المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أعدّ هذا الجزء ونقحه: مصطفى موسى، الباحث بمركز تحقيق التراث - الخطط التوفيقية الجديدة - جـ ١٣

[علي مبارك]

فهرس الكتاب

أعدّ هذا الجزء ونقحه:

مصطفى موسى، الباحث بمركز تحقيق التراث

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

‌حرف الصاد

(صا الحجر)

(1)

بغير نون بعد الصاد المهملة والألف، هى: مدينة (سائس) القديمة، المشهورة بالملوك، وهى غير (صان الحجر) بالنون بعد الألف التى هى مدينة (تانيس)، وسيأتى الكلام عليها قريبا.

وصا الحجر الآن، بلدة من مديرية الغربية بمركز كفر الزيات فى شرقى بحر رشيد بنحو ألف متر، وفى شرقيها ترعة القضابة على نحو ألفى متر، وأبنيتها باللبن والآجر، وبها جامعان أحدهما بمنارة وخمس زوايا، فى إحداها مقام ولىّ يسمى: السيد عيسى حسين، وبها معمل فراريج، وفيها بيت مشيد لعبد الرحمن أفندى فائد، مأمور ضبطية محلة منوف، وساقية عذبة الماء يبلغ بعد مائها عند انتهاء نقص النيل أربعة أمتار، وبها جملة أضرحة لجماعة من الصالحين مثل:

سيدى شداد، وسيدى إبراهيم العزب، والشيخ إبراهيم الرحاوى، وسيدى عباس بن مرداس رضي الله عنه، يعمل له بها مولد كل سنة وتنصب فيه الخيام، وتوقد فيه الشموع، ويستمر أياما.

(1)

كانت مدينة شهيرة فيها هيكل فاخر مؤسس لعبادة المعبود (تحوت) أى: رب الحكمة ولهذا القسم معبودة تسمى (بست)، وهذه المدينة قاعدة إقليم (سابى محت - ساييتس)

ص: 7

وفى قبليها وابور لحلج القطن لبعض الأورباويين، وعندها جنينة نضرة فيها كثير من الرياحين كانت معدّة للنزهة زمن العزيز محمد على باشا، وجنينة أخرى ذات فواكه كثيرة.

وأكثر أهلها مسلمون، وأطيانها الخراجية ألف وثمانمائة فدان وستة وخمسون فدانا، والعشورية ثلاثمائة فدان وعشرة أفدنة، وجميعها تروى من النيل، وفيها تل متسع هو أصل المدينة القديمة، فى جهة منه محل يعرف بالربوة مسطحه نحو أربعة آلاف وتسعمائة متر، غير مسطح باقى التل، وبه آثار من الأبنية القديمة تظهر بالحفر لنحو أخذ السباخ، مبنية بالآجر واللبن طول اللبنة نصف متر، وسمكها ثلاثون سنتيمتر، ويقال: إنه وجد فى تلولها بالحفر فى سنة ست وثمانين من هذا القرن ثعابين من الذهب الأحمر، ونقود كبيرة يبلغ حجم دائرتها سبعة سنتيمترات، وعليها اسم بعض ملوكها باللغة القديمة المصرية.

وهى إحدى البلاد التى كانت فى سنة تسع وتسعين وألف هجرية، فى التزام أغات خزندار السلطان محمد العثمانى، وكان الحاكم بمصر إذ ذاك حسن باشا السلحدار، ومثلها ناحية (أم دينار) وتوابعها بولاية الجيزة، والمنصورية وتوابعها بالجيزة أيضا، وناحية (نكلى) وتوابعها بالولاية المذكورة، وأشمون جريس بالمنوفية وغير ذلك.

وقد غضب حسن باشا على أغات خزندار السلطان، فأمر ببيع أملاكه، فبيعت بأبخس الأثمان حتى أن ناحية صا الحجر، وأشمون جريس، بيعتا بمائتين وسبعين كيسا، وقد بسطنا الكلام على ذلك عند ذكر ناحية (بوش) نقلا عن كتاب (نزهة الناظرين).

ثم إن أكثر المؤرخين أو جميعهم، قد تكلم على هذه المدينة ومشتملاتها، وعلى معنى كلمة (صا)، وكلمة (صان)، و (سائس)، واعتنوا بها اعتناء كبيرا، قال «هيرودوط»: إن كلمة سائس من اللغة القبطية القديمة،

ص: 8

وزعم «بوزنياس» : أن معنى سائس عند اليونان: منيروا، وردّ عليه بعض شارحى «هيرودوط» بأن منيروا: اسم للمقدسة (نيف) عند المصريين، وسائس اسم مدينتها، وظن بعض المؤرخين أن لفظ (سائس) محرف من اسم الزيتون العبرانى، وهو (سايث) بثاء مثلثة فى آخره، زعم أن هذا الصنف كان يزرع بها كثيرا، وأن أهلها كانوا يكثرون من عمل الأعياد والمواسم للمقدسين بسبب جودة محصول هذا الصنف وبركته، وليس الأمر كما زعم، فإن شجرة الزيتون قليلة فى أغلب أرض مصر من قديم، وإنما كثرته فى أرض الفيوم والإسكندرية، ولكن زيتون الإسكندرية لا زيت له، وزيتون الفيوم ذو رائحة قوية شديدة، وزعم الأثينيون أن شجرة الزيتون من نفحات (منيروا)، والمصريون يجعلونه من نفحات المقدس (هرمس)، وهو الذى أوجده فى هذه البلاد.

انتهى.

وجعل (ابن حوقل) مدينة/ (صا) على الشاطئ الشرقى من فرع رشيد فى تكلمه عليه، وقال: إنها محل إقامة الحاكم، وفيها جامع من أعظم الجوامع، وعدة كنائس وأسواق وحمام متين على عين تسمى عين موسى، وذكر (المقريزى) أن خط (صا) فيه ثلاث وسبعون بلدة غير الكفور، وذكرها (الإدريسى) في مؤلفاته وجعلها على الشاطئ الشرقى من فرع رشيد، كما قاله (ابن حوقل)، وموضعها على ما قاله (استرابون): فى داخل الأرض على [بعد] ثلاثة فراسخ من النيل، وفى بعض عباراته أنها بعيدة عن النيل بقدر شينين، قال: والشين عبارة عن ستين استادة أو ستة آلاف متر

(1)

.

ونقل عن (أرتيميدور) أن الشين المستعمل فى قياس الأبعاد للملاحة فوق النيل، كان يختلف بحسب الجهات، ففى بعضها كان يقدر بأربعين غلوة، وفى بعضها بأكثر، فكان مقداره [من]

(2)

منفيس إلى طيبة مائة وعشرين غلوة،

(1)

الاستادة تساوى مائة متر.

(2)

زيادة من عندنا لربط المعنى.

ص: 9

ومن طيبة إلى أسوان ستين غلوة، وجعل (ارتيميدور) المسافة بين الاسكندرية ورأس الدلتا على النيل ثمانية وعشرين شينا، يعنى: ثمانمائة وأربعين غلوة باعتبار أن الشين ثلاثون غلوة، ثم قال: إن من بيلوز (الطينة) إلى الدلتا خمسة وعشرين شينا، أى سبعمائة وخمسين غلوة، وقال بعض شارحى (استرابون): إن أقصر طريق الملاحة من رأس الدلتا إلى الاسكندرية بالسير على النيل والخلجان، مع المرور بدمنهور، طولها مائتان وأحد وأربعون ألف متر ومائة متر، عبارة عن مائة وثلاثين دقيقة وإحدى عشرة ثانية من مقياس العروض، وبتحويل هذا المقدار إلى غلوات، باعتبار أن كل درجة خمسمائة غلوة، وهو أكبر ما قدره الأقدمون للدرجة، يبلغ المقدار السابق ألفا وخمسا وثمانين غلوة، وهو أكبر من الثمانمائة وأربعين غلوة السابقة بأكثر من الربع، وكذا المسافة من الطينة إلى الدلتا، فإنا لو اتبعنا بحر الطينة مع المرور على فاقوس، وبوباسط، والتونة، وشبين القناطر، إلى بيسوس، نجد البعد مائتى ألف وستة آلاف وخمسمائة متر، وهذا يقابل مائة وإحدى عشرة دقيقة وثلاثين ثانية، وهو عبارة عن تسعمائة وتسع وعشرين غلوة لا سبعمائة وخمسين كما تقدم، وعلى هذا فالظاهر أن هذه الأعداد لا تخلو عن غلط فى النقل أو غيره، فلو قدرت الشين بستين غلوة لا ثلاثين لصحت تلك الأعداد ووافقت الصواب.

انتهى.

وذكر (مرييت) فى تاريخه أن من هذه المدينة فراعنة الثلاث عائلات:

الرابعة والعشرين، والسادسة والعشرين، والثامنة والعشرين، ومدة الأولى ست سنين، والثانية مائة وثمان وثمانون سنة، والثالثة سبع سنين، وفى آخر مدة العائلة الرابعة والعشرين، استولى (سبقون) الحبشى على مصر وأحرق الملك (باكوريس) بالنار، وأقام بها خمسين سنة وذلك قبل المسيح بسبعمائة وخمس وعشرين سنة، ثم طرده عنها فراعنة العائلة السادسة والعشرين، ثم دخلت الفرس وتغلبت على الديار المصرية فى زمن آخر فراعنة هذه العائلة وهو

ص: 10

(بسماتيكوس) الثالث، الذى قتله «جمشيد» ملك الفرس، وأقام الفرس بها مائة وإحدى وعشرين سنة قبل المسيح بخمسمائة وسبع وعشرين سنة، ويؤخذ من كلام بعض المؤرخين، أن الأمير (أميرتيه) الذى جلا الفرس عن ديار مصر، كان من هذه المدينة، وكان ذا رأى وتدبير.

وفى خطط الفرنساوية أن خراب مدينة صا الحجر القديمة بقرب القرية الجديدة المسماه باسمها، وأن صا كانت من أعظم مدن الوجه البحرى، وبالحفر فى تلولها وجدت آثار تدل على أنهم كانوا يجعلون قبورهم طبقات بعضها فوق بعض، وقال (استرابون) بعد أن تكلم عليها: إن الذى كان مقدسا فى هذه المدينة هو (منروا) وله فيها معبد به قبر (بسماتيكوس)، وقال هيرودوط: إن الفرعون (إبرييس) بنى بها سراى جليلة القدر، ومعبدها يفوق جميع معابد مصر، وكان به قبر (أوزريس)، وقد زخرف هذا القبر فرعون زيادة على زخرفته الأصلية، وبنى به إيوانا يفوق كل إيوان بمصر فى الإتساع والزينة، ووضع به تماثيل كبيرة جدا منها ما ارتفاعه اثنان وسبعون ذراعا مثل الذى وضعه فى مدينة منفيس أمام معبد (ولكان)، ولم يقتصر على ذلك بل عمّر المعبد جميعه، وأحضر له الحجارة الكبيرة من محاجر منفيس وأسوان، ونصب أمامه مسلات شاهقة، وجعل بقربها فسقية ماء مستديرة الشكل مكسوة بالحجر، فكان القسيسون يجتمعون عليها ليلا ويتظاهرون بأسرار هذا المقدس، فيجعلون ذلك ميدانا يظهر فيه كل منهم ما عنده من الأسرار والخوارق، وكانت الزينة في داخل المعبد وخارجه سواء، فكانت الأعمدة محيطة بدائر الحوش كهيئة النخل، وعلى شمال الداخل كذلك، وفى جنب سور الجهة التى بها المقدس (منروا) كان قبر (إبرييس) وقبور غيره من أهل هذه المدينة أو من خطها.

وفى أيام هيرودوط كان قبر (أمزيس) يرى بعيدا عن قبر (إبرييس)، قال:

«وقد رأيت فى السراى الملوكية تمثال بقرة كبيرة جاثية على ركبتيها، وهى

ص: 11

مكسوة بالحرير مدهبة الرأس والرقبة، وبين قرنيها تمثال شمس من ذهب، وكل يوم تبخر بأنواع البخور/، ويوقد أمامها كل ليلة قنديل، وبقربها أودة فيها تماثيل عشرين امرأة من الخشب عرايا، يزعم الكهنه أنها تماثيل جوارى الملك (مسيرينوس)، وأنه كان قد عشق بنته فامتنعت منه وقتلت نفسها صلبا فجعلها أبوها فى هذا التمثال، وقطعت أمها أيدى الجوارى اللاتى سلمنها لأبيها، ولذا ترى تماثيلهن بغير أيد».

قال: «وأظن أن هذا كلام خرافة، وإنما سقطت الأيدى من تلك التماثيل لطول الزمن، وكانوا كل سنة يخرجون تلك البقرة من محلها، وذلك فى وقت إكثار المصريين من العويل وضربهم على صدورهم حزنا على مقدسهم الذى لا أسميه، فيكشفونها للشمس فى ذلك اليوم لأنها تمنت من أبيها ذلك عند موتها» .

وزعم بعض شارحى هيرودوط: أن ذلك المقدس الذى لا يسميه هو:

«أزريس» إذ كانوا يشهرون فى عيده أربعة أيام عجلا مذهبا مكسوا من الكتان الرقيق الأسود.

قال: وإنما كان أسود لحزنهم على المقدسة «ازيس» . انتهى.

وأعجب ما كانت تحتوى عليه هذه المدينة، معبد كان عبارة عن حجر واحد كان قد أحضره الفرعون (امزيس) من جزيرة أسوان، ووضعه بهذه المدينة واستعمل فى نقله ألفى ملاح من المراكبية، نقلوه فى ثلاث سنين، وكان طوله من الخارج أحدا وعشرين ذراعا، وعرضه أربعة عشر ذراعا فى سمك ثمانية أذرع، وطوله من الداخل ثمانية عشر ذراعا وعشرون إصبعا، وعرضه اثنى عشر ذراعا فى سمك خمسة أذرع، باعتبار أن الذراع هو الذراع الذى وجد فى مقياس جزيرة أسوان، يكون طول خارجه أحد عشر مترا وستة أجزاء من مائة من المتر، وعرضه ثمانية وثلاثين جزءا من مائة من المتر، وسمكه أربعة أمتار واثنين

ص: 12

وعشرين جزءا من مائة من المتر، ويكون طول داخله تسعة أمتار واثنين وتسعين جزءا من مائة من المتر، والعرض ستة أمتار واثنين وثلاثين جزءا من مائة فى سمك مترين وثلاثة وستين جزءا ونصف، ومقتضى ذلك أن مكعب الصخرة التى خرج هذا الحجر منها، كان ثلثمائة وأربعة وأربعين مترا ونصف متر مكعب، فيكون وزنه تسعمائة وأربعة عشر ألفا وثمانمائة واثنين وثلاثين كيلو جرام، باعتبار أن وزن القدم المكعب مائة وستة وثمانون بورا، فإن استنزل من ذلك مكعب الفارغ وهو مائة وخمسة وستون مترا وعشرون جزءا من مائة من المتر، يكون الباقى الذى نقل من أسوان إليها مائة وتسعة وسبعين مترا مكعبا وثلاثين جزءا من مائة، فيكون وزنه أربعمائة وستة وسبعين ألفا وستة وسبعين كيلو جرام، وقد صار البحث كثيرا عن هذا الحجر، فلم يعثر له على أثر ولعله مدفون فى تلولها، وكان من عوائد أهل هذه المدينة فى ليلة معروفة عندهم لتقريب القرابين أن كل واحد منهم يوقد حول بيته عدة قناديل، وكان ذلك يسمى: عيد القناديل، وكذلك المصريون الذين لا يمكنهم الذهاب إلى هذه المدينة فى ذلك اليوم، يوقدون القناديل حول مساكنهم فى تلك الليلة، فيكون جميع البلاد وأغلبها موقدة القناديل حول بيوتها، وفى دفاتر التعداد أنه كان على الشاطئ الغربى فى مقابلة هذه المدينة، بلدة تعرف بمحلة (صا) من بلاد البحيرة، وقد تكلم «المقريزى» فى تقسيم مصر على خط (صا) و (اطليل) فقال: إن بهما ستة وأربعين بلدة.

[ترجمة سكروب]

في قاموس الجغرافية الأفرنجى، أن (سكروب) الذى هو مؤسس مدينة أثينة بأرض اليونان، أصله من (صا الحجر) بأرض مصر، دخل بلاد يونان مع كثير من الناس، وأسس هذه المدينة التى صارت تختا لتلك البلاد، وذلك قبل الميلاد بألف وستمائة وثلاث وأربعين سنة، وهو الذى نشر عبادة (منيروا) و (جوبتير)، وعلّم أهل هذه الأرض الفلاحة والتجارة، وأدخل بينهم

ص: 13

الزواج ودفن الأموات، ومات سنة ألف وخمسمائة وأربع وتسعين، ولبقاء ذكره أطلقوا اسم (سكروبيا) على مدينة أثينة أو على الولاية التى هى تختها.

انتهى.

(صان الحجر)

(1)

مدينة قديمة كانت من المدن الشهيرة فى الوجه البحرى، وقد ترجم هذا الاسم مترجمو التوراة بكلمة: تسوان، وقالوا: إنها كانت تخت مصر فى زمن موسى عليه السلام، وترجمه (أرشييل القبطى) بكلمة: جانيه، وفى بعض كتب الأقباط بكلمة: جانى، وفى الكتب العربية: صان أو صاجان، قالوا:

وهى المعروفة قديما ب (تانيس)، ويستفاد من كلام من كتب على التوراة أنها بنيت قبل مدينة (جيرون) التى هى مدينة «الخليل» عليه السلام بسبع سنين، وقد تكلم عليها استرابون، وعلى فرع النيل المجاور لها المعروف بالطانطيقى، وقال: إن مدينة تانيس هى رأس خطها، وكذا تكلم عليها (هيرودوط) و (بلين) أيضا، وفى خطط (أنطونان)، أن تانيس واقعة بين طمويس (أشمون طناح)، وهيرقليوبوليس، ويوافق هذا ما ذكره يوسف الإسرائيلى أن الأمير (تيت) لما وصل مدينة طمويس، سار فى البحر إلى تانيس ومنها إلى هيرقليوبوليس.

ومدينة تانيس كانت من مديرية أغسطمانيقا الأولى، وكانت كرسى أسقفية، وجمع الأب لقيان أسماء جملة من أساقفتها، وقال بعضهم: إن لفظ تانيس يطلق على مدينتين من بلاد مصر، إحداهما: المدينة التى ينسب إليها الفرع المتقدم ذكره/، ومحلها الآن مدينة دمياط، والثانية: هى مدينة تسوان المذكورة فى التوراة، وهى عين مدينة سائس (صا) التى تكلم عليها استرابون،

(1)

صان صعن: مدينة شهيرة وخاصة فى عصر رمسيس الثانى الذى شيدها وفيها أظهر «موسى» عليه السلام المعجزات لفرعون. وهى قاعدة إقليم (خونت أبوت - تانيس) ولهذا الإقليم معبودان: الأول (حور) أى: العظيم الفخيم، والثانى المعبودة (خونت أبوت).

ص: 14

وأفلاطون فى مؤلفاتهما، ورفض (كتر مير) الشطر الأول بالمرة، وقال: إن الشطر الثانى صحيح من جهة دون جهة فإن كون تسوان هى مدينة سائس غير صحيح، لأن سائس هى (صا) بغير نون، والكلام فى صان بالنون، وكون تانيس هى تسوان صحيح مسلّم، وإن لم يرتضه العالم (لرشى) الجغرافى المشهور، فقال: لا يصح أن تكون تانيس هى تسوان، لأن تسوان مدينة من مدائن الملوك، وهى كرسى المملكة بخلاف تانيس، فإنها صغيرة وفقيرة لا يصح أن تكون كرسى مملكة، لأن (كسيان) قد وصفها بأنها واقعة فى وسط البحر المالح يحيط بها الماء من كل جهة، وليس لأهلها شغل إلا الملاحة، وليس لهم أرض يزرعونها، وعند إرادة بناء منازلهم ينقلون إليها التراب فى المراكب. انتهى.

والصواب أن وصف (كسيان) إنما هو لمدينة تنيس بغير ألف، وكلامنا فى تانيس بألف بعد التاء المثناة الفوقية، وهما مدينتان متباينتان فى الأماكن والأوصاف، وقد عدهما مترجمو التوراة مدينتين لا مدينة واحدة، وهم أعلم بجغرافية مصر من غيرهم، فالفقيرة الصغيرة هى: تنيس لا تانيس، وبسبب كون العالم (لرشى) لم يأت إلى هذه الديار، وإنما أخذ الأسماء من الكتب، ظنّ أنهما مدينة واحدة فقال ما قال، ومما يدل على صحة ما قلنا، أن القسيس (لقيان) ذكر أن فى إقليم أغسطمانيقا غير مدينة تانيس، مدينة أخرى اسمها تنيس، وفى كثير من كتب القبط يذكر اسم قسيس تانيس، وقسيس تنيس، ثم ان اسم (جانى) المسماة به مدينة تانيس، معناه الأرض المنحطة، وهذا يوافق مدينة صان التى جعلها العرب فى مؤلفاتهم فى الجهة المسماة بأسفل الأرض، فليست تانيس هى مدينة سائس المسماة في كتب العرب ب (صا)، لأن جميع الأوصاف المذكورة فى كتب مؤلفى الأقباط وغيرهم، تدل على أن تانيس فى أرض منحطة على فرع أصلى من فروع النيل، وليست مدينة سائس بهذه الأوصاف، انتهى.

ص: 15

وفي المقريزى عند تكلمه على قبائل العرب الذين سكنوا مصر حين الفتح، ذكر أن قبيلتى لخم وجذام سكنوا فى أخطاط طبريا، واطليل، وصان. انتهى.

وكانت صان زمن المؤرخ يوسف الإسرائيلى قد انحطت عن قدرها، وأخذت فى التقهقر بسبب قربها من مدينة تنيس التى كانت أخذت فى الشهرة، واتسعت دائرة التجارة بها لقربها من البحر، حتى وردها كثير من الأغراب، وانتقل إليها كثير من أهالى تانيس، وهذا هو سبب ذكر مدينة تنيس فى كتب العرب أكثر من ذكر تانيس، مع أن مدينة تانيس كانت من مساكن الملوك كما قال (مرييت) فى كتابه أن تانيس (صان) هى مقر فراعنة العائلة الحادية والعشرين، والثالثة والعشرين، وكانت مدة الأولى مائة وثلاثين سنة، وملوكها سبعة، والثانية تسعا وثمانين سنة، وملوكها أربعة، ولم يمكن معرفة الوقت الذى خرّبت فيه هذه المدينة، وأول من عين موضعها الأب (سيكار)، وقال: إنها فى الجنوب الغربى من مدينة الطينة، وعلى بعد يوم منها، وقال بعض السياحين: يلزم المسافر إليها من دمياط أن يسافر ثلاثة أيام ذهابا وإيابا، وأنها فى مديرية الصالحية، وعلى بعد ستة فراسخ من بحيرة المنزلة، ونصف فرسخ من بحر مويس، وخرابها يمتد كثيرا فى طول شاطئه، وبها آثار سبع مسلات، وبعض قطع تماثيل يرى عليها اسم (منفتا) الثانى، وظن (دنويل) بناء على قول (الادريسى)، أن مدينة تانيس محلها مدينة طناح، لأنه ذكر أن مدينة طناح على فرع مدينة تنيس، ولم يعتمد هذا القول (كترمير)، وقال (الادريسى) بعد أن تكلم على الفرع الخارج من فرع النيل الشرقى تحت مدينة (أنطوهى) المتوجه إلى الغرب، إنهما يجتمعان عند شبرى ودمسيس، وعلى بعد صغير من هذا الموضع، ينقسم الفرع الأول إلى فرعين، أحدهما يتوجه إلى الشرق نحو تنيس، والثانى يتوجه إلى الغرب نحو دمياط، والظاهر أن الفرع الخارج من النيل تحت دمسيس خلاف فرع مويس الذى هو الخليج

ص: 16

الطانطيقى وفمه عند اتريب، فما ذكره (الإدريسى) هو الخليج الذى سماه فيما بعد خليج شنشا، وبيان ذلك أن هذا الجغرافى قال: من يريد الذهاب من دمسيس إلى تنيس بالسير على النيل، يسير على النهر مسافة ميلين إلى منية (بدر) ومنها يسير في خليج شنشا الخارج من الشرق، فيصل إلى شنشا ثم إلى البوهات، وهى القرية الواقعة على الشاطئ الشرقى على بعد أربعة وعشرين ميلا من الأولى، ومن هذا الموضع إلى (صنفاص) مسافة ثمانية عشر ميلا، ومنه يسير برا إلى جهة الغرب فيصل إلى طناح بعد خمسة وعشرين ميلا، وهى على الشاطئ الشرقى لخليج تنيس، ثم قال بعد ذلك: إن من يريد التوجه من دمسيس إلى تنيس بالسير على النيل، يلزمه أولا أن يصل إلى طلخا وعندها ينقسم النيل إلى فرعين، أحدهما يجرى إلى الغرب نحو دمياط، وثانيهما إلى الشرق نحو بحيرة تنيس، فيسير على هذا الأخير حتى يصل إلى (منية شهار) الموضوعة على الشاطئ/الغربى، ثم منها إلى (محلة الدمنة) على بعد خمسة أميال على الشاطئ الشرقى، ومن هذا الموضع على بعد اثنى عشر ميلا يصل إلى كبار (البظباظ)، وبعد خمسة عشر ميلا يصل إلى (دمويه)، ومن هذه البلدة إلى مدينة طناح الموضوعة على الشاطئ الشرقى ميلان فقط، ومن طناح إلى أشموس عشرة أميال، والظاهر أن (دنويل) لم يقف على حقيقة كلام الإدريسى، بل غلط فى فهمه، وسبب ذلك زعمه أن مدينة صفناس أو صنفاص، هى فى محل المدينة القديمة التى كانت بالقرب من مدينة الطينة، وذكرها القبط فى كتبهم مع أن هذا مخالف لما ذكره الإدريسى، ولعل ذكر مدينة صفناس غلط من الكتبة، لأن أحد دفاتر التعداد فيه مدينة صنفاص، وفى أحدها شنفاص، وفى كلا الدفترين جعلت هى ومدينة (شنشا) فى مديرية الدقهلية والمرتاحية، ومعلوم أن حدود هذه المديرية لم تمتد إلى الموضع الذى ذهب إليه دنويل.

مكتبة الأسرة - 2008

ص: 17

والغالب أن شنشا هى المذكورة فى بعض كتب القبط باسم (بسنشيهو) ويظهر مما تقدم أن خليج شنشا الخارج من النيل تحت (منية بدر) ببعد قليل لم يكن له الاتجاه الذى جعله له دنويل، والظن أنه لا يصب فى بحيرة تنيس لأنه لو كان كذلك لما كان مريد التوجه إلى تنيس يفارق هذا الفرع ويسير فى البر إلى فرع آخر يوصله إليها، ومن هذا يظهر أن الخليج المار بصنفاص إما أنه خليج حفره الآدميون أو أنه بعد أن يصل إلى هذا الموضع يتغير اتجاهه ويذهب فيصب فى خليج مويس.

وأما مدينة طناح فلم تكن على هذا الفرع أصلا لأنها لو كانت كذلك لكانت ضرورة فى الشرق لا فى الغرب، وأيضا فإن محل مدينة أشمون طناح معلوم مشهور، وما نسبت إلى طناح إلا لقربها منها، ولو كانت إحداهما على بحر مويس، والأخرى على خليج أشمون لكان البعد بينهما كبيرا جدا، وفى دفاتر التعداد أن طناح وأشمون طناح، كلتاهما من مديرية الدقهلية والمرتاحية، فليست أشمون طناح على بحر مويس الذى هو فرع تانيس.

وقد ذكر الادريسى فيما مر أن تحت مدينة طناح على بعد عشرة أميال محلا اسمه شموس، ولا شك أن هذا الاسم محرف عن أشمون، ومن هذا يفهم سبب تسمية مؤرخى العرب هذه المدينة التى لم يكن بينها وبين طناح غير عشرة أميال، باسم أشمون طناح، ويوافق هذا ما ذكره الإدريسى من أن طناح وشموس على فرع النيل الخارج من طلخا، وهو بلا شك عين خليج أشمون طناح الخارج من النيل عند طلخا، وفمه على ما قاله أبو الفداء عند ناحية (جوجر)، وقال ابن إياس أن مدينة المنصورة واقعة على فم خليج أشمون فى مقابلة طلخا، فعلم من جميع ما تقدم أن الخليج الذى كانت عليه مدينة طناح، وسماه الإدريسى خليج تنيس، هو خليج أشمون طناح، وهو الفرع المسمى (المنديزى)، فإن قيل: لم لم يتكلم الإدريسى على فرع مويس مع أنه

ص: 18

تكلم على غيره من الفروع الخارجة من الفرع الشرقى من النيل، قلت: لم يتكلم عليه المقريزى أيضا، ولا أبو الفداء مع تكلمهما على خليج أشمون طناح، ولعل سبب ذلك أنه كان فى زمن هؤلاء المؤرخين، قد سدّ الطمى فمه ومنعه من الإتصال بالنيل فى غير وقت الفيضان، أو أنهم رأوا أنه من حفر الآدميين لا أصلى بالطبيعة فلم يذكروه على أنه ربما كان هو الخليج (السردوسى) الذى تكلم عليه المقريزى فى خططه، وقال: إنه جعل لرىّ جزء عظيم من بلاد الشرقية، وفيه انعطافات كثيرة. انتهى.

والآن صان الحجر قرية من بلاد الشرقية، من مركز العرين بجوار التلول القديمة من قبليها، وهى فى غربى بحر مويس، وبحرى تل (راك) بنحو ثلاثين ألف متر، ويتوصل منها إلى البحيرة البيضاء، ومن البحيرة البيضاء إلى البحر الرومى، وجميع البحائر التى بمديريتى الشرقية والدقهلية تجتمع فى بحر مويس المشهور بالمشرع، ومنه إلى البحيرة البيضاء ثم تصب فى المالح، وأغلب تكسب أهلها من صيد السمك وبيع الجبن المنزلاوى، وبها آثار قديمة ومجلسان للدعاوى والمشيخة، ومساجد ومكاتب أهلية، وأغلب أطيانها رمال، والصالح منها يزرع شعيرا وجلبانا وبسلة، وزمامها ألف ومائة وثلاثون فدانا وكسر، وأهلها تسعمائة وخمس وثمانون نفسا.

(الصالحية)

يوجد من هذا الاسم ثلاث قرى:

الأولى: الصالحية قرية من مديرية الجيزة بقسم أطفيح على الشط الشرقى لترعة الملاح قبلى ناحية (الكداية) بنحو ألف متر، وبحرى ناحية أطفيح بنحو ثلاثة آلاف وخمسين مترا، وبها جامع بمنارة، وجملة من النخيل، وقليل من السواقى.

ص: 19

الثانية: الصالحية قرية من مديرية القليوبية بمركز بنها العسل قبلى برشوم الكبرى بنحو ألفى متر وغربى ناحية قلقشندة بنحو أربعة آلاف متر، وبها زاوية للصلاة، وفيها جنائن وقليل من السواقى.

الثالثة: الصالحية بلدة بمديرية الشرقية من مركز العرين فى نهاية بلاد الشرقية بشمالها الشرقى، واقعة بجزيرة من رمال شرقى (المناجتين) بقدر ثمانية آلاف متر، وفى شرقيها كثيب كبير من الرمل، وهى جملة كفور ذوات/ نخيل كثير، والبلد الكبيرة بها منازل مشيدة ومساجد عامرة بلا منارات، ومكاتب أهلية، ومجلسان للدعاوى والمشيخة، وأرباب حرف كصيد السمك وتمليح الفسيخ، ولها سوق كل يوم جمعة، وأغلب تكسب أهلها من ثمر النخيل والزرع المعتاد، ويكثر فى أرضها الرمال الفاسدة، وزمامها تسعمائة وثمانية وخمسون فدانا، وبها منازل متسعة وقصور مشيدة لأولاد الحوت، وهم عائلة مشهورة من بنى سليم نزلت مع السيد عزاز صاحب الجزيرة البيضاء كعدة بطون من العرب، كبنى عمرو، وبنى حرام، وبنى عقبة، وبنى زهير، وبنى واصل، والبقرية، ثم تفرقوا فى القرى والبلدان فتوطن طائفة من بنى سليم بالصالحية، ومنهم عائلة الحوت، وطائفة أخرى ذهبت إلى بلاد برقة وأفريقية، وتوطن باقى البطون بالقصاصين، والحمادين، وكياد، واللبابدة، ونجوم، والطريدات، وذريتهم بتلك الجهات إلى الآن، وقد سبح أولاد الحوت فى بحار نعم العائلة المحمدية، والإحسانات الخديوية إلى الآن، ففى زمن المرحوم العزيز محمد على ترقى منهم صالح أغا فى الخدم الديوانية حتى صار مدير مديرية برتبة أميرالاى، وفى زمن المرحوم محمد سعيد باشا ترقى أخوه محمد بيك العيدروس إلى رتبة الأميرالاى وبقى كذلك إلى أن توفى سنة 1289 هـ، وترقى محمد أفندى صالح الحوت فى زمن الخديوى إسماعيل باشا إلى وظيفة ناظر قسم ثم مفتش جفلك أبى كبير.

ص: 20

[الصالحية: سبب تسميتها]

وسميت الصالحية نسبة إلى واضعها، قال المقريزى فى الكلام على الطريق التى بين مصر ودمشق: إن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب، هو الذى وضع هذه القرية بأرض السباخ على طرف الرمل، وذلك فى سنة أربع وأربعين وستمائة لتكون منزلة العساكر، إذا خرجوا من الرمل، قال: وبنى بها قصورا، وجامعا وسوقا، وصار ينزل بها ويقيم فيها، ونزل بها من بعده الملوك.

قال الشيخ عبد الغنى النابلسى فى رحلته:

إن بقرية الصالحية مزار الولى الصالح الشيخ حسن الليفى الصامت العجمى، وهو مكان كبير تحيط به جدران أربع، وفى داخله قبة صغيرة فيها قبره رضي الله عنه، وعليه الهيبة والوقار، وفى داخل القرية جامع السلطان قايتباى، له ثلاثة أبواب، وعمارته عظيمة متينة لكنها ظاهرة الأيلولة إلى الخراب، وليس له كما لسائر الجوامع داخل وخارج، بل له إيوان قبلى عريض فيه المنبر والمحراب، وليس له أحد يصلى فيه كما يظهر ذلك من نطق حاله باشارة فيه، وله منارة عظيمة تحتاج إلى مؤذن أحواله مستقيمة، وأهل تلك القرية حارتان متميزتان فى الألفاظ والمعانى، فمنهم القيسى الأحمر، ومنهم الأبيض واليمانى، ولهم مكان القيسى واليمانى اللذين هما فى بلاد الشام الجدام والحرام، وفى بلاد الخليل الدارى والمحاور، وهى العصبة الجاهلية التى قاتلها ومقتولها فى النار، لا يغسّل ولا يصلى عليه بحسب ما هو فيه من الحمية، فمن يمر هناك يقول كما قال أبو الطيب المتنبى:

برغم شبيب فارق السيف كفّه

وكان على العلاّت يجتمعان

(1)

كأنّ رقاب الناس قالت لسيفه

رفيقك قيسىّ وأنت يمانى

(2)

(1)

وكانا على العلاّت يصطحبان، (العرف الطيب فى شرح ديوان أبى الطيب).

(2)

وأنت يمان، (المصدر السابق).

ص: 21

ومما يناسب هذا على طريق التضمين له:

إذا رمت تلقى فتنة بين جيده

ووجنته يا زائد الخفقان

فقل لبياض الجيد والخد أحمر

رفيقك قيسىّ وأنت يمانى

وفى جبانتها قبور جماعة من الصالحين. انتهى.

وقال المقريزى أيضا فى سبب وضعها: إن الدرب القديم الذي كان يسلكه العساكر والتجار وغيرهم من القاهرة على الرمل إلى مدينة غزة، كان قد تغير بعد الخمسمائة من سنى الهجرة بعد انقراض الدولة الفاطمية، وذلك أنه كان الدرب أولا قبل استيلاء الإفرنج على السواحل الشامية غير هذا، قال أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خردديه فى كتاب «المسالك والممالك»:

وصفة الأرض والطريق من دمشق إلى الكسوة اثنا عشر ميلا، ثم إلى جاسم أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى قيق أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى طبرية مدينة الأردن ستة أميال، ومن طبرية إلى اللجون عشرون ميلا، ثم إلى القلنسوة عشرون ميلا، ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلا، والطريق من الرملة إلى ازدود إثنا عشر ميلا، ثم إلى غزة عشرون ميلا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلا فى رمل، ثم إلى الورادة لثمانية عشر ميلا، ثم إلى أم العرب عشرون ميلا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى جرير ثلاثون ميلا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى بلبيس إحدى وعشرون ميلا، ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلا.

فهذا كما ترى إنما كان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق/على غير ما هو الآن فيسلك من بلبيس إلى الفرما فى البلاد التى تعرف اليوم ببلاد السباخ من الحوت، ويسلك من الفرما وهى بالقرب من قطية إلى أم العرب، وهى بلاد

ص: 22

خراب على البحر فيما بين قطية والورادة، ويقصدها قوم من الناس، ويحفرون فى كيمانها فيجدون دراهم من فضة خالصة ثقيلة الوزن كبيرة المقدار، ويسلك من أم العرب إلى الورادة وهى من جملة الجفار ويقال: إن اسمها أخذ من الورود، ولم يزل جامعها عامرا تقام به الجمعة إلى ما بعد السبعمائة، وتاريخ منارة جامعها سنة ثمان وأربعمائة كما رأى ذلك القاضى الفاضل لمّا دخلها سنة سبع وستين وخمسمائة، وبلد الورادة القديمة فى شرقى المنزلة التى يقال لها اليوم: الصالحية، وبها آثار عمائر ونخل قليل، ودخل أهلها وما حولها إلى عسقلان فى الإسلام بعد أن استولى المسلمون على الفرما بعد فتح دمياط، ثم قال: فلما خرج الإفرنج من بحر القسطنطينية لأخذ البلاد من أيدى المسلمين، وأخذ «بغدوين» الشوبك، وعمره فى سنة تسع وخمسمائة وكان قد خرب من تقادم السنين، وأغار على العريش وهو يومئذ عامر.

بطل السفر حينئذ من مصر إلى الشام وصار يسلك على طريق البر مع العرب مخافة الإفرنج إلى أن استنقذ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بيت المقدس من أيدى الإفرنج فى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وأكثر من الإيقاع بالإفرنج وافتتح منهم عدة بلاد بالساحل، وصار يسلك هذا الدرب على الرمل فسلكه المسافرون من حينئذ إلى أن ولى ملك مصر الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، فانشأ هذه البلدة لتكون منزلة العساكر إذا خرجوا من الرمل، فلما ملك مصر الملك الظاهر بيبرس البندقدارى رتّب البريد بين القاهرة ودمشق، وفى سائر الطرقات حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق فى أربعة أيام، ويعود فى مثلها، فصارت أخبار الممالك ترد إليه فى كل جمعة مرتين، ويتحكم فى سائر ممالكه بالعزل والولاية وهو مقيم بالقلعة، وأنفق فى ذلك مالا عظيما حتى تم ترتيبه، وكان ذلك فى سنة تسع وخمسين وستمائة، وما زال أمر البريد مستمرا فيما بين القاهرة ودمشق يوجد بكل مركز من مراكزه عدة من الخيول المعدة للركوب، وتعرف بخيل البريد وعندها عدة سواس

ص: 23

(ويقال لهم: الركابية)، وللخيل رجال يعرفون بالسواقين، وأحدهم: سواق، يركب مع من رسم بركوبه خيل البريد ليسوق له فرسه ويخدمه مدة مسيره، ولا يركب أحد خيل البريد إلاّ بمرسوم سلطانى، فتارة يمنع الناس من ركوبه إلاّ من انتدبه السلطان لمهماته، وتارة يركبه من يريد السفر من الأعيان بمرسوم سلطانى، وكانت طرق الشام عامرة يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر من زاد، وعلف، وغيره، ولكثرة ما كان فيه من الأمن أدركنا المرأة تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة أو ماشية لا تحمل زادا ولا ماء، فلما أخذ «تيمورلنج» دمشق وسبى أهلها وحرقها فى سنة ثلاث وثمانمائة، خربت مراكز البريد واشتغل أهل الدولة بما نزل بالبلاد وما دهوا به من كثرة الفتن عن إقامة البريد، فاختل بانقطاعه طريق الشام، والأمر على ذلك إلى وقتنا هذا وهو سنة ثمان عشرة وثمانمائة.

‌ترتيب البريد

(*)

[قطوف من تاريخ البريد]

وقال أيضا: إن البريد أول من رتب دوابة الملك «دارا بن بهمن بن كيبشتاسف بن كبهر اسف» أحد ملوك الفرس، وأما فى الإسلام فأول من أقام البريد أمير المؤمنين «المهدى محمد بن جعفر المنصور» ، أقامه فيما بين مكة، والمدينة، واليمن وجعله بغالا وإبلا، وذلك فى سنة ست وستين ومائة، وأصل هذه الكلمة بالفارسية: بريد دنبه، فإن «دارا» أقام فى سكك البريد دواب محذوفة الأذناب سميت: بريد دنبه، ثم عربت وحذف منها نصفها الأخير فقيل: بريد. انتهى.

(*) البريد: المرتّب والرسول. القاموس المحيط (البرد).

ص: 24

وقد تكلم «كترمير» عن كتاب السلوك وغيره على البريد بعبارة واسعة فقال ما معناه: البريد كلمة مأخوذة من اللاتينى بمعنى: بوسطة الخيل المرتبة لإيصال المخاطبات والناس، وتطلق على مسافة قدرها أربعة فراسخ، والفرسخ: ثلاثة أميال، وقدّره «خليل الظاهرى» بفرسخين، وفى ديوان الإنشاء عن «المرتضى» أن البريد فى الأصل اسم دابة ثم صار اسما للراكب عليها، ثم استعمل فى مسافة مقدرة، وقال غيره: البريد كلمة عربية تفيد مسافة قدرها أربعة فراسخ، وقد اشتق من البريد، أبرد: بمعنى أرسل مكتوبا فى البوسطة.

قال فى كتاب «الهمزة» : أبرد إلى ابن هشام بالكتاب، وفى كتاب «الأغانى»: أبرد البريد إلى الحجاج، وأما البريدى: فهو المختار من الجند المستخدمين بمصر أو الشام ليوجه فى مهمات الأمور وفى طلب الأموال، فيسير ليلا ونهارا، وكان كاتب السر يلاحظ أموره ويتفقد أحواله، ولا يتخذ إلاّ من العارفين الجامعين للخصال الحميدة ضرورة أنه أمين على المهمات، وقال الذهبى: كان البريديون ثلاثة من الكتّاب: أبو عبد الله، وأبو الحسين، وأبو يوسف، كان أبوهم كاتبا على البريد بالبصرة فغلبوا على الأهواز، وعن «أبى الفداء» أن أول من رتب البريد «معاوية» ، وكان «هشام بن عبد الملك» فى مدينة «رصافة» لمّا مات (يزيد) أخوه فجاءه خبر الخلافة بالبريد، وعن المقريزى أن/الخليفة (المهدى العباسى) هو أول من رتب البريد سنة ست وستين ومائة هجرية بين المدينة ومكة، وبين مكة واليمن، وكان من البغال والجمال، وكان قبل ذلك فى مصر وكان فى كل مركز من مراكز البريد أمير أخور، وشاد، ورجال يناط بهم إحضار المعاليم والخيل (وعليها التشاهير: أى الطقومة من سرج ونحوه، واحدها: تشهير، يقال: قدّم إليه فرسا بتشهيره: أى بما يلزم له من سرج، ولجام ونحو ذلك)، وفى كل بريد صفائح من النحاس أو من الفضة بقدر كف اليد على أحد وجهيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله

ص: 25

أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وعلى الوجه الثانى مناقب حاكم الوقت، فإن كانت لبلاد الشام يكتب عليها اسم نائب السلطنة فى الولاية التى منها ابتداء السير، وتكسى الصفيحة بشرابة من حرير أصفر ويعلقها البريدى فى رقبته بحيث تكون الشرابة بين كتفيه، وكانت تسلم لكاتب السر، فإذا تعين أحد لرئاسة البريد أعطاه كاتب السر صفيحة من هذه الصفائح ومكتوبا بخط يده ويرسله إلى الأمير اخور لاستلام الخيل اللازمة، واسم ذلك الشخص يكون مكتوبا فى سطرين من آخر التذكرة، فإذا رجع ردّ الصفيحة.

وقال صاحب كتاب «التعريف» : إن البريد كان فى زمن الأكاسرة والقياصرة، وأول من جدده فى الإسلام «معاوية بن أبى سفيان» ، وقيل:«عبد الملك بن مروان» ، وأن «الوليد بن عبد الملك» استعمل البريد فى نقل الفسيفساء من اسلامبول إلى دمشق عندما بنى الجامع الأموى، وجامع مكة، والمدينة، والقدس، وقد تعطل البريد فى زمن «المهدى» ثم رتبه ليصل إليه خبر ابنه «هارون» عندما كانت الحرب قائمة مع الرومانيين، فكان يستنشق أخبار ابنه فى كل وقت، ولما رجع «هارون» أبطل البريد، وقد رتبه «هارون الرشيد» فى خلافته كما كان فى زمن الأموية، ولما تولى «المأمون» وأراد الزحف على بلاد الرومانيين قام ونصب معسكره عند نهر البيدون، وكان ذلك فى فصل الصيف فقعد على شاطئه وجعل رجليه فى الماء وشرب وتلذذ، وقال لمن حوله: ما أحسن طعام يؤكل بعد شرب هذا الماء فكل واحد أجاب على حسب ما يرى، فقال الخليفة: الذى أراه يؤكل مع شرب هذا الماء هو:

تمرغراد، فقالت بطانته: اللهم أبق خليفتنا إلى أن نعود من العراق، فلم يتموا كلامهم إلا وقد حضر البريد ومعه من هذا التمر، فأكل المأمون وشرب، فتعجب الحاضرون من تحقيق بغيته عند تكلمه بها، غير أنه أصيب بالحمى بعد ذلك ومات منها.

ص: 26

وقد بقى البريد إلى أن غلبت سطوة (بنى بويه) على الخلفاء، فبطل أمره وعوض بالسعاة، وفى زمن الأمراء الزنفية عوضت السعاة بالنجابة الراكبين على الهجن، وبقى ذلك إلى زمن الملك الظاهر بيبرس البندقدارى، واجتمع له الشام، ومصر وحلب، وشواطئ الفرات، فسير جيشه إلى الشام لمحاربة التتار، فرتب البريد ليتناول الأخبار، ومشى على ذلك من جاء بعده من الملوك إلى أن أغار تيمورلنج على الشام، وفى زمن الملك (الناصر فرج) سنة أربع وثمانمائة بطل البريد من مصر والشام، وإلى الآن مراكزه خالية من الناس والخيل، وتستعمل فى تقدير المسافات.

وفى كتاب «التعريف» أن المسافات لم تكن على قدر واحد، بل تختلف لقرب الماء وبعده وبحسب الموقع أيضا، وأن مباشر ديوان الإنشاء كان يلقب بأمير البريد، وأن أوراق البريد فى زمن السلطان بيبرس كان يكتبها كاتم السر أو نائبه، وكانت صورتها هكذا: قد أمرنا الأمير أخور فلان من رتبة كذا أن ينقل فلانا على حسب درجته على خيل بريد عددها كذا، بسبب أنه متوجه إلى جهة كذا فى أمر مهم، ثم يؤرخ ويمضى.

وقال صاحب مسالك الأبصار: إن نواب الجهات بحسب العادة كانوا يخبرون السلطان بجميع الأحوال المهمة الواقعة فى بلادهم، وينتظرون أمره فيجرون ما يأمر به، وكان بين التخوت والمدن فى جميع الطريق مراكز للبريد، ومتى وصل بريدىّ من مدينة إلى التخت يطلب إلى حضرة الأمير (جمداره) وهو أمير مائة، و (الدوادار)، وكاتب السر، فيقبل الأرض ويسلم الكتاب إلى الدوادار فيمسح به وجه البريدى ثم يسلمه إلى السلطان فيفتحه وكاتب السر يقرءوه ويتلقى ما يأمر به.

وقال أبو المحاسن: إنه فى زمن الملك المظفر «حجى بن محمد بن قلاوون» سنة سبع وأربعين وسبعمائة، ورد الخبر بخلل نظام البريد فى طريق

ص: 27

الشام، فطلب من كل أمير ألف، أربعة من الخيل، ومن كل أمير طبلخانة اثنين، ومن كل أمير عشرة رأسا، وتفقد اقطاع البريد فوجد أغلب بلاده قد وقفها الملك (إسماعيل الصالح)، ولم يبق منها باسم البريد إلا القليل، فأخذ السلطان من (عيسى بن حسن الهجان) أرضا محصولها السنوى عشرون ألف درهم وثلاثة آلاف أردب من الحبوب، فجعلها للبريد، وقال خليل الظاهرى:

كان البريد يمشى فى أربع جهات:

الأولى: إلى قوص وأسوان.

والثانية: إلى حدود الأسكندرية.

والثالثة: إلى ثغر دمياط.

والرابعة: إلى جهة الفرات، وهى حد المملكة الشرقى، وتنقسم هذه الأخيرة إلى جملة فروع.

أمّا المتوجه إلى/قوص وأسوان فيخرج من قلعة الجبل إلى برنشت ثم إلى منية القائد ثم إلى ونا ثم إلى سياتم ثم إلى دهروط ثم إلى قلوسنا ثم إلى منية ابن خصيب ثم إلى الاشمونين ثم إلى دروط الشريف ثم إلى المنهى ثم إلى منفلوط ثم إلى أسيوط ثم إلى طما ثم إلى المراغة ثم إلى بلنسون (لعلها المنشاة) ثم إلى جرجا ثم إلى البلينا ثم إلى (هوّ) ثم إلى الكوم الأحمر ثم إلى خان الدرينا ثم إلى قوص ثم إلى الهجرة ثم إلى ادوى ثم إلى أسوان، وبعضهم جعل هذا الجزء الأخير مركزين، وما بعد ذلك إلى عيذاب إلى حدود الولاية لم يكن فيه للبريد مراكز.

وأما طريق الاسكندرية فتنقسم قسمين، الأول الطريق الوسطى، تمر فى بلاد معمورة من قلعة الجبل إلى قليوب، ثم إلى منوف، ثم إلى محلة المرحوم، ثم إلى النحرارية، ثم إلى التركمانية، ثم إلى الاسكندرية.

ص: 28

والثانى طريق الحاجر، من قلعة الجبل، إلى جزيرة القط، ثم إلى وردان ثم إلى الطرانة، ثم إلى زاوية مبارك، ثم إلى دمنهور، ثم إلى لوقين، ثم إلى الاسكندرية.

وطريق دمياط تمر إلى السعيدية إلى بينونة إلى أشمون الرمان، إلى فارسكور إلى دمياط.

وأما طريق غزة فمن قلعة الجبل إلى المنصورة إلى الغرابى إلى قطية، إلى معان إلى المطيلب، إلى السوادة إلى الورادة، إلى بئر القاضى، إلى العريش إلى الخروبة، إلى الزعقة، إلى الرفج إلى السلفة، إلى غزة.

والطريق من غزة إلى الكرك، تمر ببلاقس ثم يجيرون ثم بجنبا، ثم بالزوير، ثم بالصافية، ثم بالكفر، ثم الكرك، ومن الكرك إلى الشوبك ثلاثة برد.

وطريق دمشق تخرج من غزة إلى حنين، إلى بيت دارس، إلى (لد) الى العوجاء، إلى الطيرة إلى قاقون إلى فحمة، إلى حنين إلى حطين إلى زرعين، إلى عين جالوت، إلى بيسان إلى اربد، إلى طفس إلى رأس الماء، إلى الصنمين إلى غباغب إلى دمشق.

وعند دمشق تنقسم الطريق، فطريق البيرة تمر بالقصير ثم بالقطيفة، ثم بالافتراق، ثم بالقسطل، ثم بالكراع، ثم بالغسولة، ومنها يخرج فرع إلى طرابلس، ومن غسولة يتوصل إلى سمسين إلى حمص، ومن هنا فرع إلى جفير.

ومن حمص يتوصل إلى الرستن إلى حماة، إلى لطمين إلى جرابلس إلى المعرّة إلى أبعد، إلى امار، إلى قنسرين، إلى حلب، إلى الباب، إلى بيت برة، إلى بيرة.

ص: 29

والطريق من حمص إلى جبار، تمر بالمصنع ثم القرنين، ثم البيضاء، ثم تدمور، ثم كرند، ثم سخنة، ثم قبقب، ثم كوامل، ثم رحبة.

وطريق دمشق إلى صفد، توصل إلى البربج إلى القلوس إلى الأرينية إلى نعران، إلى جب يوسف، إلى صفد.

ويتوصل من دمشق أيضا، إلى خان ميسلوب ثم إلى حرين، ثم تنقسم الطريق، فمنها ما يوصل إلى صيدا، ثم إلى بيروت، ومنها ما يوصل إلى بعلبك، بأن تمر من دمشق إلى الزبدانى، إلى بورا، إلى بعلبك.

وطريق طرابلس تبتدأ من غسولة إلى قدس، إلى أقمار، إلى العشرة، إلى العراقا، إلى طرابلس.

وطريق دمشق إلى الكرك، توصل إلى القتيبة، إلى بردية، إلى البرج الأبيض، إلى حسبانة، إلى قنبس، إلى ديبان، إلى قاطع الموجب، إلى الصغر، إلى الكرك.

والطريق من حلب إلى حدود المملكة تمر بالسموقة، إلى استدارا، إلى بيت الفار، إلى عنتاب، إلى قلعة المسلمين، وهذا الأخير ثلاثة برد، لم تدخل فى حكم السلطان.

ومن عنتاب يتوصل إلى ديركون، إلى قونا إلى عربان، إلى البهنسا، إلى قيسرية، وهذه المسافة سبعة برد، لم تدخل فى حكم السلطان.

وكانت تلك المراكز بها الخيل دائما، واستمر ذلك إلى زمن السلطان الملك المؤيد (أبى النصر شيخ) ا. هـ.

وتكلم المؤرخ «ويلنى» نقلا عن مؤرخى العرب على محطات البريد، فقال: الطريق من القاهرة إلى الصعيد بعد العبور من النيل إلى الجيزة، فمن الجيزة إلى برنشت خمسة عشر ميلا، إلى منية القائد ثمانية عشر، إلى

ص: 30

(ونا) كذلك، إلى طيلسم كذلك إلى دهروط خمسة عشر، إلى قلوسنا ثمانية عشر، إلى منية ابن خصيب ثمانية عشر، إلى الأشمونين خمسة عشر، إلى دروط الشريف اثنا عشر، إلى المنهى كذلك، إلى منفلوط كذلك، إلى أسيوط ثلاثة عشر، إلى طما واحد وعشرون، إلى المراغة اثنا عشر، إلى بلنسون كذلك، إلى دجرجا كذلك، إلى بلينا خمسة عشر، إلى (هوّ) واحد وعشرون، إلى الكوم الأحمر اثنا عشر، إلى درينا خمسة عشر، إلى قوص بعد عبور النيل اثنا عشر، إلى قوص الحجرى خمسة عشر، إلى عدوة كذلك، إلى إسنا أربعة وعشرون، ومجموع ذلك ثلاثمائة وسبعون ميلا، وبعد إسنا ينقطع البريد.

ومن مصر إلى الأسكندرية طريقان، أحدهما فى البلاد، والآخر فى الصحراء على شمال النهر، فالتى فى وسط البلاد من القاهرة إلى قليوب تسعة أميال، إلى منوف ثمانية عشر ميلا، إلى محلة المرحوم أربعة وعشرون، إلى النحرارية أربعة وعشرون، إلى التركمانية كذلك، إلى الإسكندرية كذلك، والتى فى الصحراء من القاهرة إلى جزيرة القيت ثمانية عشر ميلا، إلى وردان اثنا عشر، إلى الطرانة كذلك، إلى زاوية المبارك كذلك، إلى دمنهور واحد وعشرون، إلى لوقين ثمانية عشر، إلى الإسكندرية كذلك.

ومن القاهرة إلى دمياط، المحطة الأولى قليوب، ثم إلى بلبيس ثمانية عشر ميلا، إلى الصالحية أربعة وعشرون، إلى السعيدية اثنا عشر، إلى بينونة كذلك، إلى أشمون الرمان/كذلك، إلى فارسكور أحد وعشرون إلى دمياط تسعة.

ومن القاهرة إلى غزة فإلى السعيدية ثلاثة وستون ميلا إلى غرابى ثمانية عشر، إلى قطيا أثنا عشر، إلى معان كذلك، إلى سليم كذلك، إلى سوادة كذلك، إلى الورادة كذلك، إلى بئر القاضى كذلك، إلى العريش كذلك،

ص: 31

إلى الحروبة كذلك، إلى صعقة كذلك، إلى رفح تسعة، إلى سلفة إثنا عشر، إلى غزة كذلك، المجموع ستمائة واثنان وعشرون ميلا.

وأما من غزة إلى الكرك فإلى بلاقس اثنا عشر ميلا، وإلى جيرون ثمانية عشر، وإلى جنبا إثنا عشر، وإلى الزوير ثمانية عشر، وإلى صافية خمسة عشر، إلى كفر أربعة وعشرون، إلى كرك أحد وعشرون، المجموع مائة واحد وعشرون.

ومن الكرك إلى الشوبك الواقعة فى حدود بلاد العرب ثلاث محطات جميعها تسعون ميلا، وأما من غزة إلى دمشق فإلى حنين اثنا عشر ميلا، إلى بيت دراس اثنا عشر أيضا إلى (لد) كذلك، إلى العوجاء ستة أميال، إلى الطيرة ستة أيضا، إلى فاقون كذلك إلى فامية تسعة، إلى حنين فى صفد تسعة، إلى حطين ستة، إلى رزين كذلك إلى عين جالوت كذلك، إلى بيسان كذلك، إلى إربل اثنا عشر، إلى طافس ثمانية عشر، إلى رأس الماء اثنا عشر، إلى الصنمين كذلك، إلى جباجب كذلك، إلى قصوة تسعة، إلى دمشق كذلك.

وأما من دمشق إلى البيرا على الفرات فإلى القصير فى الشمال تسعة أميال، إلى قطيا فى الشرق اثنا عشر، إلى الافتراق فى الشمال ستة، إلى قسطل تسعة، إلى الكراع تسعة، إلى غسولة اثنا عشر، إلى سمسين اثنا عشر أيضا، إلى حمص اثنا عشر، إلى رستن كذلك، إلى حماة كذلك، إلى لطمين تسعة، إلى جرابولوس تسعة، إلى المعرة اثنا عشر، إلى عباد كذلك، إلى عمار كذلك، إلى قنسرين تسعة، إلى حلب اثنا عشر، إلى الباب ثلاثون، إلى بيت بيرا ثلاثون، إلى البيرة خمسة عشر.

وأما من دمشق إلى جبار على الفرات فإلى حمص أحد وثمانون ميلا، إلى مسنى فى الشرق أربعة وعشرون، إلى قرنين ثمانية عشر، إلى البيضاء أربعة وعشرون، إلى تدمر أربعة وعشرون، إلى الكرك كذلك، إلى شخنة ثمانية

ص: 32

عشر، إلى كبكب ثمانية عشر، إلى كوامل أربعة وعشرون، إلى رحبة كذلك، إلى جبار مائة وعشرة.

وأما من دمشق إلى صفد فإلى بريد فى الشمال الغربى اثنا عشر ميلا، إلى قلوس كذلك، إلى أرينبا ثمانية عشر، إلى نوران اثنا عشر، إلى جب يوسف ثمانية عشر، إلى صفد اثنا عشر.

وأما من دمشق إلى بيروت فإلى خان مسلون اثنا عشر، إلى حريم على القاسمية ثمانية عشر، إلى صيدا من جبل ليبان ثلاثة وثلاثون إلى بيروت أربعة وعشرون.

وأما من دمشق إلى بعلبك فإلى زبدانى خمسة عشر، إلى (بورا) اثنا عشر، إلى بعلبك ثلاثة عشر، وأما من دمشق إلى طرابلس فإلى عزولا (انظر طريق حلب) خمسة وخمسون، إلى قادس ثمانية عشر، إلى عكمار أحد وعشرون، إلى عكرى ثمانية عشر، إلى العركا اثنا عشر، إلى طرابلس خمسة عشر.

وأما من دمشق إلى الكرك فإلى الكتيبة اثنا عشر، إلى بردية ثمانية عشر، إلى البرج الأبيض كذلك، إلى حسبان كذلك، إلى كمبس أربعة وعشرون، إلى ذبيان كذلك، إلى قطيع المجيب كذلك، إلى صغر كذلك، إلى الكرك كذلك.

وأما من حلب إلى بهنسا وإلى قيسرية فى حدود المملكة ببلاد الأمن فإلى السموكا اثنا عشر، إلى (استيدرا) اثنا عشر أيضا، إلى بيت الفار كذلك، إلى عنتاب كذلك، إلى ديركون تسعة، إلى قونا اثنا عشر، إلى اربال اثنا عشر، إلى بهنسا تسعة، إلى القيسرية مائة وعشرون.

مكتبة الأسرة - 2008

ص: 33

ومن أول سنة ألف وأربعمائة واثنى عشر ميلادية قد بطلت المحطات الواقعة بين بهنسا وقيسرية، انتهى.

وأما إيصال الرسائل بالطير وذكر المطارات والمطيرين وما يتعلق بذلك، فقد تعرضنا له عند الكلام على منية عقبة، وذكرنا هناك أن مسافة مركز الطير قدر ثلاث مراكز بريد.

[معنى الفسيفساء]

وقوله: الفسيفساء، ويقال أيضا: الفسفسا، هى الفصوص الملونة، المذهبة، كما فى تاريخ دمشق، وتاريخ حلب.

وكانت الملوك ترصع بها المبانى الفاخرة، ففى تاريخ ابن خلدون: أن أبرهة كتب إلى قيصر فى الصناع، والرخام، والفسفسا، وفى كتاب السلوك، بعث الوليد إلى ملك الروم بما عزم عليه، فبعث له ملك الروم مائة ألف مثقال ذهبا، ومائة عامل، وأربعين حملا من الفسيفساء، وفى سياحة ابن بطوطه، قال: زين هذا المسجد بفصوص الذهب المعروفة بالفسيفساء تخالطها أنواع الأصبغة الغريبة الحسن، وقال انوش يوس فى تاريخ بطاركة الاسكندرية:

كانت الحنية (القبة) كلها منقوشة بالفسيفساء، وفى موضع آخر: وقلعوا الفسيفساء من الحنية، وعن بعض الجغرافيين فى وصف جامع مكة، أن فى كل جانب ثلاث بلاطات، وجه كل بلاطة من ناحية الصحن منقوش بالفسيفساء، وقد انتظمت بلاطاته الثلاثة انتظاما عجيبا حتى صارت كأنها بلاطة واحدة.

[البلاط يقال لكل شئ فرشت به الدار]

والبلاط: هو الحجارة المفروشة فى الدار ونحوها، ويقال لكل شئ فرشت به الدار من حجر أو غيره: بلاط، وفى كتاب السلوك أن البلاط كلمة مشتقة من اللغة اللاتينية والرومية ولها جملة معان، ففى كتاب التنبيه

ص: 34

للمسعودى، أن من معانيها: القصر والخيمة، قال كمال الدين فى تاريخ/ حلب: بات نقفور فى البلاط: أى القصر، وعند الكلام على ملك الروم قال:

أخذ شبل الدولة تاجه وبلاطه.

ومن معانيها أيضا، الرصيف، وفى نفح الطيب للمقريزى

(1)

: أن البلاط يسمى البهو، فيقال: تسعة عشر بهوا، أى: بلاطا. انتهى من كترمير وغيره.

[سلطنة شجرة الدر]

وفي خطط المقريزى: أنه لما تسلطن الملك غياث الدين توران شاه بقلعة دمشق، ركب إلى مصر فنزل بالصالحية طرف الرمل لأربعة عشرة بقيت من ذى القعدة سنة 647 هـ، فأعلن حينئذ بموت الملك الصالح نجم الدين أبى الفتوح أيوب، ولم يكن أحد قبل ذلك يتفوه بموته، بل كانت الأمور على حالها، والخدمة تعمل بالدهليز والسماط يمد، وشجرة الدر تدير أمور الدولة، وتوهم الكافة أن السلطان مريض، ولا لأحد عليه سبيل ولا وصول، ثم سار منها إلى المنصورة فقدمها يوم الخميس الخامس والعشرين منه، فنزل بالقصر الذى بها، ثم أنه أساء تدبير نفسه وتهدد البحرية حتى خافوه وهم يومئذ جمرة العسكر فقتلوه بعد سبعين يوما من ولايته، وبموته انقضت دولة بنى أيوب من مصر، وكان قتله بإغراء شجرة الدر سرية استاذهم، لأنه كان تهددها وطالبها بمال ابنه، وبعد قتله أقاموا شجرة الدر فى السلطنة وحلفوا لها فى عاشر صفر، ورتبوا الأمير عز الدين أيبك مقدم العسكر، ولم يوافق أهل الشام على سلطنتها، وطلبوا الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب حلب، فسار اليهم بدمشق وملكها فانزعج العساكر بالقاهرة، وتزوج الأمير عز الدين أيبك التركمان بالملكة شجرة الدر ونزلت له عن السلطنة، وكانت مدتها ثمانين يوما، وملك هو وتلقب بالملك المعز، واتفق رأى الأمراء على إقامة

(1)

للمقرى، أحمد بن محمد المقرى التلمسانى. وهو الصواب.

ص: 35

الأشرف مظفر الدين موسى بن الناصر شريكا للمعز فى السلطنة، فأقاموه معه وعمره نحو ست سنين وكان الخبر قد ورد أن الملك المغيث عمر بن العادل الصغير أخذ الكرك والشوبك، وأخذ الملك السعيد قلعة الصبية، وقاموا لمحاربة عساكر مصر، فسار المعز بالعساكر والعرب من مصر فى ثالث القعدة سنة 648 هـ، وخيّم بالصالحية، وترك الأشرف بقلعة الجبل، والتحم القتال بينهم فكانت النصرة له. انتهى.

[الحرب بين الملك المعز والملك الناصر]

وفى ترجمة كترمير لكتاب السلوك للمقريزى ما معناه: أن عساكر الملك المعز أيبك كانت مجتمعة بالصالحية وعساكر الملك الناصر بقرية كراع، وهى كما قال النوارى: قرية قريبة من العباسة، والسدير، والخشبى، (قلت): وأظن أن الخشبى، هو المحل المسمى الآن أبا خشيب، فكان بين الجيشين مسافة قليلة، وكان الناس يظنون أن النصرة تكون للملك الناصر بسبب كثرة جيوشه، وميل أغلب العساكر المصرية إليه، فكان الأمر على خلاف ظنهم، وقد قام المعز بعساكره، وخيم فى مقابلة أعدائه بمحل يعرف بسموط، وفى يوم الخميس عاشر القعدة استعد الفريقان للحرب، وفى السابعة من النهار حصل الإلتحام، فاتفق أن جناحى جيش الناصر سطوا على ما يقابلهما من جيش المعز، فانكسر الجناح الأيسر من جيش المعز وانهزم، فتبعته عساكر الناصر بلا تدبر فى العاقبة وثبت الجناح الأيمن من عساكر المعز وسطا على الجناح الأيمن من جيش الناصر فكسره، وبقى الحرب بين القلبين، وقد أخذ المنهزمون من جيش المعز المصريين بطريق الصعيد، ونهب العدو أشياءهم، وعند مرورهم بحذاء القاهرة كانت الخطبة فيها وفى القلعة باسم الناصر، كما كان ذلك فى الفسطاط والبلاد المجاورة لاعتقادهم نصرة الناصر، حتى حصل الشروع فى تجهيز الإقامات له وهو لا يعلم ذلك ومعسكره، وأمواله، وحشمه، وكراعه بقرية كراع، ولما انكسر جناح عسكره الأيمن، أوقع بهم المصريون فى

ص: 36

الرمال وأسروا منهم عددا كثيرا غير من مات، وكان الناصر فى قلب جيشه يقاتل، والمعز كذلك، ولم يشعر كل منهما بما وقع لجناح جيشه، وكان أغلب أمراء الناصر لا يحبون نصرته لخوفهم أن يفتك بهم بعد نصرته، فدبروا الخيانة وانحازوا بعساكرهم إلى جيش المعز، فضعفت قوى الناصر، وهجم المعز بعساكره يروم القبض عليه فلم يجده، لأنه لما علم خيانة أمرائه فرّ خفية، ثم هجمت العساكر الشامية وهى عساكر الناصر على المعز، ففر أيضا هاربا إلى جهة الشوبك وهو يعتقد أن الناصر لم يفر، ثم لما سكن روع الناصر رجع إلى عساكره، وكذلك المعز اجتمع بجملة من عساكره، ورجع كل منهما للقتال، وفى أثناء ذلك فارق الناصر أيضا بعض من معه ولحقوا بالمعز، فداخل الناصر الخوف، وضعفت قواه فارتحل راجعا إلى الشام، وأما عساكره الذين تبعوا الهاربين من عساكر المعز، فكانوا مخيمين بالعباسة لاعتقادهم أن النصرة لهم، فلما علموا حقيقة الأمر ارتحلوا إلى الشام، وقد وصل مصر خبر نصرة المعز وانهزام الناصر وقت خروج الناس من صلاة الجمعة، وقد كانوا خطبوا للناصر، وفى رجوع المعز إلى مصر رأى فى طريقه بالعباسة خيام الناصر، فظن أن الناصر قد رجع إلى الحرب فوقع الخوف فى قلبه، وجوز أن يكون الحرب ملتحما بمصر، فعدل عن طريقه إلى طريق العلاقمة ونزل ببلبيس فخافه أيضا أهل خيام الناصر/، ولما جاء الليل ارتحلوا إلى الشام، فلما علم المعز ذلك زال عنه الخوف، ورحل إلى مصر ظافرا ودخلها لاثنى عشر من شهر القعدة، وزينت له مصر والقلعة، وفى أثناء القتال كان جملة من الأمراء مسجونين من مدة الملك الناصر نجم الدين أيوب، فلاعتقادهم أن النصرة للناصر كاعتقاد أهل مصر، خرجوا من السجن وهموا بالإستيلاء على القلعة وعلى بيت المعز، ووافقهم كثير من الأهالى، فلم يمكنهم الأمير سيف الدين القيمازى ومانعهم وردهم عما أرادوا، فلما رجع المعز إلى مصر منصورا قتل جميعهم، ومنهم

ص: 37

الاستدار ناصر الدين اسمعيل بن يغمور، ومنهم أمين الدولة أبو الحسن السامرى، وقد وجد عند هذا بعد قتله كثير من الذهب والفضة والجواهر، ومن النقود ثلاثة آلاف ألف دينار وعشرة آلاف مجلد من الكتب. انتهى.

[الكلام على أجزاء الجيش]

وقوله: وبقى الحرب بين القلبين، اعلم أن العادة من قديم أن يجعل لجيش الحرب ميسرة، وميمنة، وهما الجناحان، وقلب، وساقة، والساقة: هى آخر الجيش، والقلب وسطه وللقلب مقدمة، قال النوارى، والمقريزى: مقدمة القلب تسمى فى دولة الترك: بالجاليش، بالجيم أو الشين، وقال أحمد العسقلانى فى تاريخ مصر: الجاليش، هو: الطليعة، وهم جماعة يتقدمون أمام الجيش لكشف الطريق مثلا، ويقال لهم: اليزكية، ويقال: خرجوا من بلد كذا ليكونوا يزكا، وجعلهم يزكا فى مقابلة الإفرنج مثلا، ويقال: كان يزكه، وطلائعه لا تنقطع، وأصحابه الذين جعلهم يزكا فى مقابلة العدوّ، ويقال: خرج إلى يزكية الملك وحاربهم.

ويستعمل المؤرخون كلمة شاليش فى مقام اليزك تارة، وفى مقام الراية تارة أخرى، قال ابن خلكان: أما دولة الترك إلى هذا العهد بالمشرق، فيتخذون أولا راية واحدة عظيمة وفى رأسها خصلة من شعر يسمونها الشاليش أو الجتر، وقال ابن إياس فى تاريخ مصر: كانت عادة السلاطين المتقدمين إذا سافروا إلى البلاد الشامية أن يعلقوا الشاليش قبل سفرهم بأربعين يوما، وقال فى موضع آخر: إن السلطان الغورى لم يعلق الشاليش على الطبلخاناة كعادة الملوك السابقة، فإنهم كانوا يعلقون الشاليش، ويعرضون العسكر، ثم ينفقون عليهم نفقة السفر، ويستمر الشاليش معلقا إلى أن يخرج السلطان ولو بعد شهرين، وقال المقريزى فى المعنى الآخر: وخرج الشاليش سائرا إلى الشام.

انتهى.

ص: 38

[معنى الكراع]

وقوله: وكراعه إلى آخره، الكراع: على وزن غراب كما فى القاموس فى الأصل: اسم جامع للخيل، ومن البقر، والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس، وهو مستدق الساق، وكراع الغميم موضع على ثلاثة أميال من عسفان، وكراع كل شئ: طرفه، وأنف من الحرة ممتد، وجمع هذا: كرعان كغربان، وجمع ما للبقر، والغنم: أكرع، وأكارع، ثم قال: وأكارع الأرض: أطرافها القاصية، وفى شرح ابن نباتة على ابن زيدون قال: رأيت على باب ملك كراعا من أفراس خراسان، وبغال مصر، وفى شرح التبريزى على الحماسة: الكراع، اسم جامع للخيل، وفى تاريخ العتبى: كراعهم، أى: خيلهم، وفى أمثال الميدانى: يجمعون كراعهم، أى: يريحونها، وفى جغرافية ابن حوقل:

كثرت الماشية من الغنم، والبقر، وسائر الكراع، والنعم، وفى كتاب كمال الدين: ما أعدوا من الرجال والسلاح، والكراع، ويؤخذ من عبارة المقريزى، أنها تستعمل فى ذخيرة الحرب، وفى المثل من المعنى الثانى: إن أعطي العبد كراعا ابتغى ذراعا. ا. هـ ملخصا بعضه من كترمير.

[معنى الإقامات]

والإقامات المارة الذكر، جمع إقامة وهى بمعنى الميرة، ولوازم الإقامة من نحو المطعم، والمشرب، وما يحتاج إليه النازلون، ففى بعض الكتب، يقال:

بعث إليهم بالخلع، والأموال، والإقامات، ويقال: كتب السلطان إلى النواب بالمبالغة فى خدمته وترتيب الإقامات له، ويقال: أقيمت له الإقامات الوافرة من المخزن المعمور، وتلقاه فلان بالإقامات من ناحية كذا إلى كذا، وخرجت الإقامات من الشعير، والدقيق لتوضع فى المنازل، أى أماكن النزول.

ص: 39

[معنى كلمة استادار]

وقال كترمير أيضا نقلا عن التبريزى شارح ديوان المتنبى: ان استادار، كلمة غير عربية، ومعناها فى الأصل: الحاذق فى صنعته، ثم استعملت فى الخصى من الآدميين، وقد تكتب استاد الدار، واستادار، ويقال للجماعة:

استدارية، وهى عند ملوك المشرق على الإطلاق: رتبة من الرتب المعتبرة، وكان ملوك خوارزم يضعون تحت إدارة الاستادار جملة أموال بعضها من الخزنة، وبعضها من المديريات، وتوزع بمعرفته على المخبز والمطبخ، والإصطبلات والخدم، ونحوها بوصلات عليها اثنتا عشرة علامة، مثل علامة الوزير والمشرف (صراف الخزنة) والمفتش والعارض (المأمور بعد العساكر)، وذلك فيما يختص بحشم الملك بخلاف ما يلزم لمصرف السراية فلا يحتاج إلى تلك الوصولات، وقال صاحب مسالك الأبصار، والمقريزى فى ذكر سلاطين مصر من المماليك: كان لاستادار العالية التكلم على جميع السرايات، فيرتب ما يلزم للمطبخ، والمشروبات، والخدم، والغلمان، وكان يمشى فى الأسفار تبع السلطان، ومعه جملة من الغلمان، ويتكلم أيضا على الجاشنكيرية مع أن رئيسهم يساويه فى الرتبة، ويحكم مثله على/مائتين من الرجال، وله أيضا طلب النقود للكسوات ولوازم السرايات، واستمر ذلك إلى زمن السلطان الملك الظاهر برقوق، فقلد الأمير جمال الدين محمود ابن على وظيفة الاستادارية، وأضاف إليه إدارة المالية فى جميع المملكة وما يتعلق بوظيفتى الوزارة وناظر الخاص فكان له التكلم عليهما، وناظر الخاص هو الذى يتكلم على أملاك الملك ودائرته، فصارت وظيفة الاستادارية من حينئذ أعلى الوظائف، حتى وصلت إلى ما كانت عليه الوزارة فى أيام الخلفاء، وقال خليل الظاهرى: إن استادار العالية كان يتكلم على جميع البلاد التى فى ملك السلطان، وكان ايرادها برسم جامكية المماليك والملك، وقال فى كتاب الإنشاء: إن استادار مركبة من كلمتين، استا: ومعناها، الآخذ، ودار: ومعناها، الممسك،

ص: 40

ومعنى المجموع: المتولى لأخذ المال، وقد تكتب ستدار، وصاحبها من المقدمين (الرؤسا) وتحت إدارته مختارون من الطبلخانة والعشرات، وبعض هؤلاء كان يكشف على المأكولات، وبعضهم على الأملاك، وبعضهم على الأشياء المشتراة والمبيعة، ولما تسلطن الملك الظاهر برقوق واشترى كثيرا من المماليك، وجعل لهم قلما مخصوصا وعين لهم بلادا يصرف ايرادها فى جامكياتهم، ويسمى هذا القلم بالديوان المفرد، وجعله تحت نظر استادار العالية، وأضيف إليه أيضا التفتيش على المأكولات وأملاك الملك وغيرها، وفى زمن الناصر فرج أضيف إليه نيابة الوجه البحرى، وعين معه رقيق من المتعممين، ومفتش ينظر فى صرف الأموال والزراعات، وجملة من المباشرين (أمناء النقود)، وأما استادار الصحبة فهو المتحدث على طبخ الأمراق، وهو الذى يطلب من الوزير ما يلزم لسفرة الملك، وتحت إدارته جملة من الطباخين، والمعلمين، والخدامين، والأوانى اللازمة لذلك، ويباشر الملك بالكلام فيما يطبخ، ومعه مشرف للتفتيش على الطباخين، وقال أبو المحاسن: إن الخليفة المكتفى بالله العباسى فى سنة خمسمائة وخمس وثلاثين هجرية، نقل الاستادار مظفر الدين بن محمد إلى الوزارة، قال: وهذه أول مرة سمعت فيها بالاستدارية، وفى سيرة صلاح الدين، وناصر الدين لفظ استادية بغير راء، حيث قيل: استادية الدار العزيزية. انتهى.

وإنما ذكرنا ذلك هنا لما فيه من الفوائد، وقد ذكرنا شيئا مما يتعلق بالرتب فى الكلام على سرياقوس، ولنرجع إلى ما نحن بصدده.

[قتل سيف الدين قطز]

قال المقريزى: ثم فى المحرم سنة 649 هـ، خرج المعز بالأشراف والعساكر، ونزل بالصالحية وأقام بها نحو سنتين والرسل تتردد بينه وبين الناصر، وفيه أن الملك المظفر سيف الدين قطز قتل قريبا من المنزلة الصالحية

ص: 41

يوم السبت منتصف القعدة سنة 657 هـ، قتله الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى فى رجوعه من دمشق يريد مصر بعد انتصاره على التتار، واتفق الأمر على اقامة بيبرس فى السلطنة ولقب بالملك الظاهر ركن الدين أبى الفتح بيبرس البندقدارى الصالحى، وكيفية ذلك على ما ذكره المقريزى فى ترجمة جامع الظاهر: أنه قد وشى بالأمير بيبرس عند السلطان الملك المظفر، فتنكر له وتغير عليه وهم حينئذ بدمشق، فهمّ قطز بالخروج من دمشق إلى ديار مصر وهو مضمر لبيبرس السوء، وعلم بذلك خواصه فبلغ ذلك بيبرس، فاستوحش من قطز وأخذ كل منهما يحترس من الآخر، وينتظر الفرصة، فبادر بيبرس فأوعد الأمير سيف الدين بلبان الرشيدى، والأمير سيف الدين ببدغان الركنى المعروف بسم الموت، والأمير سيف الدين بلبان الهارونى، والأمير بدر الدين انص الأصبهانى، فلما قربوا فى مسيرهم من القصر بين الصالحية والسعيدية عند القرين، انحرف قطز عن الدرب للصيد، فلما قضى منه وطره وعاد والأمير بيبرس يسايره هو وأصحابه، طلب بيبرس منه امرأة من بنى التتار فأنعم عليه بها، فتقدم ليقبل يديه وكانت إشارة بينه وبين أصحابه، فعندما رأوا بيبرس قد قبض على يدى السلطان المظفر قطز، بادر الأمير (يكتون الجوكندار) وضربه بسيف على عاتقه أبانه، واختطفه الأمير انص وألقاه عن فرسه إلى الأرض، ورماه بهادر المغربى بسهم فقتله، وذلك يوم السبت خامس عشر القعدة سنة 658 هـ.

[التتار: نسبهم، ووقائعهم، وجلاهم]

وحيث سبق ذكر التتار، فلا بأس بذكر طرف مما يتعلق بوقائعهم، ونسبهم، وجلاهم وإن كانت مبسوطة فى كثير من كتب التواريخ، قال فى «الروضة الزاهرة فى أخبار مصر وملوكها الفاخرة» ، ما ملخصه: إن إقليم الصين إقليم متسع وله ملك يعرف «بالقان الأكبر» يقيم بمدينة طمغاج، قلت: وهى التى تسميها الإفرنج «بكنج» ، والقان الأكبر عندهم كالخليفة عند المسلمين،

ص: 42

والصين عبارة عن ست ممالك لكل منها ملك، وجميعهم تحت طاعة القان الأكبر، واتفق أن أحد الملوك الستة وهو «دوس خان» تزوج بعمة «جنكز خان» التتارى، فحضر جنكز خان زائرا لعمته وقد مات زوجها، وكان صحبته «كشلو خان» من التتار أيضا، فأعلمتهما: أن الملك لم يخلّف ذكرا، وأشارت على ابن أخيها أن يقوم مقامه، فقام وانضم إليه «كشلو خان» وكثير من الناس ومن أصحاب «دوس خان» ، ثم سيّر التقادم والهدايا إلى القان الكبير فاستشاط/غضبا، وأمر بقطع أذناب الخيل التي أهديت إليه وطردها، وقتل الرسل لكون التتار لم تتقدم لهم سابقة تمليك، وإنما هم بادية الصين.

فلما سمع «جنكز خان» وصاحبه بما حصل، تحالفا على التعاضد وأتتهما أمم كثيرة من التتار، ووقع بينهم وبين القان الكبير ملحمة عظيمة، فكسروا القان الأعظم وملكوا بلاده، وصار الملك بين جنكيز خان وكشلو خان على المشاركة، ثم مات كشلو خان وقام ابنه مقامه فاستضعفه جنكيز خان وظفر به، واستقل بالملك ودانت له التتار، واعتقدوا فيه الالوهية وبالغوا فى طاعته، وفى سنة ست وستمائة هجرية خرج إلى نواحى الترك وفرغانة، فأمر «خوارزم شاه محمد بن تكش» صاحب خراسان أهل فرغانة، والشاش، وكاسان بالإنجلاء عنها إلى سمرقند خوفا من التتار، ثم فى سنة خمس عشرة أرسل جنكيز خان إلى سلطان خوارزم شاه رسلا وهدايا، وعقد معه مودة وصلحا على أن تمر تجار كل من المملكتين في الأخرى، مع الأمن على النفس والمال فأجابه لذلك، وبعد مدة وصل من بلاده تجار وكان خال «خوارزم شاه» ينوب على بلاد ما وراء النهر ومعه عشرون ألف فارس، فشرهت نفسه فى أموال التجار، فكاتب السلطان يقول: إن هؤلاء القوم جاءوا بزى التجار وما قصدهم إلا التجسس، فإن أذنت لى فيهم، فأذن له بالإحاطة بهم، فأحاط بهم وبأموالهم، فوردت رسل جنكيز خان إلى خوارزم شاه، يقول: إنك أعطيت

ص: 43

أمانك التجار فغدرت والغدر قبيح، وهو من سلطان الإسلام أقبح، فإن زعمت أن الذى فعله خالك بغير أمرك فسلمه إلينا، فأمر خوارزم شاه بقتل الرسل، فسار إليه جنكيز خان وحاربه عند مرج همدان وقتله وقتل جميع من معه، وذلك فى سنة سبع عشرة وستمائة، وملك جميع بلاده.

وقال سبط الجوزى: كان أول ظهور التتار بما وراء النهر سنة خمس عشرة، فأخذوا بخارى، وسمرقند، وقتلوا أهلها وحاصروا خوارزم شاه، وبعد ذلك عبروا النهر، وكان خوارزم شاه قد أباد الملوك من مدن خراسان، فلم يجد التتار أحدا في وجههم، فطووا البلاد قتلا وسبيا، وساقوا إلى أن وصلوا همدان، وقزوين فى هذه السنة.

وقال ابن الأثير فى كامله: حادثة التتار من الحوادث العظام، والمصائب الكبرى التى عقمت الدهور عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، واستطار شررها وعم ضررها، فإن قوما خرجوا من أطراف الصين وقصدوا بلاد تركستان، ثم منها إلى بخارى وسمرقند فملكوها وبددوا أهلها، وعبرت طائفة منهم إلى خراسان، ثم إلى الرى وهمدان إلى حد عراق العرب، ثم قصدوا ازربيجان، ودربند شروان، وعبروا من عندها إلى بلاد اللات واللاكن، وملكوا جميع ذلك وقتلوا وأسروا، ثم قصدوا بلاد تفجان، وهم من أكثر الترك عددا فقتلوا من وقف منهم واستولوا عليها، ومضت طائفة أخرى إلى عزما، وسجستان، وكرمان، وفعلوا مثل هؤلاء بل أشد، فإنهم أكثروا من سفك الدماء وهتك المحارم وسلب الأموال، ولم يبق أحد فى البلاد التى تركوها إلا وهو خائف يترقب وصولهم إليه.

وهم لا يحتاجون إلى ميرة، ومددهم يأتيهم ومعهم البقر والأغنام والخيل يأكلون لحومها، ولما دخلت سنة ست وخمسين وستمائة، وصل التتار إلى

ص: 44

بغداد وهم مائتا ألف، فتلقتهم عساكر الإسلام واقتتلوا قتالا عظيما، وقد ابتلى المؤمنون فى ذلك اليوم بلاء حسنا، وكان يوما مشهودا سالت فيه الدماء على وجه الارض، وأنتنت الأرض من قتلى الفريقين، ولم يزل القتال إلى غروب الشمس، ثم انفصل القتال ودخل المسلمون إلى بغداد وباتوا طول الليل يحرسون على الأسوار.

[خيانة «ابن العلقمى» وغدره]

وفى ثالث يوم خرجت عساكر المسلمون، والمقدم عليهم الوزير «ابن العلقمى» فصف الصفوف وانتشرت الرايات، والتقى الجمعان إلى وقت الظهيرة، فعندها انهزمت عساكر المسلمين وولت، وكان السبب فى هزيمتهم أن الوزير «ابن العلقمى» جعل على الجناحين الميمنة والميسرة طائفة من جماعته ومن هو على دينه، وقدمهم على جميع العساكر، وقال لهم: حين يقع القتال ويشتد، ولوا الأدبار ففعلوا، وانكسرت الميمنة أولا، ثم تبعتها الميسرة، وكان ابن العلقمى فى القلب فحين رأى ذلك لوى عنان فرسه وولى الأدبار، فعندها انكسرت قلوب العساكر الإسلامية وولت الأدبار، فتبعتهم التتار وملكوا ظهورهم واستعملوا القتل فيهم كيف شاءوا، ودخلت العساكر المدينة بعدما غرق منهم خلق لا يحصون فى الدجلة، قيل: إنهم حصروا ما قتل وأسر فى ذلك اليوم، فوجدوه مائة وعشرين ألفا، ثم أغلق المسلمون أبواب المدينة وتحصنوا بالأسوار، ولم تزل التتار تقاتلهم أربعين يوما، ثم أن الوزير قال للمعتصم: قد اشتد الأمر على المسلمين، ولا تأمن أن يهجموا على المدينة ليلا فيملكوها ويسفكوا دماء المسلمين، فالأولى أن تخرج إليهم وتعقد بيننا وبينهم صلحا يكون فيه صلاح للمسلمين وحقن دمائهم، فأمره الخليفة بالخروج فخرج ومعه جماعة، واجتمع بالملك «هلاكو قان» ملك التتار، فتوافق معهم على أن ينزل الخليفة إليه ويعقد معه الصلح على نصف خراج العراق،

ص: 45

ويدفع له من المال أربعة آلاف ألف/دينار، فرجع وأعلم الخليفة بذلك، فجمع الأمراء والعلماء وأطلعهم على ما طلب «هلاكو قان» فوافقوه على ذلك، فأمرهم بالخروج معه لينعقد الصلح على أيديهم فخرجوا معه، فلما قربوا ودخلوا فى عسكره حجبوا عن الخليفة كل من معه وبقى فى ثلاث عشرة نفسا، فاضطرب الخليفة وأيقن بالهلاك وعلم أنها مكيدة.

وكان «هلاكو قان» قد أهب عساكره، وقال لهم: حين تروا الخليفة خرج من المدينة بمن معه وقرب منّا تكونون على أهبة رجل واحد واهجموا على المدينة، واقتلوا من لقيتموه ولا ترفعوا السيف عنهم حتى تملكوا المدينة أو يأتيكم أمرى، وكان قد أمر حين وصول الخليفة إليه، أن يمسكوا من كان معه ويضربوا أعناقهم، فقتلوا من كان معه من العلماء والأمراء والأعيان، وكانوا ألفين وسبعمائة ما بين عالم وأمير، وهجمت عساكر التتار على المدينة على حين غفلة، فدخلوها وملكوها وقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والولدان والمشايخ والكهول، ونزل كثير من الناس فى الآبار استخفوا بها، ونهبوا قصر الخليفة وأخرجوا من كان فيه من الجوارى والنساء والحريم، قيل: إنهم وجدوا فيه ألف بنت بكر، واستولوا على جميع ما كان فيه، وبقيت المدينة أربعين يوما خاوية على عروشها ليس بها إلا القليل من الناس والقتلى فى الطرقات كالتلول، وأنتنت البلد من جيفهم وتغير الهواء وحصل الوباء الشديد، ونقل «السيوطى» أن «هلاكو قان» أمر بجمع الأطفال من البنات والغلمان فى جامع المنصور فغلق عليهم أبواب المسجد، ثم أمر بالحطب فألقى عليهم وأحرقوهم بالنار، ثم بعد ذلك بأربعة عشر يوما نادى بالأمان، فخرج من كان تحت الأرض فى الآبار والمطامر، وقيل: إن من قتل من بنى العباس يزيدون على ثمانمائة نفس، ويقال: إن الخليفة «المستعصم» داسته الخيل بحوافرها فلم يوجد له أثر، وأمر «هلاكو قان» بهدم سور المدينة، وإحراق المساجد وقصور الخلفاء والأسواق، ومكثت النار فى بغداد تأكل فى دورها وقصورها ومساجدها

ص: 46

نحو ثلاثين يوما، وصار غالبها تلولا وكيمانا، قال «تقى الدين بن أبى بسر» يرثى بغداد:

لسائل الدمع عن بغداد أخبار

فما وقوفك والأحباب قد ساروا

يا زائرين إلى الزوراء لا تفدوا

فما بذاك الحمى والدار ديار

تاج الخلافة والربع الذى شرفت

به المعالم قد أعفى واقفار

أضحى لعطف البلا فى عصفه أثر

وللدموع على الآثار آثار

يانار قلبى من نار الحرب وغى

شبت عليه ووافى الربع إعصار

علا الصليب على أعلى منابرها

وقام بالأمر من يحويه زنار

وكم حريم سبته الترك غاصبة

وكان من دون ذاك الستر أستار

وكم بدور على البدرية انخسفت

ولم يعد لبدور منه ابدار

وكم ذخائر أضحت وهى شائعة

من النهاب وقد حازته كفار

وكم حدود أقيمت من سيوفهم

على الرقاب وحطت منه أوزار

ناديت والسبى مهتوك تجرهم

إلى السفاح من الأعداء ذعار

[نبذة تاريخية عن بغداد]

وقد كانت بغداد من أعظم المدائن وأحسنها، ولم تزل دار السلام تنتقل إليها الناس من الأقاليم وتسكنها إلى أن صارت فى زمن الخليفة «المتوكل» مدينة ليس على وجه الأرض مثلها، واستمرت فى عز واقبال وشرف على جميع البلاد، ومثوى كل خائف ومستقر كل عارف إلى سنة خمسين وستمائة فى خلافه «المستعصم بالله» آخر الخلفاء العباسيين، فدمرها التتار وأزالوا معالمها، وكان ابتداء بناء مدينة بغداد فى سنة أربعين ومائة من الهجرة، بناها «أبو جعفر المنصور» ثانى خلفاء بنى العباس فى الجانب الغربى من الدجلة، وأنفق عليها أموالا جزيلة، حتى قيل: إنه أنفق على البناء أربعة آلاف ألف

ص: 47

ألف دينار، ونقل إليها أبواب مدينة «واسط» ، وبنى بها قصرا عظيما، فبين عمارتها وخرابها بالتتار خمسمائة سنة وعشر سنين.

[سبب انهيار بغداد]

وكان السبب فى قصد التتار إياها وتخريبها هو «مريد الدين العلقمى الرافضى» وزير المعتصم كما سبق، كان المعتصم ركن إليه وفوض إليه أمور دولته، فأهلك الحرث والنسل ولعب بالخليفة كيف أراد، وكاتب التتار وناصحهم وأطمعهم فى المجئ إلى العراق وأخذ بغداد وقطع الدولة العباسية ليقيم خليفة من آل على بن أبى طالب، فصار إذا جاءه خبر من التتار كتمه على الخليفة، ويطلعهم على أخبار الخليفة، وهم جائلون فى البلاد شرهم يتزايد والخليفة فى غفلة عما/يراد به، تائه فى لذاته، وكان أبوه المستنصر قد استكثر من الجند جدا، ومع ذلك يصانع التتار ويهاديهم، فأشار الوزير على المعتصم بقطع أكثر الجند، وأن المصانعة يحصل بها المقصود ففعل، ثم كاتب الوزير التتار وأطمعهم فى البلاد وكان حريصا على إزالة الدولة العباسية ونقلها إلى العلوية، وواعدوه أن يكون نائبا عنهم وقصدوا بغداد فكان ما ذكرنا بعضه، ثم ان «هلاكوقان» رحل عن بغداد وفوض أمرها إلى الأمير «بهادر» وأرسل إلى الملك «الناصر» صاحب دمشق ومصر كتابا صورته:

«يعلم سلطان ملك ناصر طال بقاه أنه لما توجهنا إلى العراق خرج إلينا جنودهم فقتلناهم بسيف الله، ثم خرج إلينا رؤساء البلد ومقدموها فكان قصارى كلامهم سببا لهلاك نفوس تستحق الإذلال، وأمّا ما كان من صاحب البلد فإنه خرج لخدمتنا ودخل تحت عبوديتنا، فسألناه عن أشياء فكذبنا فيها فاستحق الإعدام، وكان كذبه ظاهرا ووجدوا ما عملوا حاضرا، أجب ملك البسيطة ولا تقولن قلاعى المانعات ورجالى القاتلات، وقد بلغنا أن شذرة من العساكر التجأت إليك هاربة، وإلى جنابك لائذة، أين المفر ولا مفر لهارب ولنا

ص: 48

البسيطان الثرى والماء، فساعة وقوفك على كتابنا تجعل قلاع الشام سماءها أرضا وطولها عرضا والسلام»

ثم أرسل له كتابا ثانيا يقول فيه:

«خدمة ملك ناصر طال عمره أما بعد فإنا فتحنا بغداد واستأصلنا ملكها وملكها وكان ظن وقد ضن بالأموال ولم ينافس فى الرجال أن ملكه يبقى على ذلك الحال وقد علا ذكره ونما قدره فخسف فى الكمال بدره:

إذا تم أمر بدا نقصه

ترقب زوالا إذا قيل تم

ونحن فى طلب الازدياد على ممر الآباد، فلا تكن كالذين نسوا الله فانساهم أنفسهم وأبد ما فى نفسك، إما إمساك بمعروف أو تسريح باحسان، أجب دعوة ملك البسيطة تأمن شره وتنل بره، واسع إليه برجالك وأموالك ولا تعوق رسلنا والسلام»

ثم أرسل إليه كتابا ثالثا يقول:

«أما بعد فنحن جنود الله بنا ينتقم ممن عتا وتجبر وطغى وتكبر وبأمر الله ما ائتمر وإن عوتب تنمر وإن روجع استمر، ونحن قد أهلكنا البلاد وأبدنا العباد وقتلنا النسوان والأولاد، فيا أيها الباقون أنتم بمن مضى لاحقون، ويا أيها الغافلون أنتم إليه تساقون، ونحن جيوش الهلكة لا جنود المملكة مقصودنا الانتقام وملكنا لا يرام ونزيلنا لا يضام، وعدلنا فى ملكنا قد اشتهر ومن سيوفنا أين المفر، ولا مفر لهارب ولنا البسيطان الثرى والماء، ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت فى قبضتنا الأمراء والخلفاء ونحن إليكم صائرون ولكم الهرب وعلينا الطلب.

ستعلم ليلى أى دين تداينت

وأى غريم بالتقاضى غريمها

مكتبة الأسرة - 2008

ص: 49

دمرنا البلاد وايتمنا الأولاد وأهلكنا العباد وأذقناهم أليم العذاب والنكاد، وجعلنا عظيمهم صغيرا وأميرهم أسيرا، يحسبون أنهم منا ناجون أو متخلصون، وعن قليل سوف تعلمون علام تقدمون، وقد أعذر من أنذر».

ثم فى سنة سبع وخمسين وستمائة كان صاحب مصر «المنصور على ابن المعز» صبيا، والأمير «سيف الدين قطز المعزى» مملوك أبيه، وقدّم «الصاحب كمال الدين بن العديم» إليهم رسولا يطلب النجدة على التتار، فجمع قطز الأمراء والأعيان، وحضر الشيخ «عز الدين بن عبد السلام» وكان هو المشار إليه فى الكلام، فقال: إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم، بشرط أن لا يبقى فى بيت المال شئ، وأن تبيعوا ما لكم من الحوائص والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، ثم بعد أيام قبض «قطز» على أستاذه المذكور، وقال: هذا صبى والوقت صعب ولا بد أن يقوم رجل شجاع ينتصب للجهاد، وتسلطن «قطز» ولقب بالملك المظفر، وخرج بجيوشه فى شعبان سنة ثمان وخمسين إلى الشام لقتال التتار وجاويشه «ركن الدين بيبرس البندقدارى» ، وكان التتار قد قطعوا الفرات وجاسوا ديار بكر والموصل وقتلوا ونهبوا وأخربوا، فالتقى الجمعان عند عين جالوت يوم الجمعة خامس عشر رمضان، وأمر المظفر أن يحملوا عند الزوال حملة رجل واحد بالسيوف، والمسلمون على منابرهم يدعون لنا بالظفر، وكان عسكر المسلمين عشرين ألفا، والتتار لا يحصى لهم عدد، ووقع القتال بينهم وكان يوما مشهودا، وصبر المسلمون صبر الكرام وباعوا أنفسهم لله، ولم يزل السيف يعمل بينهم حتى سالت الدماء على وجه الأرض، ولله در «ركن الدين بيبرس» قد فعل الأفاعيل العظيمة يقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة، والملك المظفر يحرض المؤمنين على القتال، وقد سل سيفه وقاتل قتالا شديدا، وألقى الله الصبر على المسلمين

ص: 50

ونصرهم نصرا عزيزا، وانهزمت التتار هزيمة/شنيعة وقتل منهم مقتلة عظيمة، حتى امتلأت الأرض من القتلى، وطمع المسلمون فيهم فجعلوا يتخطفونهم وينهبونهم ويأسرونهم وهم منهزمون مولون الأعقاب، وساق «بيبرس» وراءهم يقتل ويأسر حتى أخرجهم عن بلاد حلب والموصل وديار بكر إلى أن عدّوا الفرات، وجاء كتاب المظفر إلى دمشق بالنصر والظفر، فطار الناس فرحا وسرورا، ثم دخل إلى دمشق فى موكب عظيم، والناس تدعو له بطول البقاء، والنسوة تزغرد من كل جانب، وقد انتشرت فوق رأسه الأعلام وأحبه الخلق جميعا ومدحته الشعراء، فمن ذلك قول الشاعر:

غلب التتار على البلاد فجاءهم

من مصر تركى يجود بنفسه

بالشام أهلكهم وبدد شملهم

ولكل شئ آفة من جنسه

[صفات التتار ونهجهم]

والتتار أمة لغتهم مشوبة بلغة الهند لأنهم فى جوارهم، وهم بالنسبة إلى الترك عراض الوجوه واسعو الصدور خفاف الأعجاز صغار الأطراف، سمر الألوان سريعو الحركة فى الجسم والرأى، تصل اليهم أخبار الأمم ولا تصل أخبارهم إلى الأمم، وقلما يقدر جاسوس أن يتمكن منهم، لأن الغريب لا يشتبه بهم، وإذا أرادوا جهة كتموا أمرهم ونهضوا دفعة واحدة فلا يعلم أهل بلد حتى يدخلوه، ولا عسكر حتى يخالطوه، فلهذا تنسد على الناس طرق الحيل، ويضيق طريق الهرب، ونساؤهم يقاتلن معهم، والغالب على سلاحهم النشاب، وليس فى قتلهم استثناء ولا إبقاء، يقتلون الرجال والنساء والأطفال، وكان قصدهم إفناء العالم لا الملك والمال، وبلادهم بأطراف بلاد الصين، وهم سكان برار وقفار، ومشهورون بالشر والغدر. انتهى.

وفى خطط المقريزى أنه فى زمن السلطان الملك الظاهر أبى سعيد برقوق ابن أنصو، وسلطنة ابنه الملك الناصر زين الدين أبى السعادات فرج، كانت

ص: 51

فتن وشرور وغلاء ووباء كثير، وقد طرق بلاد الشام فيها الأمير تيمور لنج، فخربها كلها وحرقها وعمها بالقتل والنهب والأسر، حتى فقد منها جميع أنواع الحيوانات، وتمزق أهلها فى جميع أقطار الأرض، ثم دهمها بعد رحيله عنها جراد لم يترك بها خضراء، فاشتد بها الغلاء على من تراجع إليها من أهلها فشنع موتهم، واستمرت بها مع ذلك الفتن وقصر مدّ النيل حتى شرقت الأراضى إلا قليلا، فباع أهل الصعيد أولادهم من الجوع، وصاروا أرقاء مملوكين، وشمل الخراب الشنيع عامة أرض مصر وبلاد الشام من حيث يصب النيل من الجنادل إلى حيث مجرى الفرات. انتهى.

ونقل «دساسى» عن كتاب «السلوك» لتقى الدين المقريزى من حوادث سنة ست وتسعين وسبعمائة، صورة كتاب أرسله تيمور لنج إلى ملك مصر الظاهر برقوق يتضمن الإرعاد والإبراق، وتنكر قتل رسله، لا بأس بايراده هنا لما فيه من الفائدة مع مناسبته لرسائل هلاكوقان المارة، ونصه:

{قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}

(1)

.

اعلموا انا جند الله مخلوقون من سخطه مسلطون على من حلّ عليه غضبه، لا نرق لشاك ولا نرحم لباك، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا فالويل ثم الويل لمن لم يكن من حزبنا، ومن جهتنا قد خربنا البلاد وأيتمنا الأولاد وأظهرنا فى الأرض الفساد، وذلت لنا أعزتها وملكنا بالشوكة أزمتها فإن خيل ذلك على السامع وأشكل، وقال فيه إنه عليه مشكل، فقل له إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وذلك لكثرة عددنا وقوة بأسنا، فخيولنا سوابق ورماحنا خوارق وأسنتنا بوارق وسيوفنا صواعق وقلوبنا كالجبال

(1)

سورة الزمر آية (46).

ص: 52

وجيوشنا كعدد الرمال ونحن أبطال وأقيال، وملكنا لا يرام وجارنا لا يضام وعزنا أبدا بالسؤدد مقام، فمن سالمنا سلم ومن رام حربنا ندم، ومن تكلم فينا بما لا يعلم جهل، وأنتم إن أطعمتم أمرنا وقبلتم شرطنا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أنتم خالفتم وعلى بغيكم تماديتم فلا تلوموا إلا أنفسكم، فالحصون منا مع تشييدها لا تمنع، والمدائن بشدتها لقتالنا لا ترد ولا تدفع، ودعاؤكم علينا لا يستجاب فينا ولا يسمع، وكيف يسمع الله دعاءكم وقد أكلتم الحرام وضيعتم جميع الأنام، وأخذتم أموال الأيتام وقبلتم الرشوة من الحكام، وأعددتم لكم النار وبئس المصير، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}

(1)

، فلما فعلتم ذلك أوردتم أنفسكم موارد المهالك وقد قتلتم العلماء وعصيتم رب الأرض والسماء، وأرقتم دم الأشراف وهذا والله هو البغى والإسراف، فأنتم بذلك فى النار خالدون وفى غد ينادى عليكم اليوم تجزون عذاب الهون، بما كنتم تستكبرون فى الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون، فأبشروا بالمذلة والهوان يا أهل البغى والعدوان، وقد غلب عندكم أننا كفرة وثبت عندنا أنكم والله الكفرة الفجرة، وقد سلطنا عليكم إله له أمور/، مقدرة وأحكام مدبرة، فعزيزكم عندنا ذليل وكثيركم لدينا قليل، لأننا ملكنا الأرض شرقا وغربا وأخذنا منها كل سفينة غصبا، وقد أوضحنا لكم الخطاب فأسرعوا برد الجواب قبل أن ينكشف الغطاء وتضرم الحرب نارها وتضع أوزارها، وتصير كل عين عليكم باكية وينادى منادى الفراق هل ترى لهم باقية، ويسمعكم صارخ الفناء بعد أن يهزكم هزا هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ذكرا، وقد أنصفناكم إذ راسلناكم، فلا تقتلوا المرسلين كما فعلتم بالأولين فتخالفوا كعادتكم سنن الأولين، وتعصوا رب العالمين فما على الرسول إلا البلاغ المبين، وقد أوضحنا لكم الكلام فأسرعوا برد جوابنا والسلام».

(1)

سورة النساء آية (10).

ص: 53

فكتب جوابه بعد البسملة: {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ}

(1)

، حصل الوقوف على ألفاظكم الكفرية ونزغاتكم الشيطانية، وكتابكم يخبرنا عن الحضرة الجنابية وسيرة الكفرة الملوكية، وأنكم مخلوقون من سخط الله ومسلطون على من حل عليه غضب الله، وأنكم لا ترقون لشاك ولا ترحمون عبرة باك، وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم فذلك أكبر عيوبكم، وهذه من صفات الشياطين لا من صفات السلاطين، وتكفيكم هذه الشهادة الكافية وبما وصفتم به أنفسكم ناهية، {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ}

(2)

، ففى كل كتاب لعنتم وعلى لسان كل مرسل نعتم، وبكل قبيح وصفتم وعندنا خبركم من حين خرجتم أنكم كفرة، ألا لعنة الله على الكافرين، من يتمسك بالأصول فلا يبالى بالفروع، نحن المؤمنون حقا لا يدخل علينا عيب ولا يضرنا ريب، القرآن علينا نزل وهو سبحانه بنا رحيم لم يزل، فتحققنا نزوله وعلمنا ببركته تأويله، فالنار لكم خلقت ولجلودكم أضرمت، إذا السماء انفطرت، ومن أعجب العجب تهديد الرتوت بالتوت، والسباع بالضباع، والكماة بالكراع، نحن خيولنا برقية وسهامنا عربية، وسيوفنا يمانية وليوثنا مضرية، والقنا شديدة المضارب وصفتنا مذكورة فى المشارق والمغارب، إن قتلناكم فنعم البضاعة وإن قتل منا أحد فبينه وبين الجنة ساعة، {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}

(3)

.

(1)

سورة آل عمران آية 26.

(2)

سورة الكافرون الأيات 1 - 6.

(3)

سورة آل عمران آيه 169 - 171.

ص: 54

وأما قولكم قلوبنا كالجبال وعددنا كالرمال، فالقصاب لا يبالى بكثرة الغنم وكثير الحطب يفنيه القليل من الضرم، ف {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ}

(1)

، الفرار من الرزايا وحلول البلايا، واعلموا أن هجوم المنية عندنا غاية الأمنية، إن عشنا سعداء وإن قتلنا شهداء، ألا إن {حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ}

(2)

، أبعد أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين، تطلبون منا طاعة لا سمع لكم ولا اطاعة، وطلبتم أن نوضح لكم أمرنا قبل أن يكشف الغطاء ففى نظمه تركيك وفى سلكه تبنيك، لو كشف الغطاء لبان القصد بعض بيان، أكفر بعد إيمان أم اتخذتم الها ثان، وطلبتم من جهلكم وغيكم أن نتبع رأيكم، {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا * تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا}

(3)

، قل لكاتبك الذى رصع رسالته ورصف مقالته: وصل كتابك كصرير باب أو كطنين ذباب، كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول إن شاء الله، {وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}

(4)

والسلام. انتهى.

والمراد بالرتوت الرؤساء، قال فى القاموس: الرت: الرئيس، والجمع رتات ورتوت، والرتوت أيضا: الخنازير، وقال أيضا: التوت بالضم: الفرصاد انتهى وهو الشجر المعروف أو حمله.

[المعركة بين أبى الدهب وعلى بك الكبير]

وفى تاريخ الجبرتى أنه كان عند الصالحية وقعة بين محمد بك أبى الدهب وعلى بك الكبير فى سنة سبع وثمانين ومائة وألف، وذلك أن على بك بعد أن توجه إلى الشام واجتمع بأولاد الظاهر، جيش جيشا وجاء به إلى مصر،

(1)

سورة البقرة آية 249.

(2)

الآية: «

فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ» المائدة/ 56.

(3)

سورة مريم الآية 89 - 90.

(4)

سورة الشعراء آية 227.

ص: 55

فبلغ ذلك محمد بك فتهيأ للقائه ومحاربته وأبرز خيامه إلى جهة العادلية ونصب الصيوان الكبير هناك، وهو صيوان صالح بك فى غاية من العظم والاتساع والعلو، وجميعه بدوائر من جوخ صاية وبطانته بالأطلس الأحمر، وطلائعه وعساكره من نحاس أصفر مموّه بالذهب، فأقام يومين حتى تكامل خروج العسكر، فارتحل فى خامس صفر فالتقى مع جيش على بك بالصالحية وتحاربا فكانت الهزيمة على (على بك) وسقط عن جواده، فاحتاطوا به وحملوه إلى خيام محمد بك، فخرج إليه وتلقاه وقبل يده وحمله من تحت إبطه حتى أجلسه بصيوانه، وفى صبح يوم السبت حضر إلى مصر، وأنزل أستاذه فى منزله بالأزبكية بدرب عبد الحق، وكان قد انجرح فى وجهه فأجرى عليه الأطباء فلم ينجع فيه ذلك ومات بعد سبعة أيام، وقيل: إنه سم فى جراحاته. انتهى.

وقد ذكرنا ترجمته فى الكلام على منية ابن خصيب.

(صحراء عيذاب)

بكسر العين المهملة وبالذال المعجمة وآخره موحدة كما فى القاموس، هذه الصحراء فى الصعيد الأعلى/واقعة فى جهة النيل الشرقية، بين مدينتى قفط والقصير، وهى الآن على ما كانت عليه فى الأزمان الماضية مسكونة بالعرب، وأول من حول طريق التجارة إليها بطليموس فيلود ولفوس سنة 320 قبل الميلاد، فكانت فى زمنه وزمن من أعقبه من البطالسة هى الطريق المطروق لتجارة الهند إلى الديار المصرية والأروباوية، ولم يتغير هذا الطريق فى زمن قياصرة الروم، إلا أن أهمية التجارة كانت تزيد وتنقص على حسب الأحوال السياسية، ولأجل أن يأمن أهل التجارة على أنفسهم وأموالهم من غائلة العرب، جعل بطليموس فى جميع هذه الطريق عمارات ومخازن

ص: 56

للبضاعة، وحفر فى كل منها بئرا معينة، ورتب خفراء لحفظ المارّين، وبنى على البحر الأحمر مدينة سماها باسم والدته بيرنيس، وبقيت المحافظة فيها زمن الرومانيين، وتلك الطريق كانت تصل من قوص أو من قفط إلى القصير القديم، وقد استدل فى هذه الأزمان على ما كان فيها من المحطات، وأن قدرها اثنتا عشرة محطة، كل منها عبارة عن بناء مربع الشكل ضلعه من أربعين مترا إلى خمسين، وارتفاعه من أربعة أمتار إلى خمسة، وفى زواياها أبراج سمك حيطانها ثلاثة أمتار، وفى داخل كل منها فضاء متسع فى مركزه بئر مستديرة، وحول الفضاء من جهاته الأربع أود صغيرة يفصلها دهليز صغير، وبين كل محطة وأخرى مسيرة ثلاث ساعات.

وفى خطط المقريزى أن حجاج مصر والمغرب أقاموا زيادة عن مائتى سنة لا يتوجهون إلى مكة المشرفة إلا من صحراء عيذاب، ثم قال: إن هذه الصحراء لم تزل عامرة آهلة بما يصدر عنها ويرد إليها من قوافل التجارة والحجاج إلى سنة ستين وستمائة، فى زمن الخليفة المستنصر، فانقطع الحج من البر إلى أن كسا السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى الكعبة وعمل لها مفتاحا، وأخرج قافلة الحجاج من البر، فسلك الحجاج هذه الصحراء على قلة، واستمرت بضائع التجارة تحمل من عيذاب إلى قوص، حتى بطل ذلك سنة ست وستين وسبعمائة، وتلاشى أمر قوص من حينئذ.

وهذه الصحراء مسافتها من قوص إلى عيذاب سبعة عشر يوما، ويفقد منها الماء ثلاثة أيام أو أربعة متوالية، وعيذاب مدينة على ساحل بحر جدة أكثر بيوتها أخصاص، وكانت من أعظم مراسى الدنيا بسبب أن مراكب الهند واليمن تحط فيها البضائع، وتقلع منها مع مراكب الحجاج الصادرة والواردة، فلما انقطع ورود المراكب إليها، صارت عدن هى المينا العظيمة من بلاد

ص: 57

اليمن، واستمرت على ذلك إلى عام بضع وعشرين وثمانمائة، فصارت جدة أعظم المراسى إلى آخر ما قاله المقريزى، وسيأتى الكلام على عيذاب، وقيل: إن عيذاب فى محل بيرنيس التى هى فى آخر حدود هذه الصحراء، وذكر بعض الجغرافيين من الأروام، أن المسافة بين قوص وبيرنيس اثنا عشر يوما.

وفى خطط (أنطونان) أن مدينة بيرنيس على موازاة مدينة أسوان، وقسم الطريق الموصلة إليها إلى اثنى عشر يوما، وجعل طولها مائتى ألف خطوة وثمان وخمسين ألف خطوة، وجعلها غيره مائتى ألف وأحدا وسبعين ألف خطوة وفى مؤلفات (بلين) أن هذا البعد مائتان وثمانية وخمسون ميلا، وذكر بعضهم أن أقرب بعد بين قوص والبحر الأحمر أربعون ساعة بسير الجمل، وقدر الساعة ألفان وأربعمائة تؤازة، وذلك عبارة عن ألفين وخمسين استاده مصرية أو مقدونية، وباعتبار أن الميل ثمان غلوات كما اعتبره (بلين)، تكون هذه المسافة عبارة عن مائتين وستة وخمسين ميلا، وهو لا يزيد عما قدره (بلين) غير ميلين، وهو فرق يسير، فاستدل بذلك على أن مدينة القصير القديمة هى بيرنيس، وقد سبق الكلام على بيرنيس وهاك أسماء المحطات وأبعادها مبتدأة من قفط:

أسماء المحطات استادة

بينيكون 192

ديديم 192

افرديتو 160

كومبازى 176

جوفيس 184

أرسنويس 240

ص: 58

أسماء المحطات استادة

فلاجروا 240

أبولونوس 192

كابالسى 192

ستون ادروما 256

بيرونيس 134

2158

وفي سنة 1816 ميلادية استكشف السياح (كابو) الطريق القديم بين قفط وجبل الزمرد وبيرنيس، حين استخدمه العزيز المرحوم محمد على لكشف معدن الزمرد، وقد سافر إليه مرتين متعاقبتين، واستخدم فيه الشغالة واستخرج منه بعض أحجار وعرضها على العزيز، ثم انقطع العمل بسبب كثرة المصاريف، وفى رحلة السياح المذكور، ان جبل الكبريت على بعد أربع ساعات من البحر الأحمر، بقرب واد يعرف بوادى السيال لكثرة شجر السيال فيه، وهو واد يمتد إلى قرب رأس فى البحر تعرف برأس الأنف، وجبل الكبريت فى عرض أربع وعشرين درجة وخمس وعشرين دقيقة مع طول ثلاثين درجة وخمسين دقيقة، وهو فى جنوب القصير الجديد على بعد ستين فرسخا، عبرة كل خمس وعشرين فرسخا درجة أرضية، وبين النيل والجبل المذكور ستة وخمسون فرسخا، ويسير الإبل ثلاث وستون ساعة، والجمل يقطع فى الساعة الواحدة ستة أسباع فرسخ بالسير المعتاد، وهو مع الحط والنزول المعتادين لا يزيد عن تسع ساعات فى اليوم، فيكون سيره فى اليوم سبعة فراسخ ونصف فرسخ، قال السياح المذكور: ومن قرية الرادسية الواقعة فى جنوب إدفو إلى جبل الزمرد المعروف عند العرب (بجبل زبادة) اثنتان وخمسون

ص: 59

ساعة، ومن جبل الكبريت إلى جبل الزمرد اثنتان وعشرون ساعة، وبين جبل الزمرد والبحر سبعة فراسخ ونصف، وبينه وبين القصير خمسة وأربعون فرسخا، ومن مدينة قفط إلى مدينة بيرنيس القديمة مسيرة سبعة عشر يوما، وهى طريق معروفة للعرب موصلة إلى جبل الزمرد.

ويتفرع من هذه الطريق طريقان يسلكهما المغاربة وأهل الواحات وغيرهم فى التوجه إلى القصير.

وهناك طريق ثالث من جبل الزمرد إلى القصير، وبين الرادسية ومعدن الزمرد عينا ماء، الأولى على بعد أربعة فراسخ من النيل، والثانية على بعد اثنين وعشرين فرسخا منه، وبقرب العين الأخيرة يوجد على الصخور نقوش مصرية قديمة، ومن هذا الموضع يحمل المسافر ما يحتاج إليه من الماء.

ويوجد فى الطريق آثار ثلاث محطات قديمة، وعلى بعد ثلاثة عشر فرسخا من النيل معبد قديم نقوشه ومبانيه فى غاية الحفظ، وموضعه بين الشرق والجنوب الشرقى من مدينة ادفو، ويوجد عند جبل الزمرد آثار مدينتين تسميهما العرب: بندر الصغير، وبندر الكبير (وربما كانت المدينة التى سماها كل من المسعودى، والمقريزى بالخربة، هى إحدى هاتين المدينتين)

والمسافر من جبل الزمرد يتبع فى سيره الجنوب الشرقى حتى يصل إلى خراب مدينة برنيس. انتهى.

وقال الشريف الإدريسى: إن من المدن الموجودة فى الإقليم الخامس، مدينة عيذاب، وهى موضوعة على ساحل بحر القلزم، وإليها تنسب الصحراء المجاورة لها، ولم يكن لها طرق معروفة بل كان الناس يهتدون فى سفرهم بالجبال، وفى كثير من المواضع لا يكون للقوافل دليل إلا النجمة القطبية، والشمس، وعادة المتوجه إلى جدة أن يسافر من عيذاب، وعرض البحر من

ص: 60

هذا الموضع يوم وليلة، وفى عيذاب حاكمان، أحدهما من طرف رئيس البجة، والآخر من طرف حاكم الديار المصرية، وكان ما يتحصل من هذه المدينة يقتسمانه مناصفة، وكان يجلبان اليها مناصفة أيضا كل ما يلزم لمؤنة أهلها، وكانت عادة الأمير البجوى الإقامة فى الصحراء ولا يدخل المدينة إلا نادرا، وكان أهل عيذاب ينتقلون فى أرض البجاة للتجارة، ويجلبون منها الزبيب والعسل واللبن، ولهم عدة مراكب لصيد السمك، وكان يؤخذ هناك من حجاج بلاد المغرب عوائد، كل نفر عشرة دنانير، وكانت الدنانير تارة تكون قطعا من الذهب، وتارة معاملة مضروبة.

وفى سنة ست عشرة وسبعمائة، منع عرب عيذاب رسل أمير اليمن، ونهبوا ما معهم من البضاعة، فأرسل اليهم سلطان الديار المصرية ستمائة من العساكر تحت إمرة الأمير (علاء الدين مغلطاى)، فتوجه من قوص فى المحرم سنة سبع عشرة، وسار فى صحراء عيذاب ثم أخذ فى طريق سواكن، فتقابل مع قوم من الحبشة يعرفون بالكيكيا، عدتهم نحو الألفين راكبين على هجن وسلاحهم النشاب والحراب ومعهم كثير من المشاة العراة، فحين اصطدم الفريقان انهزم الحبشة، وولوا بعد أن قتل منهم عدد كثير، ثم سار العسكر نحو الأبواب ومنها إلى ناحية دنقلة، ثم عدلوا إلى طريق القاهرة فوصلوها فى اليوم التاسع من شهر جمادى الثانية بعد ثمانية أشهر من وقت الرحيل.

وفى كتاب السلوك للمقريزى: أنه فى سنة تسع عشرة وسبعمائة وصل الخبر بأن العرب حصل منهم إغارات كثيرة فى ضواحى عيذاب، وقتلوا حاكم المدينة، فأرسل اليهم السلطان جملة من الأمراء من ضمنهم الأمير (عكوش) الذى كان مأمورا بالإقامة فى المدينة، وفى مبدأ الإسلام كانت جزيرة (دهلك) محلا لنفى المغضوب عليهم، كما يؤخذ من كلام مؤرخ مدينة دمشق حيث

ص: 61

قال: إنه فى سنة مائة هجرية أراد (عمر بن عبد العزيز) إرسال (يزيد بن المهلب) لنفيه فيها.

وفى كتاب السلوك أيضا: أنه فى سنة اثنتين وستين/وستمائة، ورد الخبر بأن ملك جزيرة دهلك وملك جزيرة (سواكن)، يستوليان على تركات من مات من التجار، فأرسل إليهما السلطان يهددهما على هذه الفعال، وفى سنة أربع وستين وستمائة، ورد من حاكم مدينة قوص خطاب بأنه وصل إلى عيذاب، وأنه يريد التوجه منها إلى (سواكن)، فلما وصلها تبين له أن ملكها قد فر هاربا فرجع بالعساكر إلى مدينة قوص، بعد أن مهد الأمور بناحية سواكن وترك فيها عساكر للمحافظة، وفى سنة ثمانين وستمائة حصل فى صحراء عيذاب بين عرب (رفاعة) وعرب (جهينة) قتال مات بسببه من الفريقين خلق كثير، فكتب السلطان إلى الشريف «علم الدين» أمير سواكن بالتوسط بين الفريقين بدون أن يميل مع أحد منهم، لأنه يخاف من طول الحرب انقطاع الطرق.

وفى سنة خمس وتسعين وسبعمائة، وصل إلى القاهرة رسل من طرف ملك (دهلك) ومعهم هدية للسلطان، فيها عدة أفيال وزرافات، وجملة من العبيد والأشياء النفيسة.

قلت: وكان اشتمال الهدايا على الزرافات من عوائد ملوك المشرق. قال (كترمير) نقلا عن كتاب السلوك ما معناه: كثيرا ما يوجد هذا الحيوان فى هدايا ملوك المشرق، ففى سيرة الملك (الظاهر بيبرس البندقدارى)، أن الزرافة كانت من ضمن ما أهداه إلى ملك الألمانيا فى سنة ست وستين وستمائة، وفى السنة التالية لها أرسل عدة زرافات إلى (بركة خان) ملك كبجك، ولما عقد الصلح بين السلطان بيبرس وملك النوبة سنة أربع وسبعين، قرر على ملك

ص: 62

النوبة فيما قرر عليه كل سنة ثلاثة أفيال ومثلها زرافات وخمسا من إناث النمورة.

وفى سنة خمس وثمانين وستمائة، حضر رسول صاحب بلاد الأبواب الواقعة خلف بلاد النوبة ومعه هدية إلى السلطان (قلاوون) فيها خمسة أفيال وزرافة. وفى سنة إحدى واربعين وسبعمائة أرسل سلطان مصر إلى صاحب (ماردين) هدية فيها فيل وزرافة وأربع من إناث النمورة، وذكر (ابن خلدون) أن الزرافة كانت من ضمن هدية مرسلة من طرف صاحب المغرب إلى ملك مالى، وذكر (المقريزى) أنه فى سنة خمس وسبعين وسبعمائة جاءت هدية من طرف صاحب دهلك إلى سلطان مصر، فيها فيل وزرافة وعدد كثير من الرقيق ذكورا وإناثا.

وفى سنة ست وثمانمائة أرسل ملك مصر إلى (تيمورلنج) هدية فيها زرافة، وقد شاهدها أحد السياحين الأندلسيين فى الطريق، وقال: إن جسمها قدر جسم الحصان، ومن ظلف يدها إلى أعلى كتفها ستة عشر بلم (قبضة)، ومثل ذلك من ابتداء الأضلاع إلى آخر الرأس، وإذا مدت رقبتها وصلت إلى أعلى الشجرة، ولقصر رجليها جدا ترى كأنها قاعدة على مؤخرها، ومؤخرها كمؤخر الجاموس ذات بطن أبيض وجسم بلون الذهب مع تخطيط بالبياض، ورأسها يشبه رأس الإبل، وطاقات أنفها فى أسفل الوجه، ذات عينين مدورتين واسعتين، وأذنين كأذن الحصان بقربهما قرنان صغيران مدوران يعلوهما الوبر.

وذكر (المقريزى) أن الخليفة العزيز كان يمشى فى موكبه سنة ثمانين وثلثمائة أفيال وزرافات، وكان يصنع له أوعية على صورة الأفيال والزرافات.

انتهى.

ص: 63

[الزمرد: أماكنه وصفاته]

ولنورد لك طرفا مما يتعلق بمعدن الزمرد، قال (المسعودى): هذا المعدن فى الصعيد الأعلى بقسم قفط من مديرية قنا، والمحل الذى هو به يعرف بالخربة، وهى صحراء كثيرة الجبال والمحافظون عليه البجاة، وهم مقيمون حوله ولهم شئ مقرر على من يستخرجه وعليهم الخفر والاخراج، وقد أخبرنى من له معرفة بالزمرد من أهل الصعيد، وقد كان ذهب إليه وشاهده: أن الزمرد يزيد وينقص تبعا للفصول السنوية وطقس الجو وهبوب نوع من الرياح الأربع، وأن لونه الأخضر يكون شديد الخضرة واللمعان فى أول الشهر وقت الزيادة فى نور القمر.

ومن الخربة إلى قوص وقفط ونحوهما من بلاد الصعيد المجاورة مسافة سبعة أيام، ومدينة قوص على شاطئ النيل الشرقى وبينها وبين قفط نحو ميلين، ونقل صاحب مسالك الأبصار عن (عبد الرحيم) كاتب مصلحة المعدن، أن معدن الزمرد فى الصحراء اللاحقة بأسوان، وله تفتيش مخصوص مشتمل على كتبة ومستخدمين على حسب ما يلزم، وجميع أجرة الشغالة ومصاريف الخفر والاستخراج تصرف من طرف السلطنة، وهذا الحجر يوجد فى جبال من الرمل يحفر عليه فيها، وقد انهارت مرارا على الشغالة وقتلتهم، والمستخرج من الزمرد يرسل إلى القاهرة، ومنها يؤخذ إلى الجهات، وهو فى وسط سلسلة جبال ممتدة شرقى النيل فى بحرى صخرة تسمى (قرقشندة) من ضمن السلسلة المذكورة، ومرتفعة فوق الجميع، والصحراء المحيطة بها منعزلة وبعيدة عن المسكون من الأرض، وذلك المعدن فى داخل غار طويل من حجر أبيض، والزمرد ملتبس به، وبينه وبين الماء مسافة نصف يوم، وهو بركة من ماء المطر تزيد وتنقص بحسب كثرة المطر وقلته.

ص: 64

والزمرد ثلاثة أصناف:

الأول طلق كافورى.

والثانى طلق فضى.

والثالث حجر جروى.

واستخراجه بكسر الحجر الذى هو/فيه، وبعد استخراجه يوضع فى زيت حار، ثم يخرج ويلف فى قطنة ومن فوقها يلف فى قطعة قماش، وأحسن أصنافه وأندرها، الصنف المسمى ذبابى، وأخبرنى (عبد الرحمن النائب) أنه فى مدة نيابته لم يعثر على شئ منه، وعدد الشغالة فيه غير محصور، بل يزيد وينقص حسب رغبة الحكومة، وعند انصرافهم من الشغل آخر النهار يفتشون على الدقة، ومع ذلك فلا يخلون من إخفائه والذهاب به إلى منازلهم، وذكر (المقريزى) أن العمل لم ينقطع إلا فى سنة ستين وسبعمائة هجرية، فى وزارة (عبد الله بن زنبور) وزير السلطان (حسن بن محمد بن قلاوون)، وقال (شمس الدين بن أبى السرور): إن الوزير (إبراهيم باشا) والى مصر فى القرن العاشر من الهجرة بعد أن طاف الأقاليم القبلية ذهب إلى آبار الزمرد، واستخرج منها مقدارا عظيما، وقال (المسعودى): إن المستخرج من الزمرد على أربعة أصناف:

أحسنها وأغلاها الصنف المسمى (مار)، وهو كثير الخضرة فى لون السلق الصافى الذى ليس كابيا.

والثانى البحرى ويسمى بهذا الاسم لرغبة ملوك الولايات المقيمة على البحر فيه، مثل ملوك السند والهند والزنج والصين، فإنهم يرغبون فيه لتحلية التيجان به والخواتم والأساور، وهو قريب من الأول فى القيمة واللون واللمعان، واخضراره يشبه اخضرار الورق الذى يكون فى أول عيدان الآس وفى آخرها.

مكتبة الأسرة - 2008

ص: 65

والثالث يسمى المغربى لرغبة ملوك المغرب فيه مثل ملوك الإفرنج واللومبرد والاسبانوليين والروس وغيرهم، ويتغالون فى قيمته كتغالى ملوك الهند والسند ونحوهم فيما قبله.

والرابع يسمى الأصم وهو أقل قيمة وجودة مما قبله بسبب أن خضرته ليست قوية ولمعانه كذلك وهو متفاوت تبعا للونه.

وبالجملة فكلما كان شديد اللمعان صافى الخضرة خاليا من السواد والصفرة، مجردا عن العروق، فهو المرغوب من كل نوع.

وزنة ما يستخرج من قطع الزمرد تختلف من خمسة مثاقيل إلى قدر العدسة ويستعمل فى الحلى، واتفق أهل فنه جميعا والجوهرية أن الثعبان إذا نظر إلى الزمرد فقئت عيناه، وإن ابتلع منه الملسوع قدر دانقين أمن ضرر السم، فلذا لا يوجد فى ضواحى أرض الزمرد شئ من الهوام مطلقا، وهو حجر طرى ينكسر ويتفتت بالماس، وملوك الأروام وأهل الروم يرغبون فيه كثيرا زيادة عن سائر الأحجار لاجل خواصه الغريبة، وخفة ثقله عن سائر الأحجار، وأغلبه يوجد فى عروق تحت الأرض، فمتى وجدوا عرقا طويلا مستقيما مع الاستدارة بلا خروق فيه، جدّوا فيه برغبة وهمة، وأقله جودة ما يوجد فى التراب والطين، وصنفا المغربى والأصم، يوجدان أحيانا فوق سطح الأرض فى الأودية والجبال المجاورة للمعدن، ويجلب من بعض ولايات الهند زمرد يشبه زمرد هذه الصحراء فى اللمعان واللون لكنه صلب وأكثر ثقلا، وتحتاج معرفة الفرق بينه وبين الأصناف السابقة إلى كثرة التجارب والممارسة، والجوهرية يسمونه زمرد مكة بسبب أنه يجلب إليها، فيجلب من الهند إلى عدن وسائر مدن اليمن.

وذكر مؤرخو العرب زمردات مشهورة بالجودة والكبر، فقال (المقريزى) فى كتاب السلوك: لما ضبط الأمير (نشكو) وجد عنده زمردتان فى غاية الجودة

ص: 66

زنة الواحدة رطل، وفى سنة 704 هـ عثر فى المعدن على زمردة وزنها مائة وخمسة وسبعون مثقالا، وقد أخفاها ملتزم المعدن وعرضها على أمير فدفع له فيها مائة وعشرين ألف درهم، فأبى فسلبها منه الأمير وأرسلها للسلطان فمات ذلك الملتزم من الحسرة، وحكى صاحب كتاب مسالك الأبصار: أنه رأى زمردة وسطها فى أحسن ما يكون من الخضرة، وطرفاها أبيضان وما بين ذلك معرق باللونين، والبياض عند حروفها أكثر من الخضرة والخضرة أكثر فى الوسط، وقال (بوسبير البان) فى الكلام على آبار الزمرد: إن فى مدة مسير باشا والى مصر، وجدت زمردة جيدة وزنها أربعة وثلاثون درهما.

بل ذكر بعض مؤرخى الإفرنج فى عجائب (معبد هرقول): أن فيه عمودين أحدهما من الذهب الإبريز، والآخر من الزمرد قطعة واحدة، وفى بعض الدفاتر أن مسلة (جوبتير) كانت مرصعة بأربع زمردات طولها أربعون ذراعا، عرض واحدة منها أربعة أذرع، انظر ذلك فى الكلام على مدينة كانوب، وكلام (ماييه) الفرنساوى فى كتابه على مصر، يفيد أن محل الزمرد كان مجهولا فى زمنه، وقال السياح (بروس) الانكليزى: إنه شاهد جبل الزمرد، وعد به خمسة آبار كان الأقدمون يستخرجون منها الزمرد، لكنه جعله فى جزيرة، وذلك يدل على أنه غير ما تكلم عليه العرب، لأنهم مطبقون على جعله فى الأرض القارة كما سبق.

[الزبرجد]

ويقرب من الزمرد فى أوصافه نوع الزبرجد، قال (التيفاشى): إن المعدن الذى يتكون فيه الزبرجد، يكون فى معدن الزمرد ويوجد معه إلا أنه قليل جدا أقل وجودا من الزمرد.

ص: 67

وفى هذا التاريخ وهو عام أربعين وستمائة، لم يوجد فى المعدن منه شئ وإنما الموجود منه الآن على قلته، فصوص تستخرج بالنبش فى الآثار القديمة بثغر الإسكندرية، يقال أنها من بقايا كنوز الإسكندر، ثم/قال: والزبرجد منه أخضر مغلوق اللون، ومنه أخضر مفتوح اللون، ومنه أخضر معتدل الخضرة حسن المائية رقيق المستشف، ينقده البصر بسرعة، وهذا أجود أنواعه وأثمنها، وقال أيضا: ويكون الزبرجد على نحو ما ذكرناه فى تكوّن الزمرد، كأنه ابتدأ ليكون زمردا فقصر عنه فى كيانه بسبب الأعراض الداخلة عليه من ضعف الطباخ ونقص الحرارة، فلان جسمه ونقص لونه فكان منه الزبرجد، خاصيته حسن المستشف من خضرته وجماله، وأن إدمان النظر إليه يجلو البصر ويقويه.

وفى هذه الصحراء يوجد أيضا الرخام بأنواعه، وحجر السماق وغيره، انظر ذلك فى الكلام على قرية بياض.

(صدفة)

بلدة فى مديرية سيوط بقسم بوتيج، فى جنوب بوتيج بأكثر من ساعة، وفى شمال بنى فيز بنحو ثلث ساعة، وفى غربى النيل كذلك، وفى شرقى دوير عائذ كذلك، وكان محلها قديما مدينة تسمى أبولينوباروا، زالت وخلفتها هذه البلدة كما فى كتب الإفرنج، وبها مساجد عامرة، ووكالة ينزل فيها بعض التجار، وأكثر أبنيتها بالآجر، وفيها علماء وأشراف، ونائب بختم ميرى من طرف قاضى بوتيج، ونخيلها كثير، وفيها بيت من بيوت الملتزمين منه عمدتها، وسوقها كل يوم ثلاثاء، وأهلها أصحاب يسار لجودة أرضهم، ومنها إلى بوتيج طريق متسعة، فيها عدة آبار معينة عليها أسبلة من بناء الملتزمين، بعضها عامر وبعضها متخرب، وفى شمالها الشرقى بنحو نصف ساعة قرية مجريس، يمر عليها الجسر الطارئ فى غربى النيل الخارج من سيوط إلى بوتيج إلى طما إلى طهطا، وفيها منازل صالحة ومساجد ونخيل كثير، ويتبعها عدة كفور.

ص: 68

(الصفين)

قرية من بلاد الشرقية بمركز منيا القمح، واقعة فى قبليها بنحو سبعة آلاف متر، وبينها وبين شبلنجة نحو ثلاثة آلاف ومائتى متر، وفى شمالها الغربى سكة الحديد الواصلة إلى بنها.

وأبنيتها باللبن، وبها مجلس دعاوى، ومجلس مشيخة، ومساجد، ومكاتب أهلية، ومنزل مشيد لعمدتها (محمد بك عبد الله)، وله مسجد أيضا، وبها جملة أشجار وسواق ونخيل، وأطيانها ثلاثة آلاف فدان وستمائة وأربعة وتسعون فدانا وكسر، وعدة أهلها أربعة آلاف نفس وثمانمائة وأربع وسبعون نفسا، وتكسبهم من الزرع ومنهم أرباب حرف وصنائع.

(صنافير)

بلدة من أعمال القليوبية بمركز قليوب، غربى ناحية بهادة بنحو الفين ومائتى متر، وفى شمال كفر الحرث بنحو الفين وسبعمائة متر، وأغلب أبنيتها باللبن والآجر، وبها جامع بمنارة، ويزرع بها صنف حشيشة الفقراء بكثرة، وسبق الكلام عليها عند التكلم على أبى تيج.

وكان فى هذه البلدة وقعة شنيعة تسبب عنها هلاك جم غفير من الأمراء والعساكر، وذلك أنها كانت فى القرن الحادى عشر من الهجرة كما فى نزهة الناظرين، فى التزام أميرين من أمراء مصر، أحدهما (مصطفى أفندى) الذى كان كتخدا الجاويشية وكان قبلها كاتب الجملية، وثانيهما (عثمان الوالى) زعيم مصر، لكل منهما نصفها، وكان وزير مصر يومئذ (مصطفى باشا)، وقد رفع إليه بقلعة المحروسة عرض من خمسة أشخاص فى يوم الأحد السابع والعشرين من المحرم سنة احدى وسبعين وألف، مضمونه شكوى حالهم إلى كافل المملكة الإسلامية والأقطار الحجازية حضرة وزير مصر (مصطفى باشا)، وانهم كانوا خمسة عشر شخصا من طائفة عزب قلعة مصر عينوا لمحافظة

ص: 69

ناحية صنافير، فقام عليهم جماعة زعيم مصر (عثمان) المذكور، وقتلوا منهم خمسة أشخاص وجرحوا خمسة وبقى هؤلاء الخمسة.

وذكروا السبب: وهو أن الزعيم (عثمان) طلب من (الأمير مصطفى) أفندى أن يفرغ له عن نصف البلد، فامتنع الأمير (مصطفى أفندى) من ذلك، وتحفظ على نفسه من الزعيم (عثمان) بأخذ بيور لدى (مكتوب) شريف من حضرة وزير مصر، خطابا لحضرة أغاة العزب بتعيين خمسة عشر شخصا فعينهم أغاة العزب وتوجهوا لحراسة البلد المذكورة، فلما وقع ذلك أرسل (عثمان) الزعيم لأهل نصف البلد الذين فى تصرفه، يأمرهم أن يهجموا على أهل النصف الثانى ففعلوا وقتلوا من قتلوا من أهلها، وقتلوا من المحافظين خمسة وجرحوا خمسة، فلما عرض ذلك على الوزير أحضر كلا من الأمير (مصطفى) وشريكه (عثمان)، وسأل (عثمان) عما وقع فأنكر ما ادعوا به بالكلية، فندب الوزير كلا من الأمير (رمضان بك الفرحاتى)، والأمير (محرم بن الأمير ماماى بك) من أمراء الجراكسة بمصر، وبصحبتهما جماعة من البلكات وشهود قاضى الديوان، ودفع لهم بيورلدى شريف للكشف على الواقعة من محلها، فخرجوا متوجهين فى ليلتهم وقد تحزب طائفة العزب مع جماعة البلكات.

وفى صبيحة النهار كان (عثمان) الوالى متوجها للديوان، ففى أثناء الطريق استشعر بطلبه للدعوى عليه وتحزب المتحزبين، فرجع من ساعته خائفا خائبا خاسرا، وتوجه إلى منزل (على بك كشك) يلتجئ إليه، فأخذه وتوجه إلى منزل الأمير (لاشين بك) أمير الحاج سابقا، وهناك أحضروا الأمير (حسن بك) أمير الحاج سابقا، و (مصطفى بك) حاكم دجرجا، و (حسين بك) كاشف الغربية، وجماعة من أعيان الطائفة/الفقارية منهم (مصطفى أغا) أغات التفكجية سابقا، و (عثمان أغا) أغات الشراكسة سابقا، و (ذو الفقار) أغات الشراكسة حالا، وفى وقت اجتماعهم حضر بيورلدى شريف من طرف

ص: 70

(مصطفى باشا) الوزير بطلب (عثمان) الوالى للدعوى، فاتفقت الطائفة على منعه من التوجه إلا (رجب أغا) أغات التفكجية سابقا فلم يوافقهم، لكن لم يصغوا لكلامه، فرجع مندوب الوزير وأخبره بامتناعه، فعرض الوزير ذلك على قاضى العسكر، وطلب منه أن يكتب حجة بعصيانه، فقال القاضى: لا يكون العصيان إلا إذا أرسل إليه من قبل الشرع وامتنع، فأمره أن يرسل إليه فأرسل إليه قاصد الشرع، فصممت الفقارية على منعه، فعند ذلك كتب القاضى الحجة بعصيانه، فأمر الوزير بعزل (عثمان) الوالى، وولى بدله الأمير (محمد بن المقرقع) وألبسه خلعة بعد امتناع منه، ونزل إلى بيت الولاية بباب زويلة فوجد (عثمان) الوالى جالسا، فلما أحس (عثمان) بالخبر قام إلى رفقته الفقارية بمنزل (لاشين بيك) وأخبرهم الخبر، فاشتد غضبهم واتفقوا على القيام فى اليوم القابل، فلما بلغ الوزير ذلك أرسل بيورلدى إلى حاكم دجرجا، بأن يتوجه من ساعته لمحل حكومته، وكتب إلى باقى الأمراء والصناجق بأن يلزموا بيوتهم ولا يتسببوا فى إثارة الفتن، فلم يصغوا لقوله وتجمعوا فى بيت (حسين بيك)، وأرسلوا إلى (بيرم أغا) كبير الينكشارية أن يكون معهم بجماعته وهم أربعة آلاف نفر، وجعلوا له مبلغا من الدراهم عجلوا له بعضها، فعاهدهم على أن يكون معهم سرا، واتفقوا على القيام يوم الثلاثاء، وأن (عثمان) الوالى طلع فى ذلك اليوم إلى باب أغات الينكشارية، ويستجير (بيرم) ليمانع عنه ويأخذه مع الطائفة إلى الديوان، وهناك يغيرون الدعوى عن (عثمان) بالسؤال عن أموال خزينة السلطنة، فيقع الخلاف، فعند ذلك يطلبون (غازى باشا) وزير مصر سابقا المسجون بقصر يوسف بالقلعة على وجه أن يسألوه عن أحوال الخزينة مدة تصرفه، فمتى حضر للديوان خلعوا (مصطفى باشا) الوزير حالا، وولوا بدله (غازى باشا)، فإذا حصل ذلك يكون الأمر لهم يتصرفون فى مصر كيف شاءوا من تولية وعزل وقتل ونفى إلى غير ذلك، وكانت طائفة العزب متفقة مع البلكات الأخر ومن جملتهم (بيرم)، لكن اتفاق بيرم معهم

ص: 71

ظاهرى، وهو فى الحقيقة مع أولئك كما علمت، فلما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من المحرم سنة إحدى وسبعين عند الصباح، اجتمعت طوائف العساكر كل طائفة بباب أغاتها بالرميلة، وحضروا إلى الديوان إلا طائفة الينكشارية فلم يحضروا لعدم التنبيه عليهم من باب أغاتهم، وإنما حضر منهم نحو الثلاثين فلم يجدوا بلكهم، فأرسلوا أحدهم إلى باب أغاتهم فأرسل لهم (عابدين كتخدا) يأمرهم بأن يرجعوا إلى مناصبهم، لأنه لم يحصل التنبيه على البلك، وعند حصول التنبيه يحضرون مع إخوانهم، فلم يروا ذلك صوابا وصمموا على عدم الرجوع، وتفاوضوا فيما يفعلون وقد اجتمع عليهم نحو العشرين من بلكهم، فتقووا بهم وساروا قاصدين اللحوق بالبلكات، وفى أثناء سيرهم جاء التنبيه لطائفتهم، فتوجهوا إلى باب أغاتهم فوجدوا (عابدين بك) كتخدا جالسا فقالوا له: كيف لم ينبه على جماعة بلكنا ليكونوا مع باقى البلكات، مع أن هذا يقوم علينا العساكر وينسبوننا إلى الخيانة والموالسة، فلاطفهم (عابدين كتخدا)، وفى أثناء ذلك لحق بهم جماعة متسلحون حتى صاروا جمعا كثيرا، فأغلظوا عليه القول وقالوا: لا نرضاك كتخدا علينا، ولا نرضى أن يكون (بيرم) منا، فخافهم ودخل إلى حوش الأغا، وعينوا بدله (درويش جاويش) الذى كان من بلكهم ولحق ببلك العزب وكان شجاعا مقداما، وبينما هم كذلك إذ حضر (بيرم) ومعه نحو أربعمائة نفر، فقاموا فى وجهه وقالوا: لا نرضاك أن تكون منا ولا معنا، وكان لا يعهد منهم مثل ذلك، فداخله الرعب ودخل إلى دار الحوش وتبعه نحو ثلاثين نفرا، وفى تلك الساعة حضر (عثمان الوالى) على حسب الاتفاق، فرأى العسكر قائمين على (بيرم) فدخل إلى داخل الحوش وتوارى به، وحصل بين من بداخل الحوش ومن بخارجه مفاوضة فى الكلام، ثم أطلق من بالخارج بعض بنادق على من بالداخل، فأغلقوا الباب، فذهب بعض من فى الخارج إلى الديوان، وأعرض الخبر على حضرة الوزير، فكتب لأغات الينكشارية بتوجيه المدافع على (بيرم)

ص: 72

وجماعته، فلما علموا ذلك طلبوا الأمان، ففتحوا لهم الباب فخرجوا وصار القبض على بيرم، وذهبوا به إلى البرج، وتوجهت الطائفة إلى جامع قلاوون وقرءوا الفاتحة أنهم على قلب رجل واحد، ثم أخبروا الوزير بحبس (بيرم) بالبرج، وأن (عثمان) الوالى بمنزل أغات الينكشارية، فكتب بيورلديا بخنق (بيرم)، وآخر بقطع رأس (عثمان) الوالى، ودفع المكتوبين إلى زعيم مصر فعرضهما على أغاة الينكشارية، فخنق (بيرم) وقطع رأس (عثمان) الوالى، ولما بلغ خبر ذلك إلى الفقارية من صناجق وغيرهم، تجمعوا وتوجهوا إلى الرميلة من ناحية سوق السلاح، ووقفوا عند جامع المحمودى وأطلقوا بنادقهم على جماعة العزب/والأسباهية، فقتلوا منهم، فلما تنبهوا لهم وجهوا عليهم البنادق والمدافع، فهربوا ورجعوا إلى منازلهم وأخذ كل منهم ما يحتاجه، وذهبوا إلى البساتين فاجتمعوا هناك على العصيان، وعقدوا رأيهم على التوجه إلى الجهات القبلية، فلما بلغ ذلك (مصطفى باشا) الوزير، أخذ فى الاستعداد لقتالهم، ورتب صناجق عوضا عنهم، وبدد شمل من كان فى حزبهم بالقتل والنفى، وفى يوم الخميس سادس شهر صفر، نزل بالعساكر إلى البساتين وقد كان الصناجق نزلوا إلى الصعيد، وفى تاسعه انتقل إلى حلوان، وهناك بلغه أنهم تعدوا إلى ناحية ملوى شرقا وغربا، وأنهم راجعون إلى ناحية الجيزة، فأرسل مكتوبا إلى (عوض بيك) القائمقام عنه فى غيبته، ومكتوبا ل (إبراهيم أغا) أغات الينكشارية يعرفهما أحوال الصناجق الفارين، ويأمرهما أن يتقيدا بقفل أبواب مصر من غروب الشمس إلى شروقها، وأن يعينا مع الوالى عسكرا يكونون معه فى الحراسة ففعلوا، وفى يوم الجمعة سابع عشر الشهر، وردت الأخبار بأن الطائفة الفارة رجعت إلى قنطرة اللاهون، وكان سبب رجوعهم أنهم لما كانوا بجبل أبى النور، بلغهم خبر قيام الوزير خلفهم فارتبكوا ووقع الرعب فى قلوبهم وتفاوضوا فيما يفعلون، فمنهم من رأى التوجه إلى

ص: 73

دجرجا، ومنهم من رأى غير ذلك، ولم يتوافقوا على شئ، ولما وصلوا إلى ملوى حصلت بينهم مشاجرة، وافترق منهم (حسين بيك) و (مصطفى بيك)، فأما (مصطفى بيك) فاختار التوجه إلى دجرجا، وأما (حسين بيك) فسافر إلى الواحات، واختار كشك (على بيك) و (حسن بيك) وباقى الصناجق أن يذهبوا إلى الجبل الأخضر، فاخذوا جماعة ممن يعرفون الطرقات وتوجهوا بهم إلى ناحية قنطرة اللاهون، ليسافروا من هناك، فغرهم الدليل وعرج بهم إلى طريق الأهرام، فلما أصبحوا وجدوا أنفسهم بناحية الجيزة، وقد حصل لهم ما لا مزيد عليه من المشقة وضعفت دوابهم وأبدانهم، فسقطوا فى أيديهم وتداولوا فى طلب الأمان، فمنهم من رضى ومنهم من لم يرض، وبعض من لم يرض أخذ فى طريق البحيرة، وبعضهم توجه إلى المنوفيه، وحضر من طلب الأمان إلى ناحية بولاق التكرور، وكان خبرهم قد وصل إلى قائمقام فأرسل إليهم عساكر ببيور لدى الأمان، فحضروا إليه وقابلوه وكانوا خمسة وعشرين فسجنهم بالبرج، وأرسل العساكر وراء الفارين.

وكتب إلى كاشف البحيرة وابن الخبير بمحاصرتهم، وكتب إلى رشيد بالتحفظ، فلما وصل الفارون إلى ناحية النجيلة، احتاطت بهم العرب وكاشف البحيرة وضيقوا عليهم، وطلبوا الأمان فأمنوهم ثم قطعوا رؤسهم ليلا بناحية الطرانة، ووقع القبض على من توجه إلى المنوفية، وعلى من بناحية دجرجا، وصار القبض فى جميع الجهات على كل من كان فى حزبهم، وملئت منهم الحبوس.

ولما حضر الوزير فى الحادى والعشرين من الشهر، قامت العساكر وطلبوا قتل من بالحبوس جميعا فأذن لهم، فقطعوا رؤسهم جميعا بحوش الديوان وقطع دابر الفقارية بالمرة وتزينت مصر لذلك، انتهى ملخصا من كلام طويل وهى وقعة مشهورة قد أفردت بالتأليف.

ص: 74

(ترجمة)[الشيخ يحيى الصنافيرى]

وإلى صنافير ينسب الأستاذ ذو المناقب المشهورة الشيخ (يحيى بن على الصنافيرى):

نشأ فى العبادة من صغره، وكان فى حال بدايته رجلا صوفيا كثير التلاوة للقرآن إلى أن حصلت له جذبة ربانية، وهبت عليه نسمة محمدية، فوصل بها إلى مقام القطبانية وصار منسوبا إلى الطريقة العباسية، وشاع ذكره فى البلاد وشهد له علماء زمانه بالولاية والصلاح، وسعت إليه الخلق من أقطار الأرض، وحمل نذره من أرض اليمن، وأقام بقرافة مصر مدة يسيرة، ثم توجه إلى صنافير وأقام بها مدة إلى أن اشتهر حاله، وصار أهل صنافير يحدثون عنه بأمور شاهدوها منه، منها الكلام على الخاطر والنظر فى المستقبل، وانقلاب الأعيان له وإزالة الضرر عمن يكون مضرورا وحصل به نفع عظيم للخلق، فلما تكاثرت عليه الناس فرّ منهم وعاد إلى القرافة وأقام بها مدة طويلة، وكان يجتمع على السماع ويأمر أصحابه بالحضور فيه، وكان كثير الإيثار لا يدخل إليه أحد إلا ويمد له سماطا بما تشتهيه نفسه، لا ينظر فى درهم ولا دينار ولم يتزوج قط.

وتوفى رحمه الله تعالى يوم السبت ثالث عشر شعبان اثنتين وسبعين وسبعمائة انتهى من تحفة الأحباب.

(الصوالح)

قرية بمركز العلاقمة من مديرية الشرقية بحرى قرية العلاقمة بنحو خمسة عشر ألف متر، وهى ذات نخيل بكثرة وأبنيتها باللبن، وأغلب أطيانها متلبسة بالرمل، وبها زاوية للصلاة ومكاتب أهلية، ومجلس دعاوى وآخر للمشيخة، وأطيانها ألف فدان ومائة وأربعة عشر فدانا وكسر، وأهلها ثمانمائة وثلاثون نفسا، وتكسبهم من الزراعة ومن ثمر النخل.

ص: 75

وفى قسم طهطا بمديرية جرجا قرية صغيرة من بلاد الهلة تسمى الصوالح أيضا فى قبلى جسر كوم بدر، وغربى قرية الشيخ مسعود، وبها نخيل قليل وزاوية للصلاة، وأكثر أهلها مسلمون.

(الصورة)

قرية من مديرية الشرقية بمركز العلاقمة، غربى ناحية قراجة بنحو ألفين وستمائة متر، وفى شمال/ناحية المشاعلة بنحو ثمانمائة متر، ومبانيها بالآجر واللبن، وبها جامع وقليل نخيل.

(الصوّة)

قرية بمركز بلبيس من مديرية الشرقية، واقعة قبلى ترعة الوادى بنحو ألفين وثلثمائة متر، وفى الجنوب الشرقى لسفط الحناء بنحو ألفين وثلثمائة متر أيضا، وهى بوسط جزيرة تشتمل على مساجد ومكاتب، وفيها منازل مشيدة تعلق عبد الله بن أيوب، ومجلسان للدعاوى والمشيخة، وزمام أطيانها ألفان وخمسة وثمانون فدانا وكسر، بها نخيل كثير وبها شجر الحناء بكثرة، وعدد أهلها ألفان وخمسمائة وتسعة وثلاثون نفسا، وتكسبهم من الزراعة وبيع الحناء، وقبلى هذه الناحية مقام سيدى (سليم أبى مسلم)، وعنده مقامات أولاده، ولهم مولد سنوى تضرب فيه الخيام، ويؤتى إليه من جميع جهات المديرية، ويكون فيه دكاكين وتجار، ويمكث ثمانية أيام.

(صراوه)

قريتان بمصر، الأولى من مديرية أسيوط بقسم منفلوط غربى ترعة الإبراهيمية بنحو ألف وستمائة متر، وفى الشمال الشرقى لبندر منفلوط بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى شرقى ناحية بنى كلب بنحو ثلثمائة متر، وبها جامع.

والثانية من مديرية المنوفية بقسم أشمون، واقعة بين فرع دمياط وريّاح المنوفية، وفى شمال ناحية دراوة بنحو ألفين وخمسمائة متر، وفى جنوب ناحية النعناعية بنحو ألف وسبعمائة متر، وبها جامع.

ص: 76

(صهرجت)

بفتح الصاد وسكون الهاء وفتح الراء وسكون الجيم والتاء فوقها نقطتان، وربما يكتبها بعضهم بالسين فيقول: سهرجت.

قريتان معروفتان قرب منية غمر من الشرقية، ينسب إلى إحداهما (أبو الفرج محمد بن الحسن البغدادى الصهرجتى)، سكن احداهما هو وأبوه فنسب إليها، وهو فقيه من فقهاء الإمامية، له كتاب سماه (قبس المصباح) ولعله اختصره من مصباح المتهجد للطوسى، وله شعر وأدب. انتهى من مشترك البلدان.

وكلتاهما من مديرية الدقهلية، فالأولى صهرجت الكبرى بمركز منية غمر، على الشاطئ الشرقى لترعة الساحل، وفى الجنوب الشرقى لمنية العز بنجو ثلاثة الآف وثمانمائة متر، وفى الشمال الشرقى لناحية المعصرة بنحو ألف وثلثمائة متر، وبها جامع بمنارة غير المساجد الصغيرة، وجملة حدائق مشتملة على أنواع الفواكه، وعمدتها الآن مفتش بشفالك الدقهلية، له محل ضيافة وقصر مشيد ووابور لسقى المزروعات، وأطيانها خصبة جيدة المحصول، وتكسب أهلها من زراعة القطن وباقى الحبوب.

والثانية صهرجت الصغرى بمركز منية سمنود، فى الجنوب الشرقى لناحية بشلا بنحو ألف قصبة، وفى الشمال الشرقى لناحية فيشة بنا بنحو ثلثمائة قصبة، وبها ثلاثة جوامع ومنازل مشيدة، ووابورات لسقى المزروعات لعمدتها (حبيب أفندى سالم) مأمور مركز منية سمنود، وقريبه الحاج (أحمد سويلم)، وبها أشجار وسواق معينة، وزمامها نحو ثلاثة آلاف فدان، ويزرع بها القطن والكتان وغيرهما من باقى الحبوب، وأكثر أهلها مسلمون، وأرباب يسار ويعتنون باقتناء المواشى والدواب من الغنم والبقر والإبل والخيل والبغال والحمير.

ص: 77

‌حرف الضاد

(الضبعية)

قرية من قسم قوص بمديرية قنا، وكانت سابقا من مديرية إسنا، واقعة على الشاطئ الغربى للنيل، ذات أبنية جيدة كثير منها على دورين، ومساجد عامرة وسويقة دائمة، ونخيل كثير وحدائق ذات فواكه، وبقربها ترعة تسمى ترعة المريس، (والمريس) قرية عند فمها قريبة من أرمنت، وتلك الترعة حفرها (فاضل باشا) وقت أن كان مدير قنا مدة المرحوم (سعيد باشا) لرى حيضان قمولة ودنفيق ونقاده والخطارة، طولها ستة آلاف قصبة فى عرض ثمان قصبات، والقصبة ثلاثة أمتار وخمسة وخمسون من مائة من المتر، ويقابل تلك الناحية فى البر الشرقى ناحية البياضة ومحجر السلمية، الذى فى الجبل الشرقى بين بياضة والسلمية على شاطئ البحر بلا فاصل، وأحجاره زلط لا تستعمل فى الأبنية، وفى زمن (فاضل باشا) أيضا عملت ترعة تمر من المحجر المذكور، وتأخذ من مياه حوض السلمية سنة قلة النيل بسحارة مبنية بالآجر والمونة، فتروى الأطيان العالية من أطيان البياضة والأقصر وأبى الحجاج، فانصلحت تلك الأراضى وجاءها الطمى بعد أن كانت تتخلف عن الرى فى كثير من السنين.

وفى الضبعية للدائرة السنية ديوان تفتيش أطيان عشرة آلاف فدان تزرع قصبا وتسقى بالوابورات، وبها فوريقة فرنساوية ذات عصارتين، وآلات كاملة لعصره وعمل السكر منه، وينقل إليها القصب بسكك حديد زراعية معمولة هناك، وشغلها دائم ليلا ونهارا كباقى الفوريقات، بواسطة وابور نور تتفرق أنواره على العنابر والآلات والمخازن وجميع الأماكن اللازمة للشغل، ويستمر شغلها كل سنة نحو خمسة أشهر كل يوم تعصر نحو ستة وستين فدانا وتحصل فى اليوم من السكر الأبيض المكرر فوق الثمانمائة قنطار سكرا حبا، ومن السكر

ص: 78

الأحمر فوق الأربعمائة قنطار أقماعا، وينقل منها العسل نمرة 3 إلى ورشة الروم بفوريقة المطاعنة ليستخرج منه السبيرتو، وقد عملت تجربة الفدان من هذا التفتيش، فوجد متحصله من السكر بأنواعه اثنين وعشرين قنطارا، ومما/ جرب أيضا، أن المائة وخمسين قنطارا من القصب، يخرج منها من المصاص 5984، والباقى هو 9016 قنطارا هو محصولها من السكر وغيره، هذا إذا كان القصب بكرا.

وأما محصول الخلفة فهو أكثر من ذلك. ثم من الفوريقة يخرج فرع من سكة الحديد يوصل إلى البحر لنقل الآلات التى تأتى بطريق البحر.

ص: 79

‌حرف الطاء

(طابنّيسى)

بشد النون هى بلدة مشهورة فى كتب القبط، كانت فى الصعيد الأعلى على الشاطئ الشرقى من النيل فى جنوب قرية سنصه، على نحو عشرة أميال وفى شمال قرية طنطريس، وكانت داخلة فى أسقفيتها، وكان لها دير عظيم قد عثر ببقاياه الآب (سيكار) على شاطئ النيل فى شمال مدينة دندرا بمسافة يوم، وقد ترجم بعضهم هذا الاسم بكلمة دوناسه، وهى كلمة قبطية معناها فى الأصل: محل النخيل الموقوف على المقدسة (أزليس)، ثم جعل علما على مدينة صغيرة كانت هناك، وكان بها كنيسة باسم (مارى بخوم)، وهى آخر الكنائس الموضوعة على الشاطئ الشرقى للنيل، وكان بالقرب منها دير باسم (مارى بشارة)، وظن كترمير أن البلدة التى سماها المقريزى (اتفو)، هى هذه المدينة ثم عدل عن ذلك، وذهب إلى أن اتفو هى قرية ادفو الواقعة بحرى أخميم، وقال (المقريزى): إن بخوم أو بخوميوس كان راهبا فى زمن (بوشنوده)، ويقال له:(أبو الشركة) من أجل أنه كان يربى الرهبان، فيجعل لكل راهبين معلما، وكان لا يمكن من دخول الخمر واللحم إلى ديره ويأمر بالصوم إلى آخر التاسعة من النهار، ويطعم رهبانه الحمص المسلوق، ويقال له عندهم: حمص القلة، وقد خرب ديره وبقيت كنيسته هذه ب (اتفو) جهة أخميم.

(طاروت)

هى قرية من مديرية الشرقية بمركز مينا القمح، واقعة على الشاطئ البحرى لخليج أبى الأخضر، غربى منية بشار على نحو خمسة آلاف متر، أغلب بنائها باللبن، وبها مسجد مشيد له منارة أنشأه الأمير (يعقوب بك) صاحب الخان بالغورية بقرب جامع الأشرف، وفيها مكاتب أهلية ومجلسان للدعاوى والمشيخة، وضريح فى جنوبها الغربى لبعض الصالحين، ووابور على

ص: 80

ترعة أبى الأخضر، وبها أشجار متنوعة، وزمامها ألفان ومائتان واثنان وعشرون فدانا وكسر، وأكثر أهلها مسلمون، وتكسبهم من الزرع، ومنهم أرباب حرف، وفيها منزلان مشيدان لدائرة (إسماعيل باشا) المفتش، وعندهم أطيان أبعادية (لأحمد أفندى البقلى)، اشتراها من (حسن أفندى صبرى)، بها منازل لسكنى مستخدميها، وبجوار تلك المنازل من الجهة البحرية إلى الغرب، بئر قديمة اسطوانية الشكل وقطرها إثنا عشر مترا مركب عليها ثمان سواق تأخذ منها الماء، ويرى فى داخلها سقوط بداخله بناء قديم، وبمركز محور الأسطوانة فسقية اسطوانية مركزها هو محور الأسطوانة الأصلية التى هى مجمع مياه الثمان سواق، تجتمع فيها ثم توزع إلى الأراضى، وهى الآن بدون عقودات، وبين هذا المحل وبين الزقازيق نحو ألفى متر، وسكة الحديد الواصلة إلى مينا القمح فى شماله الغربى بقدر خمسة آلاف متر، وكذلك بأرض هرية رزنة، عند كفر (سيدى عبد العزيز) شرقى الزقازيق، وقبلى خط السكة الحديد الواصل إلى ثغر السويس، توجد بئر بهذا الوصف:

شكلها اسطوانى، وقطرها نحو عشرة أمتار، ويرى بها سقوط بناء قديم فى أصل عقوداته التى كانت مركبة عليه، وهى مصرف لثمان سواق أيضا، ويرى من هيئته أنه كان عنده محور فسقية يجتمع فيها ماء الثمان سواق، ويوزع على الأراضى، وبينها وبين الزقازيق نحو خمسة عشر ألف متر.

(طاشبرى)

قرية من مديرية المنوفية بمركز مليج، فى بحرى منية العز بنحو خمسمائة متر، وفى شرقى منية سراج بنحو ستمائة متر، وتعرف أيضا بطاوشليم وبها ثلاثة مساجد وفى جنوبها الشرقى مقام (سيدى مسعود) له مولد سنوى ومقام (سيدى حمودة) وفى جنوبها الغربى ضريح الشيخ (على البهى) بوسط الجبانة وفى غربيها على نحو ثلثمائة متر ضريح سيدى (على أبى النور).

مكتبة الأسرة - 2008

ص: 81

(طا النامل)

يوجد من هذا الاسم قريتان فى مديرية الدقهلية: طا النامل الشرقية، وطا النامل الغربية، بينهما نحو نصف ساعة وأرضهما خصبة جيدة المتحصل ويزرع بها قصب السكر بكثرة وبعد كل عن المنصورة نحو ثلاث ساعات أولاهما على ترعة المنصورية من جهة الغرب وأطيانها فى البر الشرقى وأبنيتها بالآجر وبها جامع متين وأشجار على شاطئ المنصورية وعدة توابيت كذلك، وكان بها جملة سواق معينة موزعة فى أراضيها، حولها أشجار جميز عتيقة ورىّ أرضها من ترعتى المنصورية وأم جلاجل الكائنة قبلى قنطرة السنايط وقبلى هذه القرية قرية أجا، ثم قرية نقيطة ثم المنصورة، وأما طا النامل الغربية فهى شرقى البحر الأعظم على ثلث ساعة من نوسة البحر وبها أشجار، ورىّ أرضها من البحر والمنصورية وأم جلاجل بالتوابيت زمن الصيف، وبالراحة زمن النيل وكان بها سواق معينة بطلت بحدوث ترعة المنصورية وكلتا القريتين كان يقال لهما قطائع العجوز لما فى (المقريزى) أن/ (المأمون) لما سار فى قرى مصر كان يبنى له بكل قرية دكة يضرب عليها سرادقه والعساكر من حوله، وكان يقيم فى القرية يوما وليلة فمرّ بقرية طا النامل فلم يدخلها لحقارتها، فلما تجاوزها خرجت إليه عجوز تعرف (بمارية القبطية) صاحبة القرية وهى تصيح، فظنها (المأمون) مستغيثة (متظلمة) فوقف لها وكان لا يمشى أبدا إلا والتراجمة بين يديه من كل جنس، فذكروا له أن القبطية قالت: يا أمير المؤمنين نزلت فى كل ضيعة وتجاوزت ضيعتى، والقبط تعيرنى بذلك وأنا أسأل أمير المؤمنين أن يشرفنى بحلوله فى ضيعتى ليكون لى الشرف ولعقبى، ولا تشمت الأعداء بى، وبكت بكاء كثيرا فرقّ لها (المأمون) وثنى عنان فرسه إليها، ونزل فجاء ولدها إلى صاحب المطبخ وسأله كم تحتاج من الغنم، والدجاج، والسمك، والتوابل، والسكر، والعسل، والطيب، والشمع، والفاكهة، والعلوفة، وغير ذلك مما جرت

ص: 82

به عادته، فأحضر جميع ذلك إليه بزيادة وكان مع المأمون أخوه (المعتصم) وابنه (العباس) وأولاد أخيه:(الواثق والمتوكل ويحيى بن أكثم والقاضى أحمد بن أبى دواد) فأحضرت لكل واحد منهم ما يخصه على انفراده ولم تكل أحدا منهم ولا من القوّاد إلى غيره، ثم أحضرت (للمأمون) من فاخر الطعام ولذيذه شيئا كثيرا حتى أنه استعظم ذلك، فلما أصبح وقد عزم على الرحيل، حضرت إليه ومعها عشر وصائف مع كل وصيفة طبق فلما عاينها (المأمون) من بعد قال لمن حضر: قد جاءتكم القبطية بهدية الريف الكامخ والصحناة والصير، فلما وضعت ذلك بين يديه إذا فى كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته، فقالت: لا والله لا أفعل فتأمل الذهب فإذا به ضرب عام واحد كله، فقال: هذا والله أعجب ربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك، فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا، فقال: إن فى بعض ما صنعت لكفاية ولا نحب التثقيل عليك فردى مالك بارك الله فيك، فأخذت قطعة من الأرض وقالت: يا أمير المؤمنين هذا وأشارت إلى الذهب من هذا وأشارت إلى الطينة التى تناولتها من الأرض، ثم من عدلك يا أمير المؤمنين وعندى من هذا شئ كثير فأمر به فأخذ منها وأقطعها عدة ضياع وأعطاها من قريتها طا النامل مائتى فدان بغير خراج، وانصرف متعجبا من كثرة مروءتها وسعة حالها، انتهى.

وقد نشأ من هذه القرية الأمير (عبد الرحمن بيك على) دخل أول أمره مكتب منية غمر سنة خمس وخمسين ومائتين وألف، ثم انتقل إلى تجهيزية أبى زعبل، ثم إلى مدرسة المهندسخانة ببولاق، فاكتسب بها علوم الرياضة والطبيعة وغيرها تحت نظارة (لامبير بيك الفرنساوى) ثم إلى مدرسة الطوبجية، وفى سنة إحدى وسبعين ترقى إلى رتبة البكباشى ثم فى سنة تسع وثمانين أنعم عليه برتبة القائم مقام وإلى الآن هو بالمدارس الحربية.

ص: 83

(طاهرة حميد)

قرية من مديرية الشرقية بمركز بلبيس واقعة فى جنوب منية ركاب بنحو ألفى متر، وفى شمال أنشاص البصل بنحو ألفين وستمائة متر وبدائرها نخيل كثير.

(طاهرة العورة)

قرية من مديرية الشرقية بمركز بلبيس فى شرقى شوبك بسطة بنحو ألفى متر، وفى غربى ناحية الشبانات بنحو ألفين وثمانمائة متر وبها جامع أنشأه (سليمن باشا) أباظه مدير الشرقية، وبدائرها جنائن ونخيل وبعض أشجار.

(طحا)

قال فى القاموس: هو بالقصر والمد أربع قرى بمصر، انتهى. وقد عثرنا من هذا الاسم على خمس قرى وهى:

(طحا بوش)

قرية من مديرية بنى سويف بقسم بوش فى الجنوب الغربى لقرية بوش بنحو ثلاثة آلاف وثلثمائة متر وفى الشمال الشرقى لناحية بليغيا كذلك وبها جامع ونخيل قليل.

(طحا البيشا)

قرية من مديرية بنى سويف بقسم ببا على الشاطئ الغربي للنيل فى جنوب قرية البرانقة بنحو ألفى متر وفى شمال ببا بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر وبها مسجد وحواليها قليل نخيل.

ص: 84

(طحا العمودين)

ويقال لها: طحا الأعمدة، وهى بلدة كانت قديما من مدن الأقاليم القبلية، متوسطة بين البحر الأعظم واليوسفى، وتذكر كثيرا فى كتب القبط، وفى بعضها سميت: كليوت وزيوبوليس وفى بعضها كانت تسمى طوحو، وجعلت فى أحد دفاتر التعداد من بلاد البهنسا، وفى آخر من بلاد الأشمونين وهى غير مدينة (طوه) من أقاليم الأشمونين أيضا، وقال (أبو صلاح): كان سكان طحا فى صدر الإسلام خمسة عشر ألف نفس كلهم نصارى ليس فيهم مسلم ولا يهودى، وكانت تحتوى على ثلثمائة وستين كنيسة وهدمت فى خلافة (مروان) أحد خلفاء بنى أمية، فإنه أرسل من طرفه عاملا لجمع الخراج فطرده الأهالى ولم يدعوه يقيم عندهم، فرجع إلى الخليفة وقص عليه ما صار من أهالى طحا، فغضب وأرسل أحد أمرائه إليها فقتل ونفى كثيرا من أهلها وهدم جميع الكنائس إلا كنيسة (مارى منية) كان أهلها عاقدوه أن يدفعوا له - فى نظير بقائها - ثلاثة آلاف دينار ثم دفعوا له منها ألفين وعجزوا عن الباقى، فجعل ثلثها مسجدا مشرفا على السوق، وفى تاريخ البطارقة أنه كان بجوار طحا (دير) فى محل يسمى برجواس، فنهب/العرب ما فيه وخربوه، وذكر المقريزى: أن بناحية طحا كنيسة على اسم الحواريين الذين يقال لهم:

الرسل، وكنيسة باسم مريم العذراء، وقال ابن حوقل: كان فيها عدة أنوال لنسج الأقمشة وأسقفية، وهى الآن قرية واقعة على تلول البلد القديمة بها جامعان بمنارتين وزاوية، وفى جهتها الشرقية كنيسة للأقباط ومنها نصارى نحو الربع، وحولها نخل قليل، وسوقها كل يوم اثنين، وأطيانها نحو أربعة آلاف فدان، وهى من أعمال المنية.

ص: 85

(ترجمة)[أبو جعفر الطحاوى الحنفى]

وإليها ينسب كما فى ابن خلكان الإمام (أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك الأزدى الطحاوى) الفقيه الحنفى، انتهت إليه رياسة أصحاب أبى حنيفة رضى الله تعالى عنه بمصر، وكان شافعى المذهب يقرأ على (المزنى)، فقال له يوما: والله لا جاء منك شئ فغضب أبو جعفر من ذلك، وانتقل إلى (أبى جعفر بن أبى عمران الحنفى) واشتغل عليه، فلما صنف مختصره قال: رحم الله أبا إبراهيم يعنى المزنى لو كان حيا لكفّر عن يمينه، وذكر (أبو يعلى الخليلى) فى كتاب الإرشاد فى ترجمة المزنى: أن الطحاوى كان ابن اخت المزنى، وأن محمد بن أحمد الشروطى: قال. قلت للطحاوى: لم خالفت خالك واخترت مذهب أبى حنيفة، فقال: كنت أرى خالى يديم النظر فى كتب أبى حنيفة فلذلك انتقلت إليه، وصنف كتبا مفيدة منها: أحكام القرآن، واختلاف العلماء، ومعانى الآثار، والشروط. وله تاريخ كبير وغير ذلك.

وذكره (القضاعى) فى كتاب الخطط، فقال: كان قد أدرك المزنى وعامة طبقته، وبرع فى علم الشروط، وكان قد استكتبه (أبو عبيد الله محمد بن عبدة القاضى)، وكان صعلوكا فأغناه، وكان أبو عبيد الله سمحا جوادا، ثم عدّله أبو عبيد على بن الحسين بن حرب القاضى، عقيب القضية التى جرت لمنصور الفقيه مع أبى عبيد، وذلك فى سنة ست وثلاثين، وكان الشهود يتعسفون عليه بالعدالة لئلا تجتمع له رياسة العلم وقبول الشهادة، وكان جماعة من الشهود قد جاوروا بمكة فى هذه السنة فاغتنم أبو عبيد غيبتهم وعدّل أبا جعفر المذكور بشهادة أبى القاسم المأمون، وأبى بكر بن سقلاب.

ص: 86

وكانت ولادته فى سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وقال أبو سعد السمعانى:

ولد سنة تسع وعشرين ومائتين وهو الصحيح، وزاد غيره فقال: ليلة الأحد لعشر خلون من ربيع الأول، وتوفى سنة إحدى وعشرين وثلثمائة ليلة الخميس مستهل ذى القعدة بمصر ودفن بالقرافة وقبره مشهور بها، ونسبته إلى طحا بفتح الطاء والحاء المهملتين وبعدها ألف، قرية بصعيد مصر وإلى (الأزد) بفتح الهمزة وسكون الزاى وبالدال المهملة، قبيلة كبيرة مشهورة من قبائل اليمن.

انتهى.

وفى تحفة الأحباب، وروضة الطلاب للسخاوى، قيل: إن أمير مصر (أبا منصور تكين الجزرى) الشهير (بالجبار) دخل على الطحاوى يوما فلما رآه داخله الرعب فأكرمه وأحسن إليه، ثم قال له: يا سيدى أريد أن أزوجك ابنتى، فقال له: ألك حاجة بمال، قال له: لا، قال: فهل أقطع لك أرضا، قال: لا، قال فاسألنى ما شئت، قال: وتسمع، قال: نعم، قال: احفظ دينك لئلا ينفلت واعمل فى فكاك نفسك قبل الموت، وإياك ومظالم العباد، ثم تركه ومضى فيقال: إنه رجع عن ظلمه لأهل مصر. انتهى.

[ترجمة المزنى]

وأما المزنى فهو: (أبو إبراهيم اسمعيل بن يحيى بن اسمعيل بن عمر بن اسحق المزنى) صاحب الإمام الشافعى، قاله ابن خلكان أيضا وقال: إنه كان من أهل مصر وكان زاهدا عالما مجتهدا، محجاجا غواصا على المعانى الدقيقة، وهو إمام الشافعيين وأعرفهم، صنّف كتبا كثيرة فى مذهب الإمام الشافعى، منها: الجامع الكبير، والجامع الصغير، ومختصر المختصر، والمنثور، والمسائل المعتبرة، والترغيب فى العلم، وكتاب الوثائق، وغير ذلك.

ص: 87

وقال الشافعى فى حقه: المزنى ناصر مذهبى، وكان إذا فرغ من مسئلة وأودعها مختصره، قام إلى المحراب وصلى ركعتين شكرا لله، وقال أبو العباس أحمد بن سريج: يخرج مختصر المزنى من الدنيا عذراء لم يفتض، وهو أصل الكتب المصنفة فى مذهب الشافعى، وعلى منواله رتبوا ولكلامه فسروا وشرحوا، وكان القاضى (بكار بن قتيبة) حنفى المذهب، يتوقع الاجتماع بالمزنى مدة، فاجتمعا يوما فى صلاة جنازة، فقال القاضى بكار لأحد أصحابه: سل المزنى شيئا حتى أسمع كلامه، فقال له ذلك الشخص: يا أبا إبراهيم، قد جاء فى الأحاديث تحريم النبيذ وجاء تحليله، فلم قدمتم التحريم على التحليل، فقال له: لم يذهب أحد من العلماء إلى أن النبيذ كان حراما فى الجاهلية ثم حلل، ووقع الاتفاق على أنه كان حلالا، فهذا يعضد صحة الأحاديث بالتحريم، فاستحسن ذلك منه، وهذا من الأدلة القاطعة، وكان فى غاية الورع، وبلغ من احتياطه انه كان يشرب فى جميع فصول السنة من كوز نحاس، فقيل له فى ذلك فقال: بلغنى أنهم يستعملون السرجين فى الكيزان والنار لا تطهرها، وقيل: إنه كان إذا فاتته الصلاة فى جماعة صلى منفردا خمسا وعشرين صلاة استدراكا لفضيلة الجماعة، مستندا فى ذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم:«صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس/وعشرين درجة» ، وكان مجاب الدعوة، وهو الذى تولى غسل الإمام الشافعى، وقيل كان معه (الربيع) وكان أحد الزّهاد فى الدنيا، ومن خير خلق الله عز وجل، ومناقبه كثيرة، وتوفى لست بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين ومائتين، ودفن بالقرب من تربة الإمام الشافعى رضي الله عنه بالقرافة الصغرى بسفح المقطم. وذكر (ابن ذولاق) فى تاريخه الصغير: أنه عاش تسعا وثمانين سنة، وصلى عليه (الربيع بن سليمن المؤذن المرادى)، والمزنى بضم الميم وفتح الزاى وبعدها نون، نسبة إلى مزينة بنت كلب وهى قبيلة كبيرة مشهورة، انتهى.

ص: 88

وقال السخاوى فى تحفة الأحباب: قال المزنى: لما دخل الشافعى مصر رأيت الناس يزدحمون عليه، فقلت: ما بال الناس يزدحمون على هذا الشاب الحجازى، فقالوا: لعلمه، فقلت فى نفسى: وما لى لا أقرأ العلم، فقرأت العلم حتى أنى كنت أحفظ فى اليوم والليلة مائة سطر، قال القرشى كان المزنى فى صباه حدادا، فمرت به امرأة فقيرة، وقالت له: أن لى بنات سافر أبوهنّ ولهنّ ثلاثة أيام لم يجدن شيئا يتقوتن به، فمضى فاشترى طعاما كثيرا وذهب معها إلى بيتها، فخرج إليه ثلاث بنات فقالت له إحداهنّ: وقاك الله نار الدنيا والآخرة، فكان يدخل يده فى النار فلا تضره شيئا، قال ابن بنته: ما رأيت جدى ضاحكا قط بل كان كثير البكاء ومناقبه كثيرة، انتهى.

(طحا المرج)

قرية من مديرية الدقهلية بمركز ميت غمر فى الجنوب الشرقى لقرية سنفا بألفى متر وفى شرقى أتميدة بنحو ألفين وثلثمائة متر وبها جامع.

(طحانوب)

قرية من مديرية القليوبية بقسم قليوب في شمال نوب طحا بنحو ألفى متر وفى غربى كفر سندوة كذلك، وبها جامع بمنارة وحواليها نخيل، وسوقها كل يوم ثلاثاء، ومنها شيخ العميان وخطيب جامع الإمام الشافعى الشيخ (أحمد الطحاوى)، كان عالما جليلا مهيبا متقنا لتجويد القرآن على طريقة حفص، جسيم الجسم، جهورى الصوت، توفى سنة ألف ومائتين وخمسة وثمانين، وفى الجنوب الشرقى لطحا هذه كفر يقال له: كفر طحا.

(طحلى)

بفتح الطاء وسكون الحاء قريتان من قرى مصر كلتاهما فى كورة الشرقية، كذا فى مشترك البلدان.

ص: 89

فالأولى طحلى بردين، وهى من مديرية الشرقية بمركز بلبيس على الشط الشرقى لترعة أباظة، وفى الشمال الغربى لناحية بردين بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى الشمال الشرقى لناحية سفيطة بنحو ألفى متر، وبها جامع.

والثانية من مديرية القليوبية بمركز بنها، واقعة على الشاطئ الشرقى لفرع رشيد فى جنوب منية العطار بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وفى شمال دجوة بنحو ألفين وخمسمائة متر، وبها ثلاثة جوامع بمآذن أحدها مال عليه البحر فأكله ولم يبق منه سوى المئذنة، وبها سويقة على البحر فيها حوانيت وبعض قهاو وبها أبراج حمام وبدائرها نخيل وأشجار وفى جهتها البحرية ثلاثة جنائن، وتكسّب أهلها من الزرع وغيره، وإليها ينسب كما فى تاريخ الجبرتى.

(ترجمة)[الشيخ عمر الطحلاوى المالكى]

العلامة المحدث الشيخ (عمر بن على بن يحيى بن مصطفى الطحلاوى) المالكى الأزهرى، تفقه على الشيخ (سالم النفراوى) وحضر دروس الشيخ (منصور المنوفى)، و (الشهاب بن الفقيه)، والشيخ (محمد الصغير الورزازى)، والشيخ (أحمد الملوى)، و (الشبراوى)، و (البليدى)، وسمع الحديث عن الشهابين: الشيخ (أحمد البابلى)، والشيخ (أحمد العماوى)، وغيرهما. وتمهر فى الفنون ودرّس بالجامع الأزهر وبالمشهد الحسينى، واشتهر أمره وطار صيته، وأشير إليه بالتقدم فى العلوم، وتوجه إلى دار السلطنة فى مهمّ طرأ لأمراء مصر فقوبل بالإجابة، وألقى هناك دروسا فى الحديث، وتلقى عنه أكابر علمائها، وعاد معززا مقضى الحوائج، وكان مشهورا بحسن التقرير وعذوبة البيان وجودة الإلقاء، ولما بنى (عثمان كتخدا القازدغلى) مسجده بالأزبكية فى سنة سبع وأربعين ومائة بعد الألف، عيّنه فيه للتدريس، وكان يطلع فى كل جمعة إلى

ص: 90

المرحوم (حمزة باشا)، فيسمع عليه الحديث وكان للناس فيه اعتقاد حسن، وعليه هيبة ووقار، وسكون، توفى ليلة الخميس حادى عشر صفر سنة إحدى وثمانين ومائة بعد الألف، وصلى عليه بالأزهر، ودفن بتربة المجاورين، انتهى.

(طرا)

هى قرية مشهورة فى مديرية الجيزة على الشاطئ الشرقى للنيل قبلى معادى الخبيرى، وذكر الجغرافيون: أنها كانت بسطة عسكرية فى زمن الرومانيين، وكانت تسمى (سينى مندروروم)، وهو اسم رومى مركب من كلمتين، إحداهما: سينى التى معناها: خيام، الثانية: مندروروم التى معناها:

أخصاص، وفى بعض الكتب سميت طروبا، ينسب إليها الطروبيون الذين أحضرهم (منيلاس)، فسكنوا هذه البقعة كما قاله استرابون والجبل المجاور لها، إلى هذا الوقت يسمى بجبل الطروبيين، ثم غيّر الاسم إلى طرواده: ثم إلى طرا وأبنيتها الآن بالدبش والحجر، منازلها ما بين دور ودورين، وبها من الجهة الجنوبية على شاطئ البحر جامع مقام الشعائر ولعله هو الموضع الذى ذكره المقريزى أنه يستجاب فيه الدعاء، حيث قال: إن المواضع المعروفة بإجابة الدعاء بمصر أربعة مواضع:

سجن نبى الله يوسف الصديق عليه السلام ومسجد موسى/صلوات الله عليه وهو الذى بطرا، ومشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها، والمخدع الذى على يسار المصلى فى قبلة مسجد الأقدام بالقرافة. فهذه المواضع لم تزل المصريون ممن أصابته مصيبة أو لحقته فاقة أو جائحة، يمضون إلى أحدها فيدعون الله تعالى فيستجيب لهم، مجرب ذلك، انتهى.

وبجوار هذا الجامع من قبلى، دير مارى جرجس به قسيس واحد وراهبان، وذكر المقريزى أن هذا الدير يعرف بدير أبى جرج، وهو على شاطئ النيل.

ص: 91

وأبو جرج هذا هو جرجس، وكان ممن عذبه الملك دقلطيانوس ليرجع إلى

(1)

دين النصرانية، ونوّع له العقوبات من الضرب والتحريق بالنار، فلم يرجع فضرب عنقه بالسيف فى ثالث تشرين وسابع بابه، وذكر أيضا أنه كان فى جبل المقطم شرقى طرا، دير بنى فى أيام الملك أرقديوس فال، قال علماء الأخبار من النصارى: إن أرقديوس ملك الروم طلب أرسانيوس ليعلم ولده، فظنّ أنه يقتله ففر إلى مصر وترهب، فبعث إليه أمانا وأعلمه أن الطلب من أجل تعليم ولده، فاستعفى وتحوّل إلى الجبل المقطم شرقى طرا، وأقام فى مغارة ثلاث سنين ومات فبعث إليه أرقديوس فإذا هو قد مات، فأمر أن يبنى على قبره كنيسة، وهو المكان المعروف بدير القصير، ويعرف الآن بدير البغل من أجل أنه كان له بغل يستقى عليه الماء، فإذا خرج من الدير أتى الموردة وهناك من يملأ عليه، فإذا فرغ من الماء تركه فعاد إلى الدير.

وفى رمضان سنة أربعمائة أمر الحاكم بأمر الله بهدم دير القصير، فأقام الهدم والنهب فيه مدة أيام، وذكر أيضا أن فى حدودها ديرا يقال له: دير شعران، وهو مبنى بالحجر واللبن، وبه نخل وعدة رهبان، ويقال: إنما هو دير شهران بالهاء، وأن شهران كان من حكماء النصارى، وقيل: بل كان ملكا.

وكان هذا الدير يعرف قديما بدير مرقريوس، الذى يقال له: مرقورة أو أبو مرقورة، ثم لما سكنه (برصومة بن التبيان)، عرف بدير برصومة، وله عيد يعمل فى الجمعة الخامسة من الصوم الكبير، فيحضره البطريك وأكابر النصارى، وينفقون فيه مالا كثيرا، ومرقريوس هذا كان ممن قتله دقلطيانوس فى تاسع عشر تموز والخامس والعشرين من أبيب وكان جنديا، انتهى.

وفى الجبرتى فى حوادث سنة ثلاث ومائتين وألف أن إسمعيل بيك الأرنؤدى، لما أراد المحاربة مع (الغز) الذين كانوا فى الوجه القبلى، اجتهد فى

(1)

هكذا فى الأصل. والصواب الذى يمليه النص: عن.

ص: 92

البناء عند طرا، وبنى هناك قلعة بحافة البحر، وجعل بها مساكن ومخازن وحواصل، وأنشأ حيطانا وأبراجا وكرانك، وأبنية ممتدة من القلعة إلى الجبل، وأخرج إليها الجبخانة والذخيرة وغير ذلك، وذكر أيضا فى حوادث سنة تسع عشرة ومائتين وألف، أن العزيز (محمد على) قبل جلوسه على تخت مصر، حضر عند الباشا وقبض منه خمسين كيسا وقيل ثمانين، ورجع إلى العسكر فجمعهم وفرّق فيهم الدراهم، واتفق معهم على الركوب على الأمراء القبالى الذين هجموا على طرا وملكوا البرج الذى من ناحية الجبل، وهم (صالح بك الألفى) وأتباعه، و (عثمان بك حسن) ومن انضم إليهم، فركب ومعه أربعة آلاف فارس وكان ذلك ليلا، فلما قربوا من الحرس ترجلوا وقسموا أنفسهم ثلاث فرق، ذهبت فرقة منهم جهة الدير، وفرقة جهة المتاريس، والثالثة جهة الجبل، و (صالح بك الألفى) ومن معه فى غفلتهم مطمئنين وكذلك حرسهم، فلم يشعروا إلا وقد صدموهم، فاستيقظوا وبادروا إلى الهرب، فملكوا منهم دير طرا وأبراجها، وأخذوا مدفعين وبعض أمتعة، وثمانية هجن وثلاثة عشر فرسا، وقتلوا منهم بعض أشخاص، ورجع (محمد على) ومن معه من العساكر على الفور من آخر الليل، ومعهم خمسة رءوس فيهم واحدة لم يعلم رأس من هى، والباقى رءوس عرب، انتهى.

وكان بطرا مدرسة الطوبجية، وهى مدرسة جليلة من إنشاءات العزيز محمد على، تربى بها جملة من الأمراء برعوا فى فنون الطوبجية، وقد تكلم عليها (الدكدور أجوس) فى سياحته. فقال: إن بها ثلثمائة وأحد وتسعين تلميذا، منقسمين إلى فصول وفرق، يتعلمون فنون العلوم والمعارف الطوبجية، على أيدى ثمانية وثلاثين من الخوجات الماهرين، منهم ثلاثة من الإفرنج.

قال: وقد امتحنتهم ووقفت على معارفهم، فأعجبتنى حالتهم وشهدت لهم بالبراعة ما بين معلم ومتعلم، وكان بطرا إذ ذاك ألايان من الطوبجية، وواحد بيادة وآخر سوارى، وكانت القرية بسبب كثرة من بها من العساكر، ومن يلحق بهم من العائلات والأتباع، عامرة آهلة كثيرة الحركة فى البيع والشراء تشبه

ص: 93

المدن الكبيرة، ثم جعل الآن محل المدرسة إسبتالية لمرضى العساكر المقيمين بها، ولم تزل تلك القرية عامرة آهلة بها طواحين ومصابغ وقهاو، ولها سوق صغير دائم يباع فيه أنواع العقاقير واللحم والخضروات بسبب مجاورة العساكر لها، وفى جنوبها وشمالها ورش بسكك حديد لقطع أحجار العمائر الميرية، وبها أيضا ورش لأولاد تادرس جلبى، وورش لأهاليها، وفى بحريها ورشة لصناعة البارود، وفى قبليها ورشة بوابور لحريق الصفصاف لتسويد البارود، وفى جهتها الشرقية بحاجر الجبل طاحونة يديرها/الهواء لبعض أهالى المحروسة، وفى بحريها منازل لمأوى الشغالة وبعض العساكر، وأطيانها قليلة ممتدة على شاطئ البحر، وبها نخيل قليل، ومنها (إبراهيم أفندى عبد الرحيم) برتبة ملازم تبع المدارس الحربية، و (حسين أفندى إبراهيم) وأخوه (محمد أفندى) كلاهما ملحق بالجهادية برتبة ملازم، وأغلب تكسّب أهلها من صناعة قطع الحجر، وقد بنى الخديوى إسمعيل باشا جملة فوريقات للمهمات الحربية، بساحل النيل الشرقى من طرا إلى مصر العتيقة، ومنها إلى ناحية المعصرة القريبة من حلوان، فمنها فوريقة على بعد ألف متر من ناحية طرا، وهى فوريقة المدافع وتعرف بالدكمخانة، جميع آلاتها بخارية، وهى متسعة المساحة، ضلعها الأصغر نحو مائة متر، والأكبر نحو مائتين، ويليها فوريقه البندق وتسمى بالدكمخانة، وآلاتها بخارية أيضا، وهى أوسع من الأولى لأن ضلعها الأصغر نحو مائة وخمسين مترا، والأكبر أكثر من مائتين، وفى بحر طرا أيضا قرية صغيرة يقال لها: معادى الخبيرى، على الشاطئ الشرقى للبحر تجاه قرية البساتين، فيها قليل أشجار، وبجوارها من قبلى دير العدوية بلصقه جبخانة عليها محافظة من العساكر الجهادية، وبجوارها من جهة شرق قشلاق يسكنه العساكر الجهادية غالبا، وفى قبلى طرا بقرب المعصرة، وكان جدد معمل بارود غير معمل طرا، وجرى الشروع فى تحصيل لوازمه، واختيرت له قطعة أرض قبلى المعصرة بنحو أربعمائة متر على ساحل النيل، مستطيلة ضلعها الأصغر نحو خمسمائة متر، والأكبر نحو ألفين وستمائة متر.

ص: 94

(طلخا)

بلدة من مديرية الغربية بمركز سمنود، فوق الشاطئ الغربى لبحر دمياط، أبنيتها باللبن على طبقة أو طبقتين، وبها قليل حوانيت للعقاقير واللحم والدخان ونحو ذلك، وبعض قهاو وخمارة صغيرة، وفيها ثلاثة جوامع أحدها جامع المدرسة على البحر، يقال أن الذى أنشأه (الصالح أيوب)، ورتب فيه تدريس العلوم الشرعية، وقد صار ترميمه بعد نصف هذا القرن على طرف (محمد الجوهرى السقعان الكبير)، والثانى جامع السادات كان أصله زاوية، ويقال أنها بنيت منذ سبعمائة سنة، ثم فى سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف صار هدمها وبناؤها من طرف الحاج (إبراهيم طه) من تجار الناحية، وجعلها مسجدا جامعا، وأوقف عليه جملة دكاكين وقهاو، والثالث الجامع الوسط، به ضريح ولىّ يسمى (الكفان)، ويقال أنه مبنى منذ سبعمائة سنة، وقد صار ترميمه من طرف الحاج (إبراهيم أبى يونس) من مشايخ البلد، فى سنة سبع وثمانين ومائتين وألف، وأعدّ له أربعة حوانيت يصرف عليه منها، وله منارة صغيرة، وبها مكاتب لتعليم القرآن الشريف، مكتب الحاج (إبراهيم أبى يونس) بجوار جامع الوسط، ومكتب (محمد أبى جلبى)، ومكتب (أبى طالب) كلاهما بحارة الباز، ومكتب (إبراهيم أفندى) بحارة مصطفى عواض، ومكتب محمد الهجرسى بحارة الهجارسة، وبها وابور على البحر بجوار المساكن للخواجة (دانى) اليونانى، معد لحلج القطن، وبجواره قصر للسكنى بداخله جنينة صغيرة، ووابور لدائرة الخديوى (إسمعيل باشا) لحلج القطن وسقى المزروعات، بنى فى سنة اثنتين ومائتين وألف، ووابور فى جهتها القبلية على بعد ربع ساعة للخواجة (دكين) الأوروباوى والحاج (إبراهيم أبى يونس)، وبها ورشة تبع دائرة الخديوى أيضا لعصر بزر القطن، بنيت فى سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف، وفى جهتها البحرية بجوار محطة السكة الحديد، جنينة عظيمة

ص: 95

للخديوى (إسمعيل باشا) مساحتها تقرب من خمسة وعشرين فدانا، فيها كثير من أصناف الفاكهة والرياحين وتزرع بها الخضر بكثرة، وفى جهتها الغربية على بعد ربع ساعة جنينة (إبراهيم السقعان).

وبها من المنازل المشهورة منزل الحاج (إبراهيم طه) بحارة المراكبية، وهو من المشهورين بالكرم والصلاح، ومنزل الحاج (إبراهيم يونس) بحارة أبى يونس، ومنزل (البيومى مشالى)، ومنزل (إبراهيم السقعان)، ومنزل الحاج (محمد السقعان الجوهرى)، ومنزل السيد (فائد)، وتعداد أهلها ثلاثة آلاف نفس، منهم نصارى أروام خمسة عشر نفسا، ونصارى أقباط ثلاثون نفسا، وعمدها (إبراهيم أبو يونس)، و (إبراهيم السقعان) رئيس المشيخة، و (البيومى مشالى) ناظر زراعة الجفلك بالناحية، و (السيد فارس) رئيس مجلس الدعاوى، وزمام سكنها نحو أربعين فدانا، وأطيانها ألفان وخمسمائة فدان، منها للجفلك 300 فدان، وللأهالى 2200 فدان جميعها تروى من النيل، ولها أربع جبانات جبانة الكفان، وجبانة الدمياطى بوسطها وهى دارسة، والثالثة تعرف بجبانة سيدى عمر البلتاجى شرقى البلد بنحو ست دقائق وهى المعدة الآن للدفن فيها، والرابعة جبانة البازات شرقى البلد بجوار البحر وهى دارسة أيضا، وبها جملة مقامات كمقام الشيخ عمر البلتاجى، ومقام الشيخ سعيد، بأرض المزارع فى جهتها البحرية، ومقام الشيخ العراقى، ومقام الشيخ أحمد الدمياطى، كلاهما بقرب المساكن، ولها سوق كل يوم ثلاثاء يباع فيه نحو الحمام والدجاج والحبوب، ويزرع فى أطيانها القطن/والقمح والفول وغير ذلك، ومحطة السكة الحديد فى شمالها الشرقى، وفى جهتها البحرية ناحية منيه عنتر، وفى جهتها القبلية ناحية منية الغرقى، وفى جهتها الشرقية مدينة المنصورة، وفى جهتها الغربية ناحية قصر الجرد، ولها طريق فى جهتها الغربية يوصل إلى نبروه فى مسافة ساعة ونصف.

ص: 96

(ترجمة)[أبو المجد الطلخاوى]

وينسب إلى هذه البلدة كما فى الضوء اللامع للسخاوى، حسن بن على ابن محمد بن عبد الله البدر أبو المجد الطلخاوى، ثم القاهرى الشافعى، ولد فى ليلة الأحد مستهل رمضان سنة سبع وثلاثين وثمانمائة بطلخا من الغربية، ونشأ بها فقرأ القرآن ومختصر أبى شجاع، وتلقن الذكر من الشيخ يوسف الأزهرى أحد أصحاب الغمرى الكبير، ثم تحول مع خاله إلى القاهرة فى سنة ثلاث وخمسين فقطنها، وأقام بالأزهر فحفظ المنهاج وألفية النحو، وألفية الفرائض لابن الهائم، واللمحة فى الطب وغالب جمع الجوامع، والتلخيص وألفية الحديث، وأخذ الفرائض والحساب والميقات والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة عن المحب ابن العطار، ونور الدين النقاش، والبدر الماردانى وغيرهم، وأخذ علم الحرف عن ناصر الدين ابن قرقماس، والرمل عن محمد النحريرى، ولازم البدر بن القطان فى الفقه والتفسير والمعانى والبيان والأصلين والمنطق، والإبناسى فى الحديث والصرف وغير ذلك، وأذن له فى الإفتاء والتدريس، فدرس وناب فى القضاء، وحج وتكسب بالطب قليلا، ثم أعرض عن ذلك ولزم التكسب بالشهادة، ولم يتعاط من الأحكام إلا قليلا مع تواضعه وانطراح نفسه وإقباله على ما يهمه، وكتب بخطه أشياء مع ثروة وشدة حرص، انتهى، ولم يذكر تاريخ موته رحمه الله وإيانا.

(طرابنبه)

قرية من مديرية البحيرة بمركز دمنهور، موضعها قبلى ترعة الخطاطبة بنحو ألف وأربعمائة قصبة، وبحرى السكة الحديد، كذلك أبنيتها بالآجر واللبن، وبها جامع بمنارة جدده أحمد قرقر عمدتها، ويكتنفها من الجنوب والغرب كثير من شجر السنط، وتعداد أهلها مائتان وتسع وعشرون نفسا، وزمامها ألف وثلثمائة فدان وخمسة وأربعون فدانا، وتكسبهم من الزرع المعتاد، وبجوارها من مكتبة الأسرة - 2008

ص: 97

جهة الشرق أبعدية إسمعيل بيك نجل المرحوم محمد على باشا الصغير، بها دوار مبنى بالطوب اللبن وزمامها ثلثمائة فدان وأبعدية محمد بيك السنانكلى قبلى ترعة الخطاطبة، وقد تجدد بتلك الأبعادية كفر صغير أنشئ به جامع بمنارة بناؤه بالطوب الأحمر، وقصر مشيد وجنينة صغيرة بها جملة من الثمار والفواكه ووابور مياه، وبها أيضا جملة من الأشجار والنخيل، وزمامها ثلثمائة فدان، وفى بحرى هذه الأبعدية عزبة الحاج إبراهيم زربك، بناؤها بالطوب النئ وزممها عشرون فدانا.

(طرافية)

اسم لمدينة قبطية ترجمت بالعربى باسم (بلقا)، وجعلها أبو الفداء خطا صغيرا تابعا لبلاد الشام، والمقريزى عدّها من ضمن الوجه البحرى خط طرابيه، وجعل به ثمانية وعشرين قرية، من ضمنها قرية فاقوس، وقال كترمير:

إن طرابيه هى كلمة طرافية القبطية، وكلا الكلمتين معناهما بالعربية أى:

أرض العرب، وهو اسم لخط ذكر بطليموس أنه واقع فى شرقى الفرع البيلودياق أى: فرع الطينة، وكان كرسيه قرية فاقوسا.

(الطرانة)

مدينة تذكر كثيرا فى كتب القبط، وتعرف فى الكتب القديمة باسم طرنوطيس، وسماها ابن حوقل، والإدريسى، ومؤرخو بطاركة الإسكندرية فى كتبهم طرنوط، وهى واقعة على الشاطئ الغربى لبحر رشيد، ومنها إلى القاهرة نحو أربعين ميلا، وإلى الإسكندرية نحو خمسة أيام، وكان فرع من النيل يجرى فى وسطها، وقال ابن حوقل: إنه كان بها مسجد من أعظم المساجد، وحمامات وأسواق محكمة البناء، وعصارات قصب ومخازن غلال، وكثير من الكنائس العامرة بالقسيسين والرهبان، وأكثر أبنيتها من الآجر، وقد تهدم معظمها بأمر والى مصر (أبى القاسم بن عبد الله الشيعى)، حيث وجّه إليها عرب كتامة سنة إحدى وثلثمائة، كما قاله (أبو عبيد الله البكرى الأندلسى)،

ص: 98

وكانت دار إقامة حاكم تحت يده جماعة من الجنود المحافظين، وقد صارت الآن قرية صغيرة بها سوق وجامع وخراب كثير، وفى السابق كانت محطة للنطرون الذى يجلب من وادى النطرون.

وفى أول حكم المرحوم العزيز محمد على باشا التزم بالنطرون رجل طليانى اسمه (يافى)، وكان قبل ذلك مستخدما فى بلاده بديوان ماليتها، فهرب من هناك لفتنة حصلت، وكان من أهل العلوم والمعارف، فحفه العزيز بأنظاره وأعطاه رتبة أميرلاى، وعرف بين الناس باسم (عمر بيك)، فأخذ فى تدبير أمر مصلحة النطرون وتحسين طرق استخراجه، وسكن تلك القرية ولاذ به جماعة من أبناء جنسه وسكنوا بها معه، فحصل لتلك المصلحة رواج عظيم، ورغبت التجار فى التجر فى النطرون، وصار فرعا مهما من فروع الحكومة بعد أن كان غير متلفت إليه، كما ذكر ذلك (الدوك دوراجوس) فى سياحته، وقد تكلمنا على النطرون بأبسط عبارة فى الكلام على وادى هبيب.

وقد وجدت فى كتاب فرنساوى مترجم لكتاب أبى/عبيد الله البكرى الأندلسى المؤرخ، ولادته فيه بسنة ثمان وعشرين ومائة، ووفاته فى سنة أربع وتسعين ومائة، ذكر الطريق المسلوك فى ذاك الوقت من الطرانة إلى بلاد المغرب، فأردت إيراد ذلك لما فيه من الفائدة، فحاصله أن من الطرانة طريقا توصل إلى (المنا)، وهو موضع فيه ثلاث بلاد خراب، وبعض أبنيته باقية إلى الآن، منها جملة قصور فى صحراء من الرمل، متسعة متينة البناء عالية الأسوار، ويسكن بعضها الرهبان، وبالمنا آبار عذبة الماء قليلته، ومن المنا إلى مينا وهى كنيسة كبيرة تشتمل على تماثيل وتصاوير كثيرة عجيبة، ولا تطفأ قناديلها ليلا ولا نهارا وفيها قبة بها صورة رجل راكب على جملين، واضع كل رجل على جمل وإحدى يديه مفتوحة والأخرى مضمومة، وكل ذلك من حجر مرمر، ويقال أنه تمثال أبى مينا، وبإحدى جهات الكنيسة جامع للصلاة، وحولها كثير من أشجار الفاكهة، مثل الخروب والجوز والكرم، ويقال أن سبب

ص: 99

بنائها أنه كان فى موضعها قبر بقربه قرية فيها رجل أعرج، اتفق أنه ند

(1)

له حمار، فخرج يبحث عنه فمر بذلك القبر وبعد قليل وجد حماره، ورجع إلى منزله وقد شفى من عرجه، فشاع فى القرية أن ذلك من بركة صاحب القبر، فهرعت المرضى لزيارته فحصل لجميعهم الشفاء، فلما بنيت الكنيسة انقطع ذلك، ثم من هذا الموضع إلى ذات الحمام، وهو موضع به سوق وجامع بناه (زيادة الله الأغلبى) فى عوده من المشرق إلى إفريقية، وتجاه الجامع بئر عذبة المياه كثيرته، وفى ضواحى هذه القرية صهاريج وبساتين كثيرة، وقلعة يقيم بها عسكر من طرف صاحب مصر، ويقال أن ماء هذا الموضع يورث الحمى، ولذلك سميت بذات الحمام، والعرب الرحالة يقولون: اللهم احفظنا من الحجاز وغلاها، ومصر ووباها، وذات الحمام وحماها.

وبين الإسكندرية وذات الحمام كما قال (الإدريسى)، ثمانية وثلاثون ميلا، وقال (برت) السياح أن بئر الحمام فى الجنوب الغربى للإسكندرية، على بعد أربعة وثلاثين ميلا من الأميال التى كل ستين منها درجة أرضية، ثم من ذات الحمام إلى الحنية، وهى موضع آخر اسمه من اسم قبة قائمة هناك فى وسط الرمل، ويفصلها عن البحر تل، ويقال أنها كانت أحد أبواب الإسكندرية فلذا ظن بعض الناس أنها محل قرية بوصير المعروفة الآن ببرج العرب، مع أن البعد بين الحنية والإسكندرية اثنان وسبعون ميلا، وبين الإسكندرية وبوصير على ما ذكره الإدريسى عشرون ميلا، فليست الحنية محل بوصير، وحول الحنية عائلات من عرب مزاتة يسكنون فى أخصاص من النبات، وبينها وبين ذات الحمام حجر من الرخام الأسود تقول العرب أنه سفرة فرعون، وهو الآن غطاء لصهريج يسمى (التيس)، ثم من الحنية إلى الكنائس وهو موضع يقال له: رأس الكنائس، وهى ثلاث متخربة بقربها جبل آبار قيس،

(1)

- ندّ: شرد ونفر. القاموس (ن د د).

ص: 100

وهما بئران جيدتا الماء عميقتان جدا، يسميان (عرار قيس)، وقال بعضهم أن ذلك الجبل يقال له جبل العوسج، والعوسج شجر صغير ومنه يتوصل إلى قباب (معنى) بعد ثلاثين ميلا، وتسمى أيضا خراب القوم، وهى قباب تحيط بجملة صهاريج.

وقال (محمد بن يوسف بن الوراق): خراب القوم محل مدينة قديمة هدمها الروم، وفيها جملة صهاريج، وغربى هذا الموضع قصر يعرف بقصر (أبى معد نزار بن خالد بن يحيى بن بابان)، حوله نحو عشرين عائلة من قريش، منهم عائلة (جبير بن متيم)، وجبير هذا قرشى دخل فى الإسلام عند فتح مكة، ومات بين الخمسين والستين من الهجرة، وكان من المحدثين الأعلام.

ويقيم أيضا بهذا الموضع قبيلة (بنى مدلج)، وغيرهم من (بنى فضالة)، و (بنى عقيدان) من البربر، ويقال أن هؤلاء الأعراب كثيرا ما ينقلب المولود عندهم إذا كان أنثى شيطانا أو غولة، وتقع على الناس وتؤذيهم ولا يتحفظ منها إلا بربطها.

قال (محمد بن يوسف): قال لى (محمد بن قاسم) بعض أمراء استيجة وهى قرية قريبة من إشبيلية من بلاد الأندلس، أن ذلك صحيح وقد شاهدته بنفسى، ثم من قصر (أبى معد) إلى الرمادة وهى بلدة قريبة من البحر مسورة وبها جامع، وحولها جنائن فيها أنواع أشجار الفاكهة.

وقال الإدريسى: الرمادة قريبة من شرق العقبة الكبرى، ومن الرمادة إلى قصر الشماس وهو قريب منها وبه ناس قليلون، وبين خراب القوم والرمادة خمسة وثلاثون ميلا، ثم إلى خراب أبى حليمة وتعرف أيضا برأس حليمة، شرقى العقبة الكبرى بينها وبين الصغرى ورأس حليمة، قلعة مسكونة وبها سوق وخمسة آبار، وبقربها جملة صهاريج ومنها يتوصل إلى قصر الروم، وهو

ص: 101

عمارة تشتمل على جملة قباب من الطوب، بقربها جبل عال فى أسفله جملة صهاريج، أكبرها يسمى المطفلة، وبعد قليل يتوصل إلى وادى مخائيل على بعد مائة وسبعة وعشرين ميلا من برقة على قول الإدريسى، وسماه (برت) فى سياحته وادى مخفى وفى هذا الوادى قصر وسوق عامر، وبقربه جملة صهاريج وحيضان وليس به عيون ماء، وهو موضع كثير الخير والأشياء فيه رخيصة ومنه إلى الأجدبية خمسة أيام.

ومن هناك يتوصل إلى برقة وتسمى فى لغة الروم بنطابوليس، يعنى الخمس مدن، لأن بنطا/معناها: خمسة، وبوليس معناها: مدينة، ودخلها (عمرو بن العاص) سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار، ولأجل تحصيل هذا المبلغ، رخّص لهم فى بيع من شاءوا من أولادهم، قال (الليث بن سعد): كتب عمرو بن العاص على لواته: فى شرطه أن يبيعوا أبناءهم فيما عليهم من الجزية، وسمع (عمرو) يقول على المنبر لأهل بنطابلس

(1)

عهد يوفى لهم به.

ووجه عمرو (عقبة بن نافع) حتى بلغ زويلة، وصار ما بين برقة وزويلة للمسلمين، ومدينة برقة واقعة فى صحراء حمراء التربة والمبانى، فتحمر لذلك ثياب ساكنيها والمتصرفين فيها، وعلى ستة أميال منها الجبل، وهى دائمة الرخاء كثيرة الخير تصلح بها السائمة وتنمو على مراعيها، وأكثر ذبائح أهل مصر منها، ويحمل منها إلى مصر العسل والقطران، وهو يعمل فى قرية من قراها يقال لها (مقة)، فوق جبل وعر لا يرقأ إليه فارس بحال، وهى كثيرة الثمار من الجوز والأترج والسفرجل وأصناف الفواكه، وبمدينة مقة قبر (رويفع) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحول مدينة برقة قبائل من لواتة والأفارق واسمها بالرومية الإغريقية، وفى الطريق من برقة إلى إفريقية، وادى (مسويين) فيه قباب خربة، يقال إن عددها ثلثمائة وستون، وفيها بساتين.

(1)

بنطابوليس. ولعل المثبت فى المتن: قراءة.

ص: 102

وفى هذا الوادى التربة التى تستعمل فى تخمير العسل، وقد ذكرها (ابن البيطار) فى مفرداته فقال: إنها تسمى بالفارسية (جوزجندن)، وبالعربية شحم الأرض، وتسمى فى مدينة برقة (خرء الحمام)، وأهل الأندلس يقولون لها تربة العسل، وقال (إسحق بن عمران): إنها تربة تتركب من حبوب تشبه حب الحمص بيضاء ذات صفرة، بها يخمر العسل، وقال (ابن جلجل):

(جوزجندن): كلمة فارسية معناها تربة العسل، تستعمل فى الصيف لجعل العسل مربى، ويؤتى بها من قرية (زاب) من بلاد القيروان، وتسمى أيضا تلك القرية (زيبان)، وهى غير زاب الذى هو نهير يصب فى بحر الدجلة، وقال (الرازى): إن هذا الشراب أى هذا المربى حار رطب يزيد فى المنى ويورث السمن، وفى كتاب (الطلاسم) أن هذه التربة تسمى فى مدينة برقة (خرء الحمام)، وفى بغداد (جوز جندن) وإن وضع منها ربع كيلجة وهى ثلاثة أرطال وثلاثة أرباع رطل، على عشرة أرطال من العسل، وثلاثين رطلا من الماء الحار، وجعل فى إناء وقفل عليه وحرك قليلا، امتزج فى الحال وصار مشروبا جيدا، وقال بعض النباتيين من الإفرنج: إنه يسيل من شجر يسمى اجراسينا منجوستانا، ثم يجمد ويصير أصفر لزجا، وأنكر ذلك مترجم كتاب البكرى لعدم وجود هذه الشجرة فى إفريقية، وقال: إنه ربما كان نوعا من المن.

ثم من برقة إلى اجدابية وهى مدينة فى الصحراء أرضها حجرية، بها بعض آبار نقر فى الحجر جيدة الماء وبها عين عذبة، ونخلها قليل وبساتينها صغيرة، وبها شجر الآراك دون باقى الأشجار، وجامع حسن بناه (أبو القاسم ابن عبد الله)، منارته مثمنة الشكل، وبها حمامات وفنادق وأسواق، وأهلها أصحاب يسار، وجميعهم أقباط وفيهم قليل من عرب لواتة، ولها مينا فى البحر تعرف بالمحور بعيدة عنها بثمانية عشر ميلا، ولها ثلاث قلاع، قال ومدينة اجدابية خراب الآن، يعنى سنة ثمان وخمسين وثمانمائة وألف مسيحية، وقد تنوسى اسم ميناها، وكانت سقوف منازلها قبابا من الطوب لمقاومة الرياح

ص: 103

الشديدة فى هذه الجهة، والأشياء بها رخيصة، والتمر كثير يأتى إليها منه أنواع من مدينة عجلة.

ثم من اجدابية إلى مدينة صرت بضم الصاد وكسرها الواقعة فى داخل الصرت الكبير، وفى نصف الطريق بين مسترانة وبنى غازى التى هى يرينيس القديمة، وقال أيضا إن مدينة صرت تسمى الآن مدينة السلطان، وأن اسم صرت يطلق على ساحل الصرت الكبير، الذى جزؤه الشرقى يسمى (جون الكبيرت)، وقال (البكرى) إن مدينة صرت واقعة على ساحل البحر، يحيط بها سور من الطوب، وبها جامع وحمام وبعض أسواق، ولها ثلاثة أبواب القبلى والبحرى والثالث صغير يشرف على البحر، ولها نخل وبساتين وآبار عذبة الماء، وعدد كثير من الصهاريج، ويذبح بها المعز ولحمه جيد، أحسن ما يؤكل فى طريق مصر، وأهلها أخبث الناس أخلاقا، معاملتهم سيئة جدا، لهم أسعار مقررة بينهم، فإذا رست سفينة بمرساهم وكان بها زيت مثلا، وكانوا فى أشد الاحتياج إلى هذا الصنف، فإنهم يتخذون قربا فارغة ويسدون أفواهها بعد النفخ، ويملؤن بها الدكاكين وحيشان البيوت، [و]

(1)

يوهمون أصحاب السفينة أنهم غير محتاجين إلى هذا الصنف، فإذا أطالوا المقام بهذا المرسى، فإنهم يبيعون بضاعتهم بالأثمان التى قرروها بينهم بلا زيادة، ولدناءة طباعهم يقال لهم (عبيد قرلى) نسبة لطير صغير يضرب بشراهته وحرصه المثل، فإنه يكون فى الجو كالشاهين، ينظر بعين إلى الماء وبأخرى إلى السماء، فإن نظر سمكة انقض عليها كالسهم، وإن رأى طيرا جارحا يقصده هرب منه وقيل فى المعنى شعر/:

يا من جفانى وملا

خشيت أهلا وسهلا

وما ترحبت لمّا

رأيت مالى قلا

إنى أظنك تحكى

بما فعلتوا القرلى

(1)

إضافة لمنع اللبس فى المعنى.

ص: 104

ولسانهم ليس بعربى ولا فارسى ولا بربرى ولا قبطى ولا يفهمه غيرهم، وأطوارهم تخالف أطوار أهل طرابلس أخلاقهم سهلة، صادقون في المعاملة مع الأغراب وغيرهم.

من صرت إلى طرابلس عشرة أيام، ومنها إلى اجدابية ستة أيام، ومن اجدابية إلى برقة كذلك، ومعنى طرابلس بالرومى ثلاث مدن، فإن طرا معناها: ثلاثة، وبلس معناها: مدينة، ويقال أن الذى بناها هو القيصر (صوير) وتسمى أيضا مدينة (إياس) وهو اسمها القديم، وولاية طرابلس، سميت فى مبدأ القرن الثالث من الميلاد بالاسم الذى لها الآن، وكان بها ثلاث مدن كبيرة وهى لبتيس ماينا، واسبرته، وويه، وأطلقت العرب على الأولى اسم لبده، وعلى الثانية اسم سبرا، وعلى الثالثة تريبولى، وقال البكرى إن طرابلس مدينة على البحر لها سور من الحجر، وبها جامع وأسواق وحمامات كثيرة، ويسكن حولها كثير من القبط، لباسهم كلباس البربر ولسانهم قبطى، وقراهم شرقى المدينة وغربيها تمتد إلى موضع بنى صابرى أو سامرى مسيرة ثلاثة أيام، ومن قبلى إلى أرض هوارة مسيرة يومين، وفيها عدة رباطات ويتوصل منها إلى مدينة مغمدا، وهى على مسيرة يوم من صرت، ومغمدا فى الأصل اسم صنم على ساحل البحر يحيط به أصنام كثيرة، وبها قصر بناه (العربى) متولى صرت، من طرف بنى عبيد الله، وفيها كانت الوقعة المشهورة بين (أبى الأحوص عمرو العجيلى)، (وأبى الخطاب عبد العلاء بن السامح) رئيس فرقة العبيديين، وكان وقوعها بقرب البحر وانهزم فيها (أبو الأحوص) وفرّ إلى مصر وذلك سنة اثنتين وأربعين ومائة هجرية، ومن مغمدا على مسيرة يوم يتوصل إلى قصور حسن المسماة باسم (حسن بن النعمان) متولى إفريقية سنة سبعين من الهجرة، وسبب وضعه لهذه القصور، أنه بعد موت (الزبير بن قيس) عين الخليفة (عبد الملك بن مروان) لولاية افريقية (حسن بن النعمان الفاسانى)، فوصلها فى المحرم سنة ثمان وستمائة، وتلاقى مع جيش الكاهنة

ص: 105

فى أرض قابس، وحصلت بينهم مقتلة قتل فيها رئيس خيالة (حسن بن النعمان) وكثير من جيشه، وأسر تحت يد الكاهنة ثمانون رجلا، وأما هو فقد فرّ بباقى عسكره متفرقين، واجتمعوا عند قصور حسن الواقعة على طريق مصر، وأطلقت الكاهنة الأسرى بعد أن عاملتهم بأحسن المعاملة، وأبقت (يزيد بن خالد القيسى)، وعند عود الأسرى أخبروه بما حصل من إكرامهم، فسر بذلك وكتب إلى الخليفة (عبد الملك) يخبره بما وقع له مع الكاهنة وأن يمده، فكتب له عبد الملك أن يقيم بالموضع الذى هو به، فبنى القصرين وآثارهما باقية إلى الآن، وكان بقربهما عدة بساتين وبئران ماؤهما مالح، وأقرب محطة إلى خراب أبى حليمة القصر الأبيض، الذى كان فوق العقبة المتخرب الآن، وبقربه صهريج خرب، وهو على كلام بعضهم آخر أرض لواتة.

وأما عرب مزاتة فتسكن تحت تلك العقبة، ومدينة طرابلس كثيرة الفاكهة وأنواع المأكولات، وفى شرقيها بعض بساتين لطيفة تمتد إلى سبخة يعنى بركة مالحة قد جف ماؤها، ويستخرج منها ملح الطعام، وفى داخل المدينة بئر تعرف ببئر أبى الكنود، يقولون: أن شرب مائها ينقص العقل، وبئر آخر عذبة الماء تعرف ببئر القبة، وعن (الليث بن سعد) أن (عمرو بن العاص) قصد طرابلس فى سنة ثلاث وعشرين هجرية، ولما وصل إلى القبة التى على الجبل شرقى المدينة، حاصر المدينة شهرا ولم يبلغ منها اربه، وفى ذات يوم خرج أعرابى من آل مدلج من المعسكر مع سبعة من رفقته بقصد الصيد، فساروا فى الفضاء غربى المدينة، وكان ذلك وقت شدة الحر، فتبعوا فى عودتهم ساحل البحر، وكان سور المدينة ممتدا إلى البحر، ولم يكن لها سور من جهته، فكانت السفن تدخل فى المينا وتقرب من المنازل، ورأى المدلجى ورفقته طريقا بساحل البحر قد تركها فى جزره، فتبعوها إلى أن وصلوا الكنيسة، وأعلنوا هناك بالتكبير فخافت الروم ونزلوا فى المراكب، فحينئذ دخل (عمرو بن العاص) بجيوشه المدينة، واستولى على جميع ما بها، ثم لما تولى (هرثمة بن

ص: 106

أعين) على القيروان سنة تسع وسبعين ومائة من الهجرة، بنى السور الساتر لمدينة طرابلس من جهة البحر، ومن ملحقات طرابلس أرض تعرف بسهل سبجين، لها شهرة بكثرة المحصول، فإن متحصلها فى السنة قدر بذرها مائة مرة، قال مترجم كتاب البكرى: إن هذه الأرض لم تزل فى أعلى درجة من الخصب، وهى واقعة قبلى طرابلس على بعد ستة وثلاثين فرسخا من المدينة، وتسمى الآن بسفجين بالفاء بدل الباء الموحدة.

وعلى بعد ثلاثة أيام من طرابلس، وستة أيام من/القيروان، يوجد جبل يعرف بجبل نفوسة، طوله من الشرق إلى الغرب مسيرة ستة أيام، تسكن بقربه عرب بنى زمور، لهم قلعة تسمى تيرقت، بمثناة فوقية فى أوله وبالقاف أو بالفاء، أو بيرقت بموحدة فى أوله، وهى قلعة حصينة منيعة، وبعدها عرب بنى تدميت، ولهم ثلاث قلاع، وفى وسط أرضهم مدينة كبيرة يقال لها (جدو)، واقعة فى الجنوب الغربى لمدينة طرابلس، عل بعد أحد وتسعين ميلا، وفيها أسواق وعدد كثير من اليهود، وقال (محمد بن يوسف): إن مدينة شيروس هى مركز جميع بلاد جبل نفوسة، وهى مدينة لطيفة متسعة بها كثير من السكان، ولم يكن بها جامع ولا بما حولها من البلاد، وعددها ينيف على ثلثمائة بلدة كلها عامرة بالسكان، وجميع أهالى تلك البلاد يزعمون أن الصلاة لا تصح إلا خلف معصوم، فلا يوجد من يصلح للإمامة، فهذا هو السبب فى عدم بناء المساجد، وبين مدينة شيروس وطرابلس خمسة أيام، وقصر لبدة واقع بينهما، وهو قصر عتيق مبنى بالحجر والجير، وحوله مبان عتيقة أيضا أغلبها خراب، وبه نحو ألف من العرب الخيالة، يديمون المناوشة مع من جاورهم من البربر، والبربر يخافونهم ويدخلون تحت حكمهم، مع أن فى إمكان البربر تهيئة عشرين ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، وفى وسط جبل نفوسة كثير من النخل والزيتون وشجر الفاكهة، وقد غزا (عمرو بن العاص) أهالى ذلك الجبل وكانوا

ص: 107

نصارى، ثم خلّى سبيلهم بمكاتبة وصلت إليه من سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.

ومن نفوسه إلى زويلة من أرض فيزان، يقصد المسافر أولا مدينة جدو ومن هناك يسير فى صحراء ثلاثة أيام فى الرمل، فيصل إلى طيرى، وهى موضع فى منحدر الجبل، به كثير من الآبار والنخل فإذا صعد على الجبل، يجد صحراء مستوية يسير فيها أربعة أيام بلا ماء، فيصل إلى بئر أبى ضرف، ثم يسير فيصل إلى جبل طرغين فيسير فيه ثلاثة أيام إلى (تمرما)، وهى مدينة كثيرة النخل، وأهلها من بنى جلدين وفيزانة، ومن عوائدهم أنه إن حصلت عندهم سرقة يكتبون كتابة تنتقل من بعضهم إلى بعض، فيحصل للسارق اضطراب مستديم، ولا يستريح حتى يقر بالسرقة ولا ينقطع اضطرابه حتى تمحى الكتابة.

وعلى بعد يومين من هذه المدينة توجد مدينة سبآب، وهى كثيرة النخل أيضا وأهلها يزرعون النيلة، ومنها يكون السير فى صحراء مستوية ذات رمل دقيق خال من الحجر والتراب، وبعد السير فيها يوما يتوصل إلى مدينة زويلة، وهى مدينة بلا سور واقعة فى وسط الصحراء، وهى فى كبرها تشبه اجدابية، ويليها بلاد العبيد السود، وبمدينة زويلة جامع وحمّام، وعدة أسواق، وتجتمع فيها قوافل جميع الجهات ثم تتفرق منها، وفيها كثير من النخل وزرعها يسقى على الجمال، وقال مترجم كتاب البكرى: إن زويلة فيزان تغيرت الآن عن أحوالها القديمة، وخلفها مدينة مرزوق.

وقال البكرى: إن عمرو بن العاص بعد أن استولى على برقة، بعث (عقبة بن نافع) فاستولى على جميع البلاد الواقعة بين زويلة وبرقة، وفى مدينة زويلة قبر الشاعر (دعبل بن على الخزاعى). وقال ابن خلكان: إن دعبلا مات فى مدينة تيب الواقعة فى الجنوب الشرقى من بغداد، على بعد أربعة وخمسين

ص: 108

فرسخا، وبين زويلة واجدابية مسيرة أربعة عشر يوما، وأهل زويلة يستعملون طريقة حسنة فى خفارة مدينتهم، وهى أن من عليه الدور فى الخفارة يأخذ حيوانا ويحمله من جريد النخل بحيث تجر أطراف الجريد على الأرض، ويدور به حول المدينة فيرسم الجريد دائرة فى الأرض، وفى الغد يخرج مع بعض الأصحاب على الجمال، ويطوفون حول البلد فإن رأوا أثر قدم فى الرمل تبعوه حتى يعرفوا صاحبه، ومدينة زويلة واقعة فى الجنوب الغربى من طرابلس، وقال بعض السياحين: إن زويلة فى الجنوب الشرقى والجنوب الغربى، وقال البكرى: إنها محل تجارة الرقيق، ومنها تتفرق العبيد، وفى جميع بلاد إفريقية وغيرها والمعاوضة فيها بقطع من القماش الأحمر.

وبعد صحراء زويلة بمسيرة أربعين يوما، تجد بلاد (قانم) وهم طائفة من العبيد وثنيون يعسر الدخول فى أرضهم، ويقال: إن هناك بعضا من الأمويين الذين فروا فى وقعة العباسيين، وبلاد قانم جعلها البكرى فى الشمال الشرقى لبحيرة تزآد، وقال أيضا: إن بين زويلة ومدينة (صبحة) خمسة أيام.

وصبحة واقعة فى شمال مرزوق على بعد اثنين وعشرين فرسخا، وصبحة مدينة كبيرة بها جامع وأسواق، وبينها وبين مدينة (حل) خمسة أيام، وتسميها السياحون (حن)، وتجعلها فى الشمال الشرقى لمدينة صبحة على بعد خمسة وأربعين فرسخا، وقال أيضا: إن مدينة (حل) بها كثير من السكان والنخل، وجملة عيون ماء، ومنها إلى مدينة (ودّان) يوم واحد.

وفى (ودّان) قلعة وعدة حارات تقفل بأبواب، وهى منقسمة قسمين يسكن بأحدها قبيلة (سهميد)، وتسمى مدينة (دلباق)، ويسكن بالآخر قبيلة أصلها من حضرموت، وتسمى مدينة (بوصه) أو (يوسى)، وللبلدين جامع واحد متوسط/بينهما، ولا تنقطع المناوشة بينهما لعداوة بينهم، وعندهم فقهاء من ودّان، ومؤنتهم التمر، ويزرع بأرضهم قليل من البر يسقى على

ص: 109

الجمال وبلدة (تجرفت) على ثلاثة أيام من (ودّان)، وبها جامع وأصل سكانها من ودّان، وهى كثيرة التمر سيما النوع المعروف بالبرنى، ومنها يتوصل إلى مدينة صرت، وبين صرت وزويلة إثنا عشر يوما، كما بين صرت و (ودّان)، فهى فى الوسط بينهما، و (ودّان) فى الجنوب الغربى لصرت، وزويلة قبلى (ودّان) على بعد ثمانية وخمسين فرسخا، فعلى هذا يكون ما بين تجرفت وزويلة مسيرة أربعة عشر يوما فى الطريق الغربى، ومن تجرفت إلى الفسطاط مسيرة تسعة وعشرين يوما، وذكر البكرى أيضا طريقا آخر بين زويلة وتجرفت فقال: من زويلة إلى (تمسا) يومان، و (تمسا) مدينة كبيرة بها جامع وأسواق، ومنها إلى (زلاء) الواقعة فى الشمال الشرقى لتمسا، يكون السير فى الصحراء ثمانية أيام، وفى وسط الطريق محطة يسكنها ناس من ودّان، وزلاء مدينة كبيرة متسعة، بها جامع وعين ماء ونخل كثير، وأهلها من البربر من قبيلة مزاتة، ومن زلاء إلى سهل برقانة ستة أيام، ومن (برقانة) إلى قلعة (الفروج)، وهى قلعة خراب واقعة فى وسط سبخة وفيها صهريج ماء، ومنها إلى الصرت خمسة أيام، ومن الصرت إلى اجدابية يوم واحد، ومن اجدابية إلى قصر (زيدان الفتى) ثلاثة أيام، ومن هذا القصر إلى (عجلا) أربعة أيام، وعجلا اسم لإقليم به قرى كثيرة ونخل وأشجار فاكهة، ومدينته الشهيرة (أرزقية)، وهى مدينة كبيرة بها عدة مساجد وأسواق، ومنها إلى تجرفت أربعة أيام، ومن يريد السفر من طرابلس إلى ودّان يمر ببلاد هوارة، ويكون سيره للجنوب ويمر فى طريقه بجملة من نجوع العرب، وأبراج بها جماعة مقيمون لخفر الدرب، ثم يصل إلى قصر (ابن ميمون) وجميع ذلك تابع لولاية طرابلس، ثم على بعد ثلاثة أيام من قصر (ابن ميمون) يتوصل إلى صنم على جبل، يسمى ذلك الصنم (جرزا)، والعرب تقرب له القرابين ويتضرعون إليه ويسألونه شفاء أمراضهم، وتحصيل أغراضهم، وقال مترجم البكرى: إن (جرزا) بلد على نهير يسمى بهذا الاسم،

ص: 110

فى منتصف الطريق بين طرابلس وودّان، وعرضها الشمالى ثلاثون درجة وسبع وثلاثون دقيقة.

وفى سنة ثمان عشرة وثمانمائة وألف مسيحية وصف هذه الجهة أحد السياحين، فقال: لما وصلت (غرزا) لم أجد بها إلا بعض بيوت، وبقربها على سفح الجبل رأيت بعض قبور قليلة الاعتبار، وببعضها أعمدة غير متناسبة الأجزاء، وعليها نقوش رديئة وتصاوير الإنسان والحيوان غير متقنة الصنعة، لم ينشأ رسمها عن ذى معرفة.

ثم قال مترجم البكرى: والقرابين المتقدم ذكرها، جارية فى بقعة فى جنوب طرابلس على مسافة أيام قلائل، ومن هذا الصنم إلى ودّان ثلاثة أيام، وفى وقت محاصرة (عمرو بن العاص) لمدينة طرابلس فى سنة ثلاث وعشرين من الهجرة واستيلائه عليها، أرسل (بشر بن أرطاة) إلى ودّان، فاستولى عليها وضرب على أهلها الخراج، قال (ابن عبد الحكم) مؤرخ القرن الثالث من الهجرة: إنهم رفعوا لواء العصيان وأبوا دفع الخراج، فتوجه (عقبة بن نافع الفهرى القرشى) إلى المغرب، وكان قد سبقه إليه (معاوية بن خديج) و (بشر ابن أرطاة)، و (شريك بن سهيم) أمراء من قبيلة (مراد) فساروا جميعا إلى غدمس من أرض الصرت، فنزل بها جزء من الجيش فى إمرة (الزبير بن قيس)، من قبيلة (بلىّ)، وسار إلى ودّان فى أربعمائة فارس وأربعمائة جمل وثمانمائة قربة ماء، فلما وصلوا إلى ودّان تغلبوا عليها وقبضوا على ملكها وقطعوا إحدى أذنيه، فسألهم عن سبب قطع أذنه مع أنه معاهد للمسلمين، فقال له عقبة: هذا يذكرك كلما وضعت يدك على أذنك المقطوعة، أنك لا تطمع فى حرب العرب، ثم استولوا منه على ثلاثمائة وستين رأسا من الرقيق التى ضربها عليهم (بشر)، ثم إن عقبة سأل الأهالى عما بعدهم من البلاد فقالوا:(جرما) تخت بلاد فيزان، فسار إليها فوصلها بعد ثمان ليال، واستولى عليها وأمرهم بالإسلام فقبلوا، وخرج ملكهم لزيارة أمراء العرب، وكانت

ص: 111

محطتهم على ستة أميال من المدينة، فقابله بعض فرسان من طرف (عقبة) حالوا بينه وبين أتباعه، وأنزلوه عن ركوبته وأجبروه على أن يمشى على قدميه، ففعل، وكان رقيق المزاج فتأثر من المشى، وما وصل حتى صار يطفح دما فسأل عن سبب معاملته بهذه المعاملة مع أنه مطيع داخل فى الإسلام، وآت إليهم مختارا، فقال له عقبة: هذا يذكرك ألا تطمع فى محاربة العرب، وبعد أن ضرب عليه ثلاثمائة وستين من الرقيق كل سنة، سار بلا مهل إلى قصور فيزان واستولى على جميعها، وسأل عما بعدهم من البلاد فقيل له: قلعة (جوان) على رأس جبل فى حدود الصحراء وهى قصبة بلاد (كوار)، فسار حتى وصل هذه القلعة بعد خمسة عشر يوما، فحاصرها شهرا كاملا ولم يبلغ منها اربه فتركها، وسار إلى ما حولها من القلاع واستولى عليها واحدة واحدة، وقد أتى إليه جيشه بملك (كوار) فقطع له إصبعا/، فسأل عن السبب، فقال له: إنك كلما نظرت إلى إصبعك لا تطمع فى محاربة العرب، ثم ضرب عليهم الجزية ثلثمائة وستين رأسا من الرقيق، وسأل عما بعدهم من البلاد، فقالوا: لا علم لنا، فرجع إلى (جوآن) ولم يقم، وسار منها مسافة ثلاثة أيام، ونزل بجيشه فى موضع ليس به ماء وقد اشتد بهم العطش، حتى أشرفوا على الهلاك، فصلى بهم صلاة الاستسقاء ودعا الله تعالى، فما أتم صلاته ودعاءه إلاّ وقد حفر الحصان برجله فظهرت صخرة نبع منها ماء، فأمر عقبة بحفر الأرض فخرج ماء عذب جيد، فشربوا واستقوا، فسمى ذلك الموضع ماء الفرس إلى اليوم، ومن هناك رجع عقبة إلى مدينة (جوآن) من طريق غير التى سلكها، ودخل ليلا والناس نيام فقتل الخفر، واستولى على النساء والأطفال والأموال، ثم رجع إلى زويلة واجتمع بباقى عسكره بعد أن غاب عنهم خمسة أشهر، وقام بهم متوجها إلى المغرب وكان لا يتبع فى سيره طريقا مطروقا، ودخل أرض (مزاتة) واستولى على جميع قلاعها، ثم سار إلى (قفصا) و (قسطيليا)، وبعد أن استولى عليهما عاد إلى القيروان، انتهى.

ص: 112

(طرهونة)

منها شيخ العرب (كريم) بضم الكاف وفتح الراء وشد المثناة التحتية وفى آخره ميم، وهو شيخ تلك الناحية، وفى (الجبرتى) أنه قبض عليه فى سنة تسع وعشرين ومائتين وألف، وكان قد عصى على الحكومة ولم يقابل حكام الجهة، فاحتال عليه المرحوم (إبراهيم باشا) وأمنه فحضر وأظهر الطاعة، وبعد حضور العزيز من أرض الحجاز، ذهب لمقابلته اعتمادا على تأمين ابنه، واستصحب معه هدية فيها أربعون جملا فقبل هديته ثم أمر بضرب عنقه بالرميلة، لتفرسه فيه الإصرار على الفساد، وكان العزيز مشغوفا بإزالة المفسدين، وراحة البلاد والعباد من شرهم.

(طليا)

قرية من مديرية المنوفية بقسم أشمون جريس، موضوعة على ترعة النجار وفى غربى بحر العزب بمسافة خمسمائة قصبة، أبنيتها بالآجر واللبن، وبها جامع قديم متهدم وجملة زوايا مقامة الشعائر، وبها ديوان تفتيش دائرتها، ووابوران أحدهما لسقى زراعة الدائرة، والثانى لزراعة (شريف باشا) وورثة المرحوم (سليمان باشا الفرنساوى)، وبها معمل فراريج، وفى جهتها الغربية تل قديم يعرف بالكوم الأحمر بجوار أرض (إسمعيل بيك) مفتش دائرتها سابقا، وعزبة تبع زراعة تفتيشها أيضا، ورى أرضها من ترعة النجار.

ص: 113

(ترجمة)[الشيخ عبد الرحمن الطلياوى]

وينسب إليها كما فى الضوء اللامع للسخاوى، الشيخ عبد الرحمن بن سلام بن إسمعيل الصعيدى الأصل الطلياوى ثم القاهرى الشافعى ويعرف بالبدوى، ولد بطليا من المنوفية وقدم القاهرة بعد السبعين والثمانمائة، فجود القرآن وقرأ لابن كثير، ثم اشتغل بالفقه عند (ابن سولة) وغيره، واشتغل بالنحو عند (الكورانى) و (العلاء الحصنى) و (صالح اليمنى) وغيرهم، وقرأ فى الصرف والمنطق والأصول كثيرا، ولازم (ابن قاسم) و (حسنا الأعرج)، وكذا أخذ عن (الشمس البلبيسى الفرضى) و (عبد الحق)، ونزل فى المزهرية وقطنها، وكان الغالب عليه الخير، انتهى. ولم يذكر تاريخ موته رحمه الله وإيانا.

(طما)

بلدة قديمة هى آخر مديرية جرجا من الجهة البحرية، واقعة فى الجانب الغربى للنيل على مسافة قليلة، وكانت قبل الآن مركز قسم، واليوم هى مركز حاكم الخط من قسم طهطا، وفيها حانات قليلة وقهاو وحوانيت كذلك، وفيها نحو ثمانية مساجد، أشهرها الجامع الكبير وهو جامع السوق به عمد كثيرة وله منارة، وبها أبنية عظيمة بمناظر لبعض أهاليها، خصوصا عمدتها (عبد الرحمن أغا عثمان) وأولاده وأقاربه فلهم فيها أبنية وآثار كثيرة، والمذكور كان ناظر قسم زمن العزيز محمد على، والآن ابنه (عبد الرحمن) ناظر خط، وفيها قاض وبها تجار وأرباب حرف ونخيل كثير، وفيها أشراف حسنيون ومنهم علماء، ومنهم قاضيها وهو نائب من طرف ولاية أبى تيج، وله بها أملاك ومنظرة جليلة، وفيها معمل دجاج ومصابغ وبساتين قليلة الفواكه، وفيها أقباط بكثرة ولهم فيها

ص: 114

كنيسة، وفيها أضرحة لبعض الصالحين، مثل الشيخ (زوين) والشيخ (نوير)، ولها سوق حافل كل يوم أربعاء، يؤتى إليه من البرين، ولها على شاطئ البحر نزلة تسمى الحمى، عندها مرسى ترتاح فيها السفن، وتشحن هناك من هذه البلدة وما يجاورها من البلدان، وفى جانبها البحرى على ربع ساعة، قرية (سلمون) على شمال الخارج من طما إلى الشمال، وهى أول مدينة سيوط من الجهة القبلية، وبحرى قرية سلمون قرية (الوعاضلة) كذلك، فوق تل عال أيضا، وفيها من النخيل الكبير قليل ومن الصغير كثير، ثم قرية (أولاد الياس) على شماله أيضا، ثم قرية (بنى فيز) على يمينه وهى أيضا على تل عال وبها نخيل كبير ونخيل صغير، ثم بعدها قرية (صدفا) على شماله، ثم بعدها مدينة (بوتيج)، وكلها على الطريق السلطانى، ويخرج من (طما) أيضا طريقان صاعدان فى الجنوب، تمر شرقيتهما على قرية (السوكة) قبلى (طما) بربع ساعة، ثم على (كوم العرب) ثم على (مشطا) وهى بلدة كثيرة النخل ويتبعها كفور كذلك، وهى غربى البحر بقليل وكان أولا ملتصقا بها بل أخذ/أكثرها وانتقلت إلى الغرب، ولم يبق من بيوتها التى على تلولها إلاّ القليل، وكان بها شونة غلال ميرية وبطلت منها مدة ثم جددت بها الآن شونة من زرابى الجريد، وتمر عزبتها على عزبة العرب، ثم عزبة (مشطا) ثم قرية (الوقاة) ثم (بنجا)، ويخرج من طما مغربا جسر إلى الجبل يمر على قرية (رياينة المعلق).

(طماى الزهايرة)

قرية بمديرية الدقهلية من قسم السنبلاوين، واقعة فى بحرى ناحية (قنبرة) بنحو سبعمائة متر، وفى شرقى ناحية نوب طريق بنحو ثلاثة آلاف متر، وبها جامع مقام الشعائر، وهذه القرية من ضمن الجفالك الخديوية وبها محل لتفتيش زراعته.

ص: 115

(طملوها)

ويقال لها: طملاى، قرية من قسم منوف بمديرية المنوفية، واقعة فى منتصف الزاوية الحاصلة من تلاقى بحر الفرعونية مع بحر رشيد، وفى شمال هذه القرية ناحية شبشير المسماة عندهم بشبشير طملاى، وعلى نصف ساعة من قبليها ناحية (جزى)، وفى جهتها الشرقية على نصف ساعة ناحية منوف العلا، وأرضها منحصرة بين أرض العزب والفرعونية، وريها من ترعة النعناعية التى فمها من الرياح، ومصبها فى بحر الفرعونية.

وفى سنة ثمان وثمانين ومائتين وألف صار امتداد النعناعية وسقوطها فى ترعة السرساوية من جهة ناحية (نادر)

ومن طملوها (على أفندى حسنين شروده) كان مهندس قسم فى مديرية بنى سويف، وهو ممن تربى بمدرسة المهندسخانة ببولاق.

وفى الجبرتى أن (مراد بيك) ذهب إلى طملوها فى سنة ألف ومائتين، وطالب أهلها (برسلان) و (باشا النجار) وكان كل منهما شيخ عصبة من المفسدين [و]

(1)

قطاع الطريق، وقال لهم: إنهم يأوون عندكم فتنكروا ذلك، فأمر بنهب القرية فنهبت وسلبت أموال أهلها، وسبيت نساؤهم وأولادهم، ثم أمر بهدمها وحرقها عن آخرها، ولم يزل ناصبا وطاقه

(2)

عليها حتى أتى على آخرها هدما وحرقا، وجرفها بالجراريف حتى محا أثرها وسواها بالأرض، وفرق كشافه فى البلاد فى مدة إقامته عليها لجبى الأموال، وقرر على القرى ما سوّلت له نفسه، ومنع من الشفاعة وبث المعينين لطلب الكلف الخارجة عما يطاف، فإذا استوفوها طلبوا حق طريقهم فإذا استوفوه طلبوا المقرر، وهكذا فإن امتثل الناس وإلاّ أحرقوا البلد ونهبوها، ثم ذهب إلى مدينة رشيد فقرر على أهلها

(1)

زيادة لربط السياق.

(2)

حصاره.

ص: 116

جملة كبيرة من الأموال، فهرب غالب أهلها، وعين على الإسكندرية (صالحا أغا) كتخدا الجاوشية، وقرر له حق طريقه خمسة آلاف ريال، وأمر بهدم الكنائس وطلب مائة ألف ريال من أهل البلد، فلما وصلها هربت تجارها إلى المراكب، ولما رجع (مراد بيك) إلى ناحية (جميجمون) من قرى الغربية، هدمها وهدم أيضا كفر دسوق وبلادا كثيرة، وأتلف كثيرا من الزرع، وكل ذلك بسبب (رسلان) و (باشا النجار)، انتهى.

[أخبار: رسلان، وباشا النجار]

وقد أخبرنى الحاذق الماهر السيد أحمد أفندى خليل أحد رجال ديوان الأشغال برتبة بيكباشى، نقلا عن بعض أسلافه بشئ من أخبار هذين الشيخين لمجاورة بلدته البتنون لبلدتيهما، ولنوع مصاهرة بينه وبين الشيخ رسلان، فقال: أما (رسلان) فهو من قرية تعرف (بتلا) من قرى المنوفية، وكان شيخ نصف سعد، وأما (باشا النجار) فهو من كفر السكرية من بلاد المنوفية أيضا، وكان عمدة نصف حرام، وكان لكل منهما عصبة ومنصر، يقطعون الطريق ويفسدون فى الأرض، ويحارب بعضهم بعضا، ولما جدّ (مراد بيك) فى طلبهما هربا واختفى كل منهما فى بيت شيخ العرب (الحفناوى جبير) عمدة نصف سعد بناحية البتنون، وبقيا عنده سنة كاملة لا يعلم أحدهما بالآخر، ولما حصل العفو عنهما، صنع شيخ العرب الحفناوى وليمة عظيمة جمع فيها مشايخ العرب، مثل (أيوب فوده) و (ابن حبيب) وغيرهما، وحضر فيها رسلان وباشا النجار وسلم أحدهما على الآخر، وهنؤهما بالسلامة، وأكل الجميع على سماط واحد، وسأل (رسلان) (باشا النجار) أين كنت هذه المدة؟ فقال: فى بيت شيخ العرب الحفناوى، فقال الآخر: وأنا كذلك، فتعجب الحاضرون من حسن تدبير شيخ العرب الحفناوى، ولما مات رسلان ترك ذرية اشتهر منهم ابنه (أبو العمائم)، ثم مات أبو العمائم وترك ابنه رسلان وهو الآن مأمور ضبطية مديرية المنوفية وكان قبل ذلك ناظر قسم، انتهى.

ص: 117

(طمية)

قرية بقسم أول من مديرية الفيوم، واقعة فى نهاية المديرية من جهة الشمال بقرب الجبل الموصل إلى دهشور، ولها سوق كل أسبوع، وبها خان ينزله المسافرون وسويقة دائمة يباع فيها نحو الخبز والجبن والبيض، وبها جامع وأشجار كثيرة، وأهلها مسلمون، ومنهم من يتكسب من الزرع، أو القيانة

(1)

أو صباغة النيلة ونسج الحصر السمار وغيره، وكانت قديما يزرع فيها صنف النيلة بكثرة، فكان عمدتها (محمد منسى) يزرع نحو ألف فدان نيلة ويحصل من ذلك أرباحا جسيمة، وكان رجلا كريما يحب الضيفان، وبها من الجهة القبلية وابور لحلج القطن، وفى بحريها باطن متسع قديم عرضه أكثر من مائتى قصبة وعمقه نحو خمسة وعشرين ذراعا معماريا، ويظهر أنه حدث بعد قطوع حصلت فى جسر اليوسفى/فى الأزمان السالفة، فحفره انصباب المياه حتى وصل الحفر إلى الحجر، وأذهب جميع المواد الطينية والرمال التى كانت تراكمت فوقه، وتلك القطوع هى قطع بلا ماء فى غربى هوارة على نحو ثلث ساعة، وقطع السنط الواقع فى شرقى هوارة، وقطع الكوم الأسود فى شرقى قطع السنط قريبا من الكوم الأسود الذى هو جرف بحر وردان، وقطعان آخران بقرب هوارة بقدر نصف ساعة، وفم بحر طمية والروضة واقع فى قبلى قحافة، وبحرى صنوفر فى وسط مسافتهما تقريبا، وبعد أن يسير فى الشمال الشرقى نحو ثلثى ساعة يصب فى ذلك الباطن، ومن محل التلاقى إلى جهة الشمال يسمى ذلك الباطن البطس، وعلى فمه سواقى هدير لأرباب الأطيان العالية من ناحية قحافة وصنوفر، وقبلى ناحية الروضة بنحو ثلث ساعة نصبة تقسم المياه بين الروضة وطمية لرى أطيانهما، وفى البطس بجوار ناحية الروضة يوجد حائط قديم مبنى بالمونة والدبش والآجر قاطع للبطس، ممتد فى الشمال والجنوب من طمية إلى الجبل نحو خمسمائة ذراع طولا، ويختلف عرضه من خمسة

(1)

من يعمل فى الأشغال الحديدية: الحدادة. القين: الحديد يقينه: سوّاه. القاموس (ق ا ن)

ص: 118

عشر ذراعا إلى ثلاثين، وارتفاعه نحو خمسة وعشرين ذراعا، وهو معّد لردّ المياه وحجزها حتى تعلو فتروى أطيان الناحية، وفى آخر ذلك الحائط من الجهة الشمالية بجوار الجبل، عين متسعة توصل الماء إلى قصر (رشوان) الذى هو من بقايا بلاد وردان، لتروى الأراضى التى هناك، وفى نهايته القبلية بجوار البلد عند مستوى أرض الناحية، قنطرة بعشر عيون توصل الماء إلى بحرها.

ولما كانت مياه تلك العيون ربما تزيد عن كفاية تلك الأراضى، عمل هناك حائط عمودى يمتد من الشرق إلى الغرب نحو مائة وخمسين ذراعا من ابتداء النهاية البحرية للعشر عيون، وعمل فى وسطه هدار بمدرج من البناء الجسيم، وجعل طوله مثل عرضه، وجعل أوّله مرتفعا عن آخره بقدر سبعة أذرع، وجعل عرضه نحو عشرين ذراعا وطول المدرج مثل ذلك.

ووظيفته أن يصّرف المياه الزائدة عن كفاية أطيان الناحية فى البطس، وفى سنة خمس وأربعين ومائتين وألف هجرية، انقطع جسر (جاد الله) المعروف هناك، وتسبب عن ذلك قطع اليوسفى فى (بلاما) و (الكوم الأسود)، فانصبت المياه فى البطس وعلت حتى مرت من فوق حائط طمية، وهدّمت منه قطعة يبلغ طولها نحو مائتى ذراع، فبنيت سنة 1247 وجعل سمكها نحو ستين ذراعا معماريا، فلم تغن شيئا وأزالتها المياه كما أزالت ما كان قبلها، ثم بنى بعد ذلك ثانيا وجعل عرضه خمسة وعشرين ذراعا، وكان اتمام ذلك سنة 1255، وهذا البناء هو الباقى إلى الآن، وما بين الحائط إلى قرب الروضة فى عرض نحو مائتى قصبة يعرف بخيران طمية، وتبقى فيه المياه فى فصل الصيف تسقى منها المزروعات الصيفية، ومساحته نحو ستمائة فدان، ويزرع عليه نحو ستمائة فدان من أطيان طمية وقصر رشوان، وأرض طمية منفصلة عن أرض الزرابى والمعصرة الواقعتين فى قبليها بجبل صغير على مسافة ساعة نهايته الغربية كفر محفوظ، والشرقية خزان طمية.

ص: 119

(طمويه)

فى خطط المقريزى فى الكلام على الديورة ما نصه: «قال ياقوت طمويه بفتح الطاء وسكون الميم وفتح الواو وياء ساكنة، قريتان إحداهما فى كرة المرتاحية والأخرى بالجيزة» ، انتهى.

فالتى فى المرتاحية كانت من أعظم مدن مصر، وكان بها حاكم وأسقفية وظهر منها فى زمن النصرانية كثير من الأحبار كما ذكر ذلك (أميان مرسلان)، وتذكر كثيرا فى كتب القبط وكان يقال لها طموى أو طمويس، وحقق (دنويل) أنها كانت فى محل طمية الموجودة فى إقليم المرتاحية والدقهلية، وقال هيرودوط: إنها قاعدة إقليم، وقال بطليموس: إنها من إقليم منديس بالوجه البحرى، وهذا يوافق ما ذكره (بلين) فإنه لما ذكر أقسام مصر لم يتكلم على خط طمويه وتكلم على خط منديس، ويمكن التوفيق بينهما باحتمال أنهما كانا رأسى خطين، ثم صار الخطان خطا واحدا رأسه مدينة طمويه.

وأما التى فى الجيزة ففى بعض الكتب القبطية تسميتها طاموه، وفى بعضها طموه بشد الميم، وفى موضع من خطط المقريزى سماها دموه بالدال، وفى كتابه السلوك ما يفيد أنها كانت رأس خط فإنه قال إنه أقطع للأمير (طاز) خط طمويه بالجيزة، انتهى.

وفى آخر زمن النصرانية كانت عامرة، وتذكر كثيرا فى كتب الأقباط خصوصا فى تاريخ بطاركة الإسكندرية، وأسقفها معدود من ضمن أساقفة الصعيد، ودير الشمع كان من أسقفيتها، ثم أخذت فى التأخر. قال بعض الإفرنج: معنى طمويه فى الأصل الجدى، وقيل: السبع أو اللبوة، وقيل: النور وقيل: معناه المينا أو المدينة، وفى زمن المقريزى كانت طمويه قرية صغيرة، ونقل عن (الشابسطى) أن طمويه الجيزية فى الغرب بإزاء حلوان، وديرها راكب البحر حوله الكروم والبساتين والنخيل والشجر، وهو نزه عامر آهل وله فى

ص: 120

النيل/منظر حسن، وحين تخضر الأرض يكون بساط من البحر والزرع، وهو أحد منتزهات أهل مصر المذكورة، ومواضع لهوها المشهورة، و ل (ابن أبى عاصم المصرى) فيه من البسيط:

واشرب بطمويه من صهباء صافية

تزرى بخمر كراهيت وعانات

على رياض من النوّار زاهرة

تجرى الجداول فيها بين جنات

كأنّ بنت الشقيق العصفرى بها

كاسات خمر بدت فى إثر كاسات

كأنّ نرجسها من حسنه حدق

فى خفية يتناجى بالإشارات

كأنما النيل فى مرّ النسيم به

مستلئم فى دروع سابريات

منازل كنت مفتونا بها شغفا

وكنّ قدما مواخيرى وحاناتى

إذ لا أزال ملما بالصبوح على

ضرب النواقيس صبا بالديارات

وهذا الدير عند النصارى على اسم (بوجرج)، ويجتمع فيه النصارى من النواحى.

وذكر المقريزى أيضا من ضمن كنائس منية ابن خصيب، كنيسة باسم (انبيلولى الطمويهى)، وذكر (أبو صلاح) أيضا أنها كانت على الشاطئ الغربى من النيل فى مقابلة حلوان وبها دير باسم بوجرج، يجتمع فيه نصارى البلاد المجاورة وكان موضوعا على لسان من الأرض داخل البحر، ويحيط به سور مستدير على وضع حسن، ومبان مشيدة، وكان به كثير من النصارى وكنيسة باسم (أبى مرقورا)، وبقربها قصر يصعد إليه بسلم فى داخل الكنيسة، ومن أعلاه يشاهد منظر فى غاية الحسن، ومن كل جهة ترى الجنات والأشجار ونخل البلح وكروم العنب وأرض مزروعة، وكان من أشهر منتزهات أهل الفسطاط، وقد بنى هو والكنيسة فى زمن الخليفة (الآمر)، بناه الشيخ (أبو اليمن) وابنه (أبو المنصور) وكان الوزير (الأفضل) يأتى للنزهة فى هذا الدير،

ص: 121

وتارة يقيم به الأيام، وغرس بقربه بستانا شحنه بالنخل وأنواع الأشجار، وحفر فيه آبارا ركب عليها السواقى، وكان إيجار الجنينة عشرة دنانير تؤخذ للديوان، ثم ترك هذا الإيراد لرهبان الدير، فأمكنهم بذلك إنشاء معصرة للزيت، ورمموا بعض المبانى، وكان للدير سبعة وأربعون فدانا استولت عليها العساكر (زمن صلاح الدين)، وقسمت بين الأكراد وغيرهم، وكان فى الكنيسة جثة (مارى بغنوس) رئيس هذا الدير، وفى كل سنة كان يعمل له عيد فى الخامس عشر من أمشير، وكان به تمثال للعذراء، وقد أهدى الشيخ (أبو يمن) للكنيسة جملة فضيات، منها مبخرة وصليب وشمعدانات وستارة من الحرير، وفى ضواحى هذه المدينة كنيسة جميلة باسم (بوجرج)، وأخرى باسم (العذراء) وكنيستان أخريان.

وفى خطط المقريزى فى الكلام على الكنائس، ما نصه أن كنيسة دموه أعظم معبد لليهود بأرض مصر، فإنهم لا يختلفون فى أنها الموضع الذى كان يأوى إليه (موسى بن عمران) صلوات الله عليه، حين كان يبلغ رسالات الله عز وجل إلى فرعون مدة مقامه بمصر، منذ قدم من (مدين) إلى أن خرج ببنى إسرائيل من مصر، ويزعم يهود أنها بنيت هذا البناء الموجود بعد خراب بيت المقدس الخراب الثانى على يد (طيطش) ببضع وأربعين سنة، وذلك قبل ظهور الملة الإسلامية بما ينيف عن خمسمائة سنة، وبهذه الكنيسة شجرة زيزلخت فى غاية الكبر، لا يشكون فى أنها من زمن (موسى) عليه السلام ويقولون أن (موسى) عليه السلام غرس عصاه فى موضعها فأنبت الله هناك هذه الشجرة، وأنها لم تزل ذات أغصان نضرة وساق صاعد فى السماء مع حسن استواء وثخن

(1)

فى استقامة، إلى أن أنشأ الملك (الأشرف شعبان بن حسين) مدرسة تحت القلعة، فذكر له حسن هذه الشجرة فأمر بقطعها لينتفع بها فى العمارة، فمضوا إلى ما أمروا به من ذلك، فأصبحت وقد تكوّرت وتعقفت وصارت شنيعة

(1)

غلظ وصلب.

ص: 122

المنظر، فتركوها واستمرت كذلك مدة فاتفق أن زنى يهودى بيهودية تحتها فتهدلت أغصانها وتحات ورقها وجفت، حتى لم يبق بها ورقة خضراء، وهى باقية كذلك إلى يومنا هذا، ولهذه الكنيسة عيد يرحل اليهود بأهاليهم إليها فى عيد الخطاب، وهو فى شهر سيوان ويجعلون ذلك بدل حجهم إلى القدس، انتهى.

(طنبارة)

بفتح الطاء وسكون النون وفتح الباء الموحدة وألف وراء وهاء، قريتان بمصر إحداهما بناحية المرتاحية والأخرى فى كورة الغربية، انتهى من مشترك البلدان.

فالأولى من مديرية الدقهلية بقسم نوسا الغيط فى شرقى (شبرى هور) بنحو ألفى متر، وفى غربى ناحية (شبرى قبالة) بنحو ألف وخمسمائة متر، وهى من شفالك الدائرة السنية، أطيانها بالقرب من ناحية السنبلاوين والسكة الحديد، وبها زاوية صغيرة للصلاة وتكسب أهلها من الفلاحة.

والثانية من مديرية الغربية بمركز المحلة الكبرى، غربى/بحر دمرو على نحو ثلثمائة متر، وفى الجنوب الغربى لناحية بشبيش بنحو خمسة آلاف متر، وفى شرقى ناحية دخميس بنحو خمسة آلاف متر.

(طنبول)

بفتح الطاء وسكون النون وضم الباء وسكون الواو ولام، كذا فى مشترك البلدان، ويقال لها طنبوق بالقاف وهى بليدة من مديرية الدقهلية بقسم السنبلاوين، واقعة فى الشمال الشرقى لناحية قرقيرة بنحو ألفين وخمسمائة متر، وفى غربى ناحية دروه بنحو ألفين وستمائة متر، مبانيها بالآجر واللبن، وبها جامع وتكسب أهلها من الزراعة وغيرها، وفى كتاب نزهة الناظرين للشيخ (على الشهالى المالكى)، أن كاشف المنصورة (عبد الرحمن كاشف)، نزل

ص: 123

على هذه القرية فى السابع والعشرين من رجب سنة تسع وتسعين بعد الألف، ونهبها وقتل منها نحو خمسة عشر شخصا أكثرهم أشراف، فجاء الأشراف وطلعوا جميعا إلى الديوان واشتكوا من الكاشف، فأحضر على يد قاضى العسكر، فحكم عليه بالتعزير ثم القتل، فلما سمعت طائفة الاسباهية وهم يومئذ شربجية الإقليم، امتنعوا من هذا الحكم، وسحبوا عبد الرحمن كاشف من حضرة المرافعة، وخرجوا به، وقامت المتفرقة مع الشربجية قومة واحدة، وقالوا: إن عبد الرحمن كاشف ما كبس إلاّ ناحية (منية العامل) بالإقليم المذكور، وذلك بموجب بيورلدى شريف من طرف (سليمن أفندى) كاتب الينكشارية سابقا وهو ملتزم ناحية منية العامل، وقد فرّ المفسدون من أهل هذه الناحية، واختفوا بناحية (الصنبوق)، وصدقهم على ذلك (سليمن أفندى)، واختيارية الينكشارية، وقالوا: نحن الذين قطعنا البيورلدى بأخذ المفسدين الذين بها، ثم بعد طول المداولة حصلت المصالحة، وأعطى للأشراف فى المصالحة ثلاثون ألف نصف فضة، وخلع الوزير على (عبد الرحمن كاشف) وأعطاه التصرف فى تلك الولاية كما كان.

(طنبدا)

قريتان من قرى مصر: الأولى قرية من قسم (أبا الوقف) بمديرية المنية، على جسر الجرنوس فى حوض سلقوس غربى ناحية مغاغة بنحو ساعة، وهى بلدة قديمة واقعة على تلول، وكانت قديما تسمى طغنوت كلمة قبطية، وكان أغلب سكانها نصارى يتعاطون صنائع مختلفة، وذكر المقريزى أن بها كنيستين قديمتين، إحداهما باسم مريم العذراء، والأخرى باسم ميخائيل وهى كنيسة كبيرة، ثم قال:«وكان هناك كنائس كثيرة خربت وكان بها فى بعض السنين راهب واحد» انتهى. وأبنيتها بالآجر واللبن، وبها مسجدان عامران ونخيل وأبراج حمام، ومصبغتان ولها سوق كل أسبوع تباع فيه الحيوانات وغيرها، وأغلب أرضها تزرع قصب السكر، وهى الآن تابعة للدائرة السنية.

ص: 124

[الظهير الطنبداوى]

والظاهر أن من هذه القرية (الظهير الطنبداوى) صاحب ديوان المعاملة الذى ذكره (عثمان بن إبراهيم النابلسى) فى كتابه «لمع القوانين المضية فى دواوين الديار المصرية» عند ذكر خيانة المستخدمين، قال: إنه انساق فى حسابات الحبس الغربى ما يزيد على أحد عشر ألف إردب قمحا وفولا، طلب منها ديوان الاهراء للمخابز خمسين إردبا، فما وجدت ولا شئ مما انساق حاصلا وظهر أنها بيعت فى المقس والسواحل، وبلغ ذلك (الملك الكامل) وكان بثغر دمياط فعز عليه وقال:«يساق لى جميع حاصل غلالى التى تحت قلعتى وأنا أنظر من القلعة إلى الحبس الغربى» وأمر أن يمسك صاحب ديوان المعاملة الظهير الطنبداوى، ووالى الجيش ومستخدموه، ورسم بتغريمهم واشتغل بكليات المصالح، فأمر (نور الدين بن فخر الدين عثمان) أن يوالى العقوبات على (الظهير الطنبداوى) إلى أن يموت، فعاقبه معاقبة من يمتثل ما رسم له، فسبحان من قدر الآجال فلا تموت نفس إلاّ بإرادته، وإلاّ ففيما فعل به ما يموت ببعضه خلائق، وشهره على الحمالين فى أسواق مصر والقاهرة، فى قفص يجئ عليه إلى آخر النهار ويبيت فى حبس القلعة، وغير ذلك مما الموت خير منه. انتهى.

[نجم الدين محمد الطنبدى (الطنبداوى)]

ومنها أيضا (نجم الدين محمد الطنبدى)، كان متولى الحسبة بالقاهرة فى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ومتولى الأمر بديار مصر يومئذ (الأمير منطاش)، القائم بدولة الملك (الصالح المنصور) أمير حاج، المعروف (بحاجى ابن شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون). ذكر ذلك المقريزى عند ذكر الآذان بمصر، وقال: إن الآذان لم يزل بمصر على مذهب القوم، إلى أن استبد السلطان (صلاح الدين يوسف بن أيوب) بسلطنة ديار مصر، وأزال الدولة

ص: 125

الفاطمية فى سنة سبع وستين وخمسمائة، وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعى رضي الله عنه وعقيدة الشيخ (أبى الحسن الأشعرى) رحمه الله، فأبطل من الآذان قول: حى على خير العمل، وصار يؤذن فى سائر أقاليم مصر والشام بآذان أهل مكة، وفيه تربيع التكبير وتربيع الشهادتين، فاستمر الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار مصر، وانتشر مذهب أبى حنيفة رضي الله عنه فى مصر، وصار يؤذن فى بعض المدارس التى للحنفية بآذان أهل الكوفة، وتقام الصلاة أيضا على رأيهم، وما عدا ذلك فعلى ما قلنا إلا أنه فى ليلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين سلموا/على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شئ أحدثه محتسب القاهرة (صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسى) بعد سنة ستين وسبعمائة، فاستمر إلى أن كان فى شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ليلة جمعة، وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه، فقال لهم: أتحبون أن يكون هذا السلام فى كل آذان، قالوا: نعم، فبات تلك الليلة وأصبح متواجدا يزعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى منامه، وأنه أمره أن يذهب إلى المحتسب، ويبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل أذان، فمضى إلى محتسب القاهرة (نجم الدين محمد الطنبداوى)، وكان شيخا جهولا وأبله مهولا، سئ السيرة فى الحسبة والقضاء، متهافتا على الدرهم ولو قاده إلى البلاء، لا يحتشم من أخذ البرطيل

(1)

والرشوة، ولا يراعى فى مؤمن إلا ولا ذمة، قد ضرى على الآثام وتجسد من أكل الحرام، يرى أن العلم إرخاء العذبة ولبس الجبة، ويحسب أن رضا الله سبحانه فى ضرب العباد بالدرة وولاية الحسبة، لم تحمد الناس قط أياديه، ولا شكرت أبدا مساعيه بل جهالاته شائعة وقبائح أفعاله ذائعة، أشخص غير مرة إلى مجلس المظالم، وأوقف مع من أوقف للمحاكمة بين يدى السلطان، من أجل عيوب فوادح حقق فيها

(1)

البرطيل: بالكسر: الرشوة، وفلانا رشاه فتبرطل فارتشى. القاموس:(ب ر ط ل).

ص: 126

شكاته عليه القوادح، وما زال فى السيرة مذموما ومن العامة والخاصة ملوما، وقال رسول الله يأمرك أن تقدم لسائر المؤذنين، بأن يزيدوا فى كل أذان قولهم الصلاة والسلام عليك يا رسول الله كما يفعل فى ليالى الجمعة، فأعجب الجاهل هذا القول وجهل أن رسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر بعد وفاته، إلاّ بما يوافق ما شرّعه الله على لسانه فى حياته، وقد نهى الله سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز عن الزيادة فيما شرّعه حيث يقول:{أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ}

(1)

، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إياكم ومحدثات الأمور» ، فأمر بذلك فى شعبان من السنة المذكورة، وتمت هذه البدعة واستمرت إلى يومنا هذا فى جميع ديار مصر وبلاد الشام، وصارت العامة وأهل الجهالة ترى أن ذلك من جملة الآذان الذى لا يحل تركه، وأدى ذلك إلى أن زاد بعض الملحدين فى الآذان فى بعض القرى السلام بعد الآذان على شخص من المعتقدين الذين ماتو، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

(ترجمة)[الشيخ الشرف الطنبدى]

وإليها ينسب كما فى الضوء اللامع (محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الحميد بن إبراهيم الشرف بن الشمس بن الفخر بن البدر القرشى الطنبدى ثم القاهرى الشافعى)، ويعرف بالشرف الطنبدى، ولد ظنا سنة ثمان عشرة وثمانمائة، ونشأ فحفظ القرآن والمنهاج، وجمع الجوامع، وألفيتى الحديث والنحو، وأخذ الفقه عن (الشرف السبكى)، و (القاياتى)، و (الونائى)، و (البدر بن الخلال)، و (المجد البرماوى)، و (الزين القمنى)، وأخذ العربية عن (ابن عمار)، والحديث عن (الحافظ بن حجر)، واختص بقاضى الحنابلة (البدر البغدادى)، وقرأ عنده الكثير من كتب الحديث، وسافر

(1)

سورة الشورى: آية 21

ص: 127

معه إلى مكة وتخلف عنه للمجاورة، وقرأ هناك على (أبى الفتح المراغى)، و (المحب المطرى)، وكتب بخطه بمكة شرح المنهاج للزنكلونى، نقله من خطه وانجمع بعد موت البدر الحنبلى عن الناس، وتجرع فاقة زائدة مع فضيلة وتواضع وتودد، واستمر على ذلك حتى مات سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة رحمه الله وإيانا، انتهى.

(والثانية): طنبدى، قرية من مديرية المنوفية بمركز مليج، غربى ترعة البتنونية بنحو خمسمائة متر، وفى شمال ناحية شبين الكوم بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وفى غربى ناحية مليج بنحو أربعة آلاف وخمسمائة متر، وبها جامع وأشجار.

(طندتا)

بمهملة مفتوحة، فنون ساكنة، فدال مكسورة، فمثناة فوقية مقصورا، كذا سمع من بعض الفضلاء، والعامة يقولون: طنطا، وهى مدينة كبيرة هى رأس مديرية الغربية، ولها شهرة واعتبار قديما وحديثا.

ففى تاريخ بطاركة الإسكندرية أنها كانت ذات أسقفية، وكان من أساقفتها (مخاييل وجبريل)، واسمها القبطى القديم (طنيطاد)، وقال ابن حوقل:«إن طندتا قرية كبيرة لطيفة، بها جوامع وأسواق وملحق بها جملة قرى، وهى محل إقامة الحاكم مع فرقة من العساكر، وكان حاكمها صنجقا تحت إمرته جنود من المشاة والخيّالة، ويقام فيها فى كل عام وقت الإعتدال الربيعى والإنقلاب الصيفى، سوق جامع يعرف بمولد (السيد البدوى)، يجتمع فيه خلق كثيرون لا يحصى عددهم إلا الله من جميع بلاد القطر، وليس اجتماعهم لمحض التجارة، بل لها وللتبرك بولى الله تعالى سيدى (أحمد البدوى) المتوفى بها، وله فيها قبة عظيمة وجامع فاخر» ، انتهى.

ص: 128

وهى وإن كانت من قديم الزمان عامرة كثيرة المتاجر والأسواق سيما بحلول سيدى (أحمد البدوى) فيها، فإنه هو السبب فى زيادة شهرتها، إلاّ أنها كانت عديمة الانتظام ضيقة الحارات، غير محكمة البناء، فكانت كثيرة العفونات والرطوبات، بسبب عدم تمكن الهواء والشمس من الدخول فى خلالها، فلذا كانت كل سنة تكثر بها الأمراض، ويتراكم فيها الوخم/بعد فراغ الموالد وفى أثنائها، ولما أنعم الله تعالى على هذه الديار بجلوس الجناب الخديوى إسمعيل باشا على تختها، شمل تلك المدينة بعنايته وحفّها برعايته، كما شمل غيرها من بلاد القطر، وأمر بإجراء التنظيمات فيها، بتوسعة الحارات وفتح الشوارع المستقيمة، ورتب لها مهندس تنظيم، وحكيم صحة، وفتحت فيها عدة شوارع وحارات ذات اتساع واعتدال، فتمكنت دواعى الصحة من أزقتها وبيوتها، وحسن حالها وازدادت الرغبة فى سكناها، فسكنها كثير من أهل الوطن والأغراب، من شوام وأروام وفرنساوية وإنكليز، وطليانية ونمساوية ومالطية ويهود، حتى صار عدد أهلها كثيرا، وكثرت فيها أنواع المتاجر، وقد صدر الإذن من طرف الخديوى المذكور لديوان الأوقاف، بتقسيم الفضاء الواقع فى غربيها بجوار ديوان المديرية الجديد على الراغبين، وتحكيره، وعمل لذلك الرسومات اللازمة، وجرت العمائر فيه بالفعل على طبق الأوامر الخديوية، فبنيت هناك أبنية فاخرة وعمائر جليلة، وكان تقسيم ذلك ورسمه وبيان كيفية الإجراء على يدنا وبمعرفتنا مدة نظارتنا على الأوقاف المصرية، ولا شك أن ذلك يزيد فى بهجة المدينة، وعماريتها وكثرة سكانها، وقد بلغ محيطها الآن نحو مائة وثمانين فدانا، واحتوت على عدة قيساريات فى وسطها، وجميع جهاتها بحوانيت وخانات وفنادق، وكلها مشحونة بالمتاجر والبضائع الخارجية والداخلية، من كل ما يرد على القطر أو ينتج منه، وبالصنائع والحرف التى لا تقف عند حد، وعلى عدة وابورات وبساتين، وسواق وأسواق، وأضرحة لكثير

ص: 129

من الأولياء، وقصور مشيدة بالمونة والبياض ذات شبابيك من الحديد والزجاج والخشب المخروط، إلى غير ذلك مما لو استقصى قصا.

وأعظم مساجدها مسجد سيدى أحمد البدوى رضي الله عنه، فإنه لا يفوقه فى التنظيم وحسن الوضع والعمارية من المساجد إلا قليل، وهو فى وسط البلد تقريبا يحيط به أربعة شوارع، وفى ضلعه القبلى مقام قطب الأقطاب سيدى أحمد البدوى رضي الله عنه، وعلى ضريحه مقصورة من النحاس الأصفر فى أحسن شكل، وقبة عالية مثل قبة الإمام الشافعى، وبداخله أيضا مقام تلميذه سيدى (عبد المتعال)، ومقام سيدى (مجاهد)، وبه نحو ستين عمودا من الرخام الأبيض، وله فى تدريس العلوم به شبه بالجامع الأزهر، ففيه نحو ألفى طالب غير المدرسين ولهم شيخ كشيخ الأزهر.

[العالم، والكاتب: السيد إمام القصبى]

وقد تداول مشيخة العلماء بالجامع الأحمدى قديما وحديثا، جملة وافرة من أجلاّء العلماء وفضلائهم، ومن آخرهم العالم العلامة الأديب، والحبر الفهامة الأريب، الكاتب الشاعر المجيد اللطيف الظريف السيد إمام القصبى الشافعى ابن العارف بالله تعالى الولى الصالح ذى الكرامات الظاهرة والخوارق الباهرة السيد حسن القصبى الكبير، أخذ طريق الخلوتية عن شيخ الإسلام الشيخ عبد الله الشرقاوى رضي الله عنه، وانتفع الناس بكراماته حيا وميتا رضي الله عنه، مكث المترجم رحمه الله طويلا فى مشيخة العلماء بالجامع الأحمدى، وكان متفردا فى وقته، وله من المصنفات ورقائق الأشعار، وجلائل القصائد طويلة وغيرها فى مدح سيدى (إبراهيم الدسوقى)، وسيدى (أحمد البدوى) رضي الله عنهما، وغير ذلك مما لا يحصى، وله من الثروة وسعة الإيراد والشهرة التامة، والحظوة والوجاهة عند الحكام وعظماء الناس، ما لا يقدر قدره، توفى رحمه الله ودفن ببلده طندتا.

ص: 130

وخلفه فى مشيخة العلماء بالجامع الأحمدى، ولده العلامة السيد (محمد القصبى)، وحصل له من الشهرة والوجاهة عند العظماء والأعيان ما كان لوالده، وهو الآن أعنى سنة ثلثمائة وخمسة بعد الألف، على ما هو عليه أطال الله بقاه ووفقه لما فيه رضاه.

وللمسجد أربع منارات فى زواياه الأربع، اثنتان كاملتان واثنتان مزمع على تكميلهما، وله سبعة أبواب، واحد بالضلع القبلى وآخر بالشرقى وثالث بالبحرى وأربعة بالضلع الغربى، وله ميضأة متسعة جدا أكثر من عشر فى عشر، وحنفية حسنة ومرافق كثيرة، وبينه وبين الميضأة أبنية متسعة ذات أود كثيرة معدة لإقامة المجاورين بها، وله ساقية معينة بعد مائها عن سطح الأرض فى زمن الصيف عشرون مترا، وتحت المرافق مجرى بمواسير من الرصاص لصرف الفضلات إلى ترعة جعفرية القاصد، تمتد نحو أربعمائة متر، ومسطح الجامع بمرافقه أكثر من فدان ونصف، وهو جامع عتيق، وقد حصل هدمه والشروع فى تجديده من مدة المرحوم عباس باشا إلى أن تم على أحسن نظام فى زمن الخديوى إسمعيل باشا، وكان رسمه على هذا الوضع الجليل، بنظر وملاحظة صاحب العلوم والمعارف والمحاسن واللطائف، البالغ فى فنون الرياضة منتهاها، سعادة المرحوم (بهجت باشا) عامله الله بالإحسان، وتغمده بالرحمة والرضوان، وجميع مصارفه فى البناء وغيره من أوقافه، فإن له أوقافا جمة لا تحصيها إلاّ الدفاتر.

[المساجد والزوايا والقصور والمنازل]

ثم مسجد البوصة وهو جامع عتيق يقال أنه من زمن الصحابة، له منارة وبابان، ويقيم/به جملة من طلبة العلم، وفيه درس دائم وبه ضريح الشيخ محمد البهى، فلذا يسمى شارعه بشارع البهى، ومسجد الشيخ مرزوق بشارع سيدى مرزوق، له منارة وبابان، ومسجد الشيخ إمام القصبى بدرب سيدى

ص: 131

سالم، بناه المذكور فى أحسن نظام، وجعل له ثلاثة أبواب بمنارة، ومسجد عز الرجال، وهو مسجد قديم بشارع دائر الناحية بالقرب من القنطرة، ومسجد الشيخ مسعود بدرب سيدى مسعود، ومسجد سيدى نوار شرقى البلد بجوار الجبانة، ومسجد الشيخ حمزة بدرب الأبشيهى، ومسجد الغمرى فى طرف البلد من الجنوب الشرقى، وهو مسجد قديم به قبر سيدى سنبل، ومسجد سيدى محمد البابلى، وهو زاوية قديمة فى درب الأثر وقد جدد الآن، ومسجد الجيارين، وهو زاوية صغيرة بدرب الجيارين، ومسجد الصول وهو زاوية بالمنشأة الشرقية بقرب فرع دمياط من السكة الحديد، جددها محمد غريب عمدة طندتا سابقا، ومسجد سيدى مجاهد وهو زاوية بالمنشأة البحرية، جددها خضر أفندى ناظر زراعة شفلك دار البقر، ومسجد الشيخ على الفقيه، وهو زاوية بدرب الغلال جددها محمد بيك المنشاوى.

وبها كنيستان إحداهما للأقباط جددت فى هذا العهد، وكان الصرف عليها من طرف الأقباط القاطنين هناك والمترددين عليها، والثانية للأروام بنيت عام ألف ومائتين وأربع وتسعين، وكان الصرف عليها من طرف الأروام المقيمين بها والمترددين عليها أيضا.

ومن أعظم قصورها ومنازلها الفاخرة، كشك للخديوى ثم قصر لإسمعيل باشا صديق ناظر المالية سابقا، فى وسط منتزه من الرياحين وأشجار الفاكهة، وقصر المرحوم حسين باشا صبرى، ويتبعه جنينة ذات رياحين وفواكه أيضا، وقصر المرحوم فاضل باشا، وقصر هلال بيك، وقصر عبد العال بيك، وقصر محمد بيك الصيرفى، وقصر محمد بيك حموده، وقصر مصطفى بيك صبحى، وقصر ديوان المديرية فى جنوبها الغربى بشارع الدائر، قريب من محطة السكة الحديد، يحتوى على ديوان المديرية بجميع فروعه، وعلى مجلس استئناف الوجه البحرى، ومجلس الزراعة ومفتش الصحة،

ص: 132

وباشمهندس الغربية والمنوفية والمحكمة الشرعية الكبرى. وبشارع الدائر أيضا ديوان الضبطية، وفيه المجلس البلدى ومجلس الدعاوى وما يتبع ذلك، ومنزل عمارة العشرى.

(ترجمة)[إبراهيم أفندى عبد الحليم]

ومنزل إبراهيم أفندى عبد الحليم، وهو انسان لطيف ظريف كامل الأخلاق علىّ الهمة كريم النفس، يحب العلماء ويكرمهم يميل بطبعه إلى الأدب علما وحالا، ويعظم أهله، متوسط الأمر فى الثروة منتظم فى معيشته وحاله، أكثر الله فى المسلمين من أمثاله، ومنزل الأستاذ الإمام القصبى، ومنزل حسن أفندى خطاب، ومنزل مصطفى أفندى محمود الحكيم، ومنزل الست مباركة، ومنزل الخواجة أنطون الحملى، ومنزل الشيخ مصطفى الخادم.

(ترجمة)[عائلة الخادم]

ومن أشهر بيوتها وأقدمها بيت الخادم، وهم عائلة ينسبون لخدمة مقام سيدى أحمد البدوى من عدة أجيال، وقد وقع لهم كما فى تاريخ الجبرتى، أن (على بيك) أرسل فقبض عليهم فى ثامن عشر صفر سنة اثنتين وثمانين ومائة بعد الألف، وصادرهم وأخذ منهم أموالا عظيمة، وأخرجهم من البلدة ومنعهم من سكناها، ومن خدمة المقام الأحمدى، وأرسل للحاج حسن عبد المعطى، وقيده بالسدنة عوضا عنهم، وشرع فى بناء الجامع والقبة والسبيل والقيسرية العظيمة، وأبطل منها مظالم أولاد الخادم، والحمل واللصوص والسراق، وضمان البغايا وغير ذلك، وقد حصل لبيت الخادم فى مدة الفرانساوية سنة ألف ومائتين وأربع عشرة، ما هو أشد من ذلك، وذلك أنه لما حضرت العثمانية

ص: 133

وشاع أمر الصلح، نزلت طائفة من الفرنسيس إلى المنوفية وطلبوا من أهلها الكلفة لرحيلهم، ومروا بالمحلة الكبيرة فتعصب أهلها واجتمعوا إلى قاضيها وخرجوا لحربهم، فكمن لهم الفرنسيس وقتلوا منهم ما ينيف على ستمائة، ومنهم القاضى، وكذا وقع لأهل طندتا لما دخل بعض الفرنسيس البلدة وسخر بهم أهلها، وآذوهم أذى شديدا وطردوهم، فغابوا ثلاثة أيام روجعوا إليهم بجمع من عسكرهم، فاحتاطوا بالبلدة وضربوا عليها المدافع والبندق، ثم هجموا على البلد ودخلوها وبأيديهم السيوف مسلولة، وطلبوا خدمة الضريح الأحمدى الذين يقال لهم أولاد الخادم، وهم يومئذ ملتزمون بالبلدة ومتهمون بكثرة الأموال من قديم الزمان، وكانوا قبل ذلك بثلاثة أشهر قبضوا عليهم بإغراء القبط، وأخذوا منهم خمسة عشر ألف ريال فرانسة، فأخذوهم إلى خارج البلد، وقيدوهم وأقاموا كذلك نحو خمسة أيام يأخذون كل يوم نحو ستمائة ريال سوى الأغنام والكلف، ثم ارتحلوا وأخذوهم معهم فحبسوهم أياما بمنوف، ثم نقلوهم إلى الجيزة، ولما انقضت أيام حرابتهم بمصر نزلت طائفة منهم إلى طندتا، وأخذوهم معهم وجعلوا عليهم أحدا وخمسين ألف ريال، وعلى أهل البلد مثل ذلك أو أزيد، وأطلقوا بعضهم، وحجزوا مصطفى الخادم لكونه صاحب الأكثر فى الوظيفة والإلتزام، وطالبوه بالمال/ونوعوا عليه العذاب والضرب حتى على كفيه، وربطوه فى الشمس وقت شدة الحر وهو رجل جسيم، فخرجت له نفاخات، ثم أخذوا الخليفة أيضا إلى منوف، ثم ردوه وولوه رآسة [رئاسة] جمع الدراهم ووزعت على الدور والحوانيت والمعاصر وغير ذلك، واستمروا إلى انقضاء العام حتى أخذوا عساكر المقام، وكانت من ذهب خالص زنتها نحو خمسة آلاف درهم، وفى الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان عشرة بعد المائتين والألف، كان (جاهين كاشف المرادى) متعينا على مديرية الغربية لجمع الفرضة، فجعل على أولاد الخادم ثمانين ألف ريال، فحضروا ومعهم

ص: 134

مفاتيح مقام سيدى أحمد البدوى، وتشكوا من ذلك وقالوا لإبراهيم بيك لم يبق عندنا شئ، فإن الفرانساوية نهبونا وأخذوا أموالنا، وبعد ذلك حضر (المحروقى) من طرف (محمد باشا العزتلى) ونهب دارنا، وأخذ منا نحو ثلثمائة ألف ريال، ولم يبق عندنا شئ جملة كافية، ذكر ذلك الجبرتى ولم يبين ما ترتب على تلك الشكوى.

وأشهر خاناتها التجارية خان المرحوم يعقوب بيك، وأشهر وكائلها التى تنزل بها الأغراب وكالة المرحوم محمد العجيزى بجوار حلقة القطن، ووابوراتها فوق اثنى عشر وابورا، منها وابور لدائرة المرحومة والدة الخديوى إسمعيل، ووابور الخواجة حمص الإنكليزى على ترعة جعفرية القاصد لحلج القطن وطحن الحبوب وسقى المزروعات، ووابور الحاج محمد العجيزى لحلج القطن، ووابور الخواجة نصر كذلك، ووابور أحمد بيك المنشاوى، ووابور الخواجة الارداحى، ووابور الخواجة اسكندر مرسينا، ووابور الخواجة بخر بنتو، ووابور الخواجة معوض، ووابور الخواجة الضامانى، ووابور إسمعيل باشا صديق، وجميع هذه الوابورات مجعولة لحلج الأقطان، ووابور الخواجة بلانط لحلج القطن وطحن الغلال، ووابور الخواجة بستريه للطحن فقط.

وبساتينها نحو ستة فمنها بستان الحاج محمد العجيزى فيه أغلب أصناف الفواكه، وبستان محمد بك الصيرفى، وبستان محمد الغريب، وبستان الأستاذ القصبى، وبستان الشيخ محمد أبى النجا شيخ الدلائل، وبستان المعلم عبد الملك أفندى نسيم القبطى، وكلها تشتمل على أنواع الفواكه والخضر.

وسواقيها معينة عذبة الماء نحو اثنتى عشرة ساقية، عمقها من ثمانية أمتار إلى تسعة، فمنها ساقية محمد العجيزى، وساقية محمد الغريب، وساقية محمد بك الصيرفى، وساقية ورثة مصطفى أبى سنجر، وساقية الإمام

ص: 135

القصبى، وساقية الشيخ محمد أبى النجا، وساقية الحاج أحمد البدراوى، وساقية الجامع الأحمدى، وساقية عبد الملك نسيم، وساقية عبد الحق النجار، وساقية رزق عبده القبطى.

وفيها حمامان أحدهما تابع لوقف الأحمدى، والآخر للشيخ مصطفى الخادم، وفيها ثمانية صهاريج، أعظمها صهريج الجامع الأحمدى عند بابه الغربى، ثم صهريج على بك عند الباب القبلى لذلك الجامع، ثم صهريج الست مباركة فى شارع الدائر.

وفيها مقامات كثير من أولياء الله تعالى، فمن ذلك مقام الشيخ سالم والشيخ العراقى الكبير، والعراقى الصغير والشيخ الحمولى، وسيدى فريج وسيدى مضيها وسيدى نافع، وسيدى خليل وسيدى عبد الحق، وسيدى أبى الغيط وسيدى نوح، وجميعهم من داخل البلد وحواليها غير من بجانبها.

وسوقها العمومى كل يوم اثنين، يباع فيه الكثير من أصناف السلع كالأنعام والخيل والبغال والحمير، والملبوسات الحرير والقطن والجوخ والصوف، وفروع العطارة وأصناف الحبوب، والطيور والسمك وغير ذلك.

(ترجمة)[سيدى أحمد البدوى رضي الله عنه]

ولنذكر لك طرفا من مناقب سيدى أحمد البدوى، ومناقب تلميذه سيدى (عبد المتعال) تبركا، وإن كانت شهرتهما مغنية عن ذلك، فنقول: هو أبو الفتيان الملثم الشريف العلوى، أبو العباس سيدى أحمد البدوى بن على بن إبراهيم بن محمد بن أبى بكر بن إسمعيل بن عمر بن على بن عثمان بن حسين بن محمد بن موسى بن يحيى بن عيسى بن على الهادى بن محمد الجواد بن حسن العسكرى بن جعفر بن على الرضا بن موسى الكاظم بن

ص: 136

جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن الإمام على بن أبى طالب بن عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم

نسب كأنّ عليه من شمس الضحى

نورا ومن فلق الصباح عمودا

وأمه فاطمة بنت محمد بن أحمد بن عبد الله بن مدين بن شعيب من أكابر أهل الحسب.

كان مولده رضي الله عنه بمدينة فاس بالمغرب، لأن جده الشريف محمد الجواد ابن حسن العسكرى، انتقل إليها مع جمع من بنى عمه ومن يعز عليه من قومه أيام الحجاج، حين أكثر القتل فى الشرفاء، فلما بلغ سبع سنين سمع أبوه قائلا يقول له فى منامه: يا على انتقل من هذه البلاد إلى مكة المشرفة فإن لنا فى ذلك شأنا، وكان ذلك سنة ثلاث وستمائة، وكان سيدى أحمد أصغر أخوته وهم ثلاثة ذكور هو ثالثهم وثلاث إناث، قال الشريف حسن أخو سيدى أحمد رضي الله عنه: فما زلنا ننزل على عرب ونرحل من/عرب، فيتلقوننا بالترحيب والإكرام، حتى وصلنا إلى مكة المشرفة فى أربع سنين، فتلقانا شرفاؤها كلهم وأكرمونا، ومكثنا عندهم فى أرغد عيش، حتى توفى والدنا سنة سبع وعشرين وستمائة ودفن بباب المعلاة (وقبره هناك ظاهر يزار فى زاوية)، فأقمت أنا واخوتى وكان أحمد أصغرنا سنا وأشجعنا قلبا، وكان من كثرة ما يتلثم لقبناه بالبدوى، فأقرأته القرآن فى المكتب مع ولدى الحسين، ولم يكن فى فرسان مكة أشجع منه، وكانوا يسمونه فى مكة (العطاب)، فلما حدثت عليه حالة الوله تغيرت أحواله واعتزل عن الناس، ولازم الصمت فكان لا يكلم الناس إلاّ بالإشارة، ثم أنه فى شوّال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، رأى فى منامه ثلاث مرات قائلا يقول له: قم واطلب مطلع الشمس، فإذا وصلت إلى مطلع الشمس فاطلب مغرب الشمس، وسر إلى طندتا فإن بها مقامك أيها الفتى، فقام من منامه وشاور أهله وسافر إلى العراق فتلقاه أشياخها، منهم سيدى عبد القادر وسيدى أحمد الرفاعى.

ص: 137

قال سيدى حسن: فلمّا فرغ من زيارة أضرحة أولياء العراق كالشيخ عدىّ بن مسافر، والحلاج وأضرابهما، خرجنا قاصدين إلى ناحية طندتا، ومضينا إلى أم عبيدة، ثم أن سيدى حسن رجع إلى مكة، وذهب سيدى أحمد إلى (فاطمة بنت برى) فسلبها حالها، وكانت تسلب الرجال فتابت على يديه، وكان يوما مشهودا، ثم أنه رأى الهاتف فى منامه ثانيا يقول له: يا أحمد سر إلى طندتا فإنك تقيم بها وتربى رجالا وأبطالا، عبد المتعال، وعبد الوهاب، وعبد المجيد، وعبد المحسن، وعبد الرحمن رضي الله عنهم أجمعين، وكان ذلك فى شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة، فدخل رضي الله عنه مصر، ثم قصد طندتا فدخل على الحال مسرعا دار شخص من مشايخ البلد اسمه (ابن شحيط)، وذلك فى رابع عشر ربيع الأول سنة ستمائة وسبع وثلاثين، فصعد إلى سطح غرفته، وكان طول نهاره وليله قائما شاخصا ببصره إلى السماء، وقد انقلب سواد عينيه بحمرة تتوقد كالجمر، وكان يمكث الأربعين يوما وأكثر لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، ثم نزل من السطح وخرج إلى ناحية فيشى المنارة فتبعه الأطفال، فكان منهم عبد المتعال وعبد المجيد، فورمت عين سيدى أحمد رضي الله عنه، فطلب من سيدى عبد المتعال بيضة يعملها على عينه، فقال:

وتعطينى الجريدة الخضراء التى معك، قال: نعم فأعطاه إياها فذهب إلى أمه فقال: هنا بدوى عينه توجعه فطلب منى بيضة وأعطانى هذه الجريدة، فقالت:

ما عندى شئ، فرجع فأخبره، فقال: إذهب فائتنى بواحدة من الصومعة، فذهب سيدى عبد المتعال فوجد الصومعة قد ملئت بيضا فأخذ له واحدة منها، ثم أن سيدى عبد المتعال تبع سيدى أحمد رضي الله عنه من ذلك الوقت، ولم تقدر أمه على تخليصه منه، فكانت تقول: يا بدوى الشوم علينا، وكان سيدى أحمد إذا بلغه ذلك يقول: لو قالت يا بدوى الخير لكان أصدق، ولم يزل سيدى أحمد على السطوح مدة اثنتى عشرة سنة، وكان فى طندتا سيدى

ص: 138

حسن الصانع الإخنائى، وسيدى سالم المغربى، فلما قرب سيدى أحمد من مصر أول مجيئه من العراق، قال سيدى حسن الصانع: ما بقى لنا إقامة، صاحب البلاد قد جاءها، فخرج إلى اخنا وضريحه بها مشهور إلى الآن، وأما سيدى سالم فسلم لسيدى أحمد وقبره فى طندتا مشهور، وكان بطندتا صاحب الإيوان العظيم المسمى بوجه القمر، فثار عنده الحسد لسيدى أحمد فسلب، وموضعه الآن بطندتا مأوى للكلاب.

وكان سيدى أحمد رضي الله عنه طوالا غليظ الساقين عبل الذراعين، أكحل العينين، كبير الوجه عظيم الوجنتين، ولونه بين البياض والسمرة، وكان فى وجهه ثلاث نقط من أثر الجدرى، واحدة فى خده الأيمن، واثنتان فى الأيسر، أقنى الأنف، على أنفه شامتان من كل ناحية شامة أصغر من العدسة، وكان بين عينيه جرح موسى، جرحه به ولد أخيه الحسين فى الأبطح، حين كان بمكة فى صغره، وكان فى حياته معظما معتقدا عند الناس محبوبا فيهم، مشهورا فى الآفاق، تعلوه هيبة ووقار، وكان الملك الظاهر أبو الفتوحات (بيبرس البندقدارى)، يعتقده ويبالغ فى تعظيمه، وكان السيد قد أخذ طريق الصوفية عن الشيخ عبد الجليل ابن الشيخ عبد الرحمن النيسابورى، فألبسه خرقة التصوف، فأخذ عليه العهد كما تلقاه عن مشايخه واحدا عن واحد، إلى أنس بن مالك الصحابى رضي الله عنه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن يأخذ الشيخ على مريده العهدة والبيعة على الطاعة والمتابعة لكتاب الله وسنة رسوله والمحبة لله ولرسوله، ويكون له عونا مرشدا فى الأعمال والأخلاق، وسائر الأحوال، فيكون الشيخ للمريد كالوالد الناصح الشفيق للولد المطيع، وقد اتخذ سيدى أحمد الخرقة الحمراء شعاره وشعار أتباعه، وقال لخليفته سيدى عبد المتعال: اعلم أنى اخترت هذه الراية الحمراء لنفسى فى حياتى وبعد مماتى، وهى علامة لمن يمشى على طريقتنا من بعدى، فقال له سيدى عبد المتعال: فما شروط من يحملها، قال: شرطه أن لا يكذب ولا يأتى بفاحشة، وأن يكون غاض

ص: 139

البصر عن محارم الله، طاهر/الذيل عفيف النفس، خائفا من الله تعالى، عاملا بكتابه ملازما للذكر دائم الفكر، وقد ورد فى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء، وورد أيضا أنه قدّم لواء بنى سليم يوم فتح مكة على الألوية وكان أحمر.

ومما روى عن سيدى أحمد عن الحسن البصرى، قال: ست مسائل من جواهر الحكمة: أولها من لم يكن عنده علم لم تكن له قيمة فى الدنيا ولا فى الآخرة، [و] الثانية من لم يكن عنده حلم لم ينفعه علمه، [و] الثالثة من لم يكن عنده سخاء لم يكن له فى ماله نصيب، [و] الرابعة من لم يكن عنده شفقة على عباد الله لم يكن له شفاعة عند الله تعالى، [و] الخامسة من لم يكن عنده صبر فليس له فى الأمور سلامة، [و] السادسة من لم يكن عنده تقوى فليس له منزلة عند الله تعالى.

وكان له رضي الله عنه إمامان يصليان به، وكان إذا جن الليل يقرأ القرآن إلى الصباح، ولم يزل كذلك إلى أن توفى رضي الله عنه يوم الثلاثاء ثانى عشر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وستمائة، وعمره عدد جمل قولنا (المدد) أعنى: تسعا وسبعين سنة، قال فى الجواهر السنية: لما توفى السيد رضي الله عنه عظموا قبره وبنوا عليه وستروه.

وقام بأمر تلامذته من أصحابه الشيخ عبد المتعال، فسموه خليفة السيد، وعمّر بعده طويلا نحو سبع وخمسين سنة، واشتهر أتباعه الذين اجتمعوا به على السطح بالسطوحية، وهم كثيرون جدا، أكبرهم خليفته سيدى عبد المتعال، وهو صاحب الثوب الأحمر الذى يلبسه الخليفة فى المولد فى كل سنة، وهو الذى بنى بمقام سيدى أحمد البدوى المنارة، ورتّب السماط وشيد أركان البيت، وقصده الناس للزيارة من الأقطار البعيدة إلى أن توفى يوم السبت الموافق لعشرين خلت من شهر ذى الحجة سنة سبعمائة وثلاث وثلاثين، ودفن قريبا من قبة السيد فى داخل المسجد.

ص: 140

وقال فى الجواهر أيضا: لما توفى السيد رضي الله عنه، أحدث لهم بعد مدة عمل المولد النبوى عنده، وصار يوما مشهودا يقصد من النواحى البعيدة، انتهى.

ويؤخذ من كلامه أن أصل مولد السيد مولد النبى صلى الله عليه وسلم كان يعمل عنده، ويدل لذلك أن وفاة السيد كانت فى ثانى عشر ربيع الأول، وهو وقت عمل المولد النبوى، واعلم أن الليالى المعظمة فى الملة الإسلامية سبع، يقال لها:

الليالى المباركة، وهى ليلة مولده عليه السلام وهى ليلة اثنى عشر من ربيع الأول على الصحيح، وليلة الرغائب وهى ليلة الحمل به صلى الله عليه وسلم وهى ليلة أول جمعة من رجب، وليلة المعراج وهى ليلة سبع وعشرين منه، وليلة النصف من شعبان التى يفرق فيها كل أمر حكيم وتسلم المقادير فيها للملائكة الموكلين بالتصرف، وليلة القدر التى يعبد الله فيها جميع المخلوقات حتى الجمادات وهى ليلة سبع وعشرين من رمضان، وليلة عيد الفطر وهى أول ليلة من شوال، وليلة عيد الأضحى وهى ليلة العاشر من ذى الحجة.

وسمعت من بعض المشايخ أن أصل عمل ذلك المولد، أن أتباع السيد لما سمعوا بوفاته، حضروا باتباعهم إلى طندتا ليعزوا فيه خليفته سيدي عبد المتعال، وكانوا كثيرين جدا متفرقين فى البلاد، وكانت طندتا وقتئذ قرية صغيرة لا تسع هذه الجموع، فضربوا خيامهم خارجها حيث يعمل المولد الكبير، وأقاموا فى تلك الخيام ثلاثة أيام، فلما أرادوا الرحيل شيعهم الشيخ عبد المتعال فقالوا له: هذه عادة مستمرة نحضر ههنا كل عام فى هذا الميعاد إن شاء الله تعالى إلى ما شاء الله، واستمرت هذه العادة فنشأ من ذلك المولد الكبير، وكان فى الأصل ثلاثة أيام ولم يزل يزداد إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن، كما أن منشأ ركوب الخليفة الذى يكون فى آخر المولد، هو ركوب

ص: 141

الشيخ عبد المتعال لتوديع هؤلاء المشايخ، وأما منشأ المولد الصغير فهو أن الشيخ (الشرنبلالى)، أحد مشايخ الطائفة الأحمدية، حضر للزيارة مع تلامذته وأتباعه فى غير وقت المولد، فأقام هناك ليالى فى الأذكار والعبادات، فاتخذ ذلك عادة كل سنة، لأن عادة أصحاب الطرق أنهم متى وقع لهم شئ مرة اتخذوه عادة فلذا كان ذلك المولد يعرف فى أول أمره بالمولد الشرنبلالى، وأما المولد الرجبى فهو منسوب إلى الشيخ (الرجبى) أحد مشايخ الطريقة الأحمدية، حيث بدا له أن يجدد العمامة التى على مقام السيد، فاتخذ لها مقدارا كافيا من الشاش المصبوغ باللون الأخضر، وحضر به مع جماعته ومريديه، ودخلوا طندتا فى موكب من المشايخ والمريدين والفقراء فصار ذلك عادة إلى الآن، ويعرف ذلك المولد أيضا بمولد لف العمامة، وتجدد فيه العمامة كل عام، فصارت موالده ثلاثة وقررت مواعيدها بالشهور القبطية رعاية لأوقات النيل والرى، ولا تتغير مواقيتها إلاّ بأوامر من الحكومة حسب مقتضيات المصالح، والذى عليه العمل الآن أن المولد الكبير فى أول شهر مسرى، والصغير فى أول برمودة، والرجبى قبل الصغير بنحو شهرين، انتهى.

مختصرا بعضه من طبقات الشعرانى وبعضه من كتابنا علم الدين، وقد طار صيت المولد الكبير والصغير فى الآفاق، وهرعت إليهما الناس من كل فج، فلا يفوقهما فى الاحتفال والجمع غير موسم الحج الشريف، بل لا يساويهما/مولد من موالد الدنيا فيما نعلم، مع ما اشتملا عليه من أنواع المتاجر، وكثرة الإنفاق سيما بعد حدوث السكة الحديد، فلها هناك محطة مزدحمة إلى الغاية، وفى أوقات الموالد يكون ازدحامها فوق الطاقة، وأما المولد الرجبى فهو مولد مختصر بالنسبة لغيره كما يعرفه من رأى هذه الموالد.

ص: 142

(ترجمة)[الشيخ حسن بن أحمد الطنتدائى]

وممن نشأ من هذه المدينة من العلماء الأعلام، وفضلاء الأنام، الحسن ابن أحمد الذى ترجمه السخاوى فى الضوء اللامع، حيث قال: الحسن بن أحمد بن محمد بن عثمان البدر أبو على الطنتدائى ثم القاهرى الشافعى المقرئ الضرير والد البهاء محمد وشقيقه أحمد ثم يحيى، ولد فى سنة اثنتين وثمانمائة تقريبا بطنتدا وحفظ بها القرآن، ثم تحول منها فى سنة تسع عشرة إلى القاهرة، فحفظ العمدة الشاطبية وألفية مالك، وعرض بعضها على شيخنا، وعلى (البساطى) وابن مغلى والتلوانى، وجمع للسبع على الشمس العاصفى، وحضر فى الفقه عند القاياتى والونائى، وأخذ عن الشمس بن هشام فى العربية، وقرأ على شيخنا فى البخارى حفظا إلى أول الجنائز، وكان يطلع إلى الظاهر (جقمق) أحيانا لصحبة بينهما قبل السلطنة وميله إليه بحيث عمل له راتبا على الجوالى، وربما أحسن إليه بغير ذلك، وكان خيّرا سليم الصدر منعزلا على التلاوة، قانعا باليسير سيما بآخره، متعففا انقطع ببيته مدة طويلة حتى مات فى شعبان سنة ثمان وثمانين وثمانمائة، وصلى عليه بباب النصر ودفن هناك رحمه الله وإيانا، انتهى.

(ترجمة)[الشيخ نور الدين الطنتدائى]

وممن نشأ منها أيضا الشيخ نور الدين الطنتدائى، الذى ترجمه الشعرانى فى ذيل الطبقات، فقال: ومنهم الأخ الصالح العالم الزاهد الكامل الراسخ المحقق الشيخ نور الدين الطنتدائى رضي الله عنه، صحبته نحو سبع وأربعين سنة فما

ص: 143

رأيت عليه شيئا يشينه فى دينه، وهو أول من صحبته بالجامع الأزهر من أهله، لم يزل من حين صحبته بحضرة الشيخ محمد الشناوى، على تقوى وورع واشتغال فى العلم والعمل، يأمر اخوانه بالمعروف وينهاهم عن المنكر، لا يداهن أحدا منهم، أخذ الطريق عن سيدى على المرصفى، وعن الشيخ محمد الشناوى وغيرهما، وأخذ العلم عن جماعة من مشايخ الإسلام، كالشيخ ناصر الدين اللقانى، والشيخ شهاب الدين الرملى، حتى تبحر فى علوم الشريعة، وأجازوه بالإفتاء والتدريس، فأفتى ودرّس فى جامع الأزهر فى حياة أشياخه، وكانوا يرسلون إليه الأسئلة فيجيب عنها بأحسن جواب، وكان الشيخ شهاب الدين الرملى يقول: تحقيق المسائل الواقعة فى الدرس للشيخ نور الدين الطنتدائى، وجمع أشتات المسائل للشيخ شمس الدين الخطيب الشربينى، وكان شيخنا الشيخ نور الدين الشونى، يحبه ويجله ويكرمه أكثر من سائر أصحابه وأقرانه، ولما افترى علىّ بعض الحسدة أننى ادعيت الاجتهاد المطلق لاث بى غالب أصحابى، وتكلموا فى عرضى إلا هو وبعض المتورعين من طلبة العلم، وكذلك لمّا دسّ بعض الحسدة فى مؤلفاتى كلمات تخالف ظاهر الكتاب والسنة، بادر غالب الناس إلى الكلام فى عرضى إلا هو والشيخ شمس الدين الخطيب الشربينى وبعض جماعة فجزاه الله عنى خيرا وعن المسلمين، ولم يزل يحمل كلام الناس على أحسن المحامل، ويقول: إذا بلغوه عن أحد كلاما رديئا هذا كذب على فلان، وحاشا فلانا أن ينطق بذلك، وأعطاه محمد ابن بغداد مالا جزيلا، فلم يقبله، فقلت له: فرقه على الأيتام والمجاورين بالأزهر ففعل، وما سمعته مدة صحبتى له يذكر أحدا من المسلمين بسوء ولا يحسد أحدا من أقرانه على وظيفة حصلت له، فاسأل الله تعالى أن يزيد من فضله آمين. انتهى ببعض حذف.

ص: 144

(طهطا)

بطائين مهملتين بينهما هاء وفى آخر ألف لينة هكذا يستعمله العلماء فى كتبهم قديما وحديثا، وتستعمله العامة والعلماء أيضا فى كلامهم بالحاء المهملة بدل الهاء، وهو اسم لمدينة شهيرة بمديرية دجرجا فى غربى البحر الأعظم بنحو نصف ساعة، وهى رأس القسم الذى يلى مديرية أسيوط، وبها قاضى ولاية وضبطية، وحكيم ومهندس، وكان بجهتها البحرية ورشة أقمشة متسعة، بيع أكثرها للأهالى زمن المرحوم سعيد باشا، وبنى فى محلها قصور، وفى بعضها ديوان القسم والتلغراف بجميع لوازمه، وكان فى شمالها الغربى قصر متسع للحكومة، كانت تنزل فيه الصناجق بعساكرها، بيع أكثره وجعل خانات وعصارات للزيت ومنازل، وكان حواليها تلال شامخة، أزيلت زمن العزيز محمد على، وبنى الآن محلها قصور مشيدة، ومنازل وخانات وقيساريات، وأبنيتها من أعظم أبنية مدن الصعيد، إلاّ أن حاراتها ضيقة ذات اعوجاج، وفى وسطها قيساريات فى أحسن وضع وخانات كذلك، وفيها أغلب أنواع البضائع المصرية وغيرها وأكثر أهلها تجار لا سيما فى الغلال، فإنهم يسلمون فيها قبل المحصول أهل البلاد المجاورة نحو الثلاثين قرية.

[مساجد طهطا وجوامعها]

وفيها كثير من الجوامع المشيدة العامرة ذات المنارات، وأشهرها وأعظمها مسجد سيدى أبى القاسم الحسينى، وهو مسجد جامع عتيق متسع بمنارة، مقام الشعائر دائما عامر بالصلاة وإقراء العلم، وقد هدمه/وأعاده سعادة الأمير عبد اللطيف باشا، بعد سنة سبعين ومائتين بعد الألف، فجعله من أحسن مساجد الصعيد، وجعل عمده من الآجر المنحوت الأسود، وفرش أرضه بالبلاط النفيس، وجعل ميضأته أكثر من عشر فى عشر مغطاة بسقف من

ص: 145

الخشب المخروط، وعمل به حنفية على شكل جميل، وجعل فوقها مكتبا، ومئذنة توقد فى رمضان فيثبت بها الصوم على البلاد المجاورة، ويليه الجامع العتيق فى جهتها الشرقية جددته الآن الأهالى، وهو جامع متسع مقام الشعائر، ثم الجامع الألفى بجبانتها، وهو أيضا متسع مقامة شعائره من طرف السيد (رفاعة عنبر) أحد مشاهيرها، ثم جامع الشيخ موسى وفيه ضريحه، ثم جامع الشيخ طه وفيه ضريحه أيضا، ثم مسجد (ابن الرضى) كذلك وجامع الكشكى، وجامع الشيخ نصير وفيه ضريحه وغير ذلك.

وأكثرها يقرأ فيه دروس العلم سيما فى العشر الأواخر من رمضان، فلهم عادة أن يقرأ فى كل ليلة من أفرادها درس فى مسجد أو أكثر.

وبها حمام أنشأه سعادة الباشا المذكور، وله فيها أيضا قصر يشبه قصور المحروسة، وأبنية كثيرة للوازم دائرته التى بها، وفى شرقيها على الجسر الموصل إلى ساحلها، طاحونة بآلة بخارية وقصر يشبه قصور القاهرة، كلاهما من إنشاء موسيو (بيودوه) الفرنساوى وشركائه.

[أشراف طهطا]

وفيها كثير من الأشراف من ذرية سيدى أبى القاسم، وهم أكابرها من عدة أجيال، ولهم فيها منازل مشيدة، ومضايف، وكانت لهم مرتبات من بيت المال واسعة نحو الألف اردب كل سنة، وكان منهم السيد (على عابدين) رئيس عرب وهوارة بلاد طهطا، وداره بجوار مشهد جده أبى القاسم، وهى دار متسعه مشيدة فى أجمل هيئة، وهى أول بناء شيد فى هذه المدينة، ومن ذريته نقيب أشرافها الآن حضرة السيد أحمد عابدين، ومنهم الآن الأجل الفاضل السيد محمد عبد العزيز رافع، من أقارب المرحوم رفاعة بك الآتى ذكره، قد اجتمع له الدين والدنيا ومكارم الأخلاق، تولى الإفتاء مدة ببندر

ص: 146

أخميم ثم طهطا، ثم اقتصر على اشتغاله بشأن نفسه من أمر دينه ودنياه، مع وظيفة نظر جامع جده أبى القاسم وضريحه، فله التكلم على خدمته وإيراداته من نذور وخلافها، وله ابنان أحدهما له وظيفة نقابة أشراف تلك الجهة بعد أن جاور بالأزهر مدة، والآخر منهمك فى طلب العلم مع النجابة الزائدة.

وفيها أشراف من غيرهم أيضا، وبيت من الأنصار كلهم علماء من عدة أجيال من أهل التدريس والتأليف، كالشيخ عبد العزيز الأنصارى ناظم متن القطر، وأخيه الشيخ (فراج) العالم الربانى الورع الزاهد، كان يواسيه ابن أخيه الشيخ على القاضى بماله فيرده لما فيه من الشبهة، ولا يقبل منه إلا الوقود، ويقول: هو من النار إلى النار، وكالشيخ عبد الصمد أخيه أيضا، كان يقرأ بطهطا كبار الكتب كجمع الجوامع، ومختصر السعد، وقد ماتوا جميعا فى أوائل هذا القرن، ومنهم القاضى وأبوه من قبله الشيخ على ابن الشيخ محمد الفرغلى، كان قرين الشيخ إبراهيم البيجورى شيخ الأزهر، توفى قبيل سنة ثمانين من هذا القرن.

وفيها علماء من غيرهم أيضا، وفيها بيت من مشايخ عرب جهينة يسمى بيت الكشكى، وهو بيت عمدتها إلى الآن، وبيت أولاد عنبر أفندى قاضى مدينة سيوط سابقا، وله مضيفة مشهورة وتنزل عندهم الحكام والأمراء، وأحدهم رفاعة عنبر من نواب الشورى، وفيها عائلة تسمى القلتية، اشتهر أكثرها بإفادة العلوم واستفادتها جيلا بعد جيل، وكان الواحد منهم إذا كتب اسمه على صك شرعى أعقبه قاضيها ومفتيها بقوله المشهور نسبه الكريم بابن القلتى، ولهم مآثر جمة منها عدة من المساجد المعمورة بذكر الله تعالى إلى الآن، وخزانة كتب، وكانوا يتعيشون من محصولات رزقهم المعطاة لهم من قبل ملوك عصرهم بمقتضى فرمانات سلطانية تناولتها أيدى الضياع، أو مما عاد

ص: 147

إليهم من الميراث الشرعى عن أسلافهم، ومنهم المرحوم العلامة الشيخ مسعود شارح خمرية ابن الفارض التى مطلعها:

«شربنا على ذكر الحبيب مدامة»

إلخ.

ونجله المرحوم الفاضل الشيخ عبد الرحيم مفتى السادة الشافعية، ونائب الأحكام الشرعية بها، والمرحوم الفاضل الشيخ أحمد الرفاعى مفتى السادة المالكية بها أيضا.

(ترجمة)[الشيخ أحمد عبد الرحيم]

ومنهم نابغة عصره ونادرة مصره، العلامة الفاضل والرحلة الكامل الشيخ أحمد عبد الرحيم، ولد بطهطا فى السادس والعشرين من شهر ذى الحجة ختام سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف من هجرة خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وتربى فى حجر والده المرحوم الشيخ عبد الرحيم السابق ذكره، وحفظ القرآن وهو ابن تسع، وفى هذه المدة لم يخل من استفادة أحكامه، مع تعلم الإملاء والخط فى اللوح، ثم اشتغل بحفظ المتون مستصحبا الاستفادة فوائد عربية، وقواعد ابتدائية، حتى فاجأ والده الريح الأصفر فى سنة سبع وأربعين، فانتقل إلى الرفيق الأعلى، وسيرته يعبق منها المسك الأذفر، فنظمه قاضى طهطا المرحوم السيد سليمن [سليمان] فى سلك محكمتها/حبا فى والديه عليهما سحائب الرحمة، حتى تعلم صناعة الكتابة، وإنشاء الصكوك، ومعرفة الأحكام الشرعية، والرقوم الحسابية، ثم دخل فى كفالة عمه المرحوم الشيخ أحمد الرفاعى المتقدم ذكره، فبعث به إلى الأزهر، ولم يأل جهدا فى تحصيل العلوم، حتى عاد إلى بلده بسبب طاعون، بعد أن تلقى أغلب الكتب المتداول

ص: 148

قراءتها فى مذهب سيدنا ومولانا الإمام الشافعى رضى الله تبارك وتعالى عنه، وربما أفتى فى ذلك الوقت من استفتاه بإقرار مفتى بلده، ثم عاد إلى الأزهر وقرأ فيه صعاب الكتب كالعقائد النسفية بحواشيها، وآداب البحث فى علم المناظرة وغيرهما من العلوم النقلية والعقلية، بعد اجازة أشياخه له بجميع مروياتهم وكتابتهم له على ثبتى خاتمة المحققين الشيخ الأمير، والشيخ الشنوانى، وفى سنة خمس وخمسين، اندرج فى مدرسى المدرسة التجهيزية لتعليم النحو والصرف، وربما قرأ فيها آخر السنة رسالة كلامية، ونظم منظومته الصرفية المشروحة بشروح أكبرها شرح المرحوم الإمام الشيخ محمد عليش، شيخ المالكية بالديار المصرية، ثم التحق بمدرسة الألسن وقرأ فيها للتلامذة الأنجاب: النحو والبيان والبديع والمنطق والعروض والقوافى والتوحيد، وسمعوا منه أدبيات نثرية وشعرية، كإنشاء العلامة الشيخ العطار والشيخ مرعى ودواوين ابن معتوق والصفىّ وابن الفارض، وحال قراءته لهم شرح الشيخ عبد السلام على جوهرة أبيه فى علم الكلام، أفرد قولة الدور والتسلسل التى فى حواشى الأمير، المشهورة بالصعوبة على كل نحرير بشرح لطيف سماه: نهاية القصد والتوسل في فهم قولة الدور والتسلسل، طبع فى المطبعة العامرة الأميرية ببولاق، وله ديوان مدائح نبوى مترتب على حروف المعجم، يسمى (درّ الشرف المنظم في مدح النبى الأعظم صلى الله عليه وسلم كل قصيدة منه زهاء خمسين بيتا، ومن مؤلفاته المفيدة رسالته فى علمى العروض والقوافى، وله مقطعات كثيرة.

ثم انتقل إلى مدرسة المهندسخانة فألف فيها جملة من الرسائل النحوية، أخصرها النقطة الذهبية فى علم العربية، ثم التحق بمدرسة الحربية وألف فيها شرحا لطيفا على الآجرومية، ثم قلد بوظيفة محرر أوّل للوقائع المصرية، مع مباشرة أعمالها فى منزله بمشاركة شقيقه الفاضل العلامة الكامل الشيخ محمد

ص: 149

عبد الرحيم، محررها الثانى وأحد المدرسين بالأزهر، ثم لزم بيته إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى وهو صائم فى ضحى يوم الاثنين السابع عشر من رمضان سنة 1302 من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وكان علىّ الهمة عفيف النفس شريفها، سخى اليدين طلق الوجه، يؤثر من قصد بيته على نفسه مع شدة اضطراره رحمه الله رحمة واسعة.

ومنهم العلامة الأكمل والفهامة الأمثل، الشيخ أحمد ابن المرحوم الشيخ أحمد الرفاعى، قاضى مديرية جرجا الآن، وهو أول من تقلد بوظيفة القضاء من هذه العائلة، وأصل هذه العائلة من أشراف ساقية قلتة فى بحرى أخميم ونسبهم من جهة الأم ينتهى إلى سيدى أبى القاسم الطهطاوى عمت بركاته، وتوالت إمداداته، وبها مشايخ طرق وسجادات، وفيها كثير من الأقباط والإفرنج ولهم فيها كنائس ومكاتب، وأشهر تجارها وأكثرهم مالا وأملاكا، عائلة الخواجة (يسى رزق الله)، فإن لهم قصورا مشيدة تشبه قصور مصر فى دائرة البلد وداخلها، سيما فى محل الفوريقة، ووكائل ودكاكين وقهاو ومعاصر، ولهم جنات وبساتين شرقى البلد بكثرة، ولغيرهم أيضا بساتين كذلك، وفيها كثير من مقامات الأولياء التى تزار، وأكثرها فى جبانتها فى الجهة الجنوبية، وهى جبانة متسعة مسوّرة، وممن بها من الأولياء الشيخ (رفاعة) رئيس الألف، وأشهر الجميع سيدى أبو القاسم، مقامه فى وسط جامعه المتقدم ذكره، ومناقبه أشهر من أن تذكر، وقد ذكر نبذة منها الإمام محيى الدين يحيى الدمياطى فى كتابه الذى ذكر فيه مناقب الأولياء بالوجه القبلى، وله مولد يعمل كل سنة مع مولد النبى صلى الله عليه وسلم، فيمكث اثنى عشر يوما يجتمع فيه ما يجتمع فى الموالد المشهورة، أحدثه سعادة (عبد اللطيف باشا).

ص: 150

(ترجمة)[رفاعة بيك (رافع)]

ومن ذريته الأمير الجليل المرحوم رفاعة بك رافع الطهطاوى ناظر مدرسة الألسن سابقا، ولد رحمه الله سنة 1216 هجرية، ونشأ فى عز والده إلى أن أخذت الإلتزامات من العلماء والأشراف، فاضطر والده إلى المهاجرة من طهطا إلى بلد أقاربه بمنشأة النيدة المعروفين ببيت أبى قطنة، وهناك حفظ أكثر القرآن الشريف، ثم توفى والده رحمه الله السيد بدوى، فرجع إلى طهطا وهناك قام بتربيته أخواله، وهم بيت علم من الأنصار الخزرجية، فحفظ المتون وحضر بعض الكتب عليهم فقها ونحوا، وأغلب تربيته الأزهرية كانت على العلامتين المفضالين، الشيخ الفضالى، والشيخ حسن العطار، فتخرج عليهما فى سائر العلوم العربية، حتى صار أهلا للتدريس فدرّس فى الأزهر مدة نحو السنتين، وكان له/رحمه الله تعالى، منزلة خاصة عند الشيخ حسن العطار، فكان يشترك معه فى الاطلاع على الكتب الغريبة التى لم تتداولها أيدى علماء الأزهر.

وقد اتفق أن المرحوم محمد على باشا صاحب الديار المصرية عليه سحائب الرحمة، بعث بجملة من أبناء أكابر الحكومة المصرية وغيرهم، لتعلم العلوم الأوروباوية بمدينة باريس، وطلب من الشيخ العطار أن ينتخب لهم إماما من علماء الأزهر فيه الأهلية واللياقة، فاختار تعيين صاحب الترجمة لتلك الوظيفة، فتوجه مع تلك الإرسالية إلى باريز، وأوصاه شيخه المومى إليه قبل سفره، بأن يفيد بلاده بعمل رحلة تجمع ما عليه المملكة الفرانساوية عموما، وتضبط أحواله خصوصا، فعمل رحلته المشهورة المسماة «تخليص الإبريز» المطبوعة مرارا وشرع حين ركوب الباخرة من الأسكندرية، فى تعلم مبادئ

ص: 151

اللغة الفرانساوية بهمة عالية وعزيمة صادقة، واتخذ له بعد وصوله إلى باريز معلما خاصا على نفقته، وما لبث فى هذه البلاد، حتى عرفه أعاظم العلماء وأكابرهم، وكان للعالم الشهير (موسيو جومار) عليه فضل التعهد بالإرشاد والتعليم والمحبة الخصوصية، وقد ساعده مساعدات جمة فى هذه البلاد، وكذلك حاله مع العالم الشهير (البارون دساسى)، هذا وفى مدة إقامته بباريز التى هى من سنة 1241 إلى 1246، كان قد نبغ فى العلوم والمعارف الأجنبية، وعلى الخصوص فى فن الترجمة فى سائر العلوم على اختلاف اصطلاحاتها، من حيث الإستعمال والمفردات، وأكبّ كل الإكباب على إدامة النظر، واستعمال الفكر، والحرص على التحصيل والإستفادة، ولم تؤثر إقامته بباريز أدنى تأثير فى عقائده ولا فى أخلاقه وعوائده، واستمر على اجتهاده، وترجم فى مدة إقامته جملة رسائل وكتب، منها «قلائد المفاخر فى غريب وعوائد الأوائل والأواخر» المطبوع بمطبعة بولاق، ونستغنى فى هذا المقام على استقراء حالته فى باريز بما ذكره فى رحلته السالف ذكرها.

وبعد انتهاء رحلته وحصول بغيته، استقدمه المرحوم محمد على باشا إلى مصر مع رفقته، وعند وصوله الإسكندرية حظى بمقابلة المرحوم إبراهيم باشا أكبر أنجال المرحوم المشار إليه، وسأله عن بيت آبائه بطهطا بعد أن عرف أنه من ذريتهم، وكان للمرحوم إبراهيم باشا معرفة بهم، ولهم به انتماء خاص، فوعده بإدامة الإلتفات إليه، واستمر إلى أن توفى المرحوم إبراهيم باشا، وقد أقطعه فى خلال هذه المدة حديقة نادرة المثال فى الخانقاه تبلغ 36 فدانا، وتوّجه صاحب الترجمة من ثغر الإسكندرية إلى القاهرة، فتشرف بمقابلة المرحوم محمد على باشا، ورأى من ميله إليه، ما حمله على الثقة بنجاح المبدأ والنهاية وعين بأمره العالى مترجما فى مدرسة (طرا) تحت رياسة ناظرها (سكورا بك الفرانساوى)، فترجم كتبا عديدة، وفى أثناء ذلك حلّ وباء

ص: 152

فى القاهرة فسافر صاحب الترجمة إلى بلده، ثم رجع وقابل الجناب العالى بترجمة جزء ضخم من (جغرافية ملطبرون)، ترجمه فى تلك المدة، فأنعم عليه بمبلغ جزيل من النقود.

ثم عرض للجناب العالى أن فى إمكانه أن يؤسس مدرسة ألسن، يمكن أن ينتفع بها الوطن ويستغنى عن الدخيل، فأجابه إلى ذلك ووجه به إلى مكاتب الأقاليم، لينتخب منها من التلامذة ما يتم به المشروع، فأسس المدرسة، وفى المدة المعينة امتحنت فى اللغة الفرنساوية وفى غيرها من العلوم المدرسية فظهرت نجابة تلامذتها، ثم تشكل بها قسم ترجمة وترقت فيه التلامذة إلى الرتب السنية، وترجم فيه كثير من الكتب على اختلاف العلوم والفنون والمواضيع.

[معلمو الألسن]

وكان لهذه المدرسة معلمون أفاضل أجنبيون ووطنيون، فمن الوطنيين العلامة الشيخ محمد الدمنهورى، والعلامة الشيخ على الفرغلى الأنصارى (ابن خال صاحب الترجمة)، والعلامة الشيخ حسنين حريز الغمراوى، والعلامة الشيخ محمد قطة العدوى، والعلامة الشيخ أحمد عبد الرحيم الطهطاوى، والشيخ عبد المنعم الجرجاوى، ولا يحضرنا من الأجانب غير اسم موسيو (أوزير).

وكان مقر تلك المدرسة بالسراى المعروفة ببيت الدفتردار، حيث لوكاندة شبت الآن بالأزبكية، وكان لهذه المدرسة مدرسة تجهيزية هى أيضا تحت رياسته، وكان خوجاتها من تلامذته من مدرسة الألسن، وأحيل عليه تفتيش مكاتب الأقاليم عموما، وتفتيش مدارس الخانقاه، وأبى زعبل أى مدارس الأنجال وغيرهم، وكان دأبه فى مدرسة الألسن، وفيما اختاره للتلامذة من الكتب التى أراد ترجمتها منهم وفى تأليفاته وتراجمه، خصوصا أنه لا يقف فى

ص: 153

ذلك فى اليوم والليلة على وقت محدود، فكان ربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء أو عند ثلث الليل الأخير، ومكث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قدميه فى درس اللغة أو فنون الإدارة والشرائع الإسلامية والقوانين الأجنبية، وله فى الأولى مجاميع لم تطبع، وكذلك كان دأبه معهم فى تدريس كتب فنون الأدب العالية، بحيث أمسى جميعهم فى الإنشاآت نظما ونثرا أطروفة مصرهم، وتحفة عصرهم، ومع ذلك كان هو بشخصه لا يفتر عن الاشتغال بالترجمة/أو التأليف، وكانت مجامع الامتحانات لا تزهو إلا به.

وقد ذكر العالم الفاضل المرحوم السيد بك صالح مجدى أحد تلامذته فى ترجمة أحواله التى سماها «حلية الزمن بسيرة خادم الوطن» نسبه الحسينى الشريف، وذكر كثيرا من أحواله وعدد تلامذته، وقسمهم إلى ثلاث طبقات كانوا جمال العصر وغرة الدهر فضلا ونبلا. فمن شاء فليراجع أسماءهم هناك، وقد أمضى مدة حياته إلى آخر مدة المرحوم سعيد باشا فى سبيل التعليم إدارة وعملا، هو وتلامذته، ثم من بعد تلك المدة واقتصاره على نظارة قلم الترجمة، وعضوية قومسيون المعارف فى عهد حضرة الخديو اسمعيل باشا، قام فى كثير من المدارس بهذه الخطة عينها، وله فى المرحوم محمد على ونجله الأكبر إبراهيم باشا المدائح التى سارت بها الركبان منها قصيدته اللامية التى مطلعها:

ملأ الكون بشرا عدله واعتداله

وأغنى البرايا بره ونواله

وهى التى يقول فيها تلويحا ببلد الممدوح:

منازل منها اسكندر فاتح الورى

إذا لم يكن عمّ الأمير فخاله

وقصيدته النونية التى قالها وهو فى باريس ومطلعها:

ناح الحمام على غصون البان

فأباح شيمة مغرم ولهان

ومنها يتذكر أولاده وعائلته:

ص: 154

أبكى بعينى مهجتى لفراقهم

وأود أن لا تشعر العينان

ومنها وقد كان قائما باعباء الحروب إذ ذاك نجل الممدوح المشار إليه:

فى كفه سيفان سيف عناية

والشهم إبراهيم سيف ثانى

ثم ألغيت المدرسة فى مدة المرحوم عباس باشا، واستقر رأى المجلس الخصوصى على إنشاء مدرسة فى السودان للاحتياج لها هناك، فاختير المترجم ناظرا عليها، وعينت ضباطها وخوجاتها وجميع ما يلزم لها، وصدر الأمر العالى بالتنفيذ وأن يكون محلها مدينة الخرطوم، فلما وصل إليها أنشأ المدرسة ورتبها أحسن ترتيب، وأدارها أحسن إدارة، وكان ذلك أواخر سنة 1265 هجرية، وقد ترجم هناك كتبا منها كتاب (تليماك) المطبوع فى الشام، وأنشأ قصيدته التى مطلعها:

ألا فادع الذى ترجو وناد

يجبك وان تكن فى أى ناد

بنو الآداب اخوان جميعا

وأخدان بمختلف البلاد

وهى مطبوعة فى كتابه (مناهج الألباب) وخمس قصيدة من قصائد سيدى عبد الرحيم البرعى وهى التى مطلعها:

«خل الغرام لصب دمعه دمه» ومطلع التخميس:

تبدى الغرام وأهل العشق تكتمه

وتدعيه جدالا من يسلمه

ما هكذا الحب يا من ليس يفهمه

خل الغرام لصب دمعه دمه

حيران توجده الذكرى وتعدمه

ولم يزل مكبا على شغله إلى أواخر عام ألف ومائتين وسبعين، فعاد إلى مصر بأمر من المرحوم محمد سعيد باشا حين ولايته على مصر، وبعد رجوعه من السودان، جعل عضوا ومترجما فى مجلس المحافظة، تحت رياسة

ص: 155

المرحوم أدهم باشا، ثم جعل ناظرا ثانيا للمدرسة الحربية التى كانت بالحوض المرصود، تحت نظارة سليمن باشا الفرنساوى، وبعد قليل أمر بعمل قوانين ونظامات لمدرسة مستقلة أريد إنشاؤها، وجعل مقرها بالقلعة العامرة، تكون كافلة للعلوم الأدبية، وافية بالفنون المدنية، فبذل همته فى ذلك، وراعى فى نظاماته ما يجذب خواطر الأهليين إلى تلك المدرسة، ورتب لها من المعلمين كل من له به ثقة من أهل العلم والمعرفة التامة، المتدربين على تعليم الفنون وإفادتها، ومن الموظفين ذوى الإجتهاد ما فيه الكفاية، وأدارها إدارة جيدة، حتى ظهرت نجابة تلامذتها واستفادتهم استفادة جيدة فى أقرب وقت ولرغبته فى نشر العلوم وسعة دائرتها، وحبه عموم النفع بها استدعى مع بعض أمراء الحكومة المصرية من المرحوم سعيد باشا، وكان له ميل إلى المترجم رحمه الله، صدور الأمر بطبع جملة كتب عربية على طرف الحكومة عمّ الانتفاع بها فى الأزهر وغيره منها:

تفسير الفخر الرازى، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، والمقامات الحريرية وغير ذلك من الكتب/التى كانت عديمة الوجود فى ذلك الوقت فطبعت، وللمترجم فى مدح المرحوم سعيد باشا من القصائد والمربعات والمخمسات والتواشيح والأدوار الكثير الطيب مما هو محفوظ فى الصدور مرقوم فى السطور، وقد أنعم عليه المرحوم محمد على باشا بجملة من الأطيان قدرها 250 فدانا ببلده طهطا، وأنعم عليه المرحوم سعيد باشا بمبلغ [بما قدره] 200 فدان، والخديوى إسمعيل باشا بمبلغ [بما قدره] 250، جملة ذلك 700 فدان، واشترى هو 900، فبلغ جميع ما فى ملكه من الأطيان إلى حين وفاته 1600 فدان، غير ما اشتراه من العقارات العديدة فى بلده وفى القاهرة، وقد زاد على ذلك أنجاله فبلغ مجموع أطيانهم 2500 فدان، غير ما جددوه من الأملاك، وكانت له رحمه الله عناية كبيرة باقتناء الكتب، فاشترى الكثير النادر منها، حتى أن كتبه تبلغ بما اشتراه أولاده نحو 4500 كتاب، وفيها من الكتب العربية الغريبة ما ليس فى غيرها.

ص: 156

توفى إلى رحمة الله تعالى عام نيف وتسعين ومائتين وألف بالمحروسة، ودفن بالقرافة الكبرى فى بستان العلماء، وقد أعقب ابنين جليلين غير الإناث، لازما الأزهر مدة واقتبسا من معارف والدهما، فكانا على غاية من المعارف والأدبيات ومحاسن الشيم مع الكرم الزائد كوالدهما، وأحدهما وهو (على بيك فهمى)، أنعم عليه بالرتبة الثانية أعنى رتبة بيك، وكان قد تقلد وكالة نظارة المعارف العمومية المصرية، وقد أكمل ما تركه والده من التاريخ على أسلوبه، وله اقتدار على النثر والنظم البليغين، فينشئ على الإرتجال من غير تكلف على أسلوب والده، وتلوح عليه أمارات الترقى إلى رتبة والده، وأما ابنه الآخر وهو (بدوى بيك) فمقيم بطهطا فى ملاحظة دائرتهم التى هناك، مع إدامة مطالعة العلوم.

ومنها جملة من مستخدمى الميرى أرباب الرتب فى مصر وغيرها، مثل أحمد بك عبيد أحد قضاة مجلس الحقانية سابقا، وعبد الجليل بك أحد رجال المعية الخديوية سابقا، وجميعهم سبب نعمتهم السيد رفاعة بك، فإنه أدخلهم المكاتب أول إنشائها، ثم أدخلهم المدارس فتربوا بها، وسافر أحمد بك عبيد إلى بلاد أوروبا مرارا.

(ترجمة)[السيد أحمد الطهطاوى محشى الدر]

وممن نجب منها الإمام الهمام السيد الطهطاوى محشى الدر المختار، وقد ترجمه الجبرتى فقال: «هو الإمام العلامة والحبر الفهامة، السيد أحمد الطحطاوى ابن محمد بن إسمعيل، من ذرية السيد محمد الدوفاطى الطحطاوى الحنفى، والده رومى حضر إلى مصر متقلدا القضاء بطحطا، بلدة بالقرب من سيوط بالصعيد الأدنى، تزوج بامرأة شريفة فولد له منها المترجم، وأخوه السيد إسمعيل، ولم يزل مستوطنا بها إلى أن مات وترك المترجم وأخاه وأختا لهما، حضر المترجم إلى مصر فى سنة إحدى وثمانين ومائة وألف بعد

ص: 157

أن حفظ القرآن ببلده، وقرأ شيئا من النحو، فدخل الأزهر ولازم الحضور على أشياخ الوقت، كالشيخ أحمد الحماقى، والمقدسى، والحريرى، والشيخ مصطفى الطائى، والشيخ عبد الرحمن العريشى، وتوجه مع الشيخ عبد الرحمن لدار السلطنة لبعض المقتضيات عن أمر على بك فى سنة ثلاث وثمانين ومائة وألف، وتلقى الحديث سماعا وإجازة عن كل من الشيخ حسن الجداوى، والشيخ محمد الأمير، والشيخ العدوى، وتصدر للتدريس والإفادة، وكان مسكنه بناحية الصليبة، وجلس للإقراء بالمدرسة الشيخونية، واحتف به سكان تلك الناحية من الأكابر والأعيان، ولازم الحالة المحمودة من الإفادة، مع شرف النفس والتباعد عما يخل بالمروءة، فنودى لوقف الشيخونية وإيرادها واستخلاص أماكنها، وشرع فى تعميرها، وساعده على ذلك كل من كان يحب الإصلاح، فجدد عمارة المسجد وأنشأ بالمدرسة صهريجا، وفى أثناء ذلك انتقل بأهله إلى دار مليحه بجوار المسجد بالدرب المعروف بدرب الميضأة، وقفها بانيها على المسجد.

ولما عمّر محمد أفندى الودنلى الجامع المجاور لمنزله، تجاه القنطرة المعروفة بقنطرة عمارشه والمكتب، قرر المترجم فى درس الحديث بالجامع المذكور كل يوم بعد العصر، وقرر له عشرة من الطلبة، ورتب له وللطلبة معلوما وافرا يقبض من الديوان.

ولما مات الشيخ إبراهيم الحريرى، تعين المترجم لمشيخة الحنفية، فتقلدها على امتناع منه، فاستمر بها إلى أن أخرج السيد عمر مكرم من مصر منفيا، لما كتب المشايخ فى شأنه عرضحالا إلى الدولة، نسبوا إليه فيه أشياء، منها أنه أخذ من الألفى فى السابق مبلغا من المال ليملكه مصر فى أيام فتنة أحمد باشا خرشد [خورشيد]، ومنها أنه كاتب الأمراء المصرية فى وقت الفتنة بينهم وبين العزيز محمد على باشا، حين كانوا بالقرب من مصر ليحضروا على حين غفلة فى يوم قطع الخليج، وحصل لهم ما حصل ونصر الله

ص: 158

عليهم سعادة الباشا، ومنها أنه أراد إيقاع الفتن لينقض دولة الباشا ويولى خلافه ويجمع عليه طوائف المغاربة والصعائدة وأخلاط العوام وغير ذلك، وكتبوا عليه أسماء كثيرة من المشايخ، فامتنع البعض وحصل بينهم منافسات ومخالفات، وكان المترجم من الممتنعين، فزادوا فى التحامل عليه خصوصا الشيخ السادات، والشيخ الأمير وخلافهما/.

واتفق أنه دعى إلى وليمة عند الشيخ الشنوانى بحارة حوش قدم، وتأخر حضوره عن المشايخ، فصادفهم حال دخوله خارجين فسلم عليهم ولم يصافحهم لما سبق منهم فى حقه من الإيذاء، فتطاول عليه ابن الشيخ الأمير، ورفع صوته بتوبيخه وشتمه لكونه لم يقبّل يد والده، ثم اتفق بعد ذلك الأشياخ والمتصدرون على عزله من إفتاء الحنفية، وأحضروا الشيخ حسين المنصورى، وركبوا صحبته بعد أن مهدوا القضية، فألبس القائم مقام الشيخ حسينا فروة ثم نزلوا وطافوا للسلام عليه وخلعوا عليه الخلع، فلما بلغ المترجم ذلك، طوى الخلع التى كانوا ألبسوها له عند تقليده بالإفتاء بعد موت الشيخ إبراهيم الحريرى وأرسلها لهم، وكان الشيخ السادات ألبسه حين ذاك فروة، فلما ردها عليه احتّد واغتاظ، وأخذ يسبه ويذكر لجلسائه جرمه، ويقول: انظروا إلى هذا الخبيث، كأنه جعلنى مثل الكلب الذى يعود فى قيئه، واعتكف المترجم فى داره لا يخرج منها إلاّ إلى الشيخونية بجواره، واعتزلهم وترك الخلطة بهم، وتباعد عنهم وهم يبالغون فى ذمه والحط عليه، لكونه لم يوافقهم، ثم لما مات الشيخ حسين المنصورى أعيد إلى مشيخة الحنفية، وذلك غرة شهر صفر سنة ثلاثين ومائتين وألف ولبس الخلع من الشيخ الشنوانى شيخ الأزهر، ولم يختلف عليه اثنان، ومات ليلة الجمعة بعد الغروب، خامس عشر رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف، وله من المآثر «حاشية على الدر المختار [فى] شرح تنوير الأبصار» فى أربع مجلدات جمع فيها المواد التى على الكتاب، وضم إليها زيادات و «حاشية على شرح مراقى الفلاح» فى مجلدين، انتهى.

وأقاربه الآن بطهطا مشهورون، ومنهم علماء.

ص: 159

(ترجمة)[محمد أفندى الودنلى]

وفى الجبرتى أيضا أن محمد أفندى الودنلى المار الذكر هو الأجل المكرم المهذب فى نفسه، النادرة فى أبناء جنسه، محمد أفندى الودنلى الذى عرف بناظر المهمات، ويعرف أيضا (بطبل) أى: الأعرج لانه كان به عرج، قدم إلى مصر فى أيام قدوم الوزير يوسف باشا، وولاه محمد باشا خسرو كشوفية أسيوط، وفى ولاية العزيز محمد على باشا، جعل ناظرا على مهمات الدولة، وسكن بيت سليمان أفندى ميسو، بعطفة أبى كلبة بناحية الدرب الأحمر، فتقيد بعمل الخيام والسروج، والبيارق ولوازم الحرب، فضاقت عليه الدار، فاشترى بيت ابن الدالى باللبودية، وهى دار واسعة متخربة هى وما حولها من الدور والرباع والحوانيت، فعمرها وسكن بها ورتب بها ورشات للأشغال والصنائع، والمهمات المتعلقة بالدولة كسبك المدافع، والجلل والقنابر والمكاحل والعربات، وغير ذلك من الخيام والسروج، ومصاريف طوائف العسكر الطوبجية والرماة، وعمّر ما حول تلك الدار من الرباع والحوانيت، والمسجد الذى بجواره ومكتبا لإقراء الأطفال، ورتب فى المسجد تدريسا قرر فيه الشيخ أحمد الطهطاوى المذكور ومعه عشرة من الطلبة، ورتب لهم ألف عثمانى تصرف لهم من الرزنامة، خلاف ما للأطفال من الكسوة وغيرها.

وفى عيد الأضحى يشترى جواميس وكباشا، يذبح منها ويفرق على الفقراء والموظفين، ويرسل إلى أصحابه كباشا يذبحونها فى بيوتهم، على قدر مقاديرهم من كبش أو كبشين، ويرسل كل ليلة من رمضان، عدة قصع مملوأة بالثريد واللحم إلى فقراء الأزهر، واتفق أن الباشا قصد تعمير المجراة والسواقى التى كانت تنقل الماء من النيل إلى القلعة، وكانت قد تهدمت وبطل عملها

ص: 160

سنين، فهول عليه المعمارجية أمرها، وقالوا: إنها تحتاج إلى خمسمائة كيس فى عمارتها، فعرض ذلك على المترجم، فقال: أنا أعمرها بمائة كيس بل بثمانين، وشرع فى عمارتها فأتمها على ما هى عليه الآن، وعمّر أيضا عدة سواق، وأجرى فيها الماء إلى القلعة ونواحيها، فرخص الماء وكثر فى تلك الأخطاط، وكانوا قد قاسوا شدة من عدم الماء عدة سنين، ومن مآثره الحميدة، أنه سعى عند الباشا بإبطال ما كان يفعله القلفات المتقيدون بالمراكز وأبواب المدينة، من المظالم والسلب، فإنهم كانوا يأخذون من الواردين والخارجين والمسافرين من الفلاحين، على جميع ما معهم ولو حطبا أو برسيما أو تبنا أو سرجينا دراهم وفلوسا، حتى ما تبيعه المرأة الفقيرة على رأسها فى المقاطف من رجيع البهائم، فيحجزونها ولا يدعونها تمر فى الشوارع حتى تدفع نصف فضة، وإذا اشترى شخص من بولاق أو مصر القديمة اردب غلة أو حملة حطب، أخذ منه المتقيدون عند قنطرة الليمون، فإذا خلص منهم استقبله القاعدون بالباب الحديد، وهكذا سائر الطرق التى يمر بها الداخلون والخارجون، كباب النصر وباب الفتوح، وباب الشعرية وباب العدوى، والأزبكية وباب القرافة، والبرقية وطرق مصر القديمة، وكان لهؤلاء المقيدين علائف يقبضونها من الباشا، ويأخذون تلك الأشياء زيادة عليها، ويقتسمونها بينهم، وكانوا يجمعون من ذلك مبلغا من الفضة العددية، خلاف ما يأخذونه من الأشياء المحمولة، كالجبن والزبد والخيار والقثاء، والبطيخ والفاكهة والبرسيم، والحطب والخضروات وغير ذلك، فأبطل جميع ذلك، وكتب/ الباشا بيورلديا بمنع المذكورين من التعرض لأخذ جليل أو حقير.

ومن محاسنه أيضا أنّه تسبب فى منع ما كان يفعله الجاوشية والقوّاصة الأتراك المختصون بخدمة الباشا والكتخدا، من سلب الأموال من الأعيان وأرباب المظاهر، وذلك أنهم كانوا كل يوم جمعة يلبسون أحسن ملابسهم،

ص: 161

وينتشرون بالمدينة فيطوفون على بيوت الأعيان وأرباب المناصب والمظاهر، ويأخذون منهم البقاشيش يسمونها الجمعية، فما يجلس أحد ممن ذكر فى مجلسة، إلا واثنان أو ثلاثة منهم قبالة وجهه وبأيدهم العصى المفضضة، فيعطيهم القرشين أو الثلاثة أو الأكثر، فإذا ذهبوا جاءه خلافهم، وهكذا ولا يرون فى ذلك ثقلا ولا رذالة، بل يرونه من الواجبات اللازمة فلا يكفى أحد المقصودين خمسون قرشا أو أكثر يصرفها عليهم فى ذلك اليوم، وإذا تغيب واحد منهم وصادفوه مرة أخرى، طالبوه بما فاتهم.

فسعى المترجم عند الباشا بإبطال تلك العادة القبيحة، ومع ذلك فقد كان هو أول من فتح باب الزيادة فى محصل الضربخانة، حتى تنبه الباشا من وقتئذ لأهل الضربخانة وأوقع بهم ما أوقعه، وهو أيضا الذى أحدث المكس على اللبان والحناء والصمغ، فهو كما قيل:

ومن ذا الذى ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلا أن تعد معايبه

فقد صدق عليه ما قاله (الليث بن سعد) لما سأله الرشيد وقال له: يا أبا الحرث ما صلاح بلدكم؟ فقال له: أما صلاح أمر زراعتها وجدبها وخصبها فبالنيل، وأما صلاح أحكامها فمن رأس العين يأتى الكدر، فقال له: صدقت، ذكر ذلك (الحافظ بن حجر) فى «الرحمة الغيثية فى الترجمة الليثية» ، وبالجملة فكان المترجم إلى الخير أقرب منه إلى الشر، مواظبا على الصلوات فى أوقاتها، ومطالعة الكتب والممارسة فى الفنون الدقيقة، واقتنى كتبا كثيرة فى الفنون، واستنباط الصنائع، حتى أنه صنع الجوخ الملون الذى يعمل ببلاد الإفرنج ويلبسه الناس للتجمل، وكان قد قل وجوده بمصر، فعمل عدة أنوال ومناسج غريبة الوضع، وأحضر نساجين فنسجوا الصوف بعد غزله فى مدأت حددها لهم طولا وعرضا، ثم يستلمه رجال أعدهم لتخميره وتلبيده بالقلى

ص: 162

والصابون، منشورا ومطويا بكيفيات فى أوقات وأيام بمباشرته لهم فى العمل، ثم يضعونه مطويا فى أحواض من خشب ثخين مزفت، تمتلئ من ساقية جعلها لخصوص ذلك، وعلى تلك الأحواض مدقات كمدقات الأرز تتحرك فى صعودها وهبوطها من ترس خاص يدور بدوران الساقية، وما يفيض من ماء الأحواض يجرى إلى بستان زرعه حول ذلك، فلا يذهب الماء هدرا، ثم يخرخونه بعد ذلك ويبردحونه ويصبغونه بأنواع الصباغات، ويضعونه فى مكبس كبير يقال له التخت صنعه لذلك، وعند ذلك يتم عمله، فكان الناس يتفرجون على ذلك لغرابته عندهم، ثم حضر إليه شخص فرنساوى، وأشار عليه بإشارات فى تغيير المدقات وبعض المهمات، فتكاسل عن إعادتها ثانيا وبطل ذلك، وكان مع كثرة أشغاله واتساع دائرته، يكتب ويحسب لنفسه وبين يديه عدة دفاتر لكل شئ، ولا يشغله بعض الأشياء عن بعض.

ولما اتسعت دائرته وكثرت حاشيته، واجتمعت فيه عدة مناصب مضافة لنظر المهمات، مثل معمل البارود وقاعة الفضة ومدابغ الجلود، حقد عليه كتخدا بك فى الباطن، وجرت بينهما أمور حتى قيل أن نفسه طمحت فى الكتخدائية، فكان يتصدر فى الأمور والقضايا، ويرافع ويدافع ويهزل مع الباشا ويضاحكه، ويدخل عليه من غير استئذان، فلم يزل الكتخدا يلقى فيه الدسائس ويعمل معدل الأشغال التى تحت يده، ويعرف الباشا بما يتوفر من ذلك، حتى نزعه من نظارة جميع المهمات، وقلدها صالحا كتخدا الرزاز، وحضر الكتخدا لزيارة المشهد الحسينى فى عصر يوم من رمضان، ورجع إلى داره قبل الغروب، فصادف فى طريقه عدة قصاع كبار مغطاة تحملها الرجال، فسأل عنها فقيل له: إن الودنلى يرسلها كل ليلة من رمضان إلى فقراء الأزهر وبها الثريد واللحم، فحقد عليه ووسوس للباشا أنه يؤلف الناس، ويتودد إليهم بأموالك، ولزم المترجم بيته بطالا نحو السنتين، ولم يتضعضع أمره ومطبخه

ص: 163

على حاله، وراتبه جار وطعامه مبذول، وفى تلك المدة اشتغل بمطالعة الكتب وعانى الحسابيات وصناعة التقويم، حتى مهر فى ذلك وعمل الدستور السنوى، وما يشتمل عليه من تقويم الكواكب السيارة، وتداخل التواريخ والأهلة والاجتماعات والاستقبالات، وطوالع التحاويل والمنصات، ويصنع بيده أيضا الصنائع الفائقة، مثل الظروف التى يضع فيها الكتبة محابرهم وأقلامهم، فيصنعها أولا من الخشب الرقيق والقرطاس المقوم المتلاصق، ويصبغها وينقشها بأنواع الليق، ويعيد على النقوشات بالسندروس المحلول، ويضعها فى صندوق من الزجاج صنعه لخصوص تلك الأشياء، ويجفف دهانها بحرارة الشمس المحجوبة بالزجاج من الهواء والغبار، فعند تمامها تكون فى غاية من الحسن والبهجة، لا يشك/من يراها أنها من صناعة الهند أو الفرنج المتقنين، وكان كلما سمع بصاحب معرفة فى فن، اجتهد فى الاجتماع به والأخذ عنه، ولو ببذل الرغائب، وبمنزله أماكن معدة لأرباب المعارف، ينزلهم فيها ويجرى عليهم النفقات والكساوى، حتى يجتنى ثمار معارفهم، وكل ليلة يجتمع عنده الفقراء، فيذكر الله معهم حصة من الليل، ثم يفرق فيهم الدراهم.

ولما طال به الإهمال والباشا كثير الغياب ولا يقيم بمصر إلا القليل، خطر بباله أن يذهب إلى بلاده، فاستأذن الباشا عند وداعه وهو متوجه إلى ناحية قبلى، فأذن له وأخذ فى أسباب السفر، فأرسل الكتخدا إلى الباشا ودس إليه كلاما، فأرسل بمنعه من السفر، وكان زوج بنته حلف بالطلاق الثلاث وحنث، ففرق بينهما وطرده، فشكاه إلى الكتخدا، فكلمه فى شأنه فلم يقبل وقال: لا أحلل المحرم لأجلك، واستمر صهره يتردد على الكتخدا ويلقى إليه فى حقه النميمة، ويقول له: إنه يجمع أناسا كل ليلة جمعة، يقرءون ويدعون

ص: 164

عليك وعلى الباشا، وأن قصده السفر إلى اسلامبول ليجتمع على مخدومه الأول قبطان باشا، ويذكر هناك فى حق الباشا أفاعيل، وذكر له أيضا أنه استخرج من أحكام النجوم التى يعانيها أن الباشا يحصل له نكبة بعد مدة قليلة، ويحصل ما يحصل من الفتن، وأنه يريد الخروج من مصر قبل وقوع ذلك.

فلما رجع الباشا من سفره، توسل المترجم بالكتخدا فى أن يستأذن له الباشا، وما زال يتردد فى طلب الإذن والكتخدا يلقى إلى الباشا فى حقه، حتى أوغر صدره منه، وأذن له وأضمر قتله بعد خروجه من مصر، فعند ذلك باع داره وما استجده حولها والبستان الذى بخارج قناطر السباع وما زاد عن حاجته، واشترى عبيدا وجوارى وقضى لوازمه وسافر إلى رشيد ليسافر من الإسكندرية إلى بلاده، فكتبوا خلفه بعد ثلاثة أيام إلى خليل بك حاكم الإسكندرية مرسوما بقتله فبلغه خبر ذلك وهو بثغر رشيد فلم يصدقه، وقال:

أى ذنب أستوجب به القتل، وما الذى منعه من قتلى وأنا عنده بمصر، وما سافرت إلا بإذنه، وودعته وقبلت يديه وهو مبشوش معى كعادته، فلما حضر بالإسكندرية ونزل السفينة، أرسل إليه خليل بك يدعوه فأجابه وخرج من السفينة، فاحتاطت به العساكر وتحقق ما كان بلغه برشيد، فقال: أمهلونى حتى أتوضأ وأصلى ركعتين، وألقى نفسه فى البحر من حلاوة الروح، فضربوا عليه بالرصاص وأخرجوه وتمموا قتله، وأخذوا ما بصناديقه من الكتب، وكان الباشا قد طلبها وأخذ خليل بك ما معه من المال والدراهم، وأعطى ولده جانبا، وأذن له بالسفر مع عياله، وكان قتله فى أواخر شهر صفر من سنة سبع وعشرين بعد المائتين والألف، انتهى.

ولمدينة طهطا غير السوق الدائم سوق حافل جدا كل يوم خميس، يباع فيه الحيوانات وغيرها، ويتفرع منها ثلاثة جسور.

ص: 165

أحدها من الجهة الشرقية يوصل إلى ساحلها، وهو مرسى عظيم يجتمع فيه مراكب بكثرة وعنده قرية عامرة تسمى ساحل طهطا، فيها شونة لغلال الميرى، وفيها أبنية متينة ومساجد وكنيسة يجتمع فيها نصارى البلاد المجاورة لها، وأهلها مسلمون ونصارى، وفيها بساتين نخيل وفواكه، ويتفرع من هذا الجسر جسر إلى جهة بحرى يوصل إلى ناحية السوالم بحرى الساحل، وهى قرية صغيرة فيها جنينة رفاعة بك، وجنات أخر وفيها نخيل بكثرة، وأكثر أهلها مسلمون، وبحرى هذه القرية قرية الشيخ زين الدين.

والجسر الثانى يمتد فى جهة الجنوب فيصل إلى بنى عمار ثم يميل إلى الغرب فيوصل إلى ناحية عنيس، ثم إلى السوهاجية ثم يعتدل إلى جهة الجنوب فيوصل إلى نزة الدقيشة، ثم جهينة حتى يصل إلى سوهاج.

والجسر الثالث يمتد فى جهة الشمال، فيوصل إلى ناحية بنجا، ثم يتفرع منه فرع إلى الشرق فيوصل إلى ترعة شطورة، وفرع إلى جهة الغرب يسمى عمودكوم بدر، يوصل إلى بنى حرب، وتقطعه السوهاجية ثم يمر فى بلاد الهلة غربى السوهاجية إلى الجبل.

ويحيط ببندر طهطا عدة قرى، كناحية القبيصات فى غربيها فوق شاطئ السوهاجية الشرقى، وناحية الطليحات فوق السوهاجية أيضا من غربيها وهى ثلاث قرى، وناحية الصوامعة فى شمال طهطا الشرقى غربى البحر الأعظم، وناحية بنجا والسوالم والشيخ زين الدين وغير ذلك، وأكثر تلك القرى بل جميعها يجلب إلى هذا البندر أنواع الخضر واللبن والوقود ونحو ذلك، على عادة البنادر والأرياف.

ومن بندر طهطا أيضا بسلوس بك وأخواه طوبية ودوس، الذين كانوا زمن العزيز من رجال المعية وترقوا إلى رتبة البيكوية، وقبل ذلك كان بسلوس بك رئيس الكتاب فى عموم القطر، وهو ابن المعلم غالى رئيس الكتاب والمباشرين

ص: 166

بالديار المصرية، الذى قتله المرحوم إبراهيم باشا فى ناحية منية القمح في مبدأ فتح المساحة سنة 1236.

وكان ابتداء توليته ذلك المنصب فى سابع عشر جمادى الأولى سنة مائتين وعشرين بعد الألف وكان قبله المعلم جرجس الجوهرى/القبطى كبير المباشرين بالديار المصرية، فقبض عليه الباشا وعلى جماعة من الأقباط، وسجنهم ببيت كتخدائه، وطلب حسابه من ابتداء سنة خمس عشرة، وكان المعلم غالى كاتب الألفى، فأحضره وألبسه المنصب، وفى ذاك الوقت خلع على السيد محمد المحروقى، خلع الاستمرار على ما كان عليه أبوه من أمانة الضربخانه وغيرها، وجرجس الجوهرى هو أخو المعلم إبراهيم الجوهرى، تعين مكان أخيه بعد موته فى زمن رياسة الأمراء المصريين رئيسا على المباشرين والكتبة، وبيده حل الأمور وربطها فى جميع الأقاليم المصرية، نافذ الكلمة وافر الحرمة، وتقدم فى أيام الفرنسيس فكان رئيس الرؤساء، وكذلك عند مجئ الوزير والعثمانيين، فقدموه بسبب ما يسديه إليهم من الهدايا والرغائب، حتى كانوا يسمونه جرجس أفندى، ويجلس بجانب العزيز محمد على باشا، وبجانب شريف أفندى الدفتردار، ويشرب بحضرتهم الدخان، ويراعون جانبه ويشاورونه فى الأمور.

وكان عظيم النفس ويعطى العطايا، ويفرّق على جميع الأعيان عند قدوم شهر رمضان الشموع العسلية والسكر والأرز والكساوى والبن، ويعطى ويهب وبنى عدة بيوت بحارة الونديك والأزبكية، وأنشأ دارا كبيرة وهى التى كان يسكنها الدفتردار، ويعمل فيها الباشا وابنه الدواوين عند قنطرة الدكة، وكان يقف على أبوابه الحجاب والخدم، ولم يزل على ذلك حتى ظهر المعلم غالى وتداخل فى الأمور، فكان إذا طلب الباشا طلبا واسعا من المعلم جرجس، يقول له: هذا لا يتيسر تحصيله، فيأتى المعلم غالى فيسهل الأمور ويفتح

ص: 167

أبواب التحصيل، فضاق خناق المعلم جرجس وخاف على نفسه، فهرب إلى قبلى، ثم حضر بأمان وانحط قدره ولازمته الأمراض حتى مات.

(طهنة)

بليدة صغيرة من قسم منية ابن خصيب، واقعة فى شرقى النيل بنحو ربع ساعة، وفى الشمال الشرقى لمنية ابن خصيب بنحو أحد عشر ألف متر، وكانت تسمى قديما اكوريس، كما فى بعض كتب الأقباط، وكانت بين الجبل وأراضى المزارع، ولم يكن بها زمن الفرنسوية سوى بعض تيجان أعمدة وحجارة ضخمة، وباقى أبنيتها مدفون تحت التراب، وكلما حفر فيها ظهرت أبنية، وربما ظهر من الحفر بيوت كاملة، ويوجد بالجبل مغارات كثيرة، بها آثار تدل على بلد قديم كان فى هذا الموضع، والغالب أنها هى التى كانت تسمى اكوريس، وبعض هذه المغارات عليه نقوش، وكثرة الدخان الحاصلة من إيقاد النار داخل المغارات سوّدت وجوهها، وضيعت كثيرا من نقوشها.

وهناك مغارات أخر مجردة عن النقوش، يظهر أنها كانت محاجر، ونقل (لطرون) عن العالم (لوت) الفرنساوى الذى ساح فى مصر فى زمن العزيز محمد على، واطلع على النقوش التى فى المغارات، أن لفظ اكوريس فى الأصل اسم لأحد المقدسين عند المصريين، وكان هو المقدس فى هذه المدينة، ووجده ويلكنسون مكتوبا على أحد شقى صورة ضفدعة، وفى شقها الآخر رسم صورة مقدسين جالسين، رأس أحدهما رأس ضفدعة، ورأس الآخر رأس باشق، ويعلوهما صقر ناشر جناحيه، ومن ذلك استنبط (لطرون) أن اكوريس كانوا يجعلونه ثالث ثلاثة اجتمعت فى أقنوم واحد، ويقدسونه فى ثلاث صور، واستنبط أيضا أن هذا الإسم، كان لقبا لأحد ملوك العائلة التاسعة والعشرين، وعلى ما ذكره (مانيتون) و (الإفريقى) و (أزيب) و (شنسيل)، أن هذا الملك هو الذى اتحد مع ايواجوراس على العجم، انتهى.

ص: 168

وايواجوراس هذا كما فى قاموس الجغرافية، هو أحد ملوك جزيرة رودس، كان قبل المسيح بأربعمائة وعشر سنين، وحارب العجم ومات سنة ثلثمائة وأربع وسبعين، وأما شنسيل واسمه جرجس، فهو مؤرخ يونانى كان ملازما لبطرك استانبول، وكتب تاريخه فى سنة سبعمائة وثمانين مسيحية، ومات سنة ثمانمائة، والإفرنج ينقلون عنه كثيرا.

وهذه القرية الآن من قسم المنيا، وسكانها من عرب العطيات، ويزرع فى أرضها قصب السكر كثيرا، ولها جزيرة يزرع فيها البصل والدخان والأصناف المعتادة، وفى بحريها على أقل من نصف ساعة قرية صغيرة، يقال لها:(وادى الطير) فى فجوة من الجبل، وكان فى السابق يقال: طهنة ووادى الطير، وربما أفاد هذا أنهما كانتا فى الأصل بلدة واحدة ثم افترقتا بأسباب حدثت، وزمامهما إلى الآن واحد، والجبل الذى فوقهما يقال له: جبل الطير لكثرة الحمام الأسود البرى الذى يجتمع فيه، وهو اسم لجزء من جبل المقطم يمتد مشرقا من قرية وادى الطير إلى دير البكرة، ويمتد فى الشمال والجنوب نحو ساعة من ناحية السريرية إلى وادى الطير، وفى الجبل طرق توصل إلى ناحية طهنة وسوادة والمطاهرة وغيرها، ويقال: إن هناك طريقا توصل إلى البحر الأحمر، وفى الجبل أيضا ورش لاستخراج الحجر والدبش، قريبة من ناحية السريرية، وتجاه وادى الطير جداران عظيمان من الآجر من بقايا مبانى المصريين، وتسميهما الأهالى حائط العجوز، وهذا الاسم يطلق عندهم على جميع المبانى التى من هذا النوع، ويظهر أن/المصريين كانوا يسدون أفواه الوديان بجدران من هذا القبيل، لمنع مياه الأمطار عن أرض المزارع، وعن المساكن ولمنع سيلان الرمال فى زمن الصيف على أرض المزارع، وربما جعلوها وقاية لبعض المبانى المقدسة وما أشبهها، وتوجد كثيرا فى مواضع من جهات الصعيد، فوق الوديان من الجبل الشرقى والغربى، وعرضها فى الغالب

ص: 169

متران وشئ وارتفاعها يختلف بحسب ما يراد منها، ودير البكرة المذكور من الديورة المنيعة، وأبنيته بالطوب الأحمر ويسكنه عدد وافر من النصارى الذكور والإناث، وجميعهم يتعيشون من الصدقة، وعادة ذكرانهم أنهم متى وجدوا فى البحر سفينة ولو بخارية، سبحوا إليها بطلب الصدقة من أهلها، ولهم فى ذلك مهارة تامة، وسمى دير البكرة لبكرة موضوعه فى أعلاه، يتناول بها الرهبان المياه والأشياء التى يجلبونها من البلاد المجاورة.

(طهويه)

يوجد من هذا الاسم قريتان فى بلاد مصر: إحداهما من مديرية المنوفية بمركز أشمون جريس، فى شرقى فرع رشيد بنحو خمسمائة متر، وفى غربى ناحية شما بنحو ثلاثة آلاف وخمسمائة متر، وفى شمال دلهمو بنحو ثلاثة آلاف متر، وبها أربعة مساجد تقام الجمعة فى اثنين منها، وبها دكاكين يباع فيها العقاقير وثياب القطن، وبها سواق تنوف على الستين ساقية، وبها كثير من أبراج الحمام، ومعمل فراريج وأضرحة لبعض الصالحين عليها قباب، وبعضها بأرض المزارع، وفيها نخيل بكثرة ويزرع فى أرضها القلقاس والسمسم وقصب السكر والقطن وأنواع الحبوب، وأكثر أهلها مسلمون.

والثانية قرية من بلاد الشرقية بمركز مينا القمح، واقعة غربى كفر الشرفاء على نحو ألفين وخمسمائة متر، وفى شمال جزيرة بلىّ، وأبنيتها باللبن وبها مسجد بدون منارة، ومكاتب أهلية، ومجلسان أحدهما للدعاوى والآخر للمشيخة، وفيها مقام سيدى أبى الوفاء، وتكسبهم من الزرع.

(الطوابية)

يوجد من هذا الاسم قريتان بصعيد مصر:

ص: 170

إحداهما فى الصعيد الأعلى من أعمال قنا، واقعة على الجانب الشرقى للنيل فى شمال مدينة قنا بنحو ساعتين، وبها مسجد ونخيل وأشجار، منها شجرة سدر تعتقد العامة أنها مسكونة بولىّ، ويزورونها وينذرون لها النذور، ويحلفون بها الأيمان الوثيقة، وإذا مرض أحدهم يذهب إليها ويدق فيها مسمارا ليشفى من مرضه، ومنهم من يسميها نبقة الله، ويزعمون أن من حلف بها كاذبا يصاب بمكروه.

والثانية الطوابية بمديرية أسيوط من قسم شرق أسيوط، واقعة فى شرقى النيل بحرى ناحية بنى زيد بنحو ألف وخمسين مترا، وغربى ناحية أبنوب بنحو خمسة آلاف متر، وبها زاوية للصلاة وبدائرها نخيل.

(طوبه)

اسم لمدينة قديمة ظن بعضهم أنها من بلاد الصعيد، وأنها هى مدينة انصنا، وحقق (كترمير) غير ذلك، وجعلها من الوجه البحرى، وأنها كانت على النيل، لأن فى بعض الكتب القديمة أن حاكمها ركب النهر مع الشهيد (اسحق) حتى أوصله إلى مدينة ابشانى، وفى الترجمة العربية ترجمت مدينة طوبه: بمدينة طوه، وقال بطليموس: إنها كانت بين فرعى فرموطياق واترييس، فى طول إحدى وستين درجة واربعين دقيقة، وعرض ثلاثين درجة وخمس وعشرين دقيقة، وكانت قاعدة خط فطيمبوطى، وفى خطط (انطونان) أن طوه بين مدينتى سينو واندرو، وبعدها من الأولى ثلاثون ميلا، ومن الثانية اثنا عشر ميلا.

وكانت محل إقامة الحاكم، وكان فى غربيها تياترو.

(طوبصطوم)

بلد قديمة اندرست، كانت من البلاد الواقعة فى صحراء السويس فى

ص: 171

شمال مدينة السيرابيوم على ثمانية كيلومتر، ويوافق محلها الآن المحل المعروف بجبل القهر، أو جبل مريم.

وكانت فى حدود أرض الزراعة، وكان بها قلعة، ومنها إلى بابلون ثلاثة أيام، على الطريق التى بين السيرابيوم ومدينة الطينة، وبها كان ينفى الأمراء المغضوب عليهم فى الأزمان القديمة، وربما سمى جبل القهر من ذلك.

[طوخ]

فى القاموس: هو بالضم أربعة عشر موضعا بمصر، انتهى، والذى عثرنا عليه منها إثنا عشر وهى هذه:

(طوخ الأقلام)

قرية من مديرية الدقهلية بمركز السنبلاوين، واقعة فى جنوب السنبلاوين بنحو ألفين واربعمائة متر، وفى الشمال الشرقى لطنبول الكبرى بنحو ثلاثة آلاف متر.

(طوخ البراغة)

قرية من مديرية المنوفية بمركز منوف، فى الشمال الغربى لناحية شيبين الكوم، وفى الجانب الغربى لبحر سيف، على مسافة خمسمائة متر تقريبا، وفيها جامع بلا منارة، وعندها طريق يوصل إلى ناحية شيبين الكوم، وتكسب أهلها من الزرع وغيره، وممن نال الرتب الشريفة من أهل هذه البلدة فى ظل العائلة المحمدية، حضرة أحمد أفندى علام، دخل الجهادية البيادة من بلده مدة المرحوم عباس باشا وترقى إلى رتبة الملازم، وفى زمن المرحوم سعيد باشا ترقى إلى رتبة البيكباشى.

ص: 172

(طوخ البلاص)

قرية من مديرية قنا بقسم قفط، على الشط الغربى للنيل فى جنوب البلاص بنحو خمسة آلاف متر، وفى شمال نقادة بنحو أربعة آلاف متر، وبها جامع بمنارة/وأبراج حمام، وبدائرها نخيل وأشجار.

وفى بعض التواريخ أن الأمير (طرنطاى) توجه إلى الجهات القبلية فى شهر الله المحرم سنة تسع وثمانين وستمائة، ومعه جملة من العساكر بسبب قيام عرب الصعيد، ولما وصل إلى طوخ، وهى قرية من عمل قوص، قتل من بها منهم البعض بالسيف والبعض أحرقه بالنار، ووضع يده على خيلهم وسلاحهم، ثم عاد إلى مصر برهائن من العرب، ومائة ألف رأس من البهائم، ومائتى حصان وألف جمل، وأسلحة لا تعد من أنواع مختلفة، انتهى.

(طوخ الخيل)

قرية من قسم منية ابن خصيب غربى البحر اليوسفى، على بعد مائة وخمسة وعشرين مترا، وفى غربى ناحية بهدال بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى جنوب ناحية إدفو بنحو خمسة آلاف متر، وبها جامع وأبراج حمام، وبدائرها نخيل.

(طوخ دلكه)

قرية من مديرية المنوفية بمركز تلا، على الجانب الغربى لبحر سيف بمسافة ثلثمائة متر، وفي الجنوب الغربى لناحية تلا، وأغلب أبنيتها بالآجر والمونة، وبها جامعان لكل منهما منارة، أحدهما جامع سيدى خالد وله ضريح فى داخله، غير ثلاث زوايا للصلاة، وفى شمالها الغربى كنيسة شهيرة بناؤها بالآجر والمونة، وبها معملان للدجاج، ومضيفتان: إحداهما لعبد الله أفندى هلال من أهاليها وقد ترقى إلى وظيفة ناظر قسم، والثانية لحسين أفندى غراب

ص: 173

وبها أربع جنات، واحدة للأمير قاسم باشا، وواحدة لمحمد أفندى بلال، وأخرى لرضوان أفندى بلال، والرابعة لبعض عمدها، وحولها جملة أشجار متنوعة، وعدد أهلها خمسة آلاف نفس، ربعهم نصارى، ورىّ أرضها من ترعة الباجورية، وبحر سيف الصيفى، ولها طريق يوصل إلى ناحية شيبين الكوم.

(طوخ سنجرج)

قرية من مديرية سيوط بقسم ملوى فى الجنوب الشرقى لناحية سنجرج على بعد ثلاثة آلاف متر، وشرقى ناحية تنده بنحو ثلاثة آلاف وثمانمائة متر، وبها جامع بمنارة وأبراج حمام.

(طوخ طنبشا)

قرية بمديرية الغربية، من مركز الجعفرية غربى السكة الحديد الطوالى بنحو أربعمائة متر، وفى جنوب ناحية بركة السبع بنحو أربعة آلاف متر، وفى شرقى طنبشا بنحو ثلاثة آلاف متر، وبها جامع بمئذنة، وكنيسة قديمة للأقباط قد رممت فى عهد قريب.

(طوخ العسيرات)

قرية بمديرية جرجا بقسم المنشأة موضوعة على البحر الأعظم من جهة الغرب، وفى الشمال الشرقى لأولاد حمزة بنحو ألفين وخمسمائة متر، وفى جنوب المنشأة الكبرى بنحو ثلاثة آلاف ومائتى متر، وبها زاوية للصلاة، وبعض نخيل، وهى من ضمن قرى العسيرات.

(طوخ القراموص ويقال لها: طوخ الحرامية)

قرية من مديرية الشرقية بمركز هيهيا، موضوعة شرقى بحر مويس بنحو نصف ساعة، وقبلى ناحية هيهيا بنحو نصف ساعة أيضا، وجميع أبنيتها باللبن، وبها أربعة جوامع بغير منارات، وبدائرها نخيل بكثرة، وتكسب أهلها

ص: 174

من الفلاحة وغيرها، منها العالم الفاضل والورع الكامل الشيخ على الألفى، أخذ عن الشيخ الدمهوجى، والعلامة البيجورى، والمحدث الشيخ مصطفى المبلط حتى أجازوه وأخذ طريق الخلوتية عن الشيخ الدمهوجى، ثم بعد ذلك أقام ببلده يقيم شعائر العلم بالإفادة مراعيا نظام معاشه ومعاده، وأنجب أولاده الفاضل الشيخ محمد الألفى أحد المصححين بالمطبعة الميرية ببولاق، وأخبر عن والده أنه ولد سنة سبع وعشرين بعد المائتين والألف.

(طوخ مدين)

قرية من مديرية الغربية بمركز محلة منوف، فى غربى محلة روح بنحو نصف ساعة، وقبلى سكة الحديد الموصلة إلى ثغر دمياط بنحو عشر دقائق، وبها زاوية للصلاة، وتكسب أهلها من الزرع وغيره.

(طوخ مزيد)

قرية بمديرية الغربية بمركز طنتدا فى الجنوب الشرقى لمنية يزيد بنحو ثلاثة آلاف متر، وفى غربى البندرة كذلك، وأغلب مبانيها بالآجر والمونة، وبها جامع يقال له: جامع سيدى فخر الدين صاحب الإبريق، وضريحه بداخله، وله مولد سنوى بعد المولد الكبير لسيدى أحمد البدوى، وهى شفلك للخديوى إسمعيل باشا، وبها دوار للأوسية وجنينة ووابور مياه.

ص: 175

(ترجمة)[الشيخ محمد بن عمر الكنانى الطوخى]

وفى الضوء اللامع للسخاوى: أن الشيخ محمد بن عمر الكنانى الطوخى ولد بطوخ من الغربية انتهى. ولم أدر أى طوخات الغربية أراد، وقد ترجمه فقال: إنه تحول بعد حفظه القرآن إلى القاهرة، عند ناظر السابقية مولى واقفها، فحفظ التنبيه، وجود القرآن، وسمع على ابن المعين قيم الكاملية وابن الملقن وغيرهما، وحج ودخل الإسكندرية، واجتمع فيها بالشهاب الفرنوى وسمع عليه، وتكسب بالشهادة بحانوت الحنابلة امام البشيرية، ثم كف بصره وحدّث باليسير، وكان خيّرا كيّسا ذا فضيلة ونظم حسن فمن نظمه يرثى أخاه:

مذ غاب شخصك عنا يا أبا الحسن

غاب السرور ولم ننظر إلى حسن

وأقفرت بعدك الأوطان واندرست

وحال حالى مذ أدرجت فى الكفن

ومنه:

رب خود جاءت لنا بمساء

فى خفاء تمشى على استحياء/

فتوهمت أن ليلى نهار

عندما أسفرت لدى الظلماء

مات فى أواخر رمضان سنة تسع وأربعين وثمانمائة، وعمره نحو أربع وثمانين سنة، انتهى.

(طوخ الملق)

قرية بمديرية القليوبية من مركز بنها، واقعة شرقى جسر السكة الحديد الطوالى المتجهة إلى الإسكندرية، بناؤها بالآجر واللبن، وبها زاويتان للصلاة، ووابور لطحن الحبوب فى الشمال الغربى للسكة الحديد، وآخران لحلج القطن والطحن معا وهما قبلى المساكن، فى مقابلة محطة السكة الحديد، ولها سوق كل يوم خميس، وفى جهتها القبلية جنينة صغيرة.

ص: 176

(ترجمة)[العلامة الشهير: الشيخ محمد الطوخى]

ومن علمائها الأفاضل العلامة الزاهد، والولى المتواجد الشيخ محمد الطوخى، أخذ عن الشيخ الدمهوجى والشيخ جاد المولى وغيرهما حتى درس وأفاد، ثم أخذ طريق الخلوتية، عن العارف بالله السيد مصطفى المنسى السعدونى الشهير أمره فى بلده مدينة بلبيس المدفون فى جامعها الكبير، وهو من أكبر السالكين على يد العارف بالله تعالى الشيخ عبد الله الشرقاوى شيخ الجامع الأزهر، فتجرد المترجم رحمه الله وعكف على العبادة ملازما للخشونة، حتى لقى الله تعالى ودفن بقبة عمه الشيخ سيد أحمد الطوخى خارج البلد، ويعمل له مولد سنوى حافل، وكان السبب فيه الفاضل المرحوم الشيخ زين المرصفى أحد العلماء بالأزهر، وخوجة حسين باشا كامل أحد أنجال الخديوى إسمعيل باشا.

(الطويلة)

من هذا الاسم قريتان ببلاد مصر: إحداهما الطويلة قرية صغيرة من مديرية الشرقية بمركز العرين، فى غربيها من جهة العرين إلى الشمال، وفى شمال جسر السلاطين بقدر خمسمائة متر، ويبتدئ ذلك الجسر من الرمال المرتفعة فى شرقى العرين على بعد ستمائة متر، وينتهى إلى جسر أم الشيلابى بعد أن يمر فى شمال ناحيتى العرين والأسدية وقبلى الطويلة، وطوله نحو خمسة آلاف متر، وعرضه من الأعلى سبعة أمتار، وارتفاعه ثلاثة، وهو مجعول لحجز المياه الواردة من مصرف بلبيس على الأراضى القبلية مدة الفيضان، لرى نواحى العرين والأسدية وكفر الفزارى والقطاوية، وبعض أطيان الشبانات المحدودة بالجسر البحرى من ترعة الوادى.

مكتبة الأسرة - 2008

ص: 177

وفى هذه القرية نخيل أكثره من الصنف العامرى، وبناؤها باللبن والرمل، وأغلب بيوتها قباب تعرف عندهم بالقيعان، ومن عاداتهم أن يجعلوا أبوابها قصيرة، ويجعلوا بها أفرانا للخبز والدفء فى زمن الشتاء، ويفتحوا فى قمة عقدها كوة مستديرة قطرها يقرب من ثلث متر، تفتح لتصرّف الدخان ثم تسد، ويكون فى القاعة مصطبة للنوم، وكوات غير نافذة توضع فيها الأشياء، وذلك عادة جميع الفلاحين وسكان القرى، وغيرها من بلاد مصر، وفى أيام التحاريق، يشرب أهلها من آبار معينة قليلة العذوبة، بعضها مبنى بالآجر والمونة والبعض بالدبش والأخشاب، يركب عليها شواديف لسقى المزروعات الصيفية، التى من ضمنها الدخان المعروف بالقرينى والحشيشة، وبينها وبين القرين نحو ثلث ساعة، ويتسوّق أهلها من سوق القرين كل يوم أربعاء، واكتسابهم من الزرع. وأكثرهم مسلمون ومنهم علماء.

وكفاها فخرا أن منها شيخ الجامع الأزهر: (الشيخ عبد الله الشرقاوى)

(ترجمة)[شيخ الإسلام العلامة: الشيخ عبد الله الشرقاوى]

ففى الجبرتى من حوادث سنة سبع وعشرين بعد المائتين والألف، أنه ولد بها الإمام الفاضل والعلامة الكامل، شيخ الإسلام والمسلمين، الشيخ عبد الله بن حجازى بن إبراهيم الشافعى الأزهرى الشهير بالشرقاوى، شيخ الجامع الأزهر، كانت ولادته فى حدود الخمسين بعد المائة، وتربى بالقرين، ولما ترعرع وحفظ القرآن قدم إلى الجامع الأزهر، وسمع الكثير من الشهابين الملوى والجوهرى، والشمس الحفنى، والشيخ الدمنهورى، والسيد البليدى، والشيخ عطية الأجهورى، والشيخ محمد الفارسى، والشيخ عمر الطحلاوى، والشيخ على بن العربى الشهير بالسقاط، ثم أخذ الطريق عن الشمس الحفنى، ثم عن الشيخ محمود الكردى، ولازمه وحضر معه فى أذكاره، ودرس الدروس

ص: 178

بالجامع الأزهر، وبمدرسة السنانية بالصنادقية، وبرواق الجبرت والطيبرسية، وأفتى فى مذهبه، وتميز فى الإلقاء والتحرير.

وله مؤلفات دالة على سعة فضله، منها حاشية على التحرير، وشرح نظم الشيخ يحيى العمريطى، ومتن العقائد المشرقية مع شرحها، وشرح رسالة عبد الفتاح العادلى فى العقائد، ومختصر الشمائل مع شرحه، ورسالة في لا إله إلا الله، ورسالة فى مسألة أصولية، وشرح الحكم لابن عطاء الله، وشرح الوصايا الكردية فى التصوف، وشرح ورد السحر للبكرى، ومختصر مغنى اللبيب فى النحو، وحاشية على شرح الهدهدى فى التوحيد، وطبقات جمع فيها تراجم الفقهاء الشافعية المتقدمين والمتأخرين من أهل عصره، وعمل تاريخا مختصرا فى نحو أربع كراريس عند قدوم الوزير يوسف باشا إلى مصر وخروج الفرنساوية، وأهداه إليه عدّد فيه ملوك مصر، وذكر فى آخره خروج الفرنسيس ودخول العثمانية. وله غير ذلك.

وكان فى قلة من العيش، ثم بعد مدة اشتهر ذكره، وواصله بعض التجار بالهدايا وغيرها، فراج حاله وتجمل بالملابس، واشترى دارا بحارة كتامة المسماة بالعينية، وساعده فى ثمنها بعض من يجتمع عليه من أصحاب الأموال، واستمر على حاله/إلى أن مات الشيخ أحمد العروسى، فتولى بعده مشيخة الجامع الأزهر، وكانت تعارضت فيه وفى الشيخ مصطفى الصاوى، ثم حصل الإتفاق على المترجم، والشيخ الصاوى يستمر فى وظيفة التدريس بالمدرسة الصلاحية المجاورة لضريح الإمام الشافعى، وكانت من وظائف مشيخة الجامع، وكان الشيخ العروسى متنازلا عنها للصاوى لكونه من خواص تلامذته، ثم لما مات العروسى وتولى المترجم المشيخة، اتفقوا على بقاء الصاوى فى الوظيفة، فبقى فيها إلى أن مات، ثم عادت إلى المترجم من غير منازع، فواظب على الإقراء فيها، وطالب سدنة الصريح بمعلومها فلم يظهروا له

ص: 179

شيئا، فتشاجر معهم وسبهم فشكوه للمعاضدين لهم، وهم أهل المكايد من الفقهاء وغيرهم، وتعصبوا عليه وأنهوا إلى الباشا وضموا إلى ذلك أشياء، وأغروه عليه، فاتفق على عزله من المشيخة، ثم انحط الأمر على أن يلزم داره ولا يخرج منها، ولا يتداخل فى شئ من الأشياء، فحصل ذلك أياما ثم عفا عنه الباشا بشفاعة القاضى، فركب وقابله ولكن لم يعد إلى القراءة في الوظيفة، بل استناب فيها بعض الفقهاء، وهو الشيخ محمد الشبراوى، ولما حضرت الفرنساوية إلى مصر في سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف، ورتبوا ديوانا لإجراء الأحكام بين المسلمين، جعلوا المترجم رئيس الديوان، وانتفع فى أيامهم فاتسعت عليه الدنيا، واشترى دار ابن بيزه بظاهر الأزهر، وكانت دارا واسعة من مساكن الأمراء الأقدمين، وتزوج ببنت الشيخ على الزعفرانى وكانت فى قلة من العيش قبل أن تتزوج به، وبعد ذلك كثرت عليها الدنيا، واشترت الأملاك والعقارات والحمامات والحوانيت والخانات، وأتت من المترجم بولد سماه (عليا)، ولما أراد زواجه، عمل له مهما عظيما ودعا فيه الباشا وهو محمد باشا خسرو، وأعيان الوقت فاجتمع عنده شئ كثير من الهدايا، ولما حضر الباشا أنعم على ابنه المذكور، بأربعة أكياس عنها ثمانون ألف درهم وذلك خلاف البقاشيش.

واتفق للمترجم فى أيام الأمراء المصريين، أن طائفة من المجاورين بالأزهر من الشرقاويين كانوا قاطنين بالمدرسة الطيبرسية بباب الأزهر، وكان المترجم قد عمل لهم خزائن برواق ابن معمر، فوقع بينهم وبين المجاورين بالطيبرسية مشاجرة، وكان حاضرا فيها نقيب الرواق فضربوه، فتعصب الشيخ إبراهيم السجينى شيخ الرواق على طائفة الشرقاوى، ومنعهم من الطيبرسية وخزائنها وقهروا المترجم وطائفته، فتوسط بامرأة عمياء فقيهة كانت تحضر عنده فى الدرس، إلى عديلة هانم ابنة إبراهيم بيك المعروف بالوالى، فكلمته

ص: 180

أن يبنى له مكانا خاصا بطائفته، فأجابه لذلك، وأخذ سكنا أمام الجامع المجاور لمدرسة الجوهرية، وأضاف إليه قطعة أخرى، وأنشأ ذلك رواقا خاصا بهم، ونقل إليه الأحجار والعمد الرخام الذى بوسطه، من جامع الملك (الظاهر بيبرس) الكائن خارج الحسينية، وكان تحت نظر الشيخ إبراهيم السجينى ليكون ذلك نكاية له نظير ما حصل منه، وعمل به خزائن واشترى له غلالا وأضافها إلى جرايات الجامع، وأدخلها فى دفتره يستلمها خبّاز الجامع، ويصرفها خبزا لأهل ذلك الرواق فى كل يوم، ووزعها على الأنفار الذين اختارهم من أهل بلاده، واتفق للمترجم أنه تقرر فى نظر الخانقاه التى كانت خارج باب البرقية، واستولى على جهات إيرادها، وهذه الخانقاه من إنشاء الست (خوند طغاى الناصرية)، وكان الناظر عليها قبل المترجم شخصا من شهود المحكمة يقال له: ابن الشاهينى.

ولم ولج الفرنساوية الأراضى المصرية، وتمكنوا منها وعملوا القلاع فوق التلول حوالى المدينة، هدموا منارة هذه الخانقاه، وبعض الحوائط الشمالية وتركوها على ذلك، وكانت ساقيتها تجاه بابها فى علوة يصعد إليها بمزلقان، ويجرى منها الماء إلى الخانقاه على حائط مبنى، وبه قنطرة يمر من تحتها الناس، وتحت الساقية حوض لسقى الدواب، ثم إن المترجم أبطل الساقية وبنى مكانها زاوية وعمل لنفسه بها مدفنا، وعقد عليه قبة وجعل تحتها مقصورة، وبداخلها تابوتا عاليا مربعا، وعلى أركانه عساكر فضة، وبنى بجانبها قصرا ملاصقا لها، يحتوى على أروقة ومساكن ومطبخ، وذهبت الساقية من ضمن ذلك، وجعلها بئرا وعليها خرزة يملؤن منها بالدلو، ونسيت تلك الساقية وانطمست معالمها وكأنها لم تكن.

ولم يزل المترجم على حاله حتى تعلل ومات فى يوم الخميس ثانى شهر شوّال من السنة المذكورة، وصلى عليه بالأزهر فى جمع كثير، ودفن بمدفنه

ص: 181

الذى بناه لنفسه كما تقدم، ثم إن زوجته وابنه ومن يلوذ بهم، ابتدعوا له مولدا فى أيام مولد الشيخ العفيفى، وكتبوا بذلك فرمانا من الباشا، ونادى به تابع الشرطة بأسواق المدينة على الناس بالإجتماع والحضور لذلك المولد، وكتبوا أوراقا ورسائل للأعيان وأصحاب المظاهر وغيرهم بالحضور أيضا، ومدوا الأسمطة وفيها أنواع الأطعمة، لمن حضر من الفقهاء والمشايخ والأعيان وأرباب الأشائر، ولم يزل هذا المولد يعمل إلى الآن.

ومما فى الجبرتى أيضا أن سر عسكر بونابرت الفرنساوى طلب المشايخ فى عشرين من ربيع الأول سنة ألف ومائتين وثلاث عشرة، فلما استقروا عنده نهض بونابرت من المجلس ورجع وبيده طيلسانات ملونة بثلاثة ألوان، /كل طيلسان ثلاثة عروض أبيض وأحمر وكحلى، فوضع واحدا على كتف الشيخ الشرقاوى، فرمى به إلى الأرض واستعفى، وتغير مزاجه وانتقع لونه واحتد طبعه، فقال الترجمان: يا مشايخ أنتم صرتم أحبابا لسر عسكر، وهو يقصد تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته، فإن تميزتم بذلك عظمتكم العساكر والناس، وصار لكم منزلة فى قلوبهم، فقالوا له: لكن قدرنا يضيع عند الله وعند إخواننا من المسلمين، فاغتاظ لذلك (بونابرت) وتكلم بلسانه، وبلغ عنه بعض التراجمة أنه قال عن الشيخ الشرقاوى: إنه لا يصلح للرياسة ونحو ذلك فلاطفه بقية الجماعة، فقال: إن لم يكن ذلك فلازم من وضعكم الجويكار فى صدوركم، وهى العلامة التى يقال لها: الوردة، فقالوا: أمهلونا حتى نتروى فى ذلك واتفقوا على اثنى عشر يوما، وفى ذلك الوقت حضر الشيخ السادات فصادفهم منصرفين فلما استقر به الجلوس بش له سر عسكر ولا طفه فى القول، وأهدى له خاتم ألماس، وكلّفه الحضور بالغد عنده، وأحضر له جويكارا ووضعه فى طراحته فسكت وسايره، فلما قام من عنده، رفعها على أن ذلك يخل بالدين، وفى ذلك اليوم نادى جماعة القلقات على الناس، بوضع العلامات

ص: 182

المذكورة المعروفة بالوردة، وهى إشارة الطاعة والمحبة، فأنف غالب الناس من وضعها، وبعضهم رأى أن ذلك لا يخل بالدين وأنه مكروه فقط، وربما ترتب على عدم الإمتثال الضرر فوضعها، ثم فى عصر ذلك اليوم نادى بإبطالها من العامة، وألزموا بعض الأعيان ومن يريد الدخول عندهم بوضعها، فكانوا يضعونها إذا حضروا عندهم، ويرفعونها إذا انفصلوا عنهم، انتهى.

وقال فى موضع آخر: إن سر عسكر ندب علماء الإسكندرية وأعيانها، وكذلك رشيد ودمياط وبقية البنادر، بانضمامهم مع علماء مصر وأعيانها [لكى] يتكون منهم ديوان عام للنظر فى جملة مسائل، فلما حضروا اجتمعوا ببيت مرزوق بك بحارة عابدين، ثم انتقلوا إلى بيت قائد أغا بالأزبكية، وكان معهم أمراء الوجاقات، وأعيان التجار ونصارى القبط، والشوام ومديرو الديوان من الفرنسيس، فلما استقربهم الجلوس، شرع (ملطى القبطى) فى قراءة فرمان الشروط، ثم قال الترجمان: إن سر عسكر يريد منكم يا مشايخ أن تختاروا شخصا منكم يكون كبيرا ورئيسا عليكم، تمتثلون أمره وإشارته، فقال بعض الحاضرين: الشيخ الشرقاوى، فقال (نونو): وإنما ذلك يكون بالقرعة، فعملوا قرعة بأوراق فطلع الأكثر على الشيخ الشرقاوى، فقال: حينئذ يكون الشيخ عبد الله الشرقاوى هو الرئيس، وكتبوا أسماء المنتخبين من الثغور، والمشايخ الوجاقلية والقبط والشوام وتجار المسلمين.

وهذا الديوان غير الديوان المعمول بمصر، وكان من ضمن المسائل اللازم فيها المناقشة، أمر المحاكم، وحجج العقارات، وأمر المواريث ومسائل أخرى، وصاروا يجتمعون كل يوم ويتذاكرون، وانحط رأيهم على أن المحاكم والقضايا الشرعية تبقى على ترتيبها، ولضبط المحاصيل قرروا ما تأخذه القضاة ونوابهم، فجعلوا على الألف ثلاثين نصفا إذا لم يتعد المبلغ عشرة آلاف فضة، فإن كان مائة ألف، فإنه يجعل على الألف خمسة عشر، فإن زاد على ذلك فعشرة، وجعلوا على حجج العقارات مقررا أعلى وأدنى ووسط.

ص: 183

وأما المواريث، فقال ملطى: يا مشايخ أخبرونا عما تصنعون فى قسمة المواريث، فأخبروه بالقسمة الشرعية، فقال: ومن أين لكم ذلك، فقالوا: من القرآن، وتلوا عليهم بعض آيات المواريث، ثم التمسوا من المشايخ أن يكتبوا لهم كيفية القسمة ودليلهم على ذلك، فكتبوه لهم فاستحسنوه وأما مقررات الأملاك والعقارات، فجعلوا على الأعلى ثمان ريالات فرانسة، والأوسط ستة، والأدنى ثلاثة، وما كان أجرته أقل من ريال فى الشهر فهو معافى.

وأما الوكائل والخانات والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت، فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين أو أربعين حسب الرواج والإتساع وعدمه، وكتبوا بذلك مناشير، وألصقوها بالمفارق والطرق، وأرسلوا منها نسخا للأعيان، وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى والأدنى، وشرعوا فى الضبط والإحصاء، وتحرير القوائم، وكثرت أوامرهم ومناشيرهم، فضاقت صدور الناس من ذلك، وقاموا قومة واحدة، وقاتلوا الفرنسيس قتالا شديدا آل الأمر فيه إلى قتل كثير من أهالى البلد والعلماء، منهم الشيخ الجوسقى شيخ طائفة العميان، والشيخ أحمد الشرقاوى، وتعطل المجلس من حينئذ وكان مركبا من ستين نفسا، ثم بعد زوال الفتنة رتبوه من اثني عشر، انتهى.

[ملطى القبطى]

وتكلم الجبرتى أيضا على ملطى القبطى السابق ذكره، فقال: إنه كان كاتبا عند أيوب بك الدفتردار، ولما شرعت الفرنسيس فى ترتيب الديوان الذى سموه محكمة القضايا، جعلوا قاضيه الكبير ملطى المذكور، ورتبوا المجلس من ستة من نصارى القبط، وستة من تجار المسلمين، وفوضوا إليهم القضايا فى أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوى، وكتبوا ترتيبه فى نسخ كثيرة أرسلوا منها إلى الأعيان، وألصقوا منها فى مفارق الطرق/ورؤس العطف وأبواب المساجد ومن ضمن هذا الترتيب، أن أصحاب الأملاك يأتون بحججهم

ص: 184

الشاهدة لهم بالتمليك، فإذا أحضروها وبينوا وجه تملكهم لها إما بالبيع أو الانتقال إليهم بالإرث، لا يكتفون بذلك بل يأمرون بالكشف عليها فى السجلات، ويدفع على ذلك الكشف دراهم عينوها فى ذلك الطومار، فإن وجد تمسكه مقيدا بالسجل، طلب منه الثبوت ويؤخذ منه قدر معين، ويكتب له بعد ذلك تمكين، ثم ينظر فى قيمته ويدفع على كل مائة اثنان، فإن لم يكن له حجة أو كانت ولم تكن مقيدة بالسجل أو مقيدة ولم يثبت ذلك التقييد، فإنها تضبط بديوان الجمهور وتصير من حقوقهم، ومما رتبوه أيضا المقررات على المواريث والموتى، ومقاديرها متنوعة فى القلة والكثرة، كقولهم: إذا مات الميت يشاورون عليه، ويدفعون معلوما لذلك، ويفتحون تركته بعد أربع وعشرين يوما، فإن بيعت على غير هذا الوجه ضبطت للديوان، ولا حق فيها للورثة، وإن فتحت على الرسم بإذن الديوان، يدفع على ذلك الإذن مقدار، وكذلك على ثبوت الوراثة، ثم عليهم بعد قبض ما يخصهم مقدار وكذلك من يدعى دينا على الميت يثبته بديوان الحشريات ويدفع على إثباته مقررا، ويأخذ له ورقة يستلم بها دينه، فإذا استلمه دفع مقررا أيضا، ومثل ذلك فى الرزق والأطيان والهبات، والمبيعات والدعاوى والمنازعات والمشاجرات، والإشهادات، ولا يسافر المسافر إلا بورقة يدفع عليها قدرا، وكذلك المولود إذا ولد يؤخذ عليه قدر يقال له: إثبات الحياة، وكذلك المؤاجرات وقبض أجر الأملاك وغير ذلك.

[أيوب بك الدفتردار]

وتكلم الجبرتى أيضا على أيوب بك الدفتردار المذكور فقال: إنه من مماليك محمد بك أبى الذهب، تولى الإمارة والصنجقية بعد موت أستاذه، وكان ذا دهاء ومكر، ويتظاهر بالانتصار بالحق وحب الأشراف والعلماء، ويشترى المصاحف والكتب، ويحب المذاكرة والمسامرة، وسير المتقدمين، ويواظب على الصلاة فى الجماعة، ويقضى حوائج القاصدين بشهامة وصرامة، وصدع للحائد خصوصا إذا كان الحق بيده، ويتعلل كثيرا بمرض البواسير.

ص: 185

قال: وسمعت من لفظه رؤيا رآها قبل ورود الفرنسيس بنحو شهرين، تدل على ذلك وعلى موته فى حربهم، ولما حصل ذلك وحضروا إلى بر إنبابه، عدى المترجم قبل بيومين وصار يقول: أنا بعت نفسى فى سبيل الله، فلما التقى الجمعان لبس سلاحه بعد أن توضأ وصلى ركعتين، وركب فى مماليكه، وقال: اللهم إنى نويت الجهاد فى سبيلك، واقتحم مصاف الفرنسيس وألقى نفسه فى نارهم، واستشهد فى ذلك اليوم، وهى منقبة اختص بها دون أقرانه، وقد قال فيه الشيخ خليل المنير قصيدة حكى فيها أمره وما حصل له، منها قوله:

بانت له من حسان الحور قائلة

أركض برجلك للخيرات واستبق

واترك مرادا إلى الدنيا ولمّ بنا

إنا الحياة فملّ الروح واعتنق

أمّ الجهاد شهير السيف مجتهدا

فى كلمة الحق كى يعلو على الفرق

الله أكبر والتوحيد يصحبها

نداؤه فى عجاج مظلم غسق

ما زال يقتض حتى انقض كوكبه

وطار منه بهىّ النور للأفق

مضى شهيدا وحيدا طاهرا سمحا

مغسلا بدم الهيجاء لا غرق

إلى آخر ما قال ويشير بقوله: بدم الهيجاء لا غرق، إلى إبراهيم بك الوالى حين ولى مدبرا وغرق فى البحر، انتهى.

(والطويلة الثانية)

قرية من مديرية الغربية بمركز شربين، على الشاطئ الغربى لفرع دمياط بحرى ناحية شبرى قاش بنحو ألف وخمسمائة متر، وقبلى ناحية ديسط بنحو أربعة آلاف متر، وفيها دار ضيافة ل (متولى نور) من تجارها، وبها جامع بمنارة بداخله مقام الشيخ حسن الديسطى، يعمل له مولد كل سنة فى شهر ربيع الأول ثلاثة أيام، ولها سوق جمعى، وتكسب أهلها من الزراعة وغيرها.

ص: 186

(ترجمة)[عبد اللطيف بن نصر الطويلى]

وإليها ينسب كما فى الضوء اللامع للسخاوى عبد اللطيف بن نصر الله ابن أحمد بن محمد بن عبد النور، المغربى الأصل الطويلى المالكى الشاعر، ولد سنة إحدى وثمانمائة بالطويلة من الغربية، ونشأ بها ثم انتقل فى سنة خمس وعشرين إلى القاهرة، فأكمل بها حفظ القرآن، واشتغل يسيرا وتدرب بالسراج عمر الأسوانى، ثم بالبدر البشتكى فى النظم، وتكسب بالشهادة فى القاهرة وغيرها، وناب فى المحلة عن قضاتها، وتعانى نظم الشعر، وخمس البردة فى ثلاثة تخاميس، واستجدى بشعره الأكابر وغيرهم، مات فى أواخر سنة ثمان وسبعين وثمانمائة عفا الله عنه، انتهى.

(الطيبة)

قال فى مشترك البلدان: هى بفتح الطاء وتشديد الياء المكسورة وباء موحدة، قريتان بمصر، الطيبة من ناحية السمنودية، والطيبة بالاشمونين، انتهى.

ولم نعثر فى السمنودية على قرية من هذا الاسم، وإنما هى فى الشرقية، وهى قرية من مديرية/الشرقية بمركز الإبراهيمية فى الجانب الشرقى لناحية بهنيته بنحو ستة آلاف متر، وفى الجانب الغربى لناحية فرسبس بنحو ألفين وخمسمائة متر، وبها جامع.

(والثانية) من مديرية المنية بقسم سمالوط، غربى البحر اليوسفى بنحو سبعمائة وخمسين مترا، وفى شمال ناحية القمادير بنحو أربعة آلاف وسبعمائة وخمسين مترا، وفى الجانب الغربى لسمالوط بنحو سبعة آلاف متر، وبها جامع وبدائرها نخل كثير.

ص: 187

(طيمونيبس)

هى مدينة قديمة كانت على الشاطئ الأيمن من النيل، وموضعها على ما فى خطط الرومانيين بين مدينتين قديمتين كانتا على الشاطئ المذكور، وهما مدينة عليا التى هى الآن قرية منقطين، ومدينة أفروديت التى هى أطفيح على بعد ستة عشر ميلا من الأولى، وأربعة وعشرين من الثانية، فهى حينئذ قريبة من قرية بياض فى الجهة البحرية، والظاهر أن قرية بياض المذكورة حدثت بعد هجوم رمال الصحراء على المدينة القديمة، لأنه يوجد فى مقابلتها من الجبل واد متسع يوصل إلى البحر الأحمر، والرياح دائما تنسف منه الرمال، حتى غطت سعة عظيمة من الأرض كانت مزروعة فى الأزمان السابقة، وأهالى تلك القرية نصارى وهى مشهورة بجودة الجبس الداخل فى عمارة مبانى القاهرة وضواحيها، انظر الكلام عليها فى حرف الباء.

(الطينة)

مدينة كانت من أعظم مدن مصر، فى النهاية الشرقية من بحيرة المنزلة بمديرية الدقهلية، وكانت تسمى أولا (ببلوز)، ومعنى ببلوز: الطينة، فلذا سماها الغرب فى مؤلفاتهم الطينة.

قال استرابون: إنها كانت بعيدة عن البحر بقدر ميلين، وهى من أقدم المدن، ولم يعلم الوقت الذى ظهرت فيه، وكانت وقت سياحة هيرودوط فى أرض مصر على غاية من العمارية، وبسبب وقوعها فى حدود مصر من الجهة الشرقية، كان معتنى بها من لدن حاكم مصر سيما فى زمن الفراعنة، فإنها كانت من الحصون المنيعة بها العساكر وأنواع السلاح كما عليه الإسكندرية الآن، وكانت معمورة بأنواع المتاجر، وكان لها مينا لا تخلو من السفن الواردة والصادرة بأنواع السلع، ونقل عن بعض السلف أن (سيتر وستربس)، بنى سورا

ص: 188

من هذه المدينة إلى مدينة عين شمس، فكان طوله ثلاثين فرسخا، يمنع به عن مصر دخول العدو من هذه الجهة، ومع ذلك فقد دخلها (كمشاش) ملك الفرس وأغار عليها وجلس على تختها بعد أن قتل ملوكها وأهان أمراءها، كما أن ما بناه قياصرة القسطنطينية على مدينتهم من الأسوار والحصون المنيعة، لم يردّ عنها إغارات أعدائها، وكل ذلك دليل على أن القوة والمنعة ليست مرتبطة بالقلاع والحصون فقط، بل أعظم القوة والبأس إنما هو فى تربية الرجال، وتدريبهم على القتال، وكثرة العدد والمدد.

ويستفاد من كلام المؤرخين، أن رخاوة حاكم الديار المصرية فى آخر مدة الفراعنة، وإهماله القوانين والعوائد القديمة التى كانت عليها الطائفة العسكرية، أوجبت مفارقة مائتى ألف من العساكر المصرية أرض مصر وسكناهم خلف الشلال، فمن ذلك ضعفت حكومة مصر ولم تتمكن من رد الفرس عنها، وانكسرت شوكة الفراعنة، وصارت مصر فى أيدى الأغراب.

وذكر هيرودوط أن طائفة العسكرية فى زمن (سيتوس) لم تكن محترمة كما كانت قبل، بل احتقرهم ونزع من أيديهم الإثنى عشر أرورا من الأرض التى خصصها لهم الملوك السابقون، فحنقوا عليه وامتلؤا غيظا، ولما أغار (سنقريب) ملك العرب والعراق على بلاد مصر بجيش جرار، امتنعت العساكر من أن تقاتل معه، فدخل الملك سيتوس المعبد وصار يكثر النحيب والتضرّع للإله، وبينما هو كذلك إذ أخذته سنة من النوم، فرأى البشارة من الإله، وأنه لا بأس عليه من ملاقاة الأعداء، فقام منشرح الخاطر وسار إلى مدينة الطينة بمن أطاعه من الناس، وكانت الطينة وقتئذ مفتاح مصر فأقام بها ولم يكن معه أحد من العسكر وحاصر على نفسه، وأعداؤه كذلك حاصروا على أنفسهم، ففى ذات ليلة سلطت فئرة كثيرة على جيش العدو، فأتلفت عليهم آلات السلاح من نحو الأوتار والدرقات حتى أصبحوا بلا سلاح، فارتحلوا هاربين بلا

ص: 189

قتال ومات أكثرهم، فعظّم الملك الفئرة من حينئذ وإلى الآن يرى فى معبد (ولكان) تمثال هذا الملك وبيده فأرة وتحته كتابة معناها: أى شخص كنت أنت ورأيتنى فاحترم المقدسين، قال بعض شارحيه: إن هذه العبارة اختلقها قسيسوا مصر وقاسوها على وقعة صحيحة واردة فى التوراة، ونقلها يوسف الإسرائيلى وهى أن (طراقا) ملك الحبشة حضر وأمد المصريين بجيوشه، فانهزم العراقيون والعرب، وكان الحبشة إذ ذاك يسكنون المغارات، فشبههم المصريون بالفيران، وقالوا: أعانتنا الفأرة رمزا لحالهم فى مساكنهم، فأخفى القسيسون هذا الأصل الصحيح، وأفهموا هيرودوط حقيقة الفيران وجعلوا ذلك كرامة لآلهتهم، وظن بعض شارحى هيرودوط أن موتهم كان/بالطاعون، فلذا نسب العبرانيون ذلك إلى ملك الموت.

وقال أيضا: إن الطينة كانت قديما تسمى (لبنى)، وأن (ولكان) هو المسمى عند المصريين (افتاه)، وكان معبده فى منفيس، وهم يعتبرونه المكوّن للأشياء، وقال (جنبليك): إنما سموه (افتاه) بسبب أنه جعل جميع الأشياء بفن لا يدرك، وحقيقة بديعة، وكان يعتبر أبا لجميع الآلهة، واليونان كانوا يجعلونه رمزا للفن، والنقوش التى على المسلة التى نقلها (قسطنطين) إلى مدينة (رومة) تدل على أن المصريين كانوا يجعلونه عبارة عن الحرارة الأولى، والأرواح أشعة منه تجتمع عليه فيما بعد، ولم تفهم اليونان ذلك وظنوا أنه النار المادية، فقالوا: إن (ولكان) هو مخترع النار، وقال (ديودور): إن بعض القسيسين يقول: إنه أول ملك اخترع النار ولذلك توّجوه، ثم إن كلمة (أرور) المارة الذكر، معناها: قطعة من الأرض طولها مائة ذراع فى مثلها، والذراع المصرى وذراع مدينة (ساموس) سواء، وقدّره بعضهم بأربعمائة واثنين وستين ميليمتر، فعلى هذا يكون ضلع الأرور: ستة وأربعين مترا وعشرين جزءا، وتكون مساحته ألفين ومائة وأربعة وثلاثين مترا وأربعا وأربعين جزءا من مائة، وهو

ص: 190

نصف فدان وشئ، فكان لكل عسكرى هذا القدر غير ما كانوا يعطون من طرف الملك حين تعينهم للمحافظة.

ولما دخل هيرودوط أرض مصر، بعد وقعة الفرس بسنين قليلة، سار إلى مدينة الطينة فشاهد فى محل المعركة جماجم القتلى وعظامهم، فى هيئة تلول من عظم، فكانت عظام الفرس فى معزل عن عظام المصريين، لأن المصريين فصلوها عن عظام موتاهم بعد انفصال القتال، وقالوا: إن جماجم الفرس كانت تتفتت بأدنى صدمة بخلاف جماجم المصريين فكانت تقاوم صدمة الحجر، وقيل لى فى سبب ذلك: أن الفرس يغطون رؤسهم من حين الصغر، بخلاف المصريين فإنهم يحلقون رؤسهم، ويتركونها مكشوفة تفعل فيها الشمس والهواء فتكتسب الصلابة من ذلك.

وقد استولى (اسكندر المقدونى) أيضا على هذه المدينة، وطرد الفرس عنها وعن سائر بلاد القطر، وفى زمن البطالسة تغلب عليها (أنطوان) رئيس الخيالة الرومانية، وبأمر الجمهورية سلمت إلى (بطليموس أوليت) بمساعدة (بومبيوس)، ومع ذلك فلم يراع له بطليموس المذكور حقوق هذه المنة العظيمة، بل لما هرب بومبيوس بعد وقعة فرسال ودخل الطينة ملتجئا إلى بطليموس احتال على قتله، وقتله هناك كما هو مشهور، وكثيرا ما لاقت مدينة الطينة من الحروب زمن الرومانيين واليونان والعرب، أهوالا ومصائب من نهب وسلب وقتل، ومع ذلك فكانت عامرة آهلة ذات أهمية إلى حرب القدس، فأغار عليها أمراء النصارى ونهبوها مرارا، فضاقت على أهلها الأرض بما رحبت، ثم ولوا عنها وفارقوها إلى دمياط وغيرها، وخربت من هذا الحين، ولم يبق بها غير قلعة من مبانى العرب تعرف بقلعة الطينة، كانت مبنية فى فم بحر الطينة لمنع دخول المراكب بها، وبها تل عال فيه سور مربع الشكل وبجهته البحرية باب يفتح على البحر، والظاهر أنه من أبنية الإسلام، وبقرب هذا التل، تل آخر تسميه العرب القصر، ولعله كان هو محل القلعة القديمة.

ص: 191

وجميع هذه الآثار تعرف بين الناس بتل العمارنة والفرماء، ويؤخذ من تاريخ (ابن إياس) أنه كان بها قلعة وناس متوطنون إلى سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة هجرية فإنه قال: إنه فى شهر الحجة من تلك السنة، كان قد أشيع بعد موت السلطان (الغورى)، أن أوائل عساكر (ابن عثمان) قد وصلوا إلى قطيا، وتملكوا قلعة الطينة، وهرب من كان بها من السكان، بل فى نزهة الناظرين: أنها لم تزل موجودة إلى أول القرن الثانى عشر، فإنه ذكر أن قضية وقعت فى سنة ثلاث بعد المائة والألف، فى مدة الوزير (على باشا)، بين الأمير (أحمد) من طائفة الينكشارية، وبين (محمد بن الصمانجى)، وهى أن الصمانجى قتل شخصا من أقارب الأمير أحمد من طائفة هوّارة وأنكر قتله، فأقيمت الشهود وثبت عليه القتل، فأمر الوزير على باشا بنفى (محمد شبلى الصمانجى) إلى الطينة، فلم تمتثل ذلك طائفة العزب، فعقد الباشا مجلسا من الأمراء والينكشرية، فاتفقوا جميعا على نفيه فنفى إلى سهرجت بالشرقية، ثم أرسل منها إلى الطينة، فمكث بها قليلا ثم رجع إلى مصر، وذكر أيضا نادرة حصلت يوم الأحد من شهر القعدة سنة ثمان ومائة بعد الألف، هى أن شاهدا من شهود محاكم مصر كتب حجة وثبت بحضرة الوزير إسمعيل باشا أنها مزورة، وأنها كتبت على المدعى عليهم بغير حضورهم، فأحضر الوزير ذلك الشاهد وحلق لحيته، وربطت له الحجة فى شعر رأسه، وأركب على جمل بدون شامات، وأشهر بمصر ونودى خلفه هذا جزاء من يكتب الحجج الزور فى زمن الوزير إسمعيل باشا، وطيف به فى مصر قاطبة، ثم وضعوه فى العرقانة، ثم نفوه إلى الطينة، ثم شفع فيه وعاد إلى مصر. انتهى. وهناك فى حدود الصحراء تل فيه كثير من الشقاف وآثار الهدم تسميه العرب تل الفضة.

(الطيورات)

قرية صغيرة من قسم قنا، فى غربى النيل بقليل/وفى شمال قرية الدير والبلاص، وفى جنوب ناحية دندرا، وهى قريبة من الجبل الغربى، وبها

ص: 192

مساجد وعدة بساتين ذات فواكه ونخيل، وقليل من شجر الدوم، ومن العوائد اللازمة عند أهل هذه القرية كغيرها من بلاد قنا وما قاربها من بلاد جرجا، أن يلبس النساء بردا من الصوف الأسود أو المصبوغ بالنيلة فوق ملابسهن ولو فاخرة، بحيث لا تخرج امرأة من باب دارها إلا ملتفة بالبردة الساترة لجميع بدنها وما عليها من الثياب، ويرون ذلك احتشاما وكمالا ويرون غيره عيبا وفحشا، لا فرق بين أغنياء وفقراء، ويتنافسن فى تلك البرد من حيث الغزل والنسج والصبغ، ويتزين فى البيوت بالثياب المطرزة بالحرير أو التلى، وبعضهن تثقب قروش الفضة وتخيطها على ثيابها صفوفا صفوفا، ولا يلبسن السراويل، ويتحلين بأخزمة الذهب والفضة فى أنوفهن، وقد تعلق فيه شيئا من الخرز، ويتسوّرن بأسورة العاج والعتادى الزجاج وأساور الفضة، ويتسوّرن أيضا بالكارم، بأن تنظم حباته فى خيط وتجعل فى المعصم، وقد تجمع المرأة ذلك كله فى يدها فيعم غالب معصمها، وتلبس عقود الذهب والمرجان والكارم فى رقبتها، وتلبس فى رجليها الخلاخل الفضة نحو ثلاثين ريالا، وإذا كانت المرأة حزينة، تجعل فى يدها ورقبتها عقودا من الخرز الأسود أو الأزرق، وكثير من رجال تلك الجهة يتعمم بالصوف، ويتلفع به ويلبسه قميصا يسمى الجبة.

(طيوة)

بطاء مهملة فمثناة تحتية فواو فهاء تأنيث، مدينة قديمة كانت بالصعيد الأعلى، يزعم كثير من مؤرخى الإفرنج والجغرافيين: أنها أول بلدة عرفت بالديار المصرية فى الأحقاب الخالية، وقال المقريزى فى خططه: أول بلدة عرف اسمها فى أرض مصر مدينة أمسوس، وكان بها ملك مصر قبل الطوفان، فيحتمل أنه لا خلاف بين ما قاله المقريزى وما قاله غيره، وأن مدينة أمسوس هى بعينها مدينة طيوة، وهذا يوافق بعض ما قاله بعض المؤرخين: أن أول قوم نزلوا بمصر وعمروها جاءوا من جهة بلاد النوبة فدخلوا مصر من الصعيد مكتبة الأسرة - 2008

ص: 193

الأعلى، ويحتمل أن مدينة طيوة غير مدينة أمسوس، وأن أمسوس كانت فى وسط القطر لا فى أعلاه، وهذا هو الذى يظهر من كلام المقريزى فى عدة مواضع، وهو الذى تميل إليه النفس، ويؤيده ما قاله بعض المؤرخين: أن أول قوم عمروا مصر، نزلوا من جهة بلاد العرب من أسفل القطر، والعجب من المقريزى، حيث لم يذكر مدينة طيوة ولا شيئا من آثارها كالكرنك والقرنة، مع شهرتها وكثرة آثارها وبرابيها، ولعل عدم ذكره لها، هو الحامل على فهم أن أمسوس هى مدينة طيوة والله أعلم.

[المؤرخون ومدينة طيوة]

ولنذكر لك طرفا من كل ما قاله المقريزى فى أمسوس، وما قاله غيره فى طيوة فنقول: قال المقريزى فى خططه إن مدينة أمسوس هى أول بلدة عرف اسمها فى أرض مصر، وبها كان ملك مصر قبل الطوفان، وقد محا الطوفان رسمها، ثم صارت مدينة مصر بعد الطوفان مدينة منف، ولما خربت مدينة منف على يد (بختنصر)، بنيت الإسكندرية وصارت هى مدينة مصر ومقر المملكة، إلى أن قدم (عمرو بن العاص) بجيوش المسلمين، فاختط الفسطاط وصارت هى مدينة مصر، إلى أن قدم (جوهر القائد) من الغرب بعساكر المعز واختط القاهرة وصارت دار المملكة، إلى أن زالت الدولة الفاطمية وصارت القاهرة مدينة مصر إلى يومنا هذا.

ثم قال: وأول من ملك أرض مصر، مقراوش بن مصرايم بن مركاييل ابن دواييل بن عريان بن آدم عليه السلام، ركب فى نيف وسبعين راكبا من بنى عريان جبابرة كلهم يطلبون موضعا يقطنون فيه، فرارا من بنى أبيهم عندما بغى بعضهم على بعض، فلم يزالوا يمشون حتى وصلوا إلى النيل فبنى (مقراوش) مصر، ثم تركها وأمر ببناء مدينة أمسوس، وبنى الأعلام وأقام الأساطين،

ص: 194

وعمل المصانع واستخرج المعادن، ووضع الطلسمات، وشق الأنهار وبنى المدائن، وكان قد وقع إليه علم ذلك من العلوم التى تعلمها (دواييل) من آدم عليه السلام، فكل علم جليل كان فى أيدى المصريين، إنما هو من فضل علم مقراوش وأصحابه.

كان ذلك مرموزا على الحجارة، ففسره (قليمون) الكاهن ولما بنى مدينة أمسوس، عمل بها عجائب كثيرة وأصناما، ولم تزل هذه الآثار حتى أزالها الطوفان، ويقال أنه هو الذى أصلح مجرى النيل وكان قبله يتفرق بين الجبلين، وأنه وجه إلى بلاد النوبة جماعة هندسوه وشقوا نهرا عظيما منه بنوا عليه المدن، وغرسوا الغروس، وأقام ملكا على مصر مائة وثمانين سنة، ولم يزل الملك فى عقبه بمدينة أمسوس، وكل منهم يجدد فيها أعاجيب، إلى أن وصل الملك إلى (شهلوق بن شرياق)، وكان عالما بالكهانة والطلسمات، فقسم ماء النيل موزونا يصرف إلى كل ناحية قسطها، ورتب الدولة وعمل بيت نار، وهو أوّل من عبد النار، وعمل بأمسوس عجائب، ثم قال: وملك بعده ابنه (سوريد)، وكان حكيما فاضلا، وهو أول من جبى الخراج بمصر، وعمل أعمالا جليلة وهو الذى بنى الأهرام، ولما مات دفن فيها، وكذلك ابنه (هرجيت) بنى أهرام دهشور، ولما مات/دفن فيها انتهى، باختصار.

وحيث كان مقر الجميع مدينة أمسوس، وهم الذين بنوا الأهرام ودفنوا فيها، فيظهر أن مدينة أمسوس كانت بقرب محل الأهرام، وأن وقوعها بقرب هذا المحل هو الداعى لبناء الأهرام فى هذا الموضع، وإلا لبنوها فى الصعيد الأعلى، وإن كان يمكن أن يقال: أن الملوك لا سيما الأقدمين أصحاب القوة والبأس الشديد، والمعارف الكثيرة لا يبعد عليهم أرجاء مثل هذا القطر الصغير، بل هو بالنسبة لهم كالبلدة الواحدة والله أعلم بحقيقة الحال.

ص: 195

وأما مدينة طيوة، فهى مطمح أنظار السياحين إلى بلاد الصعيد، وكتب الإفرنج مشحونة بذكرها، وفى بعض كتبهم تسميها بطيبة بموحدة بدل الواو، وفى بعضها طيب بغير هاء، وفى بعضها تيب بمثناة فوقية بدل الطاء، ورأيت فى بعض كتبهم أن اسم طيوة، كان يسمى به عدة مدن من بلاد مصر، ويستأنس له بما قاله بعض مؤرخيهم: أن معنى طيوة باللغة المصرية القديمة:

مدينة، ومعناه فى اللغة الرومية: التل المرتفع قليلا، ولعل هذا هو منشأ ما قاله بعضهم: أنها سميت بهذا الاسم ليدل على رفعتها وعلو شأنها، وبعضهم يقول: إن اسمها مأخوذ من كلمة طيبة القبطية، التى معناها: سفينة، وأن أهل هذه المدينة كانوا يعبدون الشمس، ويعتقدون أنها بل وسائر الكواكب، تسير فى مداولتها فى سفن، ورسموا ذلك فى آثارهم الفلكية الباقية إلى الآن، ولعلهم قصدوا بذلك تعظيما بموافقتها فى الاسم لسفينة معبودهم.

وقال بعض المؤرخين: إن مدينة طيوة، كانت تسمى فى بعض الأزمان القديمة بمدينة الأب، بسبب أن فرعون مصر (سيزوستريس الأكبر) بنى فيها مبانى كثيرة على اسم أبيه، وذكر بعض المؤرخين: أنها كانت تسمى نوامون، ومعناه: مدينة آمون، أى المدينة التى يعبد أهلها الشمس، أو الكائنة فى ملك آمون أى: الشمس.

والروم تسميها ديوسبوليس، أى مدينة الشمس بالمعنى السابق، وكانوا لا يطلقون هذا الاسم إلا على الأقصر والكرنك فقط، وفى بعض كتب الإفرنج أن كلمة ديوسبوليس هى ترجمة كلمة (أموناى) المصرية، التى توجد فى الكتابة الهيروجليفية، ومعنى أموناى: مقرّ آمون، وأما اسم طيبة أو طيب أو تيب المعروفة به الآن، فهو اسمها المصرى القديم الذى كان لها قبل اليونانيين الذين سموها ديوسبوليس، ولفظ تيب مركب من أداة التعريف وهى (تى) ومن كلمة (ب) التى معناها: الرأس أو التخت، ولأجل التمييز تضيف الأروام إلى كلمة ديوسبوليس كلمة (ميجالى) الرومية التى معناها: الكبيرة، حتى لا تشتبه بديوسبوليس الواقعة تحت مدينة دندرة، انتهى.

ص: 196

وقد انفردت هذه المدينة بالملك فى الديار المصرية عدة أجيال، ولم يزل السياحون يأتون إليها ويطلعون على آثارها العجيبة، ويكتبون ما يتيسر لهم كتبه وينقلون ما تيسر نقله، وإلى الآن لم يستقصوا جميع أوصاف ما بها من العمائر التى تدهش العقول كما ستقف على بعضه، وذكر استرابون: أنه لم يبق من هذه المدينة فى مدة سياحته بالديار المصرية، إلاّ جزؤها المشغول الآن بالأقصر والكرنك، وأن جزأها الآخر المشغول الآن بمدينة (آبو) و (أبو الحجاج)، كان متخربا، وأطلق (اميروس) الشاعر المشهور على هذه المدينة اسم هيكاتوامبيل، وهى كلمة رومية معناها: المدينة التى لها مائة باب، فإنها كانت كذلك، واشتهر فى كلامه حتى انتقل ذكرها إلى الروم بل وجميع بقاع الأرض، واستنبط المؤرخون من شعره أن كل باب من أبواب تلك المدينة، كان يخرج منه مائتا محارب بعرباتهم وخيولهم، ومن ذلك استخرجوا مقدار القوة العسكرية التى كانت لفراعنة مصر فى هذه المدينة، وجعلوه فوق ما يمكن تصوّره للعقل، وأثبتوا للمدينة تبعا لذلك، اتساعا لا دليل لهم عليه ولا يتخيله عقل غيرهم، وبالبحث فى الآثار القديمة الموجودة هناك، لم يعثر أحد على شئ من هذه الأبواب أصلا، مع وجود ما يدل على جميع ما ذكره المؤرخون من المبانى وخلافها، وحقق بعضهم أن العسكر الذين كانوا مقيمين فى جهات مختلفة على النيل، كانوا يأتون فى أوقات معلومة إلى تلك المدينة، ليعرضوا على الملك قبل الخروج للحرب، وفى المواسم والمواكب، وكانوا يخرجون من أبواب كثيرة إلى الميدان الكبير الباقى أثره إلى الآن، فربما كان ذلك هو معنى ما أورده الشاعر فى كلامه، ومع ذلك فليس فى الأخبار القديمة، ما يدل على أنه كان ثم مدينة تشبه هذه المدينة فى العظم والفخامة والأبهة، لأن جسامة الآثار الباقية بها وكمال صنعتها، دالة على سطوة فراعنتها وثروة أهلها، وربما كان هذا مقويا لما ذكره بعض المؤرخين، من اتساع شهرتها

ص: 197

فى جميع بقاع الأرض، حتى قصدها الناس من كل فج لاجتناء ثمرات فنونها، واقتطاف زهرات صنائعها، وأخذ العلوم عن كهنتها.

(ثم اعلم) إنى لم أقصد إلاّ ذكر طرف مما قيل فيها خصوصا ما ذكره مؤرخو الروم والإفرنج، فإن ما ذكره العرب مسطر فى كتبهم، والإطلاع عليه ليس يعسر على أحد، فأرجو ممن يحب الإطلاع على هذا الكتاب، أن يسير معه سير صاحب لا يمل الصحبة، عند/ذكرنا الخراب الممتد بشاطئ النيل، إلى جبل الشرق من جهة صحراء بلاد المغرب، وإلى جبل الغرب من ساحل بلاد المغرب، وأن يلقى سمعه إلى ما نذكره له من أقوال المؤرخين الذين بذلوا جهدهم فى تحقيق هذا الشأن، وهم لعمرى الفرسان فى هذا الميدان.

ثم إن أوّل أمر يلزم معرفته، هو تعيين موضع هذه المدينة، وذلك يكون بواسطة نقط ثابتة معروفة، لا يعتريها تغيير، وفى هذه المسألة قد تكفل بإيضاحها هيرودوط، فإنه أول من ساح فى هذه الأرض فى الأزمان الماضية، وقد قال ما معناه: أن من البحر المالح إلى مدينة عين شمس 1500 غلوة (استاده)، ونوّه فى كلامه بأن الغلوة التى استعملها، هى الغلوة المصرية المتفق على مقدارها بين المؤلفين، ومن أسوان إلى طيوة 1800 استادة، وأن من عين شمس إليها بحسب سير البحر، تسعة أيام وقدر ذلك 4860 استادة، ومن البحر إلى طيوة من وسط الأرض، أى بالسير على خط مستقيم 6130 استادة، واعتمده (جوسلان) الفلكى.

وأن محيط الدائرة العظيمة الأرضية يحتوى عليها أربعمائة ألف مرة، فإذا فرضنا أن ذلك المحيط منقسم إلى أربعمائة قسم متساوية تسمى درجات، تكون الدرجة الواحدة التى هى مائة ألف متر، عبارة عن ألف غلوة، فتكون الغلوة المصرية (مائة متر)، ويكون البعد من أسوان إلى مدينة طيبة 18000 متر، وقد قيس هذا القدر على الخريطة التى عملت زمن الفرنساوية، فوجد

ص: 198

البعد بين الخراب الموجود فى الأقصر والكرنك ومدينة آبو والقرنة، وبين أسوان هو هذا المقدار ولا مخالفة بينهما إلاّ بشئ يسير، وحينئذ تكون هذه المواضع الأربعة، معينة لموضع تخت الديار المصرية القديم، وأطلال الهياكل والتماثيل، وباقى المعابد والأماكن والآثار، الموجودة فى هذه المواضع دون غيرها، تدل على ذلك أيضا، ويؤيده ما يؤخذ من قول استرابون وديودور الصقلى وغيرهما، فإن ديودور ذكر أن محيط مدينة طيوة كان مائة وأربعين استادة، يعنى أربعة عشر ألف متر، وهذا المحيط وجد على خريطة الفرنساوية مشتملا على الأقصر والكرنك، ومدينة آبو والقرنة، وعلى تربة فرعون مصر أوزيمندياس، وسراية ميمون، وأن آثار هذه المدينة كانت موجودة فى زمنه، ممتدة على ساحل النيل نحو ثمانين استادة.

ومعلوم أن هذا المؤلف كان يستعمل فى تقديراته الغلوة أو الاستادة الداخلة فى محيط الدائرة الأرضية 252000 مرة، وضبط مقدار ذلك فى فرانسا فوجد 18،572، فيكون طول الأرض التى بها الآثار القديمة بناء على ذلك 12698.

ولأجل معرفة عظم اتساع هذه المدينة، نذكر لك سعة بعض مدن مصر، لتعلم بمضاهاتها بها قدر عظمها، فنقول: من مدن مصر مدينة منف، قال ديودور: إن محيطها كان 150 استادة، وهو عبارة عن 15000 متر، لكن لا يمكن تحقيق ذلك الآن، لأن هذه المدينة قد محيت آثارها بالكلية، وصار موضعها أرض زراعة، ويؤخذ من كلام بطليموس أن محيط مدينة الإسكندرية كان مائة وأربعين غلوة وذلك عبارة عن أربعة آلاف متر، ومحيط القاهرة التى هى تخت الديار المصرية الآن 13500، بما فيه من الإعوجاج الموجود بالمحيط الذى حول البلد، وبمضاهاة تلك المقادير لكل من هذه الثلاث مدن بعضها ببعض، يعلم أنها متقاربة، ومساحة مدينة طيوة المشغولة بالكرنك والأقصر والقرنة وآبو، قد حسبت فوجدت 17260000 متر، وهذا قريب من المائة والأربعين استادة بجعلها قطر الدائرة، فإن هذه المساحة تقرب من ستة

ص: 199

عشر مليونا من المتر المسطح. وبمقارنة هذه المساحة بمساحة مدينة القاهرة التى هى 7930000، يعلم أن مساحة القاهرة أقل من نصف مساحة مدينة طيوة، والآثار الباقية الآن من تلك المدينة، تدل أيضا على أنها كانت شاغلة بمبانيها الفاخرة شاطئ النيل الشرقى والغربى، وممتدة من كل جهة إلى الجبل، وأنه كان يدخل فى مبانى الأهالى اللبن المجفف فى الشمس، والأحجار المأخوذة من الجبال المجاورة لها، وكان من البيوت ما هو مركب من خمس طبقات وما هو أقل من ذلك، كما يؤخذ من كلام ديودور، الذى ساح فى الصعيد فيما بين سبع وخمسين وستين سنة قبل الميلاد، ومن كلامه أن مؤسسى مدينة طيب، صيروها أبهى وأغنى مدينة فى مصر بل وفى الدنيا بأجمعها، ومعابدها ومبانيها من أحسن ما يرى، وبيوت الأهالى من أربع طبقات وخمس، قال: ولم يكن شئ يشابه تماثيلها الجسيمة، المجعولة من الذهب والفضة والعاج، وكذا مسلاتها، وأشهر معابدها أربعة، أحدها محيطه لم يكن أقل من ثلاث عشرة غلوة (يشير بذلك إلى معبد الكرنك) وقبور الملوك لا تنقص عن المعابد فى الزخرفة، ومما يتعجب من اتساعه وعظم زخرفته قبر الملك أوزمندياس، قال: وجميع هذه المبانى كانت باقية إلى وقت قريب منا، انتهى مترجما.

ومعلوم أن سياحة ديودور، كانت بعد حادثة (بطليموس لاطير) بأربع وعشرين سنة، وأما كيفية وضع المنازل/داخل المدينة، فهو وإن لم يؤخذ من كلام الأقدمين، لكن يمكن أن يقال أنها كانت تشبه منازلنا الآن، لأن لهواء القطر وطبيعة أرضه، حكما بالنسبة للمساكن الأهلية، فمن المعلوم أنهم كانوا معدين منازل للصيف وأخرى للشتاء، والعادة أن منازل الصيف أفسح وأكبر من منازل الشتاء، وأثر السرايات الموجودة الآن، يدلنا على أن أماكن الملوك وتابعيهم، كانت مميزة عن غيرها بالجسامة والزخارف والميادين، وكانت

ص: 200

منعزلة وبها معابد للعبادة، ومن حيث أنها بحسب نقطتها شديدة الحرارة، فلا يظن أن أهلها يوسعون حاراتها وأزقتها كما يشاهد ذلك فى جميع المدن المشرقية، فإن العادة الجارية عندهم، جعل الحارات الفاصلة للمنازل ضيقة فى جميع البلد، ما عدا اليسير كمواضع التجارة والمواسم، فإنها تكون متسعة قليلا، وقال بعض شراح أميروس: إنه كان بمدينة طيبة ثلاثة وثلاثون ألف حارة، والأرض المشغولة بالبناء مساحتها ثلاثة آلاف وسبعمائة أدور، وكان لها مائة باب، وعدد أهلها سبعة ملايين من الناس، وكان الباب يخرج منه عشرة آلاف رجل، وألف فارس، ومائة عربة حربية متسلحة للقتال، ولا يخفى ما فى هذه العبارة من المبالغة، التى بلغت أوج سماء الكذب، فإن مدينة باريس التى سعتها أكبر من هذه المدينة مرتين، كانت فى سنة 1800 ميلادية لا تشتمل على أكثر من ألفى طريق، ما بين شارع وحارة، ومدينة لوندرة ليس فيها إلا عشرة آلاف حارة، مع أنه لا توجد مدينة الآن أكبر منها سطحا، بل لا يتصور وجود مليون من العسكر داخل مدينة واحدة، فضلا عن وجود سبعة ملايين، فالذى يظهر أن هذا الشارح لم يمعن النظر فى عبارة المؤلف أميروس، بل أخذها بدون تأمل فأخطأ، أو أن عبارة المؤلف المذكور فيها تحريف، والظاهر أن إقليم مصر كله كان يسمى باسم تخت طيبة، كما يؤخذ من قول هيرودوط وأرسططاليس، كما أن اسم مصر الآن يطلق على جميع الإقليم مع التخت، فيحتمل أن تكون السبعة ملايين هى أهالى القطر كما ذكر ذلك ديودور، فإنه قال: إن أهل القطر لا يبلغون ذلك العدد إلاّ فى وقت أعظم عمارته، وكانت الأهالى وقته لا تزيد عن ثلاثة ملايين، فلعل الشارح ترجم لفظة بلد أو قرية بحارة، فإن فى مؤلفات (تيوكريت): أن عدد المدن والقرى بمصر ثلاثة وثلاثون ألفا، والظاهر أن ديودور كان مستندا لذلك أيضا وعلى كل حال لا يخلو كلامه عن المبالغة، فلا بد أنه كتب فى تاريخه كما سمع من الكهنة، وهم إما كاذبون

ص: 201

أو أن هذا العدد لم يكن عدد بلاد مصر وحدها بل مع البلاد الداخلة فى حكومتها من الأقطار الخارجة عنها.

وفى وقت الفرنساوية صار حصر عدد البلاد والقرى فى جميع القطر، فوجد ألفين وخمسمائة، وحصرت أهالى القطر، فوجدت مليونين وثلثمائة ألف نفس، ومسحوا أرضها فوجدوا القابل للزراعة منها ألفا وثمانمائة فرسخ فرنساوى مربع، والفرسخ قريب من مائتين وخمسة وأربعين فدانا مصريا، فمهما بلغت الديار المصرية فى العمارية، لا يمكن أن تشتمل على المقدار السابق الذى ادعاه بعض الشراح، أو نفس أميروس من عدد الحارات والأهالى وخلافهما.

وفى مؤلفات كل من استرابون وتاسيت، على ما فهماه مما هو مرقوم على المبانى، ما يفيد كثرة عدد رجالها الحربية، حيث قال الأول: إن عدد عسكرها مليون من الرجال، والثانى: أنه سبعمائة ألف، ومنشأ ذلك مبالغة الكهنة، والحق غير ما قالاه، فإن ديودور كتب كلاما ربما يلوح منه الحق، فقال:

اطلعت فى زمنى على مائة هادة للخيل موزعة على الشاطئ الغربى للنيل، من منف إلى طيبة، كل واحدة معدة لمائتى عربة حربية، ولعل هذا مراد أميروس الشاعر بقوله: إن المدينة كان لها مائة باب إلى آخر ما سبق، فمما قاله يعلم، أن عربات الحرب لم يكن موضعها مدينة طيبة، بل كانت مفرقة فى جميع جهات القطر، ولا تجتمع فيها إلا فى أوقات مخصوصة.

ثم إن هذه المدينة طالما اشتغل بها أقلام جميع المؤرخين فى جميع الأزمان، ومع هذا لم يذكر أحد منهم وقت ابتداء ظهورها، بل غاية ما قالوا أنها أسست بالآلهة، ومعنى ذلك أنه لا يعلم أول انشائها، وذكر ديودور أن الكهنة كانوا على جهل فى هذا الشأن وقال هيرودوط: إن انشاءها كان قبل الميلاد بنحو اثنى عشر ألف سنة، وذكر أفلاطون تلميذ الكهنة المصريين، وكان

ص: 202

مقيما بهذه المدينة أن المصريين كانوا يعلمون فن النقش والرسم قبله بعشرة آلاف سنة، وقال أرباب الفلك فى زمننا هذا: إنه يستنبط من الآثار الفلكية المرسومة فى البرابى، أنه مضت قرون عديدة على الأمة المصرية، وهى على معرفة بعلوم وفنون شتى، وأنها إحدى الأمم المشهورة قديما، ومن ذلك يعلم أن الوقت الذى أنشئت فيه هذه المدينة سابق على تاريخ الأمة اليونانية بكثير مع أنه وجد فى بعض مبانيها ما هو منقول من مبان سابقة عليها، ويمكن أن تلك المبانى منقوله أيضا من مبان غيرها وهكذا.

وهذا كله لا يعلم منه مبدأ انشائها واتفق الكل على أنها قديمة جدا، وأن ملوك العائلة الحادية عشرة والثانية عشرة، أسسوا فيها حكومة مستقلة عن/ حكومة منفيس، وكان ذلك قبل المسيح فيما بين ألفين وخمسمائة سنة وألفين وتسعمائة، وأنها فى زمن العائلة الثالثة عشرة صارت تختا لجميع الأقطار المصرية، ويظهر أنها قبل أن تكون تختا، كانت مشهورة أيضا بين مدن الصعيد، وبقيت لها شهرتها ألفا وسبعمائة سنة قبل إغارة الهكسوس على مصر، وكذا بعد طردهم عنها إلى آخر ملوك العائلة العشرين، وذلك قبل المسيح بألف ومائة وعشر سنين، وهذا يبين سبب ذكر هيميروس الشاعر لها دون أن يتكلم على منفيس، وأن أوّل ملك أخذ فى بناء المعبد الكبير المجعول للمقدس آمون رآ [رع]، هو الملك أوزرتازان الأول من العائلة الثانية عشرة، وذلك قبل المسيح بألفين وثمانمائة سنة، وكل واحد من خلفائه أضاف إليه شيئا من هذا البناء العجيب، وعلى الأخص فراعنة العائلة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة الذين جلسوا على تخت مصر بعد طرد الرعاة عنها، قبل المسيح فيما بين ألف وثلثمائة سنة وألف وسبعمائة سنة.

وفى تلك المدة كانت منفيس هى التخت، وفى زمن الرمامسة وهم ملوك العائلة التاسعة عشرة والعائلة العشرين، كما فى كتاب منيتون، ظهرت العائلة الحادية والعشرون فى الجهات السفلى من مصر، وجعلوا تخت ملكهم

ص: 203

منفيس، وذلك قبل المسيح بألف ومائة وعشر سنين، وقال بعض المورخين:

إن هذه المدينة لم تكن تختا للديار المصرية خاصة، بل كانت بلاد النوبة والحبشة داخلة ضمن هذه المملكة، وقد كانت مملكة الحبش معدودة من ضمن البلاد التى افتتحها سيزوستريس، وآثار المبانى العتيقة الموجودة خلف الشلال تشهد بذلك، وكذلك كانت الحبش زمن البطالسة تحت حكومة مصر، ويدل له وجود اسم بطليموس أفرجيت، على بعض آثار مبانى مدينة أكسيوم وجميع السياحين الذين وطئوا بلاد الحبش لم ينسبوا لها تمدنا سابقا على تمدن مصر أصلا، بل اتفقوا على أن تمدنها إنما طرأ لها من أهل مصر.

ولا مانع من أن بعض أهالى الحبش هاجر إلى مصر واستوطنها فى الأحقاب الماضية، ويؤيد ذلك أيضا قول ديدور الصقلى، أن وجود صور الحيوانات التى لا توجد إلا فى الحبش، مرسومة على جدران المبانى المصرية أدل دليل على أن المصريين حكموا تلك البلاد، وقال بعض من تكلم على مصر من المؤرخين: أن أول من سكن أرض مصر هم الحبش، وأنهم الذين أورثوها العلوم والفنون وجميع أنواع التقدم، ولا وجه لصحة ذلك، لأنه لو ثبت لوجد فى بلادهم أبنية عتيقة سابقة على مبانى مصر، على أن جميع صور الآدميين المرسومة على الجدران والتماثيل والهياكل، لا نسبة بينها وبين صور العبيد أصلا، بل هى قريبة من صور موتى المصريين المخرجين من مقابرهم، ووجوه التماثيل شديدة الشبه بوجوه سكان آسيا، ولا مانع من أن المصريين كانت أصولهم من آسيا، كما قال بذلك كثيرون ممن لهم علم بالكتابة المصرية القديمة عند رؤيته ما سطر على جدران المبانى العتيقة، ومن زعم أن مصر فى الأعصر الخالية كانت منفردة، لا علاقة بينها وبين ما جاورها من الجهات، وأنها كانت مكتفية فى تجاراتها بالمبادلات الداخلية بين مديرياتها، لا أصل له بل وصولها إلى هذه الدرجة الراقية إلى أقصى الثروة، يقضى بأنه كان بينها وبين الأمم الأخر علائق تجارية وغير تجارية، وما استدل به على

ص: 204

قطع العلائق بينها وبين اليونان والروم، لا يدل على قطعها بينها وبين الهند والعجم، على أن كتب أهالى هذه الديار، تنوه بوقعاتهم فى تلك البلاد، وقد حقق (تاسيت) المؤرخ أن هذه المدينة كانت المركز التى تجتمع فيه محصولات الهند، ثم تتفرق فى البلاد المجاورة كبلاد كنعان وغيرها، وما كانت تسلبه الفراعنة من الجهات التى كانت تحاربها وما يجبونه من الخراج المضروب على تلك الجهات، كان يخزن فى مخازنها، ويجعل قرابين للمعابد المقدسة، وما هو مسطور على جدران المبانى وباق إلى الآن شاهد بذلك، ويدل عليه أيضا أشعار أميروس، ومن تأمل الوضع الجغرافى لهذا الإقليم لا يشك فى ذلك الوضع بين البحرين الرومى والهندى، وجريان نهر النيل فى وسطه، وهو نهر عظيم صالح للملاحة فضلا عن الرى والخصوبة، وهذا هو الذى حمل الإسكندر على إنشائه مدينة الإسكندرية فى الموضع الذى هى فيه الآن، فصارت مركزا لتجارة العالم بأسره، لتلك الأسباب مع ما جدده البطالسة بها من طرق تسهيل أمر التجارة وحفظها، كالخليج الذى حفروه من النيل إلى القلزم، وما فتحوه من الطرق فى الصحارى الشرقية التى بين النيل وعيذاب، وبقيت مسلوكة إلى عهد قريب منا.

ومن ذاك يؤخذ أن المصريين اشتغلوا بالتجارة، وأوسعوا دوائرها وأعملوا فى ذلك كل حيلة، حتى اكتسبوا الفخر والسعادة التى اشتهروا بها، ولم يمنعهم تغلب الفرس على أرضهم، عن الاشتغال بذلك، بل فى زمن (دارابن هستاسب)، أوسعوا دوائر التجارة، وقووا أسبابها بكثرة السفن فى البحر، ولم يمهل هذا الملك مع تجبره الإحتفال بأمر الخليج الذى بين مجرى النيل والقلزم، بل اهتم/به غاية الإهتمام، وفى مدة (افريس) آخر الفراعنة، اتسعت التجارة وبلغت أقصى غايتها، وقبله ابريس وينكوس احتفلا بشأنها أيضا غاية الإحتفال، حتى كانت مدينة منف مركز عموم التجارة قبل الإسكندرية.

ص: 205

وحفر الخليج من النيل إلى القلزم ينسب إلى (ينكوس)، إلا أن سيزوستريس هو أول من اهتم بحفره وهو وإن لم يتممه فقد تمم أعمالا كثيرة بها اتسعت دائرة ثروة القطر، وعلت درجة فخره، فإنه من بين سائر الفراعنة هو الذى اهتم بتمليك الأراضى للأهالى وتوزيعها عليهم، وتقسيم ماء النيل بين جميع النواحى، بترع وخلجان احتفرها لسهولة الرى، ونقل المحصولات من بعض جهات القطر إلى بعضها، ومنها إلى الخارج، وكثرت فتوحاته فى الأقطار الشاسعة، حتى أكسب المصريين اسما، واشتهروا بالسطوة، وسارت بذكرهم الركبان فى جميع الآفاق، وكانت مصر فى وقته فى أقصى درجات العمار، بما أنشأه فيها من المبانى النفيسة والعمارات المقدسة اللطيفة، ومما ذكره ديودور الصقلي يتحقق: أن فتح بلاد الهند كان على يد فرعون مصر هذا، وما قاله من أن هذا الفرعون أهدى إلى المقدس المعبود فى هذه المدينة، سفينة كبيرة مصفحة من خارجها بصفائح الفضة، ومن داخلها بصفائح الذهب، يدل على أن الملاحة فى زمنه كانت من أعظم الأمور، وأنه كان أكد الرغبة فى التجارة عند المصريين، حتى تشبثوا جميعا بأذيالها، ونالوا بذلك من الثروة والرفاهية ما لا مزيد عليه، ثم إن وجود التجارة فى مدته بهذه الدرجة العظيمة، يدل على أنها كانت موجودة من قبله، وأن صناعة الملاحة كانت قبل زمنه معلومه للمصريين، غاية الأمر أنها فى زمنه زادت الرغبة فيها واتسعت دائرتها على حسب اتساع دائرة التجارة والعلائق بينه وبين أهل البلاد المجاورة له، أو بينه وبين من تغلب عليه من الأمم.

ثم إن هذه المدينة كما أنها كانت مركزا للتجارة وخلافها، كانت أيضا مركزا للديانة، فكانت كعبة لجميع المتمسكين بالديانة، يحجون إليها فى المواسم والأعياد والموالد المتتابعة فى السنة، ولا شك أن كل ذلك ينتج اختصاصها بالفخر التليد الذى لم يسبقها إليه غيرها، حتى وصلت طائفة الكهنة إلى أعلى درجات العز وأكثروا المعابد وزينوها بأحسن زينة بسبب

ص: 206

الهدايا والقرابين التى كانت تقدم إليهم، وأحوال مدينة رومة التى هى الآن مركز الديانة العيسوية، تقرب من أحوال هذه المدينة التى كانت عليها فى الأزمان القديمة، فإن كنائس رومة ومعابدها، وما بها من السرايات والقصور التى للطائفة المتدينة، هو نتيجة الهدايا التى تهدى إليهم من جميع بلاد النصرانية، فمدينة طيبة أيام كانت مركزا للديانة فى جميع بقاع الأرض كانت كذلك بل أعظم، وكذا من تأمل مدينة لوندرة وتبع سيرها فى كل مدة ورأى أنها ازدادت سعة وبهجة تبعا لتقدم التجارة، إنما يقيسها بمدينة طيبة وقت أن كانت مركزا لجميع تجارة الدنيا، بل كان تقدم طيبة أكثر بأضعاف كثيرة.

وإذا نظرت لكون هذه المدينة كانت مركزا للديانة والحكومة والتجارة معا دون جميع البلاد، عادلتها برومة ولوندرة معا، ونسبتها إلى درجة عالية، ربما يشك كثير من الناس فى صحتها، فإن قلت حيث أنها كانت بالحالة التى ذكرتها كيف امتدت إليها أيدى الخراب وتقطعت بها الأسباب، وما الموجبات لتدميرها وتمزيق أديم أبنيتها وإزالة رونقها ومحاسنها، وتشتيت أهاليها، وتهدم مساكنها، حتى صارت أدبر من أمس وكأنها لم تغن بالأمس، وما الذى أسرع بتخريب سراياتها المشيدة، وحصونها المنيعة الشديدة، وقصورها العالية، ومعابدها الفاخرة الزاهية، وأين ذهبت سكانها وكيف زال بأسها وسلطانها، وما الذى جردها عن ثياب عزها ومنعتها، وألبسها بعد ثياب العمران جلابيب الخراب، وجعل منازلها الفاخرة تلال تراب مفروشة بأعمدة ضخمة، وقطع أبنية وصخور بعضها غير ملتئم، والملتئم منها لا يدل على ما كانت عليه فى الأصل ولا ما كان الغرض منها، فهل نزل عليها آفة سماوية أهلكتها، أو زلزلت بها الأرض فهدمتها، أو خسف بها وبأهلها أجمعين، فصارت نسيا منسيا فى العالمين.

ص: 207

قلنا كل ذلك يخطر بالبال، ولا يدرى المتأمل فى هذا الشأن ماذا يقال، ولكن إذا تفكر الإنسان فيما مضى من الأمم المتبربرة، وما كان لهم من السطوة على غيرهم، والوقائع التى أعلمتنا التواريخ ببعضها، عرف الجواب بدون ارتياب، فإن من المعلوم أن أرض مصر واد صغير خصب، منحصر بين صحار، وأن الأقوام المعروفين بالبدو، والقاطنين فى أطرافها من الجنوب والشرق والغرب، لا بد أنهم سطوا على هذه الديار كثيرا فى الأزمان الخالية، فأعقب ذلك خراب تلك المدينة العظيمة، وغيرها من سائر المدن التى بجوانبها، على أن هناك بعض أدلة تفيد الجزم بأن ما حصل من الخراب فى أغلب مدن الديار المصرية، ليس إلا من طوائف العرب المستوطنين أرض العرب، هجموا على هذه الديار فخربوا ما بها من العمران، وأكثروا فيها الفساد الباقى أثره إلى الآن/، كما أفاد ذلك المؤرخ (مانيتون) المصرى، فإنه ذكر أن هؤلاء العرب حصل منهم هجوم على هذه الديار، وإن كان تجدد بعد طرد هؤلاء الأقوام بعض ما خربوه من العمارات مدة سيزوستريس وغيره من الفراعنة، والظاهر أن الخراب الذى حصل منهم كان جسيما حتى بقى بعضه وأغلبه إلى الآن.

ومع ظهور مدينة منف وصيرورتها تختا ومقرا للفراعنة، لم تنحط هذه المدينة عن درجتها بالكلية، لأنها كانت فى ذلك الوقت مركزا للديانة، ومقصدا للملوك وغيرهم، يحجون إليها، إنما حصل فيها من غير شك بعض نقص فى قوتها وأبهتها، بسبب ظهور مدينة منف، وتحول أنواع التجارة إليها، هذا وقد حصل من الفرس الإغارة عليها أيضا مدة استيلائهم على الديار المصرية بعد وقعة واحدة، وذلك أنهم دخلوا مدينة منف وحرقوا معابدها وأهانوا ملكها وأهاليها وكهنتها، ونهبوا حلى المعابد، فجردوها من أنواع الفضة والجواهر، بعد أن هدموا ما هدموه وحرقوا ما حرقوه منها، وفعلوا مثل تلك الفعال بهذه المدينة وغيرها، وذلك قبل المسيح بخمسمائة وسبعة وخمسين سنة.

ص: 208

وقد حصل أيضا مثل ذلك من بختنصر حتى أنه أرسل الأهالى إلى مملكة بابل محل ملكه، ثم توالت عليها بعد ذلك الفتن الداخلية من الفراعنة الأهلية بعد نزع تلك الديار من أيدى الفرس، واستيلاء المقدونيين وهم البطالسة، عليها فقد ذكر المؤلف (بوزنياس) أن (بطليموس لاطير)، بعد أن عزل أخاه إسكندر، حاصرها ثلاث سنين بجيوشه، ثم أمر بنهبها وإجراء جميع الموبقات بها، عقابا لأهلها على موافقتهم لحزب والدته، وذلك قبل المسيح باثنتين وثمانين سنة، وقد حصل بعد ذلك دخول الديانة العيسوية، واختصت بالتقدم والأسبقية على الديانة الأصلية فى مدة قياصرة الروم، فحصل للمصريين فى هذه المدة من أبناء الديانة الجديدة، ما أضر بديانتهم وعلومهم وصنائعهم، حتى أخّرهم ذلك عن درجة تقدمهم، وتخربت جميع مدنهم وهجرت معابدهم، لأن عمال القياصرة كانوا على أقل سبب يسطون عليهم، ويخربون منازلهم، ويهدمون مبانيها ويقتلونهم، ومع ذلك فكانت طيبة وقتئذ من المدن الكبيرة، وذكرها بطليموس فى جداوله فى سنة 140 ميلادية، وقال أنها رأس قسم، وفى زمن القيصر تيودوز سنة 389 من الميلاد، تخرب ما بقى من معابدها عندما أمر هذا القيصر بإبطال الديانة القديمة، قال (طيلمون) فى تاريخ القياصرة: إن القيصر تيودوز لم يقتصر على هدم معبد سيرابيس وغيره من معابد الإسكندرية، بل أمر أن تلقى جميع المعابد على الأرض وكذا التماثيل الموجودة بجميع مدن مصر، وما فى القصور والسرايات وبلاد الأرياف، وعلى شاطئ النهر وفى الصحراء، فزالت بذلك الديانة القديمة، وما كان بقى إلى هذا التاريخ من علوم المصريين، وهجرت الكتابة الهيروجليفية التى كانت مودعة فى هذه المبانى، حتى صارت مجهولة.

وفى زمن (أغسطس) أيضا أمر بتخريبها، فخربها عامل له يسمى (غاليومس)، مدعيا أنها مركز للفتنة والفساد، ومن ذاك الوقت انقطع ذكرها

ص: 209

وصارت عبارة عن كفور صغيرة، لا يسكنها إلا الفقراء من الفلاحين واستمرت هكذا إلى وقتنا هذا فبتلك الأسباب ونحوها، نشأ خراب هذه المدينة وغيرها من باقى مدن القطر التى صارت خرابا وآكاما لا يسكنها غير البوم والغربان والحشرات، التى هى ليست مألوفة للإنسان، ولو سار الإنسان فى خراب هذه المدينة على شاطئ النيل ونظر إلى ما بقى من أبنيتها، لعلم ما كانت عليه من العظم، لأنه إذا نظر إلى الجهة الشرقية، رأى آثارا مرتفعة شاهقة، وهى الآثار المسماة الآن بالكرنك، وبين تلك الآثار آثار سراية الأقصر، وتماثيل أبى الهول المرتبة بالانتظام التام، والتماثيل الكائنة على جانب الطريق الموصل للسراية المذكورة، وعلى الشاطئ الغربى للنيل فى مواجهة سراية الأقصر وأبى الهول، سراية القرنة، ومن استمر فى السير على ذلك الشاطئ صاعدا إلى الجنوب، شاهد آثار قبر الملك (أوزمندياس) الذى يعزى بناؤه إلى (رمسيس الأكبر)، المسمى (سيزوستريس)، وبعد ذلك بقليل يرى هيكل ميمون، ثم مدينة أبو، وجميع تلك الآثار عبارة عن بقايا عمارات عظيمة بنيت فى أوقات مختلفة.

وخلاصة ذلك أن فى الجهة الشرقية: الكرنك والأقصر، وفى الغربية:

القرنة وقبر أوزمندياس ومدينة أبو، وحول كل جملة من هذه الآثار أطلال سور، وذلك مما يحقق قول استرابون: أن هذه المدينة كانت عبارة عن عدة بلاد متقاربة، وعلى مسافة مد البصر يرى جزؤها الغربى متصلا بجبل الغرب، وفيه مغارات لا حصر لها كانت مقابر الأهالى، وخلف هذا الجبل على حذاء النيل واد به قبور الملوك إذا ثبت هذا الترتيب فى حافظتك، عرفت أن مدينة أمون التى تسميها اليونان المشترى، جزء من تلك المدينة التى على الشاطئ الشرقى، وأن ما على الشاطئ الغربى هو المدينة المعروفة عند اليونان بمدينة الأموات نيكو بوليس، وهذا على اعتقاد المصريين أن جهة الغرب هى جهة الأموات، فإن قلت كيف/كانت تنقل الأموات من شاطئ إلى آخر، هل كان

ص: 210

ذلك بالمراكب كما فى مدينة القسطنطينية أو بالعبور على قنطرة كما فى مدينة بابل، قلنا: ليس أحد الأمرين متحققا إلاّ أن الظاهر هو الأول، لأنه لو كان عمل على النيل فيما سبق قنطرة، لبقى بعض آثارها إلى الآن، ولا يؤخذ من ذلك أن المصريين كانوا يجهلون عمل القناطر، فإنه وجد على بعض آثار هذه المدينة صورة قنطرة مرسومة.

[معجزات المصريين المعمارية]

فإذا صحبتنا فى السير بين هاتيك الآثار، أطلعناك على كثير منها، فنبدأ أولا بالكرنك فنجد به بابا جسيما مرتفعا ارتفاعا فوق المعتاد، ومع ذلك يظهر للرائى أنه لم يتم، فإذا دخلنا منه وجدنا فى دهليزه أعمدة كثيرة، جميعها واقع على الأرض ما عدا واحدا منها، وحول تلك الأعمدة قطع تشبه التيجان والكراسى، ورأينا فى مواجهة ذلك الباب، بابا عظيما كالأول، أمام الإيوان المسمى بإيوان الكرنك أحد جهاته مهدوم، والصخور التى حصلت من هدمه متراكم بعضها فوق بعض كجبل مزقته الزلازل، وأمام باب هذا الإيوان تمثال قائم هائل الصورة قد سطت عليه أيدى الهوان فأتلفت معالمه، وهو صورة سيزوستريس، والداخل فى تلك العمارة عند التفاته لمشتملاتها يحصل له الدهشة والحيرة خصوصا إذا كان لم يسبق له رؤية مثل هذا الإيوان الذى طوله ثلثمائة وتسعة عشر قدما، وعرضه مائة وخمسون قدما، وله مائة وأربعة وثلاثون عمودا كل واحد مثل البرج، قطر كل عمود أحد عشر قدما، وارتفاعه سبعون قدما، وجميعها موضوعة صفوفا فوق أرض الإيوان، وعليها تيجان ضخمة، محيط الواحد منها خمسة وستون قدما، وفوق تلك التيجان سقف من الصخور منقوش بالكتابة المقدسة العتيقة، وكذا جدرانه وأعمدته، ومن العجيب أن من نظر لهذا الإيوان رأى ما بقى منه فى غاية من المتانة والحفظ، كأنه تم بناؤه بالأمس، مع أنه مضى عليه ما ينيف عن ثلاثة آلاف سنة.

ص: 211

فهل يوجد مبان للآدميين تقاوم بقوتها الزمن وأيدى الناس مثل هذه الأبنية، وهل لغير المصريين مبان من هذا القبيل بقيت على كيفيتها وصورتها الأصلية، ودفعت بقوتها ما سطا عليها من الأقوام المختلفة كالفرس والعرب وغيرهما، ونفذت من غائلة جميع الحوادث الدهرية حتى وصلت لعصرنا، فما كأنها إلا كتب مرسلة من طرف أهل القرون الماضية للقرون الآتية، تخبرهم بما فى إمكان الإنسان أن يفعله، ثم أن الزلازل التى أطاحت وجه باب ذلك الإيوان، لم تؤثر إلا فى الأعمدة الأربعة القريبة من الباب دون غيرها، فوقع منها ثلاثة، وبقى الرابع على حاله حاملا ما فوقه.

فانظر كيف كانت قوة المصريين، وما كان غرضهم من مثل هذا العمل، وما قدر المدة التى استحضروا فيها جميع هذه الصخور، وما مقدار مدة البناء التى بنوا فيها هذا الإيوان، وزعم المؤرخون أن هذا الإيوان كان معدا للجمعيات العامة، وليس معبدا من معابد الديانة، وسيتوس الذى هو (منفتا الأول) على قول شامبليون الصغير، هو الذى ابتدأ فى بنائه، وسيزوستريس الأكبر ابن سيتوس المذكور، هو المتمم له، والعالمون باللغة المصرية القديمة، قرءوا ما على الجدران من النقوش، واتفقوا على أنها وصف وقعات حصلت من سيتوس مع من حاربه، حتى أن من تأملها ولو غير عالم بهذه الكتابة، يرى من غير مشقة رسوم الوقعات، فإن النقاش قسّم الحائط إلى أقسام، وبيّن فى كل قسم منها وقعة بأحوالها، ورسم فى تلك الأقسام صورة فرعون مصر رسما موافقا لحالة من أحواله، فتارة فوق عربة كأنه يضرب الأعداء بسهامه فيوقعهم ألوفا حوله فى هيئات مختلفة، وجعل (مرييت بيك) فى كتابه: طول الإيوان مائة متر واثنين، والعرض نصف الطول، وقال: «إن أقدم ما وجد عليه من خراطيش الفراعنة، خرطوش سيتى الأول، ويقال له سيتوس الأول من العائلة التاسعة عشرة، كان قبل المسيح بألف وأربعمائة وخمسين سنة، وقد وجدت به إشارات، ربما يؤخذ منها أن سيتى المذكور لم يكن هو الذى بناه، وإنما يعزى

ص: 212

بناؤه إلى أمينوفيس الثالث، وكان أولا مسقوفا جميعه، وإنما يدخله النور من شبابيك توجد آثارها إلى الآن، انتهى».

ثم إن النقاش كان يتنوع فى رسم فرعون مصر، فتارة يرسمه وعربته وخيوله كبرج من أبراج الحصون المرتفعة والأعداء فى حذاء ركبتيه، وصدر الحصان مشرف على جيش العدو بتمامه، وتارة يرسمه على هيئة شخص قابض بإحدى يديه على منحرديس من رؤساء جيش العدو، ويده الأخرى متهيئة لذبحه، وتارة يرسمه على هيئة شخص واضع قدمه على عنق أحد الأعداء لينحره، وتارة يرسمه على صورة بحر خلفه الأمم التى استحوذ عليها، وفى قبضته جملة من أمرائهم يفعل بهم كما يفعل بالطفل، وفى نفس النقش يظهر على الأعداء صورة الإطاعة والامتثال، وتراهم أمام جيوشه المنصورة كأنهم يقطعون بأنفسهم غابات بلادهم لتخليص الطريق لهم، وترى صورة الأمراء من جميع الطوائف أمام ركابه فى غاية من الخضوع الامتثال، وكان كل طائفة تؤدى ما يجب عليها/لسدته من التبجيل والاحترام إلى غير ذلك من الأحوال مع غاية إحكام الصنعة ودقتها.

وهذا مما يدل على أن المصريين بلغوا النهاية القصوى فى إحكام صناعة الرسم وغيره، وقد قرأ (مرييت بيك) ما وجده منقوشا على الحائط البحرى للإيوان، فمن مضمونه: أن الملك سيتى حارب عدة جهات من بلاد آسيا، كالأرمنت والعراقيين وعرب الصحارى المسمين قديما بالشاذو، ورأى فى النقوش أن هذا الملك على عربته داخل فى وسط المعمعة، وأن أعداءه وهم الشاذو، منهزمون وسهامه واقعة فيهم، وكأنهم فى انهزامهم يدخلون قلعة كنعانة، ورأى أنه فى وقعة ثانية، يحارب فى بلاد خارو، وأن الأعداء يقعون قتلى بسهامه، وخارو جهة من جهات مصر، وفى وقعة ثالثة يرى أنه يحارب العراقيين المسمين فى اللغة القديمة الرتنو، وأن الأسرى منهم يقدمون إلى مقدسى طيب، وأن الملك بعد نصراته دخل مصر، وأنه مرّ بجملة قلاع، ولما

ص: 213

وصل إلى قلعة بينوم وأمامه الأسرى، قابله أمراؤه المصريون بقرب نهر به كثير من التماسيح، وهنوه بالسلامة، انتهى.

ووجد شامبليون الصغير على أحد جدران الكرنك، عبارة باللغة القديمة دالة على صحة ما قرره من المعانى التى كشف بها الحجاب عن الكتابة المقدسة، وهذه العبارة مكتوبة على صدور طائفة من الأعداء، مرسومة صورهم فى الحائط القبلى للإيوان بكيفية يرى منها أن فرعون مصر يقودهم إلى قدام معبوده، وفيها اسم بلده والأمة التى هو منها، ومكتوب على صدر آخرهم (جودا) ملك، ومعنى ذلك بالعبرانى يهوذا، فإن قلت كيف وجدت هذه الكلمة العبرانيد مكتوبة بالحروف المصرية القديمة، مع أن هذه اللغة ليست بعبرانية، قلنا: لا غرابة فى ذلك، ألا ترى أنّا نكتب بحروفنا العربية كلمات إفرنجية وتركية وهندية وهكذا، وفى ترجمة التوراة أن ملك مصر (سيزاك) الذى هو (سيزونك) المكتوب على حائط إيوان الكرنك، تغلب على القدس، وأخذ الملك (روبعام) أسيرا، ومع هذا يظهر أن ملك مصر استولى على أرض القدس من ضمن البلاد التى تغلب عليها، فقد حصلت موافقة تامة بين المذكور فى ترجمة التوراة، والمسطر على جدران المبانى العتيقة، وما فيهما مطابق لما هو مذكور فى جدول (مانيتون)، وعنده أن فرعون مصر سيزوستريس، هو سيزاك المذكور فى الكتاب المقدس، أو سيزونك المكتوب على جدران المبانى العتيقة، وكان ذلك فى القرن العاشر قبل الميلاد، ومن هنا يؤخذ مبدأ وضع مدد الحوادث التى أتت بعد ذلك.

وقال مرييت: إن على الحائط الجنوبى للإيوان من جهة الخارج، كتابة جديرة بالإعتناء تتعلق بخصوص وقعة حربية فى بلاد فلسطين، حصل فيها نصرة للملك سيزاك، أول ملوك العائلة الثانية والعشرين، وفيها يرى سيزاك رافعا يده كأنه يضرب الأسرى الجاثين تحت أقدامه، وفى جهة الشمال يرى

ص: 214

أمون مقدس مدينة طيب، وصورة امرأة هى رمز للبلاد القبلية، وبيدها جعبة السهام والقوس ودبوس الحرب، وكلاهما واقف أمام الملك، وبقربه نحو مائة وخمسين إنسانا كأنهم ينظرون من قلعة أو مدينة، ويمشون خلف المقدسين، وفى النقوش معنى ذلك أن الآلهة المقدسين، قد جلبوا ما فى البلاد والمدن التى تغلب عليها الملك وفتحها ويهدونها له، وأن فى الخرطوش التاسع والعشرين كما قال (جامبليون) جودا ملك، واستنبط من الرأس المرسوم فوقها أنها صورة الملك (جودا) الذى غلبه سيزاك، ولكن الذى يظهر من مباحث (بركش)، أن اسم جودا ملك ككثير من الأسماء، إنما هو اسم لجهة من بلاد فلسطين، وعلى هذا فلا نجزم بأن هذه صورة (جيرو بعام)، ثم أن المائة والخمسين صورة المرسومة تشير كل واحدة منها لقبيلة من الأمم التى تغلب عليها هذا الملك، وعلى الحائط المتقاطع عموديا مع هذا الحائط لوحة كبيرة فى نهايتها الشرقية عليها قصيدة شعرية، قالها (بنطوور) الشاعر، يمدح بها رمسيس الثانى بعد محاربته للقوم المعروفين بالخيتاس، وفى نفس الحائط رقوم يقرأ منها شروط الصلح بين خيتاس ورمسيس فى السنة الحادية والعشرين من سلطنته، انتهى.

ويوجد فى الكرنك بعد هذا الإيوان، مبان أخر بعضها متخرب وبعضها آيل للخراب، إلا أنها ليست مثله فى الفخامة، ومما يمتاز من تلك المبانى بحسن الكتابة والنقش، المسلة التى على يسار الخارج من الإيوان المذكور، وتنسب إلى ملكة كانت قامت بأعباء الملك نيابة عن أخيها طوطموزيس، وصورتها مرسومة على هذه المسلة كصورة رجل، وجميع العبارات المكتوبة على المسلة متعلقة بهذه الملكة، واسمها فى الكتابة (بنت الشمس).

وإنما رسمت على صورة رجل، لأن شرف الديانة المؤسسة عليه الحكومة، كان مانعا من أن تكتب صورة امرأة على الآثار برسم أنها ملكة، وقال مرييت: أن هذه المسلة تنسب إلى الملكة (هتزو)، من العائلة الثامنة

ص: 215

والعشرين وهى من الملوك المشهورة تستحق الذكر فى أكابر الملوك، وأن هذه المسلة أكبر مسلة صار العثور عليها إلى الآن، فإنها كانت ثلاثة وثلاثين مترا وعشرين جزءا من مائة من المتر، بخلاف غيرها، فإن ارتفاع مسلة عين شمس عشرون مترا وسبعة وعشرون جزءا من/مائة من المتر، وارتفاع المسلة المنقولة من الأقصر إلى باريس، اثنان وعشرون مترا وأربعة أخماس متر، ومسلة رومة التى فى ميدان بطرس، خمسة وعشرون مترا، وثلاثة عشر جزءا من مائة من المتر، والمسلة الموجودة فى ميدان مارى حان، اثنان وثلاثون مترا وخمسة عشر جزءا، فلم تساو واحدة منها هذه المسلة، وكان محورها هو محور المعبد نفسه بالضبط والتحرير، وهذا مما يثبت أن المصريين كانوا يستعملون وسايط ميكانيكية، وعلى قاعدة المسلة سطر أفقى يؤخذ منه أولا أن رأس المسلة كان مكسوّا بالذهب الخالص المكتسب من الأعداء، وربما كان المراد بذلك الكرة التى على رأس المسلة فى صورة هرم صغير، ويؤخذ ثانيا من الدقة والصقل الذى فى الكتابة، أنها كانت جميعها مذهبة، وثالثا أن هذه المسلة والمسلة الثانية المكسورة قد تم عملهما فى سبعة أشهر من ابتداء قطعهما من الجبل، إلى آخر العمل، انتهى.

ثم إذا دخلنا الخراب نصل إلى أمكنة بنيت قبل الإيوان بقرون، فهى أقدم المبانى فى جهة الكرنك، وهى معابد فراعنة العائلة الثامنة عشرة، وهناك فرعون من فراعنة العائلة الثانية عشرة اسمه (أوزورتزان الأول)، كان من أرباب السطوة قبل العرب الذين ملكوا مصر، واسمه منقوش على عمد باقية لم تؤثر فيها حوادث الدهر، وآثار هذه المدة قليلة لكنها مفرحة لأنها تدل على أعمال جليلة فى زمن بعد مدة الأهرام بأعصر عديدة، ومع ذلك فالمؤرخون أطلقوا عليها اسم المملكة القديمة، وذلك بالنسبة للمدة التى أنشئت فيها مبانى طيبة، لأن هذه المبانى كانت قبل الميلاد بخمسة عشر قرنا، وهذه العمد المكتوب عليها اسم الفرعون أوزورتزان، ومسلة عين شمس التى هى من جملة

ص: 216

عمله، كما يدلان على علو درجة المصريين فى الصناعات والعلوم، يدلان أيضا على أنهم فى وقت دخول العرب أرض مصر، كانوا فى أعلى درجة من الثروة والأبهة، وذلك أن هؤلاء العرب لم يتركوا بناء من غير أن يخربوه، فتارة يمحى أثره بالكلية، وتارة تبقى منه بقية، وكان ذلك دأبهم خمسة قرون متوالية، وبعد نزع الأرض من أيديهم حدثت مبان وشيدت سرايات ومعابد فاخرة لم تزل آثارها باقية إلى الآن يتعجب منها كل من رآها، ففى المدة التالية لخروجهم من مصر، حصل الإعتناء والدقة فى المبانى والزينة والزخرفة، وكثرت الرغبة فى الرونق والبهجة، بخلاف المدة التى تلت ذلك، فإن الرغبة كانت فى العظم والمتانة فقط، وهذا بخلاف المعهود الجارى على طريق العادة فى الحرف والصنائع، من أن الرغبة فى المتانة تكون أولا ثم الزخرفة تكون بعد ذلك، والحق أن مدة العظم الأكبر، وهى وقت بناء الأهرام وأبى الهول الموجود تحت الهرم الكبير الذى هو على صورة طوطمزيس الثالث، كانت سابقة على مدة الزخرفة المذكورة، وهذا ينتج أن الناس فى ذلك الوقت كانوا يرغبون فى التعظيم أيضا، لأنه قد عمل إذ ذاك تماثيل هائلة، وأمور أخر مثل المسلة الموجودة فى رومة، فإنها تعزى إلى هذا الفرعون، وكذا سرايته المسماه باسمه، فهذه أبنية لو قورنت بغيرها لفاقته عظما، ما عدا إيوان الكرنك فإنه ليس هناك بناء يقرب منه.

ثم إنه كان بإحدى زوايا هذه السراية، قاعة تسمى قاعة الكرنك، قد نقلت إلى باريس بعد العناء الشديد والمشقة الزائدة، بواسطة أحد السياحين الفرنساوية، ويقال أن (لبسيوس البروسيانى) بحث عنها وكان قصده نقلها إلى وطنه لتحفظ به، ولا تكون عرضة لغائلات الدهر، وعلى جدرانها صورة فرعون مصر طوطموزيس الثالث يقدم قربانا لعدة من الملوك السابقين عليه، وصورا أخر وكلها ملحقة باسمه، فهى أثر من الآثار الجليلة دال على أسماء فراعنة

ص: 217

سابقين على العائلة الثالثة عشرة، فهى بلا ريب عبارة عن سلسلة أجداده، فحينئذ بمساعدة ذلك مع ما هو مذكور فى الملف العتيق المحفوظ الآن بخزانة الآثار بمدينة (تورين) تخت البروسيا، يمكن الوصول إلى ترتيب سلسلة الفراعنة بطريق منتظم، ثم إذا سرنا من إيوان الكرنك نحو الجنوب نجد أبوابا أربعة، بعضها داخل بعض على أبعاد معينة، والثالث منها يقال له: باب هوروس، أحد فراعنة العائلة الثامنة عشرة، وهو ممن جعلوا جل رغبتهم الزخرفة وإتقان الصنعة، فلذا لم يكن أدق من النقوش الموجودة على جدران هذا الأثر إلا أنه يخشى عليه من أيدى الفلاحين، لأنهم يرون أن أخذ الأحجار منه أهون عليهم من قطعها من الجبل، وأخذ الحجارة من الآثار القديمة هو دأبهم فى كل زمن، وهذا هو السبب فى عدم العثور الآن على ما يكمل به تاريخ الديار المصرية، ومع ذلك فقد انكشفت أسماء كثيرة للسياحين كانت مجهولة وأضيفت لما وجد سابقا على أحجار عثر بها الفلاحون، وبقرب هذا الإيوان، معبد باسم المقدس (خونس) الذى جعلته اليونان (هيرقول)، وقد حفر هناك السياح الفرنساوى/المذكور آنفا فأظهر اثنتى عشرة قاعة، على واحدة منها صورة مقدس له سبعة رءوس، ولم يوجد نظير ذلك إلى الآن فى سلسلة مقدسى مصر، فلعله غريب ليس من هذه البلاد، وقد وجد أيضا معبدا قرب سراى الكرنك تحت الأرض، مكتوب عليه اسم ملك من ملوك الحبش اسم (طراكا)، ولعله المعروف فى ترجمة التوراة باسم (ظراش)، ووجد فى معبد خونس المتقدم رسوم تدل على غارة حدثت عقب مدة رمسيس وأن بناءه كان فى مدة من ورث مصر من ضعفاء الفراعنة بعد رمسيس الأكبر الثانى، الذى يشتبه على المؤرخين برمسيس المشهور باسم سيزوستريس، ويقرب من أسماء هؤلاء الضعفاء ما وجد من أسماء عائلة من الكهنة، يظهر أنها تغلبت على ملك الفراعنة وعوضت السلطنة الملوكية بالسلطنة الدينية، وصار بيدها

ص: 218

الحل والعقد، وأقدم هؤلاء الكهنة وضع اسمه بين أسماء الملوك، وهو ما تسميه المؤرخون بالكارتوش، من غير تعرض للقب الملك، ومكتوب فى معبد المقدس أمون: أن اسمه الكاهن الأكبر، وقد استكشف بعض السياحين فى ركن من أركانه، أن هذا الخائن تلقب بلقب الملك فى بعض الأمور، ومن هذا يعلم أن طائفة القسيسين كانت مترقبة لنزع السلطنة من الطائفة العسكرية لتستحوذ عليها، وتكون فيهم سلسلة السلطنة على ديار مصر بعد الرمامسة، فاستعملوا الحيلة فى ذلك حتى وصلوا لمطلوبهم، ثم أنه يشاهد فى المعبد، أثر قدمين عليهما كلمات مكتوبة بالحروف العادية التى كانت تستعملها الأهالى، يستدل بها على أن الناس كانوا يحجون إليه، بل بعضهم استدل بها على أن الحجاج كانوا يأخذون بعض أتربة من الصخرة التى عليها صورة القدمين على سبيل البركة، كما تأخذ الناس الآن بعض أتربة من صخرة فى بلاد الأيرلاندة، لاعتقادهم أن أحد المقدسين دفن فى هذه الصخرة، وهناك امرأة لا وظيفة لها غير حك الصخر وبيع ما تحلل منه على الحجاج، ومهما وجه الإنسان وجهه، يرى آثار سرايات ومعابد وهياكل، وثلاثة أبواب أحدها فى الجنوب والثانى فى الشرق والثالث فى الجهة البحرية، وكلها حول الإيوان الذى فيه مائة وأربعة وثلاثون عمودا، ومسلتان قائمتان فى وسط تلك الأعمدة كاملتان لم ينقص منهما شئ، فعلم مما سبق سلسلة حوادث تاريخ الديار المصرية فى ظرف عشرين قرنا متوالية، ولكنّا لم نعثر على آثار فى الكرنك تدل على حوادث مدة الأهرام أو المدة العتيقة، إنما دلتنا هذه الآثار على أن العرب تغلبوا على مصر، وأقاموا بها خمسمائة عام، ثم أخرجهم منها الفراعنة المعروفون بالرمامسة، وهم فراعنة العائلة الثامنة عشرة، وفى مدة اشتغالهم بطردهم، تأسست سراية طوطموزيس الثالث فى محل المعبد القديم الذى أزالوه، ومن هذه المدة أخذت المبانى فى الرونق والبهجة، ثم فى زمن رمسيس

ص: 219

بنى الإيوان الهائل العجيب المنظر، ونقش عليه وقعات فتوحاته ونصراته، وعقب ذلك استولت على الملك طائفة القسيسين زمنا قليلا، ثم استولت بعدها عائلة من عائلات الملوك، وأغارت على أرض البابليين، وأسر ملك يهوذا أحد الملوك المصريين من هذه العائلة، ثم بعد ذلك هجمت الفرس على أرض مصر فدفعهم عنها فرعونها (اميرتيه)، ثم دخل الإسكندر الذى ادّعى المصريون أنه ابن نكتانيبو، وادعت الفرس أنه أخو (دارا)، ثم استولت البطالسة على ملك الفراعنة، والثلاثة الأبواب التى تقدم ذكرها تعزى إلى هؤلاء البطالسة، وقد وجد اسم القيصر مكتوبا بجانب اسم رمسيس الأكبر.

هذا مجموع ما دلت عليه الآثار المنتشرة حول القرية الصغيرة المعروفة بالكرنك، ومن الزاوية الجنوبية الغربية بتلك القرية تمتد طريق فى طرفها صورة أبى الهول إلى جهة الجنوب، وبعد ألفى متر تقريبا تصل إلى سراية الأقصر، والغالب أن هذه الطريق هى التى كانت تسير فيها المواكب فى المواسم ونحوها، ثم أن صورة أبى الهول كانت عند المصريين السابقين علامة على العظمة والإمارة، ومما ينبغى التنبه له، أنه إذا كانت هيئة رأس الصورة كهيئة رأس الآدمى دلت على السلطنة، وإذا كانت على صورة رأس جمل دلت على المقدس أمون وعلى القدرة الإلهية، وبالقرب من القرية المذكورة، استعوض بدل صورة أبى الهول، كباش على صدورها صورة طوطموزيس الثالث، على هيئة المقدس أوزوريس، وأما الآثار القديمة الباقية من عمائر الأقصر، فإنما توجد داخل بيوت أهل تلك الجهة، بخلاف آثار الكرنك فإنها بجنب البيوت، وآثار الأقصر كآثار الكرنك من حيث أن كلا منهما عبارة عن مبان بنيت فى أعصر مختلفة، لكن آثار الأقصر أقل من آثار الكرنك وتاريخها أبسط، وجميعها منقسم بين المدتين اللتين أقيم فيها مدينة الكرنك، وأقدم ذلك ما بنى فى زمن أمينوفيس الثالث، المسمى عند اليونان ميمون، وتماثيله قائمة فى

ص: 220

الجانب المقابل للنيل، وهذه القرية بناها هذا الفرعون الذى هو من عائلة طوطموزيس/، وما فيها من الكتابة مخصوص بولادته وتربيته فى حماية الإله، ويوجد بجانبها البحرى دهليز من أعمدة نصبها من تولى الملك بعده، مجعولة طريقا موصلا للسراى التى بناها رمسيس الأكبر، وفى هذه العمد تشاهد العظمة والأبهة كما فى إيوان الكرنك، وهذه السراى تشتمل على فضاء سعته ألفان وخمسمائة متر مربع، يحيط به دهليز مغطى، وأمام الباب الموضوع فى أول مدخل لهذا الفضاء، المسلتان اللتان نصبهما رمسيس المذكور، إحداهما قائمة للآن فى محلها، والأخرى قد نقلت إلى أحد ميادين باريس تخت الديار الفرنساوية ثم أن المسلة عند المصريين كانت إشارة إلي البقاء، كما أن أبا الهول كناية عن العظمة والقدرة، ولذلك لا توجد المسلات دائما إلاّ أمام الإيوان ومكتوب على أوجه هذه المسلة العظيمة التى هى قطعة واحدة، ووزنها ثمانية آلاف قنطار، أن رمسيس الثانى هو ابن الشمس ومحبوبها، وهو إله الخير، وملك الدنيا، وقاهر الأمم إلى غير ذلك من الأوصاف الفخيمة، وأنه زين مدينة طيبة بالمبانى الباقية العظيمة، ويوجد قريبا من الباب بجانب المسلة أربعة تماثيل، ارتفاع الواحد منها ثلاثون قدما، وهى صور رمسيس المذكور وقد زحف الرمل عليها ودفن أغلبها، ولم يبق منها إلا الصدر والرأس، ومسطور على وجه الباب فتوحات فرعون ونصراته تقليدا لما فعله والده فى سراية الكرنك، ويعلم من هذه الآثار، أنه حصل ترميم فى هذه المبانى قبل مدة العائلة الثامنة عشرة والعائلة التاسعة عشرة.

ومما يستغرب فى ذلك أن الملك الحبشى الأصل (سابافوو) أجرى مرمة وجهات الباب فى القرن الثامن قبل الميلاد، ثم أن الإسكندر الذى وجد اسمه مكتوبا فى نقوش سراية الكرنك، وجد هنا أنه عمل مرمة سراية الأقصر، يعنى سراية أمينوفيس، وقال شامبليون الصغير: إن الإسكندر هذا هو ابن الإسكندر الأكبر وليس أخاه، ولا يوجد فى الأقصر أثر لليونان ولا للأروام يعنى قياصرتهم.

ص: 221

هذا ما أطلعنا عليه فى البر الشرقى، وبقى علينا أن نطلع على ما فى البر الغربى، فنجوز البحر أولا ثم نصعد إلى الجهة القبلية حتى نصل القرية المعروفة بالقرنة.

وهى من العمارات العتيقة التى تعزى إلى رمسيس، وهى فى العظم أقل من سراية الكرنك وسراية الأقصر، والموجود من هذه السراية بابان منعزلان، وطريق مزين من طرفيه بصور أبى الهول، وإذا وصل الإنسان إلى العمارة، رأى دهليزا طوله مائة وخمسون قدما، وفيه عشرة أعمدة ضخمة، وإيوانا صغيرا على ستة أعمدة، بنى مع بناء الإيوان الذى فى الكرنك، ويعزى الجميع إلى سيتوس وولده رمسيس، والنقوش الموجودة على الجدران، يفهم منها تعظيم فرعون للآلهة الذين وصلة الملك منهم بدون واسطة الكهنة، وهذه العبارة لا توجد فى غير هذا المحل، وهى من المهمّ بالنسبة لتاريخ هذه الأعصر، لدلالتها على تداخل الكهنة فى أمور المملكة، ويؤخذ منها أيضا أن فرعون كان ملكا وكاهنا، وأن الإله كان يخاطبه بقوله: قد وهبناك القوة والعظمة والنصر وغير ذلك، وكثيرا ما يرى الملك وبجانبه المقدس المعبود، وهذا مما يدل على أن الأمر كان مشتركا بينهما.

وقال مرييت: إن عمارة القرنة توجد فى حدود أرض الزراعة فى مدخل الوادى الموصل إلى بيبان الملوك، وكانت مسبوقة ببابين ضخمين لم يبق منهما غير بعض الأحجار، وأنها بنيت مع عمارة معبد أبى دوس المعروف بمعبد سيتى، وكان مقبرة ثم جعل معبدا للمقدس أوزريس نفسه بخلاف معبد القرنة، فإنه للمقدس فيه وهو رمسيس الأول بناه له ابنه سيتى، وكانت العادة فى مواسم معلومة أن يجتمع أقارب الميت ويؤانسوه كمؤانسة الحىّ، فكان أقارب رمسيس يفعلون ذلك، ومع ذلك فقبره ليس بهذا المحل، بل فى بيبان الملوك مع قبور باقى الموتى، والذى عثر على هذا القبر (بلذونى الطليانى)، منذ خمسين سنة، وهو فى الفرع الأيمن من المقابر والذى أتم بناء هذا المعبد هو رمسيس الثانى، انتهى.

ص: 222

[قبر أوزمندياس]

وأما العمارة المشهورة عند المؤرخين بقبر أوزمندياس، فنذكرها لك بأوضح بيان فنقول: إن (ديودور الصقلى) ذكر فى مؤلفاته أن هذه العمارة مقدار أربع عمارات من عمائر طيبة العظام فى السعة، وأنه كان بها دائرة فلكية من الذهب الخالص، محيطها ستمائة قدم، وسمكها قدم، وكان بها أيضا كتبخانة مكتوب على بابها: غذاء الروح.

وقد أنكر كثير ممن لهم معرفة باللغة المصرية القديمة، كون هذه العمارة هى قبر أوزمندياس، وما ذكره (ديودور) من أن الدائرة الفلكية كانت من الذهب الخالص استبعده المتأخرون، لكن (ديودور) قد ساح فى هذه الأرض فى الزمن العتيق، وبنى ما قاله على المشاهدة والعيان، بخلاف المتأخرين فإنهم بنوا كلامهم على الظن بسبب كون هذا الأمر خارقا للعادة، وربما أيد قول الصقلى، عدم المشابهة بين تلك المبانى القديمة الموجودة للآن، وبين المبانى التى تصنع فى وقتنا، فإن بينهما بونا بعيدا، بحيث لا تمكن المقارنة بين أعمالنا وأعمال قدماء المصريين.

وهذه العمارة المعروفة بالقبر، كان جزء منها سراية للسكنى وجزء كان معدا/للعبادة، وقال بعضهم: هى سراية مثل السرايات التى بنيت زمن العائلة الثامنة عشر والتاسعة عشر، على شاطئ النيل، وتلك السرايات عبارة عن عدة حيشان، وأواوين يحيط بها أعمدة هائلة مصوّر عليها فرعون مصر بصور مختلفة.

فتارة على هيئة عابد متلبس بالعبادة، ومرة كأنه يقرب القرابين، وطورا كأنه جالس مع الآلهة وكأن الأهالى تعبدهم، وحينا كأنه يشن الغارة على البلاد ويقهر العباد ويسلب الأموال ويسوق الأسرى وما أشبه ذلك، وفرعون مصر رمسيس مصوّر كأنه جالس على تخت ارتفاعه ثلاثة وخمسون قدما،

ص: 223

وطول قدمه يزيد على اثنى عشر قدما، والصاعد على ظهره كأنما يصعد فوق صخرة من جبل، وإيوان هذه السراية يظهر منه الرونق والظرف والدقة، وفيه ثلاثة عمد فى غاية الحسن تنشرح النفس عند رؤيتها، وعلى أحد جدرانه أسماء أولاده الذكور الثلاثة والعشرين، وأما أسماء بناته الثلاث عشرة، فوجدت منقوشة فى معبد ببلاد النوبة، وفى جهة أخرى من الإيوان كتابة قرئت فوجدت ترجمتها: هذه السنة الرابعة والستون من سلطنته، وفى هذا دليل على طول عمره، وكثرة فتوحاته ونصراته فى البلاد الشاسعة، وكثرة الجهات التى تغلب عليها وأدخلها تحت طاعته، ومنه أيضا يثبت ما قاله مؤرخو الروم وغيرهم، من شهامته وعظيم سلطانه وسطوته، وصورته مرسومة على أحد أبواب السراية والقسيسون يعظمونه ويقربون له تماثيل ثمانية عشر فرعونا من السابقين، من ذلك تمثال منيس مؤسس ملك الفراعنة، وتمثال رمسيس الثانى يعنى تمثال نفسه، وقد استدلوا بذلك على أنه قبل زمنه حصل تغلب ثمانية عشر عائلة على تخت الديار المصرية فى مدة ألفين وخمسمائة سنة من جلوس منيس على التخت، وأن عائلته أولى بالجلوس على تخت آبائه وأجداده.

وقال مرييت: إن هذا القبر يسمى الرمسيوم، ويسمى سراية ممنون، وأن بانيه هو رمسيس الثانى، بناه على نسق ما كان يعمل فى الأزمان السابقة، وكتب عليه صفاته ووقعاته وأحواله، ليطلع عليها من رآها بعد موته إلى آخر الزمان، وكان ذلك جاريا فى كثير من القبور، ففى (بنى حسن) قرئ على بعض أحجار قبورها: أن أمينى أمينمها يقول: إنى لما كنت رئيس المشاة تغلبت على النوبيين، ولما كنت مدير مديرية (صا)، كنت شفوقا على الأرامل والأطفال ونحو ذلك، وقد قرئ على جدران الرمسيوم صفة حوادث تاريخية، ووقعات حربية فى بلاد الشام على شاطئ نهر الأردن، وفى إحدى الوقعات أن رمسيس المذكور يحارب جملة قبائل اسمها العام (حطانين)، وأن المدينة

ص: 224

القريبة من الوقعة هى مدينة (عطيش)، وأن الأعداء محيطة به وقد فارقه رجاله فلم يكترث بهم ولم يبال بجمعهم، وهجم بمفرده عليهم فقتل رؤساءهم وشتت جموعهم، وغرّق أغلبهم فى النهر، وانتصر بمفرده نصرة تامة على جميعهم، وهذه الوقعة مرسومة على الباب الأول للرمسيوم، فتارة يرى فى حالة الهجوم وأعداؤه فى حالة الإنزعاج والخوف، وتارة ترى الأعداء تحت العربات وأرجل الخيول والبعض أصابته سهام الملك وقتلته، وفى لوحة أخرى يرى الملك على تخته والأمراء قد حضروا لتهنئته بالنصر، وهو يوبخهم على فرارهم وتركه بين الأعداء بمفرده، وصورة هذه الوقعة هى التى شرحها (بنطاوور) فى شعره.

وكان تمثال رمسيس المذكور، موضوعا أمام الباب وهو قطعة واحدة من الصخر، ارتفاعها سبعة عشر مترا ونصف، ووزنها مليون ومائتان وسبعة عشر ألف وثمانمائة واثنان وسبعون كيلو غرام، وقد سطت عليها أيدى الزمان فكسرتها، وعلى واجهة الباب فى الجهة المتكئ عليها التمثال صورة وقعة أخرى لرمسيس مع الخيتاس، انتهى.

وعلى بعد قريب من السراية توجد أرض متسعة مغطاة بالحشائش، وقطع شتى من الصخور، بعضها قطع أعمدة وبعضها على هيئة ألواح مستطيلة، منها ما شكله مكعب ومنها غير ذلك، وأغلبها مغطى بالطين والرمل، وهى آثار سراية ميمون الشهير عند المؤرخين باسم أمينوفيس الثالث، أحد فراعنة العائلة الثامنة عشر، وكان لهذه العائلة سراية أخرى فى البر الشرقى من النيل قد هدمت، ولم يبق منها الآن غير التمثالين اللذين فى وسط أرض طيبة أمام باب السراية متقابلين بوجوههما، وارتفاع كل منهما تسعة عشر مترا وستون جزءا من مائة من المتر، بما فيهما من القاعدة وهى أربعة أمتار، وكل منهما حجر واحد، وهما تمثالا الفرعون أمينوفيس المذكور، أحدهما فى الجهة القبلية، وثانيهما بالجهة البحرية، وعنده تمثالان ملاصقان لقاعدته، هما تمثالا أمه وزوجته كما قال (مرييت بك)، وهو الذى له الشهرة العظيمة بسبب الصوت

ص: 225

الذى كان يسمع منه كل يوم عند طلوع الشمس، وكان يعرف عند مؤرخى اليونان بتمثال ميمون، ووجد على ساقه الأيمن، اثنتان وسبعون عبارة باللغة اللاتينية والرومية، بعضها شعر وبعضها نثر، ولا يتمكن من قراءتها إلا بالصعود على درجة هناك سمكها متر واحد، وهذه الكتابة بعضها/كتبه الزائرون لهذا المكان من الأهالى، شهادة منهم بسماع الصوت من ذلك التمثال، ومنها ما كتبه بعض السلاطين والأمراء الذين شاهدوا هذا المحل، وكل من كتب عليه شيئا ذكر اسمه، فمن ذلك اسم القيصر (أدريان)، واسم زوجته (سابين)، ومنها ما لا فائدة فيه يعتد بها، وفى بعض العبارات المكتوبة: أنه اتفق انقطاع الصوت فى وقته الذى يحصل فيه، فاقتضى الحال رجوع بعض الناس عدة مرات لسماعه، وكان حصوله دائما فى فصل الخريف والشتاء والربيع، فلذا كان غالب الكتابة من السياحين الأجانب، لأنها أوقات سياحتهم إلى الآن، وبعض الناس تكلم على سبب هذا الصوت بعد ثبوته بشهادة اثنين وسبعين رجلا ما بين قياصرة وأمراء ثقات، فقال: إن أول حدوثه كان زمن (نيرون) قيصر الروم، وسبب ذلك أن التمثال كان قد انكسر من زلزلة حصلت، فصار يخرج منه الصوت عند طلوع الشمس، بعد أن كان لا يسمع منه شئ أصلا، ويدل لذلك أنه فى مدة القيصر (سبتيم سوير)، أمر بجبر كسره لشدة ميله للديانة، فأصلح فانقطع الصوت منه بالكلية من ذلك الحين وصار لا يزار ولا يكتب فوقه شئ لا شعر ولا نثر، فلم يزده الإصلاح إلا عدم احترام الناس له.

وقال مرييت: إن الزلزلة التى حصل منها هذا الصوت، كانت قبل الميلاد بسبع وعشرين سنة، وبينها وبين إصلاحه الذى انقطع به صوته قرنان من الزمان، انتهى.

ص: 226

والحامل على تسميته ميمون باليونانية، أنه كان فيمن تعرض لأسمائهم (أميروس) فى أشعاره بشجاع مسمى بهذا الاسم، واسم والده (الغلس)، وأن ملكا من ملوك الحبشة سمى بهذا الاسم أيضا، قرأوا أن الديار المصرية: ربما كانت لا تخلو من وجود هذا الاسم فيها، فبحثوا عنه فى جميع جهاتها ونواحيها، فوجدوا فى مدينة طيبة فى المحل الذى به التمثال حارة مسماة (بميمنونيوم) فاختصروه وجعلوه (ميمون) وسموا به ذلك التمثال، ثم أن هذا الصوت إنما كان يحصل من تعاقب حرارة النهار ورطوبة الليل، أعنى فى وقت الغلس، لكن الكهنة لما رأوا ذلك يحصل دائما فى الوقت المخصوص، انتهزوا فرصة تعظيم هذا التمثال على عادتهم فى التمويه على الناس، فقالوا: إن ميمون صاحب هذا التمثال، يقرأ على والدته وهى الشمس السلام كل يوم فى هذا الوقت، وجعلوا ذلك خصوصية لهذا التمثال، ومنقبة يحترم بسببها، وأدخلوا ذلك على الخلق على عادتهم فى أمور الديانة حتى تمكن من عقول الأكابر والأصاغر والعام والخاص، فلما جاء اليونان تلقوه بالقبول واعتقدوه ديانة، فلم يزدد عند الناس إلا تمكنا وانتشارا، حتى صار الناس يزورونه ويتبركون به ويقربون إليه القرابين، وتسارع إلى ذلك الملوك قبل الصعاليك، والأكابر قبل الأصاغر فانظر كيف أسس الكهنة هذه الخرافات التى سارت بها الركبان، ولم يتدبرها أحد من أهل العرفان، وكثيرا ما أدخلوا الأباطيل على عقول الناس، واستمر ذلك فيمن بعدهم جيلا بعد جيل، فلذا تجد المصريين من قديم الزمان إلى الآن، غريقين فى بحار التقليدات، وأسرى تحت أيدى التمويهات، مع أن دخول الخطأ على الإنسان بسبب غيره أكثر من دخوله عليه بسبب نفسه، ومن تنبه عرف ذلك، ولكن نشأت الكافة على الغفلة والتسليم لأرباب الدعوى، حتى صار ذلك كالجبلة لهم، وإذا حصل لأحدهم شك فى دعوى مدع، فلا يتمكن من مخالفته ولا الرد عليه، بل يكون مجبورا على اتباعه، ولذلك كانوا

ص: 227

فى كل زمن عرضة لأن يقوم فيهم أناس يدعون أنهم رجال الله، أقامهم لهدى الخلق وتوصيلهم إلى ما فيه رضاه، مع أن دعوى أكثرهم باطلة.

وليس لهم مقصد سوى تقييد الخلق بقيد الذل لهم، ليستعبدوهم ويستعملوهم فى أغراضهم، ويوجهوهم كما شاءوا، ولما تنبهت الخلق فى أيامنا هذه نوعا، قلّت الدعاوى وقلّ من يتبع مدعيا فى دعواه، وصار من النادر العثور على أناس يقبلون أمرا ويصدقون به قبل وقوفهم على حقيقته، ثم إن مرييت بك قال: إن بين تمثال ميمون ومدينة أبى عمارة قرنة تعرف بقرنة مرعى خلف المقابر القديمة فى فجوة صغيرة من الأرض، وهى من بناء (بطليموس قيلا باطور)، وتممها خلفاؤه من بعده، انتهى.

وأما مدينة (آبو) ففيها عمارات تشبه عمارات الكرنك من حيث أن بعضها معتنى فيه بالإتقان والإحكام أكثر من الإعتناء بالعظم والفخامة، وهو الذى بنى زمن طوطموزيس الثالث على قول (مرييت) وبعضها فيه العظم أكثر من الإتقان، وهو الذى بنى زمن رمسيس الثالث فمن تلك الآثار: سراى بناها رمسيس الثالث المسمى (مبامون)، وهو من الفراعنة أرباب الفتوحات، كأجداده رمسيس الأكبر وسيتوس، وتلك السراى بجوارها معبد صغير لطوطموزيس الثالث، وأمامها سراى أخرى ملاصقة لها تسمى بالقصر ليست من بناء هذا الفرعون، وأقدم هذه المبانى ذلك المعبد الصغير، فإنه بنى فى زمن طوطموزيس الثالث، ومدخله يظن أنه من بناء الرومانيين، وعليه وعلى جدران الحوش يقرأ أسماء القياصرة تيتوس، وأدريان، وانطونان/، والباب الذى يأتى بعده هو من زمن الرومانيين أيضا، وعلى المدخل من أحد جهاته اسم (بطليموس لاطير)، ومن الجهة الأخرى (بطليموس أوليث)، وبعد ذلك حوش فى آخره باب من المبانى الفخيمة، قرأ (مرييت بك) عليه اسم الملك (بطليموس لاطير)، وبتدقيق نظره تحقق له أن بطليموس هذا كان قد محا اسم

ص: 228

الملك (نيكتانيبو) من هذا المحل، ووضع اسمه مكانه، و (نيكتانيبو) هو من العائلة الثلاثين قبل المسيح بثلثمائة وخمسين سنة، كما أن نيكتانيبو كان قد محا اسم الملك (طهراقا) من هذا المحل، ووضع اسمه مكان اسمه، وطهراقا هو أحد ملوك الحبشة من العائلة الخامسة والعشرين قبل المسيح بستمائة وثمانين سنة، فأولا كان الاسم لطهراقا ثم كان لنيكتانيبو ثم كان لبطليموس، هكذا استدل مرييت من آثار النقوش، ثم إذا نفذ الإنسان من هذا الباب يكون فى حوش آخر، وهناك يقرأ اسم طوطموزيس الثانى، وطوطموزيس الثالث، واسم الثالث مكرر أكثر من اسم الثانى، وبعد ذلك اسم (بطليموس فيسكون)، ثم أسماء من أعقبه على تعاقب الأزمان، فانظر كيف تتعاقب القرون والأمم والعائلات مع حفظ أخبارهم، وهل بغير الآثار القديمة، والكتابات العتيقة، كان يمكننا أن نتوصل بأفكارنا إلى ما علمناه بواسطتها.

وقبل أن يكشف (شامبليون) الغطاء عن غامض هذه الكتابة، كانت جميع المبانى السابقة معدودة من المبانى المصرية، لكن من غير تعرض لأوقات حدوثها ولا من حدثت فى أيامه، فبهذه الآثار الجليلة، تحصلنا على معرفة ما بنى فى زمن كل أمة وكل عائلة، ووقفنا على حقيقة عمل كل إنسان من كل طائفة، فمتى نظر القارئ إلى الحائط وتأمل الخرطوش، عرف من تنسب إليه العمارة من الفراعنة، والعائلة التى ينسب إليها وإن كان من الأغراب الذين أغاروا عليها، عرف بلده ووقته، فالعارف بهذه الكتابة إذا نقل نظره من حجر إلى آخر، ومن صورة إلى أخرى من كل بناء أو تمثال، كان كمن بيده كتاب ينظر فى أسطره ويقلب نظره فى صفحاته، فيقف على حقيقة الغرض منه، فالمسلات إشارة أو أحرف من كلمات، والصور والتماثيل كذلك، وربما كان المبنى نفسه إشارة أو حرفا من كلمات أيضا، فانظر كيف كان المصريون ومعارفهم ورموزهم وإشاراتهم التى لا يفهم معناها، ولا الغرض منها كل أحد.

ص: 229

وأمّا السراى المسماة بالقصر، فكانت مسكن الفرعون رمسيس الثالث، وهو من ذرية رمسيس الأكبر، وكان من أصحاب السطوة كجده وله فتوحات عظيمة، وهى من أحسن مبانى الديار المصرية، قال مرييت: ولها حوشان مربعان، وجدرانها متماثلة وتميل كلها إلى مركز واحد، وزينتها وتفاصيلها تدل على أنها كانت مسكنا ملوكيا، وفى داخل أودها يرى الفرعون رمسيس فى أحواله المنزلية وحوله عائلته، وإحدى بناته تناوله الأزهار، وهو يلعب الضامة أو الشطرنج مع امرأة، ويتناول من أخرى فواكه وهو يبدى لها التشكر على صنعها، ويؤخذ من ذلك أن هذه الألعاب كانت موجودة فى الأزمان السالفة، وقد وجد فى بعض المقابر حجارة الشطرنج ورقعته، وهذا مؤيد لقول أفلاطون: أنه من مخترعات طوط، يعنى إدريس عليه السلام، أو هرمس الهرامسة، قال مرييت:

وفى هذه العمارة الفخيمة قد نقشت فتوحات رمسيس هذا، فعلى جدران المدخل يرى رمسيس كأنه يقدّم الأسرى إلى المقدسين، ومما يستغرب من ذلك أن النقاش بيّن فى نقوشه حقائق طوائف أسراه بألوانهم وهيئآتهم على وجه لا خفاء فيه، فالناظر فى النقوش يميز كل طائفة من طوائف سكان آسيا وبلاد لبيا والسودان وغيرهم، ممن دخلوا تحت طاعته، والباب الشرقى يصل إلى حوشين صغيرين مربعى الشكل، وهناك يرى أن النقاش اجتهد فى تصوير أجناس الأسرى، ففى جهة الشمال صور أسرى آسيا، وفى جهة الجنوب صور أسرى بلاد اللبيا والنوبة، وعنون أسرى آسيا بقوله: أولا: المحقر المأسور بالحياة رئيس الخيتاس، ورسمه بوجه كامل بدون لحية، وجعل فى أذنيه أقراطا، وعلى رأسه قلنسوة يبدو من تحتها شعر رأسه مرسلا على ظهره، وثانيا:

المحقر رئيس بلاد أمارو، ورسم وجهه متطاولا وبه لحية مذبذبة كحد الدبوس، وثالثا: رئيس الطخارى وجعل برأسه طاقية مخروقة الوسط بوجه كامل بلا لحية، رابعا: بلاد شردينا الكائنة بالبحر وجعل على رؤسهم بيضة من نحو

ص: 230

نحاس وفوقها كرة، خامسا: رئيس الشاذ، وسادسا: بلاد ترسا من بلاد البحر، سابعا: بلاد كا، وأسرى بلاد آسيا والنوبة قد حصل فى صورهم بعض تلف، فيرى فى صورة النوبيين، أولا رئيس النوبيين المحقر، وتقاطيع وجهه كتقاطيع العبيد، والصورة الثانية والثالثة تالفتان غير ظاهرتين، والرابعة رئيس الليبيو أى الليبيين له لحية مذبذبة وشعره مرخى بجنب أذنه، والخامسة رئيس بلاد ترس من النوبة بأنف منحن وقفطان له شراريب، والسادسة رئيس بلاد مشوش، والسابعة رئيس بلاد طروا وهذا الأخير مع الأول والثالث والخامس هم رؤساء/ الأمم النوبية المختلطة فى الرسم مع الليبيين.

وفى هذه السراى لا يوجد إلا خرطوش رمسيس الثالث، كما أن الرمسيوم لا يوجد فيه إلا خرطوش رمسيس الثانى، وقال مرييت بك أيضا: أن باب معبد آبو من المبانى الفخيمة، ومن نقوشه يفهم أن رمسيس الثالث فى السنة الحادية عشرة والثانية عشرة من جلوسه على التخت، حارب الليبيين ومن تعصب معهم من أهالى الشام وجزائر البحر الأبيض، وأنه انتصر عليهم، فعلى واجهة الباب من الجهة الشمالية، يرى كأنه يضرب بدبوسه الأعدء جاثين على الركب، والمقدس أمون ارمشيسر يناوله بلطة الحرب، ويقول: قد وجهت وجهى إلى جهة بحرى، وأريد أن تكون بلاد كنعان تحت قدميك، وأن جميع أمم تلك الجهة التى لم تدخل فى حكومة مصر، تهدى إليك فضتها وذهبها وجواهرها، وأوجه وجهى إلى جهة الشرق، وأريد أن بلاد العرب تهدى إليك بهاراتها وبخورها وأخشابها الثمينة وسائر محصولاتها، وأوجه وجهى إلى جهة الغرب، وأريد أن سكان بلاد (تهنو) تهدى إليك مدائحها.

ولم يوجد أحسن من حوشه الكبير، وما اشتمل عليه من النقوش والآثار، وفيه تمثال هائل لرمسيس متكئ على أحد الأكتاف، والصور الموجودة هناك هى تماثيل رمسيس فى صفات أوزريس، فإذا كان الإنسان فى الحوش

ص: 231

الثانى، كانت الواجهة الأمامية للباب أمامه، وعلى وجهها القبلى فى جهة منه صورتا المقدس آمون وموت، وفى الجهة الأخرى صورة رمسيس يقدم لهما الأسرى على ثلاثة صفوف.

الصف الأسفل من القوم المعروفين بالبرساطة أو بردسطا، وربما كانوا هم الفلسطينيين أجداد القوم الذين جاءوا بعد ذلك واستوطنوا حدود مصر، والوسط من القوم المعروفين بتعناو ونه، والأعلى من قوم يعرفون بشكرشا، وجميع هؤلاء الأقوام من سكان سواحل البحر الأبيض، أو سكان جزائره تعصبوا مع أهل آسيا على مصر، فحاربهم رمسيس وانتصر عليهم فى البر والبحر، وفسر العالم (دوجير) الفرنساوى النقوش التى على الجانب البحرى، وقال: إن ألقاب الملك رمسيس الثالث كلها فى الخمسة عشر سطرا الأول، وبعد ذلك أسماء القبائل المتعصبة عليه الداخلة فى الحرب، فمن بلاد آسيا الخيطا، ولعطى، وقرقسكا، وعرطو، وعرصا، ثم جملة أخرى من غيرها وهم برساطه، وتكاره، وشكاشه أو شكرشا، وتعناوونه، ووسكاشه، وهؤلاء من سكان البحر الأبيض، وجميعهم أعنى الأولين والآخرين، اجتمعوا فى محل بأرض الشام ليس معلوما، ففى الوقعة الأولى انتصر رمسيس على جميعهم، وفى الوقعة الثانية وكانت فى البحر أكمل تشتيتهم وبددهم تبديدا، وتخلصت مصر بهمة هذا الفرعون، من هؤلاء القوم العادين، وحفظت حدودها التى كانت لها مع مملكة آسيا.

وبالدخول من الباب يتوصل إلى الحوش الكبير، وهو من أحسن ما تركه المصريون من الآثار، فإن جهاته الأربع مزينة بدهاليز، ومكسوة بالنقوش ذات الألوان الجميلة، ويسبق الدهليزين البحرى والقبلى أعمدة ضخمة، والشرقى والغربى، سقوفهما على أكتاف تستند عليها صورة الملك، وفى وسط الحوش أعمدة ملقاة على الأرض ما بين صحيح ومكسور، ويظهر أن هذا الحوش جعل كنيسة فيما بعد حين كانت مدينة آبو مسكونة بالقبط، والنقوش التى على

ص: 232

جدران الدهاليز الأربعة كثيرة جدا يعجز الإنسان عن الإحاطة بمشتملاتها ورموزها، فمنها على شمال الداخل، رسم صورة حرابة وفيها الملك كأنه على عربته يجول فى المعركة بين صفوف الأعداء، وهم من الليبيين، ويرى فى الرسم أن بعضهم يقع فوق بعض، وعلى الواجهة الجنوبية رسم الملك ورؤساء جيوشه يقدمون إليه الأسرى، ويقرأ فى النقوش أن الأحياء من الأسرى ألف، والأموات منهم ثلاثة آلاف، وبقرب ذلك كتابة مما يتعلق بهذه الوقعة، لكنها ممحوّة لا يمكن قراءتها، وفى لوحة ثالثة يرى الملك فى دخوله مصر، وأمامه فرق من الأسرى مكبلين فى القيود وحولهم العساكر، ولوحة رابعة فيها دخوله طيبة، وهو يقدم الأسرى إلى المقدسين.

ورسوم هذه الوقعات إنما هى فى أسفل الواجهة الشرقية والجنوبية والشمالية من الحوش، وأمّا ما فى أعلاها فقد وصفه (جامبليون) فقال: أن رمسيس خارج من سرايته، محمولا فى محفة مزينة بأنواع الزينة على أكتاف إثنى عشر رئيسا من أمرائه، وتاجه مزين بريش النعام وهو فى أبهته وملابسه الملوكية جالس على تخت مزين بتماثيل العدل والحق، وهما تمثالان من الذهب لهما أجنحة منشورة كأنها تظله، وفى جانبى التخت صورة أبى الهول، وهى علامة العقل والقوة، وصورة السبع وهى علامة الشجاعة، كأنهما يحفظانه، وكأن كثيرا من أمرائه يروّحون على وجهه بالمراوح وبقربه أطفال من أولاد الكهنة، يسيرون بسيره، ويحملون قضيب الملك وجعبة السهام، ونحو ذلك من لوازم الملك، وخلف المحفة تسعة من عشيرته الأقربين مع بعض أمرائه يمشون صفين، وبعد ذلك يأتى باقى أقارب الملك وعائلته/، ومنهم جملة متكهنون، ثم ابنه البكرى، وبعده رئيس الجيوش يطلق البخور أمام الملك، وغير ذلك عساكر تحمل كرسى المحفة وسلاليمها، وبعدهم فرقة من العساكر فى آخر الموكب، ومثلهم أمامهم، وأمام الجميع تخت الآلاتية، مشتمل على المغنين والطبل والمزمار والكاس وأهل الألحان، ولمّا دخل

ص: 233

الملك معبد هورس وقرب من المحراب، أطلق البخور، وقد حمل اثنان وعشرون من الكهنة تمثال المقدس على تخت، وجعلوا يطوفون به فى وسط جملة مراوح وغصون من الأزهار، ويرى الملك واقفا على قدميه تعظيما للمقدس، وعلى رأسه تاج البلاد السفلى وهو يمشى أمام التمثال خلف العجل الأبيض، المعتبر أنه التمثال الحى (لآمون هودوس) أو (أمون را) زوج أم المقدس، وكان أحد الكهنة يبخر العجل، وترى زوجة الملك فى أعلى الرسم كأنها من المتفرجين، ووقت قراءة أحد الكهنة الدعاء بصوت مرتفع، هو حين مجاوزة نور المقدس عتبة المعبد، وحينئذ يتقدم تسعة عشر كاهنا يحملون أمتعة المقدس، كالمواعين وأدوات العبادة، وسبعة على أكتافهم تماثيل أسلاف الملك يمشون بها، ثم يأتى أربعة طيور هى الحراس أولاد أوزريس الحافظون للأربع نقط الأصلية، فيرسلهم رئيس الكهنة فى الأفق لكى ينشروا فى أربع جهات الدنيا، أن رمسيس قد لبس تاج الملك على الجهات العليا والسفلى، وقال شامبليون أن منتهى العبارة يبين حال الملك وهو يؤدى الشكر لمقدس المعبد وأمامه جميع الكهنة وأهل بيته، ويرى أنه يحش جرزة من القمح، ثم يلبس المغفر بمثل حال خروجه من السراى، ويستأذن من المقدس فى الإنصراف ويدخل المقدس فى محله، وفى كل ذلك تحضر الملكة زوجته، ويتوسل الكاهن بالآلهة، ويناديهم واحدا واحدا، وتقرأ صلوات طويلة، ويقوم بقرب الملك العجل الأبيض وصور أجداده.

وقال مرييت بك أيضا: وقد حاولت إخراج الأتربة المغطية للجهة الغربية من الحائط حتى كشفتها، فوجدت النقوش التى عليها متعلقة كلها بالديانة، وأمّا ما على الحائط القبلية من خارجها، ففيه بيان الأعياد والمواسم السنوية التى كانت جارية فى هذا المعبد، وعلى الحائط الشمالية عشرة ألواح، يظهر أنها فى خصوص واقعة حربية كانت فى السنة التاسعة من سلطنة رمسيس

ص: 234

المذكور بينه وبين الليبيين والقوم المعروفين (بالتكارو)، ففى اللوحة الأولى يرى الملك وعساكره، كأنهم يسيرون متسلحين بآلات الحرب، وفى اللوحة الثانية يرى التحام الحرب، ونصرة المصريين على قوم من الليبيين يعرفون (بتماهو)، وأن الملك يحارب بنفسه، والقتلى كثيرة بين يديه، وفى الثالثة أن عدد القتلى إثنا عشر ألفا وخمسمائة وخمسة وثلاثون، وفى الرابعة مقالة من الملك، خطابا للعساكر ورؤسائهم، وكأن العسكر تحت السلاح مستعدون للسير ثانيا إلى العدوّ، وفى الخامسة سفر العساكر، ومقالات فى مدح الملك وشكر المقدسين، وفى السادسة حرابة مع التكارو وفيها النصرة للمصريين، والملك يقاتل بنفسه والأعداء طرحوا حوله، وهو يهجم على معسكرهم، والنساء والأطفال يهربون على عربات تسحبها الأثوار، وفى السابعة يرى سير الجيش فى بلاد بها السباع كثيرة، وأن الملك قتل منها سبعا وجرح آخر، والغالب أن هذه الأرض التى قتل فيها أمينوفيس الثالث مائة سبع وعشرة، فإنه قد وجد على صورة جعل، موجودة فى خزانة المتحف ببولاق، أن أمينوفيس يفتخر بقتل هذا العدد بيده فى العشر سنين الأول من سلطنته، وفى الثامنة وقعة بحرية، بقرب الساحل فى مصب نهر، وأن مراكب (التكارو) يساعدها مراكب سردينيا وقد هجمت على مراكب المصريين، والتحم الحرب بين الفريقين، ورمسيس فى البر ومعه الرماة يذب عن مراكبه، وفى التاسعة يرى سير الجيوش إلى مصر فى رجوعهم من هذه الواقعة، وقد وقف الملك فى حصن مجعول لعد القتلى بتعداد الأيدى المقطعة من أجسادها، والأسرى تمر أمامه، وهو يلقى مقالة على أولاده ورؤساء جيوشه، وفى العاشرة دخوله طيبة، وأداؤه الشكر للمقدسين، وفيها مقالة تتعلق بالمقدسين، ودعاء الأسرى للملك، وطلبهم منه الرفق بهم وإبقاءهم على قيد الحياة ليذكروه بالشجاعة إلى آخر العمر. انتهى مترجما من كتاب مرييت بك.

ص: 235

[مقابر الأموات]

وهذا آخر ما أردنا ذكره من الكلام على ما بقى فى مدينة طيبة، من آثار مساكن الأحياء، فيجب أن ننتقل إلى التكلم على مقابر الأموات، أو مدينة الأموات حسبما كان يسميها به مؤرخو اليونان، فنقول: إن هذه المقابر كانت قريبة من المدينة، وكان كل من دخلها لا يكاد يبرح منها، فلذا كانت دائما آخذة فى الزيادة، وطيبة آخذة فى النقص، حتى اعترى طيبة الخراب دونها، وكان المصريون يعتقدون أن الروح لا تفارق الجثة ما دامت باقية، فبذلوا جهدهم فى اتخاذ قبور لا تغيرها الأيام، فالفراعنة الأول أحدثوا الأهرام، ومن جاء بعدهم اختاروا الجبال، فحفروا فيها مغارات واتخذوها قبورا خوفا من أن يسطو الدهر على الأهرام، فيدمرها ويخربها فمقابر/الأمراء والأعيان، فى الجبل الكائن فى مقابلة طيبة من جهة الغرب، ولا يعلم فى أى موضع كانت تدفن الفقراء والأهالى، هل فى موضع من الجبل غير هذا لم يصر فتحه، أو فى جبل غير هذا، وكانت قبور الفراعنة بعيدة عن الأحياء مخفية عن الأعين، ومن أراد الوصول إليها يفارق الجبل الغربى، ويدخل واديا قفرا كأنما هو صورة الموت نفسه، فيجد جبلا جعلت هؤلاء الفراعنة قبورها فى صخوره، كل قبر منها كناية عن سراى مشتملة على عدة قاعات، أو منقسمة إلى طبقات بعضها فوق بعض، يدخل إليها من دهاليز ضيقة، وفى داخلها الكتابات الملوّنة بالألوان النضرة من دون أن يعتريها عوارض الدهر. وقال مرييت بك: إن الإنسان إذا أراد الوصول إلى مقابر بيبان الملوك، فبعد أن يتجاوز معبد القرنة، يرى فى حال سيره على يمينه تلولا بها حفر كثيرة، وهى المعروفة عندهم بذراع أبى النجاء، وهى أقدم مقابر طيبة، وبها قبور العائلة الحادية عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة، وأن قبر الملك (أنتيف) من العائلة الحادية عشرة، كان فى هذا الموضع، والجرن الذى كانت به جثته، يوجد الآن فى باريس، وبهذا الموضع أيضا قبر الملكة (عاهوتيب) وقلائدها ومصاغاتها التى عثر عليها هناك، هى الآن فى خزانة التحف ببولاق، ويظهر أن الإهتمام فى

ص: 236

تلك المدة لم يكن بالمقابر بل بالموميات، ثم يصعد إلى جهة الجنوب، فيصل إلى (العصاصيف)، وهو محل أرضه حجرية، وبه قبور بعض ملوك العائلة التاسعة عشرة، والثانية والعشرين، والسادسة والعشرين، ويظهر من حال تلك القبور، أن الإعتناء فى زمن هؤلاء العائلات كان بالمبانى الظاهرة، وأن مومية الأموات لم تكن فى قاع آبار كما فى مقابر (صقارة)، بل كانت تدفن فى الأرض على عمق متر أو مترين، انتهى.

وفى خراب العصاصيف، باب من الصخر مكتوب عليه أن بانيته الملكة (راماكا)، أخت الملك طوطموزيس، المكتوب اسمه على مسلة الكرنك، وقد مسح طوطموزيس اسم أخته، وكتب اسمه مكان اسمها، بدليل أنه بقى بعد مسحه علامة التأنيث آخر كل كلمة، وكانت هذه العلامة مجهولة إلى أن كشفها شامبليون الصغير، ومن ذلك الوقت نسبت العمارة لصاحبتها التى لم يمسح أخوها اسمها إلاّ لأسباب سياسية أوجبت بينهما الشقاق والنزاع، وبقرب العصاصيف يوجد قبر مركب من ثلاث طبقات، وهو أوسع القبور مساحته عشرون ألف قدم مربع، ومن النقوش التى وجدت فيه استدل على أنه قبر كاهن اسمه (سبتيموس)، وهو فيه بمفرده، ولم يذكر فى النقوش غير اسمه واسم أمه، ولا يوجد فيما أظن أحد من الناس يشغل قدرا من الأرض بعد موته كما شغل هذا الكاهن، ويقوى ذلك ما قاله هيرودوط أن المصريين كانوا لا يهتمون ببيوت الحياة اهتمامهم بقبورهم، لعلمهم أن مدة الحياة قصيرة وعما قليل يتركونها، فكانوا يحفرون قبورهم فى الجبال، ويعتنون بشأنها لطول زمن الإقامة فيها، ولهذا لا يوجد منزل من منازل العائلات القديمة، وإنما توجد قبورهم بكثرة.

قال مرييت بيك: وبعد مجاوزة العصاصيف، يتوصل إلى الشيخ عبد القرنة، وقرنة مرعى، وهما محلان فيهما قبور بسفح الجبل، أبوابها مرتفعة تشاهد من بعد، والقبور فى تفاصيلها تشبه قبور صقارة وبنى حسن، وهى عبارة

ص: 237

عن أود منحوتة فى الصخر شبه الزاوية التى يجتمع فيها الأحياء فى المواسم، وفى الأودة سرداب يتوصل منه إلى الميت، والنقوش التى بها تدل على الأحوال المنزلية، ففى قبر أمير يعرف (بهؤى)، من أمراء العائلة الثامنة عشرة نقوش قد تلف بعضها وهى مما يعتنى به، فمن مضمونها أن (هؤى) كان قد تقلد حكمدارية النوبة والسودان، فلما ذهب إليها قابله أقوام كثيرة بالتعظيم والإجلال، بعضهم سود الألوان مع انفتاح، وبعضهم كذلك لكن بتقاطيع أهل المغرب، وبعضهم بيض الألوان شبه المصريين، ومعهم نساء بيض الألوان، وكأنهم يهدون إليه زرافات وأبقار قرونها تنتهى بأشكال أيدى الآدميين، وأقراطا من الذهب، وسبائك من النحاس، وجلود حيوانات وحشية ومراوح بنصابات طويلة وريش نعام، ويرى فى لوحة أخرى، أن (هؤى) رجع من بلاد الرتنو (العراقيين) وأن الملك جالس على تخته وهو أمامهم، يقدم له رسل هؤلاء الأمم، وعليهم ملابس شبه القفاطين الملونة، وعبيدهم ما بين أحمر وأبيض لا يسترون إلا أوساطهم، ولحاهم جميعا مذبذبة كالقدوم، وهم يقدّمون إلى الملك خيولا وسباعا وسبائك من المعادن، وأوانى من الذهب والفضة دقيقة الصنعة، قال: ثم ينعطف الإنسان إلى مقابر الدير البحرى، وفى طريقه يدله الخبراء على قبر (بيتا منيوفيس)، ويلزم لداخله أن يكون معتادا على شم خرء الوطواط لكثرة ذلك فيه جدا، وفى النهاية الغربية للعصاصيف يوجد أقدم مقابر العائلة السادسة والعشرين، وأحدث مقابر خلفاء الإسكندر، والمعبد الذى فى الدير البحرى، إنما بنى لبقاء ذكر الملكة (هتزو)، وعلى جدرانه نقوش تدل على أن هذه الملكة سميت بأسماء مختلفة بحسب كونها فى الملك مع أخويها طوطموزيس الثانى والثالث، أو كونها بطريق التوكيل عن طوطموزيس الثالث/، أو كونها ملكة مستقلة، وإلى الآن لم تفسر تلك الأسماء، وهذا المعبد ليس على شكل المعابد المصرية، فيرى فيه طريق مهدمة كلها كانت مزينة بصور

ص: 238

أبى الهول، ومسلتان لم يبق إلا كرسى كل منهما، وهما عبارة عن حيشان بعضها فوق بعض، ويتوصل من أحدها إلى الآخر بمزلقانات، ويظهر أنه قد اتخذ مقابر من ابتداء العائلة الثانية والعشرين، وفى إحدى أوده وجدت الموميات مرصوصة بعضها فوق بعض إلى السقف، فطبقاتها السفلية من زمن العائلة السادسة والعشرين وما فوقها من زمن اليونان، والنقوش التى عثر عليها تتعلق بحروب حصلت فى تلك المدة ببلاد العرب، وأن العسكر بعد انتصارهم جلبوا معهم هدايا وأسرى وأموالا كثيرة، وبعد ذلك يصل إلى بيبان الملوك، وفى فرع منها قبور العائلة التاسعة عشر من الفراعنة والعائلة العشرين، وفى فرع آخر قبور العائلة الثامنة والعشرين، والسياحون يتفرجون عادة على الأولى، وبينها وبين العصاصيف ستة آلاف متر، فى طريق وعرة خالية من النبات، وجميع القبور منحوتة من الصخر وتتركب من دهاليز عميقة مع ميل وانحدار، وقبر الملك مقفل بحائط، والأرض حوله مستوية بحيث لا يعرف أين هو ولا أين بابه بخلاف ما تكلمنا عليه من القبور السابقة، وهناك محلات جسيمة معدة لجمعيات الأحياء، والذى عثر عليه من القبور لغاية سنة ألف وثمانمائة وخمس وثلاثين ميلادية، أحد وعشرون قبرا وباستمرار الحفر بلغت إلى الآن خمسة وعشرين، بعضها لأمراء من بيوت الملوك وغيرهم، ويؤخذ من كلام استرابون أن مقابر الملوك منحوتة فى الصخر شبه مغارات وأن عددها أربعون قبرا، فعلى كلامه ربما يوجد باقيها باستمرار الحفر، لكن إذا فرضنا أن استرابون لم يدخل فى هذ العدد مقابر وادى الملكة، فينبغى ملاحظة أن الملوك الأول من العائلة الثامنة عشرة لم يدفنوا فى بيبان الملوك، وأن المدفونين هناك أولهم أمينوفيس الثالث، ومنه إلى الآخر من العائلة العشرين صاروا معلومين لم يفتنا منهم إلا الملك (هودوس)، وزمن هذا الملك غير محقق، والغالب على الظن بفرض أنه هو الآخر من العائلة الثامنة عشرة أن قبره

ص: 239

يوجد فى الوادى الغربى مع قبور الملوك القريبين من عصره، فاللائق حينئذ الحفر فى الوادى الغربى الذى هو وادى الملكة، لا فى وادى الملوك، ثم أن أعظم جميع هذه القبور وأشهرها، هو قبر (سيتا الأول)، وقد استكشفه السياح (بلزونى) منذ خمسين سنة، وعند فتحه وجد به أمارات تدل على أن غيره عثر عليه قبله، وفيه نقوش هائلة تدهش العقل مغايرة لنقوش قبور صقارة وقبور بنى حسن، ففى هاتين يرى الميت كأنه مع أهله، والكل مشتغلون بأمور منزلية كالمفروشات والأوانى، والزرع والحصد والصيد، وتربية الحيوان من بهائم وطيور، وفى مقابر بيبان الملوك يرى صور المقدسين بهيئات مستغربة عجيبة، وصور ثعابين هائلة، كأنها تجرى فى أطراف المحل، وفى السقوف والأرض، وصور أناس يعذبون، البعض تقطع رأسه والبعض يلقى فى النار وغير ذلك من أنواع العذاب، فالمطلع عليها إن لم يكن عالما بالديانة المصرية القديمة ورموزها، يحصل له انزعاج وحيرة، وكذا ما يؤخذ من كلام المؤرخين: أن المصريين كانوا يتحاكمون فى الميت بعد موته، ليعلموا بذلك من يستحق الدفن من غيره، فهو أيضا مما يوقع فى الحيرة، ولكن جميع هذه الأمور إنما هى رموز وإشارات لما يحصل للميت بعد الموت، فجميع النقوش التى على جدران القبر من ابتداء باب الدخول إلى آخر مقره، إشارات للأحكام المتعلقة بالروح بعد مفارقة الجسد بحسب ما اكتسبته فى دار الدنيا من خير وشر، مثلا الثعابين التى ترى فى القبر كأنها تبخ سمها، رمز لأول عقبة سماوية للروح فى صعودها للسماء، فإن لم تكن من أهل الخير منعها أهل هذه العقبة من الصعود، فإذا كانت من أهل الخير صعدت إلى العقبة الأخرى وهكذا، فإذا خلصت من جميع العقبات كانت من أهل الخير وصارت من المقدسين، وتسبح مع الروحانيات فى عالم الكواكب الذى لا ينتهى، فالأود التى فى القبور إشارة إلى العقبات، والنقوش التى على الجدران كأدعية وابتهالات تقولها الروح

ص: 240

استغاثة أو تعظيما للإله، وفى آخر أوده يرى دخولها فى الحياة الأبدية التى لا يعقبها موت، ولما كشف (بلزونى) هذا القبر، كان به جرن من المرمر هو الآن فى بلاد الإنكليز عند (مسيوسلوان)، واستكشف السياح (بوروس) الإنكليزى قبر رمسيس الثالث، فوجدت نقوشه أقل إتقانا من نقوش قبر سيتا الأول، وفى وسطه بجهتى الدهليز أود عليها نقوش ورسوم مهمة، فيرى فيها رسوم المراكب والمفروشات والأوانى والأسلحة ودروع الحديد وغير ذلك، وفى بعضها رسم جماعة كأنهم يضربون العود حتى أن السياحين جعلوا ذلك علما يعرف به هذا القبر، وكان به جرن من الصوان الأحمر قد أخذه مسيو (سلط)، وهو الآن بسراى اللوبر من بلاد فرانسا، وغطاؤه فى مدينة كمبريج من بلاد الإنكليز، وفى هذا/القبر كتابة يونانية قديمة فمنها يستدل على أن السياحين كانوا قديما من زمن البطالسة يأتون إلى هذه القبور للفرجة، وقبر سيتا الثانى يوجد فى آخر الوادى الغربى، وهو يمتاز بغلظ النقوش المحفورة فى الحجر عند المدخل، وقبر سيتا الرابع يمتاز بسعة الأود وارتفاعها، وبه جرن ضخم، وهذه الأربعة هى أحسن القبور الموجودة هناك، ويليها قبر رمسيس السادس، والكتابة الرومية التى على جدرانه تدل على أن الأقدمين كانوا يسمونه قبر (ممنون)، ولم يعلم سبب هذه التسمية، وعلى سقوفه نقوش فلكية، ثم قبر رمسيس التاسع، ونقوشه كثيرة جدا وأغلبها متعلق بأمر التناسل، ولعل ذلك رمز إلى رجوع الإنسان للحياة بعد موته واتصافه بالحياة الباقية الموعود بها، وأما باقى القبور، فمتشابهة ولا أهمية لذكرها، انتهى مرييت بيك.

والعادة أن يكتب على القبر اسم صاحبه، ويكون مدخله مدحرجا تارة سهلا، وتارة صعبا بحسب قلة الإنحدار وكثرته، وفى بعض كتب الفرنساوية قد عملت مقارنة بين عمارات مدينة طيوة خصوصا عمارات الكرنك، وبين عمارات اليونان والرومانيين وغيرهم من الأمم، وقال فى مقدمة ذلك أنه مهما كان من الوسائط والإجتهاد فى شرح المبانى المصرية لا يمكن به الوصول إلى

ص: 241

الإحاطة بأحوالها ودقائقها، لأن هناك أشياء يعجز اللسان والقلم عن تفهيمها، والتوقيف عن الغرض منها، ولا بد من النظر إليها لمريد الوقوف عليها، لأن الرسم وإن كان يهيئ للنظر مجموعها ويبين نسب أجزائها وأوضاعها بعضها لبعض، لكنه لا يوفى بدقائقها وما لها من البهجة والمحاسن، بل كثيرا ما يؤدى إلى استثقال المرسوم ومجه، مع أنه بالمعاينة يرى فى غاية الحسن وتميل إليه النفس، إذ بالرؤية يظهر فضل الأضواء والظلال ونحو ذلك، مما لا يظهر بالرسم مع كثرته وتغيره بحسب الأماكن والمرسومات من أشجار أو بحار، ومعلوم أن لكل جهة حكما ومزايا لا تكون في غيرها، فكثرة ممارسة المصريين للأعمال المناسبة لأحوال القطر، أوقفتهم على إتقان الصنائع التى تناسب القطر، وعرفوا ما يناسب استحداثه فى كل جهة بحيث يكون بين الجهة ومحدثاتها ائتلاف تام ومناسبة كلية، وتنافسوا فى ذلك، والعمائر والأوضاع التى فى غير هذا القطر وإن كانت حسنة جميلة فى مواضعها، فلا يلزم أن تكون حسنة فى هذا القطر، إذ لم يلاحظ فى أحداثها إلاّ أحوال جهاتها وطبائع أهلها، لا أحوال هذا القطر وطبائع أهله.

ولما كان كل ما يراه الإنسان من الأشياء لا يحكم عليه بكبر أو صغر، إلاّ بمقارنته ونسبته لغيره، رغبنا لأجل الوقوف على درجة أهمية عمارات مدينة طيبة أن نقارن بينها وبين ما اشتهر من عمارات الأقطار والبلاد، فنبدأ بالمقارنة بين عمارات الكرنك، وعمارات الأروام والرومانيين.

[مقارنة بين عمارات الكرنك وعمارات الأروام والرومانيين]

فأما عمارات الأروام وخصوصا ما بنى منها فى زمن بيرلكيس، وهو الزمن الذى بلغت فيه الفنون منتهاها، وكانت فيه مدينة (أتينة) فى أقصى درجات أبهتها وشهرتها، فكانت مع ذلك قليلة الإتساع بالنسبة لعمارات مدينة

ص: 242

الكرنك، وأما معبد (تيزيه) فكان قليل الإمتداد جدا لا ينبغى أن يدخل فى المقارنة، ومثله باقى عمارات اليونان الباقى أثرها إلى الآن، كعمارات مدينة بيستى، وكان أحسنها معبد بوزيدونيا، وذلك أن طول معبد تيزيه كان مائة قدم وإصبعا واحدا، وعرضه اثنين وأربعين قدما وأحد عشر إصبعا وأربعة خطوط، ومعبد (منيروا) كان طوله مائتين وأربعة عشر قدما وعشرة أصابع وأربعة خطوط، وعرضه خمسة وتسعين قدما وإصبعا وستة خطوط، وقطر عمدانه خمسة أقدام وثمانية أصابع، فعمارات الأروام كانت عند امتداد شهرتهم قليلة الأبعاد كثيرة الزخرفة والبهجة، وفى زمن تحكم الرومانيين عليهم بنى فى (أتينة) معابد دخلت فيها الفخامة والإتساع مع الزخرفة والزينة، وأعظم جميعها وأكبرها معبد (جوبتير أولنبيان)، وقد ضاعت معالمه وآثاره بالكلية.

وأما المقارنة بين عمارات طيبة، وعمارات تدمر وبعلبك، ففى كلام السياحين أن الآثار الباقية فى هاتين المدينتين كانت محكوما عليها قبل الإطلاع على عمائر طيبة بأنها غاية ما يمكن فى قوة البشر فعله، من حيث الجسامة والزخرفة، فإن من مبانى تدمر المشهورة (معبد الشمس)، كان فى داخل سور طوله مائتان وستة وأربعون مترا، وعرضه مائة واحد وعشرون مترا، وبه ثلاثة أو أربعة وستون عمودا، قطر العمود متر وأربعة أعشار متر، وارتفاعه خمسة عشر مترا، وطول خرابه الآن سبعون مترا فى عرض اثنين وأربعين، والباب والدهليز مكوّنان من أحد وأربعين عمودا من الرخام الأبيض، يزيد ارتفاع العمود عن ستة عشر مترا، وليس التعجب من كبر هذه العمارة، بل من زينتها وزخرفتها فى كل محلاتها، من الكرانيش ومحيط الأبواب والشبابيك وغير ذلك، فإنها وإن فاقت عمارات طيبة من حيث الزينة ونسب الأوضاع، لكن عمارات طيبة تفوقها بكثير من حيث كبر الإمتدادات وفخامة النقوش وكثرتها، فإن طول سراى الكرنك/وحدها بدون ملحقاتها ثلثمائة متر وثمانية، وعرضها مائة متر وعشرة أمتار، ومعبد الشمس بتدمر منعزل فى داخل السور،

ص: 243

بخلاف سراى الكرنك، فإن سورها يشتمل على مبان كثيرة قريب بعضها من بعض، وإن امتازت عمارة مدينة تدمر بكثرة العمد التى كل واحد منها قطعة واحدة، وتمتد على جانبى الطرقات الثلاث الموصلة إلى باب النصر، ويشغل طولها ألفا ومائتين وتسعة وعشرين مترا، وعدد العمد ألف وأربعمائة وخمسون، والباقى منها إلى سنة ألف وثمانمائة ميلادية مائة وتسعة وعشرون عمودا، فمدينة الكرنك تنافسها وتمتاز عليها بطرقها المزينة فى جوانبها بصور أبى الهول، فإن هذه الصور لو وضع بعضها بجوار بعض، لشغلت من الفضاء نحو ألفين وتسعمائة وخمسة وعشرين مترا، وأحد هذه الطرق طوله ألفا متر، وعدد ما كان موجودا من هذه التماثيل، لم يكن أقل من ألف وستمائة، وكان الموجود منها إلى سنة ألف وثمانمائة مائتى تمثال، ولا شك أنها تحتاج لعمل ومادة أكثر مما تحتاجه عمد تدمر، وإذا كان فى تدمر آثار هائلة، وعمد من الصوان ضخمة قطعة واحدة، فالكرنك التى هى بعض مدينة طيبة، كان بها معابد كثيرة وأبواب نصر، وأبواب ضخمة شاهقة، وأكثر من أربعين تمثالا كل واحد قطعة واحدة من الصوان، وفى تدمر عمودان اثنان من عمد النصر، ارتفاع الواحد تسعة عشر مترا، وفى الكرنك أعمدة نصر كثيرة أكبر منهما فإن ارتفاع كل واحد منها اثنان وعشرون مترا، وكانت مزينة لطريق كاملة تكتنف جوانبها، ومما تفوق به طيبة على تدمر أنه كان بها ثمان مسلات كل واحدة من حجر واحد، وكان الموجود منها فى سنة ألف وثمانمائة، أربع مسلات ارتفاعها فوق ما يتصوّره الإنسان، وكان بها سبعة أبواب نصر هائلة غاية فى الإرتفاع، وسبعمائة وخمسون عمودا، منها ما قطره مساو لقطر عمود السوارى بالأسكندرية، وكان فى طيبة أيضا سنة ألف وثمانمائة سبعون تمثالا يفوق أصغرها صورة الإنسان الطبيعية، بل منها ما ارتفاعه ثمانية عشر مترا، ومحيط مدينة تدمر خمسة آلاف متر وسبعمائة واثنان وسبعون مترا، وهذا إنما هو قدر خراب الكرنك وحدها، ومحيط مدينة طيبة كان يقرب من خمسة عشر ألف

ص: 244

متر، وأما مقابر تدمر التى شاع ذكرها وكانت أبراجا مربعة الشكل على خمس طبقات مبنية من الرخام الأبيض، ومزينة بالنقوش وصور الآدميين، وكانت فى واد يوصل إلى المدينة، فأين هى من قبور بيبان الملوك المدفون بها ملوك أقدم المصريين، شتان ما بينهما فإن أكبر تربة من ترب تدمر لا يزيد طولها على خمسة عشر مترا والعرض بنسبة ذلك، وغاية ارتفاعها ثلاثة وعشرون مترا بخلاف المغارات المدفون بها ملوك مصر التى استكشف منها إحدى عشرة مغارة، فإن عمق أكبرها مائة وأحد عشر مترا، والبقية تقرب من ذلك، وداخلها يمتلئ قلبه مهابة واعتبارا، ويتخيل لها كبر أكثر من ذلك، فإن امتازت مقابر تدمر بالزخرفة ودقة النقوش، فاقتها قبور بيبان [الملوك] بالاتساع وكبر النقوش الشاغلة بجميع جدرانها الباقية على بهجتها كأنها نقشت بالأمس، وهذه التحف والزخارف فى هاتين المدينتين تدل على أن كلا منهما كان مركزا للتجارات الثمينة، والصنائع النفيسة، مدة مديدة، وأن مدينة طيبة استقلت بذلك زمنا أكثر من المدينة الأخرى، فلذا لما فارقتها التجارة واستقلت بها مدينة منف، كان ذلك سببا فى سعادة مدينة منف، وتقهقرت هذه المدينة، وبعد ذلك تقاسمت المتاجر مدن الشام، ثم رجعت إلى مصر فاستقلت بها الإسكندرية حتى فاقت سائر مدن الدنيا.

وأما مدينة بعلبك فهى مثل مدينة تدمر، وعمائرها كعمائرها، وكان بها معبدان عظيمان طول أصغرهما ثلاثة وثمانون مترا وعرضه اثنان وثلاثون مترا، فهو قريب الشبه بالمعبد الجنوبى للكرنك، وارتفاع عمده بالكرسى والتاج ستة عشر مترا، وبدن العمود مكون من ثلاث قطع، وطول المعبد الكبير ستة وتسعون مترا، وعرضه نصف ذلك، وطول سوره مائتان وتسعة وتسعون مترا، وعرضه مائة وستة وثلاثون مترا، فيدخل فيه أولا من بوابة شاهقة إلى حوش مثمن الشكل، ثم إلى حوش مستطيل مزين بدهاليز، وهو متخرب أكثر من المعبد الصغير، وجمع مبانيه إنما هى قدر سراى الأقصر، وهناك حجارة

ص: 245

جسيمة، ثلاثة منها موضوعة على ارتفاع قدره عشرة أمتار، وطول جميعها باتصال بعضها ببعض ستة وستون مترا، ومنها حجر طوله أحد وعشرون مترا، ويتعجب السياحون من ارتفاعها هذا الارتفاع، ولكن أين ذلك مما فى مدينة طيبة من المسلات الهائلة ونحوها، هل يقارن هذا بذاك.

وإذا قورن بين مبانى طيبة، ومبانى رومة الكبيرة، يكون الفرق أكثر من ذلك، مع ما عليه مدينة رومة من التزين بالمبانى الفاخرة الباقى إلى الآن كثير منها، مثل معبد (جو بتيراستاتور)، و (جوبيترطونان)، و (أنطونان) و (فوتين)، و (معبد الشمس)، و (معبد القمر)، و (معبد السلم) الذى بناه واسبيسيان، فجميع هذه العمائر إنما تقارن بالمعبد القبلى للكرنك/وحده، ومن المبانى الجديدة فى رومة، كنيسة بطرس، قبتها مرتفعة قدر مائة وسبعة وثلاثين مترا، وهذا الارتفاع يقرب من ارتفاع الهرم الكبير، وطول الكنيسة مائتان وثمانية عشر مترا، وعرضها مائة وخمسة وخمسون مترا، وحولها مبان فى شكل الحدوة زادت فى اتساعها فصار طول الجميع يبلغ أربعمائة وسبعة وتسعين مترا، وهذا البعد ينقص سبعة وثلاثين مترا عن البعد الذى بين أبى الهول القائم قدّام الباب الغربى لسراى الأقصر، وبين الباب الشرقى، وفى إيطاليا تجدّدت مبان فى الأعصر القريبة تشبه المبانى القديمة فى الإتساع، من ذلك سراى (كزرت) طولها مائتان وأحد وثلاثون مترا، وعرضها مثل ذلك، فأرضها تنقص قليلا عن سراى الكرنك.

وفى الأندلس من المبانى الفخيمة، قصر (اسكوريال) طوله مائتان وسبعة وثمانون مترا، وعرضه مائتان واحد وسبعون مترا، وهو عبارة عن جملة مبان شاهقة تفصلها حيشان متسعة.

وفى فرانسا من مبانى (ويرساى) قصر من أعظم المبانى، طوله من ابتداء إيوان التياترو إلى مغرس شجر البرتقان أربعمائة وأربعة عشر مترا، وفى باريس

ص: 246

واجهة سراى (التويلرى) ثلثمائة وأربعة وعشرون مترا، ودهاليز سراى (الليور) طولها أربعمائة وخمسة وستون مترا، ومن نهاية إلى أخرى ستمائة وتسعة وستون مترا، وهذه المبانى وإن كانت فى غاية الكبر والاتساع، لكن لا نسبة بين كمية ما دخل فيها من مواد الأبنية، وبين ما دخل فى مبانى مدينة طيبة، لخفة هذه عن تلك بكثير، فقد بان لك فضل عمائر مدينة طيبة على جميع عمائر الدنيا وآثارها الباقية إلى الآن شاهدة بذلك، انتهى.

ص: 247

‌حرف الطاء المعجمة

(الظاهرية)

يوجد من هذا الاسم ثلاث قرى إحداها بمديرية البحيرة من مركز شبرخيت، غربى بحر رشيد بنحو ألفى متر فى شمال كفر العيص، وعندها آثار مرتفعة عن أرض المزارع نحو عشرة أمتار تدل على فم بحر يظهر أنه كان يجرى فى أرض البحيرة على ناحية نكلة، وبتوك، واسمانية، ومحلة عبيد، وأرمانية، وهناك تنقطع آثاره وغالبا كان يصب فى الحبس الذى آخره كفر السابى، وأبنية هذه القرية بالآجر، وبها جامع قديم، ويزرع فى أرضها شجر الحشيشة المخدّرة، وقد تكلمنا عليها عند الكلام على بوتيج، فانظره.

والثانية من مديرية الغربية بمركز بلاد الأرز شرقا، واقعة على الشاطئ الغربى لبحر دمياط فى شمال شربين على نحو ساعتين، وبها جامع وقصر مشيد للأمير (حيدر باشا)، وله أطيان من ضمن زمامها.

والثالثة الظاهرية من بلاد الشرقية، تابعة لشفلك وادى الطميلات الذى هو للمكاتب الأهلية، وهى من ضمن نظارة الغربى، وقد تكلمنا على شفالك المكاتب فى الكلام على العباسة.

(ترجمة)[الشيخ عبد الله الظاهرى]

وينسب إلى ظاهرية الشرقية الشيخ عبد الله الظاهرى الذى ترجمه السخاوى فى الضوء اللامع، حيث قال: هو عبد الله بن محمد بن أبى بكر ابن عبد الرحمن الجمال الظاهرى ثم الأزهرى الشافعى، نزيل مكة ويعرف بالظاهرى، ولد تقريبا سنة سبع وثلاثين وثمانمائة بالظاهرية من الشرقية

ص: 248

بالقرب من العباسة، ونشأ بها ثم تحوّل إلى القاهرة بعد الخمسين، ولازم (الزينى زكريا) و (الطنتدائى الضرير)، وزاحم الطلبة وتوصل لبيت (ابن البرقى) بتعليم ولده، وصار كبيرهم يصرفه فى التوجه مع شقادف المنقطعين بدرب الحجاز التى من جهة ناظر الخاص للعقبة فما دونها، وأقبل على التحصيل، فكان يسافر مع الصرة، ويأتمنه الناس فى استصحاب ودائعهم ومتاجرهم ونحوها معه، وكان يخدم قاضى مكة بشراء ما يحتاج إليه من القاهرة، وحمل ما يرسله لأهلها، وتزايد اختصاصه به فاتسعت دائرته سيما حين تولى (زكريا) القضاء، ولكنه لما رأى الاختلاف والاختلال فى جماعته واختصاص من شاء الله منهم عنه، قطن مكة من سنة ثمان وثمانين، وصار يتجر بجاه القاضى، ويعامل ويقارض ونحو ذلك من طرق الاستكثار، وتزايد خوفه حين الترسيم على جماعة القاضى، ثم أنه تحول إلى المدينة النبوية واشترى بها حديقة، وصار يعامل ويضارب كعادته. انتهى. ولم يذكر تاريخ موته رحمه الله وإيانا.

(تم الجزء الثالث عشر ويليه الجزء الرابع عشر أوله حرف العين)

ص: 249