المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مقدِّمة شيخنا العلَّامة صالح بن فوزان الفوزان الحمد لله. وبعد: فقد اطَّلعت - الحق الأبلج في دحض شبهات مفهوم البدعة للعرفج

[عبد العزيز الريس]

فهرس الكتاب

مقدِّمة شيخنا العلَّامة صالح بن فوزان الفوزان

الحمد لله. وبعد:

فقد اطَّلعت على كتاب الشَّيخ عبد العزيز الرَّيِّس «الحقُّ الأبلج في الرَّدِّ على العَرْفج» في بيان ضابط البدعة شرعًا، فوجدته كتابًا جيِّدًا في موضوعه، مؤيَّدًا بالأدلَّة الشَّرعيَّة.

فجزاه الله خيرًا ونفع بعلمه وبكتابه.

وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمَّد وآله وصحبه.

كتبه

صالح بن فوزان الفوزان

عضو هيئة كبار العلماء

في 21/ 10/ 1437 هـ

ص: 5

‌مقدمة

سلام عليكم ورحمة وبركاته.

أمَّا بعد:

فإنَّه يُطالعنا حينًا بعد حينٍ؛ أقوامٌ بكتب، ومقالات، وكلمات، يَدْعون فيها إلى ضلالات وجهالات موبقات.

ومن شرها وأضلها ما أُلبس اللباسَ الجميل، بإظهار اتباع الدليل، وحقيقتُه الإضلالُ عن السبيل؛ لأنه بذلك يَرُوج، وبين العامة الدهماء يموج، ولو دَقَّق الناظر لرآه هباءً، وفي التحقيق والعلم خرابًا، لاسيما مع قلة العلم بالوحي وظهور الجهل بميراث النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أشراط الساعة أن يُرفَع العلمُ، ويثبتَ الجهلُ» متفق عليه

(1)

.

وإنه في هذه الأزمان، يتعين على أهل العلم والإيمان أن يدافعوا عن دين الرحمن؛ لئلا تُحرف معالمه الحِسان، فإن من أعظم الواجبات السَّعيَ لبقاء الدين جليًّا، وعن الدخيل نقيًّا.

اللهم وفق حماة الشريعة ودعاة السنة المحمدية للقيام بهذا الواجب.

وإن من الكتب العصرية، المحرفة للعلوم الشرعية، والجامعة بين شدة التحريف، وهزال الحجَّةِ والتخريفِ كتابَ (مفهوم البدعة) للدكتور - المتخصص في غير العلوم الشرعية - عبد الإله بن حسين العرفج - هداه الله لرشده -،

(1)

أخرجه البخاري رقم (80)، ومسلم رقم (2671).

ص: 7

الذي نازع في أن الأصل في العبادات التوقيفُ مطلقًا، والذي جعل الخلاف في تحقيق المناط راجعًا على التأصيل بالنقض، وبعبارة أخرى: جعل خلاف العلماء في تبديع بعض الأعمال راجعًا للخلل في ضابط البدعة، حتى أتى هو في القرن الخامس عشر، فضبط البدعة بضابط لم يستطعه الأولون، ولا العلماء الماضون من علماء المذاهب الأربعة وغيرهم!!، والذي دعا هذا المسكين - بقصد أو بغير قصد - إلى القول بأنه لا ضابط للبدعة؛ هو محاولة تشريع بعض البدع، كبدعة الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك!!.

ولما ذكر ضابط البدعة - بعد طلب أحد المقدمين للكتاب -، خلّط - زيادةً على تخليطه الأول - في تقسيم مواقف العلماء من البدعة إلى مضيقين وموسعين - فتناقض في ضابط التقسيم، وفي تصنيف العلماء في هذه الأقسام!!

ثم خلط - بعمد أو بجهل - بين الترك التعبدي المقصود «الذي وُجِدَ المقتضي له وانتفى مانعه» ؛ مع بقية التروك التعبدية وغير التعبدية، والمقصودة وغير المقصودة، فبهذا عمد إلى المتشابه وترك المحكم، وسلك طريق من قال الله فيهم:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ] آل عمران: 7 [.

ومما شجعني على كتابة الرد على كتاب (مفهوم البدعة) هو جمع ما تيسر من أصول أهل السنة السلفية في التبديع، وكشف شبهات أهل الضلال والتجديع، على هذه الأصول السلفية والعلوم الشرعية.

ص: 8

وقد قسمت مناقشة (كتاب مفهوم البدعة)

(1)

قسمين:

الأول: تأكيد المسلمات السنية في البدعة.

الثاني: كشف شبهات كتاب مفهوم البدعة.

وجعلت القسم الأول مقدمات

(2)

، وعددها اثنتا عشرة مقدمة:

المقدمة الأولى: ذم الشرع والسلف للبدع.

المقدمة الثانية: لا يوصف شيء مُحْدَث بأنه بدعة شرعًا؛ إلا إذا عدّه عبادة.

المقدمة الثالثة: العبادة لا تخرجُ عن أن تكون واجبةً ومستحبةً: «فعلًا» ، أو محرمةً ومكروهةً:«تركًا» .

المقدمة الرابعة: لا يصح التعبد بالمباح لذاته.

المقدمة الخامسة: البدع كلها محرمة.

المقدمة السادسة: كل بدعة ضلالة، ولا يوجد في الدين بدعة حسنة.

المقدمة السابعة: الأصلُ في العباداتِ التوقف والمنعُ والحظر إلا بدليلٍ، فلا يصحُّ لأحدٍ أن يتعبَّد اللهَ بشيءٍ إلا بدليلٍ شرعيٍّ معتبرٍ.

المقدمة الثامنة: ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من العبادات مع وجود المقتضي وانتفاء المانع، فهو سنة تركية؛ ففعله بدعةٌ منكرة.

(1)

قد اعتمدت على الطبعة الثانية الملحَقِ بها نقدُ كتاب (كل بدعة ضلالة) طبعة دار الفتح للدراسات والنشر، وفي علمي أنها آخر طبعة للكتاب. وأفيد أن ردي على الكتاب وملحقه.

(2)

وحقيقة هذه المقدمات أنها من الرد، أفردتها أولًا للتنبيه عليها، والتسهيل في فهمها للمستفيد، ولم أجعلها ضمن كشف الشبهات التفصيلية حذرًا من التشتيت.

ص: 9

المقدمة التاسعة: البدع تدخل في الوسائل كما تدخل في الغايات.

المقدمة العاشرة: القياسُ لا يصحُّ في العباداتِ غير معقولةِ المعنى (العلة).

المقدمة الحادية عشرة: كل عبادةٍ مشروعةٍ في الجملة؛ فليس لأحدٍ أن يخصصها أو يقيِّدها بمكانٍ أو زمانٍ أو كيفية أو سببٍ أو غير ذلك إلا بدليلٍ.

المقدمة الثانية عشرة: العمل بالعام أو المطلق دون النّظر إلى عمل السّلف وفهمهم في تخصيصه أو تقييده؛ من جملة البدع.

أمّا القسم الثاني فقد جعلته مناقشة لشبهاته، وهي ما بين رد مجمل، ثم مناظرة لفهم قول العرفج وتناقضه، ثم ردٍّ مفصَّلٍ، وركزت فيه على أكبر أخطائه وشبهاته، وعددُ شبهاته التي تم كشفها - بفضل الله - نحْوُ أربعين شبهة.

وقد سميت هذا الكتاب:

ومما أظنه كافيًا لبيان ضلال هذا الكتاب معرفة المقدمين له وهم:

محمد عبد الغفار الشريف.

محمد الحسن بن الددو.

علي بن السيد عبدالرحمن آل هاشم الحسني.

ص: 10

عمر بن حامد الجيلاني.

عجيل بن جاسم النشمي.

وإني لأدعو أهل السنة جميعًا شيبًا وشبابًا أن يدرسوا معتقد أهل السنة، وتوحيد الله ويرسخوا فيه؛ ليكونوا حماة يذودون عن دين الله، ويردون شبهات وجهالات كل من يريد تحريف الشريعة وتغييرها.

وإن مما يُحزن له أن يزهد كثير من أهل السنة عن دراسة معتقدهم وتوحيدهم، ومنهم من إذا درسه زهد في الدفاع عنه، وبيان خطأ المخطئين إما كسلًا أو رغبة عنه، أو تلبيسًا بأن أُقنع بقول من قال: بأن الردود لا تنفع وتقسي القلب .. وهكذا.

وهذه من خدع الشيطان وحبائله فإن الحق لا يبقى ظاهرًا جليًّا حتى يكون له أنصارٌ يظهرونه ويحمونه ويستميتون في نشره وحفظه.

وإن لنا أسوةً بالأئمة الماضين، ثم في هذه العصور المتأخرة، بأئمة الدعوة النجدية السلفية، فقد بقيت دعوتهم السلفية ظاهرة منتشرة في أصقاع الأرض، لاستمرار أنصارها في الدفاع عنها وردهم على كل مبطل، وتعاقبوا على ذلك حتى اختطفت جماعاتٌ حزبية متقنعة بالسنة - كالإخوان المسلمين والسرورية والتبليغ وغيرهم - كثيرًا من شبابنا، - بل وكثيرًا من العامة -؛ في هذه العقود، فغيبوا الناس عن هذه الدعوة حتى جهلها أبناؤها بل وعاداها بعضهم.

يا أهل السنة، وحماة الدين، وحراس العقيدة، ارجعوا إلى ما كان عليه سلفكم الصالح ومن سار على منهجهم، كأئمة الدعوة النجدية السلفية، وعلمائكم

ص: 11

الأجلاء، كالعلامة ابن باز، والعلامة الألباني، والعلامة ابن عثيمين، والعلامة صالح بن فوزان الفوزان، وغيرهم.

فكونوا على التوحيد والسنة غيورين، وعنهما مدافعين، على نهج السلف الماضين، لتلقوا الله راضين مرضيين.

أسأل الله الرحمن الرحيم الذي إياه نعبد وإياه نستعين، أن يسددني ويعينني ويتقبل هذا الكتاب، ويجعله ذخرًا يوم الدين عند لقياه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

د. عبدالعزيز بن ريس الريس

7/ 7/ 1437 هـ

* * *

ص: 12

القسم الأول

تأكيد المسلمات السنية فيما يتعلق بالبدعة

لما كان كتاب (مفهوم البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة) لعبد الإله بن حسين العرفج، مخالفًا لمسَلَّماتٍ سُنِّية معروفة عند أهل العلم، كان لازمًا بيانُ هذه المسلمات والتذكير بها، فإن مجرد معرفتها كاف في سقوط وتهافت كتاب العرفج وأمثاله، وعدم الالتفات إليه عند ذوي الألباب.

وهاك - أخي - هذه المقدِّمات، لتأكيد تلك المُسَلَّمات.

المقدمة الأولى

ذمُّ الشَّرعِ والسلفِ للبدع

قد تكاثرت الأدلة وكلمات سلف هذه الأمة في ذم البدع ووصفها بالضلالة، ومن أصول هذا الباب ما أخرج الشيخان

(1)

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو ردٌّ» .

وأخرج مسلم

(2)

عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» .

(1)

أخرجه البخاري رقم (2697)، ومسلم رقم (1718).

(2)

رقم (867).

ص: 13

و أخرج الخمسة إلا النسائي

(1)

عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنها ضلالة» .

وثبت عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «اقتصادٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ»

(2)

.

وثبت عن أبي الدرداء أنه قال: «اقتصادٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة، إنَّك إنْ تتَّبعْ خيرٌ مِنْ أن تبتدع، ولن تخطئ الطَّريقَ ما اتَّبعْتَ الأثر»

(3)

.

وثبت عن أبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: «عليكم بالسَّبيل والسُّنة، فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنَّةٍ ذكَر الرحمنَ ففاضت عيناه من خشية الله، فتمسَّه النَّارُ، وليس من عبدٍ على سبيل وسنَّةٍ ذكرَ الرَّحمن فاقشعرَّ جلدُه من مخافة الله إلَّا كان مثَلُه كمثل شجرة يبس ورقها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريح فتَحاتَّ عنها ورقُها، إلا تحاتَّت عنه ذنوبه كما تَحاتَّ عن هذه الشَّجرة ورقُها، وإنَّ اقتصادًا في سبيلٍ وسنَّة خيرٌ من اجتهادٍ في خلافِ سبيلٍ وسنَّة»

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42)، وأحمد رقم (4/ 126)، وقال الترمذي:«حسن صحيح» ، وصححه أبو نعيم والبزار والحاكم وابن عبد البر والضياء المقدسي والشيخ الألباني، وحسنه البغوي وابن القيم، انظر جامع العلوم والحكم (2/ 109)، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1164)، وشرح السنة (1/ 205)، وإعلام الموقعين (4/ 148)، واتباع السنن واجتناب البدع (ص 20)، وإرواء الغليل (8/ 107).

(2)

أخرجه المروزي في السنة رقم (89).

(3)

السنة للمروزي رقم (100)، وأخرجه اللالكائي (115) مختصرًا.

(4)

أخرجه الإمام أحمد في الزهد (ص 161) وظاهر إسناده الصحة، وابن المبارك في الزهد (2/ 21)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 59)، وابن أبي شيبة (7/ 224).

ص: 14

وعن ابن عمر أنه قال: «كلُّ بدعة ضلالة وإن رآها النَّاس حسنةً»

(1)

.

وقال سعيد بن جبير: «لأنْ يصحبَ ابني فاسقًا شاطرًا سُنِّيًا، أحبُّ إليَّ من أن يصحبَ عابدًا مبتدعًا»

(2)

.

وقال أرطاةُ بن المنذر: «لأن يكون ابني فاسقًا من الفسَّاق أحبُّ إليَّ من أن يكون صاحبَ هوى»

(3)

.

قال الفضيل بن عياض: «لأن آكل عند اليهوديِّ والنصرانيِّ أحبُّ إليَّ من أن آكلَ عند صاحبِ بدعة، فإني إذا أكلتُ عندهما لا يُقتَدى بي، وإذا أكلتُ عند صاحبِ بدعةٍ اقتَدَى بيَ النَّاسُ، أُحِبُّ أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصْنٌ مِنْ حديدٍ»

(4)

.

قال الإمام الشَّافعي: «لأن يلقى اللهَ العبدُ بكلِّ ذنبٍ ما خلا الشِّرك، خيرٌ من أن يلقاه بشيءٍ من الهوى»

(5)

.

قال الإمام أحمد: «قبورُ أهل السُّنة من أهل الكبائر روضةٌ، وقبورُ أهل البدعة من الزُّهَّاد حفرةٌ، فسَّاق أهلِ السنَّة أولياءُ الله، وزهَّادُ أهلِ البدعة أعداءُ الله»

(6)

.

(1)

المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص: 180).

(2)

الشرح والإبانة رقم (89).

(3)

المرجع السابق رقم (87).

(4)

حلية الأولياء (8/ 103).

(5)

أخرجه البيهقي في الاعتقاد (ص 239).

(6)

طبقات الحنابلة (1/ 184)

ص: 15

قال البَرْبهاريُّ: «وإذا رأيتَ الرجل من أهل السنَّة رديء الطَّريقِ والمذهب، فاسقًا فاجرًا صاحبَ معاصٍ، ضالًّا وهو على السنة؛ فاصحَبْه، واجلس معه، فإنَّه ليس يضرُّك معصيتُه، وإذا رأيتَ الرجل مجتهدًا في العبادة متقشفًا محترقًا بالعبادة صاحبَ هوى، فلا تجالسْه، ولا تقعد معه، ولا تسمع كلامه، ولا تمشِ معه في طريق، فإنِّي لا آمنُ أن تستحليَ طريقته؛ فتهلكَ معه.

ورأى يونس بن عبيد ابنه وقد خرج من عند صاحب هوى فقال: «يا بنيَّ من أين جئتَ؟ قال: من عند فلان، قال: يا بنيّ! لأن أراك خرجت من بيت خنثى، أحبُّ إلي من أن أراك تخرج من بيت فلان وفلان، ولأن تلقى الله يا بنيّ زانيًا فاسقًا سارقًا خائنًا، أحبُّ إلي من أن تلقاه بقولِ فلان وفلان» .

ألا ترى أنَّ يونسَ بن عبيد قد علم أن الخنثى

(1)

لا يضل ابنه عن دينه، وأنَّ صاحب البدعة يضلُّه حتى يكفر؟!»

(2)

.

قال ابن القيم: «بل ما أكثر من يتعبد الله بِما حرَّمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعةٌ وقربةٌ، وحاله في ذلك شرٌّ من حال من يعتقد ذلك معصيةً وإثمًا، كأصحاب السماع الشعري الذي يتقربون به إلى الله تعالى، ويظنون أنَّهم من أولياء الرَّحمن، وهم في الحقيقة من أولياء الشيطان»

(3)

.

(1)

في لسان العرب (2/ 145): «الخنثى: الذي له ما للرجال والنساء جميعا» .

(2)

شرح السنة رقم (139).

وهذه الكلمات من السلف ليست تهوينًا للمعاصي الشهوانية، وإنما لبيان عظيمِ جُرْم البدع، وأنها أشد إثمًا من المعاصي الشهوانية التي يستنكرها عامة الناس أكثرَ من البدع.

(3)

إغاثة اللهفان (2/ 181).

ص: 16

المقدمة الثانية

لا يوصف شيء محدث بأنه بدعة شرعًا إلا إذا عدّه عبادة

من أعظم ضوابط البدعة أنها لا تكون إلا فيما يُتعبَّد ويُتديَّن به، والأدلة على هذا كثيرةٌ من الكتاب والسنة الصحيحة، ومنها هذان الدليلان:

الدليل الأول: قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ] الشورى: 21 [وجه الدلالة أنهم جمعوا بين التشريع (الإحداث)، والزعم أنه من الدِّين المقرِّب لله، فصارت شاملةً للبدع. وبهذه الآية استدل العلماء المحققون على حرمة البدع كما سيأتي - إن شاء الله - من كلام ابن جرير وابن تيمية وابن رجب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}. والعادات؛ الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا}] يونس: 59 [»

(1)

.

الدليل الثاني: عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ» متفق عليه

(2)

.

(1)

القواعد النورانية (ص: 164).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 17

قال الحافظ العلائي: «والرَّد هنا باتفاق أئمة اللغة والحديث بمعنى (المردود)»

(1)

.

وجه الدلالة: قوله (أمرنا) أي ديننا. فعلى هذا خرجت البدع الدنيوية من أصل الحظر والمنع، فلا يمنع شيءٌ منها إلا بدليلٍ، فلا يصح لأحدٍ أن يمنع السيارات الحديثة والطائرات ونحوهما بحجة أنهما غير موجودين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن هذه أمورٌ دنيوية لا أمورٌ دينية.

وقد قرر هذا العلماء، قال ابن جرير في تفسيره لقوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ .. } : «يقول تعالى ذكره: أم لهؤلاء المشركين بالله شُرَكاءُ في شِركهم وضلالتهم «شَرعُوا لهم من الدِّين مالم يأذن به الله» يقول: ابتدعوا لهم من الدِّين ما لم يُبح الله لهم ابتداعَه».

وتقدم ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن فقهاء أهل الحديث، كأحمد وغيره.

ولما ألف الطرطوشي وأبو شامة كتابيهما في البدع بينا أن المرادَ بالبدع الإحداثُ في الدين.

قال الطرطوشي المالكي: «وقسم يظنه معظمهم - إلا من عصم الله - عباداتٍ، وقربات، وطاعات، وسننًا.

فأما القسم الأول، فلم نتعرض لذكره؛ إذ كُفينا مؤنة الكلام فيه؛ لاعتراف فاعله أنه ليس من الدين»

(2)

.

فبين بهذا أن كتابه المؤلف في البدع إنما هو فيما يتعلق بالإحداث في الدين.

وقال أبو شامة الشافعي: «فوصف ذلك عبد الله - أي ابن مسعود - بأنه بدعة لما كان موهمًا أنه من الدين، لأنه قد ثبت أن التجرد مشروع في الإحرام بنسك الحج والعمرة»

(3)

.

وقال: «فأمَّا القسم الأول فلا نطيل بذكره إذ قد كفينا مؤنة الكلام فيه لاعتراف فاعله انه ليس من الدين»

(4)

.

(1)

تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد (ص: 111).

(2)

الحوادث والبدع (ص: 21).

(3)

الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص: 21).

(4)

المرجع السابق (ص: 25).

ص: 18

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد قرَّرنا في القواعد في قاعدة السنة والبدعة: أنَّ البدعة هي الدِّين الذي لم يأمر الله به ورسوله، فمن دان دِينًا لم يأمر الله ورسوله به فهو مبتدع بذلك»

(1)

.

وقال: «وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضًا، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}] الشورى: 21 [، فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله»

(2)

.

وقال: «وهو سبحانه إنما يُعبَد بما شَرع من الدين، لا يُعبَد بما شُرع من الدين بغير إذنه؛ فإن ذلك شرك، قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} - إلى قوله - {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} ] الشورى: 13 [.

والدين الذي شرعه إما واجب وإما مستحب، فكل من عبد عبادة

(3)

ليست واجبة في شرع الرسول ولا مستحبة كانت من الشرك والبدع، والحج إلى القبور ليس من شرعه لا واجبًا ولا مستحبًّا، فإنه لا يقدر أحد أن ينقل عنه حديثًا صحيحًا في استحباب ذلك، ولا عن أصحابه ولا علماء أمته»

(4)

.

(1)

الاستقامة (1/ 5).

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 84).

(3)

لعل الصواب: «تعبد بعبادة» .

(4)

الأخنائية (ص: 498).

ص: 20

وقال: «وقد قررنا في القواعد في قاعدة السُّنة والبدعة؛ أن البدعة هي الدِّين الذي لم يأمر الله به ورسوله، فمن دان دينًا لم يأمر الله ورسوله به فهو مبتدع بذلك، وهذا معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}»

(1)

.

وقال: «ومعنى ذلك أنه لا يشرع الاجتماع لهذا السماع المحدث، ولا يؤمر به، ولا يُتَّخذ دينًا وقربة، وأنَّ القُرَبَ والعباداتِ إنما تؤخذ عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فكما أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، فإنه لا دين إلَّا ما شرعه الله، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}»

(2)

.

وقال الشاطبي: «وإنما قُيِّدت بالدِّين لأنها فيه تُخْتَرع، وإليه يضيفها صاحبها أيضًا، فلو كانت طريقةً مخترعةً في الدنيا على الخصوص؛ لم تُسمَّ بدعةً، كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم

» اهـ

(3)

.

وقال ابن رجب: «فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدِّين، ولم يكن له أصلٌ من الدِّين يُرجع إليه؛ فهو ضلالةٌ» اهـ

(4)

.

(1)

الاستقامة (1/ 5).

(2)

التحفة العراقية (ص: 73).

(3)

الاعتصام (1/ 47).

(4)

جامع العلوم والحكم (2/ 128).

ص: 21

المقدمة الثالثة

العبادة لا تخرُجُ عن أن تكون واجبةً ومستحبةً فعلًا،

أو محرمةً ومكروهةً تركًا

وهذا بدهي لمن تدبر معنى العبادة شرعًا، لأن العبادة فعل ما يحبُّ اللهُ فعْلَه، وتركُ ما يحبُّ اللهُ تركَه، وهذا لا يكون من جهة الفعل إلا واجبًا أو مستحبًّا، ومن جهة الترك إلَّا محرَّمًا أو مكروهًا، ومع أن هذا الأمر واضح من جهة المعنى فإن العلماء أيضًا قرروه وأجمعوا عليه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «يقتضي أن السفر إليه - أي إلى قبر رسول الله - ليس بمستحب وليس هو واجبًا بالاتفاق، فلا يكون قربةً وطاعة، فإنَّ القربة والطاعة إمَّا واجبٌ وإمَّا مستحبٌّ، وما ليس بواجب ولا مستحبٍّ فليس قربةً ولا طاعةً بالإجماع»

(1)

.

وقال: «إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنَّه قربةٌ وطاعة وبرٌّ، وطريق إلى الله؛ واجبٌ أو مستحبٌّ، إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك يُعْلَم بالأدلَّة المنصوبة على ذلك، وما عُلم باتِّفاق الأمَّة أنه ليس بواجبٍ ولا مستحب ولا قربةٍ؛ لم يجز أن يُعتقد أو يُقالَ: إنه قربةٌ وطاعة، فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصدُ التقرب به إلى

(1)

الأخنائية (ص: 405).

ص: 22

الله ولا التعبدِ به، ولا اتخاذه دينًا، ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقادٍ وقول، ولا بإرادة وعمل»

(1)

.

وقال: «والدين الذي شرعه إما واجب وإما مستحب، فكل من عبد عبادة

(2)

ليست واجبة في شرع الرسول ولا مستحبة؛ كانت من الشرك والبدع، والحجُّ إلى القبور ليس من شرعه لا واجبًا ولا مستحبًّا، فإنه لا يقدر أحد أن ينقل عنه حديثًا صحيحًا في استحباب ذلك، ولا عن أصحابه ولا علماء أمته»

(3)

.

وقال: «فأما ما أمرك الله ورسوله بإرادتك إياه فإرادته إما واجب وإما مستحبٌّ، وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص»

(4)

.

المقدمة الرابعة

لا يصح التعبد بالمباح لذاته

لأن المباح ليس مما يحب الله فعله ولا تركه، بل إن التعبد به لذاته بدعة، فليس مستحبًا ولا واجبًا إلا في حال واحدةٍ - يأتي ذكرها إن شاء الله -، فمن باب أولى أنه لا يصح أن يتعبَّد لله بفعل المكروهات والمحرمات، فبهذا لا توجد عبادةٌ جائزةٌ مباحةٌ من جهة الفعل وهي ليست واجبةً أو مستحبةً.

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 451).

(2)

لعل صوابه: «تعبد بعبادة» .

(3)

الأخنائية (ص: 499).

(4)

مجموع الفتاوى (10/ 494).

ص: 23

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فهذا أصلٌ عظيمٌ تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحةً إذا جُعلت مباحاتٍ، فأما إذا اتُّخذت واجباتٍ أو مستحبَّاتٍ؛ كان ذلك دينًا لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلةِ جَعْل ما ليس من المحرَّمات منها، فلا حرام إلَّا ما حرَّمه الله، ولا دينَ إلَّا ما شرع الله، ولهذا عظُم ذمُّ الله في القرآن لمن شَرَع دينًا لم يأذن الله به، ولمن حرَّم مالم يأذن الله بتحريمه، فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرَّمات؟ .. - إلى أن قال: - بإهمال هذا الأصل غلط خلقٌ كثيرٌ من العلماء والعُبَّاد، يرون الشيء إذا لم يكن محرَّمًا لا يُنهى عنه، بل يُقال: إنه جائزٌ، ولا يفرِّقون بين اتخاذه دينًا وطاعةً وبرًّا، وبين استعماله كما تُستعمل المباحات المحضة، ومعلومٌ أن اتخاذه دينًا بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما، أو بالقول أو بالعمل أو بهما؛ من أعظم المحرَّمات، وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يُعلم أنها معاص وسيئات»

(1)

.

وقال: «فلزوم زيٍّ معيَّنٍ من اللباس، سواءٌ كان مباحًا أو كان مما يُقال: إنه مكروهٌ، بحيث يُجعَلُ ذلك دينًا مستحبًّا وشعارًا لأهل الدِّين؛ هو من البدع أيضًا، فكما أنه لا حرام إلا ما حرَّمه الله، فلا دين إلا ما شرَّعه الله»

(2)

.

وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية على الذين يقولون: إن السَّفر إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مباحٌ، ثم يتعبَّدون لله بذلك، فبيَّن أنه على فرض الإباحة؛ فإن العبادة لا تكون إلا بأمرٍ واجبٍ أو مستحبٍّ، ولا تكون بأمرٍ مباحٍ، وقد تقدم

(3)

.

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 450).

(2)

الاستقامة (1/ 260).

(3)

راجع للاستزادة الصارم المنكي (ص 34)، ومجموع الفتاوى (1/ 80)(11/ 631 - 634).

ص: 24

قال السبكي: «ففعْلُ ذلك بدعةٌ ولا ينبغي أن يدخل في الدين ما ليس منه، ولا أن نعتقد في شيء أنه سنة حتى يكون له شبيه أصل، ولا يكفي كونه مباحًا، فإن جَعْله من الدين، أو مطلوبًا، وسنة وشعارًا؛ إنما يكون من جهة الشرع، وما لأحد أن يحدثه، لا شيخ ولا غيره»

(1)

.

تنبيه:‌

‌ يصحُّ التعبُّد بالمباح في حال واحدةٍ،

وهو أن يكون عونًا على فعل الطاعات، فلا يُتعبَّد به لذاته، وإنما لغيره من باب الوسائل، ويدلُّ لهذا ما روى مسلم

(2)

عن أبي ذرٍّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وفي بُضع أحدكم صدقةٌ» قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجرٌ؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ» ، وأخرج الشيخان

(3)

عن سعد بن أبي وقاصٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله، إلا أُجرتَ عليها، حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك» وروى البخاري

(4)

أن أبا موسى قال لمعاذ بن جبل: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أوَّل الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي».

(1)

فتاوى السبكي (2/ 551).

(2)

رقم (1006).

(3)

أخرجه البخاري رقم (56)، ومسلم رقم (1628).

(4)

رقم (4341).

ص: 25

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأما إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصدًا للعدول عن الحرام إلى الحلال لحاجته إليه، فإنه يُثاب على ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقةٌ

»

(1)

.

وقال: «وإذا عرف أن لذَّاتِ الدنيا ونعيمَها إنما هي متاعٌ ووسيلةٌ إلى لَذَّات الآخرة، وكذلك خُلقت، فكل لذةٍ أعانت على لذات الآخرة فهو مما أمر الله به ورسوله، ويُثاب على تحصيل اللذة بما يثوب إليه منها من لذات الآخرة التي أعانت هذه عليها

»

(2)

.

وقال: «ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه، ويقصد أن يستعين بما أبيح له على ما أمره الله، فهو من أولئك»

(3)

.

قال ابن القيم: «والعبد إذا عزم على فعل أمرٍ فعليه أن يعلم أولًا هل هو طاعةٌ أم لا؟ فإن لم يكن طاعةً فلا يفعله إلا أن يكون مباحًا يستعين به على الطاعة، وحينئذٍ يصير طاعةً

»

(4)

.

قال ابن رجب بعد حديث أبي ذر السابق: «وظاهر هذا السياق يقتضي أنه يؤجر على جِماعِهِ لأهله بنيِّة طلب الولد الذي يترتب الأجر على تربيته وتأديبه في حياته ويحتسبه عند موته

»

(5)

.

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 48).

(2)

الاستقامة (2/ 152).

(3)

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص 37).

(4)

إعلام الموقعين (2/ 122).

(5)

جامع العلوم والحكم (2/ 62).

ص: 26

قال ابن حجر: «المباحات يؤجر عليها بالنية إذا صارت وسائلَ للمقاصد الواجبة أو المندوبة أو تكميلًا»

(1)

، وقال - أيضًا -:«طريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السَّمحة، فيُفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوَّى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل»

(2)

.

المقدمة الخامسة

البدع كلها محرمة

إن كل بدعة في الدين محرمة، ومن الأدلة على ذلك ما يلي:

الدليل الأول: أخرج الشيخان

(3)

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو ردٌّ» .

وجه الدلالة: أن البدع مردودة، وما كان كذلك فهو محرم، قال ابن القيم:«لأنها بدعة محرمة، والبدعة مردودة»

(4)

.

الدليل الثاني: أخرج مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (3).

وجه الدلالة: أن المحدثات والبدع شر الأمور، وهي ضلالة، فما كان كذلك فهي محرمة.

(1)

فتح الباري (12/ 275).

(2)

المرجع السابق (9/ 105)، وانظر مجموع الفتاوى (10/ 534 - 535).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

زاد المعاد (5/ 226).

ص: 27

الدليل الثالث: عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنها ضلالة» أخرجه الخمسة إلا النسائي

(1)

.

وجه الدلالة: أنه نهى عنها بقوله: «وإياكم» ثم وصفها بأنها ضلالة، وما كان كذلك فهو محرم.

الدليل الرابع: أقوال الصحابة، قال ابن مسعود:«اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم»

(2)

، وقال ابن عمر:«وكل بدعة ضلالةٌ وإن رآها الناس حسنةً»

(3)

(1)، وجعل ابن مسعود المحْدِثين للذكر الجماعي بالحصى مفتتحي بابِ ضلالة، فقال:«ما هذا الذي أراكم تصنعون؟» قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصًى نعدُّ به التكبير والتهليل والتسبيح، قال:«فعُدُّوا سيئاتِكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيءٌ، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبلَ، وآنيته لم تُكسَرْ، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملَّةٍ هي أهدى من ملَّة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو بابِ ضلالة»

(4)

.

الدليل الخامس: إجماع السلف الصالح على أن كل بدعة ضلالة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«مسألة أن كل بدعة في الدين ضلالة محرمة، هذا مما أجمع عليه الصحابة والسلف الصالح»

(5)

.

فكل من زعم أن من البدع بالمعنى الشرعي ما ليس محرمًا فهو محجوج بهذا الإجماع.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه ابن خيثمة في كتاب العلم (ص 16)، وابن وضاح في البدع (ص 37).

(3)

المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (1/ 180)

(4)

سنن الدارمي رقم (210).

(5)

اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 64).

ص: 28

ويزيد هذا الإجماعَ قوَّةً؛ إجماعُ العلماء على أن المعاصي الشبهاتية (البدع) أشدُّ إثمًا من المعاصي الشهوانية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«أهل البدع شرٌّ من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة والإجماع»

(1)

.

فبهذا يتبين أن البدع أشد إثمًا من الكبائر.

وسيأتي - إن شاء الله - تقرير الشاطبي لذلك.

الدليل السادس: أن للبدع لوازمَ شنيعةً، منها زَعْم أنَّ الدين لم يكملْ، فتكون تكذيبًا لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ] المائدة: 3 [.

ومنها اتهام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خان الرسالة، قال الإمام مالك بن أنس:

«من أحدث في هذه الأمة اليوم شيئًا لم يكن عليه سلفُها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. فما لم يكن يومئذٍ دينًا، لا يكون اليوم دينًا»

(2)

.

وهذه اللوازم لا توجد في عموم المعاصي الشهوانية من الصغائر والكبائر.

ومما يؤكد أن البدعة أشد إثمًا من المعاصي الشهوانية، كلماتُ أهل العلم في ذم البدع، وتقدم نقل طرف منها.

(1)

مجموع الفتاوى (20/ 103).

(2)

أخرجه ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (6/ 58).

ص: 29

وقال الشاطبي: «وحاصل ما ذكر هنا

(1)

أن كل مبتدع آثم، ولو فرض عاملًا بالبدعة المكروهة، إنْ ثبتَ فيها كراهةُ التنزيه»

(2)

.

وقال: «أما الشرعُ، ففيه ما يدل على خلاف ذلك

(3)

؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ على من قال: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أنكح النساء

إلى آخر ما قالوا، فرد عليهم ذلك صلى الله عليه وسلم وقال:«من رغب عن سنتي فليس مني»

(4)

.

وهذه العبارة من أشد شيء في الإنكار، ولم يكن ما التزموهُ إلا فعلَ مندوبٍ، أو تركَ مندوبٍ إلى فِعْلِ مندوبٍ آخرَ - ثم قال -:

«وكلية قوله: «كل بدعة ضلالة» شاهدة لهذا المعنى، والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد، وهي خاصية المحرم» - ثم قال -:

«والشواهد في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن الهيِّنَ عند الناس من البدع؛ شديدٌ وليس بهيِّنٍ، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}] النور: 15 [- ثم قال -:

«المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة، وإلى ما هو كبيرة، حسبما تبين في علم الأصول الدينية، فكذلك يقال في البدع المحرمة: إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارًا بتفاوت درجاتها كما تقدم، وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة» - ثم قال -:

(1)

أي في أن ذم البدع والمحدثات عام لكل محدثة.

(2)

الاعتصام (1/ 251).

(3)

أي ليس في الدين بدعة مكروهة كراهة تنزيهية.

(4)

سيأتي تخريجه.

ص: 30

«فكما انحصرت كبائر المعاصي أحسنَ انحصار - حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب -؛ كذلك تنحصر كبائر البدع أيضًا، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكالٌ عظيم على أهل البدع يعسر التخلص منه في إثبات الصغائر فيها، وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين، إما أصلًا، وإما فرعًا؛ لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع؛ زيادةً فيه، أو نقصانًا منه، أو تغييرًا لقوانينه، أو ما يرجع إلى ذلك، وليس ذلك بمختص بالعبادات دون العادات؛ إن قلنا بدخولها في العادات، بل تشمل الجميع.

وإذا كانت بكليتها إخلالًا بالدين؛ فهي إذًا إخلالٌ بأول الضَّروريات، وهو الدِّين، وقد أثبت الحديث الصحيحُ أنَّ كل بدعة ضلالة، وقال في الفِرَق:«كلها في النار إلا واحدة»

(1)

، وهذا وعيد أيضا للجميع على التفصيل.

هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائرَ، كما أن القواعد الخمس أركانُ الدين، وهي متفاوتة في الترتيب، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان، وكذلك سائرها، مع أن الإخلال بكل واحد منها كبيرة، فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة»

(2)

.

(1)

سنن أبي داود رقم (3991)، سنن ابن ماجه رقم (3993)، مسند أحمد (19/ 241).

(2)

الاعتصام (2/ 380 - 389).

ص: 31

المقدمة السادسة

كل بدعة ضلالة ولا يوجد في الدين بدعة حسنة

ويدل لذلك ما يلي:

الأمر الأول: عموم الأدلة فإنها تدل على أن البدع كلها ضلالة، وأنه لا توجد بدعة حسنة. كحديث جابر:«كل بدعة ضلالة»

(1)

، وحديث العرباض ابن سارية:«إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة» (1)، وحديث عائشة:«من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد» (1).

قوله: «أحدث» فعل في سياق الشرط يفيد العموم.

وقوله: «أمرنا» عام لأنه نكرة مضافة.

قال الشاطبي: «قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية، أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة، وأتي بها شواهد على معان أصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها، وإعادة تقريرها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم، كقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ] الأنعام: 164 [، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}] النجم: 39 [وما أشبه ذلك، وبسط الاستدلال على ذلك هنالك.

فما نحن بصدده من هذا القبيل، إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى، وبحسب الأحوال المختلفة أن كل بدعة ضلالة، وأن كل محدثة بدعة، وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع في الدين كلها مذمومة.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 32

ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص، ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها. فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها»

(1)

.

الأمر الثاني: عموم آثار الصحابة. قال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم

(2)

. وقال ابن عمر: وكل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة (2).

الأمر الثالث: الإجماع. حكاه ابن تيمية والشاطبي.

1 -

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «مسألة أن كل بدعة في الدين ضلالة محرمة، هذا مما أجمع عليه الصحابة والسلف الصالح»

(3)

.

وقال: «ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة؛ فهو ضال مبتدع بدعةً سيئة، لا بدعة حسنة، باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يُعبد إلا بما هو واجب أو مستحب»

(4)

.

2 -

قال الشاطبي: «أن ذم البدع والمحْدَثات عام لا يخص محدثة دون غيرها، ويدخل تحت هذه الترجمة النظرُ في جملة من شبه المبتدعة التي احتجوا بها» .

ثم قال: «إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك، وتقبيحها والهروب عنها، وعمن اتسم بشيء منها، ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا مثنوية، فهو بحسب الاستقراء إجماع ثابت، فدل على أن كل بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل» (1).

(1)

الاعتصام (1/ 245).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 64).

(4)

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 25).

ص: 33

الأمر الرابع: القول بأن في الدين بدعةً حسنةً تناقضٌ، وذلك أنه إما أن يدل الدليل على هذه البدعة، أو لا، فإن دلّ الدليل عليها فلا يصح أن تسمى بدعة؛ لأن الدليل دل عليها، فتكون من الدين لا من البدع، وإما أن لا يدل الدليل عليها فهي مردودة؛ لأن الأصل في العبادات التوقف والمنع.

قال الشاطبي: «أن هذا التقسيم

(1)

أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع، لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوبٍ أو ندب أو إباحة لما كان ثَمَّ بدعةٌ، ولكان العمل داخلًا في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعًا، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها، جمعٌ بين متنافيين»

(2)

.

وقد خالف بعض المتأخرين وزعموا أن في الدين بدعةً حسنة، واستدلوا بأمور أشهرها ما يلي:

أولًا: روى الخطيب عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ»

(3)

.

(1)

أي إلى بدعة حسنة وضلالة، وهو في معرض التقرير أن البدع كلها ضلالة.

(2)

الاعتصام (1/ 327).

(3)

تاريخ بغداد (4/ 387) ولفظه: «إن الله نظر في قلوب العباد فلم يجد قلبًا أتقى من أصحابي، ولذلك اختارهم فجعلهم أصحابًا، فما استحسنوا فهو عند الله حسن، وما استقبحوا فهو عند الله قبيح» .

ص: 34

ثانيًا: روى مسلم

(1)

عن جرير بن عبد الله البجلي أنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قومٌ حفاةٌ عُراةٌ مجتابي النِّمار أو العباء، مُتقلديّ السيوف، عامَّتهم من مُضرَ، بل كلهم من مُضر، فتمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لِما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثُمَّ خرج، فأمر بلالًا فأذن وأقام، فصلّى ثم خطب، فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ

}] النساء: 1 [الآية، والآية التي في سورة الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ

}] الحشر: 18 [تصدَّقَ رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره، (حتى قال) ولو بشقِّ تمرةٍ» قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصُرَّةٍ كادت كفُّه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعامٍ وثيابٍ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلَّل كأنه مُذْهبةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من سنَّ في الإسلام سُنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن يُنقَص من أجورهم شيءٌ، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وزرُها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن يُنقَص من أوزارهم شيءٌ» .

وجه الدلالة: أن البدع الحسنة داخلة في عموم السنة الحسنة.

ثالثًا: قال عمر بن الخطاب لما رأى الناس يُصلون القيام جماعةً في رمضان: «نعم البدعةُ هذه» رواه البخاري

(2)

.

رابعًا: كتابة القرآن وجمعه في مصحفٍ واحدٍ كما أمر أبو بكر - بمشورة عمر - زيدَ بنَ ثابت.

(1)

أخرجه مسلم رقم (1017).

(2)

رقم (2010).

ص: 35

أخرج البخاري

(1)

أن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وكان ممن يكتب الوحي - قال: «أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحَرَّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن» ، قال أبو بكر: قلت لعمر: «كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد بن ثابت: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شابٌّ عاقل، ولا نتهمك،

«كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم» ، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت:«كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟» فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن».

خامسًا: أن حديث «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» مخصصٌ لحديث: «كل بدعةٍ ضلالةٌ» ومبينٌ للمراد منه، إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء، لكان لفظ الحديث: من أحدث في أمرنا هذا شيئًا فهو ردٌ، لكن لما قال:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو ردٌّ» أفاد أن المحدث نوعان: ما ليس من الدِّين، بأن كان مخالفًا لقواعده ودلائله، فهو مردودٌ وهو البدعةُ الضلالة، وما هو من الدين بأن شهد له أصلٌ، أو أيده دليلٌ؛ فهو صحيحٌ مقبولٌ وهو السنة الحسنةُ.

(1)

رقم (4679).

ص: 36

والإجابة على هذه الأدلة الخمسة كالتالي:

أما استدلالهم الأول بحديث «ما رآه الناس حسنًا فهو حسن» فلا يصح الاستدلال به لأسباب ثلاثة:

السبب الأول: أنه ضعيف ضعفه العلماء، قال ابن حزم:«واحتجوا في الاستحسان بقول يجري على ألسنتهم، وهو: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» ، وهذا لا نعلمه يسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه أصلًا، وأما الذي لا شك فيه فإنه لا يوجد ألبتة في مسند صحيح، وإنما نعرفه عن ابن مسعود»

(1)

.

قال ابن القيم: «أن هذا ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يضيفه إلى كلامه مَنْ لا عِلْمَ له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود من قوله»

(2)

.

قال ابن عبد الهادي: «إسناده ساقطٌ، والأصح وَقْفه على ابن مسعود»

(3)

.

قال العلامة الألباني: «إن في إسناده كذابًا» ، ثم ذكر أنه إنما يثبت موقوفًا على ابن مسعود

(4)

، كما أخرجه الإمام أحمد

(5)

والخطيب في الفقيه والمتفقِّه

(6)

.

السبب الثاني: أن لفظ الحديث المرفوع - لو صحَّ - فيه تخصيصُ الحكمِ بالصَّحابة، لا عمومِ المسلمين، وذلك أن لفظه: «إن الله نظر في قلوب العباد

(1)

الإحكام في أصول الأحكام (6/ 18).

(2)

الفروسية (ص 298).

(3)

بواسطة كشف الخفاء (2/ 188).

(4)

السلسلة الضعيفة رقم (533).

(5)

(6/ 84).

(6)

(1/ 422).

ص: 37

فلم يجد قلبًا أتقى من أصحابي، ولذلك اختارهم فجعلهم أصحابًا، فما استحسنوا فهو عند الله حسن، وما استقبحوا فهو عند الله قبيح».

فهو راجع لإجماع الصحابة.

السبب الثالث: أنه لو صح فهو محمول على إجماع العلماء.

قال ابن حزم: «وهذا لو أتى من وجه صحيح لما كان لهم فيه متعلق، لأنه إنما يكون إثبات إجماع المسلمين فقط، لأنه لم يقل: «ما رآه بعض المسلمين حسنا فهو حسن» ، وإنما فيه:«ما رآه المسلمون» ، فهذا هو الإجماع الذي لا يجوز خلافه؛ لو تُيقِّن، وليس ما رآه بعض المسلمين بأولى بالاتباع مما رآه غيرهم من المسلمين، ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشيء وضده وبفعل شيء وتركه معا وهذا محال لا سبيل إليه»

(1)

.

قال ابن القيم: «أنه لو صح مرفوعًا فهو دليل على أن ما أجمع عليه المسلمون ورأوه حسنًا فهو عند الله حسن، لا ما رآه بعضهم فهو حجَّةٌ عليكم»

(2)

.

قال الشاطبي: «فلا حجة فيه من أوجه: أحدها: أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون بجملتهم حسنًا فهو حسن، والأمة لا تجتمع على باطل، فاجتماعهم على حُسْن شيء يدلُّ على حُسْنه شرعًا، لأن الإجماع يتضمن دليلًا شرعيًّا؛ فالحديث دليل عليكم لا لكم

»

(3)

.

(1)

الإحكام في أصول الأحكام (6/ 19).

(2)

الفروسية (ص: 299).

(3)

الاعتصام (3/ 69).

ص: 38

قال العلامة الألباني: «وعلى افتراض صلاحية الاحتجاج به، فإنه لا يعارض تلك النصوص، لأمور:

الأول: أن المراد به إجماع الصحابة واتفاقهم على أمر، كما يدل عليه السياق، ويؤيده استدلال ابن مسعود به على إجماع الصحابة على انتخاب أبي بكر خليفة، وعليه فاللام في «المسلمون» ليس للاستغراق كما يتوهمون، بل للعهد

»

(1)

.

وأما استدلالهم الثاني بحديث «من سن في الإسلام سنة حسنة» فلا يصح الاستدلال به لأسباب ثلاثة:

السبب الأول: أن الأدلة يفسر بعضها بعضًا، فلما جاءت الأدلة الكثيرة في ذم البدع، فيحمل معنى السنة الحسنة على غير البدع.

قال الشاطبي: «فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة

» ليس المراد به الاختراع ألبتة، وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية، إن زعم مُورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوعٌ به، فإن زعم أنه مظنون؛ فما تقدم من الدليل على ذم البدع مقطوعٌ به، فيلزم منه التعارض بين القطعي والظني، والاتفاق من المحققين أن لا تعارض بينهما لسقوط الظني وعدم اعتباره، فلم يبق إلا أن يقال: إنه من قبيل العام والخاص، ولا تعارض بينهما عند المحققين على التنزل بفقد التعارض، فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع، وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية، وذلك من وجهين:

أحدهما: أن السبب الذي لأجله جاء الحديث هو الصدقة المشروعة، بدليل ما في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله

(1)

سلسلة الأحاديث الضعيفة (2/ 18).

ص: 39

-صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار، - ثم ذكر الحديث - فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من سن سنة حسنة» و «من سن سنة سيئة» ، تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حيث أتى بتلك الصرة، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال:«من سن في الإسلام سنة حسنة» الحديث، فدل على أن السنة هاهنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة، وأن الحديث مطابق لقوله في الحديث الآخر:«من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي» الحديث إلى قوله: «ومن ابتدع بدعة ضلالة» ، فجعل مقابل تلك السنة الابتداع، فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«ومن أحيا سنتي فقد أحبني» .

ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما حض على الصدقة أوَّلًا، ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به، فانثال بعده العطاء إلى الكفاية، فكأنها كانت سنَّةً أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله، فليس معناه من اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة

»

(1)

.

فبهذا يُحمل الحديث على من عمل عملًا مشروعًا دلت عليه الأدلة، مثل فعل الأنصاري الذي ابتدأ الصدقة فتتابع الناس على ذلك.

(1)

الاعتصام (1/ 311).

ص: 40

قال الشيخ العلامة ابن عثيمين: «وهناك جواب لا بأس به: أن معنى «من سن» من أحيا سنة كانت موجودة فعدمت فأحياها، وعلى هذا فيكون «السَّنُّ» إضافيًّا نسبيًّا، كما تكون البدعة إضافيَّةً نسبيَّة لمن أحيا سنَّة بعد أن تُرِكت»

(1)

.

وقال أيضًا: «جواب ثالث يدل له سبب الحديث، وهو قصة النفر الذين وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في حالة شديدة من الضيق، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التبرع لهم، فجاء رجل من الأنصار بيده صرة من فضة كادت تثقل يده، فوضعها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي عليه الصلاة والسلام يتهلل من الفرح والسرور، وقال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ، فهنا يكون معنى «السَّنِّ» سنَّ العمل تنفيذًا، وليس سنَّ العملِ تشريعًا، فصار معنى «من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً»: مَنْ عمل بها تنفيذًا، لا تشريعًا؛ لأن التشريع ممنوع «كل بدعة ضلالة» »

(2)

.

السبب الثاني: أن الحديث استدلال بمورد النزاع، فكل العلماء - سواء كانوا ممن يقسمون البدع إلى حسنة وسيئة، أو ممن لا يقسمونها - لا يُدخلون في قوله:«سنة حسنة» ما يرون أن أدلة الشرع تمنعه وتحكم بعدم حسنه، إلا أن المقسمين يصفون هذا بالبدعة السيئة، وغير المقسمين يصفونه بالبدعة، وعلى أصلهم لا يوجد في الدين بدعة حسنة، بل كلها ضلالة، ثم الذي رأيت من العلماء، سواء المقسمين للبدعة خمسة أقسام، أو غير المقسمين؛ أنهم لا ينازعون في تشريع بعض العبادات المستحدثة بضوابطها الشرعية، كما سيتكرر بيان هذا - إن شاء الله -، لكن قد يختلفون في أمرين:

(1)

الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع (ص: 20).

(2)

المرجع السابق (ص: 21).

ص: 41

الأمر الأول: تأصيل بعض الأدلة، كالتوسع في العمومات، وهكذا

الأمر الثاني: الاختلاف في تنزيل الأدلة على بعض الوقائع، من باب الاختلاف في تحقيق المناط.

وهذان الأمران يختلفان من عالم إلى عالم، فهي لا تدل أن في طريقة التبديع مدرستين، بل هذا اختلاف فردي من عالم إلى عالم في تعامله مع هذه المسائل، وضبطه لها تنظيرًا وتطبيقًا.

وهذا لا يجوّز القول بأن في الدين بدعةً حسنةً شرعًا، بل ما وافق الدين من المحدثات بضوابطه فهو ليس بدعة، بل عبادة شرعية؛ لأنه قد دل عليها الدليل، وإن كان يصح أن يسمى بدعة بالمعنى اللغوي.

لأجل هذا جعل ابن حجر الهيتمي الخلاف لفظيًّا فقال: «وليست بدعةً شرعًا، فإن البدعةَ الشرعية ضلالةٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم، ومَن قسمها من العلماء إلى حسن وغير حسن فإنما قسَّم البدعة اللغوية، ومن قال: كل بدعة ضلالةٌ، فمعناه البدعة الشرعية، ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان أنكروا غير

(1)

الصلوات الخمس، كالعيدين، وإن لم يكن فيه نهي، وكرهوا استلام الركنين الشاميين، والصلاة عقيب السعي بين الصفا والمروة قياسًا على الطواف، وكذا ما تركه صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضي، فيكون تركُه سنَّةً وفعلُه بدعةً مذمومة، وخرج بقولنا:(مع قيام المقتضى في حياته) تركُه إخراجَ اليهود من جزيرة العرب، وجمع المصحف، وما تركَه لوجود المانع، كالاجتماع للتراويح، فإن المقتضي التامَّ يدخل فيه المانع»

(2)

.

(1)

لعل فيه سقطًا وصوابه: أنكروا الأذان لغير الصلوات الخمس.

(2)

الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي (ص: 200).

ص: 42

وما ذكره الهيتمي صحيح؛ فإنه لا ثمرة عملية للخلاف في تقسيم البدعة إلى ضلالة وحسنة، أو القول بأن كلها ضلالة، لكن القول بأن الخلاف لفظيٌّ فيه نظر؛ لأن معناه أنَّ القول بأنه يوجد في الدين بدعة حسنة؛ صحيحٌ، وهذا خطأ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن البدع كلَّها ضلالة، ولكن الفائدة الكبيرة من بيان أن الخلاف لا ثمرة له هو أنه لا يصح لأحد أن يشرع بدعًا بحجة أن في الدين بدعة حسنة كما يفعله كثير.

وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين: «وما ادعاه بعض العلماء من أن هناك بدعة حسنة فلا تخلو من حالين:

1 -

أن لا تكون بدعة، لكن يظنها بدعة.

2 -

أن تكون بدعة فهي سيئة، لكن لا يعلم عن سوئها.

فكل ما ادُّعي أنه بدعة حسنة فالجواب عنه بهذا»

(1)

.

فبهذا يكون الاستدلال بهذا الحديث استدلالًا بمورد النزاع، لا سيما وكل العلماء متفقون على أن الأصل في العبادات المنع والحظر، وانه لا ينتقل عن هذا إلا بدليل على ما سيأتي بيانه - إن شاء الله -.

السبب الثالث: الحكم على بدعة بالحُسْن إن كان عقليًّا، فهذا مردود؛ لأن الشرع كامل، وعقول الناس تتفاوت، كما قال عبد الله بن مسعود للذين يذكرون الله حلقًا:«وكم من مريد للخير لن يصيبه»

(2)

.

(1)

الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع (ص: 13).

(2)

أخرجه الدارمي رقم (210).

ص: 43

وإن كان شرعيًّا فيلزم الواصفَ لبدعة بالحسن أن يبين دليله، فإن قبل بميزان الشرع، وإلا رد.

قال الشاطبي: «قوله: «من سن سنة حسنة» و «من سن سنة سيئة» لا يمكن حمله على الاختراع من أصل، لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع»

(1)

.

قال العلامة ابن عثيمين: «أن من قال: «من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً» هو القائل: «كل بدعة ضلالة» ولا يمكن أن يصدر عن الصادق المصدوق قول يكذب له قولًا آخر، ولا يمكن أن يتناقض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدًا، ولا يمكن أن يرد على معنى واحد مع التناقض أبدًا، ومن ظن أن كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم متناقض فليعد النظر، فإن هذا الظن صادر إما عن قصور منه، وإما عن تقصير ولا يمكن أن يوجد في كلام الله تعالى أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم تناقض أبدًا.

وإذا كان كذلك فبيان عدم مناقضة حديث: «كل بدعة ضلالة» لحديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة» ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من سن في الإسلام» ، والبدع ليست من الإسلام، ويقول:«حسنة» والبدعة ليست بحسنة، وفرق بين السَّنِّ والتبديع»

(2)

.

(1)

الاعتصام (1/ 315).

(2)

الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع (ص: 19).

ص: 44

وأما استدلالهم الثالث بقول عمر: «نعمت البدعة هذه» فلا يصح لسببين:

السبب الأول: أنه ليس من جملة البدع، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل القيام جماعة في رمضان ثم تركه لمانعٍ، وهذا المانع زال بموته، فصار فعله سنةً شرعيةً، فقد أخرج الشيخان

(1)

عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهد، ثم قال:«أما بعد، فإنه لم يخْفَ علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم، فتعجزوا عنها» ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك.

فإذن يُحمل قول عمر بن الخطاب على المعنى اللغوي لا الشرعي، لأن هذا الفعل ليس بدعةً شرعيَّةً، بل سنَّةٌ نبويَّةٌ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فأما صلاة التراويح، فليست بدعة في الشريعة، بل سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فإنه قال: «إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه»

(2)

، ولا صلاتها جماعة بدعة، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثًا، وصلاها أيضًا في العشر الأواخر في جماعة مرات، وقال: «إن الرجل

(1)

أخرجه البخاري رقم (2012)، ومسلم رقم (761).

(2)

أخرجه النسائي رقم (2210)، مسند أحمد (3/ 198).

ص: 45

إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة»

(1)

، كما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح رواه أهل السنن، وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد، وفي قوله هذا ترغيب لقيام شهر رمضان خلف الإمام، وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة، وكان الناس يصلونها جماعاتٍ في المسجد على عهده صلى الله عليه وسلم ويقرهم، وإقراره سنة منه صلى الله عليه وسلم.

وأما قول عمر: «نعمت البدعة هذه» فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكمًا بقول عمر الذي لم يخالَفْ فيه؛ لقالوا: قول الصاحب ليس بحجة، فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة، فلا يعتقده إذا خالف الحديث.

فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب. نعم، يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف، على إحدى الروايتين، فيفيدهم هذا حسن تلك البدعة، أما غيرها فلا.

ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك: بدعة، مع حسنها، وهذه تسمية لغوية، لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فُعل ابتداء من غير مثال سابق.

وأما البدعة الشرعية: فما لم يدل عليه دليل شرعي، فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل، أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقًا، ولم يعمل به إلا بعد موته، ككتاب الصدقة، الذي أخرجه أبو بكر رضي الله عنه، فإذا عمل

(1)

أخرجه أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (1364)، وابن ماجه (1327)، وأحمد (35/ 331).

ص: 46

ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة؛ لأنه عمل مبتدأ

- ثم قال: - وإذا كان كذلك: فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى؛ وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا: «إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن تفرض عليكم، فصلوا في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة»

(1)

فعلّل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض، فعلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم.

فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه جمعهم على قارئ واحد، وأسرج المسجد، فصارت هذه الهيئة، وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج؛ عملًا لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعة؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، ولم يكن بدعة شرعية؛ لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه وسلم فانتفى المعارض»

(2)

.

قال السبكي: «قال ابن عبد البر: لم يسن عمر من ذلك إلا ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عبد البر: لم يسن عمر بن الخطاب منها إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه ويرضاه، ولم يمنع من المواظبة إلا خشية أن تفرض على أمته، وكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا صلى الله عليه وسلم، فلما علم عمر ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم أن الفرائض لا يزاد فيها ولا ينقص بعد موته صلى الله عليه وسلم، أقامها للناس وأحياها وأمر بها، وذلك سنةَ أربع عشرة من الهجرة»

(3)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 93).

(3)

فتاوى السبكي (1/ 158).

ص: 47

قال الشاطبي: «أنه إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال، من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا أنها بدعة في المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي، وعند ذلك لا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلَّم فيه، لأنه نوع من تحريف الكَلِمِ عن مواضعه، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرضَ عليهم»

(1)

.

وقال: «وقد مر أنه إنما سماها بدعة باعتبار ما، وأن قيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنة، عمل بها صاحب السنة؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تركها خوفًا من الافتراض، فلما انقضى زمن الوحي زالت العلة، فعاد العمل بها إلى نصابه، إلا أن ذلك لم يتأتَّ لأبي بكر رضي الله عنه عنه زمان خلافته؛ لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه، وكذلك صدر خلافة عمر رضي الله عنه، حتى تأتَّى النظر فوقع منه ما علم، لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمر لم يجر عليه عمل من تقدمه دائمًا، فسماه بذلك الاسم، لا أنه أمر على خلاف ما ثبت من السنة»

(2)

.

قال ابن رجب: «وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية، لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: «نعمت البدعة هذه» ، وروي عنه أنه قال:«إن كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة» . وروي عن أبي بن كعب، قال له: «إن هذا لم يكن،

(1)

الاعتصام (1/ 332).

(2)

المرجع السابق (2/ 151).

ص: 48

فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسن»، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانًا، وهو صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك معلِّلًا بأنه خشي أن يكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أمن بعده صلى الله عليه وسلم، وروي عنه أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر»

(1)

.

قال ابن حجر الهيتمي: «وقول عمر رضي الله عنه في التراويح: «نعمت البدعة هي» ، أراد البدعةَ اللغوية، وهو ما فعل على غير مثال، كما قال تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} ] الأحقاف: 9 [، وليست بدعة شرعًا، فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وأما استدلالهم الرابع بجمع القرآن في مصحفٍ واحدٍ فلا يصح لسببين:

السبب الأول: أن جمع المصحف من الوسائل المعتبرة والمصالح المرسلة، وذلك أن المقتضي لجمعه ليس موجودًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يخشى ذهاب القرآن لوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما بعد موته، لكن لما كثر قتل القراء خشي ذهابه بذهاب حفاظه، وهو الذي كان السبب في إشارة عمر على أبي بكر بجمع القرآن، أو ان يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجمع القرآن في زمانه؛ لأنه لا زال في طور الزيادة والتقديم والتأخير، وهذا ما لا يكون بعد موته صلى الله عليه وسلم

(1)

جامع العلوم والحكم (2/ 128).

(2)

الفتاوى الحديثية (ص: 200).

ص: 49

لانقطاع الوحي، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«وهكذا جمع القرآن، فإن المانع من جمعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أن الوحي كان لا يزال ينزل، فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت، فلما استقر القرآن بموته صلى الله عليه وسلم واستقرت الشريعة بموته صلى الله عليه وسلم أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه، وأمنوا من زيادة الإيجاب والتحريم، والمقتضي للعمل قائم بسنته صلى الله عليه وسلم، فعمل المسلمون بمقتضى سنته، وذلك العمل من سنته، وإن كان يسمى في اللغة بدعة»

(1)

.

وعلى كلا الاحتمالين؛ فإن الحال بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرت عن الحال قبل وفاته، إما بزوال مانع أو وجود مقتض، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:«بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض، أو فوات شرط، أو وجود مانع، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع، ما دلت الشريعة على فعله حينئذ، كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد، وتعلم العربية، وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين، بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه أو وجود مانع»

(2)

.

قال الشاطبي: «أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جمع القرآن في المصحف، وليس ثَمَّ نصٌّ على جمعه وكتبه أيضًا، بل قد قال بعضهم: كيف

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 97).

(2)

القواعد النورانية (ص: 150).

ص: 50

نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر رضي الله عنه مقتل (أهل) اليمامة - ثم قال: -.

هذا أيضًا إجماع آخر في كتبه، وجمع الناس على قراءة لا يحصل منها في الغالب اختلاف؛ لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات حسبما نقله العلماء المعتنون بهذا الشأن - ثم قال: -.

ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعًا؛ فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة، والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن، وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه.

وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها، إذا خيف عليها الاندراس، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم»

(1)

.

قال ابن حجر الهيتمي: «لما كان مفعولًا بأمره لم يكن بدعة وإن لم يفعل في عهده، وكذا جمع القرآن في المصاحف، والاجتماع على قيام شهر رمضان، وأمثال ذلك مما ثبت وجوبه أو استحبابه بدليل شرعي»

(2)

.

والسبب الثاني: أن أبا بكر وعمر من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم كما في حديث العرباض بن سارية.

(1)

الاعتصام (3/ 12 - 15).

(2)

الفتاوى الحديثية (ص: 200).

ص: 51

قال الشاطبي: «وفي الصحيح

(1)

قوله صلى الله عليه وسلم: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور»

(2)

، فأعطى الحديث - كما ترى - أن ما سنه الخلفاء الراشدون لاحق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ما سنوه لا يعدو أحد أمرين: إما أن يكون مقصودًا بدليل شرعي، فذلك سنة لا بدعة، وإما بغير دليل، ومعاذ الله من ذلك، ولكن هذا الحديث دليل على إثباته سنة، إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم.

فدليله من الشرع ثابت، فليس ببدعة، ولذلك أردف الأمر باتباعهم بالنهي عن البدع بإطلاق، ولو كان عملهم ذلك بدعة لوقع في الحديث التدافع»

(3)

.

قال ابن رجب: «ومن ذلك

(4)

جمع المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت وقال لأبي بكر وعمر: كيف تفعلان ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ ثم علم أنه مصلحة، فوافق على جمعه (2)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة الوحي، ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا، بل جمعه صار أصلح»

(5)

.

قال ابن رجب: «ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا

(6)

(1)

يحتمل أنه يريد أن الحديث صحيح ويحتمل أنه يريد أن الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإن أراد الاحتمال الثاني فهو وهم - والله أعلم - لأنه ليس فيهما ولا في أحدهما.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

الاعتصام (1/ 319).

(4)

أي اتباع الخلفاء الراشدين.

(5)

جامع العلوم والحكم (2/ 129).

(6)

أي القيام في الليل جماعة.

ص: 52

قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي»

(1)

.

وأما استدلالهم الخامس بمفهوم المخالفة في حديث «ما ليس منه فهو رد» فلا يصح؛ لأن المنطوقات الكثيرة وإجماع السلف على حرمة البدع وذمها مقدمة على هذا المفهوم لو قدر التعارض وعدم إمكان الجمع.

والأولى أن يحمل هذا المفهوم على أنه من المصالح المرسلة المعتبرة التي لم تُفعل إلا بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كجمع القرآن وهكذا

فهي من العبادات التي لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجود مانعٍ، وهذا مثل ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستمرار في قيام رمضان جماعةً في المسجد، وهذا كله لأجل أن لا يتعارض مفهوم هذا الحديث مع السنة التَّركية، فإن السنة التَّركيةَ دليلٌ شرعيٌّ معتبر - كما سيأتي إن شاء الله -.

تنبيه: خالف بعض المتأخرين الإجماع على حرمة البدع، فذكروا أن من البدع ما هو مكروه وليس محرَّمًا، وقد تقدم ذكر الأدلة على أنها كلَّها محرمة، وعلى هذا أيضًا إجماع أهل العلم، وللشاطبي تحقيق بديع في أن البدع كلها محرمة، بل إنها كبائر، ووجه قول من قال من السلف: إنها مكروهة، فقال:«وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آثم، ولو فرض عاملًا بالبدعة المكروهة، إن ثبت فيها كراهة التنزيه»

(2)

.

(1)

جامع العلوم والحكم (2/ 129).

(2)

الاعتصام (1/ 251).

ص: 53

وقال: «فالبدع المكروهة ضلال، وأما ثانيًا: فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه، فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لَفْظَ المكروه على بعض البدع، وإنما حقيقة المسألة: أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذَّمِّ - كما تقدم بيانه -، وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها، وارتفاع الحرج عنه ألبتة، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع، ولا من كلام الأئمة على الخصوص.

أما الشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد على من قال: «أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أنكح النساء

»، إلى آخر ما قالوا، فرد عليهم ذلك صلى الله عليه وسلم وقال:«من رغب عن سنتي فليس مني»

(1)

.

وهذه العبارة من أشد شيء في الإنكار، ولم يكن ما التزموا إلا فعْلَ مندوب أو ترْكَ مندوب إلى فعل مندوب آخر

- ثم قال: -

وكلية قوله: «كل بدعة ضلالة»

(2)

شاهدة لهذا المعنى، والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد، وهي خاصية المحرم

- ثم قال: -

والشواهد في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}] النور: 15 [.

وأما كلام العلماء، فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها؛ لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط، وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن

(1)

سيأتي تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 54

يفرقوا بين القبيلين، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم، أو المنع، وأشباه ذلك. - ثم قال: -

فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها «أكره هذا، ولا أحب هذا، وهذا مكروه» وما أشبه ذلك، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة، فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه؟ اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع، ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله، لا لأنه بدعة مكروهة؛ على تفصيل يذكر في موضعه إن شاء الله

- ثم قال: -

وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة، وإلى ما هو كبيرة - حسبما تبين في علم الأصول الدينية -، فكذلك يقال في البدع المحرمة: إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارا بتفاوت درجاتها كما تقدم، وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة

- ثم قال: - فكما انحصرت كبائر المعاصي أحسن انحصار - حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب -؛ كذلك تنحصر كبائر البدع أيضًا، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص منه في إثبات الصغائر فيها، وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين، إما أصلًا، وإما فرعًا؛ لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع؛ زيادةً فيه، أو نقصانًا منه، أو تغييرًا لقوانينه، أو ما يرجع إلى ذلك، وليس ذلك بمختصٍّ بالعبادات دون العادات - إن قلنا بدخولها في العادات -، بل تشمل الجميع.

ص: 55

وإذا كانت بكليتها إخلالًا بالدين؛ فهي إذًا إخلال بأول الضروريات؛ وهو الدين، وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة، وقال في الفرق:«كلها في النار إلا واحدة»

(1)

، وهذا وعيد أيضًا للجميع على التفصيل.

هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر، كما أن القواعد الخمس أركان الدين، وهي متفاوتة في الترتيب، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان، وكذلك سائرها، مع أن الإخلال بكل واحد منها كبيرة، فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة»

(2)

.

المقدمة السابعة

الأصلُ في العباداتِ التوقف والمنعُ والحظر إلا بدليلٍ،

فلا يصحُّ لأحدٍ أن يتعبَّد اللهَ بشيءٍ إلا بدليل.

ويدل على هذه المقدمة العظيمة أدلة منها:

الدليل الأول: كل دليل في النهي عن المحدثات، والتحذير من البدع، وتقدم ذكر طرف منها.

وجه الدلالة: أن الشريعة ذمت كل عبادة جديدة لم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الكرام، فدل هذا على أن الأصل في العبادات الحظر والمنع.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

الاعتصام (2/ 379 - 390).

ص: 56

الدليل الثاني: كل أثر عن الصحابة في ذم المحدثات والأمر بالاتباع كقول ابن مسعود: «اتبعوا ولا تبتدعوا»

(1)

، وتقدم نقل طرفٍ من ذلك.

وجه الدلالة: أن الصحابة نهوا عن إحداث عبادة جديدة، مما يدل على أن الأصل في العبادات الحظر والمنع.

الدليل الثالث: حكى شيخ الإسلام ابن تيمية الإجماع عليها فقال: «وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضًا، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}] الشورى: 21 [فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله شرع له من الدين ما لم يأذن به الله»

(2)

.

وقال: «وقد اتفق المسلمون على أنه ليس لأحد أن يعبد الله بما سنح له وأحبه ورآه، بل لا يعبده إلا بالعبادة الشرعية وقد قال فضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}] هود: 7 [قال: أخلصه وأصوبه قيل: ما أخلصه وأصوبه، قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة»

(3)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 84).

(3)

تلخيص كتاب الاستغاثة (1/ 174).

ص: 57

وقال: «إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله، واجب أو مستحب، إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك، وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال: إنه قربة وطاعة، فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به، ولا اتخاذه دينًا، ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين، لا باعتقاد وقول ولا بإرادة وعمل»

(1)

.

وقد قرر العلماء هذا الأصل بعبارات مختلفة، وقد تقدم نقل كلام بعضهم في مواضع، وسيأتي إن شاء الله نقل كلامهم مبثوثًا في مواضع أخرى، ومن كلامهم في تقريره ما يلي:

قال الإمام مالك بن أنس: «من أحدث في هذه الأمة اليوم شيئًا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله تعالى يقول:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ] المائدة: 3 [فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا»

(2)

.

هذا يدل على أن الأصل في العبادات التوقيف.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ] الشورى: 21 [.

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 451).

(2)

أخرجه ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (6/ 58).

ص: 58

والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} ] يونس: 59 [»

(1)

.

فالقول بأن العبادات مبناها على التوقيف يقرره فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره.

قال أبو شامة: وما أحسن ما قال ولي الله أبو سليمان الداراني رحمه الله: «ليس لمن ألهم شيئًا من الخيرات أن يعمل به حتى يسمعه من الأثر، فإذا سمعه من الأثر عمل به وحمد الله حين وافق ما في قلبه» ، وقال أيضًا رحمه الله:«ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أيَّامًا، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين؛ الكتاب والسنة»

(2)

.

وهذا تأصيل قوي في أن العبادات توقيفية.

قال النووي: «فينبغي لكل مصل اجتناب هذا الفعل، وينبغي إشاعة إنكار هذا، فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة في النهي عن محدثات الأمور، وأن كل بدعة ضلالة، ولم ينقل هذا الفعل عن أحد من السلف وحاشاهم»

(3)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع»

(4)

.

وقال: «فالأصل في العبادات ألَّا يشرع منها إلا ما شرعه الله»

(5)

.

(1)

القواعد النورانية (ص: 164).

(2)

الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص: 29).

(3)

فتاوى النووي (ص: 47).

(4)

مجموع الفتاوى (22/ 510).

(5)

الاقتضاء (1/ 64).

ص: 59

قال ابن القيم: «ولا دين إلا ما شرعه، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليلٌ على الأمر»

(1)

.

قال ابن رجب: «وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء»

(2)

.

وقال: «فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله، فعمله باطل مردود عليه» (2).

وما تقدم من تقرير العلماء أن كل بدعة ضلالة وإجماعهم على ذلك، دالٌ على أن الأصل في العبادات التوقيف، وأيضًا ما سيأتي من تقرير العلماء أن السنة التركية حجة يدل على هذه المقدمة، لأن القول بالسنة التركية تفريع عنها.

وكلام الأئمة في هذا مشهورٌ ونقله يطول، وما تقدم كاف - إن شاء الله -.

تنبيه: مما تقدم يعلم أنه لم يقل أحد من أهل العلم المعتبرين: إن الأصل في العبادات عدم الحظر والمنع والتوقيف، وغاية من جوز بعض المحدثات هو لظنه أن الدليل دل عليها، فأخطأ في الاستدلال، لا في منازعة قاعدة (الأصل في العبادات الحظر)، ومثل ذلك - والله أعلم - من قال: إن في الدين بدعةً حسنة، أراد أنها عبادات جديدة دل عليها الشرع بعموماته وغير ذلك بزعمه، فلأجل هذا سماها بدعة حسنة، وإلا لا يوجد من ينازع ويقول بجواز إحداث عبادات جديدة بلا دليل، بحجة أنه ليس الأصل في العبادات التوقيف والحظر.

(1)

أعلام الموقعين (1/ 259).

(2)

جامع العلوم والحكم (1/ 176).

ص: 60

المقدمة الثامنة:

ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من العبادات مع وجود

المقتضي وانتفاء المانع فهو سنة تركية ففعله بدعةٌ منكرة

هذه مقدمة مهمةٌ، وبضبطها تنجلي كثيرٌ من البدع، فإن ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للعمل مع إمكان فعله - وهو الحريص كل الحرص على طاعة ربه وأخشى خلق الله وأتقاهم له - والمانع منتفٍ؛ حجةٌ كفعله للعبادة، فإن فعله صلى الله عليه وسلم سنةٌ وتركه صلى الله عليه وسلم سنةٌ، لكن لا يصح الاستدلال بالسنة التركية إلا عند توفُّر الدواعي للنقل ثم لا يُنقَل، وأقوى ما يتصور هذا فيما إذا نقل جزء العبادة دون جزئها الآخر، كما أشار لهذا شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

على أن الأصل في العبادات أنها مما تتوافر الدواعي على نقلها، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل بيّن وبرهان واضح، فصلاة الرغائب والألفية لم يثبت فيها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ففعلها مع ترك رسول الله وصحابته لها مع إمكان فعلهم لها، ولا مانع يمنع؛ هو من جملة البدع، إذ لو كان خيرًا لسبقونا إليه.

أما ما ترَكَه رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجود مانعٍ فليس داخلًا في البدع، وذلك كاستخدام مكبّرات الصّوت في الأذان، فلو فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لَنُقِل، لكن لا يصح وصفه بالبدعة، لأنّه وجد مانع من فعله؛ وهو عدم وجوده في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكصلاة القيام جماعةً في رمضان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركه خشية أن يُفترض، فلما زال المانع بموته - إذ الوحي انقطع فما لم يكن مفروضًا فلن يفرض -؛ أمر الفاروق عمر بن الخطاب بفعلها كما ثبت في صحيح البخاري.

(1)

رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص 52) وما بعدها.

ص: 61

فيتلخّص مما تقدم أنّه لا يصح وصف عبادة تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته بأنّها بدعة إلا إذا اجتمع فيه أمران:

أ- توفر الدواعي للنقل، وهذا هو الأصل في كل عبادة، ولا ينتقل عنه إلا ببرهان واضح.

ب- أن لا يوجد مانع يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته من فعلها. والله أعلم.

الأدلة على هذه المقدمة نوعان عامةٌ وخاصةٌ:

أما الأدلة العامة فكل ما سبق من الأدلة القرآنية والحديثية في تحريم البدع، فإن فعل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العبادات مع إمكان فعلها بدون مانع إحداثٌ في الدِّين.

أما الأدلة الخاصة فكثيرة وهذا بعضها:

1 -

روى مسلم

(1)

عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعًا يديه، فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة».

وجه الدلالة: أن الصحابي عمارة بن رؤيبة استدل بالسنة التركية في الإنكار على بشر بن مروان؛ لأنه فعل عبادة لم يفعلها رسول الله.

2 -

روى الشيخان

(2)

عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها وقالوا:

(1)

رقم (874).

(2)

أخرجه البخاري رقم (5063)، ومسلم رقم (1401).

ص: 62

أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا وقال الآخر وأنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» .

وجه الدلالة: أن هؤلاء لم يعتبروا السُّنَّة التركية دليلًا - تأوُّلًا منهم -، فأنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن التارك للسنة التركية تاركٌ لسنته.

3 -

روى الشيخان

(1)

عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحروريةٌ أنت؟ قالت: لست بحروريةٍ، ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة.

وجه الدلالة: أن عائشة أم المؤمنين استدلت بتركهم وإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك.

4 -

روى البخاري

(2)

عن زيد بن ثابت في قصة جمع القرآن وأن عمر بن الخطاب أشار على أبي بكر بجمع القرآن، فقال له أبو بكر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما أن شرح الله صدر أبي بكر لهذا كلَّف زيد بن ثابت به فقال زيدٌ: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

(1)

أخرجه البخاري رقم (321)، ومسلم رقم (335).

(2)

رقم (4986).

ص: 63

وجه الدلالة: أن كلًّا من أبي بكرٍ وزيدٍ احتجا بالسنة التركية

(1)

.

5 -

أخرج البخاري

(2)

عن أبي وائل قال: جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة، فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر، فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته، قلت: إن صاحبيك لم يفعلا، قال: هما المرآن أقتدي بهما.

وجه الدلالة: أنه ترك ما هم به استدلالًا بالسنة التركية.

6 -

ثبت عند الدارمي في سننه

(3)

، وابن وضاح في كتاب ما جاء في البدع

(4)

، وغيرهم، عن عمرو بن سلمة قال: «كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى، فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعًا، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد أمرًا أنكرته، ولم أرَ - والحمد لله - إلا خيرًا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قومًا حِلَقًا جلوسًا، ينتظرون الصلاة، في كل حلقةٍ رجلٌ، وفي أيديهم حصًا، فيقول: كبِّروا مائة، فيكبِّرون مائة، فيقول: هللوا مائةً، فيهللون مائةً، ويقول: سبِّحوا مائة، فيسبِّحون مائةً، قال: فماذا قلتَ لهم؟ قال:

(1)

فإن قيل كيف خالفوا ما ظنوه سنة تركية؟ فيُقال لأن المقتضي من فعلها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن موجودًا إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم حافظًا للقرآن فلا يخشى ذهابه بخلاف ما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وقد سبق تقرير حجية السنة التركية عند وجود المقتضي وانتفاء المانع والمانع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتف لأن القرآن محفوظ بوجوده. وقد تقدم.

(2)

رقم (1594).

(3)

رقم (210).

(4)

(1/ 38).

ص: 64

ما قلتُ شيئًا انتظارَ رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدُّوا سيئاتهم، وضمنتَ لهم ألا يضيع من حسناتهم؟، ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقةً من تلك الحِلَق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصًا نعدُّ به التكبير، والتهليل، والتسبيح، قال: فعدُّوا سيئاتكم، فأنا ضامنٌ ألا يضيع من حسناتكم شيءٌ، وَيحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تَبْلَ، وآنيته لم تُكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملَّةٍ هي أهدى من ملَّة محمد، أو مفتِّحو باب ضلالةٍ، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريدٍ للخير لن يُصيبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا:«إنَّ قومنا يقرؤون القرآن لا يُجاوز تراقيهم» . وايم الله لا أدري، لعلَّ أكثرهم منكم، ثم تولَّى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الخلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج».

وجه الدلالة: أن الصحابي ابن مسعود اعتمد في الإنكار على هؤلاء بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوا هذا الأمر (السنة التركيَّة)، ففعلهم ما بين أمرين: أن يزعموا أنه أهدى، أو أن يكونوا مفتتحين لباب ضلالةٍ، والثاني هو المتعيِّن، وبعد ذكر هذه الأدلة العامة والخاصة في بيان حجية السنة التركية بضوابطها، فإن أهل العلم قرروا حجية السنة التركيَّة.

قال الشافعي: «وللناس تبرٌ غيره من نحاس وحديد ورصاص، فلما لم يأخذ منه رسول الله ولا أحد بعده زكاة؛ تركناه اتباعًا بتركه»

(1)

.

(1)

كتاب الرسالة (ص 191).

ص: 65

وقال أيضًا: «بأنا لم ندع استلامهما هجرًا للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنا نتبع السنة فعلًا أو تركًا»

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والترك الراتب سنَّةٌ كما أن الفعل الراتب سنةٌ، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتضٍ، أو فوات شرطٍ، أو وجود مانعٍ، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلَّت الشريعة على فعله حينئذٍ، كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمامٍ واحدٍ، وتعلُّم العربية، وأسماء النقلة للعلم، وغير ذلك مما يُحتاج إليه في الدِّين، بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه أو وجود مانعٍ، فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعًا لفعله أو أذن فيه، وَلَفَعَله الخلفاء بعده والصحابة، فيجب القطع بأنه بدعةٌ وضلالةٌ، ويمتنع القياس في مثله .. »

(2)

.

وقال: «فحاصُلُه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في جميع أحواله، فما تركه من القول والفعل فتركه أولى من فعله، وما فعله ففعله أكمل من تركه»

(3)

.

وقال: «والقياس هنا فاسد الوضع والاعتبار، لأنه موضوعٌ في مقابلة النَّص، وذاك أن ترْكه صلى الله عليه وسلم سنةٌ كما أن فعله سنةٌ»

(4)

.

(1)

بواسطة فتح الباري لابن حجر (3/ 474).

(2)

القواعد النورانية (ص 150)، وانظره في مجموع الفتاوى (26/ 172).

(3)

الصارم المسلول (1/ 174).

(4)

شرح العمدة قسم الصلاة (ص 100).

ص: 66

وقال: «ولأن التلفظ بذلك لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، ولا عن أحدٍ من التابعين لهم بإحسانٍ، ومعلومٌ أن ذلك لو كان مستحبًّا لفعلوه وعلَّموه وأمروا به، ولو كان ذلك لنُقل كما نُقل سائر الأذكار، وإذا لم يكن كذلك كان من محدثات الأمور

»

(1)

.

وقال: «بل يُقال ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضيًا، وزوال المانع سنةٌ كما أن فعله سنةٌ، فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذانٍ ولا إقامةٍ، كان ترك الأذان فيهما سنةً، فليس لأحدٍ أن يزيد في ذلك.

- ثم قال: - ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الترك سنةٌ خاصةٌ، مقدمةٌ على كل عمومٍ وكل قياس»

(2)

.

وقال: «لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ولا التابعون، ولا سائر الأئمة، امتنع أن نعلم نحن من الدِّين الذي يقرِّب إلى الله ما لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون وسائر الأئمة، وإن علموه امتنع مع توفُّر دواعيهم على العمل الصالح وتعليم الخَلق والنصيحة لهم ألَّا يعلموا أحدًا بهذا الفضل ولا يسارع إليه واحدٌ منهم، فإذا كان هذا الفضل المدَّعى مستلزمًا لعدم علم الرسول صلى الله عليه وسلم وخير القرون لبعض دين الله، ولكتمانهم وتركهم ما تقضي شريعتهم وعاداتهم ألا يكتموه ولا يتركوه، وكل واحدٍ من اللازمَين منتفٍ إما بالشرع وإما بالعادة مع الشرع؛ علم انتفاء الملزوم وهو الفضل المدَّعَى»

(3)

.

(1)

شرح العمدة قسم الصلاة (ص 591).

(2)

الاقتضاء (2/ 103).

(3)

المرجع السابق (2/ 114).

ص: 67

قال ابن القيم: «لأن هذا مما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يفعله ولم يشرَعه كان تركه هو السنة. - ثم قال: -

فلذلك كان الصحيح أنه لا يُسنّ الغُسل للمبيت بمزدلفة، ولا لرمي الجمار، ولا للطواف، ولا للكسوف، ولا للاستسقاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يغتسلوا لذلك مع فعلهم لهذه العبادات»

(1)

.

قال العيني: «وكذا قال الأكمل: أن الترك مع حرصه عليه السلام على إحراز فضيلة النفل دليل الكراهة»

(2)

.

قال الشاطبي: «ثم إطلاقه القولَ بأن الترك لا يوجب حكمًا في المتروك إلا جواز الترك، غير جار على أصول الشرع الثابتة، فلنقرر هنا أصلًا لهذه المسألة لعل الله ينفع به من أنصف من نفسه ..

وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما، أو تركه لأمر ما؛ على ضربين:

أحدهما: أن يسكت عنه أو يتركه، لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب يقرر لأجله، ولا وقع سبب تقريره؛ كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين.

(1)

زاد المعاد (1/ 418).

(2)

البناية شرح الهداية (2/ 71).

ص: 68

- ثم قال: - والضرب الثاني: أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص، أو يترك أمرًا ما من الأمور، وموجبه المقتضي له قائم، وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت، إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان في ذلك الوقت، فالسكوت في هذا الضرب كالنص على أن القصد الشرعي فيه أن لا يزاد فيه على ما كان من الحكم العام في أمثاله، ولا ينقص منه؛ لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العملي الخاص موجودًا، ثم لم يشرع، ولا نبه على استنباطه؛ كان صريحًا في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة، ومخالفة لقصد الشارع؛ إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حُدَّ هنالك، لا الزيادة عليه، ولا النقصان منه»

(1)

.

قال ابن رجب: «فأما ما اتفقوا على تركه فلا يجوز العمل به، لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يُعمل به»

(2)

.

قال القَسْطُلَّاني: «وتركه سنة، كما أن فعله سنة، فليس لنا أن نسوى بين ما فعله وتركه، فنأتي من القول في الموضع الذى تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذى فعله»

(3)

.

قال علي محفوظ: «قال ملا أحمد الرومي الحنفي صاحب (مجالس الأبرار) ما ملخصه: لا تكون البدعة في العبادات البدنية - كالصلاة والصوم والذكر والقراءة - إلا سيئةً؛ لأن عدم وقوع الفعل في الصدر الأول إما لعدم الحاجة إليه، أو لوجود مانع، أو لعدم تنبه، أو لتكاسل، أو لكراهة وعدم مشروعية،

(1)

الاعتصام (2/ 281).

(2)

كتاب بيان فضل علم السلف على الخلف (ص 4).

(3)

المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (3/ 196).

ص: 69

والأولان منتفيان في العبادات البدنية المحضة، لأن الحاجة في التقرب إلى الله تعالى لا تنقطع، وبعد ظهور الإسلام لم يكن منها مانع، ولا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم عدم التنبه أو التكاسل، فذاك أسوأ الظن المؤدي إلى الكفر، فلم يبق إلا كونها سيئة غير مشروعة.

وكذلك يقال لكلِّ من أتى في العبادات البدنية المحضة بصفة لم تكن في زمن الصحابة، إذ لو كان وصف العبادة في الفعل المبتدع يقتضي كونه بدعة حسنة؛ لما وجد في العبادات ما هو بدعة مكروهة، ولما جعل الفقهاء مثل صلاة الرغائب والجماعة فيها، ومثل أنواع النغمات الواقعة في الخطب وفي الأذان، وقراءة القرآن في الركوع مثلًا، والجهر بالذكر أمام الجنازة؛ ونحو ذلك .. من البدع المنكرة، فمن قال بحسنها قيل له: ما ثبت حسنه بالأدلة الشرعية؛ فهو إما غير بدعة فلا يتناوله ذمّ الشارع، ويبقى عموم حديث:«كل بدعة ضلالة»

(1)

، وحديث:«كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) على حاله لا تخصيص فيه، وإمَّا بدعة ويكون مخصوصًا من هذا العام وخارجًا منه، فمن ادّعى الخصوص فيما أحدث وأنه خارجٌ من عموم الذي احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص من كتاب أو سنة أو إجماع مختصٌّ بأهل الاجتهاد، ولا نظر للعوام ولعادة أكثر البلاد فيه، فمن أحدث شيئًا يتقرب به إلى الله تعالى من قول أو فعل فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فعلم أن كل بدعة في العبادات البدنية المحضة لا تكون إلا سيئة.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 70

والحاصل أن كل ما أحدث ينظر في سببه؛ فإن كان لداعي الحاجة بعد أن لم يكن - كنظم الدلائل لرد الشبه التي لم تكن في عصر الصحابة، أو كان وقد ترك لعارض زال بموت النبي صلى الله عليه وسلم كجمع القرآن؛ فإن المانع منه كون الوحي لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء وقد زال - كان حسنًا، وإلا فإحداثه بمحض العبادات البدنية القولية والفعلية تغيير لدين الله تعالى، مثلًا الأذان في الجمعة سنة، وقبل صلاة العيد بدعة، ومع ذلك فإنه يدخل في عموم قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} ] الأحزاب: 41 [. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}] فصلت: 33 [. فيقول قائل: هذا زيادة عمل صالح لا يضر، لأنه يقال له: هكذا تتغير شرائع الرسل».

ثم قال: «وقد علمت من نصوص علماء المذاهب الأربعة أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضي على فعله فتركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة، وعلمت أن لا معنى للابتداع في العبادات المحضة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق الدنيا إلا بعد أن أكمل الله الدين، وأتم نعمته على المسلمين، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}] المائدة: 3 [وروى الطبراني

(1)

بسند صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما تركت شيئًا يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئًا يبعدكم من الله تعالى إلا وقد نهيتكم عنه» ، وعلمت أن التمسك بالعمومات مع الغفلة عن بيان الرسول بفعله وتركه؛ هو من اتباع

ص: 71

المتشابه الذي نهى الله عنه، ولو عولنا على العمومات وصرفنا النظر عن البيان لانفتح باب كبير من أبواب البدعة لا يمكن سده، ولا يقف الاختراع في الدين، عند حد، وإليك أمثلة في ذلك زيادة على ما تقدم:

الأول: جاء في حديث الطبراني: «الصلاة خير موضوع»

(1)

.

لو تمسكنا بعموم هذا، كيف تكون صلاة الرغائب بدعة مذمومة؟ وهي اثنتا عشرة ركعة عقب المغرب ليلة الجمعة الأولى من رجب، يفصل بين ركعتين بتسليمة، يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة القدر ثلاث مرات، والإخلاص اثنتي عشرة مرة، وكيف تكون صلاة شعبان بدعة مذمومة وهي مائة ركعة، كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة الإخلاص إحدى عشرة مرة، مع دخولهما في عموم الحديث؟ وقد نص العلماء على أنهما بدعتان قبيحتان مذمومتان كما يأتي. - ثم قال: -

الثاني: قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} ] فصلت: 33 [.

وقال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41].

إذا استحب لنا إنسان الأذان للعيدين والكسوفين والتراويح، وقلنا: كيف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يأمر به، وتركه طول حياته؟!، فقال لنا: إن المؤذن داع إلى الله، وإن المؤذن ذاكر لله، كيف تقوم عليه الحجة، وكيف تبطل بدعته؟!.

الثالث: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] الآية.

(1)

المعجم الأوسط (1/ 84)، وفيه عبد المنعم بن بشير وهو ضعيف.

ص: 72

لو صح الأخذ بالعمومات لصح أن يتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والسلام في قيام الصلاة، وركوعها، واعتدالها، وسجودها، إلى غير ذلك من الأمكنة التي لم يضعها الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، ومن الذي يجيز التقرب إلى الله تعالى بمثل ذلك، وتكون الصلاة بهذه الصفة عبادة معتبرة؟ وكيف هذا مع حديث «صلوا كما رأيتموني أصلي»

(1)

رواه البخاري؟ فلا يقرب إلى الله إلا العمل بما شرع وعلى الوجه الذي شرع. - ثم قال: -

ومن هذا الأصل العظيم تعلم أن أكثر أفعال الناس اليوم من البدع المذمومة، كقراءة القرآن الكريم على القبور رحمة بالميت، تركه النبي صلى الله عليه وسلم وتركه الصحابة مع قيام المقتضي للفعل، وهو الشفقة بالميت وعدم المانع منه»

(2)

.

قال العلامة ابن باز: «لكن المواضع التي لم يرفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز الرفع فيها، لأن فعله سنة وتركه سنة عليه الصلاة والسلام، وذلك مثل الدعاء بين السجدتين، والدعاء في آخر الصلاة قبل السلام، فإنه لا يُشرَع الرفع فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع في ذلك، وهكذا الدعاء بعد الصلوات الخمس بعد الفراغ من الذكر، فإنه لا مانع من الدعاء بينه وبين نفسه بعد الذكر لوجود أحاديث تدل على ذلك، ولكن لا يشرع في ذلك رفع اليدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري رقم (631).

(2)

الإبداع في مضار الابتداع (ص 33 - 37)، ونقل بعضه الإمام الألباني وأقره في كتاب صلاة التراويح (ص 37).

(3)

مجموع فتاوى ابن باز (11/ 179)

ص: 73

وقال العلامة الألباني: «من المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادةٍ مزعومة لم يشرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله، ولم يتقرَّب هو بها إلى الله بفعله، فهي مخالفةٌ لسنته، لأن السنة على قسمين؛ سنةٌ فعليةٌ وسنةٌ تركيةٌ، فما تركه صلى الله عليه وسلم من تلك العبادات، فمن السنة تركها، ألا ترى مثلًا أن الأذان للعيدين ولدفن الميت مع كونها ذكرًا وتعظيمًا لله عز وجل، لم يجز التقرُّب به إلى الله عز وجل، وما ذاك إلا لكونه سنةً تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد فهم هذا المعنى أصحابه صلى الله عليه وسلم، فكثر عنهم التحذير من البدع تحذيرًا عامًّا، كما هو مذكور في موضعه»

(1)

.

قال العلامة ابن عثيمين: «ولدينا قاعدة مهمة لطالب العلم وهي: «أن كل شيء وجد سببه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يحدث له أمرًا، فإن من أحدث له أمرًا فإحداثه مردود عليه» .

لأننا نقول: هذا السبب الذي جعلته مناط الحكم موجود في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلماذا لم يفعله؟ فترك النبي صلى الله عليه وسلم الشيء مع وجود سببه يكون تركه سنّة، والتعبُّد به غير مشروع»

(2)

.

فائدة: جعل ابن القيم السنة التركية قسمين، وذكر أمثلة مفيدة على كل قسم، فقال:«وأما نقلهم لتركه صلى الله عليه وسلم فهو نوعان، وكلاهما سنة، أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقوله في شهداء أحد: «ولم يغسلهم ولم يصل»

(3)

،

(1)

حجة النبي صلى الله عليه وسلم (ص 99).

(2)

الشرح الممتع على زاد المستقنع (5/ 133).

(3)

أخرجه البخاري رقم (1347).

ص: 74

وقوله في صلاة العيد: «لم يكن أذان ولا إقامةٌ ولا نداءٌ»

(1)

، وقوله في جمعه بين الصلاتين «ولم يسبح بينهما»

(2)

، ولا على أثر واحدةٍ منهما، ونظائره.

والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحدٍ منهم على نقله، فحيث لم ينقله واحدٌ منهم ألبتة، ولا حدث به في مجمع أبدًا، عُلم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفُّظ بالنية عند دخوله في الصلاة، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمنون على دعائه دائمًا بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات، وتركه رفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الثانية، وقوله:«اللهم اهدنا فيمن هديت» يجهر بها ويقول المأمومون كلهم «آمين» ، ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغيرٌ ولا كبيرٌ ولا رجلٌ ولا امرأةٌ ألبتة، وهو مواظبٌ عليه هذه المواظبة لا يخلُّ به يومًا واحدًا، وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة، ولرمي الجمار، ولطواف الزيارة، ولصلاة الاستسقاء، والكسوف، ومن ههنا يُعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة، فإن تركه صلى الله عليه وسلم سنةٌ كما أن فعله سنةٌ، فإذا استحببنا فعل ما تركه، كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق، فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله؟ وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم!، فهذا سؤالٌ بعيد جدًّا عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه، ولو صحَّ هذا السؤال وقُبِل لا ستحبَّ لنا مستحبٌّ الأذان للتراويح، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحبّ لنا مستحبٌّ آخر الغسل لكل صلاةٍ، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟، واستحبَّ لنا مستحبٌّ آخر النداء بعد الأذان:

(1)

أخرجه مسلم رقم (885).

(2)

أخرجه البخاري رقم (1673).

ص: 75

للصلاة يرحمكم الله، ورفع بها صوته، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟، واستحبّ لنا آخرُ لبس السواد والطرحة للخطيب، وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه، ورفعُ المؤذنين أصواتهم كلما ذكر اسم الله واسم رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعةً وفُرادى، وقال: من أين لكم أن هذا لم يُنقل؟ واستحبَّ لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب، وقال: من أين لكم أن إحياءهما لم يُنقل؟ وانفتح باب البدعة وقال: كل من دعا إلى باب بدعة: من أين لكم أن هذا لم يُنقل؟»

(1)

.

المقدمة التاسعة

البدع تدخل في الوسائل كما تدخل في الغايات

فإن الوسائل توصف بأنها بدعة - بضوابط شرعية - كما توصف العبادات نفسها التي هي الغايات.

قد دلت الأدلة على ذلك ومنها:

1 -

أثر ابن مسعود الذي أنكر فيه على الذين كانوا يكبِّرون الله مائة

إلخ - وقد سبق

(2)

-.

وجه الدلالة: أن ابن مسعود أنكر اجتماعهم على الذكر وعلى عدِّهم بالحصى، فقد اتخذوا اجتماعهم وعدِّ تسبيحاتهم وتكبيراتهم وسيلةً للتنشيط، فدل هذا على أن البدع تدخل في الوسائل، وإلا لما أنكره رضي الله عنه.

(1)

إعلام الموقعين (2/ 281).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 76

2 -

قصة جمع القرآن، وفيه أن أبا بكر وزيد بن ثابت قالا: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، أخرجه البخاري

(1)

، علمًا أن جمع المصحف من الوسائل، ومع ذلك احتجَّا بعدم فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كانت الوسائل لا تدخلها البدعة لما قالا هذا واحتجَّا به.

وإن كثيرًا من البدع دخلت في الدِّين باسم المصالح المرسلة، لذا معرفة الفرق بينها والبدع المحدثة مهمٌّ.

وخلاصة الفرق ما يلي:

1 -

أن يُنظر فيما يراد إحداثُه؛ هل المقتضي لفعله كان موجودًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والمانع منتفٍ؟، فإن كان كذلك، ولم يفعلوا؛ ففعل هذا الأمر من البدع لا من المصالح، إذ لو كان خيرًا لسبقونا إليه، فتكون من المصالح الملغاة، لأنّها معارضة للسنّة التركيّة، فكلّ مصلحة معارضة لدليل شرعي فهي ملغاة، أما لو كان هناك مانعٌ ثم زال، ففعله ليس من البدع، بل من المصالح المرسلة، لأنه لا يتعارض مع السنّة التركية، ومن ذلك عدم وجود الشيء في زمانهم، كمكبرات الصوت في الأذان، ففعله ليس بدعة، لكونه لا يتعارض مع السنة التركية.

2 -

إن كان المقتضي غير موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيُنظر فيه هل السبب لفعله ذنوب العباد وتقصيرهم؟، فمثل هذا لا يسوغ ما قد يسميه صاحبه بالمصلحة المرسلة، بل يؤمر الناس بالرجوع إلى دين الله والتمسك به، لأنهم مطالبون

(1)

سبق تخريجه.

ص: 77

بذلك، وغيرهم مطالب بدعوتهم لذلك، وهذا مثل تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين ليسمع الناس الخطبة، فمثل هذا من البدع المحدثة.

قال الإمام ابن تيمية: «والضابط في هذا - والله أعلم - أن يُقال: إن الناس لا يحدثون شيئًا إلا لأنهم يرونه مصلحةً، إذ لو اعتقدوه مفسدةً لم يُحدثوه، فإنه لا يدعو إليه عقلٌ ولا دينٌ، فما رآه الناس مصلحةً نظر في السبب المحوج إليه، فإن كان السبب المحوج أمرًا حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا، فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه، وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائمًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارضٍ زال بموته.

وأما ما لم يحدث سببٌ يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد، فهنا لا يجوز الإحداث، فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودًا لو كان مصلحةً ولم يُفعل، يُعلم أنه ليس بمصلحةٍ، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق، فقد يكون مصلحة.

ثم هنا للفقهاء طريقان:

أحدهما: أن ذلك يفعل ما لم يُنه عنه، وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة.

والثاني: أن ذلك لا يُفعل إن لم يُؤمر به، وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة، وهؤلاء ضربان:

منهم من لا يثبت الحكم، إن لم يدخل في لفظ كلام الشارع، أو فعله، أو إقراره، وهم نُفاة القياس. ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه، وهم القياسيون، فأما ما كان المقتضي لفعله موجودًا لو كان مصلحةً، وهو مع هذا لم يشرعه، فوضعه تغييرٌ لدين الله، وإنما دخل فيه من نسب إلى تغيير الدِّين، من الملوك

ص: 78

والعلماء والعباد، أو من زلَّ منهم باجتهاد، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وغير واحدٍ من الصحابة:«إن أخوف ما أخاف عليكم زلَّة عالم، وجدال منافقٍ بالقرآن، وأئمةٌ مضلُّون»

(1)

، فمثال هذا القسم الأذان في العيدين، فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء، أنكره المسلمون لأنه بدعةٌ، فلو لم يكن (كونُه بدعةً) دليلًا على كراهيته، وإلا لقيل هذا ذكرٌ لله ودعاءٌ للخلق إلى عبادة الله، فيدخل في العمومات، كقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33]. - ثم قال: -

ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريطٍ من الناس تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين، فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعةٌ، واعتذر من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضُّون قبل سماع الخطبة، وكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفضُّون حتى يسمعوا أو أكثرهم، فيُقال له: سببُ هذا تفريطك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطبهم خطبةً يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم، وأنت قصدك إقامة رياستك، وإن قصدت صلاح دينهم، فلا

(2)

تعلمهم ما ينفعهم، فهذه المعصية منك لا تُبيح لك إحداث معصيةٍ أخرى، بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله وتتبع سنة نبيه، وقد استقام الأمر وإن لم يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك، لا عن عملهم، وهذان المعنيان مَنْ فهمهما انحلَّ عنه كثيرٌ من شبهِ البدع الحادثة»

(3)

.

(1)

أخرجه الدارمي رقم (675).

(2)

يعني: فلست تعلّمهم ما ينفعهم.

(3)

الاقتضاء (2/ 100).

ص: 79

المقدمة العاشرة

القياسُ لا يصحُّ في العباداتِ غير معقولةِ المعنى (العلة)

العلة من أركان القياس، فإذا كانت العلة غير معقولة المعنى فلا يصح القياس، كما قرره الأصوليون، وممن قرر هذا ابن قدامة فقال:«فإن جعل مكان التراب غيره؛ من الأشنان، والصابون، والنخالة، ونحو ذلك، أو غسله غسلة ثامنة، فقال أبو بكر: فيه وجهان: أحدهما لا يجزئه؛ لأنه طهارة أمر فيها بالتراب، فلم يقم غيره مقامه، كالتيمم؛ ولأن الأمر به تعبد غير معقول، فلا يجوز القياس فيه»

(1)

.

وقال: «وقياس ذلك على الصلاة إلى المقبرة لا يصح؛ لأن النهي إن كان تعبدًا غير معقول المعنى امتنع تعديته ودخول القياس فيه»

(2)

.

وأيضًا إذا عارض القياس الدليل الشرعي صار قياسًا فاسدًا، كما قرره الأصوليون

(3)

.

فإذا وجد القياس في عبادة معقولة المعنى، لكنه يصادم الدليل الشرعي كالسنة التركية، فإنه يكون قياسًا فاسدًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والقياس

ص: 80

هنا فاسد الوضع والاعتبار، لأنه موضوعٌ في مقابلة النص، وذلك أن تركه صلى الله عليه وسلم سنة، كما أن فعله سنة»

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فهذا الترك سنةٌ خاصةٌ، مقدمةٌ على كل عموم وكل قياس»

(2)

.

ثم ذكر شيخ الإسلام على هذا أمثلة فقال: «وأشنع من هذا استحباب بعض أصحاب الشافعي لمن سعى بين الصفا والمروة أن يُصلي ركعتين بعد السعي على المروة، قياسًا على الصلاة بعد الطواف، وقد أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف، ورأوا أن هذه بدعةٌ ظاهرةُ القبح، فإن السنة مضت بأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه طافوا وصلَّوا، كما ذكر الله الطواف والصلاة، ثم سعوا ولم يُصلُّوا عقب ذلك، فاستحباب الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات، أو بالموقف بعرفات، أو جعل الفجر أربعًا قياسًا على الظهر، والترك الراتب سنةٌ، كما أن الفعل الراتب سنةٌ، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتضٍ.

- ثم قال: - فأما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعًا لفعله أو أذن فيه، ولفعله الخلفاء بعده والصحابة، فيجب القطع بأن فعله بدعةٌ وضلالةٌ ويمتنع القياس في مثله

»

(3)

.

(1)

شرح العمدة قسم الصلاة (100).

(2)

الاقتضاء (2/ 103).

(3)

القواعد النورانية (ص 150)، وانظر: مجموع الفتاوى (26/ 170 - 171).

ص: 81

المقدمة الحادية عشرة

كل عبادةٍ مشروعةٍ في الجملة فليس لأحدٍ أن يخصصها أو يقيِّدها

بمكانٍ أو زمانٍ أو كيفية أو سببٍ أو غير ذلك إلا بدليل

بهذه المقدمة يعرف كثير من البدع التي راجت باسم الدين، والتبس أمرها على بعض المسلمين، فإن الشريعة جاءت بالحث على الصلاة والإكثار منها، فليس لأحد أن يشرع صلاة الرغائب أو الألفية بحجة أن الشريعة جاءت بالحث على الصلاة، وكذلك جاءت الشريعة بالحث على الذكر، فليس لأحد أن يذكر الله بالذكر الجماعي، كحال الذين أنكر عليهم ابن مسعود وهكذا

والدليل على هذه المقدمة ما يلي:

الدليل الأول: كل دليل في التحذير من البدع - وقد تقدم -؛ لأن تخصيص العبادة أو تقييدها بمكان أو سبب

الخ تشريعٌ من الدين بلا دليل شرعي، فيكون من البدع.

الدليل الثاني: كل دليل في حجية السنة التركية - وقد تقدم -، وذلك أن هذا التعيين أو التخصيص لم يفعل، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

الدليل الثالث: أن هذا فهم الصحابة وهم خير القرون، كما في فعل ابن مسعود لما أنكر على الذين يذكرون الله حلقًا، وأخرج الحاكم أن رجلًا عطس عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله، ولكن ليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علَّمنا إذا عطس أحدنا أن يقول: «الحمد لله على كل

ص: 82

حال»

(1)

، فذكر أن الذكر والسلام على رسول الله مشروعان ومحبوبان لله، لكن لم يقيد الذكر بصفة لا دليل عليها، ولما قيد السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببٍ لا دليل عليه، أنكره ابن عمر، وقد قرر هذه المقدمة أهل العلم.

ولخفاء هذا الأصل وأهميته ألف أبو شامة كتابه (الباعث على إنكار البدع والحوادث) فقال: «فصل في القسم الثاني من البدع المشتبه أمره على الناس.

وأما القسم الثاني الذي يظنه معظم الناس طاعة وقربة إلى الله تعالى وهو بخلاف ذلك أو تركه أفضل من فعله فهذا الذي وضعت هذا الكتاب لأجله، وهو ما قد أمر الشرع به في صورة من الصور من زمان مخصوص أو مكان معين؛ كالصوم بالنهار، والطواف بالكعبة، أو أُمر به شخص دون غيره، كالذي اختص النبي صلى الله عليه وسلم من المباحات والتخفيفات، فيقيس الجاهل نفسه عليه فيفعله وهو منهي عن ذلك، ويقيس الصور بعضها على بعض، ولا يفرق بين الأزمنة والأمكنة، ويقع ذلك من بعضهم بسبب الحرص على الآثار من إيقاع العبادات والقرب والطاعات، فيحمهلم ذلك الحرص على فعلها في أوقات وأماكن نهاهم الشرع عن اتخاذ تلك الطاعات فيها»

(2)

.

ومما قال أبو شامة بعد أن أورد أحاديث في فضل ليلة النصف من شعبان: «قلت: وليس في هذا بيان صلاةٍ مخصوصةٍ، وإنما هو مُشعرٌ بفضل هذه الليلة والتهجد، وقيام الليل مُستحبٌّ في جميع ليالي السنة وكان على النبي صلى الله عليه وسلم واجبًا،

(1)

المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 295)، وصححه الألباني في السلسلة الضعيفة (2/ 294).

(2)

الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص 28).

ص: 83

فهذه الليلة بعضٌ من الليالي التي كان يصليها صلى الله عليه وسلم أو يحييها، وإنما المحذور المنكر تخصيص بعض الليالي بصلاةٍ مخصوصةٍ على صفةٍ مخصوصةٍ، وإظهار ذلك على مثل ما ثبت من شعائر الإسلام، كصلاة الجمعة والعيد وصلاة التراويح»

(1)

.

وقال: «ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقاتٍ لم يخصصها بها الشرع، بل يكون جميع أفعال البرِّ مرسلةً في جميع الأزمان، وليس لبعضها على بعضٍ فضلٌ إلا ما فضَّله الشرع وخصَّه بنوعٍ من العبادة.

- ثم قال: - فالحاصل أن المكلف ليس له منصبُ التخصيص، بل ذلك إلى الشارع، وهذه كانت صفةَ عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

قال العز بن عبد السلام: «لم ترد الشريعة بالتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة لا سببَ لها، فإن القرب لها أسباب وشرائط وأوقات وأركان لا تصلح بدونها، وكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في وقته بأسبابه وشرائطه، فكذلك لا يتقرب إلى الله تعالى بسجدة منفردة وإن كانت قربة إذا كان لها سبب صحيح، وكذلك لا يتقرب إلى الله تعالى بالصلاة والصيام في كل وقت وأوان، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه من حيث لا يشعرون»

(3)

.

قال الإمام أبو العباس ابن تيمية: «قاعدةٌ شرعيةٌ: شرع الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعًا بوصف الخصوص

(1)

الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص 38).

(2)

المرجع السابق (ص 51).

(3)

بواسطة: الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص 61).

ص: 84

والتقييد، فإن العام والمطلق لا يدل على ما يختصُّ بعض أفراده ويقيد بعضها، فلا يقتضي أن يكون ذلك الخصوص والتقييد مشروعًا ولا مأمورًا به، فإن كان في الأدلة ما يكره ذلك الخصوص والتقييد كُرِه، وإن كان فيها ما يقتضي استحبابه استُحبَّ، وإلاّ بقي غير مُستحبٍّ ولا مكروهٍ»

(1)

.

قال البعليُّ: «وقرَّر أبو العباس قاعدةً نافعةً وهي أن ما أطلقه الشارع بعملٍ يُطلق مسمَّاه ووجوده، ولم يجز تقديره وتحديده بمدةٍ»

(2)

.

قال ابن القيم: «إن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم، وكراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم، وليلتها بالقيام، سدًّا لذريعة اتخاذ شرعٍ لم يأذن به الله، من تخصيص زمانٍ أو مكانٍ بما لم يخصّه به، ففي ذلك وقوعٌ فيما وقع فيه أهل الكتاب»

(3)

.

قال الشاطبي: «وليس كما توهموا؛ لأن الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم إثباته في التفصيل، فإذا ثبت مطلق الصلاة لا يلزم منه إثبات الظهر أو العصر، أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص، وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غير ذلك، حتى يثبت التفصيل بدليل صحيح، ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثابت بالدليل الصحيح.

(1)

مجموع الفتاوى (20/ 196).

(2)

الفتاوى الكبرى (5/ 350)(الاختيارات العلمية).

(3)

إعلام الموقعين (3/ 116).

ص: 85

وليس فيما ذكر في السؤال شيء من ذلك، إذ لا ملازمة بين ثبوت التنفل الليلي أو النهاري في الجملة، وبين قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة، يقرأ في كل ركعة منها بسورة كذا على الخصوص كذا وكذا مرة، ومثله صيام اليوم الفلاني من الشهر الفلاني، حتى تصير تلك العبادة مقصودة على الخصوص، ليس في شيء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلاة أو الصيام.

والدليل على ذلك: أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما، يتضمن حكمًا شرعيًّا فيه على الخصوص، كما ثبت لعاشوراء مثلًا أو لعرفة، أو لشعبان مزية على مطلق التنفل بالصيام، فإنه ثبت له مزية على الصيام في مطلق الأيام، فتلك المزية اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها، بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية الصيام النافلة؛ لأن مطلق المشروعية يقتضي أن الحسنة فيه بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف في الجملة، وصيام يوم عاشوراء يقتضي أنه يكفر السنة التي قبله، فهو أمر زائد على مطلق المشروعية، ومساقه يفيد له مزية في الرتبة، وذلك راجع إلى الحكم.

فإذا هذا الترغيب الخاص يقتضي مرتبة في نوع المندوب خاصة، فلا بد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة بناء على قولهم:«إن الأحكام لا تثبت إلا من طريق صحيح» ، والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لا بد فيها من زيادة على المشروعات؛ كالتقييد بزمان ما، أو عدد ما، أو كيفية ما، فيلزم أن تكون أحكام تلك الزيادة ثابتة بغير الصحيح، وهو ناقض لما أسسه العلماء»

(1)

.

(1)

الاعتصام (2/ 29).

ص: 86

وقال الشاطبي: «وبيان ذلك: أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرًا في الجملة مما يتعلق بالعبادات مثلًا، فأتى به المكلف في الجملة أيضًا؛ كذكر الله، والدعاء، والنوافل المستحبات، وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة؛ كان الدليل عاضدًا لعمله من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به، فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة، أو زمان مخصوص، أو مكان مخصوص، مقارنًا لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلًا أن الكيفية، أو الزمان، أو المكان مقصود شرعًا من غير أن يدل الدليل عليه؛ كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه.

فإذا ندب الشرع مثلًا إلى ذكر الله، فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد، أو صوت واحد، أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات، لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم، بل فيه ما يدل على خلافه. - ثم مثَّل بأمثلةٍ نافعةٍ ثم قال: -

فكل من خالف هذا الأصل فقد خالف إطلاق الدليل أولًا؛ لأنه قيد فيه بالرأي، وخالف من كان أعرف منه بالشريعة، وهم السلف الصالح رضي الله عنهم»

(1)

.

وقال: «ومثال ذلك أن يقال: إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشارع بوقت دون وقت، ولا حد فيه زمانًا دون زمان، ما عدا ما نهي عن صيامه على الخصوص كالعيدين، أو ندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء، يقول: فأنا أخص منه يومًا من الجمعة بعينه، أو أيامًا من الشهر بأعيانها، لا من جهة ما عينه الشارع، فإن ذلك ظاهر، بل من جهة اختيار المكلف؛ كيوم الأربعاء

(1)

الاعتصام (2/ 69).

ص: 87

مثلًا في الجمعة، والسابع والثامن في الشهر، وما أشبه ذلك، بحيث لا يقصد بذلك وجهًا بعينه مما يقصده العاقل؛ كفراغه في ذلك الوقت من الأشغال المانعة من الصوم، أو تحري أيام النشاط والقوة، بل يصمم على تلك الأيام تصميمًا لا ينثني عنه، فإذا قيل له: لم خصصت تلك الأيام دون غيرها؟ لم يكن له بذلك حجة غير التصميم، أو يقول: إن الشيخ الفلاني مات فيه، أو ما أشبه ذلك، فلا شك أنه رأي محض بغير دليل، ضاهى به تخصيص الشارع أيامًا بأعيانها دون غيرها، فصار ذلك التخصيص من المكلف بدعة؛ إذ هي تشريع بغير مستند»

(1)

.

قال ابن حجر الهيتمي: «بأن الذي صرح به النووي في المجموع: أن صلاة الرغائب وهي ثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء، ليلة أول جمعة من شهر رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، بدعتان قبيحتان مذمومتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب، وفي إحياء علوم الدين، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة، فصنف ورقات في استحبابهما، فإنه غالط في ذلك، وقد صنف ابن عبد السلام كتابًا نفيسًا في إبطالهما، فأحسن فيه وأجاد» اهـ.

وأطال النووي أيضًا في فتاويه في ذمهما وتقبيحهما وإنكارهما، واختلفت فتاوى ابن الصلاح فيهما، وقال في الآخر: «هما وإن كانا بدعتين لا يمنع منهما لدخولهما تحت الأمر الوارد بمطلق الصلاة، ورده السبكي بأن ما لم يرد فيه إلا مطلق طلب الصلاة وأنها خير موضوع، فلا يطلب منه شيء بخصوصه، فمتى

(1)

الاعتصام (2/ 309).

ص: 88

خص شيئًا منه بزمان أو مكان أو نحو ذلك دخل في قسم البدعة، وإنما المطلوب منه عمومه، فيفعل لما فيه من العموم، لا لكونه مطلوبًا بالخصوص» اهـ.

وحينئذ فالمنع منهما جماعة أو انفرادًا

»

(1)

.

قال العلامة الألباني: «إن البدعة المنصوص على ضلالتها من الشارع هي

- وذكر منها: - كل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود، مثل المكان أو الزمان أو صفة أو عدد»

(2)

.

قال العلامة ابن عثيمين: «فإن الشيء الذي يُستحبُّ على سبيل الإطلاق لا يمكن أن تجعله مستحبًّا على سبيل التخصيص والتقييد إلا بدليلٍ، ولهذا لو قال قائل: سأدعو في ليلة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم بأدعية واردةٍ جاءت بها السنة، قلنا: لا تفعل، لأنك قيدت العام بزمنٍ خاصٍ وهذا يحتاج إلى دليلٍ، فليس كل ما شرع على سبيل العموم يمكن أن نجعله مشروعًا على سبيل الخصوص»

(3)

.

تنبيه: لا أحد يخصص عبادةً بزمانٍ أو مكانٍ أو مقدارٍ أو غير ذلك إلا لشيءٍ قائمٍ في نفسه، فإنه لا يمكن أن يواظب الذاكر على ذكرٍ معيَّنٍ في زمنٍ معيَّنٍ أو على صفةٍ معيَّنةٍ بدون دافع، وهذا الدافع إذا كان تعبديًّا - وليس عليه دليلٌ معتبر - صار من جملة البدع، أما إذا كان الدافع غير تعبدي، كأن لا يتفرغ إلا في مثل هذا الوقت أو هذا المكان، فمثل هذا لا يكون من البدع لأنه ليس تعبديًّا،

(1)

الفتاوى الفقهية الكبرى (2/ 80).

(2)

أحكام الجنائز (ص 242).

(3)

الشّرح الممتع (4/ 41)، وراجع للاستزادة الاقتضاء (2/ 113 - 140)، والاعتصام (2/ 29 - 72 - 246).

ص: 89

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فمن ذلك أن من أحدث عملًا في يوم كإحداث صومِ أول خميسٍ من رجب، والصلاة في ليلة تلك الجمعة التي يسميها الجاهلون صلاة الرغائب مثلًا، وما يتبع ذلك من إحداث أطعمةٍ وزينةٍ وتوسيعٍ في النفقة ونحو ذلك، فلابد أن يتبع هذا العمل اعتقادٌ في القلب، وذلك لأنه لابد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله، وأن الصوم فيه مستحبٌّ استحبابًا زائدًا على الخميس الذي قبله وبعده مثلًا، وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من الجمع، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجمع خصوصًا، وسائر الليالي عمومًا، إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه، أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة، فإن الترجيح من غير مرجِّحٍ ممتنعٌ»

(1)

.

وقال: «ومن قال: إن الصلاة أو الصوم في هذه الليلة كغيرها، هذا اعتقادي ومع ذلك فأنا أخصها، فلا بد أن يكون باعثه إما موافقة غيره، وإما اتباع العادة، وإما خوف اللوم، له ونحو ذلك، وإلا فهو كاذبٌ، فالداعي إلى هذا العمل لا يخلو قط من أن يكون ذلك الاعتقاد الفاسد أو باعثًا آخر غير ديني، وذلك الاعتقاد ضلالٌ.

- ثم قال: - ثم هذا العمل المبتدع مستلزمٌ إما لاعتقادٍ هو ضلالٌ في الدِّين، أو عمل دينٍ لغير الله سبحانه، والتدين بالاعتقادات الفاسدة، أو التدين لغير الله؛ لا يجوز»

(2)

.

(1)

الاقتضاء (2/ 107).

(2)

المرجع السابق (2/ 114).

ص: 90

قال الشاطبي: «فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق، أو بقصد يقصد مثله أهل العقل؛ كالفراغ والنشاط، كان تشريعًا زائدًا»

(1)

.

المقدمة الثانية عشرة

العمل بالعام أو المطلق دون النّظر إلى عمل السّلف وفهمهم

في تخصيصه أو تقييده من جملة البدع

في هذه المقدمة تداخلٌ كبير مع المقدمة السابقة، إلا أنها أخص، لأنها تتعلق بالنصّ العام والمطلق، وذلك أنه إذا جاء نصٌّ عامٌّ أو مطلقٌ فدلَّ على أفرادٍ كثيرةٍ، فرأينا الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح عملوا ببعض أفراده دون بعض، فهذا يدل على أن الفرد الذي لم يعملوا به ليس داخلًا في العموم والإطلاق لأن تركهم سنةٌ تركيةٌ، والسنةُ التركيةُ مقدمةٌ على العموم، لأنها دليل خاص أو مقيد، وما كان كذلك فهو مقدمٌ على العام والمطلق، وما تقدم ذكره من أدلة ونقولات على المقدمة السابقة فهو أيضًا شامل لهذه المقدمة، لكن أفردت العامَّ والمطلق لأن اللبس فيهما أكثر والحاجة لهما أمس.

قال الإمام الشافعي: «وقال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ

} [الأنفال: 41] فلما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني هاشم وبني عبد المطلب سهم ذي القربى، دلَّت سنةُ

(1)

الاعتصام (2/ 310).

ص: 91

رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذا القربى الذين جعل الله لهم سهمًا من الخمس بنو هاشم وبنو عبد المطلب دون غيرهم

»

(1)

.

فإن الإمام الشافعي - وهو أول من ألف في أصول الفقه - لم يتمسك بالعموم ولم يقل في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أعطى بني هاشم وبني عبد المطلب سهمًا أن هذا من باب ذكر بعض أفراد العام التي لا تقتضي التخصيص، بل قدَّم السنة التركية على العموم وجعلها مخصصةً له، إذ الخاص أقوى دلالةً من العام.

قال الإمام أحمد بن حنبل في رسالةٍ كتبها: «واعلم - رحمك الله - أن الخصومة في الدِّين ليست من طريق أهل السنة، وأن تأويل من تأول القرآن بلا سنة تدل على معنى ما أراد الله منه، أو أُثر عن أصحابه صلى الله عليه وسلم ويُعرف ذلك بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن أصحابه، فهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وشهدوا تنزيله، وما قصَّ الله له في القرآن، وما عنى به، وما أراد به أخاصٌّ هو أم عامٌّ؟ فأما من تأوله على ظاهره بلا دلالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدٍ من الصحابة، فهذا تأويل أهل البدع، لأن الآية قد تكون خاصةً ويكون حكمها حكمًا عامًّا، ويكون ظاهرها على العموم، وإنما قُصدت لشيءٍ بعينه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبِّر عن كتاب الله وما أراد، وأصحابه أعلم بذلك منا، لمشاهدتهم الأمر وما أريد بذلك

»

(2)

.

ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «قلت لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمة كالشافعي وأحمد وأبي عبيد وإسحاق وغيرهم سواء لا

(1)

الرسالة (ص 67 - 68).

(2)

نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في الإيمان تحقيق الألباني (ص 306).

ص: 92

يريدون بالمجمل ما لا يُفهم منه، كما فسَّره بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك، بل المجمل ما لا يكفي وحده في العمل به وإن كان ظاهره حقًّا.

- ثم قال: - ولهذا جعل الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طريق أهل البدع وله في ذلك مصنفٌ كبير»

(1)

.

وقال: «شرع الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعًا بوصف الخصوص والتقييد»

(2)

.

وقال: «وهذا الترك سنةٌ خاصةٌ مقدمةٌ على كل عموم وكل قياس»

(3)

.

وقال: «وقد ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا وغيرهم أنه يُستحب قيام هذه الليلة بالصلاة التي يسمونها الألفية، لأن فيها قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

[الإخلاص: 1] ألف مرة، وربما استحبوا الصوم أيضًا، وعمدتهم في خصوص ذلك الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقد يعتمدون على العمومات التي تندرج فيها هذه الصلاة»

(4)

، ثم رد الاستدلال بالعموم.

وقال: «ومما قد يغلط فيه الناس اعتقاد بعضهم أنه يستحبُّ صلاة العيد بمنى يوم النحر، حتى قد يصليها بعض المنتسبين إلى الفقه، أخذًا بالعمومات اللفظية أو القياسية، وهذه غفلةٌ عن السنة ظاهرةٌ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يُصلُّوا بمنى عيدًا قط.

(1)

الإيمان تحقيق الألباني (ص 306).

(2)

مجموع الفتاوى (20/ 196).

(3)

الاقتضاء (2/ 103).

(4)

المرجع السابق (2/ 146).

ص: 93

- ثم قال: - ومثل هذا ما قاله طائفةٌ - منهم ابن عقيل - أنه يُستحبُّ للمحرم إذا دخل المسجد الحرام أن يصلي تحية المسجد كسائر المساجد، ثم يطوف طواف القدوم أو نحوه، وأما الأئمة وجماهير الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم فعلى إنكار هذا، أما أولًا: فلأنه خلاف السنّة المتواترة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، فإنهم لما دخلوا المسجد لم يفتتحوا إلا بالطواف ثم الصلاة عقب الطواف، وأما ثانيًا: فلأن تحية المسجد الحرام هي الطواف كما أن تحية سائر المساجد هي الصلاة»

(1)

.

قال ابن دقيق العيد: «وقريب من ذلك: أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجه مخصوص، فيريد بعض الناس: أن يُحْدث فيها أمرًا آخر لم يرد به الشرع، زاعمًا أنه يدرجه تحت عموم، فهذا لا يستقيم؛ لأن الغالب على العبادات التعبد، ومأخذها التوقيف، وهذه الصورة: حيث لا يدل دليل على كراهة ذلك المحدث أو منعه، فأما إذا دل فهو أقوى في المنع وأظهر من الأول، ولعل مثال ذلك، ما ورد في رفع اليدين في القنوت، فإنه قد صح رفع اليد في الدعاء مطلقًا، فقال بعض الفقهاء: يرفع اليد في القنوت؛ لأنه دعاء، فيندرج تحت الدليل المقتضي لاستحباب رفع اليد في الدعاء، وقال غيره: يكره؛ لأن الغالب على هيئة العبادة التعبد والتوقيف، والصلاة تصان عن زيادة عمل غير مشروع فيها، فإذا لم يثبت الحديث في رفع اليد في القنوت: كان الدليل الدال على صيانة الصلاة عن العمل الذي لم يشرع: أخص من الدليل الدال على رفع اليد في الدعاء.

(1)

القواعد النورانية (ص 149).

ص: 94

- ثم قال: - والتباين في هذا يرجع إلى الحرف الذي ذكرناه، وهو إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات، أو طلب دليل خاص على ذلك الشيء الخاص، وميل المالكية إلى هذا الثاني، وقد ورد عن السلف الصالح ما يؤيده في مواضع، ألا ترى أن ابن عمر رضي الله عنهما قال في صلاة الضحى:«إنها بدعة»

(1)

؛ لأنه لم يثبت عنده فيها دليل، ولم ير إدراجها تحت عمومات الصلاة لتخصيصها بالوقت المخصوص، وكذلك قال في القنوت الذي كان يفعله الناس في عصره «إنه بدعة»

(2)

، ولم ير إدراجه تحت عمومات الدعاء، وكذلك ما روى الترمذي من قول عبد الله بن مغفل لابنه في الجهر بالبسملة «إياك والحدث»

(3)

ولم ير إدراجه تحت دليل عام، وكذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه فيما أخرجه الطبراني في معجمه

(4)

بسنده عن قيس بن أبي حازم قال: «ذكر لابن مسعود قاص يجلس بالليل، ويقول للناس: قولوا كذا، وقولوا كذا، فقال: إذا رأيتموه فأخبروني، قال: فأخبروه، فأتاه ابن مسعود متقنعًا، فقال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عبد الله بن مسعود، تعلمون أنكم لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يعني أو إنكم لمتعلقون بذنب ضلالة.

وفي رواية: «لقد جئتم ببدعة ظلماء، أو لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علمًا» .

(1)

أخرجه البخاري رقم (1775)، ومسلم رقم (1255).

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (2/ 302).

(3)

أخرجه الترمذي رقم (244)، وابن ماجه رقم (815)، مسند أحمد (34/ 175).

(4)

المعجم الكبير (9/ 125).

ص: 95

«فهذا ابن مسعود أنكر هذا الفعل، مع إمكان إدراجه تحت عموم فضيلة الذكر، على أن ما حكيناه في القنوت والجهر بالبسملة من باب الزيادة في العبادات»

(1)

.

قال الشاطبي: «وقد تمهد أيضًا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه لم يكن حجةً في غيره، فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمرٍ له دليلٌ مطلقٌ، فرأيت الأولين قد عملوا به على وجهٍ واستمرّ عليه عملهم، فلا حجة فيه على العمل على وجهٍ آخر، بل هو مفتقرٌ إلى دليلٍ يتبعه في إعمال ذلك الوجه»

(2)

.

وقال: «وفي فصل البيان من كتاب «الموافقات» جملة من هذا، وهو مزلة قدم، فقد يتوهم أن إطلاق اللفظ يشعر بجواز كل ما يمكن أن يفرض في مدلوله وقوعًا، وليس كذلك، وخصوصًا في العبادات؛ فإنها محمولة على التعبد على حسب ما تلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح»

(3)

.

وبهذا ينتهي القسم الأول بمقدماته الاثنتي عشرة.

(1)

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 200).

(2)

الموافقات (3/ 285).

(3)

الاعتصام (2/ 71).

ص: 96

القسم الثاني

كشف شبهات كتاب (مفهوم البدعة)

بعد ذكر المقدمات الاثنتي عشرة، والتي تعدُّ مرتكزًا ومدخلًا لكشف شبهات كتاب (مفهوم البدعة) وبعد ما سيأتي - إن شاء الله - من الرد الإجمالي والمناظرة التقريبية، فإني سأحاول - بتوفيق الله - كشف أبرز الشبهات في هذا الكتاب، علمًا أني لا ألتزم الترتيب بحسب وجودها في الكتاب المردود عليه.

وسيكون كشفي لشبهات الكتاب - بتوفيق الله - بطريقين؛ إجمالي وتفصيلي، أبدأ أولًا بالإجمالي ثم بالتفصيلي.

الرد الإجمالي

إن عند الكاتب خلطًا وتداخلًا وعدم تمييز؛ لأنه غير متخصص في العلوم الشرعية من جهة، ومن جهة أخرى أنه اعتقد ثم أراد أن يستدل، فهو لما اعتقد شرعية بعض البدع، كالاحتفال بالمولد النبوي - والذي أكثر ذكره في الكتاب - وأمثاله، استمات ليشرعها، فخلط وتناقض ووقع في حيصَ بيصَ

(1)

، وهذا ليس غريبًا، فإن كل من خالف الحق فلابد أن يتناقض ويضطرب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإنهم كلهم يتناقضون، وكل من خالف الرسول فلا بد أنه يتناقض،

(1)

قال ابن الأثير في النهاية (1/ 468): «وقع في حيص بيص، إذا وقع في أمر لا يجد منه مخلصًا» .

ص: 97

قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} ] الذاريات: 8 - 9 [. وقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}] النساء: 82 [»

(1)

.

قال ابن القيم: «فأقسم بذلك على أن الرادين لما بعث به رسوله، المعارضين له بعقولهم؛ في قول مختلف، ولهذا نجدهم دائمًا في قول مختلف لا يثبت لهم قدم على شيء يعولون عليه، فتأمل أي مسألة أردْتَ من مسائلهم ودلائلهم تجدْهم مختلفين فيها غايةَ الاختلاف، يقول هذا قولًا وينقضه الآخر، فيجيء الثالث فيقول قولًا غير ذينك القولين وينقضهما ويبطل أدلتهما، ولا تجد لهم مسألة واحدة إلا وقد اضطربوا فيها حكمًا ودليلًا، فهم أعظم الناس اختلافًا، حتى تجد الواحد منهم يقول القول ويدعي أنه قطعي»

(2)

.

ويتبين الخلل في الفهم والعلم الشرعي عند الكاتب بمعرفة الرد الإجمالي، وهو في سبعة أمور:

أولًا: زعمه أن العبادات ليست توقيفية مطلقًا، فقال:«إن هذه الأدلة الشرعية توضح أن قضية تعميم منع العبادات إلا بتوقيف تنقصها بعض الدقة»

(3)

، وهذا خطأ مخالف للأدلة وإجماع أهل العلم كما تقدم في المقدمة السابعة، ولو تفهم لعلم أن معنى أنها ليست توقيفية على الإطلاق؛ أي أنه يجوز بأي حال من الأحوال إثبات عبادات بلا دليل شرعي بل بهوى النفس!!

(1)

بغية المرتاد (ص: 395).

(2)

الصواعق المرسلة (4/ 1431).

(3)

(ص 153).

ص: 98

والذي دعا الكاتبَ لهذا أنه يرى أن العبادات المستجدة تثبت إذا انسجمت مع قواعد الشريعة؛ الاجتهاد والقياس، لذا قال: بل لكل محدثة حكمها الذي ينسجم مع مقاصد الشريعة ونصوصها العامة وقواعدها الكلية، وقال:«ما يمكن إلحاقه بالمشروع عن طريق الاجتهاد والقياس» .

ولو تفهم، لعلم أن هذه المستجدات التي جاز التعبد بها كانت بسبب دلالة القواعد الشرعية - وغير ذلك - على صحتها، وما كان كذلك فإنها ترجع إلى الشرع؛ فتكون توقيفية، فلا يصح أن يقال: إنها عبادة غير توقيفية.

ولما قرر العلماء أن العبادات توقيفية علموا أن هذا لا يتعارض مع إثبات عبادات بالقواعد والأدلة العامة بالضوابط الشرعية، كما تقدم في المقدمة الثامنة والحادية عشرة.

وإن كان قد يختلف العلماء أنفسهم في هذه الأدلة وفي دقة تنزيلها على الوقائع، إذا عرف هذا فخلاف الكاتب مع من قال: إنها توقيفية مطلقًا؛ خلافٌ لفظي، لكنه لا يدرك ذلك ولا يفهمه، لأنه اعتقد ثم استدل، فبسبب هذا خرج بتأصيل مُحْدَثٍ، وهو زعْمُه أن العبادات ليست توقيفية مطلقًا!!.

وأيضًا، من عرف ما تقدم أدرك خطأ الكاتب لما وصف الذين أسماهم بالمضيقين، أنهم يمنعون كل المستجدات، فقال على لسانهم: وأن القول بأن بعض المحدثات المستجدات يمكن أن تكون مشروعة؛ قولٌ باطل»

(1)

وهذا غير صحيح، ولا قائل به، بل حتى من أسماهم بالمضيقين يجوزون بالضوابط الشرعية التعبد ببعض المستحدثات، كما يتبين بالرجوع إلى المقدمتين السابقتين.

(1)

(ص 26).

ص: 99

وأؤكد أنَّ ظنَّ الكاتب: (أن إثبات العبادات بالقواعد الشرعية وبالعمومات بضوابطها، يقتضي أنها ليست توقيفية مطلقًا)؛ ظنٌّ خطأ فادح.

ثانيًا: قسم الكاتب المتكلمين في البدع من أهل العلم إلى مضيق وموسع، فلما أراد أن يذكر أمثلةً على المضيقين والموسعين بان اضطرابه، وذلك أنه وصف المضيقين بأمور هي خطأٌ وتوهمٌ لا حقيقة له في الواقع إلا في ذهنه، كالقول بأنهم يبدعون ويضللون كل المستجدات الدينية، ولا يراعون القواعد في المستجدات، وهكذا .. ثم إذا وقف على حقيقة كلامهم وجد خلاف ما توهمه فيهم، بل وجدهم يقعدون بعدم تبديع كل المستجدات للقواعد الشرعية وغير ذلك، فبعد هذا يضطرب، فتارة يصنف بعضهم مع الموسعين، كما فعل في تصنيفه لابن كثير وابن رجب مع أنهما يقولان: كل ما ثبت أنه بدعة فهو محرم، ومن كان كذلك فينبغي أن يصنفه من المضيقين كما سبق في تقعيده لما قسَّم!.

وتارة يشك؛ كما فعل مع الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقال:

«قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - مع أنه من العلماء المضيقين لمعنى البدعة -: نخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في الشرع، كجمع عمر التراويح جماعة، وكجمع المصحف، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس، ونحو ذلك. فهذا حسن» انتهى الدرر السنية (5/ 103)، فكلامه يشير إلى وجود بدع لها أصل في الشرع، وبالتالي يشير إلى تخصيص عموم ذمها، فتأمل»

(1)

.

(1)

الحاشية (ص 77).

ص: 100

وهذا الاضطراب بدا جليًّا مع الشاطبي حين قال: «وقد ألف الشاطبي رحمه الله كتابه الاعتصام حول موضوع البدعة، وتنازعه الفريقان، وادعى كل فريق أن الشاطبي رحمه الله معدود في فريقه»

(1)

.

ولو كان ذا فهم وعلم لعلم أن كل العلماء يجوزون عبادات من غير دليل خاص، فيلزم من هذا أن يكونوا جميعًا موسعين - على اصطلاحه -، ولا يوجد علماء مضيقون - على اصطلاحه - إلا في ذهنه هو، ولأجل ما تقدم اضطر أن يجعل أبا شامة وابن كثير وابن رجب من الموسعين - كما تقدم -.

ثالثًا: أخطأ على العلماء الذين وصفهم بالموسعين وزعم أنهم يجوزون البدع الشرعية - أي عبادات لا دليل عليها -، وهذا جهل عليهم، فإن لهم كلامًا كثيرًا في تبديع كثير من الأفعال لمجرد عدم الدليل عليها، كما تقدم النقل عن أبي شامة والنووي، حتى إنه جعل العز بن عبد السلام من الموسعين مع أنه شديد في التبديع في العبادات العملية، حتى إنه جعل إيراد الشِّعر في خطبة الجمعة من البدع، فقال:«لا تذكر الأشعار في الخطبة، لأنه من أقبح البدع»

(2)

.

رابعًا: اضطرب في ضابط العلماء الموسعين والمضيقين، فمن الضوابط التي قررها: أن العلماء المضيقين يرون كل بدعة حرامًا، فقال: «أطلقت وصف المضيقين لمعنى البدعة على العلماء القائلين بأن للبدعة حكمًا واحدًا، وهو الحرمة، ويقابلهم الموسعون لمعنى البدعة، وهم الذين يرون أن البدعة منقسمة إلى الأحكام

(1)

(ص 101).

(2)

الفتاوى للعز بن عبد السلام (ص 79).

ص: 101

الخمسة: الوجوب، والاستحباب، والجواز، والكراهة، والحرمة، وهذان الوصفان لا يحملان مدحًا أو قدحًا، بل يصفان واقعًا»

(1)

.

ولو كان ملتزمًا لهذا الضابط لما عدّ ابن رجب من العلماء الموسعين؛ لأن كلام ابن رجب صريح في أن كل بدعة ضلالة، ومثله ابن كثير، كما نقله هو في الكتاب نفسه

(2)

، فلما أراد أن يخرج من هذا المأزق جعل ابن كثير وابن رجب من أصحاب المذهب الثالث الذي

(3)

أقر فيما بعدُ أن خلافهم لفظي مع المذهب الأول - وهم الموسعون -، فهم - حقيقة - جميعًا من الموسعين عنده.

خامسًا: عنده خلط كبير في فهم مذهب من يسميهم بالمضيقين، فيفهم أن مقتضى قولهم: إن كل البدع ضلالة ومحرمة، أنهم لا يرون تجويز عبادات حادثة بضوابط شرعية تتوافق مع أصول الشريعة، فكأنه - على فهمه لمذهبهم - يُلزمهم أن يحرموا مكبرات الصوت للأذان وغيرها من المستجدات الحديثة التي اتخذت وسائلَ للعبادات، ويلزمهم أن لا يجوزوا التعبد بالعبادات التي جاءت في الأدلة على وجه الإطلاق والعموم، وهذا كله خطأ فادح ووهم جانح، يعرف بفهم ما تقدم ذكره من المقدمات والنقولات.

قال الكاتب: والخلاف بين الفريقين حقيقي وليس لفظيًّا، إذ إن الفريق الأول - أي الموسعين - لا يحكم على المحدثات بالبدعة والحرمة، لعدم ورودها في نصوص الشرع، بل يجتهد ويقيس وينظر، ثم يصدر الحكم الشرعي المناسب

(1)

(ص 26) في الحاشية.

(2)

(ص 79).

(3)

(ص 70).

ص: 102

لها، أما الفريق الثاني - أي المضيقون - فيرى أن كل محدثة في الدين بدعة ضلالة؛ لأنه ليس مما عهد في الصدر الأول»

(1)

.

وقال في بيان مذهب الموسعين خلافًا للمضيقين: «خلاصة رأي الموسعين لمعنى البدعة: إن النصوص السابقة تفيد أن للبدعة معنيين: الأول منهما معنى في اللغة، وهو كل محدث أولًا على غير مثال سابق، والثاني منهما معنى في الشرع، وهو كل محدث يخالف أصول الشريعة وقواعدها ونصوصها، فالبدعة بالمعنى اللغوي تحتمل المدح والذم، وتشملها الأحكام الخمسة، والمقياس في ذلك الاجتهاد والبحث في دلالات نصوص الشريعة وإشاراتها حول هذه الحادثة، أوردها إلى مثيلاتها في الكتاب والسنة عن طريق القياس، وأما بالمعنى الشرعي فإنها مذمومة؛ لأنها تخالف أصول الشريعة وقواعدها، فإن كانت البدعة

- بالمعنى اللغوي - لا تخالف أصول الشريعة، فهي بدعة في اللغة وسنة (أو واجبة أو جائزة) في الشرع»

(2)

.

هذا الذي ينسبه للموسعين هو في الواقع قول من زعمهم مضيقين، وأن الخلاف بينهما لفظي من جهة، وهو - في نسبة ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته للبدعة، مع دلالة الدليل عليه، ودلالة القواعد الشرعية عليه بالضوابط - بدعةٌ لغوية، ومن جهة ثالثة قد يحصل اختلاف حقيقي أحيانًا في طريقة تنزيل الدليل على الوقائع، فمثلًا - بعيدًا عن تقسيمه العلماء إلى مضيق وموسع -: الاستدلال

(1)

(ص 70).

(2)

(ص 87).

ص: 103

بالقياس، قد يتوسع بعضهم في العبادات المعقولة المعنى ولو خالف السنة التركية، بينما آخرون لا يعتدون به إذا خالف السنة التركية، وهكذا.

وأحيانًا يتفقان على التأصيل، ويختلفان في التنزيل، من باب الاختلاف في تحقيق المناط، وهو تنزيل الدليل على الوقائع.

سادسًا: إن من العقد عند الكاتب التي لم يستطع حلها، أو ما أراد حلها؛ أن القول بأن كل بدعة ضلالةٌ وحرامٌ يتنافى مع تجويز بعض المستجدات الشرعية مطلقًا، وأنها لابد أن تكون بدعة شرعية؛ ضلالة وحرامًا!!

وإن ظنه بتنافيهما وتنافرهما مطلقًا ليس صحيحًا؛ لأن القول بأن كل بدعة ضلالة، أي ما ثبت أنه بدعة لعدم دلالة الدليل عليها، سواء بالنص أو بالقواعد الشرعية، أو العمومات بضوابطها الشرعية، بخلاف ما دلَّ الدليل على شرعيتها بالضوابط العلمية، فإنها لا تكون بدعة ضلالة، ولو كانت من المستجدات.

وما ثبت من المستجدات الشرعية بالأدلة فإنها ليست بدعة بالمعنى الشرعي، ولو كانت مستحدثة؛ لأنها ثابتة بدليل شرعي معتبر، ويصح أن تسمى بدعة بالمعنى اللغوي باعتبار أنها لم تكن إلا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي رأيت الكاتب مصرًّا عليه هو: أن القول بأن (كل بدعة ضلالة) معناها تبديع وتضليل جميع العبادات المستجدة، ولو دلّت عليها الأدلة المعتبرة.

سابعًا: إن من أعظم ما سبب لبسًا وخلطًا عند الكاتب أنه لم يقر بأن ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة، كما أن فعله سنة، بضوابطهما، فهو لا يوافق على أن فعل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من العبادات، مع وجود المقتضي وانتفاء المانع؛ بدعة، مع أن هذا مقرر عند علماء من المذاهب الأربعة، ودلت عليه الأدلة، كما

ص: 104

تقدم في المقدمة الثامنة؛ لذا لم يخصص بها عامًّا ولم يقيد بها مطلقًا، ولم يرد بها قياسًا لأنه معارض لها.

وبهذا ينتهي الرد الإجمالي الذي قصدت منه بيان أن الكاتب مضطرب وغير متصور لما يكتبه، ولا لما يريده.

وأؤكد أن السبب في ذلك - فيما يظهر لي - أمران:

الأول: عدم فهمه وعدم تخصصه بالعلم الشرعي.

الثاني: أنه يريد تشريع بعض البدع، كالاحتفال بالمولد وغيره، فلما اعتقد شرعيتها سعى جاهدًا للاستدلال لما يعتقده، قال ابن القيم في مناسبة أخرى:

«ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعًا للمذهب، فاعتقد ثم استدل، وأما من جعل المذهب تبعًا للدليل، واستدل ثم اعتقد، لم يمكنه هذا العمل»

(1)

.

وفي مثل تناقضه واضطرابه يصدق قول من قال:

مَساوي لو جُمعْنَ على الغواني

لما أُمْهِرْن إلَّا بالطَّلاقِ

ولأنه قد لا يتصور بعض القراء شناعة تأصيل العرفج، فسأقرب - بفضل الله وتوفيقه - بعض العظائم التي زلّ فيها الكاتب في مناظرة ليسهل تصورها ومعرفتها.

والذي يمثل أهل السنة أجعله باسم (الناصح)، والذي على طريقة العرفج أجعله باسم (المخالف).

(1)

زاد المعاد (5/ 246).

ص: 105

قال المخالف: أنا أتعجب من العلماء، فإنهم لم يفهموا البدعة وضابطها؛ لذا بدعوا أشياء مما يدل على عدم فهمهم لضابطها، ويؤكد هذا أنهم مختلفون في تبديع كثير من الأمور.

قال الناصح: القول بأن العلماء لم يفهموا ضابط البدعة دعوى لا تقبل إلا ببرهان.

أما الاختلاف في تبديع كثير من الأمور فليس دليلًا على عدم فهمهم لضابط البدعة، وذلك لأمرين:

الأول: أنهم متفقون على تبديع أمور أكثر.

الثاني: أنه لا زال العلماء يختلفون في تنزيل التأصيلات العلمية على الوقائع، وهو المسمى عند الأصوليين بـ (تنقيح المناط).

قال المخالف: أنا لي استقراء لصنيع العلماء في التبديع، وبناء عليه ظهر لي أن ضابط البدعة ليس منضبطًا عندهم.

قال الناصح: ليس كل استقراء مقبولًا، ولا كل من استقرأ كان استقراؤه تامًّا، فقد يكون الاستقراء ناقصًا، أو يكون فهمه لكلام العلماء غير صحيح.

قال المخالف: لتقتنع بما أقول: لنبدأ بمسألة (كل بدعة ضلالة).

قال الناصح: توكل على الله.

قال المخالف: زعم بعض العلماء بأن كل بدعة ضلالة، وعلى هذا مؤاخذات، وقبل الإشارة لبعضها .. فهل أنت تقول:«إن كل بدعة ضلالة» ؟.

قال الناصح: نعم أنا أرى أن كل بدعة في الدين ضلالة لعموم الحديث، وأرى أن من يقرر أن في الدين بدعة حسنة فهو متناقض.

ص: 106

قال المخالف: زعمُ التناقض وهمٌ منك.

قال الناصح: لا بأس، إن الذي يوصف بأنه بدعة حسنة لا يخرج عن حالين:

إما أنه قد دلّ الدليل عليه ولو بالعموم وغيره، أو أن الدليل لم يدل عليه.

فإن كان قد دل عليه، فلا يصح أن يسمى بدعة بالمعنى الشرعي؛ لأنه ليس بدعة؛ لدلالة الدليل عليه.

وإن لم يكن دلّ عليه، فلا يصح التعبد به؛ لأن العبادات توقيفية وهي على الحظر والمنع إلا لدليل.

قال المخالف: المشكلة في عدم فهمك لمعنى البدعة الحسنة، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:«نعمت البدعة هذه» فهو بهذا يقرر أن في الدين بدعة حسنة، فهل تقول: إن عمر متناقض؟ هذا أولًا.

قال الناصح: قبل أن تذكر الأمر الثاني: إن ما وصفه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه بدعة حسنة هو مغاير لما تصفه بالبدعة الحسنة، وذلك أن عمر أراد بالبدعة المعنى اللغوي، لا ما أردته وهو المعنى الشرعي.

قال المخالف: كيف؟ الذي أراده عمر هو الذي أردتُه تمامًا؛ وذلك أن عمر ابن الخطاب أطلق هذا الوصف على صلاة التراويح جماعة، وهي عبادة.

قال الناصح: هذا يؤكد أن عمر أراد بالبدعة المعنى اللغوي، لا المعنى الشرعي؛ لأن ما أطلق عليه أنه بدعة هو ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركه لسبب وهو خشية أن يفترض، ثم لما زال هذا السبب رجع عمر وأحيا هذه السنة.

ص: 107

قال المخالف: بقي أمر ثان؛ وهو أنه لا يصح أن يقال بأن العبادات توقيفية على الإطلاق، فمن أحدث عبادة جديدة فهي صحيحة؛ لأنها بدعة حسنة.

قال الناصح: هذه زلة كبيرة، وهفوة شنيعة لم يسبقك إليها أحد، والأدلة والإجماع على خلاف هذا القول.

سبحان الله! أيصح أن يقال: إن العبادات ليست توقيفية على الإطلاق!! إنه لم يقل بهذا حتى العلماء القائلون بأن في الدين بدعة حسنة؛ لأنهم لا يشرعون عبادة إلا بدليل؛ لأجل هذا قال الهيتمي الشافعي: إن الخلاف بين القائلين بأن في الدين بدعة حسنة، وأن البدع كلها ضلالة، خلاف لفظي.

وكلامه صحيح - في الجملة -؛ لأن كل العلماء لا يجوزون عبادة إلا بدليل، وإن كانوا قد يختلفون في تنزيل الأدلة على الوقائع، وأيضًا قد يختلفون في طريقة التعامل مع الأدلة، فمنهم من يوسع في الاستدلال بالقياس والعموم وهكذا

لكن القول بأن الخلاف لفظي يوهم أن تسمية هذه البدعة بالبدعة الحسنة تسمية صحيحة، وهذا ما لا يوافَقُ عليه وهو غير صحيح، لكن من جهة الثمرة لا ثمرة لهذا الخلاف، وليس القول:(بأن في الدين بدعة حسنة) مجوزًا إحداثَ عباداتٍ جديدة لا دليل عليها.

بل ويلزم من القول بأن العبادات ليست توقيفية على الإطلاق أن يرجع تشريع بعض العبادات إلى الهوى لا إلى الشرع!!

قال المخالف: إن القول بأنها توفيقية على الإطلاق يترتب عليه أن المستجدات والمستحدثات كالأذان وإلقاء الخطب بمكبرات الصوت بدعة ضلالة وهكذا

ص: 108

لذا يجب القول بأنها ليست توقيفية على الإطلاق، ولأجل هذا فإنه بسبب استقرائي لكلام العلماء في البدعة، قسمتهم إلى موسعين ومضيقين.

فمن قال: إن في الدين بدعة حسنة، وأن العبادات ليست توقيفية، وأن هذه المستجدات ليست بدعة فهو من الموسعين، ومن لا فهو من المضيقين.

ثم ظهر لي أن من القائلين بأن البدع كلها ضلالة من يتناقض ويجوز مكبرات الصوت، ولا يجعلها بدعة، مع أن لازم أصله يقضي بأنها بدعة ضلالة، بل ذكر بعضهم أن جمع الصحابة للمصحف ليس بدعة، وهذا خلاف أصله.

ثم استدل بأن قواعد الشريعة دلت على هذا، وهذا يتنافى مع القول بأن كل بدعة ضلالة.

قال الناصح: لقد أُتيت من عدم فهمك لضوابط البدعة وكلام أهل العلم.

قال المخالف: كيف هذا وأنا المتخصص في دراسة البدعة، وألفت فيها كتابًا بعد دراسة وبحث.

قال الناصح: ليس كل من ألف أصاب، فقد ألّف أهل البدع مجلدات في الدعوة إلى بدعهم وعقائدهم الفاسدة، ومع ذلك ضلوا وأضلوا.

قال المخالف: إن زعمك أني لم أفهم شيءٌ كبيرٌ، فإما أن تثبته، أو أن تعرض عنه وتتراجع.

قال الناصح: يلزم بناء على تأصيلك وتقسيمك أن تجعل كل العلماء موسعين، لأنه لا يوجد عالم يقول: إن العبادات ليست توقيفية على الإطلاق.

ص: 109

وأيضًا كل العلماء الذين جوزوا عباداتٍ لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته؛ جوزوا ذلك تبعًا للقواعد الشرعية والأدلة العامة.

لذا، فإنك ستضطر إلى إحدى نتيجتين لا محالة؛ إما أن ترمي العلماء بالتناقض؛ لأنهم مرة يوسعون ومرة يضيقون، أو أن تكون متناقضًا؛ للجناية على العلماء بهذا التقسيم الخطأ في نفسه، والجائر في حكمه.

قال المخالف: الحق أحق أن يتبع، إن ما ذكرته عني هو النتيجة التي خرجت بها، فقد وجدت تناقضًا لكني جعلت التناقض من العلماء لا من فهمي.

قال الناصح: رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه، إن الأولى أن تجعل التناقض منك وإليك، لأنك تصورت موسعين لا وجود لهم، وهو أنهم لا يقولون: إن العبادات توقيفية على الإطلاق، وأيضًا تصورت مضيقين لا وجود لهم، وهو أنهم لا يجوزون شيئًا من العبادات المستجدة بالقواعد الشرعية والأدلة العامة، كجمع الصحابة للمصحف أو إلقاء الخطب عبر مكبرات الصوت وهكذا

وبهذا تنتهي المناظرة التقريبية التي يعرف من خلالها التصور الخطأ الفادح والشنيع عند العرفج - رده الله إلى رشده -.

وبعد هذا:

إنَّ عجبي لا يكاد ينقضي بأن يخوض غمار هذه المسائل من لم يفهم مسلمات في البدعة، وهي أن الأصل في العبادات المنع والتوقيف مطلقًا، ثم لم يفهم أقوال أهل العلم، ومع ذلك أبى إلا أن يستطيل عليهم تقسيمًا وتصنيفًا.

ص: 110

وقبل البدء بالرد التفصيلي، إني لأجد كلفة ومشقة لمناقشة كلام الكاتب، وكشف شبهاته، لا لأنها قوية، كلا وايم الله، بل لأنها متناقضة متناطحة، فينكر شيئًا لفظًا ثم يثبته معنى وحقيقة، وأقرب مثال على هذا إنكاره أن العبادات توقيفية على الإطلاق، ثم حقيقة قوله: أنها توقيفية، لذا فإن الذي سأقوم به - بحول الله وإعانته - أن أبين أخطاءه بحسب ما قرره وكتبه بقلمه ولو كان متناقضًا ومضطربًا، وأعتذر مسبقًا أنني سأضطر إلى التكرار في مناقشة أقواله، لأنه يكرر شبهه بطرق متعددة، بل ويبني غيرها عليها، مما يضطرني لتكرار مناقشته، مع كرهي لذلك، لثقله عليّ وعلى القارئ الكريم.

ص: 111

الرد التفصيلي

إن عدد الشبهات التي تم كشفها - بفضل الله - نحو أربعين شبهة، وهذه الشبهات هي أهم ما رأيته في الكتاب، وإلا فإنَّ تتبع كل شبهاته مما يطول، والمقصود قد حصل بما ذكر.

والآن أبدأ - بحول الله - بكشف الشبهات تفصيليًّا:

من أصول الضلال عند الكاتب منازعته في أن

الأصل في العبادات التوقيف على الإطلاق

الشبهة الأولى

نازع الكاتب في أن الأصل في العبادات التوقيف على الإطلاق فقال: «إن هذه الأدلة الشرعية توضح أن قضية تعميم منع العبادات إلا بتوقيف تنقصها بعض الدقة»

(1)

.

وقال: «التوقيف في العبادات قضية يعتمد عليها المضيقون للبدعة في تحريم كثير من المحدثات، فما إن ينظر أحدهم إلى محدثة إلا ويسارع بتحريمها بحجة أنها عبادة، والعبادة توقيفية، وبالتالي فلا يجوز إحداثها»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

(1)

(ص 153).

(2)

(ص 423).

ص: 112

إن هذه الشبهة من الأصول التي ضل فيها الكاتب وأضل، ثم إنه لم يكتف بالمنازعة في هذا الأصل مع شدة ضلاله، بل زاد الطين بِلَّةً، وعاب على من سماهم مضيقين بأنهم يعتمدون على هذا الأصل في تحريم كثير من المحْدَثات.

وإن تقرير الكاتب عدمَ التسليم بأن العبادات توقيفية على الإطلاق؛ باطل، وعن الدليل عاطل، بل هو مخالف للأدلة الشرعية، وأقوال الصحابة، وإجماع أهل العلم - كما تقدم تقريره في المقدمة السابعة -، فهو قول محدث لا سلف له؛ لذا لم يستطع نقله عن أحد، وإنما فزع إلى المتشابهات وترك المحكمات، وإن مما هو كاف في إسقاط هذا القولِ والكتابِ العلمَ بأنه لا سلف للكاتب في هذا الضلال، سواء الذين زعمهم موسعين أو مضيقين، وهذه كتب أهل العلم، فليذكر الكاتب مَنْ سلَفُه في هذا الضلال، ودونه ودون إثبات ذلك خرط القتاد.

على أن الكاتب - نفسه من حيث لا يدري - يقرر أن الأصل في العبادات التوقيف، كما بينته في الرد المجمل، وليس هذا بأول تناقضاته ومغالطاته.

وجه استدلال الكاتب بمحدثات الصحابة المزعومة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

الشبهة الثانية

ذكر الكاتب

(1)

إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض المحدثات، ثم ذكر على ذلك أمثلة، ثم قال: «ولرب قائل يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقرهم عليها، فأصبحت تلك المحدثات من السنن التقريرية، فالجواب: إن محل الاستشهاد بفعل الصحابة رضي الله عنهم يكمن في موضعين اثنين:

(1)

(ص 126).

ص: 113

الأول: هو إقدام الصحابة رضي الله عنهم على فعل تلك الأمور المحدثة قبل أن يبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم مشروعيتها، مع تمكنهم من ذلك بكل يسر وسهولة، الأمر الذي يعني أنهم لم يكونوا يشعرون بالحرج في فعل ذلك، ولم يكونوا يرونها من البدع المذمومة، وإلا لأحجموا عنها.

الثاني: هو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على ما فعلوه وأحدثوه من الأمور الدينية، وعدم إنكاره صلى الله عليه وسلم عليهم، الأمر الذي يدل دلالة واضحة على أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للشيء لا يقتضي تحريمه، وإلا لكان كل ما فعله الصحابة رضي الله عنهم من الأمور محرمًا، لعدم فعله صلى الله عليه وسلم له.

إن هذه الأدلة توضح أن قضية تعميم منع العبادات إلا بتوقيف تنقصها بعض الدقة»

(1)

.

وبناء على زعمه بوجود الإحداث عند الصحابة جعله دليلًا على جواز الإحداث في الدين، وأنه لا يصح أن يقال: إن الأصل في العبادات التوقيف على الإطلاق.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

أولًا: أن كلام الصحابة كثير في الأمر بالاتباع وترك الابتداع، مما يدل على أن العبادات توقيفية على الإطلاق، وتقدم ذكر قول بعضهم كقول ابن مسعود:«اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم»

(2)

، وقال ابن عمر:«وكل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة» (1).

(1)

(ص 153).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 114

فبهذا يعلم قطعًا أن ما توهمه الكاتب على الصحابة من أنهم لا يرون العبادات توقيفية على الإطلاق؛ توهم خطأ، والواجب عليه رد هذا المتشابه للمُحْكَم من أقوال الصحابة، ورده للأدلة الكثيرة، بل ورده للإجماع على أن الأصل في العبادات التوقيف مطلقًا، لأن العلماء لما قرروا هذا الأصل، وحكوا الإجماع عليه، لم يقيدوه، بل أطلقوه، وقد ذمّ الله من عمد إلى المتشابه وترك المحكم، قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ] آل عمران: 7 [.

وهذا في ظني كافٍ لمن بصره الله ونور قلبه وأراد به الخير، إذ .. هل يمكن أن يقبل أحد من غيره قولًا شرعيًّا انفرد به عن الأمة وخالفها، ولم يوافقه عليه أحد من العلماء، كعلماء المذاهب الأربعة وغيرهم من علماء السلف؟!

رد استدلاله بوضوء بلال لكل صلاة

الشبهة الثالثة

بدأ بذكر أمثلة عن الصحابة تدل - بزعمه - على أن العبادات ليست توقيفية على الإطلاق، فقال: «الأول: التزام بلال بن رباح رضي الله عنه للطهارة بعد كل حدث، وصلاته ركعتين بعد كل طهارة، وبعد كل أذان، فكانت هذه من أرجى أعماله الصالحة عند الله، وهذا الالتزام مما اجتهد فيه بلال رضي الله عنه من تلقاء نفسه، ولم يكن عنده سنة توقيفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونص الحديث

(1)

(1)

أخرجه الترمذي رقم (3689)، وأحمد (38/ 148) من حديث بريدة.

ص: 115

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح فدعا بلالًا رضي الله عنه، قال: يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، قال: يا رسول الله، ما أذنت قط إلا صلّيت ركعتين، وما أصابني حدث قط إلا توضأت عنده، ورأيت أن لله علي صلاة ركعتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بهما»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن الذي يريد الوصول إليه من هذا الأثر هو أن الأصل في العبادات عدم التوقيف على الإطلاق، وهذا مخالف للأدلة والآثار والإجماع - كما تقدم -، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.

الوجه الثاني: ليس في هذا الحديث أن بلالًا أحدث هذا الفعل، وإنما فيه أن بلالًا فاز بهذه المنزلة لمواظبته على هذه العبادة، فيحتمل أن بلالًا عرف الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس آخر، وليس في الحديث ما يدل على أنه أحدثه،

لاسيما وقد أخرج الشيخان

(2)

عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ وضوئي هذا، ثم يصلي ركعتين لا يحدِّث نفسه فيهما بشيء، إلا غفر له ما تقدم من ذنبه» .

فبطل الاستدلال بفعل بلال رضي الله عنه على جواز إحداث عبادات، لاسيما والأدلة والآثار والإجماعات كلُّها على عدم جواز إحداث عبادات مطلقًا.

فإذن أقل ما يقال - تنزلًا -: إن فعل بلال محتمل للإحداث، ومحتمل أنه أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع آخر، وإذا توارد الاحتمال بطل الاستدلال،

(1)

(ص 126).

(2)

أخرجه البخاري رقم (159)، ومسلم رقم (226).

ص: 116

لاسيما وأن الاحتمال بأنه أحدثه معارِض للأدلة والآثار والإجماع، فتعين حمله على الاحتمال الثاني، وهو أنه أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع آخر.

الوجه الثالث: أن العلماء يتناقلون الحديث شرحًا وبيانًا، ولم يفهم أحد منهم أن هذا دليل على أن العبادات غير توقيفية؛ فهل يعقل أن يجهل العلماء دلالة الحديث على هذا؟ أم أنهم تركوا هذا الفهم لعلمهم أنه خطأ لا يلتفت إليه؟!، لاشك أنهم تركوه لعلمهم أنه فهم ساقط.

أليس هذا كافيًا في عدم صحة الاستدلال به.

رد استدلاله بصلاة خبيب قبل القتل

الشبهة الرابعة

قال: «صلاة خبيب بن عدي ركعتين قبل قتله، فصار فعله سنة لكل مسلم، وكان أولَ من سن الركعتين عند القتل، وقد جاء في بعض الروايات: وكان خبيب هو سن لكل مسلم قُتل صبرًا الصلاة

(1)

. فهاتان الركعتان من السنن الحسنة التي سنها خبيب رضي الله عنه، فله أجرها وأجر من عمل بها، ولم يكن عنده نص توقيفي خاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأنهما، ولكن لما كانت الصلاة من أفضل الأعمال الصالحة أراد خبيب رضي الله عنه أن يختم حياته بها»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة من ثلاثة أوجه:

(1)

أخرجه البخاري رقم (3989).

(2)

(ص 126).

ص: 117

الوجه الأول: أن الذي يريد الوصول إليه من هذا الأثر هو أن الأصل في العبادات عدم التوقيف على الإطلاق، وهذا مخالف للأدلة والآثار والإجماع

- كما تقدم -، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.

الوجه الثاني: لا دليل على أن خبيب بن عدي يستحب الصلاة عند القتل، وليست صلاته عند القتل دليلًا على هذا، وإنما غاية ما في الأمر أنه فعل ما هو مشروعٌ على وجه الإطلاق، ومشروعٌ في الجملة، وهو الصلاة، لما أرادوا قتله أراد أن يختم حياته بعبادة مشروعة في الجملة.

فإن قيل: يحتمل أنه استحب الصلاة عند القتل لذاته.

فيقال - تنزلًا -: إن فعله محتمل لاستحباب الصلاة عند القتل لذاته، ومحتمل أنه صلى لأن الصلاة مشروعة على وجه العموم، والاحتمال الثاني متعين لقاعدة: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع.

فإن قيل: قال أبو هريرة: «وكان خبيب هو سنَّ لكل مسلم قُتل صبرًا الصلاة» ، فهذا يبين أنه فعله على وجه التقييد، وأنه جعل القتل صبرًا سببًا في ذاته للصلاة.

فيقال: لا تلازم، وذلك أنه قد يكون سببُ تشريع الشريعة استحباب الصلاة عند القتل؛ فعلَ خبيب للصلاة على وجه الإطلاق، ثم قيدته الشريعة عند هذا السبب وهو القتل صبرًا، وهذا ليس ممتنعًا شرعًا.

قال ابن الملقن: «قول أبي هريرة رضي الله عنه: (فكان خبيب هو سنَّ لكل مسلم قتل صبرًا الصلاة) فهو ظاهر في رفعه، مثل قوله: فصارت سنة، وقد سلف فعله عن غيره أيضًا، وكذا فعل زيد بن حارثة، قال السهيلي: هذا يدل أنها سنة جارية، وكذا فعل حجر بن عدي بن الأدبر حين قتله معاوية، وفيما يأتي سنة

ص: 118

حسنة، والسنة: إنما هي أقوال من الشارع أو أفعال أو تقرير؛ لأنه فعلها في حياته، فاستحسن ذلك من فعله واستحسنه المسلمون، مع أن الصلاة خير ما خُتم به عمل العبد»

(1)

.

الوجه الثالث: أن العلماء يتناقلون الحديث شرحًا وبيانًا، ولم يفهم أحد منهم أن هذا دليل على أن العبادات غير توقيفية؛ فهل يعقل أن يجهل العلماء دلالة الحديث على هذا؟، أم أنهم تركوا هذا الفهم لعلمهم أنه خطأ لا يلتفت إليه؟!، لاشك أنهم تركوه لعلمهم أنه فهم ساقط.

أليس هذا كافيًا في عدم صحة الاستدلال به؟!

رد استدلاله بتكرار قراءة سورة الإخلاص

الشبهة الخامسة

ذكر قصة الصحابي الذي كان يكرر قراءة سورة الإخلاص في ركعة

(2)

، ثم قال: والشاهد هنا هو تخصيص سورة الإخلاص بالقراءة في كل ركعة، وكان حب تلك السورة قد غلب على ذلك الصحابي، لما تحتويه من تعظيم لله عز وجل، فخصصها بالقراءة في كل ركعة، ولم يكن عنده نص توقيفي بمشروعيتها، ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن ناصر الدين ابن المنير رحمه الله: «في هذا الحديث أن المقاصد تغير أحكام الفعل، لأن الرجل لو قال: إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها، لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها، لكنه اعتل بحبها، فظهرت صحة قصده، فصوبه، قال: وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل

(1)

التوضيح لشرح الجامع الصحيح (21/ 66).

(2)

أخرجه البخاري رقم (7375)، ومسلم رقم (813).

ص: 119

النفس إليه والاستكثار منه، ولا يعد ذلك هجرانًا لغيره»

(1)

، ثم ذكر حديثًا والشاهد منه قريب من هذا، ثم قال:«فهذا الالتزام من هذا الصحابي ليس عليه نص توقيفي خاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه القصة تختلف عن سابقتها، فإمام قباء كان يبدأ بـ (قل هو الله أحد)، وأمير السرية كان يختم بها، وإمام قباء كان يفعل ذلك في كل ركعة، ولم يصرح بذلك في قصة أمير السرية، وإمام قباء سأله النبي صلى الله عليه وسلم، أما أمير السرية فقد أمر أصحابه أن يسألوه، وقال إمام قباء: إنه يحبها، وقال أمير السرية: إنها صفة الرحمن، وبشر النبي صلى الله عليه وسلم إمام قباء بالجنة، أما أمير السرية فقد بشره بأن الله يحبه»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة من أربعة أوجه:

الوجه الأول: أن الذي يريد الوصول إليه من هذين الحديثين هو أن الأصل في العبادات عدم التوقيف على الإطلاق، وهذا مخالف للأدلة والآثار والإجماع - كما تقدم -، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.

الوجه الثاني: لم أر في كلام العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم من قال باستحباب تقصد قراءة سورة الإخلاص كما يوهم فعل هذين الصحابيين، فدل هذا على عدم الاستحباب قطعًا؛ لأنه لا يصح لنا أن نخرج عن أقوال أهل العلم إلى أفهامنا، قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ] النساء: 115 [.

(1)

(ص 127).

(2)

(ص 128).

ص: 120

فهل يمكن أن يظفر الكاتب - غير المتخصص في العلوم الشريعة - بحقٍّ جهله العلماء قبله؟!

فبهذا يتبين أن الصحابيين لم يفعلاه على وجه التعبد، وإلا لقرر أهل العلم استحباب القراءة لذاتها، وعلى وجه التقيد، فلما لم يقرروا ذلك، فليس لنا أن نخرج عن أفهامهم إلى هذا الفهم المحدث، فبهذا يتبين أنه ليس للكاتب حجة في هذين الحديثين على دعواه.

وقد أشار لهذا ابن المنير فجعل الدافع ميل النفس لا أمرًا تعبديًّا، وقد تقدم أن الدافع إذا لم يكن تعبديًّا فلا يمنع، لاسيما وقول رسول الله:«إن الله يحبه» ليس صريحًا لأجل قراءة سورة الإخلاص، وإنما يحتمل أنه لمحبته صفة الرحمن، كما قاله ابن دقيق العيد والسفاريني، ويحتمله كلام ابن المنير - وسيأتي نقله -.

ودونك كلام أهل العلم المتوافق على عدم استحباب تقصد قراءة سورة الإخلاص في كل ركعة وصلاة؛ لذا وجهوا فعل الصحابيين بتوجيهات مختلفة تتفق على عدم استحباب تقصد قراءة سورة الإخلاص في كل ركعة وصلاة.

قال ابن بطال: «وأما تردد سورة واحدة فى الركعتين، ففي (الواضحة)، عن مالك: لا بأس به، وروى ابن القاسم عن مالك في (العتبية)، أنه سئل عن تكرير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] في النافلة، فكرهه وقال: هذا مما أحدثوا، ومعنى كراهته لتكريرها يريد في ركعة واحدة يكررها مرارًا، وفي حديث أنس حجة لمن أجاز تكريرها في الفريضة في كل ركعة؛ لقوله عليه السلام للذي كان يكررها: (حبك إياها أدخلك الجنة)، فدل ذلك على جواز فعله، ولو لم يجز لبين له ذلك؛ لأنه بعث معلمًا»

(1)

.

(1)

شرح صحيح البخاري (2/ 391).

ص: 121

قال ابن دقيق العيد: «قولها: (فيختم بقل هو الله أحد) يدل على أنه كان يقرأ بغيرها. والظاهر: أنه كان يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ] الإخلاص: 1 [مع غيرها في ركعة واحدة، ويختم بها في تلك الركعة، وإن كان اللفظ يحتمل أن يكون يختم بها في آخر ركعة يقرأ فيها السورة، وعلى الأول: يكون ذلك دليلًا على جواز الجمع بين السورتين في ركعة واحدة، إلا أن يزيد الفاتحة معها، وقوله صلى الله عليه وسلم:

«إنها صفة الرحمن» يحتمل أن يراد به: أن فيها ذكر صفة الرحمن، كما إذا ذكر وصف فعبر عن ذلك الذكر بأنه الوصف، وإن لم يكن ذلك الذكر نفس الوصف، ويحتمل أن يراد به غير ذلك، إلا أنه لا يختص ذلك بـ «قل هو الله أحد» ولعلها خصت بذلك لاختصاصها بصفات الرب تعالى دون غيرها، وقوله صلى الله عليه وسلم:«أخبروه أن الله تعالى يحبه» يحتمل أن يريد بمحبته: قراءة هذه السورة، ويحتمل أن يكون لما شهد به كلامه من محبته لذكر صفات الرب عز وجل، وصحة اعتقاده»

(1)

.

قال ابن رجب: «وقد دل حديث أنس وعائشة على جواز جمع سورتين مع الفاتحة في ركعة واحدة من صلاة الفرض؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن ذلك.

ويدل على أنه ليس هو الأفضل؛ لأن أصحابه استنكروا فعله، وإنما استنكروه لأنه مخالف لما عهدوه من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صلاتهم؛ ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟»

(2)

.

(1)

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (1/ 268).

(2)

ذكره البخاري باب الجمع بين السورتين في الركعة، معلقًا، وانظر: تغليق التعليق (2/ 310).

ص: 122

فدل على أن موافقتهم فيما أمروه به كان حسنًا، وإنما اغتفر ذلك لمحبته لهذه السورة»

(1)

.

قال ابن حجر: «قال ناصر الدين بن المنير في هذا الحديث: أن المقاصد تغير أحكام الفعل؛ لأن الرجل لو قال: إن الحامل له على إعادتها أنه لا يحفظ غيرها لأمكن أن يأمره بحفظ غيرها، لكنه اعتل بحبها، فظهرت صحة قصده، فصوبه، قال: وفيه دليل على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه، ولا يعد ذلك هجرانًا لغيره»

(2)

.

قال ابن علان: «لكونه إمامهم (فيختم بقل هو الله أحد) يدل على أنه يقرأ بغيرها، ففيه دليل جواز الجمع بين سورتين غير الفاتحة في ركعة واحدة»

(3)

.

قال السندي: «والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرره على ذلك، وبشره عليه بما بشره، فعلم به جواز الجمع بين السور المتعددة في ركعة»

(4)

.

قال السفاريني: «ويكون فيه دلالة على جمع السورتين في ركعة واحدة، ويحتمل أن يكون يختم بها في آخر ركعة، يقرأ فيها السورة (بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1])؛ أي: بسورة الإخلاص، وخصت بذلك لاختصاصهما بصفات الرب تبارك وتعالى دون غيرها.

(1)

فتح الباري (7/ 73).

(2)

المرجع السابق (2/ 258).

(3)

دليل الفالحين (3/ 265).

(4)

حاشية السندي على سنن النسائي (2/ 171).

ص: 123

(فأنا أحب أن أقرأ بها) في كل صلاتي؛ تلذذًا ومحبة لذكر صفاته تبارك وتعالى، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بما قال، (فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:

«أخبروه: أن اللَّه تعالى يحبه» )؛ لمحبته قراءة هذه السورة، أو لما شهد به كلامه؛ من محبته لذكر صفات الرب عز وجل، وصحة اعتقاده، وفي هذا دليل على: الرضا بفعله ذلك»

(1)

.

الوجه الثالث: بدلالة ما تقدم من عدم فهم أهل العلم أن قراءة سورة الإخلاص تستحب في كل ركعة أو صلاة، فإنه - تنزلًا - يكون الاستدلال بهذا الحديث من المتشابه، فلا يصح أن يرد المحكم وهو أن العبادات على التوقيف لهذا المتشابه.

الوجه الرابع: أن الحديث يدل على أن المتقرر عند الصحابة أن العبادات مبناها على التوقيف، وذلك أنهم ما قبلوا فعل الأنصاري والصحابي الآخر؛ لأنه مخالف لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون هذان الحديثان من الأدلة الكثيرة على أن الأصل في العبادات الحظر والتوقيف.

قال ابن رجب: «لأن أصحابه استنكروا فعله، وإنما استنكروه لأنه مخالف لما عهدوه من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صلاتهم؛ ولهذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟)»

(2)

.

ولأنه متقرر عند أهل العلم أن العبادات مبناها على التوقيف، تأول بعضهم فعل هذين الصحابيين بما لا يتعارض مع قاعدة التوقف والحظر في العبادات، بخلاف ما فعله الكاتب، قال ابن حجر: «وقال غيره: يحتمل أن يكون الصحابي

(1)

كشف اللثام شرح عمدة الأحكام (2/ 451).

(2)

فتح الباري (7/ 73).

ص: 124

المذكور قال ذلك مستندًا لشيء سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، إما بطريق النصوصية وإما بطريق الاستنباط»

(1)

.

رد استدلاله بتكرار قراءة سورة الإخلاص في حديث آخر

الشبهة السادسة

قال: «الخامس: «التزام أحد الصحابة رضي الله عنهم قراءة سورة الإخلاص في كل ركعة من قيامه في الليل، فقد سمع أبو سعيد الخدري رضي الله عنه رجلًا يقرأ

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وأنه يتقالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن»

(2)

. وزاد في رواية: أن رجلًا قام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ من السحر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا يزيد عليها»

(3)

.

وكشف هذه الشبهة من أوجه ثلاثة:

الوجه الأول: ليس في هذا الحديث أن الصحابي يتقصد تكرار قراءة سورة الإخلاص لأنها مستحبة لذاتها، بل لأنه خشع عند قراءتها وتدبرها، فصار يكررها تدبرًا وخشوعًا، فلا مانع أن يكرر أحد آية أو سورة تدبرًا وخشوعًا، وليس هذا ابتداعًا؛ لأنه داخل في جملة التعبد بعموم القراءة والتدبر، وتقدم أن هناك فرقًا بين التعبد بالإطلاق وفي الجملة، وبين التقييد والتخصيص، فإن من

(1)

فتح الباري (13/ 356).

(2)

أخرجه البخاري رقم (5013).

(3)

(ص 128).

ص: 125

كررها لذاتها تعبدًا وقع في التعبد بالعبادة المقيدة، وهو المنهي عنه شرعًا، فلما كان فعل الصحابي محتملًا، فإنه يحمل على الاحتمال الذي لا يتعارض مع الشرع، وهو أن العبادات قائمة على التوقف والحظر.

الوجه الثاني: أن العلماء يتناقلون الحديث شرحًا وبيانًا، ولم يفهم أحد منهم أن هذا دليل على أن العبادات غير توقيفية؛ فهل يعقل أن يجهل العلماء دلالة الحديث على هذا، أم أنهم تركوا هذا الفهم لعلمهم أنه خطأ لا يلتفت إليه، لاشك أنهم تركوه لعمهم أنه فهم ساقط.

وهذا كاف في عدم صحة الاستدلال به.

الوجه الثالث: أن الأدلة والآثار والإجماع واضحة في أن العبادات على التوقيف والحظر مطلقًا، فلا يترك هذ الأصل لهذه الأدلة المحتملة، فإن المحتمل يرد إلى المحكم المجمع عليه.

رد استدلاله بمناجاة الصحابي باسم الله الأعظم

الشبهة السابعة

قال: «السادس: مناجاة رجل من الصحابة ربه عز وجل بدعاء لم يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم في حلقةٍ، ورجل قائم يصلي، فلما ركع وسجد تشهد ودعا، فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت بديع السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد دعا باسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»

(1)

(1)

أخرجه أحمد (19/ 238).

ص: 126

فهذه صيغة دعاء لم يسمعها ذلك الرجل من رسول الله، والمهم في الدعاء أمران: أولها: سلامة لفظه من الخطأ الشرعي، وثانيها: صحة قصد القلب إلى الله عز وجل، ولا يشترط فيه أن يكون بصيغة توقيفية، مع اعتقادي بأن كلام خير الناس هو خير كلام الناس»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة من أوجه ثلاثة:

الوجه الأول: أنه ليس في هذا الحديث أن الصحابي كان متقصدًا هذا اللفظ من الدعاء على وجه الدوام، فهو إذن من العبادات والأدعية المطلقة، والقول بأنه يتقصده لذاته في كل صلاة يلزم عليه الإثبات، ففرق بين الدعاء بلا تقصد لذاته، الذي يداخل في جملة الدعاء الذي أمرنا به، وبين تقصد دعاء معينٍ لذاته، فلما كان فعله محتملًا لم يصح حمله على الاحتمال الذي يعارض الأدلة والآثار والإجماع.

الوجه الثاني: أن العلماء يتناقلون الحديث شرحًا وبيانًا، ولم يفهم أحد منهم أن هذا دليل على أن العبادات غير توقيفية؛ فهل يعقل أن يجهل العلماء دلالة الحديث على هذا؟، أم أنهم تركوا هذا الفهم لعلمهم أنه خطأ لا يلتفت إليه؟، لاشك أنهم تركوه لعلمهم أنه فهم ساقط.

وهذا كاف في عدم صحة الاستدلال به.

الوجه الثالث: أن الأدلة والآثار والإجماع واضحة في أن العبادات على التوقيف والحظر، فلا تترك لهذه الأدلة المحتملة، فإن المحتمل يرد إلى المحكم المجمع عليه.

(1)

(ص 129).

ص: 127

رد استدلاله بزيادة الصحابي «حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه»

الشبهة الثامنة

قال الكاتب: «السابع زيادة رجل من الصحابة رضي الله عنهم ذكرًا بعد رفعه من الركوع خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذكر هو «ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه» ، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من المتكلم آنفًا؟ قال الرجل: أنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت بضعًا وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها»

(1)

فهذا ذكر زاده صحابي في الصلاة بدون سنة توقيفية من عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لما كان ذكرًا يسيرًا يناسب واقعة الحال من حمد الله عز وجل على إدراك الركعة أقره صلى الله عليه وسلم عليه»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة من أوجه أربعة:

الوجه الأول: أنه ليس في هذا الحديث أن الصحابي كان متقصدًا هذا اللفظ من الدعاء لذاته، فهو إذن من العبادات والأدعية المطلقة، والقول بأنه يتقصده لذاته في كل صلاة يلزم عليه الإثبات، ففرق بين الدعاء بلا تقصد لذاته، الذي يداخل في جملة الدعاء الذي أمرنا به، وبين أن يتقصد دعاء معينًا لذاته، فلما كان فعله محتملًا لم يصح حمله على الاحتمال الذي يعارض الأدلة والآثار والإجماع.

الوجه الثاني: أن العلماء يتناقلون الحديث شرحًا وبيانًا، ولم يفهم أحد منهم أن هذا دليل على أن العبادات غير توقيفية؛ فهل يعقل أن يجهل العلماء دلالة

(1)

أخرجه البخاري رقم (799)، ومسلم رقم (600).

(2)

(ص 129).

ص: 128

الحديث على هذا؟ أم أنهم تركوا هذا الفهم لعلمهم أنه خطأ لا يلتفت إليه؟! لاشك أنهم تركوه لعلمهم أنه فهم ساقط.

وهذا كاف في عدم صحة الاستدلال به.

الوجه الثالث: أن الأدلة والآثار والإجماع واضحة في أن العبادات على التوقيف والحظر، فلا تترك لهذه الأدلة المحتملة، فإن المحتمل يرد إلى المحكم المجمع عليه.

الوجه الرابع: أنه بمراجعة أقوال أهل العلم فإن القول باستحباب هذا الذكر بعد الرفع من الركوع ليس مشهورًا عند العلماء، بل منهم من أبطل الصلاة به، ومنهم من رآه من السهو الذي ينجبر بسجود.

قال التنوخي: «في كتاب مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا رفع رأسه من الركوع يقول: (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، وما وقع لمالك من كراهية أن يقول المصلي: (حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه)، فإنما كرهه لئلا يعتقد أنه من فروض الصلاة أو من فضائلها، وما ورد لابن شعبان من أن قائل ذلك تبطل صلاته لا معنى له، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الثناء، على قائل ذلك»

(1)

.

قال زروق: «قال ابن رشد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا رفع رأسه من الركوع (سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه

) الحديث، وكره مالك ذلك لئلا يعتقد أنه من فرائض الصلاة أو

(1)

التنبيه على مبادئ التوجيه - قسم العبادات (1/ 413).

ص: 129

من فضائلها، وقال ابن شعبان تبطل صلاة قائله، قال: وقول ابن شعبان تبطل صلاة قائله لا معنى له لثبوته والله أعلم»

(1)

.

قال ابن قدامة: «النوع الثاني، أن يأتي فيها بذكر أو دعاء لم يرد الشرع به فيها، كقوله: (آمين رب العالمين) وقوله في التكبير: (الله أكبر كبيرًا) ونحو ذلك، فهذا لا يشرع له السجود؛ لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلًا يقول في الصلاة: (الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، فلم يأمره بالسجود)»

(2)

.

وأول من رأيته ذكر استحباب هذا الذكر بعد الرفع من الركوع النووي، واستغرب هذا طائفة ممن جاء بعده من الشافعية، وبين بعضهم أنه خالف جمهور الشافعية.

قال النووي: «ثبت عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه قال: (كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجل وراءه: ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا، قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول) رواه البخاري فيستحب أن يجمع بين هذه الأذكار، فيقول في ارتفاعه: سمع الله لمن حمده، فإذا انتصب قال: اللهم ربنا لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السموات، وملء الأرض

إلى قوله: منك الجد»

(3)

.

(1)

شرح زروق على متن الرسالة (1/ 226).

(2)

المغني (2/ 24).

(3)

المجموع شرح المهذب (3/ 420).

ص: 130

قال أبو البقاء الدميري: «زاد المصنف في (التحقيق): (حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه)، ولم يذكره الجمهور وهو في (البخاري) من رواية بن رافع، وفيه: (أنه ابتدر ذلك بضعة وثلاثون ملكًا يكتبونه)، وذلك أن عدد حروفها بضعة وثلاثون حرفًا»

(1)

.

قال زكريا الأنصاري: «وفي المجموع عن الأصحاب إذا لم يرضوا اقتصر على ربنا لك الحمد، وفي التحقيق مثل ما في الأصل، وزاد عليه: حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، عقب: لك الحمد؛ وهو غريب»

(2)

.

قال الشربيني: «وزاد في التحقيق بعده: حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ولم يذكره الجمهور، وهو في البخاري من رواية رفاعة بن رافع وفيه أنه (ابتدر ذلك بضعة وثلاثون ملكًا يكتبونه)»

(3)

.

وكأن ابن رجب ذهب إلى ما قال النووي فقال: «قد دل الحديث على فضل هذا الذكر في الصلاة، وأن المأموم يشرع له الزيادة على التحميد بالثناء على الله عز وجل، كما هو قول الشافعي وأحمد - في رواية -، وأن مثل هذا الذكر حسنٌ في الاعتدال من الركوع في الصلوات»

(4)

.

وما عزاه للشافعي وأحمد فإنه ليس في استحباب هذا الذكر بعد الرفع من الركوع، وإنما في أن الزيادة على الوارد جائز كما يفهم بالرجوع لما يقرره أصحابهما.

(1)

النجم الوهاج في شرح المنهاج (2/ 138).

(2)

أسنى المطالب في شرح روض الطالب (1/ 158).

(3)

مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (1/ 367).

(4)

فتح الباري (7/ 202).

ص: 131

وعلى كلٍّ ذكرت هذا الوجه وإن كان دقيقًا يقصر عنه فهم الكاتب؛ لأنه غير متخصص في العلوم الشرعية، لكن لابد من ذكره ليعرف وليُحرص على فهم العلم على فهم العلماء، لئلا يُخرج عن سبيلهم.

رد استدلاله بتغيير معاذ صفة صلاة المسبوق

الشبهة التاسعة

قال الكاتب: «الثامن سنة معاذ بن جبل رضي الله عنه في المسبوق، فقد كان الرجل من الصحابة رضي الله عنهم إذا جاء إلى الصلاة مسبوقًا يسأل، فيخبر بما سبق من صلاته، فيصلي ما فاته ثم يلحق الجماعة، فيكونون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين قائم وراكع وقاعد، حتى جاء معاذ رضي الله عنه فقال: لا أراه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم على حال إلا كنت عليها، فقال رسول الله: إن معاذًا قد سن لكم سنة، كذلك فافعلوا

(1)

، فهذه بادرة خير من معاذ ابتدأها اجتهادًا من تلقاء نفسه، وليس عنده في ذلك سنة توقيفية، فصارت سنة المسبوقين إلى يوم الدين»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أنه ليس في الحديث إحداث وابتداع، وإنما اجتهاد، والمجتهد إذا كان أهلًا للاجتهاد فهو ما بين مصيب أو مخطئ، إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، وفرق بين الاجتهاد والإحداث، وذلك أن المجتهد مقر بأنه لا عبادة إلا بدليل، لذا هو يسعى لمعرفة هذا الدليل، وهذا بخلاف من لا

(1)

أخرجه أبو داود رقم (506)، وأحمد (36/ 436).

(2)

(ص 130).

ص: 132

يرى أن العبادات توقيفية، فهو لا يحتاج لاجتهاد، بل إن اجتهاد الصحابي من الأدلة على أن العبادات توقيفية، وذلك لأنه لما تقرر عند الصحابة ومن بعدهم أنها توقيفية اجتهدوا لمعرفة مراد الله بالنظر في الأدلة الأخرى، لتكون العبادة قائمة على دليل صحيح.

الوجه الثاني: أن العلماء يتناقلون الحديث شرحًا وبيانًا، ولم يفهم أحد منهم أن هذا دليل على أن العبادات غير توقيفية؛ فهل يعقل أن يجهل العلماء دلالة الحديث على هذا؟، أم أنهم تركوا هذا الفهم لعلمهم أنه خطأ لا يلتفت إليه؟!، لاشك أنهم تركوه لعلمهم أنه فهم ساقط.

وهذا كاف في عدم صحة الاستدلال به.

الوجه الثالث: أن الأدلة والآثار والإجماع واضحة في أن العبادات على التوقيف والحظر، فلا تترك لهذه الأدلة المحتملة، فإن المحتمل يرد إلى المحكم المجمع عليه.

رد استدلاله بأن الإحداث في الرقية يدل على الإحداث في العبادة

الشبهة العاشرة

قال الكاتب: «التاسع: رقية أبي سعيد الخدري رجلًا لدغته عقرب، وكان الرجل سيد قومه، وقد أبى أولئك القوم أن يضيفوا أبا سعيد ورهطه رضي الله عنهم، فرقاه بفاتحة الكتاب

(1)

، وجاء في رواية أنه قرأها ثلاثًا وفي رواية سبعًا، ولم يحدد العدد في روايات أخرى، وكان الباعث لرقية أبي سعيد اجتهادًا من عنده، وليس

(1)

أخرجه البخاري رقم (5007)، مسلم رقم (2201).

ص: 133

توقيفيًّا من الرسول، فقد جاء في رواية: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: وما يدريك أنها رقية؟ قلت يا رسول الله ما دريت أنها رقية، ولكن شيء ألقى الله في نفسي، وفي رواية: ألقي في روعي، كما أن عدد مرات القراءة كان اجتهادًا من أبي سعيد رضي الله عنه، ولم يكن عنده منه توقيف»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن الرقية ليست من العبادات التي مبناها على التوقيف، بل هي من التداوي الذي مبناه على التجربة، ويدل لذلك حديث عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك»

(2)

، فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابته رقاهم، مع أن فيهم من كان يرقي في الجاهلية برقى معروفة، ومع ذلك لم يمنع رقيته بشرط ألا تكون شركًا، فدل هذا على أن الرقية من باب التداوي لا العبادات.

قال الإمام ابن تيمية: «ومن هذا الباب إذا جعل للطبيب جعلًا على شفاء المريض جاز، كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي، فرقاه بعضهم حتى برئ، فأخذوا القطيع؛ فإن الجعل كان على الشفاء لا على القراءة»

(3)

.

(1)

(ص 130).

(2)

أخرجه مسلم رقم (2200).

(3)

مجموع الفتاوى (20/ 507).

ص: 134

قال ابن القيم: «ومن ذلك إذا جعل للطبيب جعلًا على الشفاء جاز، كما أخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القطيع من الشاء الذي جعله لهم سيد الحي، فرقاه أحدهم حتى برئ، والجعل كان على الشفاء لا على القراءة»

(1)

.

قال ابن عابدين: «لأن المتقدمين المانعين الاستئجار مطلقًا جوزوا الرقية بالأجرة ولو بالقرآن كما ذكره الطحاوي؛ لأنها ليست عبادة محضة بل من التداوي»

(2)

.

قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي: «والكفار الذين أعطوا الصحابة قطيعًا من الغنم، لم يعطوهم إياه حبًّا للقرآن أو حبًّا فيه، ولا حبًّا للقارئ، وللمسلمين وللإسلام، بل القرآن أبغض إليهم من كل شيء، والصحابة أبغض إليهم من كل شيء، ورسولهم أبغض إليهم من كل شيء، ومع ذلك دفعوا الأجر، فالأجر ليس للتلاوة وإنما هو العلاج، ولم يدفعوا الأجر إلا بعد الشفاء، لأنهم جعلوه على الشفاء لا على التلاوة»

(3)

.

الوجه الثاني: أن العلماء يتناقلون الحديث شرحًا وبيانًا، ولم يفهم أحد منهم أن هذا دليل على أن العبادات غير توقيفية؛ فهل يعقل أن يجهل العلماء دلالة الحديث على هذا؟، أم أنهم تركوا هذا الفهم لعلمهم أنه خطأ لا يلتفت إليه؟، لاشك أنهم تركوه لعلمهم أنه فهم ساقط.

وهذا كاف في عدم صحة الاستدلال به.

(1)

إعلام الموقعين (1/ 291).

(2)

حاشية ابن عابدين = رد المحتار (6/ 57).

(3)

فتاواه (1/ 243).

ص: 135

الوجه الثالث: أن الأدلة والآثار والإجماع واضحة في أن العبادات على التوقيف والحظر، فلا تترك لهذه الأدلة المحتملة، فإن المحتمل يرد إلى المحكم المجمع عليه.

رد تكرار استدلاله بأن الإحداث في الرقية يدل على الإحداث في العبادة

الشبهة الحادية عشرة

قال الكاتب: «العاشر: وقد تكرر اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم في الرقية، فعن خارجة بن الصلت التميمي أن عمه مر بقوم وعندهم مجنون موثق في الحديد، فقال له بعضهم: أعندك شيء يداوى به هذا، فإن صاحبكم - يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بخير قال: فقرأت عليه الفاتحة ثلاثة أيام في كل يوم مرتين، فبرأ فأعطاه مائة شاة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: «كل فمن أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق»

(1)

، وزاد في رواية: وكلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل فكأنما أنشط من عقال، فقد اجتهد هذا الصحابي في عدد مرات القراءة وأيامها وطريقتها بدون توقيف، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن هذا تكرار للاستدلال بالرقية، وأنها غير توقيفية، وتقدم كشف هذه الشبهة في الشبهة السابقة وهو أن الرقية ليست من العبادات المبنية على الحظر بل من الطب والتداوي.

(1)

أخرجه أبو داود رقم (3896)، وأحمد (36/ 155).

(2)

(ص 130).

ص: 136

رد استدلاله بما زعم أن الصحابة أحدثوه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

الشبهة الثانية عشرة

عقد الكاتب فصلًا بعنوان: هدي الصحابة رضي الله عنهم في المحدثات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وكشف هذه الشبهة من وجهين:

الوجه الأول: أنه بهذا العنوان لهذا الفصل يقرر أن كل ما تعبد به الصحابي مما لم ينقل لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما أحدثه، وهذا خطأ بين، فإن هذا ليس لازمًا، بل قد يكون مما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم ينسبه إليه لما عرف من ورعه في النسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكون أخذ ممن أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم: «فيجوز أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم شِفاهًا، أو من صحابي آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به، فلم يرو كل منهم كل ما سمع، وأين ما سمعه الصديق رضي الله عنه والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى ما رووه؟ فلم يرو عنه صديق الأمة مائة حديث، وهو لم يغب عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من مشاهده، بل صحبه من حين بعث بل قبل البعث إلى أن توفي، وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسيرته، وكذلك أجلة الصحابة روايتهم قليلة جدًّا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم، وشاهدوه، ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافًا مضاعفة، فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين، وقد روى عنه الكثير، فقول القائل:

(1)

(ص 139).

ص: 137

«لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم لذكره» ؛ قول من لم يعرف سيرة القوم وأحوالهم، فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص، ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا، ولا يصرحون بالسماع، ولا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

ثم أيضًا إذا فعل أحدهم فعلًا، ولم ينكر عليه صحابي آخر فيعد إجماعًا على الصحيح.

الوجه الثاني: أنه إذا تعبد الصحابي بعبادة لم يأخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ممن أخذه منه، فإنه يحتمل - تنزلًا - أنه لا يرى العبادات توقيفية لذا أحدثها، ويحتمل أنه فعله اجتهادًا، والقول بالاجتهاد ينافي القول بالإحداث، ويتوافق مع القول بالتوقيف مطلقًا، وذلك أن معنى أنه اجتهد أي إنه نظر في الأدلة مجتهدًا لمعرفة مراد الله، وذلك لأن العبادة توقيفية لا تفعل إلا بدليل.

رد زعمه أن الصحابة بعد وفاة رسول الله لا يرون العبادات توقيفية مطلقًا

الشبهة الثالثة عشرة

قال الكاتب: «كذلك فقد ابتدأ الصحابة رضي الله عنهم عددًا من المحدثات بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أنهم لم يكونوا يعتقدون أن كل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام، بل لكل محدثة حكمها الذي ينسجم مع مقاصد الشريعة ونصوصها العامة وقواعدها الكلية، ولم يكونوا يقبلون - في الوقت نفسه - كل محدثة في الدين، بل كانوا ينكرون من المحدثات ما يعتقدون أنه من البدع السيئة التي

(1)

إعلام الموقعين (4/ 112).

ص: 138

تتصادم مع أصول الدين ونصوصه، فكانت طريقتهم البحث والقياس وإلحاق النظير بالنظير»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن قوله: «لم يكونوا يعتقدون أن كل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام» ؛ حمّال أوجه؛ فإن أراد من غير العبادات، فهذا لا يقوله الصحابة ولا غيرهم ممن وصفهم بالموسعين أو المضيقين: بل ولا وجود لمن هو كذلك منهم إلا في خيالات الكاتب، وما أبعده من خيال عن واقع أهل العلم.

وإن أراد من العبادات، فقد تقدم إجماع الصحابة ومن بعده أن العبادات مبناها على التوقيف والحظر - كما تقدم في المقدمة السابعة -، وتقدم أن كل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العبادات حرام التعبد به، على ما سبق تقريره بضوابطه في السنة التركية عند المقدمة الثامنة، لكن لتخليط الكاتب ظن أن من سماهم مضيقين ممن يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف مطلقًا، لا يجوزون شيئًا من العبادات مما حدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دلت عليه الأدلة وقواعد الشريعة كالمصالح المرسلة، كجمع القرآن في مصحف واحد، أو إحياء عمر صلاة التراويح جماعة، وقد تقدم تفصيل هذا، وأن هذا مما خلط فيه الكاتب كما في الرد الإجمالي.

(1)

(ص 139).

ص: 139

تكرار رد زعمه أن الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

لا يرون العبادات توقيفية مطلقًا

الشبهة الرابعة عشرة

قال: «كذلك فقد ابتدأ الصحابة رضي الله عنهم عددًا من المحدثات بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، مما يدل على أنهم لم يكونوا يعتقدون أن كل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام، بل لكل محدثة حكمها الذي ينسجم مع مقاصد الشريعة ونصوصها العامة وقواعدها الكلية، ولم يكونوا يقبلون - في الوقت نفسه - كل محدثة في الدين، بل كانوا ينكرون من المحدثات ما يعتقدون أنه من البدع السيئة التي تتصادم مع أصول الدين ونصوصه، فكانت طريقتهم البحث والقياس وإلحاق النظير بالنظير»

(1)

. ففي هذا زعمه أن الصحابة لا يرون العبادات توقيفية مطلقًا.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن الآثار التي ذكرها الكاتب لا تخرج عن أحوال:

الحال الأولى: عبادات فعلها الصحابي مما قد يكون أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخذها ممن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خارج مورد النزاع؛ لأنها راجعة للشرع.

وذلك مثل رفع الصوت بالتكبير في العيد وعشر ذي الحجة

(2)

وألفاظ قنوت عمر في النوازل

(3)

.

(1)

(ص 139).

(2)

(ص 140).

(3)

(ص 141).

ص: 140

الحال الثانية: أعمال راجعة إلى المصالح المرسلة، أي ما يجوز إحداثه من الوسائل بضابطه كما تقدم تقريره، وذلك مثل جمع أبي بكر وعمر القرآن

(1)

وقد تقدم الكلام عليها.

الحال الثالثة: آثار أسانيدها ضعيفة، ومثل هذا لا يحتج به، وذلك مثل إجابة عثمان مقيم الصلاة

(2)

عند قوله: «وقد قامت الصلاة» بقول: مرحبًا بالقائلين عدلًا ..

وهذا إسناده ضعيف

(3)

، ولو صح لكانت من الحال الأولى.

الحال الرابعة: عبادات فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركها لمانع ثم زال المانع، وذلك مثل جمع عمر الناس على إمام واحد في قيام رمضان (1) وقد تقدم الكلام عليه.

الحال الخامسة: ما لا علاقة له بالبدعة لأنه لا علاقة له بالعبادة، وذلك مثل تخصيص عبد الله بن مسعود يوم الخميس للوعظ فهو يحتمل أنه لمزية في الخميس، ويحتمل أنه لسبب آخر كتفرغ أو غير ذلك، قال ابن حجر:«واحتمل عمل بن مسعود مع استدلاله أن يكون اقتدى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في اليوم الذي عينه، واحتمل أن يكون اقتدى بمجرد التخلل بين العمل والترك الذي عبر عنه بالتخول والثاني أظهر»

(4)

.

(1)

(ص 140).

(2)

(ص 143).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 206) من طريق قتادة عن عثمان ولم يسمع منه كما في جامع التحصيل (ص 255).

(4)

فتح الباري (1/ 163).

ص: 141

وعلى الاحتمال الأول يكون هذا المثال للحال الأولى، وعلى الاحتمال الثاني يكون لهذه الحال، وهذا ظاهر صنيع البخاري لأنه وضعه تحت باب (من جعل لأهل العلم أيامًا معلومة).

الحال السادسة: عبادات جاء بها الشرع بألفاظ عامة ومجملة، وذلك مثل فعل أبي ذر

(1)

، فقد أكثر الصلاة لأن الشريعة جاءت بكثرة الصلاة والسجود بأدلة عامة ومجملة، وهو فعلها على وجه العموم، ولم يخصصها.

رد إلزامه بأن الترك يقتضي التحريم

الشبهة الخامسة عشرة

قال الكاتب: «فنجد أن المضيقين لمعنى البدعة يحتجون دائمًا على بدعية أي محدثة بأن المحدثة - قيد البحث - لم يفعلها السلف الصالح، ولو كانت خيرًا لسبقونا إليه، فلما تركوها ولم يفعلوها - مع قيام مقتضاها وانتفاء موانعها - دل ذلك على حرمتها، أي إنهم يحتجون لتحريم المحدثات بترك النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم لها، ومن ثم فهم يعتقدون أن الترك يقتضي التحريم»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن هذا جهل أو بغي، فقد جعل ترك النبي صلى الله عليه وسلم للعبادة مع وجود المقتضي وانتفاء المانع كالقول بأن (الترك يقتضي التحريم)، وهما لا يستويان؛ لأن قوله:«الترك يقتضي التحريم» ، عام للترك الديني والدنيوي، ولما تتوافر الدواعي لنقله، وما لا تتوافر لنقله، ولما يوجد له مانع، وما لا يوجد له مانع.

(1)

(ص 144).

(2)

(ص 109).

ص: 142

رد عدم احتجاجه بالسنة التركية

الشبهة السادسة عشرة

قال الكاتب: «وتكاد تكون هذه القاعدة من المسلمات عندهم، فما إن يروا أمرًا جديدًا - له ارتباط بالدين - إلا ويسارعون إلى الحكم بتحريمه؛ لأن النبي لم يفعله، ومن ثم فإنه بدعة ضلالة»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

لاشك أن هذه القاعدة - وهي السنة التركية - من المسلمات، وقد تقدم تحريرها والتدليل عليها، ونقل كلام أهل العلم في تقريرها عند المقدمة الثامنة؛ وقاعدة السنة التركية فرع عن القاعدة المجمع عليها، وهي أن العبادات مبناها على التوقيف - وهي المقدمة السابعة -، وتقدم ذكرها والتدليل عليها.

فبهذا يعرف أنها من المسلمات عند جميع أهل السنة، وليست خاصة بمن وصفهم الكاتب بأنهم مضيقون.

رد زعمه أن أهل العلم لم يذكروا أن الترك يقتضي التحريم

الشبهة السابعة عشرة

قال الكاتب: «ولقد بحثت - كباحث يسعى إلى الحقيقة - في كتب الأصول كثيرًا للوقوف على هذه القاعدة، فلم أعثر لها على أثر، أي أنه لم ينص أحد من علماء أصول الفقه على أن الترك يقتضي التحريم» (1).

(1)

(ص 109).

ص: 143

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن البحث عن القاعدة بهذا اللفظ والمعنى لا يوجد؛ لأنه من خيالات الكاتب الذي ألصقه بمن سماهم مضيقين - وتقدم بيان خطئه -، أما لو بحث عنها بمعنى آخر وهو أن ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة لعبادةٍ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع؛ دليل على وجوب الترك، لوجده كثيرًا في كلام أهل العلم، وقد تقدم في المقدمة الثامنة نقل كلام أهل العلم عن حجية السنة التركية، وللشاطبي كلام قوي على دعواه هذه فقال: «ثم إطلاقه القول بأن الترك لا يوجب حكمًا في المتروك إلا جواز الترك، غير جار على أصول الشرع الثابتة، فلنقرر هنا أصلًا لهذه المسألة لعل الله ينفع به من أنصف من نفسه:

وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما، أو تركه لأمر ما على ضربين:

أحدهما: أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب يقرر لأجله، ولا وقع سبب تقريره؛ كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين - ثم قال -:

والضرب الثاني: أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص، أو يترك أمرًا ما من الأمور، وموجبه المقتضي له قائم، وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت، إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان في ذلك الوقت، فالسكوت في هذا الضرب كالنص على أن القصد الشرعي فيه أن لا يزاد فيه على ما كان من الحكم العام في أمثاله، ولا ينقص منه؛ لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العملي الخاص موجودًا، ثم لم يشرع، ولا نبه على استنباطه؛ كان صريحًا في أن الزائد على

ص: 144

ما ثبت هنالك بدعة زائدة، ومخالفة لقصد الشارع؛ إذ فُهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك، لا الزيادة عليه، ولا النقصان منه»

(1)

.

وتقدم نقل أقوال علماء من المذاهب الأربعة أن مثل هذا الترك حجة، ومخالفته بدعة، كما في المقدمة الثامنة.

رد تخليطه في مفهوم السنة التركية

الشبهة الثامنة عشرة

قال الكاتب: «ولا يلتبسن عليك - أخي الكريم - ما ذكرته سابقًا بالسنة التركية التي نصت عليها كتب الأصول، وملخصها أن ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ينبغي على أمته تركه اقتداءً به صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن تعريف السنة التركية أن يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا أو فعلًا بشرط قصد الترك، وإلا فكيف نصف تركه صلى الله عليه وسلم بأنه سنة إذا كان غير قاصد لذلك الترك، فإنْ تركَ صلى الله عليه وسلم الشيءَ قاصدًا فإنه يشرع لأمته تركه وجوبًا أو استحبابًا، أو إباحة أو كراهة، حسب القرائن المحتفة بتركه صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إنه خلّط في دليل السنة التركية فيما نحن بصدده، بأن جعلها عامة في كل تركٍ مقصود، وهذا خطأ وجهل، وإنما السنة التركية التي هي حجة، والتي مخالفتها سبب للوقوع في البدعة، هي الترك المقصود للعبادات مع وجود المقتضي وانتفاء الموانع، فهي ترك خاص للعبادات، لا ترك عام لكل شيء كما فهم الكاتب.

(1)

الاعتصام (2/ 281).

(2)

(ص 111).

ص: 145

رد تخليط آخر في مفهوم السنة التركية

الشبهة التاسعة عشرة

قال الكاتب: «أدلة على أن تركه صلى الله عليه وسلم لا يقتضي التحريم: وكذلك فقد ثبت عن رسول الله أنه ترك أمورًا لأسباب معينة عارضة، ونص على أن سبب تركه لها ليس حرمتها»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن هذا ليس من السنة التركية؛ لأنه ليس مما ترك قصدًا من العبادات مع وجود المقتضي وانتفاء المانع، بل هي إما غير عبادات، أو مما لم يوجد المقتضي أو وجد مانعه.

وجهله للسنة التركية وضابطها، أو تجاهله، من أعظم الأصول التي ضلّ فيها الكاتب، فبهذا ضل وأضل، وصال وجال، بغير علم ولا دراية.

رد تكرار رد تخليطه في مفهوم السنة التركية

الشبهة العشرون

قال الكاتب: «إن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يفهمون أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر ما، أو تركه له دليل على تحريمه، فقد استقر عندهم أن ما سكت عنه رسول الله فهو حلال وعفو»

(2)

.

(1)

(ص 114).

(2)

(ص 117).

ص: 146

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن هذا يؤكد تخليطه في مفهوم السنة التركية، وذلك أن ما ذكره صحيح ولا شك فيه، لكنه ليس مرادًا فيما نحن بصدده مما يتعلق بالبدعة، وفيما يسمى بالسنة التركية عند الكلام على البدع، وذلك أن السنة التركية: هي تعمدُ وتقصدُ تركِ عبادةٍ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع، ومثل هذا كان يبدع به الصحابة، خلاف ما ظنه الكاتب، فقد أنكر ابن مسعود على الذين يذكرون الله حلقًا مستدلًا بالسنة التركية، فقال:«ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة»

(1)

، وأنكر ابن عمر على الذي عطس وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر:

«وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله، ولكن ليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علَّمنا إذا عطس أحدنا أن يقول: «الحمد لله على كل حال» (1) مستدلًّا بالسنة التركية.

لا يصح القياس مع معارضة السنة التركية

الشبهة الحادية والعشرون

نقل عن أكثر الفقهاء صحة القياس في العبادات التي يعقل معناها على الإطلاق بدون نظر لمعارضته للسنة التركية، فقال: «أما جزئيات وفرعيات العبادات التي يعقل معناها، بحيث يمكن الاجتهاد في دلالات علتها، فهي محل الخلاف بين

(1)

سبق تخريجه.

ص: 147

العلماء في جواز إجراء القياس فيها دون الحاجة إلى توقيف صريح، بمعنى أنهم اختلفوا في قياس جزئية عبادة غير معلوم حكمها على أخرى - معقولة المعنى - معلوم حكمها، فأكثر الفقهاء والأصوليين يرون جواز القياس في هذه الحالة»

(1)

.

وقال: «وخلاصة قضية التوقيف في العبادات والقياس عليها؛ أن جزئيات العبادات التي لا يعقل معناها، والتي يظهر فيها معنى التعبد بجلاء، لا يصح القياس عليها، أما الجزئيات التي يمكن تعقل معانيها فإن القياس عليها محل خلاف بين العلماء، وأكثرهم على جوازه»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن هذا الذي قرره حق، لكنه غفل أو تغافل عن ضابط مهم، وهو أن القياس في العبادات إذا عورض بالسنة التركية فإنه يكون قياسًا فاسدًا، وينتج من هذا القياس البدعة، كما تقدم تقرير هذا في المقدمة العاشرة.

نقد تعريفه المختار للبدعة

الشبهة الثانية والعشرون

قال الكاتب: فإن التعريف الذي أرتضيه للبدعة المذمومة هو (محدثة دينية تتصادم مع نصوص الشرع أو مقاصده أو قواعده) فخرج بلفظ (محدثة) ما كان معمولًا به في الصدر الأول، وخرج بلفظ (دينية) ما كان من عادات الناس وأعرافهم وما شابهها، وخرج بلفظ (تتصادم) ما يمكن إلحاقه بالمشروع عن

(1)

(ص 154).

(2)

(ص 157).

ص: 148

طريق الاجتهاد والقياس، ونظرًا لأن المشروع يؤخذ من نصوص الشرع ومقاصده وقواعده، فلابد في المحدثة الجائزة أن لا تتصادم معها»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن هذا التعريف فيه إجمالات وإشكالات، وتناقضات، مع ما قرره.

أولًا: قال: «تتصادم مع نصوص الشريعة» ثم بين بقوله: «ما يمكن إلحاقه بالمشروع عن طريق الاجتهاد والقياس» هذا يفيد أن البدعة يشترط أن تكون مستندة لأحد الأدلة الشرعية المعتبرة، لا أنها تكون بالهوى، فبهذا يعرف أنها توقيفية مطلقًا، وهذا يناقض ما ذكره من أنه لا يشترط أن تكون توقيفية مطلقًا.

ثانيًا: قال مبينًا معنى «تتصادم مع نصوص الشريعة» : «ونظرًا لأن المشروع يؤخذ من نصوص الشرع ومقاصده وقواعده، فلابد في المحدثة الجائزة أن لا تتصادم معها» .

اشتراط عدم التصادم مع نصوص الشرع إنما يقال فيما أصله الإباحة، أما ما أصله الحظر والمنع فأول ما يشترط له وجود الدليل الذي يدل عليه، وإلا بقي على المنع والحظر، فضابطه هذا يشير إلى أنه لا يراها توقيفية، وكأنه يذكر ضابطًا لأمر مباح في نفسه، لا لأمر الأصل فيه المنع.

والمباح لا يتعبد به لذاته، بل التعبد به لذاته بدعة محرمة - كما تقدم في المقدمة الرابعة -.

(1)

(ص 417).

ص: 149

ثالثًا: من وقف على اضطرابه وتداخل الأمور عليه، كما في كشف شبهاته الإجمالية ثم التفصيلية؛ أدرك أن عدم ضبطه للبدعة ليس غريبًا، وقد كان رمى علماء الأمة كلها بأنها لم تضبط البدعة، حتى جاء هو بتعريفها، فصدق عليه قول القائل:«رمتني بدائها وانسلت» ، وقول الشاعر:

وكم من عائبٍ قولًا سليمًا

وآفتُه من الفهمِ السَّقيمِ

ومعرفة الخلل في تعريفه للبدعة يفسر سبب عدم تعريفه لها عند تأليفه لكتابه (مفهوم البدعة)، مع أن معرفة ضابط البدعة مقصود قصدًا أساسيًّا في كتابه هذا، وإنه لم يعرفها إلا في ملحق الكتاب لما طلبه منه أحد المقدمين لكتابه.

رد زعمه أن في البدعة ما هو مكروه

الشبهة الثالثة والعشرون

قال الكاتب: «البدعة المذمومة - بمعناها الشرعي - محدثة دينية تتعارض مع نصوص الشريعة ومقاصدها، وحكمها الكراهة أو الحرمة»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن القول بأن في البدع الشرعية ما هو مكروه مخالفٌ للنصوص الشرعية ولإجماع السلف - كما تقدم -.

(1)

(ص 379).

ص: 150

رد منازعته في أن كل بدعة ضلالة

الشبهة الرابعة والعشرون

قال الكاتب: «لقد كان السائد عند بعض العلماء المضيقين لمعنى البدعة - وهم الذين يجعلون قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة»

(1)

- عامًّا لا يقبل التخصيص بأي حال من الأحوال»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن القول بأن كل بدعة شرعية ضلالة عليه إجماع السلف، ومن خالف من بعض المتأخرين فهم محجوجون بالأدلة وأقوال الصحابة، والإجماع كما تقدم في المقدمة السادسة.

لا يلزم من وصف فعل بأنه بدعة أن يكون الفاعل مبتدعًا

الشبهة الخامسة والعشرون

قال الكاتب: «والخلاف بين الفريقين خلاف حقيقي، وقد أدى الاختلاف بينهما إلى قيام الفريق الثاني المضيق لمعنى البدعة بوصف كثير من المحدثات ذات الصبغة الدينية بالبدعة، ووصف فاعليها بالابتداع»

(3)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

(1)

سبق تخريجه.

(2)

(ص 26).

(3)

(ص 105).

ص: 151

إن أهل العلم إذا قالوا: إن هذا الفعل بدعة، فإنه لا يلزم منه تبديع فاعلها، ففرق بين الحكم على النوع والعين، فليس كل من وقع في بدعة صار مبتدعًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية أنه:«ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق، ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورًا، أو فعل محظورًا، وهذا هو قول الفقهاء والأئمة، وهو القول المعروف عن سلف الأمة وقول جمهور المسلمين»

(1)

.

وقال: «فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلًا، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله؛ فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد؛ بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطنًا وظاهرًا، الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله؛ فهذا مغفور له خطؤه، كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}] البقرة: 285 [إلى قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}] البقرة: 286 [، وقد ثبت في صحيح مسلم: «أن الله قال: قد فعلت»

(2)

وكذلك ثبت فيه من حديث ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ بحرف من هاتين الآيتين ومن سورة الفاتحة إلا أُعطي ذلك»

(3)

، فهذا يبين استجابة هذا الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأن الله لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطئوا»

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوى (19/ 213).

(2)

رقم (126).

(3)

صحيح مسلم رقم (806).

(4)

مجموع الفتاوى (3/ 317).

ص: 152

قال العلامة الألباني: «إذا عرفت ذلك فلا يتوهمن أحد أننا حين اخترنا الاقتصار على السنة في عدد ركعات التراويح، وعدم جواز الزيادة عليها؛ أننا نضلل أو نبدع من لا يرى ذلك من العلماء السابقين واللاحقين، كما قد ظن ذلك بعض الناس، واتخذوه حجة للطعن علينا، توهمًا منهم أنه يلزم من قولنا: بأن الأمر الفلاني لا يجوز، أو أنه بدعة، أن كل من قال بجوازه واستحبابه فهو ضال مبتدع، كلا، فإنه وهم باطل وجهل بالغ»

(1)

.

رد زعمه أن العلماء إذا اختلفوا في التبديع يلزمهم أن يبدع بعضهم بعضًا

الشبهة السادسة والعشرون

قال الكاتب: «فإن من أخذ بقول الشيخ محمد بن عثيمين والشيخ الألباني -رحمهما الله- والشيخ صالح الفوزان حفظه الله ببدعية الجلوس للعزاء، وضرورة اجتنابه، لزمه تبديع الشيخ عبد العزيز ابن باز رحمه الله والشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله لتجويزهم إياه»

(2)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إنه لا يسلم بأن علماءنا إذا بدعوا فعلًا مختلفًا في التبديع به بدع بعضهم بعضًا، وهذا الزعم إما فرية للتنفير منهم، أو جهل، وواقع حالهم أنهم يخطِّئ بعضهم بعضًا في هذه المسائل كبقية المسائل الدينية الاجتهادية في غير البدع، ويبدعون الفعل الذي يرونه بدعة، ولا يلزم منه تبديع الفاعل، بل تقدم أنه لا

(1)

صلاة التراويح (ص: 41).

(2)

(ص 357).

ص: 153

يلزم التبديع لمن خالف فيما هو متفق على أنه بدعة؛ لأنه لا تلازم بين تبديع الفعل وتبديع الفاعل، بل إن في المسألة تفصيلًا ذكره أهل العلم، وقد تقدم الكلام على هذا.

رد حصره شدة السلف على البدع العقدية

الشبهة السابعة والعشرون

قال الكاتب: «

ونقلوا - متألمين - ما سمعوه من أحد خطباء الجمعة، المتبعين لمنهج تضييق معنى البدعة، حيث تهجم ذلك الخطيب على من يجتمعون في شهر ربيع الأول بمناسبة المولد النبوي؛ لمدارسة سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

فقلت لهم: وما الجديد؟ ألم تعتادوا سنويًّا على سماع كلام عنيف جارح من بعض هؤلاء الإخوة؟ ألم يقل أحدهم: «إن الذي يحتفل بالمولد النبوي أعظم أثمًا ممن يشرب الخمر ويسرق ويزني ويقتل»

(1)

.

وقال في الحاشية: «هذا الكلام يصدق على البدع الاعتقادية، كسب الصحابة رضي الله عنهم وتكفيرهم، وكتكفير الأئمة وصاحب الكبيرة، كإنكار القدر وكنفي الصفات وغيرها، فإن هذه البدع الاعتقادية أعظم خطرًا وأشد ضررًا على المسلمين من الكبائر، ولكنه لا يصدق على البدع العملية، خصوصًا إذا اختلف في حكمها العلماء الراسخون في العلم» .

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

(1)

(ص 27).

ص: 154

الوجه الأول: أن الأدلة الشرعية شددت في البدع جميعًا، ولم تفرق بين العقدي والعملي، كما في قوله:«كل بدعة ضلالة»

(1)

، وقوله:«وإياكم ومحدثات الأمور» (1)، وقوله:«من رغب عن سنتي فليس مني» (1) وهكذا ..

فلا فرق بين الأمور العقدية والعملية من جهة أصل الابتداع، وإن كانت البدع ليست على درجة واحدة، بل هي دركات وكلها محرمة وكبيرة، لكن بعضها أعظم دركة من الأخرى - كما تقدم في كلام الشاطبي -.

الوجه الثاني: أن من أسباب ضلال كل البدع - حتى العملية - أنه يلزم عليها لوازم عقدية شنيعة من أن الله لم يكمل الدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ الرسالة - كما تقدم - وهذا شامل لكل البدع.

الوجه الثالث: أنه لا دليل ولا أثارة من علم على هذه الدعوى.

والدعاوى إذا لم يقيموا عليها بيناتٍ؛ أصحابُها أدعياء.

فإذا كان كذلك فلا يلتفت إليها.

الوجه الرابع: أن السلف من الصحابة ومن بعدهم شددوا حتى في البدع العملية، كإنكار ابن مسعود على الذين اجتمعوا حلقًا، وشدَّد عليهم، وذكر لازم فعلهم.

وكشدة إنكار عمارة بن رؤيبة على بشر بن مروان مع أنه والٍ، أخرج مسلم

(2)

عن عمارة بن رؤيبة، قال: رأى بشر بن مروان على المنبر رافعًا يديه،

(1)

سبق تخريجه.

(2)

رقم (874).

ص: 155

فقال: «قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة» .

وأخرج ابن أبي شيبة

(1)

عن المعرور بن سويد قال: كنت مع عمر بين مكة والمدينة، فصلى بنا الفجر فقرأ:(ألم تر كيف فعل ربك)، و (لإيلاف قريش)، ثم رأى أقوامًا ينزلون فيصلون في مسجد، فسأل عنهم فقالوا: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: «إنما هلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا، من مر بشيء من المساجد فحضرت الصلاة فليصلِّ، وإلا فليمضِ» .

وهذا تشديد من الفاروق في بدعة عملية بأن جعلها سببًا للهلاك.

وروى ابن وضاح

(2)

عن يونس بن عبيد قال: «كانوا يجتمعون، فأتاهم الحسن فقال له رجل: يا أبا سعيد، ما ترى في مجلسنا هذا؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطنعون على أحد، نجتمع في بيت هذا يومًا، وفي بيت هذا يومًا، فنقرأ كتاب الله، وندعو ربنا، ونصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين؟ قال: فنهى عن ذلك الحسن أشد النهي» .

الوجه الخامس: أن أقوال السلف من الصحابة السابقين ومن بعدهم متفقة على ذم البدع، وأنها أشدّ من المعاصي الشهوانية، ولم يفرقوا في ذلك بين العملية والعقدية، وهذا عموم منهم، وكذلك الإجماع الذي حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وما قرره الشاطبي فيما سبق أن البدع كلها كبائر، لأن كل البدع داخلة في

(1)

مصنف ابن أبي شيبة (2/ 151).

(2)

البدع (ص 42).

ص: 156

عموم قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ] الشورى: 21 [.

الوجه السادس: أن أهل العلم إذا قالوا: من فعل كذا من البدع فهو أشد إثمًا من شرب الخمر أو غيره، فهذا تأصيل عام، ولا يلزم منه الحكم على المعين أنه تلبس بهذا الإثم أو بوصف الابتداع، وفرق بين الحكم على النوع والعين، فليس كل من وقع في بدعة صار مبتدعًا - كما تقدم -.

رد زعمه أن الاختلاف في التبديع يقتضي عدم تحرير البدعة

الشبهة الثامنة والعشرون

ردد الكاتب أن اختلاف العلماء في تبديع بعض الأمور العملية دليل على أنه ليس للبدعة ضابط، فمما قال:«يرجع السبب في هذا الاختلاف المحتدم - من وجهة نظري - إلى عدم تحرير معنى البدعة في الدين بشكل واضح لا لَبْس فيه ولا غبار عليه. - ثم قال: - ولذلك فإنني أعتقد جازمًا أنه إذا تم تحرير معنى البدعة في الدين بصورة جلية واضحة، فإن كثيرًا من الاختلاف سوف يزول ويندثر»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن هذه النتيجة لا تقبل ممن هو مضطرب ومتناقض في معنى البدعة، وفي تصنيف موقف العلماء منها على تقسيماته واصطلاحاته التي من كيسه، ويتضح جليًّا بمطالعة الرد الإجمالي.

(1)

(ص 63).

ص: 157

الوجه الثاني: أنه لا يلزم من الاختلاف في تبديع بعض الأعمال أنه يكون السبب عدم تحرير معنى البدعة، بل لاختلاف الاجتهاد كبقية المسائل الاجتهادية، فقد يتفق عالمان على أن الأمر يقتضي الوجوب، ومع ذلك يختلفان في بعض الأوامر لاختلافهما في الصوارف، أو في اطلاعهم على الأدلة الأخرى وهكذا ..

قال العكبري: «أما تحقيق المناط فنوعان؛ أحدهما: لا نعرف في جوازه خلافًا؛ وهو أن تكون القاعدة الكلية في الأصل مجمعًا عليها، ويجتهد على تحقيقها في الفرع»

(1)

.

قال ابن قدامة: «أما تحقيق المناط، فنوعان: أولهما: لا نعرف في جوازه خلافًا.

ومعناه: أن تكون القاعدة الكلية متفقًا عليها، أو منصوصًا عليها، ويجتهد في تحقيقها في الفرع»

(2)

.

فكلام الأصوليين واضح أن تنزيل النصوص على الواقع محل اجتهاد واختلاف بين العلماء.

الوجه الثالث: أن الخلاف في تبديع بعض الأعمال ليس جديدًا، فقد اختلف العلماء الأولون أيضًا في تبديع بعض الأعمال، والأمثلة ليست قليلة، فقد بدع الإمام مالك قراءة الإدارة، وفي المقابل استحبها غيره

(3)

وهكذا

(4)

..

(1)

رسالة في أصول الفقه (ص: 81).

(2)

روضة الناظر (2/ 145).

(3)

ينظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 344)، جامع العلوم والحكم (2/ 302).

(4)

وقد أفرد الكاتب لهذا فصلًا (ص 159) وقد خلط في بعض الأمثلة لكن لأن الرد على بعض الأهم أعرضت عن مناقشة أمثلته.

ص: 158

رد زعمه أن الاختلاف في التبديع يقتضي عدم العداوة مطلقًا

الشبهة التاسعة والعشرون

ردد الكاتب أنه إذا ثبت الخلاف في تبديع بعض الأمور العملية، فإذن لا يصح العداء والشدة لأجل البدع العملية، فقال:«أما ثانيهما فهو أنني حاولت أن أبحث عن حجة قوية ناصعة تثبت أن قضية البدعة قضية خطيرة، وقد تختلف فيها أنظار العلماء، وأن الموقف منها هو احترام اجتهادات العلماء، ولا مانع من الترجيح لمن ملك أدواته العلمية، دون نكير على غيره»

(1)

.

وقال: «لقد كان السائد عند بعض العلماء المضيقين لمعنى البدعة - ثم قال: - أن الخلاف في البدعة يدور بين الحق والضلال، وأن القول بأن بعض المحدثات المستجدات يمكن أن تكون مشروعة؛ قول باطل»

(2)

.

وقال: «بل ندعو جميع ألوان الطيف المذهبي السني - في الأحساء وبلاد المسلمين كافة - إلى أن يحصروا خلافهم في الإطار النظري فقط، وأن لا يتعداه إلى أرض الواقع»

(3)

.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: تقدم أنه قرر أن العداوة إنما تكون في البدع العقدية، وسبق رد هذا.

(1)

(ص 24).

(2)

(ص 26).

(3)

حاشية (ص 30).

ص: 159

الوجه الثاني: تقدم أن وقوع الرجل في البدعة لا يلزم منه تبديعه على الإطلاق، وهذا ليس معناه أنه لا يبدع مطلقًا، بل يبدع بضوابط ذكرها أهل العلم، وليس هذا موضع ذكرها.

الوجه الثالث: أن الخلاف بين العلماء في تبديع بعض الأعمال موجود ولا ينكره عارف منصف، لكن لا يستفاد منه أن الإنكار والتشديد لا يكون على جميع البدع العملية الأخرى التي لم يختلف فيها العلماء، بل إن الخلاف في تبديع بعض الأمور العملية كالخلاف في بقية مسائل أهل العلم، فإذا كان الخلاف معتبرًا لم يشدد فيه، بخلاف ما إذا لم يكن معتبرًا، وقد بين العلماء الضابط في هذا، وذلك أن المسائل الشرعية الخلافية نوعان:

النوع الأول: لا ينكر ولا يعنف فيه على القائل، ولا يُلزم بتركه، أما القول نفسه فللمجتهد المخالف أن يبين ضعفه وكونه مرجوحًا، هذا النوع هو المسمى عند العلماء بالمسائل الاجتهادية، وهو كل قول لم يخالف إجماعًا أو سنة ظاهرة صريحة.

النوع الثاني: ينكر ويعنف فيه على القائل، ويلزمه من له ولاية بتركه، والقول نفسه يرد ويبدع، وهذا النوع هو المسمى عند العلماء بالمسائل الخلافية، وهو كل قول يخالف إجماعًا أو سنة ظاهرة صريحة، قال ابن مفلح:«وقال - أي ابن تيمية - في كتاب «بطلان التحليل» : قولهم: ومسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل، أما الأول فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعًا قديمًا وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر، بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد وهم عامة السلف

ص: 160

والفقهاء، وأما العمل إذا كان على خلاف سنة أو إجماع، وجب إنكاره أيضًا بحسب درجات الإنكار كما ذكرنا من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة، وإن كان قد اتبع بعض العلماء، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيه مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد، ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ - إذا عدم ذلك - الاجتهاد لتعارض الأدلة المقاربة، أو لخفاء الأدلة فيها»

(1)

.

قال أبو المظفر السمعاني: «فأما الضرب الذي لا يسوغ فيه الاختلاف، كأصول الديانات من التوحيد وصفات الباري عز اسمه، وهي تكون على وجه واحد، لا يجوز فيه الاختلاف، وكذلك فروع الديانات التي يعلم وجوبها بدليل مقطوع به، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج، وكذلك المناهي الثابتة بدليل مقطوع به، فلا يجوز اختلاف القول في شيء من ذلك، فأما الذي يسوغ فيه الاختلاف، وهي فروع الديانات إذا استخرجت أحكامها بأمارات الاجتهاد ومعاني الاستنباط، فاختلاف العلماء فيه مسوغ، ولكل واحد منهم أن يعمل فيه بما يؤدي إليه اجتهاده»

(2)

.

(1)

الآداب الشرعية (1/ 169)، وانظر كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل (ص 145).

(2)

قواطع الأدلة في أصول الفقه (2/ 326).

ص: 161

قال ابن القيم: «وهذا يرد قول من قال: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، وهذا خلاف إجماع الأئمة، ولا يعلم إمام من أئمة الإسلام قال ذلك

»

(1)

.

قال النووي: «ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه - ثم قال: - لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق»

(2)

.

فلا يصح الخلط بين المسائل بأن يسوى ما لا يسوغ التبديع به بما يسوغ التبديع به.

قول المضيقين في أن كل بدعة ضلالة، خلافًا للكاتب

الشبهة الثلاثون

قسم الكاتب الناس مع البدعة قسمين فقال: «الفريق الأول يرى أن كل محدثة في الدين لها حكم يناسبها - ثم قال: - وقد طردت وصفهم في هذا الكتاب بالموسعين لمعنى البدعة؛ لأن حكم البدعة عندهم تشمله الأحكام الخمسة.

الفريق الثاني يرى أن كل محدثة في الدين بدعة ضلالة، ومن أبرز أدلتهم على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»

(3)

، وقال: «أطلقت وصف المضيقين لمعنى البدعة على العلماء القائلين بأن للبدعة حكمًا واحدًا، وهو الحرمة، ويقابلهم

(1)

إعلام الموقعين (3/ 223).

(2)

شرح مسلم (2/ 23).

(3)

(ص 61).

ص: 162

الموسعون لمعنى البدعة، وهم الذين يرون أن البدعة منقسمة إلى الأحكام الخمسة: الوجوب والاستحباب والجواز والكراهة والحرمة، وهذان الوصفان لا يحملان مدحًا أو قدحًا، بل يصفان واقعًا»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن الأدلة والآثار والإجماع مرجحة للقول أن كل بدعة ضلالة، وكل بدعة محرمة - كما في المقدمة الخامسة والسادسة - وهذا فيه ترجيح لمذهب من وصفهم الكاتب بأنهم مضيقون في هذا من هذه الجهة.

وإن الكاتب لم يكتف بوصفهم بالمضيقين، بل اتبع المتشابهات ورد المحكمات؛ لتضعيف مذهب المضيقين وترجيح مذهب الموسعين، وأنى له هذا! .. والأدلة المحكمات متواترة على ترجيح مذهب من وصفهم بالمضيقين في أن كل بدعة ضلالة.

كشف اضطرابه في تصنيف العلماء لموسعين ومضيقين

الشبهة الحادية والثلاثون

جعل الكاتب المضيقين على اصطلاحه كل من قال بأن البدعة نوع واحد وهي ضلالة ومحرمة، فقال:«أطلقت وصف المضيقين لمعنى البدعة على العلماء القائلين بأن للبدعة حكمًا واحدًا، وهو الحرمة»

(2)

.

(1)

حاشية (ص 26).

(2)

(ص 26) في الحاشية.

ص: 163

ثم عدّ الموسعين الذين هم مقابل المضيقين فجعل منهم ابن كثير وابن رجب

(1)

، واضطرب في الشاطبي

(2)

، وشكك في الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب

(3)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن مما يدل على تناقضه خطأه في عدّ العلماء المضيقين والموسعين، فإنه على ضابطه لا يصح أن يدخل الشاطبي وابن كثير وابن رجب والإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في الموسعين؛ لأن هؤلاء يرون البدع كلها ضلالة

(4)

، ولا يستثنون إلا البدعة اللغوية - كما نقله هو عنهم لما تكلم عنهم -.

خطؤه في فهم مذهب المضيقين

الشبهة الثانية والثلاثون

جعل الكاتب من جوز عبادات بمقتضى قواعد الشريعة، وأدلة عامة؛ من الموسعين، فقال (ص 105): «خلاصة الخلاف المنهجي حول البدعة: تقدم لك - أخي الكريم - بعض نصوص العلماء حول البدعة، واتضحت مناهجهم في تفسير الأحاديث المتعلقة بها، وتبين أن لهم رأيين حولها:

1 -

فيرى بعضهم أن كل محدثة ذات صلة بالدين لها حكم يناسبها، فتتدرج في الحكم من الوجوب إلى الحرمة، وقد يسمونها بدعة حسنة، وقد يصفونها حسب الحكم الذي يناسبها، فيرجع الخلاف إلى اللفظ لا إلى المعنى.

(1)

(ص 79).

(2)

(ص 101).

(3)

(ص 77).

(4)

يراجع (سادسًا) من الرد الإجمالي.

ص: 164

2 -

ويرى البعض الآخر أن المحدثات في الدين لها حكم واحد وهو الحرمة، فكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وتقسيم البدع أمر مرفوض شرعًا»

(1)

وما تقدم نقله عنه في الرد الإجمالي.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن هذا التأصيل أيضًا موجود عند العلماء الموصوفين عند الكاتب بالمضيقين، كما تقدم في المقدمة الثانية عشرة، فإنه يصح عندهم التعبد بما دل عليه العموم والإطلاق والقواعد الشرعية بضابطه، ومن ضوابطه ما تقدم في المقدمة الثامنة من أن هناك وسائل للعبادة تجاز، لعدم انطباق قاعدة السنة التركية عليها، وإن عدم وضوح هذا عند الكاتب جعله يضطرب في تصنيف العلماء، مما دعاه أن يعد ابن كثير وابن رجب من الموسعين

(2)

، واضطرب في الشاطبي

(3)

، وشكك في الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب

(4)

فقال: «قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - مع أنه من العلماء المضيقين لمعنى البدعة -: نخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في الشرع، كجمع عمر التراويح جماعة، وكجمع المصحف، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس، ونحو ذلك، فهذا حسن. انتهى الدرر السنية (5/ 103) فكلامه يشير إلى وجود بدع لها أصل في الشرع، وبالتالي يشير إلى تخصيص عموم ذمها، فتأمل»

(5)

.

(1)

(ص 105)، ويراجع خامسًا من الرد الإجمالي.

(2)

(ص 79).

(3)

(ص 101).

(4)

(ص 77).

(5)

الحاشية (ص 77).

ص: 165

ومن المهم معرفة أن ما زعمه من أن المضيقين لا يجيزون التعبد بما دلت عليه قواعد الشريعة والأدلة العامة والمجملة بضوابطها؛ هو زعمٌ باطل، ولا أعلم أحدًا من العلماء المعاصرين الذين وصفهم بالمضيقين يقرر هذا، بل كلامهم واضح على خلافه، وهذا مما يدل على تخليطه وعدم تصوره لمن قسمهم مضيقين وموسعين.

قال العلامة ابن باز: «لكن بعض الناس قد تلتبس عليه بعض الأمور، فيرى أن ما وقع في المسلمين من بعض الأشياء، التي لم تقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أنها بدعة حسنة، وربما يتعلق بقول عمر رضي الله عنه، في التراويح نعمت البدعة، لما جمع الناس على إمام واحد، وهذا ليس مما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ما يحدثه الناس، مما تدل عليه الشريعة، وترشد إليه الأدلة، لا يسمى بدعة منكرة، وإن سمي بدعة من حيث اللغة، لكون المسلمين نقطوا المصاحف، وشكلوا القرآن، حتى لا يشتبه على القارئ، وجمعوه في المصاحف، هذا وإن سمي بدعة لغوية، لكن هذا شيء واجب، شيء يحفظ القرآن، ويسهل قراءته على المسلمين، فهذا نحن مأمورون به، مأمورون بما يسهل علينا القرآن، وبما يحفظه على المسلمين، وبما يعين المسلمين على حفظه وقراءته قراءة مستقيمة، فليس هذا من باب البدعة المنكرة، بل هذا من باب الأوامر الشرعية، من باب الحفظ للدين، ومن باب العناية بالقرآن، فليس مما نحن فيه بشيء، وكذلك قول عمر: نعمت البدعة، يعني كونه جمعهم على إمام واحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا بدعة من حيث اللغة، لأن البدعة في اللغة هي الشيء الذي على غير مثال سابق، ما يحدثه الناس على غير فعل سابق يسمى بدعة في اللغة، فهذا من حيث اللغة لا من حيث الشرع،

ص: 166

فإن التراويح فعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى بالناس بعض الليالي، وأرشد إليها وحثهم عليها، فليست التراويح بدعة، ولكن لكونه جمعهم على إمام واحد، قال في ذلك: نعمت البدعة، من حيث اللغة فقط، فالحاصل أن ما أوجده المسلمون، مما يدل عليه الشرع، ويرشد إليه الشرع، بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لا يسمى بدعة، بل هو مما دعا إليه الشرع، ورغب فيه الشرع، من جنس جمع المصحف، وشكله ونقطه ونحو ذلك، هذا ليس من البدع في شيء، بل من جنس التراويح، وفعل عمر لها رضي الله عنه وأرضاه، ليس في هذا الباب من شيء»

(1)

.

قال العلامة ابن عثيمين: «وقد يقول قائل: هناك أشياء مبتدعة قبلها المسلمون وعملوا بها وهي لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كالمدارس وتصنيف الكتب وما أشبه ذلك، وهذه البدعة استحسنها المسلمون وعملوا بها ورأوا أنها من خيار العمل، فكيف تجمع بين هذا الذي يكاد أن يكون مجمعًا عليه بين المسلمين وبين قول قائد المسلمين ونبي المسلمين ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» .

فالجواب: أن نقول هذا في الواقع ليس ببدعة بل هذا وسيلة إلى مشروع، والوسائل تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة، ومن القواعد المقررة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فوسائل المشروع مشروعة، ووسائل غير المشروع غير مشروعة، بل وسائل المحرم حرام، والخير إذا كان وسيلة للشر كان شرًّا ممنوعًا»

(2)

.

(1)

فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر (3/ 29).

(2)

الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع (ص: 18).

ص: 167

رد دعواه أن الشاطبي من الموسعين على اصطلاحه

الشبهة الثالثة والثلاثون

قال الكاتب: «وقد ألَّف الشاطبي رحمه الله كتابه الاعتصام حول موضوع البدعة، وتنازعه الفريقان، وادعى كل فريق أن الشاطبي رحمه الله معدود في طريقه، فأوليت رأي الشاطبي اهتمامًا خاصًّا، لمعرفة رأيه حول هذا الموضوع الخطير، وقد خلصت إلى نتيجة مفادها أن الشاطبي رحمه الله يعتقد أن البدعة مصطلح شرعي، يقصد به كل محدث يخالف أصول الشريعة وقواعدها، أما المحدثة التي لا تخالف أصول الشريعة فلا يطلق عليها لفظ (بدعة)، بل هي محدثة مشروعة حسب حكمها المناسب؛ لأن نصوص الشريعة الكلية وقواعدها العامة تشهد لها، فهو بذلك من أصحاب الرأي الثالث الذي يختلف اختلافًا لفظيًّا - لا حقيقيًّا - مع أصحاب الرأي الأول»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن هذا الذي نسبه للشاطبي يقرره كل العلماء الذين يصفهم بالمضيقين؛ لذا ذكرت - فيما سبق وأكرر - أن من وصفهم بالتضييق لا وجود لهم إلا في خيال وذهن الكاتب - وقد تقدم كلام ابن باز وابن عثيمين -.

ولو تفهم لعلم أن الشاطبي يُعتبر من المضيقين بناءً على ضوابطه، بل ومن المتشددين، وذلك لما يلي:

(1)

(ص 101).

ص: 168

أولًا: أنه يقول بأن كل بدعة ضلالة وحرام، بل هي كبيرة، ولا يرى تقسيمها إلى خمسة أقسام، كما تقدم.

ثانيًا: أنه يقرر بقوة السنة التركية، ويقدمها على الأدلة الأخرى، كالعموم وغيره - كما تقدم في المقدمة الحادية عشرة -.

ثالثًا: أنه يقرر أن الأصل في العبادات الحظر والمنع مطلقًا - كما في المقدمة السابعة -.

فلا يصح أن يشك الكاتب - فضلًا عن أن يزعم - أن الشاطبي من الموسعين على اصطلاحه، والذي دعاه لذلك اضطرابه في تقرير ضابط الموسع والمضيق، وأنه لا وجود للمضيقين على اصطلاحه، لذا .. كلما دقق في حال عالم لم يجده من المضيقين على اصطلاحه، فإما أن يضطرب أو يجعله من الموسعين.

رد زعمه أن الشوكاني من المضيقين على اصطلاحه

الشبهة الرابعة والثلاثون

عدَّ الكاتب الشوكاني من المضيقين على اصطلاحه فقال: «وقال الشوكاني رحمه الله في حديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»

(1)

: وهذا الحديث من قواعد الدين؛ لأنه يندرج تحته من الأحكام ما لا يأتي عليه الحصر، وما أصرحه وأدله على إبطال ما فعله الفقهاء من تقسيم البدع إلى أقسام، وتخصيص الرد ببعضها بلا مخصص من عقل ولا نقل، فعليك إذا سمعت من يقول: هذه بدعة حسنة، بالقيام في مقام المنع، مسندًا له بهذه الكلية وما يشابهها، من نحو

(1)

سبق تخريجه.

ص: 169

قوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة» ، طالبًا لدليل تخصيص تلك البدعة التي وقع النزاع في شأنها بعد الاتفاق على أنها بدعة، فإن جاءك به قبلته، وإن كاع كنت قد ألقمته حجرًا واسترحت من المجادلة.

ومن مواطن الاستدلال لهذا الحديث؛ كل فعل أو ترك وقع الاتفاق بينك وبين خصمك على أنه ليس من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفك في اقتضائه البطلان أو الفساد

قائلًا: هذا أمر ليس من أمره، وكل أمر ليس من أمره رَدٌّ، فهذا رَدٌّ، وكل رَدٍّ باطل، فهذا باطل، فالصلاة مثلًا التي ترك فيها ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعل فيها ما كان يتركه؛ ليست من أمره، فتكون باطلة بنفس هذا الدليل

، قال في الفتح: وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: من اخترع من الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله؛ فلا يلتفت إليه، قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك»

(1)

، ثم علق الكاتب في الحاشية:«أما ما نقله عن الحافظ ابن حجر في الفتح، فقد تقدم في النصوص السابقة، وقد عرفت رأي ابن حجر، وأنه يرى أن مصطلح البدعة يطلق شرعًا على المحدثات المذمومة، أما غير المذمومة فيطلق عليها الحكم الذي يناسبها، فلعل الشوكاني فهم من قول ابن حجر: (ما لا يشهد له أصل من أصوله) أي لم يرد التنصيص على جوازه، أو لعل الشوكاني أراد نقل رأي المخالف بدون أن يرد عليه، مكتفيًا بما ذكره من قبل، وأما نقله كلام النووي فقد تقدم لك رأيه، وأنه ممن يرى تقسيم البدعة إلى الأقسام الخمسة» .

(1)

(ص 94).

ص: 170

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن الكاتب جعل الشوكاني من المضيقين بناء على هذين النقلين، ثم تعليقه بهذا التعليق؛ وهذا يدل على اضطرابه في تقسيم العلماء هذه القسمة، بل وعدم فهمه، وهو بهذا الاضطراب يؤكد ما ذكرته عنه في الرد الإجمالي.

ويتبين هذا بما يلي:

أولًا: أنه جعله من المضيقين؛ لأنه لا يرى أنَّ البدعة تقسم تقسيم الأحكام الخمسة.

ولأنه جعل كل بدعة ضلالة، وهذا تأكيد للذي قبله.

ثانيًا: إنَّ الكاتب لم يقبل أن يكون الشوكاني ممن يرى أنَّ بعض العبادات التي حدثت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بدعةً بضوابطها الشرعية - كما تقدم بحثها -، ومنها جمع عمر الناس على إمام واحد.

ولهذا .. جعل الشوكاني ناقلًا عن ابن حجر من غير إقرار، وهذا الذي قرره الكاتب لا يصح، وهو تناقض؛ وذلك لسببين:

السبب الأول: أنه لا تنافي بينهما، فكل منهما يقول: بأن كل البدع ضلالة، وأنها قسم واحد، وأن هذا لا يتنافى مع تصحيح عبادات جديدة بأدلتها الشرعية العامة والقواعد الشرعية بضوابطها - كما تقدم كثيرًا -؛ لأنه إذا دلّ على هذه العبادةِ الجديدةِ الأدلةُ العامة والقواعد الشرعية بضوابطها، فإنه في حقيقة الأمر رجع في إثباتها إلى الشرع، فليست محدثة بالمعنى الشرعي، وإنما بالمعنى اللغوي.

السبب الثاني: أن الشاطبي قرر كثيرًا وبأوضح من الشوكاني عدم صحة تقسيم البدعة إلى أقسام خمسة؛ كالأحكام التكليفية، وقرَّر أن البدع كلها ضلالة

ص: 171

ومحرمة، ومع ذلك جعله من الموسعين؛ لأن له كلامًا في صحة التعبد بما حدث بعد، مما دلت عليه الأدلة الشرعية بضوابطها، فإذن كما تصور هذا في الشاطبي فتصوره في الشوكاني من باب أولى، فيلزمه أن يجعله من الموسعين مثله، لكنه تناقَضَ وخالَفَ بينهما في القسمة!.

رد احتجاجه باختلاف علمائنا المعاصرين في تبديع بعض الأمور العملية

الشبهة الخامسة والثلاثون

اجتهد الكاتب كثيرًا في بيان أن بعض علمائنا المعاصرين مختلفون في تبديع بعض الأمور العملية بعد أن وصفهم بالمضيقين، فقال:«نماذج لاختلاف المضيقين لمعنى البدعة في حكم بعض المحدثات - ثم قال: - ولم يقتصر الخلاف - في الحكم ببدعية بعض الأمور المحدثة - على أئمة السلف الصالح، بل تعداهم إلى علماء الأمة الإسلامية على مر العصور وتصرم الدهور»

(1)

.

ثم ذكر ما يقرب من عشرين مثالًا اختلفوا في التبديع به، وأطال الكلام.

وكشف هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: ليس غريبًا ولا مستنكرًا أن يختلف بعض العلماء المعاصرين من أهل السنة السائرين على منهج السلف في بعض البدع العملية، وقد اختلف سلفهم في بعض البدع العملية كما تقدم.

(1)

(ص 233).

ص: 172

الوجه الثاني: ليس اختلاف بعض العلماء المعاصرين، ولا السلف الماضين في بعض البدع العملية مسوغًا للتساهل في البدع الاعتقادية والعملية التي لم يختلف فيها السلف كما تقدم بيانه.

الوجه الثالث: تقدم بيان سبب اختلاف العلماء في بعض البدع العملية، وأنه من جنس المسائل الاجتهادية التي تختلف فيها اجتهادات العلماء بالنظر إلى الدليل والقواعد الشرعية وغير ذلك.

الوجه الرابع: تقصدت أن لا أناقش الأمثلة التي أوردها الكاتب مما اختلف فيه بعض العلماء المعاصرين؛ لأن بيان الراجح والمرجوح فيه نسبي، ولا حاجة إليه فيما نحن بصدده.

رد زعمه أن كلام الله قديم مطلقًا

الشبهة السادسة والثلاثون

قال الكاتب: «اتفق أهل السنة والجماعة رحمهم الله على أن من صفات الله عز وجل صفة الكلام، وأن كلامه صفة أزلية قائمة به سبحانه، - ثم قال: - فكلامه سبحانه قديم غير مخلوق، وهو صفة ثابتة له في الكتاب والسنة»

(1)

.

وكشف هذه الشبهة أن يقال:

إن كلام أهل السنة كثير في أن كلام الله ليس قديمًا مطلقًا، بل قديم من حيث النوع وحادث متجدد من حيث الأفراد، وقد أجمع على هذا أهل السنة، خلافًا للمتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم.

(1)

(ص 163).

ص: 173

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا قال أحمد ولا غيره من السلف: أن القرآن قديم؛ وإنما قالوا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق»

(1)

.

وقال: «والمقصود هنا أن الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة ومن اتبعه كلهم بريئون من الأقوال المبتدعة المخالفة للشرع والعقل، ولم يقل أحد منهم أن القرآن قديم لا معنى قائم بالذات، ولا إنه تكلم به في القديم بحرف وصوت، ولا تكلم به في القديم بحرف قديم؛ لم يقل أحد منهم لا هذا ولا هذا، وإن الذي اتفقوا عليه أن كلام الله منزل غير مخلوق، والله تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء، وكلامه لا نهاية له»

(2)

.

وقال: «أن السلف قالوا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وقالوا لم يزل متكلمًا إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم أي: جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم: إن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم: القرآن قديم؛ بل قالوا: إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه، وكان منزلًا منه غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزليًّا قديمًا بقدم الله، وإن كان الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، فجنس كلامه قديم»

(3)

.

وقد تعمدت في مناقشة هذا الكتاب الإعراض عن الأخطاء العقدية؛ لأنها ليست المقصد الأساس من هذا الكتاب ومناقشته، وإنما المقصد الأساس البدع

(1)

مجموع الفتاوى (7/ 660).

(2)

المرجع السابق (7/ 661).

(3)

المرجع السابق (12/ 54).

ص: 174

العملية التي قصدها الكاتب بكتابه، وخلّط فيها، وخرج بما يقوّي جانب الصوفية الضلال للإحداث في الدين.

وإنه بمعرفة مشايخه الذين يعظمهم، والمقدمين للكتاب، مع مراجعة هذا الرابط

(1)

، تعرف عقيدته.

رد زعمه أن الاحتفال بالمولد النبوي ليس بدعة

الشبهة السابعة والثلاثون

تكلم الكاتب على بدعة المولد مؤيدًا شرعيتها، ورادًّا لأدلة مبدعيها بطرق شتى مباشرة وغير مباشرة، وكرر في مواضع إلزامات تتعلق ببدعية الاحتفال بالمولد، بل إنه قال مبينًا الذي كان سببًا لانشراح صدره لتأليف الكتاب: «ثم جاءت اللحظة الحاسمة التي انشرح صدري عندها لتأليف هذا الكتاب، فقد جاءني ذات يوم من أيام شهر ربيع الأول من عام (1428 هـ) عدد من الإخوة، ونقلوا - متألمين - ما سمعوه من أحد خطباء الجمعة، المتبعين لمنهج تضييق معنى البدعة، حيث تهجم ذلك الخطيب على من يجتمعون في شهر ربيع الأول بمناسبة المولد النبوي؛ لمدارسة سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

فقلت لهم: وما الجديد؟ ألم تعتادوا سنويًّا على سماع كلام عنيف جارح من بعض هؤلاء الإخوة

»

(2)

.

(1)

هذا رابط كلام له يفهم منه أنه أشعري:

http:// alkulify.blogspot.com/ 2013/ 10/ blog-post_4208.html

(2)

(ص 27).

ص: 175

وكشف هذه الشبهة:

ببيان أن الاحتفال بالمولد النبوي محدث، فهو بدعة محرمة وضلالة من أوجه:

الوجه الأول: إن أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي العبيديون الذين يسمون بالفاطميين، قال المقريزي: «ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادًا ومواسم تتسع بها أحوال الرعية، وتكثر نعمهم.

وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي:

موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام»

(1)

.

الوجه الثاني: أنه لا دليل على هذا الاحتفال إلا معاني وأقيسة مزعومة، وهي معارضة للسنة التركية، فإذا كان كذلك، فهي بدعة محدثة - كما تقدم في القاعدة الثامنة -.

الوجه الثالث: أن الاحتفال به كل سنة عيد، والأعياد محرمة

(2)

، وهي كل زمان أو مكان يعود ويكون مقصودًا لذاته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

«يوضِّح ذلك أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العامِّ على وجهٍ مُعتادٍ عائدٍ إما بعَوْدِ السنة، أو بعَوْدِ الأسبوع، أو الشهر، أو نحو ذلك، فالعيد يجمع أمورًا منها: يومٌ عائدٌ كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماعٌ فيه، ومنها أعمال تتبع

(1)

المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (2/ 436).

(2)

الأعياد محرمة كما بسط ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء (1/ 485).

ص: 176

ذلك من العبادات والعادات، وقد يُختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقًا، وكل من هذه الأمور يُسمى عيدًا

»

(1)

.

قال ابن القيم: «والعيد ما يُعتاد مجيئه وقصده من مكانٍ وزمانٍ، ثم قال: والعيد مأخوذٌ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسمًا للمكان فهو المكان الذي يُقصد الاجتماع فيه وانتيابه للعبادة أو لغيرها

»

(2)

.

وإذا تعبد بهذه الأعياد زادت حرمتها لأنها جمعت بين أنه عيد وبدعة، قال الإمام ابن تيمية:«بل أعياد الكتابيين التي تتخذ دينًا وعبادة أعظم تحريمًا من عيد يتخذ لهوًا ولعبًا، لأن التعبد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرمه»

(3)

.

الوجه الرابع: أن يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم مختلفٌ فيه، وليس هناك دليل قاطع ولا ظن غالب على أنه اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، لذا لو صح الاحتفال به لما احتفل به؛ لأنه لا دليل على تحديده.

وقد حكى المناوي في الفتوحات السبحانية خلافًا في يوم مولده، فقال: فقيل اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وعزاه للجمهور، وبالغ ابن الجزري فحكى عليه الإجماع، وقيل الثامن، وقال الحافظ ابن حجر:«إنه مقتضى أكثر الأخبار» ، وقيل العاشر، قال القسطلاني: اختيار أكثر المحدثين، وحكى القضاعي

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 496).

(2)

إغاثة اللهفان (1/ 190).

(3)

اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 499).

ص: 177

إجماع أهل التاريخ عليه. وقيل: تسع عشرة، وقيل لثمان عشرة، وقيل: في أوله، وقيل: في أول اثنين منه من غير تعيين

(1)

.

الوجه الخامس: أنه يحتف بالاحتفال بيوم المولد غالبًا منكرات أخرى شركية كزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغفر الذنوب، كما قال أحدهم:

هذا الحبيب مع الأحباب قد حضرا

وسامح الكل فيما قد مضى وجرى

(2)

أو منكرات بدعية أو معاصي شهوانية.

ولو قدر أنه لم يوجد شيء من هذه المنكرات المصاحبة للاحتفال بالمولد النبوي فيكتفي في بيان ضلاله وحرمته الأوجه الأربعة المتقدمة.

وبعد هذا فإنه مما يحسن ختم الكلام عن المولد النبوي البدعي بجواب لأبي حفص تاج الدين الفاكهاني المالكي، من علماء القرن الثامن، وهو جواب عظيم مختصر عن المولد، ذكر فيه تأصيلاتٍ وأوجهًا متفرقة في حرمة الاحتفال بالمولد النبوي لذاته ولما احتف، به فقال رحمه الله:

أما بعد:

فقد تكرر سؤال جماعة من المُباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه المولد: هل له أصل في الشرع؟، وقصدوا الجواب عن ذلك مُبيَّنًا، والإيضاح عنه معينًا.

(1)

ملخص ما ذكر المناوي في الفتوحات السبحانية (1/ 266).

(2)

هذه من كلمات حسن البنا في المولد النبوي. «تربيتنا الروحية» (ص 52) لسعيد حوى. والشطر الثاني من البيت شركي قال الله: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135].

ص: 178

فقلت وبالله التوفيق:

لا أعلم لهذا المولد أصلًا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بِدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفسٍ اغتنى بها الأكالون، بدليل أنَّا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا:

إما أن يكون واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا، أو مكروهًا، أو محرمًا.

وهو ليس بواجب إجماعًا، ولا مندوبًا؛ لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون - فيما علمت -، وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت.

ولا جائز أن يكون مباحًا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحًا بإجماع المسلمين.

فلم يبق إلا أن يكون مكروهًا، أو حرامًا، وحينئذٍ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين:

أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئًا من الآثام؛ فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام، سُرُجُ الأزمنة وزَيْن الأمكنة.

والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يُعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه؛ لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف، لاسيما إن انضاف إلى ذلك شيء

ص: 179

من الغناء، مع البطون الملأى بآلات الباطل، من الدفوف والشبَّابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد، والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف.

وكذا النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].

وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يَحِلُّ ذلك بنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ.

ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازَناه:

قد عرف المنكر واستنكر الـ

ـمعروف في أيامنا الصعبة

وصار أهل العلم في وهدة

وصار أهل الجهل في رتبة

حادوا عن الحق فما للذي

سادوا به فيما مضى نسبة

فقلت للأبرار أهل التقى

والدين لما اشتدت الكربة

لا تنكروا أحوالكم قد أتت

نوبتكم في زمن الغربة

ولقد أحسن أبو عمرو بن العلاء رحمه الله حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ربيع الأول - هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه.

ص: 180

وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول».

تنبيه: إن مناقشة تجويزه لبدعة المولد النبوي خلاف طريقتي في هذا الرد، فإن طريقتي عدم مناقشة الأمثلة التي أوردها في الكتاب، وإنما اقتصرت على ما رأيته مهمًّا من تأصيلاته وأدلته، لكن لما رأيت حماسته لبدعة المولد أردت تتميم الفائدة بهذه المناقشة لعله يرجع ويتوب.

ص: 181

‌الخاتمة

إن الحق قوي في نفسه لما جعل الله له من أمارات ودلائل صدق، لكن يأبى دعاة الباطل من كفار وأهل بدع وفسق وجهل إلا أن يضلوا الناس عن الحق بزخرفة الباطل، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} ] الأنعام: 12 [.

وقد يبتلي الله المؤمنين بالباطل ليظهر الحق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة أنباء المرسلين ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين.

كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ] الأنعام: 112 - 115 [.

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} ] الفرقان: 27 - 31 [.

ص: 182

وذلك أن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات أقام الله تعالى له مما يحق به الحق، ويبطل به الباطل من الآيات البينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة»

(1)

.

وإني لأرجو أن يكون هذا دافعًا لأهل السنة أن يزدادوا حماسة في الدفاع عن دينهم وعقيدتهم بالقلم واللسان، وبكل وسيلة شرعية ممكنة، وألا ييأسوا من كثرة أهل الباطل ودعاة السوء، ففي هذا خير من جهة وهو فتح باب جهادهم بالحجة للفوز بالأجور ورضا الله، فإن الله لم يخلق شرًّا محضًا ..

وإن للإمام ابن القيم أبيات عظيمة في شحذ همة السني وتقويته، وهذه بعضها

(2)

:

وانصر كتاب الله والسنن التي

جاءت عن المبعوث بالفرقان

واضرب بسيف الوحي كل معطل

ضرب المجاهد فوق كل بنان

واحمل بعزم الصدق حملة مخلص

متجرد لله غير جبان

واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى

فإذا أصبت ففي رضا الرحمن

واجعل كتاب الله والسنن التي

ثبتت سلاحك ثم صح بجنان

من ذا يبارز فليقدم نفسه

أو من يسابق يبد في الميدان

واصدع بما قال الرسول ولا تخف

من قلة الأنصار والأعوان

فالله ناصر دينه وكتابه

والله كاف عبده بأمان

(1)

الجواب الصحيح (1/ 85).

(2)

الكافية الشافية (ص: 16).

ص: 183

لا تخش من كيد العدو ومكرهم

فقتالهم بالكذب والبهتان

فجنود أتباع الرسول ملائك

وجنودهم فعساكر الشيطان

شتان بين العسكرين فمن يكن

متحيرا فلينظر الفئتان

ثم قال:

واثبت وقاتل تحت رايات الهدى

واصبر فنصر الله ربك دان

واذكر مقاتلهم لفرسان الهدى

لله در مقاتل الفرسان

وادرأ بلفظ النص في نحر العدا

وارجمهم بثواقب الشهبان

لا تخش كثرتهم فهم همج الورى

وذبابه أتخاف من ذبان

واشغلهمُ عند الجدال ببعضهم

بعضًا فذاك الحزم للفرسان

وإذا هم حملوا عليك فلا تكن

فزعًا لحملتهم ولا بجبان

ثم قال

(1)

:

لا توحشنك غربة بين الورى

فالناس كالأموات في الحسبان

أو ما علمت بأن أهل السنة الـ

ـغرباء حقًّا عند كل زمان

قل لي متى سلم الرسول وصحبه

والتابعون لهم على الإحسان

من جاهل ومعاند ومنافق

ومحارب بالبغي والطغيان

وتظن أنك وارث لهمُ وما

ذقت الأذى في نصرة الرحمن

كلَّا ولا جاهدت حق جهاده

في الله لا بيد ولا بلسان

(1)

(ص 218).

ص: 184

ثم قال

(1)

:

فانظر إلى تفسيره الغرباء بالـ

ـمُحيين سنته بكل زمان

طوبى لهم والشوق يحدوهم إلى

أخذ الحديث ومحكم القرآن

طوبى لهم لم يعبأوا بنحاتة الـ

أفكار أو بزبالة الأذهان

طوبى لهم ركبوا على متن العزا

ئم قاصدين لمطلع الإيمان

طوبى لهم وإمامهم دون الورى

من جاء بالإيمان والفرقان

والله ما ائتموا بشخص دونه

إلا إذا ما دلهم ببيان

في الباب آثار عظيم شأنها

أعيت على العلماء في الأزمان

والله ما ائتموا بشخص دونه

إلا إذا ما دلهم ببيان

ثم قال

(2)

:

والرب ليس يضيع ما يتحمل الـ

ـمُتحملون لأجله من شان

فتحمل العبد الوحيد رضاه مع

فيض العدو وقلة الأعوان

مما يدل على يقين صادق

ومحبة وحقيقة العرفان

يكفيه ذلًّا واغترابًا قلة الـ

أنصار بين عساكر الشيطان

في كل يوم فرقة تغزوه إن

ترجع يوافيه الفريق الثاني

فسل الغريم المستضام عن الذي

يلقاه بين عدا بلا حسبان

هذا وقد بعد المدى وتطاول الـ

ـعهد الذي هو موجب الإحسان

(1)

(ص 304).

(2)

(ص 306).

ص: 185

ولذاك كان كقابضٍ جمرًا فسل

أحشاءه عن حرّ ذي النيران

واللهُ أعلم بالذي في قلبه

يكفيه علم الواحد المنان

في القلب أمر ليس يقدرُ قدْرَه

إلا الذي آتاه للإنسان

برٌّ وتوحيد وصبر مع رضا

والشكر والتحكيم للقرآن

سبحانه قاسم فضله بين العبا

د فذاك مولي الفضل والإحسان

وأخيرًا ..

أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يتقبل هذا الكتاب ويجعله زادًا عند لقائه وسببًا لرد الناس لما عليه السلف الصالح.

وأسأله أن يمن ويتكرم ويتفضل بأن يجعل له القبول، إنه الرحمن الرحيم

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 186

المراجع

1.

الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع لابن عثيمين، طبع على نفقة فاعل خير، بموجب تصريح من وزارة الإعلام بجدة، 1410 هـ.

2.

الإبداع في مضار الابتداع، علي محفوظ، طبعة: مكتبة الرشد.

3.

اتباع السنن واجتناب البدع، المقدسي، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، الطبعة: الأولى، 1407 هـ - 1987 م.

4.

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد، مطبعة السنة المحمدية.

5.

أحكام الجنائز، المكتب الإسلامي، الطبعة: الرابعة، 1406 هـ - 1986 م.

6.

الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، دار الآفاق الجديدة، بيروت.

7.

الأخنائية لابن تيمية، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1423 هـ.

8.

الآداب الشرعية لابن مفلح، عالم الكتب.

9.

إرواء الغليل، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1405 هـ - 1985 م.

10.

الاستقامة لابن تيمية، جامعة الإمام محمد بن سعود، المدينة المنورة، الطبعة: الأولى 1403.

11.

أسنى المطالب في شرح روض الطالب، زكريا الأنصاري، دار الكتاب الإسلامي.

12.

أصول الشاشي، دار الكتاب العربي، بيروت.

13.

الاعتصام للشاطبي، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1429 هـ - 2008 م.

14.

الاعتقاد للبيهقي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة: الأولى، 1401.

ص: 187

15.

إعلام الموقعين، دار الكتب العلمية، ييروت، الطبعة الأولى، 1411 هـ - 1991 م.

16.

إغاثة اللهفان لابن القيم، مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية.

17.

إقامة الدليل على إبطال التحليل، لابن تيمية.

18.

اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية، دار عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة: السابعة، 1419 هـ - 1999 م.

19.

الإيمان لابن تيمية، المكتب الإسلامي، عمان، الأردن، الطبعة: الخامسة، 1416 هـ-1996 م.

20.

الباعث في إنكار البدع والحوادث لابن أبي شامة، دار الهدى، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1398 - 1978.

21.

بغية المرتاد، مكتية العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الثالثة، 1415 هـ-1995 م.

22.

البناية شرح الهداية، بدر الدين العيني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

23.

بيان فضل علم السلف على الخلف لابن رجب الحنبلي، دار الحديث.

24.

تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى 1417 هـ.

25.

التحفة العراقية لابن تيمية، المطبعة السلفية، القاهرة، الطبعة: الثانية، 1399.

26.

تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد، دار الكتب الثقافية، الكويت.

27.

تغليق التعليق لابن حجر، المكتب الإسلامي، دار عمار، بيروت، عمان، الأردن، الطبعة: الأولى، 1405.

28.

تلخيص كتاب الاستغاثة لابن تيمية، المطبعة السلفية بمصر، 1346.

ص: 188

29.

التنبيه على مبادئ التوجيه لأبي طاهر، قسم العبادات، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1428 هـ - 2007 م.

30.

التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن، دار النوادر، دمشق، سوريا، الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م.

31.

جامع التحصيل للعلائي، عالم الكتب، بيروت، الطبعة: الثانية، 1407 - 1986.

32.

جامع العلوم والحكم، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: السابعة، 1422 هـ - 2001 م.

33.

جامع بيان العلم وفضله، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية الطبعة: الأولى، 1414 هـ - 1994 م.

34.

الجواب الصحيح لابن تيمية، دار العاصمة، السعودية، الطبعة: الثانية، 1419 هـ 1999 م.

35.

حاشية ابن عابدين (رد المحتار)، دار الفكر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1412 هـ - 1992 م.

36.

حاشية السندي على سنن النسائي، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة: الثانية، 1406 - 1986.

37.

حجة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة: الخامسة، 1399.

38.

حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، السعادة، بجوار محافظة مصر، 1394 هـ - 1974 م.

39.

الحوادث والبدع للطرطوشي، دار ابن الجوزي، الطبعة: الثالثة، 1419 هـ - 1998 م.

ص: 189

40.

دليل الفالحين، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة: الرابعة، 1425 هـ - 2004 م.

41.

رسالة في أصول الفقه، المكتبة المكية، مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، 1413 هـ -1992 م.

42.

الرسالة للشافعي، مكتبه الحلبي، مصر، الطبعة: الأولى، 1358 هـ 1940 م.

43.

رفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1403 هـ - 1983 م.

44.

روضة الناظر، مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الطبعة الثانية 1423 هـ -2002 م.

45.

زاد المعاد لابن القيم، مؤسسة الرسالة، بيروت، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة: السابعة والعشرون، 1415 هـ-1994 م.

46.

الزهد لابن المبارك، حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، بيروت.

47.

الزهد للإمام أحمد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 1999 م.

48.

سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني، دار المعارف، الرياض، الطبعة: الأولى، 1412 هـ/ 1992 م.

49.

السنة للمروزي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1408.

50.

سنن ابن ماجه، دار إحياء الكتب العربية، فيصل عيسى البابي الحلبي.

51.

سنن أبي داود، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت.

52.

سنن الترمذي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثانية، 1395 هـ - 1975 م.

ص: 190

53.

سنن الدارمي، دار المغني للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1412 هـ - 2000 م.

54.

سنن النسائي، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، الطبعة: الثانية، 1406 هـ - 1986 م.

55.

شرح أصول اعتقاد أهل السنة، دار طيبة، السعودية، الطبعة: الثامنة، 1423 هـ - 2003 م.

56.

شرح السنة للبغوي، المكتب الإسلامي، دمشق، بيروت، الطبعة الثانية، 1403 هـ - 1983 م.

57.

شرح السنة، للبربهاري.

58.

شرح العمدة لابن تيمية، قسم الصلاة، دار العاصمة، الرياض، الطبعة: الأولى، 1418 هـ - 1997 م.

59.

الشرح الممتع على زاد المستقنع، دار ابن الجوزي، الطبعة: الأولى، 1422 - 1428 هـ.

60.

شرح زروق على متن الرسالة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1427 هـ - 2006 م.

61.

شرح صحيح البخاري لابن بطال، مكتبة الرشد، السعودية، الرياض، الطبعة: الثانية، 1423 هـ - 2003 م.

62.

الشرح والإبانة عن أصول الديانة، لابن بطّة.

63.

الصارم المسلول لابن تيمية، الحرس الوطني السعودي، المملكة العربية السعودية.

64.

الصارم المنكي لابن عبد الهادي، مؤسسة الريان، بيروت، لبنان. الطبعة: الأولى، 1424 هـ/ 2003 م.

ص: 191

65.

صحيح البخاري، دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422 هـ.

66.

صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

67.

صلاة التراويح للألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة: الأولى، 1421 هـ.

68.

الصواعق المرسلة، دار العاصمة، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1408 هـ.

69.

طبقات الحنابلة،: دار المعرفة، بيروت.

70.

غاية الأماني في الرد على النبهاني، مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1422 هـ- 2001 م.

71.

الفتاوى الحديثة لابن حجر الهيتمي، دار الفكر.

72.

فتاوى السبكي، دار المعارف.

73.

الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر، المكتبة الإسلامية.

74.

الفتاوى الكبرى لابن تيمية، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1408 هـ - 1987 م.

75.

فتاوى النووي المسمّاة: المسائل المنثورة لابن العطار، دار البشائر الإسلاميَّة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة: السادسة، 1417 هـ - 1996 م.

76.

فتاوى عبدالرزاق عفيفي.

77.

فتح الباري لابن حجر، دار المعرفة، بيروت، 1379.

78.

الفتوحات السجانية شرح نظم الدرر السنية في السيرة الزكية، للحافظ عبد الرؤوف المناوي.

ص: 192

79.

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية، مكتبة دار البيان، دمشق، 1405 هـ - 1985 م.

80.

الفروسية لابن القيم، دار الأندلس، السعودية، حائل، الطبعة: الأولى 1414 - 1993.

81.

الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، دار ابن الجوزي، السعودية، الطبعة: الثانية، 1421 هـ.

82.

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية، مكتبة الفرقان، عجمان،. الطبعة: الأولى (لمكتبة الفرقان) 1422 هـ - 2001 هـ.

83.

قواطع الأدلة في أصول الفقه للسمعاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1418 هـ-1999 م.

84.

القواعد النورانية لابن تيمية، دار ابن الجوزي، الطبعة: الأولى، 1422 هـ.

85.

الكافية الشافية لابن القيم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة: الثانية، 1417 هـ.

86.

كتاب العلم لابن خيثمة، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1403 هـ.

87.

كتاب الفتاوى للعز بن عبد السلام.

88.

كشف الخفاء للسخاوي، مكتبة القدسي، لصاحبها حسام الدين القدسي، القاهرة، 1351 هـ.

89.

كشف اللثام شرح عمدة الأحكام للسفاريني، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، دار النوادر، سوريا، الطبعة: الأولى، 1428 هـ - 2007 م.

90.

لسان العرب، دار صادر، بيروت، الطبعة: الثالثة، 1414 هـ.

ص: 193

91.

مجموع الفتاوى لابن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية.

92.

المجموع شرح المهذب للنووي، دار الفكر.

93.

مجموع فتاوى ابن باز، أشرف على جمعه وطبعه: محمد بن سعد الشويعر.

94.

المدخل إلى السنن الكبرى، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الكويت.

95.

المستدرك على الصحيحين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1411 - 1990 هـ.

96.

مسند أحمد، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م.

97.

مصنف ابن أبي شيبة، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة: الأولى، 1409.

98.

المعجم الأوسط، دار الحرمين، القاهرة.

99.

المعجم الكبير للطبراني، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة: الثانية.

100.

مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للخطيب الشربيني، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1415 هـ - 1994 م.

101.

المغني لابن قدامة، مكتبة القاهرة، 1388 هـ - 1968 م.

102.

المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى 1418 هـ.

103.

الموافقات، دار ابن عفان، الطبعة: الطبعة الأولى 1417 هـ- 1997 م.

104.

المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلاني، المكتبة التوفيقية، القاهرة، مصر.

105.

النجم الوهاج في شرح المنهاج للدميري، دار المنهاج (جدة)، الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م.

106.

النهاية لابن الأثير، المكتبة العلمية، بيروت، 1399 هـ - 1979 م.

ص: 194