الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجهاد سنام الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
[ل 67] الحمدُ لله القادر القاهر، الحكيم العزيز الناصر، غالبِ من غالبَهَ، ومُهلِكِ من حاربه. أشهد أن لا إله إلا هو وحدَه لا شريكَ له، أذلَّ الجبابرة العُتاةَ، والفراعنةَ البُغاة. أحمَدُه على أن جَعَلنا مِن أُمَّةٍ أركانُ حَقِّها مُشَيَّدة، وأنصارُ هَدْيِها مؤيَّدة، وأصلِّي وأسلِّم على نبيّه محمدٍ الهادي إلى سبيل رشاده، والمبلِّغِ رسالتَه إلى عباده، والمجاهدِ فيه حقَّ جهادِه.
وبعد، فإنّ العاجز لمّا شاهد هذا الوقتَ وانتشارَ الجهاد فيه، واستهلالَ دواعيه، مُناسبًا للنصائح المُحرِّضة على القيام به، والباعثةِ على النفور في سبيل الله، وفَقَدْنا مَنْ يقوم بهذا الواجب في هذا القُطْر ممّن بلغ درجاتِ الكمال، ونال من العلم بعضَ مَنَال، فيُبيِّن للناسِ مذاهبَه، ويُوضِّح لهم مندوبَه وواجبه، ووجدتُ شدةَ الاحتياج إليه، وتوقُّفَ التحمُّسِ والتغيُّظِ عليه، وعلمتُ أنّ أداءَ النصائح وإبلاغَ الحُجَج إلى الناس فرضُ كفاية، وكوني ممَّن يُنسَب إلى عائلات الفِقْه يُدخِلني في الواجبِ عليهم ذلك.
فأحببتُ
(1)
أن أسطِّر فيه نبذةً أستمطِرُ بها نَفَحاتِ الأماثل، وأُحرِّك بها نَخَواتِ الأفاضل، وإن لم يكن لي في هذه الحَلْبة مجال، ولا في هذا المقام مقال، ولا أُنكِرُ تقصيري في هذه المفاوز إذا لُزِزْتُ في قَرَنٍ مع الرِّجَال. وأستعين الله سبحانه وتعالى، وهو حسبي ونعم الوكيلُ.
(1)
جواب "لمّا" الواردة في الفقرة السابقة.
اعلمْ أنَّ الجهاد ركنٌ من أركان الإسلام، وهو روحُه التي لا يحيا إذا فارقه، وهو أفضلُ الأعمال بعد الإيمان، وَعَدَ الله مَنْ قام به، وتوعَّد مَنْ تأخَّر عنه، وجعله سبباً لإعزازِ دينه وإكمالِه، وإخزاءِ عدوِّه وإذلالِه، وله في ذلك الحكمةُ الباهرةُ، منها: أنْ يَنْصرَ دينَه ويَخْذُل عدوَّه بلا سبب مُهلِكٍ في الِعيان، لا يتمكَّنون مِنْ دفاعه، كالخسفِ والمسخ والصواعقِ؛ وليفتخرَ المسلمون بغلبتهم ــ مع قلَّتِهم ــ أعداءَهم مع كثرتهم، ويُثِيب عليه
(1)
المجاهدين، ويُعاقِب القاعدين، ويَبتلي عباده، وهو أعلمُ بهم، إلى غير هذا.
وجعل سبحانه وتعالى طبيعةَ البشر الخوفَ من الأشياء العاديةِ الإهلاكِ والخشيةَ والهرب منها، ثمَّ بناءً عليها فلم يُكلِّفهم عدمَ المدافعة والتحرُّز بنحو الاختفاء والتدرُّع ونحوه، بل كلَّفهم ذلك كاتخاذ السِّلاح ونحوه، مِن قتل أعدائهم بالأسلحة، ومهاجمتِهم بقدر الإمكان، للحِكَم السابقة في الجهاد وغيرها، وفضلاً منه وكرمًا.
فأهلُ دهرِنا هذا مع تكاسُلِهم ونُضُوبِ حميَّتِهم ويقينهم إن قلتَ: اذهبوا إلى الجهاد، قالوا: إنّ الله قادرٌ على إهلاكِ أعدائنا بلا قتالٍ، ولا يكون إلا ما أراد من نفورنا وقتالنا، وغلَبِنا أو غَلَبِ أعدائنا.
فتلك في الحقيقة كلمةُ حقٍّ من حيث معناها، لا من حيثُ ما أُرِيد بها، فإنّهم يُريدون التخلُّصَ بها من اتباع أوامر الله سبحانه ومعاندتَه، وكأنّهم اعترضوا عليه في إيجابه، وادَّعَوا عدمَ الحكمة فيما قضاه، فهلاّ نظروا إلى أوامرِه ونواهيه ووعده ووعيده، وإرسالِ الرُّسل، وتنزيلِ الكتب، والأمرِ
(1)
في الأصل: "إليه"، وهو سهو.
بالجهاد وغيره.
وقد كان سيِّدُ البشر صلى الله عليه وسلم أعلمَ الخلقِ بربّه، يُقاتل بنفسه، ويلبس السلاحَ مَثْنَى، تقلَّدَ سيفينِ، واعتقلَ رُمحَينِ، ولبس دِرْعَينِ وبيضتَينِ.
مع أنّ ما يقول أهل زماننا ليس منهم على جهة اليقين؛ لأنّهم إذا حضروا الحربَ لا يكونون هنالك، ولا يَبنُون على ذلك، ونسأل الله سبحانه الهدايةَ.
* * * *
البحث الأوّل: في الجهاد بالنفس
الكتابُ والسنّة مَمْلُوآنِ بالتحريض عليه، والترغيب فيه، وذكرِ ثواب فاعليه، وشروطه مذكورةٌ في كتب الفقه.
فمِنْه فرضُ كفاية، كغزو الكفّار كلَّ سنةٍ إلى بلادهم بعد رعاية أمر الإمام، فإن تركه الإمام فَعَله الناسُ.
ومنه فرضُ عينٍ، مثل ما إذا دخل الكفّار بلدًا من بلادنا التي دخلت تحت أيدينا فواجبٌ على من فيها فرض عينٍ قتالُهم، حتى العَجَزة فعليهم الدَّفعُ بما أمكن، وعلى من حواليها إلى ثلاثة أيام ما لم تحصل الكفاية بدفعهم، فإذا حصلت الكفايةُ بدون الثلاثة الأيام فهو على الباقين فرضُ كفايةٍ، وكذلك هو على مَنْ فوقَ الثلاثة الأيام.
وهو بعد سقوط الفرضيّة سُنّة مؤكدة، بل هو أفضل الطاعات بعد الإيمان، وهو عِزُّ الإسلام وناموسُ المسلمين، وسببُ الترقّي، ولو عددنا فضائلَه لملأنا عِدّة مجلداتٍ، مع أنّ ما أعدّ الله للمجاهدين في الآخرة لا نهايةَ له، ممّا لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشر، وعلى تاركه ما عليه من الإثم، ويُجازى غدًا بما يُجازى به من العذاب.
فأين الإيمانُ؟ أين اليقين؟ أين التصديق بكلام الله تعالى؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله. ما هذا الجهلُ الناشئ عن سوء اليقين؟ والخوف من القتل، الخوف من الشهادة، الخوف من بيع النفس لله تعالى وهي مِلْكُه، تفضَّل علينا بأن يشتري منّا مِلْكه بنعيم الآخرة الدائم، ثم نحن
نمتنع عن بيعها له خوفًا من حُسنِ قبوله لها، وهربًا من الجنّة ونعيمها! نعوذ بالله.
هذا إن كان لهؤلاء القوم يقينٌ حسب اعتذارهم بأنّه لا يكون شيءٌ إلا بقضاء الله وقدره، وأنّ الآجال لا تتقدَّم ولا تتأخَّر عن مقاديرها، فنعوذ بالله من الخذلان.
* * * *
البحث الثاني: في الجهاد بالمال
الكتاب والسنة أيضًا مملوآنِ بالتحضيض عليه، فما أعظمَ كرمَ الله تعالى، وأوسعَ رحمتَه، وأعمَّ فضلَه، وأجزلَ نعمتَه!
هيَّأ للإنسان سببَ الاكتساب وأعطاه المال وأنعم عليه به، ثم بذلَ له أنه إذا أنفقه في سبيله جازاه عليه أضعافًا مضاعفةً في النعيم الدائم، مع أنه ليس لأحدٍ رزقٌ إلا واستحالَ أن لا يأتيه، فلا يأكل رزقَه غيرُه.
ثمّ الناسُ ملازمون للبُخل، ولا يخلو إمّا أن يكون لسوء يقينٍ ونقصِ إيمانٍ، ظنًّا أنّ الذي في أيديهم هو رزقهم، فإذا أخرجوه صار لغيرهم وحُرِمُوا الرزقَ ونعوذ بالله. وإمّا أن يكون محضَ حماقةٍ ورغبةٍ عن الجنّة ونعيمها، بل عن رضا الله وفي سخطه، وذلك هو الخذلان.
* * * *
البحث الثالث: في النصائح والتحريض والتشجيع وفضائل ثوابه،
والنهي عن التثبيط وذكر رذائل عقابه
فإعلام الوجوب واجبٌ على العالِم، بأن يُعلِم المجاهدين بوجوب هذا الشيء أو حرمته، وليس له أن يُعلِمَهم بسنيّة الشيء أو كراهته، فكما أنّ الجهاد واجبٌ عليهم، فيجبُ على العالم إعلامُ الجُهَّال بوجوبه، إلا أنّه لا يكون الإعلامُ فرضَ عينٍ إذا أمكن أن يقوم به أحدُ اثنين فصاعدًا. والنصيحة واجبةٌ، قال عليه الصلاة والسلام:"الدينُ النصيحة"
(1)
.
وأمّا التثبيط فعلى أوجهٍ:
منها: تثبيط المنافقين للمؤمنين، وهو كقولهم للمؤمنين: أين تذهبون؟ إنكم ستَلْقَون رجالاً فَجَعَة
(2)
، وآلاتِ حربٍ مُوجِعَة، وأشياءَ مُزعِجة، وكثرةً مع قلّتكم، وقوةً مع ضعفكم. ولاسيّما إذا كان ذلك غير صحيح.
ومنه حرامٌ، كأن يُعْلِمهم أنّ أعداءهم أقوياء، وهو صادقٌ، ولا يريد بذلك ضعفَ الإسلام، وأمّا إذا أراد تحريضَهم على تكثير العَدَد والعُدَد فهو محمودٌ.
وأمّا أن تقع الوقعة فيجيء أحدٌ فيسأل، فإذا كان الغَلَبُ للمجاهدين بَشَّر القاعدين، مع تحريضهم على إعانة إخوانهم، وإن كان ــ والعياذُ بالله ــ الغَلَبُ لأعدائهم فإن رأى أنّه إن أخبرهم بالحقيقة يتحمَّسون ويبالغون في إعانة
(1)
أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري.
(2)
في الأصل: "فعجة"، سبق قلم.
إخوانهم، فعليه إخبارهم، فإن تركه أَثِمَ. وإن رأى أنّ ذلك يُثبِّطهم فليقتصر على التحريض والتحضيض، وحاصلُ مراعاةِ المصلحة بالجهاد لا بالقعود.
هذا ما يُورِده العاجز، قُلَامةُ أظفار الأدباء، وصَدى أصواتِهم، أوردَه كالتعيير لهم، والتغيير لقلوبهم، والتنبيه لأفكارهم.
فيا إخواني! يا عُصبةَ هذا الدّين الحنيف، وأولي نَجْدة هذا الحقّ المنيف! الله الله في دينكم! اللهَ اللهَ في ملّتكم! اللهَ اللهَ في أوطانكم! وا شَوقاه إلى نَخْوة آبائكم وأجدادكم! وا حَرَّ كبداه على حماستهم! التي كانت للإسلام ركنًا مَشِيدًا، ومددًا مَدِيدًا، وقِلاعًا مَنِيعة، وجبالاً رفيعة، أوّاهُ عليهم!
إخواني إلامَ تَكاسَلون؟ إلامَ تُثبِّطون؟ حتَّامَ تقاعدون؟ حتّامَ تَأخَّرون؟ علامَ أنتم نَاضِبو الغَيرةِ والحميّةِ كأنكم راغبون عن الإمامة والحريّة؟
إنّ هذه لإحدى الكُبَر، والله تعالى الموفِّق المعينُ.
* * * *
خاتمةٌ
نحن معشرَ متفاقهةِ الأمة في هذا اليوم، الذين لو قال قائلٌ بوجوب تنزيه لفظة "الفقه" عنّا ما كان عليه عَتْبٌ ولا لومٌ، نتكلَّف تعاطِيَ بعض الحيل الفقهية، المتوصَّلِ بها إلى سَلْب الأطماع الدنيوية، المتّخذةِ حبائلَ لأخذ أموال الناس بالباطل المبين، وأخْذِ الرُّشا ودَحْضِ الحقّ وإعانة الغيّ والظلم والظَلَمة الجائرين. ترى فريقًا منّا رَمَتْ بهم الجهالةُ في مَهاوِي الضلالة؛ فوقعوا في مَهلكة التثبيط، فيزعمون أنّ هذا الجهاد ليس لوجه الله تعالى، وإنّما هو حَربٌ لطلب التملك والأطماع، فأولى لهؤلاء! أولى لهم! ضَلُّوا وأضلُّوا! ألا ينظرون أنّ البلاد التي يُقاتَل عليها هي التي كانت بالأمس تحت أيدينا، وأكثرُ أهلِها إخوانُنا نسبًا ودينًا، وإنّا إن غفلنا عن حَرْبِ مَن تغلَّب عليها لم يُقصِّروا عن التشبُّثات لدخول ما تحت أيدينا.
فهَبْ هذا الجهاد ليس لوجه الله تعالى، أليس دفاعًا عن أوطاننا وأهلينا ونسائنا وأولادنا ومساجدنا ومعابدنا وقبور فضلائنا؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من قُتِل دونَ عِقالِ بَعيرٍ فهو شهيد"
(1)
.
فأين عقولُهم يا تُرى؟ أيظنُّون أنّ عدوَّنا ــ والعياذ بالله ــ إذا تمكَّن من دخول بقيّة بلادنا يُبقِينا كما عليه اليوم ما في يده؟
لا والله، بل يَهدِم المساجد، بل يردُّها كنائسَ وبِيَعًا، ويُخرِّب قبور
(1)
لم أجده في مصادرنا بهذا اللفظ، وهو مشهور عند الشيعة، وقد ورد في كتاب "وسائل الشيعة" (15/ 120):"من قُتل دون عقالٍ فهو شهيد". وذكر أن في نسخة: "دون عياله".
أوليائنا ويستحيي نساءنا، ويسترِقُّ أبناءنا.
فإنَّما إظهارُه الآنَ عدمَ التعرّض فيما انطَوتْ عليه يدُه الخبيثة حيلةٌ يدفع بها غيرةَ المسلمين، ويتَّقي بها ثورتَهم، ويُلِين لهم الكلامَ، ويُسهِّل لهم الأمر، ويُهوِّن عليهم المصائبَ، مكيدةً يبنيها، دفعها الله عنّا بحَوْله وطَوْله.
فعارٌ وألفُ عارٍ، ونارٌ وألفُ نارٍ، وشَنارٌ وألفٌ شَنارٍ: أن يَمكُثَ مسلمٌ تحت حماية كافرٍ، أو يرضَى مسلمٌ لمسلمٍ ذلك، أو يتكاسل عن الدفع قبل الوصول، ولكنّ الجهل غَرورٌ، والجاهل مغرور، وكلُّ أحدٍ غير معذور.
وأقبحُ شيءٍ جاهلٌ متعاقلٌ
…
وأقبحُ منه عاقلٌ متجاهلُ
تمّت.
عبد الرحمن بن يحيى بن علي المعلمي