المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تنويه: ينظر الاستدراكات وتصحيح الأسماء فى آخر هذا الجزء   قام بمراجعة - الخطط التوفيقية الجديدة - جـ ١

[علي مبارك]

فهرس الكتاب

تنويه: ينظر الاستدراكات وتصحيح الأسماء فى آخر هذا الجزء

قام بمراجعة هذا الجزء وعمل الاستدراكات:

الأستاذ/متولى خليل عوض، باحث أول بالمركز.

الأستاذ/مصطفى عبد السميع، باحث بالمركز.

قام بتصحيح الأسماء:

الدكتورة/لبيبة إبراهيم مصطفى، كبير باحثين بالمركز.

ص: 2

‌مقدمة الطبعة الثانية

وجه نفر من المؤرخين المصريين فى العصور الوسطى عنايته إلى الكتابة فى نوع من التاريخ، على ما فيه من مشقة ونصب وما يحتاجه من سعة فى الاطلاع ووفرة فى تحصيل العلوم والمعرفة، ذلك هو الكتابة فى الخطط، سواء أكانت خاصة بمدينة بعينها، أم إقليم بذاته.

والتأريخ بأسلوب الخطط أشبه ما يكون بدائرة معارف شاملة عن المكان الذى يتناوله المؤرخ، إذ يذكر فيه كل ما يتعلق بالموقع من معلومات جغرافية وتاريخية، وسير وتراجم، وعادات وتقاليد، وحضارة وفنون، ومعالم وآثار

إلى غير ذلك من الموضوعات التى تتعلق بذاك المكان.

وأقدم مؤرخ مصرى، ألّف بأسلوب الخطط هو عبد الرحمن بن الحكم، فضلا عن أنه أقدم مؤرخ مصرى لمصر الإسلامية، ولذلك يعتبر واضح حجر الأساس لهذا الفرع من التاريخ.

وتلا عبد الرحمن بن الحكم فى هذا الميدان عدد من المؤرخين على مر العصور، يذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: ابن الحكم أبو عمر بن يوسف الكندى، وأبو محمد الحسن بن إبراهيم زولاق الليثى المصرى، والأمير المختار عز الملك المسيحى، وأبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعى الفقيه الشافعى، وصارم الدين إبراهيم بن محمد بن أيدمر بن دقماق القاهرى، وأحمد بن على بن عبد القادر، أبو العباس الحسينى العبيدى تقى الدين المعروف «بالمقريزى» ، صاحب ذلك الأثر النفيس الذى وصل إلينا عن خطط مصر؛ وهو كتاب «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» .

وقد قيّض الله لمصر فى العصر الحديث ابنا من أبر أبنائها، وعلما من أشهر أعلامها، وهو على مبارك باشا، الذى اقتفى أثر المؤرخين السابقين، وكتب كتابا عن خطط مصر، سماه:«الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة» وهو نفسه

ص: 11

الذى اشتهر باسم «الخطط التوفيقية» ، وذلك بعد أن رأى قدم العهد، بخطط المقريزى، وتغير كثير من المعالم، بل واختفاء بعضها، لدرجة يصعب معها التحقق مما ورد فى هذا المؤلّف القديم، والتعرف على كثير من المعالم، فقرّ رأيه على ضرورة وضع كتاب آخر حديث، ولذا نراه يقول فى مقدمته:

«فلما كانت مدينة القاهرة المعزية التى هى دار الحكومة الخديوية قد كثر ذكرها فى كتب الخطط والتواريخ والسير، ووصف ما كان بها من المبانى والبساتين، وهى الآن غيرها فى تلك الأزمان، لتغييرها عما كانت عليه زمن الفاطميين الذين اختطوها بتغيير الدول، وتقلب الأزمنة، وكانت تارة يؤثر فيها الزيادة، فترى أحيانا زاهرة زاهية، وطورا واهنة واهية، ولم نر منا معشر أبنائها، من يهدينا إلى تلك التقلبات، ويفقهنا أسباب هاتيك الانتقالات، ويدلنا على ما فيها من الآثار، فنجوس خلالها ولا نعرف أحوالها، ونجوب أقطاعها ولا ندرى من وضعها، وقد خطها العلامة المقريزى لوقته، وأطال القول فيما فيها من المبانى والمزارع، وتكلم على الحوادث والرجال، ولكن بعده كم من أمور مرت فدمرت، وعبر جرت فغيرت، حتى ذهب أكثر ما أسهب فى شرحه كليا، وزال حتى صار نسيا منسيا، وكم من آثار خيرية صار نفعها مندثرا مهجورا ومصانع وصنائع قد دثرت كأن لم تكن شيئا مذكورا، وكم من تلال كانت عمارات شاهقة، ووهاد كانت بساتين معينة متأنقة، وقبور مزوية فى جوانب الحارات ومشاهد متباعدة فى الفلوات أطلق عليها العامة أسماء كاذبة، كقولهم مثلا: «هذا ضريح الأربعين» .، وكم من مساجد نسبوها لغير من بناها، ومعابد أسندوها لمن لم يكن رآها، والحقيقة أنها قبور ملوك عظام، أو معابد سادات كرام، أو مساجد أمراء فخام، مع أن معرفة ذلك حق علينا، إذ لا يليق بنا جهل بلادنا، والتهاون بمعرفة آثار أسلافنا، التى هى عبرة للمعتبر، وذكرى للمدّكر، فهم وإن مضوا لسبيلهم، قد تركوا لنا ما يحثّنا على اقتفاء آثارهم، وأن نصنع لوقتنا ما صنعوه لوقتهم، وأن نجد فى طريق الإفادة كما جدّوا، دعتنى نفسى لتأليف كتاب واف للمصريين من قديم وحديث».

ذلك هو ما دفع على مبارك باشا إلى وضع كتابه «الخطط التوفيقية» ، وقد قدّم له محرر المقدمة بقوله:

«صار يذكر فى كل مكان من أماكن القاهرة خطته القديمة واسمه وشهرته التى كانت فى ذلك الوقت مستديمة، ثم يعقبه بذكر ما تحولت إليه فى وقتنا هذا، وقبله حاله

ص: 12

وما آل إليه مآله. ويذكر أول من أنشأ هذا المكان ومن انتقل إليه بعده مرة بعد أخرى، وتملكه من جميع أخطاط القاهرة وشوارعها وحارتها ودروبها وأزقتها وبيوتها الكبيرة والصغيرة وخاناتها، حتى صارت جهاتها واضحة معلومة للساكنين، غير مشتبهة الأعلام والطرق على السائرين فى أزقتها والسابلين».

وهذا قول حق يلمسه المطلع على كتاب «الخطط التوفيقية» الذى جعله على باشا مبارك من 20 جزءا، نستعرض محتويات كل منها فيما يلى:

يعرض الجزء الأول تاريخ القاهرة ومصر منذ قدوم الفاطميين إليها حتى عصر توفيق ويقارن أوضاعها القديمة بالأوضاع المعاصرة، ويصف أحياء القاهرة الحديثة.

وتذكر الأجزاء الثانى والثالث والرابع خطط القاهرة وشوارعها ودروبها وحاراتها مرتبة على حروف المعجم، مع تحقيقات عن أوضاعها القديمة، منذ عصر «المقريزى» .

والجزء الخامس خاص بالحديث عن الجوامع.

والجزء السادس عن المدارس والزوايا والمساجد والخانقاوات والأسبلة والكنائس، مرتبة على حروف المعجم.

والجزء السابع عن مدينة الإسكندرية.

وتشمل الأجزاء من الثامن إلى الخامس عشر الكلام عن أقاليم الديار المصرية، ومدنها، وقراها، وترجمة أعيانها وأدبائها، وشعرائها وأوليائها وأكابرها، مرتبة على حروف المعجم.

والجزء السادس عشر عن الآثار الفرعونية، وبخاصة أهرام الجيزة وما حولها.

ونجد فى الجزء السابع عشر بعض التراجم والأماكن والوقائع.

أما الجزء الثامن عشر، فخاص بمقياس النيل منذ عصر الفراعنة وخلال مختلف الدول الإسلامية وأيام الاحتلال الفرنسى، وعيد الشهيد، ومهرجان النيل وما يتعلق بذلك.

ويدرس الجزء التاسع عشر الريّاحات والترع.

فى حين يتناول الجزء العشرون النقود وأشكالها وتواريخها وقيمتها فى مختلف العصور، وبه جدول للمقارنة بين قيمتها القديمة وقيم النقد الحديث.

ولقد جاء كتاب «الخطط التوفيقية» ، دائرة معارف مصرية شاملة تعد بمثابة المرجع الأول للعصر الذى تحدث عنه فى كثير من المسائل، وبخاصة تاريخ الأشخاص الذين

ص: 13

عاصرهم، والمنشئات العامة، مثل المواصلات والرى والتلغراف والمدارس وغير ذلك.

فهى والحالة هذه، تساعد على إعطاء صورة عامة عن أحوال البلاد، كما تمكن فى الوقت نفسه من تتبع تاريخ موضوع بحثه.

وهكذا عمل على مبارك باشا على سد الفراغ الذى شعر به وأشار إليه فى مقدمة كتابه، وفى هذا يقول محمد عبد الله عنان فى كتابه «مصر الإسلامية وتاريخ الخطط المصرية»:

«ولم يشهد تاريخ الخطط منذ المقريزى جهودا فى الطرافة والإفاضة كمجهود على باشا مبارك، بل لقد جاءت «الخطط التوفيقية» من بعض الوجوه، أتم وأوفى من خطط المقريزى، وكانت مهمة مؤلفها فى كثير من الأحيان أدق وأصعب، من مهمة سلفه الكبير، فقد كان عليه أن يتتبع تاريخ الخطط فى ظلمات العصر التركى، وأن يحقق المعالم والمواقع والآثار القديمة على ضوء الأطلال الدارسة والمنشئات المحدثة التى تفصلها من الماضى قرون طويلة.

وقد توسع فى مهمة التعريف عن الخطط والتراجم توسعا عظيما، فتناول بعد القاهرة جميع المدن والقرى المصرية بإفاضة، وترجم لكثير من أعيانها فى مختلف العصور».

ومما لا شك فيه أن نشأة على باشا مبارك والمناصب التى تولاها كانت عاملا فى مساعدته على الوقوف على كثير من البيانات والمعلومات التى دونها فى كتابه هذا.

ومن المعروف أن على مبارك كان طموحا تواقا إلى تولى المناصب الهامة، ولم يكن راضيا على ما رسمه له أبوه من أن يكون فقيها، ولذلك نراه لا يقبل على نوع الدراسة التى اختارها له، بل يلتحق بالمدارس التى تخرّج طبقة الحكام ويكون له ما أراد، إذ يظهر تفوقا فى دراساته ونبوغا، ويلتحق بمدرسة قصر العينى سنة 1836، ثم مدرسة المهندسخانة سنة 1840، ويكافأ على تفوقه فيها بإرساله ضمن بعثة أنجال محمد على للدراسة فى فرنسا سنة 1845، حيث درس الفنون العسكرية والهندسة الحربية.

ولما عاد إلى مصر إثر وفاة إبراهيم باشا سنة 1848 التحق بخدمة الحكومة، وتقلب فى مناصب عدة، منها التدريس بالمدارس التحضيرية والعسكرية، وتنقل بين ميادين التعليم والأوقاف والأعمال الهندسية، وكلها أعمال ساعدته لا شك على الوقوف على الكثير من المعلومات والبيانات، ليس عن القاهرة فقط، بل وعن المدن الأخرى، فضلا عن إطلاعه على كثير من كتب الخطط والتراجم وغيرها من المراجع التى كانت بين يديه. ككتب العرب والفرنج الذين زاروا البلاد وساحوا خلالها، ووثائق المحفوظات الحكومية، ومحفوظات المساجد والآثار المختلفة، وغيرها مما لدى الأسر الكبيرة.

ص: 14

وقد طبعت الخطط التوفيقية بأمر الخديو توفيق فى مطبعة بولاق الأهلية، وصدرت أجزاؤها خلال سنتى 1888، 1889.

ونظرا لمضى عهد طويل على صدور «الخطط التوفيقية» ، وتغير الكثير من معالم البلاد وتخطيطها نتيجة لإدخال الأساليب الحديثة فى التخطيط والتنظيم ووسائل المواصلات ووقوع أحداث كثيرة غيرت فى تاريخها ومعالمها لهذا كان من الواجب وضع كتاب جديد عن خطط مصر. ولكن نظرا لتعذر تأليف مثل هذا الكتاب الآن، فقد رئى الاكتفاء مؤقتا بإعادة نشر الخطط التوفيقية وفق الأساليب الحديثة فى الطباعة والنشر والإخراج، وأن تكون الطبعة الجديدة محققة مستوفاة للتعليقات والشروح لتمثل حالة البلاد فى الوقت الراهن، وتكون هاديا ومرشدا لمن يريد الوقوف على خطط البلاد وتاريخها وتطورها ونموها، وهذا ما نرجو أن يتحقق فى الأجزاء التالية من الخطط، وفى الطبعة الثالثة من هذا الجزء التى لا نشك فى أن إقبال القراء عليه فى طبعته الحالية سيدفع دار الكتب إلى إعادة طبعه فى وقت قريب.

ونرجو أن تحوز هذه الطبعة الجديدة رضاء القراء وأن تسد ولو جزءا من الفراغ الذى يشعر به كل دارس ومحقق فى هذا الميدان من ميادين التاريخ، وخاصة بعد نفاد الطبعة الأولى من «الخطط التوفيقية» منذ سنوات بعيدة.

مارس 1969

د. جمال محمد محرز

ص: 15

‌مقدمة الطبعة الأولى

(تشتمل على تقريظ كتاب الخطط التوفيقية وبيان سبب تأليفه وطبعه) يقول خادم تصحيح العلوم بدار الطباعة العامرة ببولاق مصر القاهرة، الفقير إلى الله تعالى محمد الحسينى، أعانه الله على أداء واجبه الكفائى والعينى:

بسم الله الرحمن الرحيم

سبحان من أبدع بحكمته خلق الإنسان، وحلاه بملكة التدبير، وزينه بحلية البيان، وخصه

(*)

باللطيفة الروحية العقلية، فاقتدر بها على إبراز المكنونات الغيبية، ونوعه إلى أنواع متعددة على أنحاء شتى، وأخلاق ولغات مختلفة، ووافق بين بعض أشكاله، وخالف بين بعض، لحكم بالغة تدق على العقل الحكيم، جهل ذلك من جهله، وعرفه من عرفه. وفاضل بباهر تدبيره بين بنيه فيما وهبهم من نفائس الفهوم، وأوردهم موارد علمه، فانتهل كل من رائق دقائقه حظه المقسوم.

نحمده حمد من استنارت بصيرته فعرف الحق لأهله، ونشكره شكرا يستوجب المزيد من إحسانه وفضله.

ونصلى ونسلم على نبيه الأكرم، ورسوله السيد السند الأعظم، سيدنا ومولانا محمد الذى فتح الله له من كنوز غيبه، ما أعجز عن الوصول إلى أدناه أفره السوابق من جياد العقول، وأفعم سجله العظيم من زلال علمه وهنىّ سيبه، فارتوت أمته من فيضه، وملأوا آنيتهم من سائغ علمه المعقول والمنقول. قصّ سبحانه عليه من قصص الأولين ما ثبت به فؤاده، وأنبأه من نبأ السابقين بما بلغ به من هداية الأمة مراده، وكشف له من مغيبات الآخرين ما وقف

(*) الأرقام على جوانب الصفحات هى أرقام صفحات الطبعة الأولى من الكتاب، وهى طبعة بولاق الصادرة سنة 1306 هـ.

ص: 17

فى بيانه موقفا حدث فيه بعض خواصه عما كان وما يكون إلى يوم الدين، وعلى آله كنوز أسراره، وأصحابه حملة شرعه وأخباره.

أما بعد فإن الله جلت قدرته، ودقت حكمته، جعل أحوال الماضين عبرة للغابرين، وأخبار الأولين أدبا تتكمل به نفوس الآخرين، وطرائق السابقين مثالا يحذو حذوه نبلاء اللاحقين، فعلم كل أناس مشربهم، ونهج كل قبيل مذهبهم. لهذا كان علم التاريخ من أرفع العلوم شأنا، وأرجحها ميزانا، وأفسحها مجالا، وأنفعها حالا ومآلا، فأكبّ النبلاء على تدوين أحوال أسلافهم، وذكر معاهدهم، ومنشأ اختلافهم وائتلافهم. وما قنعوا حتى بحثوا عن مبدأ عالم الإنسان، فسطروا أحواله من نشأته. وقيدوا شئونه من جذمه إلى قمته، وبيّنوا أصوله وفصوله، من القبائل والشعوب والعشائر، والفصائل والبطون والأفخاذ والعمائر.

وفصّلوا أنواعه وأصنافه من عرب وعجم على تشعب فروعها وأصولها، وتوفرت لديهم الدواعى لشحن بطون الدفاتر بتفصيل مصطلحاتهم، وتحرير نقولها، وقيد علماء كل فريق ما أشرق الله على عقولهم من أنوار العلوم والمعارف، وانتفع من بعدهم بما أبرزوه من غوامض الأسرار؛ التالد منها والطارف.

واجتهد إثر ذلك جهابذة المتأخرين، فافتتحوا كنوز المعارف التى اشتد فى إخفاء مغالقها حذاق السابقين، فكشفوا هاتيك الأستار، وفتحوا خدور تلك الأفكار، وأبرزوا من حصونها مخدرات الأبكار، واستنتجوا من أصولها غوامض فصول شذت عن أفكار سلفهم، واستحدثوا شوارد فروع ندت عن أفئدة أولئك، فانتفعوا بها فى شئونهم، وكانت ثمرتهم لخلفهم، ليعلم أنه كم ترك الأول للآخر، وأن فضل الله على عباده لا يختص به سابقهم، بل هو عام للجميع ظاهر باهر، واعتنوا أيضا ببيان مساكنهم ومنازلهم من المدن والقرى والبوادى والجبال مواقعها من المعمورة وأبعادها وأطوالها وعروضها وميلها عن خط الاستواء على أتم حال، وابانوا أديانهم وعباداتهم ومعبوداتهم، وسيرهم فى أنفسهم ومع ملوكهم، ووقائعهم وحروبهم وعاداتهم.

ونقش بعض الأمم ذلك على جدران معابدهم وهياكلهم وبرابيهم ومغاراتهم، وبعضهم ملأ بذلك أغوار سجلاتهم. واعتنى المتأخرون ببيان خطط بلادهم وديارهم، وتبعهم من بعدهم على آثارهم، سيّما أهل الديار المصرية، فإنهم جارون فى ذلك غالبا على عوائد أهل هذه الديار الأصلية.

وممن شمر الذيل فى ذلك، واشتد فى السعى حتى بلغ الغاية وسابق فرسان هذا الميدان، فلم يكن لسبقه نهاية نابغة زمانه، وقدوة فضلاء آنه، الشيخ الإمام علامة الأنام: تقى الدين

ص: 18

أحمد بن على بن عبد القادر بن محمد المعروف بالمقريزى. طيب الله ثراه، وأجزل فى دار النعيم قراه، فإنه رحمه الله بين خطط القاهرة فى زمانه أتم بيان، وأوضح معالم مدنها وقراها الشهيرة أبدع إيضاح وأجمل تبيان، وذكر معظم تواريخ أعاظمها من العلماء والأعيان، وما وصل إليه من أحوال أهلها فى زمنه وفرقهم ومذاهبهم، وما عثر عليه من القديم، حتى بلغ من ذلك مبلغا انتفع به الناس النفع العميم، ثم لما تقادم الزمن واستدار، ودارت على مصر فى الأعصر الخالية دوائر الأهوال والإحن والأقدار، فاكفهر نجمها وحال حالها، واسود وجهها النضير، وكسف بالها.

إلى أن أدركها الله تعالى بعنايته، ووصلت من النضرة والسرور إلى غايته، حين وليتها العائلة الفخيمة؛ عائلة مولانا وسيدنا الخديو الجليل المرحوم الحاج محمد على. فقد لبست مصر فى عهدها بعد البؤس والقدم لباس النعيم والجدة، وبدلت الرخاء بعد الشدة، فتغيرت لذلك أخطاطها ومعاهدها؛ وتبدلت معالمها، فلا يكاد يهتدى إلى منزل من منازلها ولا إلى دار ولا خطة من خططها الآن قاصدها، وبقيت مجهولة المسالك والمساكن وغيرها قديما وحديثا، وصار الناس، عالمهم وجاهلهم، من أمرها لا يفقهون حديثا، انتهض لذلك ذو العزم الذى لا يجارى، والهمة التى لا تبارى، الذى بلغ من كل وصف جليل غايته، وحاز من كل خلق كريم بهجته، وحلّ من كل ثناء جميل بحبوحته، الرياضى الذى لا يشق غباره، والنبراس الذى لا يهتدى إلا به، ولا تشرق فى القلوب إلا آثاره:

أمير له فى الفضل أرفع منزل

وفى أفق التحقيق أنجمه زهر

جليل نبيل ذو وقار وحشمة

وبين ذوى أحكامنا أمره الأمر

إذا رفع الناس الحوائج نحوه

أنالهم برا فجم له الشكر

بشوش المحيا دائم البشر للذى

يوافيه يبغى عرفه، دأبه اليسر

إذا خط فالدر الرطيب منظم

أو الروض فى أفنانه ينفح الزهر

هو الفيصل المعدود فى كل معضل

هو الشهم فى حل العويص له ذكر

هو الحكم المرضى والثقف الذى

إذا ناضل الأنداد تم له النصر

العلم الشهير. والبدر المنير، والعالم النحرير، والطبن بالمشكلات الخبير، الجبرى الذى كاد أن يبين عن حقيقة الجذر الأصم، والحيسوب الذى كشف عن وجه الأعداد الأول اللثام على الوجه الأتم، والهندسى الذى أسس أشكال التأسيس، ووضع الأعداد المتناسبة على الوجه النفيس، ذو السعادة على باشا مبارك ناظر ديوان المعارف العمومية بالمحروسة مصر المعزية،

ص: 19

إذ أخذته - حفظه الله - الغيرة الوطنية، واحتملته الحمية، حمية العلمية، وهاجته النجدة والحرية الطبيعية، ودعته محبة تكثير العلوم والمعارف والأعمال الخيرية واهتزته نخوة الأريحية الجبلية، فنادى فى سوق الأدب:

«يا تجار الآداب، يا من سلكوا فى طريق المعرفة سبيل الصواب، يا جهابذة التاريخ، وأساة الأخبار، يا دعاة العلوم، ورعاة الآثار، يا من أعملوا جيادهم فى تدوين الفنون، يا نقاد النفائس ودهاقنة الجوهر المكنون. إن هذه الديار قد انمحت من دواوين التخطيط أخبارها، واندرست - أو كادت - من معالم التاريخ الآن آثارها، فهل من حر تحمله الهمة على تخطيط داره؟ هل من ذى نخوة تستفزه مروءته إلى إيضاح منار وطنه، وتدوين تاريخه، وإشهار أخباره وآثاره؟ يا فرسان هذا الميدان، يا من لهم اليد الطولى فى هذا الشان، يا من اشتهروا باحتياز فنون الأدب والتاريخ فى جميع البلدان، هلموا إلى هذه الخطة التى فضلها لا ينكر، والعمل الذى مزيته الحسنة وأثره الجميل أشهر من أن يذكر» .

فلم يجبه إلى هذا النداء مجيب، ولم يظهر لهذا الداء طبيب، ولم يأخذ أحد من هذا الفضل محظ ولا نصيب.

فشمر حفظه الله ساعد الاجتهاد، واعتمد فى هذا الغرض المهم على رب العباد، وسار بحول الله وقوته سالكا سبيل السداد، وجمع لذلك الكتب العدة، واستعد له بكل عدة، ووضع خطط المقريزى أمامه، وسلّ فى سيره على قطاع الطريق من شياطين الغواية حسامه، وصار يذكر فى كل مكان من أماكن القاهرة خطته القديمة واسمه وشهرته التى كانت فى ذلك الوقت مستديمة، ثم يعقبه بذكر ما تحولت إليه فى وقتنا هذا وقبله حاله، وما آل إليه مآله. ويذكر أول من أنشأ هذا المكان ومن انتقل إليه بعده مرة بعد أخرى حتى الآن وتملكه، ومن استولى عليه بأى نوع من أنواع الاستيلاء، أو فى سلك الأوقاف سلكه، وهكذا الأمر فى جميع أخطاط القاهرة وشوارعها وحاراتها ودروبها وأزقتها وبيوتها الكبيرة والصغيرة وخاناتها، حتّى صارت جهاتها واضحة معلومة للسالكين، غير مشتبهة الأعلام والطرق على السائرين فى أزقتها والسابلين.

وذكر فى أمر الجوامع والمساجد والزوايا والكنائس والديور ما هو أغرب وأطرب، وذكر من تواريخ أصحاب الأضرحه، ومشاهير الأولياء والعلماء وأرباب البيوت والمساجد والأوقاف والأسبلة وغير ذلك وتراجمهم، فأبان وأعرب، وذكر قبل ذلك فائدة تشتمل على حملة عدد المساجد والجوامع والزوايا والربط والكنائس والديور والحمامات.

ص: 20

وفى البلاد يذكر إقليم البلد، والمسافة بينها وبين ما يليها من البلاد من أىّ الجهات، ثم إن كانت تلك البلد محل وقعة من الوقائع القديمة قبل الإسلام، أو الحادثة بعده ذكرها.

ويصف البلد على أتم وصف، ويوضح أمرها، ويذكر ما طرأ عليها من تغيير وتبديل وعمارة وخراب، وغير ذلك من الأحوال على وجه الصواب، ويذكر تواريخ وتراجم من نشأ فيها من العلماء والأعيان والمشاهير والأولياء قديما وحديثا بألطف بيان.

وقد جمع لذلك ما لا يحصى من حجج الأوقاف والأملاك وكتب التاريخ للقاهرة وغيرها من النظار والملاك.

وبالجملة فهو كتاب جليل المقدار، واضح المنار، ثمين القيمة، غزير الديمة، فريد فى بابه، إمام فى محرابه، يعز على غير مؤلفه - حفظه الله - تأليف مثله، ولا يعرف غير العلماء والفضلاء فى هذا الشأن مقدار فضله:

كتاب عظيم الشان عز مثيله

حوى دقة المعنى إلى رقة اللفظ

إذا سمعت أذناك رقة لفظه

ترى نفثات السحر فى ألطف اللحظ

به منهل التحقيق ساغ وروده

له فى نفوس الأذكياء أوفر الحظ

يعز على ذوق الغبىّ مناله

وينبو عن الجافى وعن مسمع الفظ

جعله مؤلفه خدمة لوطنه، ونفعا لأهل هذا الشأن، وقياما بحق زمنه، وهدية من أحسن الهدايا، وتحفة من أبهج التحف، وذخيرة من أعظم الذخائر، وطرفة من أنفس الطرف، لخزانة الحضرة المهيبة الخديوية

(1)

، والطلعة الداورية التوفيقية، حضرة سيدنا ومولانا الذى عم الأنام إحسانه، وشملهم جوده وامتنانه، محيى رفات المكارم بعد اندراسها، ومشيد أركان المفاخر على مكين أساسها.

سيد يملأ القلوب ابتهاجا

ولمن حلّ فى حماه مجير

هو نهد رحب الذراع مهيب

ورؤوف لمن أساء غفور

وسع الناس حلمه وهو سيف

فى حدود الإله ماض غيور

وأنام الأنام فى ظل أمن

بحماه وسيفه مشهور

أخصبت مصر إذ أقام بها العد

ل، فأمست وكسرها مجبور

(1)

بقية المقدمة عبارة عن مدح بالنثر والشعر فى الخديو محمد توفيق، وذكر لمناقبه وكريم خصاله وسجاياه، رأينا إثباتها بالرغم من زيفها وافتتاتها على الحق، خاصة وقد أصبحنا نعرف دور توفيق فى ضرب الثورة العرابية الوطنية، والترحيب بمقدم قوات الاحتلال البريطانية، ليرى القارئ المعاصر نموذجا لبعض أساليب الكتابة والزلفى للحاكمين وقت نشر الكتاب.

ص: 21

هو شمس الوجود لولاه ما أز

هر بدر ولا استفاض النور

لا، ولا أنبتت سنابل زرع

أى أرض ولا زها التزهير

هو بر بالمعتفين رحيم

هو بحر جداه جم غزير

هو ليث تأتى الأسود إليه

مطرقات عنيدها مقهور

العزيز الذى أعزّ به الدي

ن فأضحى وبيته معمور

المليك الفخم المفخم توفي

ق الإله المؤيد المنصور

ما رأينا ولا سمعنا عزيزا

مثله خيره الهنى كثير

إن أوصافه الحسان بحار

ليس يحصى من قطرها التسطير

غير أن النفوس تروى أواما

من نداها المرىّ فهو نمير

يحسن المدح من سناها ويحلو

من حلاها المنظوم والمنثور

صغت من درها اليتيم عقودا

تتحلى بها الحسان الحور

مهديا وشيها لحضرته العلي

افمدحى له بها مشكور

يا جوادا أروى النفوس بجدوا

هـ وأحيا الأرواح وهى تمور

يا إماما له الأنام خضوع

ورفيقا للنصر حيث تسير

أنت كل الورى كمالا وفضلا

أنت للفادحات آس خبير

عش كما شئت راقيا فى المعالى

فلك السعد خادم وسمير

وتهنأ نفسا ببهجة الأنجا

ل دواما فحظهم موفور

رب أصلح به العباد وأزهر

بدره بالسرور وهو منير

رب أحسن به البلاد وأكثر

خيرها تمس والعسير يسير

فهو غوث الأنام غيث مريع

سائغ ورده الزلال الشهير

الشهم الذى اقتعد هام المعالى بهمته، والمهيب الذى عنت جباه الحبابرة لهيبته، ذو الجناب المجيد، والفخر الجلى، أبو العباس أفندينا محمد توفيق بن اسماعيل بن إبراهيم بن محمد على، لا زالت ألوية العز خافقة على هامه، ولا برح الخير مغدقا على رعيته مدى أيامه، مهنأ البال بأنجاله، فرح الفؤاد بأشباله.

هذا، ولما رأى - أدام الله عزه - هذا الكتاب البديع، وما اشتمل عليه من لطف الشكل، وحسن الصنيع، راقه حسنه الرائق، وأعجبه لطفه الفائق، وأطربه شكله الظريف

ص: 22

وأنعشه روضه النضير، وظله الوريف، فرغبت نفسه الشريفة، وتعلقت آماله المنيفة، وصدر أمره الكريم بطبعه، رغبة فى عموم نفعه، فبودر إلى امتثال أمره الكريم، وأجرى طبعه حسب مرغوب جنابه الفخيم بالمطبعة الكبرى العامرة ببولاق مصر القاهرة، الشائع فضلها فى جميع الأنحاء والأقطار، الشهير صيتها وحسنها، والسارى عموم نفعها فى سائر الجهات سريان الليل والنهار، وذلك لشدة شغفه، أدام الله دولته وكثرة شوقه إلى تأليف كتاب فى عهده، يبين خطط مصر الجديدة، ويشرح حالها، ويذكر تواريخ أهلها، ويوضح ما عليها وما لها، ولما جبلت عليه نفسه الزكية، وشيمته الطاهرة المرضية، من حب المساعى الخيرية، والمبادرة إلى الأفعال البرّية.

فانه، أطال الله حياته، مجبول على حب الطاعة وفعل الخير والتواضع، والشفقة على عباد الله، والرحمة للضعفاء والمساكين، فطالما كان يدخل المستشفيات فى مصر والإسكندرية، ويصافح المرضى بنفسه، ويصبرهم ويدعو لهم بالشفاء، ويعدهم بذلك من فضل الله تعالى، ويأمر الأطباء بالرأفة والشفقة على المرضى، ويحثهم على المواظبة على عياداتهم، والصدق فى مداواتهم، وعدم التكبر والتأخر عن أحد دعوا إليه؛ كبيرا أو صغيرا، عظيما أو حقيرا.

وهو مولع بحب المساجد، والصلاة فيها، والإقبال بهمته على عمارتها، خصوصا مساجد أهل البيت رضي الله عنهم، فانه - أيده الله - حث على عمارة مسجد سيدنا الإمام الشافعى رضي الله عنه التى صدر أمره الكريم بها سنة 1303، وحضر بنفسه يوم وضع أساسه، وكان يوما عظيما مشهودا، ووضع أول لبنة فى أساسه بيده الشريفة، اعتناء بهذا المسجد الشريف، وحبا فى سيدنا الإمام رضي الله عنه، وكذلك مسجد سيدتنا السيدة زينب، بنت سيدنا الإمام على رضي الله عنه، وكرم وجهه، الكائن عند قناطر السباع، الذى جرى تجديده فى عهد الحضرة الفخيمة الخديوية التوفيقية أدام الله أيامها.

وبالجملة فعزيزنا - حفظه الله - سيد أهل هذا الزمان حقا، وبهجة هذا الوقت جميعه، يقينا وصدقا، نسأل الله تعالى أن يديم على رعيته أيامه، ويوالى عليهم بره وإنعامه، وأن يصلح له وبه الأحوال، ويكثر به الخير فى الحال والمآل، بجاه سيدنا ومولانا محمد الرؤوف الرحيم، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

ص: 23

‌مقمة الطبعة المنقحة

يعد كتاب الخطط التوفيقية دائرة معارف مصرية شاملة، من العصر الفاطمى إلى عصر توفيق. وقد حظى كتاب الخطط التوفيقية، لعلى باشا مبارك، باهتمام كبير من الباحثين، حيث أنه المكمل والموضح لكثير من الأماكن والمعالم التى تغيرت أو اختفت بعد المقريزى، والتى شملها كتابه:«المواعظ والاعتبار بذكر الخطط الآثار» ، مما يصعب معه التحقق مما ورد فيه.

فكان قدم العهد بخطط المقريزى وتغير الأمان هو الدافع لعلى باشا مبارك لكتابة هذا الكتاب، والذى تتبع فيه أثر من سبقه من المؤرخين فى الخطط مثل: ابن الحكم، وابن زولاق الليثى المصرى، والمسبحى، وابن دقماق القاهرى، والمقريزى.

وقد ذكر على باشا مبارك فى مقدمته لهذا الكتاب الدافع والأسباب لوضع كتابه، ومنهجه فى تبع أماكن القاهرة فى خطتها القديمة وأسمائها وشهرتها، ثم ذكر ما تحولت إليه فى وقته، مع ذكر أول من أنشأها ومن تملكها.

وقد قسم على باشا مبارك كتابه إلى عشرين جزءا، تشمل تاريخ القاهرة ومصر منذ العصر الفاطمى حتى عصر توفيق، مع مقارنة أوضاعها القديمة بالأوضاع المعاصرة له.

طبع الكتاب أو مرة بمطبعة بولاق سنة 1306 هـ، تشمل تاريخ القاهرة ومصر منذ العصر الفاطمى حتى عصر توفيق، مع مقارنة أوضاعها القديمة بالأوضاع المعاصرة له.

طبع الكتاب أو مرة بمطبعة بولاق سنة 1306 هـ، ثم طبعت الهيئة المصرية العامة للكتاب الأجزاء من 1 - 11 طبعتين مصورتين عن طبعة بولاق، وقام المركز مؤخرا بطبع الأجزاء من 12 - 20 (صدر الجزء 17، وجار طبع باقى الأجزاء) طبعة جديدة منقحة عن طبعة بولاق.

والمركز الآن بصدد إعادة الأجزاء من 1 - 11، طبعة منقحة ومصورة عن الطبعات السابقة عن طبعة بولاق، لما فى هذه الطبعات من الأخطاء اللغوية الكثيرة والأخطاء فى أسماء الشخصيات، ووجو بعض السقط فيها، ولنفادها من الأسواق.

وقد تمت المراجعة اللغوية والتاريخية لهذه الطبعة بمركز تحقيق التراث.

ونرجو أن تعود هذه الطبعة بالفائدة على الباحثين والدارسين في هذا المجال، ونسألا لله التوفيق لبلوغ القصد

إبريل 2004 م

مدير عام مركز تحقيق التراث نجوى مصطفى كامل

ص: 24

الجزء الأوّل من الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة

تأليف

الجناب الأمجد والملاذ الأسعد سعادة على باشا مبارك رحمه الله

طبعة منقحة

[ومصورة عن الطبعات السابقة]

[عن طبعة بولاق]

[1425 هـ - 2004 م]

ص: 25

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فلما كانت مدينة القاهرة المعزية، التى هى دار الحكومة الخديوية، قد كثر ذكرها فى كتب الخطط والتواريخ والسير، ووصف ما كان بها من المبانى والبساتين، وهى الآن غيرها فى تلك الأزمان، لتغيرها عما كانت عليه زمن الفاطميين الذين اختطوها بتغير الدول وتقلب الأزمنة، وكانت تارة يؤثر فيها الزيادة وتارة النقصان، فترى أحيانا زاهرة زاهية، وطورا واهنة واهية.

ولم نر منا معشر أبنائها من يهدينا إلى تلك التقلبات، ويفقهنا أسباب هاتيك الانتقالات، ويدلنا على ما فيها من الآثار، فنجوس خلالها ولا نعرف أحوالها، ونجوب أقطاعها ولا ندرى من وضعها.

وقد خطّها العلامة المقريزى لوقته، وأطال القول فيما فيها من المبانى والمزارع، وتكلم على الحوادث والرجال، ولكن بعده كم من أمور مرت فدمرت، وغير جرت فغيّرت، حتى ذهب أكثر ما أسهب فى شرحه كليا، وزال حتى صار نسيا منسيا. وكم من آثار خيرية صار نفعها مندثرا مهجورا، ومصانع وصنائع قد دثرت كأن لم تكن شيئا مذكورا.

وكم من تلال كانت عمارات شاهقة، ووهاد كانت بساتين معجبة فائقة، وقبور مزوية فى جوانب الحارات، ومشاهد متباعدة فى الفلوات، أطلق عليها العامة أسماء كاذبة كقولهم هذا ضريح الأربعين مثلا. وكم من مساجد نسبوها لغير من بناها، ومعابد أسندوها لمن لم يكن رآها، والحقيقة أنها قبور ملوك عظام، أو معابد سادات كرام، أو مساجد أمراء فخام.

مع أن معرفة ذلك حق علينا، إذ لا يليق بنا جهل بلادنا، والتهاون بمعرفة آثار أسلافنا، التى هى عبرة للمعتبر وذكرى للمدّكر، فهم - وإن مضوا لسبيلهم - قد تركوا لنا ما بحثنا على اقتفاء آثارهم، وأن نصنع لوقتنا ما صنعوه لوقتهم، وأن نجدّ فى طرق الإفادة

ص: 27

كما جدّوا، دعتنى نفسى لتأليف كتاب واف بما لمصر من قديم وحديث، متضمن لذكر مبانيها الداثرة والموجودة، وما يتبع ذلك من أخبار أربابها، وذكر نيلها ومنافعه، وكيفية تصرفاته ومواضعه.

لكنى رأيت هذا المشروع صعب المسلك، لما يحتاج إليه من مراجعة كتب كثيرة فى هذا الشأن، ومناظرة رسوم القديم والجديد من تلك الأزمان، وربما تعسر الوجود، أو تعذر المقصود، كما أنه محتاج لخلو بال وصلاح زمان، وأنّى لى بذلك مع كثرة أشغالى، وتحملى أعباء الوظائف المهمة فى أزمان الحوادث التى أخلت بالراحة العمومية والخصوصية مما يكدر الفكر ويحير العقل؟

فأخذت أحمل جهابذة العلوم، ومن لهم القدرة على ذلك، وأحثهم على وضع كتاب يفك لنا عقدة تلك الصعوبات، ويفض ختام ما أودع فى كتب الخطط من أخبار المتقدمين، وآثار القرون السالفين، وأهل العصر الذى نحن فيه، وأبين ما لهذا المشروع الجليل من الفائدة فى الدنيا والثواب فى العقبى، حتى كلّ فؤادى، وكأن لا حياة لمن أنادى.

فلما لم يلتفت لهذا الأمر إنسان، بل ربما عدّه بعض الجهلة ضربا من الهذيان، قمت مشمرا عن ساعد الجد والاجتهاد، معتمدا على من بيده الهداية إلى سبيل الرشاد، منتهزا لكل فرصة سنحت، مداوما على استنباط الغرائب وترتيب المقاصد، جامعا من كتب العجم والعرب ما يفضى بمتأمله إلى العجب، مراجعا كتب العرب والإفرنج الذين ساحوا تلك الديار، ورسومهم التى بينوا فيها حدود هذه الأقطار، وكذا حجج الأوقاف والأملاك، وما وجد مسطورا على الأحجار والجدران، ملخصا من ذلك ما يحتاج إليه ولا يحسن جهله بحسب الإمكان، إذ ما لا يدرك كله لا يترك كله، ولم أزل على ذلك مدة من الزمن، حارما للعين فى كثير من الأوقات لذيذ الوسن، حتى جاء بحمد الله مجموعا يسر الناظر، ويشرح الخاطر، وهو وإن كان بالنسبة لما قصدت ليس على ما أردت، لكن اخترت أن يكون ذلك مقدمة لمن يوافيه، فينتفع بما فيه.

[منهج الكتاب]

ورأيت أن العلاّمة المقريزى لم يقتصر فى خططه على مدينة القاهرة المعزية، بل تكلم على كثير من بلدان الديار المصرية، بعضها اندثر ولم يبق له أثر، وبعضها صار إلى خالة فائقة لا مناسبة بينها وبين الحالة السابقة، ونصّ على أسماء رجال لم يترجمها، وبلدان وقرى لم يذكر موضعها، وذلك مما ينبغى بيانه خصوصا أن أكثر الآثار القديمة؛ كالأهرام والبرانى وغيرها

ص: 28

مما بقى من أعمال الأمم الماضية والقرون الخالية، لم يكن الغرض من ذكرها إلا كونها من عجائب الدنيا.

ومعلوم أن الكتابة الطيرية المعروفة بالهيروجليفية، لم تنكشف حقيقتها إلا فى هذا القرن، فقد وقف الإفرنج على حقائقها من الكتابات الباقية على جدران الآثار المصرية والمبانى الفرعونية، وأخذوا مجدّين اليوم فى توسيع دائرة علمها، فالتزمت أن أطالع ما كتب بخصوص تلك الآثار، وألخص ما فيه الفائدة، من غير إطالة ولا إكثار.

ووضعت فى كل بلدة من البلدان المذكورة فى هذا الكتاب تراجم من أحاط به الاطلاع ممن نشأ منها، أو استوطنها، أو أقام بها، أو دفن فيها، أو له مناسبة بها من أعلام العلماء والأمراء، ومشاهير الرجال، مع بيان ما لهم من الآثار والأخبار والمصنفات والمرويات بحسب الاستطاعة.

وأتيت على ذكر ما عثرت عليه، أو نقل إلىّ علمه مما اختص بالبلدة، أو برعت فيه، أو عرفت به من صناعة أو غيرها، مضافا إلى ما بها من الآثار العتيقة والمبانى الشهيرة.

وابتدأت الكتاب بهذا المجلد، فجعلته مقدمة له، لخصت فيه الكلام على محل القاهرة قبل قدوم جوهر القائد، وعلى ما حصل لها من الأحوال والتغييرات بتقلب الأزمان وتداول الدول من عهد الدولة الفاطمية، وعلى بقية ملوك القاهرة إلى الآن على الإجمال.

وجعلت للبلدان والقرى مجلدات مخصوصة على ترتيب حروف المعجم تسهيلا على الطالب، ثم شرحت مقياس النيل السعيد فى مجلد وحيد، وبسطت الكلام عليه، وأضفت المتجددات إليه، وأتيت فيه بالحوادث والكائنات من أول الزمان متتابعة، يتلو بعضها بعضا إلى وقتنا هذا، وقصدت أتم الروايات فنقلتها عمن يعلم صدقهم فيما نقلوه وصحة ما دونوه، وإنه بذلك لجدير، كيف لا وهو الإشارة الناطقة، والدلالة الواضحة على نمو الزراعة فى كل سنة؟ وبحثت على درجات ارتفاعه وانخفاضه من الكتب العربية والإفرنجية، ووضعت لذلك جدولا لطيفا شاملا لارتفاعه وحوادثه، وما صار بسببه إلى بلادنا. وطبعته مع الكتاب لوقوف أهل ديارنا على حقيقة نيلهم الذى هو منبع سعادتهم إن اعتنوه، ومورد شقاوتهم إن أهملوه.

وأفردت الترع والخلجان بمجلد بينت فيه أحوالها، وما كانت عليه قبل الآن، أو هى عليه الآن.

وجعلت أيضا لمدينة الإسكندرية جزءا مشتملا بوجه وجيز على بعض حوادثها، وما كانت عليه فى الأزمان المتقدمة.

ص: 29

ولم أتكلم على الفسطاط لاندثارها وخرابها، ومن أراد الوقوف على ما كان بها فليراجع خطط المقريزى، فقد أتى فيها بما يشفى ويكفى.

ولما كانت مدينة القاهرة هى الغرض الأصلى المقصود بالذات من هذا الموضوع، لأنها أم البلاد المصرية، وتخت الحكومة الخديوية، ومنبع العلم والصنعة والتجارة، جعلت مبانيها الشهيرة - كالمساجد والمدارس ونحوها - مرتبة على ترتيب حروف الهجاء فى مجلدات على حدتها، حتى أن من أراد الاطلاع على مسجد أو مدرسة مثلا، يسهل له الوقوف على ما أراد بعد معرفة اسمه. ولم أقتصر فى ذلك على شرح الحالة الراهنة، بل أخذت ما وجدته فى الخطط وغيرها من صفة الحال السالفة، رغبة فى جمع ما تشتت من أحوالها، لوقوف الطالب على جميع صفاتها قديما وحديثا.

ووضعت أيضا لشوارعها مجلدين على ترتيب الحروف، وتكلمت على ملحقات كل شارع من دروب وحارات وعطف وأزقة، مع ما فيها من المساجد والمدارس والأضرحة والأسبلة والحمامات والوكائل ونحو ذلك، سابقا ولاحقا، حتى صار هذان المجلدان عبارة عن خطط القاهرة فى زماننا هذا، فجاء ما فيهما كافيا وافيا فى الدلالة على هذه المدينة ومشتملاتها.

ولتتم الفائدة من هذا الكتاب أفردت مجلدا قررت فيه القول على أصناف النقدية التى كان جاريا بها التعامل فى مصرنا بكل عصر من الأزمان الخالية، وشرحت تاريخها، وأصل وضعها، وأسباب حدوثها، ومن أحدثها وقوّمها، حتى صار فى إمكان الطالب أن يقارن بين أسعار الأشياء فى الأوقات المتفاوتة، فإنه متى قيل كان صنف كذا يباع بكذا من الدنانير مثلا، وحصلت مقارنة بين هذه القيمة لهذا الصنف فى سنة كذا وبين قيمته الآن بمعاملتنا، يعلم أن هذا الصنف كان أعلى قيمة مما هو عليه الآن أو أقل فى كل زمن وقع فيه الاعتبار.

فكمل كتابنا هذا بحمد الله فى عشرين مجلدا لطيفا على أسلوب رقيق، ووضع أنيق، يسرّ سامعه، ويروق مطالعه. والله الكريم أسأل من فضله وكرمه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به كل طالب بقلب سليم، وأن يوفق من اطلع. عليه إلى إصلاح ما عسى أن يكون فيه من الخطأ والنسيان، ويزيد عليه ما عجزت عن الإتيان به، وأن يكافئنا وإياه بما كافأ به عباده الصالحين، الذين قصروا أعمالهم مدة حياتهم على طلب مرضاته. إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.

ص: 30

‌بيان محل القاهرة قبل قدوم جوهر القائد

لما قدم القائد جوهر بعساكر الفاطميين إلى ساحل الفسطاط وقت الزوال من يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من شهر شعبان سنة سبع وخمسين وثلثمائة نزل بحرى الفسطاط فى الأرض التى فيها اليوم الجامع الأزهر وبيت القاضى وخان الخليلى وبين القصرين وما جاورهما من الأماكن التى بين الجبل والخليج. وكانت هذه البقعة رمالا فيما بين مصر الفسطاط وعين شمس - التى تسمى الآن بالمطرية - يمر بها الناس عند مسيرهم من الفسطاط إلى عين شمس، فيما بين الخليج، المعروف فى أول الإسلام بخليج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والخليج المعروف باليحاميم لمروره بجانبها، إذ اليحاميم اسم للجبل الأحمر الكائن بشرق العباسية. وكان ذلك الخليج يمر بقربها، وقد زال من مدة ولم يبق له أثر.

وعند نزول جوهر بهذه الرملة لم يكن بها بنيان غير البساتين وأماكن قليلة، منها بستان الإخشيد محمد بن طغج المعروف بالكافورى، وكان هذا البستان فى شرقى الخليج - محله اليوم فيما بين جامع الشعرانى والسكة الجديدة قريبا من قنطرة الموسكى - ممتدا فى الجهة الشرقية إلى النحاسين، وكانت مساحته تبلغ ستة وثلاثين فدانا بمقياسنا اليوم، وبجانبه من الجهة القبلية ميدان الإخشيد - ومحله الآن من بر الخليج الشرقى إلى شارع السكرية والغورية.

وكان فى محل الجامع الأقمر دير للنصارى، يعرف بدير العظام، تزعم النصارى أن فيه بعض من أدرك المسيح عليه السلام، وبئر هذا الجامع هى بئر ذلك الدير، وتعرف ببئر العظام، وتسميها العامة ببئر العظمة.

وكان بهذه الرملة أيضا موضع آخر يعرف بقصيّر الشوك (بصيغة التصغير)، تنزله بنو عذرة فى الجاهلية، وصار عند بناء القاهرة خطا، يعرف بقصر الشوك.

وفى تلك الحقبة كان الخليج المصرى ينتهى إلى قنطرة بناها عبد العزيز بن مروان سنة تسع وستين - موضعها الآن منتهى حارة السيدة زينب رضي الله عنها وكانت الحارة طريقا لا بناء فيه، تمر الناس من فوق تلك القنطرة إلى بره الغربى. وإلى ساحل النيل.

ص: 31

وكان فى غربى الخليج تجاه معسكر جوهر قرية تعرف بأم دنين، ثم عرفت بعد بالمقس، وهى الآن خط من أخطاط القاهرة، واقع عن يسرة من سلك من شارع كلوت بك إلى سكة الحديد، ممتدا إلى الشارع الواقع عليه جامع أولاد عنان. وكان الخليج فاصلا بينهما وبين الرملة المذكورة، وكان فيما بين قرية أم دنين والشاطئ الغربى فضاء لا بناء فيه، ثم صار بعد بناء القاهرة ميدانا توضع فيه الغلال، وسمّاه المقريزى ميدان القمح، وهو الآن من جملة خط باب الشعرية. وكان الواقف بهذا الفضاء يرى النيل عن يمينه من بعد إذا استقبل المغرب، وعن يساره بستان المقس - محل بركة الأزبكية وما بحذائها من الجهة القبلية - وبعده تلك البساتين إلى الفسطاط، وكان يرى بر الجيزة والقرى الواقعة عليه أمامه.

وكان من يسافر من الفسطاط إلى الشام من العسكر والتجار وغيرهم ينزل بطرف هذه الرملة فى الموضع الذى كان يعرف إذ ذاك بمنية الإصبغ، ثم عرف زمن الفاطميين بالخندق، والآن يعرف بقرية الدمرداش، ويقوم من منية الإصبغ إلى سلمنت وبلبيس، وبينها وبين الفسطاط أربعة وعشرون ميلا، ومن بلبيس إلى العلاقمة ثم إلى الفرما، ولم يكن هذا الدرب يعرف قديما، وإنما عرف بعد خراب تنيس والفرما.

وكان من يسافر من الفسطاط إلى الحجاز برا، ينزل بجب عميرة المسمى أولا ببركة الجب والآن ببركة الحاج - وكانت حافة الخليج الشرقية هى الطريق العام.

وكان القادم من الفسطاط إلى القاهرة يجد عن يمينه منازل العسكر - فى محل التلال التى نشاهدها الآن قريبا من باب السد - ثم يجد عدة ديور وكنائس موضع خط السيدة زينب رضي الله عنها، ثم بركة البغالة وبركة الفيل إلى سور القاهرة. وكانت العامة تجلس فى هذا الطريق أمام السور للتفرج على الخليج وما وراءه من البساتين والبرك.

وأما بر الخليج الغربى فكان بأوله بحرى قنطرة عبد العزيز بن مروان البستان الزهرى ممتدا إلى باب اللوق إلى جامع الطباخ، ويتصل به عدة بساتين إلى المقس، جميعها مطل على النيل، ولم يكن لبر الخليج الغربى كبير عرض، وإنما يمر النيل فى غربى البساتين على الموضع الذى يعرف اليوم باللوق، وأوله عند جامع الطباخ، ويمتد جهة الغرب إلى ساحل النيل.

ص: 32

‌حال القاهرة فى مدة الخلفاء الفاطميين

هذه المدينة الفخيمة وضعها الفاطميون سنة ثمان وخمسين وثلثمائة من الهجرة، وذلك أنه لما توالى الغلاء، وتتابعت الشدائد، وحصل الإدبار، وعجز رجال الدولة عن إدارة الأمور، واختل حال الأقاليم المصرية، قام المعز لدين الله أبو تميم معدّ، وأغار على مصر فى أيام الإخشيديين، وقام إليها تابعه جوهر قائد عساكره، فانتزعها من أيديهم، ودخل الفسطاط بالعساكر فى السنة المذكورة. وكانت الفسطاط اذ ذاك مدينة كبيرة، وكانت محل الأمراء، ومستقر ملكهم، وإليها تجبى ثمرات الأقاليم، وكان لها من وفور العمارة، وكثرة السكان، وسعة الأرزاق، ما تفتخر به على مدن المعمورة.

وكان حدها الشرقى من باب القرافة تحت قلعة الجبل، ممتدا إلى كوم الجارح إلى بركة الحبش، وهى أرض البساتين.

والحد الغربى قناطر السباع إلى دير الطين، ممتدا على ساحل النيل.

والحد القبلى من شاطئ النيل عند دير الطين إلى نهاية الحد الشرقى حيث البساتين.

والحد البحرى من قناطر السباع إلى قلعة الجبل.

وما بين تلك الحدود كان مشحونا بالعمارة من الدور الفاخرة والأسواق والمبانى. وكان منها العسكر والقطايع.

وكل ذلك تخرّب واندرست معالمه، ولم يبق منه إلا القليل جدا؛ كخط السيدة زينب رضي الله عنها، وخط الكبش، والجامع الطولونى، والسيدة نفيسة رضي الله عنها، إلى آخر ثمن الخليفة، وما حول الرميلة وقراميدان. فإذا خرج الإنسان من بوابة السيدة نفيسة إلى العيون، وقلب طرفه فى تلك الصحراء الواسعة يرى أثر العمائر أطلالا وتلالا مرتفعة فى بحرىّ العيون وقبلّيها، وخلف العامر من مصر العتيقة، وجهة الإمام الشافعى وأبى السعود الجارحى رضي الله عنهما، والدير الكبير المعروف قديما بقصر الشمع، وجهة الرصد، وهو الجبل المرتفع على أرض البساتين من بحريها وغير ذلك.

ص: 33

[ما عابه ابن رضوان على القاهرة]

ومع ما كانت عليه هذه المدينة من العز والثروة عابها ابن رضوان، وشنّع على موقعها وترتيبها، قال: إن بعدها عن خط الاستواء ثلاثون درجة، والجبل المقطم فى شرقيها:

وبينها وبينه المقابر، وقد قال الأطباء إن أردأ المواضع ما كان الجبل فى شرقيه يعوق ريح الصباعنه. قال: وأعظم أجزاء الفسطاط فى غور، فانه يعلوه من الشرق المقطم، وكذا من الجنوب الشرقى، ومن الشمال المكان المعروف بالموقف والعسكر وجامع ابن طولون. ومتى نظرت إلى الفسطاط من الشرق، أو من مكان آخر عال، رأيت وضعها فى غور. وقد بين بقراط أن المواضع المتسفلة أسخن من المواضع المرتفعة وأردأ هواء، لاحتقان البخار فيها، لأن ما حولها من المواضع العالية يعوق تحليل الرياح لها. وأزقة الفسطاط وشوارعها ضيقة، وأبنيتها عالية، وقد قال روفس: إذا دخلت مدينة فرأيتها ضيقة الأزقة مرتفعة البناء، فاهرب منها لأنها وبيئة، اذ رداءة البخار لا تنحل منها كما ينبغى، لضيق الأزقة وارتفاع البناء.

ومن شأن أهل الفسطاط أن يرموا ما مات فى دورهم من السنانير والكلاب ونحوها من الحيوانات التى تخّالط الناس فى شوارعهم وأزقتهم، فتتعفن ويخالط عفونتها الهواء. ومن شأنهم أيضا أن يرموا فى النيل الذى يشربون منه فضول الحيوانات وجيفها، وتصب فيه خرارات كنفهم، وربما انقطع جرى الماء فيشربون هذه العفونة باختلاطها بالماء. وفى خلال الفسطاط مستوقدات عظيمة يصعد منها فى الهواء دخان مفرط.، وهى أيضا كثيرة البخار لسخونة أرضها، حتى إنك تجد بها الهواء فى أيام الصيف كدرا، ويتسخ منه الثوب النظيف فى اليوم الواحد وإذا مر بها الإنسان فى حاجة لم يرجع إلا وقد اجتمع فى وجهه ولحيته غبار كثير، ويعلوها فى العشيات، خاصة فى أيام الصيف، بخار كدر أسود، لا سيما عند سكون الرياح، إلى آخر ما قال من كلام طويل.

[بناء القاهرة ووصول المعز]

ولما دخلت عساكر المعز الديار المصرية سار جوهر إلى الفسطاط، ودخلها يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان من السنة المذكورة، فاختار أن يبنى فى بحريها بعيدا عنها، فاختلط للعسكر فى الرملة التى كانت تجاه قرية أم دنين، وكانت فى ملك الخلفاء العباسيين، ثم بنى ابن طولون، فاستقر جوهر هناك، واختط القصر.

فلما أصبح المصريون ذهبوا إليه للتهنئة، فوجدوه قد حفر أساس القصر ليلا. وكانت فيه ازورارات، فلما رآها لم تعجبه، ثم أغضى عنها، وقال: إنه قد حفر فى ليلة مباركة،

ص: 34

وساعة سعيدة، فتركه على حاله، وأدخل فيه دير العظام الذى فى محله جامع الأقمر، واختطت كل قبيلة خطة عرفت بها، وأدار السور الذى جعله من اللّبن على مناخه الذى نزل فيه بعساكر وسماها «المنصورية» .

ولما كملت فى ثلاث سنين، وبلغ المعز تمامها، خرج من مدينة «المنصورة» - تخت ملكه بالمغرب - يريد أرض مصر، فركب البحر فى أسطول، واجتاز على جزيرة سار دينيا ثم جزيرة صقلية التابعتين لملكه، وأقام بهما عدة شهور حتى رتّب أمورهما، ثم اجتاز على طرابلس الغرب، فأقام بها يسيرا، وقام منها فدخل الإسكندرية فى شعبان من السنة المذكورة، وأقام بها مدة، ثم سار إلى الفسطاط بعساكره، واجتاز النيل على جسر عمله له جوهر عند البستان المسمى بالمختار، وكان فى الطرف البحرى من جزيرة المقياس. فلم يدخل الفسطاط مع أنها تزينت له، واستعدّ أهلها لملاقاته، بل سار إلى أن دخل القاهرة، وكان معه أولاده وإخوته، وسائر أولاد جده عبيد الله المهدى أول ملوك الدولة الفاطمية بالمغرب، وتوابيت آبائه.

[محاولة القرامطة غزو مصر]

وفى الخطط أن القاهرة فى أول الأمر كانت تسمى بالقلعة والطابية والمعقل والحصن، وقصد القائد باختطاطها فى هذا الموضع أن تكون حصنا للفسطاط ممن يقصدها من جهتها البحرية، خصوصا القرامطة الذين كانت بايديهم البلاد الشامية القاصية وبلاد أرمنستان، فإنه لما بلغهم استيلاء جوهر على مصر وأخذه دمشق جيشوا جيوشا جرارة، وساروا لقتاله فى سنة ستين وثلثمائة. فلما وصلوا دمشق أخذوها، وقتلوا جعفر بن فلاح حاكمها من طرف الفاطميين، ثم أخذوا الرملة، ثم وصلوا القلزم، فاحترس جوهر، واستعد لقتالهم، وحفر الخنادق، وبنى الأبواب المنيعة، وركّب عليها بوابات البستان الكافورى وكانت من حديد، وبنى القنطرة عند شارع باب الشعرية - وهى باقية إلى زماننا هذا - سنة ثلثمائة وألف، ثم حصل بينه وبينهم عدة وقعات قتل فيها كثير منهم، وانهزموا شر هزيمة، واستولى جوهر على سواد أميرهم الأعصم وكتبه وصناديقه.

[الخنادق المحيطة بالقاهرة، وبستان الإخشيد]

وكانت القاهرة إذ ذاك بين ثلاثة خنادق: خندق من قبليها، وهو الذى حفره عمرو ابن العاص، رضي الله عنه، وكان شرقى قبر الإمام الشافعى رضي الله عنه، وخندق اليحاميم أوله الجبل الأحمر المسمى باليحاميم، وخندق من غربيها وهو الخليج الموجود فى هذا القرن الثالث عشر.

ص: 35

ولما أدار سورها حفر لها الخندق الرابع من بحريها، فصارت بين أربعة خنادق، وأدخل فى السور بستان الإخشيد وميدانه، وجعل دير العظام وقصر الشوك من ضمن القصر الكبير، فكان البستان بين القصر والخليج، وصار الخليج خارجا، وكان البستان كبيرا جدا - وفى محله الآن حارات اليهود وخط الخرنفش، ويمتد إلى شارع النحاسين.

والذى أنشأ هذا البستان الأمير أبو بكر بن محمد بن طغج بن الإخشيد أمير مصر، وكان مطلا على الخليج، واعتنى به، وجعل له أبوابا من حديد، وكان يتردد إليه ويقيم به الأيام، واهتم به بعده أبناؤه: الأمير أبو القاسم أنوجور، والأمير أبو الحسن على أيام إمارتهما بعد أبيهما، ولما استقل بعدهما بإمارة مصر الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيدى كان كثيرا ما يتنزه به ويواصل الركوب إلى الميدان الذى به، وكانت خيوله بهذا الميدان، ثم لما آلت مصر للفاطميين صار هذا الميدان منتزها لهم، وكانوا يتوصلون إليه من سراديب مبنية تحت الأرض ينزلون إليها من القصر الكبير، ويسيرون فيها بالدواب إلى البستان ومناظر اللؤلؤة، بحيث لا تراهم الأعين، فلما زالت الدولة الفاطمية حكّر، وتجددت فيه الأبنية سنة إحدى وخمسين وستمائة.

[أبواب القاهرة]

وكان فى السور الذى بناه جوهر عدة أبواب: ففى الجهة البحرية باب النصر القديم - كان بجوار زاوية القاصد، وباب الفتوح القديم، وكان بجوار حارة بين السيارج التى فى خارجه - وكان محل الجامع الحاكمى خارج السور.

وبالجهة القبلية بابان متلاصقان يسميان بابى زويلة، أحدهما بجوار زاوية سام بن نوح المجاورة لسبيل العقادين، والآخر بجواره، وكان أحدهما وهو المجاور للزاوية المذكورة يسمى باب القوس، دخل منه المعز القاهرة عند قدومه، فتيامن الناس به، واستعملوه، وهجروا الباب الآخر، زاعمين أن من مرّ منه لا تقضى له حاجة، وقد زال بالكلية ولم يبق له أثر.

وفى الجهة الشرقية الباب المحروق القديم، وكان دون موضعه الآن، وباب البرقية كان خارج حارة البرقية التى اختطها جماعة من أهل برقة - وهى التى تعرف اليوم بالدراسة، وبقرب موضعه اليوم الباب المعروف بباب الغريب.

وكان لها هناك باب ثالث يغلب على الظن أنه كان بين هذين البابين.

وفى الجهة الغربية باب سعادة - ومحله بجوار الحد القبلى لسراى الأمير منصور باشا بقرب جامع اسكندر الذى هدم وصار محله الميدان الكائن أمام منزل الباشا المذكور - وكان هذا

ص: 36

الباب على رأس زقاق هدم فى ضمن ما هدم من الأبنية فى إنشاء الميدان المذكور، وكان هذا الزقاق من درب سعادة.

وباب آخر يسمى باب القنطرة لكونه مبنيا فوق القنطرة التى بناها جوهر القائد على الخليج، يمر منه السالك من باب مرجوش إلى باب الشعرية، ثم هدم بعد سنة سبعين ومائتين وألف لخلل قام به.

وكان باب ثالث يعرف بباب الفرج قد زال، وكان بعد حمام المؤيد بجواره.

وباب رابع يعرف بباب الخوخة كان بشارع قبو الزينية، ومحله تجاه جامع الشيخ فرج.

وما بين هذه الحدود كان ثلثمائة وأربعين فدانا، والقصر الكبير الشرقى يشغل من الأرض خمس ذلك.

[برك القاهرة القديمة وبساتينها]

وكان شكل القاهرة إذ ذاك مربعا تقريبا، فكان طولها على الخليج ألف متر ومائتى متر.

وعرضها ألف متر ومائة متر، وطول وجهة القصر الغربية ثلثمائة وخمسة وأربعون مترا باعتبار الفدان أربعة آلاف متر ومائتان من الأمتار المربعة.

وكان الذاهب من الفسطاط إلى عين شمس - أى المطرية - يسير على ساحل النيل القديم ثم يسير بحافة الخليج الشرقية، فتكون عن يمينه بركة الفيل الصغيرة - وهى بركة البغالة - وكان حولها ديور وكنائس وبساتين، تحيط بها المبانى المعروفة بالعسكر - التى هى الآن تلال مرتفعة قبلى بركة البغالة - وبجوارها مبانى جبل يشكر وجبل الكبش، ثم يلى هذه البركة بركة الفيل الكبيرة - الباقى بعضها إلى الآن - وكانت تتصل ببركة الفيل الصغيرة، وتمتد بركة الفيل الكبيرة قرب باب زويلة، ويحدها من جهة الشرق شارع السروجية، وكان بساحلها الشرقى بساتين تمتد إلى الرميلة إلى السيدة نفيسة رضي الله عنها، وتتصل بها بساتين أخرى عند القطائع والفسطاط إلى النيل، ومن جهة الغرب الطريق المار بشرقى الخليج - وهو الطريق المعروف الآن بشارع درب الجماميز - وعلى حافة هذه البركة من هذه الجهة بنى فيما يعد جامع بشتاك وغيره من المبانى وغيرها.

ومن الجهة القبلية الجسر الأعظم، وهو الطريق المار تحت قلعة الكبش الموصل من الصليبة إلى خط السيدة زينب رضي الله عنها، ويحدها من الجهة البحرية الشارع المعروف بشارع تحت الربع.

وكان السالك على حافة هذه البركة من الجهة الغربية فى طول الخليج يشاهد فى غربى الخليج المذكور بحر النيل، وبينه وبين الخليج بساتين الزهرى على ضفته الغربية ممتدة إلى قنطرة

ص: 37

باب الخرق، فاذا حاذى السالك القاهرة كانت عن يمينه وجملة بساتين عن يساره ممتدة إلى النيل، وشمالا إلى قنطرة البكرية الموجودة الآن بشارع العباسية قرب جامع الظاهر.

وكان فى شمال القاهرة مزارع وبساتين ممتدة إلى المطرية. ولم يكن فى الجهة الشرقية إلا جبل الجيوشى، فكان موقع القاهرة فى تلك الأزمان من أجلّ المواقع وأجملها.

ولما استقرّ ملك الفاطميين أحدثوا فى ضواحيها الأربع من المبانى الفاخرة، والمناظر البهجة، والبساتين النضرة، ما زاد فى بهجتها ورونقها، وبقيت كذلك إلى أن انقرضت دولتهم، فتغيرت أحوالها. وصارت إلى ما سيتلى عليك فى مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

[تسمية الحوارى بأسماء القبائل التى سكنتها]

ويفهم من كلام المقريزى أن قصبة القاهرة كانت فى منتصف المسافة بين السورين، الشرقى والغربى، وتمر بين باب الفتوح وباب زويلة. وقصر الخلفاء كان فى وسط القصبة، وينظر منه إلى بستان الإخشيد، وأن قبائل العرب التى حضرت مع جوهر اختطت أغلب خططها فى جميع جهاتها، ما عدا الجهة التى تقابل الخليج، وإلى اليوم يطلق على بعض حارات القاهرة أسماء من اختطها، فحارة زويلة لم تزل معروفة بهذا الاسم الذى أخذته من قبيلة زويلة من بلاد القيروان، وحارة البرقية من قبيلة البرقية. وللروم الذين هم جموع من نصارى الأروام حارتان: إحداهما داخل البلد بحرى قصر الخليفة بقرب السور، والأخرى خارج البلد من قبليها بقرب باب زويلة، وكذا العطوفية، وحارة الباطنية حيث السور الشرقى، والجودرية حيث السور القبلى.

وجعل لطائفتين من العساكر، وهما الريحانية والوزيرية، حارتان يفصل بينهما شارع فى الجهة البحرية خارج القاهرة من جهة باب الفتوح، وقد صارتا - فيما بعد الدولة الفاطمية - حارة واحدة سميت بحارة بهاء الدين فى زمن الدولة الأيوبية، وتعرف الآن بحارة بين السيارج.

وجعل لطائفتى المرتاحية والفرحية حارة من داخل باب القنطرة، لحيث السور البحرى، وهى الآن الشارع المشهور بخط مرجوش الذى يسلك منه إلى باب القنطرة.

[بناء الأزهر والمقابر المعزية]

ثم إن جوهرا بنى الجامع الأزهر قبلى القصر الكبير الشرقى، وجعل بين الجامع والقصر اصطبل القصر المسمى باصطبل الطارمة، وكان به الخيل الخاصة للخليفة فى جهته القبلية،

ص: 38

وكان مفصولا عن الجامع برحبة، واليوم محل هذا الإصطبل شارع الشنوانى وما عليه من المبانى والأزقة، وجعل أمام الجامع من الجهة الغربية رحبة متسعة، وكان يشرف على الاصطبل أحد القصور المسمى بقصر الشوك.

وجعل من جملة القصر الكبير التربة المعزية، وفيها دفن المعز لدين الله آباءه الذين أحضر معه أجسادهم فى توابيت من بلاد المغرب كما تقدم، وهم عبيد الله المهدى، وابنه القائم بأمر الله أبو القاسم محمد، وابنه المنصور بنصر الله أبو الظاهر اسماعيل، واستقرت مدفنا للخلفاء وأولادهم ونسائهم، وكانت تعرف بتربة الزعفران، وهى مكان كبير من جملتها الخط الذى كان يعرف قديما بخط الزراكشة العتيق، ويعرف اليوم بخان الخليلى.

وكانت هذه التربة تمتد إلى المدرسة البديرية خلف المدارس الصالحية النجمية، وبها إلى اليوم بقايا من قبورهم. وكان لهذه التربة عوائد ورسوم منها أن الخليفة كلما ركب بمظلة وعاد إلى القصر لا بد أنه يدخل إلى زيارة آبائه بهذه التربة، وكذلك لا بد أن يدخل فى يوم الجمعة دائما، وفى عيدى الفطر والأضحى مع صدقات ورسوم ذكرها المقريزى.

وبقيت هذه التربة محترمة مقامة الشعائر الأزمان الطويلة أيام دولة الفاطميين وارتفاع شأنها إلى أن اضمحلت أحوالهم وضعف أمرهم، فاضمحلت باضمحلالهم.

ولما كانت الشدة العظمى فى زمن الخليفة المستنصر وطلب عساكر الأتراك منه النفقة فما ظلهم، هجموا على هذه التربة وانتهبوها فى ضمن ما انتهبوه، على ما بينه المقريزى فى خططه، فأخذوا ما فيها من قناديل الذهب، وكانت قيمتها، مع ما اجتمع إليها من الآلات الموجودة هناك مثل المداخن والمجامر وحلى المحاريب وغير ذلك، خمسين ألف دينار. ثم لما زال ملكهم، وانقرضوا، وتداولت الأيام والدول، وأنشأ الأمير جهاركس الخليلى فى خط الزراكشة المقدم ذكره أيام الناصر بن قلاوون خانه المعروف بخان الخليلى نسبة إليه، أخرج من هذه التربة ما شاء الله من عظامهم، فألقيت فى المزابل على كيمان البرقية.

[مصلى العيد]

وبنى جوهر أيضا مصلى العيد خارج باب النصر، وكان الفراغ من بنائه فى شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، ثم جدّده العزيز بالله. وكان للفاطميين رسوم وعادات فى صلاة العيد فى المصلى المذكور، تكلم عليها المقريزى وأطنب، وبعض المصلى باق إلى الآن، وبه محراب قديم، وأكثره صار مقابر، ومن زمن مديد يطلق على مصلى العيد المذكور اسم مصلى الأموات، وكثيرا ما نجد هذا الاسم فى الكتب، وقد استوفينا بيان ذلك فى محله.

ص: 39

‌مطلب مدة استيلاء الفاطميين على مصر

ثم إن مدة استيلاء الفاطميين على أرض مصر كانت مائتى سنة وتسع سنين، وذلك من مدة دخول جوهر وتأسيسه مدينة القاهرة سنة ثمان وخمسين وثلثمائة إلى انقراض دولتهم بموت العاضد آخر خلفائهم سنة سبع وستين وخمسمائة.

وتولى الخلافة منهم فى تلك المدة أحد عشر خليفة، ما من خليفة منهم إلا جدد عمارات بالقاهرة ومصر وضواحيها، حتى اتسع نطاق العمارة. ولكون القاهرة كانت مقر الخليفة ورجاله وعساكره كانت على جانب عظيم من الاحترام، وأما الفسطاط، فلكونها هى العاصمة، وإليها ترد البضائع وتصدر عنها، فكانت مقر الأعيان وأرباب الثروة، ورجال العلوم والصنائع والحرف.

وكانت الثروة إذ ذاك كبيرة، والتجارة واسعة الأرجاء، بسبب اتساع ملك الفاطميين، فإنه كان ممتدا إلى أقصى بلاد الشام والمغرب، فكانت تأتيها البضائع مما دخل تحت ملكهم ومن غيره.

[سائح فارسى يصف القاهرة بعد بنائها بخمسين سنة]

وقد ساح فى بلاد مصر بعد بناء القاهرة بخمسين عاما عالم من الفرس يعرف «بالناصرى خسرو» ، ووصف القاهرة والفسطاط، فقال فى رحلته المعروفة «بسفرنامه»: إن الفسطاط تظهر من بعد كالجبل، وفيها منازل من سبع طبقات فأكثر، وسبعة جوامع - كبار. قال:

ولو وصفت ما فيها من آثار السعادة والثروة لكذّبنى الفرس.

وفى موضع آخر قال: إن مدينة القاهرة قلّ أن يوجد لها شبيه فى الدنيا، وقد حسبت فيها عشرين ألف دكان جميعها ملك السلطان، وأغلبها مؤجر بعشرة دنانير، والحمامات والوكائل وغيرها من المبانى لا يحصى عددا، والكل ملك السلطان. لأنه كان ممنوعا فى القاهرة التملك لغيره.

قال: وأخبرت إن فى القاهرة - كما فى مصر - عشرين ألف منزل ملك السلطان أيضا، وجميعها مؤجرة، والأجرة تقبض شهريا، والتأجير والإخلاء من غير جبر ولا إكراه.

وسراى السلطان فى وسط القاهرة، وحولها فضاء لا يحوّم حوله بناء قط، ومتى نظرت إلى السراى المذكورة من بعد تراها كأنها جبل لكثرة المبانى وعلوّها، وأما من دخل البلد، فلا يمكنه نظرها بسبب علو الأسوار.

ص: 40

‌ذكر أبواب القاهرة [ومنازلها]

ومدينة القاهرة لها خمسة أبواب: باب النصر، وباب الفتوح، وباب القنطرة، وباب زويلة، وباب الخليج، وليست محاطة بسور حصين، ولكن السراى والمنازل شاهقة، وكل منها أشبه بقلعة، وأغلب البيوت من خمس أو ست طبقات، ومن حسن صنعتها وإتقانها يتوهم الناظر إليها أنها مبنية من أحجار ثمينة، وليست من جص ودبش، وجميع البيوت منفصلة عن بعضها، بحيث أن سور أحدها لا يمس سور الآخر المجاور له، وكل مالك يمكنه أن يبنى ويهدم من غير ممانعة من الجار.

‌مطلب أول من تولى الخلافة من الفاطميين [وأوصاف قصره وما تضمه خزائنه من نفائس]

وأول من تولى الخلافة منهم بديار مصر المعز لدين الله أبو تميم معد، وكان عالما فاضلا جوادا، حسن السيرة، منصفا للرعية، مغرما بالنجوم؛ أقيمت له الدعوة بالمغرب كله وديار مصر والشام والحرمين وبعض أعمال العراق، ولما قدم مصر ساس الأمور، ودبر الأحوال، ولم يأل جهدا فى الإصلاح، فانصلح حال مصر عما كانت عليه. ولما استقر بالقصر أمر بالزيادة فيه، وكان جوهر قد رتب به الدواوين ومواضع السكنى اللائقة بالخلافة، وأدار عليه سورا فى سنة ستين وثلثمائة.

وكان للقصر تسعة أبواب: ثلاثة فى الغرب، باب الزهومة، وباب الذهب، وباب البحر، وفى بحريه باب واحد كان يعرف بباب الريح، وفى جهته الشرقية ثلاثة؛ باب الزمرد، وباب قصر الشوك، وباب العيد، واثنان فى جهة القبلة؛ باب الديلم، وباب تربة الزعفران.

وكان القصر الكبير يشغل محل خان سرور والمدارس الصالحية والمدرسة الظاهرية وأرض الدكاكين والمنازل الكائنة فى صفّها، إلى رحبة العيد وأرض الحارات والأزقة والأماكن الموجودة خلف جميع ذلك إلى حارة البرقية، وقد بينّا جميع ذلك فى محلّه، وله عدة خزائن لحفظ ما تستدعيه رسوم الملك وأبهة الخلافة، ولوازم القصر وملحقاته، من الحلىّ وأنواع الزينة والأمتعة والفرش والثياب والذخائر، وما تحتاج إليه العساكر البريّة والبحرية كالسلاح والخيام والبنود، وما يتجمّل به الخليفة وخواصه وسائر رجاله وأتباعه، وما ينعم به فى أيام الأعياد والمواسم إلى غير ذلك.

وكانت هذه الخزائن كثيرة العدد، لكل منها نوع من الأنواع قد أعدت له، وكانت مشتملة على نفائس جليلة، ومهمات عظيمة، بالغة فى العظم والكثرة حدا لا تكاد تبلغه

ص: 41

العبارة، حتى إنّه كان للكتب خاصة من ضمن هذه الخزائن أربعون خزانة تشتمل - فيما حكاه بعضهم - على ألف ألف وستمائة ألف كتاب.

وفى ضمن ما كان فى خزانة الفرش والأمتعة مقطع من الحرير الأزرق التسترى القرقوبى، غريب الصّنعة، منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير، كان المعز لدين الله أمر بعمله فى سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة، فيه صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومساكنها شبه جغرافيا، وفيه صورة مكة والمدينة مبيّنة للناظر، مكتوب على كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحرير.

وكان فى خزائن الخيم عدة عظيمة من أعدال الخيم والمضارب، والفازات والمسطحات والجركاوات وغيرها، ومنها فسطاط يسمى المدورة الكبيرة يقوم على فرد عمود طوله خمسة وستون ذراعا بالكبير، ودائره خمسمائة ذراع، وكانت تحمل خرقه وحباله وعدته على مائة جمل، وفى صفريته المعمولة من الفضة ثلاثة قناطير مصرية، قد صور فى رفرفه صورة كل حيوان فى الأرض، وكل شكل ظريف، عمل فى أيام الوزير اليازورى. كان يعمل فيه مائة وخمسون صانعا مدة تسع سنين، وبلغت النفقة عليه ثلاثين ألف دينار، وكان عمله على مثال القاتول، الذى كان العزيز بالله أمر بعمله أيام خلافته، وكان أعظم من هذا

إلى غير ذلك مما يطول شرحه.

وعامة ما فى هذه الخزائن قد استلب وانتهب فى الشدة العظمى أيام المستنصر، وبيع ما بيع منه بأبخس الأثمان، فتبدّد ما كان فى تلك الخزائن من بدائع النفائس، وجلائل الذخائر، وأصبحت خالية خاوية، ولم تزل بها تقلبات الأيام وتصرفات الأحوال حتى تخرّبت بالكلية، واندرست معالمها، وانطمست آثارها، حتى جهلت مواضعها.

وقد أطال المقريزى رحمه الله تعالى القول فى هذه الخزائن، وذكر مشتملاتها، ويأتى فى الكلام على شارع النحاسين بيان مواضعها، والإلماع بما كان فيها.

وكان القصر الكبير منعزلا عن مساكن العسكر يحيط به الرحاب الواسعة، فكان فى غربيّه بين القصرين فضاء عظيم، يقف فيه من العساكر نحو عشرة آلاف، ورحبة باب العيد كذلك - كان أولها من جامع الجمالى إلى دار الأمير أحمد باشا رشيد - كانت تقف بها العساكر، فارسها وراجلها، فى أيام مواكب الأعياد ينتظرون ركوب الخليفة وخروجه من باب العيد، ولم يبتدأ بالبناء فيها إلا بعد سنة ستمائة من الهجرة، وكان بحذاء هذه الرحبة دار الضيافة المعروفة بدار سعيد السعداء، ويقابلها دار الوزارة الكبرى - التى محلها اليوم المكتب

ص: 42

الأهلى بالجمالية، وما فى صفّه إلى باب الجوّانية - وخلفها بحذاء السور المناخ السعيد، ويجاوره حارة العطوفية.

وكان فى الجهة القبلية من القصر رحبة تعرف برحبة قصر الشوك كبيرة المقدار، أولها من الباب الأخضر الحسينى إلى باب حارة القزازين من شارع قصر الشوك، وكان حائلا بينها وبين رحبة باب العيد خزانة البنود والسقيفة ورحبة اصطبل الطارمة، وكان فى مقابلة قصر الشوك، وكانت هذه الرحبة فضاء ذا سعة عظيمة.

[حجر تعليم الغلمان، وحارة كتامة، ودرب الديلم]

ثم إن المعز لدين الله أنشأ أيضا سبع حجر لتعليم الغلمان الحجرية الذين يخدمون منصب الخلافة بالقصر، وكانت هذه الحجر بعد دار الوزارة المقدّم ذكرها فيما بين باب النصر القديم إلى باب الجوّانية، وأنشأ لهم تجاه هذه الحجر اصطبلا بجوار باب الفتوح، بينه وبين رأس مرجوش. وكان ما بين الاصطبل والحجر فضاء متسعا من باب النصر إلى الدرب الأصفر، ومحله الآن الوكائل والحارات التى بين الشارعين.

وهؤلاء الحجرية شبان مختارون من بنى وجهاء الناس، من كل ماهر شهم، معتدل القامة، حسن الخلقة، وكانوا يربّونهم فى هذه الحجر، ويسمون بصبيان الحجر، ويكونون فى جهات متعددة، وكان عددهم نحوا من خمسة آلاف نسمة. وكان لكل حجرة اسم تعرف به، وعندهم سلاحهم وما يحتاجون إليه، ومتى عرف الواحد منهم بالفضل والشجاعة خرج إلى الإمرة والتقدم.

وما زالت هذه الحجر باقية إلى ما بعد السبعمائة، فهدمت، وابتنى الناس محلها الدور وغيرها.

واختط المعز أيضا حارة كتامة للأمراء الكتاميين، فيما بين حارة الباطنية وحارة البرقية، وتعرف اليوم بحارة الدويدارى.

وقبيلة كتامة هى رجال الدولة الفاطمية، التى قامت بنصرة المهدى عبيد الله حتى استقر على دست خلافة المغرب، وبقيت كذلك مدة خلافة ابنه أبى القاسم القائم بأمر الله، وخلافة المنصور بنصر الله اسماعيل بن أبى القاسم، وخلافة معدّ المعز لدين الله بن المنصور، وبهم أخذ ديار مصر لما سيّرهم إليها مع القائد جوهر فى سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وهم أيضا كانوا أكابر من قدم معه من الغرب فى سنة اثنتين وستين وثلثمائة، ولم تنحط درجتهم إلى زمن العزيز بالله نزار، فلما اصطنع الديلم والأتراك، وقدّمهم وجعلهم خاصته،

ص: 43

صار بينهم وبين كتامة تحاسد وتنافس، إلى أن مات العزيز بالله، وقام من بعده أبو على المنصور، الملقّب بالحاكم بأمر الله، فرجع لكتامة الأمر بعض رجوع لما ولى ابن عمار الكتامى الوساطة التى هى فى معنى الوزارة. ولم يمكث ذلك معهم إلا قليلا.

وتغيّرت أحوال كتامة بعد قتل ابن عمار وتولية برجوان الوزارة وكان صقلبيا، فحط عليهم، وأغرى الحاكم بهم، فقتل منهم الكثير، وانحط قدرهم إلى زمن الظاهر لإعزاز دين الله، ولانكبابه على اللهو، وميله إلى الأتراك والمشارقة تلاشى أمر كتامة بالكلية، وصاروا من جملة الرعية بعد ما كانوا وجوه الدولة وأكابر أهلها.

وكانت الديلم فى زمن العزيز بالله نزار كثيرة المبانى بالقاهرة، فاختطت حارة بجوار باب زويلة القديم، وتعرف بهذا الاسم فى حجج الأملاك إلى الآن، وتارة تسمى بحارة الأمراء، وبحارة خوشقدم، وكان من جملتها حارة درب الأتراك لهفتكين التركى أحد أمراء العزيز، ثم انفصلت عنها كما هى اليوم.

[قصر البحر]

واختط نادر الصقلبى سيف الدولة، غلام العزيز بالله، دربا كان يعرف قديما بدرب نادر، وبدرب سيف الدولة، والآن يعرف بحارة الفراخة من خط قصر الشوك.

وأنشأ العزيز بالله نزار بن المعز قصرا صغيرا تجاه القصر الكبير من جهته الغربية، وكان يعرف بقصر البحر، بناه لسكنى ابنته «ست الملك» أخت الحاكم بأمر الله، وجعل به قاعة كبيرة لم يبن مثلها. وكان حدّ هذا القصر من تجاه الجامع الأقمر إلى الصاغة. وكان مطبخ القصر فى موضع الصاغة إلى درب السلسلة - وهو موضع وكالة الجوهرية الآن.

وكان ذلك القصر الصغير مطلا من شرقيه على القصر الكبير، ومن غربية على البستان الكافورى، وصار هذا البستان من عمائر القصر الصغير، فكان من أحسن ما بنى فى تلك الأيام، وابتدئ فى عمارته سنة خمسين وأربعمائة، وتمّ فى زمن الخليفة المستنصر بالله سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فكانت مدة البناء فيه سبع سنين متوالية، وصرف عليه ألفا ألف دينار، عبارة عن ألف ألف جنيه وشئ، لأن الدينار يزيد عن نصف الجنيه قليلا.

وكان قصد الخليفة المستنصر بالله أن يجعله منزلا للخليفة القائم الله العباسى صاحب بغداد، ويجمع إليه بنى العباس، فلم يتيسر له ذلك، فجعله لسكناه، وكان من أبوابه باب الساباط، الذى فى موضعه الآن باب سر المارستان المنصورى، المسلوك منه إلى الخرنفش،

ص: 44

وبجواره من الجهة البحرية باب التبانين - وموضعه مكان باب حارة الخرنفش الآن - ويظهر من كلام صاحب الخطط أنه لما قويت شوكة الإفرنج فى آخر دولة الفاطميين اعدت هذه الدار أو بعضها - وهو ما صار فيما بعد الدار البيسرية - لمن يجلس فيها من قصاد الإفرنج، عند ما تقرر الأمر معهم على أن يكون نصف ما يحصّل من مال البلد للإفرنج، فصار يجلس فى هذه الدار قاصد معتبر للإفرنج يقبض المال، فلما زالت الدولة الفاطمية، وملك مصر الأيوبيون، أخذها الملك المفضل قطب الدين أحمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيوب، وعمل بها الإصطبلات والمبانى الفخيمة، فعرفت بالدار القطبية، ولما مات الملك المفضل صارت إلى ابنته «مؤنسة خاتون» ، وكان بها قاعة كبيرة لم يكن بمصر مثلها، فلما آلت السلطنة إلى الملك المنصور قلاوون اشترى هذه الدار، وعمل فى محل القاعة المارستان، وفى باقيها المبانى التى استجدها بهذا الخط، وأما الدار البيسرية المتقدم ذكرها فشرع فى عمارتها الأمير ركن الدين بيسرى الشمسى الصالحى النجمى فى سنة تسع وخمسين وستمائة فى زمن الملك الظاهر بيبرس البندقدارى، وكان من أعظم الأمراء، وله عدة مماليك، راتب كل واحد منهم مائة رطل لحم، ومنهم من له عليه فى اليوم ستون عليقة لخيله، وبلغ عليق خيله وخيل مماليكه فى كل يوم ثلاثة آلاف عليقة سوى عليق الجمال

إلى آخر ما قال فى الخطط فانظره.

ومن زمن مديد إلى الآن بطل جعله مارستانا، ونقلت منه المرضى، غير أن به محلا يجتمع فيه كل يوم المصابون بوجع العين للكشف عليهم ومداواتهم من طبيب العيون المعيّن لذلك، وبعض محلاته اتخذه باعة النحاس حواصل لنحاسهم، وبعضها جعل مدرسة أهلية.

وهذا القصر، وإن سمى القصر الصغير، كان فى غاية السعة، فإنّ حدّه الشرقى النهاية الغربية للميدان الذى كان بين القصرين، المشرف عليه الآن المارستان، وما اتصل به من المدرسة المنصورية، والظاهرية، والكاملية، والخرنفش إلى تجاه الجامع الأقمر، وكان حدّه الغربى - بما فيه من البستان الكافورى - سور القاهرة المطل على الخليج، ويتصل به من جهته القبلية مطبخه، وهو موضع الصاغة، فالنهاية القبلية الصاغة هى حده القبلى. وكان الحمام الذى بين الصاغة والمارستان من حمامات القصر، وحده البحرى ميدان كبير يتصل به كان يعرف بميدان الخرشتف، ومحله الشارع المعروف الآن بشارع الخرنفش وما يتصل به من الأزقة والدور وغيرها من المبانى، وكان هذا الميدان يمتد إلى نهاية البستان الكافورى عند الخليج، وإنما عرف بالخرشتف، لأن المعز أول من بنى فيه الاصطبلات بالخرشتف، وهو ما يتحجر مما يوقد به على مياه الحمامات من الزبل وغيره، كما نبه عليه المقريزى. ويؤخذ من هذا أن استعمال الزبل فى وقود الحمامات قديم العهد، ولم يزل جاريا إلى اليوم.

ص: 45

وقد بقى هذا الميدان فضاء إلى سنة ستمائة من الهجرة، وبنيت بعد ذلك فيه الدور والأماكن والحارات، والآن هو من أعظم أخطاط القاهرة، وقد بقى له اسمه القديم، مع بعض تحريف قليل، فتحول لفظ الخرشتف إلى الخرنفش.

وكان قبلى البستان الكافورى اصطبل الجميزة، وكان معدا لعساكر الفاطميين، وكان له الساقية العظيمة المسماة ببئر زويلة، وقد تكلمنا على ذلك فى موضعه. والاصطبل المذكور كان ابتداؤه بالقرب من موضع سر المارستان، ويشمل خط البندقانيين، وجزءا كبيرا من حارات اليهود المجاورة للسّكة الحديدة، وكان يشرف من الجهة القبلية على ميدان الإخشيد.

[جامع الخطبة ودار الوزارة]

وفى سنة ثمانين وثلثمائة أمر الخليفة العزيز بالله ببناء جامع كبير خارج سور القاهرة، فشرع فى بنائه، وكان من موضع باب النصر إلى محل باب الفتوح، وخطب فيه قبل تمامه، وسمّاه جامع الخطبة، ثم مات قبل تمامه، فكمّله ابنه الحاكم بأمر الله، فنسب إليه، وإلى الآن هو موجود متخرب، ويعرف بجامع الحاكم.

وفى أيام العزيز بالله بنى يعقوب بن يوسف بن كلّس داره فى جهة الجنوب الشرقى من القاهرة فى أرض ميدان الإخشيد، وكانت كبيرة جدا، وسميت دار الوزارة، والحارة التى هى فيها عرفت بالوزيرية، وتعرف اليوم بدرب سعادة. وكانت جملة غلمان الوزير أربعة آلاف عرفوا بالطائفة الوزيرية، وإليهم تنسب الوزيرية، فانها كانت مساكنهم، ثم جعلت بعد ذلك لعمل الديباج إلى آخر دولة الفاطميين، ثم بعد زوال دولتهم سكنها الصاحب صفى الدين عبد الله بن على بن شكر فى أيام الملك العادل أبى بكر بن أيوب، فعرف خطها بخط الصاحب، وقد تغير ذلك كله وقسّمت هذه الدار دورا وحارات، وأسواقا ومساجد ونحو ذلك، ففى موضعها الآن سوق النمارسة، والموضع المشهور بمدق البن القديم، وما جاور ذلك من المساجد والأماكن، والحارة المشهورة بحارة بيرم، ودرب الحريرى المعروف بدرب الفرن بحارة درب سعادة، وما وراء ذلك كله.

واستجد بحارة الوزيرية وغيرها جملة دروب، كدرب الحريرى الذى عرف بعد الدولة الفاطمية بدرب ابن قطز، وهو الآن عطفة صغيرة من عطف درب سعادة، ودرب العدّاس، وهو اليوم حارة جامع البنات.

وفى أيام العزيز بالله بنيت دار الفطرة، وخزائن دار افتكين، والإيوان الكبير بالقصر الشرقى، واستجدّت عدة جوامع ومساجد بالفسطاط.

ص: 46

‌رسوم الجوامع والمساجد فى الأزمان القديمة

وكان من رسوم الجوامع والمساجد أن قاضى القضاة يتولى أحباسها، وإليه أمرها، ولها ديوان مفرد. وفى سنة ثلاث وستين وثلثمائة جمعت أحباسها، فبلغت فى السنة ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم. وكان مرتب كل مشهد خمسين درهما فى الشهر برسم الماء لزوارها.

وكانت العادة قبل رمضان بثلاثة أيام أن تطوف القضاة على المساجد والمشاهد بمصر والقاهرة، ليتفقدوا حصرها وقناديلها وعمائرها، وما تشعث منها ونحو ذلك، فيبتدئون بجامع المقس، ثم جامع القاهرة، وهو الأزهر، ثم المشاهد، ثم القرافة، ثم جامع مصر، وهو جامع عمرو ثم مشهد الرأس.

[ابتداء التدريس فى الجامع الأزهر]

وفى سنة ثمانين وثلثمائة ترتب المتصدرون لقراءة العلم بالجامع الأزهر، والعزيز هو أول من أقام الدرس بمعلوم، ثم فى مدته عمل الوزير. يعقوب بن كلس مجلسا فى داره، يحضره الفقهاء والمتكلمون وأهل الجدل، وكان يقرأ فيه كتاب فقه على مذهب الفاطمية، وعمل أيضا مجلسا بجامع مصر لقراءة ذلك الكتاب، وكان يسمى كتاب الوزير.

وبنى العزيز أيضا منظرة اللؤلؤة على الخليج، بالقرب من باب القنطرة جهة جامع الشيخ عبد الوهاب الشعرانى، وكانت من أحسن منتزهاتهم، فإنها كانت تشرف على الخليج من الغرب، وعلى البستان الكافورى من الشرق، وجعل لها سردابا تحت الأرض متصلا بالقصر الكبير، وكان يركب فى هذا السرداب من القصر الكبير إلى اللؤلؤة، ويتحول إليها فى أيام الخليج بحرمه وخواصه، وكانت تطل على بستان يعرف بالمقسى، وكان كبيرا جدا، يمتد إلى النيل، وفى بعض محلّه الآن بركة الأزبكية وخط الموسكى.

وبنى دار الصناعة بالمقس، بالقرب من موضع جامع أولاد عنان، وعمل المراكب التى لم ير مثلها قديما عظما ومتانة وحسنا. وكان ليوم خروج الأسطول رسوم ذكرها المقريزى.

وكان الخلفاء يخرجون للفرجة، فيمتلئ وجه النيل وساحله من المتفرجين، فيكون ذلك اليوم من المواسم المشهودة.

‌مطلب ليالى الوقود

وبنى أيضا منظرة الجامع الأزهر، وكان يجلس فيها ليالى الوقود، وهى ليلة مستهل رجب وليلة نصفه، وليلة مستهل شعبان وليلة نصفه، وقد تكلم عليها المقريزى وأطنب.

ص: 47

وخلاصة ما كان لهم من الرسوم فى ذلك أن يركب قاضى القضاة بهيئته المقررة، ومعه الشهود والمؤذنون والقراء يطربون بالقراءة، وبين يديه الشمع المحمول إليه موقودا؛ من كل جانب ثلاثون شمعة، كل واحدة منها سدس قنطار، ولغيره من الشمع الواحدة والاثنتان والثلاثة، كل بحسب المقرر له، فيمشون من أول شارع فيه دار القاضى إلى باب الخلافة، وقد اجتمع من العالم فى وقت جوازهم ما لا يحصى، فيسيرون إلى باب الخليفة، ويحضر صاحب الباب، ووالى القاهرة، والقراء والخطباء، فيترجلّون تحت منظرة الخليفة، ويخطبون، وينصرفون بعد أن يسلم عليهم من الطاقة أستاذ دار الخلافة استفتاحا وانصرافا، ثم يركب الناس إلى دار الوزارة، فيجلس إليهم الوزير فى مجلسه، ويسلمون عليه، ويخطب الخطباء ويدعون له ويخرجون، فيشق القاضى والجماعة القاهرة، وينزل بالجامع الأزهر، والجامع الأقمر والجامع الأنور بالقاهرة، والطيلونى والعتيق بمصر، وجامع القرافة، والمشاهد التى تضمنت الأعضاء الشريفة، وبعض المساجد التى لأربابها وجاهة، ويصلى فى كل مسجد ركعتين، ويقدم للناس الحلواء والأطعمة والبخور فى مجامر الذهب والفضة، ويوقد فى المساجد الشموع والقناديل الكثيرة، فكان المرتب للجامع العتيق برسم وقوده خاصة فى كل ليلة أحد عشر قنطارا ونصف قنطار من زيت الزيتون، ولغيره من المساجد شئ كثير كل بحسبه.

وبالجملة فكانت هذه الليالى الأربع من أبهج الليالى وأحسنها، يحشر الناس لمشاهدتها من كل أوب، فيصل إليهم فيها أنواع من البر، وتعظم فيها ميرة أهل الجوامع والمشاهد.

[جامع والدة العزيز وقصرها ومنظرة السكرة]

وبنت والدة العزيز، وهى الست تغريد، جامع الأولياء بالقرافة، قبلى الإمام الليث رضي الله عنه وقصرا بجواره، وقد زال كل ذلك من زمن بعيد، ومحله الآن حوش لدفن الموتى يعرف بحوش أبى على.

وبنت أيضا الدار المعروفة بمنازل العز، وكانت تشرف على النيل، وصارت معدة لنزهة الخلفاء، وهى التى صارت فيما بعد مدرسة عرفت بمدرسة منازل العز، وقد تكلمنا عليها فى المدارس من هذا الكتاب، وبيّنا مواضعها فى الكلام على ساحل النيل.

وبنى العزيز أيضا منظرة السكرة على بر الخليج الغربى، كان يجلس فيها الخليفة يوم فتح الخليج، وكانت قنطرة السد يومئذ هى قنطرة عبد العزيز بن مروان، ومحلها بموضع منزل الست الشماشرجية بحارة السيدة زينب رضي الله عنها، ومنظرة السكرة حيث منزل المرحوم حسن باشا راسم من طريق القصر العالى الذى صار الآن ملكا لأحمد باشا كمال كما تقدم.

وكانت هذه المنظرة جميلة الموقع فى بستان أنيق، يحيط بها البساتين من كل جانب.

ص: 48

[المساجد والأهراء فى عهد الحاكم بأمر الله]

وفى أيام الحاكم بأمر الله زادت الناس رغبة فى العمارة بالقاهرة، واستجدّت بها حارات ودروب، وبنيت عدة مساجد بالفسطاط، حتى قيل إنه أحصى المساجد التى لا غلة لها، فكانت ثمانمائة، فأطلق لها من بيت المال تسعة آلاف درهم ومائتى درهم، وفى سنة خمس وأربعمائة حبس خمس ضياع عليها، منها: إطفيح، وصول، وطوخ، مع تحبيس ضياع أخرى على القراء والمؤذنين بالجوامع. وعلى المصانع والمارستان وأكفان الموتى. وهو الذى كمّل جامع الخطبة فعرف به، وسمّى بالجامع الحاكمى، وزاد فى جهته الغربية محل الأهراء - - أى الأشوان التى تجتمع فيها الغلال ذخيرة بالقاهرة - وكانت فى بعض أماكن من القاهرة أهراء يخزن بها فى السنة ما يزيد على ثلثمائة ألف أردب من الغلة، أكثرها من الصعيد، وكان منها إطلاق الأقوات لأرباب الرتب، والخدم، وأرباب الصدقات، وأرباب الجوامع والمساجد، وجرايات العبيد السودان، وما ينفق فى الطواحين برسم خاص الخليفة، ومنها يخرج جرايات رجال الأسطول، وما يستدعى بدار الضيافة، لأخباز الرسل ومن يتبعهم، وكان بعض هذه الأهراء عند السور القبلى بقرب محل جامع المؤيد، حيث موضع السجن، المعروف بخزانة شمائل، الذى كان بجوار باب زويلة، على يسرة الداخل منه بجوار السور، وكان هذا السجن من أشنع السجون، إلى أن هدمه الملك المؤيد شيخ المحمودى سنة ثمان عشرة وثمانمائة، وأدخله مع ما أخذه من الدور بجوانبه فى المدرسة الموجودة الآن المعروفة بجامع المؤيد.

‌مطلب أول ما بنى فى موضع الحسينية

وبنى الحاكم أيضا خارج باب الفتوح شونا كبيرا جدا، ملأه حطبا، حتى خاف الناس من ذلك، وثارت الإشاعة أن الحاكم يريد بجمع هذه الأحطاب إحراق جماعة من الكتّاب، فضجّ الناس تحت القصر يطلبون الأمان، فكتب لهم بالأمان حتى اطمأنوا. وهذا الموضع الذى بناه هو أول ما بنى فى موضع الحسينية، وكان هو أول حارة الحسينية.

[عمارات الحاكم وجنونه]

وبنى أيضا جامع المقس الذى كان على شط بحر النيل، وهو المعروف اليوم بجامع أولاد عنان، وكانت المكوس تؤخذ فى هذا الموضع. وأمر بهدم منظرة اللؤلؤة، وهدم سور القصر الكبير، وبناه ثانيا، وجدّد الباب المسمى بباب البحر.

ص: 49

وبنى أيضا جامع راشد بمصر، وهدم كنيسة لليهود، كانت بجوار باب زويلة القديم من داخل، وبنى موضعها مسجدا كان يعرف بمسجد ابن البناء كما فى الخطط، وهو الزاوية المعروفة الآن بزاوية سام بن نوح فى العقادين.

وجدّد دار العلم القديمة، التى كانت تجاه الجامع الأقمر، وكان يسلك إليها من قبو الخرنفش، ونقل إليها الكتب، وأباح للناس الدخول فيها للمطالعة والنقل منها، وأعدّ لهم الورق والمداد والأقلام.

وبنى أيضا خارج القاهرة الباب الجديد على شاطئ بركة الفيل عند رأس المنجبية، وهى حارة الدالى حسين من خط المغربلين، ثم حدثت حارتا الهلالية واليانسية الموجودتان إلى الآن.

وبنى أيضا بجزيرة الروضة جامع غين، وبنى غلامه ملوخيا داره التى محلها درب ملوخيا، المشهور الآن بدرب القزازين من خط أم الغلام.

وإلى ذاك الحين كانت الجهة الشرقية من القاهرة فضاء لا بناء فيه إلى الجبل، وكانت السيول عند اشتدادها تدخل القاهرة، فأمر الحاكم بوضع كيمان خلف سور البرقية، فصارت التلال الشاهقة التى نراها الآن، وعليها بعض طواحين الهواء، خلف حارة الدراسة بين القاهرة ومقبرة المجاورين، فلما ضرب الدهر ضرباته ألقى جهركس الخليلى على هذه التلال عظام الفاطميين لما نبش قبورهم كما أمر.

وبنى الحاكم أيضا غير ما ذكرنا من العمارات، وحذا حذوه الأمراء وغيرهم من الناس، فكثرت فى زمنه المبانى داخل البلد وخارجها، وكثرت إنعاماته، فتوقف فى إمضائها أمين الأمناء حسين بن طاهر الوزان، فكتب إليه الحاكم بخطه: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، كما هو أهله:

أصبحت لا أرجو، ولا أتقى

إلا إلهى، وله الفضل

جدى نبى، وإمامى أبى

ودينى التوحيد والعدل

المال مال الله، والخلق عيال الله، ونحن أمناؤه فى الأرض. أطلق أرزاق الناس ولا تقطعها والسلام».

إلا أنه بسبب ما كان اعتراه من خلل العقل الذى انتهى به إلى دعوى الألوهية لم يكن يثبت على أمر، بل كان ما يبنيه فى اليوم يهدمه فى الغد، وكثر فى أيامه الاضطراب والخلل فى المصالح العمومية.

ص: 50

[كثرة المفاسد فى عهد الظاهر]

فلما آل الأمر بعد وفاته إلى ولده أبى الحسن على، الملقب بالظاهر لإعزاز دين الله، كثرت المفاسد، وخيفت الطرقات، وزال الأمن لإقباله على اللهو وشرب الخمر، حتى رخص للناس فيه وفى سماع الغناء، وأشياء سوى ذلك، كانت ممنوعة فى أيام أسلافه، كشرب الفقاع، وأكل الملوخيا وجميع الأسماك، وزاد السعر، وعز وجود الخبز، واشتد الغلاء، وكثر نقص النيل.

كل ذلك والظاهر مشغول بلذاته لا يصل إليه غير وزرائه، ومنع الناس من ذبح البقر لقلّتها، وكثر الاضطراب والخوف فى ظواهر البلد، وتحدثت زعماء الدولة بمصادرة التجار، فاختلف بعضهم على بعض، وكثر ضجيج طوائف العسكر من الفقر والحاجة، فلم يجابوا، وفشت الأمراض، وكثر الموت فى الناس، وفقد الحيوان، فلم يقدر على دجاجة، وعزّ الماء لقلة الظهر، فعمّ البلاء من كل جهة، وعرض الناس أمتعتهم للبيع، فلم يوجد من يشتريها.

وخرج الحاج، فقطع عليهم الطريق بعد رحيلهم من بركة الحاج، وأخذت أموالهم، وقتل منهم الكثير، وكثر الخوف من الدعّار التى تكبس الحارات، ونهبت الأرياف وكثر طمع العبيد ونهبهم، وجرت أمور من العامة قبيحة، فكانت مدة خلافته من أشنع المدد.

وفى أيامه حفر البستان المقسى، وجعل بركة ماء تملأ من خليج فم الخور، الذى هو عند قنطرة الدكة، وأصله ترعة صغيرة، وكان يسمى أيضا خليج الذكر، أوله عند قنطرة الدكة، عند ما كان النيل بالمقس، ولم يزل يمتد مع انحسار النيل حتى صار فمه فى أيام الناصر، عند قنطرة سيدى أبى العلاء، المجاورة لوابور الماء. ولما عمل الخليج الناصرى صارت فوهة فم الخور منه، لقطعه إياه عن البحر.

وفى أيامه بنيت خزانة البنود، وأقام فيها ثلاثة آلاف صانع، وكانت فيما بين قصر الشوك والمشهد الحسينى، ومحلها اليوم منزل الأمير أحمد باشا رشيد بتلك الجهة وما جاوره من خط قصر الشوك.

[الفتنة العظيمة فى عهد المستنصر]

وفى أيام الخليفة المستنصر بالله كثرت الاضطرابات، لكثرة صرفه للوزراء والقضاة وولايتهم، واختلاطه بالرعاع وتقديم الأراذل، فاشتبهت عليه الأمور، وتناقضت الأحوال،

ص: 51

ووقع الاختلاف بين عبيد الدولة وعسكر الترك، وضعفت قوى الوزراء عن التدبير، لقصر مدة كل منهم، وخربت الأعمال، وقل ارتفاعها، وتغلّب الرجال على معظمها، مع كثرة النفقات والاستخفاف بالأمور، وطغيان الأكابر، إلى أن آل الأمر إلى حدوث الشدة العظمى، فخرب أكثر الفسطاط والقطائع والعسكر.

وكان لهذا الخراب سببان وهما: الشدة العظمى، ثم الحريق الذى حصل فى وزارة شاور فى آخر الدولة الفاطمية، حين قدم الإفرنج للاستيلاء على مصر.

وكان من أمر تلك الشدة أنه لما توالت الفتن أيام خلافة المستنصر، ارتفعت الأسعار بمصر سنة ست وأربعين وأربعمائة، وتبع الغلاء وباء. فبعث الخليفة إلى متملك الروم بقسطنطينية أن يحمل الغلال إلى مصر، فأطلق أربعمائة ألف أردب، وعزم على حملها إلى مصر، فأدركه أجله ومات قبل ذلك، وقام من بعده فى الملك امرأة، فكتبت إلى المستنصر تسأله أن يكون عونا لها، وأن يمدّها بعساكر مصر إذا ثار عليها أحد، فأبى، فجردت لذلك، وعاقت الغلال عن المسير إلى مصر، فغضب المستنصر، وجهز العساكر، ونودى فى بلاد الشام بالغزو، ووقعت أمور مهولة، ذكرها صاحب الخطط، منها أن الخليفة أمر بالقبض على جميع ما فى كنيسة القيامة التى ببيت المقدس، وكان شيئا كثيرا من الأموال، ففسد من حينئذ ما بين الروم والمصريين، حتى استولى الروم على بلاد الساحل كلها، وحاصروا القاهرة.

واشتد الغلاء فى تلك السنة، وهى سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكثر الوباء بمصر والقاهرة وأعمالها إلى سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وحدثت الفتنة العظيمة التى تخرب بسببها إقليم مصر كله، وسببها أن الخليفة خرج على عادته السنوية على النجب مع النساء والحشم إلى بركة الجب، فجرّد بعض الأتراك سيفا وهو سكران على أحد عبيد الشراء، فاجتمع عليه كثير من العبيد وقتلوه، فحنق لقتله الأتراك، وساروا بجمعهم إلى الخليفة يسألونه هل كان ذلك عن أمره، فتبرأ الخليفة من ذلك، فاجتمعت الأتراك لمحاربة العبيد، فوقعت بينهما محاربة شديدة بناحية كوم شريك، من مديرية البحيرة قتل فيها كثير من العبيد، وانهزم باقيهم، فشقّ ذلك على والدة المستنصر لكونها من جنسهم، وكانت هى السبب فى كثرتهم بمصر، فكانت لحبها الإكثار منهم تشتريهم من كل مكان، حتى قيل إنهم بلغوا إذ ذاك ما ينيف على خمسين ألف عبد، وقد أمدّتهم فى تلك الواقعة بالأموال والسلاح سرا، وكانت قد تحكمت فى الدولة ونفذت كلمتها، وحثت على قتل الأتراك، فوقعت الفتنة ثانيا واستمرت العداوة بين الفريقين إلى سنة تسع وخمسين، فقويت شوكة الأتراك، وتعدوا على الخليفة،

ص: 52

وطلبوا منه الزيادة فى واجباتهم، وضاق الحال بالعبيد واشتدت حاجتهم، وقلّ مال السلطان، واستضعف جانبه، فأغرت أمه العبيد ثانيا بالأتراك، فوقعت بينهم واقعة بالجيزة انهزم فيها العبيد إلى الصعيد، فازدادت قوة الأتراك وتعديهم، وكثر أذاهم، واستخفّ رئيسهم ابن حمدان بالخليفة، فأغرت أيضا باقيهم الموجودين بمصر، فوقعت بين الفريقين عدة وقعات خارج القاهرة انتهت بنصرة الأتراك، فزاد شرهم، واستمر إلى سنة ستين وأربعمائة، فانخرق ناموس الخلافة، واستهانوا بالخليفة، وصار مقررهم أربعمائة ألف دينار، بعد أن كانت ثمانية وعشرين ألف دينار فى الشهر. فلما نفد ما فى الخزائن بعثوا يطالبونه بالمال، فاعتذر لهم، فلم يقبلوا وألزموه ببيع ذخائره، فبيع ما كان فى خزائن القصر من الأمتعة والجواهر ونفائس الأموال والكتب، وانتهب ما انتهب، وقد أطنب المقريزى فى الكلام على ذلك.

ثم سار ابن حمدان إلى الصعيد، وقاتل العبيد حتى أفنى منهم الكثير، وهزم من بقى منهم وعاد إلى القاهرة، واستبدّ بسلطنة مصر، ودخلت سنة إحدى وستين وهو مستبد بالأمر، فثقل مكانه على الأتراك، فاجتمعوا جميعا مع العبيد، وساروا إلى الخليفة، فبعث إلى بن حمدان يأمره بالخروج من مصر، وتهدده إن لم يخرج، فخرج إلى الجيزة، فانتهب الناس دوره ودور حواشيه، فلما جن الليل عاد سرا، ودخل إلى دار القائد تاج الملوك شادى، وترامى عليه، وقبل رجليه، فقام لنصرته، وحصلت واقعة بين عساكره وعساكر الخليفة، آل أمرها إلى انهزام ابن حمدان إلى البحيرة.

وكثر النهب، واشتد الغلاء والقحط، حتى أكل الناس الجيف، وقطعت الطرق، وكثر القتل فيها، إلى أن دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة فجهّز الخليفة جيشا لقتال ابن حمدان، فوقعت بينهم حروب انهزمت فيها عساكر الخليفة، وتملك ابن حمدان جميع الوجه البحرى، وترك اسم الخليفة الفاطمى من الخطبة، وخطب باسم الخليفة القائم بأمر الله العباسى، ونهب أكثر الوجه البحرى، وقطع المسيرة عن القاهرة، فعظم البلاء، واشتدّت المجاعة، وتزايد الموت، وحلّ بالناس ما لا يطاق ولا يوصف، فاضطر الخليفة إلى مصالحة ابن حمدان، فصالحه على مال يحمل إليه، فأطلق الغلال، فدخلت مصر.

وبعد شهر وقع الاختلاف بينهما، فزحف إلى مصر، وحاصرها، وانتهبها، وأحرق من الساحل دورا كثيرة، ورجع إلى البحيرة فى سنة أربع وستين وأربعمائة، فتفاقم الأمر فى الشدة، وتلاشى ذكر الخليفة، فسار ابن حمدان إلى البلدة فملكها، وتصرف فى أمر الخلافة والخليفة.

ص: 53

[استتباب الأمر وتعمير القاهرة على يدى بدر الجمالى]

وكانت مدة هذا الغلاء سبع سنين، وفارق كثير من الناس البلد، وخرب الفسطاط، وخلا موضع العسكر والقطائع، وظاهر مصر مما يلى القرافة إلى بركة الحبش، وانتشرت الفتن بكافة أنحاء القطر، وملكت عرب لوانة الريف، وصار الصعيد بأيدى العبيد، فكتب الخليفة المستنصر إلى أمير الجيوش أبى النجم بدر الجمالى نائب عكا وقتئذ يستدعيه، ليكون القائم بتدبير دولته، فحضر من البحر بعسكر جرّار، وسار حتى دخل القاهرة، وقبض على الأمراء وقتلهم، وأقام مقامهم سواهم من رجاله، وتتّبع المفسدين فى كل جهة من جهات مصر من الأقاليم البحرية والقبلية من العرب وغيرهم، حتى أفناهم عن آخرهم، واستصفى أموالهم، فاستقامت الأحوال، واستتبت له الأمور، وأراح الفلاحين من الأموال ثلاث سنين، حتى صلحت أحوالهم، وحسنت حال مصر والقاهرة.

ولما سكن أمير الجيوش بدر الجمالى القاهرة، وجدها غير عامرة، فأمر الناس من العسكر والأرمن وغيرها أن يعمر كل من وصلت قدرته إلى عمارة ما شاء فى القاهرة من أنقاض ما تخرب من الفسطاط، فأخذوا فى نقل أنقاض ظاهر مصر، مما يلى القاهرة، حيث العسكر والقطائع، فصار محلها فضاء وتلالا بين مصر والقاهرة، وكذا بينهما وبين القرافة، وأكثر الناس من عمارة الدور وغيرها فى القاهرة وسكنوها، واتسعت دائرة العمارة، وسكنها أصحاب السلطان إلى انقراض الدولة الفاطمية.

وإلى ذلك الوقت كان البر الغربى للخليج خاليا من البناء البتة، وكانت بركة الأزبكية بعضها بستان وبعضها بركة فى بحريّه، ودثرت فى الشدة العظمى، ثم بنت طائفة من العبيد حارة فى بر الخليج الغربى تجاه اللؤلؤة، عرفت بحارة اللصوص سكنها العبيد من طوائف العسكر وغيرهم، وهجرت بركة الأزبكية وصارت موحشة، بعد أن كانت من أجلّ المنتزهات، وكثرت المبانى خلف السور من الجهات الثلاث، القبلية والشرقية والبحرية، فبنى الوزير بدر الجمالى أمير الجيوش عليها سورا جديدا يدور بها، والأبواب الثلاثة الموجودة الآن، وهى أبواب: باب النصر، وباب الفتوح، وباب زويلة، كلها من إنشاء أمير الجيوش المذكور، وكانت فى ذلك السور، وصارت مساحة القاهرة أربعمائة فدان، بعد أن كانت عند وضعها ثلثمائة وأربعين فدانا كما قدمنا. وما حدث من البناء بين السورين القديم والجديد سمّى بين السورين.

وفى وزارة أمير الجيوش بنيت دار المظفر، وصارت دار وزارة، وسكنها أمير الجيوش فى أيام وزارته، ومن بعده صارت إلى برجوان، ثم هى الآن جملة بيوت وحارات. وقد بيّنا كلا فى محله من هذا الكتاب.

ص: 54

وأحدث المستنصر بستانا خارج باب النصر، وأحدث أمير الجيوش سويقة فى أول الشارع الموصل إلى باب القنطرة، عرفت بسويقة أمير الجيوش، وعرف الشارع بشارع أمير الجيوش، ثم حرفته العامة بمرجوش.

[عمارات الأفضل وعطاياه]

وفى وزارة الأفضل أبى القاسم شاهنشاه بعد وفاة والده أمير الجيوش بدر الجمالى، بنيت دار الوزارة الكبرى، ومحلها الآن من حارة المبيضة إلى حارة الجوانية، واستمرت كذلك إلى آخر الدولة الفاطمية، وكانت تعرف بدار القباب.

وفى سنة إحدى وخمسمائة بنى الأفضل دار الملك بالساحل القديم للنيل بآخر مصر العتيقة، وانتقل إليها، وجعل بها محلا يجلس فيه، سمّاه مجلس العطايا، وأمر بتفصيل ثمانية ظروف من ديباج أطلس، كل اثنين من لون، وجعل فى سبعة منها خمسة وثلاثين ألف دينار، فى كل ظرف خمسة آلاف دينار سكبا وبطاقة بوزنه وعدده وشرابة حرير كبيرة. من ذلك ستة ظروف دنانير بالسوية عن اليمين وعن الشمال فى ذلك المجلس، وظرفان عند مرتبة الأفضل بقاعة اللؤلؤة، أحدهما دنانير والآخر دراهم جدد، فالذى فى اللؤلؤة برسم ما يستدعيه الأفضل إذا كان عند الحرم، والذى فى مجلس العطايا كان يصرف منه للشعراء، إذ لم يكن للشعراء فى الأيام الأفضلية، ولا فيما قبلها مرتبات على الشعر، وإنما كان الأمر أنه إذا اتفق أن السلطان طرب من شعر أحدهم واستحسنه أعطاه ما يسره الله على حكم الجائزة، فرأى القائد أن يكون العطاء من تلك الظروف، وكذا يصرف منها لمن يسأل الصدقة، وما ينعم به ابتداء من غير سؤال، وإذا انصرف الحاضرون أنزل المبلغ المنصرف فى البطاقة بخطه، وكتب عليه صح، وأحصى ما بقى، وأكمل الظرف وختم عليه، وهكذا.

وأنشأ الأفضل أيضا بظاهر القاهرة من جهتها البحرية بجانب الخليج الغربى منظرة البقل، وكانت فى المحل الكائن تجاه قنطرة الأوز، وأغلبها دخل الآن فى الترعة الإسماعيلية، وباقيها صار بعضه بركة، وبعضه تلا، وبعدها كانت منظرة التاج، ثم قبة الهواء، ثم منظرة الخمس الوجوه، وهى الأرض التى بيد الأمير إبراهيم باشا أدهم الآن من أرض مهمشا، وكان لكل منها بستان أنيق يطل على النيل، وأنشأ أيضا منظرة باب الفتوح خارج باب الفتوح فيما بينه وبين البساتين الجيوشية - ومحل هذه المنظرة الأرض المرتفعة التى بنيت فوقها المنازل فى وسط شارع أبى قشة بحرى الحمام الموجود فى الحسينية - وكانت من المناظر الفخيمة.

وكانت البساتين الجيوشية ممتدة، أولها من زقاق الكحل المعروف الآن بشارع الدشطوطى

ص: 55

وآخرها منية مطر - وهى المطرية اليوم، والبساتين والمزارع الموجودة الآن خارج باب الحسينية هى بعض منها.

وفى زمن الأفضل صارت دار برجوان دار الضيافة، وبقيت كذلك إلى آخر الدولة الفاطمية، ثم بنى الأفضل جامع الفيلة، ومسجد الرصد عند بركة الحبش، وكان محل هذا المسجد البقعة المعروفة بالرصد، وهو شرف يطل من غربيه على خطة راشدة، ومن قبليه على بركة الحبش - وهى أراضى قرية البساتين - يحسبه من يراه من جهة راشدة جبلا، وهو من شرقيه سهل يتوصل إليه من القرافة بغير صعود، وهو محاذ للشرف الذى كان من جملة العسكر، وهو الشرف الذى يعرف بالكبش.

وكان الجبل الذى بنى فوقه المسجد المتقدم ذكره يقال له قديما الجرف، ثم عرف بالرصد من أجل أن الأفضل جعل فوقه كرة لرصد الكواكب، فعرف من حينئذ بالرصد، وأولا جعلوها فوق سطح جامع الفيلة، ولما وجدوا المشرف لأول بروز الشمس مسدودا اتفقوا على نقل الآلات إلى المسجد الجيوشى مجاورا للأنطاكى المعروف أيضا بالرصد، وكان الأفضل بناه أحسن من جامع الفيلة ولم يكمل، فلما صار برسم الرصد كمل، فحضر الأفضل فى نقل الحلقة من جامع الفيلة إلى المسجد الجيوشى، ثم رصدوا الشمس بعد كلفة، فلما قتل الأفضل سنة خمس عشرة وخمسمائة، وتمت الوزارة للمأمون البطائحى، أحب أن يتمم جميع الأعمال، وأن يقال له الرصد المأمونى المصحح كما قيل للأول الرصد المأمونى الممتحن، فأخرج الأمر بنقل الرصد إلى باب النصر بالقاهرة، فنقل بعد إتعاب وعناء شديد، فلو أراد الله وبقى المأمون قليلا لكمل جميع رصد الكواكب، لكنه قبض عليه يوم السبت ثالث شهر رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، وكان من جملة ما عدّ من ذنوبه عمل الرصد المذكور والاجتهاد فيه.

وقيل: أطمعته نفسه فى الخلافة، فسماه الرصد المأمونى، ونسبه إلى نفسه، ولم ينسبه إلى الخليفة الآمر بأحكام الله، فلما قبض عليه بطل، وأنكر الخليفة على عمله، فلم يجسر أحد أنه يذكره، وأمر بكسره، فكسر وحمل إلى المناخات.

وبالجملة فقد اعتنى الأفضل بالعمارة، وبنى المبانى الفاخرة، والمناظر الباهرة، وفى زمنه عملت البساتين الفائقة فى جهات متعددة فى ضواحى مصر، فكانت البساتين تحيط بالقاهرة من جميع جهاتها، وفى بعضها القصور والمناظر الفاخرة.

[المستعلى، والآمر]

وفى أيام وزارة الأفضل مات المستنصر، وتولى من بعده ابنه المستعلى بالله أبى القاسم أحمد، وكان القائم بالأمور كلها الأفضل. وفى زمن المستعلى انقطعت الخطبة للفاطميين من دمشق،

ص: 56

وخطب بها للعباسيين، وخرج الإفرنج من القسطنطينية لأخذ سواحل الشام وغيرها من أيدى المسلمين، فملكوا أنطاكية، وكان بينهم وبين عساكر مصر حروب كثيرة.

ولما مات المستعلى بالله تولى ابنه الآمر بأحكام الله أبو على المنصور، وهو طفل له من العمر خمس سنين وأشهر وأيام، وكان ذلك فى سنة تسعين وأربعمائة، وكان أمر الدولة إلى الأفضل ابن أمير الجيوش إلى أن قتل، فاستوزر بعده القائد أبا عبد الله محمد بن فاتك البطائحى، ولقبه بالمأمون، فقام بأمر الدولة إلى أن قبض عليه فى سنة تسع عشرة وخمسمائة، فتفرغ الأمر لنفسه، ولم يبق له ضد ولا مزاحم.

وكان كثير النزهة، محبا للمال والزينة، وكانت أيامه كلها لهوا، وعيشته راضية لكثرة عطائه وعطاء حواشيه، وكان أسمر شديد السمرة، يحفظ القرآن، ويكتب خطا ضعيفا.

[بستان الطواشى]

وهو الذى جدد رسوم الدولة، وأعاد إليها بهجتها بعد ما كان الأفضل أبطل ذلك، ونقل الدواوين والأسمطة من القصر بالقاهرة إلى دار الملك بمصر، وهو الذى أمر بانشاء المراكب والشوانى بصناعة مصر، وكانت المراكب إلى وقته تصنع بالجزيرة، وأضاف إلى الصناعة التى كانت فى الساحل من إنشاء الأمير أبى بكر محمد بن طغج الإخشيد دار الزبيب، وأنشأ بها منظرة لجلوس الخليفة، وكان بهذه الصناعة ديوان الجهاد، وفى زمن ابن طولون كان محلها دار خديجة بنت الفتح بن خاقان امرأة الأمير أحمد بن طولون، فلما زال ملك بنى طولون أخذها الأمير أبو محمد الإخشيد، وعملها دار صناعة.

وقد بقيت بعده مستعملة يجلس بها الملوك والسلاطين إلى سنة سبعمائة من الهجرة، فعملت بستانا، عرف ببستان ابن كيسان، ثم عرف بعد ببستان الطواشى. وكان ما بين هذه الصناعة والروضة بحرا، ثم تربى جرف عرف موضعه بالجرف، وأنشئ هناك بستان عرف ببستان الجرف، وقيل لهذا الجرف بين الزقاقين، وكان فيه عدة دور وحمامات وطواحين، ثم خرب فى سنة ستة وثمانمائة، وخرب بستان الجرف أيضا.

وإلى وقت المقريزى كان لبستان الطواشى بقية، وهو على يسرة من يريد مصر من المراغة، وبظاهره حوض ماء ترده الدواب، ومن وراء البستان كيمان فيها كنيسة للنصارى.

(قلت): ولم تزل الكنيسة باقية إلى الآن على يمين السالك إلى زين العابدين من الطريق الواقع تجاه قنطرة السد، وبستان الطواشى أيضا الآن، بعضه أرض خربة خلف التلال فى أيدى ورثة الشيخ على العدوى خادم السيدة زينب رضي الله عنها، والبعض فيه أماكن من خط السيدة

ص: 57

زينب أيضا، وبعضه التلول التى على يمين السالك من مصر العتيقة إلى السيدة زينب، كما أن على يساره موضع بستان الجرف، وفيه الآن المنازل والأزقة الموجودة بخط السيدة زينب رضي الله عنها شرقى الخليج. وفى موضع الحوض المتقدم ذكره زاوية الحبيبى الموجودة الآن.

[العمارة فى عهد الآمر]

وفى أيام الخليفة الآمر بأحكام الله ملك الإفرنج كثيرا من المعاقل والحصون بسواحل الشام، فملكت عكا وغزة وطرابلس وبانياس وجبيل وغيرها من البلاد. ومع ذلك كانت أحوال مصر رائجة، والعمارة فى مصر والقاهرة فى ازدياد، لا سيما فى وزارة البطائحى، فهو الذى أعاد بركة الأزبكية، وجعل بها الماء بعد حفرها وتعميقها، وسميت من وقتئذ بركة بطن البقرة. وبنى دار الذهب بخط بين السورين، وكانت مطلة على الخليج، وبنى له دارا تجاه خزانة الدرق، وهى التى جعلها يوسف صلاح الدين مدرسة عرفت بالمدرسة السيوفية - كما فى الخطط، وبعضها الآن جامع الشيخ مطهر من شرق.

وأعاد فى زمنه سكنى الخليفة بمنظرة اللؤلؤة، وعمّرها، وعمّر منظرة الغزالة على الخليج، وبنى للمصامدة (وهى فرقة من العساكر الفاطميين) خارج باب زويلة حارة عرفت بحارة المصامدة، والآن تعرف بحارة درب الأغوات.

وعمرت الناس البيوت فى الشارع الأعظم، حتى صارت مصر والقاهرة لا يتخللهما خراب، وبنى الناس من الباب الحديد حيث درب الدالى حسين إلى باب الصفا حيث كوم الجارح، ولما بنى الصالح طلائع جامعه كان خط الدرب الأحمر وما بعده إلى القلعة خرابا جميعه لا بناء فيه إلى ما بعد سنة خمسمائة، ثم صارت الناس يقبرون موتاهم من خلفه إلى جامع ابن طولون.

وفى زمن الآمر بأحكام الله بنى الجامع الأقمر، وبنى دار الضرب التى محلها الآن فى أول حارة الصنادقية على يمين السالك إلى الأزهر، وبنى فى جزيرة الروضة الهودج، وأسكن به محبوبته البدوية.

وبنى المأمون البطائحى أيضا دار العلم الجديدة خارج القصر، واليوم محلها وكالة سليمان أغا السلاحدار الكبيرة التى تجاه خان الخليلى. واستجد أيضا بالمناخ السعيد طواحين برسم الرواتب، وموضعها الآن صدر حارة المبيضة، وما وراء ذلك من حارة العطوفية، وبنى فوق أبواب القصر مناظر: إحداها فوق باب الذهب، كان يجلس بها الخليفة لعرض الجيوش، وكانت تسمى الزاهرة، واثنتان من داخل القصر، وهما الفاخرة، والناضرة.

ص: 58

[انهيار الدولة الفاطمية]

ولما قتل الآمر بأحكام الله أقام برغش وهزار الملوك الأمير أبا الميمون عبد المجيد ابن الأمير أبى القاسم محمد بن المستنصر بالله فى دست الخلافة، ولقباه بالحافظ لدين الله، وأنه يكون كفيلا لمنتظر فى بطن أمه من أولاد الآمر. وكان عبد المجيد قد ولد بعسقلان سنة سبع، - وقيل ثمان - وتسعين وأربعمائة لما أخرج المستنصر ابنه أبا القاسم مع بقية أولاده فى أيام الشدة، فلذلك كان يقال له فى أيام الآمر بأحكام الله (الأمير عبد المجيد العسقلانى ابن عم مولانا)، فلما أفضى إليه الأمر على ما ذكر، استقر هزار الملوك - المقدم ذكره - فى الوزارة إلى أن قام العسكر ونهبوا شوارع القاهرة، وقتلوا الوزير هزار الملوك، وولوا عوضه أبا على ابن الأفضل، وذلك كله فى يوم واحد.

واستبد أبو على بالوزارة، فقبض على الحافظ، وحبسه مقيدا، فاستمر إلى أن قتل أبو على سنة ست وعشرين وخمسمائة، فأخرج من معتقله، وأخذ له العهد على أنه ولى عهد كفيل لمن يذكر اسمه. فاتخذ الحافظ هذا اليوم عيدا سماه عيد النصر، وصار يعمل كل سنة.

ونهبت القاهرة يومئذ، وقام يانس صاحب الباب بالوزارة، إلى أن هلك بعد تسعة أشهر فلم يستوزر الحافظ بعده أحدا، وتولى الأمور بنفسه إلى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، فأقام ابنه سليمان ولى عهده مقام وزير، فلم تطل أيامه سوى شهرين ومات، فجعل مكانه ابن حيدرة، فحنق ابنه حسن، وسار بالفتنة، وانتهى أمره بالقتل.

فلما قتل حسن قام بهرام الأرمنى، وأخذ الوزارة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وكان نصرانيا، فاشتد ضرر المسلمين من النصارى، وكثرت أذيتهم، فسار رضوان بن ولخشى، وهو يومئذ متولى الغربية، وجمع الناس لحرب بهرام، وسار إلى القاهرة فانهزم بهرام، ودخل رضوان القاهرة، واستولى على الوزارة سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فأوقع بالنصارى وأذلّهم، فشكره الناس على ذلك، إلا أنه كان خفيفا عجولا، فأخذ فى إهانة حواشى الخليفة وهمّ بخلعه، وقال: ما هو بإمام وإنما هو كفيل لغيره، وذلك الغير لم يصح، فتوحش الحافظ منه، ولم يزل يدبر عليه، حتى ثارت فتنة انهزم فيها رضوان، وخرج إلى الشام فجمع جماعة، وعاد سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، فجهز الحافظ له العساكر لمحاربته، فقاتلهم وانهزم منهم إلى الصعيد، فقبض عليه، واعتقل، فلم يستوزر الحافظ بعده أحدا.

وفى سنة اثنتين وأربعين خلص رضوان بالهرب من معتقله بالقصر، وخرج من نقب، وثار بجماعة، وكانت فتنة آلت إلى قتله.

ص: 59

وهكذا كانت الفتن تتكرر، حتى مات فى إحداها الحافظ سنة أربع وأربعين وخمسمائة.

وفى أيامه بنى الوزير يانس الحارة اليانسية لعساكره، خارج باب زويلة.

[الظافر والفائز]

وولى الخلافة بعد الحافظ ابنه الظافر بأمر الله أبو منصور إسماعيل، فأقام أربع سنين، وبعض الخامسة ثم قتل، وكان محكوما عليه من الوزارة، وفى أيامه أخذت عسقلان، وظهر الخلل فى الدولة وكان كثير اللهو واللعب، وهو الذى أنشأ الجامع الأفخر، الذى عرف بالظافرى ويجامع الفاكهيين، ويعرف الآن بجامع الفاكهانى فى شارع العقّادين.

ولما قتل الظافر ولى الخلافة بعده ابنه الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى الفائز، وبنى المسجد الحسينى داخل باب الديلم من أبواب القصر لما نقل الوزير الصالح طلائع ابن رزيك الرأس الشريف من مسجد عسقلان ودخل به القاهرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، ووضعه بمكان من البستان الكافورى، ثم نقله إلى المشهد. وكان المرور بالرأس الشريف من السرداب المتصل بالقصر والبستان الكافورى، وكان دفنه بموضعه الآن.

وبنى أيضا جامع الصالح طلائع خارج باب زويلة، لجعله مدفنا للرأس الشريف، فلم يمكنه أهل القصر من ذلك، وحدثت حارة الصالحية.

[النزاع بين شاور وشيركوه]

ولما مات الفائز أقام الصالح بن رزيك فى الخلافة بعده العاضد لدين الله، وكان عمره إحدى عشرة سنة، وقام الصالح بتدبير الأمور إلى أن قتل فى رمضان سنة ست وخمسين وخمسمائة، فقام من بعده ابنه رزيك بن طلائع، وحسنت سيرته، فعزل شاور بن مجير السعدى عن ولاية قوص، فلم يقبل العزل، وحشد، وسار على طريق الواحات فى البرية إلى تروجه (وهى بلدة قديمة بمديرية البحيرة صارت الآن خرابا)، فجمع الناس وسار إلى القاهرة، فلم يلبث رزيك أن فرّ، فقبض عليه بإطفيح، واستقر شاور بن مجير السعدى فى الوزارة، إلى أوائل صفر سنة تسع وخمسين وخمسمائة، والخليفة يومئذ العاضد لدين الله عبد الله بن يوسف اسم لا معنى له. وتلقب شاور بأمير الجيوش، وأخذ أموال بنى رزيك، وأقام فى الوزارة إلى أن ثار ضرغام صاحب الباب، ففرّ منه شاور إلى الشام، واستبدّ ضرغام بسلطنة مصر.

فكان بمصر فى هذه السنة ثلاثة وزراءهم: العادل رزيك بن طلائع بن رزيك، وشاور ابن مجير السعدى، وضرغام. فأساء ضرغام السيرة، وقتل أمراء الدولة، فضعفت يسبب

ص: 60

ذهاب أكابرها، فقدم الإفرنج وحاربوا مدينة بلبيس مدة، ودافعهم المسلمون عدة مرار، حتى عادوا إلى بلادهم بالساحل، ورجع العسكر إلى القاهرة، وقتل منهم كثير، ثم إن شاور استنجد بالسلطان نور الدين محمود بن زنكى صاحب الشام، فأنجده وبعث معه عسكرا كثيرا فى جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وقدم عليه أسد الدين شيركوه على أنه يكون لنور الدين، إذا عاد شاور لمنصب الوزارة، ثلث خراج مصر، بعد إقطاعات العساكر، وأنه يكون شيركوه عنده بعساكره فى مصر، ولا ينصرف إلا بأمر نور الدين.

ووصل بعساكر الشام فحاربه ضرغام على بلبيس بعساكر مصر مرارا، وانهزموا فى آخرها، وغنم شاور ومن معه سائر ما خرجوا به، وكان شيئا جليلا، فسروا بذلك، وساروا إلى القاهرة، ونزل بمن معه عند التاج، وهى أرض إبراهيم باشا أدهم بالمهمشة، وحصلت وقعة بين الفريقين فى أرض الطبالة، وهى أرض الفجالة، ثم انتقل شاور إلى المقس - عند أولاد عنان، فحاربه أهل القاهرة، فانهزم، وقام على بركة الحبش، وهى أرض قرية البساتين، واستولى على مدينة مصر، فمال الناس إليه، وانحرفوا عن ضرغام، فقام شاور، ونزل باللوق، وكانت حروب آلت إلى إحراق الدور من باب سعادة إلى باب القنطرة، ثم كانت بين الفريقين حروب أيضا آلت إلى هزيمة ضرغام وقتله فى شهر رمضان منها، فاستولى شاور على الوزارة مرة ثانية، واختلف مع الغز القادمين معه من الشام، وكانت له معهم حروب، واحترق وجه الخليج خارج القاهرة بأسره، وقطعة من حارة زويلة.

وبعث شاور إلى مرى ملك الإفرنج يستدعيه إلى القاهرة، ليعينه على محاربة شيركوه ومن معه من الغز، فحضر، وقد سار شيركوه إلى مدينة بلبيس، وترك حصار القاهرة، فخرج شاور من القاهرة ونزل هو ومرى على بلبيس، وحاصرا شيركوه ثلاثة أشهر، وبلغ ذلك نور الدين، فأغار على ما قرب من بلاد الإفرنج، وأخذها من أيديهم، فخافوه، ووقع بينهم الصلح، فسار شيركوه بالغز إلى الشام، ورحل الإفرنج.

وعاد شاور إلى القاهرة سنة ستين وخمسمائة، فلم يزل إلى أن قدم شيركوه من الشام بالعساكر مرة ثانية يريد أخذ مصر، فخرج شاور من القاهرة إلى لقائه، واستدعى مرى ملك الإفرنج، فسار شيركوه على الشرق، وخرج من إطفيح وقصد بلاد الصعيد، فسار إليه شاور بالإفرنج، وكانت له معه وقعة عظيمة، فسار شيركوه بعد الوقعة من الأشمونين وأخذ الإسكندرية وعاد شاور إلى القاهرة، وخرج شيركوه من الإسكندرية بعد أن استخلف عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب.

ص: 61

ولم يزل يسير من الإسكندرية إلى قوص وهو يجبى البلاد، فخرج شاور من القاهرة بالإفرنج ونازل الإسكندرية، فبلغ شيركوه ذلك فعاد من قوص إلى القاهرة وحاصرها، ثم كانت أمور آلت إلى مسير شيركوه وأصحابه من أرض مصر إلى الشام فى شوال وقد طمع الإفرنج فى البلاد، واستلموا أسوار القاهرة، وأقاموا فيها شحنة معه عدة من الإفرنج لمقاسمة المسلمين ما يتحصل من مال البلد، والذى تقرر لهم فى كل سنة مائة ألف دينار.

[استيلاء الإفرنج على القاهرة]

وفحش أمر شاور وساءت سيرته، وكثر تجرؤه على الدماء، وإتلافه للأموال، فلما كانت سنة أربع وستين وخمسمائة قوى تمكن الإفرنج من القاهرة، وجاروا فى حكمهم بها، وأهانوا المسلمين بأنواع الإهانة، وتيقنوا عجز الدولة عن مقاومتهم، فسار مرى يريد أخذ القاهرة، ونزل على مدينة بلبيس وأخذها عنوة، وسبى أهلها، وقصد القاهرة، فكتب العاضد إلى نور الدين محمود بن زنكى يستصرخه، ويحثه على نجدة الإسلام، وإنقاذ المسلمين من الإفرنج وجعل فى كتبه شعور نسائه وبناته.

فجهز أسد الدين شيركوه فى عسكر كثير، وجهّزهم وسيّرهم إلى مصر. وكانت عسكر الإفرنج قصدت النزول على بركة الحبش، وقد انضم الناس من الأعمال إلى القاهرة، فنادى شاور بمصر إنه لا يقيم بها أحد، وأزعج الناس فى النقلة منها، فتركوا أموالهم وأثقالهم، ونجوا بأنفسهم وأولادهم. وقد ماج الناس واضطربوا، فكأنما خرجوا من قبورهم إلى المحشر لا يعبأ والد بولده، ولا يلتفت أخ لأخيه. وبلغ كراء الدابة من مصر إلى القاهرة بضعة عشر دينارا، وكراء الجمل ثلاثين دينارا. ونزلوا بالقاهرة فى المساجد والحمامات والأزقة، وعلى الطرقات مطروحين بعيالهم وأولادهم، وقد سلبوا سائر أموالهم ينتظرون هجوم العدو على القاهرة بالسيف، كما فعل بمدينة بلبيس.

وبعث شاور بعشرين ألف قارورة نفط وعشرة آلاف مشعل نار فرّق ذلك فيها، فارتفع لهيب النار ودخان الحريق إلى السماء، فصار منظرا هائلا، فاستمرت النار تأتى على مساكن مصر من اليوم التاسع والعشرين من صفر لتمام أربعة وخمسين يوما، والنهاية من العبيد ورجال الأسطول وغيرهم بهذه المنازل فى طلب الخبايا.

[تولى صلاح الدين الوزارة]

ورحل مرى ونزل بباب البرقية، وهو باب الغريب، وقاتل أهلها قتالا شديدا، حتى كاد يأخذها عنوة، فسار إليه شاور، وخادعه حتى رضى بمال يجمعه له، فشرع فى جبايته، وإذا بالخبر ورد بقدوم شيركوه، فرحل الإفرنج عن القاهرة.

ص: 62

ونزل شيركوه على القاهرة بالغز ثالث مرة، فخلع عليه العاضد وأكرمه، وأخذ شاور يفتك بالغز على عادته، فقتلوه، وتقلد شيركوه وزارة العاضد، وقام بالدولة شهرين وخمسة أيام ومات، ففوض العاضد الوزارة لصلاح الدين يوسف بن أيوب، فأمر باحضار أعيان أهل مصر الذين رحلوا عن ديارهم فى الفتنة، وساروا إلى القاهرة، وأمرهم بالعودة، فنودى فى الناس بالرجوع إلى مصر، فتراجع الناس قليلا، وعمروا حول الجامع، ولكن لم تكمل العمارة، ولم تطل المدة، وتوالت المحن والشدائد، إلى أن كانت المحنة من الغلاء والوباء، فى سلطنة الملك العادل أبى بكر محمد بن أيوب سنة خمس وستين وخمسمائة، فخرب من مصر جانب كبير، ثم تحايا الناس، وأكثروا من العمارة بجانب مصر الغربى على شاطئ النيل، لما عمر الملك الصالح نجم الدين قلعة الروضة.

وفى سلطنة الملك العادل كتبغا سنة ست وتسعين وستمائة خرب كثير من مساكن مصر بسبب الوباء الذى حصل، ثم تراجع الناس بعد سنة تسعة وأربعين وسبعمائة، ثم حدث الفناء الكبير، فخربت أكثر المنازل، ثم تحايا الناس إلى سنة ستة وسبعين وسبعمائة، فشرقت بلاد مصر، وحصل الوباء بعد الغلاء، فخرب أكثر العامر إلى سنة تسعين وسبعمائة، فعظم الخراب، وشرع الناس فى هدم الدور، حتى صارت تلالا كما ترى.

وأما القاهرة المحروسة، فإنها وإن كانت بخراب الفسطاط قد نمت فيها العمارة، واتسعت دائرتها بانتقال من انتقل إليها ممن كان بالفسطاط وغيرها، إلا أنها حصل فيها كثير من التقلبات السياسية والتغيرات الدولية بتعاقب الملوك، وتداول الدول، كما سيذكره، فإن صلاح الدين من حين أخذ بزمام الأحكام وإدارة الأمور أخذ يدبر فى إزالة الدولة الفاطمية والتمهيد للدولة الكردية والخلافة العباسية، فبذل الأموال، وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره فى ازدياد وأمر العاضد فى نقصان، وصار يخطب بعد العاضد للسلطان نور الدين محمود، وأقطع أصحابه البلاد، وأبعد أهل مصر وأضعفهم، واستبد بالأمور، ومنع العاضد من التصرف، حتى تبين للناس ما يريده من إزالة الدولة، فقامت عبيد الدولة عليه، فهزمهم وأبادهم وأفناهم.

ومن حينئذ تلاشى العاضد واضمحل أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره فى الخطبة.

[وقعة العبيد مع الغز وانتهاء حكم الفاطميين]

ولوقعة العبيد هذه خبر طويل ذكره فى الخطط، وملخصه أن مؤتمن الخلافة جوهرا أحد الأستاذين المحنكين بالقصر تحدث فى إزالة صلاح الدين يوسف بن أيوب من وزارة

ص: 63

الخليفة العاضد لدين الله عند ما ضيق على أهل القصر وشدّد عليهم واستبدّ بأمور الدولة، وأضعف جانب الخلافة، وقبض على أكابر الدولة، فصار مع جوهر عدة من الأمراء المصريين والجند، واتفق رأيهم على أن يبعثوا إلى الإفرنج ببلاد الساحل يستدعونهم إلى القاهرة، حتى إذا خرج صلاح الدين لقتالهم بعسكره ثاروا عليه وهم بالقاهرة، واجتمعوا مع الإفرنج على إخراجه من مصر، ووقف صلاح الدين على هذا الخبر، فخاف مؤتمن الخلافة ولزم القصر، وامتنع من الخروج منه، فأعرض صلاح الدين عن ذلك جملة، وطال الأمر، فظن الخصى أنه قد أهمل أمره، فصار يخرج من القصر، وكانت له منظرة بناحية الخرقانية فى بستان، فخرج إليها فى جماعة، وبلغ ذلك صلاح الدين، فأنهض إليه عدة هجموا عليه، وقتلوه، واجتزوا رأسه، وأتوا بها إلى صلاح الدين.

واشتهر ذلك بالقاهرة وأشيع، فغضب العسكر المصريون، وثاروا بأجمعهم فى سادس عشر ذى القعدة سنة أربع وستين وخمسمائة، وقد انضم إليهم عالم عظيم من الأمراء والعامة، حتى صاروا ما ينيف على خمسين ألفا، وساروا إلى دار الوزارة، وفيها يومئذ صلاح الدين، وقد استعدوا بالأسلحة، فبادر شمس الدولة فخر الدين توران شاه أخو صلاح الدين وخرج فى عساكر الغز، وركب صلاح الدين، وقد اجتمع إليه طوائف من أهله وأقاربه، وجمع الغز ورتّبهم، ووقع بينهم وبين العبيد وقعة بين القصرين، وكادت الهزيمة تكون على الغز لولا أن ثبت صلاح الدين وأخوه، وقصد حرق المنظرة التى بها الخليفة لميل أهل القصر للعبيد، ومساعدة الخليفة لهم، فعند ذلك خاف الخليفة، وفتح باب المنظرة زعيم الخلافة أحد الأستاذين، وقال بصوت عال: أمير المؤمنين يسلم على شمس الدولة، ويقول: دونكم والعبيد الكلاب، أخرجوهم من بلادكم.

فلما سمع السودان ذلك ضعفت قلوبهم، ووضع الغز فيهم السيف، فقتل منهم الكثير، وانهزموا إلى السيوفيين بقرب الغورية. وهناك قتل منهم العدد الوافر، كلما دخلوا مكانا حرقوه عليهم، وهكذا حتى صاروا إلى باب زويلة، فوجدوه مقفلا، فلم يجدوا مخلصا، ووقع فيهم القتل من كل ناحية، وطلبوا الأمان، فأمّنهم صلاح الدين، وفتح الباب، فخرجوا إلى الجيزة، واقتفى أثرهم حتى أفناهم عن آخرهم.

وتمكن بعد ذلك صلاح الدين من الديار المصرية، وصار هو الحاكم المستبد، يفعل ما يشاء، وصار يوالى الطلب من العاضد فى كل يوم ليضعفه، حتى أتى على المال والخيل والرقيق وغير ذلك. ولم يبق عند العاضد غير فرس واحد، فطلبه منه، وألجأه إلى إرساله، وأبطل ركوبه من ذلك الوقت، وصار لا يخرج من قصره البتة.

ص: 64

وتتبع صلاح الدين جند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم، فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا إليه من الشام.

[عزل قضاة الشيعة وخلع العاضد]

فلما كان فى سنة ست وستين وخمسمائة أبطل المكوس من ديار مصر، وهدم دار المعونة بمصر، وعمرها مدرسة للشافعية، وأنشأ مدرسة أخرى للمالكية، وعزل قضاة مصر الشيعية وقلد القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الشافعى، وجعل إليه الحكم فى إقليم مصر كله، فعزل سائر القضاة، واستناب قضاة شافعية، وعمل بمقتضى مذهبه، وهو امتناع إقامة خطبتين للجمعة فى بلد واحد، كما هو مذهب الإمام الشافعى رضي الله عنه، فأبطل الخطبة من الجامع الأزهر، وأقرها بالجامع الحاكمى من أجل أنه أوسع. فلم يزل الجامع الأزهر معطلا من إقامة الجمعة فيه مائة عام، من حين استولى السلطان صلاح الدين إلى أن أعيدت الخطبة فى أيام السلطان الظاهر بيبرس.

وبعزل قضاة الشيعة اختفى مذهبهم، وتظاهر الناس بمذهب مالك والشافعى، وأخذ صلاح الدين فى غزو الإفرنج، وعاد منصورا، وعمر سور الإسكندرية، وسيّر توران شاه إلى الصعيد، فأوقع بأهل الصعيد، وأخذ منهم ما لا يمكن وصفه كثرة وعاد. فكثر القول من صلاح الدين وأصحابه فى ذم العاضد، وتحدثوا بخلعه، وإقامة الدعوة العباسية بالقاهرة ومصر، ثم قبض على سائر من بقى من أمراء الدولة، وأنزل أصحابه فى دورهم فى ليلة واحدة، فأصبح فى البلد من العويل والبكاء ما يذهل العقول، وحكم أصحابه فى البلد، وأخرج إقطاعات سائر المصريين لأصحابه، وقبض على بلاد العاضد، ومنع عنه سائر مواده.

وقبض على القصور، وسلمها إلى الطواشى بهاء الدين قراقوش الأسدى، وجعل له زماماتها، فضيق على أهل القصر، وصار العاضد معتقلا تحت يده، وأبطل من الأذان «حى على خير العمل» ، وأزال شعار الدولة، وقطع الخطبة للعاضد. فمرض العاضد ومات، وعمره إحدى وعشرون سنة إلا عشرة أيام فى ليلة عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة بعد قطع اسمه من الخطبة، والدعاء للمستنجد العباسى بثلاثة أيام. ويقال: إن اسمه إنما قطع من الخطبه بعد موته.

وكان العاضد كريما، لين الجانب مرت به مخاوف وشدائد وفتن، آلت إلى انقراض ملكه، وانقرضت دولة الفاطمية بانقراضه.

ص: 65

[تخطيط القاهرة وعمائرها فى عهد الدولة الفاطمية]

ومما تلى عليك من أخبار تلك الدولة، تعلم أن القاهرة فى مدة خلافة الفاطميين التى هى عبارة عن مائتى سنة وثمان سنين، كانت تتسع فى مدة كل خليفة بما يستجد داخلها وخارجها من المبانى الباهرة، والبساتين المزهرة، والقصور المشيدة، والمناظر البديعة، حتى بلغ أول العمران المطرية، وآخره دير الطين، بحيث لا ترى فاصلا بين البساتين والمدينة والعمائر، بل كان يظهر للناظر أن الكل مدينة واحدة، فكان من يذهب من المطرية إلى دير الطين لم يزل بين قصور عامرة، وبساتين مزهرة، وحدائق باهرة، تدهش الناظر، وتشرح الخاطر.

والنيل من بعد عن يمينه غربى تلك الأماكن، والجبل عن شماله مطلا، كالمتفرج على جمال تلك المحاسن، إلا أنه مفصول عنها بفضاء واسع، أحدثت فيه بعد ذلك قرافة المجاورين، وما قاربها.

وبالتفصيل كان الذاهب بعد أن يفارق عين شمس - وهى المطرية - يمر بقرية الخندق - وهى ناحية سيدى الدمرداش رضي الله عنه ويرى وسط البساتين قرية كوم الريش - غربيها محل الزاوية الحمراء الآن -، ثم يكون بين البساتين السلطانية، والمناظر الجليلة الأميرية، إلى أن يصل إلى الميدان الكبير المعد لعرض العساكر التى تسافر إلى الجهاد أمام بابى النصر والفتوح - محل المقابر المجاورة للشيخ يونس رضي الله عنه، وما حوله من التلال الآن - وبه يتصل سور البلد، فمتى وصل السور سار بطول الخليج، ورأى عن يمينه بالساحل الشرقى للنيل قرية أم دنين، وإلى جانبها دار الصناعة وقصر الخلفاء، المعد لجلوسهم عند سفر الأسطول. وبعد ذلك من الجهة القبلية بستان الدكة وقصرها على النيل أيضا، وهو الذى كان يجلس فيه الخليفة عند عوده من كسر جسر الخليج كل عام، وبستان المقس، وغيرها من البساتين المعجبة إلى ساحل النيل، يتخللها قصور ومناظر تروق حسنا وجمالا وبهجة وكمالا. وعن شماله منظرة اللؤلؤة، محل مسجد الإمام الشعرانى والبستان الكافورى والميدان الكافورى، وعدة قصور ومناظر تشرف عليهما وعلى الخليج، يرى النيل من بعد، وإذا حاذى باب زويلة وجد عن شماله بالساحل الشرقى للخليج بركة الفيل، محيطا بها عدة بساتين ومبان، وعن يمينه بالساحل الغربى للخليج بستان الزهرى، ويمتد من بستان العدة إلى قنطرة السباع، وتمتد البركة والبساتين المحيطة بها من باب زويلة إلى قلعة الكبش إلى خط السيدة زينب وإلى السيدة نفيسة رضي الله عنهما. وقد حكّر كل ذلك فيما بعد، وصار حارات، كما ترى.

ص: 66

ومتى قطع تلك الأماكن، ووصل إلى خط السيدة زينب رضي الله عنها، رأى عن شماله منازل العسكر، ومناظر الكبش، وجبل يشكر مطلة على بركة الفيل وبركة البغّالة، وكانت من بركة الفيل وحولها البساتين تحت الكبش، ومحل كل ما ذكر هو المبانى الموجودة فى خط السيدة زينب رضي الله عنها، والتلال الموجودة الآن بعد باب السد. ويرى من بعد قبة الهواء محل القلعة، ومن تحتها ميدان ابن طولون، وبستانا محل الرميلة متصلا بالقطائع، وعن يمينه ما على ساحل النيل من البساتين.

ومتى قطع منازل العسكر، ووصل إلى قرب محل جنينة السادات الآن - الكائنة بطريق مصر العتيقة - رأى الفسطاط تشرف على النيل، وأمامها جزيرة الروضة المسماة الآن بالمنيل، وبها من القصور والبساتين ما لا يحصى كثرة، ولا يوصف حسنا، وخلفها النيل.

وقبلى الفسطاط بركة الحبش، وحولها البساتين المطلة على النيل.

وشرقى الفسطاط القرافة الكبرى - محل الحوش المعروف الآن بحوش أبى على بالقرب من قرية البساتين - والقرافة الصغرى - محل الإمامين - متصلتين بالجبل حيث زاوية السادات الوفائية. وكان بمحل القرافتين من القصور الفخيمة، والمساجد العظيمة، والخوانق الجليلة، ما يذهب الكدر، ويجلو النظر. وقد أسهب المقريزى فى وصف ذلك، ووصف ما كان يصنع هنالك من البرّ والخير والصدقات والإحسان فى أيام عيّنها، وليال بيّنها، فكان المتردد فى هذه المسافة البعيدة الأطراف، لا يرى إلا ما يلذ الفؤاد، ويزيل الغموم، وينفى الأنكاد، إلا أنه لما تطرّق الخلل إلى سياستهم الداخلية والخارجية حين أخذت أمورهم فى الانحلال ودولتهم فى الاختلال تغيرت تلك الأحوال، ولم تزل الحوادث تتوالى فى أيامهم الأخيرة، ثم فى أيام من بعدهم، تارة بالصلاح وتارة بالفساد، إلى أن ألحت الحوادث وتوالت المحن، حتى غيرت تلك الوجوه الحسان، وغيرت ما كان من الحسن والإحسان، وأزالت رونقها جملة، وردت ما كان لتلك المنازل من الجمال والكمال، إلا ما ترى من أطلال بالية وتلال، وما كان لها من بهجة وحسن انتظام إلى ما تشاهد من الخراب العام.

ومع تنقل الأحوال، وتغير الدول، وقصور همم أربابها، استقر الخراب مكان العمارة، وسكنت الوحشة محل الأنس، واعتاضت التلال بدل البساتين، والخوف بدل التأمين، كما بينا ذلك فى محله من هذا الكتاب.

ص: 67

[ازدياد العمارة ووفرة الأرزاق فى عهد الفاطميين]

ومن يتأمل مدة كل خليفة وأعماله يرى أن همة أغلبهم كانت متجهة إلى اتساع دائرة العمارة واليسار، وبسبب اتساع ملكهم، وعظم سطوتهم واستقلالهم، وعدم تبعيتهم لغيرهم، وكون القاهرة كرسى ملكهم، كانت القاهرة مقصد التجارة من جميع أطراف المملكة، ومقر الصنائع والمعارف، فأخذت بها التجارة والعلوم غاية لم تكن لها من قبل، ولا حصلت لها من بعد إلى زماننا. واتسعت بسبب ما ذكر أيضا أرزاق أهلها، وزادت ثروتهم، وما من أحد من الخلفاء إلا وصرف الأموال الجمة فيما به ازدياد العمارة، وبذل الجهد فى التوسعة على الفقراء، حتى إنهم كانوا يجلبون من اشتهر ذكره وعلا صيته فى صناعتى البناء والتصوير فى أقاصى الأرض، فكانت مبانيهم من أتقن المبانى، والباقى منها إلى الآن يدل على علو قدرهم، كأبواب زويلة، والفتوح، والنصر، ومسجد الحاكم، والأنور، وغير ذلك.

ولم تقتصر هممهم على ما ذكر، بل وسعوا دائرة السخاء والكرم، حتى عم برّهم وإحسانهم طبقات الناس، من غنى وفقير، من قاص ودان، خصوصا فى أيام مواسمهم وأعيادهم، وخروجهم للنزهة فى فصول تعودوها، وكذا أيام مراكبهم ومواكبهم.

وكان لهم احتفال زائد بأول السنة، وآخرها، وأيام الصوم، وعيدى الفطر والأضحى، وعاشوراء، إلى غير ذلك، مما أطال المقريزى فى بيانه، فذكر ما كان يفرّق فى تلك المواسم من الكساوى الغالية، والنقود الوافرة، وأنواع الحلوى وغيرها، حتى إن من قال إن برّهم كان يعم المدينة، بل وما قاربها لا يكذب، وكانت أمراؤهم تحذو حذوهم، وتسير سيرهم، وكانت طباعهم تسرى فى طباع الغير، حتى صار الكرم سجية، والمروءة عادة فى أهل القطر.

فلما زالت دولتهم بدولة الأيوبية الأكراد تغيرت تلك الطباع، وتلونت بلون طباعهم، حتى فى المأكل والمشرب والملبس. ولم تزل تتلون بتلون القوة الحاكمة، حتى صارت إلى ما ترى مما سيتلى عليك بعضه فى هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، فسبحان من يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

ص: 68

‌ما صارت إليه القاهرة بعد الفاطميين

ما زالت الدولة الفاطمية حتى استقرت بمصر الدولة الأيوبية التى هى دولة الأكراد، وتولى الملك منهم بمصر ثمانية: أولهم السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب جلس على دست ملكها أول سنة سبع وستين وخمسمائة وآخرهم السلطان المعظم توران شاه كان آخر مدته فى الملك سنة ثمان وأربعين وستمائة. فمدة ملكهم اثنتان وثمانون سنة، منها للسلطان صلاح الدين اثنتان وعشرون سنة.

‌مطلب جلوس السلطان صلاح الدين على دست المملكة

ومن أول جلوسه على تختها، لم يأل جهدا فى العمائر والإصلاحات هو وخلفاؤه، مع قيام الحروب على قدم وساق بين المسلمين والنصارى، فى سواحل الشام، فإنه لما استقر على سرير المملكة، وأزال شعار الفاطميين، جدّ فى العمارات، خصوصا فى مصر والقاهرة، فأحدث فيهما عمارات جليلة أوجبت اتساعهما، وزيادة اعتبارهما، وأباح سكنى القاهرة للخاص والعام، فزادت فى الاتساع، وهدم حارات العبيد اللاتى فى موضعها اليوم الداوودية والقربية، وجعلها بستانا.

[بناء قلعة الجبل]

وبنى قلعة الجبل، لتكون له معقلا وحصنا يعتصم به من أعدائه، فإنه كان يحذر من شيعة الفاطمية، فاختار لها المحل الذى بنيت فيه، وأقام على عمارتها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، فشرع فى بنائها، وبنى سور القاهرة فى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وهدم ما هنالك من المساجد، وأزال القبور، وهدم الأهرام الصغار التى كانت بالجيزة تجاه مصر، وكانت كثيرة العدد، ونقل حجارتها، وبنى بها السور والقلعة، وبنى قناطر الجيزة، لأجل سهولة نقل تلك الأحجار عليها. وقصد صلاح الدين أن يكون السور محيطا بالقاهرة والقلعة ومصر، فمات قبل أن يتم ذلك، فأهمل العمل إلى أن كانت سلطنة الملك الكامل محمد

ص: 69

ابن الملك العادل أبى بكر بن أيوب، فأتمها. ويقال إن قراقوش كان يستعمل فى بناء القلعة والسور خمسين ألف أسير.

[بئر القلعة]

والبئر المعروف بالحلزون الموجودة بالقلعة هى من عمل قراقوش المذكور فى أيام صلاح الدين، عملت لأجل وجود الماء فى داخل القلعة بواسطتها إذا حصل لها حصار من عدو. قال ابن عبد الظاهر: هذه البئر من عجائب الأبنية، تدور البقر من أعلاها، فتنقل الماء من نقالة فى وسطها، وتدور البقر فى وسطها تنقل الماء من أسفلها، ولها طريق إلى الماء ينزل البقر إلى معينها فى مجار. وجميع ذلك حجر منحوت ليس فيه بناء. وقيل:

إن أرضها مسامتة أرض بركة الفيل، وماؤها عذب.

وذكر القاضى ناصر الدين شافع بن على فى كتاب «عجائب البنيان» : أنه ينزل إلى هذه البئر بدرج نحو ثلثمائة درجة، والمشاهد أنه ينزل إليها بمزلقان، ولم يكن هناك درج.

وبئر يوسف المذكورة عبارة عن بئرين فوق بعضهما والماء بعد طلوعه من البئر الأسفل ينصب فى البئر الثانية، والمستعمل فى نقله سواقى القواديس. وارتفاع البئر الأعلى من ابتداء أرض القلعة إلى قاعها خمسون مترا وثلاثة أعشار متر، وعمق البئر الأسفل أربعون مترا وثلاثة أعشار متر، فيكون مجموع الارتفاع من أرض القلعة إلى قاع البئر الأسفل تسعين مترا وستة أعشار متر، وهو عبارة عن مائتين وتسع وسبعين قدما، وجميعه نقر فى الحجر.

وزمن صعود القادوس بعد ملئه من ماء البئر إلى سطح الأرض أربع دقائق وثلث، والزمن الذى يمضى فى سقوط حجر من أعلى إلى قاع البئر خمس ثوان، ودرجة حرارة ماء البئر مساوية لدرجة الحرارة المتوسطة السنوية فى مدينة القاهرة، وأقل بأربع درجات ونصف من درجة حرارة ارتفاع قاع بئر الأهرام. ومستوى ماء بئر يوسف تحت مستوى تحاريق النيل.

وماؤها به ملوحة قليلة.

[عمارات صلاح الدين وبعض أعماله]

وعمل صلاح الدين أيضا مارستانا بالقاهرة فى محل خزانة البنود، وكانت من أشنع الحبوس فى أيام الفاطمية.

وعمل أيضا الخانقاه الصلاحية للصوفية - وهى جامع سعيد السعداء الآن.

ص: 70

وبنى فى القرافة مدرسة للشافعية، بقرب تربة الإمام الشافعى رضي الله عنه، ووقف عليها جزيرة الفيل، وهى من أرض المهمشة الآن، وابتداء ظهورها كان فى أواخر الدولة الفاطمية، وكانت متوسطة بين منية الشيرج وأرض الفجالة.

ورتب فى المشهد الحسينى حلقة تدريس وفقهاء.

واعتنى بأمر الأسطول عناية زائدة، لم يقم بها أحد ممن جاء بعده إلا الظاهر بيبرس.

وقطع ما كان يؤخذ من الحجّاج، وعوض أمير مكة عنه فى كل سنة ألفى دينار وألف إردب غلة سوى اقطاعه بصعيد مصر وباليمن، ومبلغه ثمانية آلاف إردب.

وأبطل أمورا أخرى فى الإسكندرية وغيرها.

وأحاط على أهل العاضد وأولاده، وكانت عدة الأشراف فى القصور مائة وثلاثين، والأطفال خمسة وسبعين، فردهم فى مكان خارج القصر، واحتفظ عليهم، وفرّق بين الرجال والنساء لئلا يتناسلوا، وليكون ذلك أسرع لانقراضهم، وتسلم القصر بما فيه.

وبعث بالأموال إلى الخليفة ببغداد، وإلى السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بالشام، فأتته الخلع الخليفية.

واستعرض الجوارى والعبيد، فأطلق من كان حرا، ووهب واستخدم باقيهم، وأطلق البيع فى كل جديد وعتيق، فاستمر البيع فيما وجد بالقصر عشر سنين.

وأخلى القصور من سكانها، وحطّ من قدرها، فأعطى القصر الكبير للأمراء فسكنوا فيه، وأسكن أباه نجم الدين فى قصر اللؤلؤة، وأقطع خواصه دور الخلفاء وأتباعهم، وكان الواحد منهم إذا استحسن دارا أخرج منها سكانها ونزل بها. وأخليت أماكن من القصر الغربى سكن بها الأمير موسك والأمير أبو الهيجاء.

وفى شهر شعبان سنة ست وستين وخمسمائة اشترى الملك المظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه ابن أيوب الجزيرة المعروفة بالروضة، وكانت حصينة، ذات بساتين وثمار وعمائر ليست فى غيرها، وهى أقدم جزيرة فى مصر، وكانت منتزها لمن قبل الفتح ولمن بعده من ملوك مصر، وقد بسطنا الكلام عليها فى المجلد المختص بالمقياس من هذا الكتاب، وبقيت هذه الجزيرة فى ملك المظفر، إلى أن وجهه السلطان صلاح الدين إلى البلاد الشامية، فوقفها على مدرسته التى أنشأها فى مصر العتيقة التى عرفت بالمدرسة التقوية، وهى جزء من محل منازل المعز، والآن يوجد فى محل منازل المعز المذكورة جامع المرحومى وحارات الشراقوة

ص: 71

وما يجاورها من البساتين، ويظهر أن المنارة الموجودة الآن لجامع المرحومى من أصل بناء المدرسة التقوية.

ونقل أيضا عن ابن عبد الظاهر أن القصر لما أخذه صلاح الدين، وأخرج من به، كان فيه اثنا عشر ألف نسمة، ليس فيهم فحل إلا الخليفة وأهله وأولاده، فأسكنهم دار المظفر بحارة برجوان، وكانت تعرف بدار الضيافة. وقبض صلاح الدين على ولى عهد الخليفة، واعتقل مع إخوته وأولاده وهم نحو عشرة، وجماعة من بنى أعمامه فى دار الأفضل من حارة برجوان. وفى سنة أربع وثمانين وخمسمائة هرب منهم رجلان. قال: وعدد من بقى من هذه الذرية بدار المظفر والقصر الغربى والإيوان مائتان واثنان وخمسون شخصا، الذكور ثمانية وتسعون، والإناث مائة وأربعة وخمسون.

ولم يزالوا تحت الاعتقال بالقاهرة فى الأماكن التى أقيموا فيها، إلى أن نقلهم الملك الكامل محمد بن العادل بن أيوب إلى القلعة أيام سلطنته، حين انتقل من دار الوزارة الكبرى إليها، وفيها مات داود بن العاضد، واستمر بها من بقى منهم، إلى أن جاءت دولة الأتراك، وآلت السلطنة إلى الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى، فأمر فى سنة ستين وستمائة بالإشهاد على من بقى منهم أن جميع ما كان لهم من القصور والدور ونحوها ملك لبيت المال بالنظر السلطانى الظاهرى من وجه صحيح شرعى.

وأول من انتقل من الملوك من دار الوزارة الكبرى إلى الإقامة بالقلعة الملك الكامل المذكور، وكانت دار الوزارة المذكورة من عهد الأفضل ابن أمير الجيوش إلى أيام الكامل مقر الوزراء أرباب السيوف فى عهد الدولة الفاطمية، ومقر الملوك فى أيام الدولة الكردية، وكان السلطان صلاح الدين أيام إقامته بديار مصر يقيم بدار الوزارة، وأحيانا يكون بالقلعة.

***

‌جلوس الملك العزيز بن صلاح الدين على سرير السلطنة

ولما مات سنة تسع وثمانين وخمسمائة خلفه على سرير السلطنة ابنه الملك العزيز، عماد الدين أبو الفتح عثمان، وكان ينوب عن أبيه بمصر أيام حياته، ثم استقر على سرير السلطنة بها عند موت أبيه، ثم حصل بينه وبين أخيه الملك الأفضل على وحشة، وكان بدمشق فتجهز العزيز لمحاربته، ووقعت بينهما وقائع وحروب، استولى فيها العزيز على دمشق.

وإلى وقت العزيز بن صلاح الدين كان فى البر الغربى من الخليج بساتين متعددة، منها بستان يعرف ببستان البغدادية كان من بساتين القاهرة الموصوفة تجاه منظرة اللؤلؤة التى

ص: 72

كانت من مواضع نزهته، فبدا له أن يجعل هذا البستان ميدانا للرمى والسباق، فأمر فى سنة أربع وتسعين وخمسمائة بقطع النخل المثمر المستغل الذى كان، وجعله ميدانا، وحرث أرضه، وقطع باقيه.

ومن حينئذ أخذت هذه الجهة فى السكنى، وحكرت أرض البستان كما ذكر ذلك فى موضعه. وفى محل هذا البستان الآن الأماكن التى فى غربى الخليج تجاه جامع الأستاذ الشعرانى، ممتدة إلى الدكة وشارع باب الشعرية، فهو قطعة من البستان المقسى.

وكان العزيز حسن السيرة بمعزل عن الشهوات والطمع فى أموال الناس، وإنما كان ضعيف الرأى، واتفق أن جماعة من أمرائه وأعيانه أشاروا عليه بهدم الأهرام الكبيرة التى بالجيزة، طمعا فى استخراج كنوز ودفائن من تحتها، فأصدر أمره على الفور بمباشرة العمل فى هدمها، فجمعوا لذلك العمال وصناع اللغم، وجعل عليهم بعض الأمراء، فاستغرقوا فى هذا العمل ثمانية أشهر، وكانوا لا يقدرون إلا على خلع حجر أو حجرين فى اليوم، فعدلوا عن هذا الأمر، بعد أن صرفوا عليه أموالا جمة بلا فائدة، وكان ذلك فى سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.

وفى سنة أربع وتسعين وخمسمائة، شدّد فى منع ما كان يحصل فى موسم خليج القاهرة من ركوب الزوارق فيه وفعل المنكرات. وكان الناس قد اعتادوا ذلك من القديم، فعظم الأمر عليهم، وحنقوا على العزيز، وتمادى الشغب والاضطراب، حتى هموا بخلعه، والخروج عن طاعته، لولا أن بلغهم خبر موته، وكان ذلك فى سنة خمس وتسعين وخمسمائة.

***

‌جلوس المنصور على سرير الملك

وبموته انفتح باب الفتن. فإنه لما آل الملك بعده إلى ابنه الملك المنصور ناصر الدين محمد بعهد منه، كان عمر المنصور تسع سنين وأشهر، فقام بأمور الدولة بهاء الدين قراقوش الأسدى الأتابك، فاختلف عليه أمراء الدولة، وكاتبوا عمه الملك الأفضل على بن صلاح الدين، فقدم من صرخد، واستولى على الأمور، فلم يبق للمنصور معه سوى الاسم.

وأراد الأفضل أخذ دمشق من عمه العادل، فجهز الجيوش إليها، وحصل بينهما وقائع آل الأمر فيها إلى هزيمة الأفضل، فدخل العادل إلى مصر، وأعاد الأفضل إلى صرخد، وأقام بأتابكية المنصور، ثم خلعه، واستبدّ بسلطنة ديار مصر، وبلاد الشام، وحرّان والرها

ص: 73

وميافارقين، وأخرج المنصور وإخوته من القاهرة إلى الرها، واستناب ابنه الملك الكامل محمد عنه، وعهد إليه بالسلطنة بعده، وحلف له الأمراء، وأخذ فى تدبير مملكته وإعلاء شأنها بمحاربة أعدائها والدفاع عنها. واشتهر بالجسارة والحزم والصبر على الأهوال والإقدام، لا يثنى عزيمته خطب، وكان حليما كريما، جزيل العطاء. ومات سنة خمسة عشرة وستمائة وله من العمر خمس وسبعون سنة، منها على تخت سلطنة مصر تسع عشرة سنة. وفى أيامه كثرت العمارة فى القاهرة وضواحى القلعة.

***

‌سلطنة الملك الكامل ناصر الدين محمد بن المنصور

والذى خلفه على دست السلطنة ابنه الكامل ناصر الدين محمد، وهو الذى أتم بناء قلعة الجبل، وأنشأ بها الدور السلطانية فى أثناء نيابته عن أبيه سنة أربع وستمائة. فلما استبد بالملك بعد أبيه انتقل من دار الوزارة الكبرى إليها، وهو أول من انتقل من دار الوزارة من الملوك وسكن بالقلعة، وجعلها منزلا للرسل، ونقل سوق الخيل والجمال والحمير إلى الرميلة تحت القلعة، فأخذت من حينئذ الناس فى تعمير ما حولها من الدرب الأحمر والمحجر وجهة القطائع والصليبة، بعد أن كان بعضها مقابر وبعضها بساتين، كما تقدم بعضه، ويأتى باقيه فى محله.

وهو الذى أنشأ دار الحديث بالقاهرة، وعمر القبة على ضريح الإمام الشافعى رضي الله عنه، وأجرى الماء من بركة الحبش إلى حوض السبيل على باب القبة المذكورة، ووقف أوقافا كثيرة على أنواع من البر. وكان معظما للسنّة وأهلها.

ومما تدوّن فى محاسنه أنه كتب إليه بعض عماله رقعة يخبره أن المرتب على بيت المال فى كل سنة مائة ألف دينار وسبعون ألف دينار صدقة، وذلك خلل فى بيت المال، فكتب على ظهر الرقعة:

«الغربة تذل الأعناق، والفاقة مرة المذاق، والمال مال الله، وهو الرزاق، فأجر الناس على عادتهم فى الاستحقاق. ما عندكم ينفد، وما عند الله باق. وإنّا لا نحب أن يؤرخ عنا المنع، وعن غيرنا الإطلاق. والآثار الحسنة من مكارم الأخلاق، وإليكم هذا الحديث يساق» .

وكان كثيرا ما يتمثل ببيتى حاتم:

شربنا بكأس الفقر يوما وبالغنى

وما منهما إلا سقانا به الدهر

فما زادنا بغيا على ذى قرابة

غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقر

ص: 74

‌سلطنة سيف الدين أبو بكر

ولما مات الكامل سنة خمس وثلاثين وستمائة، قام بالأمر بعده ابنه سيف الدين أبو بكر، ولقّب بالملك العادل الأصغر، فوقع بينه وبين أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب منازعات، أفضت إلى خنقه بيد الأمراء، لكونهم استوحشوا منه بسبب انهماكه على اللهو واللذات، واشتغاله بالشهوات عن تدبير مملكته. وكان موته سنة سبع وثلاثين وستمائة.

***

‌مطلب سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب

واستولى على السلطنة بعده أخوه الملك الصالح أبو الفتوح نجم الدين أيوب بن الكامل، فضبط الأمور، وسيّرها على نظام حسن، واسترد الأموال التى فرّقها أخوه بإسرافه وتبذيره، ومبلغها يزيد على سبعمائة ألف دينار، وقبض على كثير من الأمراء الذين اشتركوا فى قتل أخيه، وعوّضهم بغيرهم من مماليكه، ونظر فى عمارة أرض مصر، وحارب عرب الصعيد الذين كانوا يفسدون فى الأرض، ويخيفون السبيل.

وبنى قلعة جزيرة الروضة، بعد أن استأجر الجزيرة من ناظر وقف المدرسة التقوية لمدة ستين سنة، وتحول من قلعة الجبل إليها وسكنها، ورأى أن الماء فى فرع النيل الذى بينها وبين مصر العتيقة يجف فى زمن التحاريق، وتحول عن فوهة الخليج القديم التى كانت عليها قنطرة عبد العزيز بن مروان، فبنى قنطرة السد، الجارى المرور عليها إلى قصر العينى الآن، وحفر فرع النيل المتقدم ذكره، وكان يعمل فيه بجنوده، ويطرح بعض رمله بالساحل، فى مقابلة الجيزة، فعمّر هناك خواصّه الدور العظيمة فى قبالة الجامع الجديد الناصرى، الذى كان فى محل الحوش المعروف فى أيامنا هذه بحوش التكية بحرى جنينة السادات بمصر العتيقة.

وامتدت العمارة إلى المدرسة المعزية بآخر مصر العتيقة، ثم إن الملك الصالح أغرق عدة مراكب فى بر الجزيرة تجاه باب القنطرة خارج مصر العتيقة، فكثر الماء فى ذلك الفرع إلى المقس، وقطع منشأة الفاضل وخرّب جامعه وبستانه وسائر ما كان هناك من الأماكن، وكان ذلك بعد سنة ستين وستمائة.

ثم إن النيل قد انحسر عن أرض تمتد من قنطرة السد القديمة، وهى قنطرة عبد العزيز ابن مروان إلى آخر الساحل، وتربى هناك جرف، وحدث فى زمن السلطان الصالح نجم الدين رملة فى موضع الجامع الجديد، كانت الناس تمرغ فيها الدواب زمن احتراق النيل وانحسار

ص: 75

البحر أمامها، فلما عمّر السلطان قلعة الروضة صار كل سنة يحفر هذا الفرع بجنده وبنفسه، فكثرت العمارة على شاطئه، وأنعم ببستان من وراء الدور على امرأة مغنية كانت تعرف بالعالمة، فعرف البستان ببستان العالمة بالإضافة إليها - ومحله الآن جزء من بستان السادات، المقدم ذكره، وهناك ساقية ماء تعرف إلى يومنا هذا بساقية العالمة.

واتسعت العمارة فى الساحل من محل الجامع الجديد، إلى أن اتصلت بخط السيدة زينب رضي الله عنها من الجانبين، فكانت المنازل على اليمين وعلى اليسار، والتلال التى ترى اليوم خارج البوابة هى آثار تلك المبانى، وكان هناك محل الصناعة حيث تعمل السفن، وتقول الناس الآن «ترسانة» ، وهى محرفة من دار الصناعة، حرفها الترك، وكانت من العمارات الفاخرة - ومحلها تجاه قنطرة السد الموصلة إلى قصر العينى - ثم تخربت وبطلت فى الأزمان الأخيرة، ونشأ محلها بستان عرف ببستان ابن كيسان، فى محل التلال الموجودة على يمين السالك من مصر العتيقة إلى القاهرة، وكان أوله عند زاوية الحبيبى.

وكانت هذه الجهة من أعمر الجهات تتصل عمارتها بالعمارة الممتدة إلى الكبش وجبل يشكر، فكانت العمارة متصلة إلى دير الطين، وكانت جهة دير الطين، وما جاورها من بركة الحبش والبساتين والدور التى حولها من أحسن منتزهات أهل مصر والقاهرة، خصوصا فى أيام النوروز والغطاس والميلاد والمهرجان وعيد الشعانين، ونحو ذلك من أيام اللهو والقصف والعزف، فكان لا يبقى صغير ولا كبير إلا خرج إلى بركة الحبش، فيضربون هناك المضارب الحليلة والسرادقات والقباب والشراعات، ويخرجون بالأهل والولد، ومنهم من يخرج بالقينات المملوكة والحرائر، فيأكلون ويشربون ويسمعون ويتفكهون. ومثل ذلك كان يحصل على بركة الفيل وبركة قارون - وهى البغالة - وبركة الأزبكية.

وقد صارت بركة الحبش من مدة إلى الآن أرض مزارع يغمرها النيل زمن فيضانه إذا كان وافيا، فإن لم يكن وافيا شرقت كلها أو بعضها. ولم يبق من القصور والبساتين الفاخرة، التى بسط المقريزى الكلام فيها إلا التلال المشاهدة الآن فى تلك الجهات، وقد تكلمنا على طرف من ذلك عند الكلام على قرية البساتين.

وكان من أعظم تلك البساتين، بستان عرف ببستان الشريف بن ثعلب كان غربى البستان المقسى، ويمتد إلى النيل، وفى قبليّه أرض اللوق، تخلفت عن النيل كما سيأتى، وكانت مساحته خمسة وسبعين فدانا فيه سائر الفواكه، وجميع ما يزرع من الأشجار والنخل والكروم وأنواع الرياحين، وكان عليه سور وله باب جليل، وفيه منظرة وعدة دور، فاشتراه الملك الصالح نجم الدين بثلاثة آلاف دينار مصرية، وجعله ميدانا لتدريب مماليكه

ص: 76

وأجناده على السبق والرماية، وتمرينهم على الأعمال الحربية، وترك ميدان العزيز لبعده عن القلعة وازدحام الأبنية حوله.

وكانوا فى تلك الأحقاب مشتغلين بقتال النصارى، بسبب حروب الصليب التى كانت متتابعة من أيام نور الدين وصلاح الدين إلى ذلك التاريخ وما بعده، فاستدعت الحاجة إلى دوام الأهبة للحرب، والاستعداد له شراء هذا البستان، واتخاذ محله ميدانا كما ذكر، لكونه على طريق القلعة، ولما رأوا من موافقته للمطلوب إذ ذاك لسعة أرضه وامتداده، فإنه كان يمتد فى العرض من عند محل جامع الطباخ الموجود الآن بجهة باب اللوق إلى قنطرة قدادار التى كانت على الخليج الناصرى بقرب النيل، وقد زالت هذه القنطرة ومحلها بقرب دار حافظ أغا سفرجى الخديو اسماعيل باشا.

وكان هذا البستان يمتد طولا إلى جسر السلطان أبى العلاء الحسينى، وأنشأ الصالح فى هذا الميدان قنطرة جليلة على البحر، وصار يركب إليه من القلعة، ويلعب فيه بالكرة والصولجان، وجعل له بابا عظيما عند محل جامع الطباخ المذكور، ولذلك عرف الشارع الموجود عليه هذا الباب بشارع باب اللوق لكونه فى أرض اللوق.

وكان عمل هذا الميدان سببا لبناء قنطرة الخرق على الخليج الكبير. ومن حينئذ أخذ الناس فى العمارة بهذه الجهة حتى صار اللوق بلدا كبيرا، كما سنورده فى محله إن شاء الله تعالى.

ولم يكن اشتغال الصالح بالحروب فى تلك الأوقات يمنعه عن الاشتغال بتوسيع نطاق المعارف، وزيادة العمارة والآثار النافعة. ومن محاسن آثاره المدارس الصالحية بخط بين القصرين، دك أساسها فى سنة أربعين وستمائة، فلما كملت رتّب فيها دروسا أربعة لفقهاء المذاهب الأربعة فى سنة إحدى وأربعين وستمائة، وهو أول من أحدث إقراء دروس المذاهب الأربعة فى مكان واحد. وأنشأ المبانى خلف هذه المدارس، وجعل للمدارس أحكار تلك الأبنية.

وقد ملك الصالح فى أيام سلطنته مكة المشرفة، وغزا بلاد اليمن. وكان فطنا ذكيا حلو الفكاهة طاهر اللسان والذيل، يكتب أجوبته فى مخاطباته بيده، واستكثر من شراء المماليك وعتقهم وتأميرهم، وجعلهم أعز خاصته وبطانته، وكان إذا سافر أحاطوا بدهليز ملكه، وأطلق عليهم اسم المماليك البحرية. وكانت كثرتهم من البواعث على انقراض الدولة الأيوبية.

وكان موته بالمنصورة سنة سبع وأربعين وستمائة، وعمره أربعون سنة، أقام منها بالسلطنة بعد أخيه مدة تسع سنين وأشهر.

ص: 77

[شجرة الدر وتوران شاه]

ولما مات أحضرته شجرة الدر زوجته أم ولده خليل إلى قلعة الروضة من غير أن يشعر به أحد، وأخذت بزمام الأمور، من غير أن تظهر موت الصالح، وأجرت الأحوال على ما كانت عليه، وصارت الخدمة تعمل بالدهليز والسماط يمد، وشجرة الدر تدبر أمور الدولة، وتوهم الكافة أن السلطان مريض، ما لأحد إليه سبيل ولا وصول. إلى أن حضر الملك المعظم توران شاه ابنه من حصن كيفا، فسلمت إليه مقاليد الأمور، كما سيأتى.

ومن آثار شجرة الدر حمام وبستان ودور أنشأتها بجهة السيدة نفيسة رضي الله عنها، وقبرها معروف فى الجامع المشهور بجامع الخليفة أمام مشهد السيدة رقية رضي الله عنها.

ولما تسلم توران شاه زمام الأمور أساء التدبير، وعكف على السكر والملاهى واللذات، فنفرت منه قلوب الناس، لا سيما لمّا أهمل أمر أمراء أبيه ومماليكه، وأخّرهم عن مراتبهم، وقتل منهم عدة، وعزل جماعة، وجرّدهم من علامات الشرف، واحتظى بمن وصل معه من الشام، فحنقت عليه مماليك أبيه، وقاموا عليه، وقتلوه سنة ثمان وأربعين وستمائة، وتركوا رمّته مطروحة على البحر ثلاثة أيام، ولم يقم فى السلطنة سوى شهرين. وبموته انتهت دولة بنى أيوب، وجاءت المماليك.

ص: 78

‌دولة المماليك البحرية

قد عرفت أن القاهرة كانت قد اتسعت فى آخر دولة الفاطميين، وأنشئ فى خارجها عمائر وبساتين كثيرة من كل جهة، وأن الفسطاط كان قد تخرب أكثره، إلا ما جاوز النيل وما حول الجامع العتيق، وكذا جبل يشكر والكبش والعسكر والقطائع فقد كان فيها بعض عمائر. والذى تخرب بالمرة خرابا كليا هو ما كان جهة الرصد، وبركة الحبش، وما قارب الإمام الشافعى وأبى السعود الجارحى رضي الله عنهما.

ولما صارت مصر إلى الدولة الأيوبية ازدادت العمارة فى داخل القاهرة وخارجها من جهاتها الأربع، خصوصا الدرب الأحمر، وشارع قصبة رضوان، والصليبة، وساحل مصر العتيقة، إلى دير الطين، إلى آخر ما قدمنا.

ولما زالت دولة بنى أيوب، وخلفتها دولة المماليك البحرية اجتهد أكثرهم فى توسيع نطاق العمارة أيضا فى مصر والقاهرة، كما سنورده فى محله إن شاء الله تعالى.

وإنما سمّوا بالمماليك البحرية لأنهم فى الأصل مماليك الصالح نجم الدين أيوب، كانوا معه مدة سجنه بالكرك، وبقوا معه حتى خلص من السجن سابع عشر شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وستمائة. فلما ملك مصر دعاه لهم ثباتهم معه حين تفرّق عنه الأكراد، وأكثر من شرائهم، وجعلهم أمراء دولته وبطانته المختصين بدهليزه إذا سافر، وأسكنهم معه فى قلعة الروضة، وسماهم البحرية من أجل ذلك. وكانوا نحو الألف، كلهم أتراك.

***

‌مطلب أول من تسلطن من المماليك البحرية

وأول من تسلطن منهم الملك المعز عز الدين أيبك الجاشنكير التركمانى الصالحى سنة ثمان وأربعين وستمائة بعد زواجه من شجرة الدر، وحدث من الفتن ما ترتب عليه اجتماع رأى

ص: 79

الأمراء على إقامة الأشرف مظفر الدين موسى من ذرية الأيوبية شريكا له فى السلطنة، فأقاموه معه وعمره نحو ست سنين، وصارت المراسيم تبرز عن الملكين، إلا أن الأمر والنهى للمعز، وليس للأشرف سوى مجرد الاسم، إلى أن قبض عليه المعز، وسجنه سنة خمسين وستمائة، وقطع اسمه من الخطبة، وانفرد بالسلطنة.

‌مطلب أول من تولى الوزارة من الأقباط

واتخذ شرف الدين أبا سعيد هبة الله بن صاعد الفائزى وزيرا، وهو أول قبطى ولى الوزارة فى دار مصر، فأحدث مكوسا سماها الحقوق السلطانية، فحصل للناس منه ما لا خير فيه، وقامت عرب الصعيد، فوجّه إليهم الملك المعز عساكره فأفناهم، ثم لم يحزم أمره، وعتا وظلم، فتركه أغلب الأتراك.

ومن أول جلوسه على التخت أمر بتخريب قلعة الروضة، فخرّبت، وعمّر مدرسته التى كانت معروفة بالمعزية، فى رحبة الحناء بمدينة مصر بمحل منازل العز، وتقدم ذكرها.

وخرب ميدان القلعة سنة إحدى وخمسين وستمائة، وهو من بقايا ميدان أحمد بن طولون، وكان قد هجر إلى أن بناه الملك الكامل محمد بن العادل بن أبى بكر بن أيوب فى سنة أحدى عشرة وستمائة، وأجرى إليه الماء، ثم تعطّل مدة، وعمّره ابنه الملك العادل أبو بكر محمد ابن الكامل محمد، وبعده اهتم به الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وجدّد له ساقية أخرى، وأنشأ حوله الأشجار، ثم تلاشى إلى أن هدمه الملك المعز أيبك، وقال له منجمه مرة: إن امرأة تكون سببا فى قتلك، فأمر أن تخرّب الدور والحوانيت من عند قلعة الجبل بالتبانة إلى باب زويلة وإلى باب الخرق وإلى باب اللوق، أعنى عند جامع الطباخ إلى الميدان الصالحى، وأمر أن لا يترك باب مفتوح بالأماكن التى يمر بها يوم ركوبه إلى الميدان، ولا تفتح أيضا طاقة. وهذا يدل على أن الدرب الأحمر والمحجر، من باب زويلة إلى باب اللوق كان عامرا فى وقت الأيوبية، بل ربما كان ذلك فى آخر دولة الفاطميين، لأن حارة اليانسية منسوبة إلى يانس - أحد وزراء الفاطميين. ثم اتفق أن وقع لهذا الملك ما أخبره به منجمه، وذلك أنه قتلته زوجته شجرة الدر فى سنة خمس وخمسين وستمائة، وكانت مدته نحو سبع سنين، وكان ظلوما غشوما، سفاكا للدماء، أفنى خلقا كثيرا.

ص: 80

‌تولية الملك المنصور بن المعز أيبك

وولى الملك بعده ابنه السلطان الملك المنصور نور الدين على بن المعز أيبك وعمره خمس عشرة سنة ودبّر أمره نائب أبيه الأمير سيف الدين قطز ثم خلعه بعد سنتين، واستقل بالسلطنة ولقّب بالملك المظفر فأخرج المنصور بن المعز منفيا هو وأمه إلى بلاد الأشكرى وقبض على عدة من الأمراء، وسار إلى محاربة التتار فأوقع بمجموع هولاكو على عين جالوت سنة ثمان وخمسين وستمائة وقتل منهم وأسر كثيرا بعد أن كانوا قد ملكوا بغداد وقتلوا الخليفة المستعصم بالله عبد الله، وأزالوا دولة بنى العباس وخربوا بغداد وديار بكر وحلب، ونازلوا دمشق فملكوها، فكانت هذه الواقعة أول هزيمة عرفت للتتار منذ قاموا. ودخل المظفر قطز إلى دمشق، وعاد منها يريد مصر فقتله الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى الصالحى بمنزلة الصالحية من مديرية الشرقية، وقام مقامه فى السلطنة وكانت مدة المظفر سنة إلا أياما.

***

‌تولية الظاهر بيبرس البندقدارى

وكان الملك الظاهر بيبرس البندقدارى من المماليك البحرية، فلما صارت مملكة مصر إليه فى سنة ثمان وخمسين وستمائة، كان أول ما بدأ به أن أبطل ما كان قطز أحدثه من المظالم عند سفره، وهو تصقيع الأملاك وتقويمها، وأخذ زكاة ثمنها فى كل سنة، وجباية دينار من كل إنسان. وأخذ ثلث الزكاة الأهلية. وكتب الظاهر بإبطال ذلك مسموحا.

وفى سنة تسع وخمسين وستمائة وصل إليه الإمام أبو العباس أحمد بن الخليفة الظاهر العباسى من بغداد. فتلقاه فى عساكره، وبالغ فى إكرامه، وأنزله بالقلعة، وانعقدت البيعة له بمحضر العلماء والأمراء، ولقّب بالإمام المستنصر، وكتب الظاهر إلى الأطراف بأخذ البيعة له، وإقامة الخطبة باسمه على المنابر، ونقشت السكة فى ديار مصر باسمه واسم الملك الظاهر.

وبالمستنصر هذا ابتدئت الخلافة العباسية بمصر من ذلك الحين، وتوالى الخلفاء من بعده إلى أن انتهت خلافتهم فى مدة الغورى حين التحاق مصر بالدولة العثمانية.

واهتم بيبرس بعمارة قلعة الروضة، فأعادها كما كانت، ورتّب فيها الحمدارية، وأعادها إلى ما كانت عليه من الحرمة، ورسم بأن تكون بيوتات جميع الأمراء واصطبلاتهم فيها، فكثرت فيها المبانى، وزادت بها العمارة، لكثرة ركوبه بحر النيل. واعتنائه بعمارة الشوانى

ص: 81

الحربية ولعبها فى البحر، فصار للأسطول فى أيامه شأن عظيم، كما كان فى أحسن أيام الدولة الفاطمية، وأيام الصالح نجم الدين، ثم تلاشى أمر الأسطول من بعده لقلة الالتفات إليه والعناية به.

واتخذ بيبرس الموضع الكائن خارج القاهرة من شرقيّها، وهو الذى به الآن قرافة المجاورين وقايتباى، ميدانا لرمى النشاب، وكان يقال له الميدان الأسود، والميدان الأخضر، وميدان العيد، وميدان السباق، وميدان القبق، وبنى به فى المحرم سنة ست وستين وستمائة مصطبة عند ما احتفل برمى النشاب وأمور الحرب، وحثّ الناس على لعب الرمح ورمى النشاب ونحو ذلك. وصار ينزل كل يوم إلى هذه المصطبة، فلا يركب منها إلى العشاء، وهو يرمى ويحرض الناس على الرمى والنضال والرهان. وقد أطال المقريزى فى ذكر ما كان يعمل فى هذا الميدان.

واستمر هذا الميدان فضاء إلى أن تولى السلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فترك النزول فيه، وبنيت فيه القبور شيئا بعد شئ، حتى انسدت طريقه، واتصلت المبانى من ميدان القبق إلى تربة الروضة خارج باب البرقية، وبطل السباق منه ورمى القبق فيه من آخر أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون. وفى زمن المقريزى كان فيه بعض عمد الرخام قائمة تعرف بين الناس بعواميد السباق، بين كل عمودين مسافة بعيدة، وما برحت قائمة هناك إلى ما بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فهدمت عند ما عمّر الأمير يونس الدوادار الظاهرى تربته تجاه قبة النصر، ثم عمّر أيضا الأمير قجماس ابن عم الملك الظاهر برقوق تربة هنالك، وتتابع الناس فى البنيان إلى أن صار كما هو الآن.

ولما انحسر ماء النيل عن ميدان الملك الصالح نجم الدين أيوب جعل الملك الظاهر ميدانه بطرف اللوق تجاه قنطرة قدادار، ومحله الآن الأرض المواجهة لقصر النيل من الشرق إلى شارع مصر العتيقة. وما زال يلعب فيه بالكرة إلى زمن الناصر محمد بن قلاوون، فجعل بستانا من أجل بعد البحر عنه، وأرسل إلى دمشق فحمل إليه من سائر أصناف الشجر، وأحضر معها خولة الشام والمطعّمين، فغرسوها فيه وطعّموها.

قال المقريزى: ومنه تعلم الناس بمصر تطعيم الأشجار. والحق أن تطعيم الأشجار كان معروفا بمصر من قبل ذلك بأزمان طويلة، فقد نقل المقريزى نفسه فى الكلام على خمارويه ابن أحمد بن طولون أنه أخذ الميدان الذى كان لأبيه، فجعله كله بستانا، وغرس فيه أنواع الأشجار والرياحين البديعة، وكان فيه ريحان مزروع على نقوش معمولة وكتابات مكتوبة يتعاهدها البستانى بالمقراض، حتى لا تزيد ورقة على ورقة، إلى أن قال: «وأهدى إليه

ص: 82

من خراسان وغيرها كل أصل عجيب، وطعّموا له شجر المشمش باللوز، وأشباه ذلك من كل ما يستظرف ويستحسن» (انتهى). فعلم من هذا أن التطعيم موجود بمصر من ذاك العهد، وربما كان من قبل ذلك.

وبنى الظاهر بيبرس أيضا القصر المعروف بالدار الجديدة، وكان يشرف على الرميلة.

وبنى بالقلعة دارا كبيرة لولده الملك السعيد، وأنشأ دورا كثيرة للأمراء بظاهر القاهرة مما يلى القلعة، واصطبلات، وأنشأ حماما بسوق الخيل لولده، وقد هدم، ومحله القره قول وبعض عمارة والدة الخديو إسماعيل باشا بجهة ميدان محمد على.

وجدد الجامع الأقمر، والجامع الأزهر، وزاوية الشيخ خضر، وعدة جوامع بالأعمال المصرية، وجسورا وقناطر كثيرة، منها قنطرة السباع عند السيدة زينب رضي الله عنها.

وبنى أيضا دار العدل تحت القلعة فى سنة إحدى وستين وستمائة، وصار يجلس بها لعرض العساكر يومى الإثنين والخميس. وما برحت دار العدل هذه باقية، إلى أن استجد السلطان الملك المنصور قلاوون الإيوان فهجرت دار العدل إلى أن كانت سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة، فهدمها الملك الناصر محمد بن قلاوون، وعمل موضعها الطبلخانة - كان محلها فى شارع الدحديرة.

واتفق أن غلت الأسعار بمصر مدة فى أيام الملك الظاهر حتى بلغ الإردب القمح نحو مائة درهم، وعدم الخبز، فنادى السلطان فى الفقراء أن يجتمعوا تحت القلعة، ونزل فى يوم الخميس سابع ربيع الآخر منها، وجلس بدار العدل هذه، ونظر فى أمر السعر، وأبطل التسعيرة، وكتب مرسوما إلى الأمراء ببيع خمسمائة إردب فى كل يوم، وأن يكون البيع للضعفاء والأرامل فقط دون من عداهم. وأمر الحجاب، فنزلوا تحت القلعة وكتبوا أسماء الفقراء الذين تجمعوا بالرميلة، وبعث إلى كل جهة من جهات القاهرة ومصر وضواحيهما حاجبا ليكتب أسماء الفقراء، وقال:«والله لو كان عندى غلة تكفى هؤلاء لفرقتها» .

ولما انتهى إحصاء الفقراء أخذ منهم لنفسه ألوفا، وجعل باسم ابنه الملك السعيد ألوفا، وأمر ديوان الجيش فوزع باقيهم، على كل أمير جملة من الفقراء بعدّة رجاله، ثم فرق ما بقى على الأجناد والمقدمين والبحرية، وقرر لكل واحد من الفقراء كفايته لمدة ثلاثة أشهر، وفرّق على الأكابر والتجار، وعيّن لأرباب الزوايا مائة إردب قمح فى كل يوم تخرج من الشّون السلطانية إلى جامع أحمد بن طولون لتفرّق على من هناك .. إلى آخر ما قال.

وفى سنة اثنتين وستين وستمائة أركب ابنه السعيد بركة خان بشعار السلطنة، ومشى قدّامه، وشقّ القاهرة، والكل مشاة بين يديه، من باب النصر إلى قلعة الجبل وزيّنت البلد.

ص: 83

وفى هذه السنة ختنه ومعه ألف وستمائة وخمسة وأربعون صبيا من أولاد الناس، سوى أولاد الأمراء والأجناد، وأمر لكل صغير منهم بكسوة على قدره، ومائتى درهم، ورأس من الغنم.

وفى سنة خمس وستين وستمائة أعاد الخطبة إلى الأزهر، كما تقدم فى الكلام على السلطان صلاح الدين، وشدّد فى منع المفاسد، وإبطال المنكرات، فرسم بإبطال ضمان الحشيش، وإراقة الخمور، وإبطال المفسدات والخواطئ من البلاد المصرية والشامية، وحبسن حتى يتزوجن، وأسقطت الضرائب التى كانت مرتبة عليهن، وكانت ألف دينار كل يوم فى القاهرة وحدها. وكتب بذلك توقيعا قرئ على منابر مصر والقاهرة، وسارت البرد بذلك إلى الآفاق وجعل حد السّكر السيف.

وفى سنة ست وستين وستمائة قرر الظاهر بمصر أربعة قضاة وهم: شافعى، ومالكى، وحنفى، وحنبلى. وكان القاضى قبل ذلك شافعيا، فسئل فى أمر فامتنع من الدخول فيه، فنشأ عن ذلك ما ذكر.

ولما حجّ سنة سبع وستين وستمائة، وزار ضريح النبى صلى الله عليه وسلم، أحسن إلى أهل الحرمين، وتكرّم وتفضّل على الناس، وغسل الكعبة بماء الورد بيده، وتوجه إلى الخليل عليه الصلاة والسلام، وزار ضريح الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وسار إلى بيت المقدس، وصلى فى المسجد الأقصى، ورجع إلى دمشق، وأراق جميع الخمور.

فكان رحمه الله تعالى - مع اشتغاله بالجهاد ومباشرته للحروب بنفسه وتوزيع أوقاته فى ذلك - لا يفتر عن إقامة شعائر الدين، وإبطال المنكرات.

[سكنى التتر فى اللوق]

وأول ما بنيت الدور للسكنى فى اللوق فى أيام ملكه، وذلك أنه جهّز كشافا من خواصه مع الأمير جمال الدين الرومى السلاحدار، والأمير علاء الدين آق سنقر الناصرى، ليعرف أخبار هولاكو، ومعهم عدة من العرب، فوجدوا بالشام طائفة من التتر مستأمنين، وقد عزموا على قصد السلطان بمصر، فلما وردت الأخبار بذلك إلى مصر، كتب السلطان إلى نواب الشام بإكرامهم، وتجهيز الإقامات لهم، وبعث إليهم بالخلع والإنعامات، وأمر بعمارة دور فى أرض اللوق لإنزالهم فيها، فوصلوا إلى ظاهر القاهرة، وهم ينيفون على ألف فارس بنسائهم وأولادهم فى يوم الخميس الرابع والعشرين من ذى الحجة سنة ستين وستمائة، فخرج السلطان يوم السبت السادس والعشرين منه إلى لقائهم بنفسه، ومعه العساكر، فلم يبق أحد

ص: 84

حتى خرج لمشاهدتهم، فاجتمع عالم عظيم، وكان يوما مشهودا، فأنزلهم السلطان فى الدور التى كان قد أمر بعمارتها من أجلهم، وعمل لهم دعوة عظيمة هناك، وحملت إليهم الخلع والخيول والأموال، وركب السلطان إلى الميدان وأركبهم معه للعب الكرة، وأعطى كبراءهم إمرات، فمنهم من عمله أمير مائة، ومنهم دون ذلك. وأنزل بقيتهم منزلة البحرية، وصار كل منهم من سعة الحال كالأمير، فى خدمته الأجناد والغلمان، وأفرد لهم عدة جهات برسم مرتبهم، وكثرت نعمهم، وتظاهروا بدين الإسلام.

فلما بلغ التتار ما فعله السلطان مع هؤلاء وفد عليه منهم جماعة بعد جماعة، وهو يقابلهم بمزيد الإحسان، فتكاثروا فى بلاد مصر، وتزايدت العمائر فى اللوق وما حوله.

ولما قدمت رسل القان بركة خان ابن عم هولاكو سنة إحدى وستين وستمائة أنزلهم السلطان الملك الظاهر باللوق، وعمل لهم مهما عظيما، وصار يركب كل سبت وثلاثاء للعب الكرة باللوق.

وفى هذه السنة قدم من المغل والبهادرية زيادة على ألف وثلثمائة فارس، فأنزلوا فى مساكن عمّرت لهم باللوق بأهاليهم وأولادهم.

وفى هذه السنة أيضا قدمت رسل الملك بركة خان، ورسل الأشكرى، فعملت لهم دعوة عظيمة باللوق.

فمن هذا يعلم أن جهة اللوق نشأت فيها العمارة فى زمنه على نفقته، واتسعت بمدته.

وفى أيامه عمرت منشأة المهرانى سنة إحدى وسبعين وستمائة، وحدثت فيها المساجد والدور، بعد أن كان يعمل فيها قمائن الطوب، والتلال التى نشاهدها عند قنطرة السد المعروفة بقنطرة الماوردة التى يتوصل منها إلى قصر العينى هى آثار تلك المبانى.

وفى سنة اثنتين وسبعين وستمائة كثرت العمارة فى جهة دير الطين، وبنى الصاحب تاج الدين - متولى ديوان الأحباس ووزارة الصحبة للسلطان الملك الظاهر - جامع الأثر الموجود إلى الآن.

وقد تجدد فى أيامه سوى ما ذكر كثير من المبانى فى داخل القاهرة وخارجها، فإنه كان يستكثر من العمارة ويرغب فيها، كما تدل عليه الآثار الباقية من أيامه فى كل جهة. فمن آثاره الخيرية المدرسة الظاهرية بين القصرين، والجامع الكائن خارج مصر من جهتها البحرية فى طريق العباسية الذى كان يعرف بمخبز الظاهر، وكان محل هذا الجامع قبل ذلك ميدانا

ص: 85

لقراقوش الأسدى فى الدولة الأيوبية، ثم استعمله الظاهر مدة من الزمن ميدانا للعب الكرة والرمى، إلى أن بدا له بناء هذا الجامع، فبناه فيه، وأوقف عليه باقى أرض الميدان مع أوقاف أخرى.

‌أول حدوث موكب المحمل والكسوة بمصر

وفى أيامه طيف بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة. وهو أول من فعل ذلك فى سنة خمس وسبعين وستمائة.

وفى أول سنة ست وسبعين وستمائة توفى بدمشق بالإسهال والحمى، وعمره نحو سبع وخمسين سنة، ومدة ملكه سبع عشرة سنة وشهران، وكان ملكا جليلا عسوفا عجولا، كثير المصادرات لرعيته ودواوينه، سريع الحركة، فارسا مقداما، موصوفا بالعزم والحزم.

قال الذهبى: كان الظاهر خليقا بالملك لولا ما كان فيه من المظالم، قال:«والله يرحمه ويغفر له، فان له أياما بيضاء فى الإسلام، ومواقف مشهودة، وفتوحات معدودة» (انتهى).

وكانت فتوحاته كثيرة، ولم تنقطع الحروب بينه وبين ملوك النصارى بالشام، حتى استولى على ما فى أيديهم من البلاد والقلاع.

***

‌جلوس السلطان ناصر الدين بركة خان وأخيه الملك العادل سلامش على سرير الملك

وخلف الظاهر بيبرس على تخت المملكة ابنه الملك السعيد ناصر الدين أبو المعالى محمد بركة خان سنة ست وسبعين وستمائة، فلم تطل مدته، وخامر عليه قوصون، واتحد مع الأمراء، فخلعوه سنة ثمان وسبعين وستمائة، وأقيم بعده أخوه الملك العادل بدر الدين سلامش بن الظاهر بيبرس وعمره سبع سنين، فلم يقم غير أشهر، وخلع، وبعث به إلى الكرك، فسجن مع أخيه.

***

‌تولية الملك المنصور قلاوون

ثم أقيم من بعده على تخت ملك مصر المنصور سيف الدين قلاوون الألفى العلائى. أصله من مماليك الصالح نجم الدين، ولذلك عرف بالصالحى النجمى، وكان شهما بطلا منصورا

ص: 86

فى حروبه، وله محاربات ووقائع كثيرة مع التتار وغيرهم، انتصر فيها، فعظمت هيبته، وامتدت شوكته، فافتتح بعض البلاد، وهادنه بعض الملوك، وهاداه بعضهم، وقرر على صاحب سيس كل سنة قطيعة من أضياف ودراهم تبلغ مقدار ألف ألف درهم، حتى قال بعضهم إذ ذاك:«لو فتحت سيس ما فضل بعد مصروفها مقدار ما وقع عليه الهدنة» .

وهاداه بعض الملوك - مثل ملك سيلان.

وغزا بلاد النوبة سنة سبع وثمانين وستمائة، وكان له فيها فتوح عظيمة، وعاد منها بغنائم عظيمة.

وفى أيامه حدثت عمارات كثيرة وكان له آثار فاخرة، منها المدرسة والقبة المنصورية، والمارستان. وقد دخل فى عمارة هذه المبانى كثير من أعمدة قلعة الروضة ورخامها كما يأتى ذكره فى الكلام على المدرسة المنصورية.

وفى أيام ملكه أكثر من شراء المماليك الجركسية، وجعلهم فى أبراج القلعة، وسمّاهم البرجية، فبلغت عدتهم ستة آلاف، وعمل منهم أوجاقية، وحمقدارية، وجاشنكيرية، وسلاحدارية، وأحدث تغييرا فى ملابس العسكر، واستجدّ طائفة سماها البحرية، وسببه أن البحرية الصالحية كانوا تشتتوا بعد قتل الفارس أقطاى فى أيام سلطنة المعز أيبك التركمانى، وبقيت أولادهم بمصر فى حالة رذيلة، فلما أفضت السلطنة إلى الملك المنصور قلاوون جمعهم، ورتب لهم الجوامك، والعليق، واللحم، والكسوة، ورسم أن يكونوا على أبواب القلعة، وسمّاهم البحرية.

وكان له عناية زائدة بالمماليك حتى إنه كان يخرج فى غالب أوقاته إلى الرحبة عند وقت حضور الطعام للمماليك، ويأمر بعرضه عليه، ويتفقد لجمهم، ويختبر طعامهم جودة ورداءة، فمتى رأى فيه عيبا اشتد على المشرف والأستادار، ونهرهما، وأحل بهما المكروه. وكان يقول:«كل الملوك عملوا شيئا يذكرون به ما بين مال وعقار، وأنا عمّرت أسوارا، وعملت حصونا مانعة لى ولأولادى وللمسلمين، وهم المماليك» . وكانت المماليك أبدا تقيم بهذه الطباق، ولا تبرح منها.

وهو الذى بنى بقلعة الجبل دار النيابة فى سنة سبع وثمانين وستمائة، وكانت النواب تجلس بشباكها إلى أن هدمها الناصر محمد بن قلاوون، وأبطل النيابة والوزارة، ثم اهتم بإعادتها بعده قوصون إلا أنه مات قبل أن تكمل، فكملت من بعده فى أيام الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون.

ص: 87

‌مطلب وفاة الملك المنصور

وفى سنة تسع وثمانين وستمائة توفى المنصور قلاوون، ودفن بالقبة المنصورية المتقدم ذكرها، بعد أن أقام فى الملك مدة إحدى عشرة سنة وأشهرا. وأحدث فى أيامه وظيفة كتابة السر، واللعب بالرمح فى موكب المحمل وكسوة الكعبة، وأبطل عدة مكوس.

***

‌سلطنة الملك الأشرف صلاح الدين خليل

وخلفه على سلطنة مصر ابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل، فمكث ثلاث سنين.

وفى أيامه كانت الحروب قائمة على ساقها مع الإفرنج فى السواحل الشامية، فجلاهم عنها، وفتح عكا، وهدمها، وفتح عدة حصون.

وبعد عودته ذهب إلى قوص، ومن هناك سافر على اليمن إلى الكرك، ثم عاد إلى مصر.

وفى أيامة أكمل عدة المماليك عشرة آلاف، وسمح لهم بالنزول من القلعة فى النهار، ولا يبيتون إلا بها، فكان لا يقدر أحد منهم أن يبيت بغيرها.

وفى سنة اثنتين وتسعين وستمائة بنى بالقلعة قصر الأشرفية، وصرف عليه جملة من المال، وعمر أيضا الرفرف، وجعله عاليا، يشرف على الجيزة كلها، وبيّضه وصوّر فيه أمراء الدولة وخواصها، وعقد عليه قبة على عمد، وزخرفها. وكان مجلسا يجلس فيه السلطان إلى أن هدمه الناصر محمد بن قلاوون، والغالب أنه كان فى محل القصر الأبلق وما يلحق به، ومحله الآن الطوبخانة بالقلعة.

وفى سنة ثلاث وتسعين وستمائة توفى قتيلا، وكان قد انفرد فى الصيد فى نفر يسير وساق، حتى وصل إلى الطرانة، فقصده الأمير بيدرة ومعه جماعة وقتلوه، وتسلطن بيدرة، وتلقب بالملك القاهر، فلم يقم فى السلطنة سوى يوم واحد وقتل.

***

‌سلطنة الناصر محمد بن قلاوون

وولى السلطنة الملك الناصر محمد ابن السلطان قلاوون، وعمره تسع سنين، وتولى نيابته وقام عنه بالأمر الأمير كتبغا المنصورى، وقبض على جماعة من الأمراء الذين قتلوا الأشرف،

ص: 88

واعتقلهم فى خرانة البنود، وتولى عقوبتهم بيبرس الجاشنكير، وآل بهم الأمر إلى أن قطعت أيديهم وأرجلهم وعلّقت فى أعناقهم، وشهروا فى مصر والقاهرة. وحصلت فتنة من مماليك الأشرف، فأمسك منهم نحو ثلثمائة، وقطعت أيديهم وأرجلهم، وصلبوا عند باب زويلة، ثم إن كتبغا استصغر السلطان الناصر، وطمع فى الملك، فقام عليه، وأنزله عن سرير ملكه، واعتقله، وذلك فى افتتاح سنة أربع وتسعين وستمائة.

***

‌سلطنة الملك العادل كتبغا

وعند ذلك استبد بالسلطنة الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى المذكور. وكان أحد مماليك الملك المنصور قلاوون، فحصل للناس فى زمنه مالا يوصف من الشر، لأن مد النيل فى أيامه قصر، واشتد الغلاء المفرط، حتى أكل الناس الجيف، وبلغ ثمن الإردب من القمح مائة وسبعين درهما نقرة عبارة عن ثمانية مثاقيل ونصف مثقال من الذهب، وأكلت الكلاب والحمير والخيل والبغال، وحصل الوباء بشدة عظيمة، حتى طرحت الموتى فى الطرق.

وفى زمن كتبغا قدمت طائفة الأويراتية سنة خمس وتسعين وستمائة، وهم طائفة من المغل حضروا فرارا من ملكهم غازان بإذن السلطان كتبغا، كما قدم غيرهم، فإنه لما تغلب التتار على ممالك الشرق والعراق، وجفل الناس إلى مصر، نزلوا بالحسينية، وعمروا بها المساكن. ونزل بها أيضا أمراء الدولة، فصارت من أعظم عمائر مصر والقاهرة. واتخذ الأمراء بها من بحريها، فيما بين الريدانية - وهى العباسية - إلى الخندق - وهى قرية سيدى الدمرداش - مناخات الجمال واصطبلات الخيل، ومن ورائها الأسواق والأماكن الكثيرة.

وصار أهلها يوصفون بالحسن، خصوصا لما قدمت الأويراتية، فازدادت العمارة بهذه الجهة.

وعمرت أيضا جهة الصليبة فى أيامه، وسبب ذلك أنه فى سنة خمس وتسعين وستمائة كان الناس فى أشد ما يكون من غلاء الأسعار، وكثرة الوباء، والسلطان خائف على نفسه، ومتحرز عن وقوع فتنة، وهو مع ذلك ينزل من قلعة الجبل إلى الميدان الظاهرى بطرف اللوق، فحسن بخاطره أن يعمل اصطبل الجوق (الذى كان مشرفا على بركة الفيل قبالة الكبش بمحل الحوض المرصود، وكان برسم خيول المماليك السلطانية) ميدانا عوضا عن ميدان اللوق، وأمر بإخراج الخيل منه، وشرع فى عمله ميدانا، وبادر الناس من حينئذ إلى بناء الدور بجانبه.

وكان أول من أنشأ هناك الأمير علم الدين سنجر الخازن - فى الموضع الذى عرف اليوم بحكر الخازن، وهو شارع نور الظلام. وتلاه الناس والأسراء فى العمارة، وصار السلطان

ص: 89

ينزل إلى هذا الميدان من القلعة، فلا يجد فى طريقه أخدا من الناس سوى الباعة أصحاب الحوانيت لقلة الناس، وشغلهم بما هم فيه من الغلاء والوباء، واشتد خوفه من الفتنة فأظهر العناية بأمر الأويراتية، لأنهم كانوا من جنسه، وكان مراده أن يجعلهم عونا له يتقوى بهم، فبالغ فى إكرامهم، حتى أثر فى قلوب أمراء الدولة إحنا، وخشوا إيقاعه بهم، فآل الأمر بسببهم، وبسبب تخلفه عن المسير مع الجيوش المصرية إلى محاربة التتار، حين أغاروا على بلاد الشام، إلى قيام بعض الأمراء عليه، فترك سرير السلطنة وفرّ إلى دمشق.

***

‌سلطنة حسام الدين لاجين المنصورى

واستولى على السلطنة حسام الدين لاجين المنصورى، أحد مماليك المنصور قلاوون.

وكان نائب السلطنة فى مدة كتبغا، وتلقب بالملك المنصور، وذلك فى سنة ست وتسعين وستمائة. فلم يسر فى الدولة السير الملائم، وساء تدبيره، فقامت عليه الأمراء وقتلوه سنة ثمان وتسعين وستمائة بعد سنتين وشهرين.

وكان من أول ما بدأ به أن أخرج الناصر محمد بن قلاوون من قلعة الجبل، وكان معتقلا بها، ونفاه إلى الكرك، وجعله فى قلعتها، ثم أخذ فى تجديد الجامع الطولونى بعد تخربه، وكان قد نذر ذلك من قبل سلطنته، فإنه كان ممن وافق الأمير بيدرة - المتقدم ذكره - على قتل الملك الأشرف. فلما قتل بيدرة فى محاربة مماليك الأشرف، فرّ لاجين من المعركة، واختفى بالجامع الطولونى، وهو يومئذ خراب لا ساكن فيه، فأعطى الله عهدا أنه إن سلم من هذه المحنة، ومكنه الله من الأرض يجدّد عمارة هذا الجامع، ويجعل له ما يقوم به.

فلما آلت إليه السلطنة عمّره، ورتب فيه دروسا على المذاهب الأربعة، ودرسا لتفسير القرآن، وآخر للحديث، وآخر للطب، وقرّر له الخطيب والمؤذنين وسائر الخدمة، وأنشأ بجواره مكتبا. وبلغت النفقة عليه عشرين ألف دينار، ورتّب له ما يقوم به.

***

‌السلطنة الثانية للملك الناصر محمد بن قلاوون

فلما قتل كما تقدم اجتمع الأمراء للمشورة، فانحط رأيهم على إمارة الملك الناصر محمد ابن قلاوون، فأحضر من الكرك، بعد أن استمر التخت خاليا عن سلطان واحدا وأربعين يوما، والأمراء يدبرون الأمور، فقلّده الخليفة السلطنة فى جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستمائة، وهى سلطنته الثانية على مصر.

ص: 90

فقام بتدبير الأمور الأميران: سلار نائب السلطنة، وبيبرس الجاشنكير أتابك العساكر وكانت جميع الأمور بيدهما لصغر من الناصر حينئذ، فزهد فى الملك، واحتال حتى مضى إلى الكرك، وكتب إلى الأمراء يقول: إننى قنعت بالكرك، فاطلبوا لكم ملكا تختارونه لما قصرت يدى فى تدبير المملكة بوجود سلار وبيبرس. فأثبت ذلك لدى القضاة بمصر، ثم نفذ إلى قضاة الشام. فكانت مدته فى هذه السلطنة الثانية تسع سنين وأشهر.

وفى أثناء تلك المدة جدّدت بعض عمائر، وحصل مع التتار فى جهات الشام جملة حروب ومنازلات، كان الأمر فيها مرة لهم، ومرة عليهم، وسار فيها الملك الناصر بنفسه وجنده إلى الشام، وحضر القتال مرتين، انكسر فى أولاهما، ونهب ما معه، وكسرهم فى الثانية كسرة عظيمة، وأسر منهم خلقا كثيرا.

وفى بعض هذه المدة قام بعض العرب بالبحيرة، فأرسل عليهم تجريدة، فقهرتهم.

وفيها أمر اليهود بلبس العمائم الصفر، والنصارى بلبس العمائم الزرق، والسامرية بلبس العمائم الحمر تمييزا لهم عن المسلمين.

ومن أهم ما وقع بها زلزلة هائلة، ابتدأت فى شهر ذى الحجة سنة اثنتين وسبعمائة، وأقامت تعاود الناس مدة عشرين يوما، فهدمت بالإسكندرية المنار، وكثيرا من الأبراج والأسوار، وفاض ماء البحر حتى غرّق البساتين، وهدمت بالقاهرة عدة مدارس وجوامع ومساجد، وتشقّق الجبل المقطم، وسقطت الدور على الناس، ومات كثير من أهلها تحت الردم، وخاف الناس وخرجوا إلى الصحراء، واتصلت هذه الزلزلة بأغلب بلاد الشام.

***

‌سلطنة ركن الدين بيبرس الجاشنكير

ولما اعتزل الملك الناصر السلطنة كما ذكر، تشاور الأمراء فيمن يتولاها، فاستقر الأمر من بعده للسلطان ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وتقلد السلطنة سنة ثمان وسبعمائة، وتلقب بالملك المظفر. وهو من مماليك المنصور قلاوون، وكان خيّرا عفيفا، كثير الحياء، جليل القدر، مهيب السطوة فى أيام إمرته.

فلما تسلطن عمل جسر النيل، من قليوب إلى دمياط فى عرض أربع قصبات من أعلاه، وست من أسفله، وأبطل الخمّارات، وترك ما كان مقررا عليها، وشدد فى إزالة المنكرات، وتتبع مواضع الفساد، وبنى الخانقاه العظيمة بالجمالية، وكانت أجل خانقاه بالقاهرة، وقد

ص: 91

ذكرت فى الخوانق، ورتب فى قبتها درسا للحديث، وقرّاء يتناوبون القراءة فى الليل والنهار، وأوقف عليها الأوقاف العظيمة. وقد دثر كل ذلك بتوالى الأيام، ولم يبق من الخانقاه إلا بعضها، وهو الجامع المعروف بجامع بيبرس.

وفى أيامه قصر مد النيل سنة تسع وسبعمائة، فلم يبلغ فى الزيادة غير ستة عشر ذراعا، إلا قيراطين، فشرقت أرض مصر، وتعالت الأسعار، فضجّ الناس وتشاءموا بالمظفر، وصارت العامة تتغنى بالأزجال فى مسبّته، فشدّد فى العقاب، وقبض على كثير من العامة، فقطع ألسنة بعضهم، وضرب البعض.

وقبض أيضا على جماعة من الأمراء بلغه أنهم يكاتبون الناصر سرا، فخرج كثير من الناس ولحقوا بالناصر فى الكرك، فكتب إليه المظفر يتهدده بالنفى إلى القسطنطينية، ويطلب منه ما خرج به معه من الخيل والمال والمماليك، فحنق الناصر من ذلك، وكاتب نوّاب طرابلس وحمص وصفد وحماة وغيرهم، وكان من ذكروا من مماليك أبيه وعتقائه، فأجابوه وقاموا بنصرته، فقام من الكرك ودخل الشام وتسلطن بها، وخطب باسمه على المنابر.

وكان المظفر قد أعد تجريدة من الجند لقتاله، فلما بلغهم الخبر لم يسيروا إليه، ورجعوا من ثانى يومهم إلى القاهرة، فاضطرب أمر المظفر، وخلع نفسه من الملك، وأشهد على نفسه، وأرسل الأشهاد إلى الناصر، وسأله أن يعيّن له موضعا يقيم به، إلا أنه مع ذلك لم يستقر به قرارا، فاستعدّ للهرب، وأخذ ما قدر عليه من المال والخيل والمماليك، ونزل من القلعة، فوقف له العامة عند باب القرافة، يسبّونه ويرجمونه، فشغلهم بشئ من المال نثره عليهم، وتخلّص منهم بذلك، وسار يريد الشام. وكان الناصر قد دخل مصر واستولى على سلطنتها، فبعث من قبض على المظفر بقرب غزة، وأحضره مقيدا بالحديد، وقتله فى ذى القعدة سنة تسع وسبعمائة.

***

‌السلطنة الثالثة للملك الناصر محمد بن قلاوون

وصفا الملك فى مصر والشام للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون. وكان عود السلطنة إليه هذه المرة فى أول شوّال سنة تسع وسبعمائة، وهى سلطنته الثالثة. فقام بأعباء الملك وطلب منه الأمير سلار نائب السلطنة أن يعفيه من النيابة، وأن يقيم بالشوبك، لأنها من إقطاعه، فأجابه لذلك، وخرج من يومه إلى الشوبك.

ص: 92

وفى سنة عشر وسبعمائة بلغ الناصر أن أحا الأمير سلار وجماعة من الأمراء من عصبته يقصدون الوثوب عليه، فلما تحقّق لديه ذلك قبض عليهم، وبعث باستحضار سلار، فلما جاء سجنه فى القلعة أياما حتى مات.

وطالت سلطنة الناصر هذه المرة، وتم له من العزّ والشوكة والسعة وبسطة الملك ما يطول شرحه.

وكان ذا شغف بالعمارات، فحدثت فى أيامه عمارات كثيرة منه ومن غيره، فاستجد بقلعة الجبل المبانى الكثيرة من القصور وغيرها. وحدثت فيما بين القلعة وقبة النصر عدة ترب - محل قايتباى وترب المجاورين - بعد ما كان ذلك المكان فضاء يعرف بالميدان الأسود وميدان القبق، وتزايدت العمارات بالحسينية، حتى صارت من الريدانية إلى باب الفتوح. وعمر ما حول بركة الفيل والصليبة، إلى جامع ابن طولون، وما جاوره إلى المشهد النفيسى.

وحكر الناس أرض الزهرى وما قرب منها، وهو من قناطر السباع إلى منشأة المهرانى، ومن قناطر السباع إلى البركة الناصرية، إلى اللوق، إلى المقس. وأمر بهدم الإيوان الذى أنشأه السلطان المنصور قلاوون المعروف بدار العدل، وأعاده، وأنشأ فيه قبة جليلة.

وبنى القصر الأبلق بالقلعة، وعمل بجانبه بستانا متسعا، وصرف على ذلك خمسمائة ألف ألف درهم. وكانت العادة جلوس السلطان به للخدمة كل يوم، ما عدا يومى الاثنين والخميس فإنه يجلس فى دار العدل. وكان ذلك القصر مشرفا على الرميلة وقراميدان، وكان بداخله ثلاثة قصور، فى جميعها وجميع قصور الأمراء مجارى الماء مرفوعا من النيل بدواليب تديرها البقر، فتنقله من موضع إلى أعلى منه، حتى ينتهى إلى القلعة. وكانت العادة أن يمدّ كل يوم، طرفى النهار، أسمطة جليلة لعامة الأمراء. وكذا عمّر سبع قاعات بالقلعة لسراريه، وكانت تشرف على قراميدان وباب القرافة.

وفى سنة سبع وثلاثين وسبعمائة أمر بهدم دار النيابة، وأبطل النيابة والوزارة، ومن بعده أعادها الأمير قوصون عند استقراره فى النيابة، فلم تكمل حتى قبض عليه، فولى بعده الأمير طشتمر حمص أخضر. وبعد القبض عليه تولاها الأمير شمس الدين آق سنقر فى أيام الملك الصالح إسماعيل، فجلس بها سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، وهو أول من جلس بها من النواب بعد تجديدها، وتوارثها النواب بعده.

[حفر الخليج فى عهد الملك الناصر محمد بن قلاوون]

ولما أنشأ الملك الناصر محمد بن قلاوون القصور والخانقاه بناحية سرياقوس، وجعل هناك ميدانا يسرح إليه، وأبطل ميدان القبق، وترك المصطبة التى بناها بالقرب من بركة

ص: 93

الحبش لمطعم الطيور والجوارح، اختار أن يحفر خليجا من بحر النيل لتمر فيه المراكب إلى ناحية سرياقوس، لحمل ما يحتاج إليه من الغلال وغيرها، فأمر بالكشف عن عمل ذلك وحفر الخليج، وأنهى الحفر فى سلخ جمادى الآخرة على رأس شهرين، وجرى الماء فيه عند زيادة النيل، فأنشأ الناس عليه عدة سواق، وجرت فيه السفن، فسرّ السلطان بذلك، وحصل للناس رفق، وقويت رغبتهم فيه، فاشتروا جملة أراض من بيت المال، غرست فيها الأشجار، وصارت بساتين جليلة، وأخذ الناس فى العمارة على حافتى الخليج - فيما بين المقس وساحل النيل ببولاق.

وكثرت العمائر على الخليج، حتى اتصلت من أوله بموردة البلاط إلى حيث يصير فى الخليج الكبير بأرض الطبالة، وإلى سرياقوس. وصارت البساتين من وراء الأملاك المطلة على الخليج، وتنافس الناس فى السكنى هناك، وأنشأ الحمامات والمساجد والأسواق. وصار هذا الخليج مواطن أفراح، ومنازل لهو، ومغنى صبابات، وملعب أتراب، ومحل أنس وقصف، فيما يمر فيه من المراكب، وفيما عليه من الدور. وما برحت مراكب النزهة تمر فيه بأنواع الناس على سبيل اللهو، إلى أن منعت المراكب منه بعد قتل الأشرف.

وكان أوله عند قرب قنطرة السد الجارى عليها المرور إلى قصر العينى، فيسير قليلا فى الأرض إلى هناك، منعطفا إلى جهة الغرب، حتى يتصل بشارع مصر العتيقة المار أمام سراى الإسماعيلية والقصر العالى، فيمتد على حافته الشرقية مبحرا إلى أن يفارق الجسر الممتد إلى السلطان أبى العلاء وبولاق، فيكون فى غربى البستان الذى كان فى ملك المرحومة زينب خانم، ثم يكون عند أولاد عنان، فينعطف ويسير إلى أن يتلاقى مع الخليج الكبير بقرب جامع الظاهر - وللآن منه قطعة باقية خلف المنازل وفوقها قنطرة البكرية المعروفة بالقنطرة الجديدة، والتلال الكبيرة التى كانت بطوله، من ابتدائه إلى منتهاه، هى أثر العمارات التى دمرتها الحوادث، وتقدم بعض ذلك.

‌امتداد العمران أيام الملك الناصر

وفى أيام الملك الناصر أخذت العمارة فى الازدياد فى جميع أطراف القاهرة وداخلها، وتنافس الناس فيها، وكان النيل قد انحسر عن جانب المقس الغربى، وصار هنالك رمال متصلة من بحريّها بجزيرة الفيل ومن قبليّها بأراضى اللوق، ففتح بها الناس باب العمارة، فعمروا فى تلك الرمال المواضع، وهى الجهة التى تعرف اليوم ببولاق، وأنشأوا بجزيرة الفيل البساتين والقصور، حتى لم يبق منها مكان بغير عمارة، وحكر ما كان منها وقفا على مدرسة

ص: 94

صلاح الدين المجاورة للإمام الشافعى رضي الله عنه، وما كان وقفا على المارستان الكبير المنصورى، وغرس ذلك كله بساتين، فصارت تنيف على مائة وخمسين بستانا إلى وفاة الملك الناصر محمد بن قلاوون، ونصب فيها سوق كبير يباع فيه أكثر ما يطلب من المأكل.

وأنشأ الناس فيها عدة دور وجامعا، فصارت قرية كبيرة، وما زالت فى زيادة إلى أن حدثت المحن فى سنة ست وثمانمائة، فتلاشت وخرب كثير منها. وجميع أرض المهمشة وقرية الزاوية الحمراء إلى شبرا وسرياقوس هى من أرض هذه الجزيرة، ولم تكن قرية الزاوية الحمراء إلا القرية التى حدثت إذ ذاك عوضا عن قرية كوم الريش التى ذكرها المقريزى، وكانت بقربها.

وامتدت العمارة من الجهة القبلية إلى القاهرة، وتقدم بعض ذلك أيضا، وعمر ما خرج عن باب زويلة يمنة ويسرة من قنطرة الخرق إلى الخليج الكبير، ومن باب زويلة إلى المشهد النفيسى.

وعمرت القرافة من باب القرافة إلى بركة الحبش طولا، ومن القرافة الكبرى إلى الجبل عرضا، حتى إنه استجد فى أيام الناصر محمد بن قلاوون بضع وستون حكرا، ولم يبق مكان يحكر. وأكثر هذه الأحكار فى جهة الخليج الغربية، من ابتداء قنطرة السباع إلى قنطرة باب الخرق، فأغلب الأخطاط الموجودة الآن فى هذه الجهة لم يعمر إلا فى وقته، وتنافست رجاله فى إنشاء العمارات الجليلة من البساتين الفاخرة والدور الظريفة، وأكثروا من الزينة والزخرفة فى بناء المساجد والمدارس.

وبالتأمل يظهر أن أغلب ما ذكره المقريزى من العمائر بنى فى سلطنته، فإنه كان يحب ذلك ويرغب فيه كما قدمنا.

وأنشأ السلطان على نفقته عدة عمارات باهرة، من ضمنها الميدان الكبير الناصرىّ غربى الخليج - ومحله الأرض الواقعة فى قبلى منزل الأمير أحمد باشا رشيد، وفى غربيه إلى النيل إذ ذاك. وأنشأ هناك ميدان المهارة، وبنى قصرا عظيما، وكان يتردد إليه، ومحله الأرض الواقعة على يمين السالك من الشارع إلى القصر العالى، وهى الأرض التى كانت فى يد محمد وهبى باشا، وانتقلت إلى ورثته، ثم قسّمت وبيع بعضها، وتبلغ مساحتها نحو سبعة عشر فدانا، ومنها بعض الشارع، وبعض منزل حافظ بيك رمضان.

[القلعة فى عهد الناصر]

واعتنى الناصر بالميدان الذى تحت القلعة، وكان قد هجر من مدة، فابتدأ فى إصلاحه سنة اثنتى عشرة وسبعمائة، فاقتطع من باب الاصطبل، وهو باب العزب، إلى باب القرافة،

ص: 95

وأحضر جميع حمال الأمراء، فنقلت الطين حتى كساه كله، وزرعه، وحفر به الآبار وركب عليه السواقى، وغرس فى بعضه النخيل والأشجار، وأدار عليه سورا من الحجر، وبنى حوضا للسبيل من خارجه. فلما كمل نزل إليه، ولعب فيه بالكرة مع أمرائه، وخلع عليهم، وكان القصر الأبلق يشرف عليه، وجعل فيه عدة وحوش، وأمر بربط الخيل فيه، واتخذ صلاة العيدين به عادة.

وعمل فى القلعة الحوش الذى لا يرى مثله، وكانت مساحته أربعة فدادين وكان موضعه بركة عظيمة قد قطع ما فيها من الحجر لعمارة قاعات القلعة، حتى صارت غورا كبيرا فردمها فى سنتين، وأحضر من بلاد الصعيد ومن الوجه البحرى ألفى رأس غنم، وكثيرا من البقر الأبلق لتقف فى هذا الحوش، فصار مراح غنم، ومربط بقر، وأجرى الماء إليه من القلعة، وأقام الأغنام حوله، وتتبع فى كل سنة المراحات من عيذاب وقوص وما دونهما من البلاد، ليأخذ ما بهما من الأغنام المختارة، بل جلبها من بلاد النوبة ومن اليمن، فبلغت عدتها بعد موته ثمانين ألف رأس.

واهتم بعمل السواقى التى تنقل الماء من بحر النيل من جهة بركة الحبش إلى القلعة، واعتنى بها عناية عظيمة، فأنشأ أربع سواق على بحر النيل تنقل المياه إلى السور، ثم من السور إلى القلعة، وعمل نقّالة من المصنع الذى عمله الظاهر بيبرس عند زاوية تقى الدين رجب، التى بالرميلة تحت القلعة إلى الاصطبل.

وأنشأ بالقلعة بستانا عظيما، جلب إليه أصناف الأشجار من سائر البلاد، حتى طلع فيه الكادى وجوز الهند وغير ذلك.

وفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة عزم على عمل خليج يبتدئ من ناحية حلوان لتوصيل الماء إلى القلعة، ولم يتم له ذلك لأن المهندسين الذين أحضرهم من الشام قدّروا المصرف ثمانين ألف دينار، والمدة عشر سنين، فعدل عن ذلك.

وفى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة اهتم الملك الناصر بسوق الماء إلى القلعة، لأجل سقى الأشجار وملء الفساقى، ولأجل مراحات الغنم والبقر، فطلب المهندسين والبنائين، ونزل معهم، وسار فى طول القناطر التى تحمل الماء من النيل إلى القلعة، حتى انتهى إلى الساحل، فأمر بحفر بئر أخرى، وإعمال القناطر لينقل عليها الماء حتى تتصل بالقناطر العتيقة، فيجتمع الماء من البئرين ويصير ماء واحدا يجرى إلى القلعة، فعمل ذلك، ثم أحب الزيادة فى الماء أيضا، فركب ومعه المهندسون إلى بركة الحبش، وأمر بحفر خليج صغير يخرج من البحر، ويمر إلى حائط الرصد، وينقر فى الحجر تحت الرصد عشر آيار يصب فيها الخليج المذكور،

ص: 96

ويركب على الآبار السواقى، لتنقل الماء إلى القناطر العتيقة زيادة لمائها. واشترى جميع الأملاك هناك، وحفر الآبار فى الحجر، فصار عمق البئر أربعين ذراعا. ومات الملك الناصر قبل أن يتم جميع ذلك، وإلى الآن جميع هذة الآبار باقية فى ذيل الجبل المطل على أرض البساتين، والعيون ظاهرة، تمر غربى الإمام الشافعى رضي الله عنه.

[اتصال مصر بالقاهرة]

وبالجملة فلم يهتم أحد من الملوك السابقين عليه، ولا اللاحقين به مثله فى أمر العمارة والبناء، ونحن لم نذكر جميع ما أجراه مدة سلطنته الطويلة من قناطر وترع وجسور، ومبان خيرية فى القاهرة ومصر، وجهات كثيرة من القطر المصرى، والبلاد الشامية، خشية زيادة الإطالة. ومن كثرة عمائره اتصلت مصر بالقاهرة حتى صارتا بلدا واحدا من مسجد تبر بقرب القبة إلى بساتين الوزير، قبلى بركة الحبش، ومن شاطئ النيل بالجيزة إلى الحبل المقطم.

وعمر الناصر الجامع الجديد المطل على بحر النيل عند موردة الحلفاء

(1)

، وهدم لأجل ذلك الصنم الذى كان عند قصر الشمع بسرّية أبى الهول، وأدخل حجارته فى عمارة الجامع.

وأجرى بمكة المعظمة عين ماء وهى المعروفة بعين بازان، وعمل للكعبة بابا جديدا من خشب السنط الأحمر صفحه بطبقة من الفضة زنتها ثلاثون ألف درهم، وأنعم بالفضة القديمة على الخدم.

وفى أيامه عمرت القرية المعروفة بالنحريرية، عمرها الأمير شمس الدين سنقر السعدى، وأخذها الناصر منه بعد عمارتها.

وجدد عمارة الرصد، وعمارة جامع راشدة عند دير الطين، وجدّد عمارة مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، ووضع به المحراب على التحرير الصحيح.

وعمّر زاوية الشيخ رجب التى تحت القلعة. إلى غير ذلك مما يطول تعداده.

[حريق القاهرة فى زمن الناصر]

ومن الحوادث المهمة فى أيامه التى تؤرخ حادثة حرق كنائس كثيرة فى القاهرة ومصر والإسكندرية وجهات كثيرة من الإقليم فى ساعة واحدة يوم الجمعة التاسع من ربيع الآخر سنة عشرين وسبعمائة، خربها العامة ونهبوا ما فيها، وقتلوا وسبوا كثيرا ممن بها وقت اشتغال الناس بصلاة الجمعة، وقد أسهب المقريزى فى تفصيل تلك الحادثة، وذكرناها عند الكلام على شارع الناصرية

(2)

من هذا الكتاب.

(1)

فى الطبعة الأولى «الخلفاء» والتصحيح لأحمد تيمور (باشا).

(2)

فى الطبعة الأولى «النصرية» والتصحيح لأحمد تيمور (باشا).

ص: 97

وبعد ذلك بشهر اتفقت النصارى على حرق مصر والقاهرة، فوقع حرق هائل فى عدة حارات، ودمر كثير من الدور والربوع والجوامع والمدارس والخوانق، وتلف للناس كثير من الأموال، واستمر ذلك أياما، إلى أن عرف أنها من النصارى، ووقع القبض على من كان يفعل ذلك منهم، وعوقبوا بالحرق والقتل. وبعد ذلك ألزمت النصارى بلبس العمائم الزرق، ونودى بأن من وجد نصرانيا بعمامة بيضاء، أو راكبا على العادة حل له دمه وماله، وأن لا يركب أحد منهم بغلا ولا فرسا، ومن ركب حمارا فليركبه مقلوبا، ولا يدخل نصرانى الحمام إلا وفى عنقه جرس، ولا يتزيا أحد منهم بزى المسلمين، ومنع الأمراء من استخدامهم، وكثر إيقاع المسلمين بهم، حتى تركوا السعى فى الطرقات، وأسلم كثير منهم.

وبعد ذلك حصل الاهتمام من السلطان والأمراء وغيرهم فى تجديد ما تهدم، وعمارة ما تخرب، حتى تراجعت العمارة وازدادت.

وما زالت القاهرة تزداد فى أيامه عظما وعمارة، واستمرت على ذلك بعده، إلى أن حدث الفناء العظيم فى سنة تسع وأربعين وسبعمائة، فخلا كثير من المواضع.

[أهم أعمال الناصر وصفاته]

وكان السلطان الناصر محمد بن قلاوون مشغوفا بجلب المماليك من بلاد أزبك وتوريز والروم وبغداد، وبعث فى طلبهم، وبذل الرغائب للتجار فى تحصيلهم، ثم أفاض على من يشتريه منهم أنواع العطاء من عامة الأصناف دفعة واحدة فى يوم واحد، ولم يراع عادة أبيه ومن كان قبله من الملوك فى تنقل المماليك فى أطوار الخدمة حتى تتدرب وتتمرن، وسمح لهم بالنزول إلى الحمام يوما فى الأسبوع، وكانوا ينزلون بالنوبة مع الخدم ويعودون آخر النهار، ولم يزل هذا حالهم، إلى أن انقرضت دولة بنى قلاوون.

ومات عن ألف ومائتى وصيفة مولدة، سوى من عداهن من سائر الأصناف، وبلغت عدة مماليكه اثنى عشر ألف مملوك، حتى صار راتبه وراتب مماليكه من لحم الضأن كل يوم ستة وثلاثين ألف رطل.

وهو أول من اتخذ للعسكر الأقبية المفتوحة، والطرز الذهب، والحوائص الذهب، والسيوف المسقطة بالذهب.

وهو أول من رتب المواكب فى القصر، ورتب شرب السكر بعد السماط، ورتب وقوف الأمراء فى المواكب على قدر منازلهم، وكذلك أرباب الوظائف.

ص: 98

وقد طالت أيامه فى السلطنة، وصفا له الوقت، وصار غالب النواب والأمراء من مماليكه ومماليك والده، ولا يعلم لأحد من الملوك آثار مثل آثاره وآثار مماليكه، وخطب له على منابر عدة بقاع، وافتتح كثيرا من البلاد والحصون، وأخضع العرب المفسدين، وقتل منهم الكثير، غير من أسره منهم واستخدمه فى الجسور والترع، وأبطل جملة من المظالم، منها ضمان الغوانى، وهو عبارة عن أخذ مال من النساء الباغيات، فكانت إذا خرجت امرأة للبغاء، ونزلت اسمها عند امرأة تسمى الضامنة لا يقدر أحد على منعها، وأبطل ما كان يؤخذ ممن يبيع ملكا، وذلك عن كل ألف درهم عشرون درهما، وأبطل الضرب بالمقارع من سائر أعمال مملكته، وكتب بذلك مراسيم قرئت على المنابر، وحج ثلاث حجات، بذل فيها كثيرا من العطايا والإحسان، وزار بيت المقدس، وقبر الخليل عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات.

وكان أبيض اللون قد وخطه الشيب، وفى عينيه حول، وبرجله اليمنى ريح شوكة تنغص عليه أحيانا وتؤلمه، وكان لا يكاد يمس بها الأرض، ولا يمشى إلا متكئا على شئ.

وكان شديد البأس، جيد الرأى، يتولى الأمور بنفسه، ويجود لخواصه بالعطايا الكثيرة، وكان مهيبا عند أهل مملكته وخواصه، بحيث أن الأمراء إذا كانوا عنده بالخدمة لا يجسر أحد أن يكلم آخر بكلمة واحدة، ولا يلتفت بعضهم إلى بعض خوفا منه، ولا يمكن واحدا أن يذهب إلى بيت أحد البتة، فان فعل أحد منهم شيئا من ذلك أخرجه من يومه منفيا، وأفنى خلقا كثيرا من الأمراء، بلغ عددهم نحو مائتى أسير، وكان كثير التخيل، حتى لو تخيل من ابنه قتله.

وفى آخر أيامه شره فى جمع المال، وصادر كثيرا من الأمراء والولاة وغيرهم، ورمى البضائع على التجار، حتى خاف كل من له مال. وكان مخادعا، كثير الحيل، لا يقف عند قول، ولا يفى بعهد، ولا يبر فى يمين. ولم يزل قائما على سرير ملكه حتى مرض ومات على فراشه سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وله من العمر ثمان وخمسون سنة، ودفن مع والده بين القصرين. وكانت مدة سلطنته فى مصر والشام ثلاثا وأربعين سنة، وذلك دون اعتزاله السلطنة وفراغه منها، نحو أربع سنين.

ولما مات الملك الناصر ترك أحد عشر من الأولاد الذكور، وتولى السلطنة بعده ثمانية منهم، وأكثرهم كان لا خير فيه.

ص: 99

‌مطلب تولية ثمانية من أولاد الملك الناصر السلطنة

فأولهم السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر، مكث شهرين إلا يوما، وخلعه الأمير قوصون نائب السلطنة سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، لفساده وشربه الخمور، ونفى هو وإخوته إلى قوص، فقتل هناك.

***

ثم تولى الملك الأشرف علاء الدين كجك

(1)

أخوه، ولم يكمل له من العمر ثمان سنين، فأقام خمسة أشهر وعشرة أيام، وكانت الأمور كلها بيد قوصون أتابك السلطنة، فأخذ يمهد الأمور لنفسه، ويعزل ويولى فى الأمراء، وقبض على كثير منهم، فحقدوا عليه، وتعصب جماعة من نواب الشام وأمرائها بشهاب الدين أحمد بن الناصر، وكان فى الكرك، وانضموا إليه، واتفقوا على إقامته فى السلطنة بدل أخيه كجك، وقام بمصر الأمير إيدوغمش، وانضم إليه كثير من الأمراء والعسكر، فقبض على قوصون، وسجنه، وأرسله إلى الإسكندرية مقيدا، وسجن بها، وخلع كجك فى شعبان سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، ودخل إلى دار الحرم، فبقى بها إلى أن مات.

***

وقام بأمور السلطنة بعد خلعه الأمير أيدوغمش إلى أن حضر شهاب الدين أحمد بن الناصر، فلما جاء فى شوال من السنة المذكورة، جلس على تخت مصر، وتلقب بالملك الناصر، فساءت سيرته، وقبض على جماعة من الأمراء، وقتل بعضهم، ومضى إلى الكرك، فأرسل إليه الأمراء فى الحضور إلى مصر، فأبى معتذرا بالشتاء، فخلعوه فى المحرم سنة ثلاث وأربعين، فكانت مدته ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوما، وأقام بالكرك، إلى أن قتل فى سنة خمس وأربعين وسبعمائة.

***

والذى تولى السلطنة بعد خلعه أخوه الملك الصالح عماد الدين اسماعيل أبو الفداء فى أول سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، فأحسن السير، وأظهر العدل، وكان له بر وصدقات.

وفى سنة خمس وأربعين وسبعمائة أرسل جندا لقتال أخيه أحمد فى الكرك، فقاتلوه وحاصروه إلى أن استسلم، فقبضوا عليه وقتل.

واستمر الصالح فى السلطنة إلى أن مرض، ومات على فراشه سنة ست وأربعين وسبعمائة، فكانت مدته ثلاث سنين وشهرين وعشرة أيام.

(1)

فى الطبعة الأولى كجرك والتصحيح لأحمد تيمور.

ص: 100

وكان قد عمر بالقلعة الدهيشة، واستدعى لها من دمشق وحلب ألفى حجر أبيض وألفى حجر أحمر، وحشرت الجمال لحملها، حتى وصلت إلى قلعة الجبل، وصرف فى حمولة كل حجر من حلب اثنى عشر درهما ومن دمشق ثمانية دراهم، وجمع لها الرخام والصناع من سائر الجهات، وبلغ مصروفها خمسمائة ألف درهم.

***

ثم تولى أخوه الملك الكامل سيف الدين شعبان فى منتصف ربيع الثانى من السنة المذكورة، فأساء السير، وصار يخرج الإقطاعات بمال معلوم، ويصادر أرباب الوظائف، ويأخذ أموالهم قهرا، وقبض على جماعة من الأمراء، واعتقل أخويه، وهما حاجى وحسين ولدا الناصر فى محل من الدهيشة، وأراد أن يبنى عليهما موضعا يكون قبرا لهما، وهمّ بالقبض على بعض الأمراء، فقاموا عليه، وخلعوه، وحبس مكان أخويه إلى أن قتل وكانت مدته سنة وشهرا.

***

وبويع بعده أخوه حاجى المذكور، فجلس على سرير السلطنة سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ولقب بالملك المظفر، وكانت ولادته بطريق الحجاز فى سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، ولذا سمى حاجى، وكان قبيح السيرة، يؤثر صحبة الأوباش على أرباب الفضائل، وانهمك فى اللعب، وكان أشد قسوة من أخيه، فساءت حالته، واحتال على الأمراء فجمعهم بالقلعة، وقتل بعضهم، واعتقل البعض، فنفرت منه القلوب، وقام عليه باقى الأمراء، وقاتلوه حتى أمسكوه وذبحوه، ودفن فى تربة عند الباب المحروق. وكانت مدته سنة وثمانية شهور، ولكن قتل فى هذه المدة اليسيرة كثيرا من الأمراء وغيرهم، وكان يلبغا اليحياوى لما بلغه ما فعله بالأمراء هرب إلى الشام، لأنه كان نائبا بها، فوجه له بعض المماليك فقتلوه، وبعثوا برأسه إليه، فعلقها على باب زويلة.

***

‌السلطنة الأولى للملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون

ثم تولى بعده أخوه الملك الناصر بدر الدين أبو المعالى حسن بن الناصر محمد بن قلاوون فى رابع عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وعمره ثلاث عشرة سنة، فعهد إلى الأمير منجك اليوسفى بالوزارة، وجعله استادار الديار المصرية، فنقص كثيرا من مصروف الدولة والرواتب، ومديده لأخذ الرشوة، وصار يولى الوظائف بمال يأخذه ممن يتولاها

ص: 101

واشتد احتراق النيل مما يلى مصر، فاتفق الرأى على سده من بر الجيزة ليتحول الماء إلى مصر، ووكل هذا الأمر إلى الأمير منجك المذكور، فضرب لأجل ذلك على كل دكان درهمين من الفضة، وعلى كل نخلة من نخل الشرقية كذلك، إلى غير ما ذكر، فجمع أموالا جمة، وصنع مراكب، وشحنها أحجارا، ورماها فى مجرى النيل، مما يلى بر الجيزة، فلم تحصل ثمرة.

وعزل منجك من الوزارة، ثم أعيدت إليه بعد قليل، ففتح باب الولايات بالمال، وجمع من ذلك أموالا عظيمة، واشتد ظلمه وعسفه، وكثرت حوادثه. إلى أن عزل بعد مدة، وحمل إلى الإسكندرية، فاعتقل بها، وصودر فى جميع أملاكه وأمواله، ثم أطلق وأعيد إليه بعض ملكه.

وفى سنة تسع وأربعين وسبعمائة حصل طاعون عام وفناء عظيم عم ديار مصر وغيرها، وقيل إنه لم يسبق مثله، فخرب أكثر البلاد ومصر والقاهرة، وتعطل الزرع بسبب موت الفلاحين، ولم يكن الموت مقصورا على الآدميين، بل شمل الطاعون أيضا الجمال والخيل والحمير والوحوش والطيور، وحصل الغلاء، واشتد حتى بلغ ثمن الويبة من القمح - وهى سدس الإردب - مائتى درهم فضة.

وفى سنة إحدى وخمسين وسبعمائة جمع السلطان حسن القضاة الأربعة والأمراء ورشد نفسه. وبعد أيام قبض على جماعة من الأمراء، منهم الأمير منجك المتقدم ذكره، وأرسلهم إلى الشام على طريق الإسكندرية، فداخل الأمراء من ذلك ما داخلهم، إلى أن تعصبوا وقاموا عليه فى سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة. وكان رأس الفتنة الأمير طاز، فقبضوا عليه، وسجنوه بالقلعة فى مكان داخل دور الحرم، فأقام به إلى حين عوده للسلطنة ثانية كما سيأتى، فكانت مدته فى هذه المرة ثلاث سنين وتسعة شهور.

***

وتولى بعده أخوه الملك الصالح صلاح الدين صالح فى ثامن عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة يوم خلع أخوه، وهو آخر من تسلطن منهم، ولم يكن بلغ سنه خمس عشرة سنة، فأقام ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، ثم خلع لكثرة لهوه، وسجن بالقلعة يوم الاثنين ثانى شوال سنة خمس وخمسين وسبعمائة.

وكان المتكلم فى أمر الديار المصرية فى مدته الأمير طاز المتقدم ذكره، وهو صاحب الدار التى جعلت فى زماننا هذا مدرسة للبنات بقرب الصليبة، والأمير شيخو العمرى صاحب

ص: 102

الجامع والخانقاه بالصليبة، والأمير صرغتمش صاحب المدرسة بخط الصليبة أيضا، فكان الأمير طاز يسيره كيف يشاء، وكان هو الذى أجلس الصالح على سرير الملك، فكان للملك الصالح من السلطنة الاسم وللأمير طاز الفعل، فنفرت قلوب بعض الأمراء من ذلك، وقاموا على الأمير طاز، وأرادوا الفتك به، فتعصب بالسلطان ومضى معه لقتالهم، ونودى فى القاهرة بقتل كل من وجد من مماليك الأمراء الثائرين، فقتل منهم فى الحارات وداخل البيوت عدد وافر، ووقع القتال بين الأمير طاز ومعه السلطان، وبين الأمراء الثائرين عند خليج الزعفران وجهة المطرية، فكانت النصرة للسلطان ومن معه بعد أن قتل فى المعركة كثير من المماليك.

وفى سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة خرج عن الطاعة بعض نواب المملكة فى البلاد الشامية، وانضم إليهم عدد عديد من الأمراء والعسكر سوى من التف عليهم من العرب والعشائر، فحصلت منهم أمور شنيعة، خصوصا بدمشق، فإنهم نهبوا ضياعها، وخربوا بساتينها، وأفحشوا فى النساء، فقام السلطان، وسار إليهم، وحاربهم، وبدد شملهم، وقتل كثيرا منهم، ورجع منصورا، وزينت له مصر.

وفى سنة أربع وخمسين وسبعمائة خرجت عرب الصعيد عن الطاعة، ونهبوا الغلال، وقتلوا العمال، فخرج إليهم السلطان بنفسه ومعه جميع الأمراء، وكان رؤساء العسكر الأمير طاز، والأمير صرغتمش، والأمير شيخو، فأفنوا كثيرا من العرب، حتى عمل شيخو منها مصاطب ومنارات على شاطئ البحر، وحضروا بنحو سبعمائة أسير منهم قتلوا جميعا بالقاهرة.

وفى سنة خمس وخمسين وسبعمائة منعت اليهود والنصارى من مباشرة الدواوين، وأن لا تزيد عمائمهم على عشرة أذرع، ولا يدخل أحد منهم الحمام إلاّ وفى رقبته صليب، ولا تدخل نساؤهم مع نساء المسلمين، وأن يكون إزار النصرانية أزرق، وإزار اليهودية أصفر، وإزار السامرية أحمر، وأن يلبسوا الخف لونين، كل فردة من لون.

وفى هذه السنة وثب الأمير شيخو العمرى، ومعه جماعة من الأمراء على الملك الصالح، وكان الأمير طاز متغيبا عن القاهرة فى البحيرة للصيد، فهجموا على السلطان، وخلعوه من الملك، وسجنوه بدور الحرم يوم الاثنين ثانى شوال سنة خمس وخمسين وسبعمائة.

***

‌مطلب السلطنة للناصر حسن بن محمد بن قلاوون

وفى يوم خلعه عاد للسلطنة الملك الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون باتفاق الأمراء الحاضرين، فأقام فى الملك ست سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام، وقام عليه مملوكه الأمير

ص: 103

يلبغا، وقتله فى يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وكان ملكا شجاعا، بطلا مهيبا، نافذ الكلمة، محبا للرعية، وفتحت فى أيامه جملة قلاع، غير أنه كثيرا ما كان يصادر أرباب الوظائف، ومات عن سبع وعشرين سنة، منها فى السلطنة عشر سنين ونصف فى المرتين، وخلف من الأولاد عشرة من الذكور، وستة من البنات، وكان قد وقع فى نفسه التخلص من إمرة المماليك، لكثرة ما كانوا يحدثونه من الفتن والثورة على الملوك، طمعا فى السلطنة، فصار يولى الوظائف لأولاد الناس، لكنه لم يتم له ما أراد لضيق مدته عن إتمام ذلك، وكثرة الأحزاب.

وفى مدة سلطنته جعل الأمير شيخو العمرى أميرا كبيرا وهو أول من سمى بأمير كبير، وصار الحل والعقد إليه، وإلى الأمير صرغتمش، وكان بينهما وبين الأمير طاز عداوة، وكان غائبا، فلما حضر، قبض عليه وسجنه، ثم عفا عنه، وجرت معه أمور آلت إلى قتله.

وفى سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، قام أحد المماليك على الأمير شيخو فى الديوان وضربه بخنجر ثلاث ضربات فى وجهه، فقاموا عليه وقتلوه، وبقى شيخو مريضا بجراحاته ثلاثة شهور فى داره بحدرة البقر، التى هى الآن حوش بردق، ثم مات من ذلك، ودفن فى خانقاهة التى فى الصليبة، وكانت عدة مماليكه سبعمائة، وبلغ من العز والسطوة مبلغا لم يبلغه غيره، وصادر أكثر العمال والأمراء من مماليكه ورجاله، وكثرت أمواله حتى صار دخل أملاكه فى اليوم مائتى ألف درهم نقرة سوى الإنعامات السلطانية والتقادم التى ترد إليه من الشام ومصر، والبراطيل على ولاية الأعمال.

وبعده استقل صرغتمش بالكلمة، وصار رأس نوبة النوب، وأتابكى العساكر، وضرب فلوسا جديدة، كل فلس زنته مثقال، فشمل الناس من ذلك ضرر عظيم. ومنع ما كان مرتبا للديور والكنائس من ديوان الأحباس، وكان نحوا من خمسة وعشرين ألف فدان، فبطل من حينئذ ما كان بأيدى النصارى من الرزق، ووزع كل ذلك على الأمراء، وهدم كنيسة شبرا التى كانت تعرف بكنيسة الشهيد، وكان بها إصبع يعرف بإصبع الشهيد، كانوا يضعونه فى النيل، ليزيد به فى زعمهم.

وذلك أنهم كانوا كل سنة فى ثامن بشنس يحتفلون بذلك، ويزعمون أن إلقاء إصبع الشهيد فى هذا الأوان يجلب زيادة النيل، ويجتمع لذلك خلائق لا يحصون من مصر والقاهرة وضواحيهما، وينصبون الخيام على ساحل النيل وفى الجزائر، ويصرفون فى ذلك أموالا لها صورة، ويكون يوم قصف وشرب وملاعب زائدة، فهدم صرغتمش الكنيسة، وأحرق الإصبع فى قراميدان.

ص: 104

وزالت تلك العادة من ذاك العهد، ثم إنه لتكبره حتى على السلطان نفر منه السلطان، وألقى إليه الأمراء فيه، وحذروه منه، وقالوا له: إن لم تقتله قتلك، فوجه السلطان أفكاره لهذا الأمر، حتى قبض عليه فى الإيوان وأرسله إلى الإسكندرية، فسجنه بها مدة، ثم قتله فتحشدت مماليكه، وكانوا نحو ثمانمائة، ووقع الحرب بينهم وبين عساكر السلطان فى الرميلة، فقتل غالبهم، ونهبت دورهم ودور سيدهم وخانقاهه ودكاكين الصليبة، وكان أمرا مهولا.

وحينئذ كان الموت واقعا بمصر، فخرج السلطان إلى الجيزة، وذلك سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وكان قد أهداه بعض ملوك اليمن بخيمة غريبة الشكل، بديعة الصنعة، بها قاعة وحمام، فنصبها هناك، وصار الناس يذهبون للتفرج عليها، فأقام بها ثلاثة أشهر، وكان قد جعل أمور مصر بيد مملوكه يلبغا، فأوقع بعض الأمراء بينه وبين السلطان، فكان السلطان يخشاه على نفسه، وأضمر أن يقتله، وأراد أن يكبسه فى مخيمه، وعلم يلبغا منه ذلك، فأخذ حذره، فكمن للسلطان فى طريقه، فوقعت أمور آلت إلى قتل السلطان فى تاسع جمادى الأولى سنة اثنتين وستين وسبعمائة.

ومن إنشائه المدرسة المعروفة الآن بجامع السلطان حسن بين الرميلة وحدرة البقر، وكذا أنشأ بالقلعة قاعة البيسرية سنة إحدى وستين وسبعمائة، فجاءت فى غاية الحسن، لم ير مثلها فى المبانى المملوكية، ارتفاعها فى السماء ثمانية وثمانون ذراعا، وعمل بها برجا من الأبنوس المطعم بالعاج، وله باب يدخل منه إلى أرض كذلك، وفيه مقرنص قطعة واحدة، يكاد يذهل الناظر إليه بشبابيك ذهب خالص، وطرازات ذهب مصوغ، وشرافات ذهب مصوغ، وقبة مصوغة من ذهب، صرف فيه ثمانية وثلاثون ألف مثقال من الذهب، وصرف فى مؤنه وأجره تتمة ألف ألف درهم فضة، منها خمسون ألف دينار ذهبا، وبصدر إيوان هذه القاعة شباك حديد يقارب باب زويلة، يطل على جنينة بديعة الشكل. وجملة ما دخل فيها من الفضة البيضاء الخالصة المضروبة، مائتا ألف وعشرون ألف درهم، كلها مطلية بالذهب.

وفى أيام سلطنته أنشأ جامع شيخو وخانقاهه، وخانقاه صرغتمش.

***

‌تولية صلاح الدين محمد بن المظفر حاجى السلطنة

ويوم موته تولى الملك بعده ابن أخيه السلطان صلاح الدين محمد بن المظفر حاجى، ولقب بالمنصور، وعمره أربع عشرة سنة، واستبد بتدبير الأمور الأمير يلبغا العمرى.

ص: 105

واستمر الملك المنصور فى السلطنة إلى أن خلعه يلبغا فى رابع شعبان سنة أربع وستين وسبعمائة، وسجنه بالقلعة فى دور الحرم، وذلك لأنه كان مغرما بالشرب، لا يفيق منه ساعة واحدة، مائلا بكليته إلى الأغانى والجوارى الحسان.

وبقى الملك المنصور بعد خلعه مشغولا باللذات، إلى أن مات مخلوعا سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. ودفن فى تربة جدته أم أبيه خوند طفلى عند الباب المحروق.

***

‌مطلب تولية السلطنة زين الدين أبى المعالى شعبان بن حسين بن الناصر محمد

ثم تولى السلطنة السلطان زين الدين أبو المعالى شعبان بن حسين بن الناصر محمد ابن قلاوون، فى منتصف شعبان سنة أربع وستين وسبعمائة، ولقب بالملك الأشرف، وكان عمره عشر سنين، وأقيم فى الأتابكية الأمير يلبغا العمرى، فقام بالأمور لصغر سن الأشرف.

وفى سنة سبع وستين وسبعمائة أراد أن يجعل الأمير طيبغا الطويل نائب الشام، وكان الأمير طيبغا حينئذ فى جهة العباسية، برأس الوادى يتصيد، فأرسل له بذلك صحبة جملة من الأمراء، فلم يمتثل، واتحد مع الأمراء المرسلين إليه، ورفعوا لواء العصيان، فلما بلغ الأمير يلبغا الخبر أخبر السلطان، وقام بالعساكر لقتالهم، فوقع بين الفريقين مقتلة قوية عند قبة النصر، بقرب الجبل الأحمر من العباسية، آلت إلى انتصار يلبغا، فقبض عليهم، وقتل من قتل، وأسر من أسر.

وفى تلك السنة - أعنى سنة سبع وستين وسبعمائة - وردت مراكب صاحب قبرس على ثغر الإسكندرية، وكانت سبعين سفينة حربية مشحونة بمقاتلين، فطرقوا المدينة على حين غفلة، فقام عليهم نائب الإسكندرية بمن جمعهم من العسكر والعرب، وقاتلهم فهزموه، ودخلوا المدينة، فنهبوها، وقتلوا كثيرا من أهلها، ورحلوا عنها قبل وصول عساكر السلطان إليهم.

ولهذا السبب، وكثرة إفساد مراكب الإفرنج فى البحر وقطعهم طرق التجارة، شرع فى إنشاء مائة مركب من المراكب الحربية بالجزيرة الوسطى، المعروفة بجزيرة العبيط، لأجل ردعهم ومنعهم.

فلما كملت توجه إليها السلطان يوما لينظرها، فتفرج عليها، وعدى إلى بر الجيزة، ثم مضى إلى الطرانة بقصد النزهة، ونصب بها خيامه. وكانت مماليك يلبغا يضمرون الخيانة لسيدهم، ويريدون الفتك به سرا، فهجموا عليه ليلا، فلم يجدوه، لأنه كان قد بلغه الخبر

ص: 106

فهرب إلى القلعة. فتوجه المماليك إلى السلطان وأخبروه وجبروه على الاتحاد معهم، فلم يسعه غير الموافقة.

ولما بلغ يلبغا هذا الأمر جمع جموعه، واستدعى بالأمير أنوك أخى السلطان من دور الحرم، وقلده السلطنة، ولقبه بالملك المنصور، وسار به إلى الجزيرة الوسطى، والسلطان الأشرف فى برّ إنبابة مع المماليك، وصار الفريقان يترامون بالنشاب والمكاحل، إلى أن عدى السلطان بجماعة معه على حين غفلة إلى جزيرة الفيل من جهة الوراق، وسار من جهة خليج الزعفران ومن بين الترب، حتى طلع إلى القلعة.

وتسامع بذلك من كان مع يلبغا، ففارقوه، وانضموا إلى السلطان الأشرف. وانتهى الأمر بالقبض على يلبغا، وإيداعه السجن، ثم تسلمته مماليكه، فقتلوه عند الصرة، ودفن عند الباب المحروق. وكان قد بلغ من العظمة ما بلغ، وكانت عدة مماليكه نحو ثلاثة آلاف مملوك، وهو صاحب الدار التى محلها الآن ورشة الحوض المرصود.

وبعد موته تعين بدله فى الأتابكية أسندمر الناصرى بعد فتنة كبيرة مات فيها كثير من الأمراء. فالتفت مماليك يلبغا على أسندمر، وكانوا من أنجس خلق الله، فأكثروا النهب، وهتكوا الأعراض، واتحدوا مع أسندمر على الفتك بالسلطان، فتعصب الزعر وكثير من العسكر للسلطان، وحصل بينهم وبين أسندمر وجماعته واقعات انتهت بالقبض على أسندمر وسجنه.

وتداول الأتابكية بعد أسندمر أربعة من الأمراء وهم: يلبغا آص، ومنكلى بغا اليوسفى، والجائى اليوسفى، ومنجك اليوسفى، فلم تخل أيامهم من الهرج والمرج، والثورة على السلطان والتعاظم عليه. ومنهم ألجاى اليوسفى تزوج خوند بركة أم السلطان، وهى صاحبة المدرسة المعروفة بجامع أم السلطان فى التبانة، وماتت فى عصمته، فحصل بسبب ميراثه تغير بينه وبين السلطان، وجرت بسبب ذلك فتن ووقائع، مات فيها ألجاى اليوسفى، وخلفه فى الأتابكية منجك اليوسفى، وبقى بها، إلى أن مات سنة ست وسبعين وسبعمائة، فلم يول السلطان أحدا بعده، وتولى الأمر بنفسه.

وكانت تلك المدة كلها مدة هرج ومرج، ووقعت فيها وقائع كثيرة، تارة بالرميلة، وتارة بجهة بولاق، أو فى الجزيرة، أو فى ضواحى القاهرة ومصر. وتخرب فيها كثير من الدور الشهيرة والمبانى الفاخرة، وتعطل فيها كثير من المتاجر، وخسر فيها الناس خسائر لا تحصى.

وفى خلال ذلك رسم السلطان الأشرف للأشراف سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بخضرة العمائم، ليمتازوا بها عن غيرهم، إظهارا لشرفهم، وتعظيما لحقهم.

ص: 107

وفى سنة ست وسبعين قصر مد النيل، فحصل الغلاء والفناء.

وفى سنة ثمان وسبعين أبطل ما كان يؤخذ على أصحاب المغانى من رجال ونساء، وأبطل القراريط، وهى ما كان يؤخذ إذا باع أحد ملكه، وذلك على كل ألف درهم عشرون درهما.

وفى تلك السنة سار السلطان الأشرف للحج إلى بيت الله الحرام، فلما وصل إلى العقبة ثارت عليه المماليك، ففر راجعا إلى القاهرة، واختفى فى دار امرأة بالجودرية إلى أن قبض عليه، فأخذ وخنق فى سادس ذى القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وكسر ظهره، ووضع فى زنبيل، وألقى فى بئر، ثم أخذ ودفن فى مدرسة أمه.

وكان ذا حرمة وعظمة، ومعرفة بالأمور. وولى فى أيامه الكثير من أولاد الناس المناصب السامية، والوظائف الجليلة، وافتتح عدة مدن، وأنشأ مدرسة برأس الصوة تجاه القلعة، عرفت بالمدرسة الأشرفية، ثم هدمت فى مدة سلطنة فرج بن برقوق، ثم أنشئ فى محلها المارستان المؤيدى فى أيام السلطان المؤيد شيخ، ولم يبق منها إلاّ باب واحد موجود عند تكية الأعجام، فى جهة الرميلة إلى الآن، وهو فى غاية الحسن والإتقان.

وكان يوم قيام المماليك على الأشرف، فى جهة العقبة، أشيع فى القاهرة موته، فأقيم فى السلطنة بعده ابنه على علاء الدين سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، ولقب بالملك المنصور.

***

‌سلطنة الملك المنصور علاء الدين بن السلطان شعبان

ولما تولى الملك المنصور السلطنة، كان عمره سبع سنين، وتولى النيابة المقر السيفى آقتمر الصاحبى الشهير بالحنبلى، وطشتمر المحمدى الشهير باللفاف أتابك العسكر.

ولصغر سن السلطان ارتبكت الأمور، واضطربت الأحوال، ووقعت حروب آلت إلى عزل النائب والأتابك، وتولية الأمير آينبك البدرى أتابك العسكر، وكان رأس العصبة، فلما تولى أخذ فى العزل والتولية.

وسجن بعض الأمراء، وقتل البعض، وأسكن بعض مماليكه فى مدرسة السلطان حسن، وبعضهم فى مدرسة السلطان شعبان برأس الصوة، واستبد بالأمور، وبلغه أن عمال الشام رفعوا راية العصيان، فجهز إليهم جيشا جرارا، وخرج إليهم مع السلطان، وفى أثناء الطريق هرب بعض الأمراء، ورجع إلى مصر، وتحشد مع كثير من الأمراء وغيرهم. فلما بلغ أتابك ذلك

ص: 108

رجع هو والسلطان، وقاتلوا العصاة فى الرميلة، فانتصر العصاة، وقبضوا على الأتابك، وحبس بالإسكندرية.

وتداول النيابة والأتابكية وغيرهما من الوظائف جماعة من الأمراء، كل أيامهم فتن ومحن، ومن جملتهم الأمير برقوق العثمانى.

وفى سنة تسع وسبعين وسبعمائة، حصل حريق هائل بظاهر باب زويلة عند باب دار التفاح، مكث يومين بلياليهما. فاحترقت دار التفاح، والرباع التى حوله، ووصلت النار إلى البراذعيين وعند الموازنيين، فاحترق نحو خمسمائة دار، ولولا سور القاهرة لاحترق نصف المدينة.

ولما صار الأمر لبرقوق تصرف فى الأمور برأيه، فأوقع بكثير من الأمراء، وسجن من سجن، ونفى من نفى، فقام عليه باقى الأمراء، وقاتلوه مرارا، وملكوا القلعة، فحاصرهم حتى أخلاها منهم، وقتل منهم عددا وافرا، وتمكن من باقيهم، وسجنهم بالإسكندرية.

وفى سنة إحدى وثمانين وسبعمائة، هجمت العرب على دمنهور والبحيرة ونهبوها، ونهبوا كثيرا من قرى البحيرة، فتوجهت إليهم جملة من العساكر، فقاتلوهم وانتصر العسكر عليهم، وقتلوا منهم جملة، وأسروا نساءهم وأطفالهم، وأتوا بهم إلى القاهرة، ودخلوها فى موكب هائل، وباعوهم بها بيع الأرقاء.

وفى خلال تلك الحوادث، حصل وباء عظيم، مات فيه السلطان سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، ومدته خمس سنين وأشهر.

وكانت نفس برقوق مائلة إلى الجلوس على تخت السلطنة - ككل من تولى الأتابكية - لكنه خاف من الأمراء، فأجلس على التخت السلطان زين الدين حاجى، أخا الأشرف سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة، ولقبه بالملك الصالح.

***

‌جلوس السلطان زين الدين حاجى

ولما تولى الملك الصالح حاجى كان عمره إحدى عشرة سنة، فلم يكن له من السلطنة سوى الاسم، وكان الكلام كله لبرقوق، وكانت المملكة فى غاية الاضطراب، لأن كل واحد من الأمراء كان يريد الرياسة، فكانوا يوقدون نيران الفتن، وكذلك العرب كانت تعربد فى البلاد.

ص: 109

وعلم برقوق اتفاق بعض المماليك السلطانية مع أحد مماليكه على الفتك به، فقام برقوق واتحد مع خشداشيته، وهجم على باب السلسلة - الذى هو باب العزب، أحد أبواب القلعة - واستحضر الخليفة الموجود، وهو المتوكل على الله العباسى، والقضاة الأربعة، وسائر الأمراء، فلما اجتمعوا فى باب السلسلة قام القاضى بدر الدين بن فضل الله كاتب السر، وقال: يا أمير المؤمنين، ويا سادات القضاة، إن أحوال المملكة قد فسدت، وزاد فساد العرب فى البلاد، وخامر غالب النواب فى البلاد الشامية، وخرجوا عن الطاعة، والأحوال غير مستقيمة، والوقت محتاج إلى إقامة سلطان كبير تجتمع فيه الكلمة، ويسكن الاضطراب.

فتكلم القضاة مع الخليفة فى سلطنة الأتابكى برقوق، فخلعوا الملك الصالح حاجى من السلطنة، وتقررت بينهم سلطنة برقوق. ودخل الملك الصالح دور الحرم عند إخوته، فكانت مدة سلطنته بعد أخيه سنة وشهورا.

فكان من تولى السلطنة من ذرية الناصر اثنى عشر، أقاموا فيها ثلاثا وأربعين سنة، مع أن الناصر محمد بن قلاوون أقام بها أربعا وأربعين سنة، ومدتهم كلها كانت أهوالا وشدائد، حتى اشتد الضرر بالناس، ومع ذلك حدثت فى مدتهم العمائر الكثيرة ببولاق والقاهرة وضواحيها، وأغلبها كان فى الرحاب التى كانت بالقاهرة زمن الدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية.

ص: 110

‌دولة المماليك الجراكسة

‌أول من تسلطن من المماليك الجراكسة وهو السلطان برقوق

أول من تسلطن منهم هو السلطان الملك الظاهر أبو سعيد برقوق بن آنص فى أواخر سنة أربع وثمانين وسبعمائة، وهو جركسى الجنس، أخذ من بلاد الجركس وبيع ببلاد القرم، وجلب إلى القاهرة، فاشتراه الأمير الكبير يلبغا الخاصكى وأعتقه، وجعله من جملة مماليكه الأجلاب، وعرف ببرقوق العثمانى نسبة إلى بائعه الخواجه فخر الدين عثمان بن مسافر.

فلما قتل يلبغا فى زمن الملك الأشرف، أخرجه مع المماليك الأجلاب إلى الكرك، فأقام مسجونا بها عدة سنين، ثم أطلقه والذين كانوا معه، فمضوا إلى دمشق، وخدموا عند الأمير منجك نائب الشام، إلى أن طلب الأشرف المماليك اليلبغاوية، فقدم برقوق فى جملتهم، واستقروا فى خدمة على وحاجى، ولدى الأشرف، وعرفوا باليلبغاوية، وصار برقوق من الأمراء المعدودين، إلى أن تسلطن بعد خلع حاجى كما تقدم، وكان قد سمى برقوقا لجحوظ فى عينيه.

ومن قبل تلك المدة، كان شراء المماليك أمرا ألفه الملوك والأمراء، ليتقووا بهم. وكان السلطان الملك المنصور قلاوون اشترى من الجركس والآص، عددا وافرا يبلغ ثلاثة آلاف وسبعمائة مملوك، وعمل منهم أوجاقية، وجمقدارية، وجاشنكيرية، وسلحدارية، وجعلهم فى أبراج القلعة، واقتفى أثره فى ذلك غيره.

‌مطلب تغلب الأمير برقوق وجلوسه على تخت السلطنة

ففى آخر سلطنة الملك الصالح زين الدين حاجى، كانت الأحوال مضطربة لصغر سنه كما مر، وكان كل أمير متطلعا إلى السلطنة، فتغلب الأمير برقوق، وتولى الأمور، ثم تغلب على السلطان وخلعه، وجلس على تخت الملك، على وجه ما تقدم.

ص: 111

ومن إنشائه المدرسة البرقوقية، بدأ فيها سنة سبع وثمانين وسبعمائة، وتمت فى سنة ثمان وثمانين وسبعمائة. فكانت مدة العمل فيها سنة، وكان المباشر للعمل فيها الأمير جركس الخليلى.

ولما استقر برقوق فى الملك أخذ يكثر من شراء المماليك، ورخص لهم فى سكنى القاهرة، وفى التزوج، فنزلوا من الطباق فى القلعة، وتزوجوا بنساء أهل المدينة، وأخلدوا إلى البطالة، وتغيرت أحوال الدولة وعوائدها.

ثم رفع نواب البلاد الشامية لواء العصيان، ووقع بينهم وبين عساكر مصر وقائع سفك فيها كثير من الدماء، ودام الاضطراب، حتى حضر يلبغا الناصرى بعساكره من الشام، فحارب عساكر السلطان برقوق خارج باب النصر، فانهزمت عساكر السلطان، واختفى برقوق، واستولى يلبغا على القلعة، فأخرج حاجى بن الأشرف من دور الحرم، وولاه السلطنة، ولقبه بالمنصور، ثم قبض يلبغا على كثير من الأمراء، وامتدت أيدى العساكر الشامية إلى النهب والسلب، فنهبوا جهة باب النصر والركن المخلق، وجهات أخرى، فارتجت القاهرة لذلك، وأكثر الناس من العويل والشكوى إلى يلبغا، فمنع ذلك، ثم أخرج من مصر جميع مماليك الظاهر برقوق، وأكثر البحث عنه حتى عثر به، فقبض عليه، وأرسله مسجونا إلى الكرك.

وبعد ذلك حصلت عداوة بين الأمير منطاش وبين الأتابك يلبغا، تسبب عنها فتنه ومحاربة فى الرميلة، آل أمرها إلى هرب يلبغا وجماعته، وصار الحل والعقد بيد منطاش، فعزل وولى، وتصرف تصرفا مطلقا.

وفى تلك المدة تمكن الملك الظاهر برقوق من الخروج من الكرك، فخرج وانضم إليه مماليكه وكثير من العرب، وحصل له مع ولاة الشام والملك المنصور وقعات عديدة، انتهت برجوعه إلى السلطنة ثانيا.

وكان الأمير منطاش قد هرب فى الوقعة الأخيرة، فبعد عود الظاهر برقوق للسلطنة مال إليه كثير من الناس، وصار يهجم على البلاد الشامية، ويقتل ويسلب، وحصل له وقعات مع نواب الشام، انتهت بقتل منطاش، وأتى برأسه فعلقت على باب زويلة، وفرح السلطان برقوق لقتله فرحا شديدا، وكان المتولى الأتابكية الأمير لاجين الحموى.

وفى تلك المدة كان تيمورلنك يعثو فى البلاد بجيوشه الباغية، وأخرب بلادا كثيرة، وحصل بينه وبين المصريين وقعات كثيرة، واستولت عساكره على بغداد، وفر صاحبها

ص: 112

القان أحمد، وحضر إلى مصر، فأكرمه السلطان، وأنزله فى دار الأمير طقوز دمور، المطلة على بركة الفيل - وهى محل المدارس الميرية الآن فى درب الجماميز، ثم جهّز جيشا وسار معه بنفسه إلى الشام، وكان تيمورلنك قد رحل عنها.

ورجع السلطان برقوق إلى مصر، وتوجه القان إلى مملكته، فكانت هذه المدة حروبا وشدائد، ووقع فيها غلاء ووباء بديار مصر، تسبّب عنه خراب كثير من البلاد وكثير من الدور والحارات فى القاهرة، وغيرها من المدن.

واستمر السلطان برقوق فى الملك إلى أن مات على فراشه سنة إحدى وثمانمائة، ودفن فى تربته بالصحراء.

فكانت مدة سلطنته بالديار المصرية والبلاد الشامية ست عشرة سنة وشهورا، منها مدة السلطنة الأولى ست سنين وشهور، والثانية تسع سنين وشهور، ومدة أتابكيته أربع سنين وشهور.

ولما مات كان له من العمر ثلاث وستون سنة، وخلّف من الأولاد ستة: ثلاثة من الذكور، وثلاث من الإناث. وخلف فى الخزائن من المال ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، ومن الخيل اثنى عشر ألف فرس، ومن الجمال خمسة آلاف جمل، ومثلها من البغال.

وكان كثير البر والصدقات، فكان يفرّق كل سنة سبعة آلاف إردب على الزوايا والمزارات، وأبطل فى أيامه مكوسا كثيرة بمصر والشام، وعظم أمره، حتى خطب باسمه فى أماكن، لم يخطب فيها لأحد قبله، فخطب باسمه فى توريز من بلاد العجم، وفى الموصل، وفى ماردين، وفى سنجار. وضربت السّكة باسمه فى جميع هذه البقاع، وأراد أن ينقض الأوقاف، فمنعه من ذلك السراج البلقينى والعلماء.

وكان فى يومى الأحد والأربعاء ينزل إلى باب السلسلة، ويجلس بالاصطبل لسماع الشكاوى والمظالم.

وهو أول من رتب شرب القمز فى الميدان تحت القلعة، والقمز لبن مصنوع محمض فيه إسكار، فكانت الأمراء تجتمع كل يوم أربعاء فى الميدان، فتدور عليهم السقاة بزبادى القمز، وصار ذلك من شعائر السلطنة.

‌النيروز

وفى أيامه أبطل ما كان يعمل بالديار المصرية يوم النيروز (وهو أول يوم من السنة القبطية) من اجتماع الكثير من أراذل الناس على أبواب الأكابر والأعيان، ويجعلون لهم أميرا يسمى

ص: 113

أمير النيروز، فيقرر مبالغ على كل أمير، فمن أعطاه ما رسم كفّ عنه، وإلا أشبعه ذما وشتما.

وكانوا يقفون فى الطرقات، ويرشّون من مرّ بالمياه النجسة، ويضربونهم بالبيض النىّء، وغير ذلك من القبائح، حتى كانت الناس فى ذلك اليوم لا يخرجون من بيوتهم، ويغلقون دكاكينهم، وتتعطل الأشغال جميعها.

وقبل موته كان قد عين للأتابكية أيتمش البجاسى عوضا عن كمشبغا

(1)

، فلما اشتد عليه المرض، جعل ابنه ولى عهده.

***

‌تولية الملك الناصر أبى السعادات فرج

فلما مات تولى ابنه الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج سنة إحدى وثمانمائة، وعمره نحو العشر سنين، فلم يلبث أن قام أيتمش بمماليكه يريد خلع السلطان، فتحزّب عليه مماليك الظاهر، مع كثير من الأمراء، وانتشب الحرب بين الفريقين فى الرميلة، وحول القلعة، فانهزم أيتمش، وفر إلى الشام، وقتل فى هذه الوقعة كثير من الناس، ونهب العوام بيوت الأمراء الذين هربوا معه، ونهبوا مدرسة أيتمش، التى عند باب الوزير، وأحرقوا ربعه المجاور للمدرسة، وحفروا قبر أولاده، بظن أن فيه مالا، فلم يعثروا على شئ، ونهبوا جامع آق سنقر المجاور لدار أيتمش - وهو المعروف بجامع إبراهيم أغا بالتبّانة، ونهبوا قبة خوند زهراء بنت الملك الناصر محمد بن قلاوون، المجاورة لدار أيتمش، ونهبوا وكالة أيتمش، ومدرسة السلطان حسن، وأحرقوا بابها لكون أيتمش كان يحاصر القلعة منها.

ولم يزل النهب مستمرا مدة يومين، وازداد أمر العوام، حتى كسروا باب حبس الرحبة وأطلقوا من كان به من المحابيس، وماجت المدينة، وتعطل البيع والشراء، واضطربت أحوال الناس، وتعيّن بدل أيتمش فى الأتابكية بيبرس السيفى، فهدأت الحال فى المدينة، والتف أيتمش على بعض نواب الشام، وعثوا هناك بالقتل والسلب، فجهّز إليه السلطان جيشا جرارا وسار إليه.

وبعد وقعات قبض على أيتمش، وقطع رأسه، وقتل كثيرا ممن معه، وأرسل برأسه فعلق على باب رويلة، ثم رحل إلى مصر، ودخلها فى موكب هائل.

ولما دخلت سنة ثلاث وثمانمائة كانت عساكر تيمورلنك قد انتشرت فى جميع جهات الشام، ودمّروا ما وصلوا إليه من البلاد، لا سيما حلب فإنه تمكن منها بعد محاربته، وانهزام

(1)

فى الطبعة الأولى «كشمبغا» والتصحيح والضبط للمرحوم أحمد تيمور.

ص: 114

عساكر السلطان، وقتل كثير منهم، فاستمر القتال فى المدينة ثلاثة أيام، فقتلوا الرجال، وسبوا البنين والبنات، وافتضّوا الأبكار، وهتكوا الأعراض، وأحرقوا الدور، وقلّعوا الأشجار، وأسرفوا فى القتل فى جميع البلاد، حتى قيل إنه بنى من الرؤوس عشر منارات، دور كل منارة عشرون ذراعا فى مثلها ارتفاعا، وجعلوا الوجوه منها بارزة، تذرّى عليها الرياح، وتركوا الجثث للكلاب والوحوش.

ويقال إن قتلى مدينة حلب بلغوا نحوا من عشرين ألف نفس. وكذا فعل بحماة ودمشق، وأحرقها عن آخرها، ولما أراد الرحيل عن دمشق جمعوا له أطفال المدينة الذين أسر أهلهم، وأكبرهم ابن خمس سنين، ليرقّ لهم، وكانوا نحو عشرة آلاف نفس، فأمر تيمورلنك عساكره أن يسوقوا عليهم بالخيل، فساقوا عليهم حتى أتوا على آخرهم.

كل ذلك والسلطان فرج فى لهوه وشربه وحظوظه مع الملاح والندماء.

وتوقف النيل، وحلّ الوباء والغلاء بديار مصر، حتى قيل إن أهل الصعيد باعوا أولادهم.

وقد سخط الأمراء على السلطان، وسخط عليهم، فثارت الفتن فى كل جهة، وهاجت عرب الشرقية، وكثر النهب، واستمرّ ذلك إلى سنة ثمان وثمانمائة، فقام بيبرس على السلطان وأراد أن يفتك به فهرب.

***

‌تولية السلطان عبد العزيز، ثم رجوع السلطان فرج للسلطنة ثانيا

وأقام بيبرس بدله السلطان عز الدين عبد العزيز أخا الناصر فرج، وعمره عشر سنين، وتلقّب بالملك المنصور، ولم يبق فى السلطنة إلا نحو شهرين.

وفى مدته صار بيبرس هو الأتابكى، وبيده الحل والعقد، وليس للمنصور غير الاسم، وانخفضت كلمة المعز السيفى بشتك الدوادار، فعزّ عليه ذلك، وحزّب الأحزاب.

وكان الناصر فرج مختفيا فظهر، وافترقت الأمراء والعساكر فرقتين، ووقع الحرب بينهما فى الرميلة وقرميدان وأطرافهما، فقتل خلق كثيرون، ثم انهزم بيبرس.

ورجع السلطان الناصر فرج للسلطنة ثانيا، ورسم لأخيه عز الدين بالدخول فى دور الحرم، وعيّن المقر السيفى تغرى بردى أتابك العسكر، وقبض على أكثر الأمراء المتعصبين، وعلى بيبرس، وأرسلهم إلى سجن الإسكندرية. والتفت إلى مماليك أبيه، فصار يذبح منهم بيده كل ليلة نحو العشرين.

ص: 115

وأكثر من الشرب والفسق، فهرب أكثر مماليك أبيه، ورفع الأمير شيخ المحمودى لواء العصيان بالشام، والتف عليه كثير من الناس، وكان معهم الخليفة المستعين بالله العباسى والقضاة الأربعة، فتوجه إليه السلطان الناصر فرج بجيش جرار، فالتقى الجمعان فى ضيعة من الشام تعرف باللجون، ففارق الناصر من كان معه وخذلوه، فهرب فلحقوا به، وقبضوا عليه، وحبس فى برج بقلعة دمشق، ثم دخل عليه جماعة من الفداوية وقتلوه بالخناجر، فلما أصبح الصباح ألقى على مزبلة خارج البلد، فبقى على هذه الحالة ثلاثة أيام، ثم دفن بمقبرة دمشق.

فكانت مدته بالبلاد المصرية والديار الشامية ثلاث عشرة سنة وشهورا، وله من العمر نحو ست وعشرين سنة، وخلّف من الأولاد خمسة ذكور وأربع إناث، وكان شجاعا مقداما، غير أنه كان سفّاكا للدماء، مسرفا على نفسه، منهمكا على شرب الخمور، وسماع الزمور، كثير الجهل، قليل الدين.

وله من المبانى بالقاهرة مدرسة تجاه باب زويلة، عرفت بالدهيشة، وعمّر الجامع الذى فى داخل الحوش السلطانى بالقلعة، وجدد بالدهيشة التى فى القلعة أشياء كثيرة، وعمّر الربعين اللذين بقرب جامع الصالح خارج باب زويلة، وغير ذلك من المبانى.

وفى أيامه احترق نحو الثلث من الحرم الشريف بمكة المعظمة، وأتت النار على أكثر من مائة وثلاثين عمودا، وعلى باب العمرة، فبعث بعشرة آلاف دينار صرفت على عمارته، وعملت العمد من الآجرّ الأسود عوضا عن الرخام، لتعذر وجود الرخام وقتئذ.

وكان المتولى أمور المملكة الأمير سعد الدين إبراهيم بن عبد الرزاق بن غراب الإسكندرانى، واستولى على كثير من الوظائف، فكان ناظر الخاص، وناظر الجيوش، واستادار السلطان، وكاتب السر، وأحد أمراء الألوف الأكابر، فتصرّف فى الأمور أسوأ تصرف، وهو ممن تسبب فى تخريب إقليم مصر، فإنه ما زال يرفع قيمة الذهب، حتى بلغ صرف الدينار مائتين وخمسين درهما من القلوس. بعد ما كان صرفه خمسة وعشرين درهما منها، ففسدت بذلك معاملة الإقليم، وقلّت النقود، وغلت الأسعار، فساءت أحوال الناس، وزالت البهجة، وانطوى بساط الرقة.

وانقطعت رواتب اللحم وغيرها، حتى عن مماليك الطباق، مع قلّتهم، ورتّب للواحد منهم عشرة دراهم من الفلوس، فصار غذاؤهم غالبا الفول المسلوق عجزا عن شراء اللحم ونحوه.

ص: 116

ومات سعد الدين المذكور فى مدة الناصر فرج سنة ثمان وثمانمائة، وكانت جنازته حافلة، شهدها كثير من الأمراء والأعيان وأرباب الوظائف، حتى استأجر الناس السقائف والحوانيت لمشاهدتها، ونزل السلطان للصلاة عليه.

ولما قتل السلطان الناصر فرج سنة أربع عشرة وثمانمائة - كما مرّ - كان فى إمكان الأمير شيخ المحمودى أن يتسلطن، لكنه أخّر نفسه، وقدم الخليفة العباسى للسلطنة، حتى لا يكون عرضة لسهام الفتن، فإن الأحوال كانت مضطربة، والفتن قائمة فى جميع أنحاء المملكة، من مصر والشام، وتداعى للخراب كثير من المحلات بالقاهرة وغيرها من المدن والبلاد، وأكثر الصعيد وأسفل الأرض، حتى صار كثير من الأماكن تلالا وفلوات موحشة، وخلت الخزائن من الأموال، فتأخر شيخ عن الاستيلاء على تخت السلطنة، ربما يتمكن من عهد الأمور، وتقرير الأحوال.

***

‌تولية أمير المؤمنين أبى الفضل العباسى

وولى السلطنة أمير المؤمنين الخليفة المستعين بالله أبو الفضل العباس بن محمد العباسى، فأقام بها ستة شهور، وتولى النيابة المؤيد شيخ، فشاركه المؤيد فى الخطبة، وصار الأمر للمؤيد فتغلب على السلطنة، وصار الخليفة معه فى غاية الضنك، محجورا عليه، لا يتمكن من كتب منشور أو مرسوم، حتى يعرضه على الأتابك. فلم يكن له فى السلطنة مع الأتابك غير مجرد الاسم، وكل الأمر بيد الأتابك شيخ، إلى أن بدا للأتابك أن يخلع الخليفة، ويتسلطن، فأحضر القضاة الأربعة، وسائر الأمراء، وخلعه من السلطنة، ولم يخلعه من الخلافة، وأبقاه فى القلعة تحت الحجر. ثم خلعه من الخلافة أيضا، وأرسله مسجونا إلى الإسكندرية، فاستمر بالسجن إلى زمن الملك الأشرف برسباى، فأخرج من السجن، وأسكن هناك إلى أن مات فى الوباء الذى وقع فى سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، ودفن هناك.

***

‌جلوس السلطان المؤيد

وفى إثر خلع الخليفة المذكور من السلطنة سنة خمس عشرة وثمانمائة جلس على تخت المملكة السلطان أبو النصر شيخ المحمودى الظاهرى، أحد مماليك الظاهر برقوق فى شهر شعبان من تلك السنة، وتلقّب بالملك المؤيد.

ص: 117

ولما وصل إلى نوروز نائب الشام أخبار خلع الخليفة وتسلطن المؤيد شيخ، وكان نوروز هو القائم مع شيخ والمعضد له، لم يذعن بالطاعة، واستمر يخطب باسم الخليفة، فسار إليه المؤيد، وحاربه، حتى قبض عليه وقتله، وعاد إلى القاهرة، وولّى منكلى بغا الشمسى، محتسبا بالقاهرة، وهو أول من تولى الحسبة من أولاد الترك.

وفى سنة ثمان عشرة وثمانمائة، خلع نواب الشام ربقة الطاعة ثانيا، فسار إليهم، فهربوا منه، واستبدلهم بغيرهم ممن يثق بهم، ومن البلاد الشامية، وعاد إلى القاهرة، وصفا له الوقت، واطمأنّت البلاد.

ولما صفا للسلطان الوقت، أكثر من شراء المماليك، وأخذ فى اللهو والقصف، وصار أغلب إقامته ببولاق.

ووقع فى زمنه وباء وغلاء، من ابتداء سنة ثمان عشرة إلى سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة، حتى حصل للناس من ذلك ضرر كثير.

ولما مات ابنه إبراهيم، وجد عليه وجدا شديدا، مع أنه هو الذى قتله بالسم، فيما يقال، لما بلغه أنه متطلع إلى انتزاع السلطنة منه، ثم دفنه فى قبّة الجامع المؤيد الذى أنشأه فى داخل باب زويلة، ثم مات هو، فدفن معه.

وكان مقداما خبيرا بالأمور، يحب العلم والعلماء، وله شعر ومعرفة، لكنه كان سفاكا للدماء، قتل كثيرا من النواب، وكان كثير المصادرات، وأحدث كثيرا من المظالم، وأخذ رخام جامعه من البيوت والمساجد، وأخذ باب جامع السلطان حسن، وعمودى سماق من قبلة جامع قوصون، ووزع الأخشاب ودهانها على المباشرين.

وكانت وفاته سنة أربع وعشرين وثمانمائة.

***

‌تولية أبى السعادات أحمد بن المؤيد شيخ

وتولى المملكة بعده ابنه أبو السعادات أحمد بن المؤيد شيخ، ولقّب بالملك المظفر، وعمره دون سنتين، تعصب له مماليك أبيه، وكانوا خمسة آلاف مملوك، فسلطنوه رضيعا، وجعلوا التصرف فى المملكة للأمير ططر، بسبب أنه لما مات السلطان المؤيد تزوج زوجته أم ابنه السلطان أبى السعادات المذكور، فأخذ بزمام الأحكام، وأغدق على المماليك، فانضموا إليه

ص: 118

وكانت الأمور مضطربة فى البلاد الشامية، لقيام النواب، ورفع الأتابك الأمير طيبغا لواء العصيان، فجهز ططر العساكر، وسافر إلى الشام، واستصحب معه السلطان بمرضعته، فغلب العصاة، وقتل منهم عددا وافرا، ورجع إلى مصر ظافرا.

وصفا له الوقت، فسوّلت له نفسه خلع السلطان، فخلعه، وأرسله إلى سجن الإسكندرية مع مرضعته ودادته، وبقى محبوسا، إلى أن بلغ سنه إحدى عشرة سنة، ومات وهو فى السجن، فنقل إلى القاهرة، ودفن مع أبيه.

وفى سنة أربع وعشرين وثمانمائة المذكورة زاد النيل زيادة مفرطة، واستمرت الزيادة إلى آخر هاتور، ولم يعهد ذلك قط فى الإسلام، فحصل للناس الضرر الشامل، واستبحرت الأراضى، وغرق أكثر البساتين، وفات أوان الزرع، وانقطعت الطرق لكثرة الماء، فكان ما حصل للناس بأسباب هذه الحادثة من الضرر والكآبة، مع ما هم فيه من المحن والفتن جرحا على جرح.

***

‌تولية أبى الفتح ططر الظاهرى

ولما خلع أحمد بن المؤيد، تولى السلطنة الملك سيف الدين أبو الفتح ططر الظاهرى الجركسى المذكور فى سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وتلقّب بالملك الظاهر، فلم يلبث أن مرض ومات ولم يمكث فى السلطنة غير ثلاثة أشهر ويومين. ومع ذلك فقد أفنى كثيرا من الأمراء، وهو من مماليك الظاهر برقوق، وكان كثير الحيلة والتدبير، ولكن غلبته حيلة زوجته، فإنه يقال إنه لما خلع ابنها شغلته بالسم، فكان سبب موته، وأنه طلقها قبل موته بقليل.

***

وقد عهد لابنه محمد، فتولى الملك بعده، وسنّه عشر سنين، ولقب بالملك الصالح أبى النصر، فأقام فى السلطنة أربعة أشهر وأربعة أيام، ثم خلع. وكانت أمور المملكة فى أيامه بيد المعز الأتابكى جانبك العوفى، فلم يكن للسلطان معه إلا مجرد الاسم، فعزّ ذلك على الأمراء، فتعصبوا مع الأمير برسباى الدقماقى، وقبضوا على الأتابكى، وبعثوا به إلى سجن الإسكندرية، وخلعوا السلطان الصالح، وسلطنوا برسباى، وبقى الصالح مع أمه خوند بركة بنت الأمير سودون الفقيه فى القلعة، ثم أذن له فى النزول من القلعة، والركوب إلى زيارة

ص: 119

ولده، فلم يزل على ذلك إلى أن مات سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، ودفن مع أبيه ططر عند قبر الإمام الليث رضي الله عنه.

وبعد موته أمر بنزول ذرية الملوك السالفة من القلعة، فنزلوا وسكنوا المدينة، وكان يقال لهم أولاد الأسياد.

***

‌تولية الأشرف أبى النصر برسباى الدقماقى

ولما تولى السلطنة السلطان سيف الدين أبو النصر برسباى الدقماقى سنة خمس وعشرين وثمانمائة لقّب بالملك الأشرف وبولايته سكنت الفتن، واستقرت الأحوال. وجعل جان بك أتابكا، ثم رأى منه الغدر، فشغله فى حلوى، وولّى بدله جقمق العلائى.

وحصل فى زمنه طاعون، وحارب ملك قبرس، وأحضره إلى مصر أسيرا، وعلّق خوذته على باب مدرسته الأشرفية، التى بناها فى سلطنته، عند الوراقين بقرب الغورية، وأثبت وقفيتها فى جدرانها بكتابة بارزة من بدن الحجر داخل المقصورة، حرصا على بقاء أوقافها، ومع هذا لم يفد ذلك فائدة، فقد لحقها ما لحق غيرها من الاضمحلال.

وبنى أيضا مدرسة بخانقاه سرياقوس، لم ير أحسن منها، وله وكالة بالصليبة، عليها ربعان، وله عمارات كثيرة بمصر ومكة والشام، وقد تغيرت تلك الآثار بعده، بتداول الأيام وزوال بعضها بالكلية.

وأقام الأشرف برسباى فى السلطنة ست عشرة سنة، ومرض فاشتد به المرض، واعترته ماليخوليا، وخفّة فى العقل، فرسم بأمور، منها أن لا تخرج امرأة من بيتها مطلقا، فكانت الغاسلة إذا خرجت إلى ميتة تأخذ ورقة من المحتسب، فتجعلها على رأسها حتى تمشى فى السوق ونادى أن لا يلبس فلاح زنطا مطلقا، ورسم بتوسيط اثنين من الحكماء، فوسّطا وهما:

الرئيس خضر، والرئيس شمس الدين بن العفيف.

واستمرّ على ذلك حتى مات فى شهر ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، ودفن بتربته، التى أنشأها عند البرقوقية بالصحراء، وكان له من العمر نحو خمسة وسبعين سنة، وكان ذا سكينة ووقار ومهابة، مع لين جانب، ذا معرفة بأحوال السلطنة، كثير البر والصدقات، لكنه كان كثير الطمع فى تحصيل الأموال، محبا لجمعها من المباشرين وغيرهم

ص: 120

ومن محاسنه إبطال عادة تقبيل الأرض، وكان ذلك معتادا من زمن من قبله من الملوك، حتى أبطله اكتفاء بتقبيل اليد. وحسّن النقود، حتى كانت نقوده من أجود الذهب والفضة، وكان الناس يرغبون فيها.

***

‌تولية السلطان جمال الدين يوسف بن الأشرف

ثم تولى ابنه السلطان جمال الدين يوسف بعهد من أبيه، وسنّه نحو خمس عشرة سنة، ولقب بالملك العزيز، فأقام ثلاثة أشهر وخلع، وبقى إلى أن مات بالإسكندرية فى أيام الظاهر خشقدم. وسبب خلعه أن المماليك الأشرفية لما رأوا تصرف الأتابكىّ جقمق العلائى واستقلاله، واحتقاره لسيدهم، قاموا عليه، وأرادوا قتله، فتعصّب معه بعض الأمراء والمماليك، وأوقعوا بمماليك الأشرف، فقتل من قتل منهم، وفرّ من فرّ، وخلعوا السلطان.

***

‌تولية الأتابك أبى سعيد جقمق

ثم تولى بعده الأتابك أبو سعيد جقمق المذكور أحد مماليك الظاهر برقوق، ولقّب بالملك الظاهر سيف الدين، ثم جاءت الأخبار بخروج نائب حلب ونائب دمشق عن طاعته، فقتلهما وعلّق رأسيهما على باب زويلة، فصفا له الوقت، وعمّر فى سلطنته جوامع ومساجد وقناطر وغيرها، وكان كثير الإحسان، وغزا قبرس، واستولى منها على كثير من الأموال والأنفس.

وفى مدته قام العبيد سنة ست وأربعين وثمانمائة، وتعصّبوا فى برّ الجيزة، وجعلوا لهم سلطانا ووزراء، فوجه إليهم جملة من المماليك، فقتلوا أكثرهم، ثم قبض على باقيهم، ووضع فيهم القيود، وباعهم فى المملكة العثمانية، وأخلى منهم الديار المصرية.

وفى سنة تسع وأربعين وثمانمائة وقع طاعون عظيم مات به كثير من الأغراب، وجاء بعده غلاء، بيع فيه الإردب من القمح بخمسة أشرفيات إلى سبعة، وغلا سعر كل شئ وعمّ الغلاء سائر البلاد، وشرق أكثر الأرض، وماتت البساتين والبهائم.

وفى سنة سبع وخمسين وثمانمائة مرض السلطان جقمق، فلما اشتدّ به المرض فوض السلطنة إلى ولده عثمان، ثم مات وعمره إحدى وثمانون سنة.

ص: 121

وكانت مدة سلطنته أربع عشرة سنة، وكان ملكا جليلا، محسنا إلى الأمراء التراكمة، معظّما لهم، فصيح اللسان بالعربية، وكان عنده حدّة زائدة، وصادر كثيرا من الناس، وكان إذا سمع بأن أحدا يسكر قطع جامكيته ونفاه، وهدم كثيرا من كنائس النصارى، وأراق الخمور.

***

‌تولية السلطان أبى السعادات عثمان

ولما تولى السلطنة ابنه السلطان أبو السعادات عثمان، لقّب بالملك المنصور، ولم يكن إذ ذاك فى الخزائن أموال تصرف على العساكر، فأشار عليه القاضى جمال الدين ناظر الخاص بضرب دنانير تنقص عن الأشرفية قيراطين، فضربها وسماها «المناصرة» ، وصرف منها على العسكر، فلم تطمئن العسكر لذلك. واتفق الأشرفية مع السيفية والمؤيدية على خلع السلطان، وإقامة الأتابكى اينال مقامه، وحملوا إينال على أن قام وحاصر القلعة، وقطع الماء عن السلطان ومن انحاز إليه، واستمر ذلك أياما، حتى اضطر السلطان للتسليم، فقبض عليه وعلى جملة من الأمراء، وأرسلوا إلى سجن الإسكندرية، فكانت مدته أربعين يوما، وبقى فى سجن الإسكندرية إلى أيام الملك الظاهر خوشقدم، فرسم بإطلاقه، فسكن المدينة، ثم انتقل إلى دمياط فى أيام الملك الأشرف قايتباى، ثم أذن له فى الحج، وعاد إلى مصر، فأقام فى القاهرة محترما معزّزا، إلى أن عاد إلى دمياط، ومات بها، ثم نقل إلى مصر، ودفن مع والده وعمره أربع وخمسون سنة.

***

‌تولية السلطان أبى النصر إينال

وبعد خلعه تولى السلطنة السلطان أبو النصر إينال العلائى الظاهرى، ولقّب بالملك الأشرف وهو جركسى، كان أصله من مماليك الملك الظاهر برقوق، ثم صار بعد موته إلى ابنه الناصر فرج، فأعتقه، وأخرج له خيلا وقماشا، وجعله جمدارا، ثم صار أمير عشرة فى دولة الملك المظفر أحمد بن المؤيد شيخ، ثم رقى إلى رتبة أمير طبلخاناه رأس نوبة ثان فى دولة الملك الأشرف برسباى، ثم لما توجه الأشرف برسباى إلى آمد جعله نائب غزة، وفى سنة ست وثلاثين وثمانمائة جعله نائب الرها، ثم أحضره إلى القاهرة، وأنعم عليه بتقدمة ألف، مع بقاء نيابة الرها بيده، ثم نقله سنة أربعين وثمانمائة إلى نيابة صفد

ص: 122

وفى مدة الظاهر جقمق صار أتابكيا بعد موت الأتابكى يشبك السعدونى، وذلك سنة تسع وأربعين وثمانمائة، ثم لما وثبت العساكر على الملك المنصور عثمان بن الملك الظاهر جقمق وقامت الحرب على ساقها سبعة أيام، وانكسر السلطان وخلع، تولى السلطنة بدله - كما ذكر - سنة سبع وخمسين وثمانمائة، فأقام فيها ثمان سنين وشهرين، وخلع نفسه فى مرض موته سنة خمس وستين وثمانمائة، بعد أن عهد بها لولده.

كانت مماليكه قد ساءت سيرتهم عند الناس، ولولا ذلك لكان خير ملوك الجراكسة، فإنه كان لينا هينا، قليل الأذى، وكان يعرف «بإينال الأجرود» لخفّة عارضيه. وكان لا يحسن الكتابة والقراءة، وكانت أيامه أقل فتنا من غيرها، وإنما كثر وقوع الحريق فى أيامه بالقاهرة مدة، ولم يعلم له سبب، فتخرّب بذلك، وبما تقدمه من الفتن والحروب، أماكن كثيرة من القاهرة وغيرها.

ووقع الطاعون فى أيامه سنة ثلاث وستين وثمانمائة، فأقام ثلاثة أشهر.

***

‌تولية الملك المؤيد أحمد بن إينال

ثم تولى المملكة بعده ابنه الملك المؤيد أحمد أبو الفتح، وكان قد عهد إليه. فأقام بها أربعة أشهر، ثم خلع بتحامل الأمراء عليه. وكان أتابك العسكر إذ ذاك خشقدم، فلم يمض غير قليل ودبّت عقارب الفتن، فتعصّب العسكر، وحاصروا القلعة، ووقع بينهم وبين الملك ما أدى إلى القبض عليه وخلعه وسحنه.

***

‌تولية السلطان خشقدم

ثم تولاها الظاهر أبو سعيد خشقدم الناصرى، ثم المؤيدى سنة خمس وستين وثمانمائة، ولقّب بالملك الظاهر، وهو السلطان الأول من الروم، إن لم يكن منهم أيبك ولا لاجين.

وفى سنة ست وستين وثمانمائة تحيّل على الأمراء حتى جمعهم بالقلعة، وقبض على جماعة من الأشرفية، وأرسلهم إلى سجن الإسكندرية، فقام عليه باقيهم، وسلطنوا جرباش الأتابكى بالغصب والقوة، ولقبوه بالناصر، فحصلت وقعة بينهم وبين عصبة السلطان خشقدم بالرميلة انتصر فيها عليهم، ونفى جماعة.

ص: 123

وفى السنة المذكورة توقف النيل، وغلت الأسعار، إلى أن بلغ الإردب القمح، ألف درهم.

وفى سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة توفى السلطان خشقدم بمرض كان قد أصابه، ودفن فى تربته، التى أنشأها بالصحراء.

وكانت مدته ست سنين ونصف سنة، ولم يحصل فيها تجاريد ولا طاعون، وسكنت فيها الفتن، وكان كفئا للسلطنة، طاهر الذيل، لكنه كان سريع العزل للقضاة والمباشرين، وأخذ أموالهم بغير حق، وهو آخر من مشى على النظام القديم من الملوك.

***

‌تولية السلطان أبى النصر بلباى المؤيدى

ثم تولى بعده السلطان أبو النصر سيف الدين بلباى المؤيدى الجركسى سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، ولقّب بالملك الظاهر، فأقام بها شهرا وستة وعشرين يوما، وهو آخر المؤيدية، وكان قبل ذلك أتابكى العساكر، فلما تسلطن جعل الأتابكية للمقر السيفى تمربغا.

وكان السلطان بلباى عاجز الرأى، قليل المعرفة، وجعل تدبير الأمور لخير بك الدوادار، فأشار عليه بالقبض على جماعة من أمراء الدولة، وإرسالهم إلى سجن الإسكندرية، فلما فعل ما أشار به حنق الأمراء من ذلك، وقاموا على السلطان، فقبضوا عليه، وخلعوه، وأرسلوه إلى سجن الإسكندرية.

وكان خشنيا، قليل المعرفة بأمور السلطنة، وكان يدعى «بلباى المجنون» .

‌تولية السلطان أبى سعيد تمربغا

وتولى بعده السلطان أبو سعيد تمربغا الظاهرى سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، ولقّب بالملك الظاهر، فأقام بها شهرين إلا يوما، وخلع وذلك أنه فى تلك المدة القليلة أراد مصادرة الأمراء للنفقة على العسكر، فقاموا عليه، وخلعوه، وسلطنوا خير بك، فأقام ليلة فى فرح وكان الأتابك قايتباى فى الربيع، فحضر وحاصر القلعة، وبعد قليل انتصر، وقبض على جملة من الأمراء، وأرسلهم إلى ثغر الإسكندرية، وقبض على السلطان، وأرسله غير مقسّد إلى دمياط.

ص: 124

‌تولية السلطان قايتباى

ثم تولى السلطنة بعده أبو النصر قايتباى الظاهرى المحمودى المذكور سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة، ولقّب بالملك الأشرف، وهو خيار هذه الطائفة، له ميرات وعمارات شتّى، فى مصر والمدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - وفى مكة المشرّفة وغيرها

فمن آثاره فى مصر جامع بجزيرة الروضة، وجامع بقلعة الكبش، وجامع بباب القرافة، وجدّد عمارات كثيرة بالقلعة، فمن ذلك الإيوان، والمقعد الكبير.

وجدّد أيضا عمارة الميدان الناصرى بالناصرية، بعد أن كان مهجورا، وأنشأ عدة قناطر وجسور فى الأقاليم. ووقف أوقافا كثيرة على عماراته من بلاد وربوع وغيرها.

وله فى الصحراء المدرسة التربة العظيمة، التى لم ير مثلها، وهو من مماليك الظاهر جقمق.

وفى أيامه كانت فتنة شاه سوار بن ذى الغادر، وهى فتنة هائلة، أرسل فيها السلطان العساكر، المرة بعد المرة، وهى تنهزم، وصرف عليها جميع ما فى الخزائن. وأخيرا أرسل تجريدة تحت إمرة الأمير يشبك الدوادار، ففاق على سوار، فأراد سوار إجراء الصلح، فأظهر له يشبك الميل إلى ذلك، ولما حضر بالعسكر عملت له الإكرامات، حتى خدع، ثم قبضوا عليه، بعد أن قتلوا من معه، وأرسل هو وإخوته إلى مصر، فأمر السلطان بتسميرهم وإدارتهم بالقاهرة، ففعلوا بهم ذلك، ثم شنقوهم على باب زويلة، وبقوا كذلك يومين.

وفى سنة أربع وثمانين وثمانمائة حج السلطان، ولم يحج من السلاطين الجراكسة غيره، ورتّب لأهل الحرمين ثمانية آلاف إردب قمحا، لتعمّ الغنىّ والفقير، والحر والعبيد، والذكر والأنثى.

وفى سنة سبع وثمانين وثمانمائة توجهت عساكر مصر تحت إمرة يشبك إلى محاربة حسن الطويل ملك العراقين، فكانت بينهم وقعة عظيمة، انهزمت فيها عساكر مصر، وأسرت أمراؤها، ومات يشبك، وهو صاحب القبة الموجودة الآن بالبلد، التى سمّيت بها قرب المطرية.

وتولى أتابكية العسكر بعده الأمير آق بردى صاحب الدار المعروفة بقاياها الآن بحوش بردق، قبلىّ جامع السلطان حسن، ثم عقب ذلك محاربته مع السلطان محمد ملك الروم من سلاطين الدولة العليّة العثمانية.

ص: 125

وسبب ذلك هدية أهداها بعض تجار الهند إلى السلطان محمد، فسمع بها قايتباى وفيها خنجر مرصّع، فاستحوذ عليها قايتباى، فثارت الحرب بهذا السبب، وحصلت بينهما وقعة، انتهت بنصرة العساكر المصرية، وعودتهم إلى مصر بالغنائم. إلا أن السلطان محمدا لم يزل على نيّة الحرب، فقطع التجارة التى كانت ترد على مصر من بلاد الروم، وكان يتجهز لمعاودة القتال.

وفى أثناء ذلك أحسّ قايتباى من بعض الأمراء المصرية بالشر، لأسباب قطع نفقات العسكر بما كان يضطر إليه من كثرة المصروف، فخلع نفسه من السلطنة بمحضر من الأمراء وغيرهم، فتوقع عليه الحاضرون، وأكثروا فى الرجاء، ثم حصل التراضى على أن السلطان قايتباى ينفق على كل واحد من العسكر خمسين دينارا، ثم حصلت المبايعة له بالسلطنة ثانية.

وانتهى الأمر على ذلك، فشرع فى تحصيل هذه النفقة، ورسم بأن يؤخذ من أملاك القاهرة والأوقاف أجرة شهرين كاملين، فأخذ ذلك، وصرفه على العسكر، فكان فتح هذا الباب على يد قايتباى.

ثم جاءت الأخبار بإغارة العساكر العثمانية على بلاد الشام ثانية، فجهّز قايتباى العساكر لقتالهم، وأرسلهم إلى الشام، فكان بين الفريقين وقعة عظيمة، انتصرت فيها العساكر المصرية، وعادوا إلى مصر بأسارى كثيرة من أمراء وعسكر مع الأمير أزبك - صاحب الجامع الشهير، الذى كان أمام سراى العتبة الخضراء بجهة الأزبكية، وعرفت الأزبكية باسمه، ثم هدم هذا الجامع ولم يبق له أثر.

ومع تكرر النصرة لقايتباى - كما ذكر - أراد حسم الفتنة، وقطع أسباب الشر بينه وبين ملك الروم، فأرسل الأمير جانبلاط بن يشبك إلى السلطان محمد، ليسعى بينهما فى الصلح، فأكرمه السلطان محمد، وتلطّف معه، وأرسل معه قاضيا من قضاة الروم، وعلى يده مفاتيح قلعة كولك، وكانت من أسباب الفتنة، فأكرم قايتباى القاضى، وخلع عليه، وأفرط فى الإحسان إليه وأطلق جميع الأسراء، وخلع على الأمراء منهم، وأرسل إلى السلطان محمد هدية جليلة وتقادم جميلة، فانعقد بينهما الصلح، وخمدت الفتنة.

وفى سنة إحدى وتسعمائة مرض السلطان، وتمادى به المرض، فلما كان اليوم السادس والعشرون من شهر ذى القعدة من تلك السنة أشرف على الموت، فاجتمع الأمراء والعسكر، وأحضروا الخليفة العباسى، وخلعوا قايتباى، وهو فى النزع لا يعلم بشئ، وبايعوا ابنه محمدا.

وفى ثانى يوم توفى السلطان قايتباى، وعمره ست وثمانون سنة، ودفن بتربته، التى فى الصحراء. وكانت مدة سلطنته تسعا وعشرين سنة وشهورا.

ص: 126

وكان الملك الأشرف قايتباى فارسا، وافر العقل، حازم الرأى، غير عجول فى الأمور، بطئ العزل لأرباب الوظائف، محبا لجمع الأموال.

***

‌تولية السلطان محمد بن السلطان قايتباى

ثم تولى السلطنة ابنه السلطان محمد أبو السعادات، وعمره أربع عشرة سنة، ولقّب بالملك الناصر، فخلع على المقر السيفى قانصوه المعروف بخمسمائة، وجعله أتابك العساكر، عوضا عن تمراز الشمسى. وكان الأتابك متطلعا إلى السلطنة، فحشد المماليك، واستولى على باب السلسلة، والسلطان وقتئذ بالقلعة، وتعصّب معه العصاة، وولوه سلطانا، ولقبوه بالأشرف قانصوه وبايعوه، ومكث يدعى سلطانا، بغير رسم أجرى له، أحد عشر يوما.

وكان السلطان فى القلعة، فأراد قانصوه دخولها، فلم يتمكن، وجمع السلطان عبيده ومماليكه، وهجم عليه، فحصل بينهم مقتلة عظيمة آلت إلى انهزام قانصوه وجماعته، وتفرقوا فى طرق المدينة، وتبعتهم العبيد والمماليك بالقتل، ومن نجا منهم فرّ مع قانصوه إلى البلاد الشامية.

وفى هذه الوقعة نهبت جهة الأزبكية، بسبب أن قانصوه بعد انهزامه اختفى مدة، ثم ظهر واستقر ببيت الأمير أزبك، والتف عليه جماعة من الأمراء، فلما أحس بنزول المماليك والأمراء السلطانية إليه، تسّحب وهرب، فخرّب العساكر جهة الأزبكية وما يليها، وعاثوا فيها بالحريق والنهب، حتى نهبوا ما كان بجامع أزبك من فرش وغيرها.

وفى تلك الأيام كان آق بردى قادما من الشام باستدعاء السلطان له، فتلاقى مع قانصوه المذكور، وهو قاصد إلى الشام، فحصلت بينهما عند خان يونس وقعة عظيمة، انكسر فيها قانصوه، وقتل كثير ممن كان فى صحبته، واستولى آق بردى على ما كان معه، وأرسل إلى مصر برؤوس كثير من القتلى، وفيها رأس قانصوه. وقيل إنه اختفى، ولم يعلم له أثر، فلما وصل آق بردى إلى مصر، لم تستقم له الحال، بل حصل بينه وبين المماليك فتن وأمور يطول شرحها، حتى إنه حاصر القلعة، واستمر الحصار والقتال بينه وبين من كان فى القلعة مع السلطان فوق ثلاثين يوما، كانت فيها القاهرة معطلة الأسواق، مقفلة الدكاكين، وامتنع فيها البيع والشراء، ولم يكن أحد سوى العسكر يجسر أن يمشى فى طرقاتها، ثم انتهى أمر ذلك بانكسار آق بردى، وخروجه متسحبا إلى الجهات الشامية، فنزلت المماليك والعبيد من القلعة، وانتشرت فى أنحاء القاهرة للبحث عنه، وعمّن كان معه، وقتلوا من عثروا به منهم،

ص: 127

ونهبوا دورهم، ونهبت حارة زويلة، بما فيها من الدور، لأن آق بردى كان له بها حاصل ونهبت أيضا دور اليهود. واستمرّ النهب والقتل ثلاثة أيام بلا ممانع.

وفى خلال ذلك قتل تمراز الشمسى، وكان السلطان قد عيّنه فى الأتابكية، ثم انضم إلى آق بردى.

وبعد انقضاء هذه الحادثة أنعم السلطان على كثير من الأمراء، وأخذ فى تدبير الأحكام، مع طيش وخفة وقلة تبصر، فكانت مدته كلها شرا لجهله، وقبح أفعاله، ومعاشرته للعوام، والأراذل، فهتك حرمة المملكة، وأخلّ نظامها، وبلغ فى الخفة والطيش مالا يوصف، فمن ذلك أنه أهديت له مركب صغيرة، فجعلها فى البحيرة، ووضع بها مقدارا من الحلوى والفاكهة، والجبن المقلى، وصار ينزل بها، ويبيع كالبياعين، وأخرج جماعة من السجن، ووسّطهم بيده، والسياف يعلّمه كيف يوسط ويقطع الأيدى والآذان والألسن، وهو يفعل ذلك بيده

إلى أمثال ذلك من أفاعيل الطيش والخفة، وكثر شره وأذاه فى الرعية.

وكان يؤديه طيشه إلى أفعال منكرة وأعمال فظيعة، فمن ذلك أنه هجم على الدور التى حول بركة الرطلى هو وأولاد عمه، وأخذوا ما أعجبهم من النساء بالرغم عن أهلهن، فارتاب منه الناس، وضجرت منه الأمراء، وقصدوا له السوء، وترقبوا الفرصة لذلك، فاتفق أنه توجه مرة إلى برّ الجيزة، وأقام بها أياما فى اللهو واللعب، وعند رجوعه أكمن له الأمير طمانباى كمينا، فقتله هو وأولاد عمه بقرب قرية الطالبية من أعمال الجيزة، ونقلت جثثهم إلى تربة قايتباى، ودفن مع أبيه فى سنة أربع وتسعمائة. فكانت مدته سنتين وثلاثة أشهر وأياما، وعمره حين مات سبع عشرة سنة، وكانت أيامه بمصر أيام عناء وبلاء، لكثرة ما حصل فيها من الفساد والاضطراب والغلاء والفناء والمصادرات وجور السلطان، وأذى المماليك.

وقد أصاب البلاد الشامية أيضا نصيبها من ذلك، فلما وصل إليها آق بردى بعد خروجه من مصر - كما مر آنفا - أخذ فى الفساد والعسف فيها بالنهب والقتل، والحريق والتخريب، إلى أن مات سنة أربع وتسعمائة.

وكانت مصر والشام فى تلك الأيام على أسوأ حال، وانضاف إلى تلك البلايا أن ظهر داء يقال له الحب الإفرنجى سنة ثلاث وتسعمائة، فأعيا الأطباء أمره، ولم يظهر بمصر قط، إلا فى ذلك التاريخ.

وانضم لذلك أيضا فساد المعاملة، وكثرة الفلوس الجدد بأيدى الناس، حتى صارت البضائع تباع بسعرين سعر بالفضة وسعر بالفلوس، وأضرّ ذلك بالعام والخاص.

ص: 128

‌تولية السلطان قانصوه الأشرفى

ولما هلك الناصر بن قايتباى، تولى السلطنة بعده السلطان أبو سعيد قانصوه بن قانصوه الأشرفى خال الناصر محمد بن قايتباى المتقدم، سنة أربع وتسعمائة. أقامته أخته مقام ولدها، وعمره فوق العشرين، وهو جركسى الجنس، ولما حضر إلى مصر تبين أنه أخو خوند أصل باى، أم الملك الناصر المذكور. وكان فى مدة السلطان قايتباى من جملة الجمدارية، ولما تولى ابنه جعله خازندارا كبيرا، وصار يدعى بخال السلطان، فعظم أمره، وخلع عليه السلطان وظيفة دوادار كبير، ثم صار استادارا، فلما قتل السلطان محمد بن قايتباى - كما مر - وقع الاختيار عليه، وتلقب بالسلطان الملك الظاهر، ولم يقم بمصر قبل توليته السلطنة إلا ست سنين، ولم يتفق ذلك لجركسى قبله، فعدّ ذلك من سعده، فلذلك كانت الأمراء تحسده، وتحقد عليه، مع حسن تدبيره للأمور، فكانت الفتن غير منقطعة من القاهرة، وزاد على ذلك قيام العرب فى الصعيد والوجه البحرى، حتى حصل للأهالى الضرر الشامل، فتفرقت العساكر فى جهات مصر، وبددت شمل العرب، وأسروا منهم عددا وافرا.

وفى أثناء ذلك قام طومان باى، ومعه جملة من الأمراء، وحاصروا القلعة، وجرت بينهم وبين السلطان قانصوه أمور، انتهت بالقبض عليه وسجنه، فكانت مدته سنة وثمانية أشهر.

***

‌تولية أبى النصر جانبلاط

وتسلطن بعده السلطان أبو النصر جانبلاط الأشرفى سنة خمس وتسعمائة، ولقّب بالملك الأشرف، فأقام بها نصف سنة، وبنى المدرسة الجانبلاطية خارج باب النصر، وكانت الفتن كل يوم فى ازدياد. وقد أكثر المصادرات للأمراء والمباشرين واليهود والنصارى، للصرف على العساكر، فكثر الاضطراب والقال والقيل.

وفى أثناء ذلك وصلت الأخبار من الشام بأن جميع نوابها شقوا عصا الطاعة، ورفعوا لواء العصيان، فجهّز السلطان جيشا، ووجهه تحت قيادة الأمير طومان باى، فلما وصل قابله النواب، وسلّموا مقاليد الأمور إليه، وسلطنوه، ولقبوه بالعادل، وأخذوا فى أهبة السفر إلى مصر، فلما بلغ السلطان جانبلاط ذلك، حصّن القلعة، وجمع فيها الذخائر. فلما وصلوا حاصروا القلعة، وحصل قتال شديد فى الرميلة، وجهة باب الوزير والصليبة، واتّخذ جامع السلطان حسن معقلا، وكذا جامع شيخون، وحفرت الخنادق فى الصليبة، وحدرة البقر

ص: 129

- وهى شارع المظفّر - وباب الوزير، فقتل كثير من الفريقين، وخرّبت بيوت، ثم أخذت العساكر تنضم إلى العادل، حتى اضطر جانبلاط إلى الفرار، فقبض عليه وسجن بالإسكندرية حتى مات.

***

‌تولية السلطان طومان باى الأشرفى

وتولى السلطنة بعده السلطان طومان باى الأشرفى سنة ست وتسعمائة، وبايعه القضاة وغيرهم، ولقّب بالملك العادل، وهو مملوك الأشرف قايتباى، فأقام بها سبعة أشهر، وبنى بها مدرسته العادلية، وتربته التى خارج باب النصر، وكانت من أجمل المبانى، ولم يبق منها إلا القبّة التى على يسار الذاهب إلى العباسية، وتعرف الآن بقبة الفداوية.

وكان آخذا حذره من الأمراء، وهم آخذون حذرهم منه، لما كان بينهم من البواطن، فلما كان يوم العيد، أراد القبض على بعضهم، فاستشعروا بذلك، فحزّبوا الأحزاب، وقاموا عليه قومة واحدة، ومعهم الأمراء، الذين كانوا مختفين من مدة جانبلاط، فلم يجد بدا من الفرار، وقيل إنه قتل.

***

‌تولية السلطان أبى النصر قانصوه الغورى

ثم تولى المملكة بعده السلطان أبو النصر قانصوه الغورى سنة ست وتسعمائة، ولقّب بالملك الأشرف، فأقام بها خمس عشرة سنة وتسعة أشهر. وكان جبارا، كثير القتل والسفك، وله عدة مبان ومبار، قمع الأمراء، وأذل المعاندين، وأخاف المفسدين، فأمّن السبيل، وسكّن الفتن.

ورتّب للأزهر كل رمضان ستمائة وسبعين دينارا ومائة قنطار عسلا، وخمسمائة إردب قمحا، وبنى دائرة الحجر الشريف، وبعض أروقة المسجد الحرام، وباب إبراهيم، وجعل علوّه قصرا شاهقا، وتحته ميضأة، وبنى فى طريق الحاجّ المصرى عدة خانات وآبار.

وأنشأ بالقاهرة مدرسته، بسوق الجملون، ومدفنا فى مقابلتها، على جانبى سوق الغورية وأنشأ المنارة المعتبرة بالأزهر والبستان تحت القلعة، والسبع السواقى لمجرى الماء، من مصر العتيقة إلى القلعة، وعمّر بعض أبراج الإسكندرية، وغير ذلك من العمارات الكثيرة النافعة.

ص: 130

ومع ذلك كان كثير الطمع والظلم، يصادر الناس، ويأخذ أموال من يموت، ومماليكه يظلمون الناس.

ووقعت بينه وبين السلطان سليم، ملك الدولة العلية العثمانية فتنة، والتقى جيشاهما بمرج دابق، شمالى حلب بمرحلة سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة، فانهزم عسكر الغورى، بمكيدة خير بك والغزالى، وفقد الغورى تحت أرجل الخيل.

***

‌تولية الملك الأشرف طومان باى

ثم تولى الملك بعده الملك الأشرف طومان باى الجركسى ابن اخيه، وبه انتهت مدة الجراكسة بمصر، وكانت مائة وإحدى وعشرين سنة. وكانت القاهرة قبلهم بلغت حدّها فى الاتساع. وبسبب ما كان يقع بها من الحروب المتوالية، والوباء والغلاء والحرق والفساد، وكانت تتقلب فى أطوار العمارة والدمار، فتستجد جهات، وتخرب جهات، فيصير العامر دارسا، والدارس عامرا، بحسب تغير الدول والأحوال.

وكان المعتنى بها كثيرا من مدة الدولة الأيوبية القلعة، فبنيت فيها المبانى الفاخرة، والقصور الزاهرة، وعمر ما حولها، فاتصلت بأسوارها العمائر بالمحجر والرميلة، وكانت مقر السلطنة. وكانت بها خزانة كتب أحرقت سنة إحدى وتسعين وستمائة. وكانت القلعة مسكن المماليك السلطانية، وخواص الأمراء بنسائهم ومماليكهم ودواوينهم وطبلخاناتهم وفرشخاناتهم وشريخاناتهم ومطابخهم، وسائر وظائفهم. وكان بها عدة أبراج لسجن الأمراء والمماليك، وجبّ هائل مظلم، كريه الرائحة، كثير الوطاويط، معد لذلك أيضا، قد عمّره الملك المنصور قلاوون سنة إحدى وثمانين وستمائة، وأبطله الناصر محمد بن قلاوون سنة تسع وعشرين وسبعمائة.

واستجد فى أيام الجراكسة عمائر فخيمة بالقاهرة وبولاق ومصر العتيقة، وكثرت القصور والبساتين فى ضواحى المدينة. وكان نطاق العمارة آخذا فى الاتساع، مع كثرة التقلبات وتواليها، لما أنهم كانوا يتنافسون ويتفاخرون فى بناء الدور والمدارس والجوامع والربط والأسبلة والقبور.

وكان لهم خيرات جزيلة ورزق واسعة، وكان أهل مصر ينتفعون بما فى أيديهم من الرزق والدوائر، وكان خدمهم يبيعون للناس ما يصل إلى أيديهم من اللحم والسمن والعسل،

ص: 131

وسائر أنواع المأكولات والملبوسات، ونحو ذلك بأبخس الأثمان، فكان لهم سوق يباع فيه الفاضل من الأطعمة التى أخذها الخدمة من الأسمطة.

وبقوا على ذلك زمنا ثم فشا فيهم الظلم والعدوان، وكثرت المصادرات، وغلبت سيئاتهم على حسناتهم، ومالوا إلى الغواية والفساد، وأخلّوا بكثير من شعائر الدين، فمزّقهم الله كل ممزق، فسبحان من لا يزول ملكه.

***

ص: 132

‌ذكر بعض مصنوعات الملوك المتقدم ذكرهم وطرف من ترتيباتهم وعوائدهم وغيرها

ويحسن بنا قبل الكلام على ما آل إليه أمر مصر بعد تبعيتها للدولة العلية العثمانية أن نذكر بالإيجاز بعض مصنوعات الملوك المتقدم ذكرهم، وطرفا من ترتيباتهم وعوائدهم، وما حصل من التغيرات فى المبانى وغيرها، ليقاس الحاضر على الماضى، فنقول:

لم تمكث دولة الأكراد أكثر من إحدى وثمانين سنة وسبعة عشر يوما، وقام من بعدهم الأتراك، وعقبهم مماليكهم، ومماليك مماليكهم، ومنهم دولتا البحرية والبرجية، أقاموا فى الملك مائتين وسبعة وخمسين سنة وسبعة أشهر وتسعة أيام. فمدة الجميع - من حين زوال دولة الفاطميين إلى انقضاء دولة المماليك - ثلثمائة وثمانية وثلاثون سنة وسبعة شهور وستة وعشرون يوما.

[إبطال مذاهب الشيعة]

ومن وقت أن جلس السلطان صلاح الدين الأيوبى أخذ يغيّر عوائد الفاطميين. فكان أول شئ أجراه من ذلك إبطال مذاهب الشيعة، وعزل قضاتهم، وترك رسومهم، وإجراء الخطبة باسم الخليفة العباسى. وشرع فى إقامة السنة، وإماتة البدعة، وتعزيز الشريعة، واستحوذ على أملاك الفاطميين، وفرّق أملاك أمرائهم على أمراء الأكراد، واستبدل العسكر؛ فبعد أن كان الجند من العرب والعبيد والأرمن والترك، صار جميعه من الجركس والروم، والأكراد والتركمان، ثم تغير من بعد الأيوبية، حتى صار غالبه من مماليك الشراء.

[جلب المماليك ونظم تربيتهم وإعاشتهم]

ولما كثرت الوقائع بالمشرق بين التتر ومن جاورهم، وبيع الكثير من الأسرى، وتنقلوا فى الأقطار، اشترى الصالح نجم الدين منهم جماعة، وسمّاهم بالبحرية، فترقى الكثير

ص: 133

منهم إلى المراتب الرفيعة، حتى تملّك منهم ناس، أولهم المعز أيبك. ومعهم كان لقطز الوقعة المشهورة بعين جالوت، وهزمهم، وأسر الكثير منهم، فكثروا بمصر والشام.

وفى زمن الظاهر بيبرس، كثر الوافدون من المغل وملأوا مصر، وانتشرت بها عاداتهم وطرقهم. وكان لملوك مصر وقتئذ عناية بالمماليك من جميع الأجناس، واحتفال زائد بتربيتهم، وكانوا يسكنونهم القلعة فى طباق مخصوصة، وإذا اشتروا الواحد منهم، سلموه لطواشى يعلمه القراءة والكتابة، وألحقوه بطائفة من جنسه.

وكان لكل طائفة فقيه يعلمهم أمور الدين والآداب والقرآن، فاذا شب وقوى، سلّم لمعلم يعلمه أنواع الحرب، من رمى النشّاب، ولعب السيف والرمح. وكانوا إذا ركبوا للرمى لا يجسر جندى أن يكلمهم، ولا يدنو منهم. وكانوا ينقلونهم فى الخدم على حسب الاستعداد، حتى يصير منهم الأمير والوزير.

ولم يزالوا كذلك، إلى أن كان زمن الناصر فرج، فأهمل شأنهم، وترك أحوالهم، فأصبحوا من أرذل الناس وأدناهم، وأخسهم قدرا، وأشحهم نفسا، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضا عن الدين. قال المقريزى: ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد، وألص من فأرة، وأفسد من ذئب. فكان ذلك داعيا لفساد حال المملكة وخرابها.

[نظم العسكر وأمرائهم وهبات العلماء والقضاء]

وكان للسلاطين أيضا اعتناء بأمر العسكر فبالغوا فى مرتباتهم، وإقطاعات الأمراء منهم حتى كان يبلغ مرتب بعض الأمراء إلى عشرين ألف دينار: الثلث للأمير خاصة والثلثان لجنده، وكان لأعيانهم غير ذلك؛ كاللحم بتوابعه، والخبز، وعليق الخيول والدواب، ولأكابرهم السكر والشمع والزيت، والكسوة فى كل سنة، والأضحية بحسب الدرجات، وفى رمضان السكر والحلوى، وإذا نشأ لأحدهم ولد أطلق له الدنانير واللحم والخبز وعليق الدواب، حتى يتأهل للإقطاع فى جملة الحلقة، ثم ينقل إلى إمرة عشرة أو طبلخانة أو غيرها، حسب حظه.

[اختلاف الأزياء باختلاف الرتب]

ولم تكن تلك الهبات مقصورة على طوائف العسكر، بل كانت متعدية إلى أصحاب الأقلام، والقضاة على طبقاتهم، والعلماء والخطباء على اختلافاتهم.

وقد أطال المقريزى فى شرح الإنعامات الواصلة كل سنة لأكابر المئين ومن دونهم، كما أطاله فيمن تقدم ذكرهم. وكان ذلك يصرف من الخزانة السلطانية، ومحلها بالقلعة، ولها ناظر من القضاة الأعلام.

ص: 134

وكانت العادة أن الخلعة إذا خلقت أعيدت للخزانة، وصرف بدلها. ومن نظر إلى ما يكون بها من الزركش والجوهر والذهب، رأى أن الخلعة الواحدة تفوق الحد فى المصاريف.

وكانت خلع أكابر المئين من الأطلس الأحمر الرومى، وتحته الأطلس الأصفر الرومى، وعليها طراز وزركش مذهب بكلاليب من الذهب، وشاش لانس رفيع موصول بطرفيه حرير أبيض، مرقوم عليه ألقاب السلطان منقوش بالحرير الملون النقوش الباهرة، ومنطقة بالذهب مختلفة بحسب الرتبة، فأعلاها به البلخش والزمرد واللؤلؤ، وبيكارية مرصعة وغير مرصعة.

ومن تقلّد ولاية يعطى له سيف محلى بالذهب، وفرس بسرجه ولجامه، وله كنبوش من الذهب أيضا. وكان لكل منهم علامة تميزه بحسب الدرجة والولاية. وأما أمير أقل من مائة وأقل منه، فكل بحسبه.

وأجل خلع الكتّاب الكمخ الأبيض المطرز بالحرير الساذج، والسنجاب المقندس، وتحته كمخ أخضر، وبيقار مرقوم وطرحة، ودونها عدم السنجاب، ويكون القندس بدائر الكمّين فقط، ودونها ترك الطرحة، وهكذا لتميّز الدرجات.

وكانت خلع القضاة والعلماء من الصوف بغير طراز، ولهم الطرحة، وأجلها البيضاء، ثم الخضراء، ثم غيرهما.

وخلع الخطباء هى السواد، تحمل إلى الجامع من الخزينة، وهى دلق مدور، وشاش أسود، وطرحة سوداء، وعلمان أسودان، مكتوب فيهما بالأبيض أو بالذهب. وثياب المبلغ مثل ذلك، ما خلا الطرحة.

[عادات منح الخلع والإنعامات والرواتب]

وكان للسلطان عادات فى إعطاء الخلع، كابتداء جلوسه على الدست، وتشمل الخلع حينئذ سائر رجال الدولة، وقد خلع فى يوم إقامة الأشرف بن حسين بن محمد بن قلاوون ألف ومائتا خلعة، وكوقت اللعب بالكرة، فيخلع على الجوكندارية، ومن له خدمة فى ذلك، وكأيام الأعياد، وأوقات الصيد، فاذا سرح أحد مصيده أو أحضر غزالة أو نعامة خلع عليه بما يناسب قدره، وكذا يخلع على البردارية وحملة الجوارح، ومن يجرى مجراهم فى كل سنة عند أوان الصيد.

وكان ينعم على غلمان الطشتخانة والشرابخانة والفرشخانة، ومن يجرى مجراهم، وكذا من يصل إلى الباب من الأغراب زائرا، أو مهاجرا من مملكة أخرى تدر عليه أنواع العطايا والأرزاق والخلع على حسب حاله، وكذا التجار الذين يبيعون من متاجرهم للسلطان يخلع عليهم، فضلا عمالهم من الرواتب الدائمة من الخبز والتوابل والحلوى، والعليق

ص: 135

والمسامحات، فى نظير ما يباع من الرقيق، مع ما يترك لهم من حقوق أخرى، ولو باع أحدهم للسلطان ولو واحدا من الرقيق، فله خلعة كاملة، زائدة على أصل الثمن، وله إنعامات وسفارات، تطلق على سبيل الاتجار.

وكان أمراء العسكر يلبسون أنواع الكمخ والخطئى والكنجى والمخمل والإسكندرانى والشرب والنصافى والأصواف الملونة، ثم بطل لبس الحرير فى أيام الظاهر برقوق، واقتصر على لبس الصوف الملون فى الشتاء، والنصافى المصقول فى الصيف.

وكانت العادة أن السلطان يتولى بنفسه استخدام الجند، فاذا وقف بين يديه كاتب الإقطاع المحلول، ووقع اختياره على أحد. أمر ناظر الجيش بالكتابة له، فيكتب ورقة مختصرة تسمى المثال مضمونها خبز فلان كذا، ثم يكتب فوقها اسم المستقر له، ويناولها السلطان، فيكتب بخطه، ويعطيها الحاجب لمن رسم له، فيقبّل الأرض، ثم يعاد المثال إلى ديوان الجيش فيحفظ هناك، ثم يكتب مربعة بخطوط وعلامات جميع المباشرين، وترسل إلى ديوان الإنشاء، فيكتب المنشور، ويعلم عليه السلطان.

فمن الجند من يقطع له بلاد يستغلها، وينتفع بها كيف شاء، ومن يقطع له نقود يتناولها من جهات؛ كمقرر طرح الفراريج، والمكوس كساحل الغلة، وكالسمسرة، ورسوم الولاة والأفراح، وحمايات المراكب، وغير ذلك مما ذكره المقريزى

حتى تملّك المنصور لاجين، فجعل أرض مصر أربعا وعشرين قيراطا، اختصّ منها بأربعة، وجعل للجند عشرة، وللأمراء عشرة، فكان الأمراء يأخذون كثيرا من إقطاعات الأجناد، فلا يصل إلى الأجناد منها شئ، ويصير ذلك الإقطاع فى دواوين الأمراء.

فلما أفضت السلطنة إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون راك البلاد، فصارت الإقطاعات كلها بلادا، وجعل لخاصته عدة نواح، بلغت عشرة قراريط من الإقليم، وصارت إقطاعات الأمراء والأجناد وغيرهم أربعة عشر قيراطا، وبلغت عدة الجيوش فى زمنه أربعة وعشرين ألف فارس، وكانت لهم رسوم وعادات سرت لهم - مع سير الزمان - من عادات أهل البلاد والأمراء، فقبل اختلاطهم بالتتر كانوا - لتربيتهم بدار الإسلام - يحفظون القرآن، ويفقهون الأحكام، ويتّبعون السنة.

‌الجلوس بدار العدل

كانت الملوك تجلس بدار العدل بكرة كل خميس واثنين طول السنة، ما عدا شهر رمضان، للنظر فى المظالم. وتجلس قضاة المذاهب الأربعة عن يمين الملك، يليه الشافعى، ثم الحنفى، ثم المالكى، ثم الحنبلى، ثم وكيل بيت المال وناظر الحسبة، وعن يسار السلطان

ص: 136

كاتب السر، وأمامه ناظر الجيش، وجماعة الموقعين المعروفين بكتاب الدست وموقعى الدست على هيئة دائرة، والأمراء واقفون.

‌قوانين البلاد وذكر السياسة

فلما صار أغلب رجال الدولة من التتر غلبت قوانين التتر على قوانين البلاد، ودخلت شرائعهم هذه البلاد، وسمع باسم السياسة، ومن وقتئذ خلط الحق بالباطل، ومزج الحسن بالقبيح، وبعد أن كانت الأحكام تبت على مقتضى الشريعة المطهرة قسّمت إلى سياسية وشرعية، ففوّض لقاضى القضاة كل ما يتعلق بالأمور الدينية، من الصوم والصلاة، وأمر الأوقاف والأيتام، والنظر فى الأقضية الشرعية، كالديون والزوجية، وجعلوا لأنفسهم فى أقضيتهم قوانين رجعوا فيها إلى أصول جنكز خان، التى تسمى «الياسة» ، واقتدوا بحكمها، فنصبوا الحاجب ليقضى بينهم بها فيما اختلفوا فيه، والأخذ على يد القوى وإنصاف المظلوم، على مقتضى ما فى «الياسة» .

و «الياسة» ، كلمة مغلية، حرّفها الناس، فزادوا فيها سينا، فقالوا «السياسة» ، وهى عبارة عن قوانين الأحكام التى وضعها جنكز خان، بعد أن صار ملكا، ونقشها على صفائح الفولاذ، وجعلها شريعة لقومه، فالتزموها.

ومع هذا فقد جدّ الكثير منهم فى اتساع نطاق الثروة والرفاهية، وكثرت فتوحاتهم، وانتشر صيتهم، واتسعت مصر بكثرة الوافدين، وعمرت أطرافها، وحدثت بها دروب وحارات وأسواق، لبيع ما يحتاج إليه.

‌أسواق الأسلحة والملابس

فحدثت سوق السلاح محل الخردجية الآن، وسوق المهاميز، وكان يباع بها المهاميز من الذهب والفضة والمكفت، والبدلات التى برسم لجم الخيل، وكان أغلبها مجراة بالمينا، وسوق الشرابشيين نسبة إلى الشربوش (وهو ما يوضع على الرأس شبه التاج، مثلث الشكل، يلبسه السلطان لمن يرقيه إمرة) ومحله الآن الشرم والجملون، وكان يباع فيه أيضا الخلع التى يلبسها السلطان للأمراء، والوزراء وغيرهم.

‌ذكر الملابس

كان السلطان والعسكر يلبسون على رؤوسهم الكلوتة بدل العمامة، وكانت العادة أن تكون صفراء مضربة تضريبا عريضا، ولها كلاليب، ويضفرون شعورهم، ويرسلونها بين

ص: 137

أكتافهم موضوعة فى كيس من الحرير، أحمر أو أصفر، ويشدون أوساطهم ببنود من قطن بعلبكى مصبوغ، عوض الحوائص، والأقبية البيض أو المشجرة بالأحمر والأزرق الضيقة الأكمام أشبه بملابس الإفرنج، ومن فوق القباء كمران بحلق وإبزيم وصالق بلغارى، يسع أكبره أكثر من نصف ويبة من الغلة، مغروز به منديل، طوله ثلاثة أذرع، وله أخفاف من الجلد الأسود البلغارى، ومن فوق الخف خف آخر، يقال له السقمان.

ولم يزل هذا زيهم إلى سنة ثمانية وأربعين وستمائة، فأدخل المنصور قلاوون فيه بعض تحسين. ولما كان زمن الأشرف خليل صارت الكلوتة من الزركش والقباء من الأطلس، واتّخذت السروج والأكوار المرصعة، وعرفت بالأشرفية.

ولما ملك الناصر محمد بن قلاوون أحدث العمائم الناصرية، وكانت صغيرة وأحدث الأمير يلبغا العمرى الكلوتات الكبيرة، وعرفت باليلبغاوية. وأحدث الأمير سلار القباء الذى عرف بالسلارى، وكان قبل يعرف بالبغلطاق (وهو شبه المضربية).

وفى زمن السلطان برقوق عملت الكلوتات الجركسية، وهى كبيرة وفيها عوج، وكثر لبس الحياصة، وتأنّق فيها الأمراء والعسكر، وكان لها سوق مخصوص من أعظم أسواق القاهرة.

وفى زمن الناصر محمد وصلت قيمة الحياصة إلى ثلثمائة دينار - عبارة عن مائة وخمسين جنيها فى زماننا - وعملت من خالص الذهب، وكثيرا ما كانت ترصع بالجواهر، وكان السلطان يفرق منها كل سنة عددا وافرا.

ومما كثر استعماله فى زمانهم العنبر، حتى جعله النساء قلائد، فلا توجد امرأة إلا ولها منه قلادة، وعمل منه أهل الثروة الستور والمساند.

وكثر أيضا استعمال الفراء، وكانت من أعز الأشياء مدة الترك، وفى دولة الجركس جعل لها سوق، محل التبليطة من الغورية الآن، وكان يباع فيه السمور والوشق والقاقم والسنجاب.

وكذا كثر لبس الطواقى للصبيان والأجناد والنساء والجوارى، وكانت تصنع خضرا أو حمرا أو زرقا، وكانت تزيد على الرأس أولا سدس ذراع، ثم ارتفعت نحوا من ثلاثة أرباع ذراع فى زمن الناصر فرج، وكانت مدورة من أعلاها وأسفلها بفرو من السمور، وكانت من أشنع ما يرى.

وكما تغيرت فى زمنهم هيئة الملبس كذلك تغير المأكل والمسكن، فاستجد من الأطعمة ما لم يكن معروفا قبلهم، وسمّوها بأسماء من لغتهم.

ص: 138

[قصور الناصر محمد بالقلعة]

وتغالوا فى الأماكن، وبالغوا فى زخرفتها وزينتها، فبنى الناصر محمد بالقلعة عدة قصور بالحجر الأسود والأصفر من خارجها، وفى داخلها الرخام المشجّر بالصدف وأنواع الزينة، مرصعا بفصوص الذهب، وأبدع فى سقوفها، فكانت مدهونة باللازورد، محلاة بالذهب، وجعل فى جدرانها طاقات من الزجاج القبرسى الملون كالجوهر، والنور يخترق محالها من تلك الطاقات، فيرى له منظر عجيب.

وجلب إليها من الأقطار البعيدة أنواع الرخام، ففرش به أراضيها، وجعل فيها البساتين البهيجة، وفيها محلات للحيوانات الغريبة، وساحات للحيوانات الداجنة.

وأجرى إليها الماء من النيل بواسطة دواليب بعضها أعلى من بعض حسب ارتفاع الأرض على المسافات، تديرها البقر، يوصل كل ماءه إلى أعلى، حتى يصل الماء إلى مقره من القصور وبيوت الأمراء. فكان ذلك من أعجب الأعمال إذ الماء يرتفع من النيل إلى القلعة فى أزيد من خمسمائة ذراع. وكان من أبهجها القصر الأبلق - محل الطوبخانة الآن - مشرفا على الاصطبل وسوق الخيل (حيث الرميلة الآن) آخذا فى الارتفاع، بحيث كانت ترى منه القاهرة وضواحيها، والجيزة وقراها.

‌ولائم إتمام الدور

ولما تم بناء هذا القصر سنة أربع عشرة وسبعمائة عمل فيه السلطان وليمة حضرها جميع الأمراء وأهل الدولة، فأفاض عليهم الخلع السنية، وحمل إلى كل أمير من أمراء المئين، ومقدمى الألوف ألف دينار، ولمن بعدهم كل خمسمائة دينار، وبلغت النفقة عليها ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم.

وقد بنى أيضا قصرين محل جامع السلطان حسن لأميرين من أتباعه على نفقته، بلغت النفقة على أحدهما أربعة ملايين وستين ألف درهم. (عبارة عن مائتى ألف جنيه وثلاثة آلاف جنيه)، وبنى غيره من الأبنية ما يفوق الوصف.

ولو أطلقنا عنان القلم فى ذلك لطال الحال، فانظر إلى ما كان عليه هؤلاء من السعة والدعة، وقد أبادهم الدهر وما صنعوا، حتى لم يبق من آثارهم إلا ما لا يذكر.

وكذا بنى أمراؤهم ما يقارب أبنيتهم، مثل اليحياوى اليوسفى، مملوك الناصر بن قلاوون فإنه بنى دارا بقصبة رضوان صرف على بوابتها فقط مائة ألف درهم (عبارة عن خمسة

ص: 139

آلاف دينار)، ولما مات أسكنها الناصر ابنته، وعرفت بالدار القردمية، ومحلها الآن بيت رضوان كتخدا. وكذا بكتمر الساقى صرف على بناء قصره نحوا من ألفى ألف درهم (عبارة عن مائة ألف جنيه)، ومحله الآن ورشة الحوض المرصود، وكذا بشتك صرف على قصره الذى بناه مقابل قصر البساسيرى بالنحاسين - وبعضه باق إلى الآن - ما لا يحصى، وكان ارتفاعه نحوا من أربعين ذراعا كما تقدم.

وكانت العادة أن السلطان أو الأمير إذا أتم بناء دار أولم، ودعا الأمراء والأعيان، وخلع الخلع الغالية، وفرّق النقود، وأكثر من الهبات، كما فعل الناصر عند بناء القصر الأبلق، كما قدّمنا.

وكذا الأشرف خليل حين أتم قصره المعروف بالأشرفى سنة اثنتين وتسعين وستمائة صنع مهما لم يصنع نظيره فى الدولة التركية، وختّن أخاه الملك الناصر وابن أخيه الأمير موسى ابن الصالح، واحتفل فى ذلك الختان احتفالا زائدا، وجمع كافة أرباب الملاهى والمغنين، وأعطاهم ما يقصر عنده العطاء، فأعطى البلبل المغنى وحده ألف دينار.

ولما اجتمع الأمراء وقاموا للرقص - وكانت تلك عادة فيهم من عادات المغول - أمر السلطان الخازندار، وكان واقفا، وبين يديه أكياس الذهب، بأن ينثر على رؤوسهم الذهب، فلم يزل كذلك كلما قام واحد ينثر على رأسه، حتى فرغ الختان، وأنعم على كل أمير بفرس كامل القماش، وألبسه خلعة عظيمة، وأعطى كثيرا منهم كل واحد ألف دينار وفرسا، وأعطى ثلاثين من الخاصكية كل واحد خمسة آلاف دينار. وبلغ ما ذبح من الغنم ثلاثة آلاف، ومن البقر ستمائة، ومن الخيل خمسمائة. وصرف من السكر برسم المشروب ألف وثمانمائة قنطار، وبرسم الحلوى مائة وستون قنطارا، وبلغت النفقة على الأسمطة والمشروبات والأقبية والطرز والسروج وثياب النساء ثلثمائة ألف دينار.

وهكذا كانت احتفالاتهم فى التزويج والختان، فقد ذكروا أن الملك الناصر، حين زوّج ابنه «أنوك» بابنة «بكتمر» الساقى، عمل مهما من أعجب ما يرى، وحمل الشوار على ثمانمائة جمل، بيّن المقريزى كلاّ وما حمل.

[الأسمطة والمأكولات]

وكان من عادات السلاطين أن يمدوا الأسمطة طرفى النهار لعامة الأمراء، فيمد أولا سماط لا يأكل منه السلطان، ثم يمد ثان ويسمى الخاص، فتارة يأكل منه وتارة لا، ثم ثالث ويسمى «الطارى» ، ومنه مأكول السلطان

هذا أول النهار، وأما آخره فيمد سماطان

ص: 140

دائما، وإذا دعا بالثالث حضر، وإلا فلا. ويؤكل جميع ما عليها، ويفرق نوالات، ثم يفرق بعده الأقسماء المصنوعة من السكر، والأفاويه المطيبين بماء الورد المبردة بالثلج وكان يجلب الثلج من السواحل الشامية.

وكانت العادة أن يبيت فى كل ليلة بالقرب من السلطان أطباق فيها أنواع من المطجنات والبوارد والفطير والقشطة والجبن المقلى والموز والسكباج، وأطباق فيها من الأقسماء والماء البارد، برسم أرباب النوبة فى السهر حول السلطان، ليتشاغلوا بالمأكول والمشروب عن النوم، ويكون الليل مقسوما بينهم ساعات، فاذا انتهت نوبة جماعة نبهت التى تليها ثم ذهبت هى فنامت إلى الصباح، هكذا أبدا سفرا وحضرا.

وبلغ مصروف سماط عيد الفطر زمن الناصر خمسين ألف درهم (عبارة عن ألفين وخمسمائة دينار)، وكان يعمل فى سماط الظاهر برقوق كل يوم خمسة آلاف رطل لحم، سوى الأوز والدجاج، وكان راتب المؤيد شيخ كل يوم ثمانمائة رطل. وسماط الأشرف برسباى بكرة وعشية ستمائة رطل.

[العمائر الخاصة فى القاهرة]

ولا يخفى أن بين كل مملكة وعاصمتها ارتباطا ونسبة، فعلى قدر ما يكون حال المملكة سعة وثروة، يكون أمر عاصمتها عمارة وبهجة ونظاما وحال أهلها غنى ورفاهية، وقد علم أنه من وقت أن جلس السلطان صلاح الدين على تخت مصر أخذ فى توسعة نطاقها، فألحق بها اليمن والنوبة وغيرهما، وبما كان له من السطوة والهيبة، وعلو الشأن، عظّمه ملوك الإفرنج وهابوه، مذ جلاهم عن أرض القدس وسواحل الشام، وانتصر عليهم بعزماته فى غزواته، وراسله خلفاء بنى العباس، وهاداه ملوك الأطراف، فاتسعت إذ ذاك دائرة الديار المصرية. ولميله إلى العدل، وحب الخير عمر الإقليم، وانتظم معاش أهله، وانتشر الأمن فى أنحائه، فحجّه أصحاب الأغراض، وقصده العلماء وأرباب الحرف والصنائع، وجلب إليها التجار ما غلا من البلاد القاصية والدانية، فبلغت النهاية فى الغنى والعمارة، حتى لم يبق من الرحاب التى كانت زمن الفاطميين على سعتها شئ إلا بنيت فيه الدور وغيرها من الأبنية، ثم أخذ الناس يبنون خارجها، كجهة المحجر والصليبة، وباب الخرق وشاطئ الخليج، بل أوسعوا المدى إلى مصر العتيقة وجزيرة الروضة ودير الطين والأثر، وكذا بنوا فى الرمال التى حدثت بعد بستان التكة وبستان المقس.

ص: 141

ولم تزل تمتد، إلى أن زالت دولة الأكراد، وقامت بعدهم دولة الأتراك وأولهم أيبك التركمانى، فلم يعتر سير العمارة فتور، بل لم تزل تزداد، حتى عمرت جهة الحسينية، وباب اللوق، وحكرت بعض البساتين.

وكذا استمر سير العمارة فى دولة الجراكسة بعدهم، وحصل بها كثير من الرونقة والتحسين، وحدثت القباب الجركسية العظيمة، والقاعات المصرية، فبنى السلطان حسن قاعة البيسرية، وأتمها سنة تسعين وسبعمائة، وكان ارتفاعها عن وجه الأرض ثمانية وثمانين ذراعا، وعمل بها برجا لمبيته من العاج والآبنوس المطعم، وبابا ينزل منه إلى الأرض كذلك، وقبة بعقد مقرنص قطعة واحدة يكاد الناظر إليها أن يندهش حسنا، وجعل شبابيكه ودرابزينه وشرفاته من الذهب الخالص. وأما ما جعل فى هذه القاعة من نحو الفرش والآنية فشئ لا يحصره القلم، فمن ذلك تسعة وأربعون ثريا برسم وقود القناديل، جملة ما فيها من الفضة المضروبة مائتان وعشرون ألف درهم، وكلها مطلية بالذهب.

وعمر الصالح عماد الدين اسماعيل بن محمد بن قلاوون الدهيشة سنة خمس وأربعين وسبعمائة لما بلغه أن الملك المؤيد صاحب حماة عمر بها دهيشة لم يبن مثلها، فقصد محاكاته وبعث بجيج المهندس مع بعض الأمراء للنظر فى دهيشة حماة، وكتب لنائبى حلب ودمشق أن يحملا على الجمال ألفى حجر أبيض ومثلها أحمر، فأرسلت إلى قلعة الجبل، وصرف على كل حجر من دمشق ثمانية دراهم، ومن حلب اثنى عشر، واستدعى لها الرخام العجيب، وأحضر له برعة الصناع، وبلغ مصروفها خمسمائة ألف درهم، سوى ما جلب من الجهات المتقدمة وغيرها، وفرشها بما يجل وصفه من أنواع الفرش.

وكذا عمر الناصر بن قلاوون سبع قاعات تشرف على الميدان وباب القرافة أسكنها سراريه، وكنّ ألف وصيفة، ومائتين من المولدات، ومن غيرهن كثير.

وكذا بنى الأشرف خليل الرفرف مشرفا على الجيزة كلها، وبيّضه وجعل فيه صور الأمراء والخواص، وعقد له قبة على العمد، وزخرفها بأنواع الزينة، وجعله مجلسا له، وجلس فيه من بعده من السلاطين، إلى أن هدمه الناصر بن قلاوون.

[عمارة المساجد والمدارس]

ولما تغيرت هيئة المبانى الخاصة - كما علمت - تغيرت هيئة المبانى العامة، كالمساجد والمدارس.

فإن المسجد أولا، إنما كان عبارة عن مكان مفروش، مبنيا بالطوب جما، بلا منارة ولا منبر ولا محراب، مفروشا بالحصباء والرمل، فجعلوه من أفخم الأبنية وأرفعها، وبنوه

ص: 142

بالأحجار الضخمة، وزيّنوه بأنواع الزينة داخلا وخارجا، وجعلوا له الشرافات والمنارات البديعة، وأحدثوا القباب الرفيعة، وتغالوا فى نظامها وزينتها، خصوصا أيام الناصر، وأحدثوا المحاريب، المطعمة بالصدف والعاج والآبنوس، والأعمدة الممنطقة بالفضة، واللواوين الواسعة.

وقد كان المؤذن سابقا ينادى بالأذان على سطح المسجد، ثم بنيت له غرفة يؤذن فيها، ثم أخذوا فى تحسينها، حتى جاءت كهيئة مئذنة ابن طولون، سلمها محيط بها من الخارج، ثم جعلت زمن الأكراد كالهيئة التى بجامع الجاولى والمدرسة المسعودية (التى هى الآن تكية المولوية، ويسميها الناس المبخرة)، ثم كانت فى زمن المماليك من أفخر المبانى على الهيئات التى تراها فى مسجد السلطان حسن، وبرقوق.

وكذلك اعتنوا ببناء المدارس والمدافن والخانقاه، وذلك لعلو شأنهم، وسعة نطاق ملكهم.

وبالجملة، فقد كانت همتهم مصروفة إلى العمارة، وتوسعة دائرة المملكة. وقد أفرد الناصر ديوانا للأبنية، وجعل مقرره كل يوم اثنى عشر ألف درهم، فحذا حذوه الأمراء والتجار، حتى ازدحم خارج مصر بالمبانى، وكثرت المدارس والمكاتب، وامتلأت بطلاب العلوم.

ولالتفات السلطان والأمراء إلى العلماء والإغداق عليهم بالهبات، وتقليدهم الوظائف السامية، والرتب العالية، كالوزارة، ونظارة بيت المال، ونظارة الخاص، وكتابة السر، والقضاء والشهادة، وغير ذلك، اجتهدوا فى توسعة المعارف، وتفننوا فى العلوم، حتى كانت مصر من أوسع الكرة الأرضية ذكرا فى ذلك.

[اتساع القاهرة]

ولما اتخذ الناصر ميدانا بقرية منية الشيرج، يسرح إليه فى أيام معلومة، كان يعتنى بها الأمراء وأرباب الدولة، فصنع بها ما لا يوصف، وزرع بها البساتين المعجبة، وأحضر إليها البساتينية من الشام، حتى عادت كأحسن مدينة عامرة، وصنع بقربها الخانقاه، عند قرية أبى زعبل، وخصص لها الرواتب الزائدة، واعتنى بأمر الفقراء الذين بها، وصارت بعد قليل قريتها من أعمر الأماكن، وبنيت بها المدارس والمساجد، وكثرت بها الأسواق، وشحنت بالمتاجر.

ص: 143

وكان النيل انحسر عن أرض اللوق والتكة، ولحق الناس ضيق، لبعده عن القاهرة، فأمر بحفر الخليج الناصرى، لينتفع به أهل القاهرة، وليحمل فيه الغلال إلى منية الشيرج والخانقاه، وأوصله بالخليج الكبير - كما مر ويأتى توضيح ما ذكر - فعمر الناس جوانبه، وصارت من أبهج الأماكن.

وكذا عمر الناس بولاق، وجزيرة أروى، وقد قدّمنا محلهما. واتصلت مبانى تلك الجهات بعضها ببعض، فعظمت القاهرة، وزادت سعتها إلى غاية عظيمة.

[شغف المماليك بالخيل]

وأنشأ أيضا بمصر الميدان الكبير - وبعضه باق أمام القصر العالى - وكان يعرف فى أول زماننا بميدان النشاب، وأنشأ أيضا ميدان المهارة (محل جنينة المرحوم محمد باشا وهبى) لتربية المهارة لشغفه بالخيل، فقد ذكر المقريزى أنه مات عن ثمانمائة وأربعة آلاف فرس، وخمسة آلاف هجين، ونوق أصائل مهريات وقرشيات، وكان أكثر ميله إلى الخيل العربية عكس أبيه، فإنه كان يفضل عليها خيول برقة، وجلبت إليه التجّار الخيول من البحرين والحسا والقطيف والحجاز والعراق وغيرها، وكان يعطى فى الفرس الواحد من عشرة آلاف درهم إلى ثلاثين ألفا، ويدفع فى الواحد من خيول «آل مهنا» ستين ألف درهم وأكثر إلى مائة ألف.

ولم ينقطع فى زمنه السباق، فلما مات بطل، إلى أن أعاده السلطان برقوق، وكان له أيضا رغبة فى الخيل، حتى مات عن سبعة آلاف فرس وخمسة عشر ألف جمل وهجين، وكان لجلبه الخلع والرواتب والمسامحات، وكان يشترى الفرس بأعلى من قيمته إلى عشر مرات، غير العطايا.

وكانت الخيول السلطانية تفرق على الأمراء مرتين فى السنة: الأولى عند خروج السلطان إلى مرابط الخيل عند تمام الربيع، والثانية عند لعبه بالكرة فى الميدان.

وكان للخاصة المزايا من ذلك، فربما وصل إلى أحدهم فى السنة مائة فرس. ويفرق على المماليك فى أوقات أخر، بل كان يهب السلطان للخاصة القصور والبيوت الغالية.

وكان لهم مع الملك عادات فى الحضور بين يديه، فمنها أنهم إذا حضروا للخدمة بالديوان أو القصر، وقف كل أمير فى مكان خاص به، ولا يجسر أحد أن يتكلم مع غيره، بل لا يلتفت إليه، وكانوا أيضا لا يجتمعون مع بعض فى أوقات النزهة، أو رمى النشاب، وإذا بلغ السلطان أن أحدا منهم خالف تلك العادة، عاقبه بالنفى، أو القبض.

ص: 144

[انحراف المماليك وسقوطهم]

وبقوا على عاداتهم ورسومهم، صارفين هممهم إلى توسيع دائرة العمارة واليسار، آخذين فى أسباب بقاء ملكهم، حتى دبّت فيهم عقارب الحسد، وجرت بينهم مياه الضغائن، وأثّر فى قلوبهم حبّ الطمع والتعالى، فأبطل كل ما أحكم الآخر ونقض ما أبرمه، فتفرّقت كلمتهم، ونقضت عهودهم، وساءت سيرتهم، وصاروا أحزابا، رأس كل فريق صاحب غاية ذاتية، يفضلها على المنفعة الحقيقية، التى هى المنفعة العامة، من حفظ الحقوق، ورعاية الواجبات، واتباع الشرائع، والسير مع حدود الشرع والقانون المعتبر، واقتفاء أثر الملوك السالفين، فيما سنّوا من طريقة كانت سببا لعلوّ شأنهم، وانتشار صيتهم، وخوف من جاورهم من الملوك منهم، والاحتماء بحماهم.

فلتفضيلهم الذاتيات على الحقائق، وانحرافهم عن طرق الاستقامة، انكسف نور سعادتهم وتورطوا فى أوحال شقائهم، وهوت بهم رياح الجهالة، فأصبحوا بلا عدّة تحفظهم، ولا قوة تمنعهم، ولا قانون يردعهم، فطمع فى ملكهم من كان يفزع من اسمهم، وتطلع إلى ابتلاعهم من كان يموت من هيبتهم، فدسّوا الدسائس فى عصبياتهم، وأشعلوا نار الفتن فى رؤوسهم، فبغى بعضهم على بعض، وثارت بينهم الحروب المتفاقمة، وتقاتلوا فى حارات القاهرة وضواحيها. وعمّ الفساد فى البلاد، قاصيها ودانيها، فحرموا اللذات، وساءت بعد الحسن منهم الحالات.

ولم يزالوا على ذلك؛ إن هدأوا عاما قاموا أعواما، حتى عمّ الضرر جميع القطر، وحاق بأهله ما لا يوصف من الفقر والضرّ، وتوالت الغلوات والأمراض، وتعاقب الوباء، وأهمل أمر الرى وتوزيع المياه، فطمت الترع والخلجان، فلم تصل المياه إلى المزارع، وخيفت السبل، وسلب الأمن، وبلغ الغاية فى الشدة زمن السلطان فرج، فذهبت ثروة البلاد بالكلية، فهاجر الكثير من سكان القطر إلى الشام والحجاز والمغرب وغيرها، وتركوا دورهم، ومستقرهم، فعادت مساكن بوم وغربان، بعد أن كانت رياض أنس ومراتع غزلان، وآلت إلى ما ترى فى أنحاء القطر من الكيمان، ولم يقدر من أتى بعدهم على إرجاعها لأصلها، بل لا يستطيع نقلها من مكانها، لما سيتلى عليك بعد.

ص: 145

‌حال القاهرة فى أيام الدولة العلية العثمانية

لما انقرضت دولة المماليك، بموت السلطان الغورى، ثم السلطان طومان باى، واستولت على مصر الدولة العلية العثمانية، كانت القاهرة - مع ما كان قد أصابها من التغير والحوادث - على جانب من الاتساع والعمارة، بسبب أنها كانت عاصمة مملكة عظيمة، تمتد أطرافها إلى الجهات الشامية، والأقطار الحجازية، وجزء عظيم من بلاد سواحل البحر الأحمر كمصوع وسواكن، وجميع بلاد النوبة، وبرقة على البحر المتوسط، فكانت المتاجر ترد إليها من كل جهة، وتصدر عنها إلى جهات كثيرة، وكذلك الصنائع والعلوم، وذلك من دولة الفاطميين، إلى آخر دولة المماليك. ولم تعقها الفتن والحوادث المهمة عن الاتساع والتقدم، بل كان ما يتخرب بالفتن ونحوها يتعوض، فكانت العمائر فى تلك الأزمان من ضواحى المطرية ومنية الشيرج، إلى دير الطين، ومن شاطئ النيل إلى الصحراء، كما سبق بيانه.

فلما زال عنها الاستقلال، وتوالى عليها محن كان بها الاضطراب والفتن والاختلال، وأورثها ذلك نقصا فى عزّها، ووهنا فى ثروتها، وسرى هذا الحال إلى باقى بلاد القطر بسوء تصرف العمال، وسير كل منهم على حسب ما سولت له نفسه، فكان كل ذى صولة يجد فى تحصيل أطماعه، من غير التفات إلى ما به عمارة البلاد وسعادة الأهالى.

ومن كثرة الحروب، وتعاقب الأهوال لم يتمكن الفلاحون من زراعة الأرض، ولا من أعمال الطرق التى بها ريّها؛ من إحكام الترع والقناطر والجسور، فكانت الأرض تارة تبور، وتارة تظمأ، وفسد كثير منها، فصار غير صالح للزرع، وبسبب ذلك كثر الغلاء، والقحط والوباء، والأمراض، وانتقل كثير من سكان العاصمة وغيرها.

ولتعاقب ذلك بحيث لا تمضى أربع سنين أو خمسة، إلا بشئ من تلك الأهوال، تخرّب جزء عظيم من العاصمة، ومن مدن الأرياف.

ص: 146

وليس الغرض الآن تفاصيل تلك الحوادث، ومن أراد الوقوف على ذلك فعليه بما أسهب به العلامة الجبرتى وغيره فى هذا الشأن، وإنما القصد ذكر بعض مهمات الحوادث، ليعلم القارئ كيف كانت سياسة العمال للرعايا، ليعرف أسباب العمارة والدمار.

***

‌دخول العساكر العثمانية أرض مصر

وأول حادثة تستحق الذكر هى حادثة دخول العساكر العثمانية فى مصر بعد موت السلطان الغورى، وذلك أنه لما تولى المملكة السلطان طومان باى، والفتن قائمة بين مصر والدولة العلية، لم يقم غير قليل، وحضرت العساكر العثمانية سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، واشتعلت نيران الحرب بينهم وبين عساكر طومان باى، فكانت فى جهة العباسية، ثم صارت فى بولاق، ثم جهة القصر العالى وباب اللوق وجهة السيدة زينب رضي الله عنها، وفى مصر العتيقة والصليبة، وقره ميدان والرميلة وحدرة البقر، فتخرب لذلك كثير من المساكن والقصور الفاخرة، والبساتين النضرة، وجامع شيخون، وجامع طولون، وعدة جوامع، ومساجد وزوايا. وصارت القتلى مطروحة فى الطرقات والشوارع والحارات، من العباسية إلى بولاق، إلى مصر العتيقة، إلى الصليبة، إلى القلعة.

ولم تخمد نيران الحرب إلا بعد هروب طومان باى، وكانت مدتها أربعة أيام، قتل فيها نحو من عشرة آلاف نفس.

ولما تم الأمر للعثمانيين، واستولوا على مصر، أخذوا يفتشون على أمراء الجراكسة، فكل من وجدوه منهم قتلوه، ونهبوا منزله، حتى فنيت عدة من أمراء البلد، وتخربت منازلهم، ومكث السلطان سليم بالديار المصرية ثمانية شهور يرتب أمورها، ويمهد قواعدها، ثم رحل عنها إلى القسطنطينية بغنائم كثيرة، وعدد عديد من أرباب الصنائع وغيرهم.

واستصحب معه أيضا المتوكل على الله العباسى، الذى كان خليفة بمصر حينذاك، بعد أن استنزله عن الخلافة فخلع نفسه منها، وتنازل عن حقوقها، وفوّض أمورها إلى السلاطين من آل عثمان.

وأبقى السلطان ما كان مقررا للحرمين الشريفين والمساجد والأضرحة والأرامل والأيتام والفقراء، وغيرهم من الأوقاف والأرزاق والخيرات، بل زاد فى ذلك، ورخّص باستخدام من بقى من المماليك، وقرّر من القوانين والنظامات ما رأى أنه يترتب عليه استمرار التبعية للسلطنة، واستقرار الأمن والراحة والرفاهية للرعية لو بقى ذلك مرعى الإجراء.

ص: 147

‌ذكر ما وقع بمصر من الحروب والشدائد أيام ولاية الباشاوات

لكن لم يمض غير تسع سنين، حتى قامت العساكر على أحمد باشا، الوالى إذ ذاك، ومن معه بسبب أنه رغب فى الاستقلال، وتجاهر بالعصيان، فحصل بينه وبينهم مقتلة عظيمة فى الرميلة وما جاورها، وحاصروه فى القلعة، حتى قتلوه.

وانقضت تلك الحادثة بخراب بعض ما جاور الرميلة، ثم تولى بعده عدة ولاة، اهتم بعضهم فى عمارة بعض الجوامع، وبنى بعضهم وكاثل فى القاهرة وبولاق، وبنى داود باشا مدرسة فى سويقة اللالا سنة خمس وخمسين وتسعمائة، وبنى اسكندر باشا جامعا وأنشأ عمارة عظيمة فى باب الخرق، وقد زال كل ذلك وصار ميدانا كما قدّمنا.

وكذا سنان باشا أنشأ جامعا وعمارة جليلة فى بولاق وفى غيرها، ووقف كل منهم أوقافا دارة على عمارته، لأجل بقائها عامرة، لكن كان عادتهم أن كل من أراد وقف شئ أخذ من وقف غيره ووقفه باسمه، أو نهب ما بأيدى الناس ووقفه، فلذلك لم تستمر بعدهم، بل أخذت تلك الأوقاف فى التقهقر والخراب، حتى صارت بعضا من كل، وقلّ إيرادها، فاختل لذلك بعض تلك العمائر.

ولانحلال عرى الضبط والسياسة، اختل حال الرعية، وقلّ الأمن، وكثرت اللصوص وقطاع الطريق، وأهل الفساد فى سائر جهات القطر، حتى صاروا يدخلون البلاد للنهب جهارا ليلا ونهارا بلا مبالاة، لانتماء رؤسائهم إلى الأمراء. وكانت الحكام تكثر من الأوامر والتشديدات، بلا ثمرة ولا تأثير فى ردع المفسدين، إلى أن تولى مصر مسيح باشا فى سنة سبع وثمانين وتسعمائة، فتصدى لكسح المفسدين، وإزالة أهل الشر، فقبض على نحو عشرة آلاف منهم وقتلهم.

وفى زمن حسن باشا الخادم كثرت الرشوة للحكام، واتسع نطاقها حتى صارت أمرا معتادا يستحصل عليه بدون مبالاة.

وجعل همه فى جمع المال، فكان يحتال بكل وسيلة لتحصيله، لا يراعى حلا ولا حرمة ولم يكن له أثر قط يذكر به إلا تغيير زى اليهود والنصارى، فألبس اليهود الطراطير السود، وألبس النصارى البرانيط السود، وكان زى النصارى قبل ذلك العمائم السود، وزى اليهود العمائم الزرق.

وفى سنة أربع وتسعين وتسعمائة، قامت العساكر على الوالى عدة مرات، وعارضوه فى أوامره، ورفضوا طاعته، وأوقعوا السلب والنهب بالتجار والأهالى، واستمرت الفتن

ص: 148

وفى زمن محمد باشا الشريف سنة أربع بعد الألف، حصلت محاربات فى الرميلة وباب الوزير، وكذا فى زمن خضر باشا سنة سبع بعد الألف.

***

‌مطلب حدوث شرب الدخان بمصر وبعض مفاسد الولاة الأتراك

وفى زمن على باشا فشا شرب الدخان بمصر، ولم يكن معروفا بها قبل ذلك.

وفى سنة اثنتى عشرة بعد الألف، قتلت العساكر إبراهيم باشا الوالى، وصارت الحكومة فوضى، لا رئيس لها، فحل بالناس كل مكروه، وتعطل السفر برا وبحرا، لقيام الأشقياء من العرب والفلاحين، وحل بالقاهرة من القحط والغلاء والوباء، ما تسبب عنه خراب كثير منها.

وازداد الفساد فى سنة ست عشرة بعد الألف، وحصلت فى بركة الحاج حروب، بين عساكر الوالى والعساكر القائمة مع الأمراء العصاة، وفى كل وقعة تغتنم العرب فرصة النهب والسلب، وبعضهم يفرّ فى جهات الأرياف، والبعض ينتمى ظاهرا إلى إحدى الطائفتين واتسع نطاق فسادهم، وتقاسموا الأقاليم القبلية والبحرية.

وفى سنة سبع وعشرين وألف، حضر من الآستانة أربعة آلاف عسكرى أبعدتهم الدولة عن مقر الحكومة، لأنهم كانوا أثاروا بها الفتن، وأنفذت لوالى مصر أن يبعث بهم إلى اليمن عند حلولهم بديار مصر، فلما أراد الباشا إرسالهم إلى تلك الجهة وشرع فى تجهيزهم، قاموا على قدم العصيان، وقفلوا باب الفتوح وباب النصر، وعملوا متاريس بالطرق والشوارع، واستولوا على كثير من المنازل، ووصلوا بعضها ببعض، فوجه إليهم الباشا العساكر المصرية، ووقع بين الفريقين القتال عدة أيام، حتى انتهى بخراب جهة الجمالية والخرنفش وباب الشعرية والحسينية وما جاور ذلك، واستمرت الفتن بين العساكر إلى سنة خمس وثلاثين بعد الألف، بما يتخلل ذلك من الغلاء، كالغلاء الفاحش الذى حصل فى زمن إبراهيم باشا السلاحدار، فقد لقى الناس فيه هولا شديدا.

وفى سنة سبع وثلاثين وألف. زمن الوزير محمد باشا عين العساكر للسفر إلى بلاد الحبشة صحبة الأمير قانصوه، فعسكروا بالعباسية، وجعلوا يخطفون الأولاد والبنات ويفتكون بالمارين، ويسلبون وينهبون، حتى انقطعت الطرق، وضاق ذرع الناس، وحل بهم الكرب من كل مكان، ولم يجدوا مغيثا.

ص: 149

ولم تكن المصائب مقصورة على ما يحصل من العسكر والعرب، بل كثير من الأمراء كان لا فكرة له إلا فيما يجلب به الضرر للناس وجمع أموالهم، كما فعل أحمد باشا الذى كان يلقّب برامى النحاس، فإنه جلب نحاسا كثيرا، وأراد عمله فلوسا، فأنشأ بحوش بردق الوجاقات، ووضع المسابك، وجمع الصّنّاع، فلم يتحصل على ما كان يؤمل منه من الفائدة، فرماه على التجار، وسائر أرباب الحرف والطوائف، فلحق الناس من ذلك ما لا مزيد عليه من الضنك والشدة، ثم قامت عليه العساكر وعزلوه.

وكان أكثر الحكام يقرر الرشوة على الناس، ثم يستعملها من بعده، حتى تصير كأنها حقوق ثابتة.

ولما تولى منصور باشا حاكما على مصر سنة اثنتين وخمسين وألف كانت عدة أنواع الفرض والبلص اثنين وثلاثين نوعا، منها عشر البن، ومنها ما هو على البغايا وأولاد الهوى، وما هو على المغنيات، ونحو ذلك.

***

‌مطلب وقعة الصناجق

واستمرّ هذا الحال، إلى أن دخلت سنة إحدى وسبعين وألف، فحصلت وقعة الصناجق وهى وقعة هائلة، انقسمت فيها الأمراء أحزابا، واشتعلت نيران الحرب فى شوارع القاهرة وضواحيها، وامتدّ ذلك إلى الأقاليم القبلية، وجهّز فيها الباشا الوالى عدة تجاريد، حتى انتهت بقتل أغلب الأمراء الفقارية نسبة إلى رئيسهم ذى الفقار، وذهبت صولتهم.

وفى إثر ذلك - سنة أربع وسبعين - كان والى مصر عمر باشا، فاهتم بجمع السلاح من كافة البلاد.

‌مطلب وقعة الزرب

وكانت الضغائن كامنة فى نفوس من بقى من الفقارية، وفى كل وقت يرتقبون انتهاز فرصة الانتقام من أخصامهم، طمعا فى رجوع صولتهم، وما كانوا عليه من النعيم، فلم يمض غير قليل حتى حصلت وقعة الزرب، وهم قوم حضروا من الشام، أغلبهم أروام ودروز، فانخرطوا فى سلك العسكرية، ووصل بعضهم إلى المناصب السامية، وانضموا إلى محمد بيك حاكم جرجا، وصاروا أنصاره، وأخذوا فى الظلم والإيقاع بالناس، وأكثروا من النهب والسلب، وكانوا يقتلون النفس على أقل سبب، فرفع الناس شكواهم إلى الوالى،

ص: 150

فزجرهم فلم ينزجروا، بل زادوا فى الطغيان، وفتكوا بالناس، وتجاوزوا حدود الله، وخرجوا عن طاعة الله ورسوله وأولى الأمر، فاضطر الوالى لمحاربتهم، فأعدّ لهم ما استطاع من القوة، ووجّه عليهم المدافع، وكانوا قد تحصنوا بجامع المؤيد، فحاصرهم فيه، وقاتلهم قتالا شديدا، مات فيه خلق كثيرون، وخربت عمائر كثيرة فى السكرية والداودية، وقصبة رضوان، والدرب الأحمر، وتحت الربع، وما جاور ذلك، ثم بعد معاناة شديدة أخذوا وقتلوا، واكتفى الناس شرهم.

ثم تبع ذلك فى سنة إحدى وثمانين بعد الألف حريق هائل فى جهة باب زويلة، واستمر أياما حتى مات فيه خلق كثيرون، وتخرب فيه غالب عمائر تلك الجهة.

***

‌ولاية على باشا قلج

ولما دخلت سنة اثنتين بعد المائة والألف كان الفساد قد بلغ منتهاه، وانتشرت العرب للفساد فى كل جهة، وكان الحاكم إذ ذاك على باشا قلج، فعجز عن ردع المفسدين وتأمين الرعايا، وتسبب عن ذلك انقطاع ورود الغلال إلى الشون السلطانية، وخلت الخزينة من الأموال، فلم يتمكن من صرف مرتبات الحرمين ولا غيرهما، كجهات الأوقاف، والعلماء والأشراف والأيتام والأرامل.

وكان قد اتسع نطاق الحمايات وكانت عادة، اتخذها العسكر من قديم، فكثرت فى تلك المدة، فكان كل طائفة من العسكر تأخذ فى حمايتها حملة من التجار أو المزارعين، أو الملاحين فى البحر، فيقتسمون مع الناس أرباحهم، ويمنعونهم من أداء حقوق الحكومة، ولا يتمكن الحاكم من التعرض لأحد منهم. فلما تولى الحكم على باشا قلج بذل جهده فى إبطال الحمايات، حتى أبطلها، وحارب العرب، حتى قمعهم، وأفنى منهم الكثير، فهدأت الأمور، وأمن الناس على أنفسهم وأموالهم، لكن حصل من الغلاء والوباء ما فاقت شدته على تلك الحالة.

‌ولاية حسين باشا الوزير

وفى سنة تسع عشرة ومائة وألف كان الحاكم بمصر حسين باشا الوزير، وكان قد حجر على العساكر، ومنعهم مما كانوا يفعلونة، فضجوا من ذلك، وقاموا علية قومة واحدة وحاصروه بالقلعة، ونهبت البلد، وأغلقت الحوانيت والخانات، وتعطلت الأسواق.

وفى سنة اثنتين وعشرين ومائة وألف، حصلت من العسكر قومة أعظم من تلك القومة، وحاصروا الوزير خليل باشا، وانقطع المرور من طريق المحجر وعرب اليسار والرميلة،

ص: 151

والصليبة والدروب الموصلة إلى القلعة، واستمرت هذه الحادثة سبعين يوما، وخرب بسببها الدرب الأحمر والمحجر، وثمن قوصون وسوق السلاح، وخط الداودية والصليبة والسيوفية والخليفة، والعمارات التى كانت جهة القصر العينى، وبركة الناصرية، وما جاور ذلك إلى مصر العتيقة، وخط السيدة زينب رضي الله عنها.

وفى سنة خمس وعشرين ومائة وألف، فى زمن عابدين باشا، كانت وقعة القاسمية، وسببها أن الباشا تحزّب لهم، وأخذ فى إعمال الحيلة على قتل غيطاس بيك. وكان غيطاس بيك صاحب الحل والعقد يومئذ، وكانت العادة فى يوم العيد أن تعمل جمعية فى قره ميدان، فلما كان يوم عيد، وحصلت الجمعية وحضر غيطاس بيك، أغرى عابدين باشا بعض أتباعه من العسكر على قتله، فقتلوه، وقتلوا عدة من أمرائه وأتباعه.

[ولاية محمد باشا البستانجى ثم عبد الله باشا]

وتسامع الناس بذلك، فقام بقية حزبه، ووقعت معركة، خرب لأجلها حارات ودروب، ومات فيها عالم كثيرون، وصار بعدها الحل والعقد بيد القاسمية، بعد أن كان بيد الفقارية، ولم تنقطع الضغائن.

فلما كانت سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف كان الوالى على مصر محمد باشا البستانجى، فأخذ فى تعضيد الفقارية، إلى أن كان يوم فيه جمعية بالقلعة، فأغرى العساكر على الفتك بأمراء القاسمية، فوقع القتال بين الفريقين، ونزلوا إلى الرميلة، وامتد إلى جهة الصليبة، ودرب الحصر والمحجر وعرب اليسار، وخط الدحديرة، والدرب الأحمر، ثم وقع الصلح بين الفريقين على تقسيم الوظائف نصفين، وعزلوا الباشا.

وفى سنة اثنتين وأربعين حضر عبد الله باشا واليا، والضغائن لم تزل كامنة فى الصدور، فقام الفريقان يقتتلان، فانتصرت القاسمية على الفقارية، فتفرق الفقارية فى الأنحاء، وخرجوا من القاهرة، واستولى الأمراء على منازلهم، بما فيها من حريم وعيال وأمتعة.

وفى سنة اثنتين وخمسين ومائة وألف، قام الأمراء على الباشا، وتحصنوا بجامع السلطان حسن.

وفى سنة إحدى وستين قامت فتنة بين الدمياطية، وكان رئيسهم على بيك الدمياطى، وبين القطامشة، ورئيسهم إبراهيم بيك قطامش، وبعد حروب انتصرت الدمياطية على أخصامهم، فاحتاطوا بما لهم من الأرض والعقار، والأثاث وغيره.

ص: 152

‌مطلب استقلال على بيك الكبير بأمور مصر

واستمر الحال هكذا فى حروب وقتل ونهب إلى سنة تسع وسبعين ومائة وألف، فاستقل على بيك الكبير بأمور مصر، وعزل الباشا، وخلع طاعة الدولة، وقويت شوكته، وملك الحجاز والشام، وضربت السكة باسمه، ونفى الأمير عبد الرحمن كتخدا، صاحب العمارات الكثيرة الباقية عند الأزهر وغيره إلى الآن، وكان هو صاحب الحل والعقد، قبل على بيك الكبير.

[استيلاء محمد بيك أبو الذهب على الحكم]

فصفا الوقت لعلى بيك، إلى أن ثار عليه مملوكه محمد بيك أبو الذهب، صاحب المدرسة الباقية أمام الأزهر إلى الآن، فقام على سيده، واجتمع عليه أعداؤه، فوقع بين على بيك وبينهم محاربات، آلت إلى فرار على بيك إلى الشام، وصار الأمر لمحمد بيك أبو الذهب، فتحزّب مع على بيك كثير من أهل الشام، وانضم إليه جمع عظيم من المصريين الفارين والعرب، وساروا لمحاربة محمد بيك أبى الذهب، فوقع بينهم القتال جهة الصالحية، وانتهى بقتل على بيك، وانتهت الرياسة لمحمد بيك أبى الذهب، لكن لم تطل حياته.

***

[حكم مراد بيك وإبراهيم بيك]

ولما مات الأمير محمد بك أبو الذهب انفرد مراد بيك وإبراهيم بيك بالحل والعقد، وتصرفا فى أمور البلد، وأخذا فى التعدى على الأمراء وغيرهم، وتبيّن الغدر لبعض الأمراء، ومن جملتهم اسماعيل بيك، وكان صاحب عزّ وسطوة، وله مماليك وأتباع كثيرة، وظهر ذلك من سوء معاملتهم وخشونة كلامهم، فتبين للأمراء ما يراد بهم، فقاموا وقصدوا الخروج من المدينة، فلما علم بذلك إبراهيم بيك ومراد بيك، جمعا مماليكهما وحزبهما بالرميلة وقره ميدان، واستولوا على أبواب القلعة والبلد، وحصل بينهم وبين الأمراء الفارين مناوشات، انتهت بهزيمة رجال إبراهيم بيك ومراد بيك، فدخلوا القلعة، وحصّنوا أبوابها فحاصرهم الأمراء وضايقوهم أشد المضايقة، حتى ألجأوهم إلى الفرار، ففروا إلى الأقاليم القبلية.

وتمكن اسماعيل بيك من البلد، وتسلم زمام الحل والعقد، وعينه محمد باشا عزت الكبير الوالى من حينذاك شيخا للبلد، فقام من وقته ونهب بيوت الأمراء الفارّين، هو وأمراؤه

ص: 153

وأتباعه، وجهز التجاريد لمحاربتهم، فلما التقى الجمعان بالصعيد وقع بينه وبينهم وقعات آلت إلى انهزام عساكره، فولوا مدبرين، وعادت الأمراء القبلية فى إثرهم، وزحفت إلى القاهرة، ففر إسماعيل بيك بمن معه إلى الشام، ودخل البلد من كانوا فى الجهات القبلية، واستولوا على بيوت الأمراء المنهزمين ودورهم، وقسّموا من وجدوه منهم قتلا ونفيا وحبسا.

وخلا الجو لمراد بيك وإبراهيم بيك، فتصرفا فى البلد كيف شاءا، وزادا فى التعدى والظلم، فانقسمت أمراء مصر إلى قسمين؛ قسم يقال لهم المحمدية، نسبة لمحمد بيك أبى الذهب، وقسم علوية، نسبة لعلى بيك الكبير، وكل قسم يحقد على الآخر، ويتمنى هلاكه، ويتربص به ريب المنون، ووقع بينهم التحاسد والعدوان، وتسبّب عن ذلك فتن وحروب، دمرت البلاد، وأفسدت أحوال القطر، وعطّلت أرزاق أهله.

وأحس العلوية من مراد بيك بالغدر، فتجمعوا وتحصنوا فى حوش الشرقاوى، وصنعوا متاريس فى جهة بابى زويلة والخرق، وجهة السروجية، فدخل إبراهيم بيك القلعة، وتحصّن بها، ووجه المدافع على جهات العلوية، وتمادى يضرب عليهم بها اثنين وعشرين يوما، وعساكره تتثاقل على عساكرهم فى الحارات والدروب، وكل منهم يوصّل البيوت بعضها ببعض، ليتمكن من قتل عدوه، وانتهت تلك الحادثة بخراب هذه الجهات. ولهروب العلويين إلى الشرقية وغيرها اقتفى المحمدية أثرهم، وتسلّط عليهم العرب فقتلوهم عن آخرهم، ولم ينج منهم إلا القليل، ففر إلى الشام، ومن بقى أودع السجن.

وعزل محمد باشا، وتولى مكانه إسماعيل باشا، ولم تنقطع الفتن وتجهيز التجاريد، والمصادرات، وكثر الظلم والتعدى، ففر كثير من الأمراء، والتحق بإسماعيل بيك بالجهات القبلية.

وبعد حروب طويلة، حصل الصلح، على أن يعطى إسماعيل بيك إخميم وأعمالها، وحسن بيك قنا وأعمالها، ورضوان بيك إسنا وأعمالها، فتسلّم كل ما استقر عليه الرأى.

ولم يمض غير قليل، حتى انتقض الصلح، ورجعت الأمور إلى ما كانت عليه.

وفى سنة سبع وتسعين ومائة وألف اهتم إبراهيم بيك فى مصالحة القبالى، وكان ذلك فى زمن محمد باشا السلحدار، فرجع أغلبهم وأقام بمنزله، وكان ذلك على غير مراد «مراد بيك» ، فقام بعزوته، وخرج إلى بنى سويف، وقطع الوارد عن القاهرة، فلحق الناس ما لا مزيد عليه من الضنك والغلاء المفرط، وضاق ذرع الفقراء، وازداد ذلك أضعافا

ص: 154

لمّا حضر مراد بيك بجموعه إلى الجيزة، وعسكر إبراهيم بيك بجيوشه فى مصر العتيقة مقابلا لها، واستمر هذا الحال بهم عشرين يوما، وكان ضرب المدافع متراسلا بينهم فى تلك الأيام جميعها، واشتد الكرب بأهل المدينة، وخلت الرقع والأشوان من الغلال، وحاق بالناس كل مكروه.

وأخيرا حصل الصلح بين إبراهيم بيك ومراد بيك، فخاف أمراء حزب إسماعيل بيك عاقبة هذا الصلح لما تبين لهم من خيانة إبراهيم بيك، فهاجروا من مصر، فسابقهم عسكر إبراهيم بك ومراد بيك والعرب من خلف الجبل، فقطعوا طريقهم، وقتلوا منهم ما لا يحصى، وشتتوهم، ثم رجعوا، فاحتاطوا بأملاكهم، واستولوا على عيالهم وأموالهم.

ومذخلا الجو من إسماعيل بيك وعائلته لم يحصل اتفاق بين إبراهيم بيك ومراد بيك، بل زاد ظلم مراد بيك وتعديه هو وجماعته، وكثر منهم النهب والسلب والقتل، فقام إبراهيم بيك بعزوته إلى الصعيد، فعزل مراد بيك الوالى، وتصرف فى أمور البلد، بصفة قائم مقام، وأعطى رجاله ومماليكه المناصب السامية، وفرّق عليهم أملاك الفارين، وجرت بينه وبين إبراهيم بيك أمور لا خير فيها، فسعى بينهم المشايخ والأمراء فى الصلح، حتى تم ذلك.

***

‌الطاعون والغلاء سنة 1199

وفى سنة تسع وتسعين ومائة وألف عمّت البلوى بمصر من الطاعون، فكانت هذه الأيام ليس لها مثيل فى الشدائد، لما حصل فيها من الغلاء والفناء والفتن، وقصور النيل، وتواتر المصادرات والمظالم، وتعدّى الأمراء، وانتشار أتباعهم فى النواحى لجلب الأموال من القرى والبلدان، وإحداث أنواع المظالم لأى نوع كان، من تسمية البعض مال الجهات، والبعض رفع المظالم، وغير ذلك، حتى أهلكوا الحرث والنسل، وقل الزرع، وضاق الذرع، واشتد الكرب، وتشتت الفلاحون من بلادهم، فخربت أغلب بلاد الأرياف.

ومذ رأوا أنه لا فائدة فى الفلاّح، حولوا الطلب على الملتزمين، وبعثوا لهم فى بيوتهم، فاحتاج مساتير الناس لبيع أمتعتهم ودورهم ومواشيهم وحواشيهم، مع ما هم فيه من المصادرات الخارجة عن الحد، وتتبعوا من يشم فيه رائحة الغنى أيضا، فأخذوه وحبسوه، وكلفوه فوق طاقته أضعافا، ووالوا طلب السلف أيضا من تجار البن والبهار عن المكوسات المستقبلة.

ص: 155

وطمع إبراهيم فى المواريث، فكانوا إذا مات الميت يحيطون بمخلفاته، سواء كان له وارث أم لا، حتى صار بيت المال من جملة المناصب التى يتولاها شرار الناس بجملة من المال يدفعها فى كل شهر، وإذن لا يعارض فيما يفعل من الجزئيات، وأما الكليات فيختص بها الأمير، فيحل بالناس ما لا يوصف من أنواع العناء، حتى خرب الإقليم بأسره، وانقطعت الطرق، وعربدت أولاد الحرام، وفقد الأمن، ومنعت السبل، إلا بالخفارة، وركوب العرب.

وانتشر الفلاحون فى المدينة بنسائهم وأولادهم، يضجون من الجوع، ويأكلون ما يتساقط فى الطرقات من قشر البطيخ وأوراق الشجر، حتى لا يجد الزبال شيئا يكنسه من ذلك، واشتد الكرب، حتى أكلوا الميتة من الخيل والحمير والبغال والجمال، فكان إذا خرج حمار ميت تزاحموا عليه وقطعوه، فمنهم من يأكل ما أخذه نيئا من شدة الجوع، ومنهم من هو على خلاف ذلك، ومات الكثير جوعا.

هذا والغلاء مستمر، والأسعار فى نمو، والدرهم والدينار عزيز من أيدى الناس، والتعامل قليل إلا فيما يؤكل

إلى آخر ما قاله الجبرتى. ومع ذلك كانت الأمراء تنهب فى المدينة، ورجالهم تنهب فى بلاد الأرياف، وما من مجير، وتشكّى الناس إلى إبراهيم بيك فلم يجدوا منصفا.

***

‌محاربة عساكر الدولة مع عساكر مراد بيك

ولما اشتد الأمر، وعمّت البلوى، وكثر التعدى على التجار، من الإفرنج وغيرهم، وانتشر خبر ذلك فى الآفاق، أرسلت الدولة فى سنة اثنتين ومائتين وألف حسن باشا القبطان، ومعه العساكر، ليرجع هؤلاء العساكر عما هم فيه، فلما وصل ثغر الإسكندرية، وبلغ الخبر الأمراء، هاجت المدينة وماجت، وأخذ كل يخفى أمواله، ويستعد للخروج، وجرت المخابرات بين الأمراء وحسن باشا القبطان، فلم تفد شيئا، فتوجه مراد بيك بعسكره إلى فوّة ووقع بينه وبين عساكر الدولة محاربة، كانت الدائرة فيها عليه، فانهزم ورجع إلى مصر، وأراد إبراهيم بيك أن يدخل القلعة، فسبقه الباشا إليها، فلم يجد بدا من مفارقة مصر، ومن معه من الأمراء، ففروا إلى الجهات القبلية، وحضر قبطان باشا فى إثرهم، ودخل مصر، وأخذ فى الاستيلاء على بيوتهم، وتتبع أموالهم، وجهز طائفة من العسكر، وأمّر عليهم عابدين باشا، وأرسلها لاقتفاء آثار الفارين، فوقعت بينهم جملة مناوشات، مات فيها خلق كثير من الطائفتين، وتعطلت أسباب الأرزاق.

ص: 156

وفى كل هذه الأوقات، كانت العرب تنهب وتسلب، وتقتل فى جميع أنحاء القطر، ولا مانع يمنع، ولا حاكم يردع.

***

‌نزول السيل من ناحية الجبل الأحمر وما حصل عقبه من الطاعون

وفى تلك السنة - أعنى سنة اثنتين ومائتين وألف - تولى إسماعيل باشا كتخدا حسن باشا بعد انفصال عابدين باشا، والأمور على ما هى عليه إلى سنة خمس ومائتين وألف وفيها نزل سيل كثير من ناحية الجبل الأحمر، وامتد فى جهة الجمالية وجامع الحاكم إلى أمد بعيد فى الحارات المجاورة لذلك، وخرب بسببه أكثر خط الحسينية وما جاورها.

وعقب ذلك طاعون أقام ثلاثة أشهر مات فيه إسماعيل بيك شيخ البلد، وأقام خلفه مملوك عثمان بيك طبل، فمال إلى الأمراء القبلية سرا، فدخلوا مصر بجموعهم، فلم يسع من بها من الأمراء إلا الفرار، فاحتاط بهم العرب والعسكر، فقتل من قتل، وفر من فر، ورجع مراد بيك وإبراهيم بيك، وأخذا فيما كانا عليه من السلب والنهب والغدر.

وفى سنة سبع ومائتين وألف، فى زمن محمد باشا عزت الثانى، لم يف النيل أذرعه، فحصل القحط، فأكلوا الميتة والأطفال، ومات الكثير من الخلائق جوعا.

وفى سنة تسع ومائتين وألف، تولى صالح باشا، والأمور على حالها، وعقبه باكر باشا سنة عشر ومائتين وألف، والظلم متسلطن، والخلل عام، للكبير والصغير، والقريب والغريب

من حوادث أملاها الجبرتى، فكان آخرها حضور الدونانمة الفرنساوية ودخولهم أرض مصر، وحصول ما سيتلى عليك إن شاء الله.

ص: 157

‌حال القاهرة فى مدة الفرنساوية

لم تمكث الفرنساوية بالديار المصرية زمنا طويلا، فان مدتهم لا تزيد على ثلاث سنين، ومع ذلك حصل فيها حوادث شتى، خرب بسببها كثير من بلاد الإقليم، وتهدم كثير من دور القاهرة، وفارقها كثير من السكان، وقد تكلم الجبرتى على هذه الحادثة، وأسهب فى شرح ما جرى، فمن يروم كمال الوقوف عليها، فعليه أن يراجع ما كتبه رحمه الله، وسنذكر لك بالاختصار ما يتعلق بالقاهرة خصوصا، وبباقى القطر عموما، حتى لا تخلو مقدمتنا عن هذه الفائدة، فنقول:

إن دخولهم إلى ثغر الإسكندرية كان فى المحرم سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف. وبعد مناوشات حصلت بينهم وبين مراد بيك عند قرية الرحمانية من مديرية البحيرة، انهزم مراد بيك وحضر إلى انبابة، وعمل بها متاريس، وحضرت الفرنساوية فى إثره، فهجموا على تلك المتاريس وأخذوها بعد ثلاثة أرباع ساعة، وانهزم مراد بيك ومن معه إلى الصعيد ولم تنفع جموع العرب ولا الفلاحين بشئ.

وكذلك فارق إبراهيم بيك القاهرة، وفر إلى جهات بحرى بمن لحق به، وتشتت الأمراء إلى الجهتين. وكانت العرب ملأت تلك الجهات، فتعرضت للفارين بالسلب والقتل والنهب، وجميع الرذائل، وصار القطر فوضى، وتعدى الناس بعضهم على بعض.

ودخل الإفرنج القاهرة ثانى يوم انهزام الأمراء، وسكنوا بيوتهم، فسكن بونابارت بيت محمد بيك الألفى بالأزبكية، وسكن كل أمير منهم فيما أعجبه من بيوت الأمراء، ورتبوا مجلسا من العلماء، فاطمأن الناس لذلك، ورجع الكثير إلى داره.

ثم إن الإفرنج أخذوا فى الكشف على بيوت الأمراء والأعيان، وتتبعوا الأوباش الذين ثاروا فى البلد ونهبوا البيوت الخالية، فأخذوا منهم عددا وافرا وعاقبوهم أشد العقاب، وقتلوا البعض بالرصاص فى جنينة الأزبكية، وفتّشوا بيوتهم وأخذوا ما وجدوه فيها من المنهوبات، وضربوا على تجار المسلمين خمسمائة ألف ريال فرنساوى، ثم جعلوا مبلغا على كل

ص: 158

حرفة، وقالوا إنها سلف يرد، فحصل بذلك للفقراء أشد المضايقة، وشددوا عليهم فى الطلب، فكثر لغط الناس.

وكانت العساكر تدخل البيوت وتنهب ما فيها من غير مبالاة، فحاق بالناس الكرب والخوف، فلا يأمن الإنسان إلا بتعليق بنديرة (أى راية) على بابه، أو يلصق ورقة من طرف الفرنساوية.

وأخذ نساء الأمراء المختفيات فى الظهور، وصالحن على أنفسهن بمبالغ دفعنها على نسبة حال كل منهن، فدفعت زوجة مراد بيك 125000 ريال فرنساوى، ودفع غيرها أقل من ذلك.

وصار الناس يتوجهون إلى الإفرنج، ويخبرون عن ودائع الأمراء وخباياهم، فكثر الهجوم على البيوت، ونبش الأرض وهدم الحيطان.

واتسع نطاق الفتن خارج البلد وداخلها، وتحيّر الناس فى أمرهم، فإنهم إن خرجوا عن المدينة كانوا عرضة لقبائح العرب وعساكر مراد وإبراهيم، وإن أقاموا بها كانوا هدفا لسهام فتن الإفرنج غير آمنين مكايدهم.

وفى خلال ذلك ظهر الطاعون، فمنع الإفرنج الدفن فى المقابر الموجودة داخل البلد، كمقبرة الأزبكية والرويعى وغيرهما، وشددوا فى نظافة البلد وكنس الأزقة والحارات والتفتيش على ذلك، ورفعوا أبواب الدروب والعطفات جميعها، وأمروا بتعليق قناديل على أبواب البيوت طول الليل، وعاقبوا من خالف أشد العقاب.

ثم وضعوا مجلسا مركبا من ستة من تجار المسلمين، ومثلهم من تجار النصارى، لتحقيق حجج الأملاك، وقرروا مبالغ تؤخذ من المواريث والرزق والهبات والمبايعات والدعاوى، فلحق بالناس من هذه الغرامات ما لحقهم، وكثر عويلهم وشكواهم، ولا معين ولا نصير.

والتقت عساكرهم بعساكر مراد بيك فى الجهات القبلية، فوقع بينهم مناوشات، وسافر من عساكر الإفرنج أيضا جماعة إلى الجهات البحرية، لتسكين الفتن، وضبط تلك الجهات، فكانت العرب تعارضهم، ولكن على غير طائل.

وأخذ من بقى فى القاهرة منهم فى الاحتياطات، خوفا مما عساه أن يحصل من الأهالى، فهدموا أبنية كثيرة من حول القلعة، وزادوا على بدنات باب العزب بالرميلة، وغيروا معالمها، ومحوا ما كان بها من آثار الحكماء والعلماء، ومعالم السلاطين، وما كان فى الأبواب من الأسلحة والدرق والبلط والحراب الهندية، وهدموا من داخل القلعة قصر يوسف صلاح الدين.

ص: 159

[ثورة القاهرة على الفرنسيين]

وطلب النقود من البلاد لم يزل متواليا، وتنويع الفرض مستمرا، فلم يلحق بأهالى القطر أشد ولا أعظم مما لحقهم فى هذه المدة، لأن العرب كانت تهجم على البلاد، وتستحوذ على ما وجدت من أموال الأهالى، ويعقبهم الغز يسلبون وينهبون، ويليهم الإفرنج يقتلون ويفجرون، فعجز الناس عن رد هذه الأحوال، خصوصا أهل القاهرة، فقاموا وتحشّدوا بين القصرين، وعملوا متاربس فى بعض الحارات، وحصل بينهم وبين الفرنساويين مناوشات، فكانت المدافع من القلعة تضرب على هذه الجهات، وعلى الجامع الأزهر، فتخرب بهذا السبب جملة من البيوت، وتشتت كثير من الناس، ومات كثير منهم.

وشدّد الفرنساويون على الأهالى زيادة على ما كان، وضربوا عليهم فرضة مستجدة، وأخذوا يجمعونها بأى نوع من الطرق، وزادوا فى احتياطهم، فعملوا قلاعا فوق التلال المحيطة بالقاهرة من جهاتها الأربع، وكذا بمصر العتيقة وشبرا والجيزة، ووضعوا بها المدافع، وشددوا فى جمع الأسلحة، وأخلوا بيوت الأزبكية من أهلها، وأسكنوا بها رجالهم، ومن انتمى إليهم من نصارى الشام والقبط.

[الحرب بين الفرنسيين والأتراك]

وفى عقب ذلك حضرت المراكب العثمانية، وخرجت عساكرها فى أبى قير، وتحصنوا وشاع خبرهم فى القاهرة، فكثر لغط الناس، وأظهروا العداوة للفرنساويين، وفرحوا ظنا منهم بالخلاص.

ولكن كان الأمر خلاف ما ظنوا، فإن بونابارت توجه لحرب العثمانيين، فالتقوا فى تلك الجهات، فانهزم العثمانيون، ورجع إلى مصر، ومعه أسرى كثيرة، من جملتهم الوزير، فدهش الخلق، وزاد وجلهم.

وكانت الفرنساويون تشاهد عداوة الأهالى وكراهتهم لهم، فأكثروا من التشديد، وزادوا فى الاحتياط، ثم حضرت عساكر عثمانية من جهة العريش، وشاع بين الناس التكلم فى أمر الصلح، وبالفعل توجه مندوبون من طرف الفرنساوية، ودخل عساكر الترك، ووصلوا المطرية، وانتشروا فى الجهات، ودخلوا المدينة بعد عقد الاتفاق على الشروط اللازمة.

ص: 160

وبالفعل أخذ الفرنساويون فى أهبة السفر، وأخلوا القلاع، لكن لما قدّر فى علم الله لم يدخلها العثمانيون، واكتفوا بدخولهم المدينة، واشتغلوا بالنهب والسلب، وحصل بين بعض الفرنساويين والأتراك بعض مناوشات تجر إلى القتل، لولا أن تداركها الأمراء، فحصل الاتفاق على خروج العثمانيين، وإقامتهم خارج البلد، حتى تتم المدة المتفق عليها.

وتم الأمر على ذلك، ولكن لم يمض غير قليل، حتى وصل الخبر للفرنساويين بعدم رضا الإنكليز بهذه الشروط، وبلغ ذلك العثمانيين، ولكن لم يستعدوا لما عساه يحدث، أما الفرنساويون فرجعوا بالتدريج إلى القاهرة، وقاموا برجالهم إلى قبة النصر، وهجموا على الأتراك، وهم فى غفلتهم، فقتلوا منهم كثيرا، ورجع الباقون إلى جهة الصالحية وهم يسوقونهم.

[ثورة القاهرة الثانية]

وكان نصوح باشا داخل المدينة من خلف الجبل مع كثير من الأتراك والعرب، وهيّج الناس، وحرّضهم على القيام على الفرنساويين، فانضم إليه كثير، وهجموا على من بقى من الفرنساوية فى جهة الأزبكية وغيرها، وانتصب القتال بينهم، فبينما هم على ذلك إذ رجع العساكر الذين سافروا خلف العثمانيين، فحاصروا القاهرة وبولاق، ونهبوا أغلب دور الحسينية وهدموها، وكذا قرية الدمرداش وما حولها، ومنعوا الاتصال بين المدينة والخارج، ووجهوا المدافع عليها، وصار الهجوم منهم على أخطاط البلد، واستمر ذلك عشرة أيام.

وبعد ذلك نصب الفرنساويون بيرق الصلح فى الأزبكية، وتوجه عندهم بعض المشايخ، ففهموهم أن هذه الحرب مبنية على غير أسباب موجبة، ومضربهم، وطلبوا منهم نصيحة الأهالى، ورجوعهم للطاعة، والتزموا لهم بالعفو العام.

فلما رجع المشايخ وتكلموا بذلك، لم يسمع قولهم، واستمرت الحرب، ولم تنته إلا بعد سبعة وثلاثين يوما خرب فيها خط الأزبكية، وخط الساكت إلى بيت الألفى وخط الفوالة وخط الرويعى، إلى حارة النصارى، وخربت أغلب حارات بولاق أيضا من الحرق والهدم، وجهة بركة الرطل وباب البحر.

وانتهت هذه النازلة، بتقرير مبلغ مليونين من الريالات الفرنساوية على الأهالى، فحصل لهم غاية المضايقة فى تحصيلها، وأهانوا الأعيان والمشايخ، وضرب «السادات» ، وحبس، وأخذت منه أموال جمّة، ونهبت عدة بيوت من بيوت الأمراء، وصودر كثير منهم.

ص: 161

فكانت هذه المدة أشنع مما قبلها، ففيها انقطع السفر برا وبحرا، ومنعت الإنكليز الصادر والوارد عن جهات القطر، وانقطع الحجّ، ووقف العرب وقطاع الطريق بجميع الجهات، وتسلّطوا على القرى والفلاحين، وقصر مد النيل، واشتد الغلاء، وحصل القحط والوباء، فمات فيه كثير من الخلق.

وفى خلال ذلك سافر بونابارت إلى بلاده، واستخلف على الجنود الفرنساوية بمصر قائدا من زعمائهم اسمه كليبر، فاغتاله رجل شامى حضر من بلاده لهذا القصد، يقال له سليمان الحلبى، وقتله واختفى، فاشتدّ غيظ الفرنساوية وحقدهم على أهل مصر، وأرادوا بهم السوء فراموا حرق المدينة، لولا أن الله تعالى رفق بوجود القاتل فقتلوه، وقتلوا معه عدة ممن اتّهموا بمساعدته.

وبعد قليل تم الصلح، وخرجوا من مصر، وأعقبهم العثمانيون فيها، واستقروا بها، فحصل ما سيتلى عليك.

ص: 162

‌القاهرة بعد خروج الفرنساوية

لم يهدأ لمصر حال بعد مفارقة الفرنساوية، بل ازداد التعب، وعمّ الاضطراب جميع الخلق، وتخرب الكثير من منازل القاهرة وضواحيها. وقاسى الناس، خصوصا التجار والمستورين من الغرامات والكلف، ما لا يمكن وصفه، إلى أن صدر الأمر بتولية المغفور له محمد على باشا عليها سنة 1220.

‌ولاية محمد باشا أبى مرق

وكان قد تولى عليها قبله أناس، أولهم محمد باشا المعروف بأبى مرق، فدخلها بموكب حافل، وفرح الناس بقدومه، ظنا أن ينالوا الراحة والأمن، فخاب ظنهم، وانعكس مأمولهم، لعدم قيامه برعاية المصالح، فإن النصارى الأروام الذين كانوا مع الفرنساوية وحصل منهم الأذى للمسلمين، اندرجوا مع الأرنؤود والعسكر ومن بالبلد من الأتراك، وجعلوا يعبثون ويعربدون فى أنحاء القاهرة، وينهبون الأهالى، ويطردونهم من منازلهم، ويسكنونها، واستعملوا فى السلب أنواع الحيل، فيما لم يجدوا إليه سبيلا، فربما جلس العسكرى على دكان بدعوى الاستراحة أو شراء شئ، ثم يقوم ويعود بعد قليل قائلا: إنه نسى كيسه، أو فقد دراهمه، ويجعل ذلك سببا لإهانة صاحب الحانوت، ونهب ما عنده.

وعمّ منهم الفساد، وشاركوا الباعة فيما يبيعون، وساهموا التجار فيما يربحون.

وضاق خناق الخلق، واتسع ميدان الكرب خصوصا فى جهات الأرياف، فإن العسكر صاروا يقتلون ويخطفون المردان والبنات، ويفتضون العذارى، ومن مانع عن عرضه قتلوه، ولا معارض، ولا مغيث.

وتضاعف الكرب، وعم الهرج، أكثر مما كان حين قال قاضى العسكر: بأن الأملاك كافة صارت ملكا للدولة، لأن انتصارها على الفرنساوية يعدّ فتحا جديدا، وعارضه فى ذلك العلماء، وضج أصحاب الأملاك، وأكثروا الشكوى، حتى لم ينفذ ما قاله.

ص: 163

ولكن الباشا أكثر مصادرات من شمّ فيه رائحة الثروة، وتفريد الفرض على التجار وغيرهم، حتى تجرد الناس من أنفسهم.

[ولاية محمد باشا خسرو]

واستمر الحال على ما هو عليه زمن محمد باشا خسرو، كتخدا حسين باشا قبودان، الذى عقبه فى سنة 1216. وكان قد اتحدّ مع قبطان باشا على الغدر بالأمراء المصريين، إذا نزلوا بالغليون فى الإسكندرية لملاقاته. فلما حضر الأمراء، وأحسوا بما يراد بهم من القتل ثاروا، فحصلت مقتلة عظيمة، وتخلّص الأمراء، ولحقوا بالإنكليز الذين كانوا بثغر الإسكندرية.

وبلغ ذلك محمد بيك الألفى، وهو بالأقاليم القبلية، فأظهر العصيان، فتبع الباشا مماليكه وأتباعه، وكذا مماليك الأمراء وأتباعهم بالقتل والنهب، ونهب بيوت الأمراء وسبى حريمهم ونشأ عن ذلك ما نشأ من المفاسد المعتادة لهم.

***

ولما تولى بعده محمد باشا، أخذ فى قمع مفاسد العسكر، وشدّد فى عقابهم، وكان يطوف الحارات ليلا بنفسه، ومعه طاهر باشا، ويقتل على أقل ذنب، وجرّد على الأمراء القبلية عدة تجاريد، إحداها تحت رياسة المرحوم محمد على سرجشمة، فغلبهم القبلية، وشدّد فى أمر الحسبة، حتى خزم أنوف الخبازين، وعلّق فيها الخبز الناقص، وكذا الجزارون، فحسن الحال نوعا، وأمن الناس بعض الأمن، وأبطل الرطل الزياتى، الذى كان يكال به الأدهان، وكان وزنه أربع عشرة أوقية، واستعوضه برطل وزنه اثنتا عشرة أوقية، وبقى للآن.

واتخذ جملة من العبيد والتكرور، وأسكنهم بقلعة الظاهر، وسمّاهم بالنظام الجديد، واهتم بعمارة مسجد السيدة زينب رضي الله عنها.

ومع ذلك كان غشوما جهولا عجولا فى أموره محبا لسفك الدماء، ولم تسكن ثائرة الاضطراب، فان الأمراء فى الجهة القبلية كانوا دائما يشنون الغارة على البلاد، حتى نهبوا الفيوم، وقتلوا كثيرا من أهله، ونهبوا بلادها، وكذا الجيزة، وبنى سويف، وقطعوا الجسر الأسود، وتقابلوا مع العساكر العثمانيين فى دمنهور، فحصل بينهم وقعة عظيمة، انهزم فيها العسكر، فكانت الحرب عامة لجميع أنحاء القطر. والفرض والغرامات تطلب من التجار.

ص: 164

وتمت دائرة الخراب، حين قام العسكر بالقاهرة، بسبب منع جوامكهم، وهجموا بيت الدفتردار، وبيت المحروقى، وهو بيت الشيخ البكرى القديم، وصار الباشا يضرب عليهم بالمدافع من القلعة، حتى خرب خط الأزبكية، ونهب ما فيه، وعملت متاريس عند رأس الوراقين، والعقادين، والمشهد الحسينى. ورتّبت العساكر بجامع أزبك، وبيت الدفتردار، وبيت محمد على، وكوم الشيخ سلامة.

وقام طاهر باشا، وأحضر مدافع من القلعة، وانتشب الحرب بين العساكر العثمانيين وعساكر الأرنؤود بالقاهرة وبولاق وقصر العينى، وانهزم الباشا بعسكره إلى جزيرة بدران ومنها توجه إلى المنصورة، وضرب على أهلها تسعين ألف ريال فرانساوى، ثم توجه إلى دمياط.

فكانت مدته كلها حروب ونهب، وقتل وتخريب، فيها تخربت حارات القاهرة وضواحيها إلا القليل.

وقام بعده بصفته طاهر باشا قائمقام، فأكثر من مصادرة الناس من المسلمين وغيرهم.

وأغدق على الأرنؤود، وصرف جوامكهم، ولم يعط الإنكشارية، فقاموا عليه وقتلوه، فكانت مدته ستة وعشرين يوما.

[ولاية أحمد باشا]

وعند هذه الحادثة، كان بمصر أحمد باشا، متوجها إلى المدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - واليا من قبل الدولة، فعيّنه العساكر واليا على مصر، فلم يرض بذلك محمد على، وقام وملك القلعة، وحضر إليه أكثر الأمراء القبلية، وانضموا إليه، وتفرقوا فى حارات القاهرة، وملكوا بابى النصر والفتوح، وضربت المدافع على بيت أحمد باشا بالداوودية، فتفرق عنه الإنكشارية، وأمر بالخروج من مصر، فامتثل.

[الأرنؤود يعيثون فى البلاد فسادا]

ومذ خرج، نهبت العساكر بيته، ولما فارق باب الفتوح، رأى نفسه قد وقع فى وسط العسكر، فلم يسعه إلا الالتجاء إلى قلعة الظاهر، فدخلها محتميا بها، وصفا الوقت حينئذ لمحمد على وعساكر الأرنؤود، فتسلطوا على الإنكشارية، ونهبوا بيوتهم، وقتلوا أعيانهم، فاجتمعوا بمصر العتيقة، وأرادوا التوجه إلى الشام من طريق الصحراء، فهجم عليهم الأرنؤود، وأوقعوا بهم، فقتلوهم عن آخرهم، ولم يبق إلا من اختفى، ففتشوا عليهم البيوت والمساجد، ثم مدوا أيديهم إلى أذى الأهالى، والتعدى عليهم، وتفرّقوا فى النواحى، وأكثروا من السلب، خصوصا بلاد القليوبية والغربية والمنوفية.

ص: 165

واتخذ سليم كاشف المحرمجى قلعة الظاهر مستقرا، وفرض على كل بلد من بلاد القليوبية ألف ريال فرانسا، وسبعين من كل صنف، أى سبعين خروفا وسبعين رطل سمن وسبعين رطل عسل وهكذا، خلاف حق الطريق وهو خمسة وعشرون ألف نصف فضة.

ولذلك الحين كان محمد باشا مقيما بدمياط يقرر على أهلها ومن جاورهم الفرد الباهظة، فتوجه إليه محمد على، وعثمان بيك البرديسى، فقاتلاه، وهزما من معه، وأسراه، وأرسلاه إلى مصر.

ونهبت دمياط، وفعل الأرنؤود كل شنيعة، ثم توجّه البرديسى إلى رشيد لمقاتلة العثمانيين، وكانوا ببرج مغيزل، فلما التقى الجمعان انهزم العثمانيون، وأسر على باشا القبطان، وأرسل إلى مصر، وحصل برشيد من النهب والسلب والسبى ما حصل بدمياط وأدهى، خلاف ثمانين ألف ريال فرانسا ضربت على أهلها، وحصّلت منهم.

وفى سنة ثمان عشرة ومائتين وألف حضر الوزير على باشا الطرابلسى، وأقام بالإسكندرية، وقطع جسر أبى قير ليمنع وصول البرديسى إليه. فعندها رجع البرديسى إلى مصر، وجعلت عساكره كلما مرّت ببلد نهبتها، حتى حصل للناس منهم من الضرر، مالا مزيد عليه.

واشتد الغلاء تلك السنة، بسبب قصور النيل وعدم الرى، وعربدت الطغاة، وأصبح القصر بلا حاكم.

وفى أثناء ذلك أيضا، رفع العساكر لواء العصيان بسبب منع الصرف، فاتفق الرأى على توزيعها على الطوائف والتجار، وجعلها درجات، أعلاها خمسون كيسا وأدناها خمسة أكياس، فوزعت كذلك، وشدّد فى طلبها، فأغلقت الحوانيت، وتعطلت الأسواق، وبطل البيع والشراء، ونهب العسكر بيوت الإفرنج، فحصل بينهم مقتلة عظيمة، قتل وجرح فيها من الفريقين ناس، واشتد الخوف بالناس، وشكت القناصل للدولة فلم يجد شيئا.

وعلى باشا لم يبارح إسكندرية لذلك الحسين، مشتغلا بجمع العساكر وترتيبهم على هيئة عساكر الإفرنج، فتراءى للأمراء أنه يدبر عليهم أمرا، فاحتالوا عليه من باب «تعشّ بفلان قبل أن يتغدّى بك» ، فأظهروا له الطاعة، وطلبوا منه الحضور إليهم ليمكنوه، فقام بعسكره قاصدا مصر، فلما وصل إلى شلقان، خرج عليه عسكر الأرنؤود، فلم يجد بدا من المدافعة، فاشتد القتال بين الفريقين، وقتل خلق كثير منهما، وتمت بهزيمة العساكر العثمانيين، وأسر الباشا وإرساله إلى مصر، ثم توجه الألفى إلى القليوبية، فنهبها وقتل أناسا كثيرا من أهلها، وكذا فعل بعرب بلى، محتجا أنهم كانوا ماثلين للباشا ظلما وافتراء.

ص: 166

[محمد على يتحالف مع البرديسى]

ثم اتفق الأمراء على إخراج على باشا إلى الشام، فأصحبوه بعدة من العسكر، فلما وصل القرين قام عليه العسكر وقتلوه، فلما وصل الخبر إلى الأمراء، أظهروا عدم الرضا وسكتوا، وكان مع كل ذلك يرغب كل أمير أن تكون له السلطة، ويعمل فيما يقوّى أمره ويضعف غيره، وعقارب الحقد تدب بينهم، ومحمد على لسياسته لا يظهر ما فى نفسه لأحد، بل كل من رآه قويا مال إليه، وأظهر له أنه معه، ولم يهمل أمر غيره، بل يواسيهم وهو يترقب الفرصة، ويسير بعقل وسياسة، وإذ كان البرديسى إذ ذاك هو المتبين فيهم تحالف معه، وجرح كل منهما نفسه وشرب الآخر من دمه، تمكينا للأخوة على زعمهما.

ولكنه لما كان يرى من سوء سيرتهم وطيش عقولهم يعلم أنهم مخذولون وأن أمرهم لا يتم، فكان يراعى الأهالى، ويواسى العلماء، ويتواضع لهم، ويتأدب مع وجوه الناس، ويعاونهم بما فى وسعه، فمالوا إليه وأحبّوه.

ثم إن الأمراء اتفقوا فيما بينهم على إضمار العداوة للألفى الكبير، لما رأوا من فوقانه عليهم، فخافوا على أنفسهم منه، فدس البرديسى لحاكم رشيد أن يقتله، فاستشعر الألفى فاحتال حتى قرب من مصر، واستطلع حقيقة الخبر، فمذ ثبت عنده توجه إلى الجهات القبلية، وكذا الألفى الصغير، فإنه لما بلغه ما يراد بقريبه، لم يسعه إلا اللحاق به، فنهب الأمراء بيوتهما، وبيوت أتباعهما وحواشيهما.

ولما رأى الأمراء كثرة حزبه بالجهة القبلية، خافوا تفاقم شره، فجرّدوا لحربه تجريدة، وجعلوا بعض مصروفها على التجار، وفرضوا الباقى على الأملاك، فجعلوا نصف ما فرض على كل منزل على المالك، والنصف الآخر على المستأجر، ووزعوا على القرى الغرامات الباهظة، فكان هولا هائلا فى جميع أنحاء القطر المصرى، حتى قامت النساء يندبن، وصبغن وجوههن وأيديهن بالنيلة.

وشكا الناس إلى محمد على، لما كانوا يرون منه من الميل إليهم، فتلقّاهم بالبشر، ووعدهم بما سرّهم. وكثرت بينهم قبائح البرديسى، حتى قام عليه العسكر والزعر، فما وسعه إلا الخروج إلى قبلى، ونهب بيته وبيت إبراهيم بيك بالداوودية، وحصل بين العسكر ومماليك المذكور قتال شديد، وطلع محمد على إلى القلعة، وأقام بها، ووجه المدافع إلى الداوودية، فخرّب أكثر منازلها.

وانتهت هذه الحادثة بخروج الأمراء إلى قبلى، ونهب بيوتهم، وسبى نسائهم وأولادهم.

ص: 167

[ولاية محمد على]

ثم حضر أحمد باشا سنة تسع عشرة ومائتين وألف واليا على مصر، وكان الغلاء قد بلغ منتهاه، حتى وصل ثمن الإردب من القمح خمسة عشر ريالا فرانسا، والاضطراب مستمر والعسكر قائم، والأمراء القبالى يعيثون فى البلاد، واحتاطوا بالقاهرة، وخرّبوا ضواحيها كبولاق والشيخ قمر والعدوى والوايلية، فخرج إليهم محمد على وهم بجهة طرة، فكبسهم وهم غافلون، وأوسع فيهم القتل فانهزموا، وتشتّتوا فى الجهات، وحصل بينهم وبين العسكر المتفرقة وقعات بجهة شبرا وأبى زعبل والخانقاه أعقبت خراب تلك الجهات.

ولم تزل العسكر مع ذلك تقوم لطلب الجوامك، ويحصل منهم ما لا خير فيه، والوالى كل مرة يضرب على الأهالى مبالغ، يحصّلها بأنواع الظلم.

ثم إن محمد على بينما هو متجهز للخروج بعسكره إثر الأمراء القبالى، إذ حضر فرقة من عساكر الدلاة من جهة الشام، فأراد محمد على أن يكونوا معه، فامتنع الوالى من ذلك، وحصل بينهما كلام، فأمره الوالى بالخروج من البلد، فامتنع وهاجت الأرنؤود، وخاف كل فريق من الآخر.

وبينما هم على ذلك إذ ورد فرمان بتولية محمد على على جدّة، فأظهر الامتثال، وأخذ فى الاستعداد، فاضطرب العسكر والأهالى لعدم رضاهم بمفارقته البلد.

وفى أثناء ذلك طلب منه العسكر مرتباتهم، فأحالهم على الوالى، ولم يكن بيده شئ، فأغلظوا له فى القول. ولسوء تدبيره قال لهم عليكم بنهب القليوبية، فتفرقوا فى بلادها، ونهبوها، وسبوا النساء، وباعوا الأولاد، فأوغرت صدور الأهالى، وحصل فى قلوبهم بغض الوالى والميل إلى محمد على، لما يرون منه من الحزم والمساعدة. فكان عاقبة ذلك أن كتبوا للدولة بأنهم رضوه واليا، فأجابتهم الدولة لذلك، وصدر له الأمر بولاية مصر فى شهر صفر سنة ألف ومائتين وعشرين، وانقرضت به دولة الغز، وحصل منه معهم ما سيتلى عليك إلى أن انقضى نحبهم، والله يؤتى ملكه من يشاء.

ص: 168

‌حال القاهرة فى مدة الخديو الأعظم محمد على

لما صدر الأمر له بولاية مصر فى صفر سنة عشرين ومائتين وألف طبقا لمرغوب أعيانها، وسلسلة الفتن محكمة حلقها وعقد الحوادث صعب حلها، والاضطراب عام فى جميع الأنحاء، والعقول غالب عليها حب الأهواء، والعرب تعربد فى النواحى، والمناسر تقطع الطرق، وتنهب الضواحى، والعسكر تجلب على الأهل كل داهية، والأمراء المصرية تعيث فى البلاد، وتخرب القاصية والدانية، وإذا أرسل لقتالهم عسكر زادوا عنهم أضعافا فى الفساد، مع ما بين فرقهم من العداوة والعناد: فالأرنؤود تخالف الإنكشارية وتقاتلها، والدلاة تعادى كل فرقة وتصاولها، والكل معاد للأهالى، عاص للوالى.

أخذ الباشا بالجد والحزم، وتصدى لحل تلك المشكلات المعضلة، والفتن المتطاولة، فشرع فى استمالة قلوب المشايخ أصحاب الكلمة، كالسيد عمر مكرم، والشيخ الشرقاوى، والدواخلى، حتى صاروا معه، فجعل يحل عقد المشاكل بهم، ويستعين برأيهم، على مهمات النوازل، ولم يزل يعانى الأمور بعقل ثابت، وسياسة تامة، حتى تفرد بالأمر كما سيتلى عليك.

[محمد على يستعين بالشعب]

ولما صدر الأمر أبلغوه لأحمد باشا الوالى، فلم يلتفت إليه، بل تحصّن بالقلعة، فقام إليه الخديو محمد على، وحاصره بها، وحفظ أبوابها بعساكر الأرنؤود، فلم يكن غير قليل، حتى جاهروه بالعصيان، لعدم صرف جوامكهم، وتفرّقوا عنه، وانتشروا فى القاهرة ينهبون ويسلبون.

فاتحد الباشا مع المشايخ، ورتّب من الأهالى بدلهم بالسلاح والمساوق والنبابيت.

وفى أثناء ذلك حضر قابوجى من الدولة، ومعه أوامر لأحمد باشا بعزله، فلم يمتثل مرسومها، واستمر على عناده.

ص: 169

وبعد قليل حضر قبطان باشا بأوامر تعضد ما سبق، فلم يصغ لها ظنا أن ذلك كله شباك حيل تنصب له، وراسل الأمراء القبالى، وطلبهم لمساعدته، فوقع بعض المكاتبات فى يد الخديو محمد على، فأخذ حذره.

فبعد قليل حضروا إلى الجيزه، وعدّى بعضهم إلى البر الشرقى، واحتاطوا بالبلد، ودخلها الكثير منهم من باب الفتوح والحسينية، وتوجّه بعض كبرائهم إلى السيد عمر مكرم والشيخ الشرقاوى وغيرهما، يدعونهم إلى نجدتهم والقيام بنصرتهم، فلم يقبلوا منهم، فخرجوا خائبين.

وكان الجناب الخديوى مذ بلغه خبرهم أرسل جندا لضبطهم، فأدركوا بعضهم قد خرج من البلد، فأوقعوا بمن أدركوه منهم بالسكرية والدرب الأحمر، وهرب بعضهم إلى جامع البرقوقية فاختفى به، وبعضهم تسلق فوق السور، من خلف الجامع فنجا، ومن اختفى بالمسجد دلّ عليه، وكانوا نحوا من خمسين رجلا، فلما أحضروهم بالأزبكية إلى داره، وكان يريد الركوب، فرح بالظفر، وأمر لمن أحضروهم بالعطايا، وأحضر الجزارين، وأمر بقتلهم.

وشاع ذكر هذه الواقعة فى سائر الأطراف، فهابه الأعداء، وكان يظن أن هذه الحادثة تفسد عليه ما دبّره، فكانت على خلاف ما ظنّ، إذ أدخلت على أعدائه الرعب، فخرج أحمد باشا، وخرج عسكر الدلاة العصاة على وجوههم، وانتشروا بالجهات البحرية ينهبون ويسلبون، فوجه خلفهم حسن باشا الأرنؤودى، ومحمد بيك المبدول، وعمر بيك الأشقر بعساكرهم، فأجلوهم من البلاد، واحتاطوا على جميع ما سلبوه، وذهب أولئك إلى الشام مدحورين.

وأما الأهالى فإنهم فى هذه المدة كانوا متقلّبين على جمرات البلايا، غارقين فى بحار الشدائد، فالأرنؤود تنهب البيوت، وتخطف ما يرد من البضائع ويبيعونه بأغلى الأثمان، حتى انعدم اللحم والسمن بعد شدة غلائهما، وتتعرض لنساء الأمراء الغنيات، بقصد تزوجهن.

والعسكر تقوم بسبب الجوامك، فلا يجد بدا من توزيعها على الطوائف والتجار، ثم توجه فكره إلى الالتزامات، فتكلّم مع العلماء فى ذلك، فاتفق الرأى على أخذ ثلث الفائض منها، وكل ما يتحصل يصرف فى شؤون التجاريد وطلبات العسكر، وليس بالكافى مع ما ضرب على النواحى، وطلب من المديريات أموال سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف مقدما، وتعين الكشاف للتحصيل، فكان الكاشف يعين من طرفه المأمورين، ومعهم قوائم بالمطلوب من كل بلد، مع ما يتبع ذلك، كقوائم البشارات، وأوراق تقبيل اليد، وحق الطريق، ولبس القفطان، مع طلب العرب العلائق والكلف.

ص: 170

[معارك محمد على مع المماليك]

وفى محرم سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف حصل بين القبالى والعسكر مقتلة هائلة، قتل فيها كثير من الفريقين، وانهزم العسكر، ووصل الأمراء إلى انبابة، صحبة شاهين بيك الألفى، ثم تحوّل بهم إلى دمنهور، ومنها عدّى إلى المنوفية، فتخربت تلك الجهات، وتشتت أهلها، وكان الحرب منتشبا بالجهات القبلية، وانهزمت العساكر أيضا بالمنية.

وكان الجناب الخديوى، مع ورود هذه الأخبار، لا يتزحزح عن عزمه، ولا يترك تلافى الشدائد بالحزم، ويوجّه ما أمكنه من العساكر، ولا يصرف النظر عن استمالة الأهالى، بل لم يزل ساعيا فى مراضيهم، لا يصدر إلا عن رأى المشايخ، فجعلوا يبذلون الجهد فى مساعدته، حتى بلغ ما أراد، فانه لما حضر الأمر برفقة قبطان باشا فى هذه السنة بعزله عن مصر، وتوليته سلانيك، وجعل موسى باشا واليا بدله، كتب العلماء والوجوه، وأمراء العسكر محضرا إلى الدولة، وأرسلوه صحبة إبراهيم بيك نجله الأكبر، يترجون أن يبقى واليا، لما رأوا من حسن إدارته.

فبعد قليل حضر الأمر ببقائه، وتعيين ابنه إبراهيم بيك دفتردارا. وكان الذى حسّن للدولة، عزله عن مصر هى الدولة الإنكليزية، ليتمهد الأمر للألفى، ويتسنى لهم مساعدته.

وكان الألفى قد سافر إلى بلاد الإنكليز مصاحبا لهم حين خرجوا من مصر، واتفق معهم على أن يساعدوه. فلذلك حسّنوا للدولة ما حسّنوا، وأرسلوا إلى الألفى بحوش عيسى، فكاتب الأمراء القبالى يخبرهم بما تم لهم من العفو بمساعدة الإنكليز لهم، وحضور الوالى الجديد، ويحثهم على الاتحاد واغتنام الفرصة، ويعلمهم أن قبطان باشا مساعدهم أيضا على بعض مطاليب عيّنها، وأن يحضروا حتى يتروى معهم، فيما يلزم اتباعه.

فتشتتوا فى رأيهم، وامتنعوا من إجابته وأبوا الحضور، وكذا كاتب قبطان باشا الإنكليز والأمراء، فوقعت بعض مكاتباته فى يد الباشا، فوقف منها على ما يرام، فراسل قبطان باشا واستماله، فرأى أن الميل إلى الباشا أوفق، مع تباطئ الأمراء عن إجابته، فأخذ يدبر بنفسه لمحمد على باشا التدابير، وأمره بإعمال المحضر السابق، وتصالح معه على مبلغ يدفعه للدولة، فخاطب الباشا العلماء، فبادروا إلى ما أمر، وتم له ما تم.

ولما حضر الأمر برجوعه واليا نهض إلى تجريد التجاريد، وأخذ فى حرب الأمراء بجهة قبلى، والألفى بجهة بحرى لأنه كان حاصر دمنهور والأهالى تمانعه عنها. وكان الباشا يخشاه لجسارته وإقدامه ودهائه وذكائه، ويبذل الهمة فى استمالته إلى أن اخترمته المنية عقب هذه الحادثة بغتة بجهة المحرقة، ففرح الباشا بموته.

ص: 171

وأعقب ذلك موت عثمان بيك البرديسى، فتكامل السرور، وقال الباشا فى محفل من أحبائه لشدة فرحه:«الآن ملكت مصر» ، وكان كما قال فإنه بعد موتهما انحلّت عرى اتحاد الأمراء المصريين، وتشعّبت آراؤهم، وجعل كل واحد منهم يرى نفسه أنه أحق بالإمرة، فرأى الباشا أن إطفاء نيران فتنهم يجعله متفرغا للنظر فى مصالح القطر، وعلم تشعب كلمتهم فراسل البعض، فحضر إليه فأغدق عليهم وزوّجهم، فانحاز إليه الكثير، وتمزّق حزب القبالى، ومن بقى لم يزل مصرا على العناد، فطلب صلحهم، لأنه الأقرب إلى السلم، والأسلم لتدبير القطر، وتنظيم أحواله وترتيب أحكامه، وأحفظ من تطرق الخلل إليه، لأن البلاد الأوروباوية حينئذ كانت مضطربة والحرب بها قائمة، ونابليون بانوبارت يجوس بجيوشه خلالها، ويدمر بهجماته ممالكها، فتغلّب على النمسا والموسكو. وكذا دولة الروس أعلنت الحرب مع الدولة العلية لانضمامها مع فرنسا.

وصدرت الأوامر من الدولة لمحمد على باشا، بالاحتياط وحفظ الثغور، خوفا من أن تدهمه دولة الإنكليز على غرّة، فإن مراكبها أخذت تجول فى البحر الأبيض، ولا يعلم ماذا تقصد.

ولما أبطأ عليه خبر الصلح، قام إلى الجهات القبلية، ووعدهم بما يرضيهم، فتشاوروا بينهم، فبعضهم لم يقبل كإبراهيم بيك الكبير، وقال:«أنا لا آمن غدره» ، وبعضهم مال إلى الصلح، فلم يزل مجتهدا فى استمالتهم، حتى تمّ الصلح، فترك القتال، وكانوا يحضرون إلى القاهرة، وحضر جاهين بيك وأقام بالجيزة، وعمل لقدومه شنكا وليلة حافلة، وأعطاه الباشا إقليم الفيوم، وثلاثين بلدا من إقليم البهنسا وعشرة من الجيزة، وأعطاه كشوفية هذه الأقاليم مع كشوفية البحيرة وثغر الإسكندرية، واهتم بشأنه زيادة عن غيره، وزوّجه من جواريه.

ثم حضر بعده نعمان بيك، فأكرمه أيضا، وزوّجه من جواريه، وأعطاه بيت المهدى بدرب الدليل. وهكذا كل من حضر، كعمر بيك، ثم بعد ذلك حضر إبراهيم بيك الكبير، فولاّه جرجا.

[احتلال الإنجليز الإسكندرية ورشيد]

وفى أثناء ذلك فى محرم سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف ورد الخبر إليه بوصول الدوسمة الإنكليزية، وأخذها ثغرى الإسكندرية ورشيد، وأن الإنكليز راسلوا القبالى، لينضموا إليهم، وأفهموهم أنهم ما حضروا إلا لنصرتهم، فأخذ فى الاستعداد، وبنى الاستحكام الذى كان بانبابة، وساعده على ذلك قنصل دولة فرنسا، لما بين دولته ودولة

ص: 172

الإنكليز من العداوة إذ ذاك، وأرسل بانوبارتو الخازندار وحسن باشا الأرنؤودى واسماعيل كاشف لتحصيل المال من البلاد، ووزع مصروفات ما يصنع بالقاهرة من طوابى وخنادق على أهلها، واهتم بجمع العساكر والنظر فيما يلزمهم.

فبينما هو كذلك، إذ حضر البشير بهروب الإنكليز من رشيد، وقتل الكثير منهم، وأن العسكر قد أسر منهم خلقا كثيرا، ففرح الباشا والناس، ودقت الطبول، وزينت البلد، وبعد قليل حضر الأسارى، فأدخلوهم البلد، وكان لدخولهم يوم مشهود، وأمر الباشا بمعاملتهم بالحسنى، ورتب لهم ما يكفيهم، ثم توجه إلى الرحمانية، ثم قصد دمنهور، وكاتبه الإنكليز فى الصلح، فلم يمانع، فقاموا وتركوا المدينة، وكانوا قد قطعوا جسر أبى قير لقطع المواصلة بين ثغر الإسكندرية وداخل القطر، فعمّ الماء أغلب بلاد البحيرة، وأخرب بلادها، وأتلف أرضها وكرومها، وأعدم منها نحوا من مائة وأربعين بلدا بقيت إلى الآن، وهى ما تراه حول اتكو وبحيرة المعدية، إلى المحمودية وما جاور بحيرة مريوط، ممتدا إلى القرب من دمنهور.

[فتنة العسكر الأرنؤود]

ولما انقضى أمر الإنكليز التفت الباشا إلى إعادة ما اختلّ من نظام أمر العسكر، فإنهم كانوا قياما على قدم العصيان بخصوص منع جوامكهم، واحتاطوا ببيته بالأزبكية، ورأى منهم عين الغدر، فركب ليلا إلى القلعة، وتحصّن بها.

وبقيت المدينة مضطربة أياما، وجعل يراسل أمراءهم ويواسيهم، ووزع ضريبة على تبعته ورجاله، وأرباب التجارة والصناعة، وصرفها فى بعض الجوامك، وتحقق لديه أن الباثّ لروح الفتن فى العسكر هو رجب أغا فأراد نفيه، فتعصب له جماعة من العسكر، وعملوا متاريس بقنطرة باب الخرق، فأرسل الباشا إليه حسن أغا سرجشمه، فعمل متاريسه جهة المدابغ، وزخف الفريقان، وخرقوا جدران البيوت، ليتوصل كل فريق إلى الآخر وليتمكن كل من عدوه، وسعى فى هدم ما يأويه، فتخرّب لذلك غالب بيوت تلك الخطة، وحصل لأهلها من الشقاء ما لا يوصف، وتعدّى الشقاء لباقى أهل البلد، وغلقت الحوانيت وتعطلت الأرزاق.

فلما طال الحال، ورأى الباشا أن هذه الفتنة إن دامت دمّرت ما دبره، وربما أفسدت ما لا يمكن إصلاحه، وجه صالح خوجه وعمر بيك الكبير، وجعل إليهما أمر الإصلاح.

فبعد مجاورات تم الأمر على أن يعطوا لرجب أغا مبلغا عيّنه، وأن يخرج إلى بلاده، فكان.

ص: 173

وخرج إلى بلاده من طريق دمياط، ثم طرد جميع العسكر الدلاة، وألبس فرقة من الأتراك الطراطير بدلهم، ورأس عليهم من أقاربه مصطفى بيك.

وكذا وجه عسكرا لمحاربة أولاد علىّ من عرب البحيرة، لما حصل منهم من كثرة الفتك بالأهالى، فأوقعوا بهم، وقهروهم على الطاعة.

ثم وجّه همته إلى قمع ياسين بيك وحزبه، فإنه كان قد خرج من مصر واجتمع عليه جماعة من الأوباش، فسافر بهم إلى قبلى، وانضم إليه بعض المفسدين من الأمراء والعرب، وأكثر النهب والسلب والإحراق. فأرسل إليه الباشا جمعا التقى معه بالمنية، وانتشب القتال بين الجمعين. وبعد قتال شديد انهزم ياسين بيك، وتفرّق جمعه، وفارقة أكثر أصحابه ثم تراسلوا فى الصلح على أن يحضر إلى القاهرة، فأجاب وحضر. ولما كان طبعه يميل إلى إثارة الفتن والباشا يريد حسمها، استقر الأمر على نفى ياسين بيك قطعا لأسباب الشر، فسفّروه إلى قبرس. وهدأ القطر بخروجه ووجود القبالى بمصر بعض الهدوء.

[محمد على يسترضى أمراء المماليك ويزيد الضرائب على الأراضى والمحاصيل]

ولكن الباشا لم يزل متفكرا فى أمر الأمراء، لما يراه من تقلباتهم، وعدم رضاهم، بما يصل إليهم من هباته ومرتباتهم، وإظهار كل منهم أنه الأحق بالأكثر مما لسواه، وطلبه الزيادة على ما أعطاه، وجريانهم مع قبيح تصورهم وطموحهم فى ميدان تهورهم.

ولما كان مضطرا إلى مواساتهم إلى أن يتخلص متى سنحت الفرصة من شرهم، كان لا يمنعهم مطلوبا، ولا يكف عنهم مكروها له ولا محبوبا، فاحتاج لذلك إلى المال، فوجّه نجله إبراهيم بيك إلى جهة بحرى مع كشّاف وكتّاب، ووزع على كل فدان يروى بالنيل أربعمائة وخمسين فضة، وبعد قليل سافر بنفسه وقرّر على قراريط البلد كل قيراط سبعة آلاف وسبعمائة نصف فضة، وسميت هذه كلفة الذخيرة، وبطل مسموح مشايخ البلاد.

ولما دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف شرع فى بناء سراى بجهة شبرا، على النيل فى متسع من الأرض يمتد إلى بركة الحاج، وغرس بها البساتين والأشجار، وأمر ببناء العيون، وكانت متخربة منذ عشرين سنة، مهجورا استعمالها، فشدّد فى عمارتها، وحشرت لها الصناع، وجلبت إليها المهمات حتى تمت.

وفى سنة أربع وعشرين ومائتين وألف احتاج إلى أموال يصرف منها مرتبات العسكر، لإزاحة عللهم، وقطع أسباب فتنهم، فطلب من القبالى ثلث المطلوب من الغلال، وقدره مائة ألف إردب وسبعة آلاف إردب، وطلب على الأطيان زيادة عن عام الشراقى الثلث، ومن الملتزمين نصف مال الالتزام، وجعل المال على الرزق، وأطيان الأوسية.

ص: 174

‌حدوث التمغة على المنسوجات وغيرها

وحدثت التمغة على المنسوجات من الأقمشة والحصر، والمصوغات من الأوانى والحلى، وأمر الروزنامجى بتحرير قوائم البلاد، فقال إن أكثر البلاد خراب، فأمره بفرز الخرب من العامر، فحرر القوائم، وجعل فى ضمن الخرب بلدة عامرة، كانت له ولأحبابه.

فلما عرضها على الباشا فرقها على الأمراء بحسب درجاتهم، وأخرج لهم بها التقاسيط، وكان عدتها مائة وستين بلدا، وتسنّى له بذلك أن يدفع إلى العسكر مرتبهم، ويطفئ لهب فتنهم، ولكنه مع ذلك كان ساعيا فى إبعادهم، ليكفى الأهالى شرهم، لأنه ما من يوم يمر إلا ويحصل فيه قتل وسلب فى الحارات والضواحى، ولا يستطيع أحد أن يخرج من بيته، ولا إلى أقرب منزل له بعد العشاء، ولا يمكن لإنسان أن يذهب وحده، أو مع جمع قليل إلى شبرا أو بولاق، وقبل أن يخرج يسأل عن أمن الطريق، فكان الباشا يبعد العسكر عن البلد ما أمكنه، فيرسلهم خلف العرب، ولمحاربة باقى الأمراء بالجهات القبلية، ويترقب الفرص لإزاحتهم.

‌مطلب نفى السيد عمر مكرم

ثم لما رأى أن بعض المشايخ بما لا يلائم الحال، خصوصا السيد عمر مكرم، لمعارضته له فى جميع مشروعاته، وتهييج الأفكار عليه، شكا منه إلى المشايخ، فهوّنوا له أمره، وصاروا يعدون له معايب وهنات، حتى نفّروا الناس عن السيد عمر مكرم، وتباعد عنه أصحابه.

وفى خلال تلك الأحوال طلبت الدولة مبلغ أربعة آلاف كيس كانت باقية مما خصّصه قبطان باشا، فعقد لذلك مجلس، كتب فيه محضر ذكر فيه خلو الخزينة من الأموال مع كثرة النفقات على الأعمال النافعة، كسد ترعة الفرعونية، وبناء العيون، وترميم بعض القناطر، وغير ذلك، وختم عليه المشايخ. ولم يحضر السيد عمر مكرم كراهة فيما يفعل، فاغتاظ الباشا، وطلبه إلى الحضور، فلم يجب، وترددت الرسل بينهما، فقال السيد عمر:

إن كان ولا بد من الحضور ففى بيت السادات، فزاد غيظ الباشا، ونزل ببيت ولده إبراهيم بيك. وأرسل خلف المشايخ والأمراء، فحضروا عنده، وأحضر القاضى، وأمره أن يرسل إلى السيد عمر مكرم، فأرسل إليه القاضى رسولا ليتذاكر معه فامتنع معتلا بالمرض، فقرر المجلس رفعه من نقابة الأشراف، ونفيه إلى دمياط، ونزع ما بيده من النظارات، وتولية السادات وظيفة النقابة، فألبس الفروة فى المجلس.

ص: 175

‌مطلب انفصال الشيخ الطحطاوى عن الإفتاء

ولما وصل الأمر إلى السيد عمر أقام السيد المحروقى وكيلا على أولاده، وسافر إلى دمياط، فتجارؤوا على أخذ ما كان بيده، وأكثروا التودد والرجاء، فطلب الشيخ المهدى من الباشا أن يعطيه نظارة وقف الإمام الشافعى رضي الله عنه وسنان باشا، فأعطاهما إياه، ثم طلب صرف ما هو متأخر لهما، فصرف له، وهو مبلغ قدره ثلاثة وعشرون كيسا، ثم نمقوا محضرا ذكروا فيه أسباب عزله ونفيه، وختم عليه المشايخ سوى مفتى الحنفية الشيخ الطحطاوى، فنفروا منه، وابتنى على ذلك انفصاله من منصب الإفتاء، وتعيين الشيخ منصور بدله.

ثم رأى الأمراء أنهم إن داموا على حالهم بمصر ضعفت سلطتهم، فاتفقوا على الخروج من مصر، فخرجوا إلى قبلى، واتحدوا مع جاهين بيك وغيره، وجعلوا يغرون العرب والمفسدين، حتى كبر حزبهم، وخافهم الباشا، فقام بنفسه، وأخذ عساكره، وخرج إليهم فى شعبان من تلك السنة، وجعل نائبه فى البلد كتخدا بيك، وهو محمد بيك لازوغلى.

[محمد على يسترضى المماليك ويحارب إبراهيم بيك]

فلما قرب منهم، راسلهم فى الصلح، وكان الكثير خرج على غير خاطره، لما ذاق من حلاوة الراحة ورفاهية المعيشة، فتجرّع غصص الكرب فى ميدان الحرب، فما صدق أن سمع بأمر الصلح، فطار فؤاده فرحا، والضم إلى الباشا، فأغدق عليهم، وأظهر لهم البشاشة واللين، وتذرع الصبر على مضض ما يقاسيه منهم، لأنه كان على يقين من أنهم ما داموا فى مصر لا يصفو عيش، ولا يستريح بال، لكنه كان يترقب سنوح الفرصة فيستريح.

وأول من جاء منهم محمد بيك المنفوخ، فأعطاه جمرك بولاق، ثم عوّضه عنه ستين كيسا، ثم تلاه جاهين بيك، ونعمان بيك، وأمين بيك، ويحيى بيك، فأنعم على كل منهم بعشرين كيسا. وشرعوا فى شراء بيوت، وبناها لهم الباشا على مصروفه، وألحق تلك العطايا بسبعة آلاف ريال لكل منهم، فاطمأنت خواطرهم، واشتغلوا بتنعماتهم، والباشا يلين لهم جانبه، ويتلطف بهم، حتى خضعوا له. ولم يبق مخالفا لهم إلا إبراهيم بيك الكبير، فإنه لما حضر وقت الصلح إلى الجيزة ولم تضرب المدافع لقدومه تغيّر خاطره، ونفر طبعه، ونقض الصلح، ورجع إلى قبلى مع جماعة ممن كان على رأيه، وانضم إليهم بعض قبائل العرب، ولكن لم يجد نفعا، فإنهم فروا عنه، عند ما رأوا عسكر الباشا تقفوا أثرهم، وقد ملكت المنية.

ص: 176

وأيضا فإن غالب رؤساء العصبية انضمّ إلى الباشا، ولم يزل صالح قوجه مصعدا خلف إبراهيم بيك وجماعته إلى أن أجلاهم عن الإقليم، فدخلوا بلاد النوبة، وأقاموا بها.

[الاستعداد للحرب الوهابية]

وفى خلال ذلك كانت الفتنة قائمة فى الأقطار الحجازية بسبب ما فعله الوهابى بتلك الجهة، لأنه عاث فيها كالذئب فى الغنم، وقتل وسلب وسبى ونهب وهتك حرمة الحرمين الشريفين، ونال أهل البلدين من ضرره ما لا مزيد عليه، حتى هاجر كثير منهم إلى مصر والشام، وما جاورهما من البلاد، وتعطّل الحج، وخيف الطريق، فكتب أهل الحجاز يستغيثون بالدولة، فكتبت لمحمد على بإرسال العسكر لإخماد تلك الفتنة، وحثه على السرعة، فأخذ يجهز العسكر، واتخذ صناعة فى بولاق لعمل المراكب، وأمر بقطع الأشجار البالغة فى أنحاء القطر وجلبها إليها، ففصّلت منها عدة مراكب، وأرسلت على الجمال إلى السويس فتركبت هناك.

ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائتين وألف، فتوجه الباشا بنفسه إلى السويس، وأمر بضبط ما بها من المراكب، وكذا ما بغيرها من سواحل البحر الأحمر، وعاد إلى مصر، وأخذ فى تشهيل الجردة، وقلّد ولده طوسون سر عسكرها، فخرج الجيش وعسكر بقبّة العزب، وكان نحو ألفى مقاتل، وحثّ على إحضار اللوازم، فوقع ذلك لدى الدولة العلية موقع الاستحسان، ورأى السلطان أن فعله ذلك من أجلّ الخدم الدينية وأرفع التقربات إلى الدولة العلية، فأصدر أمره إلى خورشيد باشا ومن معه بالرجوع إلى الآستانة. فكان كتقرير جديد من الحضرة السلطانية للباشا بتولية الديار المصرية. فأهدى ذلك الأمر السرور لقلب فرانسا، وموافقها دولة الإنكليز، وأبلغت دولة فرانسا الباشا على يد قنصلها أنها ممنونة مما رأته من اقتداره على نشر أعلام التمدن فى البلاد الشرقية.

[مذبحة المماليك بالقلعة]

وكان الباشا قد نمى إليه أن جماعة من المماليك، تواطؤوا على الفتك به فى عودته من السويس، فقام على غير ميعاد وتسربل ظلام الليل، حتى دخل مصر من ليلته.

ورأى أنه لا يأمن من فتكات المماليك خصوصا إذا خلت البلد من العسكر فدبّر فى قطع دابرهم، فأبدى اهتمامه بأمر يوسف باشا الذى كان واليا على الشام وعزله عنها أحمد باشا الجزار، فحضر مستعينا بالباشا، فشكره الباشا لاختياره ووعده المساعدة وأن يكون أعزّ أنصاره، فأمر بتجهيز تجريدة لنصرة المذكور، وعيّن جاهين بيك الألفى رئيسا لها، ثم أحضر المنجمين وطلب منهم تعيين ساعة يكون الطالع فيها سعيدا حتى

ص: 177

يلبس ابنه طوسون السيف والخلعة اللذين حضرا برسمه من طرف السلطنة السنية حين تعين رئيسا للجيوش المسافرة للحجاز، فاختاروا له الساعة الرابعة من يوم الجمعة الخامس من صفر سنة ست وعشرين ومائتين وألف.

فلما كان يوم الخميس الرابع منه طاف الجاويشة فى الأسواق يعلنون بالموكب على حسب عوائد تلك الأزمان، وطافوا بيوت الأمراء وكبار العسكر، وزعماء المماليك على طبقاتهم بمنشورات الحضور إلى القلعة متجملين ليسيروا فى الموكب فى اليوم المقرر، فأخذ كل فى الاستعداد. وفى الوقت المعين وافوا القلعة، ولم يتأخر منهم إنسان.

وكان الباشا قرر فى نفسه الفتك بالأمراء ومحو آثارهم، فدبّر تلك الحيلة لاجتماعهم كى يستريح من شرّهم، ولم يظهر ذلك لأحد حتى كانت ليلة الجمعة فأسرّ ما صمّم عليه إلى حسن باشا الأرنؤودى وصالح قوجه وكتخدا بيك، فاستصوبوا ما رآه، وبات كل واحد يدبر أمره، فلما كان صباح الجمعة أسرّوا ذلك إلى إبراهيم أغا أغاة الباب، واتفقوا معه على ما يكون إجراؤه، كى لا يحبط عملهم، فيقعوا فيما لا يقدرون على الخلاص منه، فرتّبوا على حافتى المضيق الذى بين باب العزب والباب الأعلى ما يلزم من أتباعهم.

فلما انتظم الموكب تقدم عسكر الدلاة، ثم وليهم الوالى والمحتسب، ثم الأغا والوجاقية والألداشات ومن تزيّى بزيّهم، ثم الأمراء المصريون، ثم عسكر الرجّالة والخيّالة، ثم أصحاب المناصب. فلما سار الموكب، وجازت الألداشات من باب العزب، وانحصر الأمراء بين باب العزب والباب الأعلى فى المضيق، أمر صالح قوجه بغلق الباب الأسفل، وعرّف طائفة من جماعته بالمراد، فأرسلوا رصاص بنادقهم على الأمراء، وكذا أطلق عليهم من بحافتى الطريق، فدهشوا، وأرادوا الهرب فلم يتمكنوا لغلق الأبواب، والرجوع فلم يقدروا لضيق المكان وصعوبة المرتقى، فسلّموا أنفسهم للقضاء، وبقوا متحيرين إلى أن مات أغلبهم فى المضيق، كجاهين بيك وسليمان بيك البواب، وبعضهم تجرّد من ثقله ورجع، فمذ وافى الساحة الوسطى أدركه بها حمامه.

ونزل بعض العساكر، فاحتزّ رأس جاهين بيك وغيره وأتى بها إلى الباشا، فأعطى عليها البقاشيش، ثم داروا على من اختفى بجهات القلعة، فمن عثروا عليه قتلوه، وكذا قتلوا من كان جالسا مع كتخدا بيك، كيحيى بيك الألفى وعلى كاشف الكبير وأحمد بيك الكلارجى.

واستمر القتل من ضحوة النهار إلى العشاء.

ولما حصل لمن كان بالقلعة من الأمراء ما حصل تتّبع العسكر من كان منهم بالقاهرة والأرياف، فقتلوهم، إلا من فرّ إلى السودان، أو استتر حتى مات. ونهبت دورهم، وامتلكت الأرنؤود أموالهم.

ص: 178

وفى يومها أرسل محرم بيك إلى طاهر باشا وكان حاكم الجيزة لجمع مال المقتولين من كافة الجهات، فجمعت، وكانت شيئا يفوق الحصر من خيل وحمير وجمال وبغال وأبقار وغير ذلك من الغلال، ونودى بالأمان لنساء المقتولين، وأن يرجعن إلى بيوتهن، وكن قد تشتتن.

وأنعم الباشا ببيوت الأمراء بما فيها على خواصه، فسكنوها، وجددوا فرشها مما نهبوه، وألبسوا النساء الخواتم مما سلبوه.

ولما رأى العسكر قد أكثرت من النهب، وتعدوا على بيوت الأهالى نزل وطاف بالبلد، وأمسك بعض المتعدين وأمر بقتله، وكذا أمر ابنه طوسون أن يطوف بحارات القاهرة، وأن يقتل كل من وجده على هذا الحال، ففعل، ولولا ذلك لنهبت البلد عن آخرها.

وانتهت هذه الحادثة على وفق مراده، وأطلق تصرفه بعد التقييد، ثم إن الباشا بعد ما أخلى الديار من أنفاسهم، أخذ فى النظر إلى حال البلد وما يلزم من الترتيبات والتنظيمات، وشرع فى تخليص القطر من الأوحال، التى ورّطه فيها سوء من تقدم من الحكام، إذ الباشا وإن كان متوليا عليه، لكن لم يكن قادرا على تعديلاته لما كان حاصلا من معاكساتهم، مع أنه كان غير غافل عن النظر فى كل حادثة، معمل فكره فى حل كل مشكلة، إلى أن اطلق تصرفه، وزال معاكسوه، فشرع فى الإصلاح على نهج مستقيم، وقوانين معتدلة، وجلب لقطره تجارات السعادة، وفعل ما أحيا ذكره، وأوجب شكره، وأسس بيت مجده، وجذب بزمام العدل رواحل سعده.

[الحرب الوهابية]

فرأى أن النظر للدولة العليّة أول واجب لتتميم مراده، لأنها كانت تودّ عزله عن مصر، فنظر إليها بعين الاعتبار، وسعى فى تنفيذ أغراضها، وبادر إلى امتثال مرسوماتها، فوجّه العسكر إلى الحجاز صحبة ابنه كما أشرت، وجعل بصحبته بعض العلماء كالشيخ المهدى، وكلّف السيد المحروقى بتجهيز طلبات العسكر، ونزل فرقة منهم بالمراكب، لسرعة الذهاب فسبقوا العساكر البرية، فوصلوا إلى ينبع البحر، وتلاقت هناك بجيش الوهابية.

فلم يكن إلا قليل، وانهزم العرب شرهزيمة، واستحوذت العساكر المصرية على متاعهم، ودخلوا البلد، واستولوا عليها.

ص: 179

وورد البشير بذلك إلى القاهرة فزيّنت، وأرسل الباشا بخبر النصر إلى الدولة العلية، فدبّ السرور فى أنحائها، وعملت الزينة هناك.

وأقامت العساكر بينبع، حتى أدركتها عساكر البر، فسار جميعا إلى الصفراء والجديدة، وكان العرب قد تجمعوا هناك، فحصل بين الجيشين مقتلة عظيمة، انفصلت بانهزام العساكر المذكورة فرجعوا لا يلوى بعضهم على بعض، إلى أن وصلوا إلى البحر، ومنهم من أخذ على وجهه على طريق القصير راجعا إلى مصر، مثل صالح قوجه وغيره.

فسبقهم الخبر من طوسون باشا بعدم ثباتهم، وتفرّق كلمتهم، وعدم امتثالهم، فحنق الباشا، وأضمر لهم السوء، فحين ما وصلوا إلى القاهرة أرسل لهم بالخروج من بلاده، ولم يقابلهم، فتحولوا برجالهم إلى بولاق مظهرين الامتثال، ومتربصين حضور عساكر قنا.

فإنهم عند عودتهم حين ما مروا بها، اتحدوا مع أحمد أغالاظ حاكمها على حضوره إليهم بعساكره، إن رأوا من الباشا عين الغدر. فلما أمروا بالخروج أبلغوه الخبر، فأرسل أمين أسراره إلى الباشا يعلمه أنه يرغب فى مفارقة مصر مثل إخوانه، فتبين للباشا مآربه، فماطله، وأرسل يطيّب خاطره، وأضمر له ما أضمر، وأخذ فى تشهيل الآخرين، وصرف لهم جميع مطلوباتهم، وأثمان بيوتهم، حتى ما صرفه صالح قوجه على الجامع الذى بناه قرب بيته ببولاق، على ساحل البحر. فقاموا وتوجهوا، ثم عيّن الباشا ولده إبراهيم واليا على الصعيد، وطلب أحمد أغالاظ إلى الحضور، فحضر، فمذ وقعت عين الباشا عليه قتله، واستحوذ على أملاكه ودوره، وخلّص القطر من شروره. وهكذا همم الرجال فى التخلص من أوحال الأحوال.

ثم أخذ فى تدبير أمر الحجاز، واتخاذ الطرق الموصلة لفتوحه، فجمع العساكر، وعيّن لها الكشاف، وأرسلها صحبة بانوبرت الخازندار فى أسرع وقت. ونمى إليه أن المساعد للوهابية هو شيخ قبيلة حرب، وأنه إذا انفصل بعربه عنهم تم للباشا ما يريد، فدسّ إليه من يحسّن له الانضمام إلى عسكر الباشا. وأصحب أمير الجردة النقود الوافرة والهدايا، وأمره بالإغداق عليهم، فأخذ الأمير يراسلهم، وأعطى شيخ القبيلة مائتى ألف ريال فرنساوى، وأعطى كل رئيس ما يناسبه من النقود، وكل نفر خمس ريالات وغرارة عدس ومثلها بقسماط، زيادة عما أعطى المشايخ من الكشامير، وما خصصهم به من المرتبات، فتحالفوا على نصرته. وبهذا تسنى له الاستيلاء على المدينة ومكة وجدة بلا كثير مشقة.

وورد البشير بذلك ومعه مفاتيح المدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - فدقت الطبول، وزينت البلد، ووجه الباشا لطيف بيك بالمفاتيح إلى القسطنطينية، فكان

ص: 180

يوم مقدمه إليها عيدا، وعمل موكب حافل مشى فيه العلماء والأمراء، من أرباب الدولة وغمر بالإنعامات.

وشاع بذلك ذكر الباشا فى الآفاق، وانتشر صيته فى جميع الأنحاء، وهابه القريب والبعيد. ووقع فى نفس الدولة من علوه أشياء، فقيل إنها أسرّت إلى لطيف بيك أمرا، ومنته الأمانى، فلما رجع إلى مصر وجد الباشا قد بارحها إلى الأقطار الحجازية، وخلفه محو بيك بجماعته، وكذا الدالى حسين، فاغتنمها فرصة على زعمه، وجعل يغرى المماليك ومن بقى من شيعتهم، فشعر به الكتخدا فاحتال حتى أوقع به وبمن معه، وأطفأ هذه الثائرة بموتهم.

وأما سبب سفّر الباشا إلى الحجاز، فإنه لما تمت له الغلبة على تلك الجهة أخذ فى تسوية أمورها، فرأى أنه لا يتسنى له ذلك إلا بعزل الشريف غالب، وعزل المذكور محفوف بصعوبات لا يقوم بدفعها سواه، لأنه إن كلف غيره بحلها، ربما أخطأ أو أفشى سره، فضاعت ثمرة نصرته، فقام بنفسه فى شوّال سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف متوجها إلى مكة، فلما وصلها اجتمع بالشريف ولاطفه، فاطمأنّ لذلك الشريف، وصار يذهب إلى الباشا ويرجع مطمئنا، وكذا يذهب إلى بيت ابنه، إلى أن تم للباشا ما دبر، فأسرّ لابنه القبض عليه، فقبض عليه وعلى عائلته وأرسل إلى مصر، وجعل مكانه ابن أخيه الشريف يحيى ابن سرور.

ومكث الباشا بالحجاز، إلى جمادى الثانية سنة 1230، إلى أن تم له أمره، كما تم له أمر مصر، فرجع إليها فى رجب من عامه. فكانت إقامته بالأراضى الحجازية اثنين وعشرين شهرا، ودخل تحت سلطته غالب تلك البلاد، كالطائف ومكة، والمدينة وقنفدة وجدة، وأطاعه أكثر القبائل.

[إصلاحات محمد على الداخلية]

وحصل هناك أمور لم يمس الغرض بتفصيلها، وإنما سردنا ما سردنا لارتباط الحوادث بعضها ببعض، وتلميحا لما كان عليه هذا الشهم من الحزم والصبر اللذين أو صلاه بقوتهما إلى أقصى المراد، مما لا يصل إليه غيره، بجمع العساكر، وحشد الأجناد، فإنه مع ما كان مشغولا به من الحروب الخارجية لم يهمل أمر الداخلية، خصوصا أمر المصاريف الباهظة لأجل التجاريد، فأخذ فى تقرير الأحوال، وترتيب الأموال، كتحرير الموازين والصنج، فإنه أنشأ ديوانا لذلك، ورتب خدما للتفتيش على الصنج، فكل ما وجدوه تاما دمغوه بمقرر،

ص: 181

وما وجدوه ناقصا كسروه وعوضوه بغيره مدموغا. فعلى الصنجة وزن نصف أوقية ثلاثة أنصاف فضة، والأوقية ستة، ونصف الرطل خمسون، والرطل مائة. وكضم الالتزامات إلى بيت المال وتعويض أربابها دراهم من الخزينة وغير ذلك.

فبهذا تسنى له جمع المال الذى كان يصرفه فى التجاريد، وبناء الحصون بالإسكندرية ورشيد ودمياط، وسد أبى قير، وترعة الفرعونية، مع اهتمامه بتأمين الطرق ومساعدة التجار من الإفرنج وغيرهم، حتى اطمأنوا بعد الخوف، وسكنوا ثغر الإسكندرية، وجلبوا إلى مصر أنواع التجارات.

ولما صدر أمر الدولة بإرسال الشريف غالب إلى القسطنطينية، وردّ جميع ما أخذ منه، صالحه الباشا على سبعمائة كيس، فقبلها، وطيّب خاطره، وأرسله إليها مكرّما.

[فشل أول محاولة لتنظيم الجيش]

ثم إن الباشا أراد أن يجعل عسكر مصر نظاما، كهيئة عسكر الإفرنج، فلما أشيع ذلك، شنع كبار العسكر وأمراؤهم على هذا المشروع وقبّحوه، وتحادثوا بينهم فيه، فاتفقوا على المعارضة فيه متى استشيروا، وتجمعوا على الهجوم على الباشا بمنزله، وكان من جملتهم عابدين بك، فأخبر الباشا بما دار بينهم، وتبين له منهم عين الغدر، فغيّر زيه ليلا وطلع إلى القلعة، مع من يلوذ به، وتحصّن بها.

فلما بلغ ذلك العسكر قاموا واحتاطوا بالقلعة، ولما رأوا ذلك غير مفيدهم شيئا تفرقوا فى شوارع المدينة، ينهبون ما وجدوه ويكسرون الأبواب المغلقة، حتى أتوا على جميعها، ولم يدافعهم أحد إلا أهل خان الخليلى من الأتراك والأرنؤود، وأهل الكعكيين والفحامين من المغاربة.

وأعلقت البيوت، وتعطلت الأسواق، وامتنع الوارد للمدينة، واستمر ذلك ثلاثة أيام، فاستدعى الباشا العلماء وبعض الأمراء، وأظهر أسفه على ما حصل، وشنع على ذلك، وأمر السيد المحروقى بتحرير قوائم بما نهب حتى يقوم بدفعه لأربابه، لما أن ذلك لم يقع إلا بسببه، وأمر ببناء ما هدم على طرفه، ورد ما كسر من الأبواب، ففرحت الأهالى بذلك، ومدحوه وأثنوا عليه الثناء الجميل، ومالوا إليه بعد النفرة.

ولما أحضرت القوائم أمر لكل واحد بجزء من ماله، ووعد بإعطاء الباقى عند ما تتحصل نقود. وكان الذى ظهر لتجار الغورية مائة وثمانون كيسا، ولأهل الحمزاوى ثلاثة

ص: 182

آلاف كيس، ولأهل السكرية سبعون، ولأهل مرجوش أربعمائة وخمسون كيسا، كل ذلك فى مقابلة عروض التجارة، وأما النقود فلم يسمع فيها دعوى.

[محمد على يقضى على أعدائه ومعارضيه]

وهذه الحادثة، وإن كانت أولا ليست على مراد الباشا، لكنها آخرا كانت من أحسن ما قصده، فانها قوّت حزبه، وأوغرت صدور الناس على أعدائه، وأنعم على البرآء من هذه الحادثة، ومن برّأ نفسه، وأنعم على عابدين بيك بألف كيس، وجعل محو بيك كبير الدلاة، وألبسه الخلعة بذلك - وهؤلاء الدلاة كان أكثرهم من الدروز والشوام والمتاولة يلبسون الطراطير الطويلة من الجلد طول الواحد ذراع. وقلد عبد الله صارى كوللى اليكشارية، وألبسه الطربوش الطويل المرخى.

وفى شوال من هذه السنة، نزل الباشا من القلعة، وكان لم يبارحها مذ طلعها مستخفيا، وتوجه إلى الأثر، ومنه عدّى البحر إلى الجيزة، وبات بقصر هناك فلما أصبح ذهب إلى شبرا، فبات بها ليلة أيضا، ثم نزل إلى قصره بالأزبكية، ثم طلع القلعة، وأكثر من الاجتماع بالمشايخ والأمراء، وتكلم معهم فى رد الالتزامات لأربابها، وغرضه بذلك أن يشاع بين الناس، فتطمئن خواطر الأمراء، لأن أغلب الالتزامات كانت بأيديهم، وكانوا هم المحركين للعسكر، فأراد بذلك تسكينهم.

وكان مع ما هو فيه، يبث عيونه بالآستانة، فتصل إليه الأخبار، ويوالى الدولة وأعيانها، ويبادر لإظهار ما يحبونه، فيعمل الزينة، متى بلغه أمر فيه سرورهم، كنصرة أو ولادة.

فكانت الفرمانات تتوالى إليه مقوية لسلطته، مادحة ما يفعله، فتنشر فى الأنحاء، فازدادت مكانته، وقويت شوكته.

ولما حضر ابنه طوسون باشا من الحجاز، عمل له موكب فاخر، وزينت البلد وضواحيها أياما، وهرعت نساء الأمراء إلى بيته، مهنئين والدته بعودته، ثم توجه إلى الإسكندرية ليتقابل مع أبيه بها، فلما التقيا وتذاكرا فى أمر العسكر وتجمعهم، ثم التدبير على تفريقهم عن القاهرة، فجعل ابنه طوسون باشا بالحماد وأبى مندور، وحسين بيك وحجو بيك سارى كوللى، ومحو بيك بالبحيرة، وغيرهم بدمياط.

ولما استقر طوسون باشا بمعسكره، أخذ يؤلف قلوب العسكر إليه، حتى استمال أغلبهم، خصوصا جماعة محو بيك، فإنه كان معاندا متهورا، فقصده قص ريشه، ليتعشى به، فلما رأى محو بيك نفسه فى قلة وعسكره قد انحازوا إلى طوسون باشا، وعرف عين

ص: 183

الغدر من أحواله، وتحقق ذلك إذ طلب منه الحضور عنده توقع على اسماعيل باشا، ومصطفى بيك - كبير الدلاة - فتوسطوا له عند الباشا، وتشفعوا فيه، فقبل شفاعتهم. ومن وقتئذ انكسرت حدة محو بيك، وأمسى فى قبضة الباشا، حيثما شاء وجّهه.

فلما رأى ذلك باقى الأمراء، بسطوا أكف الذل وخضعوا، فصفا الوقت للباشا، وأخذ يتصرف بالتؤدة فى أمور القطر.

ولم يبق من ينتقد أفعاله إلا أفراد قليلون، منهم الشيخ الدواخلى، فإنه بعد أن ولاه نقابة الأشراف، داخله الغرور، وصار يندّد على أفعال الباشا، ويقدح فى أموره، وتجرّأ على إبراهيم باشا فى مجلسه بما لا يليق فى حق أبيه، وكان يتهور على الأقباط، فأكثروا الشكوى منه، وتقدّم من المشايخ فيه محضر، فأرسله إلى الدولة، وعزله من نقابة الأشراف، وأشار بها على السيد المحروقى، فاستقاله منها فأقاله، واختار أن يكون فيها البكرى لاستحقاقه إياها، فولاّه الباشا، وألبسه العباءة، كما كانت عادتهم.

والتفت لإضعاف كل من شم فيه رائحة التمرد، فشتت الأرنؤود فى الحروب، وقتل المتمردة. ودخل تحت طاعته من كان يرى نفسه أعلى منه، كمن بقى من أتباع الأمراء المصريين بعد أن ذاقوا أليم الفاقة، فرضوا أن يتوطنوا مصر راضين أن يفعل بهم ما أراد، فقبلهم على أن يستخدم من يليق، ويرتب لمن لا قدرة له على الخدمة ما يختار، وأن لا يعطوا أرضا، فرضوا، وأجلى طوائف الدلاة.

وبالجملة عز تمام العز، بعد انتصار ابنه المرحوم سر عسكر على الوهابية، وإحضاره عبد الله بن مسعود أميرهم، سنة أربع وثلاثين ومائتين وألف، وقد قتل المذكور بالآستانة، فكان افتتاح الحرمين الشريفين، من أعظم البواعث على علو قدره.

[التفات محمد على للإصلاح الداخلى]

ثم التفت إلى تنظيم القطر فقتل الأشقياء، وأمّن السبل، وسيّر التجارة برا وبحرا، وأمر بحفر ترعة الأشرفية، وهى المحمودية، لتسهيل التجارة وجلب المياه العذبة إلى ثغر الإسكندرية، والاستراحة من طريق رشيد لكثرة الخطر بها، وعيّن لعملها مهندسين من الفرنساويين وهما: كوستاوماسى.

وفى سنة خمس وثلاثين ومائتين وألف كانت الفرضة على المواشى، وأخذ فى تطهير الترع، وإنشاء الجسور، وترميم القناطر. ولكن لما يحتاجه من الأموال، وعلمه بأن

ص: 184

الحوادث قد أمحلت حال القطر ولو طلب من الأهالى شيئا مع تعطيل زراعتهم لعدم الاعتناء بتطهير الترع أوغر صدورهم رأى أن يمسح أرض القطر، ويربط على كل جهة بحسبها. فعيّن لذلك ولده إبراهيم باشا، فتممها فى سنة ست وثلاثين ومائتين وألف، وقرر على كل فدان مبلغا معينا. فعرف الناس ما عليهم، بعد أن كان غير معلوم، فاستراح الفلاحون نوعا.

وجعل لمشايخ البلاد على كل مائة فدان خمسة أفدنة، وسماها «مسموح المشايخ» .

وأبطل عمل الشمع الزفر بالبيوت، وجعل له معملا. وأبطل الذبح بالبيوت أيضا، وجعل المذبح ميريا، ورتب على كل رأس تذبح مبلغا، وجعل السقط والجلد للديوان، ودخل فى سلك النظامات والروابط أنوال الحياكة والحصر والصابون، والمخيش، والقصب والتلى، ووكالة الجلابة، وعسل النحل.

وأعطى الملاحة التزاما، وجعل لهذه الأمور ديوانا وكتابا، وكذا جعل لما يتحصل للديوان من محصول المزروعات أشوانا بالبلاد، تورّد إليها الفلاحون ما يتحصل عندهم بثمن مقدر، فيخصم منه ما عليهم من الأموال، ويصرف لهم ما يبقى أو يعطى لهم به رجع طلب، ثم يباع منها لتجار الإفرنج، وغيرهم.

وجعل للأرز دوائر، وأمر بحفر آبار بأرض الوادى، وأن يزرع حولها شجر التوت فما كان غير قليل، حتى نما الشجر وعظم، فأحضر من الشام وغيرها أهل الخبرة بتربية دود القز، وصنع معامل الحرير، فنتج وصار من جملة محصولات مصر.

‌استيلاء العزيز محمد على باشا على الأقطار السودانية

ثم تراءى للباشا أن يبعد عسكر الأرنؤود عن القطر لما يعرف فيهم من شراسة الأخلاق، ورأى أن أهل بلاد السودان يحصل منهم التعدى على من جاورهم فى كثير من من الأحيان، فكان يريد إخضاعهم، فدسّ إلى الأرنؤود من أدخل فى ذهنهم أن بلاد السودان هى معدن الذهب ليرغبوا فيها، فيستريح منهم خاطره من جهة، ويؤدب السودانيين من الجهة الأخرى، ويحفظ حدود القطر من الجهة القبلية، مع توسيعها بقدر ما يلزم.

وقد كان ذلك، فانه بمجرد أن ندبهم إليها لبوا دعوته ممتثلين، فجعل ابنه إسماعيل باشا قائد تلك الجيوش، وأرفق معه محمد بيك الدفتردار، فتوجها بالجيوش إلى بلاد السودان.

واهتم بجمع تجريدة أخرى تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا، لتلحق بالأولى.

ص: 185

ولم يمض غير قليل، حتى استولى إسماعيل باشا على بلاد سنار - التى هى بلاد الزنج - واستحصل على تبر وعبيد، ولكن وقع الوباء فى العسكر المصرى حتى أفنى جملة، فاستأذن أباه فى العودة إلى مصر فماطله، فتوجه إلى شندى، وطلب من أميرها النمر بعض المطاليب، وأخذ بعض العسكر فى العسف بتلك الجهة على عادتهم فى تلك الأوقات، فضجرت الأهالى، ودبر النمر وقومه عليهم مكيدة لتلفهم، وذلك أنه أنهى إلى إسماعيل باشا أن أهل البلد يرغبون فى إعمال زينة للأمير، فرحا بحلوله بلدهم، ودعاه إلى الدخول إليها، فرضى، ودخلها، وأنزلوه منزلا كان قد أعد له، وجعلوا حوالى المنزل تبنا كثيرا، وقالوا: إنه للزوم المواشى والحيوانات. فلما أخذ الناس مضاجعهم أوقدوا النار بالمنزل وما حوله، فاحترق بمن فيه، الباشا ومن معه، ونجا محمد بيك الدفتردار.

وكان الإذن وصل إلى اسماعيل باشا بالعود وهو بشندى، فسبقه الأجل، فتجرّد الدفتردار لأخذ ثأره، فقتل منهم نحوا من عشرة آلاف نفس، ولم يزل الباشا يمدهم من مصر بالقواد والعساكر، حتى دخل كافة السودان فى حوزته، وجعل مدينة الخرطوم محل كرسى حكومة تلك البلاد، وعرفت من ذلك الوقت بحكمدارية السودان.

‌مبدأ ترتيب العساكر المنتظمة، وإنشاء الأساطيل والمدارس وغير ذلك

ورأى الباشا أولا أن يرتب من العبيد عسكرا منتظما، إلا أنه عدل عن ذلك فيما بعد، واجتهد فى تنظيم عسكر بعضه من المماليك، وبعضه من شبان الأهالى، والبعض من العبيد فجمعهم وأمر عليهم ولده إبراهيم باشا، وأرسلهم إلى أسوان، ليبعدوا عن أعين الناس، وعين لهم اثنين من مهرة المعلمين الفرنساوية، ليعلموهم التعليمات والحركات العسكرية، الأوروباوية، أحدهما يسمى مرى، والثانى يسمى سيف، ترقى بعد ذلك ودخل فى الإسلام، وعرف بسليمان باشا الفرنساوى، فأخذ فى تمرين العسكر وتعليمهم، حتى نجح مراد الباشا.

وكان الناس، وخصوصا الأرنؤود، يظنون أن هذا المشروع لا ينجح، لا سيما إذا أخذ الباشا من شبان مصر، فخوّفوه على ملكه الجديد، وهو لم يكترث بلومهم، ولم ينزعج بتخويفهم، واستمر على عزمه، حتى تم له ما أراد، ودخلت العساكر مصر، بعد سنتين على هيئة لم تكن تتصور، يقدهم الترنيبتات، وهم فى غاية الانتظام، فكمدت نفوس عسكر الأرنؤود، لتحققهم أن القطر صار فى غنى عنهم، وكانوا يظنون أن وجودهم فيه من

ص: 186

ثم توجهت همة الباشا إلى عمل الأساطيل البحرية، فصنع منها عدة، واستعان بجماعة من الأوروباويين، جعلهم من جملة خدمتها، وأنشأ مدرسة لتعليم علوم البحر، وأدخل فيها جملة من الشبان المصريين، وجلب إليها مهرة المعلمين.

ثم أنشأ مدرسة الطب بجهة أبى زعبل، وعيّن لها الماهر كلوت بيك.

[تدخل الدول الكبرى فى حرب المورة]

فاشتهر صيته وعلا اسمه فى كافة الأنحاء، لا سيما فى بلاد الإفرنج، فلحظوه بعين الاعتبار، وكذا الدولة، فإنها وجدته مساعدا ومعينا لها، عند ما رفع اليونانيون لواء العصيان، وأرسلت لهم الدولة عساكر، فكسروهم بمورة، فراسلت محمد على باشا فى أن يساعدها، على أن كل ما أدخله تحت طاعته كانت له ولايته، فانتصب للمعاونة، وأرسل الأسطول المصرى تحت إمرة ابنه إبراهيم باشا، فتقابل بالأسطول السلطانى بمياه اليونان، وتتابعت العساكر وحصل لعساكر مصر عند تلاقيها بالعدو عدة نصرات بجريد ومورة.

وطال أمد الحرب بين الفريقين، فرأت كل من دولة إنكلترا وفرنسا والروسيا أن هذه الحرب مضرة بالمصالح العمومية، فتعاقدوا سنة 27 ميلادية على التكفل بإنهاء هذه الحرب إما صلحا وإما قهرا، وقدموا لديوان السلطان بواسطة سفرائهم أن يسمح السلطان بحضور أساطيلهم إلى مياه اليونان، وعرضوا الصلح، فامتنع من قبوله، فاجتمع أساطيل المتحالفين وحصروا أساطيل الدولة بمرسى نوارين، فلم يكن لها بهم طاقة فأتلفوها، وكذا أتلفوا أساطيل مصر.

ومع ذلك لم يذعن السلطان للصلح، فاتفق الدول على إنهاء هذه المسألة بالقوة، وتجهزوا لذلك فتكفّل الأسطول الإنكليزى بالبحر، وعينت فرنسا جيشا للبر مركبا من أربعة وعشرين ألفا، ووجهته إلى مورا، فحين رأى ذلك الباشا، أمر ابنه بالرجوع، وانحلّت الحرب بذلك.

[إدخال زراعة القطن وغيره من المحصولات والصناعات]

وأخذ الباشا فى تتميم ما كان شارعا فيه من بناء القناطر والترع والجسور وزراعة القطن، وكان أشار عليه به أحد الفرنساوية المسمى جوميل، فجلبه إلى مصر، وبعد قليل بيع من محصوله للإفرنج مائتا ألف قنطار، وكذا جلب النيلة والأفيون وقصب السكر، وصنع له المعامل، وجدّد ورشا لغزل القطن، وفتح الشوارع، وغرس الأشجار حول القاهرة.

ص: 187

‌الحرب المهولة الشامية

وبينما هو مشتغل بذلك نشأت الحرب المهولة الشامية، وسببها أن الباشا التمس من السلطان ضم ولاية الشام إلى ولاية مصر بدلا مما استرد بحكم الحوادث من ولاية مورة حسب سابقة الاتفاق، فلم تسمح الدولة بغير جزيرة كريد، فرأى الباشا أنها لا تكفى إلا أنه سكت.

ولم يمض غير قليل، حتى عنّ له أن يطالب عبد الله باشا والى الشام بما له فى ذمته من المبالغ التى كان أقرضه إياها من قبل عشر سنين. وذلك أن عبد الله باشا المذكور كان فى تلك المدة قد أظهر العصيان للدولة، فعزلته عن تلك الولاية، حتى توسط محمد على باشا فى العفو، فقبلت الدولة، على أن يدفع ستين ألف كيس، ورأى أن هذا المبلغ صعب تحمله ولكن حيث كان متحتم الأداء، التزم بالتسديد، واستعان بمحمد على باشا، فأعانه بخمس المبلغ، ومضى على ذلك ما مضى ولم يطالبه الباشا بالمبلغ تكرما، ولم يخطر بباله هو أن يدفع ما اقترضه، حتى كاتبه الباشا فى طلب المبلغ، فأجاب بجواب واه حجته، فتغير خاطر الباشا.

ثم عقب ذلك بلغ الباشا أن عبد الله باشا يساعد الفارين من مصر، ويهرّب بضائعها من الجمارك، ويحسّن لهم استيطان الشام، فكاتبه الباشا فى ذلك.

ولما لم تأت المكاتبة بفائدة جهّز جيوشه المصرية لقتاله، بعد أن كاتب الدولة، وأمّر على الجيوش ابنه إبراهيم باشا، فسار بتلك الجيوش العظيمة إلى الشام، وتتابعت العساكر برا وبحرا، فاستولى بلا ممانع على يافا وحيفا، وسار إلى قلعة عكا وبها عبد الله باشا الوالى، وكانت حصينة فحاصرها، وضيّق عليها الحصار ستة أشهر، ثم والى عليها الهجمات، حتى افتتحها عنوة، وأخذ الوالى أسيرا، وصيّره إلى الإسكندرية، فقابله بها محمد على باشا بالإجلال، وعامله بالإحسان.

ولما بلغ الخبر رجال الدولة أخذهم العجب لمعرفتهم أن هذه القلعة من أمنع القلاع.

ولما تمكن إبراهيم باشا من عكا قام إلى غيرها، فكلما ورد بلدا أو نزل قبيلة أذعن له أهلها.

ولما رأت الدولة العلية توغله فى بلادها بعساكره أرادت صدّه بعساكر أخرى، فحصلت بين الفريقين وقعات شديدة، إحداها بقرب حمص، وأخرى بمضيق بيلان بالقرب من بعلبك.

ص: 188

فلما بلغ ذلك مسامع السلطان محمود خان - عليه سحائب الرضوان - مال إلى المسالمة، فراسل محمد على باشا فى ذلك، فرضى على شرط أن ما استولى عليه يكون تحت إمرته، فتوقّف السلطان فى قبول هذا الشرط، واستعان بدولة أوربا بعد امتناعه من قبول وساطتهم، وبدأ بمكاتبة الروسيا، فبادرت إليه بارسال فرقتين، وأمرت قنصلها بمبارحة مصر، وكانت غاية ما تتمناه التداخل فى مصالح الشرق، فتعرضت دولة فرنسا لمعاكستها، فحصل الخلف، فرجع السلطان لحل مشكلته بنفسه، وجهز جيشا جرارا تحت قيادة الصدر الأعظم محمد رشيد باشا، فقام لمقاتلة جيوش مصر، وكانوا وصلوا إلى قونيا، وتحصّنوا هناك.

فلما التقى الجمعان، انهزم جيش محمد رشيد باشا، وأسر هو، واستولى إبراهيم باشا على عشرين مدفعا، وكثير من المهمات العسكرية والأزواد.

[معاهدة كوتاهية]

وشاع خبر هذه الواقعة فى الأقطار، ففتحت البلاد الشامية أبوابها، فرجع السلطان إلى وساطة الدول، فسعت دولة فرنسا بينهما، فصمم الباشا على ما طلبه أولا، وأن يكون الملك فى عقبه، وأن ما صرفه فى الحرب يحسب له، مما هو مقرر عليه دفعه للسلطنة سنويا، وصمم السلطان على عدم القبول. فأصدر الباشا أمره لولده بأن يسير إلى كوتاهية، فسار إليها، وأرسلت دولة الروسيا أسطولها إلى البحر الأسود وعشرين ألف مقاتل تكون تحت تصرف السلطان.

فمذ بلغ سفير فرنسا بالآستانة - وهو الأميرال روسيان الذى كان حضر إليها قريبا بدلا عن السفير الأول - مجئ الأسطول المسقوبى، ورأى أن ذلك مضر بالمصالح العمومية، أنهى إلى السلطان أن الأسطول الروسى إن بارح مكانه الذى هو فيه - وكان قد وصل إلى جناق قلعة - سافر هو فى الحال، وكان ذلك قطعا للعلائق بين دولته ودولة السلطان، فأصدر أمره إلى الأسطول أن يكون مكانه، وكان ذلك جلّ مرغوب السلطان، لأنه كان لا يحب تداخل الروسيا.

وحينئذ سعت الدول فى الصلح، وكثرت المراسلات، حتى تم فى رابع عشر شهر مارس سنة 33 ميلادية، وكتبت المعاهدة المعروفة «بمعاهدة كوتاهية» متضمنة أن ولايتى مصر والشام تكون لمحمد على، وعدن والحرمين لابنه إبراهيم باشا، فاجتمع لمحمد على باشا فى هذه السنة ولاية مصر والشام والسودان والحجاز وجزيرة كريد، فتوجه بنفسه إليها ونظر فى أحوالها، ورتّب فيها ما رتب بمصر، وأخذ يكتب العسكرية على الطريقة المستجدة،

ص: 189

فلم يرض بذلك أهل تلك الجزيرة، ورفعوا لواء العصيان فأرسل إليهم عثمان باشا رئيس العساكر المصرية البحرية، بفرقة من الألايات، ودبر فى إخماد نار الفتنة حتى أطفأها، وتعهد لرؤسائها بعدم إساءتهم، فلم يسمح محمد على باشا بذلك، ورأى أن لا بد من قتل بعضهم، فاستعفى عثمان باشا، وتوجه إلى الآستانة، ومات بها، فعادت الفتنة بكريد.

[تمرد الشام بعد كريد]

ولم يثن الباشا عن عزمه ما حصل فى كريد من الهيجان بسبب الترتيبات، فأخذ يرتب الشام كمصر، فوضع القوانين، وأمر بإدخال الشبان فى العسكرية، فنشأ عن ذلك فتنة امتدت أغصانها فى أنحاء هذه الأقطار، واضطربت نيرانها، وأخذ الباشا يمد ولده بالعساكر والأموال، وتوجه هو بنفسه إلى الأمير شبل العريان أمير جبل لبنان، واتحد معه على المساعدة.

فقدر بذلك على إخماد الفتنة، والقبض على رؤسائها، وجرد الأهالى من الأسلحة، وهدأت الحال، فظن الباشا أنه قد تمكن، فما هو إلا أن قام شبل العريان رئيس الدروز، ونصب شباك الحيل لتصيد عساكر مصر وتحصن هو بجباله، وصار يقاتلهم ويخاتلهم، حتى أفنى الكثير، وأعيتهم الحيلة معه، وتشعبت فتنه. فاضطر إبراهيم باشا لاستمالة طائفة المارونية كى تكون معه على الدروز، فأجابوه، وقاموا بنصرته، حتى تمكن بهم من قتل كثير من الدروز، وإطفاء نار حدّتهم، وإزالة الارتباك وعود الطمأنينة.

وكان الباشا دائما يكرر الطلب من الدولة بأن تجعل له ولاية مصر والشام والحجاز وراثة فى عقبه، فمال السلطان لأن يجيبه فى الأولين، ويجعل له الشام مدة حياته، فلما تم للباشا ما تم من إطفاء الفتن الشامية، تاقت نفسه لأرفع مما كان يطلبه، فخاطب الدول رسميا بواسطة القناصل المقيمين بمصر، طالبا للاستقلال، راغبا تحديد بلاده، فعارضه القناصل فى ذلك بطريقة ودادية، فقبل على أن ينفذ ما كان طلبه أولا من أمر التوارث.

وفى الحين قام إلى البلاد السودانية يشاهد معدن الذهب الذى لهج الإفرنج بخبره، وليترك الدول وحالهم فى شأن ما بينه وبين الدولة.

[معركة نصيبين]

وكان السلطان من بعد إبرام الصلح المتقدم مجتهدا فى الاستعداد، مهتما بتنظيم العساكر فنظّم جيشا تحت قيادة حافظ باشا رئيس العساكر السلطانية، ووجهه إلى الشام، فأخذ فى بناء الاستحكامات تجاه معسكر الجنود المصرية. فكتب إبراهيم باشا إلى والده بعلمه بذلك،

ص: 190

ويستشيره فيما يصنع، وكان الباشا قد رجع من السودان، فكتب إليه أن لا يبارزهم بالحرب إلا على الأراضى المصرية، كى لا تكون المسئولية عليه، فامتثل ما رسم.

ولما طال الأمر على العساكر الشاهانية تعدّوا إلى نصيبين، فقابلهم إبراهيم باشا بجنوده، والتحمت الحرب بين الفريقين، واشتد القتال وانجلت عن نصرته.

وفى عقب ذلك انتقل السلطان محمود خان عن دار الفناء إلى دار البقاء، فجلس على تخت المملكة السلطان عبد المجيد، والأمور فى غاية الارتباك، والعساكر المصرية تحت قيادة إبراهيم باشا، متجمعة للوثوب، ولكن الباشا رأى أن حل هذه المشكلة بطريقة ودادية أولى، فطلب من الدولة عزل محمد باشا خسرو من الصدارة، لأن هذه الفتن هو أسّها لكونه العدو الألدّ، فعزل.

[تدخل الدول الكبرى للقضاء على نفوذ محمد على]

وجرت المراسلات بين الدول فى هذه المسألة، حتى تم الاتفاق على أن دولة الروسيا وبروسيا وانكلترة وفرنسا والنمسا يمعنون النظر فى حلها، وأخبروا الباب العالى أنه لا يجرى شيئا إلا باطلاعهم وتصديقهم.

وكانت فرنسا مساعدة لمحمد على باشا والإنكليز معاكسة له، لحقدها عليه بعض أمور، منها أنها كانت اشترت جزيرة عدن من بعض مشايخ العرب مع قطعة أرض متصلة بها، بمبلغ ستة آلاف ليرة، وأنشأت بها قلعة لعلمها بما يكون لها من الأهمية فى مستقبل الزمان، فلما امتدت شوكة الباشا إلى الخليج الفارسى خافت دولة الإنكليز على مستعمراتها المتسلطة على مدخل البحر الأحمر، فترجت الباشا أن يأمر جنوده بمبارحة تلك الجهة بناء على ما كتب إليها عاملها بتلك القلعة، لأن وجود العساكر المصرية ربما هيّج قبائل العرب، فرأى الباشا أن تركه موقعا استولى عليه بالقوة بمجرد طلب دولة أجنبية مخل بشرفه، ورأى أنه إن مكث هناك تكلف مصروفا لا فائدة منه، فتنازل عن تلك الجهات للدولة، وكذا عن مكة والمدينة وكافة أرض الحجاز.

فهذا كان من الأسباب التى حقدتها دولة إنكلترة على الباشا، وحيث كان لها رياسة المؤتمر سعت فى معاكسته، ولم يلبث أن ورد رفعت بيك أحد رجال الدولة حاملا الفرمان إلى الباشا بأن له ولاية مصر ووراثتها وولاية عكا مدة حياته فقط كما اتفق عليه المؤتمر.

ص: 191

فغضب الباشا، وحمّل السفراء مكاتبة للحضرة العلية، يلتمس فيها الإنعام بجعل الشام كلها له، فعارضت دولة الإنكليز فى ذلك، بدعوى أن أهالى الشام غير راضين عنه، وأنه إن بقى واليا عليهم لا يخلو الشام من العصيان، ووافقتها الدول على ذلك، وأوعزوا إلى الباشا بواسطة قناصلهم أن يخلى أرض الشام من جنوده، فامتنع من ذلك، فأرسلوا إلى بيروت أسطولا نمساويا، وآخر إنكليزيا، وطلعت بعض عساكر إلى السواحل، فملكوا عكا وغيرها من المدن الأصلية، وتقهقرت أمامهم عساكر مصر.

وأرسلوا أسطولا آخر إنكليزيا، تحت إمرة الأميرال نابييه إلى الإسكندرية، فأرسل إلى الباشا بأنه إن لم يرسل بتخلية عساكره للبلاد الشامية خربت الإسكندرية.

فأخذ الباشا يتفكر فى هذا الأمر، ويستشير رجاله، فرأى أن امتناعه ينشأ عنه متاعب كثيرة، فسلّم للأميرال الإنكليزى على أن تكون مصر له ميراثا، فقبل منه، وتوقف الأميرال النمساوى، وكذا عند ما أخبروا الدولة توقفت لما رأت من إعانة الدول لها، فلم يجد الباشا بدّا من التسليم بلا شرط، ووكل أمره لسفراء الدول بالآستانة فى تسوية هذه القضية على وجه مقبول، فصممت دولة الإنكليز على أنه لا يكون له الوراثة على مصر، وعارضها باقى الدول بتمدن سواحل النيل فى أيامه والإصلاحات الكثيرة.

ولم يزل الكلام دائرا حتى أمضى السلطان العقد المؤرخ باليوم الثانى عشر من يناير سنة 41 ميلادية، ومن ضمنه أن يكون واليا على مصر مدة حياته، ثم تكون ولايتها من بعده لأكبر أولاده وحفدته وأسباطه، وأن يورد إلى الخزينة السلطانية فى كل سنة ثمانين ألف كيس، وأن لا يزيد عدد عسكر مصر على ثمانية عشر ألفا، بشرط أن تكون ملابسهم كملابس عسكر السلطان.

وتم الأمر على ذلك، واستراح خاطر الباشا، واستتبت الراحة، واخذت البلد فى الرفاهية والعمران، واتسع بها نطاق الثروة، إلى أن حصل للمرحوم محمد على باشا المرض الشديد الذى اعتراه فى آخر عمره، حتى منعه من القيام بشئون القطر، والنظر فى أحواله.

‌تولية إبراهيم باشا ابن العزيز محمد على

فجلس بعده على تخت الحكومة المصرية أكبر أولاده المرحوم إبراهيم باشا سر عسكر، فصار خديويا بعده، وجاء الفرمان السلطانى بذلك، فنظر فى أحوال القطر النظر المحكم، وعزم على فعل أشياء متينة يعود نفعها على القطر، فاخترمته المنية.

ص: 192

‌تولية عباس باشا

وولى بعده ابن أخيه المرحوم الحاج عباس باشا حلمى بن طوسون باشا ابن محمد على، بعد أن تنقل فى ولايات الحكومة المصرية، وولى كثيرا من فروعها، حتى تهذب وتخرج وترشح للخديوية، فسار فى شأن مصر بما فيه صلاح أهلها، وانتظام أحوالها.

ثم توفى المرحوم محمد على باشا إلى رحمة الله تعالى فى مدة حفيده المرحوم عباس باشا، ودفن بجامعه الذى أنشأه بقلعة الجبل.

وسار المرحوم عباس باشا فى أهل مصر بسيرة حسنة، وكان يسير بالليل مستخفيا فى أزقة مصر، يتعهد أحوال أهلها، وكان يحب الأولياء، خصوصا أهل البيت، ويعمل لهم الليالى الخيرية فى مساجدهم، إلى أن توفى شهيدا فى قصره الذى أنشأه ببنها رحمه الله.

‌تولية سعيد باشا

ثم تولى بعده عمه محمد سعيد باشا ابن المرحوم محمد على، وقد تولى قبل ذلك رياسة البحرية بعد تعلمه فنها. وكان محبا للجهادية، مولعا بجمع العساكر المصرية، مغدقا عليهم، لا يقرّ له قرار إلا معهم وفى وسطهم، وكان ملازما لعساكره، ورقى الكثير منهم فى الرتب.

وكانت تعرض عليه القضايا والمهمات وهو بينهم لا يفارقونه، أين حلّ أو ارتحل، وكان كثير التنقل بهم من مصر إلى الإسكندرية، ثم إلى مربوط، وإلى قصر النيل بالقشلاق الذى أعدّه هناك لعسكره.

ومن مهمات الأعمال التى حدثت فى عهده اتصال البحرين الأحمر والأبيض بالترعة المالحة المارة فى برزخ السويس، وأمرها من أهم المسائل السياسية الشاغلة لأفكار جميع الدول.

وسار فى شأن مصر سيرا منتظما إلى أن توفى بالإسكندرية، ودفن فى مسجد نبى الله دانيال على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.

***

‌تولية الخديو إسماعيل باشا

ثم تولى بعده الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على. وكان قبل ذلك متقلبا فى مهمات ولايات الحكومة المصرية، خبيرا بأحوالها، شاربا من جميع مناهلها، حنكته تجاربها، فسار فى أمر الحكومة المصرية سالكا سبيل التمدن والحضارة، ناهجا منهج الترفه والثروة والبهجة

ص: 193

والنضارة. فشرع فى أمور جمة داخل القطر ومدنه توجب له زيادة التمدن، حتى انتظمت القاهرة والإسكندرية فى أسلوب جديد، أزال عنها هيئتها الأولى، فصارت تضاهى مدن أوروبا، وتواردت عليها وعلى جميع القطر الأغراب من كل جهة، واتسع نطاق التجارة والأخذ والإعطاء.

غير أنه نشأ من اتساع دائرة الأعمال، والأشغال والمصاريف على الحكومة أن ثقل كاهلها من الديون والمطالب، فحصل من ذلك شغب فى آخر مدته، وشئ من غمام الفتنة عكر جوها، وحجب بعض أسفار بدرها، حتى انفصل عنها عام ست وتسعين بعد المائتين والألف.

***

‌تولية أفندينا محمد توفيق

وخلفه فى ذلك العام فجلس على تخت الحكومة المصرية ولى عهده شبله الليث الهمام، والبدر المنير التمام، الخديو المعظم، والداورى المفخم، ذو المقام الرفيع، والحصن المنيع، والفخر الجلى، أفندينا محمد توفيق بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على - لا زالت أندية السرور عامرة بالثناء عليه، ولا برحت مجامع الخير قائمة بجميل ذكره، وإسداء صالح الدعوات إليه.

فقد تحلّت مصر بولايته، واستقام أمرها بعدالته، وانفسح مجال الثروة فى أيامه، وتقلّب الناس فى مرحمته وإكرامه. وصارت مصر فى أرفع درجات الانتظام، وأخصبت أرجاؤها، وجللها النفع العام.

وسار فى أمور القطر فى سنن جديد، مراعيا مصالح البلد والمعاهداث المتفق عليها، بين مصر والدول الأجنبية، غير مستقل برأيه، بل مشاركا فى ذلك مجلس نظّاره، فاستقامت أحوال القطر، وسارت الأعمال على نهج يناسب أحوال البلاد وأهلها.

لكن هذا السير لم يوافق أغراض المفسدين، فوسوس لهم شيطانهم، ونشأ عن تلك الوسوسة تخرب العسكرية، وكفروا بالنعمة، ورفضوا ما عليهم من الحقوق لولى أمرهم ولوطنهم، وفعلوا أفعالا فظيعة نشأ عنها اختلال حال القطر وأهله

(1)

.

ومع ما حصل منهم من الكبائر والأمور الفظيعة لم ينحرف الخديو عن سيره المعتدل، وثبت عند هذه الشدائد، حتى زالت تلك الفتنة المشؤومة على ما هو معلوم مسطور فى هذا الشأن.

(1)

واضح أن المؤلف يشير فى هذه الفقرة إلى الثورة العرابية، وموقفه منها معروف بحكم ولائه للخديو توفيق وتوليه أكبر المناصب فى عهده. والقارئ المعاصر أصبح اليوم، بعد انتهاء حكم أسرة محمد على، يعرف كثيرا من الحقائق الموضوعية الثابتة عن خيانات توفيق وبطولات الثورة العرابية.

ص: 194

فاستقامت له الأحوال، وانتظمت الأمور - نسأل الله تعالى أن يصلح به أحوال عباده ويكثر به خير بلاده، آمين بجاه سيدنا محمد، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.

***

وحيث وصلنا إلى هذا الحد من سرد الحوادث التى ألمت بالقاهرة منذ أسسها الفاطميون إلى هذا الزمان، أعنى سنة خمس وثلثمائة وألف من الهجرة النبوية، وبيان التقلبات العجيبة فى المدد المتتابعة على وجه الإيجاز، أردنا أن نبين ما كانت عليه القاهرة من هيئة المبانى أولا، ليتمكن المطالع لكتابنا هذا من المقارنة بينها وبين ما حدث فى القطر المصرى، فى أيام العائلة المحمدية العلوية إلى زمن الخديو المعظم محمد توفيق - أيده الله تعالى - من الأبنية والعمارات والأعمال التى بيّناها فى مواضعها من هذا الكتاب، ويعلم أن السعادة كالشقاوة تلحق الأمكنة والبلاد، كما تلحق الأزمنة والعباد.

ص: 195

‌بيان ما كانت عليه القاهرة عند تولى العائلة المحمدية

من أمعن النظر فيما كتبناه، وتأمل فيما سطرناه، علم أن الفاطميين، ما قصدوا بوضع القاهرة إلا جعلها معقلا لعساكرهم، ومقرا لخلفائهم، فلذا سوّروها بالسور، وجعلوا لها الأبواب المنيعة، واشترطوا للمرور بها شروطا، ولم يبيحوا سكناها لكل أحد، كما هو شأن الحصون.

ولم يحصل التهاون فى ذلك إلا آخر مدتهم، فسكنها بعض الناس، وبنوا فى رحابها، وكانت عاصمة الحكومة مدينة الفسطاط.

ولما زالت دولة الفاطميين بالأكراد الأيوبية، أباحوا سكناها لكل أحد، وأخذ رجال الدولة يغرسون حولها البساتين، ويبنون بها القصور للنزهة وتغيير الهواء، كما هو الآن فى مبانى جهة شبرا وغيرها.

ثم بتقادم الزمان، وازدياد الثروة بنى الناس فى الفضاء، وفى أرض تلك البساتين، وعلى ما تخلف من النيل فى الأراضى، وحول البرك المتخلفة عنه، وتجددت الأسواق والدروب، فاتسعت المدينة باتصال تلك المبانى بها، حتى كان زمن الناصر محمد بن قلاوون، فأخذت فيه العمارة غايتها، وبلغت البلد فى السعة نهايتها، لكونه كان مشغوفا بالأبنية، فحذا الناس حذوه، وجدّدوا المبانى العظيمة، لا سيما عند ما حفر الخليج الناصرى، فان الناس أكثروا من المبانى على حافتيه. كما نوّهنا بذلك فيما تقدم، وفصّل فى محله. فكانت المدينة فى زمانه يجدها من الشرق الجبل ذاهبا إلى المطرية مبحرا، وإلى الأثر مقبلا، وكثرت البساتين حولها، وعملت الميادين بمنية الشيرج وشبرا، كما أسلفناه.

ولم تزد المدينة من بعده، وإنما كانت تنتقل هيئتها، فتعمّر هذه الجهة أكثر من غيرها مرة، وبالعكس أخزى على حكم مقتضيات الحوادث. ثم ألمت بها الكوارث فى زمن الغز حتى تخربت أبنيتها، وانكمشت عمارتها، كما بيّنا.

ص: 196

وقسّمت القاهرة - كالفسطاط - إلى أثمان وأخطاط، وكل خط يحتوى على شوارع، والشوارع بها دروب وحارات وعطف، وأغلب الحارات والعطف غير نافذ إلا إلى الدرب، فكان المتأمل يراها كعدة قرى متلاصقة.

وكانت البلد إلى زمن الفرنساوية عليها البوابات موضوعة على الدروب والحارات. والعطف منها العمومية، ومنها الخصوصية. وكل بوابة تغلق عند العشاء، وينام خلفها بواب بأجرة من أهلها، أى من أهل تلك الحارة، ولا يتأخر أحد بعد العشاء خارج الحارة إلا لضرورة، مع تنبيهه على البواب حتى يفتح له إذا حضر.

وكان أهل البلد لكثرة الحوادث، وانتشار اللصوص، يبالغون فى متانة الأبواب والمحافظة على البيوت والحارات، فيصفحون الأبواب بصفائح الحديد، ويسمرونها بالمسامير الكبيرة، ويفرطحون رؤوسها، ويجعلون بأكتاف الباب السلاسل المتينة، ويجعلون للباب الضبة والضبتين فى الخارج والداخل، ويزيدون من الداخل الترباس، وهو خشبة طويلة، ينقرون لها بالحائط نقرا تبيت فيه، فإذا جاء الليل أو خيف أمر سحبوها من مقرها بواسطة حلقة فى طرفها، فتأخذ فى عرض الباب أو آخره، وربما يبيتونها فى نقر من جهة عقب الباب. وكانوا يتفننون فى الحيل لمنع الضبة من الفتح بعمل الدواسيس وشق المفاتيح ووضع السواقط، كما أدركنا أكثره، وبعضه موجود للآن.

ولم يكن لظاهر البيوت رونق، بل كانت الهمم مصروفة لرونقة الداخل منها، خصوصا بيوت الحرم، والحيشان والاصطبلات. وكل إنسان له فى ذلك اعتناء، على قدر حاله.

وكانت العادة أن يكون البيت ذا طبقتين؛ السفلى تحتوى على الحواصل والإصطبلات والبئر أو الساقية، والطاحون غالبا، والمنظرة، والعليا تحتوى على المقعد وتوابعه من التنها، ومحل القهوة، وتحتوى على القاعات والفسحات، والحمامات والمطابخ. وربما كان المطبخ بالطبقة السفلى، وله سلم يوصل إليها من الطبقة العليا، غير المعتاد أو هو المعتاد.

وكانوا يعتنون بتوسعة الفسحات والقاعات ويفرشونها بالرخام الملون على هيئات جميلة، ويجعلون من القطع الصغيرة من الرخام أشكالا باهرة، ويجعلون على الحوائط قطع القيشانى الباهرة على أشكال فائقة، ويجعلون لها المشربيات البديعة المصنوعة بصناعة الخرط على رسوم وكتابة وأشكال حيوانات بدون تسمير المسامير. وفوق تلك المشربيات الشبابيك المصنوعة من الحبس المفرغ، على أشكال عجيبة، موضوع فى التفاريغ الزجاج الملون، فينشأ من ذلك صور بديعة، تأخذ بالأبصار وتشرح الخواطر.

ص: 197

وبالتأمل فى أوضاع البناء يرى أن همة الواضع لم تكن متجهة نحو التناسب، أو تصرّف الهواء، بل كانت الهمة فى البناء حيثما اتفق، فيجعل مكانا أرفع ومكانا أسفل، وآخر منيرا وآخر مظلما، والبعض واسع جدا والبعض ضيق جدا، وترى القاعة التى يعجز الواصف عن حصر رونقها، منزوية داخل دهليز مظلم، فيتبين أن البنائين فى الأزمنة المتأخرة لم يكن لهم علم فى الأوضاع، بل يقلدون من تقدمهم، صادفوا الصواب أو خالفوه.

ومع تأخر صناعة البناء بنى الأمراء المنازل الواسعة، والمساجد العجيبة، والبيوت.

وكان كل أمير يبلغ فى السعة على قدر حشمه وأتباعه، ويجعل فى دائرة البيت الدكاكين، والحياض وغالب لوازم المنزل، مثل بيت الشرقاوى فإنه كان يبلغ أربعة أفدنة - نحوا من سبعة عشر ألف متر مربعة. وكثيرا ما تجد مثله وأوسع بجهة سوق السلاح وسويقة العزة، وجهة عابدين، مما صار الآن حيشانا، تسكنها رعاع الناس، وغالب الحيشان أصلها بيوت فاخرة، دمرتها الحوادث.

وأما الحارات، فكانت كثيرة الانعطافات، ضيقة المسالك، ليست على هيئة انتظامية، بل بعض البيوت بارز فى الطريق، والبعض داخل عنه، وهذا من أسفل، وأما الأعلى فكانت بعض المشربيات تتلاصق من جوانبها، وتتلاقى مع ما واجهها، حتى تحدث ساباطا مركبا على جميع الطريق، فضلا عن الأسبطة الحقيقية.

ومن حدثت عنده عمارة ورأى أمام منزله فضاء أدخل منه فى المنزل ما أحب بلا ممانع.

وكذا الشوارع، لا تزيد على الحارات فى السعة إلا قليلا، فكان إذا تلاقى جملان تعسر المرور، وسدّ الطريق، اللهم إلا فى بعض أماكن قليلة.

وكان للبلد بوابات تقفل بالليل، ويقف عليها الحرس. ولم يكن للحكومة اعتناء بأمر النظافة أو الصحة، فكانت القاذورات تلقى بجوانب الحارات، وعلى أبواب الأزقة، وتحت الأسبطة، وما نشأ من الهدم من الأتربة إن اعتنى به ألقى على باب المدينة، فيصير تلالا، فاذا نسفتها الرياح تكوّن منها فوق البلد سحابة تراب كريه الرائحة متعفن الشم، فتتسع دائرة الأمراض، فأين توجهت فى البلد ترى مجذوما أو أبرص أو مجدرا أو أعمى، أو من اجتمع فيه كل هذه الأمراض أو أغلبها. وذلك لأن البلدة كانت محاطة بالتلال، ضيقة المسالك، مرتفعة البناء على غير انتظام، قذرة الحارات فلا تتمكن الشمس من تحليل الرطوبات، ولا الريح من نسفها، فتتصاعد على من بالمساكن فتحدث الأمراض كالحكّة والجرب، وسائر الأمراض الجلدية.

ص: 198

ولم يكن بالمدينة أطباء يعتنون بالمرضى، بل كانوا يعوّلون فى ذلك على ما تصفه العجائز، وعلى أقوال الدجّالين والمشعبذين، فإذا مرض إنسان ذهب أهله فطرقوا له الودع والفول، وحسبوا له النجم، وقاسوا أثره، فما أخبرهم به الدجال اعتمدوه، وكتبوا له الأحجبة، أو بخروه باللبان والجلد، وعلقوا عليه الخرز.

وكانت لهم خرزات، كل واحدة يزعمون أنها تبرئ داء، فللعين خرزة حمراء يسمونها البذلة، وللرقبة خرزة بيضاء مصفرة تسمى خرزة الرقبة، ولهم أحجار يحكونها للخضة - أى الفزعة - وللحمّى، ويسمونها حجر الشفاء، ومن لسع حكوا له الخرتيت، أو وضعوا على اللسعة فصا، يسمى فص العقرب، وغير ذلك.

ومن الإهمال فى أمر الصحة، اتخذ الناس مقابر وسط المدينة كمقبرة السيدة زينب رضي الله عنها والقاصد، بل دفن كثير من الناس موتاهم فى منازلهم، وفى المساجد والمدارس.

وكذا كان الإهمال فى أمور الضبط، فلا نفوذ للمكلفين به إلا إذا كان على وفق الأمير أو الكبير، فكل له غرض لا ينفذ سواه، وأحكام الخط أو الدرب تحت سلطة من يسكنه من الأمراء، ولا يد للحاكم البتة. وإذا تعرض الحاكم أو الباشا لنقض ما أبرمه، قام سوق الحرب، وطما بحر الفتن، فكان للرعاع نفوذ بواسطة الانتماء إلى بعض الأمراء، والناس تقاسى الأهوال، والمحتسب يسومهم سوء العذاب، وكل تاجر له محام من الأمراء، ليبيع باسمه، لأنه إن لم يتخذ له محاميا ضاع رأس المال نهبا، فكان أرباب الوجاقات متقاسمين التجار والتجارة لأنهم أصحاب الوظائف.

ولا بد للتاجر من وضع إشارة فى حانوته، تدل على أنه من طائفة كذا وهذا عام فى كل متجر وبكل جهة، وبهذه الواسطة كان التاجر يشتط فى الثمن كما يحب، كى يتسنى له دفع ما قرر.

وكذا كانت حالة المراكب فى البحر؛ فكل مركب عليها راية تدل على محاميها حتى لا يتعرض لها إنسان.

وبسبب اتساع دائرة الخوف، ضاقت حلقة التجارة، واقتصر فيها على ما يتحصل من القطر، ولم تجسر تجار الأجانب على الدخول فى مضايق تلك الأحوال، إلا ما كان يرد من نحو جهات الشام والحجاز، ملتزما أربابه الاحتماء بزيد أو عمرو، كعادة أهل البلد، فكان التجار من أهل القطر خاصة، إلا قليلا من نصارى الشوام، وبعض الحضارمة، والنادر أن ترى إفرنجيا.

ص: 199

وكان لكل جهة صنف من المتجر؛ فالجمالية أكثر ما يباع بها وارد الشام والحجاز وحضرموت، والحمزاوى يباع فيه الجوخ والحرير وما يرد من الهند وبلاد الإفرنج، وخان الخليلى يباع فيه ما يرد من البلاد التركية، وأما المأكولات وأنواع العطارة فليست مختصة بجهة.

وكان لأهل البلد أسواق وقتية، فمنها ما يكون فى يوم معين، كسوق الجمعة والاثنين والخميس، ومنها ما يكون كل يوم بعد العصر، كسوق العصر، وكانت تنتقل من مكان إلى آخر، حسب ما يراه الحاكم.

وكذا كانت لهم أماكن لتجمع الحرف والمشعبذين؛ كالحواة والقرادين، وأكبر مجتمع لهم هو الرميلة، وكذا كانت مقر سماسرة الخيل والحمير ونحوها، ومقر الحشاشين والمصارعين فلذا تغيرت مبانيها الفاخرة إلى عشش، وحيشان وأخصاص، واستحوذ كل إنسان على ما قدر عليه من أرض تلك الجهة، حتى المساجد والمدارس، وبنوا حول المساجد التى بها أبنية قذرة، شوهت محاسنها، وكذا ضيقوا واسع أرض الميدان وسوق السلاح، فكان المار بتلك الجهات يخطو على القاذورات، ويمر فى خليط من الأراذل إلى أرذل منه، حتى يتخلص بعد الجهد الجهيد.

وانعدمت الصنائع من القطر، إلا الدنئ، وانحصرت صنائعه بعد السعة فى قزازة الكتان والصوف وعمل الضبب، بعد أن كانت القزازة بمصر من أشهر الأعمال فى الأقطار وكذا النجارة والسباكة، فلم تزل تتقهقر، ويرحل الصناع لتسلطن الفقر، وكثرة الهرج، وموت البارع جوعا، حتى انمحت آثارها.

وعمت الأهوال هذه جميع أنحاء القطر، وانحطت أثمان الأماكن وأجرها، فكان البيت الذى تبلغ مساحته ألف ذراع يباع بخمسين ريالا، وتؤّجر أكبر دكان أو قهوة بستين فضة، وأعظم بيت بألف فضة.

وما ذلك إلا لانحلال الروابط، وكساد الوسايط، وتخييم الفقر بين أظهرهم، ومقاساة الشدائد، وكثرة الفتن، وما من رادع. فكان من يمر فى شوارع القاهرة لا يرى إلا فقيرا مرقعا، أو قتيلا مصروعا، أو جنديا ينهب، أو محتسبا يضرب، وإذا تأمل فى المبانى لا يرى إلا خرابا، وأسوارا وأبوابا. وإذا انتهى إلى أطراف البلد كالحسينية التى كانت مخيما للنزهة، ومقرا للفرجة، لا يرى إلا التلال والكيمان، وأطلالا تبكى على من كان.

وما بقى من آثار بيوت الأمراء والوزراء، ومساجدهم ومدارسهم - التى ذكرها المقريزى - صارت مساكن للرعاع، ومعاطن للدباغ، ومرمى للأوساخ، وملقى للسباخ، وكذا جهة باب النصر، وباب الحديد، والعدوى، والأزبكية، وباب البحر.

ص: 200

وكان يقام بالأزبكية أيام النيل، بعض قهاو يجلس عليها الناس لاستنشاق الهواء.

لوجود الماء وقتئذ بهذه الجهة، وأن الخراب اتصل منها إلى عابدين، بل قد امتد الى الداودية والقربية والخليفة: وبالجملة فقد عم كافة البلدة، بل جميع القطر.

وأما جهة المدابغ وباب اللوق، فلا تسل عما احتوت عليه من التعفنات والروائح الكريهة. وأحاطت التلال بالمدينة إحاطة الدائرة بالنقطة، عوضا عما كان بالقرافة من مساجد وقصور، وبالفسطاط من مدارس وديور، أصبحت خاوية على عروشها، فلا ترى إلا عقدا بلا سور، وجدارا بلا قائم، وخرابا ممتدا فى جميع النواحى.

إلا أنه كان يوجد على حافة النيل الشرقية بعض مبان، كقصر العينى، وبيت محمد كاشف قبليه، وبيت محمد بيك بحريه محل القصر العالى، وغيرها أبنية قليلة، تمتد إلى جزيرة العبيط - محل الإسماعيلية الآن، وكان يتوصل إليها من بوابة زالت الآن، تجاور غيط قاسم بيك المعروف الآن «بجنينة وهبى باشا» ، وكانت تلك الجنينة تنتهى إلى تل مرتفع قد زال وبقى أثره مزروعا قريبا من ديوان المالية إلى عهد قريب، ثم قسم للبناء فيه. وكان بوسط تلك الكيمان مسالك للمارة، إلى ترب القاصد وبولاق ومصر العتيقة.

وكان ساحل النيل كما هو اليوم، ولكن النيل كان منقسما إلى قسمين: قسم موضعه الآن، والآخر يمر غربى الجزيرة لبولاق التكرور، وهو الأكبر، ويجتمع مع فرع بولاق بحرى الجزيرة عند انبابة.

وفى زمن فيضان النيل تغطى جزيرة بولاق - التى بها الآن السراى الخديوية - ويكون عرض النيل نحوا من ألف وأربعمائة متر، وفى زمن التحاريق يجف فرع بولاق، ولا تمر المراكب إلا من جهة الجيزة إلى بولاق التكرور، ويتعسر جلب الماء إلى المدينة، لبعده، فيشرب الناس من الصهاريج، ومن البرك الراكدة، ومن الغدير الذى كان بجهة بولاق، مقابل الترسانة، إلى شبرا.

وبالجملة فقد كان الخراب عمّ، والدمار طمّ، وكثير من التلال داخل وسط الأماكن، سوى ما فى الخارج من التلال الشاهقة فى الهواء، الممتدة إلى أمد بعيد. فإذا هبت الريح فهى القيامة، ولا ترى إلا غبارا منبثا على البيوت، متلفا للصحة وللعيون، حتى قيّض الله تعالى لها المرحوم محمد على باشا، فأخذ فى مداواة أمراضها شيئا فشيئا، وحذا حذوه من تولى الملك من عائلته، حتى اكتست حلل البهاء والنضارة المشاهدة الآن. وسأسرد عليك

ص: 201

عمائرها وحاراتها وشوارعها كما وعدت، وأقدم بين يدى ذلك فائدة جليلة نافعة إن شاء الله تعالى، تشتمل على مجمل ما سنفصّله فى الأجزاء الأربعة التى بعد هذا المتعلقة بالقاهرة، وهو وإن كان فى الحقيقة فذلكة، لما يتعلق بالقاهرة (أى إجمالا لما بسط من القول فيما يتعلق بها)، لكنا احببنا أن تقدمه على بسط الكلام عليها، ليكون ذلك من باب إجمال القول قبل تفصيله، فان الإجمال قبل التفصيل أوقع فى نفس السامع كما هو مشهور، فأقول: وعلى الله توكلت واعتمدت، إنه ولى التوفيق، والهادى إلى أقوم طريق.

ص: 202

‌فائدة فى إجمال ما سنفصله فى خطط القاهرة وما يتعلق بها

‌مطلب جغرافية القاهرة وضواحيها

اعلم أيدك الله أن القاهرة، وهى تخت الأقاليم المصرية، واقعة بين الأقاليم البحرية، والأقاليم القبلية، فى عرض ثلاثين درجة ودقيقتين وإحدى وعشرين ثانية شمالا، وفى طول ثمانية وعشرين درجة وثمانية وخمسين دقيقة وثلاثين ثانية شرقى مدينة باريس - تخت مملكة فرانسا - وبعدها عن القناطر الخيرية خمسة فراسخ، وارتفاع أرضها بقرب النيل بالنسبة لسطح مياه المالح تسعة عشر مترا ونصف، وفى غربيها على النيل ثغر بولاق، وفى قبليها على النيل أيضا مصر العتيقة.

ومدينة القاهرة مبنية فى سفح جبل المقطم، وأرضها آخذة فى الارتفاع إلى قلعة الجبل.

ولو فرض أن مستوى مياه النيل الأعظم فيضان حصل لوقتنا هذا، وهو عشرون مترا ونصف فوق سطح مياه المالح، امتد إلى الجبل وإلى شبرا، الواقعة بحرى القاهرة، لنتج أن جزء المدينة المحصور بين الشاطئ الغربى للخليج من ابتداء قنطرة السد عند فم الخليج، إلى ترعة الإسماعيلية وبولاق جميعها وما جاورها من الأرض، كل ذلك يكون تحت هذا المستوى - ما عدا مزلقان كبرى قصر النيل، فإنه يكون جميعه فوق المستوى بقدر ثلث متر فى أوله وثلاثة أمتار فى آخره عند القنطرة.

وتكون قنطرة فم الإسماعيلية عند قصر النيل فوق المستوى المذكور بقدر مترين وثلث وأما القنطرة الثانية الواقعة على طريق بولاق، بقرب قصر النيل، فيكون ارتفاعها فوق هذا المستوى بقدر متر وثلث، ويكون ارتفاع القنطرة الواقعة على جسر أبى العلاء فوقه بقدر متر وثمانية أعشار متر، وجسر أبى العلاء، من ابتداء القنطرة إلى البحر يتقابل مع المستوى

ص: 203

المذكور، بسبب انحداره عند جامع سيدى أبى العلاء، فيكون جزؤه الواقع بين الإصطبلات والنيل تحت المستوى، وأما جزؤه الواقع بين القنطرة والإصطبلات فيكون فوقه، وجميع شوارع خطة الإسماعيلية وحاراتها بعضها مع المستوى، وبعضها فوقه بمقدار يختلف من عشرى متر إلى نصف متر، وبعضها تحته بمقدار يسير يختلف كذلك من عشرى متر إلى نصف متر، وأغلب حارات الإسماعيلية من عند المالية تكون تحت المستوى، بقدر متر ونصف متر، بمعنى أنه لو حصل قطع فى جسر النيل، لكان الماء فوق تلك الحارات بقدر متر ونصف.

وأما شارع باب الخرق المنحدر وأعلاه فى عابدين فيقطعه المستوى، ويكون ارتفاعه فوق المستوى المذكور، بقدر ثمانية أعشار متر، عند ميدان منصور باشا، ومتر ونصف فى أوله بميدان عابدين، وغيط العدة تحت المستوى بمتر ونصف، وميدان عابدين المذكور بعضه تحت المستوى بقدر متر وبعضه بقدر ثلاثة أرباع متر، وخط الحنفى بعضه منحط بقدر مترين وبعضه بقدر متر وربع، وشارع درب الجماميز منحط بقدر متر وربع بقرب قنطرة الذى كفر، ومن القنطرة المذكورة ترتفع أرض الشارع إلى أن تتقابل بشارع محمد على.

وجميع شارع محمد على المعروف بشارع السلطان حسن يكون فوق المستوى، بقدر عشر متر فى أوله عند العتبة الخضراء، وبقدر مترين وربع فى تقاطعه بشارع قوصون، ثم يرتفع بعد ذلك إلى المنشأة (يعنى الرميلة)، وشارع الموسكى والسكة الجديدة، فجميعه فوق المستوى بقدر ستة أعشار متر فى مبدئه عند العتبة الخضراء، ثم يزيد أو يقل فى الارتفاع فوق المستوى إلى شارع النحاسين، فيبلغ هذا الارتفاع مترا وثمانية أعشار متر فى تقاطعه بشارع النحاسين، ويبلغ الارتفاع فوق المستوى اثنى عشر مترا فى آخر هذا الشارع قبل الوصول إلى تلول البرقية.

وجزء المدينة الواقع بحرى هذا الشارع، وغربى الخليج إلى الفجالة، كل حاراته وشوارعه منحطة بمقدار يختلف من عشرى متر إلى ثلاثة أمتار فى الأرض الخارجة عن السور.

والمرتفع فى هذا الجزء قليل، بعضه نصف متر وبعضه أقل، وإنما هى مواضع ربما كانت تلولا أو ما أشبه ذلك.

وأما جزء المدينة المنحصر بين شاطئ الخليج الشرقى والجبل من ابتداء العيون، فينقسم إلى أقسام:

الأول محدود بالعيون وسور القلعة إلى الحطابة إلى الدرب الأحمر إلى باب زويلة إلى قصبة رضوان والخيمية إلى قوصون إلى السيوفية إلى الصليبة إلى قلعة الكبش

ص: 204

إلى السيدة زينب إلى الخليج، كل ذلك مرتفع، وجميعه فوق مستوى أعلى فيضان النيل، ما عدا خط السيدة زينب رضي الله عنها المحصور بين قلعة الكبش وتلال بركة البغالة والشارع الموصل من السيدة زينب والخليج، فإنه منحط بمقدار يختلف من متر إلى متر وثلث، وارتفاع قلعة الكبش وجبل يشكر فوق أعلى فيضان النيل ستة عشر مترا ونصف. وفوق أرض شارع الصليبة ستة عشر مترا.

والجزء الثانى من أول باب زويلة بالسير فى شارع المتولى والغورية إلى باب الفتوح من جهة الجبل، جميعه مرتفع، ويختلف ارتفاعه من متر إلى أربعة أمتار وربع فى الشارع، وأما فى حارات الجزء المجاور للسور، فيختلف ويزيد إلى سبعة عشر مترا من جهة تلول البرقية.

وأرض الأماكن الواقعة فى جزء المدينة المحدود بشارع السيوفية والخليج وشارع الصليبة وشارع تحت الربع، بعضها تحت المستوى تارة بقدر مترين وتارة بقدر مترين ونصف، والمرتفع منها منحط تحت المستوى بقدر متر وربع.

وميدان الحلمية مرتفع فوق المستوى بقدر متر ونصف، وحوش الشرقاوى المنخفض منه بعضه مع المستوى وبعضه مرتفع فوقه بقدر نصف متر، وجزؤه المرتفع فوق المستوى ارتفاعه تارة نصف وربع متر وتارة ثلاثة أمتار.

وأرض جزء البلد المنحصر بين شارع تحت الربع، والخليج، والسور وشارع النحاسين، جميعه مع المستوى، والمقارب لشارع النحاسين مرتفع فوق المستوى، تارة بقدر متر وتارة بقدر مترين، بل يزيد على ذلك كلما قرب من السور.

والأرض التى حول جامع الظاهر، منحطة على المستوى بقدر متر وثلاثة أرباع متر، وشارع الحسينية بعضه تحت المستوى بمترين، وبعضه بمتر واحد.

والقلعة والمنشأة (الرميلة)، والسيدة نفيسة، جميع ذلك فوق المستوى، ويختلف ارتفاعه من اثنى عشر مترا إلى اثنين وسبعين مترا، وارتفاع أعلى نقطة من قلعة الجبل ثلاثة وسبعون مترا فوق مستوى أعلى فيضان النيل، وثلاثة وتسعون مترا وستة أعشار متر فوق مستوى البحر المالح، وارتفاعها فوق أرض قرا ميدان اثنان وخمسون مترا وعشر متر وستة وخمسون مترا وأربعة أعشار متر فوق الأرض التى تجاه قراقول المنشأة (الرميلة)، واثنان وسبعون مترا وأربعة أعشار متر فوق أرض شارع السيوفية عند المضفر.

***

ص: 205

‌مطلب شكل القاهرة وأسوارها ومقدار ذلك بالأذرع والمتر

وشكل مدينة القاهرة فى زمن القائد جوهر كان مربعا تقريبا، ضلعه ألف ومائتا متر، ومساحة الأرض المحصورة فيه ثلثمائة وأربعون فدانا، منها نحو سبعين فدانا بنى فيها القصر الكبير، وخمسة وثلاثون فدانا للبستان الكافورى، ومثلها للميادين، فيكون الباقى مائتى فدان وهو الذى توزع على الفرق العسكرية فى نحو عشرين حارة، رسمت بجانبى قصبة القاهرة.

وكان سور المدينة الغربى بعيدا عن الخليج بنحو ثلاثين مترا، وفى سنة ست وثمانين وأربعمائة، فى زمن وزارة بدر الجمالى، وخلافة المستنصر بالله، هدم هذا السور، وبنيت الأبواب من حجر على ما هى عليه الآن، وجعل عرض السور الجديد عشرة أذرع، وبلغت مساحة البلد أربعمائة فدان، فكان ما زاده بدر الجمالى نحو ستين فدانا.

وفى سنة ست وستين وخمسمائة فى زمن صلاح الدين الأيوبى شرع فى عمل سور واحد، يحيط بالقاهرة ومصر والقلعة، وبناه من الحجارة، ومات قبل أن يكمل، وجعل خلفه خندقا، وطول ما بناه تسعة وعشرون ألف ذراع وثلثمائة ذراع وذراعان بالذراع الهاشمى، وهو قريب من اثنين وعشرين ألف متر.

وبقى الأمر على ذلك إلى سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة هجرية، عند استيلاء الفرنساوية على الديار المصرية، فقاسوا سور المدينة، فوجدوه أربعة وعشرين ألف متر، وبه أحد وسبعون بابا، منها ما هو داخل البلد فى السور القديم، ومنها ما هو فى السور المحيط بها.

ولم تتغير مساحة البلد عما كانت عليه فى القرن التاسع من الهجرة، وكان شكل السور غير منتظم، وهو عبارة عن شكل كثير الأضلاع.

والآن زال أكثر الأبواب، والباقى منها لم يستعمل، وتغير شكل المدينة، ومع ذلك فإن أطول شوارعها باق على أصله، وهو الموصل من بوابة الحسينية إلى بوابة السيدة نفيسة، وطوله أربعة آلاف وستمائة وأربعة عشر مترا.

ومساحة المدينة القديمة، بما فى ذلك من ميادين وحارات وشوارع ومبان ألف وتسعمائة وثمانية وأربعون فدانا، من ذلك ألف وسبعمائة وستة عشر فدانا، مشغول بالمنازل والعمارة، ومنها مائتان واثنان وثلاثون فدانا مشغولة بالشوارع والحارات والميادين، بمعنى أن المشغول بالحارات والشوارع أكثر من الثمن وأقل من التسع.

***

ص: 206

‌مطلب عدد الحارات والشوارع والسكك الجديدة والقديمة ومقاديرها ومساحتها

وعدد الحارات والعطف والدروب والشوارع ألف ومائتان وتسعون، منها الشوارع الكبيرة مائة وثلاثة وثلاثون شارعا، والحارات النافذة وغير النافذة مائة واثنان وستون، والعطف النافذة وغير النافذة سبعمائة وتسعة عشر، والدروب النافذة وغير النافذة مائتان وثمانية، والسكك أربعة وعشرون، وفروع السكك ستة عشر، والطرق تسعة عشر، وطول ذلك جمعيه أربعة وخمسون ألفا وخمسمائة وتسعة وخمسون مترا.

وبالنظر لما حدث من الشوارع المستجدة بخطة الإسماعيلية والفجالة وغيرها - بما فى ذلك من جسر شبرا وجسر أبى العلاء وطريق مصر العتيقة - يبلغ طول الشوارع والحارات مائتين وثمانية آلاف متر وثلثمائة وتسعة أمتار، ومساحته ثلثمائة واثنان وثلاثون فدانا تقريبا، بمعنى أن مساحة ما استجد من الشوارع والحارات تبلغ مائة فدان، وهو يقرب من نصف مساحة الحارات القديمة، وصارت شوارع القاهرة وحاراتها، كما يأتى:

349 شوارع، وطولها 82176

872 عطف، وطولها 44211

16 ميادين، وطولها 1891

357 حارات، وطولها 43619

219 دروب، وطولها 28336

ومساحتها أربع وثلاثون فدانا

ومساحة الإسماعيلية الجديدة ثلثمائة وتسعة وخمسون فدانا، وبالنظر لذلك، ولما استنجد من المبانى فى أطراف القاهرة تبلغ مساحة المدينة الآن نحو ألفين وتسعمائة فدان، بمعنى أنها زادت فى مدة العائلة المحمدية نحو ألف فدان، وجميع ذلك إلا القليل منه حدث فى زمن الخديوى اسماعيل.

***

‌مطلب توزيع المياه فى القاهرة بالوابورات والمواسير ومقدار ما يصرف فى القاهرة وضواحيها من المياه فى السنة الواحدة

والأمر الذى كمل به نظام القاهرة وضواحيها هو أمر توزيع المياه والغاز فيها، وكان المرحوم محمد على قصد أن يحفر ترعة، فمها من شرق إطفيح، وتصب فى الخليج المصرى، ليجرى صيفا وشتاء داخل القاهرة، فلم يتم له ذلك.

ص: 207

وفى سنة خمس وستين ومائتين وألف قصد المرحوم عباس باشا إتمام أمر توزيع المياه فى القاهرة باستعمال وابورات رافعة للمياه، وتوزيعها بمواسير داخل البلد، وشرع المهندسون فى الأعمال الهندسية اللازمة لذلك، ثم عرض عليه مبلغ التكاليف وهو مائة وثلاثون ألف جنيه، فاستكثره وأعرض عن ذلك.

فلما آل الأمر إلى الخديو اسماعيل كلّف به شركة مساهمين على شروط صار الاتفاق معهم عليها، فأخذوا فى إجراء العمل، وأتموه بمعرفة شركتى الماء والغاز، وحصل توزيع الماء والغاز فى المدينة وضواحيها.

والآن كمية المياه التى تصرف فى مدينة القاهرة فى السنة الواحدة عشرة ملايين وسبعمائة وأربعة وستون ألفا وخمسمائة وثمانون مترا مكعبا، فيخص اليوم الواحد تسعة وعشرون ألفا وأربعمائة واثنان وتسعون مترا مكعبا من الماء، والمتر المكعب خمسة عشر قربة حمارى.

وطول المواسير الموضوعة فى الشوارع والحارات داخل البلد وخارجها، وهى من الحديد الزهر، مائة وخمسون ألف متر.

وعدد الفوانيس الموزعة، فى داخل البلد وخارجها ألفان وثمانمائة فانوس وفانوس واحد، منها بالإسماعيلية والأزبكية والفجالة وعابدين ثلثا ذلك، والثلث داخل البلد.

***

‌ميادين القاهرة ورحابها ومقدار ذلك

وفى الزمن السابق على العائلة المحمدية، لم يكن بالقاهرة سوى ميدانين: أحدهم ميدان الأزبكية فى غربى القاهرة، والثانى ميدان قرا ميدان فى قبليها، تحت القلعة، وكانت قد انعدمت جميع الميادين والرحاب، التى تكلّم عليها المقريزى فى خططه، وكان عددها تسعة وأربعين، ففى زمن الفاطميين كان القصر الكبير والقصر الصغير منفصلين بميادين كبيرة، وفى مواضع من القاهرة كانت رحاب واسعة تجاه منازل الأمراء.

ولما زالت الدولة الفاطمية، كان عدد الميادين داخل القاهرة عشرة، وبقى ذلك فى الدولة الأيوبية، إلى زمن السلاطين الحراكسة، فكثر البناء داخل القاهرة وخارجها، ومع ذلك فكان كل أمير يجعل أمام بيته رحبة متسعة، حتى بلغت هذه الرحاب العدد المذكور.

ولما حصل البناء خارج البلد، فيما كان هناك من البساتين، كان خارج القاهرة من جهاتها الثلاث القبلية والغربية والبحرية عبارة عن قصور وبساتين يتخللها ميادين كبيرة.

ص: 208

فى الجهة القبلية ميدان ابن طولون، وميدان الملك العادل، أمام الكبش على بركة الفيل، وميدانا الناصر محمد بن قلاوون؛ المعروف أحدهما بميدان المهارة والآخر بالميدان الناصرى، وكانا فى الأرض الواقعة تجاه قصر العينى والقصر العالى.

وفى الجهة الغربية كان ميدان الصالح والميدان الظاهرى فى الأرض الواقعة تجاه قصر النيل، وميدان العزيز تجاه منظرة اللؤلؤة من أرض بركة الأزبكية.

وفى الجهة البحرية، كان ميدان قراقوش الذى فى بعض مساحته جامع الظاهر.

وكان جميع السلاطين يتأنق فيما يبنيه من القصور فى تلك الميادين، وكانت أيام خروجهم إليها أيام فرح وسرور، فكانت الناس تجد بعد فراغهم من الأعمال، وفى المواسم والأعياد، المحلات العديدة للنزهة والرياضة.

ثم لما صارت مصر ولاية تابعة لدولة آل عثمان، احتكرت الناس أرض البساتين، والميادين والرحاب، وبنوا فيها، ثم لما كثرت الفتن، وتوالت المحن وتكرّر الهدم والبناء حتى صارت المدينة على الحالة التى وصفناها فيما سبق، وانحصرت بين التلول من جهاتها الأربع.

ولما جلس العزيز محمد على باشا على تخت الديار المصرية وفرغ من الحروب التى عاناها اشتغل بإصلاح الأمور، وحذا حذوه خلفاؤه، فتنظمت الحارات والشوارع القديمة وفتحت شوارع وحارات جديدة، وعملت عدة ميادين، فصار فى داخل القاهرة وخارجها ستة عشر ميدانا، وقد تكلمنا على جميع ذلك فى هذا الكتاب.

ص: 209

‌تنظيم شوارع القاهرة، وأول من أدخل المبانى الرومية فى الديار المصرية، ومن تبعه، وزاد عليه بالإتقان والإبداع

وكان الخديو اسماعيل يود تنظيم ما بقى من القاهرة، على أسلوب تنظيم الإسماعيلية، وصدرت أوامره لديوان الأشغال بذلك، وعملت رسومات طبق رغبته، فكان من أغراضه جعل سراى عابدين مركزا يتفرع منه عدة شوارع، منها ما تم وامتد إلى الإسماعيلية وإلى الأزبكية، ومنها ما لم يتم كشارع يمتد من عابدين ويمر تجاه جامع الشيخ صالح، ويمتد مستقيما إلى ميدان السيدة زينب رضي الله عنها، وآخر من قبلى عابدين خلف سراى المرحوم راغب باشا، ويمتد مستقيما إلى أن يلتقى مع شارع محمد على

ثم رغب فى إنشاء شوارع مركزها جامع السيدة زينب، وتمتد فى جهاتها، وتقطع حارات البلد القديمة مع عطفها وأزقتها، لتجديد الهواء وإزالة العفونة، وأحدها يكون من ميدان السيدة إلى بركة الفيل إلى شارع محمد على.

وكذلك كان يرغب فى جعل سراية العتبة الخضراء مركزا لعدة شوارع، منها ما تم، ومنها ما كان يرام امتداده من العتبة الخضراء إلى باب الفتوح إلى الخلاء، وغير ذلك كثير.

وكان من مشروعاته إحداث ميادين متسعة، أحدها عند باب الفتوح، والثانى عند السلطان حسن، والثالث عند بركة الفيل، وغير ذلك خارج البلد. وكان من مشروعاته أيضا إزالة تلول البرقية وباب النصر.

***

وأول من أدخل المبانى الرومية فى الديار المصرية هو العزيز محمد على، فأحضر معلمين من الروم، فبنوا له سراية القلعة، وسراية شبرا، وعمل بينها وبين مصر طريقا متسعا مستقيما، غرسه من جانبيه بالجميز واللبخ، وعمل مثله بين القاهرة وبولاق، وأنشأ بستان الأزبكية، وأزال التلول التى كانت خارج باب الحديد وفى غربى القاهرة.

ص: 210

وبنوا لبنته زينب هانم سراية الأزبكية، ولبنته نازلى هانم سراية على ساحل النيل هدمها المرحوم سعيد باشا وبنى محلها قشلاق قصر النيل، لإقامة العساكر به.

وحذا حذوه فى إنشاء العمائر على هذا الأسلوب بنوه وأمراؤه، فبنى المرحوم سر عسكر إبراهيم باشا قصر القبة بعد العباسية، فى طريق الخانقاه، حيث قبة الغورى المشهورة قديما، وبنى فى جزيرة الروضة والمقياس قصرا عرف بقصر المغارة، لأنه عمل فيه مغارة، ورصّع حيطانها بأنواع الودع الملون، على أشكال بديعة، وبنى القصر العالى.

وبنى المرحوم عباس باشا سراية بجهة الخرنفش، وبنى أحمد باشا يجن دارا عظيمة فى عطفة عبد الله بيك وجعلها قصرين؛ قصرا للرجال وقصرا للحريم. وبنى إبراهيم باشا يجن دارا فى سويقة اللالا مثل دار أخيه وبنى أحمد باشا طاهر فى الأزبكية سرايته المشهورة باسم ثلاثة ولية. وبنى خورشيد باشا السنارى داره فى عابدين، وكذا محو بيك بنى دارا بجوار دار عثمان بيك ابن المرحوم إبراهيم بيك. وبنى المرحوم شريف باشا الكبير سرايته على بركة أبى الشوارب، وبنى سامى باشا المرهلى

(1)

سراية بدرب الجماميز التى فيها المدارس الميرية الآن. وحذا الأهالى حذو الأمراء، فكثرت المبانى الرومية فى داخل القاهرة وضواحيها.

[قصور عباس باشا]

وفى زمن المرحوم عباس باشا بنيت له سراية الحلمية وسراية العباسية وبولغ فى تشييدهما وسعتهما وتحسينهما، والمدارس، والقشلاقات العسكرية، وتنظمت الطرق التى بينها وبين القاهرة، وبنى له أيضا قصر بنها، وبركة السبع، والدار البيضاء فى الجبل بطريق السويس، والعتبة الخضراء بالأزبكية.

وزادت الرغبة فى البناء خارج البلد، وكثرت هذه الرغبة فى مدة سعيد باشا بعد استعمال السكة الحديد بين الإسكندرية والسويس والقاهرة، وظهرت عدة قصور فى جانبى طريق شبرا، وفى جهة المهمشا.

[قصور اسماعيل باشا]

وفى زمن الخديو اسماعيل تنظّمت خطة الإسماعيلية والفجالة، وفتح شارع محمد على، وعمل كبرى قصر النيل، وتنظمت جهة الجزيرة والجيزة، بعد بناء سرايتهما، وهما

(1)

نسبة إلى المورة التى بالمملكة «اليونانية» وسيأتى فى ج 3 أواخر ص 13 من الطبعة الأولى بلفظ المرلى.

«أحمد تيمور»

ص: 211

من أعظم المبانى الفخيمة، التى لم يبن مثلها، ويحتاج لوصف ما اشتملت عليه كلتاهما من المحلات والزينة والزخرفة والمفروشات، وما فى بساتينهما من الأشجار والأزهار والرياحين والأنهار والبرك والقناطر والجبلايات إلى مجلد كبير، ولكن يكفى فى هذا الملخص أن نقول إن أرض سراية الجزيرة ستون فدانا، وتحتوى على سراية للحريم، وأخرى برسم سلاملك كبير، خلاف سلاملك صغير فى غربى السلاملك الكبير.

والسلاملكان من رسم فرانس باشا النمساوى، اجتهد فى تشبيههما بالمبانى العربية القديمة فى شكلهما وزينتهما ومفروشاتهما، وجعل فى خارج السلاملك الكبير برسم الزينة بلكونات وبواكى من الحديد جلبت من البلاد الإفرنجية، وأحاط البستان بسور، وجعل فيه محلات للحيوانات المتنوعة، كالفيلة والسباع والنمور والقردة والنسانيس ونحوها، وأنواع الطيور المجلوبة من بقاع الأرض، وفرش مماشيه بالرمل والزلط، ووزع فيه فوانيس الغاز، فكان من أبدع ما يرى خصوصا فى الليل بعد أن توقد فوانيسه.

وما صرف على هذه السراية من النقود كثير، لكنه بالنسبة لما صرف على سراية الجيزة قليل. وفى الأصل كانت سراية الجيزة قصرا صغيرا وحماما بناهما المرحوم سعيد باشا، وبعد موته اشتراهما الخديو اسماعيل باشا وما يتبعهما من الأرض وهو نحو ثلاثين فدانا من ابنه المرحوم طوسون باشا، وهدمهما، وبناهما وفرشهما.

وبعد قليل أخذ فى توسيع السراية من جهة البحر، وزاد فى المبانى، وأحضر من الآستانة أحد القلفاوات المعروفين، فعمل له رسومات اقتضت المحو والإثبات فيما تم، وأحضر من الآستانة أيضا أسطاوات، فنظموا بستانها، وفرشوا مماشيه وطرقه بالزلط الملون المجلوب من جزيرة رودس على رسوم أشكال مختلفة، وجعلوا فيه جبلايات، وبركا متسعة، وأنهرا غدرانا عليها قناطر وكشكات للجلوس، وأقفاصا واسعة للطيور، وأوصل له مياه النيل المرفوعة بوابور مخصوص، ووزع فيه فوانيس الغاز.

ثم عنّ له أن يعمل سلاملكا يبنيه جميعه من الحجر النحيت، وكلّف برسم ذلك وعمله مهندسين وعمالا من الإفرنج، ووسع البستان الأصلى، ونقض ما عمل فى المماشى من الزلط والرخام، وأعاده ثانيا، وأنشأ بستانا ثالثا عرف بالأرمان جلبت أشجاره من جزائر الروم بعد ما ردمت أرضه بطمى النيل إلى قريب من مترين، وكذا ردم الأرض المجاورة لهذه السراية وسراية الجزيرة إلى ارتفاع مترين. وبلغ ما ردم فى الجهتين نحو ثلثمائة فدان بمعرفة مقاولين من الإفرنج، اشترط معهم على أن تكاليف المتر المكعب افرنك ونصف خلاف السكك الحديدية التى جعلت لهذه العملية فكانت على الحكومة.

ص: 212

وكلف برسم البساتين المهندس باريل بى المشهور فى تنظيم البساتين، وهو الذى نظّم بستان الأزبكية، فنوع فى رسومات أرمان الجيزة، وجعل به مناظر مختلفة وجبالا عليها قناطر تمر فوق وديان، ونوّع مستوى أرضه، فجعل بعضه مستويا، وبعضه منحدرا، وجعل به أبحرا وغدرانا. وفى مواضع منه ضم الأشجار إلى بعضها، وفى غيرها فرّقها، واجتهد فى تشبيه تلك الأرض بأراضى الروم وغيرها، واستعمل مبلغا جسيما من «الصيمنتو» فى عمل الصخور، ووزع الغاز به فى فوانيس من البللور على أعمدة من الحديد.

ورتّب من الخدمة لتلك البساتين نحو خمسمائة نفر تحت إدارة أسطاوات من الإفرنج لخدمة الأشجار وسقيها بالخراطيم وكنس الطرقات والمماشى ونحوها، فصارت بساتين الجيزة والجزيرة فريدة فى نوعها، وبلغت مساحة الأرض المشغولة بتلك الأعمال أربعمائة وخمسة وستين فدانا.

وكان الخديو اسماعيل باشا مشغوفا بحب البناء، فبنى غير هذه السرايات سرايات أخرى مثل سراية عابدين، وسراية الإسماعيلية الصغيرة، سميّت بذلك لأنه كان قد شرع فى بناء سراية الإسماعيلية الكبيرة محل جزيرة العبيط بعد شراء ما كان بها من المنازل والقصور، ولكنه أوقف العمل فيها بعد أن صرف على جدرانها فقط ثمانية وثلاثين ألفا وثمانمائة وعشرين جنيها مصريا، وصرف على مشترى أماكن الجزيرة - وهى مائة بيت وواحد - تسعة آلاف وستمائة واثنين وثمانين كيسة، وهى عبارة عن ثمانية وأربعين ألفا وأربعمائة جنيه وعشرة.

واستمر العمل فى سراية الجيزة، وسراية بولاق التكرور، وسراى فاطمة هانم، والقصر العالى، وسراية الزعفران بالعباسية للوالدة، وسرايات أخر بالإسكندرية والمنصورة والمنيا والروضة، وغير ذلك من بيوت الإشراقات وغيرها، وسراية كبيرة بالعباسية، وهى التى احترقت، وبعضها الآن عمل اسبتاليا للمجاذيب، وكان جميع حيطان محلاتها من الداخل وسقوفها مكسوة بالأقمشة المتنوعة الأجناس والقيم.

ووجدت قائمة فيها ما صرف على السرايات من أجر صناع ومفروشات ونقوش ونحوها، من ضمن ذلك ما صرف على الجيزة ألف ألف وثلثمائة وثلاثة وتسعون ألفا وثلثمائة وأربعة وسبعون جنيها، وعلى سراى عابدين ستمائة وخمسة وستون ألفا وخمسمائة وسبعون جنيها، وسراى الجزيرة ثمانمائة وثمانية وتسعون ألفا وستمائة وإحدى وتسعون جنيها، وسراى الإسماعيلية الصغيرة مائتا ألف وواحد ومائتان وستة وثمانون جنيها، وباقى العمارات ألفا ألف وثلثمائة وإحدى وثلاثون وستمائة وتسعة وسبعون جنيها، منها على سراى الرمل أربعمائة واثنان وسبعون ألفا وثلثمائة وتسعة وتسعون جنيها.

ص: 213

وفى مدته كثرت الرغبة فى المبانى الرومية الفخيمة، فبنى الأمراء وغيرهم من أصحاب الأموال فى خطة الإسماعيلية والفجالة وشبرا القصور والسرايات المكلفة، منها ما تبلغ نفقته ثلاثين ألف جنيه، وكثرت حتى صارت عدة مئين.

وللآن فى مدة الحضرة الخديوية التوفيقية لم تنقطع الرغبة فى تلك المبانى، وفى كل يوم تظهر مبان مشيدة، بأشكال ظريفة، حتى امتدت العمارات إلى طريق السبتية الواصل بين محطة السكة الحديد وبولاق، ونتج من تلك الأعمال زوال التلول والبرك العفنة التى كانت بأرض الإسماعيلية وبجانبى طريق بولاق وطريق السبتية والفجالة، وصارت هذه المحلات من أحسن محلات المدينة.

[تنظيم شوارع القاهرة]

وقبل العائلة المحمدية كانت حارات القاهرة وأزقتها كثيرة الانعطافات والأسبطة، وأرضها غير مستوية، فلما كثرت بها السكان والمتاجر صارت لا تناسب هذه الحالة، فكان يحصل الازدحام وتعطيل الماشى والراكب، فلما أخذ العزيز محمد على بزمام الأحكام، واستتبت الراحة، صدرت أوامره لأقلام الهندسة بعمل لائحة التنظيم، فعملت، وصار العمل بمقتضاها، ونشأ عن ذلك اتساع الحارات، وسهولة المرور بالمتاجر وغيرها، واستمر ذلك فى زمن خلفائه.

[خصائص البناء الرومى الجديد]

واتبع الناس فى بنائهم الأشكال الرومية، وهجروا الأسلوب القديم، لما رأوا فى الأسلوب الجديد من بهجة المنظر وحسن الوضع وقلة المصاريف عن الأسلوب القديم، فإن المحلات فى الأسلوب الجديد، شكلها إما مربع، أو مستطيل، ولا تختلف، إلا بالكبر والصغر، بخلاف القديم فإن القاعة الواحدة كانت تشغل أكثر أرض الدار، ولوازمها يعسر معها الانتظام، وكانت الطرقات والفسحات تأخذ مبلغا عظيما، ومراحيضها قريبة من محلات النوم والجلوس، وأكثر محلات الدار قليل النور والهواء اللذين هما من أساس الصحة، وقلّ أن تخلو من الرطوبات، التى تتولد عنها الأمراض.

وفى الأسلوب الجديد، استعوضت المشربيات التى كانت تصنع من الخرط بشبابيك مستطيلة، وعليها ضفف الزجاج، واستعمل فى الدور الأرضى عوضا عن الخرط شبابيك من الحديد، بأشكال مختلفة. واستعوضت خردة الرخام التى كانت تجعل فى درقاعات

ص: 214

القيعان والحمامات، وفى أسفل الحيطان بترابيع الرخام الأبيض والأسود، وهى أبهج منظرا، وأقل مصرفا، وتركت خردة الرخام، وكانت عبارة عن قطع صغيرة مختلفة الألوان توضع بهيئات مختلفة فى بعض منافذ القيعان بالجبس، وهى مع كثرة مصاريفها لا فائدة فيها.

وتركت السقوف البلدية الملبسة ذوات الكرادى والمقرنصات التى كانت تجعل تحت الإزار فى دائر بعض المحلات وفى الزوايا الأربع.

وكانت الصنّاع تقيم فى صناعة ذلك الأشهر العديدة، بل السنين، حتى كان السقف يتكلف مثل ما يتكلفه باقى المنزل، فعمل بدل ذلك السقوف الرومية المستوية أو المفرّغة، ويكون السقف فى الغالب منتهيا بإزار مزيّن ببعض الأعمال، وفى وسطه صرة مفرغة تفاريغ متنوعة، فإذا تم طلى بطلاء الزيت الملون بالأصباغ، ونقش بنقوش متنوعة. وكثيرا ما ينتهى السقف ببراويز وكرانيش يتفنن الصانع فى إتقانها بقدر استعداده ورغبة صاحب الشغل وثروته، وتارة تعمل السقوف بالبغدادى، وتكسى بالجبس، وتدهن بأنواع الأصباغ، وتنقش هى والحيطان باللون الذى يرغبه صاحب المنزل، أو تكسى بالورق المنقوش، وقد تكون النقوش فى الورق أو غيره محلاة بماء الذهب.

وتغيرت وجهات البيوت التى كانت تعمل فى الأزمان القديمة بحسب ما يتفق على غير قانون هندسى، بحيث تكون لا فرق بينها وبين وجهات حيشان الأموات، فجعلت على قانون هندسى منتظم، وهيئات مألوفة حسنة، وقسمت الوجهة فى اتساعها وارتفاعها، بكرانيش بارزة، يحدث عنها بعض الظلال فى عرضها وارتفاعها، وتزيد فى رونق البناء، وبهائه.

وفى السابق كانوا يجعلون أرض محلات المنازل غير مستوية، بل بعضها مرتفع وبعضها منخفض، فترى أهل المنزل فى تقلبهم فى المحلات يصعدون ويهبطون، وذلك فضلا عن مضراته مذهب للرونق، فجعلت فى الجديد محلات كل دور من المنزل فى مستوى واحد، بهيئة ينشرح لها الصدر.

وكذلك السلالم جعلت مناسبة لتوزيع المحلات باتساع مناسب للمنزل كبرا وصغرا وارتفاعا، وجعلت درجاتها بهيئة لا تتعب الصاعد، وأعطيت النور الكافى على خلاف ما كانت عليه قديما.

وتركت الأبواب المفرغة الدقيقة، التى كانت تعمل من قطع الخشب المتعشقة فى فى بعضها على أشكال مختلفة، وتارة كانت تلبس بالصدف وغيره، ويجعل لها ضبب من

ص: 215

الخشب، ويتفنن فى جنس خشبها وهيئتها، وربما لقمت بالعاج والأبنوس ومواد معدنية على هيئات كثيرة، فاستعوضت بالأبواب الحشو، واستعوضت الضبب بالكوالين، وبطلت الرفوف والدواليب التى كانت تعمل فى سمك الحائط ويتفنن فى عملها، وربما عملت بالخردة ونحوها، ويضعون عليها أنواع الصينى للزينة والمباهاة.

ولما كثر دخول الإفرنج فى هذه الديار، بعد إحداث السكك الحديدية فيها، أخذت صور المبانى تتغير، فبنى كل منهم ما يشبه بناء بلده، فتنوعت صور المبانى وزينتها، وزخرفتها، وكذا تغيرت المفروشات الثمينة، والسجادات الهندية والعجمية والتركية، بالمفروشات الإفرنجية والتركية، وتغيرت كذلك الملبوسات وأوانى الأكل والشرب وغيرهما.

ولرغبة الناس فى البضائع الإفرنجية لرخصها قل ورود الهندية والعجمية، وكثرت البضائع الإفرنجية، واستبدلت أوانى النحاس بالصينى، ومسارج الصفيح والشمع الكريه الرائحة بشمع المنّ الأبيض وبالفوانيس الزجاج وشمع دانات البللور والمعدن الحسنة الشكل البهيجة المنظر.

وبالجملة فمن يدخل القاهرة الآن وكان قد دخلها من قبل أو قرأ وصفها فى كتب من وصفوها فى الأزمان السالفة، فلا يرى أثرا لما ثبت فى علمه، ويرى أن التغير كما حصل فى الأوضاع والمبانى وهيئاتها حصل فى أصناف المتاجر وفى المعاملات والعوائد وغيرها من أحوال الناس.

***

‌مطلب تقسيم القاهرة وتوابعها الى ثمانية أثمان مع بيانها

ولسهولة الضبط والربط انقسمت القاهرة إلى ثمانية أثمان، وكل ثمن ينقسم شياخات تكثر وتقل بالنسبة لكبر الثمن وصغره، ولكل ثمن شيخ يعرف بشيخ الثمن، مرتبه شهريا من المحافظة مائة قرش صاغ، ولكل شياخة شيخ يعرف بشيخ الحارة ليس له مرتب من المحافظة، وإنما تكسّبه يكون من النقود التى يأخذها برسم الحلوان من سكان الأملاك التى فى شياخته، لأن العادة أن من أراد أن يؤجر بيتا فى حارة من الحارات يكون ذلك بمعرفة شيخ الحارة، وبعد تأجيره للبيت يدفع له أجرة شهر برسم الحلوان.

والحكومة تستعين بهم فى توزيع الفردة والطلبات، ويظهر مما كتبه الجبرتى أن هذا الترتيب لم يحصل إلا فى زمن الفرنساوية، فهم الذين وضعوه، وبقى مستعملا من بعدهم

ص: 216

إلى الآن، ولم أر ذلك فى خطط المقريزى، فإنه لم يتكلم على تقسيم القاهرة ولا الفسطاط إلى أثمان.

والآن أثمان مدينة القاهرة هى: ثمن الموسكى، وثمن الأزبكية، وثمن باب الشعرية، وثمن الجمالية، وثمن الدرب الأحمر، وثمن الخليفة، وثمن عابدين، وثمن السيدة زينب، وثمن مصر العتيقة، وثمن بولاق. وكنت أود أن أبين حدود كل ثمن، لكن لكثرة التغيرات اكتفيت بذكر أسمائها، وهى مبينة فى المحافظة، فمن أراد الوقوف عليها فلينظرها هناك.

***

‌مطلب القره قولات وبيوت الحكمة والطب

وكان فى الأثمان المذكورة ثمانية وأربعون قره قولا موزعة داخل البلد وخارجها لإقامة العسكر المحافظين بها. والآن بطل أكثرها، ولم يبق منها إلا القليل.

وفى كل ثمن بيت للصحة، به حكيم وحكيمة وكاتب وتمرجى، للكشف على من يموت، وتطعيم الجدرى، ومعالجة بعض المرضى، وإعطائهم بعض الأدوية، وقيد من يولد ومن يموت فى دفاتر مخصوصة ترسل لديوان الصحة، وإخبار بيت المال عمن يموت، وهو تابع لمجلس الصحة العمومية، يتلقى منه المخاطبات، ويخبره عن جميع الحوادث الصحية.

وفى كل ثمن أيضا معاون وكاتب، وبعض عساكر، وهم تابعون لديوان المحافظة، ووظيفته النظر فى المنازعات والخصومات، فما يمكنه صرفه صرفه، وإلا أرسله إلى جهة الاختصاص.

***

ص: 217

[بيانات إحصائية عن عمارات القاهرة ومنشآتها وسكانها وصنائعهم ومختلف أحوالهم]

‌مطلب عدد الجوامع والمساجد والمدارس والزوايا والرباطات والخوانق

والعمارات المشتملة عليها مدينة القاهرة هى:

أولا: محلات العبادة، وتشمل الجوامع، والمدارس، والزوايا، والمساجد، والرباطات، والخوانق.

ولنذكر هنا بطريق الإجمال عدد كل منها مع تقلباته، فنقول:

أما الجوامع الآن، فهى مائتان وأربعة وستون جامعا، ودخل فى ضمن الجوامع المدارس، التى تكلم عليها المقريزى وهى سبعون مدرسة، سوى ما ذكره من الجوامع، وهى ثمانية وثمانون جامعا، فمجموعها مع المدارس مائة وثمانية وخمسون، فيكون ما استجد فى القاهرة من بعد المقريزى إلى وقتنا هذا مائة جامع وستة ويظهر مما ورد فى الخطط أن الجوامع والمدارس لم تكثر إلا فى زمن السلاطين من الجراكسة.

وإلى سنة ستين وخمسمائة من الهجرة كانت لا تقام الجمعة فى القاهرة ومصر إلا فى ثمانية جوامع وهى: جامع عمرو، وجامع العسكر، وجامع ابن طولون بالقطائع، والجامع الأزهر بالقاهرة، والجامع الحاكمى بالقاهرة، وجامع المقس بالقاهرة أيضا، وجامع القرافة، وجامع راشدة. ثم فى زمن السلاطين من الجراكسة كثرت الرغبة فى بناء الجوامع، حتى بلغت فى آخر مدتهم مائة وثلاثين جامعا تقام فيها الجمعة، كان منها بمصر العتيقة عشرة، وبالقرافة أحد عشر، وبجزيرة الروضة خمسة، وبالحسينية اثنا عشر، وعلى النيل خارج القاهرة أربعون، وبين القاهرة ومصر ثلاثة وعشرون، وبالقلعة أربعة، وخارج القاهرة بالترب سبعة، وداخل القاهرة سبعة عشر.

ص: 218

وكان كل من بنى جامعا وقفه لله، ووقف عليه الأوقاف الدارة، ورتّب له الخدمة والمؤذنين والأئمة وغير ذلك.

والآن قد اندثر جميع المدارس، وصارت جوامع، ولم يبق محلا مختصا بالتدريس وللمدرسين فيه رواتب من جهة الحكومة والأوقاف، إلا الجامع الأزهر فقط، وتقام الجمعة فيه، وفى جميع الجوامع المذكورة، بل وفى بعض الزوايا.

وفى المقريزى أن المدارس مما حدث فى الإسلام، ولم تكن تعرف فى زمن الصحابة ولا التابعين، وإنما حدثت بعد سنة أربعمائة من الهجرة، وأول مدرسة بنيت ببغداد سنة سبع وخمسين وأربعمائة، ومصر كانت حينئذ فى يد الفاطميين، وهم شيعة إسماعيلية.

وأول ما علم إقامة درس من قبل السلطان بمعلوم جار لطائفة من الناس، كان فى خلافة العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله فى الجامع الأزهر، والوزير يعقوب بن كلس كان يقرأ درسا فى داره، كان يقرأ فيه كتاب فقه على مذهبهم، وعمل مجلسا بجامع عمرو أيضا.

***

‌مطلب إبطال مذهب الشيعة من جميع الديار المصرية

ولما صارت مصر إلى الأيوبية، وجلس على تختها يوسف صلاح الدين أبطل مذهب الشيعة من جميع الديار المصرية، وأقام بها مذهبى الإمام مالك والإمام الشافعى، وأول مدرسة حدثت بديار مصر كانت بجوار الجامع العتيق بناها صلاح الدين سنة ست وستين وخمسمائة، وعرفت بالمدرسة الناصرية وكانت للشافعية، وبنى فى السنة المذكورة المدرسة القمحية بقرب الناصرية للمالكية، وبنى أيضا المدرسة السيوفية للشافعية.

وحذا حذو صلاح الدين خلفاؤه من الأيوبية، حتى كانت عدة المدارس بعد زوال ملكهم خمسا وعشرين مدرسة، منها الخاصة الشافعية سبعة، وللمالكية ستة، وأربعة للحنفية، وواحدة للحنابلة.

وتارة كان يدرس بالمدرسة مذهبان، فكان للشافعية والمالكية معا أربعة مدارس، ومثلها للشافعية والحنفية.

ولما تولى الملك من بعدهم مماليكهم، ساروا سير ساداتهم، وحذا حذوهم أمراؤهم، وأصحاب الأموال من الرجال والنساء، حتى كمل عدد المدارس إلى آخر حياة المقريزى

ص: 219

خمسا وأربعين مدرسة فى نحو مائة وثمانين سنة، وصار فى القاهرة سبعون مدرسة، يدرس بها المذاهب الأربعة، وبعضها كان مختصا بالصوفية.

وكان يتأنّق فى بناء تلك المدارس وزينتها وزخرفتها وترخيمها، وتعمل لها الشبابيك من النحاس المكفت بالذهب والفضة، وتصفح أبوابها بالنحاس البديع الصنعة المكفت، ويجعل فيها خزانة كتب، بها عدة من المصاحف والكتب فى الحديث والفقه وغيرهما من أنواع العلوم. وكان يتأنق فى عظم المصاحف وكتابتها، فمنها ما كان طوله أربعة أشبار إلى خمسة، وعرضه قريب من ذلك، ولها جلود فى غاية الحسن معمولة فى أكياس الحرير الأطلس.

وكانت العادة عند انتهاء عمارة المدرسة أن يدعو صاحبها القضاة والأعيان وغيرهم من الأمراء، ويمدّ لهم سماطا جليلا، وتملأ البركة التى بوسط المدرسة ماء قد أذيب فيه سكر، مزج بماء الليمون، ويسقى منه الحاضرون. وفى الجلسة يقرر المدرسين فى المذهب أو المذاهب، وفى الحديث والتفسير، ويخلع عليهم الملابس الفاخرة، ويقرر لكل من المدرسين طائفة من الطلبة، ويجرى عليهم الرواتب من الخبز فى كل يوم ومن الدراهم فى كل شهر، ويرتب الإمام والقومة والمؤذنين والفراشين والمباشرين، ويوقف عليهم الأوقاف الدارة، وقد بيّنا أوقاف بعض تلك المدارس، وما لحقها من التغيرات والأحوال فى هذا الكتاب.

ومن ابتداء القرن التاسع إلى القرن الثانى عشر يعنى مدة ثلاثة قرون قد أهمل أمر المدارس، وامتدت أيدى الأطماع إلى أوقافها، وتصرف فيها النظّار على خلاف شروط وقفها، وامتنع الصرف على المدرسين والطلبة والخدمة، فأخذوا فى مفارقتها، وصار ذلك يزيد فى كل سنة عما قبلها، لكثرة الاضطرابات الحاصلة بالبلاد، حتى انقطع التدريس فيها بالكلية، وبيعت كتبها وانتهبت، ثم أخذت تتشعث، وتتخرب، من عدم الالتفات إلى عمارتها ومرمتها، فامتدت أيدى الناس والظلمة إلى بيع رخامها وأبوابها وشبابيكها، حتى آل بعض تلك المدارس الفخيمة، والمبانى الجليلة إلى زاوية صغيرة تراها مغلقة فى أغلب الأيام، وبعضها زال بالكلية وصار زريبة أو حوشا أو غير ذلك، كما بيّناه فى هذا الكتاب، ولله عاقبة الأمور.

ص: 220

‌مطلب عدد المدرسين فى المذاهب الأربعة وطلبة العلم بالجامع الأزهر وما يصرف لهم ولباقى الجوامع والزوايا والأضرحة

ومن ابتداء جلوس العزيز «محمد على» على تخت الديار المصرية أخذت الحكومة فى التشديد على حفظ ما بقى من تلك المبانى، ومن فيض مراحمها أنشأت عدة مساجد فى القاهرة وغيرها، وعمرت القديم وأعدته للعبادة، وحذا حذوه خلفاؤه فى هذا الأمر الجليل، وترتب ديوان الأوقاف لحفظ تلك المبانى وأوقافها والصرف عليها، ووجهت جل عنايتها إلى أمر التربية فساعدت طلبة الأزهر والمدرسين، فانتظم سير التعليم فيه.

وكثرت طلبة العلم فى المذاهب الأربعة فى مدته ومدة خلفائه، حتى بلغ عددهم فى سنة تسعين ومائتين وألف هجرية تسعة آلاف وأربعمائة واحدا وأربعين طالبا، منهم شافعية أربعة آلاف وخمسمائة وسبعون، ومالكية ثلاثة آلاف وسبعمائة وعشرة، وحنفية ألف ومائة وأحد وثلاثون، وحنابلة ثلاثون طالبا.

وأما عدد المدرسين فى المذاهب الأربعة، فبلغ ثلثمائة وأربعة عشر، والجارى صرفه الآن من ديوان الأوقاف على الجامع الأزهر ومن به، من العلماء والطلبة، ألفان وخمسمائة وتسعة عشر جنيها واثنان وستون قرشا ونصف نقدية وخبز، وذلك خلاف الجارى صرفه للمدرسين من الروزنامجة.

والجارى صرفه من الأوقاف لباقى الجوامع والزوايا والأضرحة - فى مرتبات وزيوت وشموع وحصر وإحياء ليال - ثلاثون ألف وأربعمائة وتسعة وأربعون جنيها وثمانية وثلاثون قرشا، والجارى صرفه على المكاتب التابعة للديوان المذكور أربعة عشر ألفا وستمائة وستة وعشرون جنيها وأحد وأربعون قرشا. بمعنى أن مجموع الجارى صرفه فى السنة الواحدة على إقامة الشعائر الدينية وعمارات محلاتها سبعة وأربعون ألفا وخمسمائة وخمسة وتسعون جنيها واثنان وأربعون قرشا.

***

‌مطلب إنشاء المدارس الملكية وما يصرف عليها ومقدارها

ثم إن الحكومة وجهت أنظارها إلى إنشاء مدارس لتربية الشبان، ونشر العلوم والفنون والصنائع، ففى زمن المرحوم محمد على أنشئت مدرسة الطب فى سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف، وجلب لها مائة تلميذ من طلبة الأزهر، ورتب لهم معلمين، جلبهم لها من بلاد

ص: 221

الإفرنج، ثم رتب المهندسخانة لتعليم العلوم الرياضية، ومدرسة البحرية، ومدرسة الزراعة، وأخرى لتعليم الألسن الأجنبية، ومدرسة لتعليم الصنائع والحرف، ومدرسة للموسيقى. هذا فضلا عن المدارس العسكرية وهى: مدرسة للطوبجية، ومدرسة للخيالة، ومدرسة للبيادة.

هذا فضلا عن المكاتب التى نظمها بالقاهرة والإسكندرية ومدن الأقاليم المصرية.

وقد بلغ عدد الشبان الذين كانوا يتلقون العلوم والصنائع فى وقته تسعة آلاف.

[الإرسالات العلمية الى الدول الأجنبية]

ولم يكتف بذلك، بل جعل يرسل إلى البلاد الأجنبية الإرسالات المتوالية من أذكياء الشبان للتبحر فى المعارف، وجعل لكل فن من العلوم طائفة منهم. وبلغ عدد المرسلين إلى فرانسا أربعة وأربعين تلميذا لحقهم غيرهم. وفى سنة ثمانية وأربعين بلغ عددهم ستين تلميذا وإلى سنة ألف ومائتين وثمان وخمسين كانت جملة المرسلين مائة وأربعة عشر تلميذا، وقد نجح منهم الكثير، وحصل النفع بهم فى مصالح البلاد.

وفى سنة ستين ومائتين وألف أرسل أنجاله ضمن إرسالية كبيرة قدرها سبعون تلميذا، وفتح لها مدرسة مستقلة فى مدينة باريس لتعليم الفنون العسكرية، ولم تزل الإرساليات تتعاقب، وتحضر إلى مصر، ويوظفون فى المصالح، كتعليم الفنون الحربية والتعليمات العسكرية، وأشغال الهندسة كعمل المبانى والترع والقناطر، وعمل الآلات وإدارة الورش والمعامل، واستخراج الزيوت وعمل الصابون والشمع والعطريات، وتكرير السكر، وعمل الأسلحة النارية والسيوف والسكاكين والمطاوى والساعات، وطقومة الخيل، وسبك المعادن، وتركيب الأحجار الثمينة، والحياكة، والتجليد، وصناعة الورق، وعمل الاستحكامات، وغير ذلك مما يطول شرحه، وقد ظهرت ثمراته فى البلاد المصرية، واستمرت إلى الآن.

وكان كلما علم بمزية فى جهة أرسل إليها من يعهد فيه الاستعداد للحصول عليها، فأرسل إلى بلاد الإنجليز، وبلاد إيتاليا، وبلاد النمسا، وألمانيا، فانتشرت المعارف المعاشية فى البلاد المصرية بعد خفائها.

[التعليم فى عهد إسماعيل]

وقد حذا حذوه خلفاؤه، وساروا على منهجه، وإن كان فى زمن المرحوم سعيد باشا حصل فتور فى سير التعليم، لكن لما آل الأمر إلى الخديو اسماعيل باشا أخذ التعليم

ص: 222

فى سيره القديم، ومن اهتمامه بأمر التربية، زاد فى النفقة عليه، فاتسع نطاق التربية، وزادت رغبة الناس فى تربية أولادهم.

ولم يكتف الخديو المذكور، بالمدارس السالف ذكرها، بل أنشأ مدرسة للقوانين والشرائع، وهى المعروفة بمدرسة الإدارة، ومدرسة لتربية الخوجات، عرفت بدار العلوم، أخذت تلامذتها من طلبة الجامع الأزهر. وهو أول من فتح مدرسة للبنات، وأخرى للخرس والعميان من الذكور والإناث. وأنشأ مدارس فى مدن الأقاليم، جعل فيها التعليم على النسق الجارى فى المدارس الميرية، وأنشأ جملة مكاتب أهلية فى القاهرة والإسكندرية جرى التعليم فيها على هذا النسق، وجعل للنفقة عليها إيراد شفلك الوادى، وما يتحصل من الأوقاف الخيرية بناء على لائحة عملت لذلك، وما يدفع من أهالى الأولاد، على حسب اقتدارهم.

ومن رغبة الناس فى تربية أولادهم ظهرت مكاتب متعددة قبل فيها الراغبون للتعلم من كافة طوائف الخلق، وتسابق المسلمون والنصارى فى هذا الأمر، فكثرت المدارس الإسلامية والإفرنجية، وزادت تلك الرغبة بما رأوه من إعطاء الإعانات من طرف الحكومة، للمساعدة على التعليم والتعلم.

وإلى سنة تسعين ومائتين وألف بلغ عدد المدارس الميرية إحدى عشرة مدرسة، وعدد تلامذتها ألفا وتسعمائة وثمانية عشر تلميذا، منها أربعمائة وخمسة وأربعون بمدرسة البنات.

وفيها من الخوجات مائة وتسعة وستون خوجة، وفى مدارس المديريات ثمانمائة وأربعة وستون تلميذا، وفيها من الخوجات خمسة وأربعون. وفى المكاتب الأهلية المنتظمة ألف وتسعمائة وأحد وسبعون تلميذا، وفيها من الخوجات اثنان وتسعون. فيكون مجموع الجارى النفقة عليه من طرف الحكومة ووقف الوادى أربعة آلاف وسبعمائة وثلاثة وخمسين تلميذا، وثلثمائة خوجة وستة خوجات، وهذا خلاف المدارس العسكرية.

وكان المخصص لديوان المدارس الملكية من المالية فى كل سنة نحو ثمانية وأربعين ألفا وخمسة عشر جنيها، وكانت المدارس تتحصل على نحو عشرين ألف جنيه من إيراد الوادى، خلاف سبعة آلاف جنيه من ديوان الأوقاف، فيكون المجموع نحو خمسة وسبعين ألف جنيه.

وفى القاهرة وضواحيها سبع وثلاثون مدرسة للأقباط واليهود والأرمن والإفرنج، بها من التلامذة ثلاثة آلاف وستمائة وثمانون تلميذا، منها أناث ألف ومائة وأربع وسبعون، وفيها من الخوجات مائتان واحد وعشرون، وأعطى لأكثر هذه المدارس إعانات، بعضها نقدية وبعضها أراض أحسن بها عليها، للصرف من ريعها.

ص: 223

ولم تغير الحوادث التى طرأت على القطر وغيرت محاسنه رغبة الناس فى التعلم واكتساب أولادهم حسن التربية. ومن ذلك وعدم إمكان قبول كل الراغبين فى المدارس الميرية على سننها القديم قد جعلت فى قانونها الجديد التلامذة داخلية وخارجية، وفرضت عليهم مبالغ فى مقابلة التعليم فوق طاقة الفقراء منهم، وإن قدر عليها أهل الثروة، فالرغبة فى دخول المدارس الميرية قليلة، لانقطاع الأمل من الانتفاع بثمرات التعليم، فعدم رجاء اجتناء الثمر يصد المرء عن غرس الشجر.

***

‌مطلب عدد الأضرحة

والموجود الآن بالقاهرة من الأضرحة مائتان وأربعة وتسعون ضريحا، بعضها داخل مزارات، وله خدمة، والبعض داخل بيوت، وفى زوايا الحارات والعطف، وهى إما قبور أمراء أو صالحين، وقد ترجمنا بعض من وقفنا على ترجمته منهم.

ويوجد بالقاهرة أيضا - غير هذه الأضرحة - مائتان وخمس وعشرون زاوية، والمقريزى لم يترجم سوى ست وعشرين زاوية، وترجم لاثنين وخمسين مسجدا، منها بالقرافة الكبرى - التى كان بها جامع الأولياء وذكرنا أن محله الآن الحوش المعروف بحوش أبى على - ثلاثة وثلاثون مسجدا، والباقى داخل البلد، وترجم خمسة عشر مسجدا بالقرافة الصغرى، التى بها قبر الإمام الشافعى رضي الله عنه، فيكون مجموع المساجد والزوايا ثلاثة وتسعين.

(أقول): ولا يبعد أنه مع تقلب الأزمان اندثر اسم المساجد، واستبدل باسم الزوايا، أو صار من بعض الزوايا الموجودة الآن.

ومن ابتداء القرن التاسع إلى وقتنا هذا كثر بناء الزوايا، حتى بلغت العدد السابق، ولا أدرى إن كانت السبعة عشر رباطا، التى تكلم عليها المقريزى هى من ضمن ذلك أم لا، منها خمسة بالقرافة، والباقى فى البلد وضواحيها.

وفى الأزمان السابقة كانت الزوايا لإقامة بعض الصالحين للتعبد فيها، ولم تكن تقام فيها الجمعة، والآن تغير الحال، وصارت تقام الجمعة فى أكثرها.

وأما الرباطات، فكانت من المحلات الخيرية، وبعضها كان لإقامة الصوفية، وبعضها كان للنساء المنقطعات، أو المهجورات، أو المطلقات، أو العجائز الأرامل العابدات. وكان لها الجرايات والمقامات المشهورة من مجالس الوعظ، وقد انقطع ذلك من زمن مديد.

***

ص: 224

‌مطلب عدد التكايا

وبالقاهرة الآن ثمان عشرة تكية موزعة فى أخطاطها، وهى محلات تقيم فيها الدراويش وجميعهم أعاجم، وفى القديم كان يطلق على هذه الدور اسم خانقاه. وقال المقريزى: إنها حدثت فى الإسلام فى حدود الأربعمائة من سنى الهجرة، وجعلت لتخلى الصوفية فيها لعبادة الله تعالى، ونقل عن الشيخ شهاب الدين أبى حفص عمر بن محمد السهروردى رحمه الله أن الصوفى من يضع الأشياء فى مواضعها، ويدبر الأوقات والأحوال كلها بالعلم، يقيم الخلق مقامهم، ويقيم أمر الحق مقامه، ويستر ما ينبغى أن يستر، ويظهر ما ينبغى أن يظهر، ويأتى بالأمور من مواضعها، بحضور عقل، وصحة توحيد، وكمال معرفة، ورعاية صدق وإخلاص

(اه.)

أقول: فمن كانت هذه صفاته، يستحق أن يقتدى بقوله وفعله، ونحن جميعا نود أن تكون هذه الصفات صفات لصوفية عصرنا المنغمرين فى نعم خير بلادنا، نسأل الله الهداية والتوفيق، وهو الهادى إلى الصواب، وإليه المرجع والمآب.

***

‌مطلب أول خانقاه بمصر

وأول خانقاه بديار مصر حدثت فى زمن صلاح الدين يوسف بن أيوب فى سنة تسع وخمسين وستمائة برسم الفقراء الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة، ووقفها عليهم، ووقف عدة أملاك يصرف من ريعها عليها، ورتّب للصوفية كل يوم طعاما؛ لحما وخبزا، وبنى لهم حماما بجوارها، ثم لما انقرضت دولة الأيوبية حذا حذوهم السلاطين الجراكسة وبعض الأمراء.

فصار فى مصر إلى أول القرن التاسع اثنتين وعشرين خانقاه، ثم لما زال ملك السلاطين الجراكسة. حصل ما حصل للمدارس من الإهمال وعدم الصرف وضياع الأوقاف التى عليها، فاندثر أغلبها، وتخرّب كثير منها، وبقى الأمر على ذلك إلى أيامنا هذه فاستبدلت بالتكايا كما تقدم، وتنوسى اسم الخانقاه بالكلية، وهى كلمة فارسية، معناها بيت العبادة.

***

ص: 225

‌مطلب الموالد التى تعمل بالقاهرة وضواحيها

وفى بعض تلك الزوايا والجوامع أضرحة لبعض الصالحين ترجمنا منهم ما أمكن الوقوف على ترجمته فى هذا الكتاب، ولبعضهم فى كل سنة فى أشهر معلومة موالد، بعضها يقيم الأسبوع وبعضها أكثر، وبعضها أقل. ولتمام الفائدة نوردها هنا بأسماء أصحابها، فنقول:

إن الموالد التى تعمل فى السنة فى مدينة القاهرة وضواحيها ثمانون مولدا، موزّعة على أشهر السنة هكذا:

سبعة موالد فى شهر شوال، وهى:

مولد سيدى عبد الوهاب العفيفى، ومعه مولد سيدى عبد الله المنوفى بقرافة المجاورين، من ابتداء شوال لغاية 20 منه، ولكل منهما حضرة فى كل ليلة جمعة.

مولد سيدى أبى سليمان الحجاجى فى بولاق، بخط الواجهة، من ابتداء شوّال لغاية 16 منه.

مولد سيدى عمر البلقينى، بحارة بين السيارج، من ابتداء 14 شوّال لغاية الشهر.

مولد سيدى عمر الأشقر بخط الواجهة من بولاق، من ابتداء 24 شوّال لغايته.

مولد الشيخ على الجمل بالفجالة من 20 شوال لغاية 25 منه.

مولد الشيخ داود أبى سيف، بوكالة المقشات من بولاق من 10 شوّال لغاية 18 منه.

مولد سيدى نصر ببولاق، من 8 شوّال لغاية 15 منه.

وخمسة موالد فى شهر القعدة وهى:

مولد سيدى على البيومى بخط الحسينية من 14 القعدة لغاية 22، وله حضرة فى كل يوم جمعة ومقرأة فى ليلة الأربعاء.

مولد الشيخ محمد العراقى بخط الواجهة من بولاق، من ابتداء 2 الشهر لغاية 10 منه.

مولد الشيخ القاسى، بقنطرة الدكة بالأزبكية من 22 الشهر لغاية 27 منه.

مولد الشيخ محمد الأخرس بالسبتية من بولاق من ابتداء 25 الشهر لغايته.

مولد الشيخ أبى الفضل، بخط الواجهة من بولاق من 18 الشهر لغاية 25 منه.

وعشرة موالد فى شهر ربيع الأول، وهى:

مولد النبى صلى الله عليه وسلم بجهة العباسية من غرة ربيع لغاية 12 منه.

ص: 226

مولد السيدة فاطمة النبوية بشارع زرع النوى بالدرب الأحمر من ابتداء 14 الشهر لغاية 25 منه، ولها حضرة فى كل ليلة ثلاثاء.

مولد السلطان أبى العلاء الحسينى ببولاق بشارع السكة الجديدة من 13 الشهر لغايته، وله حضرتان فى ليلة السبت وليلة الأربعاء.

مولد سيدى سعد الله الحسينى، بالدرب الأحمر، من 22 الشهر لغايته.

مولد سيدى عبد العزيز الدرينى بجزيرة المنيل من 18 الشهر لغاية 26 منه.

مولد الشيخ سلامة أبى سرحان بكوم الشيخ سلامة بخط الموسكى من 18 الشهر لغاية 26 منه، وله حضرة فى ليلة السبت.

مولد الشيخ محمد أبى الدلائل بحارة المذبح من بولاق من ابتداء 28 الشهر لغايته.

مولد الشيخ هلال بحارة زعترة بجوار السلطان أبى العلاء من ابتداء 28 الشهر لغايته.

مولد الشيخ سليمان الغنام ببولاق من ابتداء 4 الشهر لغاية 9 منه.

مولد الشيخ درويش العشماوى بخط العشماوى من ابتداء الشهر لغاية 11 منه.

ومولد واحد فى شهر ربيع الثانى وهو مولد سيدنا ومولانا الإمام الحسين بن على، رضي الله عنهما، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، من ابتداء 11 الشهر لغايته، وله حضرة فى ليلة الثلاثاء، وأخرى فى يوم السبت.

وأحد عشر مولدا فى شهر جمادى الأولى، وهى:

مولد السيدة سكينة، ومولد الشيخ إبراهيم الغار بخط الخليفة من ابتداء 6 الشهر لغاية 13 منه، وحضرتها ليلة الخميس.

مولد السيدة رقية بثمن الخليفة من ابتداء 18 الشهر لغايته، وحضرتها فى كل ليلة سبت.

مولد سيدى محمد الأنور، بخط الخليفة من ابتداء 6 الشهر لغاية 13 منه.

مولد سيدى إبراهيم المناوى بخط الخليفة بدرب الحصر من ابتداء 6 الشهر لغاية 13 منه، وحضرته فى كل ليلة أربعاء.

مولد سيدى إبراهيم المتبولى بجوار كبرى بوابة الحديد من ابتداء 6 الشهر لغاية 13 منه، وحضرته فى يوم الثلاثاء مع ليلة الأربعاء.

ص: 227

مولد سيدى على الخواص بخط الحسينية من ابتداء 6 الشهر لغاية 16 منه، وحضرته فى كل ليلة سبت.

مولد الشيخ يونس السعدى بباب النصر من ابتداء 14 الشهر لغاية 22 منه، وحضرته فى كل ليلة جمعة.

مولد سيدى على الكعكى بشارع وكالة الفسيخ من بولاق من ابتداء الشهر لغاية 22 منه.

مولد سيدى على زين العابدين خارج بوابة السيدة زينب من 17 الشهر لغاية 23 منه، وحضرته يوم السبت مع ليلة الأحد.

مولد سيدى حسن الأنور بفم الخليج، من ابتداء 25 الشهر لغايته.

مولد سيدى محمد شمس الدين الرملى بميدان القطن من ابتداء 28 لغايته، وحضرته فى كل ليلة جمعة.

وسبعة موالد فى جمادى الثانية، وهى:

مولد سيدى على الرفاعى بجهة العباسية من ابتداء 5 الشهر لغاية 13 منه، وحضرته تعمل فى كل ليلة جمعة.

مولد سيدى اسماعيل الانبابى بقرية انبابة من ابتداء 8 الشهر لغاية 16 منه، وحضرته فى كل ليلة سبت.

مولد سيدى محمد الطيّبى بفم الخليج من 12 الشهر لغاية 20 منه.

مولد السيدة نفيسة رضي الله عنها بخط الخليفة ببوابة الخلاء من 5 الشهر لغاية 26 منه، وحضرتها فى يوم الأحد مع ليلة الاثنين.

مولد الشيخ المظفّر بشارع الحلمية من 13 الشهر لغاية 26 منه.

مولد السيدة زينب رضي الله عنها من 25 الشهر لغاية 17 رجب، ولها حضرتان؛ الأولى فى يوم الأحد، والثانية ليلة الأربعماء.

مولد الأحمدين بخط الشبراوى من بولاق من 2 الشهر لغاية 8 منه.

وعشرة موالد فى رجب وهى:

مولد الشيخ الدشطوطى بخط العدوى، من 20 الشهر لغاية 27 منه، وحضرته فى كل يوم جمعة.

مولد سيدى عبد الوهاب الشعراوى بشارع الشعراوى من 17 الشهر لغايته، وحضرته فى كل يوم سبت.

ص: 228

مولد سيدى عيسى العدوى بخط العدوى من 27 الشهر لغاية 2 شعبان.

مولد الشيخ عبد الله بالاسماعيلية بشارع الشيخ ريحان، من ابتداء 6 الشهر لغاية 13 منه.

مولد أولاد عنان ببوابة الحديد، من 2 الشهر لغاية 10 منه وحضرتهم فى كل يوم سبت.

مولد القللى ببوابة الحديد من 7 الشهر لغاية 15 منه.

مولد الشيخ سعيد بن مالك بالسبتية من بولاق، من 3 الشهر لغاية 10 منه.

مولد سيدى محمد شمس الدين الواسطى بسوق العصر من بولاق من 18 الشهر لغاية 23 منه.

مولد سيدى على المحجوب بدرب محجوب بخط الحلادين من بولاق من 20 الشهر لغاية 23 منه.

مولد سيدى محمد العليمى والشيخ سالم ببولاق بقرب السلطان أبى العلاء من غرة الشهر لغاية 8 منه.

وثمانية وعشرون مولدا فى شهر شعبان وهى:

مولد الإمام الشافعى رضي الله عنه بالقرافة الصغرى يوم الثلاثاء من غرة الشهر، أو قبله لغاية 9 منه أو قبله، وحضرته فى كل يوم جمعة مع ليلة السبت.

مولد الإمام الليث بن سعد رضي الله عنه بالقرافة الصغرى من 10 الشهر لغاية 15 منه، وحضرته فى كل ليلة سبت.

مولد السيدة عائشة النبوية ببوابة حجاج من غرة الشهر لغاية 8 منه، وحضرتها فى كل ليلة أربعاء مع الشيخ محمد السمان بالقرافة الصغرى من 2 الشهر لغاية 10 منه.

مولد الشيخ اسماعيل ضيف، بالقرافة الصغرى من 2 الشهر لغاية 10 منه.

مولد الشيخ على القادرى بالقرافة الصغرى من 2 الشهر لغاية 10 منه.

مولد الشيخ أحمد الدنف بالقرافة الصغرى من 3 الشهر لغاية 10 منه،

مولد السادات البكرية بالقرافة الصغرى من 10 الشهر لغاية 15 منه.

مولد سيدى عقبة بالقرافة الصغرى من 10 الشهر لغاية 18 منه.

مولد السادات الوفائية بزاوية الوفائية بسفح الحبل من القرافة الصغرى من 18 الشهر لغاية 23 منه.

مولد سيدى عمر بن الفارض بسفح الجبل من القرافة الصغرى من 20 الشهر لغاية 23 منه.

ص: 229

مولد سيدى محمد الجيوشى بالجبل من 20 الشهر لغاية 23 منه.

مولد سيدى يحيى بن عقب بالكعكيين من 8 الشهر لغاية 15 منه، وحضرته فى كل ليلة خميس.

مولد سيدى محمد البحر بباب البحر من 8 الشهر لغاية 15 منه، وحضرته فى كل ليلة خميس.

مولد سيدى أبى عبد الرحيم الدمرداش بالعباسية من 8 الشهر لغاية 15 منه، وحضرته كل ليلة جمعة.

مولد سيدى محمد الضوابى بالحسينية من 14 الشهر لغاية 22 منه وحضرته فى كل يوم جمعة، وتحضرها النساء المرضى.

مولد الشيخ على البنهاوى بدرب عجور من خط الحسينية من ابتداء 16 الشهر لغاية 22 منه.

مولد الشيخ معاذ بالدراسة بخط الأزهر من 12 لغاية 20 منه.

مولد الشيخ الخضيرى بحدرة الحناء من شارع الصليبة من 5 الشهر لغاية 20، وحضرته فى كل ليلة اثنين.

مولد الأستاذ العدوى بباب الشعرية من 21 الشهر لغاية 25 منه، وحضرته فى كل ليلة سبت.

مولد الشيخ عبد الله الزهار بقنطرة الليمون بالأزبكية من 7 الشهر لغاية 9 منه.

مولد الشيخ خليل الكردى بخط الجلادين من بولاق من 18 الشهر لغاية 21 منه.

مولد الشيخ على الفصيح بالحطابة من بولاق من 3 الشهر لغاية 10 منه.

مولد الشيخ الغمرى بطولون من 22 الشهر لغايته.

مولد الشيخ عبد الكريم بالجمالية من 19 الشهر لغايته.

مولد السلطان الحنفى والشيخ صالح أبى حديد بخط الحنفى من غرّة الشهر لغاية 27 منه، وحضرة السلطان الحنفى فى كل يوم سبت وليلة خميس.

مولد الشيخ محمد العتريس بحوار السيدة زينب من 27 الشهر لغايته.

ثم إن بعض هذه الموالد، يلزم زمنه وشهره العربى الذى يعمل فيه، ولا يتحول عنه شتاء ولا صيفا، فتارة تراه فى الصيف وتارة فى الشتاء على حسب دوران الزمان، كمولد النبى

ص: 230

صلى الله عليه وسلم وسيدنا الحسين، والإمام الشافعى، والسيدة زينب، والسيدات الطاهرات أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، وبعضها يتحول من شهر إلى شهر، وهو الملازم للأشهر القبطية، كمولد سيدى على البيومى، وغيره من الأولياء رضي الله عنهم جميعا.

[بعض العادات المرتبطة بالموالد]

(أقول): وفى زمن الموالد المذكورة تكثر حركة الناس خصوصا أهل الخط الذى به المولد، وتروج البضائع، سيما الحلوى والحمص والفول والترمس والفستق، وأصناف المأكولات، وينتفع بعض الفقراء وطوائف الشعوذة، كالحواة وخيال الظل والمراجحية ونحو ذلك. وتنال خدمة الأضرحة فى تلك الأيام من النذور والصدقات أضعاف ما تناله فى غيرها، ويكثر ذلك ويقل تبعا لاتساع شهرة المولد وكثرة الواردين وقلتهم من الزوار من أهالى المدينة وضواحيها.

والعادة فى تلك الأيام أن أكثر السكان المجاورين لمحل المولد يعملون وقدات وختمات وأذكارا وولائم، يدعون فيها من أرادوا من أصحابهم وأحبابهم.

وفى الموالد الكبيرة، مثل مولد النبى صلى الله عليه وسلم ومولد سيدنا الحسين والسيدات والإمام الشافعى، تكثر الحركة فى جميع البلد، وتتسع دائرة اكتساب الخدمة، وغيرهم مما ذكرناه من الباعة ونحوهم، وتكثر الولائم والوقدات أمام البيوت والدكاكين، ولربما عم ذلك بعض الشوارع الكبيرة، حتى يتخيل الناظر أن المدينة مزينة، وينشأ عن ذلك التفريح العام، والسرور التام.

‌مطلب ذكر ما يفعله العجم من أول أول المحرم إلى ليلة عاشوراء

والأعجام القاطنون بالقاهرة يفضلون السكنى بقرب المشهد الحسينى عن غيرها، ويتظاهرون فى مولده بالزينة الفاخرة والولائم العظيمة، ويحزنون عليه حزنهم المشهور، وهو من ابتداء المحرم من كل سنة، يجتمعون فى منزل يتخذونه لذلك، ويكسونه من الداخل بالكشامير، والأقمشة المفتخرة، ويفرشونه بالبسط والسجاجيد، ويوقدونه وقدات فائقة، ويدعون من أرادوا من أصحابهم وأحبابهم، وبعد الأكل يقوم منهم خطيب يصعد فوق منبر صغير، ويخطب خطبة بالفارسية، تتضمن رثاء أهل البيت، ويترنم فيها بالنوح والتعديد وإظهار الحزن والأسف والكآبة، ويبكى ويبكّى الحاضرين، وبعد فراغه

ص: 231

يشربون الشاى، وينصرفون. وهكذا يفعل فى الليلة الثانية والثالثة إلى ليلة عاشوراء، فيتوسعون فى الوليمة، ويكثرون من دعوة الأمراء والأعيان، ثم بعد الساعة الثانية من الليل يتهيأون فى صورة موكب يحضره كبيرهم وصغيرهم، ويصطّفون صفوفا وبأيديهم السيوف، وبين صفوفهم شاب على حصان ملبسه كملبسهم البياض، فمتى انتظموا مشوا نحو المشهد الحسينى، وهم يصيحون ويقولون:«حسن حسين» ، ويبكون بحزن، ويضربون جباههم وصدورهم، بما فى أيديهم من السلاح، والدم يسيل على ملابسهم، ومتى كانوا عند المشهد وقفوا برهة، ثم يعودون إلى المنزل من طريق أخرى على الصورة، التى ذكرناها.

وعند الشيعة فى بلاد الفرس يعتنى بليلة عاشوراء، ويعمل فيها مثل ذلك، بل أكثر.

والمقريزى تكلّم بالإطناب على ما كان يعمل فى يوم عاشوراء، قبل وجود المشهد الحسينى بالقاهرة، فمما قاله: إن خلقا كثيرا من الشيعة وأشياعهم كانوا انصرفوا إلى المشهدين؛ قبر كلثوم ونفيسة، ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين عليه السلام، وكسروا أوانى السقائين فى الأسواق، وشققوا الزوايا، وسبّوا من ينفق فى هذا اليوم، وتغلق الناس الدكاكين وأبواب الدور، وتتعطل الأسواق.

وقال: إن مصر كانت لا تخلو منهم فى أيام الإخشيدية والكافورية فى يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر نفيسة، وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة.

وفى كل سنة فى هذا اليوم تتعطل الأسواق، وتخرج المنشدون إلى جامع القاهرة، وينزلون مجتمعين بالنوح والنشيد، وكانوا يقفون على الحوانيت، لإخذ شئ من أربابها، حتى أن قاضى القضاة عبد العزيز بن النعمان جمع المنشدين وأمرهم أن لا يتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء.

‌مطلب سماط يوم عاشوراء فى أيام الأفضل

ثم لما استجدّ المشهد الحسينى بالقاهرة، زاد الاعتناء بيوم عاشوراء، وقد وصف المقريزى السماط المختص بيوم عاشوراء فى أيام الأفضل فقال: وفى أيام الأفضل ابن أمير الجيوش عبى السماط المختص بعاشوراء؛ وهو سفرة كبيرة من أدم، والسماط يعلوها، وجميع الزبادى أجبان وسلائط ومخللات وجميع الخبز من شعير، وخرج الأفضل وجلس على بساط من صوف، من غير مشورة، واستفتح المقرؤون، واستدعى الأشراف على طبقاتهم، وحمل السماط لهم، وقد عمل فى الصحن الأول الذى بين يدى الأفضل إلى آخر السماط عدس أسود، ثم بعده عدس مصفّى إلى آخر السماط، ثم رفع وقدمت صحون جميعها عسل نحل.

ص: 232

ثم قال فى جلوس الخليفة الآمر بأحكام الله إنه يجلس على كرسى جريد بغير مخدة، ملثما هو وجميع حاشيته، فيسلم عليه الوزير والأمراء والقاضى والداعى والأشراف، وهم بغير مناديل، ملثمون حفاة، وعبى السماط وجميع ما عليه خبز الشعير، وقد أطنب المقريزى فى ذلك فليراجع.

والبيوت التى يتعبد فيها فرق النصارى واليهود يطلق عليها فى زماننا هذا اسم كنيسة، فيقال كنيسة النصارى، وكنيسة اليهود، وكنيسة الأرمن، ونحو ذلك.

وأطلق أهل العلم والمفسرون اسم الصوامع على بيوت عبادة الصابئين، والبيع للنصارى، والصلوات كنائس اليهود، والمساجد للمسلمين.

‌مطلب معابد اليهود وفرقهم وأعيادهم

والكنيسة كلمة عبرانية معناها بالعربية الموضع الذى يجتمع فيه للصلاة. قال الزجاج:

والصلوات هى بالعبرانية صلوتا، والموجود الآن بالقاهرة وضواحيها ثلاثون كنيسة، منها لليهود إحدى عشرة كنيسة، واحدة منها بدير الشمع، وهى أقدمها، وعشرة بحارة اليهود بالقاهرة، وجميعها حادث، والست عشرة لفرق النصارى من أقباط وأروام وشوام وأرمن وإفرنج وقد تكلمنا على جميع ذلك فى حارات القاهرة من هذا الكتاب.

والمقريزى أطال القول فيما يتعلق باليهود وتاريخهم وكنائسهم وأعيادهم وفرقهم الأربع وهم:

الربانيون، قيل لهم ذلك لأنهم يعتبرون أمر البيت الذى بنى ثانيا بعد عودهم من الجلاية والقراء، سموا بذلك لأنهم بنو مقرا، ومعنى مقرا الدعوة، وهم لا يعولون على البيت الثانى جملة، ودعوتهم إنما هى لما كان عليه العمل مدة البيت الأول.

والعانانية؛ ينسبون إلى عانان رأس الجالوت من أكبر أحبار اليهود.

والسمرة، يقال إنهم من بنى سامرك، وهو شعب من شعوب الفرس، ويقال لهم:

«السامرية» ، وكانوا بمدينة شمرون أو سمرون بالسين المهملة، وهى مدينة نابلس.

وذكر لهم خمسة أعياد: عيد الفطير، وهو الخامس عشر من نيس يقيمون سبعة أيام لا يأكلون سوى الفطير، وهى الأيام التى تخلصوا فيها من فرعون وأغرقه الله، وعيد الأسابيع بعد عيد الفطير بسبعة أسابيع، وهو اليوم الذى كلّم الله تعالى فيه بنى إسرائيل من طور سينا، وعيد رأس الشهر وهو أول تشرى، وهو اليوم الذى فدى فيه اسحق عليه السلام

ص: 233

من الذبح، وعيد صوماريا يعنى الصوم العظيم، وعيد المظلة يستظلون سبعة أيام بقضبان الآس والخلاف.

وتكلم المقريزى أيضا على معتقداتهم وصلواتهم وتزوجهم وغير ذلك فليراجع من شاء.

‌فرق قبط مصر وأعيادهم

وكذا تكلم على قبط مصر فقال: إن النصارى فرق كثيرة، وهى الملكانية، والنسطورية واليعقوبية، والبوزعانية، والمرقولية وهم الرهاويون الذين كانوا بنواحى حران.

وقال: لما دخل المسلمون مصر كانت مشحونة بالنصارى، وكانوا قسمين متباينين فى أجناسهم وعقائدهم، أحدهما أهل الدولة، وكلهم روم من جند صاحب القسطنطينية ملك الروم، ورأيهم وديانتهم الملكية، وكانت عدتهم تزيد على ثلثمائة ألف رومى. والقسم الثانى عامة أهل مصر، ويقال لهم القبط، وأنسابهم مختلطة، لا يكاد يتميز منهم القبطى من الحبشى من النوبى من الإسرائيلى الأصل من غيرهم، وكلهم يعاقبة، فمنهم كتّاب المملكة ومنهم التجار والباعة، ومنهم الأساقفة والقسوس ونحوهم، ومنهم أهل الفلاحة والزرع، ومنهم أهل الخدمة والمهنة، وبينهم وبين الملكية أهل الدولة من العدوان ما يمنع مناكحتهم، ويوجب قتل بعضهم بعضا.

فلما قدم عمرو بن العاص قاتله الروم، وغلبهم، وطلب منه القبط المصالحة، فصالحهم على الجزية، وأقرّهم على ما بأيديهم من الأرض وغيرها، وصاروا عونا للمسلمين على الروم.

وكتب عمرو لبنامين - بطرق اليعاقبة - أمانا فى سنة عشرين من الهجرة، فسّره ذلك، وقدم على عمرو، وجلس على كرسى البطرقية بعد ما غاب عنها ثلاث عشرة سنة، فغلبت اليعاقبة على كنائس مصر ودياراتها، وانفردوا بها دون الملكية.

وبقى الأمر على ذلك، إلى سنة مائة وسبعة هجرية أقام ملك الروم لاون أقسما بطرق الملكية فى الإسكندرية، فمضى بهدية إلى الخليفة هشام بن عبد الملك، فكتب له برد كنائس الملكية إليهم، وكان الملكية أقاموا سبعا وسبعين سنة بغير بطرق.

وفى أثناء ذلك طلب بلاد النوبة أساقفة، فعيّنوا لهم من أساقفة اليعاقبة، فصارت النوبة من ذلك العهد يعاقبة.

وأطال المقريزى القول فى ذلك فقال: إن للنصارى سبع صلوات، وصيامهم خمسون يوما؛ الثانى والأربعون منه عيد الشعانين، وهو اليوم الذى نزل فيه المسيح من الجبل،

ص: 234

ودخل بيت المقدس، وبعده بأربعة أيام عيد الفصح، وهو اليوم الذى خرج فيه موسى وقومه من مصر، وبعده بثلاثة أيام عيد القيامة، وهو اليوم الذى خرج فيه المسيح من القبر بزعمهم، وبعده بثمانية أيام عيد الجديد، وهو اليوم الذى ظهر فيه المسيح لتلامذته بعد خروجه من القبر، وبعده بثمانية وثلاثين يوما عيد السلاق، وهو اليوم الذى صعد فيه المسيح إلى السماء.

ولهم عيد الصليب وهو اليوم الذى وجدت فيه خشبة الصليب ولهم أيضا عيد الميلاد، وعيد الذبح.

ودرجات رجال ديانتهم أدناها شماس، وفوقه قسيس، وفوقة أسقف، وفوقه مطران، وفوقة بطريق.

وقد تكلم المقريزى على ديانتهم القديمة، وكنائسهم ودياراتهم، وما تقلبوا فيه من الحوادث قبل الإسلام وبعده، فمن يريد الوقوف على ذلك فليراجع الخطط.

***

ص: 235

‌مطلب عدد محلات السكن والتجارة بالقاهرة وضواحيها ومصر القديمة وبولاق

ومحلات السكن والتجارة بالقاهرة ومصر، وضواحيها وبولاق على حسب الوارد بدفاتر الدائرة البلدية سنة أربع وتسعين ومائتين وألف هلالية، هى كالآتى:

أشخاص

26563 \منازل مملوكة لأربابها 21361

12390 \دكاكين مملوكة لأربابها 3478

528 \رباع مملوكة لأربابها 330

441 \مصابغ نيلة وملونات مملوكة 389

955 \حواصل مملوكة لأربابها 507

384 \طواحين خيالى مملوكة لأربابها 358

663 \حيشان سكن شغالة مملوكة لأربابها 517

159 \أفران خبيز فى ملك أربابها 155

293 \وكائل موزعة فى أخطاط البلد فى ملك 255

83 \قيعان لنسج الحرير فى ملك 48

329 \قيعان أرضى 139

3878 \عشش

100 \زريبة بهائم حلابة فى ملك 84

102 \مغالق خشب

16 \لوكاندات لإقامة الفرنج المسافرين

44 \وابورات طحين فى ملك 43

ص: 236

وغير هذه المبانى يوجد مبان أخرى واردة دفتر الجرد لم نذكرها خوف الإطالة، وهى معامل فول، وتخاشيب حطب، ومقالى حمص، وجيارات، وورش عربات، ومسابك زهر، ومناخات جمال، ومدقات بن، ومدقات قماش، وحوانيت أموات، واصطبلات خيول، ومجموع المربوط عليه العوائد من منازل ودكاكين وغير ذلك هو 50453

‌مطلب مبلغ العوائد المتحصلة فى سنة 1289 هـ.

ومبلغ العوائد المتحصلة فى سنة ألف ومائتين وتسع وثمانين هو 1899063 غرش، وهو قريب من تسعة عشر ألف جنيه مصرى، والمتحصل من كل ثمن هو كالآتى:

- \ -- \

15\ 672927 \ثمن الأزبكية.

21\ 352691 \ثمن باب الشعرية.

17\ 255399 \ثمن الجمالية.

32\ 106027 \ثمن عابدين.

24\ 100247 \ثمن درب الجماميز

- \ -- \

3\ 090339 \ثمن الدرب الأحمر.

6\ 070536 \ثمن الخليفة.

7\ 062430 \ثمن قوصون.

5\ 188464 \ثمن بولاق.

فلو فرض أن ثمن الأزبكية، وهو أعظم الأثمان إيرادا أربعة وعشرون قيراطا، ونسبت إليه الأثمان الأخر بحسب إيرادها فيكون:

24 \قيراطا ثمن الأزبكية.

23 \قيراطا ثمن باب الشعرية.

9 \قراريط ثمن الجمالية.

7 \قراريط ثمن بولاق.

4 \قراريط وثلث قيراط ثمن عابدين.

4 \قراريط وربع قيراط ثمن درب الجماميز

3 \قراريط وثلث قيراط ثمن الدرب الأحمر.

قيراطان ونصف ثمن الخليفة.

قيراطان وثلث ثمن قوصون.

قيراط ونصف ثمن مصر القديمة.

ولو رتبت الأثمان بالنسبة لعدة المبانى والمحلات الموجودة بها لكان الأمر هكذا:

عدد

8378 \ثمن الأزبكية.

7773 \ثمن بولاق.

6655 \ثمن الجمالية.

5890 \ثمن باب الشعرية.

5017 \ثمن الخليفة.

عدد

4572 \ثمن مصر العتيقة.

3957 \ثمن عابدين.

3399 \ثمن الدرب الأحمر.

2678 \ثمن درب الجماميز.

2134 \ثمن قوصون.

ص: 237

‌مطلب عدد القهاوى ودكاكين العطارين وخلافهم

وهاك جدولا يشتمل على بيان القهاوى، والخمارات، والبوز، ودكاكين العطارة، والعلافين، ومحلات القزازين، والقماشين، والزياتين فى كل ثمن:

بيان الأثمان\قهاوى\خمارات\بوز\عطارين\قزازين\زياتين\قماشين\علافين\إجمالى

ثمن الأزبكية

\ 252\ 228\15\ 95\83\ 95\17\ 48\833

ثمن بولاق

\ 160\ 50\16\ 86\21\ 80\38\ 34\485

ثمن عابدين

\ 102\ 37\1\ 64\7\ 45\14\ 25\295

ثمن السيدة زينب\ 71\ 31\2\ 58\28\ 42\16\ 26\274

ثمن الخليفة

\ 75\ 19\1\ 45\18\ 43\23\ 33\257

ثمن مصر العتيقة\ 54\ 19\1\ 28\5\ 37\29\ 13\186

ثمن باب الشعرية\ 66\ 56\3\ 112\138\ 78\24\ 44\521

ثمن قوصون

\ 85\ 22\5\ 38\10\ 27\7\ 16\210

ثمن الجمالية

\ 142\ 13\2\ 76\34\ 72\188\ 36\563

ثمن الدرب الأحمر\ 60\ 11\0\ 156\8\ 36\36\ 26\333

الحملة\ 1067\ 486\46\ 758\352\ 555\392\ 301\3957

‌مطلب عدد الحمامات

ويظهر مما كتبه الفرنساوية فى خططهم أن عدد الحمامات التى تكلموا عليها وكانت موجودة لوقتهم تزيد على المائة. والآن لم يكن بالقاهرة سوى خمسة وخمسين حماما، فيكون ما نقص منها نحو ستة وأربعين حماما، وبالنسبة لما بلغته المدينة من الاتساع وزيادة السكان، فهو قليل جدا، والصحة العمومية تطلب زيادتها، فإنّا لو نسبنا عدد الحمامات إلى جملة السكان، لكان كل حمام يخص ألفين وستمائة نفس فى مبدأ القرن الثانى عشر، وفى وقتنا هذا ما يخص كل حمام سبعة آلاف نفس من تعداد البلد، وهذا كثير جدا عما كان فى مبدأ هذا القرن، وإذا اعتبرت النسبة التى كانت حين ذاك بين عدد الحمامات والأهالى يكون اللازم نحو مائة وخمسين حماما.

ص: 238

وقد ذكر «المسيحى» فى تاريخه أن العزيز بالله نزار المعز لدين الله هو أول من بنى الحمامات بالقاهرة، وقال الشريف أسعد نقلا عن القاضى القضاعى إنه كان فى مصر - يعنى الفسطاط - ألف ومائة وسبعون حماما. (أقول): ولا يخاو ذلك من المبالغة.

وذكر ابن عبد الظاهر أن عدد الحمامات إلى آخر سنة خمس وسبعين وستمائة يقرب من ثمانين حماما.

وفى كتاب «قطف الأزهار» أن عدد الحمامات كان فى سنة أربع وثلاثين ومائة وألف من الهجرة دون ذلك. والحمامات التى تكلم عليها المقريزى خمسة وأربعون حماما، منها اثنا عشر، حدثت فى زمن الفاطميين، وستة أنشئت فى زمن الأيوبية، وفى زمن السلاطين الجراكسة أنشئ اثنان وعشرون حماما، فيكون مجموع ذلك أربعين حماما، وينتج أنه من ابتداء القرن التاسع، إلى مبدأ القرن الثانى عشر استجد بمصر نحو ستين حماما.

وأغلب هذه الحمامات موقوف، وبإهمالها تخربت، وتصرف فيها الملاك، واستعوضت بمبان أخر، حتى آلت إلى العدد الذى قدمنا ذكره.

***

‌مطلب عدد الاسبتاليات

ويوجد الآن بالقاهرة لمعالجة المرضى خمس اسبتاليات: اثنتان للأوروباويين؛ إحداهما بالعباسية، وتعرف بالاسبتاليا الأوروباوية، والأخرى بالاسماعيلية، وتعرف بالاسبتاليا البرنسانية، واثنتان للحكومة المصرية، الأولى اسبتالية القصر العينى الملحقة بمدرسة الطب، أحدثها العزيز محمد على، وهى قسمان: قسم للمرضى من الرجال، وقسم للمرضى من النساء، وبها من الأسرّة نحو ألف ومائة وخمسين سريرا، ومرتب بها الحكماء والأجزاخانة والمأكل والمشرب والملبس. وفى المدد السابقة كانت معالجة المرضى من فيض المراحم الخديوية، والآن ترتب على المرضى، ما عدا المثبت فقره منهم مبلغ يدفعه عن كل يوم أقامه بالاسبتاليا حتى يشفى.

والثانية اسبتالية المجاذيب بالعباسية، وهى مستجدة حدثت من فيض مراحم الحضرة الخديوية التوفيقية وهى قسمان أيضا: قسم للرجال، وقسم للنساء، وبها من الأسرّة نحو ثلثمائة سرير، وبها الحكماء والأجزاخانة، والخدمة اللازمة، وقبل ذلك كانت المجاذيب فى جزء

ص: 239

من ورشة الجوخ ببولاق، ولم يكن بهذا المحل الاستعداد اللازم، وكان غير معتنى بأمر المجاذيب، فأنشئت هذه الاسبتاليا فى بعض السراية الحمراء، التى أنشأها الخديوى اسماعيل، ثم أحرقت، وعرفت باسبتالية المجاذيب.

والخامسة اسبتالية اليهود، وهى بحارة اليهود.

وكان يطلق فى الأزمان السالفة على هذه المحلات الخيرية، اسم المارستان، وقد تكلم المقريزى على ذلك فى خططه، فقال إن أول من بنى المارستان بمصر أحمد بن طولون سنة مائتين وإحدى وستين، وجعله فى القطائع، وصرف عليه ستين ألف دينار وحبس عليه عدة دور يقوم ريعها بنفقته، وعمل له حمامين: واحد للرجال، وآخر للنساء، وشرط أنه إذا جئ بالعليل ينزع ثيابه ونفقته، وتحفظ عند أمين المارستان، ثم يلبس ثيابا، ويفرش له، ويغدى عليه ويراح بالأدوية والأغذية والأطباء حتى يبرأ. فاذا أكل فروجا ورغيفا أمر بالانصراف وأعطى ماله وثيابه. وكان يركب بنفسه كل يوم جمعة، ويتفقد خزائن المارستان، وما فيها والأطباء، وينظر إلى المرضى، وسائر الأعلة والمحبوسين من المجانين.

فلما كانت الدولة الإخشيدية بنى كافور الإخشيد فى مدينة مصر سنة ست وأربعين وثلثمائة مارستانا.

ولما استولى الفاطميون بنوا بالقاهرة مارستانا، وفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة فى زمن صلاح الدين يوسف ابن أيوب، أمر بفتح مارستان للمرضى والضعفاء، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مشاهرة مبلغها مائتا دينار، واستخدم له أطباء وطبائعيين وجرّاحين، ومشارفا وعاملا وخداما، وأمر بفتح المارستان القديم الذى كان بها، ورتّب له من ديوان الأحباس عشرين دينارا، واستخدم له طبيبا وعاملا ومشارف.

وفى سنة ثمانين وستمائة فى زمن السلاطين الجراكسة بنى المارستان المنصورى، وأوقف عليه من الأملاك بديار مصر وغيرها ما يقرب ريعه فى كل سنة ألف ألف درهم - والدرهم فى هذا التاريخ يعدل ثمانية وأربعين سنتيما، وهذا القدر يعدل أربعة وعشرين ألف بنتو ذهبا - وجعله وقفا على كافة طبقات الناس، ورتب فيه العقاقير والأطباء وسائر ما يحتاج إليه من به مرض من الأمراض، وجعل فيه فراشين من الرجال والنساء لخدمة المرضى، وقرر لهم المعاليم، ونصب الأسرّة للمرضى، وفرشها بجميع الفرش المحتاج إليها فى المرض، وأفرد لكل طائفة من المرضى موضعا، فجعل مواضع للمرضى بالحميات

ص: 240

ونحوها، وأفرد قاعة للرمدى، وقاعة للجرحى، وقاعة لمن به إسهال، وأخرى للمبرودين، وأفرد للنساء قسما مخصوصا، وجعل الماء يجرى فى جميع هذه الأماكن، وأفرد مكانا لطبخ الأطعمة والأدوية والأشربة، وغير ذلك.

وفى سنة إحدى وعشرين وثمانمائة عمل المؤيد شيخ مارستانا تحت القلعة - محل مدرسة الأشرف شعبان.

ثم من ابتداء القرن التاسع أهمل أمر المارستانات، وفى زمن الفرنساوية تخرّب المارستان المنصورى، وتغيرت معالمه، وكان الموجود به من المرضى نحو ستين مريضا، وكان قسمين؛ قسم للرجال وقسم للنساء، وكل قسم له حوش مخصوص، وكانت المرضى تقيم فى محلات من الدور الأرضى، من عير فروشات والمجانين فى جهة مخصوصة، الرجال فى قسم منها، والنساء فى قسم آخر، وكان عددهم عشرة، وفى رقابهم الحديد، وكانت النساء تكاد أن تكون عرايا.

وصدر أمر رئيس الجيوش إلى رئيس الحكماء بأن يتوجه، ويعرض عليه ما يلزم، فتوجه ومعه الشيخ عبد الله الشرقاوى، وبعد أن عاين المارستان قرر أنه يكفى لمائة مريض، وكان الموجود فيه سبعة عشر مريضا، وأربعة عشر مجنونا، سبعة من النساء، وسبعة من الرجال، ولم يعطوا شيئا غير المأكل، وهو عبارة عن خبز وأرز وعدس، وعدد محلات المجانين من الرجال ثمانية عشر خلوة، ومثلها للنساء.

وفى خطط الفرنساوية أن عبد الرحمن كتخدا أنشأ اسبتاليا للنساء، وكانت تحت الربع، وكان بها حينذاك ستة وعشرون من المرضى، وكان يطلق عليها اسم تكية (أقول): والظاهر أنها هى تكية الجلشانية الموجودة الآن.

وفى خطط الفرنساوية أيضا أن بعض المرضى كان بتكية الحبانية، وبتكية الأعجام.

ويعلم مما سبق أنه من ابتداء القرن التاسع لم يعتن بأمر المرضى، مع أن السلاطين من آل عثمان اعتنوا بهذا الأمر اعتناء كبيرا، فقد وجد فى دفاتر الروزنامجة أن مقدار الحبوب المتحصلة من أوقاف المساجد والمارستانات والتكايا مائة وأربعة، وخمسون ألف أردب وثلثمائة وتسعة وثلاثون أردبا، وغير ذلك خمسمائة أردب وسبعة، من وقف إبراهيم باشا على أثر النبى، ومائتان وخمسة وعشرون أردبا للعلماء الأربعة، الموظفين بالإفتاء فى المذاهب، وأربعة وستون ألف أردب لشريف الحرمين الشريفين. هذا فضلا عن النقود التى كانت تتحصل من ريع الأوقاف، وتحفظ تحت يد الروزنامجى، وكان مبلغها خمسة عشر ألفا، وخمسمائة وسبعة وتسعين فرنكا.

ص: 241

وترتبت معاشات متنوعة لأئمة المساجد، والأرامل والأيتام وغيرهم من طرف سلاطين آل عثمان. واقتدى بهم من حذا حذوهم من أهل الخير من الأمراء والذوات، فبلغ مبلغ هذه المعاشات فى وقت الفرنساوية وحصروه فى دفاترهم مائتين وسبعة وتسعين ألفا وستمائة وأحدا وسبعين فرنكا، وترتب لتعمير بعض الزوايا والأضرحة والموالد، وتكفين الأموات وغير ذلك أربعمائة وتسعون ألف فرنك، فكان مجموع ما ترتب من الخيرات المار ذكرها تسعة وثلاثين ألفا وثلثمائة وثلاثة وثمانين بنتو ذهبا، منها نحو ألف بنتو مرتبات مدرسى الأزهر، وثمن شموع تقاد فى ليالى القراءات، وثمن أرز وعسل يفرق على الطلبة.

فلو صرفت هذه المبالغ فى أبواب صرفها كما رتّبها أصحابها لما حصل للمبانى الخيرية وأهلها ما حصل، ولكن لما تطاولت يد الأطماع من أصحاب الكلمة عليها واستحوذوا عليها لأنفسهم تعطلت جهاتها، واندثر أغلبها.

***

‌مطلب الأجزخانات

ولما أخذت العائلة العلوية المحمدية بزمام الأحكام حصل الالتفات للمبانى الخيرية والاهتمام بشأن رجال العلم، فحفظت المبانى، وتحسّنت أحوالها، وانتشرت المعارف، وكثرت رجالها، كما قدمنا ذلك.

ومن شدة الاعتناء بأمر الصحة العمومية تنظمت قوانين ومجالس للصحة، وكثر عدد الحكماء فى مدن القطر وجهاته، وتعددت بيوت الأدوية المعروفة بالأجزاخانات حتى بلغ عددها أربعا وأربعين أجزاخانة موزعة فى مدينة القاهرة، خلاف الأجزاخانات الميرية، وهى موزعة هكذا:

ستة بشارع كلوت بك. ثمانية بشارع الموسكى. ثلاثة بشارع عابدين. خمسة بدائرة البوستة بالأزبكية. اثنتان بباب الشعرية. واحدة بالخرنفش. ثلاثة بقرب سيدنا الحسين.

ثلاثة بشارع محمد على. واحدة بالدرب الأحمر. ثلاثة بشارع الصليبة. ثلاثة بشارع السيدة زينب. واحدة بشارع النصرية. واحدة بشارع عبد العزيز. اثنتان بشارع بولاق. اثنتان بشارع الفجالة.

(أقول): ولم تظهر الأجزاخانات على الصورة الحالية إلا فى زمن العائلة المحمدية، وقبل ذلك كانت العقاقير تباع فى دكاكين العطارين بحالتها الطبيعية، فتشترى وتمزج على

ص: 242

حسب ما توصف، ويتعاطى منها. وذلك لا يخلو من الضرر، بخلاف ما هو جار الآن، فان العقاقير الذى يأمر بها الحكيم للمريض تستحضر فى بيوت الأدوية بمعرفة أناس درسوا علومها ووقفوا على حقائقها وتدربوا على تحضيرها وأذنهم مجلس الصحة بمباشرة تحضيرها فى محلاته بعد أن امتحنهم فى ذلك.

***

‌مطلب الأسبلة بالقاهرة

ويوجد الآن بمدينة القاهرة مائتا سبيل. والسبيل عادة يتركب من ثلاث طبقات:

الأولى تحت الأرض، وهى الصهريج، وهو إما كبير أو صغير، وتحمل عقوده على أعمدة، ولكل صهريج خرزة من الرخام أو الحجر مثل خرزة البئر.

والطبقة الثانية مع مستوى الأرض، أو فوقه بقليل، وفيها المزملة لتفريق الماء بكيزان من النحاس مربوطة بسلاسل، وللمزملة شباك من النحاس.

والثالثة مكتب لتعليم الأطفال، وكان المنشئون يعتنون ببنائها وزينتها وزخرفتها، ويوقفون عليها الأوقاف الدارة، وقد تكلمنا على بعضها فى كتابنا هذا.

وفى زمن الفرنساوية كان الموجود منها مائتين وخمسة وأربعين سبيلا، منها نحو ستين سبيلا، من أعظم المبانى المتقنة الفخيمة، وبالنسبة للباقى منها الآن يكون عدد ما اندثر منها، فى ظرف تسعين سنة، خمسة وأربعين سبيلا، بسبب الإهمال والترك.

وقبل إحداث تقسيم مياه القاهرة كان لتلك المبانى أهمية عظيمة، خصوصا فى زمن تحاريق النيل. والآن قلّت هذه الأهمية، ومع ذلك لم يزل أكثرها مستعملا، وقدّرت بوجه التقريب ما يمكن خزنه فيها من الماء، فوجدته قريبا من ستمائة ألف قربة، كل خمسة عشر منها متر مكعب. والباقى من المكاتب التى فوق الأسبلة المذكورة هو ستة وسبعون مكتبا.

***

‌مطلب حيضان سقى الدواب

ويوجد بالقاهرة أيضا حيضان لسقى الدواب، وكانت فى الأزمان السابقة يعتنى بها، وكان أغلبها بقرب الأسبلة، وهى عبارة عن حيضان من الحجر تعمل فى فجوة معقودة مزينة بأعمدة وقباب اعتنى بزخرفتها، وكانت مجعولة لسقى الدواب على اختلاف أجناسها، وكان لها أوقاف يصرف عليها من ريعها لبقائها، والآن لم يبق منها إلا النادر، وهو غير مستعمل.

***

ص: 243

‌مطلب عدد أهالى القاهرة

وعدد أهالى القاهرة على حسب التعداد الذى صار فى 15 جمادى الثانية سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين هجرية، الموافق 3 مايو سنة ألف وثمانمائة واثنتين وثمانين ميلادية هو عدد 374838، منهم أهالى 352416، وأغراب 22422، والأغراب هم:

7000 أروام.

5000 فرنساوية.

1000 إنجليز.

1800 نمساوية.

0450 ألمان.

0400 أعجام.

3367 تليانية.

19247/ 0230 أوروباوية من أجناس مختلفة.

22422/ 3175 عرب ومغاربة وغير ذلك.

وفى التعداد الذى صار فى المحرم سنة ألف ومائتين وتسع وثمانين هجرية، الموافق 11 مارس سنة ألف وثمانمائة واثنتين وسبعين ميلادية، كان عدد سكان القاهرة 349883، ومن هنا يظهر أن أهالى القاهرة زادت فى ظرف عشر سنين، من ابتداء ألف ومائتين وتسع وثمانين إلى ألف ومائتين وتسع وتسعين 24955 شخصا، وبالتقريب خمس وعشرون ألف نفس، فيخص السنة ألفان وخمسمائة نفس.

وفى خطط الفرنساوية كان تعداد أهالى القاهرة فى سنة ألف ومائتين وثلاثة عشر هلالية مائتين وستين ألف نفس، فتكون الزيادة التى حصلت فى ظرف ست وثمانين سنة مائة

ص: 244

وخمسة عشر ألف نفس، فيخص السنة ألف وثلثمائة وسبع وثلاثون، ويعلم من ذلك أن الرغبة فى سكنى القاهرة كثرت فى أيام خلفاء العزيز محمد على عما كانت فى مدته، خصوصا رغبة الإفرنج فى سكناها بعد إنشاء السكك الحديد وإتمام خليج البرزخ وظهور خطة الإسماعيلية وتوزيع الغاز والماء فيها.

***

‌مطلب عدد موتى القاهرة ومولوديها فى السنة

وفى زمن الفرنساوية كان مقدار من يموت فى السنة من النفوس نصفه من الأطفال بسبب داء الجدرى، والربع من الرجال، والربع من النساء، وكان مجموع من يموت جزءا من ثلاثين جزءا من تعداد المدينة، بمعنى أن مقدار من يموت فى السنة الواحدة فى مدتهم اثنا عشر ألف نفس، فيخص اليوم الواحد نحو ثلاثة وثلاثين نفسا فى المتوسط.

ومن الإحصاءات التى أجريت من ابتداء سنة ألف ومائتين وتسع وستين إلى سنة ألف ومائتين وثمانية وسبعين هلالية وهى مدة عشر سنين علم أن عدد المولودين بالنسبة لعشرة آلاف نفس هو مائتان واثنان وتسعون، وعدد المتوفين بالنسبة للعشرة آلاف أيضا هو مائتان واثنان وعشرون، فيكون الباقى من المولودين بعد المتوفين سبعين نفسا، وهى الزيادة التى زادت بها العشرة آلاف فى ظرف عشر سنين.

وفى إحصاءات العشر سنين التالية للعشر سنين السابقة بلغ تعداد المولودين بالنسبة لعشرة آلاف من الأهالى ثلثمائة وخمسة وأربعين، ومقدار المتوفى منهم مائتان وخمسة وخمسون، فيكون الباقى من المولودين فى هذه المدة تسعين نفسا فى كل عشرة آلاف من الأهالى، ويكون متوسط الزيادتين ثمانين نفسا، وعليه فزيادة مصر القاهرة فى كل عشر سنين تقرب من ثلاثة آلاف نفس، وقدر من يموت من أهالى القاهرة فى المتوسط فى مدة السنة الشمسية ستة عشر ألفا وثلثمائة نفس من صغير وكبير، نساء ورجالا، بمعنى أن من يموت فى السنة جزء من اثنين وعشرين جزءا من مجموع الأهالى.

وبمقارنة هذه النتيجة إلى نتيجة ما قدره الفرنساوية فى وقتهم يرى أنها كبيرة جدا، وأظن أن عملية الإحصاءات لم تكن صحيحة، فان الشروط الصحية الآن أتم مما كانت فى الأزمان السالفة، وأدوار الأمراض الوبائية متباعدة جدا بخلافها فى الأزمان السابقة، فإن أدوارها كانت متقاربة، وتأتى كل أربع سنين مرة، وكانت تحصد كثيرا من الأهالى.

ص: 245

فياليت الحكومة تشدد فى ضبط عملية الإحصاءات، للوقوف على الحقيقة ويجرى ما منه حفظ صحة الأطفال ليقل عدد من يموت منهم، وبذلك يزيد عدد الأهالى الذى عليه مدار ثروة البلد وسعادتها.

ويستنبط من الإحصاءات التى جرت فى ظرف عشرين سنة أن أكثر من يموت وأكثر من يولد يحصل فى شهور الشتاء، وهو نوفمبر وديسمبر ويناير، ويعلم منها أيضا أن مقدار من يموت من القاهرة بالنسبة لسكانها أكثر ممن يموت فى قرى الريف، ويظهر أن، ذلك ناشئ من عدم استيفاء شروط الصحة فى المدينة، والغالب أن العفونات الحاصلة من روائح المراحيض هى أكبر أسباب الأمراض المستوجبة للموت.

ويستدل على ذلك بما قدره أحد الحكماء المشهورين، المسمى «فودور» النمساوى بالنسبة لتأثير الكلرة والتيفوس، فوجد أن هذين المرضين تأثيرهما فى المحلات القذرة العفنة، يعدل تأثيرهما خمس مرات فى المحلات النظيفة النقية. وفى بلاد الانجليز وغيرها، وجد أن المدن من قبل أن تعمل لمراحيضها المجارى بحسب الشروط الصحية كان يموت فى العشرة آلاف فيها تسعة أشخاص، وبعد أن تمت واستعملت تناقص ذلك بالتدريج، حتى بلغ ثلاثة أشخاص، يعنى شخصا من كل ثلاثة آلاف شخص، بعد ما كان شخصا فى الألف.

وفى مدينة دنزيك من بلاد ألمانيا، بعد أن تمت مجاريها نزل عدد الموتى إلى خمسة عشر شخصا فى كل مائة ألف بعد ما كان تسعة وتسعين شخصا، يعنى صار من يموت بالحميات التيفوسية شخصا واحدا من كل سبعة آلاف تقريبا، بعد ما كان شخصا فى الألف.

وفى مدينة برلين التى إلى الآن لم تتم مجاريها وجد أن من يموت بالتيفوس هو شخص فى كل ألف وثلثمائة وخمس وسبعين من البيوت التى تمت مجاريها، وشخص فى كل أربعمائة وثلاثين من البيوت التى لم تتم مجاريها.

وهذه النتائج تحكم بالإسراع بما تقتضيه صحة أهالى القاهرة، من فتح شوارع وعمل ميادين، وإعطاء قانون يتبع إجراؤه فى مجارى البيوت حتى يقل ضررها إن لم يزل بالكلية.

***

‌مطلب مدافن الأموات

ودفن الموتى الآن فى خمسة محلات خارج البلد وهى قرافة السيدة نفيسة، وقرافة الإمام الشافعى، وبها مدفن الفامليا، وقرافة باب الوزير، وقرافة المجاورين وقايتباى، وقرافة باب النصر.

ص: 246

وامتنع الدفن داخل البلد، وبطلت عدة مقابر، وبنى فى أرضها أماكن، وأكثر ذلك حصل فى مدة الخديو اسماعيل. والمقابر التى بطلت هى مقبرة القاصد، ومقبرة الأزبكية، ومقبرة الرويعى، ومقبرة السيده زينب، ومقبرة زين العابدين، ومقبرة السبتية ببولاق.

ومن طرف الصحة تحددت مناطق الدفن، وامتنع الدفن بالقرب من المساكن على الإطلاق.

***

‌مطلب من كان موجودا بالقاهرة من الإفرنج زمن الفرنساوية

وفى زمن الفرنساوية كان الموجود بالقاهرة من الإفرنج نحو أربعمائة شخص، وأكثرهم كان داخلا معهم، وأما الأروام والشوام والمارونية والأرمن فكان عددهم بها كثيرا، وكان يبلغ مجموعهم نحو اثنين وعشرين ألف نفس.

***

‌مطلب عدد طوائف صنائع المحروسة والمشتغلين بها

وعدد طوائف المحروسة مائة وثمانية وتسعون طائفة أصحاب حرف وصنائع متنوعة.

وعدد الشغالة بتلك الحرف والصنائع ثلاثة وستون ألفا وأربعمائة وثمانون شخصا، وعدد أشخاص كل طائفة من المهم من تلك الطوائف كالآتى:

عدد

1053 جزارين وتوابعهم.

1579 زياتين وخضرية نواشف.

1025 فكهانية.

0229 فطاطرية.

0150 دقاقين بن وعطريات.

0585 قرازين.

0694 طباخين وسفرجية.

1739 حمارة.

0836 مزينين.

0491 منجدين.

1231 خياطين أولاد عرب.

عدد

0444 عقادين.

0034 خياطين أروام.

0172 بلغاتية وإسكافية.

0285 جيّارة.

0689 نحاتين حجر.

1610 بنّائين.

0064 قمراتية.

0027 مرخمين شوام.

0028 أروام. صناع كراسى

0337 أقباط ويهود. صناع كراسى

0013 شبكشية.

ص: 247

عدد

0046 مسلكاتية.

0208 غرابلية.

0050 نجارين طواحين.

0025 نجارين سواقى.

0262 نشارين.

0148 قصاصين.

0027 سيوفية.

1176 صرماتية.

0345 حصرية.

0513 مدابغية.

0181 نجارين مراكب.

1155 جرايرية.

0355 نقّاشين.

0513 سروجية.

0283 جزمجية.

0324 قلافطية.

0192 ترشجية.

0782 خبازين.

0965 صباغين.

0126 آلاتية.

1615 نجارين دقى.

0101 جوهرجية أرمن.

0106 جوهرجية مسلمين.

0326 مبلطين.

0230 مرخمين.

0589 طحانين.

0594 ترّابة وقنواتية.

عدد

0792 حدادين وبرادين.

0589 مبيضين حيطان.

0247 مبيضين نحاس.

0445 لبّانة وقشّاطة.

0007 شغالين. منشات.

0036 رفائين شيلان وتاراتية.

0006 شغالين نشا.

0072 خيمية.

0053 ساعاتية.

0135 شغالين أسلحية.

0017 خرّازين صينى.

0174 قفاصة.

0098 صنادقية.

0140 مناخلية.

0127 كتبية ومجلدين.

0027 تلاحمة شغالين سبح.

0025 سباكين رصاص.

0086 طبالين وزمارين.

0078 أمشاطية.

0268 سمكرية.

0039 حكاكين أختام.

0151 بياطرة وجنابظة.

0015 صدفجية.

0086 نجارين عربات.

0098 خراطين.

0038 برملجية.

0022 غواصين آبار.

ص: 248

والبرابرة نحو ألف وخمسمائة شخص، والخدامون نحو ألفين وخمسمائة، وباقى الطوائف عبارة عن تجار وصيارف، وكتبة، وباعة، ودلالين ومداحين وغسالين، ونحو ذلك، وطائفة الفعلة تبلغ نحو ثلاثة آلاف شخص.

ولكل طائفة شيخ ومخاترة ونقباء، وأسماؤهم مقيدة فى المحافظة، والدائرة البلدية، وطائفة المزينين تزيد على ذلك، وقيد أسمائهم فى مجلس الصحة، وعددهم يزيد وينقص، بالنسبة لكبر تعداد الطائفة وصغره.

والمشايخ هم الذين يرجع إليهم فى طلبات الحكومة وتوزيع الفرض وتقديرها، ويصير تقويم الأشياء الجارى أخذ الدخولية عليها بمعرفة لجنة من بعض المعتمدين منهم.

وفى الأيام السابقة، كان كل من أراد أن يصير معلما فى صنعته لا يتمكن من ذلك إلا بعد مهارته فيها وعمل شئ دقيق فى صنعته، يشهد له بأنه يستحق أن يكون معلما أو الأسطاوية، فحينئذ يشهد له معلمه وباقى المعلمين من صنعته، ويخبرون شيخ الطائفة بذلك فيحضره ويختبره، فإن وجده أهلا لأن يكون معلما قلّده إياها، وذلك بعد دعوة حافلة، يهيئها لهم بحسب اقتداره، يدعو فيها شيخ الطائفة، والرؤساء والنقباء والمخاترة وغيرهم من باقى الطوائف.

والآن بقيت هذه العادة فى ثلاث طوائف وهى: طائفة الصرماتية، والمزينين، والحمامية، وتسمى عندهم بالشد والحزام، وهو عبارة عن شد يحزّم به فى وسطه، ويعقده النقيب عدة عقد، أقلها ثلاث، وغايتها ست بالنسبة لعدد المعلمين الكبار الموجودين فى المجلس مع شيخ الطائفة، ولهم فى ذلك اصطلاح، فالعقدة الأولى تسمى الأسطاوية، والذى يحلها معلمه الذى رباه وعلمه الصنعة، والثانية تسمى الرتبة يحلها شيخ الطائفة، والثالثة يحلها أحد الأسطاوات الموجودين بالمجلس. وفى أثناء الحل والعقد يقرأ النقيب خطبا وقصائد.

ومجلس الصحة الآن لا يمكّن أحدا من فتح دكان مزين إلا بعد امتحانه بحضور شيخ الطائفة، فإن أجاب رخص له بإذن من طرفه، مبين فيه الصنعة المأذون بها من أنواع الجراحة الصغيرة، ويدفع رسما عشرة قروش صاغ.

وليس للمشايخ والمخاترة وغيرهم مرتبات، وتعيّشهم من صناعتهم، ولكل طائفة منهم اصطلاح، فطائفة المعمار يستولى المعلم من صاحب العمارة معلوما يوميا يعرف بالغداء، ومن البنّائين والفعلة ما يقال له التبع وله الغداء أيضا على جميع من يورد أشياء للعمارة؛ ومثل

ص: 249

ذلك جار عند باقى الطوائف من نجارين ونحاتين ونقاشين ومرخمتية وقمراتية وسباكين وغيرهم.

وفى أغلب الطوائف يدفع للشيخ والمختار معا من طرف من يروم فتح دكان مبلغ يعرف بالقانون، يختلف بحسب الاقتدار، ويزيد على ذلك عند المزينين والحمامية دفع مبلغ لشيخ الطائفة عند طلب صنائعية من طرفه.

وكذلك من أراد من الناس أن يخدّم طباخا أو فراشا أو خادما، يدفع مبلغا يقال له الجعالة، ويختلف بحسب ماهية المستخدم، وذلك غير ما يؤخذ من المستخدم نفسه، وكل ذلك على غير رابطة معلومة، فيا ليت الحكومة تعمل لذلك قانونا تحفظ به حقوق الخادم والمخدوم.

ص: 250

‌مطلب مبدأ الدخولية ومقدار الأصناف الواردة إلى القاهرة سنة 1300 هجرية

والدخولية حدثت فى زمن الخديو إسماعيل باشا، وتقلبت فى صور، وكان فى ذاك الوقت جميع ما يدخل القاهرة يدفع عليه بمحطات دخولية الدائرة البلدية مبلغ فى كل مائة من قيمته.

والأصناف التى دخلت مدينة القاهرة فى سنة 1883 إفرنجية، الموافقة لسنة 1300 هجرية، بلغ عددها أربعمائة وواحدا وثلاثين صنفا، وهى كافة الحبوب والأدهان والجبن، والعسل بأنواعه، والخضراوات والفواكه بأجناسها، وأنواع أخر مثل الكتان والتيل والمشاق وأفلاق النخل والجريد والدكار والليف والبوص والحطب والغرابيل والتبن والطيور والحمام والفراخ والأوز والعصافير والبيض والغنم والبقر والجاموس، وباقى حيوانات الذبح بأنواعها، وأحجار طواحين، والسكر والقطن والجلود، وأنواع الفحم والنطرون والأفيون والبرسيم والصمغ والزيتون، والمخلل والسمار والدريس والشعر والنيلة واللبن وماء الورد والزهر والنعناع والعتر وغير ذلك، وبلغ متحصل الدخولية فى تلك السنة مائة وثمانية وستين ألفا وسبعة وأربعين جنيها.

وهنا نذكر بعض المهم من تلك الأصناف فنقول: من ذلك ما ورد من حب الذرة فى مدة السنة على المدينة ثلاثة عشر ألفا وأربعمائة وخمسة أرادب.

ومن الشعير ثمانية وستون ألفا ومائة وستة وأربعون إردبا.

ومن القمح خمسمائة وأربع وثلاثون ألفا وثمانمائة واثنان وأربعون إردبا.

ومن الفول مائة ألف وثلاثة آلاف ومائتان واثنان وثلاثون إردبا.

ومن العدس ستة وعشرون ألفا ومائتان وستة وعشرون إردبا.

ومن الفريك ألف وتسعة أرادب.

ص: 251

ومن الترمس ألف إردب ومائة وأحد وثمانون إردبا.

ومن الحمص أربعة آلاف وأربعمائة وواحد وثمانون إردبا.

ومن الدقيق ستة آلاف ومائة إردب.

ومن السمن والزبد وارد مصر والبلاد الأجنبية أربع ملايين وثلثمائة وأربعة عشر ألفا ومائتان وثمانون رطلا.

ومن أنواع الجبن مليونان وسبعمائة وثلاثون ألفا وثلثمائة وسبعة عشر رطلا.

ومن أنواع العسل أربع ملايين ومائتان وأحد وأربعون ألفا وخمسمائة وثلاثة وتسعون رطلا.

ومن الأرز اثنا عشر ألفا وتسعمائة واثنان وسبعون أردبا.

ومن الخضراوات أربعة وستون نوعا، مثل الباذنجان بأجناسه، والبامية والملوخيا والبطاطس والبسلة والبنجر والجزر والحميض والرجلة والخس البلدى والرومى تسعة عشر مليونا ومائتان وأحد وأربعون ألفا وخمسمائة وستة وتسعون رطلا.

ومن الثوم البلدى مائة واثنا عشر ألفا وأربعمائة وتسعة وأربعون أقة.

ومن البصل الأحمر الناشف سبعة ملايين ومائتان وخمسون ألفا وسبعمائة وأربعة وخمسون رطلا.

ومن الخرشوف تسعمائة وثلاثة وتسعون ألفا وسبع وثلاثون خرشوفة.

ومن الكشك البحيرى والصعيدى مائة وخمسة وسبعون ألفا وثمانمائة وسبعة وتسعون رطلا.

ومن الليمون المالح والأضالية ثمانية عشر مليونا وستمائة وسبعون ألفا وسبعمائة وخمسة وثمانون ليمونة.

ومن البرتقان ستة عشر مليونا وثلثمائة وثلاثة وثلاثون ألفا وتسعمائة واثنتا عشرة برتقانة.

ومن يوسف أفندى اثنا عشر مليونا ومائتان وثمانية وسبعون ألفا وثلثمائة وأربع وسبعون واحدة.

ومن الليمون الحلو، والكباد، والنفاش ونحو ذلك، خمسمائة وثلاثة وثلاثون ألفا ومائتان وست وثلاثون واحدة.

ومن القصب مائتان واثنان وعشرون ألفا ومائتان وخمسة وثمانون لبشة.

ومن الفواكه، عنب بأنواعه، وخوخ، ومشمش، وقشطة وشليك وسفرجل وموز ومنجة وتين، وغير ذلك ستة ملايين وثمانمائة وثمانون رطلا.

ص: 252

ومن الشمام والمهناوى والسنطاوى والقاوون والعجور والفقوس والقشاء والخيار أحد وعشرون مليونا وتسعمائة واحد وسبعون ألفا وخمسمائة وسبعة وستون رطلا.

ومن البطيخ بجميع أجناسه خمسة وعشرون مليونا وسبعمائة وستة وخمسون ألفا وثلثمائة وتسعة وتسعون رطلا.

ومن البلح بجميع أجناسة سبعة ملايين وثمانمائة وتسعة وستون ألفا وستمائة وسبعون رطلا.

ومن البلح المخلل والكبيس مليونان وأربعمائة وثلاثة وأربعون ألفا واثنان وتسعون رطلا.

ومن العجوة السلطانى والسيوى والشرقاوى والمقشور وغير المقشور والبيضاء مليون وخمسمائة وأربعة وأربعون رطلا.

ومن حطب الذرة والقطن والبوص والأثل واللبخ والتوت والجميز وغير ذلك أربعة ملايين ومائة وتسعة وستون ألفا ومائة وأربعون حملا.

ومن الكتان العود واحد وعشرون ألفا وسبعمائة وثمانية عشر رطلا.

ومن الكتان الغير مشغول أربعمائة وتسعة وسبعون ألفا وثمانمائة وتسعة وثلاثون رطلا.

ومن المشاق مائة وأربعون ألف رطل.

ومن الحمام مائة وستة عشر ألفا وثمانمائة وأربعة وسبعون جوزا.

ومن السّمان عشرة آلاف وستمائة وأربعة وخمسون جوزا.

ومن الفراخ الرومى تسعة وأربعون ألفا وستمائة واثنان وخمسون جوزا.

ومن الفراخ البلدى ثمانمائة وتسع وخمسون ألفا وأربعمائة واحد وسبعون جوزا.

ومن الكتاكيت ستمائة واحد وخمسون ألفا وسبعمائة وسبعون جوزا.

ومن الأوز والبط ونحوه ثمانية وثلاثون ألفا ومائتان وخمسة وخمسون واحدة.

ومن أجناس الطيور مثل العصافير والشرشير والحمام البرى واليمام والغاط والخضارى ثلاثة عشر ألفا ومائة وثمانية وعشرون جوزا.

ومن بيض الدجاج ثلاثة وثلاثون مليونا وسبعمائة وخمسة وأربعون ألفا وخمسمائة وثلاثة وخمسون بيضة.

ومن الأغنام مائتان وسبعة عشر ألفا وتسعمائة وتسعة وخمسون رأسا.

ومن البقر ألفان وأربعمائة وستة وعشرون رأسا.

ص: 253

ومن الجاموس ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة رؤوس.

ومن عجول الجاموس والبقر ثلاثة عشر ألفا وتسعة وثلاثون رأسا.

ومن الماعز البلدى والشامى ثلاثة آلاف وتسعمائة وسبعة وتسعون رأسا

ومن الجمال ثلثمائة وأربعة وستون جملا.

ومن الخيول ثلثمائة وأربعة وتسعون وبغلتان.

ومن السكر بأنواعه مليونان وأربعمائة وأحد وتسعون ألفا وخمسمائة وثمانية وعشرون رطلا.

ومن القطن الشعر تسعة وأربعون ألفا وستمائة وتسعون رطلا.

ومن القطن «الاسكارتو» ، مليون ومائة وتسعة وخمسون ألف رطل.

ومن الفحم السيال والبلدى بجميع أنواعه مليونان وخمسمائة وتسعة وخمسون ألفا ومائة وثمانون أقة.

ومن النترون البلدى ثمانية وثلاثون ألفا وتسعمائة واحد وعشرون رطلا.

ومن النترون السودانى مائة وخمسة عشر ألفا وستمائة وأربعة وخمسون رطلا.

ومن البرسيم ثلثمائة ألف حمل ثلثها بالجمل والثلثان بالحمار.

ومن الأنخاخ والأبراش الحلفاء مائة وخمسة عشر ألفا، ومن الدريس بالشبكة تسعة آلاف ومائتان وأربعة عشر شبكة.

ومن السمار السريسى ثلاثة آلاف وخمسمائة وستة وعشرون قنطارا، ومن السمار الصعيدى والحلوانى والشرقاوى أربعة آلاف حمل بالجمل.

ومن التمر هندى ألف وأربعمائة وأربع وأربعون رطلا.

ومن الشمع الاسكندرانى ثمانية آلاف وستمائة وأربعون رطلا.

ومن المخلل بجميع أجناسه عشرة آلاف ومائتان وأربع وستون أقة.

ومن الحناء البلدى مائة وثمانية وعشرون ألفا وثلثمائة وثلاثة وستون رطلا.

ومن زهر النارنج واحد وعشرون ألفا وأربعمائة وثلاثة وثلاثون رطلا.

ومن ماء الورد ألف وثمانية وثلاثون رطلا، ومن ماء الزهر ألفان وسبعمائة وتسعة وثمانون رطلا، ومن ماء النعناع ألف وتسعمائة رطل، ومن ماء العتر ألفان وخمسمائة رطل.

ص: 254

وجميع هذه الأصناف من محاصيل للقطر وورودها إلى القاهرة من الأقاليم القبلية والبحرية تارة يكون من طريق البحر، فتقف عند بولاق أو مصر العتيقة، أو من طريق البر فى السكة الحديد، وقبل أن تدخل المدينة يجرى أخذ العوائد الدخولية عليها فى مراكز الدخولية المترتبة فى دائر البلد على رؤوس الطرق وفى كل مركز مأمور وكاتب وبعض عسكر وقبانى لوزن ما يلزم وزنه، والمراكز المذكورة تابعة للدائرة البلدية، وهى التى تتولى جميع إيراد تلك المراكز وتوريده إلى المالية، ومن وظائفها أيضا التفتيش على المراكز المذكورة وإجراءاتها، وملاحظة أعمالها.

***

‌مطلب محل بيع الحبوب

والحبوب الواردة للتجارة تشتريها التجار جملة، وتضعها فى أشوان ساحل النيل فى ثلاثة مواضع: الأول ساحل القمح الكبير ببولاق بجوار كبرى فم الترعة الإسماعيلية بشارع الساحل الموصل لشارع قصر النيل، والثانى ساحل القمح الصغير ببولاق شرقى الأنتكخانة المصرية، والثالث ساحل القمح بمصر العتيقة على نهر النيل أمام جزيرة الروضة والمقياس بالشارع العمومى الموصل إلى أثر النبى. وهذه السواحل لا يباع فيها إلا بالأردب.

وفى داخل القاهرة وضواحيها عدة محلات تباع فيها الحبوب أيضا، وتجارها أقل من تجار السواحل، فيشترون كميات قليلة، ويبيعونها على الأهالى، مجزأة من ربع إلى إردب فأكثر، وهذه المحلات تعرف برقع القمح، والمشهور منها ست.

الأولى رقعة القمح ببولاق بالسبتية بجوار سيدى سعيد بالشارع الموصل لكبرى باب الحديد يباع فيها القمح والفول والشعير والذرة والعدس فقط.

الثانية رقعة القمح ببوابة حجاج بشارع السيدة عائشة النبوية من ثمن الخليفة، يباع فيها كافة أنواع الحبوب.

الثالثة رقعة القمح بشارع باب الخرق الموصل إلى عابدين يباع فيها كافة الحبوب.

الرابعة رقعة القمح بشارع الأزهر يباع فيها القمح والفول والشعير.

الخامسة رقعة القمح ببركة الرطل من شارع الحسينية، يباع فيها القمح والفول، والشعير.

ص: 255

السادسة رقعة القمح بجهة العدوى بشارع الزعفرانى بثمن باب الشعرية يباع فيها القمح والشعير والفول والذرة.

وتباع الحبوب أيضا فى بعض دكاكين من البلد غير تلك المحلات.

***

‌مطلب الحيوانات والعربات المستعملة فى القاهرة للنقل والركوب

والحيوانات المستعملة فى القاهرة للنقل والركوب هى: الخيل والبغال والخمير والجمال، والموجود منها على حسب تعداد سنة ألف وثمانمائة وسبع وثمانين ميلادية بمدينة القاهرة، والجارى أخذ عوائد عليه - خلاف ما هو مملوك للأورباويين - ألفان وثمانية وثمانون حمارا مملوكة لأربابها، وألفان وثلثمائة وثلاثة وخمسون حمارا ركوبة وايكافا، ومن الخيول مائة وعشرون حصانا ركوبة ومائة وسبعة وتسعون حصانا للشغل.

ومن الجمال خمسة وخمسون جملا، ومن البقر والجاموس ستمائة وثمانية وتسعون رأسا.

وبمدينة القاهرة أيضا من أنواع العربات مائة وأربعة وسبعون عربة لجلب المياه، وألف وستمائة وخمسة وسبعون عربة من العربات الكرلو والصندوق، وأربعمائة عربة من عربات الركوب المملوكة لأصحابها، وأربعمائة وستة وثمانون عربة من عربات الركوب المعدة للأجرة، وعشر عربات بقارى.

***

‌مطلب الأسواق التى تباع فيها الحيوانات التى للذبح وغيرها

والأسواق التى يباع فيها المواشى هى:

سوق السبتية ببولاق ينصب فى كل يوم سبت من ابتداء شروق الشمس إلى الساعة 7 نهارا تباع فيه مواش وأغنام وطيور وملبوسات وغيرها.

وسوق الجمعة بجهة الإمام الشافعى وبجهة الحسينية.

وسوق بوابة حجاج بشارع السيدة عائشة يباع فيه الخيول والبغال والحمير.

وسوق مذبح الحسينية ينصب عصر كل يوم إلى الغروب يباع فيه البقر والجاموس والغنم والجمال.

ص: 256

وسوق مذبح العيون بالقرب من المذبح ينصب كل يوم من شروق الشمس إلى الساعة 3 نهارا، تباع فيه حيوانات الذبح، والآن بسبب حصر الذبح فى المذبح المستجد زادت أهمية هذا السوق عن الأسواق السابقة عليه.

والحيوانات الجارى ذبحها لمأكل البلد منها ما يشترى من هذه الأسواق، ومنها ما يشترى من المديريات ويؤتى به إلى مذبح القاهرة.

***

‌مطلب الكلام على المذابح

وقبل العائلة المحمدية كان الذبح فى داخل البلد فى محلات متعددة. ولما استولت العائلة المحمدية، ورتبت ديوان الصحة، وجعلت له قانونا بطل الذبح داخل البلد، وبنى فى خارجها مذبحان: أحدهما بجهة الحسينية، والآخر قبلى البلد بقرب العيون، وذلك فى سنة ألف ومائتين وثلاث وثلاثين هلالية، وكان كل منهما عبارة عن حوش كبير يحيط به سور من البناء، وبه بعض سقائف، تظل قطعة من الأرض مبلطة بالحجر، ولم يكن بها مجار لتصفية الدم وغيره، ولا مياه لغسل ذلك، فكانت على غير قانون صحى، وكانت عفونتها تنتشر فى الجو إلى مسافات بعيدة، وتضر بالناس، فكثرت الشكوى من الأهالى، وطلب مجلس الصحة بناء مذبح مستوف لشروط الصحة، مثل الموجود من ذلك فى المدن الكبيرة، فلم يلتفت لذلك إلا فى زمن الحضرة الخديوية التوفيقية، وبأمرها بطلت المذابح القديمة، وتخلصت الناس من عفوناتها، وبنى المذبح الجديد بين العيون وزين العابدين على مقتضى رسم، عمل بمعرفة ديوان الأشغال العمومية مدة نظارتى عليه، وصدق على الرسم مجلس الصحة بعد امتحانه، والآن جار به الذبح لكافة البلد، ومرتب له حكيم، ومأمور وكاتبان وملاحظان وسقاء وخفير وخدمة، وبه وابور لنزح المياه المتراكمة فى المجارى

والمذبوح فى سنة سبع وثمانين فى كل شهر من أشهر السنة، هو كالآتى:

فى شهر فبراير: خمسة آلاف ومائتان وسبع وتسعون رأسا من الغنم، ومن الجاموس الكبير ستون رأسا، ومن الأثوار الكبار مائة وأربعة وسبعون ثورا، ومن العجول البقر اثنان وثمانون عجلا، ومن العجول الجاموس ثلثمائة وسبعة وثلاثون عجلا، ومن المعز أربعة رؤوس، ومن الجمال اثنان، ومن الخنازير واحد وستون خنزيرا، وذلك فى اثنى عشر يوما من الشهر.

ص: 257

وفى شهر مارث: من الغنم خمسة عشر ألفا وسبعمائة وستة وثمانون رأسا، ومن الجاموس الكبير مائة وثمانية وستون رأسا، ومن الأثوار الكبار مائة وأربعة وسبعون ثورا، ومن عجول البقر تسعون عجلا، ومن عجول الجاموس ألف وثلثمائة وثمانية وثمانون عجلا.

وفى شهر إبريل: من الغنم ستة عشر ألفا وأربعمائة وخمسة رؤوس، ومن الجاموس الكبير مائتان وستة رؤوس، ومن الأثوار الكبار مائة وستة وثلاثون ثورا، ومن عجول البقر مائة وثلاثة عشر عجلا، ومن عجول الجاموس ألف وخمسمائة وأربع وسبعون عجلا، ومن الجمال أربعة عشر جملا.

وفى شهر مايو: من الغنم تسعة عشر ألفا ومائة وخمسة وعشرون رأسا، ومن الجاموس الكبير مائتان وأربع وسبعون رأسا، ومن الأثوار الكبار مائة وستة وأربعون ثورا، ومن عجول البقر مائة وعشرة رؤوس، ومن عجول الجاموس ألف وسبعمائة وثلاثة وأربعون عجلا، ومن الجمال عشرون.

وفى شهر يونية: من الغنم سبعة عشر ألفا ومائتان وأربع وثلاثون رأسا، ومن الجاموس الكبير مائة وتسعون رأسا، ومن الأثوار الكبار ثلاثة وتسعون ثورا، ومن عجول البقر اثنان وثمانون عجلا، ومن عجول الجاموس ألف وخمسمائة واحد وأربعون عجلا، ومن الجمال أحد عشر جملا.

وفى شهر يولية: من الغنم ستة عشر ألفا ومائتان وأحد عشر رأسا، ومن الجاموس الكبير مائة وخمسة وخمسون رأسا، ومن الأثوار الكبار مائة وثمانية وأربعون ثورا، ومن عجول البقر مائة وثمانية وعشرون عجلا، ومن عجول الجاموس ألف ومائتان وأحد وخمسون عجلا، ومن الجمال أربعة عشر جملا.

وفى شهر أغسطس: من الغنم ستة عشر ألفا وأربعمائة وستون رأسا، ومن الجاموس الكبير مائتان وأحد وأربعون رأسا، ومن الأثوار الكبار أربعمائة وثمانون ثورا، ومن عجول البقر مائتان وخمسة وثلاثون عجلا، ومن عجول الجاموس تسعمائة وأربعة وستون عجلا، ومن الجمال عشرون جملا.

وفى شهر سبتمبر: من الغنم أربعة عشر ألفا وتسعمائة وعشرة رؤوس، ومن الجاموس الكبير مائة وتسعة وسبعون رأسا، ومن الأثوار الكبار خمسمائة وأربعة رؤوس، ومن عجول البقر مائة وثمانية وثمانون عجلا، ومن عجول الجاموس ثمانمائة وثلاثة وثلاثون عجلا، ومن الجمال عشرة.

ص: 258

وفى شهر أكتوبر: من الغنم خمسة عشر ألفا وثمانمائة وثمانية وخمسون رأسا، ومن الجاموس الكبير مائتان وثمانية وثمانون رأسا، ومن الأثوار الكبار مائتان وخمسة وخمسون ثورا، ومن عجول البقر ثلثمائة وخمسة وتسعون عجلا، ومن عجول الجاموس تسعمائة وستة وسبعون عجلا، ومن الجمال خمسة عشر جملا.

وفى شهر نوفمبر: من الغنم ثلاثة عشر ألفا وسبعمائة وتسعة وعشرون رأسا، ومن الجاموس الكبير مائة وأربعة وسبعون رأسا، ومن الأثوار الكبار مائة وثلاثة وثمانون ثورا، ومن عجول البقر ستمائة وسبعة وسبعون عجلا، ومن عجول الجاموس سبعمائة وثمانية وتسعون عجلا، ومن الجمال تسعة عشر جملا، ومن الخنازير مائة واثنان.

وفى شهر دسمبر: من الغنم ثلاثة عشر ألفا ومائتان وثمانية عشر رأسا، ومن الجاموس الكبير مائتان وسبعة وعشرون رأسا، ومن الأثوار الكبار مائتان وخمسة وعشرون ثورا، ومن عجول البقر ثمانمائة وتسعة وسبعون عجلا، ومن عجول الجاموس سبعمائة وتسعة وعشرون عجلا، ومن الجمال سبعة عشر جملا، ومن الخنازير مائتان وسبعة خنازير.

وفى شهر يناير: من الغنم أربعة عشر ألفا وتسعمائة وتسعة رؤوس، ومن الجاموس الكبير مائتان وتسعة وعشرون رأسا، ومن الأثوار الكبار ثلثمائة واحد وعشرون ثورا، ومن عجول البقر تسعمائة وتسعة وخمسون عجلا، ومن عجول الجاموس سبعمائة وثمانية وثلاثون عجلا، ومن الجمال خمسة، ومن الخنازير مائة وستون خنزيرا.

وقد علم من دفاتر القبانى أن وزن الجمل فى المتوسط ستمائة وستة وستون رطلا، والجاموسة خمسمائة وستون رطلا، والثور مائتان وتسعون رطلا، وعجل البقر مائة وستة وستون رطلا، وعجل الجاموس مائتان وستة وستون رطلا.

فبناء على ذلك يكون المأكول فى السنة من لحم الجمل تسعة وتسعين ألفا ومائتين وأربعة وثلاثين رطلا، ومن لحم الجاموس مليونا وثلثمائة وخمسة وخمسين ألف رطل وسبعمائة وستين رطلا، ومن لحم الثور ثمانمائة واثنين وستين ألفا ومائة وسبعين رطلا، ومن لحم عجول البقر ستمائة وسبعة وستين ألفا وثلثمائة وعشرين رطلا، ومن لحم عجول الجاموس ثلاثة ملايين وخمسمائة وثلاثة عشر ألفا وخمسمائة وأربعة وتسعين رطلا، ومن لحم الغنم أربعة عشر مليونا وثمانمائة وسبعة عشر ألفا وثلثمائة وأربعة وستين رطلا.

ومجموع ما تأكله البلد واحد وعشرون مليونا وثلثمائة وخمسة عشر ألفا وأربعمائة واثنان وأربعون رطلا. ولو قسمنا ذلك على أيام السنة وتعداد الأهالى، لوجدنا أن ما يخص الشخص الواحد نحو أوقيتين، وهو قليل بالنسبة لما تأكله أهالى المدن فى البلاد الأجنبية.

ص: 259

‌حوادث جوية

‌المطر

يزعم بعض الإفرنج أنه بالنسبة لكثرة ما زرع من الأشجار فى الديار المصرية، وفتح خليج البرزخ حصل تغير فى طقص القطر المصرى. ولم يكن هذا الزعم منه مبنيا على شئ يثبته، بل الأمور المشاهدة تدل على أن الحال الآن هو كما كان فى أول هذا القرن.

مثلا رصدت الفرنساوية مدة استيلائهم على هذه الديار عدد أيام المطر، فوجدوا أنه دائر بين خمسة عشر يوما وستة عشر يوما فى السنة، وبعد ارتحالهم صار رصد ذلك أيضا من سنة ألف وثمانمائة وخمس وثلاثين إلى سنة ألف وثمانمائة وتسع وثلاثين، فوجد أن عدد أيام المطر فى الخمس سنين المذكورة دائر بين اثنى عشر يوما أو ثلاثة عشر يوما.

وكمية المطر كانت فى سنة ألف وثمانمائة وخمس وثلاثين سبعة عشر ملليمتر ونصف، وفى سنة ألف وثمانمائة وست وثلاثين أحدا وعشرين ملليمتر، وفى سنة ألف وثمانمائة وسبع وثلاثين خمسة عشر ملليمتر ونصف، وفى سنة ألف وثمانمائة وثمان وثلاثين أحد عشر ملليمتر، وفى سنة تسع وثلاثين ثلاثة ملليمتر فقط.

وفى سنة ألف وثمانمائة واحد وسبعين كان عدد أيام المطر فى مدينة القاهرة تسعة أيام، ومدته فيها تسع ساعات وعشر ساعة، وهو أقل مما كان أول هذا القرن.

وبلغت كمية المطر فى سواحل البحر فى ثغر الإسكندرية، سنة ألف وثمانمائة وسبع وستين، مائتين وستة وعشرين ملليمتر وسبعة أعشار، وفى سنة ألف وثمانمائة وثمان وستين بلغت ثلثمائة وأربعا وثلاثين ملليمتر وسبعة أعشار، وفى سنة ألف وثمانمائة وتسع وستين بلغت مائة وثمانيا وخمسين ملليمتر، وفى سنة ألف وثمانمائة وسبعين بلغت اثنين وسبعين ملليمتر وسبعة أعشار، وفى سنة ألف وثمانمائة وإحدى وسبعين بلغت مائة وثمانيا وستين ملليمتر، وفى سنة ألف وثمانمائة واثنين وسبعين بلغت مائتين وثلاثا وثمانين ملليمتر.

وعدد أيام المطر فى هذه السنين كان دائرا بين أربع وأربعين يوما واثنين وعشرين يوما.

ص: 260

وبالنسبة لأشهر السنة يكون نزول المطر فى مدينة القاهرة هكذا:

فى 17 من شهر يناير نزل مطر خفيف استمر عشر دقائق فى وسط النهار ثم أعقبه مطر دقيق فى المساء استمر أربعين دقيقة.

وفى 18 منه نزل مطر خفيف، استمر دقيقتين.

وفى 5 من شهر فبراير نزل مطر خفيف استمر ساعة وسبع عشرة دقيقة.

وفى 19 منه نزل مطر استمر ثلاثين دقيقة.

وفى 28 منه نزل مطر خفيف استمر ست عشرة دقيقة.

وفى 14 شهر مارث نزل مطر خفيف استمر ست دقائق.

وفى 4 من شهر إبريل نزل مطر خفيف، استمر ساعتين وخمسين دقيقة

وفى 13 منه نزل مطر خفيف استمر عشر دقائق، ثم فى نفس اليوم أمطرت مطرا خفيفا عقب المطر الأول استمر ساعتين وأربعين دقيقة.

وفى شهر مايو ويونية ويولية وأغسطس وسبتمبر وأكتوبر لم تمطر أصلا.

وفى 22 من شهر نوفمبر أمطرت مطرا خفيفا استمر خمس عشرة دقيقة، ثم أعقبه فى يومها مطر خفيف أيضا استمر خمس دقائق.

وفى شهر دسمبر لم تمطر أصلا.

‌حرارة الجو وضغطه

ومن الأرصاد التى عملت فى أشهر السنة بالنسبة لدرجة الحرارة وضغط الجو، نتج ما سيأتى بالنسبة للدرجة المتوسطة:،

الشهور\ارتفاع البرّ ومتر المئينى\ارتفاع البرّ ومتر

شهر يناير\ 12،85\ 761،40

شهر فبراير\ 12،78\ 761،57

شهر مارث\ 16،96\ 757،57

شهر ابريل\ 20،01\ 758،18

شهر مايو\ 26،30\ 756،83

شهر يونية\ 28،99\ 755،60

الشهور\ارتفاع البرّ ومتر المئينى\ارتفاع البرّ ومتر

شهر يولية\ 29،88\ 753،59

شهر أغسطس\ 29،43\ 754،09

شهر سبتمبر\ 25،84\ 757،19

شهر أكتوبر\ 23،01\ 758،53

شهر نوفمبر\ 18،51\ 760،90

شهر دسمبر\ 15،11\ 761،76

ص: 261

ومتوسط الحرارة فى السنة 21،66، ومتوسط ارتفاع البارومتر فى السنة 758،10 وبالنظر لما ورد فى هذا الجدول تختلف درجة الحرارة بحسب الفصول، وبالنسبة لجهات القطر ففى وجه بحرى فى ثلاثة شهور فصل الشتاء ينحط ارتفاع الترمومتر - وهو ميزان الحرارة - إلى اثنتى عشرة درجة، وتارة إلى أربع عشرة درجة فوق الصفر، وفى ثلاثة شهور فصل الربيع ترتفع درجة الحرارة إلى أربع وعشرين درجة، وفى ثلاثة شهور فصل الصيف ترتفع إلى تسع وعشرين درجة، وفى ثلاثة شهور فصل الخريف تنحط درجة الحرارة إلى ثمانى عشرة درجة.

وفى الأقاليم الوسطى، تزيد درجة الحرارة، فى كل فصل، عما هى فى الأقاليم البحرية بدرجتين.

وفى الصعيد الأعلى ترتفع درجة الحرارة إلى أربع وثلاثين درجة. وفى حدود النوبة تبلغ ثمانية وثلاثين درجة.

وعادة يوجد فرق جسيم فى جميع البلاد المصرية، بين حرارة النهار والليل، وهذا الفرق حاصل عن هبوب نسيم، يهب من الجهة البحرية، عند غروب الشمس، ويشاهد أن حرارة الليل تنقص عن حرارة النهار ثمان درجات، وتارة اثنتى عشرة درجة.

‌الرياح

شهر يناير تهب الرياح من بحرى، أو من بحرى غربى، أو بحرى شرقى، وكذلك فى شهر فبراير، وفيهما يكثر الضباب، ويسقط المطر.

وفى أواخر شهر فبراير وفى شهر مارث يكثر هبوب الرياح الجنوبية.

وفى شهر ابريل يتسلطن الريح الجنوبى والجنوبى الشرقى والجنوبى الغربى.

وفى شهر مايو تتبادل الأهوية الشرقية مع الأهوية البحرية.

وعند الاعتدال تقوم رياح الخماسين وتهب الرياح الجنوبية، وعند هبوبها يتغير لون السماء ويكتسى حمرة، ويملأ الجو بالأتربة، وتشتد الحرارة حتى تبلغ فى بعض الأوقات أربعين درجة، فيحصل للإنسان قبض ومضايقة وعسر تنفس. وكثيرا ما يحصل فى هذه الأيام رمد وإسهال.

وفى شهر يونية يكون هبوب الرياح من الشمال والشمال الغربى، ويستمر فى شهر يولية هبوب الرياح البحرية وتتغير من الشمال الغربى إلى الشمال الشرقى.

ص: 262

وفى آخر شهر يولية إلى نصف شهر سبتمبر تنفرد الرياح البحرية بالهبوب، ويكون هبوبها بالنهار أقوى من الليل.

وفى آخر شهر سبتمبر تهب الرياح من الشرق أكثر من غيره من باقى الجهات، وهكذا إلى شهر دسمبر، فيكون هبوب الرياح من بحرى ومن بحرى غربى، أو بحرى شرقى.

(تم الجزء الأوّل، ويليه الجزء الثانى، أوّله ذكر ما بالقاهرة وظواهرها من الشوارع والحارات الخ)

***

ص: 263