بإحدى الأسباب المذكورة.

4 -

أن الإسلام يثبت بالشهادتين، ولا تكفي إحداهما عن الأخرى.

5 -

أن تارك بقية أركان الإسلام لا يكفر، وفي ذلك خلاف.

6 -

انحصار سبب حل دم المسلم في هذه الأسباب الثلاثة، وهذا الحصر ليس حقيقيًّا؛ لدلالة السنة على أسباب أخرى، كالقتل تعزيرًا، ومن يدعو لبيعته ليفرق جماعة المسلمين.

7 -

حِلُّ دم المسلم إذا زنى وهو مُحصَنٌ، وذلك بإقامة حد الزاني المحصن، وهو الرجم.

8 -

أن الزاني البكر لا يحل دمه؛ لأن حده جلد مئة، للآية الكريمة.

9 -

أن مما يبيح دم المسلم أن يقتل مسلمًا معصومًا عمدًا وعدوانًا، فيقتل قصاصًا.

10 -

أن مما يبيح قتل المسلم ردته عن الإسلام، أو السعي في الأرض بالفساد.

11 -

عظم شأن النفوس، وأن حرمة الدماء أعظم من حرمة المال.

12 -

أن المحاربين أصناف، تختلف عقوبتهم في الدنيا بحسب عدوانهم، كما جاء في الآية:{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33].

13 -

أن أول ما يقضى فيه بين الناس أمر الدماء.

14 -

أن الله يحكم بين العباد يوم القيامة فتُستوفى الحقوق لأصحابها، ويؤخذ للمظلوم من الظالم، إلا ما كان قد استوفي في الدنيا.

15 -

إثبات حكمة الله وعدله.

* * * * *

ص: 8

(1319)

وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ عَنْ سَمُرَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ

(1)

.

(1320)

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ:«وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ .. » وَصَحَّحَ الحَاكِمُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ

(2)

.

* * *

هذا الحديث تضمن حكم جناية السيد على عبده بقتل أو ما دونه، وقد دل على القصاص من السيد لعبده، فهو مخالف لمفهوم قوله تعالى:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178]؛ فإن جمهور العلماء استدلوا بالآية على أن الحر لا يقاد بالعبد، وحديث سمرة يدل على أن السيد يقتل إذا قتل عبده، ويقاد له منه، وقد ذهب الجمهور إلى أن الحر لا يقتل بالعبد، وعليه؛ فلا يقتل السيد بعبده، لمفهوم الآية:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178]، واعتذروا عن هذا الحديث بأنه من رواية الحسن البصري، والمشهور أنه لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية قول أهل المدينة؛ أن الحر لا يقتل بالعبد إلا في المحاربة، قال:«وهو أعدل الأقوال، وفيه جمع بين الآثار المنقولة في هذا الباب»

(3)

.

واختار أيضًا أن السيد إذا قتل عبده فأمره إلى الإمام، فله قتله تعزيرًا، وجنح إلى ذلك تلميذه ابن القيم

(4)

، رحمهما الله.

(1)

أحمد (20104)، وأبو داود (4515)، والترمذي (1414)، والنسائي (4737)، وابن ماجه (2663).

(2)

أبو داود (4516)، والنسائي (4754)، والحاكم (8100).

(3)

«مجموع الفتاوى» (20/ 382)

(4)

«زاد المعاد» (5/ 6).

ص: 9

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم اعتداء السيد على مملوكه بأيِّ نوع من أنواع العدوان.

2 -

أن معاملة السيد لعبده مقيدة بالشرع، فليست تابعة لهواه.

3 -

القصاص من السيد لعبده في القتل والجدع والخصاء. وسبقت الإشارة إلى الخلاف في ذلك. وقد ذهب إلى ظاهر هذا الحديث الظاهرية

(1)

وجمع من المحققين، وإذا اقتُص للعبد من سيده فغير السيد من باب أولى، وهو قول قوي. وإذا قيل: لا يقتص من السيد لعبده، فإنه يجب عليه إن كان العبد باقيًا؛ أن يحرره، وعلى الإمام تعزير السيد على معصيته بظلم العبد.

4 -

أن القصاص يكون في النفس وما دونها من الأعضاء، والجدع: قطع الأنف، وهو الأصل فيه، ويطلق على غيره من الأطراف، والخصاء: قطع الخصيتين.

* * * * *

(1321)

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يُقَادُ الوَالِدُ بِالوَلَدِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالبَيْهَقِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:«إِنَّهُ مُضْطَرِبٌ»

(2)

.

(1322)

وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنهما: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الوَحْيِ غَيْرُ القُرْآنِ؟ قَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمٌ يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلًا فِي القُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: العَقْلُ، وَفَكاكُ الأَسِيرِ، وَ أَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(3)

.

(1)

«مجموع الفتاوى» (14/ 85 - 86).

(2)

أحمد (148)، والترمذي (1400)، وابن ماجه (2662)، وابن الجارود (788)، والبيهقي في «الصغرى» (2996).

(3)

البخاري (111).

ص: 10

(1323)

وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ وَقَالَ فِيهِ:«المُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» . وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذان الحديثان تضمنا مسألتين: قتل الوالد بولده، وقتل المسلم بالكافر، فأما المسألة الأولى:

فذهب الجمهور إلى معنى هذا الحديث، وأن الوالد لا يقتل بولده، وقالوا: إن هذا الحديث مخصص لقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه:«النَّفْسُ بِالنَّفْسِ»

(2)

. وذهب آخرون إلى أنه لا يقتل الوالد بولده إلا أن يقتله صبرًا. ولكن الحديث مختلف في تصحيحه، وإذا لم يصح فالأصل قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم:«النَّفْسُ بِالنَّفْسِ» .

وأما المسألة الثانية:

وهي قتل المسلم بالكافر، فقد دل عليها الحديث الثاني، وقد ذهب الجمهور إلى ظاهر هذا الحديث، وأن المسلم لا يقتل بالكافر، وذهب أبو حنيفة إلى أن المسلم يقتل بالكافر الذميِّ، وخصَّ الكافر في الحديث بالكافر الحربي. والصواب القول الأول؛ لأن الحديث صحيح وصريح في أنه لا يقتل مسلم بكافر.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

عظم حق الوالد على الولد.

2 -

أن الوالد لا يقاد بولده، وفيه الخلاف المتقدم.

3 -

وجوب فك الأسير المسلم.

(1)

أحمد (993)، وأبو داود (4530)، والنسائي (4748)، والحاكم (2680).

(2)

رواه البخاري (6878).

ص: 11

4 -

علو الإسلام على غيره من الأديان.

5 -

ثبوت العقل، الذي هو دية الخطأ. وأهل العلم مختلفون فيمن يجب عليه.

6 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخص عليًا ولا أحدًا من أهل بيته بشيء من علم النبوة، ففيه:

7 -

الرد على الرافضة فيما يزعمونه من اختصاص أهل البيت بعلم من دون الصحابة.

8 -

أن الله فالق الحب، وبارئ النسم. وتلك من الصفات الفعلية. قال الله تعالى:{إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95]، وقال:{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24].

9 -

أن فهم القرآن من فضل الله الذي يؤتيه من يشاء.

10 -

تفاضل الناس في حظهم من فهم القرآن.

11 -

جواز الحلف على الفتيا.

12 -

جواز الحلف دون استحلاف، لقول علي:«لَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ» .

13 -

جواز كتابة السنة.

14 -

عناية علي رضي الله عنه بذلك.

15 -

حرص أبي جحيفة رضي الله عنه على العلم.

16 -

أن النفي يأتي بمعنى النهي.

17 -

فضل المسلم على الكافر.

18 -

أن المسلم لا يقتل بالكافر.

19 -

أن المعاهد لا يقتل في مدة عهده، بل يجب الوفاء له، ما استقام على عهده.

ص: 12

20 -

أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، فيقتل المسلم بالمسلم، ذكرًا كان المقتول أو أنثى، حرًّا أو عبدًا.

21 -

صحة جوار المرأة والعبد؛ لقوله: «وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» .

22 -

أن على المسلمين أن يكونوا جميعًا ضدًّا للكافرين.

23 -

وجوب تعاون الأمة على العدو الكافر.

24 -

أن من رفض إعانة المسلمين على عدوهم فليس منهم.

* * * * *

(1324)

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا:«مَنْ صَنَعَ بِكِ هَذَا؟ فُلَانٌ، فُلَانٌ، حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا. فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ، فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

* * *

هذا الحديث أصل في ثبوت القود بالقتل بالمثقَّل.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

القصاص من القاتل بالمثقَّل.

2 -

أن من القصاص أن يُفعل بالجاني نظير ما فعل بالمجني عليه، ولو كان فيه بشاعة.

3 -

قتل الرجل بالمرأة.

4 -

قتل الذمي بالمسلم.

5 -

العمل بالإشارة.

6 -

أن إشارة المجني عليه إلى من اعتدى عليه قرينة توجب التهمة، إذا كان مع المقتول عقله.

(1)

البخاري (6485)، ومسلم (1672).

ص: 13

7 -

أن المتهم بالقتل أو بجناية لا يقتص منه إلا بإقراره.

8 -

أن المتهم لا يؤخذ بمجرد التهمة حتى يكون معها قرينة تشعر بصدقها.

9 -

أن الله يُقيد من القاتل بفضحه.

10 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي في الخصومات بين الناس.

11 -

صراحة النبي صلى الله عليه وسلم وقوته في الحق.

12 -

أن المدينة ليست كمكة في منع الكفار من دخولها.

13 -

محبة اليهود للمال؛ لأن اليهودي قتلها من أجل الحليِّ الذي في يدها.

14 -

أنه لا ينبغي إلباس البنات الصغار الحلي، ثم يخرجن إلى الخارج، فإنه يطمع فيهن اللصوص.

* * * * *

(1325)

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَينٍ رضي الله عنه أَنَّ غُلَامًا لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالثَّلَاثَةُ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في عدم وجوب القصاص من الغلام إذا جنى؛ لأن شرط وجوب الواجبات البلوغ.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أنه لا أثر للغنى والفقر في القصاص وعدمه، وإنما أثرهما في الحقوق المالية.

(1)

أحمد (19945)، وأبو داود (4590)، والنسائي (4751)، ولم أجده عند الترمذي.

ص: 14

2 -

أنه إذا تعذر القصاص لعدم أهلية الجاني وجبت الدية على العاقلة.

3 -

أن العاقلة تحمل عمد الصبيِّ.

4 -

أن العاقلة إذا كانوا فقراء سقطت الدية عنهم، ولهذا ذكرت حال أهل الغلام في الفقر.

5 -

أن وصف أهل الغلام المجني عليه بصفة الغنى لا مفهوم له، بل يستحق المجنيُّ عليه أو أهله الدية ولو كانوا أغنياء، وقوله:«فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئًا» أي: لفقر أولياء الجاني، وليس لغنى أهل المجني عليه. وهل تجب الدية على بيت المال في مثل هذه الحال؟ فيه خلاف. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم وداه من عنده. وهذا أشبه بسيرته صلى الله عليه وسلم، كما جاء في قصة عبد الله بن سهل رضي الله عنه الذي قُتل في خيبر، لما لم يثبت قتله من قبل اليهود

(1)

.

* * * * *

(1326)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ؛ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَقَالَ:«حَتَّى تَبْرَأَ» ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَرَجْتُ، فَقَالَ:«قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللهُ، وَبَطَلَ عَرَجُكَ» . ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل في أنه لا يقتص في الجراحات إلا بعد البُرء.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية القصاص في الجروح.

2 -

أنه لا قصاص في الجروح إلا بعد البرء.

(1)

البخاري (7192)، ومسلم (1669).

(2)

أحمد (7034)، والدارقطني (3114).

ص: 15

3 -

أن أمر القود إلى الإمام.

4 -

رفع قضية الخصومة إلى الإمام.

5 -

وجوب طاعة الرسول في أمره ونهيه، صلى الله عليه وسلم.

6 -

مضرة معصية الرسول صلى الله عليه وسلم شرعًا وقدرًا.

7 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يغضب على من عصاه، ويدعو عليه.

8 -

أن من استعجل شيئًا قبل وقته عوقب بالحرمان.

9 -

أن أثر الجُرح بعد البرء مضمون على الجاني.

10 -

أن سراية الجناية مضمونة، ويقابلها؛ أن ما يترتب على المأذون فليس بمضمون.

11 -

أن على القضاة أن يتأسوا بحكم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة وغيرها.

* * * * *

(1327)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا: غُرَّةٌ؛ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ المَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ. فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ، وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ، وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ» ، مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1328)

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه سَأَلَ:«مَنْ شَهِدَ قَضَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَنِينِ؟» قَالَ: فَقَامَ حَمَلُ

(1)

البخاري (5758)، ومسلم (1681).

ص: 16

بْنُ النَّابِغَةِ، فَقَالَ:«كُنْتُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى»

فَذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان وَالْحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في حمل العاقلة دية الخطأ وشبه العمد، وفي ضمان الجنين.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

وقوع هذه القصة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

أن المرأتين من هذيل، وأنهما ضرتان، كما جاء في بعض الروايات.

3 -

شدة الغيرة بين الضرائر.

4 -

أن دية القتل الخطأ على العاقلة، وهم العصبة.

5 -

أن قتل شبه العمد حكمه حكم الخطأ.

6 -

أن من حكمة الشريعة التفريق بين المختلفات، ومنه التفريق بين الخطأ والعمد.

7 -

أن دية الجنين إذا سقط غُرةٌ؛ عبدٌ أو وليدة. وللسقط بسبب الجناية أحوال:

أ. أن يسقط ميتًا أو حيًّا حياة غير مستقرة، ففيه الغُرة.

ب. أن يسقط حيًّا حياة مستقرة، ثم يموت بسبب الجناية ففيه الدية.

ج. أن يسقط ويعيش، ثم يموت بسبب غير الجناية فليس فيه شيء.

وهذه الأقسام الثلاثة بعد نفخ الروح فيه.

4 -

أن يسقط قبل نفخ الروح فيه، فإن تبين فيه خلق إنسان ففيه الغُرة، وإذا لم يتبين فيه خلق إنسان فلا شيء فيه، فإن مات الجنين مع أمه ولم يسقط فلا شيء فيه؛ لأنه صار كعضو من أعضائها.

(1)

أبو داود (4572)، والنسائي (4739)، وابن حبان (6021)، والحاكم (6539).

ص: 17

8 -

أن دية المقتول خطأ لورثته؛ لقوله: «وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ» .

9 -

ذم السجع الذي يراد به معارضة الحكم الشرعي. وما عداه فلا بأس به، دون تكلف. وقول حمل:«فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ» ، أي: يكون هدرًا، فلا تكون له دية.

10 -

أن السجع من عادة الكهان للتمويه وغرور الناس، وهو من زخرف القول.

11 -

الإنكار على من عارض الحق.

* * * * *

(1329)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ -عَمَّتَهُ- كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا إِلَيْهَا العَفْوَ، فَأَبَوْا، فَعَرَضُوا الأَرْشَ فَأَبَوْا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَبَوْا إِلَّا القِصَاصَ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟ لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ» . فَرَضِيَ القَوْمُ، فَعَفَوْا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في القصاص في السن، وهو المذكور في قوله تعالى:{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45]، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ» ، والكتاب في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إما أن يريد به القرآن، إشارة إلى الآية، أو يريد به حكم الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»

(2)

.

(1)

البخاري (2703)، ومسلم (1675).

(2)

رواه البخاري (2168)، ومسلم (1504)؛ عن عائشة رضي الله عنها، وتقدم في (باب الشروط وما نهي عنه) برقم (884).

ص: 18

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

القَود في السن.

2 -

أن حكم الله في جناية العمدِ العدوانِ القصاصُ.

3 -

فضيلة أنس بن النضر رضي الله عنه.

4 -

جواز الإقسام على الله المبني على حسن الظن بالله وصدق الرجاء.

5 -

أن من عباد الله من يبر الله بقسمه إذا أقسم عليه، وهو العبد الصالح.

6 -

أن إبرار الله لقَسَم من أقسم عليه هو حصول مطلوب المقسِم، بمشيئته سبحانه.

7 -

أن صورة القسم على الله بالحلف أن يكون الشيء في المستقبل، أو أن لا يكون، رجاءً وحسنَ ظنٍّ بالله، لا معارضة لشرعه.

8 -

جواز القسم بالله موصوفًا ببعض صفاته الفعلية؛ لقوله: «لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ» .

9 -

في الحديث شاهد لقوله سبحانه في الحديث القدسي: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي»

(1)

.

10 -

أن الحق في اختيار القصاص أو العفو إلى المجني عليه إن كان جائز التصرف، أو لأوليائه إن كان غير جائز التصرف.

11 -

جواز الصلح عن القصاص.

12 -

أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا إذا ثبت في شرعنا، ولم يأت شرعنا بخلافه.

13 -

أن الله يصرف قلوب العباد لما شاء.

14 -

وصفه تعالى بإبرار من أقسم عليه.

* * * * *

(1)

رواه البخاري (6970)، ومسلم (2675)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 19

(1330)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ فِي عِمِّيَّا أَوْ رِمِّيَّا بِحَجَرٍ، أَوْ سَوْطٍ، أَوْ عَصًا، فَعَقْلُهُ عَقْلُ الخَطَإِ، وَمَنْ قُتِلَ عَمْدًا فَهُوَ قَوَدٌ، وَمَنْ حَالَ دُونَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في أن حكم القتل شبه العمد حكمُ الخطأ؛ تجب فيه الدية، لا القوَد.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن القتل في عِمِّيَّا أو برمي حجر لا يُقصد به القتل غالبًا، أو بالسوط ونحوه، ولو كان الفعل عمدًا؛ فإن حكمه حكم الخطأ، ولذا سمي شبهَ العمد. والعِمِّيَّا: هي الحال التي يَعمَى فيها أمر المقتول، فلا يُعلم قاتله ولا صفة قتله، والرِّمِّيَّا: هي ترامي الخصوم بالحجارة مثلًا، فيقع بينهم قتيل، فلا يعلم قاتله، فيكون معنى الرِّمِّيَّا قريبًا من العِمِّيَّا.

2 -

أن القتل شبه العمد حكمه حكم الخطأ لا يوجب إلا الدية.

3 -

أن قتل العمد، أي العمد العدوان يوجب القَوَد، أي: القصاص.

4 -

أن إيواء من وجب عليه القصاص، وإجارته من أخذ الحق منه من كبائر الذنوب، ومن أسباب حلول لعنة الله عليه، ففي الحديث شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم:«لَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا»

(2)

.

5 -

أن اللعن يكون من الله قولًا وفعلًا، فالقول كقوله لإبليس:{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّين (78)} [ص: 78]، والفعل بالطرد من رحمته تعالى.

* * * * *

(1)

أبو داود (4540)، والنسائي (4803)، وابن ماجه (3635).

(2)

رواه مسلم (1978)، والبخاري معلقًا:(باب إثم من آوى محدثًا)؛ عن علي رضي الله عنه.

ص: 20

(1331)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أَمْسَكَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَقَتَلَهُ الْآخَرُ، يُقْتَلُ الَّذِي قَتَلَ، وَيُحْبَسُ الَّذِي أَمْسَكَ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَجَّحَ المُرْسَلَ

(1)

.

* * *

تضمَّن هذا الحديث الفرق بين القاتل المباشر والمعين، فالقاتل يُقتل، والمعين يعزر، وهذا الحديث معارض لحديث عمر الآتي، وفيه:«لَوْ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ»

(2)

، ويمكن الجمع بينهما بأن الممسك في هذا الحديث لا يَعلم أن الآخر يريد قتله، أما إذا تواطأ معه فهو شريكه، فيقتلان معًا، لأن كلًّا منهما قصد القتل، وفعل ما يتحقق فيه مقصودهما.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

وجوب القصاص على من باشر القتل.

2 -

أن المعين على القتل لا يجب عليه قصاص، بل التعزير بالحبس أو بغيره.

* * * * *

(1332)

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهِدٍ. وَقَالَ: «أَنَا أَوْلَى مَنْ وَفَى بِذِمَّتِهِ» . أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَكَذَا مُرْسَلًا. وَوَصَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، بِذِكْرِ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ، وَإِسْنَادُ المَوْصُولِ وَاهٍ

(3)

.

* * *

هذا الحديث لا نشتغل بشرحه؛ لأن إسناده واه، كما قال المصنف، وكذلك متنه، فإنه معارَض بما في «الصَّحِيحَيْنِ» ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ

(1)

الدارقطني (3270)، والبيهقي في «الكبرى» (16029).

(2)

رواه البخاري (6500)؛ عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما موقوفًا. وسيأتي بعد التالي.

(3)

عبد الرزاق (18514) والدارقطني (3259).

ص: 21

بِكَافِرٍ»

(1)

، ولكن قتل المعاهد حرام، وهو من كبائر الذنوب، وفي الحديث الصحيح:«مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ»

(2)

، والوفاء بالعهد للمعاهَد يكون بحمايته وتعزير المتعدي عليه، وفي الوعيد المذكور أبلغُ زاجر عن العدوان على المعاهد. ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أوفى الناس بعهده، ولا أحد أوفى من الله.

* * * * *

(1333)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «قُتِلَ غُلَامٌ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ

(3)

.

(1334)

وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «

فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ؛ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَأْخُذُوا العَقْلَ، أَوْ يَقْتُلُوا». أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ

(4)

.

(1335)

وَأَصْلُهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» ؛ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ

(5)

.

* * *

أثر عمر رضي الله عنه أصل في وجوب القصاص من المشتركين في قتل العمد العدوان، وأما حديث أبي شريح رضي الله عنه الذي تضمن معناه حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه في «الصَّحِيحَيْنِ» ، فهو أصل في أن وليَّ المقتول يخير بين القصاص وأخذ الدية.

(1)

البخاري (111). وتقدم برقم (1322).

(2)

رواه البخاري (3166)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(3)

البخاري (6896).

(4)

أبو داود (4504)، والترمذي (1406). وليس في النسائي، وقد عزاه المصنف في «التلخيص» إلى الترمذي فحسب.

(5)

البخاري (6880)، ومسلم (1355). ذكره المصنف في (كتاب الحج)(832).

ص: 22

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

فضيلة عمر رضي الله عنه؛ لفقهه وشدته في الحق.

2 -

أن المتواطئين على القتل يثبت القصاص في حق جميعهم، ومعنى قول عمر رضي الله عنه:«لَوْ اشْتَرَكَ فِيهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ» ، أي: لو اشتركوا في مباشرة القتل، وهذا على سبيل الفرض والتقدير، أو اشتركوا في القتل بالتواطؤ عليه، كما جاء في رواية الموطأ: «لَوْ تَمَالَأَ عَلِيْهِ

»

(1)

، ويشهد لهذا الحكم الشرعي حكمه تعالى الكوني الجزائي في المتواطئين على عقر الناقة، حيث قال تعالى:{فَعَقَرُوهَا} [الشمس: 14] مع قوله: {فَتَعَاطَى فَعَقَر (29)} [القمر: 29]، فالمباشر للعقر واحد، وهو أشقاها الذي انبعث لعقر الناقة، ومع ذلك أضاف الله العقر إليهم جميعًا، لتواطئهم على الفَعْلة ورضاهم بها، فقال:{فَعَقَرُوهَا} [الشمس: 14]، فأحل الله العذاب بهم جميعًا، قال تعالى:{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} [الشمس: 14 - 15].

3 -

أن قتل الغيلة يتحتم فيه القتل، فليس الحق لأولياء المقتول، وقتل الغيلة هو الذي يحصل بطريقة المكر والخديعة والغدر، والجناية فيه أعظم فسادًا، ولا يحسمها إلا تحتم قتل الجاني.

وفي حديث أبي شريح وأبي هريرة رضي الله عنهما:

1 -

أن ولي المقتول يُخيَّر بين القصاص وأخذ العقل، أي: الدية، وعليه؛ فإن القتل العمد العدوان يبيح القصاص من القاتل ولا يوجبه. وقوله:«بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ» هو معنى: «بخَيْرِ النَّظَرَينِ» في حديث أبي هريرة رضي الله عنه

(2)

، أي: بخير النظرين في نظر ولي المقتول. وحقُّ ولي المقتول هو أحد الحقوق الثلاثة

(1)

«الموطأ» (2552).

(2)

تقدم في (كتاب الحج)(832).

ص: 23

المتعلقة بالقاتل، والثاني: حق الله، ويسقط بالتوبة، أو يغفره الله لمن شاء، والثالث: حق المقتول، وهذا يحكم الله فيه يوم القيامة.

2 -

أن الأحكام الشرعية تتجدد وقت نزول الوحي؛ لقوله: «فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ» .

* * * * *

ص: 24

‌بَابُ الدِّيَاتِ

الديات: جمع دية، وأصلها مصدر وَدَى القتيلَ يَدِيه دِيةً، ثم أُطلقت على ما يدفع إلى أولياء المجني عليه، أو أولياء المقتول أصالة؛ كدية الخطأ، أو بدلًا عن القصاص في العمد، وهذا من تسمية المفعول به بالمصدر، وهو كثير في اللغة. والأصل فيها قوله تعالى في دية الخطأ:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} إلى قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الآية. وقوله صلى الله عليه وسلم في قتل العمد: «ومَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادُ»

(1)

. والدية ثابتة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، كما سيأتي.

* * * * *

(1336)

عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ-فَذَكَرَ الْحَدِيثَ- وَفِيهِ:«أَنَّ مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ قَوَدٌ، إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ المَقْتُولِ، وَإِنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ؛ مائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي المَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي المُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي المُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ» . أَخْرَجَهُ

(1)

هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم (832).

ص: 25

أَبُو دَاوُدَ فِي «المَرَاسِيلِ» ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَحْمَدُ. وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهِ

(1)

.

(1337)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «دِيَةُ الخَطَأِ أَخْمَاسًا: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي لَبُونٍ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ، بِلَفْظِ:«وَعِشْرُونَ بِنِي مَخَاضٍ» بَدَلَ «بَنِيَ لَبُونٍ» . وَإِسْنَادُ الْأَوَّلِ أَقْوَى

(2)

.

(1338)

وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ المَرْفُوعِ

(3)

.

(1339)

وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ: مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما رَفَعَهُ:«الدِّيَةُ ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا»

(4)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في فرض دية الأطراف والجروح، وبيان جنس الدية ومقاديرها، وعليها المُعوَّل والعمل في الجملة عند أئمة المذاهب وعامة الفقهاء.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة في تبليغ العلم، وكتابتُه صلى الله عليه وسلم للملوك في تبليغ الدعوة مشهورة في كتب الحديث والسيرة.

(1)

أبو داود (257)، والنسائي (4868)، وابن خزيمة (2269)، وابن حبان (6559)، وابن الجارود في «المنتقى» (784). وعزاه إلى أحمد ابن عبد الهادي في «التنقيح» (1/ 227)، ولم أجده في «المسند» المطبوع.

(2)

الدارقطني (3361)، وأبو داود (4545)، والترمذي (1386)، والنسائي (4816)، وابن ماجه (2631).

(3)

«مصنف ابن أبي شيبة» (27285).

(4)

أبو داود (4541)، والترمذي (1387).

ص: 26

2 -

العمل بالكتابة؛ لقوله: «كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ» .

3 -

أن في قتل العمد القوَد؛ لقوله: «مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ قَوَدٌ» ، ومعنى اعتبط: قتله بلا سبب يبيح قتله. وقوله: «فَإِنَّهُ قَوَدٌ» أي: فيه القصاص.

4 -

أنه إذا رضي بعض أولياء المقتول بما دون القتل سقط حق الباقين في القصاص، قال تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178].

5 -

أن دية النفس مئة من الإبل.

6 -

أنه لو اشترك في القتل جماعة؛ فإن الدية تقسم عليهم.

7 -

أن الأصل في الديات الإبل، وما سواها فمعدول بها.

8 -

أن في الأنف إذا أُوعِب جَدْعًا الدية كاملة، ومعنى أوعب أي: قطع المنخران وما بينهما.

9 -

أن في قطع اللسان الدية.

10 -

أن في الشفتين الدية.

11 -

أن في الذَّكَر الدية.

12 -

أن في البيضتين الدية، أي: الخصيتين.

13 -

أن في الصلب الدية، والمراد: الظهر.

14 -

أن في العينين الدية.

15 -

أن في الرِّجل الواحدة نصف الدية، وفي الرجلين الدية، لا فرق بين اليمنى واليسرى.

16 -

أن دية الأعضاء جارية على قاعدة؛ وهي: أن ما كان في البدن منه شيء واحد ففيه الدية كاملة، كالأنف واللسان والذَّكَر، وما كان منه اثنان ففيه نصف الدية، كالعينين واليدين.

ص: 27

17 -

أن في المأمومة ثلث الدية، وهي الشَّجَّة في الرأس تصل إلى أم الدماغ.

18 -

أن في الجائفة ثلث الدية، وهي التي تنفذ إلى الجوف.

19 -

أن في المُنَقِّلة خمس عشرة من الإبل، والمُنَقِّلة هي الشجة في الرأس، وتؤدي إلى نقل العظام فتتطاير من موضعها.

20 -

أن في كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشرًا من الإبل.

21 -

أن في السِّن خمسًا من الإبل.

22 -

أن في المُوضِحة خمسًا من الإبل، وهي: الشجة في الرأس توضح العظم، أي يبين العظم من أثرها.

23 -

أن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى هذا فلا مفهوم لقوله تعالى:{وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة: 178].

24 -

أن الدية من الذهب وزن ألف دينار، والدينار وزنه مثقال، والمثقال وزنه أربعة جرامات ونصف، فألف دينار أربعة آلاف وخمسمئة جرام، وقيل: المثقال أربعة جرامات وربع. فالألف دينار على هذا أربعة آلاف ومئتان وخمسون جرامًا.

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:

1 -

أن دية الخطأ مئة من الإبل.

2 -

أنها أخماس: عشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة، وعشرون بناتِ مَخاض، وعشرون بناتِ لبون، وعشرون بني لبون.

وفي حديث عمرو بن شعيب رضي الله عنهما:

1 -

أن الدية ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة. في بطونها أولادها. والأشبه أن هذا تغليظ وبيان لدية شبه العمد، كما يدل له حديث عبد

ص: 28

الله بن عمرو رضي الله عنهما الآتي، ولفظه:«أَلَا إِنَّ دِيَةَ الخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ -مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا- مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا»

(1)

.

2 -

أنه لا اعتبار في الديات للتفاضل في المنافع، فالصغير يقتل بالكبير، والعالم بالجاهل، وأصابع الرجلين كأصابع اليدين، والأسنان كلها سواء، الثنية والضرس. والحكمة في هذا -والله أعلم- أن تقدير الديات تعبديٌّ، ولم يُنظر فيها إلى تفاضل المتلَف من الإنسان؛ لأنها ليست قيمة، لذلك اختصت بالأحرار، وأما العبد فيضمن بقيمته، وقد تبلغ أضعاف دية الحر.

* * * * *

(1340)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللهِ ثَلَاثَةٌ: مَنْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ لِذَحْلِ الجَاهِلِيَّةِ» ، أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ

(2)

.

(1341)

وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

(3)

.

* * *

تضمن هذا الحديث ذم هؤلاء الثلاثة ووعيدهم، والجامع بينهم هو الظلم والعدوان، ومعنى عتا أي عصى وتمرد، كقوله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} [الطلاق: 8].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

غلظ تحريم القتل في الحرم.

2 -

فضل الحرم وحرمته.

3 -

تحريم الأخذ بالثأر بقتل غير القاتل.

(1)

رواه أبو داود (4547)، والنسائي (4805)، وابن ماجه (2627)، وصححه ابن حبان (1526). وسيأتي بعد الحديث التالي.

(2)

ابن حبان (5996).

(3)

البخاري (6882).

ص: 29

4 -

أن قتل وليِّ المقتول غيرَ قاتله لا تُسقِط عنه الشبهةُ العقوبةَ، ولا تُخفِّفها، بل يلزمه القصاص.

5 -

أن من قتل بريئًا لشبهة ذَحْل الجاهلية، وهي الجناية والعداوة. طلبًا للمكافأة لا تسقط عنه العقوبة للشبهة، بل يجب عليه القصاص؛ لأن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمي النبي صلى الله عليه وسلم.

6 -

أن كبائر الذنوب تتفاوت.

7 -

التحذير من هذه الفعلات العدوانية.

8 -

ورود أفعل التفضيل مرادًا به غير حقيقته، فقوله:«أَعْتَى» أي: من أعتى.

* * * * *

(1342)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا إِنَّ دِيَةَ الخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ -مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا- مِئَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في دية الخطأ شبه العمد.

وفيه فوائد؛ منها:

1 -

أن الدية مئةٌ من الإبل. وتقدم أنها تكون أخماسًا

(2)

.

(1)

رواه أبو داود (4547)، والنسائي (4805)، وابن ماجه (2627)، وصححه ابن حبان (1526).

تنبيه: وقع في كثير من نسخ بلوغ المرام: (دية الخطأ وشبه العمد) بزيادة واو العطف، والصواب:(دية الخطأ شبه العمد) بلا واو، كما هو لفظه في سائر المصادر الحديثية، فليصحح. أفاده الشارح -حفظه الله-.

(2)

كما هو في حديث ابن مسعود رضي الله عنه المتقدم (1337).

ص: 30

2 -

التغليظ في دية الخطأ شبه العمد، بأن يكون من المئة «أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا.

3 -

أن من حكمة الشريعة التفريقَ في الأحكام بين المختلفات.

4 -

أن القتل يكون على ثلاثة أوجه: عمدًا، وخطأً، وخطأً شبهَ العمد.

* * * * *

(1343)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» -يَعْنِي: الْخِنْصَرَ وَالْإِبْهَامَ-. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

(1344)

وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: «دِيَةُ الْأَصَابِعِ سَوَاءٌ، وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ: الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ»

(2)

.

(1345)

وَلِابْنِ حِبَّانَ: «دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ، عَشَرَةٌ مِنْ الْإِبِلِ لِكُلِّ إصْبَعٍ»

(3)

.

(1346)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهما رَفَعَهُ قَالَ:«مَنْ تَطَبَّبَ -وَلَمْ يَكُنْ بِالطِّبِّ مَعْرُوفًا- فَأَصَابَ نَفْسًا فَمَا دُونَهَا، فَهُوَ ضَامِنٌ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا؛ إِلَّا أَنَّ مَنْ أَرْسَلَهُ أَقْوَى مِمَّنْ وَصَلَهُ

(4)

.

(1347)

وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فِي المَوَاضِحِ خَمْسٌ، خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَزَادَ أَحْمَدُ:«وَالْأَصَابِعُ سَوَاءٌ، كُلُّهُنَّ عَشْرٌ، عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ» . وَصحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ

(5)

.

(1)

البخاري (6895).

(2)

أبو داود (4559)، والترمذي (1391).

(3)

ابن حبان (6012).

(4)

الدارقطني (3438)، والحاكم (7564)، وأبو داود (4586)، والنسائي (4845)، وابن ماجه (3466).

(5)

أحمد (7013)، وأبو داود (4566)، والترمذي (1390)، والنسائي (4852)، وابن ماجه (2655)، وابن الجارود (785).

ص: 31

تضمنت هذه الأحاديث مقدار دية الأصابع والأسنان والمُوضحات، وحكم من تطبب وليس أهلًا للطب.

وفي الأحاديث فوائد، منها:

1 -

أن دية الأصابع؛ كل أصبع عشرٌ من الإبل.

2 -

أن أصابع اليدين والرجلين في ذلك سواء.

3 -

أن الخنصر والإبهام سواء.

4 -

أن دية الأسنان؛ كلُّ سن خمس من الإبل.

5 -

أن الضرس والسن سواء.

6 -

أن دية الموضحة خمس من الإبل، والمراد بالموضحة الشَّجَّة التي أوضحت العظم، بأن كشطت ما عليه من الجلد واللحم.

7 -

أن من تطبب وهو يحسن الطب؛ فلا ضمان عليه، إلا أن يتعدى أو يفرط.

8 -

أن من تطبَّب وهو لا يحسن الطب؛ فإنه يضمن ما تلف بسببه من النفس وما دونها.

9 -

أن ما ترتب على المأذون من تلف فليس بمضمون.

10 -

جواز مهنة الطب.

11 -

أنه لا ينظر في الديات إلى التفاضل في المنافع، فلذلك كانت الأصابع في الدية سواء، والأسنان سواء.

12 -

حكمة الشريعة في التسوية بين الأصابع وفيما بين الأسنان؛ لأن اعتبار التفاضل في المنافع يؤدي إلى عدم انضباط مقدار الدية، وإلى جعلِ الحر كالعبد، الذي تضمن نفسه بقيمته، وما أتلف منه بما نقص من قيمته.

* * * * *

ص: 32

(1348)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ المُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ

(1)

.

(1349)

وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ: «دِيَةُ المُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ»

(2)

، وَلِلنَّسَائِيِّ:«عَقْلُ المَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا»

(3)

. وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.

(1350)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ، وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ، فَتَكُونُ دِمَاءٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي غَيْرِ ضَغِينَةٍ وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَضَعَّفَهُ

(4)

.

(1351)

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا» . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ

(5)

.

* * *

هذه الأحاديث اشتملت على جملة من أحكام الديات، وهي:

1 -

أن دية الذمي والمعاهد إذا قُتِل خطأ على النصف من دية الحر المسلم.

2 -

أن دية المرأة في الجراحات والأطراف مثلُ دية الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها.

3 -

أن عقل الخطأ شبهِ العمد مغلَّظٌ، كعقل العمد إذا سقط القصاص.

4 -

أن مقدار الدية من الفضة اثنا عشر ألف درهم.

(1)

أحمد (6716)، وأبو داود (4542)، والترمذي (1413)، والنسائي (4820)، وابن ماجه (2644).

(2)

أبو داود (4583).

(3)

النسائي (4819).

(4)

الدارقطني (3/ 95).

(5)

أبو داود (4546)، والترمذي (1388)، والنسائي (4817)، وابن ماجه (2629). ينظر:«العلل» لابن أبي حاتم (1390).

ص: 33

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

فضل المسلم على الكافر عند الله في حكم الله وجزائه.

2 -

أن دية الكافر المعاهد نصف دية المسلم في النفس والأطراف.

3 -

أن دماء أهل الذمة معصومة.

4 -

أن دية الخطأ شبه العمد مغلظة، كدية العمد. وقد تقدم

(1)

أنها: «مِئَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» .

5 -

أن شبه العمد لا يجب فيه القصاص.

6 -

أن الخطأ شبه العمد ما تعمد المكلَّف سببَه، ولم يقصده، ولم يكن بآلة القتل، كالسيف والمثقَّل، بل شبه العمد ما كان بالسوط والعصا، وكالذي يحصل في المضاربات بغير سلاح، كما في هذا الحديث، وإن كان ضعيفًا، وقد تقدم

(2)

معناه في حديث: «أَلَا إِنَّ دِيَةَ الخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ -مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا-

».

7 -

أن دية المرأة في النفس نصف دية الرجل، وفي الأطراف كدية الرجل، حتى تبلغ الثلث من ديتها.

8 -

فضل الرجل على المرأة في بعض الأحكام.

9 -

أن مقدار الدية من الفضة اثنا عشر ألف درهم، وتقدم أن مقدارها من الذهب ألف دينار. وهل هذه المقادير أصول للدية أو هي تقويم للمئة من الإبل؟ تقدم أن المئة هي الأصل في الدية. والله أعلم.

* * * * *

(1)

عند الحديث (1342).

(2)

عند الحديث (1342).

ص: 34

(1352)

وَعَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعِي ابْنِي، فَقَالَ:«مَنْ هَذَا؟» ، قُلْتُ: ابْنِي أَشْهَدُ بِهِ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ

(1)

.

* * *

تضمن هذا الحديث معنى قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

إبطال عادة الجاهلية، وهي أخذ البريء بالمجرم، للقرابة بينهما.

2 -

أن الابن لا يحمل جناية أبيه، ولا الأب يحمل جناية ابنه. فإن قيل: يرد على هذا وجوب حمل العصبة عقل الخطأ، ومنهم الأصول والفروع على الصحيح. فيجاب عن هذا بأحد أمرين:

الأول: إما أن يكون هذا الحديث من العام الذي أريد به الخصوص، وهي الجناية التي توجب القصاص.

الثاني: أن يكون من العام المخصوص بأدلة وجوب الدية على العاقلة.

3 -

أن الرجل إذا استلحق ولدًا لا نسب له ولا منازع له فيه، فإنه يلحقه، ولا يحلف، ولا تطلب منه بينة.

4 -

إطلاق الشهادة على الإقرار، فإن الشهادة على النفس للغير إقرار، وعلى الغير للغير شهادة، والشهادة للنفس على الغير دعوى.

* * * * *

(1)

النسائي (4748)، وأبو داود (4495)، وابن الجارود (770)، وأحمد (7114).

ص: 35

‌بَابُ دَعْوَى الدَّمِ وَالقَسَامَةِ

دعوى الدم: المراد بها القتل من ولي المقتول، ودعوى الدم؛ كدعوى المال فيما تثبت به، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهمْ؛ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»

(1)

. فتثبت دعوى الدم بشاهدي عدل، كدعوى المال.

والقَسَامة: هي أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم، ليس فيها مع المدعي بينة، وتكون من الجانبين؛ المدعي والمدعى عليه، وهي خمسون يمينًا، لذلك سميت قسامة، من القَسَم؛ بمعنى الحلف. فإن حلف المدعون على معين؛ دفع إليهم، واستحقوا القصاص منه.

* * * * *

(1353)

عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ رضي الله عنه، عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأُتِيَ مَحَيِّصَةُ فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ، وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ. قَالُوا: وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم:«كَبِّرْ كَبِّرْ» يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ» ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ:«أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟» قَالُوا: لَا. قَالَ: «فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ؟» قَالُوا: لَيْسُوا مُسْلِمِينَ،

(1)

رواه البخاري (4552)، ومسلم (1711)، واللفظ لمسلم.

ص: 36

فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مِئَةَ نَاقَةٍ. قَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1354)

وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان هما الأصل في مشروعية القَسامة في الإسلام.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن القسامة كان معمولًا بها في الجاهلية.

2 -

أن الله أقرها في الإسلام على ما كانت عليه.

3 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بها في دعوى قتيل من الأنصار اتهم به اليهود، وهو عبد الله بن سهل.

4 -

أن شرط الحكم بالقسامة التهمة.

5 -

أن الأيمان تتوجه على المدَّعِي، ثم إن حلف، وإلا توجهت على المدَّعَى عليه. فإن كان المدَّعِي أو المدَّعَى عليه جماعة وزعت الأيمان عليهم.

6 -

أن من المستقر عند المسلمين عداوة اليهود للمسلمين.

7 -

أن اليهود وغيرهم من الكفار لهم جرأة على الأيمان؛ فلا يوثق بهم، ويشبههم في ذلك الرافضة.

8 -

جواز الكتابة في القضاء.

9 -

أن القسامة إذا تمت شروطها يجب فيها القصاص.

(1)

البخاري (7192)، ومسلم (1669).

(2)

مسلم (1670).

ص: 37

10 -

أن أحكام القضاء تجري على الكافر كالمسلم.

11 -

أن المسلم إذا قتل ولم يتعين قاتله فديته في بيت المال، ولا يذهب دمه هدرًا؛ لقوله:«فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مِئَةَ نَاقَةٍ» .

12 -

أن الدية مئة من الإبل، وقد تضافرت في ذلك الأحاديث.

13 -

تقديم الأكبر سنًّا في الكلام والإكرام.

* * * * *

ص: 38

‌بَابُ قِتَالِ أَهْلِ البَغْيِ

البغي: هو الظلم بقول أو فعل، والمراد به هنا: البغي بالخروج على الإمام بالقتال، وحمل السلاح على جماعة المسلمين، والمراد بهذه الترجمة (باب قتال أهل البغي) أي إباحة قتال أهل البغي ومشروعيته، لقوله تعالى:{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، وهذا أحد أنواع القتال المشروع، وأولى منه وأهم؛ قتال الكافرين، وهو الجهاد في سبيل الله، ومنه؛ قتال المرتدين، ومن القتال المشروع؛ قتال الطائفة الممتنعة من المبتدعين؛ كالخوارج، أو الممتنعين عن بعض شرائع الإسلام كمانعي الزكاة.

* * * * *

(1355)

عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ، فَلَيْسَ مِنَّا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث تضمن وعيدًا شديدًا على من يحمل السلاح على أحد من المسلمين، فردًا أو جماعة، فضمير الجمع للمسلمين، المعنى: من حمل علينا نحن المسلمين، والوعيد في قوله:«فَلَيْسَ مِنَّا» معناه: براءة المسلمين منه، وهو يتضمن إبعاده وترك موالاته، وليس المراد خروجه عن جماعة المسلمين فيكون مرتدًا، وليس المراد بقوله:«لَيْسَ مِنَّا» ليس على طريقتنا، كما قيل، فإن هذا أمر معلوم، فليس فيه ما ينفر عن الفعل على هذا التأويل، والحديث عام لكل من حمل السلاح على المسلمين بقتل أو قتال أو تخويف.

(1)

البخاري (6874)، ومسلم (98).

ص: 39

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

حرمة المسلم عند الله.

2 -

حرمة دماء المسلمين.

3 -

تحريم حمل السلاح على المسلم بقتل أو قتال أو إرهاب بغير حق.

4 -

تحريم الخروج على ولي الأمر؛ منازعة، أو لمطالب ودعاوى. وبهذا تظهر مناسبة الحديث للباب.

5 -

أن حمل السلاح على المسلمين على أي وجه من كبائر الذنوب؛ لقوله: «فَلَيْسَ مِنَّا» .

* * * * *

(1356)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الجَمَاعَةَ، وَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث تضمن تهديدًا ووعيدًا شديدًا لمن خرج عن طاعة الإمام، وهو ولي الأمر المسلم، بأن خرج عن طاعته؛ باعتقاد أن لا سمع له ولا طاعة، أو برفض طاعته بالمعروف، وهذا يستلزم ترك الجماعة المجتمعة على الإمام، وأن من مات وهو على هذه الحال مات على حالة من أحوال أهل الجاهلية؛ فإن أهل الجاهلية قبل الإسلام أحوالُهم مذمومة؛ لأنها صادرة عن الجهل، ومن ذلك إيثارُهم التفرق على الاجتماع وإيثارُ اتباع كلٍّ لرأيه وقبيلته، فمن مات على هذه الحال مات على ضلال، وكان مذمومًا ومستوجبًا للعقاب على مخالفته لمقتضى الشرع، فعلم مما تقدم؛ أن عطف ترك الجماعة على الخروج عن الطاعة من عطف أحد المتلازمين على الآخر، كقوله تعالى:

(1)

مسلم (1848).

ص: 40

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى

} [النساء: 115] الآية.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

وجوب طاعة ولي الأمر بالمعروف، ولزومُ بيعته.

2 -

وجوب المحافظة على جماعة المسلمين، وتحريمُ ما يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين.

3 -

تحريم مشابهة أهل الجاهلية.

4 -

ذمُّ أمرِ الجاهلية وكلِّ ما يضاف إليها؛ كظنِّ الجاهلية وحكم الجاهلية.

5 -

التحذير من أسباب سوء الخاتمة.

6 -

أن الخروج على ولي الأمر من الكبائر، وهذا مقيَّد بقوله صلى الله عليه وسلم:«عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ؛ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»

(1)

.

* * * * *

(1357)

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

عمار هو ابن ياسر، وهو من الصحابة السابقين إلى الإسلام، أسلم هو وأبوه ياسرٌ وأمه سُمَيَّةُ بمكة، وابتلوا على أيدي المشركين، وهم الذين قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم:«صَبْرًا يَا آلَ يَاسِر؛ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الَجنَّة»

(3)

، وعمار هو الذي

(1)

رواه البخاري (7144)، ومسلم (1839).

(2)

مسلم (2916).

(3)

رواه الحاكم وصححه (5713)؛ عن ابن إسحاق، والطبراني في «الكبير» (769)؛ عن عثمان بن عفان وعمار رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (15591):«رجاله ثقات» .

ص: 41

نزل فيه قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، وهذا الحديث خبرٌ من النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن عمارًا يُقتل لا في جهاد الكفار، بل في قتال بين المسلمين، فقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، حيث قُتل عمار في صفين، في الموقعة العظيمة بين أهل الشام وأهل العراق، بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.

وكان عمارٌ مع عليٍّ رضي الله عنهما، فقتله بعض جيش معاوية، لذلك استدل بالحديث على أن أهل الشام بغاة، وقد أجاب بعض أهل الشام عن هذا الحديث بأن عمارًا قتله من أخرجه، وقد رُدَّ هذا التأويل؛ بأنه يلزم منه أن حمزة رضي الله عنه، قتله من أخرجه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: إن هذا الوصف لا ينسحب على معاوية رضي الله عنه، وأصحابه، وإنما يصدُق على من باشر قتل عمار. والله أعلم.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

فضيلة عمار رضي الله عنه، لأن الخبر بأنه تقتله الفئة الباغية؛ يدل على أنه مع الفئة العادلة، ويؤكد ذلك ما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند البخاري:«يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ»

(1)

.

2 -

أن قتل عمار على يد أهل الشام علم من أعلام النبوة، حيث وقع الأمر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

3 -

أن عليًّا رضي الله عنه ومن معه أولى بالحق من معاوية ومن معه، وإن كان الجميع مجتهدين.

* * * * *

(1358)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَدْرِي يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ، كَيْفَ حُكْمُ اللهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟» قَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

(1)

رواه البخاري (447).

ص: 42

قَالَ: «لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهَا، وَلَا يُطْلَبُ هَارِبُهَا، وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهَا» رَوَاهُ الْبَزَّارُ و الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ فَوَهِمَ؛ فَإِنَّ فِي إِسْنَادِهِ كَوْثَرَ بْنَ حَكِيمٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ

(1)

.

(1359)

وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طُرُقٍ نَحْوُهُ مَوْقُوفًا. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالْحَاكِمُ

(2)

.

* * *

تضمن هذا الحديث ما يعامل به البغاة إذا ظُهر عليهم، والحديث وإن لم يصح سندًا، فمعناه صحيح، وعليه عمل المسلمين، فمعناه أن البغاة لا يعامَلون معاملة الكفار، بل يقاتَلون قتال دفع، فإذا كفوا وجب الكفُّ عنهم، والمدبر كافٌّ، والجريح قد صار عاجزًا، والأسير في قبضة المسلمين، وأموالهم أموال مسلمين، وحرمتها باقية، فلا تغنم ولا تقسم كأموال الكفار.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن البغاة يقاتَلون لدفع بغيهم.

2 -

أنهم لا يعامَلون معاملة الكفار.

3 -

أنهم لا يجهز على جريحهم.

4 -

أنهم لا يقتل أسيرهم.

5 -

أنهم لا يطلب هاربهم.

6 -

أنهم لا يقسم فيئهم، لأن مُلكهم باقٍ عليه، فيجب ردُّ المال إلى صاحبه إن عُلم، وإلا فلبيت المال، وأصل هذا كله قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى

(1)

البزار (5954)، والحاكم (2719). والحديث سكت عنه الحاكم كما في المطبوع، وقد نص على ذلك المصنف نفسه في «التلخيص» (6/ 2704)؛ فقال:«سكت عنه الحاكم» .

(2)

«مصنف ابن أبي شيبة» (38933)، والحاكم (2718).

ص: 43

تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون (10)} [الحجرات: 9، 10].

* * * * *

(1360)

وَعَنْ عَرْفَجَةَ بْنِ شُرَيْحٍ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمَرُكُمْ جَمِيعٌ، يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصلٌ في وجوب المحافظة على اجتماع الكلمة ووحدة الجماعة وتحريم ما يضاد ذلك، وهو راجع إلى معنى قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

منزلة اجتماع الكلمة في الإسلام.

2 -

ذمُّ التفرق.

3 -

تحريم السعي في الفرقة بين الجماعة المسلمة.

4 -

إباحة دم من سعى في ذلك.

5 -

في الحديث شاهد لقاعدة ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وقاعدة سد الذرائع.

* * * * *

(1)

مسلم (1852).

ص: 44

‌بَابُ قِتَالِ الجَانِي وَقَتْلِ المُرْتَدِّ

الجاني: هو المعتدي على غيره بغير حق، طلبًا لأخذ ماله أو سفك دمه، وقد يعبر عنه ب (الصائل)، فهذا يُقاتَل ويُدفع بما يكف شره، والمرتد: هو من كفر بعد إسلامه، وسماه الله مرتدًا في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِه} [المائدة: 54]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)} [محمد: 25]، أي: رجعوا عن الدين الحق إلى الكفر. وكفرُ المرتد أغلظ من كفر الكافر الأصلي؛ لأنه أبصر ثم عمي، وآثر الضلال على الهدى، كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُون (3)} [المنافقون: 3]، وضرب الله لهم مثلًا بمن استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.

ومناسبة الجمع بين الجاني والمرتد في الترجمة؛ أن الجاني هو المعتدي على حق المخلوق، فيقاتَل لأجل ذلك، والمرتد هو الجاني على نفسه في حق الله، فيقتل لذلك. وفُرِّق بينهما بأن الجاني يقاتَل، ولا يلزم من ذلك قتله، إِلَّا أَلَّا يندفع صياله إلا بالقتل، وأما المرتد فحكمه القتل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»

(1)

، لكن بعد استتابته. والمرتدون أنواع؛ منهم من يستتاب، ومنهم من لا يستتاب، ومنهم من اختلف في استتابته.

* * * * *

(1)

رواه البخاري (3017)؛ عن ابن عباس رضي الله عنه.

ص: 45

(1361)

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث وما في معناه أصل في قتال الصائل؛ لأنه تضمن بشارة من قُتل وهو يدافع عن ماله بأنه شهيد، أي: يكون من الشهداء المذكورين بعد الصديقين في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، وشهيد بمعنى شاهد، ومعنى ذلك -والله أعلم- أنهم يشهدون وتقبل شهادتهم لمن شهدوا له أو عليه، لفضلهم عند ربهم. والله أعلم بمراده.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

إباحة قتال الصائل لأخذ المال، أي: فلا يحرم عليه.

2 -

أنه لا إثم على من قُتل في الدفع عن ماله، أي: فلا يقال: إنه تسبب في قتل نفسه.

3 -

أن من قتل دون ماله فهو من الشهداء.

4 -

أن من قتل دون دينه وأهله ونفسه فهو شهيد، وقد جاء ذلك كله في حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه في السنن

(2)

، وهؤلاء في الفضل والعذر وإباحة الدفع أولى ممن قتل دون ماله. وهم على مراتب، وأفضلهم من يقتل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر.

* * * * *

(1)

أبو داود (4771)، والنسائي (4098)، والترمذي (1419). والحديث رواه البخاري (2480)، ومسلم (141) باللفظ نفسه؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(2)

رواه أبو داود (4772)، والترمذي (1421)، والنسائي (4106)، وأحمد (1652).

ص: 46

(1362)

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَاتَلَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ رَجُلًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ؟ لَا دِيَةَ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

(1363)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ:«فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ»

(3)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في دفع الصائل، وأن ما ترتب عليه من تلف فلا ضمان فيه.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن العدوان على الغير بالعض من طباع الحيوان، لا من شأن الإنسان.

2 -

تقبيح عض الإنسان غيره بتشبيهه بالحيوان.

3 -

أن المعضوض له أن يتخلص من العض، ولو أضرَّ ذلك بالعاض.

4 -

أنه لا ضمان على المعضوض فيما أتلف لتخليص نفسه.

5 -

أنه لا دية لأسنان العاض إذا انتزعها المعضوض في تخليص نفسه.

6 -

في الحديث شاهد لحديث: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»

(4)

.

(1)

البخاري (6892)، ومسلم (1673).

(2)

البخاري (6902)، ومسلم (2158).

(3)

أحمد (8997)، والنسائي (4875)، وابن حبان (6004).

(4)

ذكره البخاري في صحيحه تعليقًا بغير إسناد (2/ 157)، ورواه أبو داود بإسناد على شرط الصحيح (3073)، وحسنه الترمذي (1378)، والنسائي في «الكبرى» (5729)؛ عن سعيد بن زيد رضي الله عنه. ينظر:«خلاصة البدر المنير» لابن الملقن (2/ 99).

ص: 47

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

أن ما يستره بيت الإنسان حرمةٌ له، لا يحل الاطلاع عليه إلا بإذنه.

2 -

تحريم الاطلاع على عورة المسلم وحرمته.

3 -

أنه يجوز لمن اطُّلع عليه بغير إذنه أن يدفع المطَّلع، ولو أن يحذفه بحجر.

4 -

أنه لو فقأ عينه؛ فلا إثم عليه ولا ضمان.

5 -

أن من الصِّيال الاعتداء بالبصر.

6 -

أنه كما يحرم الاطلاع على عورة المسلم بالنظر؛ فإنه يحرم الاطلاع على سره بالاستماع، وفي الحديث:«مَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ، وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ؛ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

(1)

، وهو الرَّصاص المذاب.

7 -

أنه لا يجب إنذار المطَّلع قبل حذفه.

8 -

حماية الشريعة لحرمات الناس وحقوقهم.

* * * * *

(1364)

وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ المَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ المَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ مَاشِيَتُهُمْ بِاللَّيْلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ

(2)

.

* * *

(1)

رواه البخاري (7042)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أبو داود (3570)، والنسائي في «الكبرى» (5753)، وابن ماجه (2332)، وابن حبان (6008).

ص: 48

هذا الحديث أصل في حكم ما تتلفه الماشية من ثمار الناس وزروعهم، وما يجب على أهل الحوائط والمواشي من حفظها، ومناسبة هذا الحديث للباب؛ أن إرسال الماشية بالليل جناية من أهلها على أصحاب الحوائط.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار.

2 -

أن على أهل المواشي حفظها بالليل. وسرُّ الفرق أن الماشية تُرسل بالنهار لترعى، ومن الحرج على أهل الحوائط حراستها بالليل.

3 -

أن ما أتلفته الماشية بالليل فعلى صاحبها الضمان، ويقال له: النَّفْش، كما قال تعالى:{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78]. ثم اختلف العلماء فيما أتلفته الماشية بالليل، فقيل بقيمته، وقيل بالمثل.

4 -

بناء الأحكام الشرعية على العلل والمناسبات.

5 -

اعتبار العرف في الأحكام.

* * * * *

(1365)

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه؛ فِي رَجُلٍ أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ: «لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ» ، فَأُمِرَ بِهِ، فَقُتِلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: وَكَانَ قَدْ اسْتُتِيبَ قَبْلَ ذَلِكَ

(2)

.

(1366)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

.

(1367)

وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا، فَلَا تَنْتَهِي، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَخْذَ الْمِغْوَلَ، فَجَعَلَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ

(1)

البخاري (6923)، ومسلم (1733).

(2)

أبو داود (4355).

(3)

البخاري (6922).

ص: 49

عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت حكم المرتد عن الإسلام، وهو معنى تبديل الدين، فالدين هو دين الإسلام، وتبديله بالانتقال عنه إلى دين آخر من أديان الكفر، أو بالكفر به دون انتقال إلى غيره، وقد يعد هذا تبديلًا؛ لأنه انتقال عن الدين الحق إلى الكفر، وهو الدين الباطل، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران: 85].

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أنه يجب على الإمام بعث الدعاة لتبليغ الدين.

2 -

وجوب التعاون بين الدعاة والولاة على إقامة شرع الله.

3 -

تنبيه الإمام لمن يبعثه من الدعاة إلى مقومات الدعوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما في أصل الحديث: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا»

(2)

.

4 -

أن حكم المرتد القتل وجوبًا.

5 -

أن المرتد يستتاب، أي: يؤمر بالتوبة، فإن تاب وإلا قتل. ثم قيل: يستتاب ويمهل ثلاثة أيام، واختلف في استتابة بعض المرتدين، كالساحر، ومن تكررت ردته، وشاتم الرسول صلى الله عليه وسلم.

6 -

الفرق بين المرتد والكافر الأصلي من حيث الإقرار على دينه، فالمرتد لا يقر على دينه بخلاف الكافر الأصلي.

(1)

أبو داود (4361).

(2)

البخاري (3038)، ومسلم (1733) ..

ص: 50

7 -

الاحتجاج للحكم بالنص الذي يقطع النزاع.

8 -

أن شاتم الرسول لا يستتاب.

9 -

أن للسيد أن يقيم الحد على رقيقه، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم:«إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا؛ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ»

(1)

.

10 -

أن من المعلوم عند الصحابة؛ أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مباح الدم.

11 -

الإشهاد على الأحكام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ» .

12 -

فضل معاذ وسائر الصحابة رضي الله عنهم في الغضب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والصرامة في تنفيذ أحكام الشرع.

* * * * *

(1)

رواه البخاري (2234)، ومسلم (1703)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 51

‌كِتَابُ الحُدُودِ

ص: 53

الحدود: جمع حدٍّ، والحد في اللغة: المنع، وهو مصدر، ويطلق بمعنى اسم المفعول، ومنه قوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وهي المحرمات، وسميت حدودًا لأنها ممنوعات، وقال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229]، وهي حدود المباحات والمشروعات، فلا يجوز تعدي المباح إلى الحرام، ولا المشروع إلى البدعة، وتطلق الحدود على العقوبات المقدرة، كحد الزنا والسرقة والشرب، وهي المرادة هنا، وهذا هو المشهور عند الفقهاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ»

(1)

، وقوله:«إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا؛ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا»

(2)

. وبدأ المصنف بحد الزنا؛ لأن حد الزاني المحصَن أغلظ الحدود، ولأن الزنا فاحشة ودواعيها بالطبع قوية، وفي المجتمعات كثيرة، فلذلك نهى الله عن قربانها، فقال سبحانه:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلا (32)} [الإسراء: 32].

* * * * *

(1)

رواه البخاري (2671)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (2234)، ومسلم (1703)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 55

‌بَابُ حَدِّ الزَّانِي

(1368)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْشُدُكَ بِاللهِ إِلَّا قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ الْآخَرُ -وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ- نَعَمْ. فَاقَضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَأْذَنْ لِي، فَقَالَ:«قُلْ» . قَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلَتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَأَخْبَرُونِي؛ أَنَّمَا عَلَى ابْنِيْ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَام، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

(1369)

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ؛ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ؛ جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1370)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنْ المُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَهُوَ فِي المَسْجِدِ- فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَّى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«أَبِكَ جُنُونٌ؟» قَالَ: لَا، قَالَ:«فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟» ، قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1)

البخاري (6827)، ومسلم (1698).

(2)

مسلم (1690).

(3)

البخاري (6815)، ومسلم (1691).

ص: 56

(1371)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُ:«لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ؟» قَالَ: لَا يَا رَسُولَ الله. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل من السنة في حدِّ الزاني المحصَن وهو الرَّجم، والزاني البكر وهو جلد مئة وتغريب عام، رجلًا كان أو امرأة. وأصله من القرآن قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].

وفي الأحاديث فوائد كثيرة؛ منها:

1 -

تحريم الزنا، وقد دلَّ عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. فتحريمه معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فمستحلُّه كافر بالإجماع.

2 -

أن حدَّ الزاني البكر جلدُ مئة وتغريب عام، وحدُّ الثيب الرجم بالحجارة حتى يموت. وأجمع العلماء على أن الزاني البكر يجلد مئة، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، وأجمعوا على أن الزاني المحصَن يرجم، واختلفوا في هذا المقام في مسألتين:

الأولى: في التغريب، وفي الجمع بين الرجم والجلد؛ فذهب الجمهور إلى أن الزاني البكر، رجلًا كان أو امرأة يغرَّب سنة، كما في هذه الأحاديث، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى عدم التغريب، بناء على أصلهم أن الزيادة على النصِّ نسخٌ، وأن القرآن لا يُنسخ بالسنة، وإنما دلَّ القرآن على الجلد فقط، والصواب ما ذهب إليه جمهور العلماء من الجمع في حدِّ الزاني البكر بين الجلد والتغريب، فالجلد في الكتاب والسنة، والتغريب في السنة، ومنعوا حجة أبي حنيفة، فليست الزيادة على النص نسخًا.

(1)

البخاري (6824).

ص: 57

المسألة الثانية: الجمع في حدِّ الزاني المحصن بين الجلد والرجم، فذهب الجمهور من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى عدم الجمع بين الجلد والرجم، والاقتصار على الرجم، وأن ما ورد في حديث عبادة منسوخٌ. واستدلوا بحديث ماعز والغامدية واليهوديين، وليس فيها إلا الرجم، وبحديث عمر رضي الله عنه الآتي؛ أن حدَّ الزاني الرجم. ولعله قد صار إجماعًا. وذهب بعض الصحابة إلى الأخذ بحديث عبادة في الجمع بين الجلد والرجم.

3 -

قبح الفتوى بالجهل، وضلال من يستفتي الجهال.

4 -

الاستئذان من الكبير في الكلام.

5 -

أن الهدى في سؤال أهل العلم.

6 -

أن الحدود لا يعاوض عنها بالمال.

7 -

أن من عاوض عن حدٍّ وجب عليه، فالمال ردٌّ عليه، والحدُّ لازم له.

8 -

التوكيل في إثبات الحد وإقامته.

9 -

أن الهُدَى كل الهُدَى في حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

10 -

أن من قبض مالًا بغير حقٍّ وجب عليه رده على صاحبه، إلا أن يكون قبض عوضًا عنه مالًا أو منفعة.

11 -

أن من الفقه إنزال كل أحد منزلته، ومن أعظم ذلك معرفة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.

12 -

جواز الحلف على ما يعلم العبد أنه محقِّق له وقادر عليه.

13 -

أن كتاب الله يراد به حكمُه، كما يراد به القرآن، واللفظ في الحديث محتمل.

14 -

أن نفس العبد ملك لله.

15 -

أن مما يكثر في قسم النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» .

ص: 58

16 -

أن حد الزاني البكر جلد مئة وتغريب عام.

17 -

خطر استخدام الرجال في البيوت.

18 -

أن حدَّ الزاني المحصن الرجم.

19 -

ثبوت حد الزنا بالاعتراف، مرةً أو أربع مرات، على الخلاف. يدل للقول الأول الحديث الأول في قوله صلى الله عليه وسلم:«فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، ويدل للثاني الحديثُ الثالث، وهو حديث ماعز رضي الله عنه، وفيه؛ أنه اعترف أربع مرات. والأصل ثبوته بأربعة شهداء، كما جاء في القرآن في مواضع، والأصل في الإقرار أنه مرة.

20 -

تفسير السبيل في آية النساء: {أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلا (15)} [النساء: 15].

21 -

أن (جَعَل) في القرآن تأتي بمعنى شَرع.

22 -

أن العقوبة بحبس الزانية منسوخ، أو انتهى أمده.

23 -

أن حكم الرجل والمرأة في حد الزنا سواء، بكرًا أو ثيبًا، وليس من شرط ذلك تساوي الزانيين في البكارة والثيوبة، فلا مفهوم لقوله:«بِالْبِكْرِ» وقوله: «بِالثَّيِّبِ» ، لأن المقصود بذلك التسوية بين الرجل والمرأة في الحد.

24 -

الجمع في المحصَن بين الرجم والجلد، كما يفيده حديث عبادة، وتقدم القول فيه.

25 -

أنه يجب على الأمَّة أخذ بيان الرسول وحكمه صلى الله عليه وسلم بالإيمان به والعمل به، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7].

26 -

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على البلاغ؛ لقوله: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي» .

27 -

فضيلة ماعز رضي الله عنه لاستعظامه الذنب، وحرصه على التطهير، وإلحاحه على النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

ص: 59

28 -

أن الإنسان مؤتمن على نفسه فيما يخبر به، مما له تعلق بدينه.

29 -

أن إقرار زائل العقل لا يعتبر.

30 -

أن الزنا الموجب للحد هو زنا الفرج، لا زنا العين والأذن واليد، كما في حديث:«فزِنَا الْعيْنَيْنِ النّظَرُ، وزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِى، وَالْفَرْجُ يُصدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ»

(1)

.

31 -

أن على الإمام التثبت عند التردد في صحة إقرار المقر.

* * * * *

(1372)

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ فِي كِتَابِ اللهِ؛ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوْ الاعْتِرَافُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذا أثر عظيم عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أعز الله في خلافته الإسلام وأهله، وأذل به الكفر وأهله، تضمن هذا الأثر التنويه بحد الرجم، وأنه شريعة دل عليها القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما تضمن الدلالة على الرجم بالإجماع، فقد خطب عمر بذلك على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه ذلك أحد، كما تضمنت خطبته رضي الله عنه ذكر ما يَثبت به الزنا.

(1)

رواه البخاري (6243)، ومسلم (2657)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

البخاري (6829)، ومسلم (1691).

ص: 60

وفي هذه الخطبة فوائد؛ منها:

1 -

أن السنة في الذي يتولى الخطبة هو الإمام.

2 -

فضيلة عمر رضي الله عنه، لما تضمنته الخطبة من التأصيل والتعظيم لأحكام الله وتبليغ العلم.

3 -

التمهيد في الخطبة للمقصود منها.

4 -

التنويه بأصلَيْ الشريعة: الكتاب والسنة.

5 -

مبالغة عمر في الإخبار عن نزول آية الرجم في جملة ما نزل من القرآن؛ لقوله: «قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا» .

6 -

أن حدَّ الزاني المحصن الرجم.

7 -

أن الإحصان شرط في حد الرجم.

8 -

أنه قد نزل فيه قرآن كان يتلى، ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، ولفظه كما جاء في بعض الروايات:«الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ»

(1)

. وفُسِّر الشيخ بالمحصن.

9 -

أن الرجم الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان حكمًا بالقرآن.

10 -

أن حد الرجم لم ينسخ، فقد درج الصحابة رضي الله عنهم على رجم الزاني المحصن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله:«وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ» .

11 -

غلظ تحريم الزنا بعد التمتع بالنكاح المباح.

12 -

وجوب الإيمان بحد الرجم.

13 -

التحذير من إنكار حد الرجم.

(1)

عند أحمد (21207)، وابن حبان (4428)، والحاكم وصحح إسناده (2/ 450)؛ من حديث أبي رضي الله عنه، وهي عند النسائي في «الكبرى» (7118)، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 211)؛ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وعزاه للصحيحين؛ ومراده أصل الحديث.

ص: 61

14 -

وجوب الإيمان بحكمة الله في شرعه، فلا تجوز معارضته برأي ولا قياس.

15 -

أن إقامة الحدود فريضة من فرائض الإسلام.

16 -

أن ترك إقامة الحدود ضلال عن صراط الله.

17 -

أن الزنا يثبت بأحد ثلاثة أمور:

أ. بالبينة، وهي أربعة شهداء، كما دل على ذلك الآيات.

ب. الاعتراف، كما دل على ذلك حديث العسيف وحديث ماعز، كما تقدم، ولا خلاف في ثبوت الزنا بهذين الأمرين.

ج. الحَبَل، وهذا يختص بالمرأة، فإذا حبلت من لا زوج لها ولا سيد ثبت بذلك زناها، ما لم تدع شبهة أو إكراهًا. وقد اختلف العلماء في زنا المرأة بالحَبَل، فذهب الجمهور إلى ما دل عليه قول عمر رضي الله عنه، وهو الصواب بالشرط المتقدم. وهو دليل في غاية القوة؛ لأنه قول المحدَّث الملهم رضي الله عنه، خطب به بمشهد من الصحابة.

18 -

توقع أمير المؤمنين رضي الله عنه حصول ذلك، وقد وقع ذلك، فقد أنكرت الخوارج حد الرجم، وقالوا: لا نجده في كتاب الله.

* * * * *

(1373)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ، وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا، فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ

(1)

.

(1)

البخاري (2152)، ومسلم (1703).

ص: 62

(1374)

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَقِيمُوا الحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ مَوْقُوفٌ

(1)

.

* * *

حديث أبي هريرة وأثر علي رضي الله عنهما هما الأصل من السنة في وجوب الحدود على الرقيق.

وفيهما فوائد؛ منها:

1 -

وجوب إقامة حد الزنا على الأمة بكرًا كانت أو ثيبًا، وهو خمسون جلدة؛ لقوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، والمراد بالعذاب الجلد.

2 -

أن شرط إقامة الحد على الأمة أن يتبين زناها للسيد بأيِّ طريق؛ بحبَل أو اعتراف أو برؤية السيد لها.

3 -

أنها لا تحد بعد زناها الثالثة، بل يندب بيعها.

4 -

أنه لا يجوز التثريب عليها بعد إقامة الحد، ولا تعييرها ولا توبيخها، وذهب جمهور العلماء إلى أن حكم العبد حكم الأمة في تنصيف الجلد، وخالف في ذلك الظاهرية فمنعوا القياس

(2)

.

5 -

أن الذي يقيم حد الزنا على الأمة سيدها.

6 -

وجوب بيع الأمة بعد زناها المرة الثالثة، والجمهور على أن الأمر للاستحباب، ومحل ذلك إذا رجي صلاح حالها بعد بيعها، فإن الحكمة من بيعها استصلاحها.

7 -

بيان عيبها عند بيعها؛ لقوله: «وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ» ؛ لأنها مع بيان العيب مظنة عدم الرغبة فيها إلا بأدنى الأثمان.

8 -

أن الأمة إذا زنت لا تغرب، وكذلك العبد، على الصحيح.

9 -

اعتبار التكرار في بعض الأحوال والأحكام.

(1)

أبو داود (4473)، ومسلم (1705).

(2)

«المحلى» لابن حزم (11/ 241).

ص: 63

10 -

جواز عطف الأمر المقتضي للندب على الأمر المقتضي للوجوب؛ لأن الأمر بالجلد واجب، والأمر بالبيع مندوب.

11 -

وجوب إقامة الحدود على المماليك، كحد الزنا وحد السرقة.

12 -

أن للرقيق أحكامًا تخالف أحكام الأحرار في كثير من أبواب الأحكام في الواجبات والحقوق والعقوبات. في العبادات والمعاملات والجنايات.

13 -

جواز إضافة الملك إلى الإنسان، وليس كملك الله.

* * * * *

(1375)

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصِينٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حُبْلَى مِنْ الزِّنَا فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلِيَّهَا. فَقَالَ:«أَحْسِنْ إِلَيْهَا فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِي بِهَا» فَفَعَلَ. فَأَمَرَ بِهَا فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدَتْ أَفَضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلهِ؟» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث تضمن قصة المرأة الغامدية أو الجهنية التي حبلت من الزنا واعترفت، وطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحد عليها، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرُجمت، والحديث من أدلة حد الزاني المُحصَن، وهو الرجم.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

ثبوت الزنا بالاعتراف، ولا سيما مع الحبَل. وهذا هو السبب في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوقف في أمرها، فلم يتثبت في أمرها كما تثبت في أمر ماعز رضي الله عنه.

2 -

جواز إقرار الإنسان على نفسه بالذنب لإقامة الحد عليه.

(1)

مسلم (1696).

ص: 64

3 -

أن الحامل لا ترجم حتى تضع، ولا المرضع حتى تفطم وليدها.

4 -

الأمر بالإحسان للمرأة الزانية إذا تابت، وظهر صدق توبتها.

5 -

فضل هذه المرأة، وذلك من وجوه:

1 -

شدة خوفها من الله.

2 -

صدقها في التوبة.

3 -

عظم توبتها.

4 -

بذلها نفسها لله.

5 -

ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليها.

6 -

بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بقبول توبتها.

6 -

أن التوبة تتفاوت في القلوب.

7 -

الإشارة إلى كمال الإخلاص في التوبة.

8 -

أن للذنب حرقة في نفس المؤمن.

9 -

أن الإقرار بالذنب وطلب التطهير يتضمن التوبة.

10 -

صفة إقامة حد الرجم على المرأة، وهي أن تقعد، وتشد عليها ثيابها.

11 -

الصلاة على من أقيم عليه الحد، فمعصيته لا تمنع من الصلاة عليه.

12 -

أن إقامة الحد -وإن كان كفارة- لا يسقط الصلاة عليه.

13 -

فضل عمر رضي الله عنه لغيرته لله.

14 -

أنه ليس بمعصوم، وإن كان مُحَدَّثًا، واعتراضه على الصلاة عليها من جنس اعتراضه على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على ابن أبيٍّ، وقد وافقه هناك القرآن.

15 -

التصريح بذكر ما يستحيى من ذكره عند الحاجة.

16 -

قصور المرأة وحاجتها إلى ولي.

ص: 65

17 -

أنه لا يحفر للمرجوم إذا كان أصلح.

18 -

سد الذريعة المفضية إلى المفسدة؛ لقوله: «فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا» .

19 -

التوكيل في إنفاذ الحد؛ لقوله: «ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ» .

20 -

أن ارتكاب الكبيرة لا يوجب الكفر، ففيه:

21 -

الرد على الخوارج.

* * * * *

(1376)

وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنهما قَالَ: «رَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مَنْ أَسْلَمَ، وَرَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ، وَامْرَأَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1377)

وَقِصَّةُ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما

(2)

.

* * *

تضمن هذا الحديث الخبر من جابر رضي الله عنه عما وقع من الرجم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره، فذكر أنهم أربعة: رجلٌ من أسلم وهو ماعز، وامرأة وهي الغامدية، وقد تقدم ذكرهما

(3)

، واليهودِيَّان، وأجمل في قصتهما، ولكن قصة اليهودِيَّيْن جاءت مفصلة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، كما أشار إلى ذلك المصنف، وخلاصة قصتهما: أن اليهود رفعوا أمر رجل وامرأة منهم قد زنيا، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن حد الزاني المحصن عندهم، فقالوا: يحمم ويخزى، فقال: كذبتم، بل حده الرجم، فقالوا: لا نجد ذلك في التوراة، فطلبها النبي صلى الله عليه وسلم، فجيء بها، فوضع القارئ يده على آية الرجم يخفيها، فقيل له ارفع يدك، فإذا فيها آية الرجم تلوح، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما، وليس هذا حكمًا بما في التوراة، بل المراد الاحتجاج على اليهود بها.

(1)

مسلم (1701).

(2)

البخاري (6841)، ومسلم (1699).

(3)

تقدَّما برقم (1370) و (1375).

ص: 66

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

ثبوت حد الرجم على الزاني المحصن.

2 -

أن حد الرجم عام في الرجل والمرأة.

3 -

إقامة الحد على الكافر الذمي إذا زنى.

4 -

الحكم في أهل الكتاب بما في شرعنا إذا تحاكموا إلينا، وأصل ذلك في قوله تعالى:{فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين (42)} [المائدة: 42]، ومن المشهور أن الآية نزلت في اليهودِيَّيْن.

* * * * *

(1378)

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ بَيْنَ أَبْيَاتِنَا رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ، فَخَبَثَ بِأَمَةٍ مِنْ إِمَائِهِمْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«اضْرِبُوهُ حَدَّهُ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ:«خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» . فَفَعَلُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي وَصْلِهِ وَإِرْسَالِهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في تخفيف حدِّ الجلد في الزنا عن الضعيف والمريض.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

خطر مخالطة الرجال للنساء وضرره البالغ، ولو كان الرجل ضعيفًا لا يظن به أنه يفعل شيئًا.

2 -

ألا يغتر بالمظاهر.

3 -

أن هذا الرويجل ليس محصنًا.

4 -

وجوب إقامة الحد على الزاني بحسب الاستطاعة.

(1)

أحمد (21925)، والنسائي في «الكبرى» (7265)، وابن ماجه (2574).

ص: 67

5 -

أن من صور تخفيف الجلد عن الزاني الضعيف أن يضرب بعِثْكال، وهو عِذْق النخل الذي نزع عنه التمر، فبقي أعوادًا فيه الشماريخ.

* * * * *

(1379)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ، وَمَنْ وَجَدْتُمُوهُ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا

(1)

.

* * *

تضمن الحديث مسألتين:

الأولى: حكم من عمِل عمَلَ قوم لوط.

الثانية: حكم من وقع على بهيمة.

أما الأولى، فقد أجمع الصحابة على قتل من عمِل عمَلَ قوم لوط، محصنًا كان أو غير محصَن، قال ابن القيم: لكن اختلفوا في صفة قتله

(2)

، ثم اختلف العلماء بعد ذلك على ثلاثة مذاهب:

الأول: القتل بكل حال، على ما جاء عن الصحابة، وليس المعوَّل عند هؤلاء على هذا الحديث.

الثاني: أنه كالزنا يفرق فيه بين المحصَن وغير المحصَن، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد. وهذا منهم قياسًا على الزنا.

الثالث: أنه يعزَّر تعزيرًا بالغًا، والصواب هو القول الأول، ولا ريب أن فاحشة اللواط أعظم من فاحشة الزنا، وقد ذمَّ الله به قوم لوط أعظمَ ذمٍّ، وعيَّرهم ووصفهم بأقبح صفات، من الإسراف والفسوق والفحش والجهل والخُبث والعدوان والإفساد.

(1)

أحمد (2727)، وأبو داود (4462)، والترمذي (1456)، والنسائي في «الكبرى» (7297)، وابن ماجه (2561).

(2)

«الجواب الكافي» (1/ 120).

ص: 68

المسألة الثانية: حكم من وقع على بهيمة، والجمهور على أنه يعزَّر على معصيته، ولا يقتل؛ لأن الحديث لا يبلغ درجة الدلالة على إثبات مثل هذا الحكم، فالحديث من قسم الضعيف، ويتعلق بهذا الحكم حكمُ البهيمة، وظاهر الحديث أنها تقتل، وإلى هذا ذهب بعض العلماء، وذهب الأكثر إلى أنها لا تقتل، وينتفع بها، فعلى القول الأول إن كانت للفاعل فقد أتلفها على نفسه، وإن كانت لغيره لزمه أن يغرمها؛ لأنه المتسبب بقتلها. قيل: الحكمة في قتلها أن بقاءها يذكر بالفَعلة القبيحة، وقيل: ربما حبلت فأتت بصورة شنيعة، ويحتمل أن ذلك لأنها أصبحت مستخبثة ومستقذرة. والله أعلم.

* * * * *

(1380)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ وَغَرَّبَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، إِلَّا أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ

(1)

.

* * *

مضمون هذا الحديث قد تقدم في أحاديث أول الباب، عند حديث أبي هريرة وزيد بن خالد، وحديث عبادة بن الصامت، لكن الحديثين من قوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث خبر عن فعله صلى الله عليه وسلم، فكما كان الرجم ثابتًا بقوله وفعله صلى الله عليه وسلم، فكذلك الجلد والتغريب. ولا ينبني على الخلاف في رفع الحديث ووقفه إشكالٌ في أصل الحكم، وإن كان الراجح عند أهل الشأن وقف الحديث

(2)

، والراجح من حيث النظر رفعه. فلا بد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لما حكم على العسيف بالجلد والتغريب أنه جلده وغربَّه، وقولُ ابن عمر هذا في الجلد والتغريب كقول أبيه رضي الله عنهما:«فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ»

(3)

. والله أعلم.

(1)

الترمذي (1438).

(2)

وممن رجح وقفه الدارقطني. ينظر: «نصب الراية» للزيلعي (3/ 331).

(3)

تقدم (1372).

ص: 69

(1381)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ:«أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصلٌ في تحريم تشبه الرجال بالنساء، وهم المخنثون، وتشبه النساء بالرجال، وهن المترجلات.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم تشبه الرجال بالنساء.

2 -

تحريم تشبه النساء بالرجال، والتشبه يكون باللسان والكلام والحركة واللباس.

3 -

أن ذلك من كبائر الذنوب.

4 -

وجوب إخراج كلٍّ من الصنفين من البيوت؛ لأن مخالطتهم من أعظم وسائل الوقوع في الفاحشة؛ زنًا أو لواطًا أو سحاقًا.

5 -

جواز لعن أصحاب المعاصي على العموم، واللعن من الله الطرد والإبعاد من رحمته. ومن الرسول صلى الله عليه وسلم إمَّا دعاءٌ أو خبر. وكلاهما يدل على قبح موجِبه وغلظ تحريمه.

6 -

أن من مقاصد الشرع تميز صنفي الرجال والنساء كل عن الآخر، كما ميَّز الله بينهما في الخِلقة والخُلُق والأحكام الشرعية، فتَشَبُّه أحدهما بالآخر منافٍ للفطرة ولمقتضَى الشريعة.

7 -

الرد على من ينادي بالتسوية بين الرجل والمرأة.

8 -

الرد على من يبيح تمثيل كل من الجنسين للآخر.

* * * * *

(1)

البخاري (5886).

ص: 70

(1382)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ادْفَعُوا الْحُدُودَ، مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ

(1)

.

(1383)

وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِلَفْظِ:«ادْرَأُوا الحُدُودَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا

(2)

.

(1384)

وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مِنْ قَوْلِهِ بِلَفْظِ: «ادْرَأُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»

(3)

.

* * *

استُدل بهذه الأحاديث على ترك إقامة الحد على من وجب عليه بالشبهات التي يمكن أن تكون عذرًا له؛ كالجهل والتأويل والخطأ والنسيان.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

ابتناء الشريعة على التيسير.

2 -

تشوف الشريعة إلى العفو.

3 -

أن من شروط إقامة الحد انتفاء الشبهة.

4 -

أن الحد يسقط بالشبهة في الجملة. وهذان الحديثان، وإن كانا ضعيفين، فيعضدهما الموقوف، وإلى معناهما ذهب عامة العلماء على تفصيل في نوع الشبهة التي يدرأ بها الحد. ثم الأمر بعد ذلك إلى اجتهاد القاضي. والله أعلم.

* * * * *

(1)

ابن ماجه (2545).

(2)

الترمذي (1424)، والحاكم (8243).

(3)

البيهقي في «الكبرى» (1760)؛ وهو فيه مرفوعًا، وفي سنده المختار بن نافع. نقل البيهقي قول البخاري فيه:«منكر الحديث» .

ص: 71

(1385)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ الَّتِي نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بِهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ تَعَالَى، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ عز وجل» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَهُوَ فِي «المُوْطَّإِ» مِنْ مُرْسَلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في وجوب الاستتار بستر الله عند اقتراف المعاصي، مما شأنُه أن يستتر فاعله، كالزنا واللواط، فتلك هي الخبائث والقاذورات.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

وجوب اجتناب المعاصي.

2 -

تحريم المجاهرة بالذنوب.

3 -

وجوب ستر الإنسان على نفسه.

4 -

وجوب التوبة.

5 -

أن من مقاصد الشريعة ستر الذنوب وإخفاءها.

6 -

جواز تسمية هذا النوع من الذنوب قاذورات.

7 -

أن من أقر بالذنب عند الحاكم وجب إقامة حكم الله عليه، وهذا معنى قوله:«فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ عز وجل» .

8 -

الاعتماد في الأحكام على حكم الله.

* * * * *

(1)

الحاكم (8238)، و «الموطأ» (3048).

ص: 72

‌بَابُ حَدِّ القَذْفِ

المقصود بهذا الباب بيان عقوبة من يقذف غيره بالزنا، وأصل القذف: الرمي بالحجر ونحوه، وفي الاصطلاح: الرمي بالزنا، وهو من كبائر الذنوب. والدليل على ذلك من كتاب الله قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون (4)} [النور: 4].

* * * * *

(1386)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي، قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى المِنْبَرِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ فَضُرِبُوا الحَدَّ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ. وَأَشَارَ إِلَيْهِ البُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث يتعلق بقصة الإفك، ويتضمن بعض ما جرى على إثر ذلك.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن القرآن نزل بعذر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما رماها به المنافقون والجاهلون، وقولها:«عُذْرِي» أي: براءتي.

2 -

أن من رمى أم المؤمنين بما برأها الله منه في القرآن فإنه مكذِّب للقرآن، فيكون كافرًا. وهذا ينطبق على الروافض.

(1)

أحمد (24066)، وأبو داود (4474)، والترمذي (3181)، والنسائي في «الكبرى» (7311)، وابن ماجه (2567). وأشار إليه البخاري بقوله:«وشاور عليًا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة، فسمع منهما حتى نزل القرآن فجلد الرامين» . ينظر: «الفتح» (13/ 341).

ص: 73

3 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام حدَّ القذف على من خاض في شأن عائشة رضي الله عنها من المسلمين، والرجلان قيل: هما حسان بن ثابت ومِسطح بن أُثاثة، والمرأة قيل: حَمْنة أخت زينب أم المؤمنين رضي الله عنهم.

4 -

تبليغ الأحكام، وتلاوة القرآن على المنبر.

5 -

مبادرته صلى الله عليه وسلم إلى تنفيذ حكم الله.

6 -

أن حدَّ القذف جلدٌ، كما في الآية.

7 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحدَّ على رأس المنافقين ابن أبيٍّ؛ لأن الحدَّ لا يطهره، مع أنه هو الذي تولَّى كبر الإفك.

* * * * *

(1387)

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ بنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» الحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَي، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(1)

.

(1388)

وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما

(2)

.

* * *

هذا الحديث طرف من قصة هلال بن أمية مع امرأته، وأصله في الصحيح، وهذا الحكم كان قبل أن ينزل القرآن بحكم اللعان.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن على القاذف البينة على دعواه، وهم أربعة شهود، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [النور: 4] الآية، وقال:{لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [النور: 13].

(1)

«مسند أبي يعلى» (2824).

(2)

البخاري (2671).

ص: 74

2 -

أن على القاذف الحدَّ إذا لم يأت ببينة، وهو الجلد ثمانين جلدة، بنص القرآن، {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، وخرج من هذا الحكم الزوجُ إذا قذف زوجته، فبينته أربع شهادات من نفسه، كما في آيات اللعان، {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} [النور: 6] الآيات.

3 -

أن هذا الحكم الذي في هذا الحديث منسوخ بآيات اللعان.

* * * * *

(1389)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِر بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: «لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهم وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ المَمْلُوكَ فِي الْقَذْفِ إِلَّا أَرْبَعِينَ» . رَوَاهُ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ فِي «جَامِعِهِ»

(1)

.

* * *

هذا الأثر أصل في وجوب حد القذف على الرقيق، وأنه نصف حد الحر، أربعون جلدة.

وفيه فوائد؛ منها:

1 -

أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يقيمون حد القذف على العبد.

2 -

تنصيف حد القذف على المملوك.

3 -

أن المملوك على النصف من الحر في الأحكام، أخذًا من قوله تعالى في المحصنات من الإماء:{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فتنصيف حد الزنا دل عليه القرآن، وأما تنصيف غيره من الأحكام، فبالقياس على تنصيف حد الزنا.

* * * * *

(1)

مالك في «الموطأ» (706).

ص: 75

(1390)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

تضمن هذا الحديث حكم قذف المملوك، وهو التحريم.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

وجوب حد القذف على قاذف العبد أو الأمة، إلا أن يكون السيد.

2 -

أن السيد لا يجب عليه الحد في الدنيا بقذف مملوكه.

3 -

أنه يحد يوم القيامة.

4 -

أنه لا حد على السيد يوم القيامة إذا كان العبد قد زنى. ويستفاد من هذا أن من حلف أو تصرف بطلاق وغيره، بناءً على اعتقاد، ثم تبين الأمر بخلافه، لم يحنث في يمينه، ولم ينفذ تصرفه.

5 -

أن السيد يحرم عليه قذف عبده.

6 -

وجوب احترام المسلم، ولو كان مملوكًا، فلا يُظلم ولا يُقذف.

7 -

رعاية الإسلام لحقوق الضعفة من المماليك وغيرهم، وهذا من محاسنه.

* * * * *

(1)

البخاري (6858)، ومسلم (1660).

ص: 76

‌بَابُ حَدِّ السَّرِقَةِ

باب حد السرقة، أي: هذا باب بيان حد السرقة، وما يتعلق به، والسرقة نوع من أخذ المال بغير حق، وحقيقتها: أخذ مال الغير من حرزه بغير حق، على وجه الخفية، وحدُّ السرقة هو قطع يد السارق اليمنى، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، فمن الكتاب قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية، ومن السنة ما ذكر من أحاديث في هذا الباب.

* * * * *

(1391)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

. وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» .

(1392)

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ: «اقْطَعُوا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ»

(2)

.

(1393)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1394)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ الله السَّارِقَ؛ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا

(4)

.

* * *

(1)

البخاري (6789)، ومسلم (1684).

(2)

أحمد (24515).

(3)

البخاري (6795)، ومسلم (1686).

(4)

البخاري (6799)، ومسلم (1687).

ص: 77

هذه الأحاديث هي الأصل في مقدار ما تقطع به يد السارق، ويظهر بين حديث عائشة وحديث أبي هريرة تعارض، ووجه الجمع بينهما أن حديث عائشة رضي الله عنها نصٌّ في أنه لا قطع فيما دون ربع دينار، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أحسن ما قيل في الجواب عنه: أن سرقة البيضة والحبل وإن كان لا قطع فيهما على ما دلَّ عليه حديث عائشة، فسرقتهما تجر إلى سرقة ما فوقهما، وتجر إلى سرقة ما يجب به القطع، وقوله في الحديث:«فَتُقْطَعُ يَدُهُ» أي: باعتبار المآل.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم السرقة.

2 -

أن حدَّ السرقة قطعُ اليد.

3 -

أن نصاب السرقة ربع دينار فصاعدًا، وهو الموجب للقطع، فلا قطع فيما دونه. وروايات حديث عائشة متطابقة، وأقواها في الدلالة وأوضحها رواية مسلم:«لَا تُقْطَعُ يَدُ سَارِقٍ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» .

4 -

أنه لا قطع في سرقة ما دون ربع دينار، والدينار من الذهب، ويعادله اثنا عشر درهما من الفضة.

5 -

ثبوت القطع فيما قيمته ثلاثة دراهم، وهي تعادل ربع دينار. ومعنى:«فَصَاعِدًا» أي: فأكثر.

6 -

أن سرقة ربع دينار تبيح قطع يد المعصوم.

7 -

أن المعتبر في نصاب السرقة: الذهبُ، وربعُ الدينار: هو ربع مثقال، ويساوي جرامًا وثمن الجرام.

8 -

أن سرقة البيضة تجر إلى سرقة ما فوقها. وتفسير البيضة ببيضة الحديد تكون على الرأس، وبالحبل حبل السفينة، تأويلٌ بعيد؛ لأنه خلاف الظاهر.

9 -

تحريم السرقة وأنها من كبائر الذنوب.

ص: 78

10 -

جواز لعن السارق بالعموم.

11 -

رحمة الله بعباده فيما شرع لهم.

12 -

أن حدَّ السرقة من موجَبات عِزَّته تعالى وحكمته، لختم الآية بالاسمين الكريمين:{وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم (38)} [المائدة: 38]. وقد اعترض بعض الزنادقة على حكم الله، قائلا: كيف تقطع اليد في سرقة ربع دينار، وديتها خمس مئة دينار؟! وزعم أنه هذا تناقض، وفي ذلك قال:

يدٌ بخمسِ مئينٍ عَسجدٍ وديتْ *

ما بالُها قُطعتْ في ربْع دينارِ؟

تناقضٌ ما لنا إلا السكوتُ لهُ *

وأنْ نعوذَ بمولانا منَ النارِ

(1)

فأجابه بعضهم

(2)

:

عِزُّ الأمانةِ أغلاها، وأرخَصَها *

ذُلُّ الخيانةِ فافهمْ حكمةَ الباري

وعبَّر بعضهم

(3)

بقوله: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت.

* * * * *

(1395)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟» ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ:«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ» الحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

؛ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَلَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ:

(1)

لأبي العلاء المعرِّي، والبيتان في ديوانه «اللزوميات» (1/ 387). ولما أورد ابن كثير في ترجمة المعرِّي هذين البيتين وأشياء مما يشبههما، قال:«وكل قطعة من هذه تدل على كفره وانحلاله وزندقته وضلاله!» «البداية والنهاية» (15/ 751).

(2)

هو علم الدين السخاوي، كما في «الوافي بالوفيات» (7/ 74)، و «معاهد التنصيص» (1/ 143).

(3)

هو القاضي عبد الوهاب المالكي، كما في «تفسير ابن كثير» (3/ 110).

(4)

البخاري (6788)، ومسلم (1688).

ص: 79

(1396)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَتِ امْرَأَةٌ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ، وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا»

(1)

.

* * *

هذا الحديث اختصره المؤلف، واقتصر منه على ما يتعلق بالشفاعة في الحدود، وما يتعلق بجحد العارية، وفي أصل الحديث؛ «أهَمَّهُمْ شأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ» ، أي: التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد؟ فكلم أسامة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:«أَتَشْفَعُ فِي حَدٍ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟!» ثم خطب، وكان مما قال:«وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» .

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن بني مخزوم من قريش.

2 -

أن منزلتهم في قريش عالية؛ لحميتهم لهذه المرأة.

3 -

أن قطع اليد فيه مذلة وهوان.

4 -

غضب النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهكت حرمات الله وحدوده، وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم.

5 -

مهابته صلى الله عليه وسلم أن يعارضه أحد في حكم من أحكام الله.

6 -

تحريم الشفاعة في الحدود.

7 -

منزلة أسامة عند النبي صلى الله عليه وسلم.

8 -

عدم المحاباة في إنكار المنكر.

9 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم الخطبة لتقرير الأحكام المهمة، والإنكار على من يعارضها.

10 -

مراعاة المقام في أسلوب الخطاب.

(1)

مسلم (1688).

ص: 80

11 -

أن مداهنة الشريف في الأحكام والحدود من سنة الجاهلية، فمن فعل ذلك من المسلمين فهو متشبه بهم.

12 -

أن حدَّ السرقة ثابت في شرع من قبلنا.

13 -

أن تعطيل الحدود سبب للهلاك.

14 -

أن سنة الله لا تتبدل في أوليائه وأعدائه.

15 -

منزلة فاطمة رضي الله عنها عند أبيها، صلى الله عليه وسلم.

16 -

الحلف لتأكيد الخبر وتعظيم الأمر، ولو لم تتطرق التهمة إلى المخبِر، «وَايْمُ اللهِ»: هي أيمانه، وهي الأقسام، والله يقسم بنفسه وبما شاء من خلقه، ومعنى «وَايْمُ اللهِ» أي: أيمان الله قسمي.

17 -

أن حد السرقة القطع، أي قطع اليد اليمنى من الكف.

18 -

إن إقامة الحدود ليس من شأن الإمام مباشرته.

19 -

مناسبة الحدود لأسبابها، وهذا من حكمة الشريعة.

20 -

أن حكم جحد العارية حكمُ السرقة، فهو موجب للقطع، وقد اختلف العلماء في ذلك؛ فذهب الجمهور إلى أنه لا قطع في جحد العارية؛ لأنه خيانة؛ لأن جاحد العارية لم يُخرِج مالًا من حرزه على وجه الخفية، فلا ينطبق على الجحد تعريفُ السرقة، وأجابوا عن هذا الحديث بأن قطع يد المرأة من أجل أنها سرقت، وأما قول الراوي:«كَانَتِ تَسْتَعِيرُ المَتَاعَ، وَتَجْحَدُهُ» ، فليس لبيان موجِب القطع، بل لبيان صفة فيها، وذهب جمع من أهل العلم، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم، وهو رواية عن الإمام أحمد، أن جحد العارية موجب للقطع

(1)

. وأن إلحاقه بالسرقة من حكمة الشريعة

(2)

، وقولُ الجمهور -والله

(1)

ينظر: «مجموع الفتاوى» (28/ 299)، و «حاشية ابن القيم على سنن أبي داود» (12/ 23)، و «المغني» لابن قدامة (9/ 93).

(2)

ينظر: «حاشية ابن القيم على سنن أبي داود» (12/ 23).

ص: 81

أعلم- أظهر؛ لأنه جاء في روايات أنها سرقت

(1)

، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر السرقة في قوله:«لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ» ، وجحد العارية خيانة؛ لأن المعير يدفع إليه ماله باختياره.

* * * * *

(1397)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ، وَلَا مُخْتَلِسٍ، قَطْعٌ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ

(2)

.

(1398)

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» . رَوَاهُ المَذْكُورُونَ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّان

(3)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في ترك القطع في أنواع من أخذ مال الغير بغير حق، وهي أربعة: الخيانة، والاختلاس، والانتهاب، والأخذ من الثمر المعلَّق في شجره، أو الكَثَر، وهو جُمَّار النخل.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أنه لا قطع في هذه المذكورات، بل فيها الغُرم والتعزير.

2 -

أن هذه المذكورات لا تدخل في تعريف السرقة، وهو أخذ المال من حرزه على وجه الخفية. فالخيانة في الأمانة، لأن المؤتمَن مسلَّط عليها باختيار صاحبها؛ لأنه هو الذي سلَّمها له، والاختلاس أخذ المال من صاحبه

(1)

كما في البخاري (3475)، ومسلم (1688).

(2)

أحمد (15070)، وأبو داود (4391)، والترمذي (1448)، والنسائي (4986)، وابن ماجه (2591)، وابن حبان (4457).

(3)

أحمد (15804)، وأبو داود (4388)، والترمذي (1449)، والنسائي (4975)، وابن ماجه (2593)، وابن حبان (4466).

ص: 82

في حال غفلته، والانتهاب أخذ للمال جهرة، وصاحب المال والناس ينظرون، والثمر والكَثَر في الشجر ليس في حرز، إلا أن يكون على البستان حائط، يمنع من دخوله.

* * * * *

(1399)

وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ المَخْزُومِيِّ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ» ، قَالَ: بَلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَأَمَرَ بِهِ، فَقُطِعَ. وَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ:«اسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» ، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» ثَلَاثًا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(1)

.

(1400)

وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَسَاقَهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ فِيهِ:«اذْهَبُوا بِهِ، فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ» . وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ أَيْضًا، وَقَالَ:«لَا بَأْسَ بِإِسْنَادِهِ»

(2)

.

* * *

هذا الحديث دليلٌ على ثبوت السرقة ووجوب الحد بالاعتراف.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من أقرَّ بما يوجب الحد أقيم عليه.

2 -

جواز التعريض له بالرجوع عن إقراره.

3 -

إن إقامة الحد وإن كان كفارة، فإنه لا يسقط وجوب التوبة، واستحباب إرشاده إلى ذلك.

4 -

إن إقامة الحدود ليس مما يباشره الإمام.

(1)

أبو داود (4380)، وأحمد (22508)، والنسائي (4892).

(2)

الحاكم (8230)، وينظر:«كشف الأستار عن زوائد البزار» (1560)،

ص: 83

5 -

مشروعية حسم يد السارق إذا قُطعت، ومعنى ذلك أن تغمس في زيت يغلي لتنكمش العروق، فيتوقف الدم؛ وهو يشبه الكيَّ، فإنه لو ترك لمات بنزف الدم، وكان هذا هو الممكن في القديم، وقد تيسر في العصور المتأخرة أسباب لوقف الدم أفضل من الحسم.

6 -

أنه لا غُرم على السارق إذا قُطع. ويدل له الحديث الذي بعده، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أنه يلزم السارقَ الضمانُ؛ لأن الحديث ضعيف سندًا، منكر متنًا؛ لمخالفته القاعدة: أن من أتلف شيئًا فعليه ضمانه.

* * * * *

(1401)

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يُغَرَّمُ السَّارِقُ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ

(1)

، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ مُنْكَرٌ.

(1402)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ المُعَلَّقِ، فَقَالَ:«مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ الْغَرَامَةُ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الجَرينُ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل في حكم السرقة من الثمر المعلَّق في شجره وما آواه الجرين؛ وهو ما يجمع فيه الثمر لتجفيفه.

(1)

(2)

أبو داود (4390)، والنسائي (4973)، والحاكم (8231).

ص: 84

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من أخذ من الثمر المعلَّق ليأكل فقط، وهو محتاجٌ، فلا شيء عليه، إلا أن يكون على البستان حائط أو ناظر؛ فلا يحل الأكل منه والأخذ منه إلا بإذن.

2 -

أن من خرج منه بشيء في خُبنته أو كُمِّه فعليه الغرامة والعقوبة تعزيرًا، والخبنة ما يجعل في الثوب ليخفى فيه ما يراد إخفاؤه.

3 -

أن من أخذ من الثمر في الجرين ما قيمته نصاب، فعليه القطع. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ» . وثمنُ المجن ثلاثة دراهم، وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجنٍّ ثمنه ثلاثة دراهم

(1)

.

4 -

أن من حكمة الشريعة التفريق في الحكم بين المختلفات، ومن ذلك: الفرق في الأكل من الثمرة بين المحتاج وغير المحتاج، وبين من أكل فقط ولم يخرج بشيء، ومن زاد على الأكل وخرج ببعض الثمر؛ فإن الأول منتفع، والثاني متملك.

5 -

أن ما لم يؤوه الجرينُ من الثمر لا قطع في أخذه، ولو بلغ نصابًا.

6 -

اعتبار الحرز لوجوب القطع، والجرين حرزٌ لما وضع فيه، والثمر في شجره ليس في حرز، فدلَّ على الفرق.

* * * * *

(1)

كما تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ برقم (1393).

ص: 85

(1403)

وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ -لَمَّا أَمَرَ بِقَطْعِ الَّذِي سَرَقَ رِدَاءَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ-:«هَلَّا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ، وَالْحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث مما يستدل به على أن الحدود إذا بلغت السلطان وجب إنفاذها وامتنعت الشفاعة، ولو عفى المسروق منه.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن أخذ المال من جيب النائم أو ما وضعه تحت رأسه سرقةٌ يجب بها القطع إذا توفرت الشروط؛ فإنه جاء في روايةٍ؛ أن رداء صفوان كان تحت رأسه

(2)

.

2 -

أن الحرز يختلف باختلاف الأموال؛ فحرز الدراهم ليس كحرز السيارة.

3 -

جواز الشفاعة في الحد قبل أن يصل إلى السلطان، وهو الإمام، ومن ينوب منابه كالقاضي.

* * * * *

(1404)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: جِيءَ بِسَارِق إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «اقْتُلُوهُ» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله إِنَّمَا سَرَقَ، قَالَ:«اقْطَعُوهُ» فَقُطِعَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ:«اقْتُلُوهُ» ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الرَّابِعَةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ الْخَامِسَةَ فَقَالَ:«اقْتُلُوهُ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَاسْتَنْكَرَهُ

(3)

.

(1)

أحمد (15305)، وأبو داود (4394)، النسائي (4898)، وابن ماجه (2595)، وابن الجارود (828)، والحاكم (8229). ولم أجده في «سنن الترمذي» .

(2)

وهي عند أحمد (15303)؛ بلفظ: «فأخذَ ثوبي مِنْ تَحت رَأسِي» ، وعند الدارمي (2299)؛ بلفظ:«فاستلَّ رِدائِي مِنْ تحتِ رَأسِي» .

(3)

أبو داود (4410)، والنسائي (4993).

ص: 86

(1405)

وَأَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ نَحْوَهُ

(1)

، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْقَتْلَ فِي الْخَامِسَةِ مَنْسُوخٌ

(2)

.

* * *

هذا الحديث تضمن الأمر بقتل السارق في الخامسة، ولكن الحديث استنكره النسائي، كما ذكر المصنف، وقال الشافعي: إن القتل في الخامسة منسوخ، وأقول: إن متن الحديث فيه نكارة؛ إذ كيف يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل من أتي به دون أن يتثبت أنه قاتل أو سارق؟! ومن المستنكر أيضًا أن يأمر بقطعه أربع مرات، وليس فيها في الثالثة ولا الرابعة: اقطعوا رجله، وقطع السارق إنما ينصرف إلى قطع يده.

* * * * *

(1)

النسائي (4992).

(2)

حكاه عنه البيهقي في سننه (8/ 257).

ص: 87

‌بابُ حَدِّ الشَّارِبِ وَبَيَانِ المُسْكِر

مقصود هذا الباب، كما تفيده الترجمة بيان حد الشارب، و (أل) في الشارب للعهد الذهني، ومن مقصود هذا الباب بيان المسكر من الأشربة، وعقوبة الشارب لم تؤخذ من نصٍّ قولي، من آية أو حديث، وإنما أخذت مما فعل بالشارب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم من اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم، وقد استقر الأمر على أن حد الشارب ثمانون جلدة.

* * * * *

(1406)

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِىَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ:«وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1407)

وَلِمُسْلِمٍ: عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ فِي قِصَّةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ: «جَلَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ» . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ؛ أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ الْخَمْرَ، فَقَالَ عُثْمَانُ:«إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْهَا حَتَّى شَرِبَهَا»

(2)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث عقوبة شارب الخمر، وأنها أربعون جلدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر، ثم رأى الصحابة في عهد عمر رضي الله عنهم لما تمادى الناس في الشرب أن يجلد الشارب ثمانين، فعلم بذلك أن ما فعل في عهد

(1)

البخاري (6773)، ومسلم (1706).

(2)

مسلم (1707).

ص: 88

النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر أشبه بالتعزير، ليس حدًّا لا تجوز الزيادة عليه، كحدِّ الزنا والقذف.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم الخمر، وذلك معلوم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، فهو إذن من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة، فيكفر جاحده.

2 -

أن عقوبة الشارب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلد أربعين، وهو كذلك في عهد أبي بكر رضي الله عنه.

3 -

أن الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه أجمعوا على جلد الشارب ثمانين، واعتبروه بأدنى الحدود، وهو حد القاذف، واستقر الأمر على ذلك.

4 -

أن عقوبة شارب الخمر ليست حدًّا.

5 -

مشروعية الاستشارة حتى في المسائل الشرعية الاجتهادية.

6 -

فضل عمر لتواضعه وحرصه على صلاح الأمة.

7 -

أنه ينبغي التغليظ في العقوبة التعزيرية كلما كثر في الناس الشرب.

8 -

أن تقيؤ الخمر قرينةٌ قاطعة على شربها، فتجب عقوبته ما لم يدع شبهة.

* * * * *

(1408)

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ:«إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الثَّالِثَةَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذَا شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالْأَرْبَعَة، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَأَخْرَجَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ صَرِيحًا عَنِ الزُّهْرِيِّ

(1)

.

* * *

(1)

أحمد (16869)، وأبو داود (4482)، والترمذي (1444)، والنسائي في «الكبرى» (5278)، وابن ماجه (2573).

ص: 89

هذا الحديث هو الأصل في قتل الشارب بعدما يشرب الرابعة، وبعد جلده في المرات الثلاث قبلها، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى ظاهر هذا الحديث، وقالوا: يقتل الشارب بعد الرابعة، وذهب أكثر أهل العلم إلى عدم قتله، بل يجلد كلما شرب، وأجابوا عن هذا الحديث بأنه منسوخ، وقد جاء في بعض الروايات ما يدل على نسخه

(1)

.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم الخمر.

2 -

وجوب عقوبة الشارب بالجلد، وتقدم أنه يجلد إما أربعين أو ثمانين، وكلٌّ سُنَّة.

3 -

أن الشارب يجلد في كل مرة، ويقتل في الرابعة، وقد تقدمت الإشارة في هذا والخلاف فيه. والصواب ما ذهب إليه الجمهور من أن الشارب لا يقتل، ودم المسلم معصوم لا يحل إلا ببرهان.

* * * * *

(1409)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْه

(2)

.

(1410)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُقَامُ الحُدُودُ فِي المَسَاجِدِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِم

(3)

.

* * *

هذان الحديثان اشتملا على حكمين يتعلقان بإقامة الحدود والتعزيرات:

أولهما: تحريم ضرب الوجه، فلا يحل ضرب الوجه في حد ولا تعزير ولا تأديب؛ كضرب الرجل امرأته وولده، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على هذا في حق

(1)

كرواية أبي داود (4485)؛ وفيها: «ثمَّ أُتِىَ بِهِ فَجَلَدَهُ وَرُفِعَ القَتْلُ فَكانَتْ رُخْصَةً» .

(2)

البخاري (2559)، ومسلم (2612).

(3)

الترمذي (1401)، والحاكم (4/ 410).

ص: 90

المرأة، قال:«وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ»

(1)

. أما الضرب قصاصًا فيجوز؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقال سبحانه:{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].

الثاني: تحريم إقامة الحدود في المساجد؛ لأن ذلك يترتب عليه امتهان المسجد بالصراخ فيه، وكشف العورة، أو تلويثه بالنجاسة من دم أو بول، كما يحصل ذلك في الغالب ممن يُضرب.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

حكمة الشريعة في صيانة الحرمات عن الامتهان.

2 -

حرمة وجه الإنسان.

3 -

حرمة المساجد.

* * * * *

(1411)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، وَمَا بِالمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَمْرٍ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِم

(2)

.

(1412)

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْه

(3)

.

(1413)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

(1)

رواه أحمد (20022)، وأبو داود (2142)، والنسائي في «الكبرى» (9115)، وابن ماجه (1850)، والبخاري معلقًا «الفتح» (9/ 301)، وابن حبان (4175)، والحاكم (2764)؛ عن حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنهما. وتقدم (1299، 1157).

(2)

مسلم (1982).

(3)

البخاري (5581)، ومسلم (3032).

(4)

مسلم (2003).

ص: 91

(1414)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل في تحريم كل مسكر، وأن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرامٌ، وبهذا يعلم أن تحريم الخمر ثابت في الكتاب والسنة والإجماع، فتحريمها معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فجاحد تحريمها كافرٌ، وأصل تحريمها من القرآن قوله تعالى:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون (90)} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُون (91)} [المائدة: 91].

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الخمر كانت مباحة حتى بعد الهجرة، ثم حُرِّمت بتدرج؛ بذمها والتنفير عنها أولًا، كما في آية البقرة:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، ثم نهي عنها وقت قرب الصلاة في آية النساء:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، ثم حرمت تحريمًا قاطعًا في آية المائدة.

2 -

أن التحريم والتحليل إلى الله.

3 -

أن الخمر يكون من الخمسة المذكورات في قول عمر رضي الله عنه، وليس ذكرها على سبيل الحصر، فلا مفهوم للعدد. ولهذا قال:«وَالْخَمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» .

4 -

الرد على من حصر اسم الخمر بعصير العنب، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة، والجمهور على خلافه، وهو الصواب.

(1)

أحمد (14703)، وأبو داود (3681)، والترمذي (1865)، وابن ماجه (3393)، وابن حبان (5382). ورواه النسائي (5623)؛ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

ص: 92

5 -

أن الخمر ما خامر العقل، أي غطَّاه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» .

6 -

أن «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ؛ كما في حديث جابر رضي الله عنه، وهذا شامل لما كان من العنب وغيره. ومن خصَّ اسم الخمر بعصير العنب خصَّ به هذا الحكم، فما كان من غير العنب فلا يحرم عنده منه إلا القدر المسكر. وفي حديث جابر والأحاديث قبله ردٌّ عليه.

7 -

أن الشراب الذي لا يسكر قليله ولا كثيره فليس بحرام.

8 -

في حديث جابر رضي الله عنه شاهد لقاعدة سد الذرائع، بل من حكمة تحريم الخمر سد الذريعة لما تفضي إليه من العداوة والبغضاء.

9 -

أن تحريم الخمر من كمال الشريعة، وأن من أعظم مقاصد الشريعة حفظ العقل.

* * * * *

(1415)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ فِي السِّقَاءِ، فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ، وَالْغَدَ، وَبَعْدَ الْغَدِ، فَإِذَا كَانَ مَسَاءُ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَاقَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث تضمن شيئًا من هديه صلى الله عليه وسلم في الشراب، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب في السقاء، أي يطرح ليحلو الماء، فيشرب منه ثلاثة أيام، وفي آخرها إن فَضَل شيءٌ سقاه، وإلا أهراقه.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز شرب النبيذ الذي لا يسكر.

2 -

استحباب إراقته إذا خشي أن يشتد.

(1)

مسلم (2004).

ص: 93

3 -

في الحديث شاهد لقاعدة سد الذرائع؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أراق الشراب سدًّا لذريعة أن يُشرب مسكرًا.

4 -

جواز التمتع باللذيذ من الطعام والشراب.

* * * * *

(1416)

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» . أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّان

(1)

.

(1417)

وَعَنْ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ؛ أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ رضي الله عنهما سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَمْرِ يَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ؟ فَقَالَ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في تحريم التداوي بالخمر.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن من رحمة الله لهذه الأمة أن لم يجعل شفاء أي داء متوقفًا على شيء حرمه الله.

2 -

تحريم التداوي بالخمر.

3 -

أنها مجلبة لأنواع من الأمراض؛ فهي داء وليست بدواء.

4 -

جواز التداوي بالمباح.

5 -

أن هدي الصحابة السؤال عن حكم الفعل قبل الإقدام عليه.

* * * * *

(1)

البيهقي في «الكبرى» (10/ 5)، وابن حبان (1391). وذكره البخاري تعليقًا؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

مسلم (1984)، وأبو داود (3873).

ص: 94

‌بَابُ التَّعْزِيرِ وَحُكْمِ الصَّائِلِ

أي هذا باب بيان أحكام التعزير، وهو العقاب أو التأديب بلا تقدير من جهة الشرع، بل المرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم أو غيره ممن له حق العقاب وتغيير المنكر، والصائل: هو المعتدي على غيره بسفك دمه، أو أخذ ماله، أو هتك عرضه، وحكمه: أنه يدفع ولو أدى ذلك إلى قتله.

* * * * *

(1418)

عَنْ أَبِي بُرْدَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في التعزير في غير حدود الله، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لَا يُجْلَدُ» نفي بمعنى النهي، وقوله:«أَسْوَاطٍ» أي جلدات.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز التعزير بالضرب تأديبًا فيما ليس فيه حق لله تعالى؛ كضرب الرجل امرأته، والوالد ولده، والمعلم تلميذه.

2 -

أنه لا تجوز الزيادة في هذا على عشر جلدات.

3 -

جواز التعزير بأكثر من ذلك فيما هو من حدود الله.

4 -

أن شريعة الإسلام مبناها على الحكمة، وهي وضع الأمور في مواضعها، وتقدير الأشياء بقدرها.

* * * * *

(1)

البخاري (6848)، ومسلم (1708).

ص: 95

(1419)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَقِيلُوا ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الحُدُودَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في اغتفار الزلة من ذوي الاستقامة بترك المؤاخذة إلا في العقوبات المقدرة، وهي الحدود.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من حكمة الشريعة إنزال الناس منازلهم.

2 -

الحكم على الأشخاص باعتبار الأغلب من أحوالهم.

3 -

الفرق في المؤاخذة على السيئات بين ما كان هفوة أو عادة.

4 -

أن هذه هي سنة الله في شرعه وجزائه، فلا يسوِّي في الحكم والجزاء بين المحسنين والمسرفين، كما قال تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُون (21)} [الجاثية: 21].

* * * * *

(1420)

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ عَلَى أَحَدٍ حَدًّا فَيَمُوتُ فَأَجِدَ فِي نَفْسِي، إِلَّا شَارِبَ الْخَمْرِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

.

* * *

هذا الأثر عن علي رضي الله عنه دليل على أن عقوبة شارب الخمر تعزير لا حدٌّ، وهذا صحيح؛ لما تقدم من أن الشارب كان يجلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجريد والنعال أربعين، وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه، وفي أول خلافة عمر رضي الله عنه، ثم لما كثر في الناس شرب الخمر جمع عمر رضي الله عنه من حضره من الصحابة

(1)

أبو داود (4375)، والنسائي في «الكبرى» (7254)، والبيهقي (17521).

(2)

البخاري (6778)، وأخرجه مسلم (1707) كذلك.

ص: 96

فاستشارهم، فقالوا: أقل الحدود ثمانون، وهو حد القذف، فاعتبروه به، وقالوا: يجلد الشارب ثمانين.

وفي هذا الأثر فوائد؛ منها:

1 -

أن عقوبة الشارب تعزير لا حدٌّ.

2 -

أن مذهب عليٍّ أن الشارب إذا مات بتعزيره أنه يجب على الإمام أن يَدِيَه، وهكذا كل من يموت بالتعزير.

3 -

ورع عليٍّ رضي الله عنه واحتياطه في النفس المعصومة.

4 -

أنه لا دية لمن يموت بالحدِّ، كحد الزاني البكر، وحد القاذف، ما لم يكن تعدٍّ.

* * * * *

(1421)

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في جواز دفع المعتدي الطالب للمال، ولو بالقتال.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز قتال الصائل لأخذ المال.

2 -

جواز قتله إذا لم يندفع إلا بذلك.

3 -

أن المعتدَى عليه إذا قتل فهو شهيد، وقوله:«دُونَ مَالِهِ» أي إذا قُتل وهو يدافع عن ماله، وقوله:«فَهُوَ شَهِيدٌ» أي: من الشهداء الذين مدحهم الله وأثنى عليهم، {وَالشُّهَدَاء عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19].

(1)

أبو داود (4772)، والترمذي (1421)، والنسائي (4101)، وابن ماجه (2580). وتقدم في (باب قتال الجاني وقتل المرتد)(1361)؛ أورده من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 97

4 -

أن من قُتل دون دمه أو أهله فهو شهيد من باب أولى، وقد جاء النص عليهما في بعض روايات الحديث

(1)

.

5 -

فيه شاهد لحديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ:«فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ» ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: «قَاتِلْهُ» ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: «فَأَنْتَ شَهِيدٌ» قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: «هُوَ فِي النَّارِ»

(2)

.

* * * * *

(1422)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّابٍ رضي الله عنه، قَال: سَمِعْتُ أَبِي رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تَكُونُ فِتَنٌ، فَكُنْ فِيهَا عَبْدَ اللهِ المَقْتُولَ، وَلَا تَكُنِ الْقَاتِلَ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ

(3)

.

(1423)

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ نَحْوَهُ: عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ رضي الله عنه

(4)

.

* * *

هذا الحديث وما في معناه يستدل به على الكف عن القتال في الفتنة، وهو القتال الذي لا يتبين به المحق من المبطل من المتقاتلين، أو يعلم به أن كلًّا من المتقاتلين مبطلٌ، كالنزاعات على السلطة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

الكف عن القتال في الفتنة.

(1)

عند أحمد (1652)، وأبي داود (4772) والترمذي (1421)، والنسائي (4106)؛ من رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه.

(2)

رواه مسلم (140).

(3)

ابن أبي خيثمة في «التاريخ الكبير» (2/ 2/ 952)، والدارقطني (3/ 132).

(4)

أحمد (22499).

ص: 98

2 -

أنه لا يشرع دفع الصائل المتأوِّل في الفتنة، بل يستحب الكف عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم:«تَكُونُ فِتَنٌ، فَكُنْ فِيهَا عَبْدَ اللهِ المَقْتُولَ، وَلَا تَكُنِ الْقَاتِلَ» ؛ لأن المقتول مظلوم إلا أن يشارك في القتال، والقاتل إما ظالم وإما معذور في التأويل.

* * * * *

ص: 99

‌كِتَابُ الجِهَادِ

ص: 101

قوله: كتاب الجهاد، أي هذا كتاب تذكر فيه أبواب أحكام الجهاد، ووضعه المؤلف إثر كتاب الحدود اتباعًا لطريقة المصنفين من الشافعية، وأما الحنابلة فإنهم يجعلون الجهاد آخر أبواب العبادات، بعد كتاب الحج وأبواب الهدايا والضحايا.

والجهاد في اللغة: مصدر جاهد يجاهد مجاهدة وجهادًا، وهو بذل الجهد للوصول إلى الأمر المطلوب، وهو في الشرع نوعان: عام وخاص، فأما العام فهو بذل الوسع للقيام بكل ما أمر الله به، فيدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجهاد الكفار بنوعيه، جهادهم بالحجة والبيان، كما قال تعالى:{وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)} [الفرقان: 52]، وجهادهم بالسيف والسنان، وأما الجهاد بمعناه الخاص، فهو: جهاد الكفار بالقتال؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وهذا هو المراد من الجهاد في سبيل الله في أكثر النصوص، وهذا الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم:«رَأْسُ الْأمْرِ الْإسْلَامُ، وعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامهِ الْجهَادُ»

(1)

.

وقد استفاضت النصوص في الأمر به والترغيب فيه، والثناء على أهله، وبيان ما أعد الله لهم في العقبى، قال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، وقال سبحانه:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم (244)} [البقرة: 244]، وقال تعالى:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84]، وقال:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافَّةً} [التوبة: 36]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، وقال:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65]، وقال تعالى:{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ}

(1)

رواه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (22016)، والنسائي في «الكبرى» (11330)؛ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

ص: 103

[التوبة: 111]، وقال:{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران: 195]، وقال:{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللّهِ} [التوبة: 20]، إلى قوله:{إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيم (22)} [التوبة: 22]، وقال:{وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)} [النساء: 95]، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أَنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأَنَّ محَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُم»

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»

(3)

.

فجهاد الكفار -إذن- عبادة من أجلِّ العبادات التي يحبها الله تعالى، ويحب أهلها:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَّرْصُوص (4)} [الصف: 4]، وقال سبحانه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم (54)} [المائدة: 54].

وكذلك دلَّ الكتاب والسنة على أحكام هذه العبادة؛ من الإعداد إلى بلوغ غاية الجهاد، ودون العلماء في مصنفاتهم هذه الأحكام بأدلتها من الكتاب والسنة؛ تحت عنوان: كتاب الجهاد، أوكتاب السِّيَر، ضمن مصنفاتهم المطولة، ومنهم من أفرد الجهاد بمصنف خاص. ومن ذلك: أحكام الجهاد وفضائله؛

(1)

رواه البخاري (25)، ومسلم (22)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه أحمد (12246)، والنسائي (3096)، والحاكم (2482)؛ عن أنس رضي الله عنه. وسيأتي (1420).

(3)

رواه البخاري (2790)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 104

للعز بن عبد السلام، ومنها: الإنجاد في أبواب الجهاد وتفصيل فرائضه وسننه؛ لأبي عبد الله الأزدي القرطبي، وهما مطبوعان.

هذا ومن أحكامه الأولية حكمه إجمالًا، وهو أنه فرض كفاية على الأمة، ويصير فرض عين في أسباب وأحوال معينة، كما سيأتي -إن شاء الله- في الكلام على أحاديث هذا الكتاب من بلوغ المرام.

* * * * *

(1424)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1425)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان دالَّان على عظم شأن الجهاد في الإسلام، وشاهدان لقوله صلى الله عليه وسلم في الإسلام:«وَذرْوَةُ سَنَامهِ الْجهَادُ»

(3)

، ولحديث الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، قال صلى الله عليه وسلم:«فمَنْ جاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ»

(4)

.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن الإعراض عن الجهاد فعلًا ونية من شُعَب النفاق، أي من صفات المنافقين، والغزو في الحديث؛ هو الخروج لجهاد الكفار.

2 -

أن من مات على ذلك؛ مات على شعبة من النفاق.

(1)

مسلم (1910).

(2)

أحمد (12246)، والنسائي (3096)، والحاكم (2482).

(3)

تقدم تخريجه في مقدمة الباب.

(4)

رواه مسلم (50).

ص: 105

3 -

أن من تاب من هذه الحال قبل الموت؛ نجا من الذم والعقاب.

4 -

أن النفاق شُعَب، كما أن الإيمان شُعَب.

5 -

أنه يمكن أن يجتمع في الإنسان شُعب إيمان وشُعب نفاق.

6 -

وجوب الإيمان بشريعة الجهاد والإيمان بفضله.

7 -

وجوب جهاد المشركين وغيرهم من طوائف الكفر، بكل نوع من أنواع الجهاد؛ بالمال والنفس في قتالهم، وباللسان بدعوتهم ودحض شبهاتهم.

8 -

أن من أنواع الجهاد: الجهاد بالمال؛ بإنفاقه في سبيل الله. وتقديمه على النفس من تقديم الوسيلة على الغاية، وهو مطرد في القرآن إلا في آية البيع على الله:{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة: 111] إلى قوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم (111)} [التوبة: 111].

* * * * *

(1426)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ، الحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في عدم وجوب الجهاد على النساء، وبيان حكمة ذلك، وهو من أدلة وجوب العمرة، وهو مذهب جمهور العلماء، وذهب جماعة من العلماء إلى أنها ليست واجبة، ولكل من القولين وجوه من الاستدلال، وقد استوفاها شيخ الإسلام في «شرح العمدة» ، واختار عدم الوجوب

(2)

، وأصل الحديث في صحيح البخاري لكن بلفظ: قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! نَرَى الْجِهَادَ

(1)

ابن ماجه (2901)، والبخاري (1520).

(2)

«شرح العمدة» (2/ 89 - 103).

ص: 106

أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ:«لا، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» ، وهو بهذا اللفظ لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على فضل الحج، ولهذا آثر الحافظ رحمه الله هذا اللفظ.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

عدم وجوب الجهاد على النساء.

2 -

وجوب الحج عليهن كوجوبه على الرجال.

3 -

وجوب العمرة على النساء.

4 -

أن الحج والعمرة من نوع الجهاد في سبيل الله.

5 -

الإشارة إلى الفرق بين الحج والعمرة وبين الجهاد في حق المرأة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا قِتَالَ فِيهِ» .

6 -

أن المرأة ليست من أهل القتال، وإن جاز خروجها لبعض مصالح المجاهدين مع مراعاة الشروط المعتبرة في سفر المرأة ووجودها مع الرجال.

7 -

حرص عائشة رضي الله عنها على العلم، وعلى فضائل الأعمال.

8 -

حكمة الشريعة في التفريق بين الرجال والنساء في بعض الأحكام؛ لاختلاف الجنسين في الخلقة والطبيعة.

9 -

الرد على من يدعو إلى التسوية بينهما من المطيعين للكفرة في مثل: وثيقة سيداو؛ الداعية إلى التسوية بين المرأة والرجل في كل شيء.

* * * * *

ص: 107

(1427)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِوٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ:«أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟» قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1428)

وَلِأَحْمَدَ، وَأَبِي دَاوُدَ؛ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ، وَزَادَ:«ارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ؛ وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا»

(2)

.

* * *

هذان الحديثان هما الأصل في اشتراط إذن الوالدين في الخروج إلى الجهاد، إلا أن يكون الجهاد فرض عين.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

اعتبار إذن الإمام في الجهاد؛ لأن الرجل جاء يستأذن.

2 -

عظم حق الوالدين.

3 -

أن برهما أفضل من الجهاد.

4 -

فيه شاهد لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ:«الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ»

(3)

.

5 -

اعتبار إذن الوالدين في الجهاد.

6 -

أن بر الوالدين نوعٌ من الجهاد بمعناه العام.

7 -

أن إذنهما لا بد أن يكون صريحًا؛ لقوله: «فَإِنْ أَذِنَا لَكَ» .

8 -

استفصال المفتي من المستفتي في مقام الاحتمال.

9 -

تشوُّف الشريعة إلى الألفة بين أفراد الأسرة، ولَمِّ الشمل.

(1)

البخاري (3004)، ومسلم (2549).

(2)

أحمد (11721)، وأبي داود (2530).

(3)

رواه البخاري (5970)، ومسلم (85).

ص: 108

(1429)

وَعَنْ جَرِيرٍ البَجَلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ المُشْرِكِينَ» . رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرَجَّحَ البُخَارِيُّ إِرْسَالَهُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في مفارقة المشركين في المكان، كما تجب مفارقتهم في الدين، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين (6)} [الكافرون: 6].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم الإقامة بين ظهرانَي الكافرين من المشركين وغيرهم، والمراد الإقامة الدائمة، لا العارضة، ويقيد هذا الحكم بما إذا لم يقدر على إظهار دينه، أما إذا قدر على إظهار دينه فلا تحرم عليه الإقامة، إلا أن يترتب على ذلك مفسدة في أمر دينه في نفسه أو أهله، لسبب المخالطة.

2 -

وجوب الهجرة من أرض المشركين، وذلك إذا لم يقدر الإنسان على إظهار دينه بإقامة شعائر الإسلام؛ كالصلاة والأذان، وبالدعوة إلى الله، وهي الدعوة إلى الدخول في دين الله، وخُصَّ من هذا المستضعفون؛ لقوله تعالى:{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 98] الآية.

3 -

أن الإقامة بين المشركين على الوجه المذكور من كبائر الذنوب؛ لقوله: «أَنَا بَرِيءٌ» ، أما من أظهر موافقتهم على دينهم خوفًا منهم مع قدرته على الهجرة؛ فإنه يكفر بهذه الموافقة.

* * * * *

(1)

أبو داود (2645)، والترمذي (1604)، والنسائي (4794).

ص: 109

(1430)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

المراد بالفتح فتح مكة، وقد وقع في رمضان في السنة الثامنة من الهجرة. والمعنى: لا هجرة من مكة بعد الفتح.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الهجرة من مكة كانت واجبة. وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة.

2 -

انقطاع الهجرة من مكة بعد الفتح.

3 -

أن من لم يهاجر قبل الفتح فاتته الفضيلة، لكن بقي له نية صالحة، وهي الرغبة في الهجرة والخروج للجهاد.

4 -

أن مكة كانت دار كفر، فصارت بالفتح دار إسلام، لكن من قدم مكة بعد الفتح من المهاجرين، فليس له البقاء فيها؛ لأنه تركها لله، فلا يرجع فيما تركه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«يُقِيمُ المُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلاثًا»

(2)

.

5 -

أن النية الصادقة بمنزلة العمل.

* * * * *

(1431)

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

(1)

البخاري (2825)، ومسلم (1353).

(2)

رواه البخاري (3933)، ومسلم (1352)؛ عن العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه.

(3)

البخاري (2810)، ومسلم (1904).

ص: 110

هذا الحديث تضمَّن أصلًا من أصول العمل الصالح، وهو الإخلاص، كما تضمَّن الضابط للقتال الذي يصدُق عليه أنه في سبيل الله. وفي أصل الحديث أن أعرابيًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يُقاتِل حَمِيَّة، ويُقاتِل شجاعة، ويُقاتِل رياء، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ» .

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من أهم وسائل تحصيل العلم سؤال أهل العلم.

2 -

حرص الصحابة على العلم.

3 -

أن العلم قبل العمل.

4 -

القتال لتكون كلمة الله هي العليا؛ هو القتال في سبيل الله، وكلمة الله: هي دينه التي بعث بها رسله.

5 -

أن القتال لغير ذلك ليس في سبيل الله؛ كالقتال حمية أو وطنية أو رياءً أو شجاعة، فكل ذلك ليس في سبيل الله.

6 -

ذم الحرص على الدنيا والقتال لأجلها.

7 -

الترغيب في إصلاح النية.

8 -

تفاوت الناس في نياتهم.

9 -

أن للنية أثرًا في الأعمال؛ صلاحًا وفسادًا.

10 -

أن دين الإسلام أعلى الأديان؛ لأنه دين الله.

11 -

فيه شاهد لما خُصَّ به النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم.

12 -

فيه شاهد للأسلوب الحكيم، وهو العدول في الجواب عن مطابقة السؤال للجواب إلى ما هو أوفى، إيجازًا ومضمونًا.

* * * * *

ص: 111

(1432)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ السَّعْدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

مضمون هذا الحديث التنبيه إلى التلازم بين الهجرة والجهاد في سبيل الله، بقتال الكفار.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وأنها باقية إلى يوم القيامة.

2 -

التلازم بين الجهاد والهجرة عملًا واقعًا؛ لأن كلًّا منهما يقتضي وجود دارين؛ دار الإسلام ودار العدو، وهم الكفار المحاربون.

* * * * *

(1433)

وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: «أَغَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي المُصْطَلِقِ، وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَهُمْ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

اشتمل هذا الحديث على ذكر غزو النبي صلى الله عليه وسلم لبني المصطلق، وأنه أغار عليهم غِرَّة وسبى نساءهم وذراريهم، وكانت هذه الغزوة في السنة السادسة، وتسمى المُرَيسِيع.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن إحدى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بني المصطلق.

(1)

النسائي (4183)، وابن حبان (4866).

(2)

البخاري (2541)، ومسلم (1730).

ص: 112

2 -

جواز الإغارة على العدو من الكفار على غِرَّة، أي غفلة، وهو معنى:«وَهُمْ غَارُّونَ» ، أي: غافلون.

3 -

جواز القتال قبل الدعوة، لمن سبقت دعوتهم.

4 -

أن من تقدمت دعوتهم إلى الإسلام من الكفار لا تجب دعوتهم عند العزم على قتالهم، بل تستحب.

5 -

أن من أحكام الجهاد في سبيل الله غنيمةَ أموال من ظهر عليهم المسلمون من الكفار، وسبيَ نسائهم وذراريهم. وذلك بإجماع العلماء.

6 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم غنم أموال بني المصطلق، وسبى نساءهم وذراريهم، ومن نسائهم جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، التي صارت زوجًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أعتقها، وجعل عتقها صداقها.

* * * * *

(1434)

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ المُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ المُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ: ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ المُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ المُسْلِمِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ المُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ تَعَالَى وَقَاتِلْهُمْ.

وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ؛ فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا

ص: 113

ذِمَّةَ اللهِ، وَإِذَا أَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، فَلَا تَفْعَلْ، بَلْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا حديث عظيم الشأن جليل القدر، تضمَّن هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع أمرائه إذا أمَّرهم على الجيوش والسرايا، وهو أنه يوصيهم ويعلمهم ويأمرهم وينهاهم؛ يوصيهم في أنفسهم بتقوى الله، وبمن معهم من المسلمين خيرًا، يأمرهم بالغزو على اسم الله، أي مستعينين بالله، ذاكرين لله، ويعين لهم من يقاتلونه:«قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ» ، أي: من عموم الناس، وينهاهم عن كل ما يقدح في العدل والإحسان والرحمة:«اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» ، ثم يبين لهم صلى الله عليه وسلم إذا لقوا العدو ما يدعونهم إليه، وهو ثلاثة أمور مرتبة: الدعوة إلى الإسلام، ثم دعوة من أسلم إلى الهجرة، ثم دعوة من أبى الإسلام إلى أداء الجزية، ثم قتال من أبى ذلك كله: «وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ المُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ: ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ المُهَاجِرِينَ

، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا -أي: الإسلام- فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ تَعَالَى وَقَاتِلْهُمْ»، ويوصي صلى الله عليه وسلم الأمير إذا حاصر أهل حصن، أي من حصون العدو، فأرادوا أن يجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، أي: عهد الله وعهد رسوله أوصاه ألا يجيبهم إلى ذلك، بل يجعل لهم ذمته وذمة أصحابه، وإذا أراد أهل الحصن من أمير المسلمين أن ينزلهم على حكم الله وحكم رسوله فلا يفعل، بل على حكمه، مع بيانه صلى الله عليه وسلم لعلة هذين الحكمين.

(1)

مسلم (1731).

ص: 114

وقد اشتمل هذا الحديث على كثير من السياسة الشرعية في الجهاد، وأحكامه الفقهية، فالحديث يعتبر منهجًا للمجاهدين في سبيل الله في قتالهم لأعداء الله الكافرين.

وفي الحديث فوائد كثيرة؛ منها:

1 -

مشروعية تجهيز الجيوش والسرايا لغزو الكفار في عُقر دارهم ابتداءً، ولو لم يقاتلونا.

2 -

الردُّ على من يقول: إن الجهاد شُرع دفاعًا فقط.

3 -

أن الغاية من الجهاد إعلاء كلمة الله؛ إما بالدخول في الإسلام، أو فرض سيادة الإسلام على البلاد، ففي الحديث:

4 -

شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا؛ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ»

(1)

.

5 -

مشروعية تأمير أمير على كل جيش وسرية.

6 -

وصية الإمام لأمرائه بتقوى الله.

7 -

وصيته لهم بمن معهم من المسلمين خيرًا من الإحسان والصبر والعفو والرفق.

8 -

وصيتهم بالاستعانة بالله وإخلاص النية.

9 -

التنبيه إلى نوع من يقاتلهم المسلمون، وهم الكفار.

10 -

بيان علة القتال، وهي الكفر بالله.

11 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّار} [التوبة: 123]:، وقوله:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وخُصَّ منهم من جاء النهي عن قتلهم.

(1)

البخاري (2810)، ومسلم (1904). وتقدم (1426).

ص: 115

12 -

تحريم الغلول.

13 -

تحريم الغدر.

14 -

تحريم التمثيل، وهو قطع أطراف القتيل من الكفار.

15 -

تحريم قتل الولدان، وفي حكمهم النساء والرهبان والشيخ الفاني، وكل من ليس من أهل القتال، كما جاءت بذلك الأحاديث والآثار، ففيه:

16 -

أن دين الإسلام دين العدل والحكمة والرحمة.

17 -

الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.

18 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»

(1)

.

19 -

دعوة من أسلم إلى الهجرة.

20 -

دعوة من أبى الإسلام من الكفار إلى بذل الجزية.

21 -

أن الجزية تؤخذ من عموم الكفار، لا تختص بأهل الكتاب، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، كما في قوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29].

22 -

أن الكافر الأصلي لا يكره على الدخول في الإسلام، بل يقر على دينه إذا أعطى الجزية.

23 -

الاستعانة بالله في قتال الكفار.

24 -

مشروعية الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وتجب الهجرة على من لم يستطع إظهار دينه، إلا أن يكون من المستضعفين.

(1)

رواه البخاري (25)، ومسلم (22)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما. وتقدم في مقدمة الباب.

ص: 116

25 -

أن من لم يستطع الهجرة وهو قادر على إظهار دينه فليس له من الغنيمة شيء، وكذلك الأعراب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.

26 -

أنه ليس للأمير أن يعطي لكافر -يريد العهد- عهدَ الله وعهدَ رسوله بل يعطيه عهده وعهد أصحابه.

27 -

بيان العلة في ذلك من الحديث: «فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ» .

28 -

أنه لا يجوز للأمير أن ينزل أحدًا من الكفار طَلب النزول على حكم الله، بل ينزلهم على حكمه وحكم أصحابه.

29 -

بيان العلة في ذلك: «فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا» .

30 -

أنه لا يجوز للمستفتي في المسائل الاجتهادية أن يقول: أريد حكم الله. ولا يجوز للمفتي أن يقول في جوابه: هذا حكم الله، بل يقول: هذا حكمي فيما ظهر لي.

31 -

جواز حصار الكفار في حصونهم لإنزالهم بعهد وأمان، أو إنزالهم للحكم فيهم بالقتل أو غيره.

32 -

جواز إضافة العهد والحكم إلى الله ورسوله بالعطف بالواو، وهكذا في كل الأمور الشرعية، كالإيمان بالله ورسوله، وطاعة الله ورسوله، ومحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

* * * * *

(1435)

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

(1)

البخاري (2947)، ومسلم (2769).

ص: 117

هذا طرف من حديث كعب بن مالك الطويل في غزوة تبوك، وذكر الثلاثة المخلَّفين الذين أحدهم كعب بن مالك، وقد تضمن هذا الطرفُ المذكور من سياسته صلى الله عليه وسلم في غزو العدو، وهو أنه إذا أراد غزو أحد من الكفار في ناحية من النواحي، ورَّى بأنه يريد غيرها، والمعنى أنه يقول كلامًا يوهم السامع أنه يريد ناحية غير تلك الناحية، كأن يسأل عن طريقها، أو مياهها، ليُعمِّي على العدو أنه يريدهم، ليأتيهم بغتة على غِرة، وذلك في حق من سبقت دعوتهم إلى الإسلام. والغرض من تلك السياسة قطع طمع من يريد التجسس على المسلمين، وإبلاغَ العدو خبر المسلمين، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في غزوة الفتح، وأنكر على حاطب رضي الله عنه ما وقع منه من إرسال كتاب لأهل مكة، لشبهة عرضت له، وقد غفر الله له.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية غزو الكفار لإعلاء كلمة الله.

2 -

جواز غزو الكفار على غِرة، ممن ليس له عهد، وقد دُعوا إلى الإسلام.

3 -

أن السياسة الشرعية من الدين، ومن ذلك سياسة الجهاد في سبيل الله.

4 -

الرد على من يقول: إن الدين لا شأن له في السياسة، فيدعو إلى فصل الدين عن الدولة.

5 -

أن من سياسة الجهاد المكرَ بالعدو، ومنه التورية، لكن لا بالغدر والخيانة.

6 -

جواز التورية بالفعل والكلام للحاجة فيما لا ظلم فيه، ولا مخالفة شرعية، ومن ذلك ما جاء في حديث الهجرة في البخاري

(1)

أن أبا بكر كان إذا سئل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيظنون أنه يدله الطريق، أي: الطريق الحسِّي، وهو يريد الطريق إلى الله.

(1)

البخاري (3699) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 118

(1436)

وعَنْ مَعْقِلٍ؛ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ قَالَ: «شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا لَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ أَخَّرَ الْقِتَالَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(1)

. وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ

(2)

.

* * *

تضمن هذا الحديث شيئًا من هديه صلى الله عليه وسلم في سياسة القتال، وهو أنه يغير على العدو صباحًا، سنةَ الله في عذاب الكافرين، فإذا لم يتيسر ذلك أخَّر القتال حتى تزول الشمس؛ لأنه وقت هبوب الرياح ونزول النصر.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية الجهاد لقتال الكفار.

2 -

تحري الأوقات المناسبة للغارة على العدو وبدء القتال.

3 -

أن أفضل الأوقات للغارة على العدو أول النهار.

4 -

أنه إذا لم يتهيأ القتال في الصباح فالسُّنَّة التأخير إلى ما بعد الزوال، والسبب في ذلك تعليل هذه السُّنَّة بأن ما بعد الزوال وقتُ هبوب الرياح ونزول النصر.

* * * * *

(1437)

وَعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّارِ مِنَ المُشْرِكِينَ يُبَيَّتُونَ، فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيهِمْ، فَقَالَ:«هُمْ مِنْهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

(1)

أحمد (23744)، وأبو داود (2655)، والترمذي (1613)، والنسائي في «الكبرى» (8583)، والحاكم (3/ 333).

(2)

البخاري (3160).

(3)

البخاري (3012)، ومسلم (1745).

ص: 119

هذا الحديث أصل في تبييت المشركين في مساكنهم، وقتلهم ومن معهم من النساء والذرية، إذا لم يمكن تمييزهم.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية الجهاد في سبيل الله بقتال المشركين.

2 -

جواز رميهم بما يعم، من يقاتل ومن لا يقاتل من النساء والصبيان؛ كالمنجنيق، وهو آلة تستعمل في ضرب العدو، يُرمى به الحجر العظيم.

3 -

في الحديث شاهد لقاعدة: يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا.

4 -

الإيجاز البليغ في جوابه صلى الله عليه وسلم: «هُمْ مِنْهُمْ» .

5 -

أن النساء والذرية لا يجوز قتلهم بالقصد؛ لما ورد من النهي عن ذلك، ولذا سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين «يُبَيَّتُونَ» .

6 -

أن من كثَّر سواد العدو من المسلمين فإن حُكمَه حكمُهم في الكفر وإباحة الدم.

7 -

أن حكم أولاد المشركين في الدنيا حكم آبائهم في الجملة.

8 -

اشتمال أحكام الجهاد في سبيل الله على الحكمة والرحمة مع سمو الغاية.

* * * * *

(1438)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ تَبِعَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: «ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في منع الاستعانة بالكافر والمشرك في الجهاد في سبيل الله.

(1)

مسلم (1817).

ص: 120

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الجهاد عبادة لا تصح إلا من مسلم.

2 -

أنه لا يجوز الاستعانة بالكافر في الجهاد، ولو تطوع بذلك، إلا عند الضرورة، ومما يدل لذلك ما رواه أبو داود عن ذي مخبر أو ذي مخمر مَرْفُوعًا، وفيه:«سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًا، فَتَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِكُمْ، فَتُنْصَرُونَ وَتَغْنَمُونَ وَتَسْلَمُونَ»

(1)

. الحَدِيْثَ.

3 -

أنه لا يستعان بأهل الذمة في القتال بأنفسهم، بل بأموالهم، في قتال الدفع.

4 -

وجوب الحذر من الكفار.

5 -

تحريم توليتهم الولايات في بلاد المسلمين.

* * * * *

(1439)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَأَنْكَرَ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1440)

وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْتُلُوا شُيُوخَ المُشْرِكِينَ، وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(3)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في تحريم قتل النساء والصبيان وهم المقصودون بقوله صلى الله عليه وسلم: «وَاسْتَبْقُوا شَرْخَهُمْ» عند قتال المشركين، وقد تضافرت السنة في ذلك، وقد استدل لهذا الحكم بقوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190]، على أحد وجوه التفسير لهذه الآية.

(1)

أبو داود (4292)، وأحمد (16825)، وابن ماجه (4089)، وابن حبان (6708)، والحاكم (4/ 467).

(2)

البخاري (3014)، ومسلم (1744).

(3)

أبو داود (2670)، والترمذي (1583).

ص: 121

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن قتال الكفار ليس لمجرد الكفر، بل لمباشرتهم قتال المسلمين، أو استعدادهم لذلك.

2 -

قتل الرجال البالغين من المشركين، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«اقْتُلُوا شُيُوخَ المُشْرِكِينَ» .

3 -

أن دين الإسلام دين العدل والرحمة للخلق.

4 -

أن الغاية من الجهاد الدخولُ في الإسلام، أو سيادة المسلمين على ذوي الشوكة.

5 -

تخصيص هذين الحديثين لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].

6 -

إنكار المنكر، وإن وقع خطأ.

* * * * *

(1441)

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه؛ أَنَّهُمْ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مُطَوَّلًا

(1)

.

(1442)

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَعْنِي:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَمَلَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ. رَوَاهُ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(2)

.

* * *

(1)

البخاري (3965)، وأبو داود (2665).

(2)

أبو داود (2512)، والترمذي (2972)، والنسائي (10962)، وابن حبان (4711)، والحاكم (2/ 94).

ص: 122

هذان الحديثان أصل في جواز تعريض المجاهد نفسَه للقتل بيد العدو بالمخاطرة والمغامرة، لا بيده وفعله، كما في العمليات الانتحارية، فإنها من قتل الإنسان نفسه.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

جواز المبارزة.

2 -

فضل الصحابة الذين تبارزوا يوم بدر، وهم عليٌّ وحمزة وعبيدة رضي الله عنهم، ويقابلهم من المشركين: شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وفيهم نزلت:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19].

3 -

التباين بين البشر في العمل والمصير؛ كما في الآيات بعد الآية المذكورة في سورة الحج.

4 -

أن الصحابة المذكورين ممن شهد بدرًا.

5 -

جواز انغماس المجاهد في العدو بالحمل على العدو، وإن غلب على ظنه الهلاك.

6 -

الرد على من ظن أن هذا من الإلقاء باليد إلى التهلكة المذكور في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .

7 -

تحريم الإلقاء بالنفس إلى التهلكة بالقعود عن الجهاد، أو المخاطرة التي ليس فيها مصلحة راجحة.

8 -

أن الإنسان لا يملك التصرف المطلق في نفسه؛ لأنها ليست ملكه، بل ملك الله.

9 -

التفسير الصحيح لهذه الآية هو ما ذكره أبو أيوب رضي الله عنه، وهو القعود عن الجهاد.

10 -

أن الهلاك يكون حسيًّا ومعنويًّا، فالحسيُّ بإراقة الدم، والمعنويُّ بالكفر والمعاصي، ومنها الشحُّ.

* * * * *

ص: 123

(1443)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: حَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَطَّعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في إتلاف أموال العدو من الكفار غيظًا لهم، وإن كانت تفوت على المسلمين، وقد تضمن الحديث بعض ما جرى في غزوة بني النضير، وهو قطع نخلهم، كما أشار إليه تعالى في قوله تعالى:{مَا قَطَعْتُم مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِين (5)} [الحشر: 5].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم جاهد بني النضير لا بالقتال، بل بحصارهم بغيظهم بإتلاف أعز أموالهم، وهي نخلهم.

2 -

جواز إتلاف أموال العدو غيظًا لهم.

3 -

فيه شاهد لقاعدة: تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أكبرهما.

4 -

جواز قطع النخل للحاجة والمصلحة.

5 -

شدة عداوة اليهود؛ لحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على غيظهم.

* * * * *

(1444)

وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَغُلُّوا؛ فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(2)

.

* * *

(1)

البخاري (4031)، ومسلم (1746).

(2)

أحمد (22776)، والنسائي (4149)، وابن حبان (4855).

ص: 124

هذا الحديث من أدلة تحريم الغلول، والغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل القسمة بغير إذن الإمام، ويلتحق بالغنيمة سائر أموال بيت المال، كما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ»

(1)

، وحديث ابن اللُّتبيَّة

(2)

.

والأحاديث في النهي عن الغلول وتعظيم أمره كثيرة، ومن ذلك ما جاء أن الغالَّ يأتي بما غلَّ يحمله يوم القيامة؛ بعيرًا أو شاة أو ذهبًا أو فضة، يدل لذلك من القرآن قوله تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

النهي عن الغلول.

2 -

أن الغلول سبب للفضيحة يوم القيامة، ومن ذلك أنه يأتي بما غل يحمله؛ إما بعير له رغاء، أو فرس لها حمحمة، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعَر، وهو معنى قوله:«فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ» .

3 -

أن الغلول سبب لدخول النار؛ لقوله: «نَارٌ وَعَارٌ» .

4 -

أنه كذلك نار وعار في الدنيا؛ لقوله: «فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» .

5 -

أن الغلول من الكبائر؛ لوعيد الغالِّ بالنار.

6 -

التحذير من الغلول بذكر الوعيد.

7 -

فيه شاهد للمجاز المرسل في قوله: «فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ» ، وهو من التعبير بالمسبَّب عن السبب.

8 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم حيث يقرن الحكم بعلته.

* * * * *

(1)

رواه أحمد (23601)، والبيهقي (4189)، والبزار (3723).

(2)

رواه البخاري (1500)، ومسلم (1832)؛ عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. وابن اللُّتبية هو رجل من بني أسد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فلما جاءه قال: هذا من عملكم وهذا أهدي لي. فقام النبي صلى الله عليه وسلم وخطب ثم قال: «فَما بالُ العامِلِ نَسْتَعْمِلُهُ، فَيَأْتِينا فيَقولُ: هذا مِنْ عَمَلِكُمْ، وهذا أُهْدِيَ لِي، أفَلا قَعَدَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ فَنَظَرَ: هلْ يُهْدَى له أمْ لا؟

إلخ».

ص: 125

(1445)

وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ

(1)

.

(1446)

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه؛ فِي قِصَّةِ قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ:«أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» قَالَا: لَا، قَالَ: فَنَظَرَ فِيهِمَا فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل في إعطاء القاتل سَلَب المقتول من الكفار، والسَّلَب: ما على المقتول أو معه من ثيابه وسلاحه ومركوبه، ولهذا الحديث شواهد من السنة صحيحة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم في الجاسوس الذي قتله سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:«لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ»

(3)

.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن السَّلَب للقاتل خاصة، ولا يدخل في الغنيمة، ولكن هل يستحقه بأصل حكم الشرع، ولو لم يصرح الإمام بذلك بقوله:«مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»

(4)

، أو لا بد من تصريح الأمير أو القائد؟ قولان للعلماء.

2 -

أن السَّلَب لا يُخمَّس وإن كان كثيرًا، بل كله للقاتل، ويؤيده ما جاء في الحديث نفسه:«قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، وَلَمْ يُخَمِّسِ السَّلَبَ» .

3 -

تشجيع المجاهدين على قتل المشركين، وإغراؤهم بهم، بتخصيص القاتل بأمر دنيوي؛ كسَلَب المقتول لقاتله، وتنفيله من الغنيمة.

4 -

حسن تدبير النبي صلى الله عليه وسلم بتفضيل من له مزيد غَناء ونفع في الجهاد.

(1)

أبو داود (2721)، ومسلم (1753).

(2)

البخاري (3141)، ومسلم (1752).

(3)

رواه البخاري (3051)، ومسلم (1754).

(4)

رواه البخاري (3142)، ومسلم (1751)؛ عن أبي قتادة رضي الله عنه.

ص: 126

5 -

أنه يستحب للأمير أن يشترط قبل القتال أو في أثنائه: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»

(1)

.

6 -

أن ذلك لا يقدح في نية المجاهد إذا كان أصل نيته إعلاء كلمة الله، كما لا يضر المجاهدين الرغبة في الغنيمة، وإن كان الذي لا يقصد شيئًا من ذلك أفضلَ وأوفرَ أجرًا.

7 -

أن للجهاد خصوصية في الترغيب فيه، لذلك أباح الله للمجاهدين غنيمة أموال الكفار، وسبيَ نسائهم وذراريهم، {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا} [الأنفال: 69].

8 -

أن أبا جهل -لعنه الله- قُتل يوم بدر.

9 -

أن الذي قتله معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سَلَبه.

10 -

أن ابنَي عفراء لم يقتلاه، بل ضرباه بسيفيهما، ولكن الضربة القاتلة كانت بيد معاذ بن عمرو بن الجموح رضي الله عنه.

11 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم بتطييب نفس الغلامين بقوله: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ» ، وإن فاتهما السَّلَب لم يفتهما الأجر؛ لصدق نيتهما، وفعلهما غاية ما يقدران عليه.

12 -

العمل بالقرائن؛ لقوله: فنظر فيهما، أي في سيفيهما.

13 -

فضل شباب الصحابة بمنافستهما الكبار في الجهاد.

14 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ»

(2)

.

* * * * *

(1)

تقدم قريبًا.

(2)

رواه أبو داود (4842)؛ عن عائشة رضي الله عنها، وذكره مسلم في مقدمته معلقًا عن عائشة رضي الله عنها، بلفظ:«أمرَنا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهم» .

ص: 127

(1447)

وَعَنْ مَكْحُولٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ المَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «المَرَاسِيلِ» ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(1)

.

(1448)

وَوَصَلَهُ الْعُقَيْلِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه

(2)

.

(1449)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ:«اقْتُلُوهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1450)

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثَةً صَبْرًا. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «المَرَاسِيلِ» ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(4)

.

(1451)

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ المُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ المُشْرِكِينَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(5)

. وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ

(6)

.

(1452)

وَعَنْ صَخْرِ بْنِ الْعَيْلَةِ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْقَوْمَ إِذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ

(7)

.

(1453)

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(8)

.

* * *

اشتملت هذه الأحاديث الستة على جملة من هديه صلى الله عليه وسلم في سياسة القتال والجهاد في سبيل الله:

(1)

أبو داود في «المراسيل» (321).

(2)

«الضعفاء الكبير» (2/ 243).

(3)

البخاري (3044)، ومسلم (1357).

(4)

«المراسيل» (323).

(5)

الترمذي (1568).

(6)

مسلم (1641).

(7)

أبو داود (3067).

(8)

البخاري (3139).

ص: 128

1 -

ضرب العدو بالمنجنيق، وهو آلة معروفة يرمى بها الحجر العظيم فيصيب الجمع من العدو، وقد يكون فيهم من ليس من أهل القتال، فيقتلون تبعًا.

2 -

أن من اشتدت عداوته من الكفار؛ كسابِّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يشمله التأمين العام ولا الخاص؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ»

(1)

، ومع ذلك أمر بقتل ابن خطل؛ لأنه كانت له جاريتان تغنيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم.

3 -

أنه صلى الله عليه وسلم قد يقتل بعض الأسرى صبرًا؛ لشدة عداوتهم، وإن فادى غيرهم أو عفا عنه.

4 -

مفاداة بعض أسرى المسلمين عند الكفار ببعض أسرى الكفار لدى المسلمين.

5 -

أنه صلى الله عليه وسلم لا يقتل من أسلم من الكفار حال القتال أو في الأسر؛ لأنه بإسلامه صار معصوم الدم والمال.

6 -

أنه صلى الله عليه وسلم ينظر إلى المصلحة في معاملة الأسرى من قتل أو عفو أو مفاداة.

وفي الأحاديث فوائد زيادة على ما تقدم؛ منها:

7 -

جواز قتال العدو بما يعم من لا يجوز قصده بالقتل؛ كالنساء والذرية، إذا لم يمكن الاحتراز منهم.

8 -

فيه شاهد لحديث سئل صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار يُبيَّتون وفيهم النساء والذرية، فقال:«هُمْ مِنْهُمْ»

(2)

.

9 -

مشروعية فعل الأسباب الواقية؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس المغفر.

(1)

رواه أبو داود (3022)، والبيهقي (3693)، والطبراني في «الكبير» (2764)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 167):«رجاله رجال الصحيح» .

(2)

رواه البخاري (3012)، ومسلم (1745)؛ عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه. وتقدم (1432).

ص: 129

10 -

أن سابَّ النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار لا أمان له، وأن البيت لا يعيذه ولو تعلق بأستاره.

11 -

مشروعية ستر الكعبة، وأنه موروث من قبل البعثة.

12 -

أن الإخبار عن الجاني ليس نميمة ولا وشاية.

13 -

أن من المعروف عند المشركين تعظيم البيت الحرام، والاحتماء فيه.

14 -

جواز قتل المرتد في مكة.

15 -

أنه لا يجب الإحرام على من أراد دخول مكة، وفي المسألة قولان للعلماء؛ أحدهما: أنه لا يجب إلا على من أراد حجًّا أو عمرة. الثاني: أنه يجب الإحرام على كل داخل إلا في أحوال مخصوصة، ومنها دخولها لقتال مباح، كحال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح.

16 -

جواز دخول مكة بلا إحرام حال القتال، لقوله:«وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ» . والمغفر: ما يغطي الرأس من الدِّرع.

17 -

جواز قتل الأسرى من الكفار أو بعضهم، إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك.

18 -

جواز العفو عن الأسرى، وهو المنُّ عليهم، إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك.

19 -

شكر النبي صلى الله عليه وسلم لجميل المطعم بن عدي الذي دخل النبي صلى الله عليه وسلم في جواره يوم رجع من الطائف إلى مكة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا

» إلخ. مع أن المطعم كان مشركًا، والمراد بالنتنى: الأسرى من الكفار في بدر.

20 -

جواز غيبة الكافر؛ لقوله: «هَؤُلَاءِ النَّتْنَى» ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في الغيبة: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَه»

(1)

، والكافر ليس أخًا.

* * * * *

(1)

رواه مسلم (2589)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 130

(1454)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: أَصَبْنَا سَبَايَا يَوْمَ أَوْطَاسٍ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ، فَتَحَرَّجُوا، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في حل السبايا ذوات الأزواج من الكفار، ويوم أوطاس هو يوم حنين؛ فإن أوطاس موضع قريب من حنين، وهما بين مكة والطائف، وكانت الغزوة في السنة الثامنة بعد فتح مكة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم غزوة أوطاس، وهو اسم لغزوة حنين، سميت بهذا وهذا لتقارب الموضعين، قال ابن حجر:(أوطاس) اسم واد في ديار هوازن، وهو موضع حرب حنين

(2)

.

2 -

جواز سبي النساء، وإن كن ذوات أزواج.

3 -

انفساخ نكاح المسبية من زوجها الكافر.

4 -

حل وطء الأمة المملوكة بملك اليمين وإن كانت غير كتابية، وقد ذهب جماهير العلماء الأئمة الأربعة وجمهور أتباعهم إلى أنه لا يحل وطء الأمة غيرِ الكتابية بملك اليمين، كما لا يحل نكاحها؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، واستثني من ذلك حرائر أهل الكتاب؛ لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، أي: وأُحِلَّ لكم المحصنات

، وهن الحرائر العفيفات، فبقيت الإماء المشركات على حكم قوله تعالى:{وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} ، وذهب جمع من العلماء إلى جواز

(1)

مسلم (1456).

(2)

«فتح الباري» (8/ 42).

ص: 131

التسري بالأمة وإن لم تكن كتابية، استدلالًا بما جاء في شأن سبايا أوطاس، وهو قول قويٌّ، وتكون آية البقرة {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} مخصصةً بالسنة، وهو ما ورد في شأن سبايا أوطاس، والله أعلم.

5 -

ورع الصحابة عن الإقدام على ما اشتبه حله عليهم.

6 -

أن قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} [النساء: 24] في شأن سبايا أوطاس، وكنَّ ذوات أزواج، فتحرج الصحابة من وطئهن.

7 -

تفسير هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، فلا يستدل بها على حلِّ الأمة ذات الزوج المسلم، فإنها لا تحل لسيدها، ولا يملك فسخ نكاحها من زوجها، حرًّا كان أو عبدًا.

8 -

تبيين الله لأحكام النكاح، ورفع الحرج عن عباده، كما قال تعالى في آخر هذه الآيات:{يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم (26)} [النساء: 26].

9 -

ثبوت الرق في الإسلام، وأن أصله السبي في الجهاد.

* * * * *

(1455)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً وَأَنَا فِيهِمْ قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1456)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(2)

. وَلِأَبِي دَاوُدَ: أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ، وَسَهْمًا لَهُ

(3)

.

(1)

البخاري (3134)، ومسلم (1749).

(2)

البخاري (4228)، ومسلم (1762).

(3)

أبو داود (2733).

ص: 132

(1457)

وَعَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا نَفْلَ إِلَّا بَعْدَ الخُمُسِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الطَّحَاوِيُّ

(1)

.

(1458)

وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفَّلَ الرُّبُعَ فِي الْبَدْأَةِ، وَالثُّلُثَ فِي الرَّجْعَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(2)

.

(1459)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنْ السَّرَايَا لِأَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْشِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1460)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ، فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِأَبِي دَاوُدَ: فَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْخُمُسُ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(4)

.

(1461)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما قَالَ: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْجَارُودِ وَالْحَاكِمُ

(5)

.

(1462)

وَعَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ المُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ، وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ المُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ، وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ

(6)

.

* * *

(1)

أحمد (15862)، وأبو داود (2754)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (5225).

(2)

أبو داود (2750)، وابن الجارود في «المنتقى» (1079)، وابن حبان (4835)، والحاكم (2655).

(3)

البخاري (3135)، ومسلم (1750).

(4)

البخاري (3154)، وأبو داود (2701)، وابن حبان (4825).

(5)

أبو داود (2704)، وابن الجارود (1072)، والحاكم (2634).

(6)

أبو داود (2708)، والدارمي (2488).

ص: 133

هذه الأحاديث تضمنت صفة قسم الغنيمة، وما يحل أخذه منها قبل تخميسها من النفل وغيره.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

حل الغنائم للمجاهدين، قال تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا} [الأنفال: 69].

2 -

أن الجيش يشاركون السرية فيما غنمت.

3 -

أن للإمام أن يُنفِّل السرية، أي يفضلها على سائر الجيش مما غنمت.

4 -

أن الغنيمة بين المجاهدين للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم.

5 -

أنه لا نَفَل إلا بعد الخمس، أي: تنفيل بعض الجيش يكون من أربعة أخماس الغنيمة.

6 -

أن الإمام ينفل السرية المنبعثة من الجيش في بدء الغزو ربع ما غنمت، أي تختص به دون سائر الجيش، وإن كان بعثُها بالرجوع فينفلها ثلث ما غنمت.

7 -

أن الطعام والفاكهة والعسل ونحوها يجوز لأفراد الجيش الأكل منها قدر الحاجة، من غير ادخار، قبل التخميس.

8 -

أنه ليس للمجاهد أن يستعمل شيئًا من الغنيمة من دابة وثوب، فيستهلك منفعته، ثم يرده فيها.

* * * * *

(1463)

وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُجِيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ

(1)

.

(1464)

وَلِلْطَيَالِسِيِّ: مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «يُجِيرُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ»

(2)

.

(1)

ابن أبي شيبة (34068)، وأحمد (1695).

(2)

«مسند الطيالسي» (1063).

ص: 134

(1465)

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» : عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ»

(1)

.

(1466)

زَادَ ابْنُ مَاجَه مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: «ويُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ»

(2)

.

(1467)

وَفِي ««الصَّحِيحَيْنِ» »: مِنْ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ رضي الله عنها: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ»

(3)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث حكم إجارة المسلم للكافر، والمراد أن يكون في عهدٍ من المسلم، بألا يعتدي عليه أحد من المسلمين.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز إجارة المسلم للكافر.

2 -

أن لكل مسلم أن يجير من الكفار من لا ضرر على المسلمين بجواره.

3 -

إباحة جوار المرأة.

4 -

إباحة جوار العبد.

5 -

أن محل هذا الجوار في الواحد والجماعة القليلة من الكفار، بأمر جزئي، أما جوار أمة أو أهل بلد فليس ذلك إلا للإمام.

* * * * *

(1468)

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

* * *

(1)

البخاري (1870)، ومسلم (1370).

(2)

ابن ماجه (2685)، ولفظه:«وَيَرُدُّ عَلَى المُسْلِمِينَ أَقْصَاهُمْ» ؛ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(3)

البخاري (3171)، ومسلم (336).

(4)

مسلم (1767).

ص: 135

هذا الحديث أصل في وجوب تخصيص جزيرة العرب للمسلمين، وتطهيرها من غيرهم، ويشهد لهذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم عند موته كما في «الصَّحِيحَيْنِ»:«أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ»

(1)

، وعند البزار وغيره:«أَخْرِجُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى»

(2)

، وفي الموطأ:«لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ»

(3)

، والمراد بجزيرة العرب على ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من البحر الأحمر إلى الخليج العربي، ومن أقصى حِجْرِ اليمامة إلى أوائل الشام، قال شيخ الإسلام:«ولا تدخل فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعثة وقبلها»

(4)

.

وفي هذه الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

فضل جزيرة العرب.

2 -

وجوب تطهيرها من اليهود والنصارى والمشركين.

3 -

تحريم منح الجنسية والإقامة الدائمة لأي كافر في جزيرة العرب.

4 -

وصية النبي صلى الله عليه وسلم عند موته بإخراج المشركين من جزيرة العرب، كما جاء في إحدى روايات الحديث

(5)

.

5 -

أن عمر رضي الله عنه هو الذي نفذ وصية النبي صلى الله عليه وسلم في إخراجهم من جزيرة العرب.

6 -

تحريم بناء الكنائس وغيرها من المعابد في جزيرة العرب.

* * * * *

(1)

البخاري (3053)، ومسلم (1637)؛ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

البزار (230)، والبيهقي (18583)؛ من حديث عمر رضي الله عنه.

(3)

«الموطأ» (3323)؛ من حديث عمر رضي الله عنه، كما رواه عن عائشة رضي الله عنها: أحمد (6/ 275)، وابن جرير الطبري في «التاريخ» (3/ 215)، والطبراني في «الأوسط» (1070).

(4)

«اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (1/ 166).

(5)

وهي في البخاري (3053)، ومسلم (1637)؛ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: وأوصى عند موته بثلاث: «أَخْرِجُوا المشْرِكينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ

إلخ».

ص: 136

(1469)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، مِمَّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

تضمن هذا الحديث جانبًا من غزوة بني النضير، وقد غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة من الهجرة، فلم يكن قتال، ورضوا بالجلاء، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام، وأذن لهم أن يأخذوا من أموالهم ما يقدرون عليه، عدا السلاح والكراع، والمراد به الخيل، ولذا صاروا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، ليأخذوا منها ما أمكنهم، فعادت أموالهم للمسلمين فيئًا لا غنيمة، وقد جعل الله مصارف الفيء مصارف خمس الغنيمة، وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان يرصد لأهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

غزو النبي صلى الله عليه وسلم ليهود بني النضير.

2 -

أنه لم يقع بينهم قتال.

3 -

أن أمرهم انتهى بالجلاء.

4 -

أن مصرف الفيء هو مصرف خمس الغنيمة.

5 -

أنه نزل في شأن هذه الغزوة سورة الحشر.

6 -

أن فيء بني النضير كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.

7 -

أن ما جلى عنه الكفار من أموالهم يكون فيئًا للمسلمين.

8 -

أن ما فتح من بلاد الكفار بلا قتال فأمره إلى الإمام.

(1)

البخاري (2904)، ومسلم (1757).

ص: 137

9 -

جواز ادخار نفقة سنة، وأن ذلك لا ينافي التوكل.

10 -

أن من أهم مصارف المال الجهاد.

11 -

الاستعداد للجهاد بشراء السلاح والخيل.

* * * * *

(1470)

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ، فَأَصَبْنَا فِيهَا غَنَمًا، فَقَسَمَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم طَائِفَةً، وَجَعَلَ بَقِيَّتَهَا فِي المَغْنَمِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ لَا بَأْسَ بِهِمْ

(1)

.

* * *

تضمن هذا الحديث بعض ما جرى في غزوة خيبر، وفيها اليهود، وهي إحدى غزوات النبي صلى الله عليه وسلم الكبرى، وكانت في السنة السابعة من الهجرة، وقد غنم المسلمون منها، وسبوا، وكان مما غنموه غنمٌ.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر.

2 -

عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب وغيرهم؛ ففي الحديث شاهد لقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد (20)} [آل عمران: 20]، وفي هذه الغزوة دعا النبي صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام وقاتلهم، كما في حديث الراية التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم عليًا رضي الله عنه.

3 -

أن الصحابة ظفروا بغنم من غنم العدو، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بعضها على المجاهدين لحاجتهم، ورد الباقي في الغنيمة لتخميسها وقسمها.

4 -

أن قسم الغنائم إلى الإمام.

(1)

أبو داود (2707).

ص: 138

5 -

أن المجاهدين إذا أصابوا شيئًا من أموال العدو فإنه يكون من جملة الغنيمة، لكن يجوز للإمام أن يقسم بعضها قبل التخميس، لحاجة الجيش إلى الطعام أو اللحم.

* * * * *

(1471)

وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الرُّسُلَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

تضمن هذا الحديث شيئًا من هديه صلى الله عليه وسلم في السياسة في معاملة الكفار.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أنه صلى الله عليه وسلم لا ينكث العهد، ولا يغدر، وهذا ما وصفه به أبو سفيان في أسئلة هرقل:«قَالَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ قَالَ: لَا»

(2)

. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنه لا يخيس بالعهد، أي: لا ينكث العهد، بل هو أوفى الناس بالعهد. وهذا ما يوصي به أمراءه إذا سيرهم، كما تقدم في حديث بريدة:«وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا»

(3)

.

2 -

أنه صلى الله عليه وسلم لا يحبس الرسل من قبل العدو، أي: لا يأسرهم، فضلًا عن أن يقتلهم. هذا وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:«وَاللهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا»

(4)

. قاله لرسولي مسيلمة.

3 -

تحريم الغدر، ووجوب الوفاء بالعهد.

4 -

تحريم قتل رسل العدو وحبسهم.

5 -

أن أحكام السياسة من الدين، ومن أحكام شريعة الإسلام.

(1)

أبو داود (2758)، والنسائي في «الكبرى» (8621)، ابن حبان (4877).

(2)

رواه البخاري (7)، ومسلم (1773)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

رواه مسلم (1731). وتقدم برقم (1429).

(4)

رواه أحمد (15989)، وأبو داود (2761)، والبيهقي في «الكبرى» (18776)، وصححه الحاكم (2689)؛ عن نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه.

ص: 139

6 -

اشتمال أحكام الشريعة على الحكمة التي يقتضيها النظر والفطرة.

7 -

الرد على من يفصل بين الدين والسياسة.

* * * * *

(1472)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيُّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا فَأَقَمْتُمْ فِيهَا فَسَهْمُكُمْ فِيهَا، وَأَيُّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّ خُمُسَهَا لِله وَرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

مقصود هذا الحديث الفرق بين قرى الكفار؛ المسالم منها والمحارب، أما المسالم فنصيب المسلمين منها ما يدفعه لهم أهلها في مقابل الصلح من جزية أو خراج، وإن كان المراد القرية التي جلا أهلها عنها ونزلها المسلمون بلا قتال، فهي فيء، فلا يختص المجاهدون منها بشيء، بل سهمُهم فيها -أي حظُّهم من العطاء- كسهم غيرهم.

وأما المحارب منها فإنه إذا ظهر المسلمون عليها فكلها غنيمة، فخمسها لمن ذكر الله في قوله سبحانه:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]، وأربعة الأخماس للمجاهدين، ويُخيَّر الإمام بين قسمها على الغانمين، أو وقفها على المسلمين وضرب الخراج عليها، سُنَّةَ عمرَ رضي الله عنه في سواد العراق.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن ما فتحه المسلمون من بلاد الكفار صلحًا، فسهمهم فيها ما جرى عليه الصلح من جزية أو خراج، وما جلا أهله عنه فإنه يكون فيئًا للمسلمين يصرف في المصالح العامة.

(1)

مسلم (1756).

ص: 140

2 -

أن ما فتحه المسلمون عنوة فهو غنيمة؛ خمسها لمن ذكر الله، وأربعة الأخماس للمجاهدين.

3 -

أن سبب تسليط الله للمسلمين على الكافرين هو معصيتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالكفر وغيره من المعاصي، وبهذا تكون الديار ثلاثاً: دار الصلح، ودار الحرب، وكلاهما دار كفر، ودار الإسلام.

* * * * *

ص: 141

‌بَابُ الجِزْيَةِ وَالهُدْنَةِ

قوله: «بَابُ الجِزْيَةِ وَالهُدْنَةِ» ، أي: هذا باب ذكر أدلة الهدنة والجزية من السُّنَّة، والجزية: فِعلة من الجزاء، وهي ما يفرض من المال على الكفار إذا أبوا الإسلام، ورضوا بعقد الذمة لهم، والهدنة: العهد الموقت على ترك القتال.

* * * * *

(1473)

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَهَا -يَعْنِي: الْجِزْيَةَ- مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَلَهُ طَرِيقٌ فِي (المُوَطَّإِ) فِيهَا انْقِطَاع

(1)

.

(1474)

وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ، فَأَخَذُوهُ، فَحَقَنَ دَمَهُ، وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

(2)

.

(1475)

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ، وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِريًّا. أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(3)

.

* * *

هذه الأحاديث هي الأصل من السنة على أخذ الجزية من طوائف الكفار، في مقابل الكف عنهم وبقائهم على دينهم الباطل، ويشهد لهذه الأحاديث حديث بريدة المتقدم

(4)

، وفيه:«فَإِنْ هُمْ أَبَوْا -يعني الإسلام- فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيَةَ» .

(1)

البخاري (3157). وينظر: «الموطأ» (968).

(2)

أبو داود (3037).

(3)

أبو داود (1576)، والترمذي (623)، والنسائي (2450)، وابن حبان (4886)، والحاكم (1450)، وتقدم في كتاب الزكاة برقم (687).

(4)

تقدَّم برقم (1429).

ص: 142

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أخذ الجزية من المجوس.

2 -

أخذ الجزية من النصارى؛ فإن أُكَيْدِرَ دُومة الجندل كان نصرانيًا، على ما ذكره ابن الأثير في أسد الغابة

(1)

وابن حجر في «فتح الباري»

(2)

وغيرهما، ودُومة الجندل معروفة بهذا الاسم إلى اليوم، في منطقة الجوف.

3 -

فرض الجزية على الكفار، والمراد بالحالم: المحتلم، وهو البالغ.

4 -

أن الجزية إذا فرضت ذهبًا أو فضة جاز أخذ العروض بدلًا عنها.

* * * * *

(1476)

وَعَنْ عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو المُزَنِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ

(3)

.

(1477)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

* * *

هذان الحديثان تضمَّنا علو الإسلام شرعًا وقدرًا على غيره من الأديان، وعزة أهله على غيرهم من أهل الملل والأديان.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

البشارة بظهور هذا الدين على الدين كله.

2 -

وجوب إعلاء كلمة الله.

3 -

تحريم كل ما يؤدي إلى خفض الإسلام.

(1)

«أسد الغابة» (1/ 173).

(2)

«فتح الباري» (5/ 231).

(3)

الدارقطني (3620).

(4)

مسلم (2167).

ص: 143

4 -

جواز عقد الذمة دائمًا أو موقتًا مع الكفار.

5 -

تحريم بدء المعاهدين بالسلام، وجواز الرد.

6 -

تحريم إظهار الاحترام لهم، ومع ذلك يحرم ظلمهم وإيذاؤهم.

* * * * *

(1478)

وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ -فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ- وَفِيهِ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو: عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهَا النَّاسُ، وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

، وَأَصْلُهُ فِي الْبُخَارِيِّ

(2)

.

(1479)

وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه، وَفِيهِ: أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُّمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالُوا: أَنَكْتُبُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا»

(3)

.

(1480)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(4)

.

* * *

تضمَّن الحديثان أولًا: نص صلح الحديبية بين المسلمين والمشركين. ثانيًا: حكم قتل المعاهد.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

جواز الصلح بين المسلمين والكفار.

(1)

أبو داود (2766).

(2)

البخاري (2731 - 2732).

(3)

مسلم (1784).

(4)

البخاري (3166).

ص: 144

2 -

أن صلح الحديبية تضمن ثلاثة أمور:

1 -

وقف القتال مدة عشر سنين.

2 -

أن من جاء من المشركين إلى المسلمين فإنه يرد إليهم.

3 -

ومن جاء من المسلمين إلى المشركين فإنهم لا يردونه.

3 -

ذكر الحكمة من هذه الشروط.

4 -

أن العاقبة للمتقين.

5 -

وجوب الوفاء بالعهد.

6 -

تحريم قتل المعاهد.

7 -

أنه من كبائر الذنوب.

8 -

أن للجنة رائحة، وأنها تشم من بعد.

9 -

عظم نعيم الجنة.

10 -

أن (راح) يأتي بمعنى شمَّ، ومضارعه: يراح. فهو من باب نال ينال. وهذه فائدة لغوية.

* * * * *

ص: 145

‌بَابُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ

قوله: «بَابُ السَّبْقِ وَالرَّمْيِ» ، أي هذا باب بيان حكم السِّباق، وذكر الدليل عليه من السنة، والسَّبْق بفتح السين وسكون الباء مصدر سبَق، والأشبه أنه في الترجمة اسمُ مصدر سابق يسابق سباقًا، والسَّبَق بفتح السين والباء هو المال الذي يبذل للسابق.

والرَّمي: إرسال السهم بالقوس ونحوه، والرامي هو الفاعل، والرَّمِيُّ أو الرَّمِيَّة ما يقع عليه السهم.

* * * * *

(1481)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «سَابَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْلِ الَّتِي قَدْ أُضْمِرَتْ مِنْ الْحَفْيَاءِ، وَكَانَ أَمَدُهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِيمَنْ سَابَقَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

. زَادَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ سُفْيَانُ: «مِنْ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ، أَوْ سِتَّةٌ، وَمِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ»

(2)

.

(1482)

وَعَنْهُ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبَّقَ بَيْنَ الْخَيْلِ، وَفَضَّلَ الْقُرَّحَ فِي الْغَايَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(3)

.

(1483)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ نَصْلٍ، أَوْ حَافِرٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالثَّلَاثَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(4)

.

(1)

البخاري (420)، ومسلم (1870).

(2)

البخاري (2868).

(3)

أحمد (6466)، وأبو داود (2577)، وابن حبان (4688).

(4)

أحمد (10138)، وأبو داود (2574)، والترمذي (1700)، والنسائي (3587)، وابن حبان (4690).

ص: 146

هذه الأحاديث هي أصل في مشروعية السباق.

وفيها فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية السِّباق بين الخيل.

2 -

المفاضلة بين الخيل في المدى، أي: في مسافة السباق.

3 -

وجوب الإعلام بالابتداء والانتهاء لميدان السباق.

4 -

تفضيل الخيل المضمَّرة والقُرَّح. والمضمرَّة: هي التي تجوَّع حتى يخف وزنها بعد السِّمَن، والقُّرَّح: هي المسنَّة التي تم لها أربع سنين، جمع قارح.

5 -

جواز تجويع البهيمة للمصلحة.

6 -

فضل الخيل وأنها عدة في الحرب، ففيه شاهد لقوله:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].

7 -

مشروعية السباق على الخيل والإبل، وفي الرمي.

8 -

نسبة الفعل إلى الآمر به؛ لأن قوله: «سَابَقَ» أي: أمر أو أباح.

9 -

جواز أخذ السَّبَق على السَّبْق في هذه الثلاثة، ويحرم أخذه في السباق على غيرها.

10 -

عظم شأن الجهاد في الإسلام، ووجوب الإعداد له.

11 -

جواز إضافة المسجد إلى قوم مخصوصين، وقد ترجم له البخاري بذلك في كتاب الصلاة.

* * * * *

ص: 147

(1484)

وَعَنْهُ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ -وَهُوَ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُسْبَقَ- فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ أَمِنَ فَهُوَ قِمَارٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث هو حجة من قال: لا يجوز أن يكون السَّبَق من المتسابقَين إلا أن يكون معهما محللٌ، أي: مسابقٌ ثالث، وذلك إذا كان السَّبَق من المتسابقين لتزول به مفسدة القمار، الذي حقيقته أن كلًّا من المتسابقين إما أن يغنم أو يغرم، وهذا هو الواقع إذا كان السَّبَق منهما، لذلك قال من منع ذلك: إن ذلك لا يجوز إلا أن يَنضمَّ مع المتسابقين ثالث، وتكون فرسه مكافئة لفرسيهما في العدو، ولا يدفع هو شيئًا، فإن سبَق أخذ ما في يدي صاحبيه، وإن سُبق -أي: كان السابق أحدُهما- لم يغرم الثالث شيئًا، فإن دخل وهو لا يأمَن أن يسبقه أحدهما، ففي هذه الحال لا بأس به؛ لأنه إن سبق أخذ ما في يديهما، وإن سُبق لم يغرم شيئًا، فإن أمِن أن يُسبق، أي: علم أنه سابق ولا بد فلا معنى لدخوله؛ لأن السباق مبنيٌّ على التكافؤ والتنافس، وإن أمن أن يَسبقهما، أي: علم أنه لا يسبق فلا تزول بدخوله مفسدة القمار؛ لأن وجوده حينئذ كعدمه.

وبعد: فهذا كله على القول بأنه إذا كان السَّبَق من المتسابقين كان قمارًا، وعلى القول بصحة الحديث، وكلٌّ من الأمرين ممنوع؛ فالحديث الصواب أنه ضعيفٌ، وبذل المتسابقين للسَّبَق ليس قمارًا، وإن قدِّر أنه يشبه القمار فهو مخصوصٌ بأدلة إباحة السَّبَق، دون تعيين لباذله، ونظرًا لأن الحديث ضعيف واشتراط المحلل قول ضعيف، فلا يشتغل باستنباط الفوائد؛ لأنه لا معنى لذلك. والله أعلم.

* * * * *

(1)

أحمد (10557)، وأبو داود (2579).

ص: 148

(1485)

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ يَقْرَأُ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ} الآية [الأنفال: 60]، «أَلَا إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث من أحاديث التفسير النبوي للقرآن، وهو أبلغ قول في تعظيم شأن الرَّمي في الجهاد، فتطابق على ذلك دلالة الكتاب ودلالة السنة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

تلاوة القرآن في الخطبة.

2 -

الخطبة في الحث على جهاد الكفار.

3 -

وجوب الاستعداد للجهاد، وهذا الحكم يقتضيه كل ما ورد من الأمر بالجهاد؛ فإن الأمر بالشيء أمر به وبوسائله.

4 -

أن شرط الوجوب الاستطاعة، وهذا في كل الواجبات. ولهذا قيل: لا واجب مع العجز.

5 -

أن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الآية على المنبر تأويل لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65].

6 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا»

(2)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:«ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا»

(3)

، والأحاديث في تعلم الرمي كثيرة.

7 -

الحكمة في مشروعية الإعداد لحرب الكفار، وهي الإرهاب لهم.

(1)

مسلم (1917).

(2)

رواه أحمد (17300)، والترمذي (1637)، وابن ماجه (2811)، وصححه الحاكم (2522)؛ عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (4695)؛ عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

ص: 149

8 -

أن المقتضي للإرهاب عداوةُ الكفار لله وللمؤمنين؛ من المحاربين والذميين والمعاهدين.

9 -

أن من الإرهاب ما هو واجب، وهو المذكور في هذه الآية. ومن الإرهاب ما هو حرام؛ كالإرهاب بالظلم على الأنفس والأموال والأعراض؛ كالمحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، الساعين في الأرض بالفساد.

* * * * *

ص: 150

‌كِتَابُ الأَطْعِمَةِ

ص: 151

الأطعمة: جمع طعام، وهو كل مأكول يطعمه الإنسان من نبات وحيوان، مما للإنسان فيه صنع، أو ليس له فيه صنع. والأصل في الطعام الحل، قال تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا} [النحل: 114]، وقال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29]، والحرام من الطعام إما أن يكون لحق الله كالميتة والدم، أو لحق العباد كالمغصوب؛ فالأول تحريمه ذاتي عيني، والثاني تحريمه عرَضي. ولا يدخل في هذا الباب حكم الأشربة؛ لأن الطعام أخص بالمأكول، وإن كانت تُطعم، ولهذا عقد العلماء بابين: باب الأطعمة، وباب الأشربة.

* * * * *

(1486)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، فَأَكْلُهُ حَرَامٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1487)

وَأَخْرَجَهُ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما بِلَفْظٍ: نَهَى. وَزَادَ: «وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ»

(2)

.

(1488)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: «وَرَخَّصَ»

(3)

.

(1489)

وَعَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ، نَأْكُلُ الْجَرَادَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

* * *

اشتملت هذه الأحاديث على ذكر بعض ما يحل وبعض ما يحرم من الحيوان.

(1)

مسلم (1933).

(2)

مسلم (1934).

(3)

البخاري (4219)، ومسلم (1941).

(4)

البخاري (5495)، ومسلم (1952).

ص: 153

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم كل ذي ناب من السِّباع؛ كالذئب والفهد والأسد.

2 -

أن التحريم مختص بما اجتمع فيه الوصفان؛ الناب والسبعية، فخرج بذلك الضبع؛ فإنها ليست معدودة من السباع، وأيضًا فنابها ليس كناب سائر السباع العاديَة.

3 -

تحريم كل ذي مخلب من الطير؛ كالباز والصقر والعقاب، والمخلب هو ظفر كل ما يصيد. وظفر ما لا يصيد ليس بمخلب، فبين الظفر والمخلب عموم وخصوص؛ فكل مخلب ظفر، وليس كل ظفر مخلبًا.

4 -

تحريم لحم الحمر الأهلية، ويقال لها: الإنسية، وهي التي ينتفع بها في الركوب، قال تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]، وخرج بقوله الحمر الأهلية حمر الوحش؛ فإنها حلال.

5 -

أن تحريم الحمر كان يوم خيبر.

6 -

الرد على من قال بحلها.

7 -

أنها كانت حلالًا ثم نسخ ذلك.

8 -

أن هذه المحرمات من الخبائث؛ لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

9 -

أن كل ما حرمه الله فهو خبيث يورث آكله شيئًا من طبيعته الخبيثة؛ من شراسته أو بلادته.

10 -

حل لحوم الخيل؛ لقوله: وأذن. وإلى حلها ذهب جمهور العلماء، وخالف في ذلك أبو حنيفة، مستدلًا بقوله تعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8]، قال: ولم يذكر الأكل، وأجيب بأن الآية مكية، والإذن بالخيل في غزوة خيبر. هذا على تقدير صحة الاستدلال. وفيه نظر.

ص: 154

11 -

حل الجراد. وما ذكر في الحديث من أكلهم الجراد سنةٌ فعلية إن كان الرسول صلى الله عليه وسلم أكل منه، أو تقريرية إن كان لم يأكل، وجاء في رواية البخاري:«نَأْكُلُ مَعَه»

(1)

، والظاهر من هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل معهم الجراد.

* * * * *

(1490)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه -فِي قِصَّةِ الْأَرْنَبِ- قَالَ: «فَذَبَحَهَا، فَبَعَثَ بِوَرِكِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبِلَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1491)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ أَرْبَعٍ مِنْ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةِ، وَالنَّحْلَةِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالصُّرَدِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(3)

.

(1492)

وَعَنِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: «قُلْتُ لِجَابِرٍ: الضَّبُعُ صَيْدٌ هِيَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: قَالَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ

(4)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت بعض ما يحل وما يحرم من الدواب والطير.

وفيها فوائد؛ منها:

1 -

حل الأرنب.

2 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من لحم الأرنب.

3 -

تواضع النبي صلى الله عليه وسلم إذ قبل ورك الأرنب هدية، وهي شيء يسير.

(1)

البخاري (5495).

(2)

البخاري (2572)، ومسلم (1953).

(3)

أحمد (3066)، وأبو داود (5267)، وابن حبان (5646)، وينظر:«البدر المنير» (6/ 345)، و «التلخيص الحبير» (2/ 524).

(4)

أحمد (14425)، وأبو داود (3801)، والترمذي (851)، والنسائي (2836)، وابن ماجه (3236)، وصححه البخاري كما في «التلخيص الحبير» (2/ 529)، وابن حبان (3965).

ص: 155

4 -

أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم قبول الهدية.

5 -

تحريم قتل الدواب الأربع المذكورة في حديث ابن عباس: النملة والنحلة والهدهد والصُّرَد.

6 -

تحريم أكلهن.

7 -

من القواعد المستنبطة في الحلال والحرام: أن ما نهينا عن قتله فإنه يحرم أكله؛ ووجه ذلك أنه لو كان حلالًا لما نهينا عن قتله؛ إذ لا يمكن الانتفاع به أكلا إلا بقتله.

8 -

حل أكل الضَّبُع.

9 -

أنها من صيد البر الذي لا يحرم إلا على المحرم: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، ولذا جاء في الحديث نفسه في جزاء قتل المحرم لها: كبشٌ.

10 -

أن من هدي السلف السؤال عن الأحكام الشرعية.

11 -

السؤال عن الدليل استرشادًا لا تعنتًا، من غير العامي.

* * * * *

(1493)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْقُنْفُذِ، فَقَالَ:{قُلْ لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية [الأنعام: 145]، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «خَبْثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ

(1)

.

(1494)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا» . أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ

(2)

(1)

أحمد (8954)، وأبو داود (3799)، قال الخطابي كما في «التلخيص الحبير» (4/ 186):«ليس إسناده بذاك» . وقال البيهقي: «فيه ضعف، ولم يرو إلا بهذا الإسناد» .

(2)

أبو داود (3785)، والترمذي (1824)، وابن ماجه (3189)، وينظر: الإرواء (8/ 149).

ص: 156

(1495)

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه -فِي قِصَّةِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ- «فَأَكَلَ مِنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1496)

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: «نَحَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا، فَأَكَلْنَاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1497)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1498)

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْقُرَشِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الضِّفْدَعِ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ، فَنَهَى عَنْ قَتْلِهَا. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(4)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت ذكر بعض ما يحل وبعض ما يحرم من الحيوان.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

كراهة أكل القنفذ؛ لأنه يأكل الحيات، أما الحديث فضعيف، والأصل في الأشياء الحل، كما جاء في هذه الرواية عن ابن عمر الاستدلالُ على حله بقوله تعالى:{قُلْ لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145].

2 -

الاكتفاء في الفتوى بذكر الدليل دون الحكم.

3 -

تعليق إثبات الحكم على صحة الدليل.

4 -

تحريم الجلَّالة، وهي التي تأكل النجاسات، لكن تحريمها مؤقت، حتى تُغذَّى بغذاء طيب، فيزول أثر غذائها الخبيث. وليس لهذا مدة مقدرة، بل ما يغلب على الظن في العادة.

(1)

البخاري (2570)، ومسلم (1196)(63).

(2)

البخاري (5510)، ومسلم (1942).

(3)

البخاري (2575)، ومسلم (1947).

(4)

أحمد (15757)، والحاكم (8330).

ص: 157

5 -

حل الحمر الوحشية، وهو إجماع.

6 -

حل أكل لحم الخيل، وقد سبق أنه صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية، وأذن في الخيل، وسبقت الإشارة إلى الخلاف فيه

(1)

.

7 -

أن ما يذبح يجوز نحره، وما ينحر يجوز ذبحه.

8 -

حل أكل الضب، وهو من السُّنة التقريرية، بل من القولية أيضًا.

9 -

النهي عن قتل الضفدع، وقد روي النهي عن قتلها؛ لأن نقيقها تسبيح

(2)

.

10 -

تحريم أكل الضفدع؛ للقاعدة المقررة عند العلماء أن ما أمر بقتله أو ما نهي عن قتله، فيحرم أكله.

11 -

تحريم التداوي بلحم الضفدع؛ لما ورد عن ابن مسعود: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ»

(3)

، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«تَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»

(4)

.

(1)

تقدم عند الكلام على الحديث الثالث من أحاديث هذا الباب (1488).

(2)

رواه الطبراني في «الأوسط» (3716)، والبيهقي في «الكبرى» (19382)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما موقوفًا. وصحح إسناده البيهقي، وقال ابن حجر:«هو وإن كان إسناده صحيحًا، لكن عبد الله بن عمرو كان يأخذ عن الإسرائيليات» . التلخيص الحبير (852)(4/ 283).

(3)

رواه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (652)، وعلقه البخاري كما في «الفتح» (10/ 79)، وقال الحافظ في «التلخيص» (4/ 141):«وقد أوردته في تغليق التعليق من طرق إليه صحيحة» .

(4)

رواه أبو داود (3874)؛ عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

ص: 158

‌بَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ

أي هذا باب ذكر ما ورد في السنة في شأن الصيد والذبائح. والصيد يراد به فعل الصائد، وهو المعنى المصدريُّ، ويراد به الحيوان المصيد، فهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول، وهو المراد في جميع المواضع التي وردت في القرآن. وتحريم الصيد في الإحرام يستلزم تحريم الصيد بمعنى الاصطياد.

* * * * *

(1499)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيْدٍ، أَوْ زَرْعٍ، انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْم قِيرَاطٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1500)

وَعَنْ عَدِيِّ بنِ حَاتِم رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَرْسَلَتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يُؤْكَلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قُتِلَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ

(2)

.

(1501)

وَعَنْ عَدِيٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ: «إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقُتِلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

.

(1)

البخاري (2322)، ومسلم (1575)(58).

(2)

البخاري (5484)، ومسلم (1929)(6).

(3)

البخاري (5476).

ص: 159

(1502)

وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ، فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث ذكر آلة الصيد من الكلب والسهم والمِعراض، وهو الرمح، وما يشترط فيها، وصفة الصيد وما يشترط فيه.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم اقتناء الكلب إلا ما استثني.

2 -

الرخصة في اقتناء كلب الصيد والزرع والماشية.

3 -

جواز الصيد بالكلب المعلَّم.

4 -

أن صيد الكلب غير المُعلَّم لا يحل.

5 -

فضل العلم حتى في الحيوان.

6 -

فيه شاهد وتفسير لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ} [المائدة: 4].

7 -

سفه الذين يقتنون الكلاب إعجابًا بها، ويبالغون في الحفاوة بها والعناية بها.

8 -

جواز الصيد برمي السهم، وفي حكمه كل ما يرمى به، مما يقتل بحده.

9 -

وجوب ذكر اسم الله عند إرسال الكلب أو السهم أو الطعن بالرمح.

10 -

جواز الصيد بالرمح.

11 -

أنه لا يحل إلا ما أصاب بحده، بحيث ينفذ، لقوله في حديث عدي في رواية:«وَإِذَا رَمَيْتَ بِالْمِعْرَاضِ فَخَزَقَ فَكُلْ»

(2)

.

(1)

مسلم (1931).

(2)

هي عند البخاري (7397).

ص: 160

12 -

تحريم ما أصابه المعراض أو الرمح بعَرْضه.

13 -

تحريم كل وقيذ، وهو الموقوذة.

14 -

أن ما صاده الكلب إن أَكل منه لم يحل، أو كان معه كلب آخر.

15 -

أن ما صاده الكلب إن وجد حيًّا يجب تذكيته.

16 -

أن ما صيد بالسهم إذا غاب ثم وجد غريقًا، أو وجد فيه أثر سهم آخر، أو أنتن فلا يحل أكله.

17 -

أن الشك في شرط الحل يمنع من الحل.

18 -

من حسن التعليم والفتوى بيان وجه الحكم؛ لقوله: «فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا قَتَلَهُ» .

19 -

وجوب التفصيل في الفتوى إذا اقتضى الأمر ذلك؛ لقوله: «إِذَا أَصَبْتَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقُتِلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ؛ فَلَا تَأْكُلْ» .

20 -

التوسعة من الله في أسباب الرزق.

21 -

فيه شاهد ليسر الشريعة، ولقاعدة: المشقة تجلب التيسير.

22 -

أن من مقاصد الشريعة حفظ الصحة؛ لقوله: «فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ» .

23 -

من حسن التعليم ذكر الحكم بدليله؛ لقوله: «وَإِذَا أَصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقُتِلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ، فَلَا تَأْكُلْ» .

* * * * *

(1503)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ، لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ:«سَمُّوا اللهَ عَلَيْهِ أَنْتُمْ، وَكُلُوهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

(1)

البخاري (2057) و (5507).

ص: 161

(1504)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُغَفَّل رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْخَذْفِ، وَقَالَ:«إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا، وَلَا تَنْكَأُ عَدُوًّا، وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

(1505)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1506)

وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

.

(1507)

وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ، فَكُلْ، لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ؛ أَمَّا السِّنُّ: فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ: فَمُدَى الْحَبَشَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت ذكر بعض ما يشترط لحل ما يُذبح من الحيوان؛ كذكر اسم الله وإنهار الدم.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

حل ما يذبحه المسلم، وإن جهل تسميته عليه.

2 -

وجوب التسمية عند الذبح.

3 -

النهي عن الخذف وما أشبهه؛ لأنه دائر بين الضرر وعدم الفائدة. والخذف هو الرمي بالحجر الصغير.

4 -

أن ما يقتل بالخذف لا يحل.

5 -

النهي عن كل فعل يؤدي إلى الضرر.

(1)

البخاري (5479)، ومسلم (1954)(56).

(2)

مسلم (1957).

(3)

البخاري (5504).

(4)

البخاري (5503)، ومسلم (1968).

ص: 162

6 -

تحريم اتخاذ ما فيه الروح غرضًا، أي هدفًا في المناضلة، أي المسابقة بالرمي.

7 -

أن دين الإسلام دين الرحمة.

8 -

جواز الذبح بالحجر إذا كان طرفه محددًا.

9 -

جواز الذبح بكل ما يُنهِر الدم، أي يسيله.

10 -

جواز تذكية المرأة، وإن كانت أمة، وإن كانت حائضًا.

11 -

أن من النساء من تكون قوية القلب واليد.

12 -

جواز تصرف الأمين بما فيه مصلحة.

13 -

أن ما أصابه سبب الموت فأدرك فذكِّي؛ حلَّ.

14 -

أن الفعل إذا وقع من أهله فلا يُسأل عن شروطه.

15 -

التثبت فيما اشتبه على المسلم حكمُه، بسؤال أهل العلم.

16 -

أن الأمر يأتي بمعنى الإباحة.

17 -

أن شرط الحل فيما يُذبح ذكر اسم الله عليه.

18 -

اشتراط إنهار الدم لحل الذبيحة، وهذا يحصل بقطع الودجين.

19 -

تحريم الذبح بالسن، وعلة ذلك أنه عظمٌ، فما ذبح به فلا يحل.

20 -

تحريم الذبح بالظفر، وعلة ذلك أنه تشبه بالكفار الذين يذبحون بالأظفار، وهم الحبشة، فما ذبح بذلك فلا يحل.

21 -

النهي عن التشبه بالكفار. وقد استفاضت السنة بذلك.

22 -

أن ما تعذر ذبحه من الحيوان لعدم القدرة عليه فحكمه حكم الصيد، لما جاء في أصل حديث أبي رافع أنه ندَّ بعير فرماه رجل بسهم، فقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ؛ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا»

(1)

.

* * * * *

(1)

رواه البخاري (2488).

ص: 163

(1508)

وَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1509)

وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في رحمة الحيوان، حتى في ذبحه.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

تحريم أن يُقتل الحيوان صبرًا، وهو حبس البهيمة ورميها حتى تموت.

2 -

أن ما يقدر على ذبحه لا يحل برميه.

3 -

تحريم تعذيب الحيوان.

4 -

فيه شاهد لما تقدم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا»

(3)

.

5 -

إضافة الكتابة إلى اللهِ، وهي نوعان:

أ. كتابة كونية.

ب. كتابة دينية.

فمن الأول قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105]، ومن الثاني قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، ومنه ما في هذا الحديث.

(1)

مسلم (1959).

(2)

مسلم (1955).

(3)

تقدم (1505).

ص: 164

6 -

الحث على الإحسان إلى الخلق بكتابته على كل شيء، و (على) في الحديث بمعنى (في)، وهذا أقرب الوجوه، والإحسان يكون بالقول والفعل والترك، والإحسان إلى أصناف الناس كما في قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36] الآية، ويدخل فيه الإحسان إلى الحيوان كما في حديث البغي التي سقت كلبًا فغفر اللهُ لها

(1)

، وكما في هذا الحديث، وجماع القول في معنى الإحسان أنه إيصال النفع ودفع الضرر وكف الأذى.

7 -

من الإحسانِ: الإحسانُ في صفة قتل من أبيح قتله، وذلك بفعل ما يقتضيه الشرع من صعوبة وسهولة فيدخل في ذلك رجم الزاني والقتل قصاصًا، فإنه يتبع فيه فعل الجاني.

8 -

الإحسان في صفة ذبح الحيوان، ومن ذلك فعل الأسباب التي تكون أسرع في إزهاق الروح، كشحذ الشفرة، وهي السكين.

9 -

تحريم تعذيب الحيوان كاتخاذه غرضًا وتجويعه وحبسه بلا طعام ولا شراب.

10 -

رحمة اللهِ بخلقه.

11 -

كمال هذه الشريعة واشتمالها على كل خير، ومن ذلك رحمة الحيوان والرفق به.

12 -

أن اللهَ له الأمر والحكم.

13 -

حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لتوضيحه القاعدة الكلية بذكر بعض أفرادها.

* * * * *

(1)

رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 165

(1510)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

الحديث أصل في حل جنين البهيمة بذكاة أمه.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الذكاة شرط فيما أبيح من الحيوان، لأن بها إنهار الدم.

2 -

أنه لا تجب ذكاة الجنين، بل يحل تبعًا لأمه، والسر -والله أعلم- أنه كعضو منها، إلا أن يخرج حيًّا، فتجب تذكيته.

3 -

أنه يجوز ذبح البهيمة الحامل، ولو قرب ولادتها.

* * * * *

(1511)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ، فَلْيُسَمِّ ثُمَّ لْيَأْكُلْ» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بنُ يَزِيدَ بنِ سِنَانٍ، وَهُوَ صَدُوقٌ ضَعِيفُ الْحِفْظِ

(2)

.

(1512)

وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، مَوْقُوفًا عَلَيْهِ

(3)

.

(1513)

وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي «مَرَاسِيلِهِ» بِلَفْظِ: «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ، ذَكَرَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ» . وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ

(4)

.

* * *

هذا الحديث تمسك به من لا يشترط التسمية على الذبيحة مطلقًا، وهو المشهور من مذهب الشافعي رحمه الله، ولكن الحديث ضعيف، كما ذكر

(1)

أحمد (11343)، وابن حبان (5889)، وصححه العراقي في «تخريج الإحياء» (1/ 565).

(2)

الدارقطني (4808).

(3)

«مصنف عبد الرزاق» (8548).

(4)

«المراسيل» لأبي داود (378).

ص: 166

المصنف رحمه الله، وغايته أن يكون من قول ابن عباس رضي الله عنهما، فهو لا يقاوم الأحاديث الصحيحة التي تقدمت، وفيها الأمر بذكر اسم الله على الصيد والذبيحة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهب:

أحدها: أن التسمية شرط لحل الصيد والذبيحة مطلقًا؛ فلا يحل متروك التسمية عمدًا ولا سهوًا.

الثاني: أن التسمية شرط، لكنه يسقط بالنسيان، ومنهم من يفرق في ذلك بين الصيد والمُذكَّى، فلا يحل متروك التسمية من الصيد ولو نسيانًا أو سهوًا، بخلاف المذكَّى، على هذا القول.

الثالث: أن التسمية مستحبة؛ فذبيحة المسلم حلال، ولو ترك التسمية عمدًا من غير استخفاف، كما هو ظاهر حديث الباب:«ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ، ذَكَرَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ» ، وهذا أهم ما يتعلق بهذا الحديث. والراجح -والله أعلم- هو القول الثاني، فإنه أوسط الأقوال، وهو الموافق ليسر الشريعة ورفع الحرج، مع العمل بأدلة وجوب ذكر اسم الله على الذبيحة حسب الاستطاعة؛ فإن تحريم متروك التسمية نسيانا يتضمن حرجًا عظيمًا، وهو تلف المال، الذي تلفه قد يكون ضرره عظيمًا في حق كثير من الناس. والله أعلم.

* * * * *

ص: 167

‌بَابُ الأُضْحِيَةِ

أي هذا باب ذكر الأدلة من السنة على مشروعية الأضحية وما يتعلق بها من أحكام، والأُضحية والضَّحيَّة ما شرع التقرب به من الذبائح في عيد الأضحى، واسم الأُضحية مأخوذ من وقتها، وهو الضحى؛ لأنه وقت ذبحها، لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ»

(1)

.

* * * * *

(1514)

عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، وَيُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا. وَفِي لَفْظٍ: ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. وَفِي لَفْظٍ: سَمِينَيْنِ

(3)

.

(1515)

وَلِأَبِي عَوَانَةَ فِي «صَحِيحِهِ» : ثَمِينَيْنِ، بِالْمُثَلَّثَةِ بَدَلَ السِّينِ

(4)

.

(1516)

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: وَيَقُولُ: «بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ»

(5)

.

(1517)

وَلَهُ: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ؛ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ:«اشْحَذِي الْمُدْيَةَ» ، ثُمَّ أَخَذَهَا، فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ، وَقَالَ:«بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَمِنْ أُمّةِ مُحَمَّدٍ»

(6)

.

(1)

سيأتي تخريجه قريبًا -إن شاء الله- في هذا الباب.

(2)

البخاري (5564)، ومسلم (1966).

(3)

علقه البخاري بصيغة التمريض فقال: «وَيُذْكَرُ: سَمِينَيْنِ» . «الفتح» (10/ 10).

(4)

أبو عوانة في صحيحه (3220) بلفظ: «سَمِينَيْنِ» .

(5)

مسلم (1966).

(6)

مسلم (1967).

ص: 168

(1518)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، لَكِنْ رَجَّحَ الْأَئِمَّةُ غَيْرُهُ وَقْفَهُ

(1)

.

(1519)

وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْتُ الْأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ، نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَالَ:«مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذه الأحاديث أصل في مشروعية الأضحية، وهي متضمَّنة لسنته صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية.

وفي الأحاديث فوائد كثيرة؛ منها:

1 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضحي.

2 -

أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالضأن من الغنم.

3 -

أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين، وربما ضحى بكبش.

4 -

أن من صفتهما كونهما أملحين -أي أبيضين-، أقرنين -أي ذَوَيْ قرون-، سمينين. وقولها:«يَطَأُ فِي سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ، وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ» : أي إن هذه المواضع من جلده وجسمه لونها أسود.

5 -

الجود وطيب النفس باختيار الأضحية.

6 -

أن ما كان أكمل خِلقة وأغلى ثمنًا من الأضاحي فهو أفضل.

7 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بذلك عن نفسه وآله وأمته.

(1)

أحمد (8273)، وابن ماجه (3123)، والحاكم (7646). وينظر:«السنن الكبرى» للبيهقي (9/ 260)، و «نصب الراية» للزيلعي (4/ 207).

(2)

البخاري (5500)، ومسلم (1960)(2)، واللفظ له.

ص: 169

8 -

مشروعية التسمية والتكبير عند ذبح الأضحية، والتسمية شرط، والتكبير سنة.

9 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم يباشر ذبح الأضحية بيده، كما ذبح بعض هديه بيده في حجة الوداع

(1)

.

10 -

مشروعية شحذ المدية، وهي السكين، وشحذها: تحديدها، حتى يدق حدها، فتكون ماضية سريعة القطع.

11 -

جواز أمر الإنسان في حاجته مَنْ له عليه أمرٌ؛ كزوجته، وولده، وخادمه، أو مَنْ يسره قضاء حاجته، وأن ذلك ليس من السؤال المذموم.

12 -

فيه شاهد لقوله: «وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ»

(2)

.

13 -

أن ذبح الغنم يكون بإضجاعها على شقها الأيمن أو الأيسر، حسب ما هو الأسهل.

14 -

استحباب مباشرة المضحي ذبح أضحيته.

15 -

جواز الاقتصار على التسمية دون التكبير.

16 -

استحباب الدعاء بقبول الأضحية عند ذبحها.

17 -

أن الأضحية سنة مؤكدة عند الجمهور؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وترغيبه فيها، ومداومته عليها، وقال بعض أهل العلم بوجوبها؛ لحديث أبي هريرة:«مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» ، ولكن قد قيل: إنه موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه.

18 -

أن وقت ذبح الأضحية بعد صلاة العيد.

19 -

أن ذبح الأضحية لا يشترط فيه أن يكون بعد الخطبة، ولا بعد ذبح الإمام.

(1)

رواه مسلم (1218)؛ عن جابر رضي الله عنه.

(2)

تقدم تخريجه في (باب الصيد والذبائح)(1509).

ص: 170

20 -

تحريم ذبح الأضحية قبل الصلاة.

21 -

فيه شاهد للأصل، وهو أن العبادة إذا فعلت قبل الوقت فإنها لا تجزئ.

22 -

أن من ذبح قبل الصلاة لا تجزئه أضحيته، ولو كان خطأ أو نسيانًا، وعليه أن يذبح مكانها.

23 -

التنبيه على الإخلاص والتسمية عند الذبح؛ لقوله: «فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ» .

* * * * *

(1520)

وَعَنِ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الضَّحَايَا: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْكَسِيرُ الَّتِي لَا تُنْقِي» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

(1521)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَذْبَحُوا إِلَّا مُسِنَّةً، إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1522)

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ، وَلَا نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ، وَلَا مُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا خَرْمَاءَ وَلَا ثَرْمَاءَ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(3)

.

* * *

(1)

أحمد (18667)، وأبو داود (2802)، والترمذي (1497)، والنسائي (4370)، وابن ماجه (3144)، وابن حبان (5921)، وينظر:«البدر المنير» لابن الملقن (9/ 286).

(2)

مسلم (1963).

(3)

أحمد (851)، وأبو داود (2804)، والترمذي (1498)، والنسائي (4372)، وابن ماجه (3142)، (3143)، وابن حبان (5920)، والحاكم (7612).

ص: 171

تضمَّنت هذه الأحاديث صحة ما يضحى به من السن والسلامة من العيوب.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن أربعًا لا تجوز في الضحايا:

1 -

العوراء البين عورها، وهي التي انخفست عينها، وأولى منها العمياء.

2 -

المريضة البيِّن مرضها، كذات الجدري.

3 -

العرجاء البين ظلَعها، وهي التي لا تلحق الغنم، وأولى منها التي لا تمشي.

4 -

الكسيرة، أي: الهزيلة التي لا مخَّ فيها.

2 -

جواز التضحية بذوات العيوب الخفيَّة، كالعوراء التي عينها قائمة.

3 -

أنه لا تجوز التضحية إلا بمسنة، وهي الثَّنيُّ من الضأن والمعز، وهو ما تم له سنة.

4 -

جواز التضحية بالجذع من الضأن، وهو ما تم له ستة أشهر، وذلك عند تعسر المسنة. وقيل: هذا شرط كمال، لا شرط صحة.

5 -

اشتراط السن المعتبرة في الأضحية، وهو أن تكون الأضحية مسنة، وهو الثنيُّ من بهيمة الأنعام، فمن الضأن والمعز ما تم له سنة، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن الإبل ما تم له خمس سنين.

6 -

بناء أحكام الشريعة على اليسر.

7 -

أن المشقة تجلب التيسير.

8 -

مشروعية تفقد الأضحية، بمعرفة سلامتها من العيوب المانعة. وهو معنى:«نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» .

ص: 172

9 -

النهي عن التضحية بالمذكورات في حديث علي رضي الله عنه؛ وهي العوراء، وتقدمت، والمقابَلة، وهي ما قطع طرف أذنها، والمدابَرة، وهي ما قطع من مؤخر أذنها، والخرماء، وهي مثقوبة الأذن، والثرماء، وهي التي سقطت ثناياها.

10 -

النهي عن القصد في القربة إلى ما فيه عيب. ففي الأحاديث:

11 -

شاهد لقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267].

12 -

ومن مجموع الأحاديث: يعلم أنه يشترط في الأضحية أربعة شروط:

1 -

أن تكون من بهيمة الأنعام.

2 -

أن تبلغ السن المقدر شرعًا.

3 -

أن تكون سليمة من العيوب المانعة من الإجزاء.

4 -

أن تكون في وقت الأضحية، وهو ما بين صلاة العيد إلى آخر أيام التشريق.

* * * * *

(1523)

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: أَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْوَمَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ أُقَسِّمَ لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلَالَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَا أُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا مِنْهَا شَيْئًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

في هذا الحديث بيان ما يُصنع في الهدي بعد ذبحه.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية الهدي، وهو ما يقدَم به الحاج والمعتمر من بهيمة الأنعام ليذبحه في الحرم.

(1)

البخاري (1717)، ومسلم (1317).

ص: 173

2 -

استحباب كثرة الهدي الذي يساق إلى الحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجته مئة بدنة.

3 -

استحباب تقسيم لحم الهدي وجلودها، وجِلالها، جمع جِل، وهو الكساء الذي يجلل به الهدي.

4 -

فضيلة عليٍّ رضي الله عنه.

5 -

جواز التوكيل في نحر الهدي والأضحية وتقسيم اللحم.

6 -

أن الجزار لا يعطى أجرته من لحم الهدي والأضحية، بل يعطى الأجرة من غيرها.

7 -

جواز أخذ الأجرة على الهدي والأضاحي.

* * * * *

(1524)

وَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ: الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

في هذا الحديث بيان من تجزئ عنه البدنة والبقرة في الهدي.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية سوق الهدي إلى الحرم في العمرة.

2 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ساقوا الهدي في عمرة الحديبية.

3 -

أنه وجب عليهم ذبح الهدي بالإحصار.

4 -

أنهم ذبحوا إبلًا وبقرًا.

(1)

مسلم (1318).

ص: 174

5 -

أن البدنة تجزئ عن سبعة، والبقرة عن سبعة؛ في الهدي، وكذلك الأضحية؛ فالبدنة عن سبع شياه، والبقرة عن سبع شياه. وهذه معادلة حُكمية شرعية، لا تختلف باختلاف القيمة، لكن تجب مراعاة السن المجزئة. وأما الغنم، فلا تجزئ الشاة إلا عن واحد في الهدي، وفي حكمها سبع البدنة والبقرة. وأما في الأضحية فتجزئ الشاة عن الرجل وأهل بيته، ومن شاء أن يُشركه في ثوابها. واختُلف في التشريك في ثواب سبع البدنة والبقرة؛ فقيل: لا يصح التشريك فيه. وقيل: يصح؛ فيضحي الرجل بسبع البدنة عنه وعن أهل بيته؛ لأن سبع البدنة والبقرة معدول بالشاة. وهو الصحيح، إن شاء الله. والله أعلم.

* * * * *

ص: 175

‌بَابُ العَقِيقَةِ

العقيقة: ما يذبح شكرًا لله على نعمة المولود، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره هذا الاسم؛ لأنه مشتق من العقوق، لكن هكذا نطق العرب، فسموا ما يذبح للمولود عقيقة. فالعقيقة -إذن- نوع من النسك المذكور في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162)} [الأنعام: 162]، فهي كالهدي والأضحية.

* * * * *

(1525)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَبْشًا كَبْشًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْجَارُودِ وَعَبْدُ الْحَقِّ، لَكِنْ رَجَّحَ أَبُو حَاتِمٍ إِرْسَالَهُ

(1)

.

(1526)

وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ: مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوَهُ

(2)

.

(1527)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُمْ أَنْ يُعَقَّ عَنِ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ، وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(3)

.

(1528)

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ عَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْكَعْبِيَّةِ نَحْوَهُ

(4)

.

(1529)

وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(5)

.

* * *

(1)

أبو داود (2841)، وابن الجارود في «المنتقى» (911)، وينظر:«الأحكام الوسطى» للأشبيلي (4/ 141)، و «العلل» لابن أبي حاتم (1631).

(2)

ابن حبان (5309).

(3)

الترمذي (1513).

(4)

أحمد (27142)، وأبو داود (2834)، والترمذي (1516)، والنسائي (4216)، وابن ماجه (3162)، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (9/ 277).

(5)

أحمد (20188)، وأبو داود (2838)، والترمذي (1522)، والنسائي (4220)، وابن ماجه (3165)، ينظر:«البدر المنير» (9/ 334).

ص: 176

تضمنت هذه الأحاديث الدلالة على حكم العقيقة، وما يتعلق بها من أحكام.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية العقيقة عن المولود؛ ذكرًا كان أو أنثى.

2 -

أنها تذبح يوم السابع من يوم الولادة.

3 -

جواز أن يتولى العقيقة غير الأب، لكن بإذنه.

4 -

أن الأفضل أن يعق عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة.

5 -

أنه يجزئ عن الغلام شاة واحدة.

6 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين كبشًا كبشًا، والكبش ذكر الضأن إذا أثنى، أي: صار ثنيًّا.

7 -

تفضيل الذكر على الأنثى في العقيقة بالضِّعف، وهذا أحد المواضع الخمسة التي يفضَّل فيها الذكر على الأنثى بالضعف. والثاني: الميراث، والثالث: العتق في الأجر، الرابع: الدية، والخامس: الشهادة. وفي هذه الأحكام ردٌّ على دعاة التسوية بين الذكر والأنثى. وبطلان ما يسمى وثيقة سيداو المناقضة للعقل والشرع، الداعية إلى التسوية بين الرجل والمرأة.

8 -

أن المولود يُسمَّى يوم السابع، ويُحلَق رأس الصبي الذكر، ويُتصدَّق بوزن شعره فضة.

9 -

أن العقيقة سنة مؤكدة، وقيل: واجبة، لقوله:«كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ» .

ص: 177

10 -

أن السنة أن تكون الشاتان متكافئتين، أي: متقاربتين في خلقتهما وقيمتهما. ويعتبر في العقيقة ما يعتبر في الأضحية من السن والسلامة من العيوب.

* * * * *

ص: 178

‌كِتَابُ الأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ

ص: 179

درج كثير من المصنفين في الأحكام وأحاديثها على ذكر كتاب الأيمان والنذور قبل القضاء والشهادات، وكأنه تمهيد لها. والأيمان: جمع يمين، وهو القسم، والنذور: جمع نذر، وهو أن يوجب المكلف على نفسه ما لم يجب بأصل الشرع، والأيمان والنذور أنواع، ولذا ذُكرا بلفظ الجمع. وسبب الجمع بين الأيمان والنذور أن بينهما تداخلًا، فمن النذور ما له حكم اليمين؛ كنذر اللَّجاج والغضَب، ومن الأيمان ما يؤول إلى النذر.

* * * * *

(1530)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي رَكْبٍ، وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1531)

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللهِ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ»

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل في تحريم الحلف بغير الله، ويشهد له الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ»

(3)

.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من عادة العرب في الجاهلية: الحلف بالآباء والأمهات وبالأنداد؛ كاللَّات والعُزَّى.

2 -

تحريم الحلف بغير الله مما يُحلف به تعظيمًا له، وليس للحلف بغير الله حرمة، لذلك لا يجب به كفارة.

(1)

البخاري (6108)، ومسلم (1646).

(2)

أبو داود (3248)، والنسائي (3769).

(3)

رواه أحمد (6072)، وأبو داود (3251)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (45).

ص: 181

3 -

جواز الحلف بالله بشرط الصدق في الخبر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَلَا تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلَّا وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ» .

4 -

تعظيم تحريم الحلف بغير الله بإضافة النهي إلى الله، لقوله:«أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ» ، وتأكيد الخبر بذلك ببعض المؤكدات، وهي:(أَلَا) و (إنَّ).

5 -

أن النهي عن الحلف بغير الله كان متأخرًا، لذلك وقع من عمر رضي الله عنه. وهذا مما أجيب به عن حديث:«أَفْلَحَ وَأَبِيهِ»

(1)

.

6 -

المبادرة بإنكار المنكر.

7 -

العذر بالجهل في الحلف بغير الله.

* * * * *

(1532)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ» . أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل في اعتبار نية المستحلف -وهو المدَّعي- دون الحالف في الدعاوى.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

اعتبار الحلف في الدعاوى في الجملة.

2 -

أن الأصل الرجوع إلى نية الحالف.

3 -

أن المدَّعى عليه لا تبرأ ذمته بالحلف إذا نوَى خلاف ما ادُّعي عليه به.

(1)

رواه مسلم (11)؛ عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه. ينظر: «الفتح» (11/ 533)، و «التمهيد» (14/ 367).

(2)

مسلم (1653).

ص: 182

4 -

أن يمين المدَّعى عليه تحمل على نية المستحلف، فتتعلق اليمين بالمدَّعى به.

5 -

أن على المدَّعي أن يصدِّق المدَّعى عليه في يمينه إذا لم يعلم كذبه.

* * * * *

(1533)

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1534)

وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «فَائِت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ»

(2)

.

(1535)

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ

(3)

.

* * *

هذا الحديث أصل في حكم الحِنْث في اليمين المنعقدة، وهي اليمين على مستقبل ممكن، والحِنث هو ترك المحلوف على فعله، أو فعل المحلوف على تركه. وأصل الحِنث الإثم، وعقْد اليمين بالله يقتضي الوفاء بها، وللحِنث في الشريعة أحكام، وهي الأحكام التكليفية الخمسة؛ الوجوب إن حلف على فعل محرم، والاستحباب إن حلف على فعل مكروه، والتحريم إن حلف على فعل فريضة، والكراهة إن حلف على فعل مستحب، والإباحة إن حلف على مباح، فعلًا أو تركًا. وعلى كل حال يجب بالحنث في اليمين كفارة، وهي الكفارة المذكورة في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ

(1)

البخاري (6622)، ومسلم (1652).

(2)

البخاري (6722).

(3)

أبو داود (3278).

ص: 183

كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

إطلاق اليمين على المحلوف عليه مجازًا، وهو من إطلاق السبب على المسبَّب، واليمين حقيقةً هي جملة القسم.

2 -

أن اليمين -أي الحلف- لا يوجب المحلوف عليه ولا يحرمه.

3 -

أن الحالف مخيَّرٌ بين الوفاء بيمينه أو الحنث مع الكفارة، على ما تقدم في حكم الحنث.

4 -

استحباب ترك الوفاء باليمين إذا كان ذلك خيرًا مع التكفير، على ما تقدم تفصيله في حكم الحنث.

5 -

وجوب الكفارة على من حنث في يمينه.

6 -

أن الحالف مخيَّر؛ إن شاء كفَّر أولا، ثم فعَل المحلوف عليه، وإن شاء فعَل المحلوف عليه، ثم كفَّر وجوبًا.

7 -

أن مقتضى الشرع تقديم الأفضل على الفاضل، وترجيح أعلى المصلحتين على أدناهما، وارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.

* * * * *

(1536)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في جواز الاستثناء في اليمين، ومعنى حلف على يمين، أي على شيء من فعل أو ترك.

(1)

أحمد (4581)، وأبو داود (3261)، والترمذي (1531)، والنسائي (3828)، وابن ماجه (2105)، وابن حبان (4339).

ص: 184

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز الاستثناء في اليمين بالتعليق على مشيئة الله.

2 -

أن هذا الاستثناء يمنع من الحنث، أي: الإثم المترتب على عدم الوفاء بالقسم، فلا تجب عليه كفارة.

3 -

أن ذكر المشيئة في اليمين لا يمنع من الحنث إلا إذا قصد به التعليق، لا مجرد التعظيم لله؛ لربط الأمور كلها بالمشيئة.

4 -

أن الاستثناء في اليمين لا ينفع إلا نطقا؛ لقوله: «فَقَالَ» .

5 -

اشتراط اقتران الاستثناء باليمين، بأن يأتي عقبه دون تراخ؛ لقوله:«فَقَالَ» ، فعطف الجملة بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب.

6 -

أن تعليق الطلاق والعتق على المشيئة يمنع من الحنث، فلا يقع طلاق ولا عتق.

* * * * *

(1537)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَا، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

تضمن هذا الحديث شيئًا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأيمان، وهو أنه كثيرًا ما يحلف بقوله:«وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» .

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الله هو مقلب القلوب، أي: المتصرف فيها، فيقيمها إذا شاء، ويزيغها إذا شاء.

(1)

البخاري (6628).

ص: 185

2 -

أن مقلب القلوب اسم لله، وصفةٌ من صفاته.

3 -

مشروعية القسم بهذا الاسم «مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» .

4 -

جواز القسم بكل اسم من أسماء الله، وأن ذلك من الإقسام بالله.

5 -

أن القلوب تتقلب، وتقلبها تغير أحوالها باعتقاداتها وأعمالها وإراداتها.

6 -

فيه شاهد لما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»

(1)

.

7 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24].

8 -

استحباب استحضار معنى هذا الاسم لله، مما يوجب للعبد الخوف من زيغ قلبه، ويوجب الدعاء بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاء الراسخين في العلم:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب (8)} [آل عمران: 8].

* * * * *

(1538)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: «الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

.

* * *

هذا الحديث من أدلة أن الذنوب منها كبائر، ومنها صغائر، وقد دل على ذلك آيات من القرآن وأحاديث من السنة، من ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا

(1)

رواه الترمذي (3522) وحسنه؛ عن أم سلمة رضي الله عنها.

(2)

البخاري (6920).

ص: 186

كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُم} [النساء: 31]، ومن السنة هذا الحديث، ويشهد لبعض معناه حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» -ثَلَاثًا- قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ

» الحديث

(1)

.

وقد تضمن حديث الباب ذكر ثلاث من كبائر الذنوب، وهي الشرك، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، كما في أصله في البخاري.

وقد فسرت اليمين الغموس بأنها التي يقتطع بها مال المسلم، ويشهد لهذا التفسير قوله صلى الله عليه وسلم:«مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»

(2)

.

وسميت هذه اليمين غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في نار جهنم. والسائل عن معنى اليمين الغموس هو عبد الله بن عمرو راوي الخبر، والمجيب هو النبي صلى الله عليه وسلم، كذا قال بعض الشراح، ورجَّح الحافظ ابن حجر أن السائل فراس بن يحيى الهمْداني، والمجيب هو الشعبي، وهما من رواة الحديث، كما جاء في رواية ابن حبان

(3)

.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الذنوب منها كبائر، ومنها صغائر.

2 -

أن الشرك بالله من الكبائر، بل هو أكبر الكبائر على الإطلاق. وهو اتخاذ الند لله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِله نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»

(4)

.

(1)

رواه البخاري (2654)، ومسلم (87).

(2)

سيأتي تخريجه -إن شاء الله تعالى- في (باب الدعاوى والبينات)(1587).

(3)

ابن حبان (5562)، ينظر:«الفتح» (11/ 556).

(4)

البخاري (13)، ومسلم (45). وسيأتي في كتاب الجامع، باب البر والصلة (1640).

ص: 187

3 -

أن عقوق الوالدين من الكبائر، بل هو من أكبر الكبائر، كما في حديث أبي بكرة. وهو ترك ما يجب لهما من البر، وفعل ما يحرم في حقهما.

4 -

أن عقوق الوالدين قرين الشرك في السنة، كما أن الإحسان إلى الوالدين قرين التوحيد في القرآن، {وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

5 -

أن اليمين الغموس من الكبائر، ولأجل ذلك أورد المصنف هذا الحديث في باب الأيمان، واختصره.

* * * * *

(1539)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]، قَالَتْ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللهِ، بَلَى وَاللهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

(1540)

وَأَوْرَدَهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا

(2)

.

* * *

هذا الحديث من أحاديث تفسير السنة للقرآن، فهو وإن كان من كلام عائشة فإن له حكم الرفع. وقد تضمن تفسير اللغو في قوله تعالى:{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]، قال أبو عبد الله الحاكم:«ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين: حديث مسندٌ»

(3)

.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن السنة تفسر القرآن.

(1)

البخاري (6663).

(2)

أبو داود (3254)، وصحح الدارقطني الوقف كما في «التلخيص الحبير» (4/ 308).

(3)

«المستدرك» (2/ 310).

ص: 188

2 -

أن لغو اليمين هو ما يجري على اللسان، مما لم يقصده الحالف؛ كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله. في درج الكلام. وألحق به بعض العلماء الحلف بناء على غلبة الظن، كمن حلف على خبر يظن صدقه. فاليمين في الأول لم تنعقد؛ لأنها لم تقصد. واليمين في الثاني مقصودة؛ لكنه أخطأ في ظنه، فلا يؤاخذ؛ لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].

3 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(1)

.

* * * * *

(1541)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلهِ تِسْعةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

. وَسَاقَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ الْأَسْمَاءَ، وَالتَّحْقِيقُ؛ أَنَّ سَرْدَهَا إِدْرَاجٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ

(3)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في هذه العدة من أسماء الله، وفضل إحصائها، وهي مجملة لم تعيَّن، وأما تعيينها وسردها -كما عند الترمذي وغيره- فليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو مدرج من بعض الرواة، كما قال الحافظ رحمه الله.

ومناسبة هذا الحديث لباب الأيمان ظاهرة، وهي بيان ما يشرع الحلف به، وهو أسماء الله وصفاته، فلا تُتعدى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أَوْ لِيَصْمُتْ»

(4)

.

(1)

رواه البخاري (1)، ومسلم (1907)؛ عن عمر رضي الله عنه.

(2)

البخاري (2736)، ومسلم (2677)(6).

(3)

الترمذي (3507)، وابن حبان (808).

(4)

تقدم تخريجه، فهو أول حديث في هذا الباب (1530).

ص: 189

ويجب أن يعلم أنه ليس في هذا الحديث حصرٌ لأسماء الله في تسعة وتسعين، بل المقصود الإخبار عن فضل تسعة وتسعين من أسماء الله غير معينة بأن من أحصاها دخل الجنة. وقد تحرى كثير من العلماء جمع هذا العدد من الكتاب والسنة من غير جزم بأنها هي المقصودة في الحديث، ومن أحسن من جمعها الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتابه القواعد المثلى.

ويدل على عدم انحصار أسماء الله في هذا العدد حديث ابن مسعود رضي الله عنه في دعاء الهَمِّ: «اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ بْنُ عَبْدِكَ» الحديث، وفيه:«أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ»

(1)

، ومما يوضح جلالة حديث الباب معرفة إعرابه، فإنه جملتان؛ الأولى:«إِنَّ لِلهِ تِسْعةً وَتِسْعِينَ اسْمًا» ، ف «إِنَّ» حرف توكيد ينصب الاسم ويرفع الخبر، «لِلهِ» خبر مقدم، و «تِسْعةً» اسم إن، و «تِسْعِينَ» معطوف. الثانية:«مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» ، وهي جملة شرطية، «مَنْ» اسم شرط، و «أَحْصَاهَا» فعل الشرط، وها ضمير في محل نصب مفعول به، «دَخَلَ الْجَنَّةَ» جواب الشرط، والجنة معمول الفعل، والجملة صفة لاسم إن. وعليه؛ فالمعنى: لله تسعة وتسعون اسمًا من أحصاها دخل الجنة، وإحصاء الشيء معرفة عدده، وهو في هذا الحديث يشمل جمْعَ هذه الأسماء، والإيمان بها، ومعرفة معانيها وأحكامها، وجمعها يكون من الكتاب والسنة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

إثبات الأسماء لله.

2 -

إثبات ما تدل عليه من الصفات، وهي معاني تلك الأسماء.

(1)

رواه أحمد (3712)؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (3/ 253)، والحاكم (1877)، وقال الهيثمي:«ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح، غير أبي سلمة الجهني، وقد وثقه ابن حبان» . «مجمع الزوائد» (17129).

ص: 190

3 -

أن أشهر أسمائه تعالى (الله)، ولهذا أضيفت الأسماء إليه في الحديث، وهذا مطرد في القرآن، إذ تضاف الأسماء والصفات إلى هذا الاسم الشريف أخبارًا ونعوتًا، كقوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُون (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (24)} [الحشر: 23 - 24]، ونظائر ذلك كثير. ولهذا قيل: إنه أعرف المعارف، وقيل: إنه الجامع لمعاني أسمائه وصفاته تعالى، وإنه الاسم الأعظم.

4 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] في أربعة مواضع من القرآن.

5 -

أن من أسماء الله تسعة وتسعين، من أحصاها دخل الجنة.

6 -

فضل العلم بأسماء الله وصفاته، وبهذا العلم معرفة العبد لربه.

7 -

الندب إلى تدبر الكتاب والسنة لمعرفة هذه الأسماء.

تنبيه: ههنا مسألة كلامية تتعلق بأسماء الله، وهي: هل الاسم هو المسمَّى أو غيره؟ الصواب أنه لا يصح إطلاق هذا ولا هذا، بل ذلك يختلف بحسب السياق، فإذا قلت: الله هو رب العالمين، فالاسم هو المسمَّى، وإذا قلت: الله لفظ مشتق، فالاسم غير المسمَّى، فالاسم هو اللفظ الدال، والمسمَّى هو مدلول اللفظ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جوابٌ فصلٌ في هذا

(1)

.

* * * * *

(1)

ينظر: «مجموع الفتاوى» (6/ 185 - 212).

ص: 191

(1542)

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا؛ فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

هذا الحديث يتضمن الإرشاد إلى مكافأة صانع المعروف بهذا الدعاء: «جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا» ، وأنه تحصل به المكافأة، ولكنه ينبغي تقييده بمن لم يجد ما يكافئ صانع المعروف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ»

(2)

. وذكْرُ هذا الحديث في هذا الباب لا تظهر مناسبته إلا أن يقال: إن صنع المعروف قد يكون بنذر، وربما تقترن به اليمين، مبالغة في الإكرام.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية شكر الجميل، وأنه يكون بالدعاء وبالثناء، كما يكون بالمكافأة.

2 -

أن من الدعاء الجامع قول: «جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا» .

3 -

أن الله يجزي المحسنين بالإحسان.

* * * * *

(1543)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ:«إِنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

(1)

الترمذي (2035)، وابن حبان (3413).

(2)

سيأتي تخريجه -إن شاء الله- في (كتاب الجامع، باب البر والصلة)، آخر حديث في الباب.

(3)

البخاري (6608)، ومسلم (1639).

ص: 192

هذا الحديث أصل في كراهة النذر، ولو كان نذر طاعة، ولا سيما النذر المشروط، كأن يقول: لله علي أن أتصدق بكذا إن شفى الله مريضي، أو إن أعطاني كذا وكذا من المال، وهذا وعد من العبد لربه، وإخلافه إثم عظيم إذا أعطاه الله سؤله، وقد ذم الله بعض المنافقين بقوله:{وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِين (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُّعْرِضُون (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُون (77)} [التوبة: 75 - 77].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

النهي عن النذر، والأصل في النهي التحريم، وقيل: إنه هنا للكراهة.

2 -

أن النذر لا يكون سببًا في حصول خير. فيعلم بذلك أنه إذا حصل مطلوب الناذر فليس سببه عقد النذر.

3 -

أن النذر المعلق على حصول أمر يُشعِر ببخل الناذر، فلا يفعل خيرًا إلا بمقابل يشترطه على ربه.

4 -

أن عقد النذر ليس بعبادة في نفسه، بل بما يتضمنه من تعظيم المنذور له، أو بما يؤول إليه نذر الطاعة.

5 -

أن الناذر النذر المعلق فيه شبه من المنافقين في عدم الإخلاص والبخل.

6 -

ذم البخل.

7 -

الرد على القدرية.

* * * * *

ص: 193

(1544)

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1545)

وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: «إِذَا لَمْ يُسَمِّ» . وَصَحَّحَهُ

(2)

.

(1546)

وَلِأَبِي دَاوُدَ: مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمِّهِ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»

(3)

. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ؛ إِلَّا أَنَّ الْحُفَّاظَ رَجَّحُوا وَقْفَهُ

(4)

.

(1547)

وَلِلْبُخَارِيِّ: مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللهَ فَلَا يَعْصِهِ»

(5)

.

(1548)

وَلِمُسْلِمٍ: مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ: «لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ»

(6)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمت أنواع النذر التي يجزئ عنها كفارة يمين، وهي النذر الذي لم يسم، ونذر المعصية، والنذر الذي لا يطاق، والنذر الذي يقصد به اليمين، وجِماعها ما يتعسر أو يتعذر الوفاء به، كونًا أو شرعًا.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن النذر الذي لم يسم -أي لم يسم المنذور- أنه صحيح، وكفارته كفارة يمين.

2 -

أن النذر الذي لا يطيقه الناذر، أو يشق عليه مشقة شديدة تجزئ عنه الكفارة. والمانع من الوفاء أمر كوني.

3 -

أن نذر المعصية منعقد، وتجزئ فيه الكفارة، والمانع شرعي.

(1)

مسلم (1645).

(2)

الترمذي (1528).

(3)

أبو داود (3322).

(4)

ينظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1326). و «نصب الراية» للزيلعي (3/ 296).

(5)

البخاري (6696).

(6)

مسلم (1641).

ص: 194

4 -

وفي حكم هذه الأيمان: النذر الذي يقصد به الحض أو المنع، فإنه تجزئ فيه الكفارة، أو يفعل المنذور.

5 -

يسر الشريعة، ففيه شاهد لقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

* * * * *

(1549)

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ حَافِيَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

(1550)

وَلِلْخَمْسَةِ: فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، مُرْهَا: فَلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ»

(2)

.

* * *

تضمن هذا الحديث حكم نذر ما لا يطاق وما ليس بمشروع، وأنه لا يجب الوفاء به، وأنه تجزئ عنه الكفارة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن نذر المشي إلى البيت، أيْ: حجًّا أو عمرة، لا يجب الوفاء به؛ لأنه من نذر ما لا يطاق، ولا سيما مع شرط الحَفَاء.

2 -

أنه تجزئ عنه كفارة يمين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» ، ولعله صلى الله عليه وسلم علم من حالها أنها لا تجد إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.

3 -

أن فيه شاهدًا لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يُهادى بين ابنيه، فقال:«مَا بَالُ هَذَا؟» قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ:«إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ» ، وأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ

(3)

.

(1)

البخاري (1866)، ومسلم (1644).

(2)

أحمد (17306)، وأبو داود (3293) و (3295)، والترمذي (1544)، والنسائي (3815)، وابن ماجه (2134).

(3)

البخاري (1865)، ومسلم (1642).

ص: 195

4 -

أن الله لا يحب التقرب إليه بالعمل الذي يشق به الإنسان على نفسه، بل يكره ذلك، وهو معنى قوله:«إِنَّ اللهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ» ؛ لأن الله غنيٌّ عن العالمين وأعمالهم، ففي الحديثين شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم:«اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»

(1)

.

5 -

جواز التوكيل في الاستفتاء، وأن المفتي لا يطلب الأصل إلا إذا اقتضى الأمر ذلك، كمسائل الطلاق.

6 -

أن من جمع في نذره بين مشروع وغير مشروع، وجب عليه الوفاء بالمشروع دون غيره، كما في حديث أبي إسرائيل أنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، وَلْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ»

(2)

.

* * * * *

(1551)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، فَقَالَ:«اقْضِهِ عَنْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

هذا الحديث أصل في قضاء النذر عن الميت، وهو مطلق فيشمل أي نوع من أنواع الطاعات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل عن نوع النذر، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال. ولكن جاء في رواية؛ أَنَّ سَعْدًا رضي الله عنه تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّي

(1)

رواه البخاري (6465)، ومسلم (782)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه البخاري (6704)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

البخاري (2761)، ومسلم (1638).

ص: 196

تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ:«نَعَمْ» ، قال: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَلَيْهَا

(1)

. ولعل الحديثين في قضيتين؛ قضاء نذر، وتبرع من سعد رضي الله عنه. الله أعلم.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

صحة عقد النذر.

2 -

أن نذر أم سعد مسمَّى، لقوله: أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقْضِهِ عَنْهَا» .

3 -

وجوب الوفاء بنذر الطاعة.

4 -

مشروعية قضاء النذر عن الميت.

5 -

فضيلة سعد بن عبادة رضي الله عنه لاهتمامه بنذر أمه، ولصدقته بحائطه عنها.

6 -

أن هدي الصحابة سؤالُ النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا أشكل عليهم.

* * * * *

(1552)

وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:«هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ يُعْبَدُ؟» قَالَ: لَا. قَالَ: «فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟» فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ لهُ، وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ

(2)

.

(1553)

وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ كَرْدَمٍ عِنْدَ أَحْمَدَ

(3)

.

* * *

(1)

البخاري (2756).

(2)

أبو داود (3313)، والطبراني في «الكبير» (1341). وينظر:«البدر المنير» لابن الملقن (9/ 518).

(3)

أحمد (27064).

ص: 197

هذا الحديث أصل في الوفاء بالنذر ما لم يمنع منه مانع شرعي؛ كنذر المعصية.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز التقرب إلى الله بالذبح والنحر مطلقًا.

2 -

تحريم النذر بالمعصية، أو ما يستلزم المعصية.

3 -

تحريم التشبه بالكفار في أعيادهم الزمانية والمكانية وعند أوثانهم، فكيف بالقصد إلى تعظيمها؟!

4 -

أن للمعصية أثرًا في المكان، كما للطاعة.

5 -

جواز تخصيص المكان بالنذر، ما لم يترتب عليه مفسدة حاضرة أو مستقبلة، ومن غير اعتقاد خصوصية شرعية.

6 -

سدُّ ذرائع الشرك.

7 -

وجوب الاستفصال إذا قوي الاحتمال.

8 -

تحريم الوفاء بنذر المعصية.

9 -

أنه لا يجب الوفاء بالنذر فيما لا يملك.

* * * * *

(1554)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ؛ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ:«صَلِّ هَا هُنَا» . فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:«صَلِّ هَا هُنَا» . فَسَأَلَهُ، فَقَالَ:«شَأْنَكَ إِذًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(1)

.

(1)

أحمد (14919)، وأبو داود (3305)، والحاكم (7920).

ص: 198

(1555)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ

(1)

.

(1556)

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ:«فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1557)

وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: «فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً»

(3)

.

* * *

هذه الأحاديث الثلاثة أصل في فضل المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

فضل هذه المساجد الثلاثة على سائر المساجد.

2 -

أن أفضلها المسجد الحرام.

3 -

أن النذر المخصوص بالمسجد الحرام يتعين الوفاء به فيه؛ لأنه أفضل المساجد.

4 -

أن ما زيد في هذه المساجد للتوسعة فله حكم الأصل.

5 -

جواز السفر إليها والاعتكاف فيها، أما السفر إلى المسجد الحرام فهو واجب في العمر مرة، وهو فريضة الحج، وما سوى ذلك فمستحب، ويجب بالنذر.

6 -

تحريم السفر لغير المساجد الثلاثة على وجه العبادة؛ من مسجد أو قبر.

(1)

البخاري (1995)، ومسلم (1397).

(2)

البخاري (2032)، ومسلم (1656).

(3)

البخاري (2042).

ص: 199

7 -

أن من نذر الصلاة أو الاعتكاف في المسجد الفاضل أجزأه فعله في المسجد الأفضل، كما في خبر الرجل الذي نذر أن يصلي في المسجد الأقصى، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجد الحرام من غير إيجابه عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم لما راجعه الرجل:«فَشَأْنَكَ إذًا» .

8 -

أنه ليس من شرط الاعتكاف الصوم؛ لأن عمر رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، وليس الليل وقتًا للصوم.

9 -

جواز الاعتكاف في غير رمضان، لكن ليس من السنة.

10 -

وجوب الوفاء بالنذر.

11 -

صحة النذر المعلق.

12 -

استحباب الانتقال عن النذر المعين إلى ما هو أفضل منه.

13 -

انعقاد النذر من الكافر.

* * * * *

ص: 200

‌كِتَابُ القَضَاءِ

ص: 201

قوله: كتاب القضاء، أي: هذا كتاب ذكر الأحاديث المتعلقة بالقضاء، والقضاء في اللغة الحُكم، وفي الاصطلاح هو الفصل بين الخصمين، ومن شواهده في القرآن قوله تعالى:{* وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط (22)} [ص: 21 - 22] الآيات، وقوله سبحانه:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين (78)} [الأنبياء: 78] الآيات. ومن السنة ما ذكره المؤلف في هذا الباب.

وإذا كان القضاء هو الفصل بين الخصمين بما يقطع النزاع ويوصل الحقوق إلى أصحابها فتولِّيه فرض كفاية، فيجب على ولي الأمر أن يَنصِب في الناس قضاة يحكمون فيهم بعلم وعدل، فلذا يشترط في القاضي أن يكون عالمًا بما توجبه الشريعة، وديِّنًا يتحرى الحق ما استطاع؛ فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وبهذا يُعلَم أن منصب القضاء منصب شريف تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، قال تعالى:{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] إلى قوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] الآية، وقال:{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلَا تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [النساء: 105].

* * * * *

ص: 203

(1558)

عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ، فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الجَنَّةِ؛ وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الحَقَّ فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(1)

.

(1559)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ

(2)

.

(1560)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(3)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث الدَّلالة على خطر وِلاية القضاء، والتحذيرَ من طلب ذلك والحرصِ عليه.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم لذكره أصناف القضاة.

2 -

وجوب القضاء بعلم وعدل.

3 -

تحريم القضاء بالجهل.

4 -

تحريم الجور في القضاء.

5 -

فضل القاضي بعدل وعلم.

6 -

ذم القضاء بالجهل أو بخلاف الحق.

(1)

أبو داود (3573)، والترمذي (1322)، والنسائي في «الكبرى» (5891)، وابن ماجه (2315)، والحاكم (7091)، وصححه العراقي في «تخريج الإحياء» (1/ 78).

(2)

أحمد (7145)، وأبو داود (3571)، والترمذي (1325)، والنسائي في «الكبرى» (5892)، وابن ماجه (2308)، وينظر:«الثقات» لابن حبان (6/ 286)، و «التلخيص الحبير» (339).

(3)

البخاري (7148).

ص: 204

7 -

بناء القضاء الشرعي على العلم والأمانة.

8 -

جواز حكم القاضي بعلمه؛ لقوله: «عَرَفَ الْحَقَّ، فَقَضَى بِهِ» ، وذلك فيما لا تتوجه إليه التهمة فيه.

9 -

أن القضاة باعتبار ذلك ثلاثة، كما في الحديث.

10 -

أن شرًّا من القاضيين اللذين في النار من يقضي بجهل وجور.

11 -

أن تولي القضاء تعرُّضٌ للهلكة؛ لقوله في الحديث: «ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» ، قيل في معنى «ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» أن القضاء هلاك معنويٌّ، فهو من قبيل التشبيه، أي: إنه ذبحٌ معنويٌّ، لقوله:«بِغَيْرِ سِكِّينٍ» . وقيل: معناه: أنه كمن ذُبح بالخنق، فهي ذِبحة أشد من الذبحة بالسكين، ففيه التحذير البالغ من تولي القضاء، وهذا الذم والوعيد يفسره قوله:«القُضَاةُ ثَلَاثَةٌ» ، فيكون المراد بهذا الحديث: من قضى بجهل أو جور. والله أعلم.

12 -

ذمُّ الحرص على الإمارة إلا لسبب شرعي.

13 -

أنَّ عاقبة الحرص على الإمارة ندامة يوم القيامة.

14 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا»

(1)

.

15 -

تحريم طلب ولاية الإمارة والقضاء إلا لسبب شرعي ومصلحة عامة.

16 -

أن الإمارة حلوة في أولها عند توليها لما يطلب من منافعها، مُرَّةٌ في آخرها عند فراقها بعزل أو موت، أو غير ذلك، ولعل هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:«فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ» ، فيكون هذا إخبارًا عن حال الناس فيها.

* * * * *

(1)

رواه البخاري (6622)، ومسلم (1652)؛ عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.

ص: 205

(1561)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ. وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1562)

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1563)

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ، فَسَوْفَ تَدْرِي كَيْفَ تَقْضِي» . قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِيًا بَعْدُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ المدِينِيِّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(3)

.

(1564)

وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ

(4)

.

* * *

تضمَّنت هذه الأحاديث ما يجب على القاضي مراعاته في الحكم فعلًا وتركًا، وهو ثلاثة أشياء:

1 -

أن يجتهد في معرفة ما يقتضيه الشرع في القضية المعينة، ويجتهد في معرفة صورة الواقع، ويجتهد في تطبيق الحكم الشرعي على القضية المعينة.

2 -

ألا يحكم وهو مشوش الذهن بما يشغله عن تدبر القضية وفهمها فهمًا مطابقًا للواقع، وتطبيقِ حكم الشرع عليها؛ من غضب، أو شدة جوع، أو برد، أو حرٍّ، أو نحو ذلك.

3 -

ألا يعجل في الحكم قبل معرفة الأطراف وسماع ما عند كل واحد.

(1)

البخاري (7325)، ومسلم (1716).

(2)

البخاري (7158)، ومسلم (1717).

(3)

أحمد (1211)، وأبو داود (3582)، والترمذي (1331)، وابن حبان (5065).

(4)

الحاكم في «مستدركه» (7082).

ص: 206

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

فضل الاجتهاد في معرفة الحكم، وما يوصل إليه، والاجتهاد بذل الجهد بحسب الإمكان.

2 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

3 -

أن من اجتهد في الحكم فأصاب في الحكم، فله أجران؛ أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة. والأول وسيلة إلى الثاني، وهو بتوفيق الله.

4 -

أن من اجتهد وأخطأ فلا إثم عليه ولا لوم، بل هو مأجور على اجتهاده.

5 -

أن القاضي قد يصيب حكم الله في نفس الأمر، وقد يخطئه.

6 -

الرد على من يقول من أهل الأصول: إن كل مجتهد مصيب.

7 -

أن لله في كل قضية حكما، عَلِمه من عَلِمه، وجَهِله من جَهِله.

8 -

تحريم القضاء مع وجود ما يمنع من الاجتهاد من الشواغل النفسية والبدنية.

9 -

أن الغضب الشديد من موانع الاجتهاد.

10 -

أنه يلحق بالغضب كل ما في معناه.

11 -

أن الغضب اليسير لا يمنع من الحكم؛ لعدم علة التحريم فيه.

12 -

أن من الاجتهاد في الحكم معرفة ما عند المدَّعي والمدَّعى عليه من البينات.

13 -

في حديث أبي بكرة شاهد لقاعدة سد الذرائع وحكمة الشريعة.

14 -

عناية الشريعة بحفظ حقوق العباد في الدماء والأموال والأعراض.

15 -

أنه لا يجوز القضاء على الغائب.

16 -

أنه لا يجوز الحكم إلا بعد سماع كلام الخصمين.

* * * * *

ص: 207

(1565)

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل عظيم في باب القضاء، تضمن أن الحكم بين الخصوم يكون بحسب ما يدلي به كل واحد من حجة، وأن أثر حكم الحاكم بحسب الظاهر دون الباطن.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب.

2 -

أن حكمه صلى الله عليه وسلم بين المتخاصِمَين بحسبما تقتضيه شريعته التي بيَّنها بمثل قوله: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»

(2)

، لا بوحي ينزل يعيِّن المحق من المبطل، إلا أن يكون خطأٌ باجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ينزل في ذلك وحيٌ، كما جاء في سبب نزول قوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلَا تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [النساء: 105] الآيات.

3 -

أن أثر حكم الحاكم بين الخصوم باعتبار الظاهر دون الباطن.

4 -

أن حكم الحاكم للخصم بما ليس له لا يحله له؛ لقوله: «فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» .

5 -

تحريم التوصل إلى أخذ الحقوق ظلمًا بالمخاصمات.

(1)

البخاري (6967)، ومسلم (1713).

(2)

سيأتي تخريجه -إن شاء الله- حيث ذكره المصنف في أول (باب الدعاوى والبينات)، برقم (1585).

ص: 208

6 -

فيه دليل لما يذكره أهل الأصول من أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم ترجع إلى اعتبارات؛ فإما باعتباره نبيًّا، أوباعتباره قاضيًا، أو قائدًا. وما في هذا الحديث راجع إلى أنه قاض؛ لقوله:«فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ» ، وهذه وظيفة القاضي.

7 -

ذمُّ البيان الذي يتوصل به إلى أكل ما لا يحل، ففيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا»

(1)

.

8 -

أن القاضي لا يحكم بعلمه؛ لقوله: «فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ» ، ويستثنى من ذلك ما لا تتوجه إليه فيه التهمة

(2)

.

9 -

وعيد من أخذ مالًا بغير حق.

10 -

رعاية الشريعة للحقوق التي بين العباد.

* * * * *

(1566)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ؟» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ

(3)

.

(1567)

وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ البَزَّارِ

(4)

.

(1568)

وَآخَرُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَه

(5)

.

(1569)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُدْعَى بِالقَاضِي العَادِلِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي عُمْرِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، وَلَفْظُهُ:«فِي تَمْرَةٍ»

(6)

.

(1)

رواه البخاري (5146)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما، ورواه مسلم (869)؛ عن عمار رضي الله عنه.

(2)

ينظر: الفائدة (8) من فوائد الحديث (1558).

(3)

ابن حبان (5059).

(4)

«البحر الزخار» (4464).

(5)

ابن ماجه (4010).

(6)

ابن حبان (5055)، والبيهقي في «الكبرى» (20221)، ينظر:«البدر المنير» (9/ 550).

ص: 209

(1570)

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ

(1)

.

(1571)

وَعَنْ أَبِي مَرْيَمَ الأَزْدِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَلَّاهُ اللهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ المُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَتِهِمْ وَفَقِيرِهِم، احْتَجَبَ اللهُ دُونَ حَاجَتِهِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ

(2)

.

(1572)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(3)

.

(1573)

وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ إِلَّا النَّسَائِيَّ

(4)

.

(1574)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(5)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت جملة من المعاني والأحكام المتعلقة بالقضاء، من واجبات وشروط وآداب وحِكَم.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من حِكَم الولاية ومقاصدها أخذ حق الضعيف من القوي.

2 -

وعيد الأمة التي لا يتحقق فيها ذلك؛ لقوله في الحديث: «كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ» ، وهذا استفهام استبعاد. ومعنى «تُقَدَّسُ»: تصان وتكرم، أي: إنها لا تستحق ذلك.

3 -

إثبات الحساب يوم القيامة.

(1)

البخاري (4425).

(2)

أبو داود (2948)، والترمذي (1333).

(3)

أحمد (9023)، والترمذي (1336) -ولم أجده عند غيره من الأربعة- وابن حبان (5076).

(4)

أبو داود (3580)، والترمذي (1337)، وابن ماجه (2313).

(5)

أبو داود (3588)، والحاكم (7108).

ص: 210

4 -

أن القاضي -وإن كان عادلًا- مُعرَّضٌ للحساب، ولكنه لا يُناقَش ولا يُعذَّب؛ فإنه من نوقش الحساب عُذِّب؛ كما جاء في الحديث الصحيح

(1)

. ولعل تمنيه أنه لم يقض في تمرة لهيبة الحساب.

5 -

تحريم تولية المرأة ولاية عامة على الرجال.

6 -

أن من شروط الإمامة والقضاء الذكورية.

7 -

وعيد من خالف ذلك بعدم الفلاح، وهو الفوز والظفر بالبقاء.

8 -

قصور المرأة في عقلها وتدبيرها.

9 -

تحريم احتجاب الوالي من إمام أو أمير أو وزير أو قاض عن ذوي الحاجات المتعلقة بولايته، بمنعهم من الدخول عليه، أو غيبته عن مكان مقابلتهم. ومعنى «احْتَجَبَ اللهُ دُونَ حَاجَتِهِ» -والله أعلم- أنه لا يجيب دعاءه، ولا يقضي حاجته، كما في الحديث في دعوة المظلوم:«لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»

(2)

.

10 -

أن من أعظم مقاصد الولاية قضاء حاجات ذوي الحاجات، وإيصال الحقوق لأصحابها.

11 -

أن الجزاء من جنس العمل.

12 -

تحريم الرشوة، وأنها من كبائر الذنوب، وهي ما يعطاه القاضي ليجور في حكمه، أو الوالي ليمنع حقًّا عن مستحقه، أو ليعطي من أمر ولايته ما لا يُستحق من مال أو ولاية، وهي من جهة اللغة مأخوذة من الرِّشا -أي: الحبل- الذي يدلى به الدلو لاستقاء الماء، سميت الرشوة بذلك لأنها يتوصل بها الراشي إلى مطلوبه.

(1)

رواه البخاري (6536)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه البخاري (2448)، ومسلم (19)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 211

13 -

أن الرشوة من كبائر الذنوب، وهي من أكل المال بالباطل، كما قال تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون (188)} [البقرة: 188].

14 -

أن من العدل في القضاء إجلاس الخصمين بين يدي القاضي دون تمييز لأحدهما عن الآخر في مجلس أو لفظ أو لحظ.

* * * * *

ص: 212

‌بَابُ الشَّهَادَاتِ

قوله: «بَابُ الشَّهَادَاتِ» ، أي: هذا باب ذكر ما ورد في السنة مما يتعلق بأحكام الشهود والشهادات. والشهادات: جمع شهادة، يقال: شهد بكذا، أي: أخبر به، فشهد مضمن معنى أخبر، ولهذا عدِّي بالباء.

وأصل الشهادة: الإخبار عمَّا يعلمه الشاهد بحسِّه أو بعقله وفطرته، أو بما بلغه من خبر صادق، وهي أنواع باعتبار الشاهد، والمشهود به، والمشهود عليه، والشاهد إما صادق وإما كاذب، والمشهود به إما حق لله، أو حق للعبد، وحق العبد إما عام وإما خاص، والمشهود عليه إما الإنسان نفسه أو غيره، وكذا المشهود له، إما الإنسان نفسه أو غيره، فإن كانت الشهادة من الإنسان على الإنسان نفسه فهي إقرار، وإن كانت الشهادة لنفسه على الغير فهي دعوى، وإن كانت على الغير للغير فهي شهادة.

فإن كان المشهود به حقًا عامًا لله فإن كان خبرًا عن الغير فهو رواية، وإن كان خبرًا عمَّا دل عليه الشرع من حكم فهو فتوى، فإن كان مع إلزام فهو حكم.

وكذلك تتنوع الشهادة من جهة ما يعتبر فيها من العدد، شاهد واحد، أو اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة.

وكان من المناسب ذكر هذا الباب بعد باب الدعاوى والبينات؛ لأن الشهادة من جملة البينات.

* * * * *

ص: 213

(1575)

عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1576)

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في حكم من يَشهد قبل أن يُستشهد، ولكنْ بين الحديثين في ذلك تعارض في الظاهر؛ فإن في الحديث الأول مدح الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها، وفي الثاني ذمٌّ لمن يَشهد ولم يُستشهد، وجُمِع بين الحديثين بحمل الأول على من يأتي بالشهادة لمن يحتاجها ولم يكن يعلم بها، وبحمل الحديث الثاني على من يبادر بالشهادة لهوى في نفع المشهود له، أو الإضرار بالمشهود عليه، وصاحبُ الحق يعلم بما عند الشاهد، لكن لم يحتج إليه، ولم يطلبه.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

فضل من يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها إذا توقف عليها وصول الحق لمستحقه، ومنع الظلم.

2 -

فضل التعاون على البر والتقوى.

3 -

تفاضل الشهداء، فبعضهم أفضل من بعض.

4 -

أن خير الشهداء من يشهد قبل أن يُستشهد.

5 -

ذمُّ من يَشهد قبل أن يُستشهد بنية فاسدة، وإن كان محقًّا في شهادته.

(1)

مسلم (1719).

(2)

البخاري (2651)، ومسلم (2535).

ص: 214

6 -

التحذير من شهادة الزور، وهو معنى «يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ» ، أي: لم يتحملوا الشهادة.

7 -

أنَّ أفضل قرون الأمة القرون الثلاثة، وأن أفضلها قرن الصحابة، ثم قرن التابعين، ثم تابعي التابعين.

8 -

تغير أحوال الناس في دينهم وأمانتهم.

9 -

أن الفساد يكون إما بترك واجب كترك الوفاء بالنذر، أو فعل محرم كالتسرع في الشهادة.

10 -

ذمُّ السِّمَن. قال العلماء: المراد السِّمَن الذي سببه الترف، والإفراط في الملذات، وعدم الهموم بسبب الغفلة عن الأخطار العاجلة والآجلة.

11 -

أن الإخبار بوقوع الشيء في الأمة لا يدل على جوازه؛ بل الغالب أنه يراد به الذم والتحذير، وشواهد هذا كثيرة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:«لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»

(1)

.

12 -

في الحديثين علم من أعلام النبوة؛ وذلك أنه وقع الأمر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن أعظم ما وقع من التغير في القرن الرابع وما بعده.

* * * * *

(1577)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ

(2)

.

(1578)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ

(3)

.

(1)

رواه البخاري (7320)، ومسلم (2669)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

أحمد (6899)، وأبو داود (3600).

(3)

أبو داود (3602)، وابن ماجه (2367).

ص: 215

تضمَّن الحديثان ذكر أنواع من الشهداء ممن لا تقبل شهادتهم، وهم: الأول: الخائن والخائنة، والمراد من يخون الأمانة، والثاني: ذو الغمر -أي: ذو العداوة والشحناء- على أخيه، والثالث: القانع لأهل البيت، وهو الأجير والمنتفع من أهل البيت بالصدقة ونحوها. والرابع: البدوي -وهو الذي يسكن البادية- على صاحب القرية، وهو الحضري.

فالخائن مردود الشهادة مطلقًا، وذو الغِمر مردودة شهادته على خصمه، والقانع مردودة شهادته لأهل البيت، والبدويُّ مردودة شهادته على الحضريِّ. ومرد عدم قبول شهادة هؤلاء تطرُّقُ التهمة إليهم فيما شهدوا فيه؛ لفساد دينٍ كالخائن، أو عداوةٍ كذي الغِمر والبدوي، أو منفعة وهو القانع.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

اشتراط العدالة في الشاهد.

2 -

ألا تتطرق إليه التهمة فيما شهد فيه؛ لسبب من الأسباب، وإن كان عدلًا، والمراد بها التهمة القوية.

3 -

أن الخيانة مانع من قبول الشهادة.

4 -

التحذير من الخيانة.

5 -

أن العداوة والبغضاء لا تبطل الأخوة الإيمانية.

6 -

أن المتهم في شهادته لا تقبل شهادته، سواء أكان بدويًا أم حضريًا، وأما قوله:«لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» فإنه ليس على إطلاقه، بل خرج مخرج الغالب.

* * * * *

ص: 216

(1579)

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: «إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

* * *

هذا أثر عظيم من كلام الخليفة الراشد المحدَّث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يتضمن أصلًا من أصول الشريعة، وهو إجراء أمور الناس على الظاهر، وتفويض سرائرهم إلى الله، ويدل لهذا الأصل نصوص من الكتاب والسنة، كقوله صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ»

(2)

، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله، ظنًا منه أنه قالها تعوُذًا:«أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟»

(3)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»

(4)

، وعلى هذا جرت أحكام الشريعة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المنافقين، من عصمة دمائهم وأموالهم ومناكحتهم وموارثتهم.

وأما قوله: «كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم» فذلك في بعض الأحوال، وفي حق بعض الأشخاص، ويدل لذلك قوله رضي الله عنه:«إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالوَحْيِ» والغالب أخذهم بالظاهر، فالحكم فيهم بما تقتضيه أصول الشرع ونصوص الوحي، ومناسبة هذا الأثر لباب الشهادات أن الحكم على الشهود من حيث العدالة يكون بما ظهر من حالهم.

(1)

البخاري (2641).

(2)

رواه البخاري (25)، ومسلم (22)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

رواه البخاري (4269)، ومسلم (96)؛ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

(4)

رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 217

وفي هذا الأثر فوائد؛ منها:

1 -

تقرير الأصل الذي دلت عليه الشريعة من أخذ الناس بظواهرهم.

2 -

ثبوت علم الله بما في القلوب، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [الأحزاب: 51].

3 -

أن الله قد يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض المنافقين، كما قال تعالى:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 64].

4 -

إعلان الخليفة الراشد رضي الله عنه المنهج الذي يسير عليه في معاملة الرعية.

5 -

تحقيق العدل في الرعية بمراعاة الوالي لهذا الأصل في معاملة الرعية.

6 -

التحذير من المجاهرة بالمخالفات الشرعية.

7 -

أن عدالة الشهود بحسب ما ظهر منهم؛ فمن ظهر منه الخير فهو عدل، ومن ظهر منه الشر فليس بعدل، ومن لم يظهر منه هذا ولا هذا فيطلب من يزكيه.

* * * * *

(1580)

وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ عَدَّ شَهَادَةَ الزُّورِ فِي أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في تحريم شهادة الزور، وبذا تظهر مناسبة الحديث للباب، ولفظه كما في الصحيح: عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» -ثَلَاثًا- قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ: «أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ» . وقول الزور كل قول

(1)

البخاري (2654)، ومسلم (87).

ص: 218

باطل وكذب ظاهر، ونظير هذا الحديث في اقتران قول الزور بالشرك قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور (30)} [الحج: 30].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن الشرك أكبر الكبائر مطلقًا، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له ابن مسعود: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِله نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»

(1)

. وفي الحديث تفسير الشرك.

2 -

أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وقد قرن بالشرك، كما قرن الإحسان إلى الوالدين بالتوحيد.

3 -

أن من أكبر الكبائر شهادة الزور، وهي تتفاوت بحسب ما يترتب عليها من المفاسد في حقوق الله وحقوق عباده، وأصل الزور الميل، وسميت شهادة الزور بذلك لأنها ميل بالكلام عن وجهه وصوابه.

4 -

أن الذنوب منها كبائر وصغائر.

5 -

أن الكبائر تتفاوت، فبعضها أكبر من بعض.

6 -

التغليظ في الإنكار بالقول والفعل، وذلك بتكرير الكلام وتغيير الجِلْسة.

* * * * *

(1581)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: «تَرَى الشَّمْسَ» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:«عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ

(2)

.

* * *

(1)

البخاري (13)، ومسلم (45). وسيأتي في (كتاب الجامع، باب البر والصلة)(1640).

(2)

ابن عدي في «الكامل» (7/ 43)، والحاكم (7124).

ص: 219

هذا الحديث وإن كان ضعيفًا فمعناه صحيح؛ وهو أن شرط الشهادة العلم، قال تعالى:{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون (86)} [الزخرف: 86]؛ فلا بد أن يكون الشاهد عالمًا بما شهد به؛ إما بمشاهدة، أو بما هو بمنزلة المشاهدة؛ كالاستفاضة، والتواتر، ولا يجوز أن تبنى الشهادة في حقوق العباد على ما يكون في النفس من غلبة الظن.

* * * * *

(1582)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ: إِسْنَادٌ جَيِّدٌ

(1)

.

(1583)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مِثْلَهُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان هما الأصل في القضاء بالشاهد واليمين، ومعناهما أنه يُقضى للمدعي على خصمه إذا جاء بشاهد، وحلف على ما ادَّعى به، فالحديثان مخصصان لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وقوله:«وَلَكِنِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»

(3)

؛ فإن محل ذلك إذا لم يأت المدعي ببينة أصلًا؛ فإنها لا تُردُّ عليه اليمين، أما إذا جاء بشاهد فإنها تردُّ عليه اليمين؛ لتَقوِّي جانبه بالشاهد، فإذا حلف قُضي له.

(1)

مسلم (1712)، وأبو داود (3608)، والنسائي في «الكبرى» (5967).

(2)

أبو داود (3610)، والترمذي (1343)، وابن حبان (5073).

(3)

سيأتي تخريجهما -إن شاء الله تعالى- عند أول حديث من الباب التالي: (باب الدعاوى والبينات)، برقم (1584 - 1585).

ص: 220

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أنه لا يقضى للمدَّعي بشاهد واحد، ولا تُردُّ عليه اليمين، إذا نكَل المدَّعَى عليه.

2 -

أن شهادة الواحد إذا اعتضدت بيمين المدَّعي عُمل بها، وحكم بها، وصارت مع اليمين بينة يقضى له بها.

* * * * *

ص: 221

‌بَابُ الدَّعاوَى وَالبَيِّنَاتِ

(1584)

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1585)

وَلِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل من أصول القضاء، وقد تضمن أنه لا تقبل دعوى إلا ببينة، وإذا لم تكن فعلى المدعَّى عليه اليمين.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

غلبة الظلم والكذب على الناس.

2 -

أن دم المعصوم وماله لا يحل شيء منهما إلا ببينة، فالأصل براءة ذمته.

3 -

عظم شأن المال؛ لأنه قُرن بالدم. وشواهد هذا كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم:«إن دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»

(3)

.

4 -

ثبوت الدعوى بكل بينة، وتختلف باختلاف الدعاوى.

5 -

أن الدعوى لا تقبل إلا ببينة.

(1)

البخاري (4552)، ومسلم (1711).

(2)

البيهقي في «الكبرى» (21201)، وحسنه النووي في شرحه على مسلم (12/ 3).

(3)

تقدم تخريجه (1010).

ص: 222

6 -

أن البينة عامة في كل ما يُبين الحق من شهود وقرائن.

7 -

أنه لا فرق في ذلك بين الرجل العدل وغيره.

8 -

براءة المدَّعى عليه بيمينه إذا لم تكن للمدعي بينة.

9 -

أن المدعي إذا لم تكن له بينة لا يحلف، بل يحلف المدعى عليه.

10 -

أن الدعوى تكون في الدماء والأموال وغيرهما من الحقوق، وذكرهما خرج مخرج الغالب.

11 -

أن القاضي لا يحكم بعلمه، ويستثنى من ذلك ما لا تتوجه إليه فيه التهمة

(1)

.

12 -

صيانة الشريعة للحقوق من ظلم الظالمين.

13 -

سد ذرائع الفساد.

* * * * *

(1586)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

.

* * *

موضوع هذا الحديث صورتان: الأولى: أن يدعي اثنان عينًا لا فضل لأحدهما على الآخر في دعواه من بينة أو يد، فلا تُستحق العين إلا باليمين، فاليمين متوجهة إليهما، فإذا أراد كل منهما يحلف أقرع بينهما؛ فمن خرجت له القرعة منهما حلف واستحق العين دون صاحبه، وقد ورد معنى هذه الصورة في رواية عند الإمام أحمد، على ما ذكره الحافظ في «الفتح»

(3)

.

(1)

ينظر: الفائدة (8) من فوائد الحديث (1558).

(2)

البخاري (2674).

(3)

أحمد (10347)، وأبو داود (3616). ينظر:«فتح الباري» (5/ 286).

ص: 223

الصورة الثانية: أن يُدعى على جماعة بحق، من عين أو دين، ولا بينة للمدعي، ثم ينكرون، فتعرض عليهم اليمين فيبادرون إلى ذلك، فيقرع بينهم أيهم يبدأ. والله أعلم.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

قيام أحكام الشريعة على العدل.

2 -

العدل بين الخصوم.

3 -

تخصيص حديث: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»

(1)

بهذا الحديث باعتبار الصورة الأولى.

4 -

أن القرعة من الأدلة الشرعية، وأنه يميز بها المستحق أو الأحق بالشيء، وقد جاءت في الكتاب والسنة.

5 -

أن المدَّعى عليه قد يكون أكثر من واحد، فتتوجه إليهم اليمين مع الإنكار.

6 -

أن اليمين لا يعتد بها إلا بعد عرض القاضي لها على الخصم.

* * * * *

(1587)

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْحَارِثِيِّ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1588)

وَعَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ؛ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

(1)

المتقدم.

(2)

مسلم (137).

(3)

البخاري (2357)، ومسلم (138).

ص: 224

هذان الحديثان أصل في تحريم اليمين الفاجرة، وهي اليمين الغموس التي يقتطع بها الرجل حق أخيه ظلمًا.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن اليمين الفاجرة من كبائر الذنوب.

2 -

أن اليمين يحكم بها لمن توجهت له، كالمنكر للدعوى إذا حلف، والمدعي إذا أتى بشاهد وحلف، فإن صدق لم يضره الحلف، وإن كذب باء بإثمه، ولم يحل له ما اقتطع بيمينه من حق أخيه.

3 -

شدة وعيد من ظلم وفجر في يمينه، وهذا الوعيد من شبهات المعتزلة والخوارج في تخليد صاحب الكبيرة من الموحدين، وأهل السنة يقيدون نصوص الوعيد في أهل الكبائر بأدلة خروج الموحدين من النار.

4 -

أن هذا لا يختلف باختلاف مقدار المدَّعى به المأخوذ بغير حق.

5 -

حرمة مال المسلم.

6 -

إثبات لقاء العباد لربهم.

7 -

إثبات التحريم الجزائي، وهو حرمان دخول الجنة.

8 -

إثبات صفة الغضب لله.

9 -

إثبات الجنة والنار.

* * * * *

(1589)

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَابَّةٍ، لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ

(1)

.

* * *

(1)

أحمد (19603)، وأبو داود (3613)، والنسائي في «الكبرى» (5955).

ص: 225

هذا الحديث أصل في حكم الدَّعْويَيْن إذا تعارضتا، ولا بينة لواحد منهما، ولا مرجح لأحدهما على الآخر؛ ولا يحلَّف واحد منهما، ومحل ذلك إذا لم تكن العين بيد واحد منهما، فإن المدَّعى به يكون بينهما، وإذا صح هذا الحديث -وقد جوَّد إسناده النسائي، وأقره المؤلف- فلا يُصار إلى خلافه، أما إذا كانت العين في يد واحد منهما فإنه يحلف ويستحقها، كما يدل له حديث جابر الآتي في اللَّذَيْن اختصما في ناقة.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من العدل التسويةَ بين المتماثلين.

2 -

حكمة الشريعة، وأنها جارية على وفق العقل والفطرة.

3 -

اعتبار البينة في الدعاوى، وأنه لا تثبت دعوى إلا بها.

* * * * *

(1590)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ؛ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

(1591)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ، يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ: لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا، وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا، لَمْ يَفِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

(1)

أحمد (15024)، وأبو داود (3246)، والنسائي في «الكبرى» (5973)، وابن حبان (4368).

(2)

البخاري (7212)، ومسلم (108).

ص: 226

هذان الحديثان شاهدان لحديثي أبي أمامة الحارثي والأشعث بن قيس المتقدمين في تغليظ إثم ووعيد من حلف بالله كاذبًا، والتقييد بالمنبر في حديث جابر للدلالة على فضله وحرمته، لذلك غلظ الوعيد على من حلف بالله كاذبًا، وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما تخصيص الحلف كذبًا بالبيع بعد العصر فللدلالة على أن اليمين في هذه الحال أشد تحريمًا ووعيدًا، وأما التقييد بكون ذلك بعد العصر، والمراد صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى، فلأن الإقدام على اليمين الكاذبة بعد هذه الصلاة دليل على تمكن الفجور في هذا الحالف؛ إذ لم تنهه هذه الصلاة عن الفحشاء والمنكر، وقوله صلى الله عليه وسلم:«ثَلَاثَةٌ» أي: ثلاثة أصناف، لا أعيان.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

غلظ تحريم اليمين الكاذبة.

2 -

أن اليمين الكاذبة بعضها أغلظ من بعض، والتغليظ يكون بالزمان والمكان وبالصيغة.

3 -

فضل منبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

4 -

أن الله يتكلم ويكلم من شاء، وينظر إلى من يشاء، ويعرض عمن شاء؛ فلا يكلمه ولا ينظر إليه.

5 -

وجوب بذل فضل الماء.

6 -

إثم منع فضل الماء عن ابن السبيل.

7 -

شدة تحريم منع فضل الماء.

8 -

أنه من الكبائر.

9 -

أن من كان على ماء فهو أحق به.

10 -

شدة تحريم الحلف كذبًا في البيع بعد العصر.

ص: 227

11 -

أنه من الكبائر.

12 -

تحريم مبايعة الإمام من أجل الدنيا التي تحت يده، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يفِ.

13 -

أن ذلك من الكبائر.

14 -

وجوب الوفاء ببيعة الإمام، ووجوب طاعته ما لم يأمر بمعصية، وهذه حقيقة الوفاء.

15 -

أن التشابه في عظم الجريمة يقتضي الاشتراك في العقوبة.

* * * * *

(1592)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي نَاقَةٍ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُتِجَتْ عِنْدِي، وَأَقَامَا بَيِّنَةً، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ

(1)

.

(1593)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ. رَوَاهُمَا الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِمَا ضَعْفٌ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان تقدم الكلام عن معناهما عند حديث ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد في باب الشهادات، وعند حديث أبي موسى أن رجلين اختصما في دابة في هذا الباب

(3)

. وتقدمت الإشارة هناك إلى حديث جابر هذا. أما حديث ابن عمر فهو شاهد لحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد، وهذه اليمين هي التي ترد على المدعي طالب الحق؛ لقوة جانبه بالشاهد الذي معه.

* * * * *

(1)

الدارقطني (4477).

(2)

الدارقطني (4490).

(3)

تقدما؛ حديث ابن عباس رضي الله عنه؛ برقم (1582)، وحديث أبي موسى رضي الله عنه؛ برقم (1589).

ص: 228

(1594)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ مَسْرُورًا، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ، فَقَالَ:«أَلَمْ تَرَيْ إِلَى مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ؟ نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ: هَذِهِ أَقْدَامٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في الحكم بالقيافة، وهي مأخوذة من القَفْو، وهي اتِّباع الأثر، والفعل قفا يقفو، وقاف يقُوف، ويقال لمن يعرف الأثر: قائف، ويجمع على قافة، والقيافة أمر فطري في بعض القبائل، وفي بعض الأشخاص، وهي ضرب من الفراسة الطبيعية، ومن قبائل العرب المعروفة بهذا العلم بنو مُدلج وبنو أسد، والعرب تعترف لهم بذلك، وليس ذلك خاصًا بهم على الصحيح، كما قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»

(2)

.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

حُبُّ النبي صلى الله عليه وسلم لزيد وابنه أسامة، وكلاهما حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2 -

سرور النبي صلى الله عليه وسلم بما يبطل الطعن في نسب أسامة من أبيه، ومعنى:«تَبْرُقُ أَسَارِيرُ» أي: يظهر على وجهه السرور، الأسارير هي الخطوط التي في جبهة الإنسان، واحدها سَرَرٌ وسِرٌّ، وجمعها أسرار، وأسارير جمع الجمع.

3 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يتأثر بأسباب السرور والحزن.

4 -

السرور بما به صيانة العرض.

5 -

أن من علم القيافة معرفة الشبه الخفي بين أعضاء الناس.

6 -

أن اختلاف الشبه بين الرجل وابنه لا يوجب الطعن في نسبه.

7 -

اعتبار قول القائف.

8 -

أن مُجزِّزًا المدلجي كان معروفًا بالقِيافة، وكذا قبيلته، كما تقدم.

* * * * *

(1)

البخاري (6770)، ومسلم (1459).

(2)

«فتح الباري» (12/ 57).

ص: 229

‌كِتَابُ العِتْقِ

ص: 231

قوله: «كِتَابُ العِتْقِ» أي: هذا كتاب يذكر فيه ما جاء في السنة في شأن العتق، والعتق اسم مصدر بمعنى الإعتاق، وهو تحرير المملوك وتخليصه من رق العبودية، كما قال تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]، وهو -أيضًا-مصدر عتَق يعتِق-من باب ضرب يضرب- أي: صار حرًّا.

والعتق: من أنواع القربات التي يحبها الله، وشرعه سبحانه بسبب وبغير سبب، فهو بين واجب ومستحب، والعتق حكم من أحكام الرقيق، وهو المملوك من بني آدم، والرجل يقال له: عبد، والأنثى: أمة، والأصل في الإنسان الحرية، والرق طارئ، وليس له في الشرع إلا سبب واحد، وهو الكفر؛ لأن الله أباح للمسلمين إذا جاهدوا الكفار وغلبوهم واستولوا على نسائهم وأولادهم فإنهم يكونون سبيًا، فيصيرون ملكًا للمجاهدين، كما تكون أموال الكفار ملكًا لهم، وهي الغنيمة، فالرق حكم شرعي من أحكام الجهاد، والرقيق يوجد ويكثر بقيام الجهاد في سبيل الله لكثرة الفتوح، كما حصل في صدر هذه الأمة، نسأل الله أن يعز دينه. وينصر أولياءه.

* * * * *

(1595)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا، اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1596)

وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ؛ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: «وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ؛ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ»

(2)

.

(1597)

وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ: «وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً؛ كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ»

(3)

.

* * *

(1)

البخاري (2517)، ومسلم (1509).

(2)

الترمذي (1547).

(3)

أبو داود (3967).

ص: 233

هذه الأحاديث أصل في فضل العتق، سواء كان واجبًا أو تطوعًا.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن عتق الرقاب سبب للعتق من النار.

2 -

أن العتق يتجزأ بالأجزاء كالنصف والربع، وبالأعضاء كالرأس واليد، ثم يسري، كما سيأتي.

3 -

أن عتق الرجل لامرأتين يعدل عتق رجل.

4 -

أن عتق الرجل لرجل، وعتق المرأة لامرأة سببٌ للعتق من النار.

5 -

فضل الذكر على الأنثى في باب العتق، كما في الشهادة والميراث.

6 -

الرد على من يسوي بين الذكر والأنثى في كل شيء.

7 -

أن هذا الفضل -وهو العتق من النار- لا يثبت إلا للمسلم في عتق مسلم، وهذا لا يمنع من صحة إعتاق المسلم لعبده الكافر، ولا يمنع الكافر من إعتاق عبده المسلم أو الكافر، ويدل لهذا حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعماله الصالحة في الجاهلية، ومنها العتاقة، فقال له صلى الله عليه وسلم:«أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ»

(1)

.

8 -

الترغيب في العتق.

9 -

الرد على جهال الصوفية في الاستهانة بالثواب والعقاب، فهم يعبدون الله -بزعمهم- بالحبِّ فقط، لا خوفًا ورجاءً.

10 -

أن الجزاء من جنس العمل.

* * * * *

(1)

رواه البخاري (1436)، ومسلم (123).

ص: 234

(1598)

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ» ، قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَعْلَاهَا ثَمَنًا، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في تفاضل الأعمال في العبادات الظاهرة والباطنة، البدنية والمالية.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن أفضل الأعمال مطلقًا الإيمانُ بالله ورسوله؛ لأنه أصل جميع الأعمال الصالحة، وشرطُها.

2 -

أن أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله الجهادُ في سبيل الله، وهو قتال الكفار لتكون كلمة الله هي العليا.

3 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ -أي الإسلام- الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ»

(2)

. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في جوابه لابن مسعود رضي الله عنه حين سأله: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»

(3)

، فلأن الصلاة أعظم شرائع الإيمان، وأما بر الوالدين فإنما قدم على الجهاد الذي هو فرض كفاية، لا الجهاد الذي هو فرض عين.

4 -

أن عتق الرقاب من القربات إلى الله.

5 -

أن أفضل ما يعتق من الرقاب أعلاها ثمنًا وأنفسها.

6 -

أن أفضل ما ينفق من المال: النفيسُ المحبوبُ، كما قال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].

(1)

البخاري (2518)، ومسلم (84).

(2)

رواه أحمد (22016)، والترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)؛ عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (527)، ومسلم (85).

ص: 235

7 -

أن من العلم النافع العلمَ بتفاضل الأعمال.

8 -

حرص الصحابة على العلم بذلك للعمل به.

* * * * *

(1599)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ، قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1600)

وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ»

(2)

، وَقِيلَ: إِنَّ السِّعَايَةَ مُدْرَجَةٌ فِي الْخَبَرِ

(3)

.

* * *

هذان الحديثان هما الأصل في سِراية العتق، بمعنى أنَّ عتق بعض المملوك يؤدي إلى عتق سائره، وهذه السراية قهرية.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

أن من أعتق شِركًا له في عبد وجب عليه عتق جميع العبد، وذلك بأن يعطي شركاءه قيمة حصصهم إن كان له مال يسع ذلك، فيعتق العبد.

2 -

أن مُعتِقَ الشِّركِ إذا لم يستطع شراء باقيه فإن العبد يبقى مُبعَّضًا، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» أي: يصير نصيب معتق الشرك حرًا، وباقيه على أصل الرق.

(1)

البخاري (2522)، ومسلم (1501).

(2)

البخاري (2527)، ومسلم (1503).

(3)

وهي قوله: «وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» فمنهم من قال: هي من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: هي مدرجة من قول أحد الرواة، وقد رجَّح البخاري ومسلم القول الأول، كما هو ظاهر حين رويا الحديث بتمامه، ورجح القول الثاني: أحمد والدارقطني وابن المنذر والبيهقي والخطيب والحاكم والخطابي، وجزموا بالإدراج وأنها من كلام قتادة. ينظر:«نصب الراية» للزيلعي (3/ 282).

ص: 236

3 -

أنه يجب على الرقيق المُبعَّض أن يسعى في تحرير باقيه بأن يكتسب بقدر ما فيه من الحرية ليؤدي لباقي الشركاء قيمة حصصهم. وهذا معنى ما جاء في الحديث «وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» ، وقد اختلف العلماء في ذلك للاختلاف في رفع هذه الزيادة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

4 -

تشوُّف الشرع لتحرير الرقاب. وحكم الأَمَة في ذلك حكم العبد الذكَر لعدم الفارق المؤثر.

5 -

أن لتقويم السلع أصلًا.

6 -

أنه إذا وجب بيع السلعة جاز التسعير على مالكها، وهذا معنى قوله:«قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ» .

* * * * *

(1601)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيُعْتِقَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1602)

وَعَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرٌّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ، وَرَجَّحَ جَمْعٌ مِنَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان أصل في عتق الرحم المحرم بمِلكه، والرَّحِم المحرَّم هو القرابة القربى؛ الوالدان وإن علوا، والأولاد وإن نزلوا، والإخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمات والأخوال والخالات دون أولادهم، وضابطه حرمة النكاح بينهما، وهو معنى قوله:«ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ» .

(1)

مسلم (1510).

(2)

أحمد (20227)، وأبو داود (3949)، والترمذي (1365)، والنسائي في «الكبرى» (4878)، وابن ماجه (2524)، ينظر:«التلخيص الحبير» (4/ 390).

ص: 237

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

أن من ملَك ذا رحم محرم عتَق عليه، وهذا صريح في حديث سمرة، وظاهر حديث أبي هريرة أنه لا يعتق بمجرد الملك لقوله: «إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ

(1)

فَيُعْتِقَهُ»، ولهذا اختلف العلماء في حكم العتق بالملك، وسبب هذا الاختلاف هو التعارضُ بين حديث أبي هريرة وحديث سمُرة، وترجيحُ الحفاظ أن حديث سمُرة من قوله.

2 -

عظم حق الوالدين.

3 -

أن من أعظم صلة الرحم وبر الوالدين عتقَ من كان في الرق منهم بشرائه وتحريره.

4 -

جواز مِلك الولد لوالده، لكن يجب عليه أن يعتقه.

5 -

أنه يمكن أن يكون الابن حرًا، والأب مملوكًا.

6 -

أن الابن لا يبلغ جزاء والده بأي نوع من الإحسان إلا أن يجده مملوكًا فيعتقه.

* * * * *

(1603)

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

هذا الحديث أصل في تقييد تبرع الإنسان في مرض موته بالثلث، فهو كالوصية؛ لأنه قد تهيأ أن يكون المال للورثة.

(1)

لفظة: «فَيَشْتَرِيَهُ» موجودة عند مسلم، ولم يذكرها الحافظ.

(2)

مسلم (1668).

ص: 238

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

صحة عتق المريض المرض المخوف لمملوكه، لكن ذلك مقيد بما إذا خرج من ثلثه.

2 -

أن المريض المرض المَخُوف إذا أخرج جميع ماله بعتق أو عطية فإنه يُرد إلى الثلث.

3 -

أن المال إذا كان متماثلًا فيعيَّن المُخرَج بالقرعة.

4 -

أن المال إذا لم يكن متماثلًا فلا بد من التقويم لمعرفة الثلث.

5 -

أنه يحرم على المريض أن يتبرع بأكثر من الثلث، كالوصية.

6 -

أن القرعة طريق شرعي لتعيين المطلوب في الأشياء المتماثلة.

7 -

الإنكار الشديد على من خالف في تصرفه حكم الشرع.

* * * * *

(1604)

وَعَنْ سَفِينَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كُنْتُ مَمْلُوكًا لِأُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ: أُعْتِقُكَ وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخْدِمَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا عِشْتَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ

(1)

.

(1605)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حَدِيثٍ

(2)

.

(1606)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» . رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(3)

.

(1)

أحمد (21927)، وأبو داود (3932)، والنسائي في «الكبرى» (4977)، والحاكم (6628).

(2)

البخاري (2156)، ومسلم (1504).

(3)

الشافعي في «مسنده» (237)، وابن حبان (4950)، والحاكم (8071)، ينظر:«التلخيص» (4/ 392)، وتقدم في (باب الفرائض)(1080).

ص: 239

(1607)

وَأَصْلُهُ فِي ««الصَّحِيحَيْنِ» » بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت جملة من أحكام العتق، فمنها:

1 -

جواز العتق بشرط.

2 -

جواز اشتراط خدمة العتيق لسيده أو غيره، وهذا الاشتراط بمعنى الاستثناء.

3 -

أن الولاء لمن أعتق، والولاء علاقة شرعية بين المعتِق والعتيق تقتضي إرث المعتِق للعتيق بالتعصيب عند عدم العصبة من الأقارب، وقال بعض العلماء: إن العتيق يرث المعتِق عند عدم وارثه من القرابة.

4 -

أن الولاء صلة بين المُعتِق والعتيق تشبه صلة الوالد بالولد. ومعنى قوله: «لُحْمَةٌ» أي: كلُحمة الثوب، وهو نسيجه الظاهر المتصل بنسيجه الباطن، وهو السَّدَى.

5 -

أن الولاء لا يباع ولا يوهب، كالنسب، أي: فكما أن الأخوة والعمومة لا يصح فيهما البيع، فكذلك الولاء. وقول الحافظ:«في حديث» : يشير إلى سبب الحديث وهو قصة بريرة الشهيرة التي كاتبها أهلها، واشترتها عائشة رضي الله عنها، فاشترط أهلها أن يكون الولاء لهم، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ» ، وفيه:«كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ، وَإِنَّمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»

(2)

.

* * * * *

(1)

البخاري (2535)، ومسلم (1506)، بلفظ:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وهبته» .

(2)

هذا لفظ مسلم (1504). وتقدم حديث عائشة بطوله (884).

ص: 240

‌بَابُ المُدَبَّرِ وَالمُكَاتَبِ وَأُمِّ الوَلَدِ

قوله: «بَابُ المُدَبَّرِ

»، أي: هذا ذكر ما جاء في السنة في حكم هؤلاء الرقيق: المدبر والمكاتب وأم الولد، والمراد بالمدبر: المعتَق عن دُبر، أي: الذي عُلق عتقه على موت سيده؛ لأن الموت دبر الحياة. والمكاتب: هو العبد الذي اشترى نفسه من مواليه بثمن مؤجل، وأم الولد: هي الأمة السُّرِّية التي ولدت من سيدها، أو حملت من سيدها، وولدت ما فيه خلق إنسان.

* * * * *

(1608)

عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟» فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1609)

وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: فَاحْتَاجَ

(2)

.

(1610)

وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ وَقَالَ:«اقْضِ دَيْنَكَ»

(3)

.

* * *

هذا الحديث هو الأصل في حكم المدبَّر، وهو أنه لا يَعتق قبل موت سيده، فيصح بيعه وهبته وعتقه.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

جواز بيع المدبَّر.

(1)

البخاري (6716)، ومسلم (997).

(2)

البخاري (2141).

(3)

النسائي (5418).

ص: 241

2 -

أن للحاكم بيع المدبَّر في قضاء دين سيده، وتوليه لذلك.

3 -

أن حكم التدبير حكم الوصية، فلا ينفذ إلا بعد الموت.

4 -

جواز عرض السلع لمن يشتري ولمن يزيد.

* * * * *

(1611)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

(1)

.

(1612)

وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالثَّلَاثَةِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(2)

.

(1613)

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(3)

.

(1614)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُودَى الْمُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الْحُرِّ، وَبِقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ دِيَةَ الْعَبْدِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ

(4)

.

* * *

تضمَّنت هذه الأحاديث جملة من أحكام المكاتب؛ منها:

الأول: أن المكاتب قِنٌّ، أي: كلُّه عبد، حتى يؤدي دين الكتابة.

الثاني: أن مكاتَب المرأة إذا كان عنده ما يؤدي منه دينه، فعليها أن تحتجب منه؛ لأنه بصدد أن يكون حرًّا، فيكون أجنبيًا منها.

(1)

أبو داود (3926).

(2)

أحمد (6666)، والترمذي (1260)، والنسائي في «الكبرى» (5007)، وابن ماجه (2519)، والحاكم (2922).

(3)

أحمد (26473)، وأبو داود (3928)، والترمذي (1261)، والنسائي في «الكبرى» (9184)، وابن ماجه (2520).

(4)

أحمد (1944)، وأبو داود (4581)، والنسائي (5000).

ص: 242

الثالث: أن المكاتب الذي أدَّى بعض دين كتابته يكون في ديته إذا قتل في حكم المُبعَّض، فبقدر ما أدَّى يكون هو الحرَّ منه، فتجب فيه ديةُ الحر، وبقدر ما بقي من دين الكتابة يكون رقيقًا، فيودَى بقدر دية الرقيق، أي: المملوك، وليس هو قبل الموت مُبعَّضًا. لكنه لما قُتل صار في حكم المُبعَّض؛ لتعذر تحريره أو إرقاقه.

وفي الأحاديث فوائد سوى ما تقدم، منها:

1 -

مشروعية الكتابة، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. وهي أن يشتري العبد نفسه من سيده بمال يؤديه له.

2 -

أن الكتابة طريق إلى الحرية.

3 -

أن المُكاتَب لا يَعتِق منه شيء حتى يؤدي دين الكتابة، إلا إذا قُتل ووجبت فيه الدية، على ما ذكر في حديث ابن عباس، فلا يكون بين الحديثين تعارض.

4 -

جواز تملك المرأة للعبد.

5 -

أن مملوك المرأة يجوز له النظر إليها، ولا يجب عليها الاحتجاب عنه.

6 -

وجوب الحجاب على المرأة من الرجال الأجانب.

7 -

أن المُبعَّض حكمه حكم كامل الحرية في نظره لسيدته، واحتجابها منه، تغليبًا لجانب التحريم.

8 -

جواز تصرف المرأة في مالها بغير إذن زوجها.

9 -

أنه إذا تعذر العلم بحكم من الأحكام على وجه الكمال فُعل منه المقدور، ففيه شاهد لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، يدل لذلك حديث ابن عباس.

ص: 243

10 -

جواز تسمية المملوك عبدًا، وفي القرآن:{وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُّشْرِكٍ} [البقرة: 221]، وهذه عبودية عارضة خاصة، أما العبودية لله فهي لازمة وعامة، وقد يورَّى بالعامة عن الخاصة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لزاهر بن حرام الأشجعي رضي الله عنه:«مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟»

(1)

.

* * * * *

(1615)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ -أَخِي جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهما قَالَ: «مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَلَا عَبْدًا وَلَا أَمَةً وَلَا شَيْئًا، إِلَّا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

.

* * *

هذا الحديث من شواهد تقلله صلى الله عليه وسلم من الدنيا، وإنفاقه كل ما وقع في يده منها، لذلك لم يترك عند موته شيئًا من أثمان ولا عُروض، فلم يورث شيئًا، وما يُقدَّر أنه تركه فإنه لا يورث عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ»

(3)

، وأما بغلته البيضاء فيقال لها: دُلدُل، وهي التي أهداها

(1)

الحديث له قصة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا كَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْهَدِيَّةَ مِنْ الْبَادِيَةِ فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فقالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ» . وكانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ، وكانَ رَجلًا دميمًا، فأَتَاه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَومًا وَهو يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَلَا يُبْصِرُهُ الرَّجُلُ، فقالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا، فالتفتَ فَعرَفَ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ لَا يَأْلُوْ مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَيْنَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقولَ:«مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟» فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إذًا وَاللهِ تَجدُنِي كَاسِدًا، فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَكِنْ عِنْدَ اللهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ» أو قالَ: «لَكِنْ عِنْدَ اللهِ أَنْتَ غَالٍ» . رواه أحمد (12648)، وصححه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (9/ 369).

(2)

البخاري (2739).

(3)

البخاري (2927)، ومسلم (1757) دون قوله:«إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ» ، فقد رواه أحمد (9972)، والنسائي في «الكبرى» (6275)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (3/ 216):«إسناده على شرط مسلم» .

ص: 244

له المقوقس، ولا نعلم أنها آلت بعده لأحد من المسلمين، ولعل الحافظ ذكر هذا الحديث في كتاب العتق للاستدلال به على أن ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من رقيق فقد أعتقهم في حياته.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التقلل في الدنيا.

2 -

أنه لم يخلف شيئًا بعده.

3 -

إباحة اقتناء البغال وركوبها، وهو ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

4 -

أن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مِلكه، بل قد جعلها لأزواجه، لكل واحدة بيتها الذي هي فيه.

* * * * *

(1616)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا أَمَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا؛ فَهِيَ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ

(1)

، وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ وَقْفَهُ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه

(2)

.

* * *

هذا الحديث إذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فالمعول على الموقوف، وإذا كان عمر رضي الله عنه قال ذلك، فإما أن يكون له حكم الرفع أو يكون من سنة الخلفاء الراشدين التي أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل بها، وهو دالٌّ على حكم أم الولد، وهو أنها تعتق بموت سيدها، ولعل هذا هو الذي أوجب لعمر رضي الله عنه النهي عن بيع أمهات الأولاد، كما تقدم في البيوع

(3)

.

* * * * *

(1)

ابن ماجه (2515)، والحاكم (2245).

(2)

مالك في «الموطأ» (2248)، وإسناده صحيح.

(3)

تقدَّم برقم (885).

ص: 245

(1617)

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ غَارِمًا فِي عُسْرَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبًا فِي رَقَبَتِهِ، أَظَلَّهُ اللهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(1)

.

* * *

هذا الحديث من أحاديث الترغيب في الإعانة على الخير، ففيه معنى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، والشاهد من الحديث ما فيه من الترغيب في إعانة المكاتب.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

فضل الجهاد في سبيل الله.

2 -

الترغيب في الإعانة عليه.

3 -

الترغيب في إعانة العبد على تحرير نفسه.

4 -

الترغيب في إعانة الغارم على قضاء دينه.

5 -

حاجة الخلق إلى الظل يوم القيامة حين تدنو الشمس من الخلائق.

6 -

أنه ليس هناك ما يستظل به يوم القيامة إلا الظل الذي يخلقه الله فيظل به من يشاء، كهؤلاء المذكورين في الحديث، وكالسبعة، وإضافة الظل إلى الله من إضافة المخلوق إلى خالقه، لا من إضافة الصفة إلى الموصوف، ومما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ»

(2)

.

* * * * *

(1)

أحمد (15987)، والحاكم (2503).

(2)

رواه أحمد (17333)؛ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (3310)، والحاكم (1517)، وتقدم (722).

ص: 246

‌كِتَابُ الجَامِعِ

ص: 247

قوله رحمه الله: «كِتَابُ الجَامِعِ» ، أي: هذا كتاب جامع لأحاديث كثيرة وآثار لأبواب من العلم في الآداب والأخلاق، والأدعية والأذكار.

* * * * *

ص: 249

‌بَابُ الأَدَبِ

قوله: «بَابُ الأَدَبِ» ، أي: هذا باب ذكر ما جاء في السنة من الآداب القولية والفعلية، والأدب: اسم جنس، ويجمع على آداب، وهي كل ما يحسن ويستحسن في الهدي والمعاملة من قول أو فعل، وهي من أخصِّ الأخلاق الكريمة التي يحبها الله تعالى، وليس منه الأدب في اصطلاح الشعراء والكتاب، بل إطلاق اسم الأدب على ذاك من زور القول، لذلك يندرج في الأدباء مَنْ هو مِنْ فاسدي الأخلاق والاعتقاد.

وينبغي أن يعلم أن الأدب قسمان؛ أدب مع الله وأدب مع العباد، فأما الأدب مع الله فهو استعمال التقوى له في السر والعلن، ومن ذلك ترْكُ التقدم عليه في الحكم من تحليل أوتحريم أو إيجاب أو استحباب، أو تقديم لما أخره، أو تأخير لما قدمه، والأدب مع العباد هو أداء الحقوق، والمسامحة في الحقوق، وإنزال كل منزلته.

* * * * *

(1618)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

تضمن هذا الحديث جملة من أدب الأخوة الإسلامية، وهو أداء الحقوق، وقد اشتمل الحديث على ستة منها، وظاهر الحديث وجوبها من وجهين:

(1)

مسلم (2162).

ص: 250

1 -

من قوله: «عَلَى الْمُسْلِمِ» ، كما تفيده (على)، كما قال تعالى:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97].

2 -

ومن الأمر بكل واحد.

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

عظم شأن الأخوَّة الإسلامية. كيف وهي مبنيَّة على الإيمان بالله والحب في الله.

2 -

وجوب رعاية الأخوَّة لأداء ما تقتضيه من الحقوق.

3 -

مشروعية السلام على المسلم عند لقائه، وظاهر الحديث وجوب ابتداء السلام، والمشهور عند العلماء أن ابتداء السلام سنة أو مستحب، ورده واجب.

4 -

أن السلام تحية المسلم للمسلم.

5 -

أن السلام حق للمسلم على المسلم، وإن تفاوتت منزلتهما، وإن لم يكن بينهما معرفة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»

(1)

.

6 -

أنه لا حق للكافر في ابتداء السلام عليه.

7 -

أن من حق المسلم على المسلم إجابة دعوته، وللعلماء في ذلك تفاصيل معروفة، والدعوة معتبرة بأي وسيلة معتادة.

8 -

أن من حق المسلم على المسلم النصيحة له إذا استنصح، أي: طلب النصيحة في أمر من الأمور، وهي الاستشارة. والنصيحة أن تدله على خير ما تعلمه له، وتحذره من شر ما تعلمه له.

9 -

مشروعية تشميت العاطس إذا حمد الله، وهو أن تقول له: يرحمك الله.

(1)

رواه البخاري (12)، ومسلم (39)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 251

10 -

مشروعية عيادة المريض المسلم واتباعِ جنازته.

11 -

أن لأداء هذه الحقوق مصالح عامة وخاصة دينية ودنيوية، وأعظمها التحاب بين المؤمنين الذي به يتحقق الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم:«لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ»

(1)

.

* * * * *

(1619)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

تضمن هذا الحديث ما هو من أعظم الأسباب لتحقيق القناعة والرضا بما قسم الله، وهو النظر إلى من دون الإنسان في الحظوظ، وترك النظر إلى من فضل عليه.

وفي الحديث فوائد، منها:

1 -

تفاضل العباد في الخلق والرزق وغيرهما من الحظوظ.

2 -

أن نظر الإنسان إلى من فُضِّل عليه في المال أو غيره يحقِّر في نفسه النعمة التي هو فيها، فلا يشكر ربه عليها.

3 -

أن نظر الإنسان إلى من فوقه مجلبةٌ للحسد والغم، إلا نظرَ الغبطة فيما تُستحب فيه؛ كالعلم والعمل الصالح؛ لحديث:«لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ»

(3)

.

(1)

رواه مسلم (54)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

البخاري (6490)، ومسلم (2963)، واللفظ له.

(3)

رواه البخاري (73)، ومسلم (268)؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه، ورواه أيضًا البخاري (7529)، ومسلم (266)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 252

4 -

أن نظر الإنسان إلى من دونه يثمر الرضا والقناعة وشكر المنعم سبحانه.

5 -

تفكر العبد في نعمة الله عليه، وما فضله به على كثير من الناس.

6 -

الإرشاد إلى ما يحمل على شكر النعمة وترك ما يؤدي إلى كفرها.

7 -

كراهة الدخول على الأثرياء أصحاب الأبهات.

8 -

حسن إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يحقق الاستقامة في النظر إلى أحوال الناس.

9 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم ببيان الحكمة فيما أرشد إليه.

* * * * *

(1620)

وَعَنِ النَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ:«الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

هذا الحديث أصل في تفسير البر والإثم، ولكن البر في الحديث أخص من البر في قوله تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 177] الآية، والإثم في الحديث أخصُّ منه في قوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

وفي الحديث فوائد؛ منها:

1 -

حرص الصحابة على معرفة المعاني الشرعية.

2 -

فضل حسن الخلق.

3 -

أن حسن الخلق جامع للبرِّ كُلِّهِ.

(1)

مسلم (2553).

ص: 253

4 -

أن البر والإثم ضدان.

5 -

أن الإثم يجلب القلق للنفس.

6 -

أن الإثم مستقبح عند ذوي الفطر السليمة.

7 -

أن ذا الفطرة السوية لا يجاهر بالإثم بل يستتر به.

8 -

أن طمأنينة قلب المؤمن التقي إلى الشيء دليل على البر.

9 -

أن البر يجلب الطمأنينة.

10 -

أن التردد في الشيء والتحرج منه دليل على أنه إثم، وليس منه تردُّدُ المبتلى بالوسواس وتحرُّجه.

* * * * *

(1621)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ

(1)

.

(1622)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

هذان الحديثان تضمنا أدبين من آداب المجالسة؛ أحدهما: ألا يتناجى اثنان دون الثالث إذا كانوا ثلاثة. الثاني: لا يقيم الرجلُ الرجلَ ثم يجلس مكانه.

وفي الحديثين فوائد؛ منها:

1 -

تحريم أن يتناجى اثنان دون الثالث إذا كانوا ثلاثة، وكذا إذا كانوا ثلاثة دون الرابع إن كانوا أربعة؛ لأنه لا مفهوم للعدد. وذكر الثلاثة خرج مخرج الغالب.

(1)

البخاري (6290)، ومسلم (2184).

(2)

البخاري (6270)، ومسلم (2177).

ص: 254

2 -

أن محل النهي إذا كانوا منفردين عن الناس.

3 -

تعليل الأحكام الشرعية؛ لقوله: «مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» .

4 -

تحريم أن يقيم الرجل غيره، ثم يجلسُ مكانه.

5 -

أن الإنسان أحق بمكانه الذي سبق إليه، ما دامت حاجته لم تنقض، وللعرف في هذا مدخل، فيراعى.

6 -

مشروعية التفسح في المجالس.

7 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} [المجادلة: 11].

8 -

كمال الشريعة؛ لاشتمالها على أحسن الآداب في جميع الأحوال. ومن ذلك أدب المجالسة.

* * * * *

(1623)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1624)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1625)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

* * *

(1)

البخاري (5456)، ومسلم (2031).

(2)

مسلم (2026).

(3)

مسلم (2020). تنبيه: قام شيخنا عبد الرحمن في هذا الباب بتقديم بعض الأحاديث على بعض، تبعًا لتناسب الموضوعات. أفاده الشارح -حفظه الله-.

ص: 255

هذه الأحاديث تضمَّنت جملة من آداب الأكل والشرب، وهي لعق اليد قبل مسحها، وترك الشرب قائمًا، والأكل والشرب باليمين.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية لعق الأصابع بعد الأكل.

2 -

أن السنة الأكلُ باليد.

3 -

جواز أن يلعق يدَ الآكل غيرُه ممن لا يكره ذلك، أو يحبه.

4 -

التواضع بلعق اليد بعد الأكل.

5 -

النهي عن الشرب قائمًا.

6 -

وجوب الأكل باليمين.

7 -

تحريم الأكل بالشمال.

8 -

اشتمال الشريعة على محاسن الآداب في جميع الأحوال.

9 -

تعليل الأحكام الشرعية.

10 -

أن الشيطان يأكل ويشرب، وأن له شمالًا ويمينًا.

11 -

النهي عن التشبه بالكفار؛ لأنهم كالشيطان يأكلون ويشربون بالشمال.

12 -

نصح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بدلالتهم على كل خير، ونهيهم عن كل شر.

* * * * *

(1626)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِيُسَلِّمِ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1627)

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَالرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي»

(2)

.

(1)

البخاري (6231)، ومسلم (2160).

(2)

وروى هذه الزيادة -أيضًا- البخاري (6232).

ص: 256

(1628)

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ

(1)

.

(1629)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيْتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث بعض آداب السلام وأحكامه.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

مشروعية السلام عند التلاقي ابتداءً وردًّا.

2 -

أن ابتداء السلام يكون من الصغير على الكبير، ومن المار على القاعد، ومن القليل على الكثير، ومن الراكب على الماشي.

3 -

أنه يجزئ في السلام عن الجماعة بعضُهم في الابتداء والرد، ومعنى هذا أن السنة تكون كفائية وعينية، كالفَرض. فابتداء السلام سنة، ورده واجب، وكلاهما على الكفاية.

4 -

تفاوت الناس في الرتب الحسية والمعنوية، ويتبع ذلك التفاوت في حق ابتداء السلام.

5 -

تحريم ابتداء اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار بالسلام، وأما الرد عليهم إذا سلموا، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ»

(3)

، وكان اللائق بالمصنف رحمه الله أن يذكر هذا الحديث في الباب.

6 -

الأمر باضطرارهم عند اللقاء في الطريق إلى أضيقه، وهو جانبه، فلا يترك المسلم لهم وسط الطريق؛ لأن ذلك نوعٌ من التكريم. وهو لا يليق إلا

(1)

البيهقي في «الكبرى» (9/ 49)، ولم أجده في «المسند» ، لكن أخرجه أبو داود (5210).

(2)

مسلم (2167).

(3)

رواه البخاري (6258)، ومسلم (2163)؛ عن أنس رضي الله عنه.

ص: 257

مع المسلم، وكذا إذا كان الكافر خلفك في سيارة فلا تفسح له الطريق ليتقدم، لكن لا تُضطره إلى ما فيه خطر على حياته.

7 -

وجوب الفرق بين المسلم والكافر بالاحترام والإكرام وتحية السلام.

* * * * *

(1630)

وَعَنْهُ رضي الله عنه، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

(1631)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ، وَلْتَكُنْ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1632)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ، وَلْيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِيَخْلَعْهُمَا جَمِيعًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1633)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

(1634)

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلْ وَاشْرَبْ وَالْبَسْ وَتَصَدَّقْ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَحْمَدُ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ

(5)

.

* * *

(1)

البخاري (6224).

(2)

البخاري (5855)، ومسلم (2097).

(3)

البخاري (5856)، ومسلم (2097)(68).

(4)

البخاري (5783)، ومسلم (2085).

(5)

أحمد (6695)، ولم نجده في «سنن أبي داود» ، ولعل الحافظ أراد به الطيالسي كما عزاه إليه في «الفتح» ، وهو في مسنده (2375)، والبخاري (7/ 141).

ص: 258

تضمَّنت هذه الأحاديث جملة من الآداب القولية المتعلقة بالعطاس، والآداب الفعلية المتعلقة باللباس، وبالطعام والشراب.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

كمال الشريعة؛ لاشتمالها على مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب في جميع شؤون الإنسان.

2 -

مشروعية حمد الله بعد العطاس.

3 -

مشروعية الدعاء بالرحمة للعاطس إذا حمد الله، فيقال له:«يَرْحَمُكَ اللهُ» ، وهذا هو معنى التشميت، وهو من حق المسلم على المسلم.

4 -

مشروعية دعاء العاطس لمن شمته بالهداية وصلاح البال: «يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» .

5 -

مشروعية التيمُّن في لبس النعل، ففي الحديث شاهد لسنته الفعلية؛ إذ كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله

(1)

. وعكس ذلك في خلع النعل؛ إذ يبدأ فيه بالشمال.

6 -

النهي عن المشي بنعل واحدة.

7 -

مراعاة حُسن الهيئة في اللباس؛ فإن المشي بنعل واحدة مما لا يحسن في الفطرة.

8 -

أن المشي بنعل واحدة من التشبه بالشيطان، كما جاء صريحًا في رواية أخرى

(2)

.

9 -

أن الأكل والشرب واللباس من نعم الله التي خلقها الله وأباحها لعباده.

(1)

رواه البخاري (168)، ومسلم (268)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواها الطحاوي في «مشكل الآثار» (1358)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمَشْيِ فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ، وَقَالَ:«إِنَّ الشَّيْطَانَ يَمْشِي بِالنَّعْلِ الْوَاحِدَةِ» .

ص: 259

10 -

أن الأمر يأتي للإباحة.

11 -

تحريم السَّرف في الأكل والشرب واللباس، ومنه: تعدي حدود المباح.

12 -

في الحديث شاهد لما جاء في القرآن من الأمر بهذه الثلاثة، قال تعالى:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} [الأعراف: 26]، وقال سبحانه:{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين (31)} [الأعراف: 31].

13 -

تحريم الخُيلاء، وهو -في الغالب- يكون في اللباس. والخيلاء حالة نفسية تنشأ عن الإعجاب بالنفس، وبما يؤتاه الإنسان من الحظوظ والمُتَع. والمخِيلة -كمَسِيرة- وهي الخُيلاء، وهي اسم مصدر من اختال.

* * * * *

ص: 260

‌بَابُ البِرِّ وَالصِّلَةِ

قوله: باب البر والصلة، أي: هذا باب ذكر ما جاء في السنة من الترغيب في البر والصلة، والبر هو الإحسان، وأخصُّه الإحسان إلى الوالدين، والصلة مصدر وصَله يصِله صِلة ووصْلًا، كوعَده يعِده عِدة ووعدًا. وهي -أي الصلة- الإحسان الذي يقوِّي وشيجة القرابة والأخوة، وهي أخص بالإحسان إلى القريب. ولذا يقال لها: صلة الرحم. وبر الوالدين آكدها، واسم الرحم يعم جميع القرابات، وشواهد هذا في الكتاب والسنة كثيرة، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 21]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الرَّحِمَ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ، قال الله: فَمَنْ وصَلكِ وصَلْتُه، ومَنْ قَطَعكِ قَطَعْتُه»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِى عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»

(2)

، وضد بر الوالدين العقوق، وضد صلة الرحم القطيعة، قال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم (22)} [محمد: 22].

* * * * *

(1635)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

.

(1636)

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ» يَعْنِي: قَاطِعَ رَحِمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

(1)

رواه البخاري (5988)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه الترمذي (658) وحسَّنه، والنسائي (2582)، وابن ماجه (1844)؛ من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 411).

(3)

البخاري (5985).

(4)

البخاري (5984)، ومسلم (2556).

ص: 261

(1637)

وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1638)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(2)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث الترغيب في بر الوالدين وصلة الرحم.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

الترغيب في صلة الرحم.

2 -

أن الجزاء على الأعمال يكون معجَّلًا في الدنيا ومؤجَّلًا في الآخرة، خيرًا كان أو شرًّا.

3 -

أن من جزاء صلة الرحم سعة الرزق وطول العمر، وهو معنى «يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ» .

4 -

أن المقصود هو الإرشاد إلى سببهما، أي سعة الرزق وطول العمر، وإلا فكلٌّ يحبهما.

5 -

أن لسعة الرزق ولطول العمر أسبابًا شرعية، كما أن لهما أسبابًا كونية، وكلٌّ من الأسباب والمسبَّبات لا يخرج عن القدر السابق، فلا منافاة بين إثبات الأسباب وإثبات القدر.

6 -

تحريم قطيعة الرحم، وتحريم عقوق الوالدين، وهو أعظم ما يكون من قطيعة الرحم، وأقبحُه عقوق الأمهات.

(1)

البخاري (5975)، ومسلم (593)(12).

(2)

الترمذي (1899)، وابن حبان (429)، والحاكم (7329).

ص: 262

7 -

أن قطيعة الرحم من كبائر الذنوب.

8 -

تحريم وأد البنات، وهو قتلهن صغارًا خشية العار، وهي عادة أهل الجاهلية، قال تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل: 58، 59].

9 -

تحريم الشح، وهو البخل بما يجب مع شدة الطمع، وهو معنى «وَمَنْعًا وَهَاتِ» .

10 -

تحريم الخوض في الكلام دون تحفظ عن الحرام من كذب وغيبة ونميمة، وهو معنى:«قِيلَ وَقَالَ» .

11 -

تحريم سؤال المال من غير ضرورة.

12 -

تحريم سؤال العلم على وجه التعنت والتكلف.

13 -

تحريم إضاعة المال بإتلافه أو إنفاقه فيما لا ينفع، وفيما يضر.

14 -

أن الله يحرِّم ويكره.

15 -

أن من بلاغة الكلام التنويع في التعبير؛ لقوله أولا: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ» ، ثم قال:«وَكَرِهَ» ، والتحريم والكراهة من الله متلازمان.

16 -

الترغيب في إرضاء الوالدين.

17 -

أن الجزاء من جنس العمل.

18 -

إثبات صفة الرضا والسخط لله، وأنه تعالى يرضى ويسخط كيف شاء.

* * * * *

ص: 263

(1639)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ - أَوْ لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1640)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» . قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1641)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ» قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْه

(3)

.

(1642)

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ؛ يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث جملة من المحرمات المتعلقة بحقوق الناس بعضهم على بعض مع تفاوت درجاتها.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

عظم حق الجار المسلم.

2 -

وجوب النصح للجار المسلم، وأنه من كمال الإيمان.

3 -

أن الإيمان يتفاضل.

4 -

أنه يجوز نفي الشيء لنفي كماله الواجب.

5 -

جواز الحلف لتأكيد الخبر.

6 -

أن نفوس العباد ملك لله.

(1)

البخاري (13)، ومسلم (45).

(2)

البخاري (4477)، ومسلم (86).

(3)

البخاري (5973)، ومسلم (90).

(4)

البخاري (6077)، ومسلم (2560).

ص: 264

7 -

إثبات اليد لله.

8 -

جواز الحلف بالاسم الموصول الذي هو صفة لله تعالى.

9 -

أن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم في أيمانه الحلف بهذه الصيغة المذكورة في حديث أنس.

10 -

حرص الصحابة على العلم.

11 -

أن الذنوب مراتب بعضها أعلى من بعض حتى الكبائر بعضها أعلى من بعض.

12 -

أن أعظم الذنوب الشرك، وهو أظلم الظلم.

13 -

أن الله لا ندَّ له.

14 -

أن الخالق هو المستحق أن يُعبد.

15 -

أن من جعل لله ندًّا في الربوبية أو الإلهية فقد ناقض موجَب العقل والشرع والفطرة؛ لقوله: «وَهُوَ خَلَقَكَ» .

16 -

أن من أكبر الكبائر قتل الولد خشية الفقر، وهي عادة أهل الجاهلية، قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31].

17 -

أن من كبائر الذنوب الزنا.

18 -

أن من أعظم الزنا: الزنا بحليلة الجار، أي: زوجته؛ لقوله: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» ، وهذا هو الشاهد من الحديث.

19 -

أن من الكبائر شتم الرجل والديه أو أحدهما، وأصرح الشتم وأقبحه ما كان باللعن.

20 -

أن مِنْ شتْم الرجل والديه التسببَ في ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ» ، فكيف إذا واجههما بالشتم أو خصهما؟! إن ذلك أعظم وأعظم، وهو من أشد أنواع العقوق.

21 -

أن كلًّا من الساب لأبي غيره أو أمه والراد عليه بالمثل كلٌّ منهما عاصٍ، والبادئ أظلم، فمعصيته كبيرة من كبائر الذنوب، والرادُّ عليه عاصٍ في

ص: 265

سب غيره بغير حق. وردُّه على البادئ بسب أبيه وأمه ليس من باب {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]؛ فإن والدي السَّابِّ لم يظلماه، فالرادُّ على السَّابِّ بسبِّ أبيه وأمه ظلمٌ لا يسوغه ظلم البادئ بالسب.

22 -

أن المتسبب بالفعل شريك في الأجر والوزر؛ على معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ»

(1)

. ثم قد يستويان في الجزاء، وقد يكون أحدهما أعظم أجرًا أو وزرًا من الآخر بحسب الدواعي والآثار.

23 -

في الحديث -حديث عبد الله بن عمرو- شاهد لقاعدة سد الذرائع.

24 -

تحريم هجران المسلم لأخيه أكثر من ثلاثة أيام، والهجر يكون بترك السلام عند التلاقي ابتداء أو ردًّا.

25 -

الرخصة في الهجر لحظ النفس ثلاثة أيام. وأما الهجر لله فهو مشروع، ولا يقيد بمدة، بل حده بما يحصل به مقصود الهجر، من إنكار المنكر، أو اتقائه.

26 -

أن الهجر يكون ابتداء تركه بإلقاء السلام، ولا يكفي ذلك حتى يعود المتهاجران إلى ما كانا عليه قبل الهجر.

27 -

أن خير المتهاجرين هو من يبدأ بالسلام أولًا.

28 -

حكمة الشريعة في الرخصة فيما أصله محرم، مراعاةً لمقتضى الجبلة البشرية، وذلك بالإذن بالهجر مدةً يحصل بها شفاء النفس من الغيظ، كما يدل لذلك مفهوم قوله:«فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ» .

29 -

أن على المسلم أن يفعل ما يجب لإخوانه من حقوق تجلب المودة.

* * * * *

(1)

رواه مسلم (1017)(69)؛ عن جرير رضي الله عنه.

ص: 266

(1643)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

(1644)

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1645)

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(1646)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

(1647)

وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ؛ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

.

(1648)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما؛ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَادْعُوا لَهُ» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ

(6)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث الترغيب في بعض الأخلاق والأفعال الجالبة للمودة بين المسلمين، والوفاء بحقوقهم.

(1)

البخاري (6021).

(2)

مسلم (2626).

(3)

مسلم (2625).

(4)

مسلم (2699).

(5)

مسلم (1893).

(6)

البيهقي في «الكبرى» (4/ 199).

ص: 267

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن كل معروف من القول والفعل صدقة من العبد على نفسه، ثم على أخيه فيما يتعدى نفعه.

2 -

أن طلاقة الوجه عند لقاء المسلم لأخيه من المعروف الذي لا يستهان به؛ لأن أثره في الأُلفة كبير، وأجره عظيم. وطلاقة الوجه تهلله، وضده العبوس والتقطيب.

3 -

أن المعروف يتفاوت في الأجر والأثر.

4 -

استحباب الإحسان إلى الجار، ولو بالشيء اليسير، وما ذكر في الحديث من طبخ المرق يناسب مَنْ جيرانه مِنْ الفقراء الذين يكون لذلك عندهم وقع فيفرحون به.

5 -

الترغيب في تنفيس الكرب عن المؤمنين.

6 -

إثبات القيامة وأن فيها كُربًا عظيمة.

7 -

فضل التيسير على المعسر بإنظاره أو إبرائه.

8 -

الترغيب في الستر على المسلم؛ ستر عيوبه أو ذنوبه ما لم يكن في الستر مفسدة راجحة.

9 -

فضل إعانة المسلم لأخيه في أمور دينه ودنياه.

10 -

أن الجزاء من جنس العمل، وهذا موجَب الحكمة وهو سنة اللهِ في جزاء العباد شرعًا وقدرًا، قال تعالى:{هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان (60)} [الرحمن: 60].

11 -

الترغيب في الإعانة على الخير، والدلالة عليه، ومنه تعليم العلم الشرعي.

ص: 268

12 -

سعة فضل الله؛ إذ جعل للمتسبب في فعل الخير مثل أجر فاعله.

13 -

أن للوسائل حكم الغايات.

14 -

وجوب تعظيم الله بإعاذة المستعيذ به، وإعطاء السائل به، ما لم يتعدَّ باستعاذته أو بسؤاله.

15 -

وجوب مكافأة المعروف، وهو من شكر الجميل.

16 -

أن الدعاء لصانع المعروف تحصل به المكافأة ممن لم يجد ما يكافئ به.

17 -

الاجتهاد في الدعاء لتحقيق مكافأة المعروف.

18 -

أن الدعاء سبب ينتفع به المدعو له.

* * * * *

ص: 269

‌بَابُ الزُّهْدِ وَالوَرَعِ

أي: هذا باب ما ورد في السنة من الترغيب في الزهد والورع، والزهد والورع تركٌ؛ لكن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، فيشمل ترك الفضول في كل شيء، والورع ترك ما قد يضر في الآخرة، وبذا يعلم أن الزهد أعلى من الورع، ولفظ الزهد والورع أكثر ما ورد في كلام السلف، وورد في السنة قوله صلى الله عليه وسلم:«ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ»

(1)

، وحديث:«مِلَاكُ الدِّينِ الْوَرَعُ»

(2)

.

* * * * *

(1649)

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ-: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1650)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(4)

.

(1)

رواه ابن ماجه (4102)؛ عن سهل بن سعد رضي الله عنه، وحسنه النووي في «رياض الصالحين» (476). وسيأتي -إن شاء الله- برقم (1654) من هذا الباب.

(2)

رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (5367)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

(3)

البخاري (52)، ومسلم (1599).

(4)

البخاري (2866) و (6435).

ص: 270

(1651)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي، فَقَالَ:«كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِك، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(1)

.

(1652)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(2)

.

(1653)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَقَالَ:«يَا غُلَامُ، احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ

(3)

.

(1654)

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ، فقَالَ:«ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ

(4)

.

(1655)

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

.

(1656)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ

(6)

.

(1657)

وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ

(7)

.

(1)

البخاري (6416).

(2)

أبو داود (4031)، ولم أجده عند ابن حبان.

(3)

الترمذي (2516).

(4)

ابن ماجه (4102).

(5)

مسلم (2965).

(6)

الترمذي (2317).

(7)

الترمذي (2380)، وصححه الحاكم في «مستدركه» (8026).

ص: 271

(1658)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ

(1)

.

(1659)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الصَّمْتُ حُكْمٌ، وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ» . أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ» بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. وَصَحَّحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ

(2)

.

* * *

تضمَّنت هذه الأحاديث الترغيب في الزهد والورع واتخاذهما ديدنًا وهديًا في الحياة، وذمَّ الطمع والهلع والحرصِ على الدنيا.

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث النعمان رضي الله عنه:

1 -

الحديث أصل من أصول الدين في الحلال والحرام.

2 -

تقسيم الأشياء من حيث الحل والحرمة إلى ثلاثة أقسام: حلال بيِّن وحرام بيِّن ومشتبه، وهذا التقسيم شامل للمطاعم والمشارب والملابس والمناكح والعبادات والمعاملات. والحرام منه ما حُرِّم لحق اللهِ كالميتة والدم والخنزير، ومنه ما حُرِّم لحق العبد كالمغصوب والمسروق. والحلال منه ما نص الشرع على حلِّه كبهيمة الأنعام وصيد البحر، ومنه ما سكت عنه الشرع مثل أنواع الطير مما ليس له مخلب. والمشتبه ما تجاذبته الأدلة أو مقتضِيات الحِلِّ والحُرمة، فيشكل حكمه على كثير من الناس ويتبين حكمه لأهل العلم؛ فإما حلال أو حرام، فما تبيَّن للعالم حلُّه التحق عنده بالحلال البين، وما تبيَّن له تحريمه التحق عنده بالحرام البيِّن.

(1)

الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، وصححه الحاكم (7698).

(2)

البيهقي في «الشعب» (4672)، و (4671).

ص: 272

وعلى هذا فقد يرى العالم حل ما يرى العالم الآخر تحريمه. ومردُّ هذا إلى اجتهادهما؛ فمن أصاب منهما فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور، وعلى المقلد أن يقتدي بأعلمهما وأوثقهما، حسبما ظهر له مع التجرد عن الهوى والتعصب.

3 -

أن من الحلال ما هو بيِّن تعرفه العامة والخاصة، ومن الحرام ما هو بيِّن تعرفه العامة والخاصة، فمن الأول الأكل والشرب مما يخرج من الأرض، ومن الثاني الزنى وشرب الخمر.

4 -

فضل العلم الذي به الفرقان بين الحق والباطل والحلال والحرام.

5 -

الإرشاد إلى اتقاء المشتبهات، وهي ما حصل فيه التردد في حله وحرمته.

6 -

أن في اجتناب الشبهات احتياطًا للدين والعرض بالسلامة من الوقوع في الحرام، وهذا هو الورع.

7 -

أن الإقدام على المشتبهات سبب للوقوع في الحرام.

8 -

فيه شاهد لقاعدة سد الذرائع.

9 -

أن من طرق البيان ضرب الأمثال وتشبيه المعقول بالمحسوس.

10 -

حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، يدل له التقسيم والتمثيل في الحديث.

11 -

أن المتسبب في إتلاف مال الغير بماشيته ضامن له.

12 -

أن الاقتراب من الحمى والمحظور سببٌ للوقوع فيه.

13 -

أن من عادة الملوك أن يكون لهم حمًى يمنعون الناس منه بحق أو بغير حق.

ص: 273

14 -

أن لملك الملوك سبحانه حمًى، وهو ما حرَّم على عباده كالفواحش ما ظهر منها وما بطن.

15 -

وجوب اجتناب محارم اللهِ.

16 -

وجوب اجتناب الأسباب المفضية إلى المحرمات.

17 -

أن مدار الصلاح والفساد في الإنسان على القلب، وسائر الجوارح تابعة له صلاحًا أو فسادًا.

18 -

أن صلاح الباطن يستلزم صلاح الظاهر، وفساد الظاهر يستلزم فساد الباطن. وقد يصلح الظاهر مع فساد الباطن كحال المنافق والمرائي.

وفي حديث أبي هريرة من الفوائد:

1 -

أن حال هذا العبد ضدُّ حال الزهد والورع.

2 -

ذم تعلق القلب بمتع الدنيا.

3 -

أن هذا التعلق نوع من العبودية لغير الله.

4 -

أن مظهر هذه العبودية الرضا لحصولها والسخط لفقدها.

5 -

أن العبودية لأنواع المتاع مجلبة للتعاسة والحرمان؛ لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم على من هذه حاله.

6 -

أن ما ذكر من أنواع المتاع سيق للتمثيل، وإلا فالحكم لا يخصهما.

7 -

وجوب العبودية لله وحده.

8 -

أن كمال العبودية لله يوجب الرضا لما يحب الله والفرحَ به، والسخطَ لما يبغضه.

9 -

أن تحقيق العبودية سبب للسعادة والفوز.

10 -

أن مناط العبودية ومتعلَّقها القلب.

ص: 274

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ» من الفوائد:

1 -

الترغيب في قصر الأمل والاستعداد بحسن العمل.

2 -

أن وضع العالم يده على بدن المتعلم كمنكبه وكفه، من وسائل إحضار ذهنه إليه.

3 -

حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم بالتشبيه وضرب الأمثال.

4 -

أن من طرق البيان التشبيه.

5 -

وصية النبي صلى الله عليه وسلم ونصحه له.

6 -

فيه شاهد لما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم

(1)

.

7 -

فضيلة ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبه، وتخصيصه بالوصية.

8 -

الإرشاد إلى الزهد في متع الدنيا وحظوظها، كما قال سبحانه:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه: 131].

9 -

أن المؤمن في الدنيا كالغريب وهو النازل في غير وطنه، يعد العدة للرحيل والعودة، ولا يعنيه ما يعني أهل الوطن، ولا يبالي بقلة من يعرف، قال الحسن:«الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ لَا يُنَافِسُ فِي عِزِّهَا، وَلَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، لِلنَّاسِ حَالٌ وَلَهُ حَالٌ»

(2)

.

10 -

أن المؤمن في هذه الدنيا كعابر السبيل، وهو المسافر الذي همُّه الوصول إلى غايته، لا يستقر له قرار في منازل سيره، ولا يلهو بما يمر به من المشاهد.

11 -

أن المؤمن لا يطمئن بالحياة الدنيا، ولا يرضَى بها بدلًا عن الآخرة.

(1)

وهو ما رواه البخاري (7013)، ومسلم (523)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه:«وَأُوتِيتُ جَوَامِعُ الكَلِمِ» .

(2)

رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (35210)، وسنده صحيح.

ص: 275

12 -

أن هذه الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم لا تقتضي الإعراض عن الدنيا مطلقًا.

13 -

أن المؤمن حقًّا دائمُ التشمير في سيره إلى اللهِ، فهو دائم العبودية لله.

14 -

عمل ابن عمر بوصية النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو ظاهر من قوله:«إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ» .

15 -

أن قول ابن عمر تضمن تفسيرًا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم.

16 -

وصيته رضي الله عنه بقصر الأمل بقوله: «إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ» .

17 -

وصيته رضي الله عنه باغتنام الفرص بإحسان العمل، وذلك في قوله:«وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِك، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» .

18 -

أن الصحة فرصة للعمل، حتى إن العبد يُكتب له في مرضه ما كان يعمل في صحته.

19 -

في الحديث شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ»

(1)

.

وفي حديث ابن عمر: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» من الفوائد:

1 -

أنه أصل في التحذير من التشبه بالكفار.

2 -

ذم التشبه بالكفار بالترف وأُبَّهة الدنيا وزينتها في كل شؤون الحياة؛ من المطعم والمشرب والمسكن والمركب، وهذا المعنى هو الشاهد من الحديث.

3 -

ذم التشبه بالكفار في جميع أمورهم الخاصة بهم من الآداب والمعاملات.

4 -

أن التشبه بالكفار على درجات بحسب نوع المتشبَّه فيه من الصغائر إلى الكبائر إلى الكفر.

(1)

رواه البخاري (6412)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 276

5 -

الترغيب في التشبه بالصالحين.

6 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنْصَارَ اللَّهِ} إلى قوله: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14].

7 -

فيه شاهد لما اختُص به النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما من الفوائد:

1 -

أنه أصل في وجوب الإيمان بالشرع والقدر، والعمل بمقتضى ذلك.

2 -

التواضع للصغار وتعليمهم.

3 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، وحسن تعليمه.

4 -

من حسن التعليم التمهيد لما يراد من الكلام، لقوله:«يَا غُلامُ، إنِّي أعلّمُكَ كَلِمَاتٍ .. » .

5 -

فضل ابن عباس رضي الله عنهما، حيث رآه النبي صلى الله عليه وسلم أهلًا لهذه الوصايا مع صغر سنه.

6 -

الوصية بحفظ العبد لربه، ومعناه مراقبته وطاعته فحقيقته حفظ الدين، والحفظ ضد الإضاعة.

7 -

أن الجزاء من جنس العمل، فمن حفظ اللهَ حفظه، وعَكْسُه بعكسِه، فمن لم يحفظ اللهَ لم يحفظه الله، وحفظ اللهِ للعبد كفايته له ووقايته وهدايته، فقوله:«احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ» نظير لقوله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7].

8 -

أن حفظ اللهِ سبب لمعيته الخاصة المتضمنة للنصر والتأييد والكفاية.

9 -

تحقيق التوحيد بالاستغناء باللهِ عن خلقه بترك سؤالهم وترك الاستعانة بهم وصرفِ ذلك إلى الله وحده، فينزل العبد حوائجه بربه ويطلب العون منه.

ص: 277

10 -

الزهد فيما عند الناس بعدم التعلق به، وعدم سؤالهم، وبهذا تظهر مناسبة الحديث للباب.

11 -

جواز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيق؛ لأن قوله: «خلف النبي» أي: كان رديفه، كما جاء في رواية

(1)

.

وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه:

1 -

الحديث أصل في الزهد.

2 -

حرص الصحابة على معرفة أسباب السعادة في الدنيا والآخرة.

3 -

مشروعية السؤال عن فضائل الأعمال، وحرص الصحابة على ذلك.

4 -

أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم.

5 -

الإيجاز في جواب السؤال ما لم تدع الحاجة إلى التفصيل.

6 -

فضل الزهد في الدنيا، وهو ترك ما لا ينفع منها في الآخرة، وهو أعلى من الورع لأن الورع ترك ما يضر.

7 -

أن التعلق بالدنيا وإيثارها سبب للحرمان.

8 -

أن الزهد في الدنيا سبب لمحبة اللهِ لعبده.

9 -

إثبات صفة المحبة لله والرد على النفاة.

10 -

طلب محبة الناس والتسبب لذلك بما ليس عبادة لله.

11 -

أن الاستغناء عمّا في أيدي الناس يجلب مودتهم.

12 -

أن منازعة الناس في دنياهم مما يجلب بغضهم وحسدهم، ومن ذلك سؤالهم، كما قيل: وبُنيُّ آدم حين يُسأل يغضبُ.

(1)

رواها أحمد في مسنده (2803).

ص: 278

وفي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من الفوائد:

1 -

إثبات المحبة لله.

2 -

إثبات العبودية الخاصة.

3 -

أن التقوى أعظم سبب لنيل محبة الله.

4 -

الترغيب في الاستغناء عن الناس، وأن ذلك سبب لمحبة الله، فالغني هو المستغني لا الغني بالمال.

5 -

الترغيب في البعد عن الشهرة.

6 -

أن من أسباب كمال العمل إخفاءه عن الناس.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

المنهج القويم للمسلم فيما يأتي ويذر في ضوء الإسلام.

2 -

أن من محاسن إسلام العبد العنايةَ بما ينفع في الدين ثم في الدنيا.

3 -

الإرشاد إلى ترك ما يضر في الآخرة وما لا ينفع.

4 -

الإرشاد إلى ترك ما ليس من شأن الإنسان، وما ليس منه بسبيل.

5 -

الترغيب في الإعراض عن شؤون الناس الخاصة.

6 -

الحث على الإقبال على النفس واستكمال فضائلها.

7 -

من حسن إسلام المرء ترك السؤال عمّا لا سبيل إلى معرفته، كحقائق الغيب وتفاصيل الحِكَم في الخلق والأمر، وكذا السؤال والبحث عن مسائل مقدّرة ومفترضة لم تقع، أو يندر أن تقع، أو لا تكاد تقع، أو لا يتصور وقوعها.

8 -

الإرشاد إلى فعل محاسن الدين وترك ما ينافيها.

ص: 279

وفي حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، وقد ساقه المصنف مختصرًا، وتمامه:

قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مَلأَ ابنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» . رواهُ الإمامُ أحمَدُ والتِّرمِذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَه، وقَالَ التِّرمِذيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ

(1)

.

وفيه من الفوائد:

1 -

الحديث أصل في الاقتصاد في الطعام والشراب، ومنهج في نظام الأكل والشرب.

2 -

فيه شاهد لما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم.

3 -

الندب إلى الاقتصاد في الأكل.

4 -

الغاية من الأكل، وهي حفظ الصحة والقوة اللتين بهما سلامة الحياة.

5 -

ذم الشِّبع، وذلك إذا كان دائمًا أو غالبًا، وعليه فلا يُكره الشبع أحيانًا لقول أبي هريرة في الحديث:«مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا»

(2)

، وغيره.

6 -

أن لملء البطن من الطعام أضرارًا بدنية ودينية، قال عمر رضي الله عنه:«إِيَّاكُمْ وَالبِطْنَةَ، فِإنَّها مُفْسِدَةٌ للجِسْمِ وَمُكْسِلَةٌ عَنِ الصَّلَاة»

(3)

.

7 -

أن الأكل من حيث الحُكم على أقسام:

(1)

أحمد (17186)، والترمذي (2380)، وابن ماجه (3349)، والنسائي في «الكبرى» (6769)، وحسَّنه الحافظ في «الفتح» (9/ 528). قال السندي في حاشيته على «المسند» (10/ 137):«قوله: «أُكُلاتٍ» بالضم: جمع أُكْله، كلُقْمة لفظًا ومعنى» وعند النسائي وابن ماجه:«لُقَيْمَاتٍ» .

(2)

رواه البخاري (6087) وذلك خبر اللبن الذي دفع به النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي هريرة فقال له: «اشْرَبْ» ثلاث مرات، وأبو هريرة يشرب منه، ثم قال أبو هريرة بعد الثالثة حين روي:«لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا» .

(3)

رواه ابن أبي الدنيا في «الجوع» (81)، وهو منقطع.

ص: 280

واجب: وهو ما به تُحفظ الحياة ويؤدي تركه إلى ضرر.

جائز: وهو ما زاد على القدر الواجب ولا يُخشى ضرره.

مكروه: وهو ما يُخشى ضرره.

محرم: وهو ما يُعلم ضرره. وترك المكروه والمحرم من الورع.

مستحب: وهو ما يُستعان به على عبادة اللهِ وطاعته.

وقد أجمل ذلك في الحديث في ثلاث مراتب:

أ. ملء البطن.

ب. أُكُلات أو لقيمات يقمن صلبه.

ج. قوله: «ثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»

(1)

هذا كله إذا كان جنس المأكول حلالًا.

8 -

الحديث قاعدة من قواعد الطب، وحيث إن علم الطب مداره على ثلاثة أصول: حفظ القوة والحمية والاستفراغ؛ فقد اشتمل الحديث على الأولين منها، كما في قوله تعالى:{وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين (31)} [الأعراف: 31].

9 -

كمال هذه الشريعة حيث اشتملت على مصالح الإنسان في دينه ودنياه.

10 -

أن الشريعة جاءت بما فيه شفاء الأبدان والقلوب.

11 -

أن الشريعة جاءت باتقاء الأسباب الجالبة للأذى والضرر.

12 -

أن من علوم الشريعة أصولَ الطب وأنواعًا منه، كما جاء في العسل والحبَّة السَّوداء.

(1)

هو تكملة حديث المقدام حديث الباب.

ص: 281

13 -

اشتمال أحكام الشريعة على الحكمة، وأنها مبنية على درء المفاسد وجلب المصالح.

14 -

أن شهوة الأكل سبب للمعصية، وهي التي كانت لآدم، ولعل هذا هو السر في التعبير ب «ابنُ آدَمَ» تذكيرًا وتحذيرًا.

15 -

إثبات الأسباب.

16 -

إطلاق اسم الشر على سببه، فسبب الشر شر، كما أن سبب الخير خير.

وفي حديث أنس رضي الله عنه: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاء» من الفوائد:

1 -

الحكم على بني آدم بكثرة الخطأ، والخطأ ما خالف الصواب تعمدًا أو جهلًا أو نسيانًا.

2 -

أن الناس في الخطأ صنفان: منهم من يُصر على خطئه، ومنهم من يتوب وينيب، وهذا خير الصنفين.

3 -

الترغيب في التوبة من الخطأ، سواء كان معذورًا أو غير معذور.

4 -

فيه شاهد للحديث القدسي: «يَا عِبَادي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيلِ وَالنَّهارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ»

(1)

.

وفي حديث أنس رضي الله عنه: «الصَّمْتُ حُكْمٌ» من الفوائد:

1 -

أن الصمت حكمةٌ في الجملة، والمحمود منه ترك الكلام المحرم، والمكروه، والفضول، ويفسر هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»

(2)

.

(1)

رواه مسلم (2577)؛ عن أبي ذر رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (6018)، ومسلم (47)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضًا البخاري (6135)، ومسلم (48)؛ عن أبي شريح رضي الله عنه.

ص: 282

2 -

أن الغالب على الناس كثرة الكلام فيما لا ينفع.

3 -

أن هذا اللفظ ليس بحديث مرفوع؛ لضعف سنده، بل هو حكمة مأثورة عن لقمان أو غيره.

* * * * *

ص: 283

‌بَابُ التَّرْهِيبِ مِنْ مَسَاوِئِ الأَخْلَاقِ

قوله: «بَابُ التَّرْهِيبِ مِنْ مَسَاوِئِ الأَخْلَاقِ» ، أي: هذا باب ما جاء في السنة من التحذير والترهيب من الأخلاق السيئة المذمومة؛ كالكذب والسباب وظن السوء والحسد والظلم والغش والكبر وغير ذلك.

* * * * *

(1660)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ

(1)

.

(1661)

وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه نَحْوُهُ

(2)

.

(1662)

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1663)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

(1664)

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

.

(1665)

وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ: الرِّيَاءُ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ

(6)

.

(1)

أبو داود (4903).

(2)

ابن ماجه (4210).

(3)

البخاري (6114)، ومسلم (2609).

(4)

البخاري (2447)، ومسلم (2579).

(5)

مسلم (2578).

(6)

أحمد (23630)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 102):«رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» .

ص: 284

تضمنت هذه الأحاديث النهي والتحذير والذم لجملة من مساوئ الأخلاق، وهي الحسد والغضب والظلم في الأنفس والأموال والأعراض والرياء وغيرها.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم الحسد، وهو تمني زوال النعمة عمَّن أنعم الله عليه، وذلك من عمل القلب، فإن سعَى في ذلك فهو أقبح، فإن كره نعمة الله ولم يتمن زوالها ولم يسع في ذلك، بل كره من نفسه ذلك، وسعى لإزالة ما في قلبه لم يضره. وليس من الحسد تمني مثلِ ما أنعم الله به على أحد من الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ»

(1)

.

2 -

أن من العقوبات العاجلة للحاسد حبوط حسناته، بحسب ما في قلبه من الحسد، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ» .

3 -

أن من أنواع البيان: التشبيه.

4 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم.

5 -

التحذير من الظلم بأنواعه.

6 -

أن الظلم من كبائر الذنوب.

7 -

أن من أنواع العقوبات: الظلمات في يوم القيامة.

8 -

التحذير من الشح، وهو منع الواجب بذله، وطلب ما لا يحل.

9 -

أن الشح سبب الهلكة.

10 -

أنه سبب لسفك الدماء واستحلال الحرام وقطع الأرحام.

(1)

رواه البخاري (73)، ومسلم (268)؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه، ورواه أيضًا البخاري (7529)، ومسلم (266)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما. وتقدم تخريجه عند شرح الحديث (1614).

ص: 285

11 -

أن سنة الله في الظالمين ماضية.

12 -

أن التقوى تضاف إلى الله، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب (2)} [المائدة: 2] أي: اتقوا سخطه وعقابه، وتضاف إلى النار، قال سبحانه:{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، وتضاف إلى يوم القيامة كقوله:{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ} [البقرة: 281]، وتضاف إلى أسباب العقاب كقوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:«اتَّقُوا الظُّلْمَ» .

13 -

ذم الغضب؛ لأنه يوقع صاحبه إذا انساق معه في أنواع من قبيح القول والفعل.

14 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم للذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أَوْصِنِي، قالَ:«لَا تَغْضَبْ» ، وَرَدَّدَهَا ثلاثًا

(1)

.

15 -

مدح الذي يملك نفسه إذا غضب؛ فلا يقول ولا يفعل ما يقتضيه غضبه.

16 -

أن القوة الحقيقية حبسُ النفس عند الغضب عن الاندفاع معه، ومعنى الصُّرعة هو الذي يصرع الرجال بقوة بدنه، أي: الشديد القوي.

17 -

الإرشاد إلى أسباب إطفاء الغضب، كالتعوذ بالله من الشيطان، والوضوء، والقعود بعد القيام، كما جاء في أحاديث أخرى.

18 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134].

19 -

التحذير من الرياء، وهو أن يعمل الرجل العمل ليراه الناس، فيحمدوه عليه، فإن كانت هذه النية هي الباعثَ على العمل كان العمل حابطا،

(1)

رواه البخاري (6116)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. وسيأتي (1673).

ص: 286

وإن وردت على قلبه في أثناء العمل ودفعها لم يبطل العمل، وإن وردت على قلبه بعد الفراغ لم تضره إن شاء الله. والمراد بالرياء المذكور في الحديث: اليسير منه، وهو ما يعرض في بعض الأعمال، لا في أصل الإيمان وأداء الفرائض، فذلك رياء المنافقين النفاق الأكبر.

20 -

أن الرياء من الشرك الأصغر.

21 -

أن الذنوب تتفاوت، فمنها الصغائر، ومنها الكبائر، والكبائر بعضها أكبر من بعض، وكذا الصغائر ليست سواءً.

22 -

أن الشرك قسمان: أكبر وأصغر.

23 -

شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، لذلك يخاف عليهم ما يضرهم، ويحذرهم منه.

* * * * *

(1666)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1667)

وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»

(2)

.

(1668)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1669)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(4)

.

(1)

البخاري (33)، ومسلم (59)(107).

(2)

البخاري (34)، ومسلم (58).

(3)

البخاري (48)، ومسلم (64).

(4)

البخاري (5143)، ومسلم (2563).

ص: 287

(1670)

وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1671)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث جملة من الأخلاق الذميمة؛ القولية والفعلية، كالكذب والسباب وظن السَّوء وغش الرعية والإشقاق عليهم.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

أن للنفاق علامات، وهي صفات للمنافق.

2 -

أن ديدن المنافق أنه إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر.

3 -

أن هذه الخصال جماعها الكذب، وهو أصل النفاق.

4 -

تحريم هذه الخصال، وذمها، والتحذير منها.

5 -

أن الكذب في الحديث يتضمن ما ذكر من خصال النفاق.

6 -

وجوب الوفاء بالوعد.

7 -

أن من غلبت عليه هذه الصفات كان منافقا، ومن كانت فيه واحدة كان فيه شعبة من النفاق.

8 -

أن النفاق نوعان: نفاق عملي، وهو المذكور في هذا الحديث. ونفاق اعتقادي، وهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر. وأهل هذا النفاق هم المعنيون في

(1)

البخاري (7150)، و (7151)، ومسلم (142).

(2)

مسلم (1828).

ص: 288

آيات القرآن. كقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين (8)} [البقرة: 8] الآيات.

9 -

أن من الفجور اليمين الكاذبة في الخصومة.

10 -

التحذير من مشابهة المنافقين في شيء من هذه الخصال.

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:

1 -

عظم حق المسلم على المسلم.

2 -

حرمة دم المسلم وعرضه.

3 -

تحريم سبه وتحريم قتاله.

4 -

أن سباب المسلم نوع من الفسوق، وهو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته. ومعنى السِّباب السَّب.

5 -

أن الفسق في هذا الحديث دون الكفر.

6 -

إطلاق اسم الكفر على بعض الذنوب التي لا تخرج عن الملة.

7 -

أن قتال المسلم من كبائر الذنوب؛ لإطلاق اسم الكفر عليه.

8 -

في الحديث شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»

(1)

.

وفي حديث أبي هريرة: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ» من الفوائد:

1 -

أن من الأخلاق القبيحة سوء الظن بالمسلم من غير موجب.

2 -

التحذير من ظن السَّوء بالمسلمين.

(1)

رواه البخاري (6484)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ومسلم (41)؛ عن جابر رضي الله عنه. وتقدم عند فوائد حديث (1036).

ص: 289

3 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، والظن الذي في الحديث هو البعض الذي في الآية، فالآية مخصصة للحديث.

4 -

أن الظن السيِّئَ الذي لا موجب له أكذبُ حديث النفس، والتحدثُ بمضمونه من أكذب الحديث.

5 -

أن الكذب يتفاوت.

وفي حديث معقل بن يسار رضي الله عنه:

1 -

أن الله جعل العباد منهم راع، ومنهم رعية. ومعنى يسترعيه أي: يجعله راعيا.

2 -

وجوب النصح على الراعي للرعية، وهو أن يريد لها الخير، ويسعى فيما يصلحها.

3 -

تحريم غش الراعي للرعية، وهو ألا يريد لها الخير، ولا يسعى فيما يصلحها.

4 -

أن غش الراعي لرعيته من كبائر الذنوب.

5 -

أن من التحريم: التحريم الجزائي، وهو حرمان دخول الجنة. وعليه؛ فالتحريم من الله ثلاثة: جزائي، وكوني وهو ما شاء الله ألَّا يكون، وشرعي وهو ما نهى الله عنه؛ فالجزائي كما في الحديث، والكوني كما قوله تعالى:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12]، والشرعي كما في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23].

وفي حديث عائشة رضي الله عنه من الفوائد:

1 -

شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورفقه بهم، وكراهته لما يشق عليهم.

ص: 290

2 -

أنه يجب على من تولى أمرًا من أمور المسلمين الرفق بهم. ويحرم عليه أن يشق عليهم بتكليفهم ما لا يجب عليهم، أو مطالبتهم بما يعجزون عنه.

3 -

أن الجزاء من جنس العمل.

4 -

الدعاء على الظالم بجنس ظلمه.

* * * * *

(1672)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَتَجَنَّبِ الْوَجْهَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1673)

وَعَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصِنِي، قَالَ:«لَا تَغْضَبْ» ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ:«لَا تَغْضَبْ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

.

(1674)

وَعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رِجَالًا يَتخوَّضون فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

.

(1675)

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

(1676)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» ، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» . قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

.

* * *

(1)

البخاري (2559)، ومسلم (2612).

(2)

البخاري (6116).

(3)

البخاري (3118).

(4)

مسلم (2577).

(5)

مسلم (2589).

ص: 291

تضمنت هذه الأحاديث الخمسة ذكر بعض الأخلاق المنكرة والمذمومة، قوليةً كالغيبة، أو فعليةً كضرب الوجه.

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث أبي هريرة الأول:

1 -

تحريم ضرب الوجه، سواء كان تأديبًا أو عقوبة، أما قصاصًا فيجوز؛ لقوله تعالى:{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، سواء كان القتال بحق أو بغير حق، والمراد بالقتال المضاربة، ليس القتال الذي هو بالسيوف ونحوها.

2 -

كرامة وجه الإنسان.

3 -

أن في ضرب الوجه من الإهانة والعدوان والضرر ما ليس في بقية أعضاء الإنسان.

4 -

تحريم الملاكمة؛ لأنها تؤدي إلى ضرب الوجه والقتل.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثاني:

1 -

الوصية بترك الغضب.

2 -

في ضمنه الإرشاد إلى ترك أسباب الغضب.

3 -

الإرشاد إلى مدافعة الغضب، والأخذ بأسباب إطفائه.

4 -

حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم، وكمال نصحه بإرشاد كلِّ أحد إلى ما هو أحوج إليه.

5 -

أن الغضب باب شر كثير.

وفي حديث خولة الأنصارية رضي الله عنه:

1 -

أهمية المال في الحياة؛ ففيه معنى قوله تعالى: {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5]، والتخوض في المال هو التخبط بسوء التصرف، كسبًا

ص: 292

وإنفاقًا. وقوله: «مَالِ اللهِ» يعم المال العام في بيت المال، والمال الخاص، وقد قال صلى الله عليه وسلم في اللقطة بعد التعريف:«مَالُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»

(1)

. وإضافة المال إلى الله إضافة خلق ومِلك، وإضافته إلى العبد إضافة مِلك.

2 -

تحريم كسب المال من غير حله.

3 -

تحريم التبذير والإسراف في الإنفاق، {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27]، وقال سبحانه:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين (141)} [الأنعام: 141].

وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه:

1 -

أن من السنة ما هو من كلام اللهِ، وهو ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، وهو ما يعرف بالحديث القدسي.

2 -

أن جميع الثقلين عبادٌ لله مؤمنهم وكافرهم، وهذه هي العبودية العامة.

3 -

أن اللهَ يوجب على نفسه، ويحرم على نفسه.

4 -

تنزيه اللهِ عن الظلم، ومن صوره أن يعذب أحدًا بذنب غيره.

5 -

أن الظلم مقدور له تعالى.

6 -

الرد على الجبرية الذين يقولون إن الظلم من اللهِ هو الممتنع لذاته، وإن كل ممكن فإنه يجوز على الرب تعالى.

7 -

إطلاق النفس على اللهِ، والمراد بالنفس الذات.

8 -

إثبات الجَعْل الشرعي، ومنه في القرآن:{مَا جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103].

9 -

تحريم الظلم بين العباد في الدماء والأموال والأعراض.

(1)

رواه أحمد (17481)، وابن ماجه (2505)؛ عن عياض بن حمار رضي الله عنه.

ص: 293

10 -

أنه يجب على العباد ترك ظلم بعضهم بعضًا لقوله: «فَلَا تَظَالَمُوا» .

11 -

تحريم الظلم ابتداءً ومجازاة.

12 -

أن شرائع اللهِ مبنية على العدل.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

الحديث هو الأصل من السنة في تحريم الغِيبة، والغِيبة اسم مصدر من اغتاب.

2 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12].

3 -

تحريم الغِيبة والتحذير منها، وفي السنة ما يدل على أنها من الكبائر، وفي القرآن أبلغ تنفير عنها:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12].

4 -

أن من هدي الصحابة السؤال عمَّا أشكل عليهم معناه.

5 -

أن من حسن الأدب التفويض فيما لا يعلمه العبد؛ لقول الصحابة: «اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» .

6 -

التعريف الجامع لمعنى الغيبة، وهو ذكر الإنسان الغائب بما يكره من خَلْق أو خُلُق أو فعل أو ترك أو قول، ولو كان الإخبار صدقا، بأن كان فيه ما ذُكر به تصريحًا أو تعريضًا، وإن كان الإخبار كذبًا بأن لم يكن فيه ما ذُكر فذلك أقبح، وهو البَهْت. والبَهْت كذب وظلم وغيبة.

7 -

التنويه بالأخوة الإيمانية، والتنبيه إلى أنها علة النهي؛ لقوله:«ذِكْرُكَ أَخَاكَ» .

8 -

جواز غيبة الكافر دون بهته.

9 -

وجوب الحذر من الغِيبة.

ص: 294

10 -

حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في تصدير الكلام بالاستفهام، والجواب باللفظ الجامع.

* * * * *

(1677)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ-، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

(1678)

وَعَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَاللَّفْظُ لَهُ

(2)

.

(1679)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ، وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ

(3)

.

(1680)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ

(4)

.

(1681)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

.

* * *

(1)

مسلم (2564).

(2)

الترمذي (3591)، والحاكم (2001).

(3)

الترمذي (1995).

(4)

الترمذي (1962).

(5)

مسلم (2587).

ص: 295

تضمنت هذه الأحاديث جملة من الأخلاق المذمومة؛ كالحسد والتباغض والتقاطع والبخل والسِّباب، وتضمنت الأحاديث جملة من الفوائد:

ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأول:

1 -

الحديث أصل في الأخوة الإيمانية وحقوقها.

2 -

تحريم الحسد بين المسلمين، وهو تمني زوال النعمة عن المحسود.

3 -

تحريم النجش، وهو أن يزيد في السلعة مَنْ لا يريد شراءها، أو يزيد على ثمن مثلها مَنْ يعرضها.

4 -

تحريم التباغض بين المسلمين.

5 -

تحريم التدابر، وهو أن يُعرض بعضهم عن بعض عند اللقاء.

6 -

تحريم أن يبيع المسلم على بيع أخيه، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة مثلًا: أنا أعطيك مثلها بتسعة، ليفسخ ويعقد معه.

7 -

تحريم شراء المسلم على شراء أخيه، وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة مثلًا: أنا أعطيك فيها عشرة.

8 -

أن من تحقيق العبودية لله رعاية الأخوة الإيمانية.

9 -

أن العبودية لله خاصة وعامة، والمذكورة هنا من الخاصة، وهي عبودية الطاعة والافتقار بالاختيار.

10 -

إثبات الأخوة بين المسلمين.

11 -

أن ظلم المسلم ينافي صدق الأخوة الإسلامية.

12 -

أن ترك نصرة المسلم مما ينافي الأخوة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»

(1)

.

(1)

رواه البخاري (2443)؛ عن أنس رضي الله عنه.

ص: 296

13 -

أن من دواعي ترك الكذب رعايةَ الأخوة الإسلامية.

14 -

أن من حق المسلم على المسلم ألا يحقره.

15 -

وجوب الصدق والتناصر والتواضع، وتحريم الظلم بين المسلمين.

16 -

أن أصل التقوى وحقيقتها في القلب، وما يظهر على الجوارح من طاعة اللهِ أثرٌ لها وفرعٌ عنها، ويشهد لهذا قوله تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب (32)} [الحج: 32].

17 -

أن من تقوى اللهِ القيام بحق المسلم على المسلم فعلًا وتركًا.

18 -

توضيح المعنى المراد بالفعل، لقوله:«وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ» .

19 -

أن الانحراف الظاهر في القول والعمل يدل على ضعف تقوى القلب.

20 -

أن احتقار المسلم لأخيه شرٌّ عظيم ومجلبة للشر.

21 -

تحريم دم المسلم وماله وعرضه على المسلم.

22 -

أن للمسلم حرمة عظيمة عند اللهِ، من أجل ذلك حرّم منه ما حرّم، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم:«إنَّ دِماءَكُمْ وَأمْوَالَكُمْ وأعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا»

(1)

.

23 -

فضل المسلم على الكافر.

24 -

أنه لا يجوز وصف الكافر بالأخوة للمسلم.

25 -

كمال هذا الدين في تشريعاته، وأنه أقوى رابط بين المسلمين.

26 -

استحباب تكرار الكلام للتأكيد والإفهام.

(1)

رواه البخاري (67)، ومسلم (1679). وتقدم (1010).

ص: 297

وفي حديث قُطبة بن مالك رضي الله عنه من الفوائد:

1 -

استحباب الدعاء بالسلامة من كل ما يكون مجلبة للأذى والضرر، ومنكراتُ الأخلاق والأعمال هي كل ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومنكرات الأهواء والشهوات المحرمة، والأدواء كالأمراض الخطرة.

2 -

أن من أسباب استقامة الخُلُق: الدعاء.

3 -

افتقار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما:

1 -

نهي المسلم عن كل ما يؤذي أخاه المسلم، أو يجلب العداوة والخصومة بينهما، ومن ذلك خلف الوعد.

وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه:

1 -

ذم البخل وسوء الخلق، وأنهما لا يجتمعان في مؤمن.

2 -

أن اجتماع هاتين الصفتين مناف لكمال الإيمان.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأخير:

1 -

ذم السباب بين المسلمين ابتداء أو ردًّا.

2 -

أن تبعة سباب المستبَّين على البادئ منهما.

3 -

أن اعتداء المظلوم في رده على الظالم يتحمله المظلوم.

4 -

حكمة الله وعدله في جزائه.

* * * * *

ص: 298

(1682)

وَعَنْ أَبِي صِرْمَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّهُ اللهُ، وَمَنْ شَاقَّ مُسْلِمًا شَقَّ اللهُ عَلَيْهِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ

(1)

.

(1683)

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(2)

.

(1684)

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَفَعَهُ-: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ» . وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقْفَهُ

(3)

.

(1685)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(4)

.

(1686)

وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(5)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث الذم والوعيد لمن تخلق بشيء من هذه الأخلاق الواردة في هذه الأحاديث.

وفي الأحاديث فوائد؛ منها:

1 -

تحريم مضارة المسلم، أي: إلحاق الضرر به، وليس من شرط ذلك أن يكون من الآخر إضرار، فالمفاعلة غير مقصودة. أو أن ضارَّ بمعنى ضرَّ.

2 -

تحريم مشاقَّة المسلم ومعاداته ومقاطعته.

3 -

التحذير من مضارة المسلم ومشاقته.

(1)

أبو داود (3635)، والترمذي (1940).

(2)

الترمذي (2002).

(3)

الترمذي (1977)، والحاكم (29)، والدارقطني في «العلل» (5/ 92)(738).

(4)

البخاري (1393).

(5)

البخاري (5709) ومسلم (105).

ص: 299

4 -

أن الجزاء من جنس العمل.

5 -

أن للمسلم حرمة عند الله.

6 -

وجوب تجنب ما ينافي أخوة الإسلام.

7 -

حفظ الله لعبده المسلم.

8 -

إثبات قدرة الله وعلمه وحكمته.

9 -

أن من أحسن إلى الناس ويسر عليهم أحسن الله إليه، ويسر عليه.

10 -

أن الله يبغض بعض العباد.

11 -

تحريم الفحش والبذاء من الأقوال، والمراد بالفحش كل قول قبيح. والبذاء كل ما فيه أذى وعدوان، كالسباب والغيبة والسخرية. وهو ما يعبر عنه بسلاطة اللسان. والمتخلق بذلك بذيء، سليط اللسان.

12 -

تحريم الطعن والعيب للناس بغير حق.

13 -

تحريم لعن أحد أو شيء بغير حق.

14 -

أن المؤمن لا يكون طعانًا ولا لعانًا ولا فاحشًا ولا بذيئًا.

15 -

أن هذه الأخلاق تنافي كمال الإسلام.

16 -

أن وقوع شيء من ذلك قليلًا أو نادرًا لا ينافي كمال الإسلام، كما يدل عليه مفهوم صيغة المبالغة.

17 -

النهي عن سب الأموات باللعن أو التقبيح، وإن كانوا يستحقون ذلك لكفرهم.

18 -

تعليل النهي عن سبهم؛ لأنهم قد أفضوا إلى ما قدموا، أي: صاروا وانتهوا إلى ما قدموا من العمل، فلا معنى للسب إذن، ولأن ذلك يؤذي الأحياء، كما جاء ذلك في رواية

(1)

، فيفيد: النهي عن إيذاء المسلم بسب أحد من أقربائه.

(1)

رواها أحمد (18210)، والترمذي (1982)؛ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

ص: 300

19 -

حفظ اللسان عما لا فائدة فيه للإنسان.

20 -

تحريم النميمة، وأنها من كبائر الذنوب، والقتَّات هو النمام الذي ينقل الحديث بين الناس لإفساد ذات بينهم. وفي حديث صاحبي القبرين أن أحدهما كان يمشي بالنميمة

(1)

، وهذا الحديث من نصوص الوعيد المقيَّدة بأدلة التوبة، وأدلة خروج أهل التوحيد من النار.

* * * * *

(1687)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ؛ كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ» . أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ»

(2)

.

(1688)

وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا

(3)

.

(1689)

وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ وَلَا بَخِيلٌ وَلَا سَيِّئُ الْمَلَكَةِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَفَرَّقَهُ حَدِيثَيْنِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ

(4)

.

(1690)

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَسَمَّعَ حَدِيثَ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ؛ صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . يَعْنِي: الرَّصَاصَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(5)

.

(1691)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ» . أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

(6)

.

(1692)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ

(7)

.

(1)

رواه البخاري (216)، ومسلم (292)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

الطبراني في «الأوسط» (1320).

(3)

«الصمت» لابن أبي الدنيا (21).

(4)

الترمذي (1963) و (1946).

(5)

البخاري (7042).

(6)

البحر الزخار (6237).

(7)

الحاكم (201).

ص: 301

(1693)

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ

(1)

.

* * *

هذه الأحاديث تدل على التحذير والتنفير عن جملة من الأخلاق السيئة المذمومة؛ كالتعاظم والتطلع لأسرار الناس، ودلت على الترغيب في بعض الأخلاق المحمودة؛ ككظم الغيظ، والإعراض عن عيوب الناس.

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث أنس رضي الله عنه:

1 -

فضل رد الغضب، وهو كظم الغيظ.

2 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»

(2)

.

3 -

أن الجزاء من جنس العمل.

4 -

أن الله يكف ما شاء عما شاء.

وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه:

1 -

تحريم الخداع والمكر بالناس، وإذا غلب ذلك فهو من كبائر الذنوب.

2 -

تحريم البخل بما أوجب الله من الزكاة والحقوق، وأن ذلك من كبائر الذنوب.

3 -

تحريم سوء الملَكة، وهو سوء الخلق مع الأهل والأصحاب والخدم، وهو معنى جامع لمساوئ الأخلاق؛ من الغضب والفحش والبذاء والسباب.

4 -

أن سوء الملكة من كبائر الذنوب.

5 -

أن من لازم عدم دخول الجنة دخول النار.

(1)

الترمذي (2012)، وضعَّفه العراقي في «تخريج الإحياء» (1/ 449).

(2)

رواه البخاري (6114)، ومسلم (2609)، تقدم تخريجه (1662).

ص: 302

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما:

1 -

تحريم التسمُّع لحديث المتسارِّين الكارهين لتسمع حديثهم.

2 -

أن ذلك من كبائر الذنوب.

3 -

أن الجزاء من جنس العمل.

4 -

أن من محاسن الإسلام رعاية حقوق المجالسة.

5 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»

(1)

، وقوله تعالى:{وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]، واستثني من ذلك التجسس على من عرف بالشر، وتبييت الكيد للإسلام والمسلمين، والتعاون على الفجور.

6 -

أن عذاب الآخرة حسيٌّ جسديٌّ، لا روحيٌّ فقط.

7 -

تعلُّق العذاب بمتعلَّق المعصية من بدن الإنسان، فهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم:«وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»

(2)

، وقوله صلى الله عليه وسلم:«مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ»

(3)

.

8 -

كمال عدل الله.

وفي حديث أنس رضي الله عنه: «طُوبَى

»:

1 -

أن الذنوب عيوب في فاعلها.

2 -

فضل اشتغال العبد بذنوبه بمحاسبة نفسه، والتفكرِ في الخلاص منها، وكثرةِ التوبة والاستغفار، مع الإعراض عن عيوب الناس، وذلك بترك عيبِهم وغيبتِهم.

(1)

تقدم تخريجه (1656).

(2)

رواه البخاري (60)، ومسلم (241)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ورواه أيضًا البخاري (165)، ومسلم (242)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم (240)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

(3)

رواه البخاري (5787)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 303

3 -

في الحديث شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»

(1)

، وليس من ذلك إنكار المنكر، بل ذلك من القيام بالواجب.

4 -

استحباب الدعاء لمن أحسن في معاملة الناس وأنصف، معيَّنًا أو غيرَ معيَّن. وطوبى قيل: اسم من الطِّيب، وهو الشيء الحسن. وقيل: طوبى الجنة أو شجرة في الجنة، فالله أعلم.

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:

1 -

تحريم الكبر، ومنشؤه تعاظم الإنسان في نفسه.

2 -

تحريم الخيلاء، ويكون في المشية واللباس.

3 -

أنه من كبائر الذنوب.

4 -

إثبات صفة الغضب لله.

5 -

إثبات لقاء الله.

وفي حديث سهل رضي الله عنه:

1 -

ذم العجلة في الأمور التي تقتضي نظرًا وحسن تدبير.

2 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ»

(2)

.

3 -

أن كل ما ينسب للشيطان فهو مذموم.

4 -

أن الشيطان يحب العجلة ويكره الأناة.

* * * * *

(1)

تقدم تخريجه (1656).

(2)

رواه مسلم (17)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 304

(1694)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الشُّؤْمُ: سُوءُ الْخُلُقِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ

(1)

.

(1695)

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

.

(1696)

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ؛ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ

(3)

.

(1697)

وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنه: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ» . أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ

(4)

.

(1698)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَفَّارَةُ مَنِ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ» . رَوَاهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ

(5)

.

(1699)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(6)

.

* * *

هذه الأحاديث تضمنت جملة من الأمور المذمومة؛ كسوء الخلق واللدد في الخصومة، وكثرة اللعن.

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث عائشة رضي الله عنها:

1 -

أن سوء الخلق شؤم، أي: شرٌّ.

(1)

أحمد (24547).

(2)

مسلم (2598).

(3)

الترمذي (2505).

(4)

أبو داود (4990)، والترمذي (2315)، والنسائي في «الكبرى» (11591).

(5)

«بغية الباحث بزوائد مسند الحارث» (1080)، وضعفه العراقي في تخريجه على الإحياء (1/ 1046).

(6)

مسلم (2668).

ص: 305

2 -

أن حسن الخلق خير وبركة.

3 -

أن سوء الخُلق شؤم على صاحبه.

4 -

فيه تفسير لحديث: «إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي ثَلَاثَةٍ»

(1)

، وذكر منها المرأة، وعليه: فشؤم المرأة سوءُ خلقها.

وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه:

1 -

التنفير عن كثرة اللعن.

2 -

أن اللعان -وهو كثير اللعن- لا يشفع لأحد يوم القيامة، ولا يستشهد به.

3 -

سقوط منزلة اللعانين عند الله.

4 -

شؤم اللعن على صاحبه.

5 -

أن كثرة اللعن من كبائر الذنوب؛ لاقترانه بوعيد الحرمان.

6 -

أن قبول الشفاعة والشهادة منبئ عن علو المرتبة.

7 -

إثبات الشفاعة لغير الأنبياء.

8 -

إثبات الشهداء يوم القيامة، وهم الملائكة والأنبياء والعلماء والجوارح.

وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه:

1 -

النهي عن تعيير المسلم، وهو عيبه وتنقصُّه بذكر ذنبه، وليس منه الإنكار عليه قياما بالواجب، ولعله أن يتوب.

2 -

أن تعيير الإنسان بذنبه نوعٌ من الشماتة التي لا تكون من ناصح محب.

3 -

أن من عيَّر بذنب فمن عقوبته أن يبتلى بذلك الذنب.

(1)

رواه البخاري (5753)، ومسلم (2225)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 306

4 -

أن من الذنوب ما قد تُعجل عقوبته.

وفي حديث بهز بن حكيم رضي الله عنه:

1 -

غلظ تحريم الكذب في الحديث لإضحاك الناس.

2 -

أنه من كبائر الذنوب.

3 -

أن الإعجاب والاستخفاف بالمعصية مما يزيد به الإثم.

وفي حديث أنس رضي الله عنه:

1 -

أن مما يخفف إثم الغيبة أن يستغفر المغتاب لمن اغتابه، فيحسن إليه بعد ما أساء، والحديث ضعيف، وعلى هذا فمع عظم إثم الغيبة فإن مجرد الاستغفار لا يكون كفارة للغيبة، ولا مسقطًا للإثم.

وفي حديث عائشة رضي الله عنه:

1 -

أن الله يبغض بعض العباد، كما يحب بعضهم.

2 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [غافر: 10].

3 -

أن بغض الله لبعض العباد أشدُّ من بغضه لبعض من يبغضه.

4 -

تحريم اللَّدد في الخصومة، وهو المراوغة والجدال بالباطل كالكذب ورد الحق.

5 -

أن الرجل أقدرُ على المخاصمة من المرأة؛ ففيه شاهد لقوله تعالى في الأنثى: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِين (18)} [الزخرف: 18].

* * * * *

ص: 307

‌بَابُ التَّرْغِيبِ فِي مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ

أي: هذا باب ذكر أحاديث مما ورد في السنة من الترغيب في مكارم الأخلاق، أي: الأخلاق الكريمة، والخلق الكريم هو مكرمة لصاحبه، وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ»

(1)

، وقد تمم الله بنبيه صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق بما شرع له وهداه إليه، فتمم صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق تعليمًا ودعوة وتخلقًا، حتى أثنى عليه ربه في قوله:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم (4)} [القلم: 4].

* * * * *

(1700)

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1701)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

(1702)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ

(1)

رواه أحمد (8952)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4280).

(2)

البخاري (6094)، ومسلم (2607)(105).

(3)

تقدم تخريجه في (باب الترهيب من مساوئ الأخلاق) برقم (1669).

ص: 308

فِيهَا، قَالَ:«فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» ، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1703)

وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا؛ يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث الندب والترغيب في بعض الأخلاق الحميدة فعلا كانت أو تركا؛ كالصدق، وترك ظن السوء، وكف الأذى.

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:

1 -

الترغيب في الصدق، ويكون في الأقوال والأفعال.

2 -

أن الصدق يدعو صاحبه إلى البر، وهو كل عمل صالح.

3 -

أن الحسنات يدعو بعضها إلى بعض.

4 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].

5 -

أن الأعمال الصالحة هي السبب لدخول الجنة.

6 -

أن ملازمة الصدق سببٌ لتبوُّإِ منزلة الصديقية، وهي التي تلي مرتبة النبوة.

7 -

التحذير من الكذب في الأقوال والأفعال، وهو ضد الصدق.

8 -

أن الكذب يفضي بصاحبه إلى الفجور، وهو الأعمال القبيحة، فهو جماع المعاصي.

(1)

البخاري (2465)، ومسلم (2121).

(2)

البخاري (71)، ومسلم (1037).

ص: 309

9 -

أن الفجور يفضي بصاحبه إلى النار.

10 -

أن ملازمة الكذب يصير بها الكاذب كذَّابًا عند الله، أي: في حكمه.

11 -

إثبات الكتابة من الله تعالى، وهي نوعان كالإرادة: كونية، وشرعية، وهي في الحديث كونية.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

حسن الظن بالمسلمين، وترك الظن السيِّئ.

تنبيه: هذا الحديث تقدم في الباب السابق، ولعل المؤلف أعاده للتنبيه على أن ترك ظن السَّوء من الأخلاق الكريمة.

وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه:

1 -

كراهة الجلوس في الطرقات.

2 -

جواز الجلوس في الطرقات إذا أدى المسلم حق الطريق.

3 -

أن حق الطريق هو القيام بالأمور الخمسة.

4 -

وجوب غض البصر.

5 -

وجوب كف الأذى.

6 -

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

7 -

وجوب رد السلام.

8 -

أن ترك الجلوس في الطرقات أفضل، ولو أُدِّي حقُّ الطريق؛ لأن السلامة لا يعدلها شيء.

9 -

جواز مراجعة العالم فيما يأمر به أو ينهى عنه.

10 -

حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.

ص: 310

وفي حديث معاوية رضي الله عنه:

1 -

فضل الفقه في الدين، وهو فهم أدلته وحِكَم شرائعه.

2 -

أن الفقه في الدين علامةُ إرادة الله بعبده الخير.

3 -

الترغيب في الفقه في الدين بفعل أسبابه.

4 -

إثبات الإرادة لله، وهي نوعان، كونية وشرعية، وهي هنا كونية.

5 -

أن عدم الفقه في الدين علامةُ أن الله لم يرد بالعبد خيرًا.

6 -

البشارة العظيمة لمن رزق الفقه في الدين.

* * * * *

(1704)

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(1)

.

(1705)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1706)

وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحي، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(3)

.

(1707)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

(1)

أبو داود (4799)، والترمذي (2003).

(2)

البخاري (24)، ومسلم (36).

(3)

البخاري (6120).

(4)

مسلم (2664).

ص: 311

(1708)

وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(1)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث الترغيب في عدد من الأخلاق الكريمة؛ كالحياء والتواضع.

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث أبي الدرداء:

1 -

فضل حسن الخلق، وحسن الخلق معنى جامع لكل الأخلاق الحسنة، كالحلم والعفو والصبر، وغير ذلك. وإضافة الحسن إلى الخلق من إضافة الصفة إلى الموصوف.

2 -

الترغيب في حسن الخلق.

3 -

إثبات الميزان ووزن الأعمال.

4 -

أن حسن الخلق أثقل شيء في الميزان. ولعل المراد بعد التوحيد والإيمان.

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه:

1 -

فضل الحياء.

2 -

أن الحياء من الإيمان.

3 -

الترغيب في الحياء.

4 -

فيه شاهد لحديث شعب الإيمان، وفيه:«وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»

(2)

.

(1)

مسلم (2865)(64).

(2)

رواه البخاري (9)، ومسلم (35)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 312

وفي حديث أبي مسعود رضي الله عنه:

1 -

الحديث أصل في الحياء.

2 -

أنه قد يشتهر على ألسن بعض الناس بعض ما ورثوه عن الأنبياء وهم لا يشعرون بذلك، ومن ذلك هذا الحديث.

3 -

أن الاستحياء يزع عن القبيح من الأقوال والأفعال.

4 -

الإذن بكل ما لا يستحيي منه ذو الفطرة السليمة، وهذا على أن الجملة إنشاء، والأمر للإباحة.

5 -

توبيخ من لا يستحيي بأنه يصنع كلَّ ما يشتهي، وعليه فالجملة خبر بمعنى الإنشاء.

6 -

التعبير بالصفة وهي (النبوة) عن الموصوف وهم (الأنبياء).

7 -

أن عدم الاستحياء يحمل على المجاهرة بالقبيح، وأن الاستحياء يبعث على الاستتار بستر اللهِ.

8 -

مراعاة عرف الناس في باب العادات.

9 -

إثبات المشيئة للعبد والرد على الجبرية.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

تفاضل المؤمنين في إيمانهم.

2 -

فضل المؤمن القوي على المؤمن الضعيف؛ لأنه أقدر على الأعمال الصالحة.

3 -

إثبات المحبة لله.

4 -

تفاوت المؤمنين في حظهم من محبة الله.

5 -

الاحتراس في الكلام، وهو من البلاغة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ» .

ص: 313

6 -

الوصية بالحرص على كل ما ينفع العبد في دينه ودنياه. والحرص هو شدة الطلب.

7 -

الوصية بالاستعانة بالله.

8 -

الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله.

9 -

أن قدَر الله فوق الأسباب كلها، وهي من قدر الله.

10 -

النهي عن العجز الذي منشؤه التفريط بالأسباب.

11 -

التسليم لقَدَر الله، وترك التحسر على ما يفوت.

12 -

تحريم قول (لو) تحسرًا على الفائت؛ لأنه يتضمن التعلق بالأسباب، ولأنه رجم بالغيب، وليس منه قول الإنسان: لو علمت بكذا لفعلت؛ فهو تمن للعلم، وإخبار عمَّا سيفعله لو علم.

13 -

أن (لو) تجلب عمل الشيطان من التحزين وتعليق القلب بغير الله.

14 -

شدة عداوة الشيطان للإنسان.

15 -

إرشاد من فاته مطلوبه إلى أن يقول: «قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ» .

16 -

إثبات القدر والمشيئة لله.

وفي حديث عياض بن حمار رضي الله عنه:

1 -

وجوب التواضع وعظم شأنه عند الله.

2 -

أن من ثمراته ترك الفخر والبغي.

3 -

أن الكبر سبب للفخر والبغي.

4 -

أن السنة وحي، ولذا قيل عن القرآن والسنة: الوحيان.

* * * * *

ص: 314

(1709)

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبِ؛ رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ

(1)

.

(1710)

وَلِأَحْمَدَ، مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ نَحْوُهُ

(2)

.

(1711)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِله إِلَّا رَفَعَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(1712)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ

(4)

.

(1713)

وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» ثَلَاثًا. قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لِلهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

.

(1714)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ تَقْوى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(6)

.

* * *

هذه الأحاديث الخمسة تضمنت الترغيب في جملة من الأخلاق الفاضلة؛ كالعفو والتواضع والنصيحة.

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث أبي الدرداء:

1 -

رعاية حق المسلم في غيبته.

(1)

الترمذي (1931).

(2)

أحمد (27609) و (27610).

(3)

مسلم (2588).

(4)

الترمذي (2485)، وصححه الحاكم (7357).

(5)

مسلم (55).

(6)

الترمذي (2004)، والحاكم (8000).

ص: 315

2 -

الدفع عن عرضه والترغيب في ذلك، إلا أن يكون فاجرًا أو مبتدعًا داعية؛ لأنه يجب بيان حاله ليحذر.

3 -

أن الجزاء من جنس العمل.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

الترغيب في الصدقة.

2 -

أن الصدقة لا ينقص بها المال، بل هي سبب لزيادته.

3 -

فيها شاهد لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].

4 -

الترغيب في العفو، وهو ترك الانتقام، وإنما يحمد مع القدرة.

5 -

أن العفو سبب للعزة، خلاف ما يظنه بعض الناس أنه مذلة.

6 -

فضل التواضع، وأنه سبب للرفعة.

7 -

اعتبار الإخلاص في التواضع وغيره من الأعمال؛ لقوله: «لِلهِ» .

8 -

التناسب في ذكر هذه الثلاثة في الجزاء عليها على خلاف ما يتوهمه الناس.

وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه:

1 -

الترغيب في إفشاء السلام، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام.

2 -

التناسب بين الثلاثة الأولى؛ فكلها من ضروب الإحسان إلى الناس.

3 -

الترغيب في الصلاة بالليل وقت هجوع الناس؛ لأن ذلك أقرب إلى كمال الإخلاص.

4 -

جواز السجع في الكلام، بشرط ألا يكون متكلفًا.

وفي حديث تميم الداري رضي الله عنه:

1 -

الحديث أصل جامع من أصول الدين، ومن جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 316

2 -

أن الدين كله نصيحة، وأن النصيحة كلها من الدين.

3 -

تعلُّق النصيحة بالخمسة المذكورة.

4 -

حقيقة النصيحة القيام بما أوجب اللهُ وما شرعه اللهُ؛ لما تتعلّق به النصيحة مما ذكر في الحديث:

5 -

فمن النصيحة لله: الإيمان به وتوحيده في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته، وإخلاص الدين له.

6 -

ومن النصيحة للقرآن: الإيمان به وتعظيمه والوقوف عند حدوده، والإيمان بأنه كلام الله.

7 -

ومن النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم: الإيمان به ومحبته واتباعه صلى الله عليه وسلم.

8 -

ومن النصيحة لأئمة المسلمين: السمع والطاعة لهم بالمعروف ومعرفة قدر العلماء والرجوع إليهم في معرفة أمور الدين.

9 -

ومن النصيحة لعموم المسلمين: محبة الخير لهم وتعليم جاهلهم وإرشاد ضالهم والإحسان إليهم وكف الأذى عنهم.

10 -

البداءة بالأهم فالأهم.

11 -

التفصيل ببيان من له النصيحة لبيان مراتبهم.

12 -

النص على حق القرآن وحق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقوقِ العباد وإن كانت داخلة في حق اللهِ، فإن من النصيحة لله: الإيمانَ بكتابه ورسوله وطاعةَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وأداءَ حقوق عباده.

13 -

أن الدين عبادة ومعاملة.

14 -

إنزال كلِّ أحد من الناس منزلته.

15 -

تأكيد الكلام بالتكرار للاهتمام والإفهام.

ص: 317

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

الترغيب في التقوى.

2 -

الترغيب في حسن الخلق.

3 -

أنهما أعظم سبب لدخول الجنة، والجمع بينهما في الذكر كالجمع بين التقوى والبر في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس: «الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ»

(1)

؛ فالتقوى بترك السيئات، والبر بفعل الحسنات.

* * * * *

(1715)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ لِيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ، وَحُسْنُ الْخُلُقِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(2)

.

(1716)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

(3)

.

(1717)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابِيَّ

(4)

.

(1)

تقدم تخريجه (1620).

(2)

أبو يعلى في مسنده (6550)، وصححه الحاكم (427)، لكن تعقبه الذهبي بقوله:«قلت: عبد الله -يعني ابن سعيد المقبري- واهٍ» .

(3)

أبو داود (4918).

(4)

ابن ماجه (4032)، والترمذي (2507)، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في «الفتح» (10/ 512).

ص: 318

(1718)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي؛ فَحَسِّنْ خُلُقِي» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث الإرشاد إلى بعض محاسن الأخلاق والآداب، والصبر على أذى الناس، وتبصير المسلم أخاه بعيوبه.

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث أبي هريرة الأول:

1 -

الإرشاد إلى بسط الوجه وحسن الخلق عند مقابلة الناس.

2 -

أن ذلك مما تنال به محبة الناس ورضاهم.

3 -

أن بسط الوجه في ذلك أبلغ من بذل المال.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثاني:

1 -

أن من أخلاق المسلم تبصير أخيه بعيوبه ليتجنبها.

2 -

تشبيهه في ذلك بالمرآة التي يرى بها الإنسان صورة وجهه، فيرى ما فيه من عيب فيزيله.

3 -

حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذا التشبيه البليغ.

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:

1 -

فضل مخالطة الناس على الوجه الذي يحصل به النفع والانتفاع في الدين والدنيا، مع الصبر على أذاهم.

2 -

أن ترك مخالطة الناس وعدم الصبر على أذاهم حالٌ ناقص.

3 -

أن الخلطة مع تقوى الله خير من العزلة.

(1)

أحمد (3823)، وابن حبان (959)، وصححه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 173).

ص: 319

4 -

فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»

(1)

.

5 -

تفاضل المؤمنين في الإيمان.

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:

1 -

استحباب الدعاء بما ورد في هذا الحديث.

2 -

التوسل إلى الله بإنعامه لإحسان الخَلْق في طلب إحسان الخُلُق.

3 -

الثناء على الله بإنعامه والاعترافُ بنعمه.

4 -

فضل حسن الخَلق.

5 -

أن حُسن الخَلْق شامل للحُسن العام لكل إنسان، والحُسن الخاص الذي يخص الله به من شاء.

* * * * *

(1)

تقدم تخريجه في (باب الترغيب في مكارم الأخلاق)(1707).

ص: 320

‌بَابُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ

قوله: «بَابُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ» ، أي: هذا باب ذكر بعض ما جاء في السنة في فضل الذكر، ومشروعيته وفضل بعض أنواعه، وأنواعٍ من الدعاء، وقد اشتمل هذا الباب على سبعة وعشرين حديثا.

والمراد بالذكر ذكرُ الله، ويكون بالقلب واللسان، فأما ذكر الله بالقلب فيكون بالتفكر في آياته الكونية كالسماوات والأرض، والتدبرِ لآياته الشرعية، وهي آيات القرآن، والتدبرِ لمعاني أسمائه وصفاته، والتفكر في ذلك. وأما ذكر اللسان فمعروف.

وقد أمر الله بالذكر، وأثنى على أهله، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42)} [الأحزاب: 41 - 42]، وقال:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]، والذكر كسائر العبادات؛ منه الواجب والمستحب والمطلق والمقيد، والمراد بالدعاء في هذا المقام دعاءُ المسألة، وهو طلب العبد من ربه حوائجه الدينية والدنيوية، وقد أمر الله عباده بالدعاء، فقال سبحانه:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

وأخبر عن دعاء الأنبياء كنوح وإبراهيم وأيوب وذي النون وزكريا، عليهم السلام، وكذا عن امرأة عمران، وقد أحسن المؤلف الحافظ رحمه الله في ختم هذا الكتاب النافع بهذا الباب؛ فإن ذكر الله هو مدار الدين ورُوح شرائعه، وقد أشبه رحمه الله بذلك الإمام البخاري في ختمه الجامع الصحيح بكتاب التوحيد، ولعل الحافظ

ص: 321

قصد ذلك، ويؤكده أنه ختم هذا المختصر بالحديث الذي ختم به البخاري الجامع الصحيح، وهو ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ»

(1)

.

* * * * *

(1719)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا

(2)

.

(1720)

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا عَمِلَ ابْنُ آدَمَ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ» . أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ

(3)

.

(1721)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

(1722)

وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ

(5)

.

* * *

(1)

سيأتي تخريجه -إن شاء الله- في نهاية هذا الباب.

(2)

ابن ماجه (3792)، وابن حبان (815)، وعلقه البخاري في التوحيد (باب لا تحرك به لسانك لتعجل به)«الفتح» (13/ 499).

(3)

ابن أبي شيبة (29452) و (35046)، والطبراني في «الكبير» (20/ 166)، وحسنه العراقي في «تخريج الإحياء» (1/ 349)، وصححه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 73).

(4)

مسلم (2699).

(5)

الترمذي (3380).

ص: 322

تضمَّنت هذه الأحاديث الترغيب في ذكر الله، ودلَّت على فضل الذكر مطلقًا في كل حال، وفي كل زمان ومكان، وبأي نوع من الذكر، قولًا أو فعلًا، سرًّا أو علنًا، جهرًا أو مخافتة، وللذكر والدعاء آداب؛ أهمها التضرع والخفية والرغبة والرهبة، قال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين (55)} [الأعراف: 55]، وقال:{وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِين (205)} [الأعراف: 205]، وقال سبحانه:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين (90)} [الأنبياء: 90]، وقال:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين (56)} [الأعراف: 56].

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأول:

1 -

إثبات المعية الخاصة لله تعالى.

2 -

معيته تعالى لعبده إذا ذكره بقلبه ولسانه.

3 -

أن الذكر بالقول يحصل ولو بحركة الشفتين.

4 -

اعتبار النطق في الأذكار القولية، والنطق يكون باللسان أو بالشفتين أو بهما، وهو أكمل.

وفي حديث معاذ رضي الله عنه:

1 -

أن ذكر الله أعظم سبب للنجاة من عذاب الله؛ لأنه الغاية من جميع العبادات، وهو أفضل ما فيها، وبه تفاضلها.

2 -

تفاضل الأعمال في الجزاء، وتفاضل العاملين.

ص: 323

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثاني:

1 -

أن من أسباب فضل الذكر الاجتماعَ عليه؛ كتعلم العلم، وتلاوة القرآن ومدارسته. وليس منه ما يسمى بالذكر الجماعي؛ بل هو بدعة.

2 -

أن من جزاء المجتمعين على ذكر الله أن تحفهم الملائكة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله فيمن عنده.

3 -

أن الملائكة تحب ذكر الله والذاكرين.

4 -

تسخير الله بعض ملائكته للمجتمعين على ذكره تعالى، وهؤلاء غير الملائكة الموكلين بحفظ العبد وحفظ عمله، وهم الملائكة السيارة المذكورون في الحديث الذي رواه مسلم

(1)

.

5 -

إثبات علو الله.

6 -

إثبات عندية المكان.

7 -

أن الجزاء من جنس العمل.

8 -

أن ذكر الله من أسباب نزول الرحمة على العبد.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثالث:

1 -

الترهيب من الغفلة عن ذكر الله، وعن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

أن من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، لا بد أن يندم ويتحسر على ما فاته.

3 -

الترغيب في عمارة المجالس بذكر الله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم.

* * * * *

(1)

مسلم (2689)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 324

(1723)

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، عَشْرَ مَرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(1)

.

(1724)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1725)

وَعَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(1726)

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(4)

.

(1727)

وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ أَرْبَعٌ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(5)

.

(1728)

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(6)

.

(1729)

زَادَ النَّسَائِيُّ: «وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ»

(7)

.

* * *

(1)

رواه مسلم (2693)، وأصله في البخاري (6404).

(2)

البخاري (6405)، ومسلم (2691).

(3)

مسلم (2726).

(4)

ابن حبان (840)، والحاكم (1941)، ورواه النسائي في «الكبرى» (10617)؛ من حديث أبي هريرة، وليس من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

(5)

مسلم (2137).

(6)

البخاري (4205)، ومسلم (2704).

(7)

النسائي في «الكبرى» (8773) و (10116).

ص: 325

تضمَّنت هذه الأحاديث الستة الترغيب في أنواع من الذكر، وكلها من الذكر المطلق أي: الذي لا يختص بمكان ولا زمان ولا حال. وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث أبي أيوب:

1 -

فضل التهليل عشر مرات باللفظ الوارد: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ» .

2 -

أن ثواب هذه التهليلات العشر يعدل ثواب أربع رقاب من ولد إسماعيل، كما في رواية مسلم

(1)

، وعند البخاري:«كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلِ»

(2)

أي: واحدة، ويؤيد رواية البخاري في مقدار الثواب بعتق رقبة -أي: واحدة- ما جاء في الحديث الآخر المتفق عليه: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِئَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ»

(3)

الحديث، فعدَل كل عشر تهليلات برقبة.

3 -

اعتبار العدد المذكور في هذا الذكر عشر مرات، لحصول الثواب المذكور، والظاهر أن تكون التهليلات متوالية، أي: في وقت واحد، ولا يضر التفريق اليسير.

4 -

أن المقتضي لهذا الفضل هو فضل كلمة التوحيد، التي هي أفضل شعب الإيمان، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا والنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْملكُ وَلَهُ الْحمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»

(4)

.

(1)

مسلم (2693).

(2)

البخاري (6404).

(3)

البخاري (3293)، ومسلم (2691)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

رواه مالك في «الموطأ» (572) و (1270)؛ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلًا، ورواه الترمذي (3585)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 326

5 -

أن الله هو الإلهُ الحق، وأن ما سواه باطل.

6 -

تفرده بالإلهية، وتنزهه سبحانه عن الشريك.

7 -

تفرده بالملك والحمد، كما يفيده الحصر:«لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ» .

8 -

تأكيد الكلام في الأمور المهمة؛ لقوله: «وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ» . ف «وَحْدَهُ» تأكيد للإثبات، و «لَا شَرِيكَ لَهُ» تأكيد للنفي.

9 -

إثبات عموم قدرته تعالى.

10 -

جواز جريان الرِّق على العرب.

11 -

فضل العرب على سائر الشعوب؛ لقوله: «مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلِ» ، وإسماعيل هو نبي الله ابن نبي الله إبراهيم الخليل عليهما السلام.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

الترغيب في هذا الذكر.

2 -

فضل هذا الذكر، وأنه سبب مغفرة الذنوب.

3 -

أن ثوابه حطُّ الخطايا وإن كانت مثل زبد البحر كثرة.

4 -

اعتبار هذا العدد في يوم واحد، ولو متفرقًا. والموالاة أفضل.

5 -

اعتبار شروط العمل الصالح في هذا الذكر وغيره من الإخلاص وموافقة السنة.

6 -

عظم فضل الله على عباده حيث يجزي على القليل الأجر الجزيل.

تنبيه: ينبغي أن يعلم أن الثواب المرتب على أيِّ عمل أنه يُعتبر فيه كماله، ومن كمال هذا الذكر ونحوه فقهُ معناه، ومواطأةُ القلب واللسان عليه. ومعنى سبحان الله وبحمده: تنزيه الله تنزيهًا مقرونًا بحمده، فتكون بمعنى سبحان الله والحمد لله.

ص: 327

وفي حديث جويرية رضي الله عنها:

1 -

الترغيب في هذا الذكر: «سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» .

2 -

فضل هذا الذكر، وهو أنه يعدل شيئًا كثيرًا من الذكر.

3 -

أن الذِّكر يتفاضل.

4 -

إثبات صفة الرضا لله تعالى.

5 -

إثبات النفس لله تعالى.

6 -

إثبات العرش.

7 -

أن للعرش وزنًا، وأنه أثقل المخلوقات.

8 -

إثبات كلام الله.

9 -

أن كلمات الله لا نهاية لها، فلا نهاية لمدادها، وكل ما يفرض من المداد فله نهاية، فينفد المداد ولا تنفد الكلمات، كما قال تعالى:{قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيم (27)} [لقمان: 27].

10 -

أن الله يستحق من التسبيح والتحميد والذكر ما لا يحصى. هذا معنى الحديث، وليس معناه أن العبد قد سبح هذا العدد. كما لو قال: سبحان الله مئة مرة؛ فإنه تسبيحة واحدة. فلا بد من التكرار لتكثير العدد.

11 -

فضل جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها؛ للزومها مسجدَها -أي: مصلاها- وكثرةِ ذكرها لله.

ص: 328

وفي حديث أبي سعيد وحديث سمرة وحديث أبي موسى رضي الله عنهم:

1 -

تفسير الباقيات الصالحات المذكورة في القرآن بهذه الكلمات الخمس.

2 -

فضل هذه الكلمات لوصفها بالبقاء والصلاح، فهي ذخرٌ لصاحبها، وعمل صالح يجزى عليه جزاء عباد الله الصالحين.

3 -

الاستعانة بالله بالبراءة من الحول والقوة.

4 -

فقر العبد إلى الله في قدرته على أي فعل يحاوله، وفي تحوله من حال إلى حال.

5 -

وجوب التوكل على الله في كل مطلوب، وتركُ الاعتماد على الأسباب.

6 -

فضل هذه الكلمات الأربع؛ لكونها أحب الكلام إلى الله، وهي:«سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلهِ، ولَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ» .

7 -

الترغيب في هذه الأنواع من الذكر.

8 -

إثبات صفة المحبة لله.

9 -

أن بعض الأعمال والأقوال أحب إلى الله من بعض، فيفيد:

10 -

أن محبة الله تتفاضل.

11 -

تنزيه الله عن جميع النقائص، لقوله: سبحان الله.

12 -

إثبات جميع المحامد لله، يدل له قوله:«وَالْحَمْدُ لِلهِ» ؛ فإن (أل) في الحمد للاستغراق، فله تعالى الحمد كله؛ لأنه المتصف بكل المحامد.

13 -

أن الله هو الإله الحق.

ص: 329

14 -

أن الله هو المعبود بحق، وكل معبود سواه باطل، وهذا معنى كلمة التوحيد: لا إله إلا الله.

15 -

أن الله أكبر من كل شيء، كما تفيده صيغة التفضيل:«اللهُ أَكْبَرُ» .

16 -

أن مدار ذكر الله على هذه الكلمات.

17 -

أنه لا ترتيب بين الكلمات الأربع المذكورة في حديث سمرة.

18 -

عظم شأن لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لما اشتملت عليه من التوحيد، والافتقار إليه سبحانه، والاستعانة به، وعدم الالتفات إلى غيره؛ لذلك فهي ذكر ودعاء، فتقال في مقام الاستعانة، كما في إجابة المؤذن: حي على الصلاة وحي على الفلاح، ومن الخطأ ذكرها في مقام الاسترجاع عند المصيبة، ولعظم شأن هذه الكلمة وعظم معناها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها كنز من كنوز الجنة؛ أي: إنها مما يكتنزها العبد ذخرًا يجد جزاءه في الجنة. وهذا المعنى يشمل كل كلمات الذكر، بل كلَّ عمل صالح؛ فإنه كنز للعبد يجده عند الله، {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم (20)} [المزمل: 20].

19 -

أنه لا يعصم العبد مما يريده الله به إلا هو سبحانه؛ فلا مفر منه إلا إليه.

20 -

فيه شاهد لحديث «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»

(1)

.

21 -

نداء المخاطب تنبيها لما يلقى إليه من الأمور المهمة.

22 -

فضيلة أبي موسى رضي الله عنه لتخصيصه بهذا الحديث.

23 -

إثبات الجنة، وأن لها كنوزًا، غير ما ذكر في الحديث؛ لقوله:«مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» .

* * * * *

(1)

رواه مسلم (486)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 330

(1730)

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ» . رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

.

(1731)

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه بِلَفْظِ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ»

(2)

.

(1732)

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ» . وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(3)

.

(1733)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لَا يُرَدُّ» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ

(4)

.

(1734)

وَعَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا» . أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(5)

.

(1735)

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ، لَمْ يَرُدَّهُمَا، حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(6)

.

(1736)

وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ

(7)

، وَمَجْمُوعُهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ

(8)

.

* * *

(1)

أبو داود (1479)، والترمذي (2969)، والنسائي في «الكبرى» (11400)، وابن ماجه (3828).

(2)

الترمذي (3371)، وقال:«هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة» .

(3)

الترمذي (3370)، وابن حبان (870)، والحاكم (1852).

(4)

النسائي في «الكبرى» (9812) و (9813)، وابن حبان (1696).

(5)

أبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وابن ماجه (3865)، والحاكم (1883).

(6)

الترمذي (3386).

(7)

أبو داود (1485).

(8)

وذهب بعض أهل العلم إلى ضعفه، فممَّن ضعفه الترمذي وأبو داود عقب إخراجهما للحديث، والعراقي في تخريجه للإحياء (1/ 362).

ص: 331

تضمَّنت هذه الأحاديث الستةُ الترغيبَ في الدعاء، وذكر بعض آدابه وأوقاته، واعلم أن الدعاء الوارد في الآيات والأحاديث نوعان:

الأول: دعاءُ عبادة، وهو شامل لكل عمل صالح من الأقوال والأفعال، بل يشمل عمل القلب واعتقاده، كما قال تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، قيل: دعاؤكم: إيمانكم.

الثاني: دعاء مسألة، وهو طلب الحوائج بصيغة من صيغ الدعاء، وشواهده في الكتاب والسنة كثيرة؛ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار (201)} [البقرة: 201]، {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب (8)} [آل عمران: 8]، وفي الحديث:«اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»

(1)

، ومن ذلك ما ذكره الله من دعاء نوح وأيوب وذي النون وزكريا عليهم السلام. فتارة يراد بالدعاء في النصوص المعنى الأول، وتارة يراد الثاني، وقد يراد به النوعان، حسبما يرشد إليه السياق.

والدعاء في هذه الأحاديث هو دعاء المسألة.

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث النعمان:

1 -

حصر الدعاء في العبادة؛ لعظم شأنه؛ لأن كل عابدٍ داعٍ يسأل الثواب ويستعيذ من العذاب، كما قال تعالى:{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]، وبهذا يظهر معنى قوله في حديث أنس:«الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» أي: خالصها.

(1)

رواه البخاري (834)، ومسلم (2705)؛ عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ص: 332

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

منزلة الدعاء عند الله؛ فهو أكرم شيء عند الله؛ لأن الله كريم يحب أن يُسأل.

2 -

استحباب الإلحاح في الدعاء.

3 -

تفاضل العبادات.

وفي حديث أنس رضي الله عنه:

1 -

الترغيب في الدعاء بين الأذان والإقامة.

2 -

أن هذا الوقت من أوقات الإجابة، وهو عام لمن كان داخل المسجد أو خارجَ المسجد متهيِّئًا للصلاة.

وفي حديث سلمان رضي الله عنه:

1 -

إثبات صفة الحياء والكرم لله تعالى.

2 -

إثبات اسمين من أسماء الله: الحيي والكريم.

3 -

مشروعية رفع اليدين في الدعاء، وأنه من أسباب الإجابة. وهو مشروع مطلقًا ومقيّدًا. كما في الاستسقاء وعلى الصفا والمروة وعند الجمرة.

وفي حديث عمر رضي الله عنه:

1 -

مشروعية رفع اليدين في الدعاء، وأدلتُه من السنة كثيرة، حتى عده بعض العلماء من المتواتر المعنوي، وهو كذلك.

2 -

أن من السنة مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء، واختلف العلماء في ذلك؛ نظرًا للاختلاف في ثبوت الحديث، وقد حكم عليه الحافظ بأنه حسن، وعلى ذلك فلا ينكر على من فعله. لكن لا يداوم على المسح.

* * * * *

ص: 333

(1737)

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

(1738)

وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ

(2)

.

(1739)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(3)

.

(1740)

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(4)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث الأربعة الترغيب في بعض الأدعية، ومن أفضل ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وسيد الاستغفار.

(1)

الترمذي (484)، وابن حبان (911).

(2)

البخاري (6306).

(3)

النسائي في «الكبرى» (10325)، وفي «عمل اليوم والليلة» (566)، وابن ماجه (3871)، والحاكم (1954).

(4)

مسلم (2739).

ص: 334

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:

1 -

الترغيب في الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

2 -

أن كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سبب لشفاعته وقرب المنزلة منه.

3 -

اختلاف الناس يوم القيامة في المنزلة من النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي حديث شداد رضي الله عنه:

1 -

الترغيب في الاستغفار بسيد الاستغفار.

2 -

أن للاستغفار ألفاظًا، وأنها تتفاضل.

3 -

أن أفضل الاستغفار ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم سيد الاستغفار، والمراد: سيد أنواع ما يستغفر الله به من الكلمات.

4 -

أن فضل هذا الاستغفار راجع إلى عظم ما تضمنه من المعاني، ومدارها على أربعة أمور:

الأول: التوحيد؛ توحيد الربوبية والإلهية؛ «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي» .

الثاني: الإقرار لله بالعبودية، والاعتراف بالتقصير في حقه تعالى؛ «وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ» .

الثالث: الاعتراف بنعم الله، وبالتقصير في حقها؛ «أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي» .

الرابع: التوجه إلى الله بطلب المغفرة والرحمة؛ «وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» .

5 -

تجديد العبد العهدَ مع الله والإيمان بوعده.

6 -

وجوب الثبات على العهد مع الله.

7 -

الاستعاذة بالله من شر العمل، وهو معنى سيئات الأعمال.

ص: 335

8 -

التوسل إلى الله بالاعتراف بالذنب، وبالتقصير في حقه تعالى.

9 -

الإيمان بأنه لا يغفر الذنوب إلا الله، والتوسل إليه تعالى بذلك.

10 -

بشارة من قال هذا الاستغفار أول النهار، ثم مات قبل أن يمسي، أو أول الليل قبل أن يصبح بأنه من أهل الجنة، وهذا فضل عظيم.

11 -

الترغيب في تعاهد هذا الاستغفار في كل صباح ومساء.

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما الأول:

1 -

أن هذا الذكر مقيد بالصباح والمساء.

2 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء أن يدعو بهذا الدعاء.

3 -

حاجة العبد إلى عفو الله، وهو ترك مؤاخذته بذنوبه؛ لقوله كما في رواية أَبِي دَاوُدَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ»

(1)

.

4 -

حاجة العبد إلى العافية في كل أموره؛ في دينه ودنياه وأهله وماله. والعافيةُ السلامة من الآفات والوقاية من الشر كله.

5 -

أن الله هو الواقي من كل مكروه، المرجو لجلب كل محبوب ودفع كل مرهوب.

6 -

حاجة العبد إلى ستر عيوبه الخَلْقية والخُلُقية، ويدخل في ذلك مغفرة ذنوبه.

7 -

حاجة العبد إلى أمنٍ من الله عند كل روعة، وحفظٍ منه تعالى في كل جهاته؛ فالله خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين.

8 -

أن العبد معرض للأخطار من جميع نواحيه، ومن أعظم ذلك خسف الأرض به؛ لقوله:«وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» .

(1)

أبو داود (5074)، وأحمد (4785)، وابن ماجه (3871)، وابن حبان (961)؛ من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 336

9 -

تأكيد المعاني بتنويع الكلمات؛ فإن الحفظ من جميع الشرور هو حقيقةُ العافية.

10 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم يلحقه ما يلحق البشر من العوارض الدنيوية.

وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما الثاني:

1 -

افتقار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه في دفع المكروه وجلب المحبوب.

2 -

أن الله هو المعاذ من كل مكروه، ومن كل شر في الدنيا والآخرة.

3 -

أن المطلوب في الدعاء إما جلب مرغوب، أو دفع مرهوب؛ فالأول يكون بلفظ السؤال، والثاني بلفظ العياذ. وقد جاءت الأدعية النبوية هكذا.

4 -

أن المذكورات في الحديث من أعظم ما يستعاذ بالله منه.

5 -

أن من أعظم المصائب زوال النعمة ولا سيما الدينية، وتحولُ العافية هو من زوال النعمة، فعطفه على ما قبله من عطف الخاص على العام.

6 -

أن من أعظم المصائب حلول النقمة فَجأة؛ أي: قبل أن يستعد الإنسان لها بما يدفعها، وهذه سنته تعالى في عقوبته لأعداء الرسل.

7 -

أن جماعَ الشر في أسباب سخطه تعالى، وهي المعاصي، وجماعَ الخير في أسباب رضاه تعالى. فالأول المعاصي، والثاني هي الطاعات.

* * * * *

(1741)

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ

(1)

.

(1)

النسائي (5475)، والحاكم (1997).

ص: 337

(1742)

وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ:«لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ» . أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ

(1)

.

(1743)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَصْبَحَ، يَقُولُ:«اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ» ، وَإِذَا أَمْسَى قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ؛ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ:«وَإِلَيْكَ المصِيرُ» . أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ

(2)

.

(1744)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(3)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث أن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يدعو بهذه الدعوات.

وفي الأحاديث فوائد:

ففي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:

1 -

استحباب الدعاء بهذه الدعوات تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وطمعًا فيما تضمنته من المطالب.

2 -

أن من الأمور المكروهة للعبد غلبةَ الدين، وهو كثرته حتى يستغرق المال، وغلبةَ العدو، وهو تسلطه وظفره بما يريد، وشماتةَ الأعداء، وهي سرورهم بما يصيب العبد من المكاره.

(1)

أبو داود (1493)، والترمذي (3475)، والنسائي في «الكبرى» (7619)، وابن ماجه (3875)، وابن حبان (891).

(2)

أبو داود (5068)، والترمذي (3391)، والنسائي في «الكبرى» (9752) و (10323)، وفي «عمل اليوم والليلة» (8) و (564)، وابن ماجه (3868)، وصححه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 114).

(3)

البخاري (6389)، ومسلم (2690).

ص: 338

3 -

الإرشاد إلى الأخذ بأسباب العافية من هذه الشرور المذكورة.

وفي حديث بريدة رضي الله عنه:

1 -

فضل هذا الدعاء والتوسل الوارد في الحديث.

2 -

أن الإنسان قد يُلهم من الذكر والدعاء ما هو حقٌّ، ولكن المأثور أفضل.

3 -

مشروعية التوسل بالعمل الصالح، وأفضل ذلك التوسل بالتوحيد.

4 -

التوسل بأسماء الله وصفاته.

5 -

إثبات تفرده تعالى بالإلهية.

6 -

إثبات اسميه تعالى: الأحد والصمد.

7 -

إثبات دوام الله أزلًا وأبدًا؛ لقوله: «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ» ، وهو معنى قوله: الأول والآخِر.

8 -

تفاضل أسماء الله وصفاته.

9 -

تنزيهه تعالى عن الوالد والولد والكفء.

10 -

فيه شاهد لسورة الإخلاص.

11 -

أن من أسباب الإجابة التوسلَ إلى الله بما ذكر في الحديث من أسماء الله وصفاته، وأنها الاسم الأعظم.

12 -

أنه كلما كانت الوسيلة أعظم كان حصول المطلوب أرجى، والباء في قوله:«إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ» للسببية.

13 -

الفرق بين الدعاء والسؤال وبين الإجابة والإعطاء، وذلك من حيث العموم والخصوص؛ فالدعاء أعم من السؤال، والإجابة أعم من الإعطاء.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

استحباب الذكر الوارد في الحديث في الصباح والمساء.

ص: 339

2 -

الإقرار بأن الله هو المدبر للكون، ومن ذلك أنه يأتي بالنهار فيحصل الإصباح، ويأتي بالليل فيحصل الإمساء، وهو الذي يحيي ويميت، فبإحيائه تعالى يحيا العباد، وبإماتته يموتون، وليس ذلك إلا لله وحده.

3 -

فيه شاهد للذكر عند النوم: «بَاسْمِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِاسْمِكَ أَرْفَعُهُ»

(1)

.

4 -

مراعاة التناسب بين الكلام والحال، وفي التقديم والتأخير؛ فبدأ بالصباح بالإصباح، وذكْر النشور، وبالمساء بالإمساء، وذكْر المصير.

5 -

الإشارة إلى البعث في قوله: «وَإِلَيْكَ النُّشُورُ» ، والرجوعِ إلى الله في قوله:«وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .

وفي حديث أنس رضي الله عنه:

1 -

استحباب الدعاء بهذا الدعاء.

2 -

أن من جوامع الدعاء: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» .

3 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم الإكثار من هذا الدعاء.

4 -

التوسل إلى الله بربوبيته، وهكذا كان دعاء الأنبياء والمؤمنين.

5 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {وِمِنْهُم مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار (201)} [البقرة: 201]، وحسنةُ الدنيا الأعمال الصالحة ومنافعها المعينة عليها، وحسنةُ الآخرة الجنة.

6 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النساء: 134].

7 -

جواز طلب منافع الدنيا.

(1)

رواه البخاري (6320)، ومسلم (2714)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 340

8 -

مشروعية سؤال الله الوقاية من عذاب النار، ولا يقي من النار إلا الله. وهذا هو معنى الاستعاذة، وهذا ديدن المؤمنين، أعني الاستعاذة من النار. كما جاء ذلك في سورة آل عمران في أولها وفي آخرها، وفي سورة الفرقان:{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان: 65] الآية.

9 -

أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك نجاة أحد من النار، ولا نفسِه صلى الله عليه وسلم.

10 -

فيه شاهد لدعاء التشهد: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ»

(1)

الحديث.

* * * * *

(1745)

وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمقَدِّمُ وَالْمؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

(2)

.

(1746)

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي، وَاجْعَلْ الْحيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْموْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ

(3)

.

(1747)

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا يَنْفَعُنِي» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ

(4)

.

(1)

رواه مسلم (588)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

البخاري (6398)، ومسلم (2719).

(3)

مسلم (2720).

(4)

النسائي في «الكبرى» (7819)، والحاكم (1931).

ص: 341

(1748)

وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ:«وَزِدْنِي عِلْمًا، وَالْحَمْدُ لِلهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ» . وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ

(1)

.

(1749)

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ

(2)

.

(1750)

وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ»

(3)

.

* * *

تضمنت هذه الأحاديث أن من هديه صلى الله عليه وسلم الدعاء بهذه الأدعية، واستحباب الدعاء بها.

وفي الأحاديث فوائد:

منها ما في حديث أبي موسى رضي الله عنه:

1 -

استحباب الاستغفار من الذنوب.

2 -

تنويع ألفاظ الاستغفار، كما وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

الترمذي (3599).

(2)

ابن ماجه (3846)، وابن حبان (869)، والحاكم (1966).

(3)

البخاري (6406) و (7563)، ومسلم (2694).

ص: 342

3 -

التفصيل في الذنوب عند الاستغفار منها.

4 -

أن الذنوب أنواع.

5 -

ضرورة العبد إلى الله في مغفرة ذنوبه، {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران: 135].

6 -

أن الذنوب تكون بتقديم ما ينبغي تأخيره، وتأخير ما ينبغي تقديمه، وتكون سرًّا وتكون علنًا، وتكون عمدًا وخطأً، وفي حال الجد والهزل.

7 -

الاعتراف بكل الذنوب.

8 -

أن من أسماء الله المقدم والمؤخر.

9 -

أن الله أعلم بالعبد من نفسه.

10 -

إثبات قدرة الله على كل شيء.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:

1 -

استحباب الدعاء بهذه الدعوات.

2 -

حاجة الإنسان إلى صلاح دينه ودنياه وآخرته؛ فصلاح الدين بالاستقامة، وصلاح الدنيا بالغنى والقناعة والعافية، وصلاح الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار.

3 -

أن صلاح الدين سبب لصلاح الدنيا والآخرة، وهو معنى «الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي» .

4 -

أن أهم ما على العبد دِينه.

5 -

أن طول الحياة يكون خيرًا لبعض الناس لزيادة العمل الصالح، وهو المؤمن، وأن الموت يكون راحة له.

6 -

عظم شأن هذا الدعاء، وأنه من جوامع الأدعية.

ص: 343

وفي حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما:

1 -

أن من هديه صلى الله عليه وسلم الدعاءَ بهذه الكلمات الثلاث.

2 -

استحباب الدعاء بها.

3 -

أن غاية العلم هو النفع.

4 -

أن من العلم ما ينفع وما لا ينفع.

5 -

أنه ليس كل علم نافعٍ ينتفع به صاحبه، ونفعُ العلم هو الفقه فيه والعمل به، وكما جاء سؤال العلم النافع جاء التعوذ من علم لا ينفع. والعلم الذي لا ينفع إما لعدم النفع فيه؛ كالعلوم التي لا خير فيها في دين ولا دنيا، أو لعدم انتفاع صاحبه به؛ كمثل من يعلم ولا يعمل بعلمه.

6 -

أن الله هو المعلم لعباده، وإن حصل بالأسباب.

7 -

استحباب طلب الزيادة من العلم النافع.

8 -

فيه شاهد لقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه: 114].

9 -

أن الله هو المحمود على كل حال.

10 -

أن أسوأ الأحوال حالُ أهل النار.

11 -

استحباب التعوذ من حال أهل النار.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها:

1 -

أن هذا الدعاء أجمع دعاء على الإطلاق.

2 -

أن الله تعالى هو المعطي للخير كله، وهو العاصم من الشر كله؛ فبيده الخير، وبيده الملك.

3 -

أن علم العبد قاصرٌ عن معرفة جميع ما ينفعه وجميع ما يضره.

4 -

التفويض إلى الله في تعيين ما يُطلب من الخير، وما يُستدفع من الشر.

ص: 344

5 -

التنويع في الدعاء بالعموم والخصوص.

6 -

أن أعظم الخير الجنةُ وأسبابُها.

7 -

أن أعظم الشر النارُ وأسبابُها.

8 -

أن للجنة أسبابًا، وهي الإيمانُ والعمل الصالح.

9 -

أن للنار أسبابًا، وهي الكفرُ والمعاصي، وهذا كله داخلٌ في الدعاء بالخير والاستعاذة من الشر.

10 -

استحباب الدعاء بحسن العاقبة في كل قضاء، والمراد بالقضاء: المقضيُّ، ويكون خيرًا، ويكون شرًّا، ولكن عاقبة ذلك كلِّه خيرٌ للمؤمن، كما جاء في الحديث:«عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللهُ لَهُ شَيْئًا إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ»

(1)

.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ» :

1 -

أن الجملة التامة تسمى في اللغة (كلمة) خلافًا لاصطلاح النحويين، وشواهد ذلك كثيرة في القرآن والسنة، قال تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]، وقال:{إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100]، وأما الكلمة في اصطلاح النحويين فهي لفظ وضع لمعنى مفرد.

2 -

أن الذكر باللسان أخفُّ أنواع العبادة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ»

(2)

، وكماله بتواطؤ اللسان والقلب عليه.

3 -

أن الله يحب الكلم الطيب.

(1)

رواه أحمد (20283).

(2)

رواه الترمذي (3375)، وابن ماجه (3793)؛ عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه، وصححه الحاكم في «مستدركه» (1873).

ص: 345

4 -

إثبات صفة المحبة لله.

5 -

إثبات اسميه تعالى: «الرَّحْمَنِ» و «الْعَظِيمِ» .

6 -

إثبات الميزان ووزن أعمال العبد يوم القيامة.

7 -

أن للأعمال ثِقَلًا في الميزان، والموزونُ إما الأعمال نفسها بجعلها أجسامًا، أو صحائف الأعمال، أو كلاهما. والله أعلم.

8 -

تنزيه الله عن كل عيب أونقص أوآفة؛ كما يدل عليه لفظ: «سُبْحَانَ اللهِ» .

9 -

الجمع في الذكر بين التسبيح والتحميد؛ لقوله: «سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ» ، أي: مع حمده، والباءُ للمصاحبة، فهي بمعنى: سبحانَ الله والحمدُ لله.

10 -

إثبات صفات الكمال له سبحانه، كما يتضمنه لفظ (الحمد).

11 -

أن ألفاظ الذكر أنواعٌ، وفي هذا الحديث نوعان، وقد جاء في فضل الجملة الأولى:«سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ» أن من قالها في يوم مئة مرة حُطت خطاياهُ وإن كانت مثل زبد البحر، كما تقدم

(1)

، وأما الثانية:«سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ» فلم ترد إلا مقرونة بالجملة الأولى، كما في هذا الحديث، وفي معناها تسبيح الركوع:«سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» .

12 -

فضل هاتين الجملتين، والترغيب في الإكثار منهما، وهذا من آثار اسمه «الرَّحْمَنِ» ، ولعل ذلك هو السر في اختيار هذا الاسم.

13 -

تضمن الجملتين لكلمات الذكر الثلاث: (سبحان الله)، و (الحمد لله)، و (الله أكبر)، واستلزامها لكلمة التوحيد:(لا إله إلا الله).

(1)

تقدَّم برقم (1724).

ص: 346

14 -

أن فضل العمل لا يختص بما فيه من المشقة، بل قد يرجع إلى فضل عين العمل، فقد يكون عملٌ لا مشقة فيه أفضلَ من عمل فيه مشقة.

15 -

جواز السَّجع في الكلام إذا خلا عن تكلف.

16 -

أن من محسنات البيان: التشويقَ بذكر خصائص الشيء قبل ذكره.

17 -

أن من الخبر ما يتضمن الطلب.

18 -

تأسي الحافظ ابن حجر رحمه الله في ختمه هذا الكتاب بالبخاري رحمه الله في ختمه للجامع الصحيح؛ بهذا الحديث العظيم، الذي هو من أعظم أحاديث فضائل الأعمال وأصحها، إشارة إلى ختم الحياة بذكر الله، وهذا من حسن الختام، نسأل الله حسن الخاتمة.

* * * * *

ص: 347

وبهذا ينتهي ما يسره الله من ذكر فوائد أحاديث هذا الكتاب المبارك، والحمد لله أولًا وآخرًا، ونسأله تعالى أن ينفع بهذا العمل، كما نفع بأصله، وأن يتم علينا نعمته بلزوم تقواه، وبالفقه في دينه؛ إنه تعالى أهل التقوى وأهل المغفرة، كما نسأله تعالى أن يجزي الحافظ ابن حجر خيرًا على ما قدمه للإسلام والمسلمين من خدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك هذا التصنيف المختصر النافع، وكان الابتداء في إملاء هذه الفوائد في مدينة الرياض -حرسها الله تعالى- في شهر شوال لعام 1427 من الهجرة، ووقع الفراغ منها في الثالث والعشرين من شهر صفر لعام 1437 من الهجرة النبوية. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

* * * * *

ص: 348